عنوان الكتاب:
كتاب التوحيد (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الأول)
تأليف:
محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي
1206هـ
دراسة وتحقيق:
عبد العزيز بن عبد الرحمن السعيد وغيره
الناشر:
جامعة الأمام محمد بن سعود، الرياض، المملكة العربية السعودية
[الترقيم الصحيح لصفحات الكتب هو ما يظهر بشكل (ص رقم الصفحة) مثل (ص -6-) داخل الكتاب]
موقع روح الاسلام
www.islamspirit.com(1/1)
ص -7- ... كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد
تأليف: شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
بسم الله الرحمن الرحيم
" الحمد لله، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم ". 1.
كتاب التوحيد
وقول الله تعالى: {وََمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2.
وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 3.
وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} 4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الجملة في بعض النسخ دون بعض. وفي إحدى النسخ المخطوطة زيادة: "وبه أستعين, ولا حول ولا قوة إلا بالله".
2 سورة الذاريات آية: 56.
3 سورة النحل آية: 36.
4 سورة الإسراء آية: 24.(1/2)
ص -8- ... وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}، وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1.
قال ابن مسعود: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 2 - إلى قوله {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} الآية 3.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: 4 الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 153.
2 الترمذي: تفسير القرآن (3070).
3 هذا الأثر رواه الترمذي وحسنه, وابن المنذر, وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه.
4 في بعض النسخ الخطية والمطبوعة: (فقلت).(1/3)
ص -9- ... العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا. قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال لا تبشِّرهم فيتكلوا" أخرجاه في الصحيحين.
فيه مسائل، الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس.
الثانبة: أن العبادة هي التوحيد، لأن الخصومة فيه.
الثالثة: أن من لم يأت به لم يعبد الله. ففيه معنى قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 1.
الرابعة:الحكمة في إرسال الرسل.
الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة.
السادسة: أن دين الأنبياء واحد.
السابعة: المسألة الكبيرة: أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت ففيه معنى قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 2.
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عُبد من دون الله.
التاسعة: عظم شأن ثلاث الآيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف، وفيها عشر مسائل. أولها: النهي عن الشرك.
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء، وفيها ثمانية عشر 3
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكافرون آية: 3.
2 سورة البقرة آية: 256.
3 هكذا بالأصل; والصواب ثماني عشرة.(1/4)
ص -10- ... مسألة، بدأها الله بقوله: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} 1 وختمها بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً}2 ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} 3.
الحادية عشرة. آية سورة النساء التي تسمى: آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}4.
الثانية عشرة. التنبيه على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته.
الثالثة عشرة. معرفة حق الله علينا.
الرابعة عشرة. معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه.
الخامسة عشرة. أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة.
السادسة عشرة. جواز كتمان العلم للمصلحة.
السابعة عشرة. استحباب بشارة المسلم بما يسره.
الثامنة عشرة. الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.
التاسعة عشرة. قول المسؤول عما لا يعلم " الله ورسوله أعلم ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية: 22.
2 سورة الإسراء آية: 39.
3 سورة الإسراء آية: 39.
4 سورة النساء آية: 36.(1/5)
ص -11- ... العشرون. جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض.
الحادي والعشرون. تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار، مع الإرداف عليه.
الثاني والعشرون. جواز الإرداف على الدابة 1.
الثالث والعشرون. فضيلة معاذ بن جبل.
الرابع والعشرون. عظم شأن هذه المسألة 2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في إحدى النسخ الخطية زيادة: "إذا كانت تطيق ذلك".
2 في إحدى النسخ الخطية: "المسائل".(1/6)
ص -12- ... باب (1)فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1.
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" 2 أخرجاه. ولهما في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله" 3.
وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال موسى: يا رب علمني شيئا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله ; قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى لو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 82.
2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3435) , وأحمد (5/313).
3 البخاري: الصلاة (425) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33).(1/7)
ص -13- ... أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله".
رواه ابن حبان والحاكم وصححه.
وللترمذي وحسنه عن أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة" 1.
فيه مسائل:
الأولى: سعة فضل الله.
الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله.
الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب.
الرابعة:تفسير الآية (82) التي في سورة الأنعام.
الخامسة:تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة.
السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده، تبين لك معنى قول " لا إله إلا الله "، وتبين لك خطأ المغرورين.
السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان.
الثامنة:الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله.
التاسعة:التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الدعوات (3540).(1/8)
ص -14- ... العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسموات.
الحادية عشرة: أن لهن عمارا.
الثانية عشرة: إثبات الصفات، خلافا للأشعرية 1.
الثالثةعشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس، عرفت أن قوله في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" 2 أنه ترك الشرك، ليس قولها باللسان.
الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه.
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله.
السادسة عشرة: معرفة كونه روحا منه.
السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار.
الثامنة عشرة: معرفة قوله: "على ما كان من العمل".
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان.
العشرون: معرفة ذكر الوجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في إحدى النسخ المطبوعة: "خلافا للمعطلة", وهي الأولى لشمولها.
2 البخاري: الصلاة (425) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33).(1/9)
ص -15- ... باب (2)من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1 وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ}2.
عن حصين بن عبد الرحمن قال: " كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت. قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي. قال: وما حدثكم؟ قلت حدثنا عن بريدة بن الخصيب أنه قال: "لا رقية إلا من عين أو حمة"3 4. قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 120.
2 سورة المؤمنون آية: 59.
3 رواه أحمد وابن ماجه عنه مرفوعا. ورواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعا. قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات.
4 البخاري: الطب (5705) , ومسلم: الإيمان (220) , وأحمد (1/271).(1/10)
ص -16- ... ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عُرضت عليّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد. إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. ثم نهض فدخل منْزله، فخاض الناس في أولئك؛ فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا. وذكروا أشياء. فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: هم الذين لا يَسْتَرقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: أنت منهم. ثم قام جل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: سبقك بها عكاشة 1".
فيه مسائل:
الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد.
الثانية: ما معنى تحقيقه.
الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين.
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك.
الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث رواه البخاري مطولا ومختصرا, ومسلم, والنسائي, والترمذي (انظر طبعة دار المعارف بتصحيح أحمد محمد شاكر).(1/11)
ص -17- ... السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل.
السابعة:عمق علم الصحابة لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل.
الثامنة:حرصهم على الخير.
التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية.
العاشرة: فضيلة أصحاب موسى.
الحادية عشرة: عرض الأمم عليه عليه الصلاة والسلام.
الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها.
الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء.
الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده.
الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة.
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة.
السابعة عشرة: عمق علم السلف لقوله: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا" 1 فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.
الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه.
التاسعة عشرة: قوله: "أنت منهم" علم من أعلام النبوة.
العشرون: فضيلة عكاشة.
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض.
الثانية والعشرون: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (220).(1/12)
ص -18- ... باب (3)الخوف من الشرك
وقول الله (: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1.
وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} 2.
وفي الحديث: "أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر، فسئل عنه، فقال: الرياء" 3 رواه أحمد والطبراني والبيهقي.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار" 4 رواه البخاري. ولمسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار" 5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 48.
2 سورة إبراهيم آية: 35.
3 أحمد (5/428).
4 البخاري: تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/374 ,1/402 ,1/407 ,1/462 ,1/464).
5 مسلم: الإيمان (93) , وأحمد (3/325 ,3/344 ,3/374 ,3/391).(1/13)
ص -19- ... فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك.
الثانية: الرياء من الشرك.
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
الرابعة:أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين.
الخامسة:قرب الجنة والنار.
السادسة: الجمع بين قربهما 1 في حديث واحد.
السابعة:أنه من لقيه لا يشرك به شيئا دخل الجنة،ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار، ولو كان من أعبد الناس.
الثامنة: المسألة العظيمة: سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام.
التاسعة: اعتباره بحال الأكثر لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}2.
العاشرة: فيه تفسير " لا إله إلا الله "، كما ذكره البخاري.
الحادية عشرة:فضيلة من سلم من الشرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في إحدى النسخ الخطية: "الجمع بينهما...".
2 سورة إبراهيم آية: 36.(1/14)
ص -20- ... باب (4) الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}1.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له:?"إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" 2.
- وفي رواية: "إلى أن يوحدوا الله. فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم. فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" 3 أخرجاه.
ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية: 108.
2 البخاري: الزكاة (1395) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614).
3 البخاري: الزكاة (1395 ,1458 ,1496) والمغازي (4347) والتوحيد (7372) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614).(1/15)
ص -21- ... ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها: فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه فأتي به، فبصق في عينيه ; ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع. فأعطاه الراية فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه.
فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" 1يدوكون أي: يخوضون.
فيه مسائل:
الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثانية:التنبيه على الإخلاص، لأن كثيرا لو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه.
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض.
الرابعة: من دلائل حسن التوحيد: أنه تنْزيه الله تعالى عن المسبة.
الخامسة:أن من قبح الشرك كونه مسبة لله.
السادسة: وهي من أهمها - إبعاد المسلم عن المشركين لئلا يصير منهم، ولو لم يشرك.
السابعة: كون التوحيد أول واجب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (3009) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأحمد (5/333).(1/16)
ص -22- ... الثامنة: أنه يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة.
التاسعة:أن معنى: "أن يوحدوا الله" معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها.
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج.
الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم.
الثالثة عشرة: مصرف الزكاة.
الرابعة عشرة. كشف العالم الشبهة عن المتعلم.
الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال.
السادسة عشرة:اتقاء دعوة المظلوم.
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب.
الثامنة عشرة:من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء.
التاسعة عشرة: قوله: "لأعطين الراية... إلخ" علم من أعلام النبوة.
العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضا.
الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه.
الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح.(1/17)
ص -23- ... الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر، لحصولها لمن لم يسع لها، ومنعها عمن سعى.
الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: "على رسلك".
الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الله إلى الإسلام قبل القتال.
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دُعوا قبل ذلك وقوتلوا.
السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة لقوله: "أخبرهم بما يجب".
الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام.
التاسعة والعشرون:ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد.
الثلاثون: الحلف على الفتيا.(1/18)
ص -24- ... باب (5) تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
وقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}1.
وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}2.
وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} 3.
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}4.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله )5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية: 57.
2 سورة الزخرف آية: 26-27-28.
3 سورة التوبة آية: 31.
4 سورة البقرة آية: 165.
5 صحيح مسلم: كتاب الإيمان (23).(1/19)
ص -25- ... وشرح هذه الترجمة: ما بعدها من الأبواب. فيه أكبر المسائل وأهمها 1، وهي تفسير التوحيد، وتفسير الشهادة؛ وبينها بأمور واضحة.
منها: آية الإسراء بين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر.
ومنها: آية براءة، بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلها واحدا، مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه: طاعة العلماء والعباد في المعصية، لا دعاؤهم إياهم.
ومنها: قول الخليل عليه السلام للكفار: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} 2 فاستثنى من المعبودين ربه 3. وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي: تفسير شهادة أن لا إله إلا الله؛ فقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 4.
ومنها: آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 5. ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله؛ فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما ولم يدخلهم في الإسلام. فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة خطية:.. فيه مسائل, الأولى أكبر المسائل وأهمها.
2 سورة الزخرف آية: 26.
3 في نسخة خطية:.. الله ربه.
4 سورة الزخرف آية: 28.
5 سورة البقرة آية: 167.(1/20)
ص -26- ... ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله" 1. وهذا من أعظم ما يبين معنى " لا إله إلا الله "، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله؛ فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه.
فيالها من مسألة ما أعظمها وأجلها! وياله من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح مسلم: كتاب الإيمان (23).(1/21)
ص -27- ... باب (6) من الشرك: لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه
قول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 1.
عن عمران بن حصين رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال: ما هذه؟ قال من الواهنة. فقال: انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا؛ فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا" 2. رواه أحمد بسند لا بأس به.
وله عن عقبة بن عامر مرفوعا: "من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له" 3 وفي رواية: "من تعلق تميمة فقد أشرك" 4.
ولابن أبي حاتم عن حذيفة "أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى، فقطعه وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}5
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 38.
2 ابن ماجه: الطب (3531) , وأحمد (4/445).
3 أحمد (4/154).
4 أحمد (4/156).
5 سورة الرعد آية: 106.(1/22)
ص -28- ... فيه مسائل.
الأولي:التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك.
الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح. فيه شاهد لكلام الصحابة أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة.
الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة، بل تضر لقوله: "لا تزيدك إلا وهنا" 1.
الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك.
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئا وُكل إليه.
السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك.
الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك.
التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر ابن عباس في آية البقرة.
العاشرة: أن تعليق الودع عن العين من ذلك.
الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له، أي ترك الله له.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سنن ابن ماجه: كتاب الطب (3531) , ومسند أحمد (4/445).(1/23)
ص -29- ... باب (7) ما جاء في الرقى والتمائم
في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه "أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ; فأرسل رسولا أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت" 1.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك" 2 رواه أحمد وأبو داود.
" التمائم ": شيء يعلق على الأولاد من العين 3؛ لكن إذا كان المعلَّق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه.
و " الرقى ": هي التي تسمى العزائم، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (3005) , ومسلم: اللباس والزينة (2115) , وأبو داود: الجهاد (2552) , وأحمد (5/216) , ومالك: الجامع (1745).
2 أبو داود: الطب (3883) , وابن ماجه: الطب (3530) , وأحمد (1/381).
3 في بعض النسخ المطبوعة والمخطوطة: "يتقون به العين".(1/24)
ص -30- ... و " التولة ": شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته.
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا: "من تعلق شيئا وُكل إليه" 1 رواه أحمد والترمذي.
وروى أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رويفع، لعل الحياة ستطول، بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وترا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمدا بريء منه" 2.
وعن سعيد بن جبير قال: "من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة". رواه وكيع. وله عن إبراهيم 3 قال: "كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن".
فيه مسائل.
الأولي: تفسير الرقى والتمائم.
الثانية: تفسير التولة.
الثالثة: أن هذه الثلاث كلها من الشرك من غير استثناء.
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الطب (2072).
2 النسائي: الزينة (5067) , وأبو داود: الطهارة (36) , وأحمد (4/109).
3 إبراهيم: هو إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي, ويكني أبا عمران.(1/25)
ص -31- ... الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف العلماء: هل هي من ذلك أوْ لا؟
السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك.
السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وترا.
الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان.
التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف، لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود.(1/26)
ص -32- ... باب (8) من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما
وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} 1.
عن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط. فمررنا بسدرة ; فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن. قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}2 لتركبن سنن من كان قبلكم" رواه الترمذي وصححه.
فيه مسائل:
الأولي: تفسير آية النجم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النجم آية: 19-20.
2 سورة الأعراف آية: 138.(1/27)
ص -33- ... الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا.
الثالثة: كونهم لم يفعلوا.
الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك، لظنهم أنه يحبه.
الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل.
السادسة. أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم.
السابعة. أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم الأمر، بل رد عليهم بقوله: "الله أكبر، إنها السنن. لتتبعن سنن من كان قبلكم" فغلظ الأمر بهذه الثلاث.
الثامنة: الأمر الكبير، وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً}
التاسعة: أن نفى هذا من معنى " لا إله إلا الله " مع دقته وخفائه على أولئك.
العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة.
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر، لأنهم لم يرتدوا بهذا.
الثانية عشرة: قولهم: "ونحن حدثاء عهد بكفر" فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك.
الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب، خلافا لمن كرهه.
الرابعة عشرة: سد الذرائع.(1/28)
ص -34- ... الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية.
السادسة عشرة: الغضب عند التعليم.
السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: "إنها السنن".
الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة، لكونه وقع كما أخبر.
التاسعة عشرة: أن 1 ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا.
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر. أما "من ربك؟ " فواضح، وأما " من نبيك؟ " فمن إخباره بأنباء الغيب. وأما " ما دينك؟ " فمن قولهم: " اجعل لنا " إلى آخره.
الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين.
الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة، لقولهم: "ونحن حدثاء عهد بكفر".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة خطية "أن كل..".(1/29)
ص -35- ... باب (9) ما جاء في الذبح لغير الله
وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}1 وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}2.
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله. لعن الله من لعن والديه. لعن الله من آوى محدثا ; لعن الله من غير منار الأرض" 3 رواه مسلم.
وعن طارق بن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب. قال ليس عندي شيء أقرب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 162-163.
2 سورة الكوثر آية: 2.
3 أحمد (1/317).(1/30)
ص -36- ... قالوا له: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا، فخلوا سبيله. فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله (، فضربوا عنقه؛ فدخل الجنة" رواه أحمد.
فيه مسائل:
الأولي: تفسير {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} 1.
الثانية: تفسير {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2.
الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله.
الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك.
الخامسة: لعن من آوى محدثا، وهو الرجل يحدث شيئا يجب فيه حق الله، فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك.
السادسة: لعن من غير منار الأرض، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك، فتغيرها بتقديم أو تأخير.
السابعة: الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم.
الثامنة: هذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب.
التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم.
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم، مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 162.
2 سورة الكوثر آية: 2.(1/31)
ص -37- ... الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم. لأنه لو كان كافرا لم يقل: "دخل النار في ذباب".
الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك" 1.
الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم، حتى عند عبدة الأوثان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الرقاق (6488) , وأحمد (1/387 ,1/413 ,1/442).(1/32)
ص -38- ... باب (10) لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
وقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 1.
عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: "2 نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم" 3 رواه أبو داود. وإسناده على شرطهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 108.
2 "بوانة" بضم الباء, وقيل بفتحها. قال البغوي: موضع في أسفل مكة دون يلملم. قال أبو السعادات: هضبة من وراء ينبع (نقلا عن شرح الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ المتوفى سنة 1258 ه).
3 أبو داود: الأيمان والنذور (3313).(1/33)
ص -39- ... فيه مسائل:
الأولي: تفسير قوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} 1.
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة.
الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة، ليزول الإشكال.
الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به، إذا خلا من الموانع.
السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله.
السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله.
الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة، لأنه نذر معصية.
التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم، ولو لم يقصده.
العاشرة: لا نذر في معصية.
الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 108.(1/34)
ص -40- ... باب (11) من الشرك: النذر لغير الله
وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 1 وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} 2.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ; ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" 3.
فيه مسائل:
الأولي: وجوب الوفاء بالنذر.
الثانية: إذا ثبت كونه عبادة الله، فصرفه إلى غيره شرك.
الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإنسان آية: 7.
2 سورة البقرة آية: 270.
3 البخاري: الأيمان والنذور (6696 ,6700) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806 ,3807 ,3808) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجه: الكفارات (2126) , وأحمد (6/36 ,6/41 ,6/208 ,6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338).(1/35)
ص -41- ... باب (12) من الشرك: الاستعاذة بغير الله
وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً}1.
وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نزل منْزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك" 2 رواه مسلم.
فيه مسائل:
الأولي: تفسير آية الجن.
الثانية: كونه من الشرك.
الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث، لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة. قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية، من كف شر أو جلب نفع، لا يدل على أنه ليس من الشرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجن آية: 6.
2 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي: الدعوات (3437) , وابن ماجه: الطب (3547) , وأحمد (6/377 ,6/378 ,6/409) , والدارمي: الاستئذان (2680).(1/36)
ص -42- ... باب (13) من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}1.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}2.
وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 3.
وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 4.
وروى الطبراني بإسناده "أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية: 106-107.
2 سورة العنكبوت آية: 17.
3 سورة الأحقاف آية: 5-6.
4 سورة النمل آية: 62.(1/37)
ص -43- ... منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله".
فيه مسائل:
الأولي: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
الثانية: تفسير قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ}.
الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر.
الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين.
الخامسة: تفسير الآية التي بعدها.
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا، مع كونه كفرا.
السابعة. تفسير الآية الثالثة.
الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه.
التاسعة: تفسير الآية الرابعة.
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله.
الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي، لا يدري عنه.
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي، وعداوته له.
الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو.(1/38)
ص -44- ... الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة.
الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس.
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة.
السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلى الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين.
الثامنة عشرة: حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، والتأدب مع الله.(1/39)
ص -45- ... باب (14) قول الله تعالى: {أََيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 1
وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2.
وفي الصحيح عن أنس، قال: "شُج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكسرت رباعيته، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنَزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} " وفيه: "عن ابن عمررضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: اللهم العن فلانا وفلانا، بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} " الآية.
وفي رواية: "يدعو على صفوان بن أمية، وسهل بن عمرو، والحارث بن هشام، فنَزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 3".
وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 191-192.
2 سورة فاطر آية: 13-14.
3 البخاري: المغازي (4070) , وأحمد (2/93).(1/40)
ص -46- ... حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 1 فقال: يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا. يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئا. يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أغني عنك من الله شيئا. ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين.
الثانية: قصة أحد.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين، وخلفه سادات الأولياء يؤمِّنون في الصلاة.
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، منها: شجهم نبيهم، وحرصهم على قتله. ومنها: التمثيل بالقتلى، مع أنهم بنو عمهم.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 2.
السابعة: قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} 3، فتاب عليهم فآمنوا.
الثامنة: القنوت في النوازل.
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (206) , والنسائي: الوصايا (3646 ,3647) , وأحمد (2/519) , والدارمي: الرقاق (2732).
2 سورة آل عمران آية: 128.
3 سورة آل عمران آية: 128.(1/41)
ص -47- ... العاشرة: لعن المعيَّن في القنوت.
الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 1.
الثانية عشرة: جده صلى الله عليه وسلم 2، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.
الثالثة عشرة: قوله 3 للأبعد والأقرب: "لا أغني عنك من الله شيئا" حتى قال: "يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا" 4. فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم، تبين له التوحيد وغربة الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشعراء آية: 214.
2 في المخطوطة زيادة: (في هذا الأمر).
3 في المخطوطة زيادة: (صلى الله عليه وسلم).
4 البخاري: الوصايا (2753) وتفسير القرآن (4771) , ومسلم: الإيمان (206) , والترمذي: تفسير القرآن (3185) , والنسائي: الوصايا (3644 ,3646 ,3647) , وأحمد (2/360 ,2/398 ,2/448) , والدارمي: الرقاق (2732).(1/42)
ص -48- ... باب (15) قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1.
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 2 فيسمعها مسترق السمع - ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض - وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن. فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة. فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء".
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة - أو قال رعدة - شديدة خوفا من الله (؛ فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا، وخروا لله سجدا. فيكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة سبأ آية: 23.
2 البخاري: تفسير القرآن (4800) , والترمذي: تفسير القرآن (3223) , وابن ماجه: المقدمة (194).(1/43)
ص -49- ... أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد. ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل قال الحق وهو العلي الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله)
فيه مسائل:
الأولي: تفسير الآية.
الثانية:ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصا ما تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.
الثالثة. تفسير قوله: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1.
الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك.
الخامسة: أن جبرائيل يجيبهم بعد ذلك بقوله: " قال كذا وكذا ".
السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبرائيل.
السابعة: أنه يقول لأهل السموات كلهم، لأنهم يسألونه.
الثامنة: أن الغشي يعم أهل السموات كلهم.
التاسعة: ارتجاف السموات بكلام الله.
العاشرة: أن جبرائيل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله.
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة سبأ آية: 23.(1/44)
ص -50- ... الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضا.
الثالثة عشرة: إرسال الشهاب 1.
الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
الخامسة عشرة:كون الكاهن يصدق بعض الأحيان.
السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة.
السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة، ولا يعتبرون بمائة 2؟
التاسعة عشرة:كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة، ويحفظونها ويستدلون بها.
العشرون: إثبات الصفات، خلافا للأشعرية 3 المعطلة.
الحادية والعشرون: أن تلك الرجفة والغشي خوف من الله (.
الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المخطوطة (سبب إرسال الشهب).
2 في المخطوطة زيادة (كذبة).
3 هكذا في بعض النسخ المطبوعة, وفي النسخ الخطية رقم 269/ 86 "خلافا للمعطلة".(1/45)
ص -51- ... باب (16) الشفاعة
وقول الله:({وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 1 وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 2.
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 3 وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 4.
وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 5.
قال أبو العباس 6: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 51.
2 سورة الزمر آية: 44.
3 سورة البقرة آية: 255.
4 سورة النجم آية: 26.
5 سورة سبأ آية: 23.
6 قوله (قال أبو العباس) هذه كنية شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني, إمام المسلمين رحمه الله.(1/46)
ص -52- ... فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا لله. ولم يبق إلا الشفاعة. فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 1 فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده" (لا يبدأ بالشفاعة أولا). ثم يقال له: "ارفع رأسك وقل يُسمع، وسل تُعط، واشفع تُشفَّع" 2.
وقال له أبو هريرة: "من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" 3 فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص، بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله. وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود.
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. ا ه كلامه.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات.
الثانية: صفة الشفاعة المنفية.
الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 28.
2 الترمذي: تفسير القرآن (3148) , وابن ماجه: الزهد (4308).
3 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373).(1/47)
ص -53- ... الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود.
الخامسة: صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم أنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد؛ فإذا أذن له شفع.
السادسة: من أسعد الناس بها؟
السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله.
الثامنة: بيان حقيقتها.(1/48)
ص -54- ... باب (17) قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 1.
وفي الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال لهك يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادا. فكان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك. فأنزل الله (: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي}2".
وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 3.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القصص آية: 56.
2 سورة التوبة آية: 113.
3 سورة القصص آية: 56.
4 سورة القصص آية: 56.(1/49)
ص -55- ... الثانية: تفسير قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} 1.
الثالثة: وهي المسألة الكبرى: تفسير قوله: "قل لا إله إلا الله" بخلاف ما عليه من يدعي العلم.
الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال للرجل: "قل لا إله إلا الله" فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام.
الخامسة: جده صلى الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه.
السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه.
السابعة: كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له، بل نهي عن ذلك.
الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان.
التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر.
العاشرة: استدلال الجاهلية بذلك.
الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم، لأنه لو قالها لنفعته.
الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها، مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره؛ فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 113.(1/50)
ص -56- ... باب (18) ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين
وقول الله (: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} 1.
وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}2 قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا. ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت".
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: "لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 171.
2 سورة نوح آية: 23.(1/51)
ص -57- ... وعن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" 1 أخرجاه.
وقال 2: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو ; فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" 3.
ولمسلم عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون - قالها ثلاثا" 4.
فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.
الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض: أنه بشبهة الصالحين.
الثالثة: أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك؟ مع معرفة أن الله أرسلهم.
الرابعة: قبول البدع، مع كون الشرائع والفطر تردها.
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول: محبة الصالحين. والثاني: فعل أناس من أهل العلم شيئا أرادوا به خيرا، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47 ,1/55).
2 هذا الحديث ذكره المصنف بدون ذكر راويه. وقد رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس.
3 النسائي: مناسك الحج (3057).
4 مسلم: العلم (2670) , وأبو داود: السنة (4608) , وأحمد (1/386).(1/52)
ص -58- ... السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد.
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر.
التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل.
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يؤول إليه.
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها.
الثالثة عشرة: معرفة شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
الرابعة عشرة: وهي أعجب وأعجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، فاعتقدوا أن ما نهى الله 1 ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال.
الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في بعض النسخ المطبوعة وفي المخطوطة رقم 269/ 56 ما نصه "واعتقدوا أن نهي الله ورسوله هو الكفر المبيح للدم".(1/53)
ص -59- ... السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" 1. فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين.
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين.
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نُسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده، ومضرة فقده.
العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47 ,1/55).(1/54)
ص -60- ... باب (19) ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟
في الصحيح عن عائشة: "أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله" 1. فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل.
ولهما، عنها، قالت: "لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال -: وهو كذلك- لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا" 2 أخرجاه.
ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلاة (434) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/51).
2 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121 ,6/146 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403).(1/55)
ص -61- ... قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا. ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد؛ ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" 1. فقد نهى عنه في آخر حياته. ثم إنه لعن - وهو في السياق - من فعله. والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجد، وهو معنى قولها: "خشي أن يتخذ مسجدا" 2، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا، كما قال صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" 3.
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد" 4 ورواه أبو حاتم في صحيحه.
فيه مسائل:
الأولى: ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجدا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.
الثانية: النهي عن التماثيل، وغلظ الأمر في ذلك 5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532).
2 البخاري: الجنائز (1390) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121 ,6/146 ,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403).
3 البخاري: التيمم (335) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي: الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي: الصلاة (1389).
4 أحمد (1/405).
5 في المخطوطة زيادة: (فإذا اجتمع الأمران غلظ الأمر).(1/56)
ص -62- ... الثالثة: العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك. كيف بين لهم هذا أولا، ثم قبل موته بخمس، قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر.
الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
السادسة: لعنه إياهم على ذلك.
السابعة: أن مراده تحذيره إيانا عن قبره 1.
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره.
التاسعة: في معنى اتخاذها مسجدا.
العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها 2 وبين من تقوم عليه الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس: الرد على الطائفتين اللتين هما شرار أهل البدع، بل أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور ; وهم أول من بنى عليها المساجد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المخطوطة: "أن مراده صلى الله عليه وسلم تحذيرنا عن قبره".
2 في المخطوطة زيادة: "مساجد".(1/57)
ص -63- ... الثانية عشرة: ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النَّزع.
الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة.
الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة.
الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة.
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته.(1/58)
ص -64- ... باب (20) ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله
روى مالك في الموطأ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يُعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1. ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} قال: "كان يلت لهم السويق فمات، فعكفوا على قبره".
وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: "كان يلت السويق للحاج". وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج" 2 رواه أهل السنن.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الأوثان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مالك: النداء للصلاة (416).
2 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337).(1/59)
ص -65- ... الثانية: تفسير العبادة.
الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه.
الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد.
الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله.
السادسة: وهي من أهمها: صفة معرفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان.
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية.
التاسعة: لعنه زوارات القبور.
العاشرة: لعنه من أسرجها.(1/60)
ص -66- ... باب (21) ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 1.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" 2 رواه أبو داود بإسناد حسن، رواته ثقات.
وعن علي بن الحسين: "أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 128-129.
2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/284 ,2/337 ,2/367 ,2/378 ,2/388).(1/61)
ص -67- ... فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم" رواه في المختارة 1.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية براءة.
الثانية: إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد.
الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته.
الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، مع أن زيارته من أفضل الأعمال.
الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة.
السادسة: حثه على النافلة في البيت.
السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة.
الثامنة: تعليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب.
التاسعة: كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المختارة: كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين, ومؤلفه هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي أحد الأعلام, توفي سنة 643 ه.(1/62)
ص -68- ... باب (22) ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأوثان
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 1.
وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} 2.
وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}3.
عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟" 4 5 أخرجاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 51.
2 سورة المائدة آية: 60.
3 سورة الكهف آية: 21.
4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94).
5 القذة -بضم القاف- واحدة القذذ وهو ريش السهم.(1/63)
ص -69- ... ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها. وأعطيت الكنْزين الأحمر والأبيض. وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم؛ وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا" 1 ورواه البرقاني في صحيحه.
وزاد: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة. ولا تقوم. وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون؛ كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم 2 حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء.
الثانية: تفسير آية المائدة.
الثالثة: تفسير آية الكهف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2889) , والترمذي: الفتن (2176) , وأبو داود: الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه: الفتن (3952) , وأحمد (5/284).
2 في المخطوطة زيادة: "ولا من خالفهم".(1/64)
ص -70- ... الرابعة: وهي أهمها: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفه بطلانها؟
الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين.
السادسة: وهي المقصودة بالترجمة: أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة، كما تقرر في حديث أبي سعيد.
السابعة: التصريح بوقوعها، أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة.
الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة، مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق. وفيه: أن محمدا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة، وتبعه فئام كثيرة.
التاسعة. البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة.
العاشرة: الآية العظمى: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.
الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة.
الثانية عشرة: ما فيهن من الآيات العظيمة.(1/65)
ص -71- ... منها: إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك، فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال. وإخباره بأنه أعطي الكنْزين. وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين. وإخباره بأنه مُنع الثالثة. وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع. وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة. وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة. وكل هذا وقع كما أخبر، مع أن كل واحدة منها من أبعد ما يكون في العقول 1.
الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين.
الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المخطوطة: (المعقول) بدل (العقول).(1/66)
ص -72- ... باب (23) ما جاء في السحر
وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} 1، وقوله {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 2.
قال عمر: "الجبت السحر، والطاغوت الشيطان".
وقال جابر: "الطواغيت كهان كان ينْزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" 3.
وعن جندب مرفوعا: "حد الساحر ضربه بالسيف" 4 رواه التزمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 102.
2 سورة النساء آية: 51.
3 البخاري: الوصايا (2767) , ومسلم: الإيمان (89) , والنسائي: الوصايا (3671) , وأبو داود: الوصايا (2874).
4 الترمذي: الحدود (1460).(1/67)
ص -73- ... وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: "كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر".
وصح "عن حفصة رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت" وكذلك صح عن جندب قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية النساء.
الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت، والفرق بينهما.
الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن، وقد يكون من الإنس.
الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي.
السادسة: أن الساحر يكفر.
السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب.
الثامنة: وجود هذا في المسلمين على عهد عمر، فكيف بعده؟(1/68)
ص -74- ... باب (24) بيان شيء من أنواع السحر
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت" 1.
قال عوف: العيافة: زجر الطير. والطرق: الخط يخط بالأرض.
والجبت: قال الحسن: "رنة الشيطان" إسناده جيد. ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد" 2. رواه أبو داود، وإسناده صحيح.
وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك. ومن تعلق شيئا وكل إليه" 3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الطب (3907) , وأحمد (5/60).
2 أبو داود: الطب (3905) , وابن ماجه: الأدب (3726) , وأحمد (1/227 ,1/311).
3 النسائي: تحريم الدم (4079).(1/69)
ص -75- ... وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا هل أنبئكم ما العضة؟ هي النميمة القالة بين الناس" 1 رواه مسلم. ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من البيان لسحرا" 2.
فيه مسائل:
الأولي:أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت.
الثانية: تفسير العيافة والطرق.
الثالثة: أن علم النجوم من نوع السحر.
الرابعة: العقد مع النفث من ذلك.
الخامسة: أن النميمة من ذلك.
السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2606) , وأحمد (1/437).
2 البخاري: النكاح (5146) , والترمذي: البر والصلة (2028) , وأبو داود: الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/59 ,2/62 ,2/94) , ومالك: الجامع (1850).(1/70)
ص -76- ... باب (25) ما جاء في الكهان ونحوهم
روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما" 1.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 2. رواه أبو داود. وللأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن أبي هريرة 3 ":من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 4. ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: السلام (2230) , وأحمد (4/68 ,5/380).
2 الترمذي: الطهارة (135) , وأبو داود: الطب (3904) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/429) , والدارمي: الطهارة (1136).
3 في بعض النسخ بياض في الأصل, وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا.
4 الترمذي: الطهارة (135) , وأبو داود: الطب (3904) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/408 ,2/476) , والدارمي: الطهارة (1136).(1/71)
ص -77- ... وعن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعا: "ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له؛ ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" رواه البزار بإسناد جيد. ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: "ومن أتى" إلى آخره.
قال البغوي: العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة، ونحو ذلك. وقيل: هو الكاهن. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقال أبو العباس بن تيمية: العراف: اسم الكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق. وقال ابن عباس - في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم: "ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق".
فيه مسائل:
الأولى:لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن.
الثانية:التصريح بأنه كفر.(1/72)
ص -78- ... الثالثة: كر من تكهن له.
الرابعة: كر من تطير له.
الخامسة: كر من سحر له.
السادسة: كر من تعلم أبا جاد.
السابعة: كر الفرق بين الكاهن والعراف.(1/73)
ص -79- ... باب (26) ما جاء في النشرة
عن جابر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النُّشرة؟ فقال:هي من عمل الشيطان" 1 رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود، وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.
وفي البخاري عن قتادة قلت لابن المسيب: "رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه أو ينشر؟ قال:لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح، أما ما ينفع فلم ينه عنه" ا ه.
وروى عن الحسن أنه قال:"لا يحل السحر إلا ساحر".
قال ابن القيم: النشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان. وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة. فهذا جائز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الطب (3868) , وأحمد (3/294).(1/74)
ص -80- ... فيه مسائل:
الأولى:النهي عن النشرة.
الثانية:الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه عما 1 يزيل الإشكال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المخطوطة: مما وليس عما.(1/75)
ص -81- ... باب (27) ما جاء في التطير
وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1 وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} 2.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر" 3 أخرجاه. زاد مسلم "ولا نوء ولا غول" 4.
ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل. قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة" 5. ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: "ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما؛ فإذا رأى أحدكم ما يكره
فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك" 6.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 131.
2 سورة يس آية: 19.
3 البخاري: الطب (5757) , ومسلم: السلام (2220) , وأبو داود: الطب (3911) , وأحمد (2/267 ,2/327 ,2/397 ,2/420 ,2/434 ,2/487 ,2/507).
4 مسلم: السلام (2220) , وأبو داود: الطب (3912) , وأحمد (2/397).
5 البخاري: الطب (5776) , ومسلم: السلام (2224) , والترمذي: السير (1615) , وأبو داود: الطب (3916) , وابن ماجه: الطب (3537) , وأحمد (3/118 ,3/130 ,3/154 ,3/173 ,3/178 ,3/251 ,3/275 ,3/277).
6 أبو داود: الطب (3919).(1/76)
ص -82- ... وعن ابن مسعود مرفوعا: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا 1، ولكن الله يذهبه بالتوكل" 2 رواه أبود داود والترمذي وصححه. وجعل آخره من قول ابن مسعود. ولأحمد من حديث ابن عمرو: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك" 3.
وله من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنه: "إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك" 4.
فيه مسائل:
الأولى: التنبيه على قوله:{أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}5 مع قوله:{طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}6.
الثانية: نفي العدوى.
الثالثة: نفي الطيرة.
الرابعة: نفي الهامة.
الخامسة: نفي الصفر.
السادسة: أن الفأل ليس من ذلك، بل مستحب.
السابعة: تفسير الفأل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الشارح عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: قوله وما منا إلا: قال أبو القاسم الأصبهاني والمنذري في الحديث إضمار. التقدير وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك ا ه.
2 الترمذي: السير (1614) , وأبو داود: الطب (3910) , وابن ماجه: الطب (3538) , وأحمد (1/389 ,1/438 ,1/440).
3 أحمد (2/220).
4 أحمد (1/213).
5 سورة الأعراف آية: 131.
6 سورة يس آية: 19.(1/77)
ص -83- ... الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر، بل يذهبه الله بالتوكل.
التاسعة: ذكر ما يقول من وجده.
العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك.
الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة.(1/78)
ص -84- ... باب (28) ما جاء في التنجيم
قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها. فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به" انتهى.
"وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه". ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق، وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، ومصدق بالسحر، وقاطع الرحم" 1 رواه أحمد وابن حبان في صحيحه.
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق النجوم.
الثانية: الرد على من زعم غير ذلك.
الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل.
الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر، ولو عرف أنه باطل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (4/399).(1/79)
ص -85- ... باب (29) ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}1.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة" 2.
وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب" 3 رواه مسلم.
ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الواقعة آية: 82.
2 مسلم: الجنائز (934) , وأحمد (5/342 ,5/344).
3 مسلم: الجنائز (934) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1581) , وأحمد (5/342 ,5/343 ,5/344).(1/80)
ص -86- ... وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" 1.
ولهما من حديث ابن عباس بمعناه، وفيه:
"قال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآيات {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أََفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ َتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}2".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الواقعة.
الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية.
الثالثة: ذكر الكفر في بعضها.
الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج من الملة.
الخامسة: قوله: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر" 3 بسبب نزول النعمة.
السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع.
السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع.
الثامنة: التفطن لقوله: "لقد صدق نوء كذا وكذا".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأذان (846) والجمعة (1038) والمغازي (4147) , ومسلم: الإيمان (71) , والنسائي: الاستسقاء (1525) , وأبو داود: الطب (3906) , وأحمد (4/117) , ومالك: النداء للصلاة (451).
2 سورة الواقعة آية: 75-82
3 البخاري: الأذان (846) , ومسلم: الإيمان (71) , والنسائي: الاستسقاء (1525) , وأبو داود: الطب (3906) , وأحمد (4/117) , ومالك: النداء للصلاة (451).(1/81)
ص -87- ... التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة 1 بالاستفهام عنها، لقوله: "أتدرون ماذا قال ربكم؟".
العاشرة: وعيد النائحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في المخطوطة. وفي المطبوعة: "إخراج العالم للتعليم للمسألة بالاستفهام عنها".(1/82)
ص -88- ... باب (30) قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 1.
وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}2.
عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" 3 أخرجاه.
ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" 4. وفي رواية: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى..." 5 إلى آخره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 165.
2 سورة التوبة آية: 24.
3 البخاري: الإيمان (15) , ومسلم: الإيمان (44) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5013 ,5014) , وابن ماجه: المقدمة (67) , وأحمد (3/177 ,3/207 ,3/275 ,3/278) , والدارمي: الرقاق (2741).
4 البخاري: الإيمان (16) , ومسلم: الإيمان (43) , والترمذي: الإيمان (2624) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4987 ,4988 ,4989) , وابن ماجه: الفتن (4033) , وأحمد (3/103 ,3/172 ,3/174 ,3/230 ,3/248 ,3/288).
5 البخاري: الأدب (6041).(1/83)
ص -89- ... ولن يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك؛ وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا" رواه ابن جرير. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}1 قال: "المودة".
فيه مسائل:
الأولي: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: وجوب محبته صلى الله عليه وسلم 2 على النفس والأهل والمال.
الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.
الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها.
السادسة: أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها.
السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا.
الثامنة: تفسير {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} 3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 166.
2 في المخطوطة: "وتقديمها على النفس والأهل والمال".
3 سورة البقرة آية: 166.(1/84)
ص -90- ... التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا.
العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه منه دينه.
الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر.(1/85)
ص -91- ... باب (31) قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 2.
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} 3 -.
عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا: "إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله. إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره".
وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس؛ ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" رواه ابن حبان في صحيحه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 175.
2 سورة التوبة آية: 18.
3 سورة العنكبوت آية: 10.(1/86)
ص -92- ... فيه مسائل:
الأولي: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: تفسير آية العنكبوت.
الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى.
الخامسة: علامة ضغفه. ومن ذلك هذه الثلاث.
السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض.
السابعة: ذكر ثواب من فعله.
الثامنة: ذكر عقاب من تركه.(1/87)
ص -93- ... باب (32) قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِ} 1.
وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 2.
وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3.
وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 4.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 5" رواه البخاري والنسائي.
فيه مسائل:
الأولى: أن التوكل من الفرائض.
الثانية: أنه من شروط الإيمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية: 23.
2 سورة الأنفال آية: 2.
3 سورة الأنفال آية: 64.
4 سورة الطلاق آية: 3.
5 سورة آل عمران 173.(1/88)
ص -94- ... الثالثة: تفسير آية الأنفال.
الرابعة: تفسير الآية في آخرها.
الخامسة: تفسير آية الطلاق.
السادسة: عظم شأن هذه الكلمة أنها قول إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم في الشدائد.(1/89)
ص -95- ... باب (33) قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 1.
وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} 2.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؟ فقال: "الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله" رواه عبد الرازق.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الأعراف.
الثانية: تفسير آية الحجر.
الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله.
الرابعة: شدة الوعيد في القنوط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 99.
2 سورة الحجر آية: 56.(1/90)
ص -96- ... باب (34) من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1 قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت" 2.
ولهما عن ابن مسعود مرفوعا: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" 3.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة 4 في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التغابن آية: 11.
2 مسلم: الإيمان (67) , وأحمد (2/377 ,2/441 ,2/496).
3 البخاري: الجنائز (1297) , ومسلم: الإيمان (103) , والترمذي: الجنائز (999) , والنسائي: الجنائز (1860 ,1862 ,1864) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1584) , وأحمد (1/386 ,1/432 ,1/442 ,1/456 ,1/465).
4 في المخطوطة: بالعقوبة.(1/91)
ص -97- ... وقال صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط" 1 حسنه الترمذي.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية التغابن.
الثانية: أن هذا من الإيمان بالله.
الثالثة: الطعن في النسب.
الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية.
الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير.
السادسة: إرادة الله به الشر.
السابعة: علامة حب الله للعبد.
الثامنة: تحريم السخط.
التاسعة: ثواب الرضى بالبلاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الزهد (2396).(1/92)
ص -98- ... باب (35) ما جاء في الرياء
وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 1.
وعن أبي هريرة مرفوعا: "قال تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" 2 رواه مسلم.
وعن أبي سعيد مرفوعا: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك الخفي؛ يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل" 3 رواه أحمد.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الكهف.
الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله.
الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكهف آية: 110.
2 مسلم: الزهد والرقائق (2985) , وابن ماجه: الزهد (4202) , وأحمد (2/301 ,2/435).
3 ابن ماجه: الزهد (4204) , وأحمد (3/30).(1/93)
ص -99- ... الرابعة: أن من الأسباب: أنه تعالى خير الشركاء.
الخامسة: خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء.
السادسة: أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه.(1/94)
ص -100- ... باب (36) من الشرك: إرادة الإنسان بعمله الدنيا
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1.
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط؛ تعس وانتكس 2، وإذا شيك فلا انتقش 3 طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه إن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية: 15-16.
2 قوله: "تعس وانتكس" قال الحافظ: هو بالمهملة, أي عاوده المرض. وقال أبو السعادات: أي انقلب على رأسه. وهو دعاء عليه بالخيبة. قال الطيبي: فيه الترقي بالدعاء عليه; لأنه إذا تعس انكب على وجهه. وإذا انتكس انقلب على رأسه بعد أن سقط.
3 قوله "وإذا شيك" أي أصابته شوكة "فلا انتقش" أي فلا يقدر على إخراجها بالمنقاش. قاله أبو السعادات.(1/95)
ص -101- ... كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع".
فيه مسائل:
الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة.
الثانية: تفسير آية هود.
الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة.
الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطى رضي، وإن لم يعط سخط.
الخامسة: قوله: "تعس وانتكس".
السادسة: قوله: "وإذا شيك فلا انتفش" 1.
السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (2887) , والترمذي: الزهد (2375) , وابن ماجه: الزهد (4136).(1/96)
ص -102- ... باب (37) من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله
وقال ابن عباس: "يوشك أن تنْزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون قال أبو بكر وعمر؟".
وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1 أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
عن عدي بن حاتم: "أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية: 63.(1/97)
ص -103- ... ما أحل الله فتحرمونه؟ ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم" رواه أحمد والترمذي وحسنه.
فيه مسائل:
الأولي: تفسير آية النور.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي.
الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر وتمثيل أحمد بسفيان.
الخامسة: تغير الأحوال إلى هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين.(1/98)
ص -104- ... باب (38) قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} 1.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} 2.
وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 3.
وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 4.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 62.
2 سورة البقرة آية: 11.
3 سورة الأعراف آية: 56.
4 سورة المائدة آية: 50.(1/99)
ص -105- ... وقال الشعبي: "كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد - لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة. وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود لعلمه أنهم يأخذون الرشوة. فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما إليه، فنَزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}1" الآية.
وقيل: "نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف. ثم ترافعا إلى عمر. فذكر له أحدهما القصة. فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم. فضربه بالسيف فقتله".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء، وما فيها من الإعانة على معرفة فهم الطاغوت.
الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} 2 الآية.
الثالثة: تفسير آية الأعراف: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} 3.
الرابعة: تفسير {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ(} 4.
الخامسة: ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى.
السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب.
السابعة: قصة عمر مع المنافق.
الثامنة: كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 60.
2 سورة البقرة آية: 11.
3 سورة الأعراف آية: 56.
4 سورة المائدة آية: 50.(1/100)
ص -106- ... باب (39)من جحد شيئا من الأسماء والصفات
وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 1.
وفي صحيح البخاري قال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب اللهُ ورسولهُ؟" 2.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه "عن ابن عباس أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات - استنكارا لذلك – فقال: ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه" انتهى.
ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر " الرحمن " أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَن} 3.
فيه مسائل:
الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات.
الثانية: تفسير آية الرعد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الرعد آية: 30.
2 البخاري: العلم (127).
3 سورة الرعد آية: 30.(1/101)
ص -107- ... الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع.
الرابعة: ذكر العلة: أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله، ولو لم يتعمد المنكر.
الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك، وأنه أهلكه.(1/102)
ص -108- ... باب (40) قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} 1.
قال مجاهد ما معناه: "هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي".
وقال عون بن عبد الله: "يقولون: لولا فلان لم يكن كذا". وقال قتيبة: " "يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا".
وقال أبو العباس - بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: "أن الله تعالى قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر" 2 - الحديث وقد تقدم -: وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به.
قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقا، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها.
الثانية: معرفة أن هذا جار على ألسنة كثير.
الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة.
الرابعة: اجتماع الضدين في القلب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 83.
2 البخاري: الأذان (846) , ومسلم: الإيمان (71) , والنسائي: الاستسقاء (1525) , وأبو داود: الطب (3906) , وأحمد (4/117) , ومالك: النداء للصلاة (451).(1/103)
ص -109- ... باب (41) قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1.
قال ابن عباس في الآية: "الأنداد: هو الشرك، أخفى من دببيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل". وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص. ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت. وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلانا ; هذا كله به شرك " رواه ابن أبي حاتم.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله قد كفر أو أشرك" 2 رواه الترمذي، وحسنه وصححه الحاكم.
وقال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذبا أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقا".
وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان" 3 رواه أبو داود بسند صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 22.
2 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/125).
3 أبو داود: الأدب (4980) , وأحمد (5/384 ,5/393 ,5/398).(1/104)
ص -110- ... وجاء عن إبراهيم النخعي: "أنه يكره أن يقول أعوذ بالله وبك. ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان؛ ولا تقولوا ولولا الله وفلان".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد.
الثانية: أن الصحابة رضي الله عنهم يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها 1 تعم الأصغر.
الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك.
الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقا فهو أكبر من اليمين الغموس.
الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المخطوطة: "بأنها".(1/105)
ص -111- ... باب (42) ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
عن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحلفوا بآبائكم; من حُلِف له بالله فليصدِّق ; ومن حُلِف له بالله فليْرضَ ; ومن لم يرض فليس من الله" 1 رواه ابن ماجه بسند حسن.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الحلف بالآباء.
الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى.
الثالثة: وعيد من لم يرض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأدب (6108) والأيمان والنذور (6646) , ومسلم: الأيمان (1646) , والترمذي: النذور والأيمان (1534) , وابن ماجه: الكفارات (2101) , وأحمد (2/7 ,2/8 ,2/11 ,2/48 ,2/76 ,2/142) , ومالك: النذور والأيمان (1037) , والدارمي: النذور والأيمان (2341).(1/106)
ص -112- ... باب (43) قول: ما شاء الله وشئت
عن قُتيلة: "أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت" 1 رواه النسائي وصححه.
وله أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت. فقال: أجعلتني لله ندا؟ ما شاء الله وحده" 2.
ولابن ماجه عن الطفيل - أخي عائشة لأمها - قال: "رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود قلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون عزير بن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح بن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الأيمان والنذور (3773).
2 أحمد (1/224).(1/107)
ص -113- ... أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قال: هل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم قال فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده".
فيه مسائل:
الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر.
الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى.
الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله ندا؟" فكيف بمن قال " ما لي من ألوذ به سواك " والبيتين بعد.
الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر لقوله: " يمنعني كذا وكذا ".
الخامسة:أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي.
السادسة: أنها قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام.(1/108)
ص -114- ... باب (44) من سب الدهر فقد آذى الله
وقول الله تعالى وقالوا: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} 1.
في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار" 2.
وفي رواية: "لا تسبوا الدهر ; فإن الله هو الدهر" 3.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الدهر.
الثانية: تسميته آذى الله 4.
الثالثة: التأمل في قوله: "فإن الله هو الدهر" 5.
الرابعة: أنه قد يكون سابا، ولو لم يقصده بقلبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجاثية آية: 24.
2 البخاري: تفسير القرآن (4826) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأبو داود: الأدب (5274) , وأحمد (2/238 ,2/496 ,2/499).
3 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/272 ,2/395 ,2/491 ,2/496 ,2/499).
4 في المخطوطة: "تسميته أذى لله".
5 البخاري: الأدب (6182) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246 ,2247) , وأحمد (2/395 ,2/491 ,2/499).(1/109)
ص -115- ... باب (45) التسمي بقاضي القضاة ونحوه
في الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخنع اسم عند الله رجل تسمَّى ملك الأملاك. لا مالك إلا الله" 1.
قال سفيان مثل: شاهان شاه.
وفي رواية: "أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه" 2.
قوله: " أخنع " يعني: أوضع.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك.
الثانية: إن ما في معناه مثله، كما قال سفيان.
الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه.
الرابعة:التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه 3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأدب (6205) , ومسلم: الآداب (2143) , والترمذي: الأدب (2837) , وأبو داود: الأدب (4961) , وأحمد (2/244).
2 البخاري: الأدب (6205 ,6206) , ومسلم: الآداب (2143) , والترمذي: الأدب (2837) , وأبو داود: الأدب (4961) , وأحمد (2/244 ,2/315).
3 في المخطوطة: "أن هذا الإحلال لله سبحانه".(1/110)
ص -116- ... باب (46) احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك
عن "أبي شريح أنه كان يكنى أبا الحكم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله هو الحكم، وإليه الحكم. فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين. فقال: ما أحسن هذا فما لك من الولد؟ قال شريح ومسلم وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح" 1 رواه أبو داود وغيره.
فيه مسائل:
الأولى: احترام أسماء الله وصفاته، ولو لم يقصد معناه 2.
الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك.
الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: آداب القضاة (5387) , وأبو داود: الأدب (4955).
2 في المخطوطة: "ولو كلاما" لم يقصد معناه.(1/111)
ص -117- ... باب (47) من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول
وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 1.
عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة - دخل حديث بعضهم في بعض - أنه "قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء; يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء. فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة تنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 65.(1/112)
ص -118- ... وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ما يلتفت إليه وما يزيده عليه".
فيه مسائل:
الأولى: وهي العظيمة: أن من هزل بهذا إنه كافر.
الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان.
الثالثة: الفرق بين النميمة، وبين النصيحة لله ولرسوله.
الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله، وبين الغلظة على أعداء الله.
الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل.(1/113)
ص -119- ... باب (48) قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} 1.
قال مجاهد: "هذا بعملي، وأنا محقوق به".
وقال ابن عباس: "يريد من عندي".
وقوله: "إنما أوتيته على علم عندي" قال قتادة: "على علم مني بوجوه المكاسب".
وقال آخرون: "على علم من الله أني له أهل" وهذا معنى قول مجاهد: "أوتيته على شرف".
وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: قال: لون حسن وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به. قال: فمسحه فذهب عنه قذره، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا. قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فصلت آية: 50.(1/114)
ص -120- ... فأي المال أحب إليك؟ قال الإبل أو البقر - شك إسحاق - فأعطي ناقة عشراء وقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به. فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعرا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر أو الإبل. فأعطي بقرة حاملا، قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس فمسحه فرد الله إليه بصره قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدا فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم. قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلوغ لي اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيرا أتبلغ به في سفري. فقال: الحقوق كثيرة. فقال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله ( المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. قال وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري. فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك(1/115)
ص -121- ... مالك فإنما ابتليتم، فقد رض ي الله عنك وسخط على صاحبيك".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما معنى: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} 1.
الثالثة: ما معنى قوله: {(إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي(} 2.
الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فصلت آية: 50.
2 سورة القصص آية: 78.(1/116)
ص -122- ... باب (49) قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1
قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك حاشى عبد المطلب. وعن ابن عباس في الآية: "قال لما تغشاها آدم حملت فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعاني 2 أو لأجعلن له قرني أيل، فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما، سمياه عبد الحارث. فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا، ثم حملت فأتاهما فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا. ثم حملت فأتاهما فذكر لهما فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث، فذلك قوله {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}" رواه ابن أبي حاتم.
وله بسند صحيح عن قتادة قال: "شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 190.
2 في بعض النسخ: "لتطيعنني".(1/117)
ص -123- ... وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً}قال: "أشفقا أن لا يكون إنسانا" وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما.
فيه مسائل:
الأولى: تحريم كل اسم معبد لغير الله.
الثانية: تفسير الآية.
الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها.
الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم.
الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة.(1/118)
ص -124- ... باب (50) قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } 1
ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس: ?"{يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}: يشركون". وعنه: "سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز".
وعن الأعمش: "يدخلون فيها ما ليس منها".
فيه مسائل:
الأولى: إثبات الأسماء.
الثانية: كونها حسنى.
الثالثة: الأمر بدعائه بها.
الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين.
الخامسة: تفسير الإلحاد فيها.
السادسة: وعيد من ألحد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 180.(1/119)
ص -125- ... باب (51) لا يقال: السلام على الله
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام" 1.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير السلام.
الثانية: أنه تحية.
الثالثة: أنها لا تصلح لله.
الرابعة: العلة في ذلك.
الخامسة: تعليمهم التحية التي تصلح لله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأذان (835) , ومسلم: الصلاة (402) , والنسائي: التطبيق (1169) والسهو (1298) , وأحمد (1/413 ,1/431) , والدارمي: الصلاة (1340).(1/120)
ص -126- ... باب (51) قول: اللهم اغفر لي إن شئت
في الصحيح عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة ; فإن الله لا مكره له" 1.
ولمسلم: "وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه" 2.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء.
الثانية: بيان العلة في ذلك.
الثالثة: قوله: "ليعزم المسألة".
الرابعة: إعظام الرغبة.
الخامسة: التعليل لهذا الأمر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الدعوات (6339) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679) , والترمذي: الدعوات (3497) , وأبو داود: الصلاة (1483) , وأحمد (2/243 ,2/318 ,2/457 ,2/463 ,2/486 ,2/500 ,2/530) , ومالك: النداء للصلاة (494).
2 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679) , وأحمد (2/457).(1/121)
ص -127- ... باب (53) لا يقول: عبدي وأمتي
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضيء ربك؛ وليقل: سيدي ومولاي. ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي" 1.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي.
الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك.
الثالثة: تعليم الأول قول: فتاي، وفتاتي، وغلامي.
الرابعة: تعليم الثاني قول: سيدي ومولاي.
الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأبو داود: الأدب (4975) , وأحمد (2/316).(1/122)
ص -128- ... باب (54) لا يرد من سأل بالله
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه" 1 رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح.
فيه مسائل:
الأولى: إعاذة من استعاذ بالله.
الثانية: إعطاء من سأل بالله.
الثالثة: إجابة الدعوة.
الرابعة: المكافأة على الصنيعة.
الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه.
السادسة: قوله: "حتى ترون أنكم قد كافأتموه".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الزكاة (2567) , وأبو داود: الزكاة (1672) , وأحمد (2/99 ,2/127).(1/123)
ص -129- ... باب (55) لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم?"لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة" 1 رواه أبو داود.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب.
الثانية: إثبات صفة الوجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الزكاة (1671).(1/124)
ص -130- ... باب (56) ما جاء في اللو
وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 1.
وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} 2.
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان" 3.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران.
الثانية: النهي الصريح عن قول: " لو " إذا أصابك شيء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 154.
2 سورة آل عمران آية: 168.
3 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370).(1/125)
ص -131- ... الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان.
الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن.
الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع، مع الاستعانة بالله.
السادسة: النهي عن ضد ذلك، وهو العجز.(1/126)
ص -132- ... باب (57) النهي عن سب الريح
عن أبي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أُمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به" 1 صححه الترمذي.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الريح.
الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره.
الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة.
الرابعة: أنها قد تؤمر بخير، وقد تؤمر بشر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الفتن (2252) , وأحمد (5/123).(1/127)
ص -133- ... باب (58) قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 1.
وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}2.
قال ابن القيم في الآية الأولى: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته. ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره الله على الدين كله. وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح. وإنما كان هذا الظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.
فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 154.
2 سورة الفتح آية: 6.(1/128)
ص -134- ... عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده.
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء. ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا؛ فمستقل ومستكثر.
وفتش نفسك، هل أنت سالم.
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجيا.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية الفتح.
الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر.
الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه.(1/129)
ص -135- ... باب (59) ما جاء في منكر القدر
وقال ابن عمر: "والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" رواه مسلم.
وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: "يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. فقال: رب، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة. يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني" 1. وفي رواية لأحمد: "إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: القدر (2155) وتفسير القرآن (3319) , وأبو داود: السنة (4700).(1/130)
ص -136- ... وفي رواية لابن وهب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار".
وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي قال: "أتيت أبي بن كعب فقلت في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي. فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار. قال: فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة ابن اليمان وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم" حديث صحيح. رواه الحاكم في صحيحه.
فيه مسائل:
الأولى: بيان كيفية الإيمان بالقدر 1.
الثانية: بيان فرض الإيمان 2.
الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به.
الرابعة: الإخبار أن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به.
الخامسة: ذكر أول ما خلق الله.
السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المخطوطة: "بيان فرض الإيمان بالقدر".
2 في المخطوطة: "بيان كيفية الإيمان به".(1/131)
ص -137- ... السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم ممن لم يؤمن به.
الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء.
التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط.(1/132)
ص -138- ... باب (60) ما جاء في المصورين
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" 1 أخرجاه.
ولهما عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله" 2.
ولهما عن ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم" 3. ولهما عنه مرفوعا: "من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" 4.
ولمسلم عن أبي الهياج قال: "قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: التوحيد (7559) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232 ,2/259 ,2/391 ,2/451 ,2/527).
2 البخاري: اللباس (5954) , وأحمد (6/36 ,6/199).
3 مسلم: اللباس والزينة (2110) , وأحمد (1/308).
4 البخاري: البيوع (2225) والتعبير (7042) , ومسلم: اللباس والزينة (2110) , والترمذي: اللباس (1751) , والنسائي: الزينة (5358 ,5359) , وأبو داود: الأدب (5024) , وأحمد (1/216 ,1/241 ,1/246 ,1/350 ,1/360).
5 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/89 ,1/96).(1/133)
ص -139- ... فيه مسائل:
الأولى: التغليظ الشديد في المصورين.
الثانية:التنبيه على العلة، وهو ترك الأدب مع الله، لقوله: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي" 1.
الثالثة:التنبيه على قدرته، وعجزهم لقوله: "فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة" 2.
الرابعة:التصريح بأنهم أشد الناس عذابا.
الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسا يعذب بها المصور في جهنم.
السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح.
السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: التوحيد (7559) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232 ,2/259 ,2/391 ,2/451 ,2/527).
2 البخاري: التوحيد (7559) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232 ,2/259).(1/134)
ص -140- ... باب (61) ما جاء في كثرة الحلف
وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 1.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب" 2 أخرجاه.
وعن سلمان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل (الله) بضاعته: لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه" رواه الطبراني بسند صحيح.
وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا - ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن" 3.
وفيه عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية: 89.
2 البخاري: البيوع (2087) , ومسلم: المساقاة (1606) , والنسائي: البيوع (4461) , وأبو داود: البيوع (3335) , وأحمد (2/235 ,2/242 ,2/413).
3 البخاري: المناقب (3650) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221 ,2222) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود: السنة (4657) , وأحمد (4/426 ,4/427 ,4/436 ,4/440).(1/135)
ص -141- ... قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته" 1.
وقال إبراهيم: "كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار".
فيه مسائل:
الأولى: الوصية بحفظ الأيمان.
الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة.
الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه.
الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي.
الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون.
السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة، وذكر ما يحدث 2.
السابعة:إن الذين يشهدون ولا يستشهدون.
الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المناقب (3651) , ومسلم: فضائل الصحابة (2533) , والترمذي: المناقب (3859) , وابن ماجه: الأحكام (2362) , وأحمد (1/378 ,1/417 ,1/434 ,1/438 ,1/442 ,4/267 ,4/276 ,4/277).
2 في المخطوطة: ما يحدث بعدهم.(1/136)
ص -142- ... باب (62) ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
وقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 1.
وعن بريدة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا فقال: اغزوا بسم الله في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله.
اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال -، فأيتهن 2 ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين.
فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 91.
2 في المخطوطة: فأيتهن أجابوك.(1/137)
ص -143- ... يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فاسألهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.
وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنْزلهم 1، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا" رواه مسلم.
فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين.
الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا.
الثالثة: قوله: "اغزوا بسم الله في سبيل الله" 2.
الرابعة: قوله: "قاتلوا من كفر بالله" 3.
الخامسة: قوله: "استعن بالله وقاتلهم" 4.
السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء.
السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المخطوطة: "أنزلهم على حكمه".
2 ابن ماجه: الجهاد (2857) , وأحمد (4/240).
3 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: الديات (1408) والسير (1617) , وأبو داود: الجهاد (2613) , وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352 ,5/358) , والدارمي: السير (2439).
4 صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير (1731) , ومسند أحمد (5/358) , وسنن الدارمي: كتاب السير (2442).(1/138)
ص -144- ... باب (63) ما جاء في الإقسام على الله
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله (: من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له، وأحبطت عملك" 1 رواه مسلم.
وفي حديث أبي هريرة: أن القائل رجل عابد. قال أبو هريرة: "تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته".
فيه مسائل:
الأولى: التحذير من التألي على الله.
الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
الثالثة: أن الجنة مثل ذلك.
الرابعة: فيه شاهد لقوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة..." 2 إلخ.
الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2621).
2 البخاري: الرقاق (6477) , ومسلم: الزهد والرقائق (2988) , والترمذي: الزهد (2314) , وابن ماجه: الفتن (3970) , وأحمد (2/236 ,2/297 ,2/334 ,2/355 ,2/378 ,2/402 ,2/533) , ومالك: الجامع (1849).(1/139)
ص -145- ... باب (64) لا يستشفع بالله على خلقه
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، نهكت الأنفس وجاع العيال وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله ! سبحان الله ! فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه. ثم قال: ويحك أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد" 1 وذكر الحديث، رواه أبو داود.
فيه مسائل:
الأولى: إنكاره على من قال: "نستشفع بالله عليك".
الثانية: تغيره تغيرا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة.
الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: "نستشفع بك على الله".
الرابعة: التنبيه على تفسير "سبحان الله".
الخامسة: أن المسلمين يسألونه صلى الله عليه وسلم الاستسقاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سنن أبي داود: كتاب السنة (4726).(1/140)
ص -146- ... باب (65) ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: "انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا. فقال السيد الله تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا. فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان" 1 رواه أبو داود بسند جيد.
وعن أنس رضي الله عنه: "أن ناسا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا. وابن سيدنا فقال: يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان. أنا محمد عبد الله ورسوله. ما أحب أن ترفعوني فوق منْزلتي التي أنزلني الله " 2 رواه النسائي بسند جيد.
فيه مسائل:
الأولى: تحذير الناس من الغلو.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الأدب (4806) , وأحمد (4/25).
2 أحمد (3/249).(1/141)
ص -147- ... الثانية: ما ينبغي أن يقول: من قيل له: أنت سيدنا.
الثالثة: قوله: "لا يستجرينكم الشيطان" 1 مع أنهم لم يقولوا إلا الحق.
الرابعة: قوله: "ما أحب أن ترفعوني فوق منْزلتي" 2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الأدب (4806) , وأحمد (4/25).
2 أحمد (3/153).(1/142)
ص -148- ... باب (66) باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر. ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}2 3.
وفي رواية لمسلم: "والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الله". وفي رواية للبخاري: "يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع" 4 أخرجاه.
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا: "يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 67.
2 سورة الزمر آية: 67.
3 البخاري: تفسير القرآن (4811) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي: تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/429 ,1/457).
4 صحيح مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار (2786) , ومسند أحمد (1/457).(1/143)
ص -149- ... ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟" 1.
وروى عن ابن عباس قال: "ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم".
وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس".
وقال: قال أبو ذر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض".
وعن ابن مسعود قال: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم" أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله، ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله.
قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى. قال: وله طرق.
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار (2788).(1/144)
ص -150- ... خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض. والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم بني" أخرجه أبو داود وغيره.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1.
الثانية: إن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها.
الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك.
الرابعة: وقوع الضحك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم.
الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السماوات في اليد اليمنى، والأرضين في الأخرى.
السادسة: التصريح بتسميتها الشمال.
السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك.
الثامنة: قوله كخردلة في كف أحدكم.
التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء.
العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي.
الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 67.(1/145)
ص -151- ... الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء.
الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي.
الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء.
الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء.
السادسة عشرة: أن الله فوق العرش.
السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض.
الثامنة عشرة: كثف كل سماء مائة سنة.
التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات أسفله وأعلاه خمسمائة سنة والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين(1/146)
تجريد التوحيد المفيد
تأليف: تقي الدين أحمد بن علي المقريزي
دراسة وتحقيق:
طه محمد الزيني
الناشر:
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة
1409هـ/1989م
تجريد التوحيد المفيد
تأليف: تقي الدين أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة 854 هجرية
مقدمة المؤلف
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلّى الله على نبيّنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذا كتاب جمّ الفوائد، بديع الفرائد، ينتفع به من أراد الله والدّار الآخرة، سمّيته: "تجريد التّوحيد المفيد".
والله أسأل العون على العمل به بمنّه.
اعلم أن الله سبحانه هو ربّ كل شيءِ ومالكه وإلهه:
فالرّب:(2/1)
ص -4-
مصدر ربَّ يَرُبُّ ربًّا فهو رابٌّ، فمعنى قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}: رابُّ العالمين، فإن الربّ - سبحانه وتعالى - هو الخالق الموجد لعباده، القائم بتربيتهم وإصلاحهم، المتكفّل بصلاحهم من خلقٍ ورزقٍ وعافيةٍ وإصلاح دين ودنيا.
والإلهيّة: كون العباد يتّخذونه سبحانه محبوبًا مألوها، ويفردونه بالحب والخوف والرجاء والإخبات، والتّوبة والنّذر والطّاعة، والطّلب والتّوكل ونحو هذه الأشياء.
فإن التوحيد(2/2)
ص -5-
حقيقته: أن ترى الأمور كلها من الله - تعالى - رؤية تقطع الالتفات إلى الأسباب والوسائط، فلا ترى الخير والشر إلاّ منه تعالى، وهذا المقام يثمر التّوكل، وترك شكاية الخلق، وترك لومهم، والرضا عن الله - تعالى -، والتسليم لحكمه.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الربوبية منه تعالى لعباده، والتألّه من عباده له سبحانه، كما أن الرحمة هي الوصلة بينهم وبينه عز وجل.
واعلم أن أنفس الأعمال وأجلّها قدرًا: توحيد الله - تعالى -، غير أن التّوحيد له قشرتان:
الأولى: أن تقول بلسانك: لا إله إلاّ الله، ويسمّى هذا(2/3)
ص -6-
القول توحيدًا، وهو مناقض للتثليث الذي تعتقده النصارى، وهذا التّوحيد يصدر أيضا من المنافق الذي يخالف سرّه جهره.
والقشرة الثانية: أن لا يكون في القلب مخالفة ولا إنكار لمفهوم هذا القول، بل يشتمل القلب على اعتقاد ذلك والتصديق به، وهذا هو توحيد عامة النّاس.
ولُبَاب التّوحيد: أن يرى الأمور كلها لله - تعالى -، ثم يقطع الالتفات إلى الوسائط، وأن يعبده سبحانه عبادة يفرده بها، ولا يعبد غيره.
ويخرج عن هذا التّوحيد: أتباع الهوى، فكلّ من اتّبع هواه فقد اتّخذ هواه معبوده، قال الله - تعالى -: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}.
وإذا تأملت عرفت أن عابد الصنم لم يعبده إنما عبد هواه، وهو ميل نفسه إلى دين آبائه، فيتبع ذلك الميل، وميل النفس إلى المألوفات أحد المعاني التي يعبر عنها بالهوى.
ويخرج عن هذا التوحيد: السخط على الخلق، والالتفات إليهم، فإن من يرى الكل من الله كيف يسخط على غيره أو يأمل سواه؟.
وهذا التوحيد مقام الصديقين.
ولا ريب أن توحيد الربوبية لم ينكره المشركون، بل أقرّوا بأنه سبحانه وحده خالقهم، وخالق السموات والأرض، والقائم بمصالح العالم كله، وإنما أنكروا توحيد الإلهيّة والمحبّة، كما قد حكى الله - تعالى - عنهم في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}، فلما سووا غيره به في هذا التّوحيد كانوا مشركين،(2/4)
ص -7-
كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}.
وقد علّم الله - سبحانه وتعالى - عباده كيفية مباينة الشّرك في توحيد الإلهيّة، وأنه تعالى حقيق بإفراده وليًّا وحكمًا وربًّا، فقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} وقال: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} وقال: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً}، فلا وليّ ولا حكم ولا ربّ إلاّ الله، الذي من عدل به غيره فقد أشرك في ألوهيّته ولو وحّد ربوبيّته، فتوحيد الربوبيّة هو الذي اجتمعت فيه الخلائق مؤمنها وكافرها، وتوحيد الإلهيّة مفرق الطرق بين المؤمنين والمشركين، ولهذا كانت كلمة الإسلام: لا إله إلاّ الله، ولو قال: لا ربّ إلاّ الله أجزاه عند المحققين، فتوحيد الألوهيّة هو المطلوب من العباد، ولهذا كان أصل "الله" الإله، كما هو قول سيبويه، وهو الصحيح، وهو قول جمهور أصحابه إلاّ من شذّ منهم.
وبهذا الاعتبار الذي قررنا به الإله وأنه المحبوب، لاجتماع صفات الكمال فيه، كان الله: هو الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا، وهو الذي ينكره المشركون، ويحتج الربّ - سبحانه وتعالى - عليهم بتوحيدهم ربوبيّته على توحيد ألوهيّته، كما قال الله - تعالى -: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ(2/5)
ص -8-
وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}، وكلما ذكر تعالى من آياته جملة من الجمل قال عقبها: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}؟، فأبان سبحانه وتعالى بذلك أن المشركين إنما كانوا يتوقفون في إثبات توحيد الإلهيّة لا الربوبيّة، على أن منهم من أشرك في الربوبيّة كما يأتي بعد ذلك إن شاء الله - تعالى -.
وبالجملة فهو تعالى يحتج على منكري الإلهيّة بإثباتهم الربوبيّة.
والملك: هو الآمر الناهي الذي لا يخلق خلقًا بمقتضى ربوبيّته ويتركهم سدى معطلين لا يؤمرون ولا ينهون، ولا يثابون ولا يعاقبون، فإن الملك هو الآمر الناهي، المعطي المانع، الضار النافع، المثيب المعاقب، ولذلك جاءت الاستعاذة في سورة الناس وسورة الفلق بالأسماء الحسنى الثلاثة: الربّ والملك والإله، فإنه لما قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} كان فيه إثبات أنه خالقهم وفاطرهم، فبقي أن يقال: لَمّا خلقهم هل كلّفهم وأمرهم ونهاهم؟، قيل: نعم، فجاء: {مَلِكِ النَّاسِ}، فأثبت الخلق والأمر {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ}، فلما قيل ذلك، قيل: فإذا كان ربا موجدًا، وملكا مكلفا، فهل يحب ويرغب إليه، ويكون التوجه إليه غاية الخلق والأمر، قيل: {إِلَهِ النَّاسِ} أي: مألوههم ومحبوبهم، الذي لا يتوجّه العبد المخلوق المكلّف العابد إلا له، فجاءت الإلهيّة خاتمة وغاية، وما قبلها كالتوطئة لها.
وهاتان السورتان أعظم عوذة في القرآن، وجاءت الاستعاذة بهما(2/6)
ص -9-
وقت الحاجة إلى ذلك، وهو حين سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وخيّل إليه أنه يفعل الشيء صلى الله عليه وسلم وما فعله، وأقام على ذلك أربعين يوما، كما في الصحيح،(2/7)
ص -10-
وكانت عقد السّحر إحدى عشرة عقدة، فأنزل الله المعوّذتين إحدى عشرة آية، فانحلّت بكلّ آيةٍ عقدةٍ. وتعلقت الاستعاذة في أوائل القرآن(2/8)
ص -12-
باسمه الإله، وهو المعبود وحده، لاجتماع صفات الكمال فيه. ومناجاة العبد لهذا الإله الكامل، ذي الأسماء الحسنى والصفات العليا، المرغوب إليه؛ في أن يعيذ عبده الذي يناجيه بكلامه من الشيطان الحائل بينه وبين مناجاة ربّه. ثم استحب التعليق باسم الإله في جميع المواطن الذي يقال فيها: " أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم "، لأن اسم الله - تعالى - هو الغاية للأسماء، ولهذا كان كل اسم بعده لا يتعرف إلاّ به، فتقول: الله هو السّلام، المؤمن، المهيمن، فالجلالة تعرّف غيرها، وغيرها لا يعرفها.
والذين أشركوا به تعالى في الربوبيّة منهم من أثبت معه خالقًا آخر، وإن لم يقولوا: إنه إله مكافئ له، وهم المشركون ومن ضاهاهم من القدريّة.
وربوبيّته سبحانه للعالم الربوبيّة الكاملة المطلقة الشاملة تبطل أقوالهم، لأنها تقتضي ربوبيّته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال.
وحقيقة قول القدرية المجوسية: أنه تعالى ليس ربا لأفعال الحيوان ولا تتناولها ربوبيّته، إذ كيف يتناول ما لا يدخل تحت قدرته ومشيئته وخلقه.(2/9)
ص -13-
وشرك الأمم كله نوعان: شرك في الإلهيّة، وشرك في الربوبيّة
فالشرك في الإلهيّة والعبادة: هو الغالب على أهل الإشراك، وهو شرك عبّاد الأصنام، وعبّاد الملائكة، وعبّاد الجّن، وعبّاد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات، الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، ويشفعوا لنا عنده، وينالنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قرب وكرامة، كما هو المعهود في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه وخاصته.
والكتب الإلهيّة كلها من أولها إلى آخرها تبطل هذا المذهب وتردّه، وتقبّح أهله، وتنص على أنهم أعداء الله - تعالى -، وجميع الرسل - صلوات الله عليهم - متفقون على ذلك، من أولهم إلى آخرهم، وما أهلك الله - تعالى - " من أهلك " من الأمم إلاّ بسبب هذا الشرك، ومن أجله. وأصله: الشرك في محبّة الله، قال تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}، فأخبر سبحانه وتعالى أنه من أحبّ مع الله شيئًا غيره كما يحبّه فقد اتّخذ ندًّا من دونه. وهذا على أصح(2/10)
ص -14-
القولين في الآية: أنهم يحبونهم كما يحبون الله، وهذا هو العدل المذكور في قوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}، والمعنى على أصح القولين: أنهم يعدلون به غيره في العبادة، فيسوون بينه وبين غيره في الحبّ والعبادة. وكذلك قول المشركين في النار لأصنامهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، ومعلوم قطعًا أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونه ربّهم وخالقهم، فإنهم كانوا كما أخبر الله عنهم مقرّين بأن الله - تعالى - وحده هو ربّهم وخالقهم، وأن الأرض ومن فيها لله وحده، وأنه ربّ السّموات السّبع وربّ العرش العظيم، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي بيده ملكوت كل شيءٍ، وهو يجير ولا يجار عليه، وإنما كانت هذه التسوية بينهم وبين الله - تعالى - في المحبّة والعبادة، فمن أحبّ غير الله - تعالى - وخافه ورجاه، وذلّ له كما يحبّ الله - تعالى - ويخافه ويرجوه؛ فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله، فكيف بمن كان غير الله آثر عنده وأحبّ إليه، وأخوف عنده، وهو في مرضاته أشد سعيًا منه في مرضاة الله؟. فإذا كان المسوّي بين الله وبين غيره في ذلك مشركًا، فما الظن بهذا؟، فعياذًا بالله من أن ينسلخ القلب من التّوحيد والإسلام كانسلاخ الحيّة من قشرها، وهو يظن أنه مسلم موحّد، فهذا أحد أنواع الشرك.
والأدلة الدّالة على أنه تعالى يجب أن يكون(2/11)
ص -15-
وحده هو المألوه يبطل هذا الشرك، ويدحض حجج أهله، وهي أكثر من أن يحيط بها إلاّ الله، بل كل ما خلقه الله - تعالى - فهو آية شاهدة بتوحيده، وكذلك كل ما أمر به، فخلقه وأمره، وما فطر عليه عباده وركبه فيهم من القوى؛ شاهد بأنه الله الذي لا إله إلاّ هو، وأن كل معبود سواه باطل، وأنه هو الحق المبين، تقدس وتعالى.
وواعجبا كيف يعصى الإله
أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكةٍ
وتسكينةٍ أبدًا شاهد
وفي كل شيءٍ له آيةٌ
تدل على أنه واحد
والنوع الثاني من الشرك: الشرك به تعالى في الربوبيّة، كشرك من جعل معه خالقا آخر، كالمجوس وغيرهم، الذين يقولون: بأن للعالم ربّين، أحدهما خالق الخير، يقولون له بلسان الفارسيّة " يزدان "، والآخر: خالق الشر، ويقولون له بلسانهم: " أهرمن ". وكالفلاسفة ومن تبعهم الذين يقولون: بأنه لم يصدر عنه إلاّ واحد بسيط، وإن مصدر المخلوقات كلها عن العقول والنفوس، وإن مصدر هذا العالم عن العقل الفعّال هو ربّ كل ما تحته ومدبّره. وهذا شرّ من شرك عبّاد الأصنام والمجوس والنّصارى، وهو أخبث شرك في العالم، إذ يتضمن من(2/12)
ص -16-
التعطيل وجحد الإلهيّة والربوبيّة واستناد الخلق إلى غيره سبحانه وتعالى ما لم يتضمنه شرك أمة من الأمم. وشرك القدريّة مختصر من هذا، وباب يدخل منه إليه، ولهذا شبّههم الصّحابة - رضي الله عنهم - بالمجوس، كما ثبت عن ابن عمر وابن عبّاس - رضي الله عنهم -، وقد روى أهل السنن فيهم ذلك مرفوعًا: أنهم مجوس هذه الأمة.
وكثيرًا ما يجتمع(2/13)
ص -17-
الشركان في العبد وينفرد أحدهما عن الآخر، والقرآن الكريم بل الكتب المنزلة من عند الله - تعالى - كلها مصرّحةً بالرد على أهل هذا الإشراك، كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، فإنه ينفي شرك المحبّة والإلهيّة، وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإنه ينفي شرك الخلق والربوبيّة، فتضمّنت هذه الآية تجريد التّوحيد لربّ العالمين في العبادة، وأنه لا يجوز إشراك غيره معه، لا في الأفعال ولا في الألفاظ ولا في الإرادات، فالشرك به في الأفعال، كالسجود لغيره سبحانه وتعالى، والطواف بغير بيته المحرّم، وحلق الرأس عبوديّةً وخضوعًا لغيره، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمينه في الأرض، وتقبيل القبور واستلامها والسجود لها. وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من اتّخذ(2/14)
ص -18-
قبور الأنبياء والصالحين مساجد، فكيف من اتّخذ القبور أوثانًا تعبد من دون الله؟ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، وفي الصحيح عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى، اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذّر ما صنعوا. وفيه عنه - أيضا -: "إن من شرار النّاس من تدركهم السّاعة وهم أحياء، والذين يتّخذون القبور مساجد"، وفيه - أيضا - عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم: "إن من كان قبلكم كانوا يتّخذون القبور مساجد، ألا فلا تتّخذوا القبور مساجد، فإنّي أنهاكم عن ذلك"، وفي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبّان عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم: "لعن الله زوّارات القبور، والمتّخذين عليها المساجد والسرج"، وقال: "اشتدّ غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وقال: "إن من كان قبلكم كانوا إذا مات فيهم الرّجل الصّالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوّروا فيه تلك الصّور، أولئك شرار الخلق عند الله". والنّاس في هذا(2/15)
ص -19-
الباب - أعني: زيارة القبور - على ثلاثة أقسام:
قوم يزورون الموتى فيدعون لهم. وهذه هي الزّيارة الشرعيّة.
وقوم يزورونهم يدعون بهم، فهؤلاء هم المشركون في الألوهيّة والمحبّة.
وقوم يزورونهم فيدعونهم أنفسهم، وقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: "اللّهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"، وهؤلاء هم المشركون في الربوبيّة.
وقد حمى النبيّ صلى الله عليه وسلم جانب التّوحيد أعظم حماية، تحقيقًا لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، حتى نهى عن الصّلاة في هذين الوقتين لكونه ذريعةً إلى التّشبيه بعبّاد الشّمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين، وسد الذّريعة بأن منع من الصّلاة بعد العصر والصّبح لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين(2/16)
ص -20-
يسجد المشركون فيهما للشّمس.
وأمّا السّجود لغير الله فقد قال عليه الصّلاة والسّلام: "لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلاّ لله".
و"لا ينبغي" في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إنما يستعمل للذي هو في غاية الامتناع، كقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً}، وقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}، وقوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ}، وقوله تعالى: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ}.
ومن الشرك بالله - تعالى - المباين لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} الشرك به في اللفظ كالحلف بغيره، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" صحّحه الحاكم وابن حبّان.
قال ابن حبّان: أخبرنا الحسن وسفيان، ثنا عبد الله بن عمر الجعفي، ثنا عبد الرّحمن بن سليمان، عن الحسن بن عبد الله النخعي، عن سعيد بن عبيدة قال: كنت عند ابن عمر - رضي الله عنهما، فحلف رجل بالكعبة، فقال(2/17)
ص -21-
ابن عمر - رضي الله عنهما -: " ويحك، لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير الله فقد أشرك" ".
ومن الإشراك قول القائل لأحد من النّاس: ما شاء الله وشئت، كما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت. فقال: "أجعلتني لله ندًا؟، قل ما شاء الله وحده". هذا مع أن الله - تعالى - قد أثبت للعبد مشيئة، كقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}، فكيف بمن يقول: أنا متوكّل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما لي إلاّ الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض؟؟، وزن بين هذه الألفاظ الصادرة من غالب النّاس اليوم وبين ما نهى عنه من: ما شاء الله وشئت، ثم انظر أيّها أفحش؟؛ يتبيّن لك أن قائلها أولى بالبعد من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، وبالجواب من النبي صلى الله عليه وسلم لقائل تلك الكلمة، وأنه إذا كان قد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ندًا فهذا قد جعل من لا يدانيه لله ندًا.
وبالجملة فالعبادة المذكورة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} هي السّجود، والتوكّل، والإنابة، والتّقوى، والخشية، والتّوبة، والنّذور، والحلف، والتّسبيح، والتّكبير، والتّهليل، والتّحميد، والاستغفار، وحلق الرأس خضوعا وتعبّدًا، والدعاء، كل ذلك محض حق الله - تعالى -.
وفي مسند الإمام أحمد:(2/18)
ص -22-
أن رجلاً أتى به إلى النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قد أذنب ذنبا، فلما وقف بين يديه قال: اللّهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمّد، فقال صلى الله عليه وسلم: "عرف الحق لأهله". وأخرجه الحاكم من حديث الحسن عن الأسود بن سريع وقال: "حديث صحيح".
وأما الشرك في الإرادات والنيّات: فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقل من ينجو منه، فمن نوى بعمله غير وجه الله - تعالى - فلم يقُم بحقيقة قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، فإن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} هي الحنيفيّة ملّة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، فاستمسك بهذا الأصل، ورد ما أخرجه المبتدعة والمشركون إليه تتحقق معنى الكلمة الإلهيّة.
فإن قيل: المشرك إنما قصد تعظيم جناب الله - تعالى -، وأنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلاّ بالوسائط والشفعاء، كحال الملوك، فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبيّة، وإنما قصد تعظيمه، وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، وإنما أعبد هذه الوسائط لتقربني إليه، وتدخل بي عليه، فهو الغاية، وهذه وسائل، فلم كان هذا القدر موجبا لسخط الله - تعالى - وغضبه، مخلداً في النار، وموجبا(2/19)
ص -23-
لسفك دماء أصحابه، واستباحة حريمهم وأموالهم؟، وهل يجوز في العقل أن يشرع الله - تعالى - لعباده التقرّب إليه بالشفعاء والوسائط، فيكون تحريم هذا إنما استفيد بالشرع فقط، أم ذلك قبيح في الشرع والعقل، يمنع أن تأتي به شريعة من الشرائع، وما السر في كونه لا يغفر من بين الذنوب، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}؟؟.
قلنا: الشرك شركان:
شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وشرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه وتعالى لا شريك له في ذاته ولا في صفاته.
وأما الشرك الثاني وهو الذي فرغنا من الكلام فيه، وأشرنا إليه الآن، وسنشبع الكلام فيه إن شاء الله - تعالى-.
أما الشرك الأول: فهو نوعان:
أحدهما: شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون في قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}؟، وقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ(2/20)
ص -24-
إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً}، والشرك والتّعطيل متلازمان، فكل مشرك معطّل، وكل معطّل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التّعطيل، بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وتعالى وصفاته ولكنه معطّله حق التّوحيد.
وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها: هو التّعطيل، وهو ثلاثة أقسام:
أحدها: تعطيل المصنوع عن صانعه.
الثاني: تعطيل الصّانع عن كماله الثابت له.
الثالث: تعطيل معاملته عمّا يجب على العبد من حقيقة التّوحيد.
ومن هذا شرك أهل الوحدة، ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديّته، وأن الحوادث بأسرها مستندة إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها، ويسمّونها العقول والنفوس.
ومنه شرك معطّلة الأسماء والصفات، كالجهمية والقرامطة وغلاة المعتزلة. النوع(2/21)
ص -25-
الثاني: شرك التمثيل، وهو شرك من جعل معه إلهًا آخر، كالنصارى في المسيح، واليهود في عزير، والمجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة، وشرك القدرية والمجوسيّة مختصر منه.
وهؤلاء أكثر مشركي العالَم، وهم طوائف جمّة، منهم من يعبد أجزاء أرضية، ومن هؤلاء من يزعم أن معبوده أكبر الآلهة، ومنهم من يزعم أن إلهه من جملة الآلهة، ومنهم من يزعم أنه إذا خصّه بعبادته والتبتّل إليه أقبل عليه واعتنى به، ومنهم من يزعم أن معبوده الأدنى يقربه إلى الأعلى الفوقاني، والفوقاني يقربه إلى من هو فوقه، حتى تقرّبه تلك الآلهة إلى الله - سبحانه وتعالى -، فتارة تكثر الوسائط، وتارة تقل.(2/22)
ص -26-
فإذا عرفت هذه الطوائف، وعرفت اشتداد نكير الرّسول صلى الله عليه وسلم على من أشرك به تعالى في الأفعال والأقوال والإرادات كما تقدّم ذكره، انفتح لك باب الجواب عن السّؤال، فنقول:
اعلم أن حقيقة الشرك: تشبيه الخالق بالمخلوق، وتشبيه المخلوق بالخالق.
أمّا الخالق فإن المشرك شبّه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهيّة، وهي التفرّد بملك الضّر والنفع، والعطاء والمنع، فمن علّق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق تعالى، وسوّى بين التراب وربّ الأرباب، فأي فجور وذنب أعظم من هذا؟.
واعلم أن من خصائص الإلهيّة: الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة له وحده عقلاً وشرعا وفطرةً، فمن جعل ذلك لغيره فقد شبّه الغير بمن لا شبيه له، ولشدّة قبحه وتضمّنه غاية الظلم أخبر من كتب على نفسه الرّحمة أنه لا يغفره أبدًا.
ومن خصائص الإلهيّة والعبوديّة التي لا تقوم إلاّ على ساق الحب والذّل، فمن أعطاهما لغيره فقد شبّهه بالله - سبحانه وتعالى - في خالص حقه. وقُبح هذا مستقر في العقول والفطر، لكن لما غيّرت الشياطين فطر أكثر الخلق، واجتالتهم عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، كما روى عن الله أعرف الخلق به وبخلقه، عموا عن قبح الشرك حتى ظنّوه حسنًا.
ومن خصائص الإلهيّة: السّجود، فمن سجد لغيره فقد شبّهه به.
ومنها: التوكل، فمن توكل على غيره(2/23)
ص -27-
فقد شبهه به.ومنها: التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به.
ومنها: الحلف باسمه، فمن حلف بغيره فقد شبّهه به.
ومنها: الذّبح له، فمن ذبح لغيره فقد شبّهه به.
ومنها: حلق الرّأس. إلى غير ذلك. هذا في جانب التّشبيه.
وأمّا في جانب التّشبّه: فمن تعاظم وتكبّر، ودعى النّاس إلى إطرائه ورجائه ومخافته؛ فقد تشبّه بالله ونازعه في ربوبيّته، وهو حقيق بأن يهينه الله غاية الهوان، ويجعله كالذّر تحت أقدام خلقه.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله عزّ وجل: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني في واحدٍ منهما عذّبته".(2/24)
ص -28-
وإذا كان المصوّر الذي يصنع الصور بيده من أشد النّاس عذابًا يوم القيامة لتشبّهه بالله في مجرّد الصّنعة، فما الظّن بالمشبّه بالله في الربوبيّة والإلهيّة؟، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم"، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه(2/25)
ص -29-
وسلم أنه قال: "يقول الله عزّ وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟، فليخلقوا ذرّةً فليخلقوا شعيرةً"، فنبّه بالذّرة والشعيرة على ما هو أعظم منهما.
وكذلك: من تشبّه به تعالى في الاسم الذي لا ينبغي إلاّ له، كملك الملوك، وحاكم الحكّام، وقاضي القضاة، ونحوه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أخنع الأسماء عند الله رجلٌ تسمّى بشاهان شاه، ملك الملوك، لا مالك إلاّ الله"، وفي لفظ: "أغيظ رجلٍ عند الله رجلٌ تسمّى ملك الأملاك".
وبالجملة فالتّشبيه والتّشبّه(2/26)
ص -30-
هو حقيقة الشرك، ولذلك كان من ظن أنه إذا تقرّب إلى غيره بعبادةٍ ما يقرّبه ذلك الغير إليه تعالى فإنه يخطئ، لكونه شبّهه به، وأخذ ما لا ينبغي أن يكون إلاّ له، فالشرك منعه سبحانه وتعالى حقّه، فهذا قبيح عقلاً وشرعًا، ولذلك لم يشرع، ولم يغفر لفاعله.
واعلم أن الذي ظن أن الرّب - سبحانه وتعالى - لا يسمع له، أو لا يستجيب له إلاّ بواسطة تُطلعه على ذلك، أو تسأل ذلك منه؛ فقد ظنّ بالله ظنّ السّوء، فإنه إن ظنّ أنه لا يعلم أو لا يسمع إلاّ بإعلام غيره له وإسماعه؛ فذلك نفي لعلم الله وسمعه وكمال إدراكه، وكفى بذلك ذنبا.
وإن ظنّ أنه يسمع ويرى ولكن يحتاج إلى من يليّنه ويعطّفه عليه، فقد أساء الظّن بأفضال ربّه وبرّه وإحسانه وسعة جوده.
وبالجملة فأعظم الذنوب عند الله - تعالى - إساءة الظّن، ولهذا يتوعّدهم في كتابه على إساءة الظّن به أعظم وعيد، كما قال تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ(2/27)
ص -31-
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}، وقال تعالى عن خليله إبراهيم - عليه السلام: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: فما ظنّكم أن يجازيكم إذا عبدتم معه غيره، وظننتم أنه يحتاج في الاطلاع على ضرورات عباده، لمن يكون بابا للحوائج إليه، ونحو ذلك.
وهذا بخلاف الملوك، فإنهم محتاجون إلى الوسائط ضرورةً لحاجتهم وعجزهم وضعفهم، وقصور علمهم عن إدراك حوائج المضطرين.
فأما من لا يشغله سمع عن سمع، وسبقت رحمته غضبه، وكتب على نفسه الرّحمة، فما تصنع الوسائط عنده؟.
فمن اتخذ واسطةً بينه وبين الله - تعالى - فقد ظنّ به أقبح الظن، ومستحيل أن يشرعه لعباده، بل ذلك يمتنع في العقول والفطر.(2/28)
ص -32-
واعلم أن الخضوع والتأّله الذي يجعله العبد لتلك الوسائط قبيح في نفسه، كما قرّرناه، لا سيما إذا كان المجعول له ذلك عبدًا للملك العظيم الرّحيم القريب المجيب، ومملوكا له، كما قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي: إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريكه في رزقه، فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا منفردٌ به، وهو الإلهية التي لا تنبغي لغيري، ولا تصلح لسواي، فمن زعم ذلك فما قدّرني حقّ قدري، ولا عظّمني حقّ تعظيمي.
وبالجملة فما قدّر الله حقّ قدره من عبد معه من ظنّ أنه يوصل إليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} الآية، إلى أن قال: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، فما قدّر القويّ العزيز حقّ قدره من أشرك معه الضّعيف الذّليل.
واعلم أنك إذا تأمّلت جميع طوائف الضّلال والبدع، وجدت أصل ضلالهم راجعًا إلى شيئين:
أحدهما: الظّن بالله ظنّ السّوء، ولم يقدروا الرّب حقّ قدره، فلم يقدره حقّ قدره من ظنّ أنه لم يرسل رسولاً، ولا(2/29)
ص -33-
أنزل كتابًا، بل ترك الخلق سدى، وخلقهم عبثا. ولا قدره حقّ قدره من نفى عموم قدرته وتعلقها بأفعال عباده، من طاعتهم ومعاصيهم، وأخرجهما عن خلقه وقدرته. ولا قدر الله حقّ قدره أضداد هؤلاء، الذين قالوا: إنه يعاقب عبده على ما لم يفعله، بل يعاقبه على فعله سبحانه وتعالى، وإذا استحال في العقول أن يجبر السّيد عبده على فعل ثمّ يعاقبه عليه، فكيف يصدر هذا من أعدل العادلين؟، وقول هؤلاء شرّ من أشباه المجوس القدريّة الأذلين. ولا قدره حقّ قدره من نفى رحمته ورضاه،(2/30)
ص -34-
ومحبّته وغضبه، وحكمته مطلقا، وحقيقة فعله، لم يجعل له فعلاً اختياريا، بل أفعاله منفعلة عنه. ولا قدره حقّ قدره من جعل له صاحبةً وولدًا، وجعله يحلّ في مخلوقاته، أو جعله عين هذا الوجود. ولا قدره حقّ قدره من قال: إنه رفع أعداء رسوله وأهل بيته، وجعل فيهم الملك، ووضع أولياء رسوله وأهل بيته، وهذا يتضمّن غاية القدح في(2/31)
ص -35-
الرّب، تعالى الله عن قول الرّافضة. وهذا مشتق من قول اليهود والنصارى في قول ربّ العالمين: إنه أرسل ملكا ظالما، فادعى النبوّة، وكذب على الله، ومكث زمنًا طويلاً يقول أمرني بكذا ونهاني عن كذا، ويستبيح دماء أبناء الله وأحبائه، والرّب - تعالى - يظهره ويؤيده، ويقيم الأدّلة والمعجزات على صدقه، ويقبل بقلوب الخلق وأجسادهم إليه، ويقيم دولته على الظهور والزيادة، ويذّل أعداءه أكثر من ثمان مائة عام. فوازن بين قول هؤلاء وقول إخوانهم من الرّافضة تجد القولين سواء. ولا قدره حقّ قدره من زعم أنه لا يحيي الموتى، ولا يبعث من في القبور ليبيّن لعباده الذي كانوا فيه يختلفون، وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.
وبالجملة: فهذا بابٌ واسعٌ، والمقصود أن كل من عبد مع الله غيره فإنما عبد شيطانا، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}، فما عبد أحدٌ أحدًا من بني آدم كائنا من كان إلاّ وقد وقعت عبادته للشّيطان، فيستمتع العابد بالمعبود في حصول غرضه، ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له وإشراكه مع الله - تعالى -، وذلك غاية رضى الشيطان، ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ}(2/32)
ص -36-
أي: من اغوائهم وإضلالهم، {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، فهذه إشارةٌ لطيفةٌ إلى السّر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله، وأنه لا يغفر بغير التوبة منه، وأنه موجبٌ للخلود في العذاب العظيم، وأنه ليس تحريمه قبحه بمجرّد النّهي عنه فقط، بل يستحيل على الله - سبحانه وتعالى - أن يشرع لعباده عبادة إله غيره، كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونعوت جلاله.
واعلم أن النّاس في عبادة الله - تعالى - والاستعانة به أقسام:
أجلّها وأفضلها أهل العبادة والاستعانة بالله عليها: فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها، ويوفقهم للقيام بها نهاية مقصودهم، ولهذا كان أفضل ما يسأل الرّب - تعالى - الإعانة على مرضاته، وهو الذي علّمه(2/33)
ص -37-
النّبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل فقال: "يا معاذ، والله إني أحبّك، فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة: اللّهم أعنِّي على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك"، فأنفع الدّعاء طلب العون على مرضاته تعالى.
ويقابل هؤلاء القسم الثاني: المعرضون عن عبادته والاستعانة به، فلا عبادة لهم ولا استعانة، بل إن سأله تعالى أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته، والله - سبحانه وتعالى - يسأله من في السّموات والأرض، ويسأله أولياؤه وأعداؤه، فيمد هؤلاء وهؤلاء. وأبغض خلق الله إبليس ومع هذا أجاب سؤاله وقضى حاجته، ومتّعه بها، ولكن لما لم تكن عونا على مرضاته كانت زيادةً في شقوته وبعده. وهكذا كل من سأله تعالى واستعان به على ما لم يكن عونًا له على طاعته، كان سؤاله مبعدًا له عن الله، فليتدبّر العاقل هذا، وليعلم أن إجابة الله لسؤال بعض السائلين ليست لكرامته عليه، بل قد يسأله(2/34)
ص -38-
عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه، ويكون منعه منها حمايةً له وصيانةً، والمعصوم من عصمه الله، والإنسان على نفسه بصيرة.
وعلامة هذا: أنك ترى من صانه الله من ذلك وهو يجهل حقيقة الأمر، إذا رآه سبحانه وتعالى يقضي حوائج غيره يسيء ظنّه به تعالى، وقلبه محشو بذلك وهو لا يشعر.
وأمارة ذلك: حمله على الأقدار، وعتابه في الباطن لها، ولقد كشف الله - تعالى - هذا المعنى غاية الكشف في قوله تعالى: {فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاّ} أي: ليس كل من أعطيته ونعّمته وخوّلته فقد أكرمته، وما ذاك لكرامته عليّ، ولكنه ابتلاء منَّي وامتحان له، أيشكرني فأعطيه فوق ذلك، أم يكفرني فأسلبه إيّاه وأحوّله عنه لغيره؟، وليس كل من ابتليته فضيّقت عليه رزقه، وجعلته بقدر لا يفضل عنه، فذاك من هوانه عليّ، ولكنه ابتلاء وامتحان منّي له، أيصبر فأعطيه أضعاف ما فاته، أم يسخط فيكون حظّه السّخط؟.
وبالجملة: فأخبر تعالى أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرّزق وتقديره، فإنه سبحانه وتعالى يوسّع على الكافر لا لكرامته، ويقتر على المؤمن لا لهوانه عليه، وإنّما يكرم سبحانه وتعالى من يكرم من عباده بأن يوفّقه لمعرفته ومحبّته وعبادته واستعانته، فغاية(2/35)
ص -39-
سعادة الأبد في عبادة الله والاستعانة به عليها.
القسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة، وهؤلاء نوعان:
أحدهما: أهل القدر، القائلون بأنه سبحانه وتعالى قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف، وأنه لم يبق في مقدوره إعانةً على الفعل، فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها، وتعريف الطريق وإرسال الرّسول، وتمكينه من الفعل، فلم يبق بعدها إعانةً مقدورةً يسأله إياها. وهؤلاء مخذولون موكولون إلى أنفسهم، مسدودٌ عليهم طريقة الاستعانة والتّوحيد.
قال ابن عبّاس - رضي الله عنهما -: " الإيمان بالقدر نظام التّوحيد، فمن آمن بالله وكذّب بقدره نقض توحيده ".
النوع الثاني: من لهم عبادة وأوراد، ولكن حظّهم ناقص من التّوكل والاستعانة، لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر، وأنها بدون المقدور، كالموت الذي لا تأثير له، بل كالعدم الذي لا وجود له، وأن القدر كالرّوح المحرّك لها، والمعوّل على المحرّك الأول، فلم تنفذ بصائرهم من السّبب إلى المسبّب، ومن الآلة إلى الفاعل، فقلّ نصيبهم من الاستعانة. وهؤلاء لهم نصيب من التصرّف بحسب(2/36)
ص -40-
استعانتهم وتوكلهم، ونصيب من الضعف والخذلان بحسب قِلّة استعانتهم وتوكلهم، ولو توكّل العبد على الله حقّ توكّله في إزالة جبل عن مكانه لأزاله.
فإن قيل ما حقيقة الاستعانة عملاً؟:
قلنا: هي التي يعبّر عنها بالتّوكل، وهي حالة للقلب تنشأ عن معرفة الله - تعالى -، وتفرده بالخلق والأمر والتّدبير والضّر والنّفع، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فتوجّب اعتمادًا عليه، وتفويضًا إليه، وثقةً به، فتصير نسبة العبد إليه تعالى كنسبة الطّفل إلى أبويه فيما ينوبه من رغبته ورهبته، فلو دهمه ما عسى أن يدهمه من الآفات لم يلتجئ إلى غيرهما. فإن كان العبد مع هذا الاعتماد من أهل التّقوى، كانت له العاقبة الحميدة: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي: كافية.
القسم الرابع: من له استعانةٌ بلا عبادة، وتلك حالة من شهد بتفرّد(2/37)
ص -41-
الله بالضّر والنّفع، ولم يدر بما يحبّه ويرضاه، فتوكّل عليه في حظوظه، فأسعفه بها. وهذا لا عاقبة له، سواء كانت أموالاً أو رياسات، أو جاهًا عند الخلق، أو نحو ذلك، فذلك حظّه من دنياه وآخرته.
واعلم أن العبد لا يكون متحققًا بعبادة الله - تعالى - إلاّ بأصلين:
أحدهما: متابعة الرّسول صلى الله عليه وسلم.
والثاني: إخلاص العبودية.
والنّاس في هذين الأصلين على أربعة أقسام:
أهل الإخلاص والمتابعة: فأعمالهم كلها لله، وأقوالهم ومنعهم وإعطاؤهم وحبّهم وبغضهم كل ذلك لله - تعالى -، لا يريدون من العباد جزاءً ولا شكورًا، عدّوا النّاس كأصحاب القبور، لا يملكون ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا. فإنه لا يعامل أحدًا من الخلق إلاّ لجهله بالله وجهله بالخلق.
والإخلاص هو العمل الذي لا يقبل الله من عامل عملاً صوابًا عاريًا منه، وهو الذي ألزم عباده به إلى الموت، قال الله - تعالى -: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}، وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}، وأحسن العمل: أخلصه وأصوبه.
فالخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على وفق سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو العمل الحسن المذكور في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}، وهو العمل الصالح في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً}، وهو الذي أمر به النّبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"، وكل عمل بلا متابعة فإنه لا يزيد(2/38)
ص -42-
عامله إلاّ بعدًا من الله - تعالى -، فإن الله - تعالى - إنما يعبد بأمره، لا بالأهواء والآراء.
الضرب الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة له، وهؤلاء شرار الخلق، وهم المتزينون بأعمال الخير، يراءون بها النّاس. وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف عن الصراط المستقيم من المنتسبين إلى الفقه والعلم والفقر والعبادة، فإنهم يرتكبون البدع والضلال والرّياء والسّمعة، ويحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا. وفي أضراب هؤلاء نزل قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(2/39)
ص -43-
الضرب الثالث: من هو مخلص في أعماله، لكنها على غير متابعة الأمر، كجهال العباد، والمنتسبين إلى الزّهد والفقر، وكل من عبد الله على غير مراده. والشأن ليس في عبادة الله فقط، بل في عبادة الله كما أراد الله. ومنهم من يمكث في خلواته تاركًا للجمعة، ويرى ذلك قربة، ويرى مواصلة صوم النّهار والقيام بالليل قربة، وصيام يوم الفطر قربة، وأمثال ذلك.
الضرب الرّابع: من أعماله على متابعة الأمر، لكنها لغير الله - تعالى -، كطاعات المرائين. وكالرّجل قاتل رياءً وسمعةً وحمّيةً وشجاعةً(2/40)
ص -44-
وللمغنم، ويحجّ ليقال، ويقرأ ليقال، ويعلّم ويّؤلف ليقال. فهذه أعمال صالحة لكنها غير مقبولةٍ، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}، فلم يأمر النّاس إلاّ بالعبادة على المتابعة والإخلاص فيها.
والقائم بهما هم أهل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
ثم أهل مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقّها بالإيثار والتخصيص، أربعة طرق، وهم في ذلك أربعة أصناف:
الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها وأشقها على النّفوس وأصعبها، قالوا: لأنه أبعد الأشياء من هواها، وهو حقيقة التّعبّد، والأجر على قدر المشقّة، ورووا حديثا ليس له أصل: "أفضل الأعمال أحمزها"(2/41)
ص -45-
أي: أصعبها وأشقّها. وهؤلاء هم أرباب المجاهدات، والجور على النّفوس، قالوا: وإنما تستقيم النّفوس بذلك، إذ طبعها الكسل والمهاونة والإخلاد إلى الرّاحة، فلا تستقيم إلاّ بركوب الأهوال، وتحمّل المشاق.
الصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات وأنفعها: التّجرّد والزّهد في الدّنيا، والتقلل(2/42)
ص -46-
منها غاية الإمكان، وإطراح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث لما هو منها. ثم هؤلاء قسمان:
فعوامّهم: ظنّوا أن هذا غاية، فشمّروا إليه وعملوا عليه، وقالوا: هو أفضل من درجة العلم والعبادة، ورأوا الزّهد في الدّنيا غاية كل عبادة ورأسها.
وخواصهم: رأوا هذا مقصودًا لغيره، وأن المقصود به عكوف القلب على الله - تعالى -، والاستغراق في محبّته، والإنابة إليه، والتّوكل عليه، والاشتغال بمرضاته، فرأوا أفضل العبادات: دوام ذكره بالقلب واللسان.
ثمّ هؤلاء قسمان:
فالعارفون: إذا جاء الأمر والنّهي بادروا إليه، ولو فرّقهم وأذهب جمعهم.
والمنحرفون منهم يقولون: المقصود من القلب جمعيّته، فإذا جاء ما يفرّقه عن الله لم يلتفتوا إليه، ويقولون:
يطالب بالأوراد من كان غافلاً
فكيف بقلب كل أوقاته ورد
ثم هؤلاء - أيضا - قسمان:
منهم: من يترك الواجبات والفرائض لجمعيّته.
ومنهم: من يقوم بها ويترك السّنن والنّوافل، ويعلّم العلم النّافع لجمعيّته.
والحق: أن الجمعيّة حظ القلب، وإجابة داعي الله حقّ الرّب، فمن آثر(2/43)
ص -47-
حقّ نفسه على حقّ ربّه فليس من العبادة في شيء.
الصنف الثالث: رأوا أن أفضل العبادات ما كان فيه نفعٌ متعدٍّ، فرأوه أفضل من النّفع القاصر، فرأوا خدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح النّاس، وقضاء حوائجهم، ومساعدتهم بالجاه والمال والنّفع أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الخلق عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله"، قالوا: وعمل العابد قاصر على نفسه، وعمل النفّاع متعدّ إلى الغير، فأين أحدهما من الآخر؟، ولهذا كان "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب". وقد قال صلى الله عليه وسلم لعلي: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ من حمر النّعم"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته يصلّون(2/44)
ص -48-
على معلمي الناس الخير"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن العالم يستغفر له من في السّموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، والنملة في جحرها". قالوا وصاحب العبادة إذا مات انقطع عمله، وصاحب النّفع لا ينقطع عمله ما دام نفعه الذي تسبّب فيه. والأنبياء - عليهم الصّلاة والسّلام - إنما بعثوا(2/45)
ص -49-
بالإحسان إلى الخلق، وهدايتهم، ونفعهم في معاشهم ومعادهم، لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع، ولهذا أنكر النّبي صلى الله عليه وسلم على أولئك النّفر الذين همّوا بالانقطاع والتّعبّد، وترك مخالطة النّاس. ورأى هؤلاء أن التّفرغ لنفع الخلق أفضل من الجمعيّة على الله بدون ذلك، قالوا: ومن ذلك العلم والتّعليم، ونحو هذه الأمور الفاضلة.
الصنف الرّابع: قالوا أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرّب - سبحانه وتعالى -، وشغل كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته.
فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النّهار، بل من ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن. والأفضل في وقت حضور الضّيف: القيام بحقّه والاشتغال به. والأفضل في وقت السّحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والذّكر والدّعاء. والأفضل في وقت الأذان: ترك ما هو فيه من الأوراد والاشتغال بإجابة المؤذن. والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجدّ والاجتهاد في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أوّل الوقت، والخروج إلى المسجد وإن بعد. والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج: المبادرة إلى مساعدته بالجاه والمال والبدن. والأفضل في السّفر: مساعدة المحتاج، وإعانة الرّفقة، وإيثار ذلك على الأوراد والخلوة. والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعيّة القلب، والهمّة على تدبّره، والعزم على تنفيذ أوامره، أعظم من جمعيّة قلب من جاءه كتابٌ من السّلطان على ذلك. والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التّضرّع والدّعاء والذّكر. والأفضل في أيام عشر ذي الحجّة: الإكثار من التّعبّد، لا سيما التّكبير والتّهليل(2/46)
ص -50-
والتّحميد، وهو أفضل من الجهاد غير المتعيّن. والأفضل في العشر الأواخر من رمضان: لزوم المساجد، والخلوة فيها، مع الاعتكاف والإعراض عن مخالطة النّاس، والاشتغال بهم، حتى أنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن عند كثيرٍ من العلماء. والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته وحضور جنازته، وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيّتك. والأفضل في وقت نزول النّوازل وإيذاء النّاس لك: أداء واجب الصّبر مع خلطتك لهم، والمؤمن الذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم وإيذائهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط النّاس ولا يصبر على أذاهم، وخلطتهم في الخير أفضل من عزلتهم فيه، وعزلتهم في الشّر أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله وقلّله فخلطتهم خير من اعتزالهم.
وهؤلاء هم أهل التّعبّد المطلق، والأصناف التي قبلهم أهل التّعبّد المقيّد، فمتى خرج أحدهم عن الفرع الذي تعلّق به من العبادة وفارقه؛ يرى نفسه كأنه قد نقص ونزل عن عبادته، فهو يعبد الله - تعالى - على وجه واحد، وصاحب التّعبّد المطلق ليس له غرض في تعبّد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبّع مرضات الله - تعالى -: إن رأيت العلماء رأيته معهم، وكذلك في الذّاكرين، والمتصدّقين، وأرباب الجمعيّة، وعكوف القلب على الله، فهذا هو الغذاء الجامع للسّائر إلى الله في كل طريق، والوافد عليه مع كل فريق.
واستحضر ههنا حديث أبي بكر الصدّيق - رضي الله عنه -، وقول النّبي صلى الله عليه وسلم بحضوره: "هل منكم أحدٌ أطعم اليوم مسكينا؟". قال أبو بكر: أنا. قال: "هل منكم أحدٌ أصبح(2/47)
ص -51-
اليوم صائما؟". قال أبو بكر: أنا. قال: "هل منكم أحدٌ عاد اليوم مريضا؟". قال أبو بكر: أنا. قال صلى الله عليه وسلم: "هل منكم أحدٌ اتبع اليوم جنازةً؟". قال أبو بكر: أنا... الحديث.
هذا الحديث روي من طريق عبد الغني بن أبي عقيل، حدّثنا نعيم بن سالم، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في جماعةٍ من أصحابه فقال: "من صام اليوم؟". قال أبو بكر: أنا. قال: "من تصدّق اليوم؟". قال أبو بكر: أنا. قال: "من عاد اليوم مريضا؟". قال أبو بكر: أنا. قال: "من شهد اليوم جنازةً؟". قال أبو بكر: أنا. قال: "وجبت لك". يعني: الجنّة.
ونعيم بن سالم وإن تُكلِّم فيه لكن تابعه سلمة بن وردان، وله أصل صحيح من حديث مالك، عن محمد بن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن ابن عوف، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنّة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصّلاة نودي من باب الصّلاة، ومن كان من أهل الجهاد نودي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريّان" فقال(2/48)
ص -52-
أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله، ما على من يدعى من هذه الأبواب كلها من ضرورة، فهل يدعى أحدٌ من هذه الأبواب كلها؟. قال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم".
هكذا رواه عن مالك موصولاً مسندًا عن يحيى بن يحيى، ومعن بن عيسى، وعبد الله بن المبارك. ورواه يحيى بن بكير، وعبد الله بن يوسف، عن مالك عن ابن شهاب، عن حميد مرسلاً. وليس هو عند القعنبي لا مرسلاً ولا مسندًا.
ومعنى قوله: "من أنفق زوجين" يعني: شيئين من نوعٍ واحدٍ، نحو درهمين، أو دينارين، أو فرسين، أو قميصين، وكذلك من صلّى ركعتين، أو مشى في سبيل الله - تعالى - خطوتين، أو صام يومين، ونحو ذلك، وإنما أراد والله أعلم أقل التكرار، وأقل وجوه المداومة على العمل من أعمال البرّ، لأن الاثنين أقل الجمع، فهذا كالغيث أين وقع نفع، صحب الله بلا خلق، وصحب الخلق بلا نفس، إذا كان مع الله عزل الخلائق من البين وتخلّى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلّى عنها، فما أغربه بين النّاس،(2/49)
ص -53-
وما أشدّ وحشته منهم، وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه إليه.
واعلم أن للناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرقا أربعةً، وهم في ذلك أربعة أصناف:
الصنف الأول: نفاة الحكم والتعليل، الذين يردّون الأمر إلى نفس المشيئة، وصرف الإرادة. فهؤلاء عندهم القيام بها ليس إلاّ لمجرّد الأمر، من غير أن يكون سببا لسعادة في معاش ولا معاد، ولا سببا لنجاة، وإنما القيام بها لمجرّد الأمر ومحض المشيئة، كما قالوا في الخلق: لم يخلق لغايةٍ ولا لعلّةٍ هي المقصودة به، ولا لحكمةٍ تعود إليه منه، وليس في المخلوق أسباب تكون مقتضيات لمسبباتها، وليس في النّار سبب للإحراق، ولا في الماء قوّة الإغراق ولا التّبريد. وهكذا الأمر عندهم سواء، لا فرق بين الخلق والأمر، ولا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور، ولكن المشيئة اقتضت أمره بهذا ونهيه عن هذا، من غير أن يقوم بالمأمور صفةٌ تقتضي حسنه،ولا بالمنهي عنه صفةٌ تقتضي قبحه.
ولهذا الأصل لوازمٌ فاسدةٌ، وفروعٌ كثيرةٌ.(2/50)
ص -54-
وهؤلاء غالبهم لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذّتها، ولا يتنعّمون بها، ولهذا يسمّون الصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ والتّوحيد والإخلاص ونحو ذلك تكاليف، أي: كلّفوا بها، ولو سمّى مدّعي محبّة ملك الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفًا لم يعد محبا له.
وأول من صدرت عنه هذه المقالة: الجّعد بن درهم.
الصنف الثاني: القدريّة النّفاة، الذين يثبتون نوعا من الحكمة(2/51)
ص -55-
والتّعليل لا يقوم بالرّب ولا يرجع إليه، بل يرجع لمحض مصلحة المخلوق ومنفعته، فعندهم: أن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنّعيم، وأنها بمنزلة استيفاء الأجير أجره. قالوا: ولهذا يجعلها سبحانه وتعالى عوضًا، كقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا(2/52)
ص -56-
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وفي الصحيح: "إنّما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثمّ أوفيكم إيّاها". قالوا: وقد سماها جزاءً وأجرًا وثوابا لأنه شيء يثوب إلى العامل من عمله، أي: يرجع إليه. قالوا: ويدل عليه الموازنة، فلولا تعلّق الثواب بالأعمال عوضًا عليها لم يكن للموازنة معنى.
وهاتان الطائفتان متقابلتان:
فالجبريّة: لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء البتّة، وجوّزت أن يعذّب الله من أفنى عمره في الطّاعة، وينعّم من أفنى عمره في مخالفته، وكلاهما سواء بالنسبة إليه، والكل راجع إلى محض المشيئة.
والقدرية: أوجبت عليه سبحانه وتعالى رعاية المصالح، وجعلت ذلك كله بمحض الأعمال، وأن وصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنقيص باحتمال منّة الصدقة عليه بلا ثمن، فجعلوا تفضّله سبحانه وتعالى على عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد، وإعطائه ما يعطيه أجرةً على عمله، أحبّ إلى العبد من أن يعطيه فضلاً منه بلا عمل. ولم يجعلوا للأعمال تأثيرًا في الجزاء البتّة.
والطائفتان منحرفتان عن الصّراط المستقيم، وهو: أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب، والأعمال الصّالحات من توفيق الله وفضله، وليست قدرًا لجزائه وثوابه، بل غايتها إذا وقعت على أكمل الوجوه أن تكون شكرًا على أحد الأجزاء القليلة من نعمه سبحانه وتعالى، فلو عذّب أهل سمواته وأهل أرضه لعذّبهم وهو غير ظالمٍ، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم، وتأمّل قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحدٌ(2/53)
ص -57-
منكم الجنّة بعمله" تجد الآية تدل على أن الجنان بالأعمال، والحديث ينفي دخول الجنّة بالأعمال، ولا تنافي بينهما، لأن توارد النّفي والإثبات ليس على محلٍ واحدٍ، فالمنفي باء الثمنيّة واستحقاق الجنّة بمجرّد الأعمال، ردًّا على القدريّة المجوسيّة التي زعمت أن الفضل بالثواب ابتداء متضمن لتكدير المنّة. والباء المثبتة التي وردت في القرآن هي باء السببيّة، ردًّا على القدريّة(2/54)
ص -58-
الجبريّة الذين يقولون: لا ارتباط بين الأعمال وجزائها، ولا هي أسباب لها، وإنما غايتها أن تكون أمارة.
والسنّة النبويّة هي: أن عموم مشيئة الله وقدرته لا تنافي ربط الأسباب بالمسببات وارتباطها بها.
وكل طائفة من أهل الباطل تركت نوعا من الحق فإنها ارتكبت لأجله نوعًا من الباطل، بل أنواعًا، فهدى الله أهل السنّة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه.
الصنف الثالث: الذين زعموا أن فائدة العبادة رياضة النّفوس واستعدادها لفيض العلوم والمعارف عليها وخروج قواها من قوى النّفس السَّبُعيّة والبهيميّة، فلو عطلت العبادة لالتحقت بنفوس السباع والبهائم، فالعبادة تخرجها إلى مشابهة العقول، فتصير قابلةً لانتقاش صور المعارف فيها.
وهذا يقوله طائفتان:
إحداهما: من يقرب إلى الإسلام والشرائع. من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وعدم الفاعل المختار.
والطائفة الثانية: من تفلسف من صوفيّة الإسلام ويقرب إلى الفلاسفة، فإنهم يزعمون أن العبادات رياضات لاستعداد النّفوس للمعارف العقليّة ومخالفة العوائد.
ثمّ مِن هؤلاء من لا يوجب العبادة إلاّ بهذا المعنى، فإذا حصل لها ذلك بقى متحيرًا في لفظ أوراده والاشتغال بالوارد منها.
ومنهم: من يوجب القيام بالأوراد وعدم الإخلال بها، وهم صنفان(2/55)
ص -59-
- أيضًا -:
أحدهما: من يقول بوجوبها حفظًا للقانون، وضبطًا للناموس.
والآخرون: يوجبونها حفظًا للوارد، وخوفًا من تدرّج النّفس بمفارقتها إلى حالها الأولى من البهيميّة.
فهذه نهاية أقدامهم في حكمة العبادة وما شرعت لأجله.
ولا تكاد تجد في كتب المتكلمين على طريق السلوك غير طريق من هذه الطرق الثلاث، أو مجموعها.
والصنف الرّابع: هم القائلون بالجمع بين الخلق والأمر، والقدر والسبب، فعندهم أن سرّ العبادة وغايتها مبني على معرفة حقيقة الإلهيّة، ومعنى كونه سبحانه وتعالى إله: أن العبادة موجَب الإلهية وأثرها ومقتضاها، وارتباطها كارتباط متعلق الصفات بالصفات، وكارتباط المعلوم بالعلم، والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسّمع، والإحسان بالرّحمة، والإعطاء بالجود.
فعندهم: من قام بمعرفتها على نحو الذي فسرناها به لغةً وشرعا مصدرًا وموردًا استقام له معرفة حكمة العبادات وغايتها به، وعلم أنها هي الغاية التي خلقت لها العباد، ولها أرسلت الرّسل، وأنزلت الكتب، وخلقت الجنّة والنّار. وقد صرّح سبحانه وتعالى بذلك في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ}، فالعبادة هي التي ما وجدت الخلائق كلها إلاّ لأجلها، كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} أي: مهملاً. قال الشافعي - رحمه(2/56)
ص -60-
الله -: "لا يؤمر ولا ينهى". وقال غيره: "لا يثاب ولا يعاقب"، وهما تفسيران صحيحان، فإن الثواب والعقاب مترتبان على الأمر والنّهي، والأمر والنّهي هو طلب العبادة وإرادتها. وحقيقة العبادة: امتثالها. ولهذا قال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً}، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاّ بِالْحَق}، وقال تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}، فأخبر الله - تعالى - أنه خلق السّموات والأرض بالحق المتضمّن أمره ونهيه وثوابه وعقابه. فإذا كانت السّموات والأرض إنما خلقتا لهذا وهو غاية الخلق، فكيف يقال: إنه لا غاية له ولا حكمة مقصودة، أو إن ذلك بمجرّد استئجار العمّال حتى لا يتكدّر عليهم الثواب بالمنّة، أو لمجرّد استعداد النفوس للمعارف العقلية وارتياضها لمخالفة العوائد؟!.
وإذا تأمّل اللبيب الفرق بين هذه الأقوال، وبين ما دلّ عليه صريح الوحي؛ علم أن الله - تعالى - إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبّته، مع الخضوع له والانقياد لأمره.
فأصل العبادة: محبّة الله، بل إفراده تعالى بالمحبّة، فلا يحبّ معه سواه، وإنما يحبّ ما يحبّه لأجله وفيه، كما يحبّ أنبياءه(2/57)
ص -61-
ورسله وملائكته، لأن محبّتهم من تمام محبّته، وليست كمحبّة من اتّخذ من دونه أندادًا يحبّهم كحبّه.
وإذا كانت المحبّة له هي حقيقة عبوديّته وسرّها، فهي إنما تتحقق باتِّباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتِّباع الأمر والنّهي تتبيّن حقيقة العبوديّة والمحبّة، ولهذا جعل سبحانه وتعالى اتِّباع رسوله صلى الله عليه وسلم عَلَما عليها وشاهدًا لها، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، فجعل اتِّباع رسوله صلى الله عليه وسلم مشروطا بمحبّتهم لله - تعالى - وشرطا لمحبّة الله لهم، ووجود المشروط بدون تحقق شرطه ممتنع. فعلم انتفاء المحبّة عند انتفاء المتابعة للرّسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكفي ذلك حتى يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحبّ إله مما سواهما، ومتى كان عنده شيءٌ أحبّ إليه منهما فهو الإشراك الذي لا يغفره الله، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، وكل من قدّم قول غير الله على قول الله، أو حكم به، أو حاكم إليه؛ فليس ممن أحبّه. لكن قد يشتبه الأمر على من يقدّم قول أحد أو حكمه أو طاعته على قوله، ظنا منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلاّ ما قال الرّسول صلى الله عليه وسلم فيطيعه، ويحاكم إليه، ويتلقّى أقواله كذلك، فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك.(2/58)
ص -62-
وأمّا إذا قدر على الوصول إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم، وعرف أن غير من اتَّبعه أولى به مطلقا، أو في بعض الأمور، كمسألةٍ معيّنةٍ، ولم يلتفت إلى قول الرّسول صلى الله عليه وسلم، ولا إلى من هو أولى به؛ فهذا يخاف عليه. وكلّ ما يتعلل به من عدم العلم، أو عدم الفهم، أو عدم إعطاء آلة الفقه في الدّين، أو الاحتجاج بالأشباه والنظائر، أو بأن ذلك المتقدّم كان أعلم منّي بمراده صلى الله عليه وسلم، فهذه كلها تعلّلات لا تفيد.
هذا مع الإقرار بجواز الخطأ على غير المعصوم، إلاّ أن ينازع في هذه القاعدة فتسقط مكالمته، وهذا هو داخل تحت الوعيد، فإن استحلّ مع ذلك ثلب من خالفه، وقرض عرضه ودينه بلسانه، وانتقل من هذا إلى عقوبته، أو السعي في أذاه، فهو من الظلمة المعتدين، ونوّاب المفسدين.
واعلم أن العبادة أربع قواعد: وهي التحقيق بما يحبّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويرضاه، وقيام ذلك بالقلب واللسان والجوارح.
فالعبوديّة: اسم جامع لهذه المراتب الأربع.
فأصحاب العبادة حقا هم أصحابها.
فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله - تعالى - عن نفسه، وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عن ربّه من أسمائه وصفاته وأفعاله، وملائكته ولقائه، وما أشبه ذلك.
وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك، والدّعاء إليه، والذبُّ عنه، وتبيين بطلان البدع(2/59)
ص -63-
المخالفة له، والقيام بذكره تعالى، وتبليغ أمره.
وعمل القلب: كالمحبّة له، والتّوكّل عليه، والإنابة، والخوف، والرجاء، والإخلاص، والصّبر على أوامره ونواهيه، وإقراره، والرّضا به، وله، وعنه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والإخبات إليه، والطّمأنينة، ونحو ذلك من أعمال القلوب التي فرضها آكد من فرض أعمال الجوارح، ومستحبّها إلى الله - تعالى - أحبّ من مستحبّ أعمال الجوارح.
وأمّا أعمال الجوارح: فكالصلاة، والجهاد، ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات، ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك.
فقول العبد في صلواته: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} التزام أحكام هذه الأربعة وإقرار بها. وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} طلب الإعانة عليها والتوفيق لها. وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} متضمّنٌ للأمرين على التفصيل وإلهام القيام بهما، وسلوك طريق السّالكين إلى الله - تعالى -.
والله الموفّق بمنّه وكرمه.
والحمد لله وحده.
وصلّى الله على من لا نبيّ بعده، وعلى آله وصحبه ووارثيه وحزبه.
تمّ الكتاب والحمد لله أولاً وآخرًا(2/60)
ص -64-(2/61)
مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين و عليه نتوكل
مما قال الشيخ الإمام وعلم الهداة الأعلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى : لما ارتاب بعض من يدعي العلم من أهل العيينة . لما ارتد أهل حريملاء ، فسئل الشيخ أن يكتب كلاماً ينفعه الله به :
فقال رحمه الله تعالى : روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال : كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة , وأنهم ليسوا على شيء , وهم يعبدون الأوثان , قال : فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفياً جرأ عليه قومه فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له , وما أنت ؟ . قال : ( أنا نبي ) ! . قلت : وما نبي ؟ قال : ( أرسلني الله ) ! . فقلت : بأي شيء أرسلك ؟ قال : ( أرسلني بصلة الأرحام , وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء ) ! . فقلت له : ومن معك على هذا ؟ . قال : ( حر وعبد ) ! . قال : ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن معه ، فقلت : إني متبعك . قال : ( إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا , ألا ترى حالي وحال الناس , ولكن ارجع إلى أهلك , فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني ) . قال : فذهبت إلى أهلي وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وكنت في أهلي ، فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة , حتى قدم نفر من أهل يثرب من أهل المدينة , فقلت : ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة ؟ فقالوا الناس إليه سراع ! وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك , فقدمت المدينة فدخلت عليه فقلت : يا رسول الله أتعرفني ؟ قال : ( نعم ! أنت الذي لقيتني بمكة ) . قال : قلت بلى ، فقلت : يا نبي الله علمني مما علمك الله وأجهله , أخبرني عن الصلاة . قال : ( صلِ صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس , وحتى ترتفع , فإنها تطلع حين تطلع بين قرني(3/1)
شيطان , وحينئذ يسجد لها الكفار , ثم صلِ فان الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح , ثم أقصر عن الصلاة فإنها حينئذ تسجر جهنم , فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر , ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ) وذكر الحديث .
قال أبو العباس رحمه الله تعالى : فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها معللاً ذلك النهي بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان , وأنه حينئذ يسجد لها الكفار ، ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله ، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان , ولا أن الكفار يسجدون لها ، ثم أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسماً لمادة المشابهة . ومن هذا الباب أنه كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله على حاجبه الأيمن ولم يصمد له صمداً ، ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة ، ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل لما فيه من مشابهة السجود لغير الله . انتهى كلامه .
فليتأمل المؤمن الناصح لنفسه ما في هذا الحديث من العبر فإن الله سبحانه وتعالى يقص علينا أخبار الأنبياء وأتباعهم ليكون للمؤمن من المستأخرين عبرة فيقيس حاله بحالهم ، وقص قصص الكفار والمنافقين لتجتنب من تلبس بها أيضا .
فمما فيه من الاعتبار أن هذا الأعرابي الجاهلي لما ذكر له أن رجلاً بمكة يتكلم في الدين بما يخالف الناس لم يصبر حتى ركب راحلته فقدم عليه وعلم ما عنده لما في قلبه من محبة الدين والخير , وهذا فسر به قوله تعالى : ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) أي حرصاً على تعلم الدين : ( لأسمعهم ) أي لأفهمهم , فهذا يدل على أن عدم الفهم في أكثر الناس اليوم عدلا منه سبحانه لما يعلم في قلوبهم من عدم الحرص على تعلم الدين .(3/2)
فتبين أن من أعظم الأسباب الموجبة لكون الإنسان من شر الدواب هو عدم الحرص على تعلم الدين , فإذا كان هذا الجاهلي يطلب هذا المطلب , فما عذر من ادعى اتباع الأنبياء وبلغه عنهم ما بلغه وعنده من يعرض عليه التعليم ولا يرفع بذلك رأساً ، فان حضر أو استمع فكما قال تعالى : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون . لاهية قلوبهم ) .
وفيه من العبر أيضا أنه لما قال : ( أرسلني الله ) . قال : بأي شيء أرسلك ؟ قال : بكذا وكذا . فتبين أن زبدة الرسالة الإلهية ، والدعوة النبوية ، هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وكسر الأوثان ,
ومعلوم أن كسرها لا يستقيم إلا بشدة العداوة وتجريد السيف ، فتأمل زبدة الرسالة .
وفيه أيضاً أنه فهم المراد من التوحيد ، وفهم أنه أمر كبير غريب ، ولأجل هذا قال : من معك على هذا ؟ قال : ( حر وعبد ) فأجابه أن جميع العلماء والعباد والملوك والعامة مخالفون له ولم يتبعه على ذلك إلا من ذكر ، فهذا أوضح دليل على أن الحق قد يكون مع أقل القليل وأن الباطل قد يملأ الأرض . ولله در الفضيل بن عياض حيث يقول : لا تستوحش من الحق لقلة السالكين ، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين . وأحسن منه قوله تعالى : ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ) .(3/3)
وفي الصحيحين أن بعث النار من كل ألف تسعة وتسعون وتسعمائة وفي الجنة واحد من كل ألف ، ولما بكوا من هذا لما سمعوه قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا أكملت من المنافقين ) قال الترمذي حسن صحيح . فإذا تأمل الإنسان ما في هذا الحديث من صفة بدء الإسلام ، ومن اتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك ، ثم ضم إليه الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ) تبين له الأمر إن هداه الله وانزاحت عنه الحجة الفرعونية : ( فما بال القرون الأولى ) والحجة القرشية : ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ) .
وقال أبو العباس رحمه الله تعالى في كتاب ( إقتضاء الصراط المستقيم ) في الكلام على قوله تعالى : ( وما أهل به لغير الله ) ظاهره أن ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه ، كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله ، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور ، والعبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله فلو ذبح لغير الله متقربا به إليه لحرم وإن قال فيه باسم الله ، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة ، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال ، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان ، وهذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن . انتهى كلام الشيخ وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين أنه لا يكفر المعين ، فانظر أرشدك الله إلى تكفيره من ذبح لغير الله من هذه الأمة ، وتصريحه أن المنافق يصير مرتداً بذلك ، وهذا في المعين إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين .(3/4)
وقال أيضا في الكتاب المذكور : وكانت الطواغيت الكبار التي تشد أليها الرحال ثلاثة اللات ، والعزى ، ومناة ، وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب ، فكانت اللات لأهل الطائف ، ذكروا أنه كان في الأصل رجلاً صالحاً يلت السويق للحجاج فلما مات عكفوا على قبره . وأما العزى : فكانت لأهل مكة قريبا من عرفات ، وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون . وأما مناة : فكانت لأهل المدينة وكانت حذو قديد من ناحية الساحل .
ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادتهم الأوثان ، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه ، حتى يتبين له تأويل القرآن فلينظر إلى سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحوال العرب في زمانه ، وما ذكره الأزرقي وغيره في أخبار مكة من العلماء .(3/5)
ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقال بعض الناس : يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال : ( الله أكبر ، إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم ) فأنكر - صلى الله عليه وسلم - مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها أسلحتهم . فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه . إلى أن قال : ( فمن ذلك عدة أمكنة بدمشق ) مثل مسجد يقال له مسجد الكف فيه تمثال كف يقال إنه كف علي بن أبى طالب حتى هدم الله ذلك الوثن ، وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في البلاد ، وفي الحجاز منها مواضع . ثم ذكر كلاماً طويلاً في نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عند القبور فقال : العلة لما يفضي إليه ذلك من الشرك . ذكر ذلك الشافعي وغيره ، وكذلك الأئمة من أصحاب مالك وأحمد ، كأبي بكر الأثرم عللوا بهذه العلة ، وقد قال تعالى : ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا ..) الآية ، ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ، ذكر هذا البخاري في صحيحه وأهل التفسير كابن جرير وغيره .(3/6)
ومما يبين صحة هذه العلة أنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد ، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا يكون ترابها نجساً ، وقال عن نفسه : ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ) فعلم أن نهيه عن ذلك كنهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها سداً للذريعة لئلا يصلى في هذه الساعة وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله ، ولا يدعو إلا لله ، لئلا يفضي ذلك إلى دعائها والصلاة لها ، وكلا الأمرين قد وقع ، فإن من الناس من يسجد للشمس وغيرها من الكواكب ويدعوها بأنواع الأدعية ، وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثيرا من الأولين والآخرين حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام , وصنف بعض المشهورين فيه كتاباً على مذهب المشركين مثل أبي معشر البلخي , وثابت بن قرة وأمثالهما ممن دخل في الشرك وآمن بالطاغوت والجبت وهم ينتسبون إلى الكتاب كما قال تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ). انتهى كلام الشيخ رحمه الله .
فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام الذي ينسب عنه من أزاغ الله قلبه عدم تكفير المعين كيف ذكر عن مثل الفخر الرازي وهو من أكابر أئمة الشافعية ، ومثل أبى معشر وهو من أكابر المشهورين من المصنفين وغيرهما أنهم كفروا وارتدوا عن الإسلام ، والفخر هو الذي ذكره الشيخ في الرد على المتكلمين ، لما ذكر تصنيفه الذي ذكر هنا قال : وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين . وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى .
وتأمل أيضاً ما ذكره في اللات والعزى ومناة وجعله فعل المشركين معها هو بعينه الذي يفعله بدمشق وغيرها وتأمل قوله على حديث ذات أنواط .
هذا قوله في مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه ، فهل للزائغ بعد هذا متعلق بشيء من كلام هذا الإمام .(3/7)
وأنا أذكر لفظه الذي احتجوا به على زيغهم قال رحمه الله تعالى : أنا من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير ، أو تبديع ، أو تفسيق ، أو معصية ، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة ، وفاسقاً أخرى ، وعاصياً أخرى . انتهى كلامه .
وهذا صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة ، وأما إذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير ، أو تفسيق ، أو معصية .
وصرح رضي الله عنه أن كلامه في غير المسائل الظاهرة ، فقال في الرد على المتكلمين لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرا قال : وهذا إن كان في المقالات الخفية فقد يقال أنه فيها مخطئ ضال تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها ، لكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بها ، وكفر من خالفها ، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ، ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم ، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام ، ومثل إيجاب الصلوات الخمس وتعظيم شأنها ، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ، ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين .
وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين كما فعل أبو عبدالله الرازي ( يعني الفخر الرازي ) قال وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين . انتهى كلامه .فتأمل هذا وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة التي يذكر أعداء الله ، لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً .(3/8)
على أن الذي نعتقده وندين لله به ونرجو أن يثبتناً عليه أنه لو غلط هو أو أجلَّ منه في هذه المسألة وهي مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة ، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين ، أو يزعم أنه على حق ، أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر الذي بينه الله ورسوله وبينه علماء الأمة ، أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره ولو غلط من غلط .
فكيف والحمد لله ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافا في هذه المسألة ، وإنما يلجأ من شاق فيها إلى حجة فرعون : ( فما بال القرون الأولى ) أو حجة قريش : ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ) .
وقال الشيخ رحمه الله في الرسالة السنية لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم ، قال : فإذا كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة حتى أمر - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم ، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام أو السنة قد يمرق أيضا من الإسلام في هذه الأزمان وذلك بأسباب ، منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث يقول : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ) وعلي ابن أبى طالب حرق الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كنده فقذفهم فيها ، واتفق الصحابة على قتلهم ، ولكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق وهو قول أكثر العلماء وقصتهم معروفة عند العلماء .
وكذلك الغلو في بعض المشائخ ، بل الغلو في علي ابن أبى طالب ، بل الغلو في المسيح ونحوه ، فكل من غلا في نبي ، أو رجل صالح ، وجعل فيه نوعاً من الإلهية ، مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني ، أو أغثني ، أو ارزقني ، أو أجبرني ، أو أنا في حسبك ، ونحو هذه الأقوال فكل هذه شرك وضلال يستتاب صاحبها فإن تاب وإلا قتل .(3/9)
فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له لا يجعل معه إلهاً آخر ، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا معتقدين أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النباتات ، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم ويقولون : ( إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ) ( ويقولون هؤلاء هم شفعاؤنا عند الله ) .
فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة ، قال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ) الآية ، قال : طائفة من السلف كان أقوام يدعون المسيح وعزيراَ والملائكة . ثم ذكر رحمة الله تعالى آيات .
ثم قال وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب ، قال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) وكان - صلى الله عليه وسلم - يحقق التوحيد ويعلمه أمته حتى قال له رجل : ما شاء الله وشئت . قال : ( أجعلتني لله نداً ، بل ما شاء الله وحده ) ونهى عن الحلف بغير الله وقال : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) . وقال في مرض موته : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما صنعوا . وقال : ( اللهم لا تجعل قبري وثناًَ يعبد ) . وقال : ( لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراًَ وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها ، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور .(3/10)
ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها لأنه إنما يكون ذلك لأركان بيت الله فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق ، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملاًَ إلا به ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه كما قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) الآية ، ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه . وأعظم آية في القرآن آية الكرسي : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة ) والإله هو الذي تألهه القلوب عبادة له واستعانة به ورجاء وخشية وإجلالاً . انتهى كلامه رحمه الله .
فتأمل أول الكلام وآخره ، وتأمل كلامه فيمن دعا نبياً أو ولياً ، مثل أن يقول يا سيدي فلان أغثني ونحوه ، أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل هل يكون هذا إلا في المعين والله المستعان . وتأمل كلامه في اللات والعزى ومناة وما ذكر بعده يتبين لك الأمر إن شاء الله تعالى .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في شرح المنازل في باب التوبة : وأما الشرك فهو نوعان أكبر ، وأصغر . فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه ، وهو أن يتخذ من دون الله نداً يحبه كما يحب الله ، بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله ويبغضون لمنتقص معبودهم من المشائخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين ، وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة ، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسانه ديدنا له إن قام وإن قعد وإن عثر وإن استوحش وهو لا ينكر ذلك ، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ، وهكذا كان عباد الأصنام سواء .(3/11)
وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم ، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر ، وغيرهم اتخذوها من البشر ، قال تعالى حاكياًَ عن أسلاف هؤلاء : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) الآية .
فهذه حال من اتخذ من دون الله ولياً يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى ، وما أعز من يتخلص من هذا ، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره ، والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وهذا عين الشرك ، وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله ، وأخبر أن الشفاعة كلها له . ثم ذكر الشيخ ( يعني ابن القيم ) رحمه الله فصلاً طويلاً في تقرير هذا الشرك الأكبر .
ولكن تأمل قوله : وما أعز من يتخلص من هذا ، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره . يتبين لك بطلان الشبهة التي أدلى بها الملحد ، وزعم أن كلام الشيخ في الفصل الثاني يدل عليها وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى .
وذكر في آخر هذا الفصل أعني الفصل الأول في الشرك الأكبر الآية التي في سورة سبأ : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله ) إلى قوله : ( إلا لمن أذن له ) وتكلم عليها ، ثم قال : والقرآن مملوء من أمثالها ، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وأرثا ، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما تنقض عرى الإسلام عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية .(3/12)
وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية فتنتقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، والبدعة سنة ، والسنة بدعة ، ويكفر الرجل بمحض الإيمان ، وتجريد التوحيد ، ويبدأ بتجريد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومفارقة الأهواء والبدع ، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عياناً فالله المستعان .
الفصل
وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والحلف بغير الله ، وقول هذا من الله ومنك ، وأنا بالله وبك ، وما لي إلا الله وأنت ، وأنا متوكل على الله وعليك ولولا أنت لم يكن كذا وكذا . وقد يكون هذا شركاً أكبر بحسب حال قائله ومقصده .(3/13)
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى ( يعني ابن القيم ) بعد ذكر الشرك الأكبر والأصغر : ومن أنواع هذا الشرك سجود المريد للشيخ ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم ، ومن أنواعه النذر لغير الله ، والتوكل على غير الله ، والعمل لغير الله ، والإنابة والخضوع والذل لغير الله ، وابتغاء الرزق من عند غيره ، وإضافة نعمه إلى غيره ، ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى ، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم ، وهذا أصل شرك العالم ، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً لمن استغاث به ، أو سأله أن يشفع له إلى الله ، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده ، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه والله لم يجعل سؤال غيره سبباً لإذنه ، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد ، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن ، والميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل الله لهم العافية والمغفرة ، فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة وجعلوا قبورهم أوثاناً تعبد ، فجمعوا بين الشرك بالمعبود ، وتغيير دينه ، ومعادات أهل التوحيد ونسبتهم إلى تنقص الأموات ، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك ، وأوليائه المؤمنين بذمهم ومعاداتهم ، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص ، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا ، أو أنهم أمروهم به ، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم .
ولله در خليله إبراهيم حيث يقول : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . رب إنهن اضللن كثيراً من الناس ) وما نجى من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله ، وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله . انتهى كلامه .(3/14)
والمراد بهذا أن بعض الملحدين نسب إلى الشيخ أن هذا شرك أصغر ، وشبهته أنه ذكره في الفصل الثاني الذي ذكر في أوله الأصغر . وأنت رحمك الله تجد الكلام من أوله إلى آخره في الفصل الأول والثاني صريحاً لا يحتمل التأويل من وجوه كثيرة منها أن دعاء الموتى والنذر لهم ليشفعوا له عند الله هو الشرك الأكبر الذي بعث الله النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عنه فكفر من لم يتب منه وقاتله وعاداه ، وآخر ما صرح به قوله آنفاً : وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلى آخره اهـ . فهل بعد هذا البيان بيان إلا العناد بل الإلحاد .
ولكن تأمل قوله أرشدك الله : وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين إلى آخره اهـ . وتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعادات أهل الشرك الأكبر وإن لم يعاديهم فهو منهم وإن لم يفعله .
وقد ذكر في الإقناع عن الشيخ تقي الدين ، أن من دعا علي ابن أبي طالب فهو كافر ، وإن من شك في كفره فهو كافر ، فإذا كان هذا حال من شك في كفره مع عداوته له ومقته له ، فكيف بمن يعتقد أنه مسلم ولم يعاده ، فكيف بمن أحبه ، فكيف بمن جادل عنه وعن طريقته ، وتعذر أنا لا نقدر على التجارة وطلب الرزق إلا بذلك ، وقد قال تعالى : ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) فإذا كان هذا قول الله تعالى فيمن تعذر عن التبيين بالعمل بالتوحيد ومعادات المشركين بالخوف على أهله وعياله فكيف بمن اعتذر في ذلك بتحصيل التجارة ، ولكن الأمر كما تقدم عن عمر إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية لهذا لم يعرف معنى القرآن ، وأنه أشر وأفسد من الذين قالوا : ( إن نتبع الهدى معك ) الآية .(3/15)
ومع هذا فالكلام الذي يظهرونه نفاقاً وإلا فهم يعتقدون أن أهل التوحيد ضالون مضلون ، وأن عبدة الأوثان أهل الحق والصواب ، كما صرح به إمامهم في الرسالة التي أتتكم قبل هذه خطه بيده يقول : بيني وبينكم أهل هذه الأقطار وهم خير أمة أخرجت للناس وهم كذا وكذا ، فإذا كان يريد التحاكم إليهم ويصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس ، فكيف أيضاً يصفهم بشرك ومخالطتهم للحاجة . وما أحسن قول أصدق القائلين : ( والسماء ذات الحبك . إنكم لفي قول مختلف . يؤفك عنه من أفك ) ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ) .
فرحم الله أمرءً نظر لنفسه وتفكر فيما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند الله من معادات من أشرك بالله من قريب أو بعيد وتكفيرهم وقتالهم حتى يكون الدين كله لله ، وعلم ما حكم به محمد - صلى الله عليه وسلم - فيمن أشرك بالله مع ادعائه الإسلام ، وما حكم في ذلك الخلفاء الراشدون كعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه وغيره لما حرقهم بالنار مع أن غيرهم من أهل الأوثان الذين لم يدخلوا في الإسلام لا يقتلون بالتحريق والله الموفق .
وقال أبو العباس أحمد بن تيمية في الرد على المتكلمين لما ذكر بعض أحوال أئمتهم قال : وكل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له ، ومن لم يأمر منهم بالشرك فلم ينه عنه ، بل يقر هؤلاء وهؤلاء وإن رجح الموحدين ترجيحاً ما فقد يرجح غيره المشركين ، وقد يعرض عن الأمرين جميعاً ، فتدبر هذا فإنه نافع جداً .(3/16)
ولهذا كان رؤوسهم المتقدمون والمتأخرون يأمرون بالشرك ، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد بل يسوغون الشرك ، أو يأمرون به أولا يوجبون التوحيد ، وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الملائكة وعبادة الأنفس المفارقة أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك . وهم إذا ادعوا التوحيد إنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل ، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لابد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له ، وهذا شيء لا يعرفونه فلو كانوا موحدين بالقول والكلام لكان معهم التوحيد دون العمل ، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة بل لابد أن يعبد الله وحده ويتخذ إلهاً دون ما سواه ، وهذا هو معنى قول ( لا إله إلا الله ) . انتهى كلام الشيخ .
فتأمل رحمك الله هذا الكلام فإنه مثل ما قال الشيخ فيه نافع جداً ، ومن أكبر ما فيه من الفوائد أنه يبين لك حال من أقر بهذا الدين ، وشهد أنه الحق ، وأن الشرك هو الباطل ، وقال بلسانه ما أريد منه ، ولكن لا يدين بذلك إما بغضاً له ، أو عدم محبته كما هي حال المنافقين الذين بين أظهرنا ، وإما يثار الدنيا مثل تجارة أو غيرها فيدخلون في الإسلام ثم يخرجون منه ، كما قال تعالى : ( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا ) الآية ، وقال تعالى : ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره ) إلى قوله : ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ) فإذا قال هؤلاء بألسنتهم نشهد أن هذا دين الله ورسوله ، ونشهد أن المخالف له باطل ، وأنه الشرك بالله غر هذا الكلام ضعيف البصيرة .(3/17)
وأعظم من هذا وأطم أن أهل حريملاء ومن وراءهم يصرحون بمسبة الدين ، وأن الحق ما عليه أكثر الناس يستدلون بالكثرة على حسن ما هم عليه من الدين ، ويفعلون ويقولون ما هو من أكبر الردة وأفحشها ، فإذا قالوا التوحيد حق والشرك باطل وأيضاً لم يحدثوا في بلدهم أوثاناً جادل الملحد عنهم وقال : أنهم يقرون أن هذا شرك ، وأن التوحيد هو الحق ، ولا يضرهم عندهم ما هم عليه من السب لدين الله ، وبغي العوج له ، ومدح الشرك وذبهم دونه بالمال واليد واللسان فالله المستعان .
وقال أبو العباس أيضاً : في الكلام على كفر مانعي الزكاة والصحابة لم يقولوا هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها ، وهذا لم يعهد عنه الخلفاء والصحابة ، بل قال الصديق لعمر رضي الله عنهما : ( والله لو منعوني عقالاً ـ أو عناقاً ـ كانوا يؤودنها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه ) فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب . وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها ، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعهم سيرة واحدة وهي مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم ، والشاهدة على قتلاهم بالنار وسموهم جميعهم أهل الردة . وكان من أعظم فضائل الصديق رضي الله عنه عندهم أن ثبته الله على قتالهم ولم يتوقف كما يتوقف غيره فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله . وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة ، فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم . انتهى .
فتأمل كلامه رحمه الله في تكفير المعين والشهادة عليه إذا قتل بالنار وسبي حريمه وأولاده عند منع الزكاة ، فهذا الذي ينسب عنه أعداء الدين عدم تكفير المعين .
قال رحمه الله : بعد ذلك وكفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة . انتهى كلامه .(3/18)
ومن أعظم ما يحل الإشكال في مسألة التكفير والقتال عمن قصد اتباع الحق ، إجماع الصحابة على قتال مانعي الزكاة وإدخالهم في أهل الردة وسبي ذراريهم ، وفعلهم فيهم ما صح عنهم وهو أول قتال وقع في الإسلام على من ادعى أنه من المسلمين . فهذه أول وقعة وقعت في الإسلام على هذا النوع أعني المدعين للإسلام وهي أوضح الوقعات التي وقعت من العلماء عليهم من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى وقتنا هذا .
وقال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل : لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام ، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي كفار بهذه الأوضاع ، مثل تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا وإلقاء الخرق على الشجر إقتداء لمن عبد اللات والعزى . انتهى كلامه . والمراد منه قوله : وهم عندي كفار بهذه الأوضاع .(3/19)
وقال أيضاً في كتاب الفنون : لقد عظم الله الحيوان لا سيما ابن آدم ، حيث أباحه الشرك عند الإكراه ، فمن قدم حرمة نفسك على حرمته حتى أباحك أن تتوقى عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه لحقيق أن تعظم شعائره وتوقر أوامره وزواجره ، وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك وعصم مالك بقطع يد مسلم في سرقته ، وأسقط شطر الصلاة في السفر لأجل مشقتك , وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقاً عليك من مشقة الخلع واللبس ، وأباحك الميتة سد لرمقك وحفظاً لصحتك , وزجرك عن مضارك بحد عاجل ووعيد آجل , وخرق العوائد لأجلك , وأنزل الكتب إليك , أيحسن لك مع هذا الإكرام أن يراك على ما نهاك منهمكاً , ولما أمرك تاركاً ، وعلى ما زجرك مرتكباً ، وعن داعيه معرضاً ، ولداعي عدوه فيك مطيعاً ، يعظمك وهو هو ، وتهمل أمره وأنت أنت ، هو حط رتبة عباده لأجلك ، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجدها لأبيك ، هل عاديت خادماً طالت خدمته لك لترك صلاة ، هل نفيته من دارك للإخلال بفرض أو لارتكاب نهي فإن لم تعترف اعتراف العبد للموالى ، فلا أقل أن تقتضي نفسك إلى الحق سبحانه اقتضاء المساوي المكافي ، ما أفحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان ، بيناً هو بحضرة الحق سبحانه وملائكة السماء سجود له ، ترامى به الأحوال والجهات إلى أن يوجد ساجداً لصورة في حجر ، أو لشجرة من الشجر ، أو لشمس أو لقمر ، أو لصورة ثور خار ، أو لطائر صفر .
ما أوحش زوال النعم ، وتغير الأحوال ، والحور بعد الكور ، لا يليق بهذا الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوانات أن يرى إلا عابداً الله في دار التكليف ، أو مجاورا لله في دار الجزاء والتشريف ، وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير موضعها . انتهى كلامه .
والمراد منه أنه جعل أقبح حال وأفحشها من أحوال الإنسان أن يشرك بالله ، ومثله بأنواع : منها السجود للشمس أو للقمر ، ومنها السجود للصورة كما في الصور التي في القباب على القبور .(3/20)
والسجود قد يكون بالجبهة على الأرض ، وقد يكون بالانحناء من غير وصول إلى الأرض ، كما فسر به قوله تعالى : ( أدخلوا الباب سجداً ) قال ابن عباس : أي ركعاً .
وقال ابن القيم في ( إغاثة اللهفان ) في إنكار تعظيم القبور : وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين أن صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً سماه ( مناسك المشاهد ) ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام . انتهى . وهذا الذي ذكره ابن القيم ، رجل من المصنفين يقال له ابن المفيد ، فقد رأيت ما قال فيه بعينه ، فكيف ينكر تكفير المعين ؟ . وأما كلام سائر أتباع الأئمة في التكفير ، فنذكر منه قليلاً من كثير .
أما كلام الحنفية فكلامهم في هذا من أغلظ الكلام ، حتى إنهم يكفرون المعين إذا قال مصيحف أو مسيجد وصلى صلاة بلا وضوء ونحو ذلك . وقال في النهر الفائق ، وعلم أن الشيخ قاسماً ، قال في شرح درر البحار : إن النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاً يا سيدي فلان إن رد غائبي أو عوفي مريضي فلك من الذهب أو الفضة أو الشمع أو الزيت كذا باطل إجماعاً لوجوه . إلى أن قال : ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر واعتقاد هذا كفر . إلى أن قال : وقد ابتلى الناس بذلك ، لاسيما في مولد الشيخ أحمد البدوي . انتهى كلامه .
فانظر إلى تصريحه إن هذا كفر ، مع قوله أنه يقع من أكثر العوام ، وأن أهل العلم قد ابتلوا بما لا قدرة لهم على إزالته .
وقال القرطبي رحمه الله لما ذكر سماع الفقر أو صورته قال : هذا حرام بالإجماع .
وقد رأيت فتوى شيخ الإسلام ، جمال الملة أن مستحل هذا كافر ، ولما علم أن حرمته بالإجماع لزم أن يكفر مستحله ، فقد رأيت كلام القرطبي وكلام الشيخ الذي نقل عنه في كفر من استحل السماع والرقص مع كونه دون ما نحن فيه بالإجماع بكثير .(3/21)
وقال أبو العباس رحمه الله حدثني ابن الخضيري عن والده الشيخ الخضيري إمام الحنفية في زمانه قال : كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا كان كافرا ذكياً ، فهذا إمام الحنفية في زمنه حكى عن فقهاء بخاري جملة كفر ابن سينا وهو رجل معين منصف يتظاهر بالإسلام .
وأما كلام المالكية في هذا أكثر من أن يحصر وقد أشتهر عن فقهائهم سرعة الفتوى والقضاء بقتل الرجل عند الكلمة التي لا يفطن لها أكثر الناس ، وقد ذكر القاضي عياض في آخر كتاب الشفاء من ذلك طرفاً ، ومما ذكر أن من حلف بغير الله على وجه التعظيم كفر ، وكل هذا دون ما نحن فيه بما لا نسبة بينه وبينه .
وأما كلام الشافعية ، فقال صاحب الروضة رحمه الله أن المسلم في الكلام إذا ذبح للنبي - صلى الله عليه وسلم - كفر . وقال أيضاً : من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر . وكل هذا دون ما نحن فيه .
وقال ابن حجر في شرح الأربعين على حديث ابن عباس : ( إذا سألت فاسأل الله ) وما معناه إن من دعا غير الله فهو كافر . وصنف في هذا النوع كتابا مستقلا سماه ( الإعلام بقواطع الإسلام ) ذكر فيه أنواعا كثيرة من الأقوال والأفعال كل واحد منها ذكر أنه يخرج من الإسلام ويكفر به المعين وغالبه لا يساوي عشير معشار ما نحن فيه ، وتمام الكلام في هذا أن يقال الكلام هنا في مسألتين :
الأولى : أن يقال هذا الذي يفعله كثير من العوام عند قبور الصالحين ومع كثير من الأحياء والأموات والجن من التوجه إليهم ودعائهم لكشف الضر والنذر لهم لأجل ذلك هل هو الشرك الأكبر الذي فعله قوم نوح ومن بعدهم إلى أن انتهى الأمر إلى قوم خاتم الرسل قريش وغيرهم .(3/22)
فبعث الله الرسل وأنزل الكتب ينكر عليهم ذلك ويكفرهم ويأمر بقتالهم حتى يكون الدين كله لله ، أم هذا شرك أصغر وشرك المتقدمين غير هذا ، فاعلم أن الكلام في هذه المسألة سهل على من يسره الله عليه بسبب أن علماء المشركين اليوم يقرون أنه الشرك الأكبر ولا ينكرونه إلا ما كان من مسيلمة الكذاب وأصحابه كابن إسماعيل وابن خالد مع تناقضهم في ذلك واضطرابهم ، فأكثر أحوالهم يقرون أنه الشرك الأكبر ولكن يعتذرون بأن أهله لم تبلغهم الدعوة .
وتارة يقولون لا يكفر إلا من كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتارة يقولون إنه شرك أصغر وينسبونه لابن القيم رحمه الله في المدارج كما تقدم ، وتارة لا يذكرون شيئاً من ذلك بل يعظمون أهله وطريقتهم في الجملة ، وأنهم خير أمة أخرجت للناس ، وأنهم العلماء الذين يجب رد الأمر عند التنازع إليهم وغير ذلك من الأقاويل المضطربة ، وجواب هؤلاء كثير في الكتاب ، والسنة ، والإجماع .
ومن أصرح ما يجاوبون به إقرارهم في غالب الأوقات أن هذا هو الشرك الأكبر ، وأيضاً إقرار غيرهم من علماء الأقطار ، مع أن أكثرهم قد دخل في الشرك وجاهد أهل التوحيد ، لكن لم يجدوا بداً من الإقرار به لوضوحه .
المسألة الثانية : الإقرار بأن هذا هو الشرك الأكبر ولكن لا يكفر به إلا من أنكر الإسلام جملة ، وكذب الرسول والقرآن واتبع اليهودية أو النصرانية أو غيرهما ، وهذا هو الذي يجادل به أهل الشرك والعناد في هذه الأوقات ، وإلا المسألة الأولى قلَّ الجدال فيها ولله الحمد لما وقع من إقرار علماء الشرك بها . فاعلم أن تصور هذه المسألة تصوراً حسناً يكفي في إبطالها من غير دليل خاص لوجهين :(3/23)
الأول : أن مقتضى قولهم أن الشرك بالله وعبادة الأصنام لا تأثير لها في التكفير لأن الإنسان إن انتقل عن الملة إلى غيرها وكذب الرسول والقرآن فهو كافر وإن لم يعبد الأوثان كاليهود ، فإذا كان من انتسب إلى الإسلام لا يكفر إذا أشرك الشرك الأكبر لأنه مسلم يقول لا إله إلا الله ويصلي ويفعل كذاو كذا لم يكن للشرك وعبادة الأوثان تأثير بل يكون ذلك كالسواد في الخلقة أو العمى أو العرج ، فان كان صاحبها يدعي الإسلام فهو مسلم ، وإن ادعى ملة غيرها فهو كافر ، وهذه فضيحة عظيمة كافية في رد هذا القول الفظيع .
الوجه الثاني : أن معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الشرك وعبادة الأوثان بعد بلوغ العلم كفر صريح بالفطر والعقول والعلوم الضرورية ، فلا يتصور أنك تقول لرجل ولو من أجهل الناس أو أبلدهم ، ما تقول فيمن عصى الرسو ل - صلى الله عليه وسلم - ولم ينقد له في ترك عبادة الأوثان والشرك ، مع أنه يدعي أنه مسلم متبع إلا ويبادر بالفطرة الضرورية إلى القول بأن هذا كافر من غير نظر في الأدلة أو سؤال أحد من العلماء .
ولكن لغلبة الجهل وغربة العلم وكثرة من يتكلم بهذه المسألة من الملحدين أشتبه الأمر فيها على بعض العوام من المسلمين الذين يحبون الحق ، فلا تحقرها وأمعن النظر في الأدلة التفصيلية لعل الله أن يمن عليك بالإيمان الثابت ويجعلك من الأئمة الذين يهدون بأمره .
فمن أحسن ما يزيل الإشكال فيها ويزيد المؤمن يقيناً ما جرى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والعلماء بعدهم فيمن انتسب إلى الإسلام ، كما ذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث البراء ومعه الراية إلى رجل تزوج امرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله .
ومثل همه بغزو بني المصطلق لما قيل أنهم منعوا الزكاة . ومثل قتال الصديق وأصحابه لمانع الزكاة وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم وتسميتهم مرتدين .(3/24)
ومثل إجماع الصحابة في زمن عمر تكفير قدامة بن مظعون وأصحابه إن لم يتوبوا لما فهموا من قوله تعالى : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا ) حل الخمر لبعض الخواص .
ومثل إجماع الصحابة في زمن عثمان في تكفير أهل المسجد الذين ذكروا كلمة في نبوة مسيلمة مع أنهم لم يتبعوه ، وإنما اختلف الصحابة في قبول توبتهم . ومثل تحريق علي رضي الله عنه أصحابه لما غلوا فيه .
ومثل إجماع التابعين مع بقية الصحابة على كفر المختار بن أبي عبيد ومن اتبعه ، مع أنه يدعي أنه يطلب بدم الحسين وأهل البيت . ومثل إجماع التابعين ومن بعدهم على قتل الجعد بن درهم وهو مشهور بالعلم والدين وهلم جرا ، ومن وقائع لا تعد ولا تحصى .
ولم يقل أحد من الأولين والآخرين لأبي بكر الصديق وغيره كيف تقاتل بنى حنيفة وهم يقولون لا إله إلا الله ويصلون , ويزكون . وكذلك لم يستشكل أحد تكفير قدامة وأصحابه لو لم يتوبوا وهلم جرا .
إلى زمن عبيد القداح الذين ملكوا لمغرب ومصر والشام وغيرها مع تظاهرهم بالإسلام وصلاة الجمعة والجماعة ونصب القضاة والمفتين لما أظهروا من الأقوال والأفعال ما أظهروا لم يستشكل أحد من أهل العلم والدين قتالهم ولم يتوقفوا فيه وهم في زمن ابن الجوزي , والموفق , وصنف ابن الجوزي كتاباً لما أخذت مصر منهم سماه ( النصر على مصر ) .(3/25)
ولم يسمع أحد من الأولين والآخرين أن أحدا أنكر شيئا من ذلك أو استشكله لأجل ادعائهم الملة , أو لأجل قول لا إله إلا الله ، أو لأجل إظهار شيء من أركان الإسلام ، إلا ما سمعناه من هؤلاء الملاعين في هذه الأزمان من إقرارهم أن هذا هو الشرك ، ولكن من فعله أو حسنه أو كان مع أهله أو ذم التوحيد أو حارب أهله لأجله أو أبغضهم لأجله أنه لا يكفر لأنه يقول لا إله إلا الله أو لأنه يؤدي أركان الإسلام الخمسة ، ويستدلون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماها الإسلام ، هذا لم يسمع قط إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين الظالمين ، فإن ظفروا بحرف واحد عن أهل العلم أو أحد منهم يستدلون به على قولهم الفاحش الأحمق فليذكروه ، ولكن الأمر كما قال اليمني في قصيدته :
أقاويل لا تعزى إلى عالم فلا تساوي فلساً إن رجعت إلى نقد
... ولنختم الكلام في هذا النوع بما ذكره البخاري في صحيحه حيث قال : ( باب يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان ) . ثم ذكر بإسناده قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة ) وذو الخلصة صنم لدوس يعبدونه فقال - صلى الله عليه وسلم - لجرير بن عبد الله : ( ألا تريحني من ذي الخلصة ) فركب إليه بمن معه فأحرقه وهدمه ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره قال فبرك على خيل أحمس ورجالها خمساً . ... وعادة البخاري رحمه الله إذا لم يكن الحديث على شرطه ذكره في الترجمة ، ثم أتى بما يدل على معناه مما هو على شرطه ، ولفظ الترجمة وهو قوله : ( يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان ) لفظ حديث أخرجه غيره من الأئمة والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولنذكر من كلام الله تعالى ، وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكلام أئمة العلم جملاً في جهاد القلب واللسان ومعادات أعداء الله وموالات أوليائه ، وأن الدين لا يصح ولا يدخل الإنسان فيه إلا بذلك فنقول :(3/26)
باب في وجوب عداوة أعداء الله
من الكفار والمرتدين والمنافقين
وقول الله تعالى : ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزؤ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ) وقوله تعالى : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) إلى قوله : ( كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ) وقوله تعالى : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) .
وقال ( الإمام الحافظ ) محمد بن وضاح : أخبرني غير واحد ، أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات :
إعلم يا أخي أن ما حملني على الكتاب إليك ما ذكر أهل بلدك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس ، وحسن حالك مما أظهرت من السنة ، وعيبك لأهل البدع وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم فقمعهم الله بك وشد بك ظهر أهل السنة وقواك عليهم ، بإظهار عيبهم والطعن عليهم فأذلهم الله بيدك وصاروا ببدعتهم مستترين ، فأبشر يا أخي بثواب ذلك واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد ، وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله تعالى وإحياء سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أحيا شيئاً من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين ـ وضم بين إصبعيه ـ ) وقال : ( أيما داع دعى إلى هدى فاتُبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة ) فمتى يدرك أجر هذا بشيء من عمله . وذكر أيضاً أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً يذب عنها وينطق بعلامتها .(3/27)
فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن وأوصاه : ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرا لك من كذا وكذا ) وأعظم القول فيه . فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث فيكونون أئمة بعدك فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة ، كما جاء في الأثر فاعمل على بصيرة ونية وحسبة ، فيرد الله بك المبتدع المفتون الزائغ الحائر فتكون خلفاً من نبيك - صلى الله عليه وسلم - فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه ، وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب فإنه جاء في الأثر : من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه ، ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام . وجاء : ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى .
وقد وقعت اللعنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل البدع وأن الله لا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً ولا فريضة ولا تطوعاً وكلما ازدادوا اجتهادا وصوماً وصلاة ازدادوا من الله بعداً ، فارفض مجالسهم وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم الله وأذلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأئمة الهدى بعده . انتهى كلام أسد رحمه الله تعالى .
واعلم رحمك الله أن كلامه وما يأتي من كلام أمثاله من السلف في معادات أهل البدع والضلالة في ضلالة لا تخرج عن الملة ، لكنهم شددوا في ذلك و حذروا منه لأمرين :
الأول : غلظ البدعة في الدين في نفسها فهي عندهم أجل من الكبائر ، ويعاملون أهلها بأغلظ مما يعاملون به أهل الكبائر كما تجد في قلوب الناس اليوم أن الرافضي عندهم ولو كان عالماً عابداً أبغض وأشد ذنباً من السني المجاهر بالكبائر .(3/28)
الأمر الثاني : أن البدع تجر إلى الردة الصريحة كما وجد من كثير من أهل البدع ، فمثال البدعة التي شددوا فيها مثل تشديد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح خوفاً مما وقع من الشرك الصريح الذي يصير به المسلم مرتداً ، فمن فهم هذا فهم الفرق بين البدع وبين ما نحن فيه من الكلام في الردة ومجاهدة أهلها ، أو النفاق الأكبر ومجاهدة أهله وهذا هو الذي نزلت فيه الآيات المحكمات ، ومثل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه ) الآية ، وقوله تعالى : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير . يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) الآية . وقال ابن وضاح في كتاب ( البدع والحوادث ) بعد حديث ذكره أنه سيقع في هذه الأمة فتنة الكفر وفتنة الضلالة ، قال رحمه الله : إن فتنة الكفر هي الردة يحل فيها السبي والأموال ، وفتنة الضلالة لا يحل فيها السبي والأموال ، وهذا الذي نحن فيه فتنة ضلاله لا يحل فيها السبي ولا الأموال . وقال رحمه الله أيضا : أخبرنا أسد أخبرناً رجل عن ابن المبارك قال : قال ابن مسعود : إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً من أوليائه يذب عنه وينطق بعلامتها ، فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكلوا على الله . قال ابن المبارك : وكفى بالله وكيلاً ، ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال : لإن أرد رجلاً عن رأي سيئ أحب إليَّ من اعتكاف شهر .(3/29)
أخبرنا أسد عن أبي إسحاق الحذاء عن الأوزاعي قال : كان بعض أهل العلم يقولون لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ، ولا صدقة ، ولا صياماً ، ولا جهاداً ، ولا حجاً ، ولا صرفاً ، ولا عدلاً ، وكانت أسلافكم تشتد عليهم ألسنتهم وتشمئز منهم قلوبهم ويحذرون الناس بدعتهم . قال : ولو كانوا مستترين ببدعتهم دون الناس ما كان لأحد أن يهتك عنهم سترا ، ولا يظهر منهم عورة ، الله أولى بالأخذ بها أو بالتوبة عليها ، فإما إذا جاهروا به فنشر العلم حياة ، والبلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحمة يعتصم بها على مصر ملحد . ثم روى بإسناده قال : جاء رجل إلى حذيفة وأبو موسى الأشعري قاعد فقال : أرأيت رجل ضرب بسيفه غضباً لله حتى قتل ، أفي الجنة أم في النار ؟ . فقال أبو موسى في الجنة ! . فقال : حذيفة استفهم الرجل وأفهمه ما تقول حتى فعل ذلك ثلاث مرات ، فلما كان في الثالثة قال : والله لأستفهمه فدعا به حذيفة فقال : رويدك وما يدريك أن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة ، وإن لم يصب الحق ولم يوفقه الله للحق فهو في النار . ثم قال : والذي نفسي بيده ليدخلن النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا . ثم ذكر بإسناده عن الحسن قال : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك . ثم ذكر بإسناده عن سفيان الثوري قال : من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث : إما أن يكون فتنة لغيره ، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار ، وإما أن يقول والله ما أبالي ما تكلموه ، وإني واثق بنفسي ، فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه . ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال : من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام .(3/30)
أخبرنا أسد قال : حدثنا كثير أبو سعيد قال : من جلس إلى صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه . أخبرنا أسد ابن موسى قال : أخبرنا حماد بن زيد عن أيوب قال : قال أبو قلابة لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون . قال : أيوب وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب .
أخبرنا أسد بن موسى قال أخبرنا زيد عن محمد بن طلحة قال : قال إبراهيم : لا تجالسوا أصحاب البدع ، ولا تكلموهم فإني أخاف أن ترتد قلوبكم أخبرنا أسد بالإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) .
أخبرنا أسد أخبرنا مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن زيد عن أيوب قال دخل على محمد بن سيرين يوماً رجل فقال : يا أبا بكر اقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد على أن اقرأها ثم أخرج ، فوضع إصبعيه في أذنيه ثم قال : أحرَّج عليك إن كنت مسلماً لما خرجت من بيتي . قال : فقال يا أبا بكر إني لا أزيد على أن أقرا ثم أخرج . قال : فقام بإزاره يشده عليه وتهيأ للقيام ، فأقبلنا على الرجل فقلنا قد حرَّج عليك إلا خرجت ، أفيحل لك أن تخرج رجلا من بيته . قال : فخرج ، فقلنا : يا أبا بكر ما عليك لو قرأ آية ثم خرج . قال : إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ ولكنني خفت أن يلقي في قلبي شيئاً أجهد أن أخرجه من قلبي فلا أستطيع .
أخبرنا أسد قال : أخبرنا ضمرة عن سودة قال : سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول : ما كان عبد على هوى فتركه إلا آل إلى ما هو شر منه . قال : فذكرت هذا الحديث لبعض أصحابنا فقال : تصديقه في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية ثم لا يرجعون حتى يرجع السهم إلى فوقه ) .(3/31)
أخبرنا أسد قال : أخبرنا موسى بن إسماعيل عن حماد بن زيد عن زيد عن أيوب قال : كان رجل يرى رأياً فرجع عنه ، فأتيت محمداً فرحاً بذلك أخبره ، فقلت أشعرت أن فلاناً ترك رأيه الذي كان يرى . فقال : انظروا إلى ما يتحول ، إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله يمرقون من الإسلام لا يعودون إليه .
ثم روى بإسناده عن حذيفة أنه أخذ حصاة بيضاء فوضعها في كفه ، ثم قال : إن هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه الحصاة ثم أخذ كفاً من تراب فجعل يذره على الحصاة حتى واراها ثم قال : والذي نفسي بيده ليجيئن أقوام يدفنون الدين كما دفنت هذه الحصاة .
أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده عن أبي الدرداء قال : لو خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليوم إليكم ما عرف شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة . قال الأوزاعي : فكيف لو كان اليوم . قال عيسى ( يعني الراوي عن الأوزاعي ) : فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان . أخبرنا سليمان بن محمد بإسناده عن علي أنه قال : تعلموا العلم تعرفون به ، وأعملوا به تكونوا من أهله ، فإنه سيأتي بعدكم زمان ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم .
أخبرنا يحي بن يحي بإسناده عن أبي سهل بن مالك عن أبيه أنه قال : ما أعرف منكم شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة . حدثني إبراهيم بن محمد بإسناده عن أنس قال : ما أعرف منكم شيئاً كنت أعهده على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس قولكم لا إله إلا الله .(3/32)
أخبرنا محمد بن سعيد قال أخبرنا أسد بإسناده عن الحسن قال : لو أن رجلاً أدرك السلف الأول ، ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئاً ، قال : ووضع يده على خده ثم قال : إلا هذه الصلاة . ثم قال : أما والله لمن عاش في هذه النكرا أو لم يدرك هذا السلف الصالح فرأى مبتدعاً يدعو إلى بدعته ورأى صاحب يدعو إلى دنياه فعصمه الله عن ذلك وجعل قلبه يحن إلى ذكر هذا السلف الصالح يسأل عن سبيلهم ويقتص آثارهم ويتبع سبيلهم ليعوض أجراً عظيماً فكذلك فكونوا إن شاء الله تعالى .
حدثني عبد الله بن محمد بإسناده عن ميمون بن مهران قال : لو أن رجلاً نشر فيكم من السلف ما عرف فيكم غير هذه القبلة . أخبرنا محمد بن قدامة الهاشمي بإسناده عن أم الدرداء قالت : دخل علي أبو الدرداء مغضباً ، فقلت له : ما أغضبك ؟ فقال : والله ما أعرف فيهم من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا أنهم يصلون جمعياً . وفي لفظ : لو أن الرجل تعلم الإسلام وأهمه ثم تفقده ما عرف منه شيئاً .
حدثني إبراهيم بإسناده عن عبدالله بن عمرو قال : لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة خليا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية لأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئاً مما كانا عليه .
قال مالك : وبلغني أن أبا هريرة رضي الله عنه تلا : ( إذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ) فقال : والذي نفسي بيده إن الناس ليخرجون اليوم من دينهم أفواجا كما دخلوا فيه أفواجاً .
قف تأمل رحمك الله إذا كان هذا في زمن التابعين بحضرة أواخر الصحابة فكيف يغتر المسلم بالكثرة أو تشكل عليه أو يستدل بها على الباطل .(3/33)
ثم روى ابن وضاح بإسناده عن أبي أمية قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت : يا أبا ثعلبة كيف تصنع في هذه الآية ؟ قال : أية آية ، قلت : قول الله تعالى : ( لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) قال : أما والله قد سألت عنها خبيراَ ، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً ، وهوى متبعاً ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأى برأيه ، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله ) قيل يا رسول الله : أجر خمسين منهم ؟ قال : ( أجر خمسين منكم ) .
ثم روى بإسناده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( طوبى للغرباء ـ ثلاثاً ـ ) قالوا : يا رسول الله ومن الغرباء ؟ قال : ( ناس صالحون قليل في أناس سوء كثير من يبغضهم أكثر ممن يحبهم ) .
أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده عن المعافري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( طوبى للغرباء الذين يتمسكون بكتاب الله حين ينكر ويعلمون بالسنة حين تطفى ) . أخبرنا محمد بن يحي أخبرنا أسد بإسناده عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( بدأ الإسلام غريباً ، ولا تقوم الساعة حتى يكون غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء حين يفسد الناس , ثم طوبى للغرباء حين يفسد الناس ) . أخبرنا محمد بن يحي أخبرنا أسد بإسناده عن عبدالرحمن أنه سمع رسول الله يقول : ( إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : ( الذين يصلحون إذا فسد الناس ) هذا آخر ما نقلته من كتاب البدع والحوادث للإمام الحافظ محمد بن وضاح رحمه الله .(3/34)
فتأمل رحمك الله أحاديث الغربة وبعضها في الصحيح مع كثرتها وشهرتها ، وتأمل إجماع العلماء كلهم أن هذا قد وقع من زمن طويل ، حتى قال ابن القيم رحمه الله : الإسلام في زماننا أغرب منه في أول ظهوره .
فتأمل هذا تأملاً جيداً لعلك أن تسلم من هذه الهوة الكبيرة التي هلك فيها أكثر الناس وهي الإقتداء بالكثرة والسواد الأكبر والنفرة من الأقل فما أقل من سلم منها ما أقله ما أقله !! .
ولنختم ذلك بالحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويعتقدون بأمره ) وفي رواية : ( يهتدون بهديه ، ويستنون بسنته ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) انتهى ما نقلته والحمد لله رب العالمين .
وقد رأيت للشيخ تقي الدين ، رسالة كتبها وهو في السجن إلى بعض إخوانه لما أرسلوا إليه يشيرون عليه بالرفق بخصومه ليتخلص من السجن أحببت أن أنقل أولها لعظم منفعته .
قال رحمه الله تعالى : الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد :(3/35)
فقد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الناسكين القدوتين أيدهما الله وسائر الإخوان بروح منه وكتب في قلوبهم الإيمان , وأدخلهم مدخل صدق , وأخرجهم مخرج صدق , وجعل لهم من لدنه ما ينصر به من السلطان ، سلطان العلم والحجة بالبيان والبرهان وسلطان القدرة والنصرة بالسنان والأعوان , وجعلهم من أوليائه المتقين وحزبه الغالبين , لمن ناوأهم من الأقران , ومن الأئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والإيقان والله محقق ذلك ومنجز وعده في السر والإعلان ، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن ، لكن بما اقتضت حكمته ومضت به سنته من الابتلاء والامتحان ، الذي يميز الله به أهل الصدق والإيمان , من أهل النفاق والبهتان , إذ قد دل كتابه على أنه لابد من الفتنة لكل من أدعى الإيمان , والعقوبة لذوي السيئات والطغيان ، فقال تعالى : ( آلم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين . أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ) فأنكر سبحانه على من ظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب الغالب ، وأن مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكاذب .(3/36)
وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله فقال تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم . إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) وأخبر سبحانه وتعالى بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة , الذي يعبد الله فيها على حرف , وهو الجانب والطرف الذي لا يستقر من هو عليه , بل لا يثبت على الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا ، فقال تعالى : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمئن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ) وقال تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) وقال تعالى : ( ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ) .
وأخبر سبحانه أنه عند وجود المرتدين فلا بد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه ) فهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان , والصابرون على الامتحان , كما قال تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) إلى قوله : ( والله يحب المحسنين ) .(3/37)
فإذا أنعم الله على إنسان بالصبر والشكر كان جميع ما يقضي له من القضاء خيراً له , كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيراً له ، إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له ، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له ) والصبار الشكور هو المؤمن الذي ذكر الله في غير موضع من كتابه ، ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال , وكل واحد من السراء والضراء في حقه يفضي به إلى قبيح المال , فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي محن الأنبياء والصديقين , وفيها تثبيت أصول الدين ، وحفظ الإيمان والقرآن من كيد أهل النفاق والإلحاد والبهتان , فالحمدلله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى , وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله .
والله المسؤول أن يثبتكم وسائر المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة , ويتم نعمه عليكم الظاهرة والباطنة وينصر دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين على الكافرين والمنافقين الذين أمرنا بجهادهم والإغلاظ عليهم في كتابه المبين . انتهى ما نقلته من كلام أبي العباس رحمه الله في الرسالة المذكورة وهي طويلة .
ومن جواب له رحمه الله لما سئل عن الحشيشة ما يجب على من يدعي أن أكلها جائز ، فقال : أكل هذه الحشيشة حرام وهي من أخبث الخبائث المحرمة سواء أكل منها كثيراً أو قليلاً لكن الكثير المسكر منها حرام بإتفاق المسلمين , ومن استحل ذلك فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن بين المسلمين .
وحكم المرتد أشر من حكم اليهود والنصارى وسواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الذكر والفكر , وأنها تحرك العزم الساكن وتنفع الطريق .(3/38)
وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر يباح للخاصة متأولا ًقوله تعالى : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ) فاتفق عمر وعلي وغيرهما من علماء الصحابة على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا ، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا . انتهى ما نقلته من كلام الشيخ رحمه الله تعالى .
فتأمل كلام هذا الذي ينسب إليه عدم تكفير المعين إذا جاهر بسب دين الأنبياء وصار من أهل الشرك , ويزعم أنهم على الحق ويأمر بالمصير معهم وينكر على من لا يسب التوحيد ويدخل مع المشركين لأجل انتسابه إلى الإسلام .
أنظر كيف كفر المعين ولو كان عابداً بإستحلال الحشيشة ولو زعم حلها للخاصة الذين تعينهم على الفكرة واستدل بإجماع الصحابة على تكفير قدامة وأصحابه إن لم يتوبوا وكلامه في المعين , وكلام الصحابة في المعين فكيف بما نحن فيه مما لا يساوي إستحلال الحشيشة جزء من ألف جزء منه ، والله أعلم .
والحمد الله رب العالمين .
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .(3/39)
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد
الشيخ : سليمان بن عبد الله آل الشيخ
دراسة وتحقيق:
زهير الشاويش
الناشر:
المكتب الاسلامي، بيروت، دمشق
الأولى، 1423هـ/2002م(4/1)
ص -3- ... تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب كتاب التّوحيد الذي هو حقّ الله على العبيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي رضي الإسلام للمؤمنين دينًا، ونصب الأدلة على صحته وبيّنها تبيينًا، وغرس التوحيد في قلوبهم، فأثمرت بإخلاصه فنونا، وأعانهم على طاعته هداية منه وكفى بربك هاديًا ومعينًا.
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}، [الإسراء: 111].
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً}، [الفرقان: 54-55].
وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له في ربوييته وإلهيته، تعالى عن ذلك {عُلُوّاً كَبِيراً}، [الإسراء، من الآية: 4].
{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}، [الفرقان: 59].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ( وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً}، [الأحزاب: 45-46].
وصلى اللّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أمّا بعد، فهذا شرحٌ لكتاب (التوحيد)1، وافٍ إن شاء اللّه تعالى بالتنبيه على بعض ما تضمنه من بيان أنواع التوحيد؛ إذ هو المقصود بالأصالة هنا، ولم أخله أيضًا من التنبيه على بعض ما يتضمنه من غير ذلك، إلا أن الأولى بنا هو بيان ما وضع لأجله الكتاب؛ لعموم الضرر والفساد الواقع من مخالفة ما فيه.(4/2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخة (أ) زيادة: (تأليف الشيخ الإمام محمّد بن عبد الوهاب, أحسن الله له المآب, وأجزل له الثواب).(4/3)
ص -4- ... والأصل في ذلك هو الإعراض عن الهدى والنور الذي أنزله اللّه تعالى على رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، والاستغناء عن ذلك بمتابعة الآباء والأهواء والعادات المخالفة لذلك.
ولهذا كرّر اللّه تعالى الأمر بمتابعة الكتاب والسنة في مواضعَ كثيرةٍ من القرآن، وضرب الأمثال لذلك، وأكّده وتوعد على الإعراض عنه، وما ذاك إلا لشدّة الحاجة، بل الضرورة إلى ذلك فوق كلّ ضرورة، فإنه لا صلاح للعبد ولا فلاح ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلاّ بذلك، ومتى لم يحصل ذلك للعبد فهو ميت.
كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام] فسمّى سبحانه وتعالى الخالي عن هذا الهدى والنور ميتًا، وسمى من حصل له ذلك حيًا، وذلك أنه لا مقصود به في حياة الدنيا إلا توحيد اللّه تعالى، ومعرفته وخدمته، والإخلاص له، والاستلذاذ بذكره، والتذلّل لعظمته، والانقياد لأوامره، والإنابة إليه، والإسلام له، فإذا حصل هذا للعبد، فهو الحي، يل قد حصلت له الحياة الطيبة في الدارين.
كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}1.
فإذا فاته هذا المقصود فهو ميّت، بل شرّ من الميت. قال اللّه تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}
وقال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}2 .
وقال تعالى:{قَدْ(4/4)
جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}3.
وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 97.
2 سورة الأنعام آية: 153.
3 سورة آية: 15-16.(4/5)
ص -5- ... جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً}1.
وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً...}2 إلى قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}3 4.وقال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}5.وقال تعالى:{وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً}6 .
وقال تعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}7.
قال ابن عباس: " تكفل اللّه لِمَن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألاّ{يَضِلُّ} في الدنيا،{وَلا يَشْقَى} في الآخرة .
وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ(4/6)
مُسْتَقِيمٍ}8.
فيا عجبًا مِمَّن يزعم أنّ الهداية والسعادة لا تحصل بالقرآن ولا بالسنة، مع أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يهتد إلا بذلك.
كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}9، ثم بعد ذلك يحيلها على قول فلان وفلان.
وقال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}10.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، فوجب على كلّ مَن عقل عن اللّه أن يكون على بصيرة ويقين في دينه.
كما قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}11.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 174.
2 سورة النساء آية: 59.
3 سورة النساء آية: 64.
4 سورة النساء آية: 65.
5 سورة النحل آية: 89.
6 سورة آية: 99-101.
7 سورة آية: 123-124.
8 سورة الشورى آية: 52.
9 سورة سبأ آية: 50.
10 سورة الحشر آية: 7.
11 سورة يوسف آية: 108.(4/7)
ص -6- ... ومحال أن يحصل اليقين والبصيرة إلا من كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،
وكيف ينال الهدى والإيمان مَن زعم أن ذلك لا يحصل من القرآن إنّما يحصل من الآراء الفاسدة التي هي زبالة الأذهان. تاللّه لقد مسخت عقول هذا غاية ما عندها من التحقيق والعرفان.
وهذه المتابعة لكتاب اللّه تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هي حقيقة دين الإسلام، الذي افترضه اللّه على الخاص والعام، وهو حقيقة الشهادتين الفارقتين بين المؤمنين والكفار، والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار، إذ معنى الإله: هو المعبود المطاع، وذلك هو دين اللّه الذي ارتضاه لنفسه وملائكته ورسله وأنبيائه.
فبه اهتدى المهتدون، وإليه دعا المرسلون.{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}1.{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}2، فلا يتقبل من أحد دينًا سواه من الأولين والآخرين.
كما قال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}3.
شهد اللّه تعالى بأنّه دينه قبل شهادة المخلوقين، وأنزلها تتلى في كتابه إلى يوم الدين. فقال تعالى وهو العزيز العليم:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}4.
جعل أهله هم الشهداء على الناس يوم القيامة، لما فضلهم به من الأقوال، والأعمال، والاعتقادات التي توجب إكرامه
فقال تعالى ولم يزل عزيزًا حميدا:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}5.
وفضله على سائر الأديان، فهو أحسنها حكمًا، وأقومها(4/8)
قيلا. فقال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}6.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 25.
2 سورة آل عمران آية: 83.
3 سورة آل عمران آية: 85.
4 سورة آل عمران آية: 18.
5 سورة البقرة آية: 143.
6 سورة النساء آية: 125.(4/9)
ص -7- ... وكيف لا يميز مَن له بصيرة بين دين {أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ}، [التّوبة، من الآية: 109], وارتفع بناؤه على طاعة الرحمن، والعمل بما يرضاه في السر والإعلان، وبين دينٍ {أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ}، [التّوبة، من الآية: 109]، بصاحبه في النار، أسس على عبادة الأصنام والأوثان، والالتجاء إلى الصالحين وغيرهم من الإنس والجان، عند الشدائد والأحزان، وصرف مخ العبادة لغير الملك الديان، ورجا النفع والعطاء والمنع مِمَّن لا يملك لنفسه نفعًا، ولا ضرا فضلاً عن غيره من نوع الإنسان، ودعوى التصرف في الملك لصالح رميم في التراب والأكفان.
قد عجز عن دفع ما حل به من أمر اللّه، فكيف يدفع عمَّن دعاه من بعيد الأوطان؟! أو فاسق يشاهدون فسقه وفجوره فهو أبعد الناس من الرحمن، أو ساحر يريهم من سحره ما يحير به الأذهان، فيظن المخذولون أنّها كرامة من اللّه، وإنّما هي من مخاريق الشيطان، تبًا لهم سدوا على أنفسهم باب العلم والإيمان، وفتحوا عليها باب الجهل والكفران. قابلوا خبر اللّه بالتكذيب، وأمره بالعصيان.
أخبر بأن الهدى والنور في كتابه، فقالوا: كان ذاك فيما مضى من
الزمان، وأمرهم باتباع ما {أُنْزِلَ} إليهم {مِنْ} ربهم، ولا يتبعوا {مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاء} [الأعراف، من الآية: 3]، فقالوا: لا بد لنا من ولي غير القرآن.
إن جئتهم بكتاب اللّه قالوا: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ}، [المائدة، من الآية: 104] أهل الزمان، أو جئتهم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قالوا: خالفها الشيخ فلان، وهو أعلم منا ومنكم، فاعتبروا يا أولي الإيمان. عمدوا إلى قبور الأنبياء والصالحين، فبنوا عليها البنيان، ونقشوا سقوفها والحيطان، وحلوها بالغالي من الأثمان، وألبسوها ألوان الستور الحسان، وجعلوا لها السدنة والخدام، فِعْل عباد الأوثان والصلبان، وذبحوا ونذروا لِمَن فيها،(4/10)
وقربّوا لهم القربان، وقالوا: {هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا}، [يونس، من الآية: 18] في كشف الكروب وغفران الذنوب ودخول الجنان.(4/11)
ص -8- ... أما مَن قدّره باسم تقديره: باسم اللّه ابتدائي. فلقوله تعالى:{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}1، ومَن قدّره بالفعل أمرًا أو خبرًا نحو: بدأ باسم اللّه، وابتدأت باسم اللّه، فلقوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}2، وكلاهما صحيح، فإنّ الفعل لا بد له من مصدر، فلك أن تقدّر الفعل ومصدره، وذلك بحسب الفعل الذي سَمَّيته قبله إن كان قيامًا أو قعودًا، أو أكلاً، أو شربًا، أو قراءة، أو وضوءًا، أو صلاة.
فالمشروع ذكر اسم اللّه تعالى في ذلك كله تبركًا وتيمنًا واستعانة على الإتمام والتقبل. وقدّره الزمخشري فعلاً مؤخرًا، أي: باسم اللّه أقرأ أو أتلو؛ لأن الذي يتلوه مقروء، وكل فاعل يبدأ في فعله باسم اللّه كان مضمرًا ما تجعل التسمية مبدأ له، كما أن المسافر إذا حلّ أو ارتحل، فقال: بسم اللّه، كان المعنى بسم اللّه أحل، وبسم اللّه أرتحل، وهذا أولى من أن يضمر أبدًا، لعدم ما يطابقه ويدل عليه، أو ابتدائي لزيادة الإضمار فيه، وإنّما قدم المحذوف متأخرًا وقدم المعمول، لأنه أهم وأدل على الاختصاص، وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود، فإن اسم اللّه تعالى مقدَّم على القراءة، كيف وقد جعل آلة لها من حيث إنّ الفعل لا يعتد به شرعًا ما لم يصدر باسمه تعالى.
وأما ظهور فعل القراءة في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}3؛ فلأن الأهمّ ثمة القراءة، ولذا قدّم الفعل فيها على متعلقه،بخلاف البسملة فإنّ الأهم فيها الابتداء،قاله البيضاوي.
وهذا القول أحسن الأقوال، وأظنه اختيار شيخ الإسلام، وقد ألم به ابن كثير إلا أنه جعل المحذوف مقدرًا قبل البسملة وذكر ابن القيم لحذف العامل في بسم اللّه فوائدَ عديدةً:
منها: أنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه سوى ذكر اللّه تعالى، فلو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية: 41.
2 سورة العلق آية: 1.
3 سورة العلق آية: 1.(4/12)
ص -9- ... ذكرت الفعل وهو لا يستغني عن فاعله، كان ذلك مناقضًا للمقصود، فكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى ليكون المبدوء به اسم اللّه، كما تقول في الصلاة: اللّه أكبر، ومعناه: من كل شيء، ولكن لا تقول هذا القدر ليكون اللفظ مطابقًا لمقصود الجنان، وهو أن لا يكون في القلب إلا ذكر اللّه وحده، فكما تجرد ذكره في قلب المصلي تجرد ذكره في لسانه.
ومنها: أن الفعل إذا حذف صحّ الابتداء بالتسمية في كل عمل وقول وحركة، وليس فعل أولى بها من فعل، فكان الحذف أعم من الذكر، فأي فعل ذكرته كان المحذوف أعم منه.
(اللّه): عَلَمٌ على الرب تبارك وتعالى. ذكر سيبويه أنه أعرف المعارف.
ويقال: إنه الاسم الأعظم، لأنه يوصف بجميع الصفات، كما قال تعالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}1، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له.
واختلفوا هل هو اسم جامد أو مشتق؟ على قولين؛ أصحهما أنه مشتق. قال ابن جرير [الطّبري]: فإنه على ما روي لنا عن ابن عباس قال: "اللّه ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين" .
وذكر سيبويه عن الخليل أن أصله إله مثل فعال، فأدخلت الألف واللام بدلاً من الهمزة. قال سيبويه: مثل الناس أصله إناس.
وقال الكسائي والفراء: أصله الإله، حذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية. وعلى هذا فالصحيح أنه مشتق من أله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحشر آية: 24.(4/13)
ص -10- ... الرجل: إذا تعبد، كما قرأ ابن عباس: {ويذرك وإلهتك}1، أي: عبادتك، وأصله الإله، أي: المعبود، فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة، فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام التي للتعريف، فأدغمت إحداهما في الأخرى، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة وفخمت تعظيما، فقيل: اللّه.
قال ابن القيم: "القول الصحيح أن (اللّه)، أصله: (الإله)، كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم، وإن اسم اللّه تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلا. قال: وزعم السهيلي وشيخه أبو بكر بن العربي: "أن اسم اللّه غير مشتق، لأن الاشتقاق يستلزم مادة يشتق منها، واسمه تعالى قديم، والقديم لا مادة له فيستحيل الاشتقاق"، ولا ريب أنه إن أريد بالاشتقاق هذا المعنى، وأنه مستمد من أصل آخر فهو باطل، ولكن الذين قالوا بالاشتقاق لم يريدوا هذا المعنى، ولا ألم بقلوبهم، وإنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى، وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم، والقدير، والغفور، والرحيم، والسميع، والبصير. فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهي قديمة، والقديم لا مادة له، فما كان جوابكم عن هذه الأسماء فهو جواب القائلين باشتقاق اسم اللّه تعالى، ثم الجواب عن الجميع أنا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله. وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه ـ أصلاً وفرعًا ـ ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر، وإنما
هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة.
وذكر ابن القيم لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية ثم قال: وأما خصائصه المعنوية فقد قال فيها أعلم الخلق به ـ صلّى الله عليه وسلّم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من سورة الأعراف من الآية: 127، وهي ليس من القراءات العشر.(4/14)
ص -11- ... فباللّه صِفْ لي شرك المشركين، هل هو بعينه إلا هذا كما نطق به القرآن في سورة يونس، والزمر[3]، وغيرهما من محكمات الفرقان.
1- إن غرّك أنّ الأكثر عليه، فقد حكم اللّه بأنهم {أَضَلُّ سَبِيلاً}، [الفرقان، من الآية: 144]، من الأنعام، إذ استبدلوا الشرك بالتوحيد، والضلال بالهدى، والكفر بالإسلام، نعوذ باللّه من موجبات غضبه وأليم عقابه فهو السلام.
2- أو غرّك أنّ بعض مَنْ تعظمه قد رأى شيئًا من هذا أو قاله، فالخطأ جائز على مَنْ سوى الرسول من الأنام. فعليك بالرجوع إلى العصمة الذي لا سبيل إلى تطرق الخطأ إليه، وهو كلام ذي الجلال والإكرام، وسنة رسوله ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ، مع ما قاله العلماء الأعلام، الذين نطقوا بكلمة التوحيد وحققوها بالأعمال والكلام.
ولم يزل الحال على ما وصفنا لك من الأمور العِظام منتشرًا في أهل البلدان المنتسبين إلى الإسلام، المارقين منه كما تمرق الرمية من السهام،
إلى أن أراد اللّه إزالة تلك الظلمات، وكشف البدع والضلالات، ونفي الشبهات والجهالات، وتصديق بشارة رسول رب الأرض والسموات، في قوله صلى الله عليه وسلم "إن اللّه يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"1، رواه أبو داود (4291)، والحاكم (4/522)، والبيهقي في (المعرفة 52) وإسناده صحيح - على يدي مَن أقامه هذا المقام، ومنحه جزيل الفضل والإنعام، أعني به: الشيخ الإمام خلف السلف الكرام، المتبع لهدي سيد الأنام، المنافح عن دين اللّه في كلّ مقام، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ـ أحسن اللّه له المآب، وضاعف له الثواب ـ، فدعا إلى اللّه ليلاً ونهارًا، وسرًا وجهارًا، وقام بأمر اللّه في الدعوة إليه، وما حابى أحدًا فيه ولا دارى، فعظم على الأكثرين وأنفوا استكبارًا، ولم يثنه ذلك عن أمر اللّه حتى قيض اللّه له أعوانًا وأنصارًا، فرفعوا ألويته وأعلامه حتى انتشرت في الخافقين انتشارًا.(4/15)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الملاحم (4291).(4/16)
ص -12- ... وصنف ـ رحمه اللّه تعالى ـ التصانيف في توحيد الأنبياء والمرسلين، والرّدّ على مَن خالفه من المشركين، ومن جملتها: كتاب (التوحيد)، وهو كتاب فرد في معناه، لم يسبقه إليه سابق، ولا لحقه فيه لاحق، وهو الذي قصدت الكلام عليه إن شاء اللّه تعالى، وإن كنتُ لستُ مِمَّن يتصدّى لهذا الشأن، لكن لما رأيتُ الكتاب لم يتعرض للكلام عليه أحد يعتد به، ورأيتُ تشوق الطلبة والإخوان إلى شرح يفي ببعض ما فيه من المقاصد، أحببت أن أسعفهم بمرادهم على حسب طاقتي، "واللّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"1؛ ولذلك يسر اللّه الكلام عليه، ومنّ به من عنده
وحده لا شريك له بحوله وقوته، لا بحولي وقوتي، فناسب أن يسمى:
(تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد).
وحيث أطلقت:
شيخ الإسلام، فالمراد به الإمام أبو العباس بن تيمية.
والحافظ، فالمراد به أبو الفضل بن حجر العسقلاني، صاحب (فتح الباري) وغيره ـ رحمهما اللّه تعالى ـ.
وأسأل اللّه تعالى أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو في: صحيح مسلم 26/99.(4/17)
ص -13- ... بسم الله الرحمن الرحيم
افتتح المصنِّف ـ رحمه اللّه ـ كتابه بالبسملة، اقتداء بالكتاب العزيز، وعملاً بالحديث: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع"1. رواه الحافظ عبد القادر الرهاوي في (الأربعين) من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وأخرجه الخطيب في (الجامع 12/10) بنحوه.
فإن قلت: هلا جمع المصنف بين البسملة والحمدلة، لِمَا روى ابن ماجه (1894)، والبيهقي (3/208) عن أبي هريرة مرفوعًا: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد للّه فهو أقطع"2. وفي رواية لأحمد (8686):" لا يفتح بذكر اللّه فهو أبتر وأقطع "3 .
قيل: المراد الافتتاح بما يدل على المقصود مِن حمد اللّه والثناء عليه، لأن الحمد متعين، لأن القدر الذي يجمع ذلك هو ذكر اللّه وقد حصل بالبسملة.
وأيضا فليس في الحديث ما يدلّ على أنه تتعين كتابتها مع النطق بها، فقد يكون المصنِّف نطق بذلك في نفسه4.
واتفق العلماء على أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف قدّره الكوفيون فعلاً مقدمًا، والتقدير: أبدأ، وقدّره البصريون اسمًا مقدمًا، والتقدير: ابتدائي كائن، أو مستقر. قال: فالجار والمجرور في موضع نصب على الأوّل، وعلى الثّاني في موضع رفع. وذكر ابن كثير أن القولين متقاربان، وكلٌّ قد ورد به القرآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الأدب (4840) , وابن ماجه: النكاح (1894).
2 أبو داود: الأدب (4840) , وابن ماجه: النكاح (1894).
3 أبو داود: الأدب (4840) , وابن ماجه: النكاح (1894) , وأحمد (2/359).
4 لكن الحمدل قد ثبتت في بعض النّسخ، وعليها شرح صاحب: (فتح المجيد).(4/18)
ص -14- ... "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"1، وكيف تحصى خصائص اسم مسمَّاه؛ كل كمال على الإطلاق وكل مدح وكل حمد وكل ثناء وكل مجد وكل جلال وكل إكرام وكل عز وكل جمال وكل خير وإحسان وجود وبر وفضل فله ومنه؟! فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثّره، ولا عند خوف إلا أزاله، ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند هم وغم إلا فرّجه، ولا عند ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز، ولا فقير إلا أصاره غنيًا، ولا مستوحش إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه. فهو الاسم الذي تكشف به الكربات، وتستنْزل به البركات والدعوات، وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات، وتستجلب به الحسنات. وهو الاسم الذي به قامت السموات والأرض، وبه أنزلت الكتب، وبه أرسلت الرسل، وبه شرعت الشرائع، وبه قامت الحدود، وبه شرع الجهاد، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء، وبه حقت {الْحَاقَّةُ}، و{وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}، وبه وضعت {الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ}، ونصب الصراط، وقام سوق الجنة والنار، وبه عبد رب العالمين وحمد، وبحقه بعثت الرسل، وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور، وبه الخصام، وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة، وبه سعد مَنْ عرفه وقام بحقه، وبه شقي مَنْ جهله وترك حقه، فهو سر الخلق والأمر، وبه قاما وثبتا، وإليه انتهيا، فالخلق والأمر به وإليه ولأجله، فما وجد خلق ولا أمر ولا ثواب ولا عقاب إلا مبتدئًا منه، منتهيًا إليه، وذلك موجبه ومقتضاه، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}2 إلى آخر كلامه رضي الله عنه.
(الرحمن الرحيم)، قال ابن كثير: اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، و(رحمن) أشد مبالغة من (رحيم). قال ابن عباس: " وهما اسمان رقيقان؛ أحدهما أرق من الآخر ". أي: أوسع رحمة. وقال(4/19)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497).
2 سورة آل عمران آية: 191.(4/20)
ص -15- ... ابن المبارك: " الرحمن إذا سئل أعطى، والرحيم إذا لم يسأل يغضب".
قلت: كأن فيه إشارة إلى معنى كلام ابن عباس؛ لأن رحمته تعالى تغلب غضبه، وعلى هذا فالرحمن أوسع معنى من الرحيم كما يدل عليه زيادة البناء.
وقال أبو علي الفارسي: (الرحمن) اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به اللّه تعالى، و(الرحيم) إنما هو في جهة المؤمنين. قال اللّه تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}1، ونحوه قال بعض السلف. ويشكل عليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}2. وقوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الحديث: " رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ".
فالصواب ـ إن شاء اللّه تعالى ـ ما قاله ابن القيم أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته. وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} {نَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}3 4 ولم يجئ قط (رحمن بهم)، فعلم أن رحمن هو الموصوف بالرحمة، و(رحيم)، هو الراحم برحمته. والرحمن الرحيم نعتان للّه تعالى.
واعترض بورود اسم الرحمن غير تابع لاسم قبله. قال تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}5 فهو علم فكيف ينعت به؟
والجواب ما قاله ابن القيم: إن أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت؛ فإنها دالة على صفات كماله، فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية، فـ (الرحمن) اسمه تعالى ووصفه تعالى لا ينافي اسميته، فمن حيث هو صفة جرى تابعًا لاسم اللّه تعالى، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع، بل ورد الاسم العلم. ولما كان هذا الاسم مختصًا به سبحانه حسن مجيئه مفردًا غير تابع كمجيء اسم اللّه، وهذا لا ينافي دلالته على صفة الرحمة كاسم اللّه، فإنه دال(4/21)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب آية: 43.
2 سورة البقرة آية: 143.
3 سورة الأحزاب آية: 43.
4 سورة التوبة آية: 117.
5 سورة طه آية: 5.(4/22)
ص -16- ... على صفة الألوهية فلم يجئ قط تابعا لغيره بل متبوعًا، وهذا بخلاف العليم والقدير والسميع والبصير ونحوها، ولهذا لا تجيء هذه مفردة بل تابعة.
قلت: قوله عن اسم اللّه: (ولم يجئ قط تابعًا لغيره)، بل لقد جاء في قوله تعالى: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ[مَا فِي] الأَرْضِ}1، على قراءة الجر، وجواب ذلك من كلامه المتقدم، فيقال فيه ما قاله في اسم الرحمن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة إبراهيم آياتان: 1-2.(4/23)
ص -17- ... [كتاب التوحيد]
أنواع التوحيد:
(النوع الأول): توحيد الربوبية والملك.
الـ (كتاب) مصدر كتب يكتب كتابًا وكتابة وكتبًا، ومدار المادة على الجمع. ومنه تكتب بنو فلان: إذا اجتمعوا. والكتيبة لجماعة الخيل، والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف، وسمي الكتاب كتابًا لجمعه ما وضع له، ذكره غير واحد.
و(التوحيد): مصدر وحد يوحد توحيدًا، أي: جعله واحدًا، وسمي دين الإسلام توحيدًا؛ لأن مبناه على أن اللّه واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له، وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له، وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له، وإلى هذه الأنواع الثلاثة ينقسم توحيد الأنبياء، والمرسلين الذين جاؤوا به من عند اللّه، وهي متلازمة، كل نوع منها لا ينفك عن الآخر، فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر، فما ذاك إلا أنه لم يأت به على وجه الكمال المطلوب. وإن شئت قلت: التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات ـ وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات ـ، وتوحيد في الطلب والقصد؛ وهو توحيد الإلهية والعبادة. ذكره شيخ الإسلام، وابن القيم وذكر معناه غيرهما.
(النوع الأول): توحيد الربوبية والملك:
وهو: الإقرار بأن اللّه تعالى رب كل شيء ومالكه وخالقه ورازقه، وأنه المحيي المميت النافع الضار المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، القادر على ما يشاء، ليس له في ذلك شريك، ويدخل في ذلك الإيمان بالقدر، وهذا التوحيد لا يكفي العبد في حصول الإسلام، بل لا بد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الإلهية، لأن اللّه تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد للّه وحده،قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ(4/24)
ص -18- ... وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}1. وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}2.وقال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}3.وقال تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}4. فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك للّه وحده ولم يكونوا بذلك مسلمين بل قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}5. قال مجاهد في الآية: إيمانهم باللّه قولهم: إن اللّه خلقنا ويرزقنا ويميتنا، فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وعن ابن عباس وعطاء والضحاك نحو ذلك، فتبين أن الكفار يعرفون اللّه ويعرفون ربوبيته، وملكه وقهره، وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعًا من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك.
ويدّعون أنهم على ملة إبراهيم ـ عليه السلام ـ، فأنزل اللّه تعالى:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}6 وبعضهم يؤمن بالبعث والحساب، وبعضهم يؤمن بالقدر.
كما قال زهير:
يؤخّر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينقم .
وقال عنترة:
يا عبل أين من المنية مهرب
إن كان ربي في السماء قضاها .(4/25)
ومثل هذا يوجد في أشعارهم، فوجب على كل من عقل عن اللّه تعالى أن ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم، وسبي نسائهم، وإباحة أموالهم، مع هذا الإقرار والمعرفة، وما ذاك إلا لإشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا اللّه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية: 31.
2 سورة الزخرف آية: 87.
3 سورة العنكبوت آية: 63.
4 سورة النمل آية: 62.
5 سورة يوسف آية: 106.
6 سورة آل عمران آية: 67.(4/26)
ص -19- ... (النوع الثاني): توحيد الأسماء والصفات:
وهو الإقرار بأن{اللّه بكل شيء عليم}، و{على كل شيء قدير}، وأنه{الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم}، له المشيئة النافذة، والحكمة البالغة، وأنه{سميع بصير}،{رؤوف رحيم}،{على العرش استوى}، وعلى الملك احتوى، وأنه {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، [الحشر، من الآية: 23]. إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى، والصفات العلى.
وهذا أيضًا لا يكفي في حصول الإسلام، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه، من توحيد الربوبية والإلهية. والكفار يقرون بجنس هذا النوع، وإن كان بعضهم قد ينكر بعض ذلك، إما جهلاً، وإما عنادًا، كما قالوا: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، فأنزل اللّه فيهم:{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}1.
قال الحافظ ابن كثير: والظاهر أن إنكارهم هذا، إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم، فإنه قد وجد في بعض أشعار الجاهلية تسمية اللّه بالرحمن.
قال الشاعر:
وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
وقال الآخر:
ألا قضب الرحمن ربي يمينها
وهما جاهليان.
وقال زهير:
فلا تكتمن اللّه ما في نفوسكم ليخفى
ومهما يكتم اللّه يعلم
قلت: ولم يعرف عنهم إنكار شيء من هذا التوحيد إلا في اسم الرحمن خاصة، ولو كانوا ينكرونه لردّوا على النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ذلك، كما ردّوا عليه توحيد الإلهية. فقالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ}2، لاسيما السور المكية مملوءة بهذا التوحيد.
[(النوع الثالث): توحيد الإلهية:]
المبني على إخلاص التأله للّه تعالى، من المحبة والخوف، والرجاء والتوكل، والرغبة والرهبة، والدعاء للّه وحده. وينبني على ذلك إخلاص العبادات كلها ظاهرها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الرعد آية: 30.
2 سورة ص آية: 5.(4/27)
ص -20- ... وباطنها لله وحده لا شريك له، لا يجعل فيها شيئًا لغيره، لا لملك مقرَّب، ولا لنبي مرسّل، فضلاً عن غيرهما. وهذا التوحيد هو الذي تضمنه قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}1. وقوله تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}2. وقوله تعالى:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}3. وقوله تعالى:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلمُ لَهُ سَمِيّاً}4. وقوله تعالى:{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}5. وقوله تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً}6. وقوله:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}7. وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول: لا إله إلا اللّه. فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة، والخشية، والإجلال، والتعظيم، وجميع أنواع العبادة، ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار. قال اللّه تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}8. فهذا أول أمر في القرآن. وقال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}9.
فهذا دعوة أول رسول بعد حدوث الشرك. وقال هود لقومه:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}10. وقال صالح لقومه:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}11. وقال شعيب(4/28)
لقومه:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}12. وقال إبراهيم ـ عليه السلام ـ لقومه:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}13. وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}14 وقال تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفاتحة آية: 5.
2 سورة هود آية: 123.
3 سورة التوبة آية: 129.
4 سورة مريم آية: 65.
5 سورة هود آية: 88.
6 سورة الفرقان آية: 58.
7 سورة الحجر آية: 99.
8 سورة البقرة آية: 21.
9 سورة المؤمنون 23.
10 سورة الأعراف آية: 59، و65.
11 سورة هود آية: 61.
12 سورة الأعراف آية: 59، 85.
13 سورة الأنعام آية: 79.
14 سورة الأنبياء آية: 25.(4/29)
ص -21- ... الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}1. وقال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}2.
وقال (هرقل) لأبي سفيان ـ لما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول لكم؟ ـ قال: يقول: "اعبدوا اللّه، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم"3. وقال النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لمعاذ: "إنك تأتي قومًا أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا اللّه"4. وفي رواية:"أن يوحدوا اللّه".
وهذا التوحيد هو أول واجب على المكلف، لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك في اللّه، كما هي أقوال لِمَن لم يدر ما بعث اللّه به رسول اللّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من معاني الكتاب والحكمة، فهو أول واجب وآخر واجب، وأوّل ما يدخل به الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "مَنْ كان آخر كلامه (لا إله إلا اللّه) دخل الجنة"5. حديث صحيح. وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدا رسول اللّه"6 متفق عليه.
وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح وأبدأ فيه وأعاد، وضرب لذلك الأمثال، بحيث إن كل سورة في القرآن ففيها الدلالة على هذا
التوحيد، ويسمى هذا النوع:
1- توحيد الإلهية؛ لأنه مبني على إخلاص التأله، وهو أشد المحبة للّه وحده، وذلك يستلزم إخلاص العبادة.
2- وتوحيد العبادة لذلك.
3- وتوحيد الإرادة، لأنه مبني على إرادة وجه اللّه بالأعمال.
4- وتوحيد القصد، لأنه مبني على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة لله وحده.
5- وتوحيد العمل، لأنه مبني على إخلاص العمل للّه وحده. قال اللّه تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ}7. وقال:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّين وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}8.{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ(4/30)
دُونِهِ...}9،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف آية: 45.
2 سورة الذاريات آية: 56.
3 البخاري: بدء الوحي (7)، ومسلم 1773.
4 البخاري: الزكاة (1395) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) والبر والصلة (2014), والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614).
5 أبو داود: الجنائز (3116) , وأحمد (5/233 ,5/247).
6 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22).
7 سورة الزمر آية: 2.
8 سورة الزّمر آية: 11-12.
9 سورة الزّمر آية: 14-15.(4/31)
ص -22- ... إلى قوله:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ...}1، إلى قوله:{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ...}2 الآية، إلى قوله:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً...}3، إلى قوله:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ...}4 إلى قوله:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ...}5 إلى آخر سورة الزّمر.
فكل هذه السور في الدعاء إلى هذا التوحيد، والأمر به، والجواب عن الشبهات والمعارضات، وذكر ما أعد اللّه لأهله من النعيم المقيم، وما أعد لِمَن خالفه من العذاب الأليم. وكل سورة في القرآن بل كل آية في القرآن، فهي داعية إلى هذا التوحيد، شاهدة به، متضمنة له، لأن القرآن:
1- إما خبر عن اللّه تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو توحيد الربوبية، وتوحيد الصفات فذاك مستلزم لهذا، متضمن له.
2- وإما دعاء إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه أو أمر بأنواع من العبادات، ونهي عن المخالفات، فهذا هو توحيد الإلهية والعبادة، وهو مستلزم للنوعين الأولين، متضمن لهما أيضًا.
3- وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم(4/32)
به في الآخرة، فهو جزاء توحيده.
4- وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بها في العقبى من الوبال، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
وهذا التوحيد هو حقيقة دين الإسلام الذي لا يقبل اللّه من أحد سواه، كما قال النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 29.
2 سورة الزمر آية: 38.
3 سورة الزّمر آية: 43-44.
4 سورة الزمر آية: 54.
5 سورة الزّمر آية: 64-66.(4/33)
ص -23- ... لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت"1. رواه البخاري ومسلم، فأخبر أن دين الإسلام مبني على هذه الأركان الخمسة وهي الأعمال، فدل على أن الإسلام هو عباد ة اللّه وحده لا شريك له، بفعل المأمور، وترك المحظور، والإخلاص في ذلك للّه.
وقد تضمن ذلك جميع أنواع العبادة، فيجب إخلاصها للّه تعالى، فَمَنْ أشرك بين اللّه تعالى وبين غيره في شيء فليس بمسلم.
1- فمنها: المحبة، فمن أشرك بين اللّه تعالى وبين غيره في المحبة التي لا تصلح إلا للّه، فهو مشرك
كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ...} إلى قوله تعالى:{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}2 .
ومنها: التوكل، فلا يتوكل على غير اللّه فيما لا يقدر عليه إلا اللّه، قال اللّه تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}3.{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}4. والتوكل على غير اللّه فيما يقدر عليه شرك أصغر.
2- ومنها: الخوف، فلا يخاف خوف السر إلا من اللّه. ومعنى خوف السر، هو أن يخاف العبد من غير اللّه تعالى أن يصيبه مكروه بمشيئته وقدرته وإن لم يباشره، فهذا شرك أكبر، لأنه اعتقادٌ للنفع والضر في غير اللّه. قال اللّه تعالى:{فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}5. وقال تعالى:{فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}6. وقال تعالي:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}7 .
3- ومنها: الرجاء فيما لا يقدر عليه إلا اللّه؛ كمَنْ يدعو الأموات أو غيرهم راجيًا حصول مطلوبه من جهتهم فهذا شرك أكبر.(4/34)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/26 ,2/92 ,2/120 ,2/143).
2 سورة البقرة آية: 167-167.
3 سورة المائدة آية: 23.
4 سورة آل عمران آية: 122.
5 سورة النحل آية: 51.
6 سورة المائدة آية: 44.
7 سورة يونس آية: 107.(4/35)
ص -24- ... قال اللّه تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ}1. وقال علي رضي الله عنه: "لا يرجونّ عبد إلا ربَّه".
ومنها: الصلاة والركوع والسجود. قال اللّه تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}2. وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ...}3.
4- ومنها: الدعاء فيما لا يقدر عليه إلا اللّه، سواء كان طلبًا للشفاعة أو غيرها من المطالب.
قال اللّه تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}4.
وقال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}5. وقال تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ}6. وقال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}7.
5- ومنها: الذبح، قال اللّه تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}8. والنسك: الذبح.
6- ومنها: النذر، قال اللّه تعالى:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}9. وقال تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}10.
7- ومنها: الطواف، فلا يطاف إلا ببيت اللّه. قال اللّه تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}11.
8- ومنها:(4/36)
التوبة، فلا يتاب إلا للّه. قال اللّه تعالى:{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ}12. وقال تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}13.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 218.
2 سورة الكوثر آية: 2.
3 سورة الحج آية: 77.
4 سورة فاطر آية: 13-14.
5 سورة غافر آية: 60.
6 سورة يونس آية: 106.
7 سورة الزّمر آية: 43-44.
8 سورة الزّمر الأنعام آية: 162-163.
9 سورة الحج آية: 29.
10 سورة الإنسان آية: 7.
11 سورة الحج آية: 29.
12 سورة آل عمران آية: 135.
13 سورة النور آية: 31.(4/37)
ص -25- ... 9- ومنها: الاستعاذة فيما لا يقدر عليه إلا اللّه. قال اللّه تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}1. وقال تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}2.
10- ومنها: الاستغاثة فيما لا يقدر عليه إلا اللّه. قال اللّه تعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}3.
فمن أشرك بين اللّه تعالى وبين مخلوق ـ فيما يختص بالخالق تعالى من هذه العبادات أو غيرها ـ، فهو مشرك. وإنما ذكرنا هذه العبادات خاصة؛ لأن عباد القبور صرفوها للأموات من دون اللّه تعالى، أو أشركوا بين اللّه تعالى وبينهم فيها، وإلا فكل نوع من أنواع العبادة، مَنْ صرفه لغير اللّه، أو شرك ـ بين اللّه تعالى وبين غيره فيه ـ، فهو مشرك. قال اللّه تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}4 .
وهذا الشرك في العبادة هو الذي كفر اللّه به المشركين، وأباح به دماءهم وأموالهم ونساءهم، وإلا فهم يعلمون أن اللّه هو الخالق الرازق المدبر، ليس له شريك في ملكه، وإنما كانوا يشركون به في هذه العبادات ونحوها، وكانوا يقولون في تلبيتهم:
لبيك لا شريك لك
إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملّك
فأتاهم النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالتوحيد ـ الذي هو معنى لا إله إلا اللّه الذي مضمونه: أن لا يُعْبَدَ إلا اللّه، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما ـ فقالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}5.
وكانوا يجعلون {مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً}، [الأنعام، من الآية: 136]، للّه وللآلهة مثل ذلك، فإذا صار شيء من الذي للّه إلى الذي للآلهة تركوه لها، وقالوا: اللّه غني، وإذا صار شيء من الذي للآلهة إلى الذي للّه تعالى ردّوه، وقالوا: اللّه غني، والآلهة فقيرة
فأنزل اللّه تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ(4/38)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفلق آية: 1.
2 سورة الناس آية: 1.
3 سورة الأنفال آية: 9.
4 سورة النساء آية: 36.
5 سورة ص آية: 5.(4/39)
ص -26- ... مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}1.
وهذا بعينه يفعله عباد القبور، بل يزيدون على كل ذلك فيجعلون للأموات نصيبًا من الأولاد.
إذا تبين هذا، فاعلم أن الشرك ينقسم ثلاثة أقسام بالنسبة إلى أنواع التوحيد، ـ وكل منها قد يكون أكبر وأصغر مطلقًا، وقد يكون أكبر بالنسبة إلى ما هو أصغر منه، ويكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه ـ.
القسم الأول: الشرك في الربوبية:
أحدهما: شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كـ:
1- شرك فرعون. إذ قال:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}؟
2- ومن هذا شرك الفلاسفة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدومًا أصلاً، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها، يسمونها: العقول، والنفوس.
3- ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود، كابن عربي، وابن سبعين، والعفيف التلمساني، وابن الفارض، ونحوهم من الملاحدة الذين كسوا الإلحاد حلية الإسلام، ومزجوه بشيء من الحق، حتى راج أمرهم على خفافيش البصائر.
4- ومن هذا شرك من عطّل أسماء الرب وأوصافه، من غلاة الجهمية، والقرامطة.
النوع الثاني: شرك من جعل معه إلهًا آخر ولَمْ يعطل أسماءه وصفاته
وربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، وشرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة.
ومن هذا شرك كثير مِمَّن يشرك بالكواكب العلويات، ويجعلها مدبرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 136.(4/40)
ص -27- ... قلت: ويلتحق به من وجه شرك غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت، فيقضون الحاجات، ويفرجون الكربات، وينصرون من دعاهم، ويحفظون مَنْ التجأ إليهم، ولاذ بحماهم، فإنّ هذه من خصائص الربوبية، كما ذكره بعضهم في هذا النوع.
القسم الثاني: الشرك في توحيد الأسماء والصفات.
وهو أسهل مما قبله، وهو نوعان:
أحدهما: تشبيه الخالق بالمخلوق، كمَنْ يقول: يد كيدي، وسمع كسمعي، وبصر كبصري، واستواء كاستوائي، وهو شرك المشبهة.
الثاني: اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الإله الحق. قال اللّه تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}1.
قال ابن عباس: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}، [الأعراف، من الآية: 180]: يشركون، وعنه: سموا اللات من الإله، والعُزَّى من العزيز.
القسم الثالث: الشرك في توحيد الإلهية والعبادة.
قال القرطبي: أصل الشرك المحرَّم اعتقاد شريكٍ للّه تعالى في الإلهية، وهو الشرك الأعظم، وهو شرك الجاهلية، ويليه في الرتبة اعتقاد شريكٍ للّه تعالى في الفعل، وهو
قول مَنْ قال: إن موجودًا ما غير اللّه تعالى يستقل بإحداث فعلٍ وإيجاده وإن لم يعتقد كونَه إلهًا، هذا كلام القرطبي.
وهو نوعان:
أحدهما: أن يجعل للّه ندًا يدعوه كما يدعو اللّه، ويسأله الشفاعة كما يسأل اللّه، ويرجوه كما يرجو اللّه، ويحبه كما يحب اللّه، ويخشاه كما يخشى اللّه. وبالجملة فهو أن يجعل اللّه ندًا يعبده كما يعبد اللّه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 180.(4/41)
ص -28- ... وهذا هو الشرك الأكبر، وهو الذي قال اللّه فيه:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}1. وقال:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}2. وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون}3.
وقال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}4. والآيات في النهي عن هذا الشرك وبيان بطلانه كثيرة جدًا.
الثاني: الشرك الأصغر، كيسير الرياء والتصنع للمخلوق، وعدم الإخلاص للّه تعالى في العبادة، بل يعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب المنْزلة والْجاه عند الخلق تارة، فله من عمله نصيب، ولغيره منه نصيب، ويتبع هذا النوعَ الشركُ باللّه في الألفاظ، كالْحلفِ بغير اللّه وقول: ما شاء اللّه وشئت، ومالي إلا اللّه وأنت، وأنا في حسب اللّه وحسبك، ونحوه. وقد يكون ذلك شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. هذا حاصل كلام ابن القيم وغيره.
وقد استوفى المصنف ـ رحمه اللّه ـ بيان جنس العبادة التي يجب إخلاصها للّه بالتنبيه على بعض أنواعها، وبيان ما يضادُّها من الشرك باللّه تعالى في العبادات والإرادات والألفاظ، كما سيمر بك ـ إن شاء اللّه تعالى ـ مفصلا في هذا الكتاب، فاللّه تعالى يرحمه ويرضى عنه.
فإن قلت: هلا أتى المصنف رحمه اللّه بخطبة تنبئ عن مقصده، كما صنع غيره؟
قيل: كأنه - واللّه أعلم - اكتفى بدلالة الترجمة الأولى على مقصوده، فإنه صدره بقوله: (كتاب التوحيد) وبالآيات التي ذكرها(4/42)
وما يتبعها، مما يدل على مقصوده، فكأنه قال: قصدت جمعَ أنواع توحيد الإلهية التي وقع أكثر الناس في الإشراك فيها وهم لا يشعرون، وبيان شيء مما يضاد ذلك من أنواع الشرك، فاكتفى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 36.
2 سورة النحل آية: 36.
3 سورة يونس آية: 18.
4 سورة السجدة آية: 4.(4/43)
ص -29- ... بالتلويح عن التصريح. والألف واللام في التوحيد للعَهْدِ الذِّهْنِي.
قوله: وقول اللّه تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون}1.
يجوز في (قول اللّه) الرفع والجر، وهكذا حكم ما يمر بك من هذا الباب.
قال شيخ الإسلام: العبادة هي طاعة اللّه بامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل.
وقال أيضًا: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه اللّه ويرضاه، من الأقوال، والأعمال الباطنة والظاهرة.
قال ابن القيم: ومدارها على خمس عشر قاعدة، من كملها كمل
مراتب العبودية، وبيان ذلك أن العبادة منقسمة على القلب، واللسان، والجوارح.
والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح. وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح.
وقال القرطبي: أصل العبادة: التذلل والخضوع، وسُمِّيَتْ وظائف الشرع على المكلفين عبادات، لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين للّه تعالى.
وقال ابن كثير [عند الفاتحة آية: 5]: العبادة في اللغة من الذلة، يقال: طريق معبَّد وغير معبَّدٍ، أي: مذلّل. وفي الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، وهكذا ذكر غيرهم من العلماء.
ومعنى الآية: أن اللّه تعالى أخبر أنه ما خلق الإنس والجن إلا لعبادته، فهذا هو الحكمة في خلقهم، ولم يرد منهم ما تريده السادة من عبيدها من الإعانة لهم بالرزق والإطعام، بل هو الرازق ذو القوة المتين، الذي يطعم ولا يطعم، كما قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الذاريات آية: 56.(4/44)
ص -30- ... أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}1.
وعبادته هي طاعته بفعل المأمور، وترك المحظور، وذلك هو حقيقة دين الإسلام، لأن معنى الإسلام هو: الاستسلام للّه المتضمن غاية الانقياد، في غاية الذل والخضوع.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الآية: إلا لآمُرَهم أن يعبدوني، وأدعوهم إلى عبادتي.
وقال مجاهد: إلا لآمُرَهم وأنْهاهم، واختاره الزجاج وشيخ الإسلام. قال: ويدل على هذا قوله:{أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً}2. قال الشافعي: لايؤمر ولا ينهى.
وقوله:{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ}3، أي: لولا عبادتكم إياه.
وقد قال في القرآن في غير موضع:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ،{اتَّقُوا رَبَّكُمُ}، فقد أمرهم بما خلقوا له، وأرسل الرسل إلى الجن والإنس بذلك، وهذا المعنى هو الذي قصد الآية قطعًا، وهو الذي يفهمه جماهير المسلمين، ويحتجون بالآية عليه، ويقرون أن اللّه إنما خلقهم ليعبدوه العبادة الشرعية ـ وهي طاعته وطاعة رسله ـ، لا ليضيعوا حقه الذي خلقهم له.
قال: وهذه الآية تشبه قوله تعالى:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}4. وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}5. ثم قد يطاع وقد يعصى. وكذلك ما خلقهم إلا للعبادة، ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون. وهو سبحانه لم يقل: إنه فعل الأول وهو خلقهم ليفعل بهم كلهم الثاني وهو عبادته، ولكن ذكر الأول ليفعلوا هم الثاني فيكونوا هم الفاعلين له، فيحصل لهم بفعله سعادتهم، ويحصل ما يحبه ويرضاه منهم ولهم. انتهى.
والآية دالة على وجوب اختصاص الخالق تعالى بالعبادة، لأنه سبحانه:
1- هو ابتدأك بخلقك والإنعام عليك بقدرته ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلاً، وما فعله بك لا يقدر عليه غيره، ثم إذا احتجت إليه في جلب رزق أو دفع ضر، فهو الذي يأتي بالرزق لا يأتي به غيره، وهو الذي يدفع(4/45)
الضر لا يدفعه غيره.
كما قال تعالى:{أَمَّنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 14.
2 سورة القيامة آية: 36.
3 سورة الفرقان آية: 77.
4 سورة البقرة آية: 185.
5 سورة النساء آية: 64.(4/46)
ص -31- ... هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}1
2- وهو سبحانه ينعم عليك، ويحسن إليك بنفسه، فإن ذلك موجب ما تَسَمَّى به، ووصف به نفسه، إذ هو الرحمن الرحيم، الودود المجيد، وهو قادر بنفسه، وقدرته من لوازم ذاته، وكذلك رحمته وعلمه وحكمته، لا يحتاج إلى خلقه بوجهٍ من الوجوه، بل هو الغني عن العالمين{وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}2. فالرب سبحانه غني بنفسه، وما يستحقه من صفات الكمال ثابت له بنفسه، واجب له من لوازم ذاته، لا يفتقر في شيء من ذلك إلى غيره، ففعله وإحسانه وجوده من كماله، لا يفعل شيئًا لحاجة إلى غيره بوجه من الوجوه، بل كل ما يريد فعله فإنه {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، [هود: من الآية: 107، والبروج، من الآية: 16].
وهو سبحانه {بَالِغُ أَمْرِهِ}، [الطلاق، من الآية: 3]، فكل ما يطلبه فهو يبلغه ويناله ويصل إليه وحده، ولا يعينه أحد، ولا يعوقه أحد، لا يحتاج في شيء من أموره إلى مُعِيْنٍ، وما له من المخلوقين {مِنْ ظَهِيرٍ}، [سبأ، من الآية: 22]، وليس{له ولي من الذل}، قاله شيخ الإسلام.
الأمر بعبادة الله واجتناب عبادة الطاغوت.
قال: وقوله:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}3.
قالوا:{الطاغوت}؛ مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد. وقد فسَّره السلف ببعض أفراده. قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: الطاغوت: الشيطان. وقال جابر ـ رضي الله عنه ـ "الطواغيت: كهان كانت تنْزل عليهم الشياطين". رواهما ابن أبي حاتم . وقال مجاهد: "الطاغوت: الشيطان في صورة الإنسان، يتحاكمون إليه وهو صاحب أمرهم". وقال مالك: الطاغوت: كل ما عبد من(4/47)
دون اللّه.
قلت: وهو صحيح، لكن لا بد فيه من استثناء مَنْ لا يرضى بعبادته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 20-21.
2 سورة النمل آية: 40.
3 سورة النحل آية: 36.(4/48)
ص -32- ... وقال ابن القيم: الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم مَن يتحاكمون إلى غير اللّه ورسوله، أو يعبدونه من دون اللّه، أو يتبعونه على غير بصيرة من اللّه، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة اللّه. فهذه طواغيت العالم، إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة اللّه إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى طاعة الطاغوت ومتابعته.
وأما معنى الآية، فأخبر تعالى أنه بعث {فِي كُلِّ أُمَّةٍ}، أي: في كل طائفة، وقَرْنٍ من الناس {رَسُولاً}، بهذه الكلمة: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، أي: اعبدوا اللّه وحده واتركوا عبادة ما سواه، فلهذا خلقت الخليقة، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}1. وقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ}2. وهذه الآية هي معنى: لا إله إلا اللّه، فإنها تضمنت النفي والإثبات كما تضمنته لا إله إلا اللّه، ففي قوله:{اعْبُدُوا اللَّهَ} الإثبات، وفي قوله:{اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} النفي. فدلت الآية على أنه لا بد في الإسلام من النفي والإثبات، فيثبت العبادة للّه وحده، وينفي عبادة ما سواه، وهو التوحيد الذي تضمنته سورة{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}3. وهو معنى قوله:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}4 .
قال ابن القيم: وطريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات، فينفي عبادة ما سوى اللّه، ويثبت عبادته، وهذا هو حقيقة التوحيد، والنفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات بدون(4/49)
النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنًا للنفي والإثبات، وهذا حقيقة لا إله إلا اللّه. انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 25.
2 سورة الرعد آية: 36.
3 سورة الكافرون آية: 1.
4 سورة البقرة آية: 256.(4/50)
ص -33- ... ويدخل في الكفر بالطاغوت بُغْضُهُ وكراهتُه، وعدمُ الرضى بعبادته بوجه من الوجوه.
ودلت الآية على:
1- أن الحكمة في إرسال الرسل هو عبادة اللّه وحده وترك عبادة ما سواه.
2- وأن أصل دين الأنبياء واحد وهو الإخلاص في العبادة للّه، وإن اختلفت شرائعُهم، كما قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}1، وأنه لا بد في الإيمان من العمل ردًا على المرجئة.
[الأمر بعبادة الله والإحسان إلى الوالدين]
قال: قوله:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}2.
هكذا ثبت في بعض الأصول، لم يذكر الآية بكمالها. قال مجاهد:{وقضى} يعني: وصى، وكذلك قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم.
وروى ابن جرير، عن " ابن عباس في قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ} يعني: أمر".
وقوله:{أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}3، (أن)، هي المصدرية وهي في محل جر بالباء، والمعنى: أن تعبدوه ولا تعبدوا غيره ممن لا يملك ضرًا ولا نفعًا، بل هو:
1- إما فقير محتاج إلى رحمة ربه يرجوها كما ترجونها
2- وإما جماد لا يستجيب لمن دعاه.
وقوله:{بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}4، أي: وقضى أن تحسنوا{بالوالدين إحسانًا}، كما قضى بعبادته وحده لا شريك له. وعطف حقهما على حق اللّه تعالى دليل على تأكد حقهما وأنه أوجب الحقوق بعد حق اللّه، وهذا كثير في القرآن يقرن ببن حقه ـ عزّ وجلّ ـ وبين حق الوالدين، كقوله:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}5. وقال{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}6. ولم يخص تعالى نوعًا من أنواع الإحسان ليعم أنواع الإحسان.(4/51)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية: 48.
2 سورة الإسراء آية: 23.
3 سورة يوسف آية: 40.
4 سورة البقرة آية: 83.
5 سورة لقمان آية: 14.
6 سورة البقرة آية: 83.(4/52)
ص -34- ... وقد تواترت النصوص عن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالأمر ببر الوالدين والحث على ذلك، وتحريم عقوقهما كما في القرآن، ففي صحيح البخاري (5970) عن ابن مسعود قال: سألت النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "أي الأعمال أحب إلى اللّه؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل اللّه حدثني بهن ولو اسْتَزَدْتُهُ لزادني"1.
وعن أبي بكرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول اللّه. قال: الإشراك باللّه، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت"2. رواه البخاري (5976) ومسلم (87).
وعن أبي هريرة قال: "قال رجل: يا رسول اللّه! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم مَن؟ قال: أمك. قال: ثم مَن؟ قال: أمك. قال: ثم مَن؟ قال: أبوك. أخرجاه"3.
وعن عبد اللّه بن عمرو، قال: قال رسول اللّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "رضي الرب في رضي الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين"4. رواه الترمذي (1979)، وصححه ابن حبان (429) والحاكم (4/151).
وعن أبي أُسَيْدٍ الساعدي، قال: "بينا نحن جلوس عند النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذ جاء رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول اللّه هل بقي من بر أبوي شيء أَبَرُّهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما"5. رواه أبو داود (5142)، وابن ماجة (3364)، وابن حبان في صحيحه (418).
والأحاديث في هذا كثيرة قد أفردها العلماء بالتصنيف وذكر(4/53)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: مواقيت الصلاة (527) , ومسلم: الإيمان (85) , والترمذي: الصلاة (173) والبر والصلة (1898) , والنسائي: المواقيت (610) , وأحمد (1/409 ,1/418 ,1/439 ,1/442 ,1/444 ,1/448 ,1/451) , والدارمي: الصلاة (1225).
2 البخاري: الأدب (5976) , ومسلم: الإيمان (87) , والترمذي: البر والصلة (1901) والشهادات (2301) وتفسير القرآن (3019) , وأحمد (5/36 ,5/38).
3 البخاري: الأدب (5971) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2548) , وأحمد (2/327 ,2/391).
4 الترمذي: البر والصلة (1899).
5 أبو داود: الأدب (5142) , وابن ماجه: الأدب (3664).(4/54)
ص -35- ... البخاري منها شطرًا صالحا في كتاب (الأدب المفرد (1-46).
[المأمورات والمنهيات في الوصايا الواردة في سورة الأنعام]
قال المصنِّف ـ رحمه الله ـ وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}، [النّساء، من الآية: 36].
قال: وقوله:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}1.
قال ابن كثير: يقول اللّه تعالى لبنيه ورسوله محمد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير اللّه، وحرموا ما رزقهم اللّه، وقتلوا أولادهم، وكل ذلك فعلوه بآرائهم الفاسدة، وتسويل الشيطان لهم {تَعَالَوْا} أي: هلموا وأقبلوا، {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، أي: أقصص عليكم، وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقًا، لا تخرصا ولا ظنًا، بل وحي منه وأمر من عنده،{أَلاً تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}. قال: وكأن في الكلام محذوفًا دل عليه السياق، وتقديره: وصاكم {أن لا تشركوا به شيئًا}، ولهذا قال في(4/55)
آخر الآية {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}.
قلت: ابتدأ تعالى هذه الآيات المحكمات بتحريم الشرك والنهي عنه، فحرم علينا أن نشرك به شيئًا، فشمل ذلك كلَّ مُشرَكٍ به، وكل مُشْرَكٍ فيه من أنواع العبادة، فإن {شيئًا} من النكرات فيعم جميع الأشياء، وما أباح تعالى لعباده أن يشركوا به شيئًا؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 151-153.(4/56)
ص -36- ... فإن ذلك أظلم الظلم وأقبح القبيح، ولفظ (الشرك) يدل على أن المشركين كانوا يعبدون اللّه، ولكن يشركون به غيره من الأوثان والصالحين والأصنام؛ فكانت الدعوة واقعة على ترك عبادة ما سوى اللّه، وإفراد اللّه بالعبادة. وكانت (لا إله إلا اللّه) متضمنة لهذا المعنى، فدعاهم النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى الإقرار بها نطقًا وعملا واعتقادًا، ولهذا إذا سئلوا عما يقول لهم، قالوا: يقول: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}، [النّساء، من الآية: 36]، واتركوا ما يقول آباؤكم كما قاله أبو سفيان.
وقوله:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. قال القرطبي: الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما، وامتثال أمرهما، وإزالة الرق عنهما، وترك السلطنة عليهما و {إِحْسَانًا} نصب على المصدرية، وناصبه فعل مضمر من لفظه: تقديره: {و}أحسنوا {بالوالدين إحسانًا}.
وقوله:{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}1
الإملاق: الفقر، أي: لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر، فإني رازقكم وإياهم، وكان منهم من يفعل ذلك بالإناث والذكور خشية الفقر. ذكره القرطبي.
وفي (الصحيحين: البخاري (4761)، ومسلم (86"، عن ابن مسعود قال: "قلت: يا رسول اللّه أي الذنب أعظم عند اللّه؟ قال: أن تجعل اللّه ندًا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك.قلت: ثم أي قال: أن تزاني حليلة جارك. ثم تلا رسول اللّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}، [الفرقان: 68]".
{وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}2. قال ابن عطية: نهي عام عن جميع أنواع الفواحش، وهي: المعاصي، و{ظَهَرَ}،(4/57)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 151.
2 سورة الأنعام آية: 151.(4/58)
ص -37- ... و{بَطَنَ}: حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء. وفي التفسير المنسوب إلى أبي علي الطبري من الحنفية، ـ وهو تفسير عظيم ـ:{وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} أي: القبائح. وعن ابن عباس، والضحاك، والسدي، أن من الكفار من كان لا يرى بالزنا بأسًا إذا كان سرًا. وقيل:( الظاهر) ما بينك وبين الخلق، و(الباطن) ما بينك وبين اللّه. انتهى.
وفي (الصحيحين: البخاري 4634، ومسلم 2761) عن ابن مسعود مرفوعًا "لا أحد أغير من اللّه، من أجل ذلك حرم {الفواحش ما ظهر منها وما بطن}"1 .
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}2. قال ابن كثير: هذا مما نص تعالى على النهي عنه تأكيدًا، وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش وفي (الصحيحين: البخاري 6878، مسلم 1676)، عن ابن مسعود مرفوعًا: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا اللّه، وأني رسول اللّه إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"3 .
وعن ابن عمر مرفوعًا: " مَنْ قتل معاهَدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا "4. رواه البخاري (3166).
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}5. قال ابن عطية:{ذلكم} إشارة إلى هذه المحرمات; و(الوصية) الأمر المؤكد المقرر.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، ترجٍّ بالإضافة إلينا، أي: من سمع هذه الوصية يرجى وقوع أثر العقل بعدها.
قلت: هذا غير صحيح، والصواب أن (لعل) هنا للتعليل، أي:(4/59)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: النكاح (5220) , ومسلم: التوبة (2760) , والترمذي: الدعوات (3530) , وأحمد (1/381 ,1/425 ,1/436) , والدارمي: النكاح (2225).
2 سورة الأنعام آية: 151.
3 البخاري: الديات (6878) , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676) , والترمذي: الديات (1402) , والنسائي: تحريم الدم (4016) , وأبو داود: الحدود (4352) , وابن ماجه: الحدود (2534) , وأحمد (1/382 ,1/428 ,1/444 ,1/465 ,6/181) , والدارمي: الحدود (2298) والسير (2447).
4 البخاري: الديات (6914) , والنسائي: القسامة (4750) , وابن ماجه: الديات (2686) , وأحمد (2/186).
5 سورة الأنعام آية: 151.(4/60)
ص -38- ... أن اللّه وصانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه، ونعمل بها، كما قال:{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}1. وفي تفسير الطبري الحنفي: ذكر أولاً {تَعْقِلُونَ} ثم {تَذَكَّرُونَ} ثم {تَتَّقُونَ}؛ لأنهم إذا عقلوا تذكروا، فإذا تذكروا خافوا واتقوا المهالك.
{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}2. قال ابن عطية: هذا نهي عن القرب الذي يعم وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة، ثم استثنى ما يحسن؛ وهو التشمير والسعي في نمائه. قال مجاهد:{التي هي أحسن}: التجارة فيه، فمن كان من الناظرين، له مال يعيش به، فالأحسن إذا ثَمَّر مال اليتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرهما، ومَن كان من الناظرين لا مال له، ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه من ربح نظره، ـ وإلا دعت الضرورة إلى ترك مال اليتيم دون نظر ـ، فالأحسن أن ينظر ويأكل بالمعروف. قاله ابن زيد.
وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}. قال مالك وغيره: هو الرشد، وزوال السفه مع البلوغ. قال ابن عطية: وهو أصح الأقوال وأليقها بهذا الموضع.
قلت: وقد روي نحوه عن زيد بن أسلم، والشعبي، وربيعة، وغيرهم، ويدل عليه قوله تعالى،:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}3. فاشترط تعالى للدفع إليهم ثلاثة شروط:
الأول: ابتلاؤهم، وهو اختبارهم وامتحانهم بما يظهر به معرفتهم لمصالح أنفسهم وتدبير أموالهم.
والثاني: البلوغ.
والثالث: الرشد.
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}4. قال ابن كثير: يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء، كما توعد عليه في قوله:{وَيْلٌ(4/61)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البينة آية: 5.
2 سورة الأنعام آية: 152.
3 سورة النساء آية: 6.
4 سورة الأنعام آية: 152.(4/62)
ص -39- ... لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}1. وقد أهلك اللّه أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان.
وقال غيره: القسط: العدل. وقد روى الترمذي (1240)، وغيره بإسناد ضعيف عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لأصحاب الكيل والميزان: "إنكم وليتم أمرًا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم"2. وروي عن ابن عباس موقوفًا بإسناد صحيح.
{لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}3. قال ابن كثير: أي: مَن اجتهد في أداء الحق وأخذه، فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده، فلا حرج عليه.
وقد روى ابن مردويه عن سعيد بن المسيب مرفوعًا: "{أوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسًا إلا وسعها} قال: مَن أوفى على يده في الكيل والميزان - واللّه يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما - لم يؤاخذ وذلك تأويل وسعها ". قال: هذا مرسل غريب.
قلت: وفيه رد على القائلين بجواز تكليف ما لا يطاق.
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}4. هذا أمر بالعدل في القول والفعل على القريب والبعيد. قال الحنفي: العدل في القول في حق الولي والعدو، لا يتغير بالرضى والغضب، بل يكون على الحق والصدق، وإن كان ذا قربى فلا يميل إلى الحبيب، ولا إلى القريب {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(5.
{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}6. قال ابن جرير: يقول: وبوصية اللّه التي وصاكم بها فأوفوا وانقادوا لذلك، بأن تطيعوه فيما أمر به ونهاكم عنه، وتعملوا بكتابه وسنة رسوله، وذلك هو الوفاء بعهد اللّه، وكذا قال غيره.
قلت: وهو حسن، ولكن الظاهر أن الآية فيما هو أخص،(4/63)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 1-6.
2 الترمذي: البيوع (1217).
3 سورة الأنعام آية: 152.
4 سورة الأنعام آية: 152.
5 سورة المائدة آية: 8.
6 سورة الأنعام آية: 152.(4/64)
ص -40- ... كالبيعة والذمة والأمان والنذر ونحو ذلك، وهذه الآية كقوله:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}1. فهذا هو المقصود بالآية، وإن كانت شاملة، لما قالوا بطريق العموم.
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}2. يقول تعالى: هذا وصاكم وأمركم به وأكّد عليكم فيه{لعلكم تذكرون}، أي: تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه.
قوله:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}3.
ش: قال القرطبي: هذه آية عظيمة عطفها اللّه على ما تقدم، فإنه لما نهى وأمر، حذر عن اتباع غير سبيله، وأمر فيها باتباع طريقه على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف. (وأن) في موضع نصب، أي:{و}اتلوا، {أن هذا صراطي}عن الفراء والكسائي. قال الفراء: ويجوز أن يكون خفضًا، أي: {وصاكم به... و}ب{أن هذا صراطي}. قال: و(الصراط): الطريق الذي هو دين الإسلام. {مستقيمًا}، نصب على الحال، ومعناه: مستويًا قويمًا لا اعوجاج فيه، فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وشرعه، ونهايته الجنة، وتشعبت منه طرق، فمَن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار. قال اللّه تعالى:{وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}4. أي: تميل. انتهى. وروى أحمد (4143)، والنسائي (11175)، والدارمي (1/67)، وابن أبي حاتم، والحاكم (2/318)، وصححه، عن ابن مسعود قال: " خط رسول اللّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خطًا بيده، ثم قال: هذا سبيل اللّه مستقيمًا، ثم خط خطوطًا عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}.(4/65)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 91.
2 سورة الأنعام آية: 152.
3 سورة الأنعام آية: 153.
4 سورة الأنعام آية: 153.(4/66)
ص -41- ... وعن النواس بن سمعان مرفوعا قال: " ضرب اللّه مثلاً صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا، وداعٍ يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب، قال: لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه.
فالصراط: الإسلام، والسوران: حدود اللّه، والأبواب المفتحة: محارم اللّه، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق الصراط: واعظ اللّه في قلب كل مسلم "1 رواه أحمد (17603)، والترمذي (3031)، والنسائي، وابن جرير وابن أبي حاتم.
وعن مجاهد في قوله:{وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}2. قال: البدع والشبهات. رواه ابن جوير، وابن أبي حاتم. وهذه السبل تعم اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، وعباد القبور، وسائر أهل الملل والأوثان، والبدع والضلالات من أهل الشذوذ والأهواء، والتعمق في الجدل، والخوض في الكلام، فاتباع هذه من اتباع السبل التي تذهب بالإنسان عن الصراط المستقيم إلى موافقة أصحاب الجحيم، كما قال النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ " مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "3. وفي رواية: " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد "4. حديث صحيح.
قال ابن مسعود: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله، ألا وإياكم والتنطّع والتعمّق والبدع، وعليكم بالعتيق. رواه الدارمي (1/54).
قلت: العتيق هو القديم، يعني: ما كان عليه رسول اللّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأصحابه من الهدي، دون ما حدث بعدهم، فالهرب الهرب، والنجاء النجاء، والتمسك بالطريق المستقيم والسنن القويم، وهو الذي كان عليه السلف الصالح، وفيه المتجر الرابح، قاله القرطبي.
وقال سهل بن عبد اللّه التّستري: عليكم بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ والاقتداء به(4/67)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الأمثال (2859) , وأحمد (4/182).
2 سورة الأنعام آية: 153.
3 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240 ,6/270).
4 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/256).(4/68)
ص -42- ... في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرؤوا منه، وأذلوه وأهانوه.
قلت: رحم الله سهلاً ما أصدق فراسته! فلقد كان ذلك وأعظم، وهو أن يكفر الإنسان بتجريد التوحيد والمتابعة، والأمر بإخلاص العباد للّه، وترك عبادة ما سواه والأمر بطاعة رسول اللّه وتحكيمه في الدقيق والجليل.
قال ابن القيم رحمه اللّه تعالى: ولنذكر في الصراط المستقيم قولاً وجيزًا، فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه، وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد وهو طريق اللّه الذي نصبه لعباده موصلاً لهم إليه، ولا طريق إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلاً لعباده إليه، وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة، فلا يشرك به أحد في عبوديته. ولا يشرك برسوله أحد في طاعته، فيجرد التوحيد، ويجرد متابعة الرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهذا معنى قول بعض العارفين: إن السعادة كلها والفلاح كله مجموع في شيئين: صدق محبة، وحسن معاملة. وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه. فأي شيء فسر به الصراط المستقيم، فهو داخل في هذين الأصلين. ونكتة ذلك أن تحبه بقلبك كله، وترضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته، فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمدًا رسول اللّه، وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث اللّه به رسوله والقيام به، فقل ما شئت من العبارات التي هذا آخيَّتُها وقطب رحاها.
[الأمر بعبادة الله وحده وعدم الإشراك به]
قال: وقوله:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 36.(4/69)
ص -43- ... هكذا أثبت في نسخة بخط شيخنا ولم يذكر الآية. قال ابن كثير: يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، فإنه الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئًا من مخلوقاته.
قلت: هذا أول أمر في القرآن، وهو الأمر بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك، كما في قوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}1. وتأمل كيف أمر تعالى بعبادته، أي: فعلها خالصة له، ولم يخص بذلك نوعًا من أنواع العبادة، لا دعاء ولا صلاة ولا غيرهما، ليعم جميع أنواع العبادة، ونهى عن الشرك به، ولم يحض أيضًا نوعًا من أنواع العبادة بجواز الشرك فيه.
1- وفي هذه الآية واللواتي قبلها دليل على أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه، وإلا فكان المشركون يعبدون اللّه ويعبدون غيره، فأمروا بالتوحيد، وهو عبادة اللّه وحده، وترك عبادة ما سواه.
2- وفيهن دليل على أن التوحيد أول واجب على المكلف، وهو الكفر بالطاغوت، والإيمان باللّه المستلزم لعبادته وحده لا شريك له، وأن مَن عبد غير اللّه بنوع من أنواع العبادة فقد أشرك، سواء كان المعبود ملكًا أو نبيًا أو صالحًا أو صنما.
قال ابن مسعود من أراد أن ينظر إلى وصية محمد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ التي عليها خاتمه فليقرأ {تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، [الأنعام الآيات: 151-153].
ابن مسعود هو: عبد اللّه بن مسعود بن غافل ـ بمعجمة وفاء ـ ابن حبيب(4/70)
الهذلي، أبو عبد الرحمن، صحابي جليل من السابقين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 21.(4/71)
ص -44- ... الأولين وأهل بدر وبيعة الرضوان، ومن كبار العلماء من الصحابة، أمرّه عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين.
وهذا الأثر رواه الترمذي (3278)، وحسنه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني (10060) بنحوه، وروى أبو عبيد وعبد بن حميد عن الربيع بن خثيم نحوه. قال بعضهم ما معناه. أي: من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها، ثم طويت فلم تغير ولم تبدل، تشبيهًا لها بالكتاب الذي كتب ثم ختم عليه فلم يزد فيه ولم ينقص، لأن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كتبها وختم عليها وأوصى بها، فإن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لم يوص إلا بكتاب اللّه، كما قال فيما رواه مسلم (1218): " وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب اللّه "1 .
قلت: وقد روى عبادة بن الصامت, قال: قال رسول اللّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: " أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث، ثم تلا{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} حتى فرغ من ثلاث آيات، ثم قال: من وفى بهن فأجره على اللّه، ومن انتقص منهن شيئًا فأدركه اللّه في الدنيا كانت عقوبته،
ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى اللّه، إن شاء أخذه، وإن شاء عفا عنه " رواه ابن أبي حاتم، والحاكم (2/371) وصححه، فهدا يدل على أن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يعتني بهن، ويبالغ في الحث على العمل بهن.
[حق الله على العباد وحق العباد على اللّه].
وعن معاذ بن جبل قال: " كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على اللّه؟ فقلت: اللّه ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على اللّه أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا. فقلت: يا رسول اللّه أفلا أبشر الناس قال: لا تبشرهم فيتكلوا "2. أخرجاه في "الصحيحين".
هذا الحديث في "الصحيحين" وبعض رواياته نحو ما ذكر المصنف.
ومعاذ هو: معاذ بن جبل بن عمرو(4/72)
بن أوس الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن صحابي مشهور من أعيان الصحابة، شهد بدرا وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: المناقب (3788).
2 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وأبو داود: الجهاد (2559) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/260 ,5/228 ,5/229 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242).(4/73)
ص -45- ... بالأحكام والقرآن رضي الله عنه، مات سنة ثمان عشرة بالشام.
قوله: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فيه جواز الإرداف على الدابة، وفضيلة لمعاذ من جهة ركوبه خلف النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "على حمار"، في رواية اسمه: عفير بعين مهملة مضمومة ثم فاء مفتوحة.
قال ابن الصلاح: وهو الحمار الذي كان له صلى الله عليه وسلم.
قيل: إنه مات في حجة الوداع، وفيه تواضعه صلى الله عليه وسلم للإرداف ولركوب الحمار، خلاف ما عليه أهل الكبر.
قوله: " أتدري ما حق الله على العباد"؟ الدراية هي المعرفة وأخرج السؤال بصيغة الاستفهام، ليكون أوقع في النفس، وأبلغ في فهم المتعلم، فإن الإنسان إذا سئل عن مسألة لا يعلمها، ثم أخبر بها بعد الامتحان بالسؤال عنها، فإن ذلك أوعى لفهمها وحفظها، وهذا من حسن إرشاده وتعليمه صلى الله عليه وسلم.
وحق الله على العباد، هو ما يستحقه عليهم ويجعله متحتمًا.
وحق العباد على اللّه معناه أنه متحقق لا محالة، لأنه قد وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده، ووعده حق، {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، [آل عمران، من الآية9، والرّعد، من الآية: 31].
وقال شيخ الإسلام: كون المطيع يستحق الجزاء، هو استحقاق إنعام وفضل، ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول: لا معنى للاستحقاق إلا أنه أخبر بذلك، ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقًا زائدًا على هذا كما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}1.
ولكن أهل السنة يقولون: هو الذي {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، [الأنعام، من الآية: 12]، وأوجب هذا الحق على نفسه لم يوجبه عليه مخلوق، والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس على الخلق، وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك، وهذا الباب غلطت فيه(4/74)
القدرية والجبرية أتباع جهم والقدرية النافية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الروم آية: 47.(4/75)
ص -46- ... قوله:"فقلت: اللّه ورسوله أعلم". فيه حسن أدب المتعلم، وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك، بخلاف أكثر المتكلفين.
قوله: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا" أي: يوحدوه بالعبادة وحده ولا يشركوا به شيئًا.
وفائدة هذه الجملة:
1- بيان أن التجرد من الشرك لا بدّ منه في العبادة، وإلا فلا يكون العبد آتيا بعبادة اللّه بل مشرك، وهذا هو معنى قول المصنف: إن العبادة هي التوحيد، لأن الخصومة فيه.
2- وفيه معرفة حق الله على العباد، وهو عبادته وحده لا شريك له.
فيا مَنْ حق سيده الإقبال عليه، والتوجه بقلبه إليه، لقد صانك وشرفك عن إذلال قلبك ووجهك لغيره، فما هذه الإساءة القبيحة في معاملته مع هذا التشريف والصيانة! فهو يعظمك ويدعوك إلى الإقبال وأنت تأبى إلا مبارزته بقبائح الأفعال.
في بعض الآثار الإلهية: إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليَّ صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي. وكيف يعبده حق عبادته مَنْ صرف سؤاله ودعاؤه وتذلله واضطراره وخوفه ورجاءه وتوكله وإنابته وذبحه ونذره لمن لا يملك لنفسه {ضَرّاً وَلا نَفْعاً}،[الفرقان، من الآية: 3]، ولا {مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً}، [الفرقان، من الآية: 3]، من ميت رميم في التراب، أو بناء مشيد من القباب، فضلاً مما هو شر من ذلك.
قوله: "وحق العباد على اللّه أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا" قال الخلخالي: تقديره: أن لا يعذب من يعبده ولا يشرك به شيئًا والعبادة هي
الإتيان بالأوامر، والانتهاء عن المناهي، لأن مجرد عدم الإشراك لا يقتضي نفي العذاب، وقد علم ذلك من القرآن والأحاديث الواردة في تهديد الظالمين والعصاة.
وقال الحافظ: اقتصر على نفي الإشراك، لأنه يستدعي التوحيد(4/76)
ص -47- ... بالاقتضاء، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم، إذ مَنْ كذب رسول اللّه، فقد كذب اللّه، ومَنْ كذب اللّه، فهو مشرك، وهو مثل قول القائل: من توضأ صحت صلاته، أي: مع سائر الشروط، فالمراد: من مات حال كونه مؤمنًا بجميع ما يجب الإيمان به. قلت: وسيأتي تقرير هذا في الباب الذي بعده إن شاء اللّه تعالى.
قوله:"أفلا أبشر الناس"، فيه استحباب بشارة المسلم بما يسره. وفيه ما كان عليه الصحابة من الاستبشار، بمثل هذا نبه عليه المصنف.
قوله: قال: " لا تبشرهم فيتكلوا"، وفي رواية: " إني أخاف أن يتكلوا"، أي: يعتمدوا على ذلك، فيتركوا التنافس في الأعمال الصالحة. وفي رواية: فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا، أي: تحرجًا من الإثم. قال الوزير أبو المظفر [بن هبيرة]: لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة، فأما الأكياس ـ الذين إذا سمعوا بمثل هذا ازدادوا في الطاعة، ورأوا أن زيادة النعم تستدعي زيادة الطاعة ـ فلا وجه لكتمانها عنهم. وقال الحافظ: دل هذا على أن النهي للتبشير ليس على التحريم، وإلا لما أخبر به أصلاً، أو أنه ظهر له أن المنع إنما هو من الأخبار عمومًا، فبادر قبل موته فأخبر بها خاصًا من الناس
وفي الباب من الفوائد غير ما تقدم:
1- التنبيه على عظمة حق الوالدين. 2-وتحريم عقوقهما. 3-والحث على إخلاص العبادة للّه تعالى. 4- وأنها لا تنفع مع الشرك، بل لا تسمى عبادة شرعًا. 5-والتنبيه على عظمة الآيات المحكمات في سورة الأنعام، ذكره المصنف.
6-وجواز كتمان العلم للمصلحة، ولا سيما أحاديث الرجاء التي إذا سمعها الجهال ازدادوا من الآثام.(4/77)
ص -48- ... كما قال بعض: فأكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم. 7-وتخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض. 8-وفضيلة معاذ، ومنْزلته من العلم، لكونه خص بما ذكر. 9-واستئذان المتعلم في إشاعة ما خص به من العلم. 10-والخوف من الاتكال على سعة رحمة اللّه. 11-وأن الصحابة لا يعرفون مثل هذا إلا بتعليمه صلى الله عليه وسلم ذكره المصنف.
قوله: أخرجاه في "الصحيحين" أي: أخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" وإنما أضمرهما للعلم بهما.
والبخاري هو: الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي مولاهم، الحافظ الكبير صاحب "الصحيح"، و "التاريخ"، و "الأدب المفرد" وغير ذلك من مصنفاته.
روى عن الإمام أحمد بن حنبل، والحميدي، وابن المديني وطبقتهم. وروى عنه مسلم والترمذي، والنسائي، والفربري، راوي "الصحيح" وغيرهم. ولد سنة أربع وتسعين ومائة، ومات سنة ست وخمسين ومائتين.
ومسلم هو: ابن الحجاج بن مسلم، أبو الحسين القشيري النيسابوري صاحب "الصحيح"، و "العلل"، و"الوحدان" وغير ذلك
روى عن أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبي خيثمة، وابن أبي شيبة، وطبقتهم. روى عنه الترمذي، وإبراهيم بن محمد بن سفيان. راوي "الصحيح" وغيرهم. ولد سنة أربع ومائتين، ومات سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور رحمه اللّه تعالى.
[م2 باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب]
باب: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا باب بيان فضل التوحيد، وبيان ما يكفر من الذنوب، و " ما " يجوز أن تكون(4/78)
ص -49- ... موصولة، أي: وبيان ما يكفره من الذنوب. ويجوز أن تكون مصدرية، أي: وبيان تكفيره الذنوب، وهذا أرجح، لأن الأول يوهم أن ثم ذنوبًا لا يكفرها التوحيد، وليس بمراد، ولما ذكر معنى التوحيد، ناسب ذكر فضله وتكفيره للذنوب ترغيبًا فيه وتحذيرًا من الضد.
وقول الله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}1.
قال بعض الحنفية في تفسيره: هذا ابتداء. قال [عبد الرّحمن] ابن زيد وابن إسحاق: هذا من اللّه على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه. قال الزجاج: سأل إبراهيم وأجاب بنفسه. وعن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية قالوا: فأينا لم يظلم؟ قال عليه السلام: "{إن الشرك لظلم عظيم} ". [البخاري 3636] وكذا عن أبي بكر الصديق أنه فسره بالشرك، فيكون الأمن من تأييد العذاب. وعن عمر أنه فسره بالذنب، فيكون الأمن من كل عذاب. وقال الحسن والكلبي:{أولئك لهم الأمن} في الآخرة{وهم مهتدون} في الدنيا. انتهى. وإنما ذكرته،لأن فيه شاهدًا لكلام شيخ الإسلام الآتي في الحديث الذي ذكره حديث صحيح في "الصحيح" [البخاري 3636]، و"المسند" [3588]، وغيرهما. وفي لفظ لأحمد عن عبد اللّه [بن مسعود] قال: " لما نزلت{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}2 شق ذلك على أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول اللّه فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: "إنه ليس الذي تعنون "، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح:. يا بني لا تشرك باللّه إن الشرك لظلم عظيم إنما هو الشرك " .
قال شيخ الإسلام: والذي شق عليهم ظنوا أن الظلم المشروط هو ظلم العبد لنفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبيّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب اللّه، وحينئذ فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانهم بهذا الظلم، فمن لم يلبس إيمانه به كان من أهل(4/79)
الأمن والاهتداء، كما كان من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 82.
2 البخاري: الإيمان (32) وأحاديث الأنبياء (3360 ,3428 ,3429) وتفسير القرآن (4629 ,4776) واستتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6918 ,6937) , ومسلم: الإيمان (124) , والترمذي: تفسير القرآن (3067) , وأحمد (1/378).(4/80)
ص -50- ... أهل الاصطفاء في قوله:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}1. وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب، كما قال:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}2 وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " يا رسول اللّه، وأينا لم يعمل سوءًا؟ فقال: " يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس تصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به "3. فبيَّن أن المؤمن الذي إذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب التي تصيبه، قال: فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة، يعني: الظلم الذي هو الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومن لم يسلم من ظلم نفسه كان له الأمن
والاهتداء مطلقًا، بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة، كما وعد بذلك في الآية الأخرى، وقد هداه اللّه إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء، بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه، ليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " إنما هو الشرك " أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام، فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام الذي يكونون به مهتدين إلى الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم اللّه عليهم من غير عذاب يحصل لهم، بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط ومعهم أصل نعمة اللّه عليهم، ولا بد لهم من دخول الجنة. وقوله: "إنما هو الشرك"، إن أراد به الأكبر فمقصوده أن من لم يكن من أهله، فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة، وهو مهتد إلى ذلك، وإن كان مراده جنس الشرك فيقال: ظلم العبد نفسه، كبخله - لحب المال - ببعض الواجب(4/81)
وهو شرك أصغر، وحبه ما يبغض اللّه حتى يقدم هواه على محبة اللّه شرك أصغر، ونحو ذلك، فهذا فاته من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فاطر آية: 32.
2 سورة الزّلزلة آية: 7-8.
3 الترمذي: تفسير القرآن (3039) , وأحمد (1/6).(4/82)
ص -51- ... الأمن والاهتداء بحسبه، ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الظلم بهذا الاعتبار. انتهى ملخصًا.
وبه تظهر مطابقة الآية للترجمة، فدلت على فضل التوحيد وتكفيره للذنوب، لأن من أتى به تامًا فله الأمن التام والاهتداء التام، ودخل الجنة بلا عذاب، ومَن أتى به ناقصًا بالذنوب التي لم يتب منها، فإن كانت صغائر كفرت باجتناب الكبائر، لآية (النّساء: 31)، و(النّجم: 32) وإن كانت كبائر فهو في حكم المشيئة، إن شاء اللّه غفر له، وإن شاء عذبه، ومآله إلى الجنة، واللّه أعلم.
عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " من شهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد اللّه ورسوله {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}، والجنة حق والنار حق أدخله اللّه الجنة على ما كان من العمل "1 أخرجاه.
عبادة هو ابن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد، أحد النقباء بدري مشهور من جلة الصحابة، مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله اثنتان وسبعون سنة. وقيل: عاش إلى خلافة معاوية.
قوله: "من شهد أن لا إله إلا اللّه "، أي: من تكلم بهذه الكلمة عارفًا لمعناها، عاملاً بمقتضاها باطنًا وظاهرًا، كما دل عليه قوله:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}2 وقوله:{إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}3. أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا عمل بمقتضاها، فإن ذلك غير نافع بالإجماع.
وفي الحديث ما يدل على هذا، وهو قوله: " من شهد "، إذ كيف يشهد وهو لا يعلم، ومجرد النطق بشيء لا يسمى شهادة به. قال بعضهم: أداة الحصر لقصر الصفة على الموصوف قصر إفراد، لأن معناه: الألوهية في اللّه الواحد في مقابلة من يزعم اشتراك غيره معه،(4/83)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3435), ومسلم 28، وأحمد (5/313).
2 سورة محمد آية: 19.
3 سورة الزخرف آية: 86.(4/84)
ص -52- ... وليس قصر قلب، لأن أحدًا من الكفار لم ينفها عن اللّه، وإنما أشرك معه غيره.
وقال النووي: هذا حديث عظيم جليل الموقع، وهو أجمع ـ أو من أجمع ـ الأحاديث المشتملة على العقائد، فإنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج عن ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها، فاقتصر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين به جميعهم. انتهى.
و معنى " لا إله إلا اللّه"، أي: لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو اللّه وحده لا شريك له، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}1. مع قوله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}2. فصح أن معنى الإله هو المعبود، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش: "قولوا لا إله إلا اللّه" قالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}3. وقال قوم هود:{أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}4. وهو إنما دعاهم إلى " لا إله إلا اللّه "، فهذا هو معنى لا إله إلا اللّه، وهو عبادة اللّه وترك عبادة ما سواه، وهو الكفر بالطاغوت، وإيمان باللّه.
فتضمنت هذه الكلمة العظيمة أن ما سوى اللّه ليس بإله، وأن إلهية ما سواه أبطل الباطل، وإثباتها أظلم الظلم، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، فتضمنت نفي الإلهية عما سواه، وإثباتها له وحده لا شريك له، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه إلهًا وحده، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهًا. وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلاً يستفتي أو يستشهد من ليس أهلاً لذلك، ويدع مَنْ هو أهل له، فتقول: هذا ليس بمفت ولا شاهد، المفتي فلان، والشاهد فلان، فإن هذا أمر منه ونهي. وقد دخل في الإلهية جميع أنواع العبادة(4/85)
الصادرة عن تأله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 25.
2 سورة النحل آية: 36.
3 سورة ص آية: 5.
4 سورة الأعراف آية: 70.(4/86)
ص -53- ... القلب للّه بالحب والخضوع والانقياد له وحده لا شريك
له، فيجب إفراد اللّه تعالى بها، كالدعاء والخوف والمحبة، والتوكل والإنابة، والتوبة، والذبح، والنذر، والسجود، وجميع أنواع العبادة فيجب صرف جميع ذلك للّه وحده لا شريك له، فمن صرف شيئًا مما لا يصلح إلا للّه من العبادات لغير اللّه، فهو مشرك ولو نطق بـ: لا إله إلا اللّه، إذ لم يعمل بما تقتضيه من التوحيد والإخلاص.
ذكر نصوص العلماء في معنى الإله، قال ابن عباس رضي الله عنه: اللّه ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وقال الوزير أبو المظفر [بن هبيرة] في "الإفصاح"، قوله: " شهادة أن لا إله إلا اللّه "، يقتضي أن يكون الشاهد عالمًا بأن: لا إله إلا اللّه، كما قال: اللّه عز وجل:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}1 .
وينبغي أن يكون الناطق بها شاهدًا فيها، فقد قال اللّه عز وجل ما أوضح به أن الشاهد بالحق إذا لم يكن عالمًا بما شهد به، فإنه غير بالغ من الصدق به مع من شهد من ذلك بما يعلمه في قوله تعالى:{إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}2. قال: واسم اللّه تعالى مرتفع بعد " إلا " من حيث إنه الواجب له الإلهية. فلا يستحقها غيره سبحانه. قال: واقتضى الإقرار بها أن تعلم أن كل ما فيه أمارة للحدث، فإنه لا يكون إلهًا، فإذا قلت: لا إله إلا اللّه، فقد اشتمل نطقك هذا على أن ما سوى اللّه ليس بإله، فيلزمك إفراده سبحانه بذلك وحده.
قال: وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة هي مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان باللّه، فإنك لما نفيت الإلهية، وأثبت الإيجاب للّه سبحانه، كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن باللّه.
وقال أبو عبد اللّه القرطبي في" التفسير":{لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}، أي. لا معبود إلا هو. وقال الزمخشري: الإله من أسماء الأجناس - كالرجل والفرس - اسم يقع على كل معبود بحق أو بباطل، ثم غلب على(4/87)
المعبود بحق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة محمد آية: 19.
2 سورة الزخرف آية: 86.(4/88)
ص -54- ... وقال شيخ الإسلام: الإله هو المعبود المطاع. وقال أيضا في(لا إله إلا اللّه): إثبات انفراده بالإلهية، والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد. فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع.
وقال ابن القيم رحمه اللّه: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة وإكرامًا وتعظيمًا وذلاً وخضوعًا وخوفًا ورجاءً وتوكلاً.
وقال ابن رجب رحمه اللّه: - الإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالاً ومحبة، وخوفًا ورجاء، وتوكلاً عليه وسؤالاً منه ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا للّه عز وجل، فمن أشرك مخلوقًا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحًا في إخلاصه في قول: لا إله إلا اللّه، ونقصًا في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وهذا كله من فروع الشرك.
وقال البقاعي: لا إله إلا اللّه، أي: انتفى انتفاء عظيمًا أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية
من أهوال الساعة، وإنما يكون علمًا إذا كان نافعًا، وإنما يكون نافعًا إذا كان الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف.
وقال الطيبي: الإله فِعَالٌ بِمعنى: مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة، أي: عبد عبادة.
وهذا كثير جدًا في كلام العلماء، وهو إجماع منهم أن الإله هو المعبود، خلافًا لما يعتقده عباد القبور وأشباههم في معنى الإله أنه الخالق أو القادر على الاختراع أو نحو هذه العبارات، ويظنون أنهم إذا قالوها بهذا المعنى، فقد أتوا من التوحيد بالغاية القصوى، ولو(4/89)
ص -55- ... فعلوا ما فعلوا من عبادة غير اللّه، كدعاء الأموات، والاستغاثة بهم في الكربات، وسؤالهم قضاء الحاجات، والنذر لهم في الملمات، وسؤالهم الشفاعة عند رب الأرض والسموات، إلى غير ذلك من أنواع العبادات، وما شعروا أن إخوانهم من كفار العرب يشاركونهم في هذا الإقرار، ويعرفون أن اللّه هو الخالق القادر على الاختراع، ويعبدونه بأنواع من العبادات، فليهن أبو جهل وأبو لهب ومن تبعهما بحكم عباد القبور، وليهن أيضًا إخوانُهم عباد ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، إذ جعل هؤلاء دينهم هو الإسلام المبرور.
ولو كان معناها ما زعمه هؤلاء الجهال، لم يكن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبينهم نزاع، بل كانوا يبادرون إلى إجابته، ويلبون دعوته، إذ يقول لهم: قولوا: لا إله إلا اللّه، بمعنى: أنه لا قادر على الاختراع إلا اللّه. فكانوا يقولون: سمعنا وأطعنا.
قال اللّه تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}1.{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}2.{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ...}3 الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
لكنَ القومَ أهلُ اللسان العربي، فعلموا أنها تهدم عليهم دعاء الأموات والأصنام من الأساس، وتكب بناء سؤال الشفاعة من غير اللّه، وصرف الإلهية لغيره لأم الرأس، فقالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}4.{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}5.{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}6. فتبًا لمن كان أبو جهل ورأس الكفر من قريش وغيرهم أعلم منه بـ: " لا إله إلا اللّه ". قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا(4/90)
لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}7. فعرفوا أنها تقتضي ترك عبادة ما سوى اللّه، وإفراد اللّه بالعبادة، وهكذا يقول عباد القبور إذا طلبت منهم إخلاص الدعوة والعبادة للّه وحده: أنترك سادتنا وشُفعاءنا في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف آية: 87.
2 سورة الزخرف آية: 9.
3 سورة يونس آية: 31.
4 سورة الزمر آية: 3.
5 سورة يونس آية: 18.
6 سورة ص آية: 5.
7 سورة الصّافات آية: 35-36.(4/91)
ص -56- ... قضاء حوائجنا؟! فيقال لهم: نعم وهذا الترك والإخلاص هو الحق، كما قال تعالى:{بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}1. فـ: " لا إله إلا اللّه " اشتملت على نفي وإثبات، فنفت الإلهية عن كل ما سوى اللّه تعالى، فكل ما سواه من الملائكة والأنبياء فضلاً عن غيرهم، فليس بإله، ولا له من العبادة شيء، وأثبتت الإلهية للّه وحده، بمعنى أن العبد لا يأله غيره، أي: لا يقصده بشيء من التأله وهو تعلق القلب الذي يوجب قصده بشيء من أنواع العبادة، كالدعاء والذبح والنذر وغير ذلك
وبالجملة فلا يأله إلا اللّه، أي: لا يعبد إلا هو، فمن قال هذه الكلمة عارفًا لمعناها، عاملاً بمقتضاها، من نفي الشرك وإثبات الوحدانية للّه مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته من ذلك والعمل به، فهذا هو المسلم حقًا، فإن عمل به ظاهرًا من غير اعتقاد، فهو المنافق، وإن عمل بخلافها من الشرك، فهو الكافر ولو قالها، ألا ترى أن المنافقين يعملون بها ظاهرًا وهم {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّار}، [النّساء، من الآية: 145]، واليهود يقولونها وهم على ما هم عليه من الشرك والكفر، فلم تنفعهم، وكذلك من ارتد عن الإسلام بإنكار شيء من لوازمها وحقوقها، فإنها لا تنفعه، ولو قالها مائة ألف، فكذلك من يقولها ممن يصرف أنواع العبادة لغير اللّه، كعباد القبور والأصنام، فلا تنفعهم ولا يدخلون في الحديث الذي جاء في فضلها، وما أشبهه من الأحاديث.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: " وحده لا شريك له "، تنبيهًا على أن الإنسان قد يقولها وهو مشرك، كاليهود والمنافقين وعباد القبور، لما رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى قول: " لا إله إلا اللّه "، ظنوا أنه إنما دعاهم إلى النطق بها فقط، وهذا جهل عظيم، وهو عليه السلام إنما دعاهم إليها ليقولوها ويعملوا بمعناها، ويتركوا عبادة غير اللّه، ولهذا قالوا:{أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ(4/92)
مَجْنُونٍ}2. وقالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً}3. فلهذا أبوا عن النطق بها، وإلا فلو قالوها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الصافات آية: 37.
2 سورة الصافات آية: 36.
3 سورة ص آية: 5.(4/93)
ص -57- ... وبقوا على عبادة اللات والعزى ومناة لم يكونوا مسلمين، ولقاتلهم عليه السلام حتى يخلعوا الأنداد، ويتركوا عبادتها، ويعبدوا اللّه وحده لا شريك له، وهذا أمر معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة والإجماع.
وأما عبادة القبور فلم يعرفوا معنى هذه الكلمة، ولا عرفوا الإلهية المنفية عن غير اللّه الثابتة له وحده لا شريك له، بل لم يعرفوا من معناها إلا ما أقرّ به المؤمن والكافر، اجتمع عليه الخلق كلهم من أن معناها: لا قادر على الاختراع، أو أن معناها: الإله، هو الغني عما سواه، الفقير إليه كل ما عداه، ونحو ذلك، فهذا حق، وهو من لوازم الإلهية، ولكن ليس هو المراد بمعنى: " لا إله إلا اللّه "، فإن هذا القدر قد عرفه الكفار، وأقروا به، ولم يدعوا في آلهتهم شيئًا من ذلك، بل يقرون بفقرهم، وحاجتهم إلى اللّه، وإنما كانوا يعبدونهم على معنى أنهم وسائط وشفعاء عند اللّه في تحصيل المطالب ونجاح المآرب، وإلا فقد سلموا الخلق والملك والرزق والإحياء والإماتة، والأمر كله للّه وحده لا شريك له، وقد عرفوا معنى: " لا إله إلا اللّه "، وأبوا على النطق والعمل بها، فلم ينفعهم توحيد الربوبية مع الشرك في الإلهية، كما قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}1.وعباد القبور نطقوا بها وجهلوا معناها، وأبوا عن الإتيان به، فصاروا كاليهود الذين يقولونها ولا يعرفون معناها، ولا يعملون به، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير اللّه بالحب والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء والتوكل والدعاء عند الكرب، ويقصده بأنواع العبادة الصادرة عن تأله قلبه لغير اللّه مما هو أعظم مما يفعله المشركون الأولون، ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين باللّه تعالى أعطاك ما شئت من الإيمان صادقًا أو كاذبًا، ولو قيل له: احلف بحياة الشيخ فلان، أو بتربته ونحو ذلك، لم يحلف إن كان كاذبًا، وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أعظم في قلبه من(4/94)
رب الأرباب، وما كان الأولون هكذا، بل كانوا إذا أرادوا التشديد في اليمين حلفوا باللّه تعالى، كما في قصة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية: 106.(4/95)
ص -58- ... القسامة التي وقعت في الجاهلية، وهي في "صحيح البخاري [3845]".
وكثير منهم وأكثرهم يرى أن الاستغاثة بإلهه الذي يعبده عند قبره أو غيره أنفع وأنجح من الاستغاثة بالله في المسجد، ويصرحون بذلك، والحكايات عنهم بذلك فيها طول، وهذا أمر ما بلغ إليه شرك الأولين، وكلهم إذا أصابتهم الشدائد أخلصوا للمدفونين في التراب، وهتفوا بأسمائهم، ودعوهم ليكشفوا ضر المصاب في البر والبحر والسفر والإياب، وهذا أمر ما فعله الأولون، بل هم في هذه الحال يخلصون ل{الكبير المتعال}، فاقرأ قوله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...}1 الآية، وقوله:{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}2.وكثير منهم قد عطلوا المساجد وعمروا القبور والمشاهد، فإذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه، أخذ في دعاء صاحبه باكيًا خاشعًا ذليلاً خاضعًا، بحيث لا يحصل له ذلك في الجمعة والجماعات وقيام الليل وإدبار الصلوات، فيسألونهم مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب والنجاة من النار، وأن يحطوا عنهم الأوزار، فكيف يظن عاقل ـ فضلاً عن عالم ـ أن التلفظ بـ: " لا إله إلا اللّه " مع هذه الأمور تنفعهم؟! وهم إنما قالوها بألسنتهم وخالفوها باعتقادهم وأعمالهم؟! ولا ريب أنه لو قالها أحد من المشركين ونطق أيضًا بشهادة أن محمدا رسول اللّه ولم يعرف معنى الإله ولا معنى الرسول، وصلى وصام وحج، ولا يدري ما ذلك إلا أنه رأى الناس يفعلونه فتابعهم ولم يفعل شيئًا من الشرك، فإنه لا يشك أحد في عدم إسلامه.
وقد أفتى بذلك فقهاء المغرب كلهم في أول القرن الحادي عشر أو قبله في شخص كان كذلك كما ذكره صاحب " الدر الثمين في شرح المرشد المعين [ميارة]" من المالكية، ثم قال شارحه: وهذا الذي أفتوا به جلي في غاية الجلاء، لا يمكن أن يختلف فيه اثنان(4/96)
انتهى. ولا ريب أن عباد القبور أشد من هذا؟ لأنهم اعتقدوا الإلهية في أرباب متفرقين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة العنكبوت آية: 65.
2 سورة آية: 53-54.(4/97)
ص -59- ... فإن قيل: قد تبين معنى الإله والإلهية، فما الجواب عن قول من قال: بأن معنى الإله القادر على الاختراع ونحو هذه العبارة؟
قيل: الجواب من وجهين:
أحدهما: أن هذا قول مبتدع لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا من أئمة اللغة، وكلام العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم فيكون هذا القول باطلاً.
الثاني: على تقدير تسليمه، فهو تفسير باللازم للإله الحق، فإن اللازم له أن يكون خالقًا قادرًا على الاختراع، ومتى لم يكن كذلك، فليس بإله حق وإن سمي إلهًا، وليس مراده أن من عرف أن الإله هو القادر على الاختراع، فقد دخل في الإسلام وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلام، فإن هذا لا يقوله أحد، لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين، ولو قدر أن بعض المتأخرين أرادوا ذلك فهو مخطئ يرد عليه بالدلائل السمعية والعقلية.
قوله: "وأن محمدًا عبده ورسوله"، أي: وشهد بذلك، وهو معطوف على ما قبله، فتكون الشهادة واقعة على هذه الجملة وما قبلها وما بعدها، فإن العامل في المعطوف وما عطف عليه واحد، ومعنى " العبد" هنا يعني المملوك العابد، أي: مملوك للّه تعالى، وليس له من الربوبية والإلهية
شيء، إنما هو عبد مقرب عند اللّه ورسوله، أرسله اللّه كما قال تعالى:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}1 .قيل: وقدم العبد هنا على الرسول ترقيًا من الأدنى إلى الأعلى، وجمع بينهما لدفع الإفراط والتفريط الذي وقع في شأن عيسى عليه السلام، وقد أكد النبي صلى الله عليه(4/98)
وسلم هذا المعنى بقوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد اللّه ورسوله "2 رواه البخاري عن عمر بن الخطاب. وذلك يتضمن تصديقه فيما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجن آية: 19-23.
2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23).(4/99)
ص -60- ... أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه زجر، فلا يكون كامل الشهادة له بالرسالة من ترك أمره وأطاع غيره، وارتكب نهيه.
[تفسير قوله تعالى وروح منه] .
قوله: " وإن عيسى عبد اللّه ورسوله"، وفي رواية "وابن أمته"، أي: خلافًا لما يعتقده النصارى أنه اللّه، أو ابن اللّه، تعالى اللّه عن ذلك {علوًا كبيرا} {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}1 فيشهد بأنه عبد اللّه، أي: عابد مملوك للّه، لا مالك، فليس له من الربوبية ولا من الإلهية شيء.
ورسول صادق، خلافًا لقول اليهود: إنه ولد بغي، بل يقال فيه ما قال عن نفسه كما قال تعالى:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}2.
وقال تعالى:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}3 قال القرطبي: ويستفاد منه ما يلقنه النصراني إذا أسلم.
قوله: "{وَكَلِمَتُهُ}"، إنما سمي عليه السلام كلمة اللّه، لصدوره بكلمة {كن} بلا أب.
قاله قتادة وغيره من السلف.
قال الإمام أحمد فيما أملاه في الرد على الجهمية: الكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له:{كن} فكان عيسى بـ {كن}، وليس عيسى هو كن، ولكن ب: كن كان، فـ: كن من اللّه قول، وليس: كن، مخلوقًا، وكذب النصارى والجهمية على اللّه في أمر(4/100)
عيسى، وذلك أن الجهمية قالت: عيسى روح اللّه وكلمته، إلا أن الكلمة مخلوقة.
وقالت النصارى، عيسى روح اللّه من ذات اللّه، وكلمة اللّه من ذات الله، كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب.
وقلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان، وليسى عيسى هو الكلمة. انتهى. يعني به ما قال قتادة وغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المؤمن آية: 91-92.
2 سورة مريم آية: 30-34.
3 سورة النساء آية: 172.(4/101)
ص -61- ... قوله: "{أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ}، [النّساء، من الآية: 171]، قال ابن كثير: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبرائيل عليه السلام إلى مريم، فنفخ فيها في روحه بإذن ربه عز وجل،
فكان عيسى بإذن اللّه عز وجل، وصارت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها فنزلت حتى ولجت فرجها، بمنزلة لقاح الأب الأم، والجميع مخلوق للّه عز وجل. ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة اللّه وروح منه، لأنه لم يكن له أب تولد منه، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له: كن، فكان، والروح التي أرسل بها جبرائيل عليه السلام.
قوله:{وروح منه} قال أبي بن كعب: عيسى روح من الأرواح التي خلقها اللّه عز وجل واستنطقها بقوله:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}1، بعثه اللّه إلى مريم فدخل مَن فيها.
رواه عبد بن حميد، وعبد اللّه بن أحمد في زوائد "المسند" [2124] وابن جرير، وابن أبي حاتم وغيرهم.
وقال أبو روق [عطية بن الحارث] {وروح منه}، أي: نفخة منه، إذ هي من جبرائيل بأمره، وسمي روحًا، لأنه حدث من نفخة جبرائيل عليه السلام.
وقال الإمام أحمد: {وَرُوحٌ مِنْهُ}، يقول: من أمره كان الروح فيه، كقوله:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}2 يقول: من أمره.
وقال شيخ الإسلام: المضاف إلى اللّه تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا بغيره المخلوقات، وجب أن يكون صفة لله تعالى، قائمة به، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب، وإن كان المضاف عينًا قائمة بنفسها، كعيسى وجبرائيل عليه السلام وأرواح بني آدم، امتنع أن يكون صفة للّه تعالى، لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره، لكن الأعيان المضافة إلى اللّه تعالى على وجهين:
أحدهما: أن تكون تضاف إليه لكونه خلقها
وأبدعها، فهذا شامل لجميع المخلوقات، كقولهم: سماه اللّه، وأرض اللّه، ومن هذا الباب، فجميع المخلوقين عبيد اللّه، وجميع المال مال اللّه، وجميع البيوت والنوق للّه.(4/102)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 172.
2 سورة الجاثية آية: 13.(4/103)
ص -62- ... الوجه الثاني: أن يضاف إليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه كما خص البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون في غيره، وكما يقال عن مال الفيء والخمس: هو مال اللّه ورسوله، ومن هذا الوجه فعباد اللّه هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره، فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه. انتهى ملخصًا.
والمقصود منه أن إضافة روح إلى اللّه هو من الوجه الثاني، واللّه أعلم.
قوله: "والجنة حق والنار حق" أي: وشهد أن الجنة ـ التي أخبر بها اللّه في كتابه أنه أعدها لمن آمن به وبرسوله حق، أي: ثابتة لا شك فيها، وشهد أن النار ـ التي أخبر اللّه في كتابه أنه أعدها للكافرين به وبرسله حق كذلك، كما قال تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}1. وقال تعالى:{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}2.وفيهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، خلافًا لأهل البدع الذين قالوا: لا يخلقان إلا في يوم القيامة، وفيه دليل على المعاد وحشر الأجساد.
قوله:"أدخله اللّه الجنة على ما كان، من العمل"، هذه الجملة جواب الشرط وفي رواية: " أدخله اللّه الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية " قال القاضي عياض: وما ورد في حديث عبادة يكون خصوصا لمن قال ما ذكره صلى الله عليه وسلم وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته، ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة.
[فضل من قال لا إله إلا الله]
قال: ولهما من حديث عتبان:"فإن اللّه حرم على النار من قال: لا إله إلا اللّه يبتغي بذلك وجه اللّه".
قوله: ولهما، أي للبخاري [425]ن(4/104)
ومسلم [263] في "صحيحيهما".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحديد آية: 21.
2 سورة البقرة آية: 24.(4/105)
ص -63- ... وهذا الحديث طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان كما قال المصنف.
وعتبان - بكسر المهملة بعدها مثناة فوقية ثم موحدة - ابن مالك بن عمر بن العجلان الأنصاري من بني سالم بن عوف صحابي شهير، مات في خلافة معاوية.
قوله: "فإن اللّه حرم على النار. الحديث".
اعلم أنه قد وردت أحاديث ظاهرها أنه من أتى بالشهادتين حرم على النار، كهذا الحديث، وحديث أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل، فقال: "يا معاذ. قال: لبيك يا رسول اللّه وسعديك. قال. "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمد رسول اللّه، إلا حرمه على النار." قال: يا رسول اللّه ألا أخبر بها الناس فيستبشروا.؟ قال: "إذًا يتكلوا" 1. فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا. أخرجاه.
ولمسلم عن عبادة مرفوعًا: "من شهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا عبده ورسوله، حرم اللّه عليه النار."2
ووردت أحاديث فيها أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة، وليس فيها أنه يحرم على النار.
منها حديث عبادة الذي تقدم قبل هذا، وحديث أبي هريرة أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم: في غزوة تبوك... الحديث. وفيه: فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه، لا يلقى اللّه بهما عبد غير شاكٍّ فيحجب عن الجنة"3 رواه مسلم.
وحديث أبي ذر في " الصحيحين " مرفوعًا: "ما من عبد قال: لا إله إلا اللّه ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة..."4 .وأحسن ما قيل في معناه ما قاله شيخ الإسلام وغيره: إن هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها كما جاءت مقيدة، وقالها خالصًا من قلبه مستيقنًا بها قلبه، غير شاك فيها بصدق ويقين، فإن(4/106)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: العلم (128) , ومسلم: الإيمان (32).
2 البخاري: العلم (128) , ومسلم: الإيمان (32) , وأحمد (3/131 ,3/157 ,3/244).
3 مسلم: الإيمان (27) , وأحمد (2/421).
4 البخاري: اللباس (5827) , ومسلم: الإيمان (94).(4/107)
ص -64- ... حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى اللّه جملة، فمن شهد أن لا إله إلا اللّه خالصًا من قلبه، دخل الجنة، لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى اللّه تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحًا، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك؛ فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا اللّه، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة، وتواترت بأن كثيرا ممن يقول: لا إله إلا اللّه يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن اللّه حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون للّه، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا اللّه، ومن شهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمد رسول اللّه، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين، ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبينها، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليدًا أو عادة، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث: - سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم وهم أقرب الناس من قوله تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}1. وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام، لم يكن في هذه الحال مصرًا على ذنب أصلاً، فإنه كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون اللّه أحب إليه من كل شيء، فإذًا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم اللّه ولا كراهية لما أمر اللّه، وهذا هو الذي يحرم من النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان، وهذه التوبة، وهذا الإخلاص، وهذه المحبة وهذا اليقين، لا يتركون له ذنبًا إلا يُمحى كما يُمحى الليل بالنهار، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلاً، فيغفر(4/108)
له ويحرم على النار، وإن قالها على وجه خلص به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف آية: 23.(4/109)
ص -65- ... على الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة، فيحرم على النار ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته على حسناته ومات مصرًا على ذلك، فإنه يستوجب النار، وإن قال: لا إله إلا اللّه، وخلص بها من الشرك الأكبر، لكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعد ذلك بسيئات رجحت على حسنة توحيده، فإنه في حال قولها كان مخلصًا، لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك، بخلاف المخلص المستيقن، فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته، ولا يكون مصرًا على سيئة، فإن مات على ذلك دخل الجنة، وإنما يخاف على المخلص أن يأتي بسيئات راجحة يضعف إيمانه، فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر، فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك، فيرجح جانب السيئات، فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف بذلك قول: لا إله إلا اللّه، فيمتنع الإخلاص في القلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم، أو من يحسن صوته بآية من القرآن من غير ذوق طعم ولا حلاوة، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقص ذلك الصدق واليقين، بل يقولونها من غير يقين وصدق، ويموتون على ذلك ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة، وإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح، وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غيره، واطمأن إلى الباطل واستحلى الرفث ومخالطة أهل الغفلة، وكره مخالطة أهل الحق، فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدق عمله، كما قال الحسن: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في(4/110)
ص -66- ... القلوب وصدقته الأعمال، فمن قال خيرا وعمل خيرًا قبل منه، ومن قال شرًا وعمل شرًا لم يقبل منه.
وقال بكر بن عبد اللّه المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه. فمن قال: لا إله إلا اللّه ولم يقم بموجبها، بل اكتسب مع ذلك ذنوبًا وسيئات، وكان صادقًا في قولها موقنًا بها، لكن ذنوبه أضعاف أضعاف صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، رجحت هذه الأشياء على هذه الحسنة، ومات مصرًا على الذنوب، بخلاف من يقولها بيقين وصدق تام، فإنه لا يموت مصرًا على الذنوب، إما أن لا يكون مصرًا على سيئة أصلاً أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته.
والذين يدخلون النار ممن يقولها قد فاتهم أحد هذين الشرطين: إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التامين المنافيين للسيئات، أو لرجحان السيئات، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام، لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فَقَوْلُها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات بل ترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى ملخصًا.
وقد ذكر معناه غيره كابن القيم، وابن رجب، والمنذري، والقاضي عياض، وغيرهم.
وحاصله: أن لا إله إلا اللّه سبب لدخول الجنة، والنجاة من النار، ومقتض لذلك، ولكن المقتضي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه، وانتفاء موانعه، فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه، أو لوجود مانع.
ولهذا قيل للحسن إن ناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا اللّه دخل الجنة، فقال: من قال: لا إله إلا اللّه فأدى حقها وفرضها دخل الجنة
وقال وهب بن منبه، لمن سأله: أليس لا إله إلا اللّه مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح.(4/111)
ص -67- ... ويدل على ذلك أن اللّه رتب دخول الجنة على الإيمان والأعمال الصالحة، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في "الصحيحين" عن أبي أيوب: "أن رجلاً قال: يا رسول اللّه أخبرني بعمل يدخلني الجنة. فقال: "تعبد اللّه ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم"1. وفي " المسند " عن بشر بن [معبد] بن الخصاصية قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه، فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن أقيم الصلاة، وأن أوتي الزكاة، وأن أحج حجة الإسلام، وأن أصوم رمضان، وأن أجاهد في سبيل اللّه. فقلت: يا رسول اللّه، أما اثنتين، فواللّه ما أطيقهما: الجهاد والصدقة، فقبض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يده ثم حركها وقال: "فلا جهاد ولا صدقة، فبم تدخل الجنة إذًا؟! "قلت: يا رسول اللّه أبايعك عليهن كلهن"2 ففي الحديث: أن الجهاد والصدقة شرط في دخول الجنة مع حصول التوحيد، والصلاة، والحج، والصيام. والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد، وبالعكس.
وفيه تحريم النار على أهل التوحيد الكامل، وفيه أن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصًا للّه تعالى.
[فضل لا إله إلا الله ورجحانها في الميزان]
قال: وعن أبي سعيد الخدري عن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "قال موسى: يارب علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا اللّه. قال: كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضون السبع في كفة، ولا إله إلا اللّه في كفة، مالت بهن لا إله إلا اللّه" رواه ابن حبان، والحاكم وصححه.
أبو سعيد: اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، وأبوه أيضًا كذلك، استصغر أبو سعيد بأحد، ثم شهد ما بعدها، مات بالمدينة سنة ـ ثلاث أو أربع أو خمس ـ وستين. وقيل: أربع وسبعين.(4/112)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1396) , ومسلم: الإيمان (13) , والنسائي: الصلاة (468) , وأحمد (5/417 ,5/418).
2 أحمد (5/224).(4/113)
ص -68- ... قوله: (أذكرك). هو بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: أنا أذكرك. وقيل: بل هو صفة، وأدعوك معطوف عليه، أي: أثني عليك وأحمدك به، وأدعوك، أي: أتوسل به إليك إذا دعوتك.
قوله: "قل يا موسى: لا إله إلا اللّه". فيه أن الذاكر بها يقولها كلها، ولا يقتصر على لفظ الجلالة كما يفعله جهال المتصوفة، ولا يقول أيضًا: هو كما يقوله غلاة جهالهم، فإذا أرادوا الدعاء قالوا: يا هو، فإن ذلك بدعة وضلالة. وقد صنف جهالهم في المسألتين، وصنف ابن عربي كتابًا سماه بـ: "الهو".
قوله: "كل عبادك يقولون هذا"، هكذا ثبت في المصنف، يقولون بالجمع مراعاة لمعنى كل، والذي في الأصول: (يقول) بالإفراد مراعاة للفظها دون معناها، لكن قد روى الإمام أحمد عن عبد اللّه بن عمرو هذا الحديث بهذا اللفظ الذي ذكره المصنف أطول منه.
وفي " سنن النسائي [10670]" و " الحاكم " و " شرح السنة [1273]" بعد قوله: (كل عبدك يقولون هذا) وإنما أريد أن تخصني به"، أي: بذلك الشيء من بين
عموم عبادك فإن من طبع الإنسان أن لا يفرح فرحا شديدًا إلا بشيء يختص به دون غيره، كما إذا كانت عنده جوهرة ليست موجودة عند غيره. مع أن من رحمة اللّه وسنته المطردة أن ما اشتدت إليه الحاجة والضرورة، كان أكثر وجودًا، كالبر والملح، والماء ونحو ذلك دون الياقوت واللؤلؤ، ولما كان بالناس ـ بل بالعالم كله ـ من الضرورة إلى لا إله إلا اللّه ما لا نهاية في الضرورة فوقه كانت أكثر الأذكار وجودًا، وأيسرها حصولاً، وأعظمها معنى. والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الأسماء الغريبة،(4/114)
ص -69- ... والدعوات المبتدعة التي لا أصل لها في الكتاب والسنة كالأحزاب والأوراد التي ابتدعها جهلة المتصوفة.
قوله: "وعامرهن غيري"، هو بالنصب عطف على السماوات، أي: لو أن السماوات السبع ـ ومن فيهم من العمار غير اللّه والأرضين السبع ومن فيهن ـ وضعوا في كفة الميزان، ولا إله إلا اللّه في الكفة الأخرى، مالت بهن لا إله إلا اللّه.
وروى الإمام أحمد [6580] عن عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نوحًا عليه السلام قال لابنه عند موته: " آمرك بـ: " لا إله إلا اللّه، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ولا إله إلا اللّه في كفة رجحت بهن لا إله إلا اللّه، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا اللّه ".وفيه دليل على أن اللّه تعالى فوق السماوات.
قوله: (في كفة) بكسر الكاف وتشديد الفاء من كفة الميزان. قال بعضهم: ويطلق لكل مستدير.
قوله: "مالت بهن لا إله إلا اللّه"، أي: رجحت عليهن، وذلك لما اشتملت عليه من توحيد اللّه الذي هو أفضل الأعمال، وأساس الملة، ورأس الدين، فمن قالها بإخلاص ويقين، وعمل بمقتضاها ولوازمها، واستقام على ذلك، فهو من {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، [البقرة، من الآية: 62]، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}1.
والحديث يدل على أن: " لا إله إلا اللّه " أفضل الذكر، كما في حديث عبد اللّه بن عمرو مرفوعًا: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير(4/115)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فصلت آية: 30-32.(4/116)
ص -70- ... ما قلت أنا والنبيون من قبلي، لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"1. رواه أحمد والترمذي. وعنه أيضًا مرفوعًا: "يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئًا؟ فيقول: لا يا رب، فيقال: ألك عذر أو حسنة، فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة". رواه الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن
حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
وقال الذهبي في "تلخيصه": صحيح. قال ابن القيم: فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العمل واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض.
قال: تأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات، فلا يعذب. ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه. وعن أبي هريرة مرفوعًا: "ما قال عبد لا إله إلا اللّه مخلصًا قط إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنب الكبائر"2 رواه الترمذي وحسنه والنسائي، والحاكم وقال: على شرط مسلم.
قوله: (رواه ابن حبان، والحاكم). (ابن حبان): اسمه محمد بن حبان -بكسر المهملة وتشديد الموحدة- بن أحمد بن حبان أبو حاتم التميمي البستي الحافظ صاحب التصانيف كـ " الصحيح "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الدعوات (3585).
2 الترمذي: الدعوات (3590).(4/117)
ص -71- ... و " التاريخ " و " الضعفاء " و " الثقات " وغير ذلك. قال الحاكم: كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال، مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست بالمهملة.
وأما الحاكم، فاسمه محمد بن عبد اللّه بن محمد الضبي النيسابوري أبو عبد اللّه الحافظ، ويعرف بابن البيِّع. ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وصنف التصانيف كـ " المستدرك " و " تاريخ نيسابور " وغيرهما، مات سنة خمس وأربعمائة.
[بيان سعة مغفرة الله تعالى ]
قال: وللترمذي وحسنه عن أنس سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " قال اللّه تعالى: يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة "1 .
الترمذي، اسمه: محمد بن عيسى بن سورة - بفتح المهملة - ابن موسى ابن الضحاك السلمي أبو عيسى صاحب " الجامع " وأحد الأئمة الحفاظ، كان ضرير البصر. روى عن قتيبة وهناد والبخاري وخلق، ومات سنة تسع وسبعين ومائتين.
وأنس هو: ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خدمه عشر سنين، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة "2 ومات سنة اثنتين ـ وقيل: ثلاث ـ وتسعين. وقد جاوز المائة.
والحديث قطعة من حديث رواه الترمذي من طريق كثير بن فائد: حدثنا سعيد بن عبيد، سمعت بكر بن عبد اللّه المزني يقول: حدثنا أنس بن مالك قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " قال اللّه تعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض.... "3 الحديث.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الدعوات (3540).
2 البخاري: الدعوات (6334) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (660).
3 الترمذي: الدعوات (3540).(4/118)
ص -72- ... قال ابن رجب: وإسناده لا بأس به.
وسعيد بن عبيد: هو الْهُنَائِي: ذكره ابن حبان في " الثقات " وقال الدارقطني: تفرد به كثير بن فائد عن سعيد بن عبيد مرفوعًا.
قال ابن رجب: وتابعه على رفعه أبو سعيد مولى بني هاشم، فرواه عن سعيد بن عبيد مرفوعًا، وقد رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر بمعناه، وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول اللّه: من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا"1 الحديث. وفيه: "ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة، لا يشرك بي شيئًا لقيته بقرابها مغفرة"2.
قوله: " لو أتيتني بقراب الأرض ". قراب الأرض، بضم القاف، وقيل بكسرها، والضم أشهر، وهو ملؤها أو ما يقارب ملءها.
قوله: " ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا ". شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك كثيره وقليله، صغيره وكبيره، ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه اللّه، وذلك هو القلب السليم. كما قال تعالى:{يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}3.
قال ابن رجب: من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه اللّه بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة اللّه عز وجل فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة، فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه للّه تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية، فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه، أخرجت منه كل ما سوى اللّه محبة وتعظيما وإجلالاً ومهابة وخشية وتوكلاً، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر، وربما قلبتها حسنات، فإن(4/119)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: التوحيد (7405) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2675) , والترمذي: الدعوات (3603) , وابن ماجه: الأدب (3822) , وأحمد (2/251 ,2/509 ,2/524 ,2/534).
2 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2687) , وابن ماجه: الأدب (3821) , وأحمد (5/148 ,5/167 ,5/169 ,5/172 ,5/180) , والدارمي: الرقاق (2788).
3 سورة الشّعراء آية: 88-89.(4/120)
ص -73- ... هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم، فلو وضع منه ذرة على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات.
وقال شيخ الإسلام: الشرك نوعان: أكبر، وأصغر، فمن خلص منهما
وجبت له الجنة، ومن مات على الأكبر، وجبت له النار، ومن خلص من الأكبر، وحصل له بعض الأصغر مع حسنات راجحة على ذنوبه، دخل الجنة، فإن تلك الحسنات توحيد كثير مع يسير من الشرك الأصغر، ومن خلص من الأكبر، ولكن كثر الأصغر حتى رجحت به سيئاته دخل النار، فالشرك يؤاخذ به العبد إذا كان أكبر أو كان كثيرًا أصغر، والأصغر القليل في جانب الإخلاص الكثير لا يؤاخذ به.
وفي هذه الأحاديث: 1-كثرة ثواب التوحيد. 2-وسعة كرم اللّه، وجوده ورحمته، حيث وعد عباده أن العبد لو أتاه بملء الأرض خطايا وقد مات على التوحيد فإنه يقابله بالمغفرة الواسعة التي تسع ذنوبه. 3-والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة الذين يقولون بالمنْزلة بين المنزلتين وهي منْزلة الفاسق، فيقولون: ليس بمؤمن ولا كافر ويخلد في النار والصواب في ذلك قول أهل السنة أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان على الإطلاق، ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاصٍ أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
وقال المصنف: 1-تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة، فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قول لا إله إلا اللّه، وتبين لك خطأ المغرورين.2- وفيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على معنى قول لا إله إلا اللّه. 3- وفيه التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات مع أن كثيرًا ممن يقولها يخف ميزانه. 4-وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس عرفت أن قوله في حديث عتبان: "إن اللّه حرم(4/121)
ص -74- ... على النار من قال لا إله إلا اللّه يبتغي بذلك وجه اللّه"1. إذا ترك الشرك، ليس قولها باللسان. انتهى ملخصًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلاة (425) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33).
[م3- باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب]
أي: ولا عذاب. وتحقيق التوحيد: هو معرفته، والاطلاع على حقيقته، والقيام بها علمًا وعملاً، وحقيقة ذلك هو انجذاب الروح إلى اللّه محبة وخوفًا، وإنابة وتوكلاً، ودعاء وإخلاصًا وإجلالاً وهيبة، وتعظيمًا وعبادة. وبالجملة فلا يكون في قلبه شيء لغير اللّه، ولا إرادة لما حرم اللّه، ولا كراهة لما أمر اللّه؟ وذلك هو حقيقة لا إله إلا اللّه، فإن الإله هو المألوه المعبود.
وما أحسن ما قال ابن القيم:
فلِواحِدٍ كن واحدًا في واحد ... أعني سبيل الحق والإيمان
وذلك هو حقيقة الشهادتين، فمن قام بهما على هذا الوجه فهو من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب.
قوله: وقال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}1. مناسبة الآية للترجمة من جهة أن اللّه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بهذه الصفات الجليلة التي هي أعلى درجات تحقيق التوحيد، ترغيبًا في اتباعه في التوحيد، وتحقيق العبودية فاتباع الأوامر، وترك النواهي، فمن اتبعه في ذلك، فإنه يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب كما يدخلها إبراهيم عليه السلام.
الأولى: أنه{كَانَ أُمَّةً}، أي: قدوة وإمامًا معلمًا للخير، وإمامًا يقتدى به. روي معناه عن ابن مسعود. وما كان كذلك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين اللذين بهما تنال الإمامة في الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 120.(4/122)
ص -75- ... كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}1.
الثانية: أنه كان{قَانِتاً لِلَّهِ}، أي: خاشعًا مطيعًا، دائمًا على عبادته وطاعته كما قال شيخ الإسلام: القنوت في اللغة: دوام الطاعة. والمصلي إذا طال قيامه أو ركوعه أو سجوده، فهو قانت في ذلك كله. قال تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}2 فجعله قانتًا في حال السجود والقيام. انتهى.
فوصفه في هاتين الصفتين بتحقيق العبودية في نفسه أولاً علمًا وعملاً. وثانيا: دعوة وتعليمًا واقتداء به، وما كان يقتدى به إلا لعمله به في نفسه، ووصفه في الثانية بالاستقامة على ذلك كما قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}3. فتضمنت العلم والعمل والاستقامة والدعوة.
الدعوة الثالثة: أنه كان حنيفًا، والحنف الميل، أي: مائلاً منحرفًا قصدًا عن الشرك كما قال تعالى حكاية عنه:{وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}4 وقال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}5.
الرابعة: أنه ما كان من المشركين. أي: هو موحد خالص من شوائب الشرك مطلقًا، فنفى عنه الشرك ـ على أبلغ وجوه النفي، بحيث لا ينسب إليه شرك وإن قل ـ، تكذيبًا لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام.
وقال المصنف في الكلام على هذه الآية:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}6، لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين.{قَانِتاً لِلَّهِ}7، لا للملوك ولا للتجار(4/123)
المترفين{حَنِيفاً}لا يميل يمينًا ولا شمالا كفعل العلماء المفتونين{وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}8 خلافا لمن كثر سوادهم وزعم أنه من المسلمين. قلت: وهو من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة السجدة آية: 24.
2 سورة الزمر آية: 9.
3 سورة فصلت آية: 33.
4 سورة الأنعام آية: 79.
5 سورة الروم آية: 30.
6 سورة النحل آية: 120.
7 سورة النحل آية: 120.
8 سورة النحل آية: 120.(4/124)
ص -76- ... أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية، لكنه ينبه بالأدنى على الأعلى.
وقوله: لئلا يستوحش. تنبيه على بعض معنى الآية، وهو المنفرد وحده في الخير. وقد روى يابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتا}1، كان على الإسلام ولم يكن في زمانه من قومه أحد على الإسلام غيره، فلذلك قال اللّه:{كَانَ أُمَّةً قَانِتا}2، ولا تنافي بينه وبين كلام ابن مسعود المتقدم.
قوله: وقال:{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ}3، مناسبة الآية للترجمة من جهة أن اللّه تعالى وصف المؤمنين السابقين إلى الجنات بصفات، أعظمها الثناء عليهم بأنهم {بربهم لا يشركون}، أي: شيئا من الشرك في وقت من الأوقات فإن الإيمان النافع مطلقًا لا يوجد إلا بترك الشرك مطلقًا. ولما كان المؤمن قد يعرض له ما يقدح في إيمانه من شرك جلي أو خفي، نفى عنهم ذلك، ومن كان كذلك فقد بلغ من تحقيق التوحيد النهاية، وفاز بأعظم التجارة، ودخل الجنة بلا حساب ولا عذاب.
قال ابن كثير:{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ}4، أي: لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا اللّه أحد صمد، لم يتخذ {صاحبة ولا ولدًا} وأنه لا نظير له.
[صفات المتوكلين الذين يدخلون الجنة بغير حساب]
قال عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا. ثم،قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي. قال: وما حدثكم الشعبي؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة "5.فقال: قد أحسن من انتهى إِلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل(4/125)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 120.
2 سورة النحل آية: 120.
3 سورة المؤمنون آية: 59.
4 سورة المؤمنون آية: 59.
5 مسلم: الإيمان (220) , وأحمد (1/271).(4/126)
ص -77- ... والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه. فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منْزله فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا باللّه شيئًا فخرج عليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأخبروه. فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول اللّه ادع اللّه أن يجعلني منهم قال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع اللّه أن يجعلني منهم، فقال. سبقك بها عكاشة " .
ش: هكذا أورد المصنف هذا الحديث غير معزو، وقد رواه البخاري مختصرًا ومطولاً. ومسلم واللفظ له، والترمذي، والنسائي.
قوله: (عن حصين بن عبد الرحمن)، هو: السلمي أبو الهذيل الكوفي ثقة، تغير حفظه في الآخر، مات سنة ست وثلاثين ومائه، وله ثلاث وتسعون سنة. وسعيد بن جبير هو الإمام الفقيه من جلة أصحاب ابن عباس، روايته عن عائشة، وأبي موسى مرسلة، وهو كوفي مولى لبني أسد، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين، ولم يكمل الخمسين.
قوله: (انقض) هو بالقاف والضاد المعجمة، أي: سقط. والبارحة هي أقرب ليلة مضت. قال أبو العباس ثعلب: يقال قبل الزوال: رأيت الليلة، وبعد الزوال: رأيت البارحة، وهكذا قال غيره، وهي مشتقة من برح:إذا زال.
قوله: (أما إني لم أكن في صلاة). القائل هو حصين، خاف أن يظن الحاضرون أنه ما رأى النجم إلا لأنه يصلي، فأراد أن ينفي عن نفسه إيهام العبادة، وأنه يصلي مع أنه لم يكن فعل ذلك، وهذا يدل(4/127)
ص -78- ... على فضل السلف الصالح وحرصهم على الإخلاص، وشدة ابتعادهم عن الرياء بخلاف من يقول: فعلت وفعلت ليوهم الأغمار أنه من الأولياء، وربما علق السبحة في عنقه، أو أخذها في يده يمشي بها بين الناس إعلامًا للناس أنه يسبح عدد ما فيها من الخرز.
وقد قال الإمام محمد بن وضاح: حدثنا أسد عن جرير بن حازم عن الصلت بن بهرام قال: مر ابن مسعود بامرأة [معها تسبيح] تسبح به فقطعه وألقاها، ثم مر برجل يسبح بحصى فضربه برجله ثم قال: لقد جئتم ببدعة ظلمًا، أو: لقد غلبتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علمًا؟!.
قوله: (ولكني لُدغْتُ). هو بضم أوله وكسر ثانيه مبني لما لم يسم فاعله، أي: لدغته عقرب أو نحوها.
قوله: (قلت: ارتقيت)، لفظ مسلم: استرقيت، أي: طلبت من يرقيني
قوله: (فما حمله على ذلك؟)، فيه طلب الحجة على صحة المذهب.
قوله: (حديث حدثناه الشعبي)، أي: حملني عليه حديث حدثناه الشعبي، واسمه عامر بن شرحبيل الهمداني - بسكون الميم - الشعبي، ولد في خلافة عمر وهو من ثقات التابعين وحفاظهم وفقهائهم، مات سنة ثلاثة ومائة.
قوله: (عن بريدة) - بضم أوله وفتح ثانيه - تصغير بردة - بن الحصيب - بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين - ابن عبد اللّه بن الحارث الأسلمي، صحابي شهير. مات سنة ثلاث وستين. قاله ابن سعد.
قوله: " لا رقية إلا من عين أو حمة "1. هكذا روي هنا موقوفًا، وقد رواه أحمد وابن ماجة عنه مرفوعًا، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعًا. قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (220) , وأحمد (1/271).(4/128)
ص -79- ... والعين: هي إصابة العائن غيره بعينه، والحمة - بضم المهملة وتخفيف الميم - سم العقرب وشبهها.
قال الخطابي: ومعنى الحديث: "لا رقية أشفى أو أولى من رقية العين والحمة" وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم ورقي ". قلت: وسيأتي ما يتعلق بالرقى إن شاء اللّه تعالى.
قوله: (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع)، أي: من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن، لأنه أدى ما وجب وعمل بما بلغه من العلم، بخلاف من يعمل بجهل أو لا يعمل بما يعلم فإنه مسيء آثم
وفيه فضيلة علم السلف وحسن أدبهم وهديهم وتلطفهم في تبليغ العلم، وإرشادهم من أخذ بشيء - إن كان مشروعًا - إلى ما هو أفضل منه، وأن من عمل بما بلغه عن اللّه وعن رسوله فقد أحسن، ولا يتوقف العمل به على معرفة كلام أهل المذاهب أو غيرهم.
قوله: (ولكن حدثنا ابن عباس). هو عبد اللّه بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"1. فكان كذلك. قال عمر: "لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد"، أي: ما بلغ عشره في العلم، مات بالطائف سنة ثمان وستين.
قال المصنف: فيه عمق علم السلف، لقوله: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن... كذا وكذا، فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.
قوله: (عرضت على الأمم). وفي رواية الترمذي والنسائي من رواية عَبْثَر بن القاسم، عن حصين بن عبد الرحمن أن ذلك كان ليلة الإسراء ولفظه: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم جعل يمر بالنبي ومعه الواحد.
قال الحافظ: فإن كان ذلك محفوظًا، كانت فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (1/266).(4/129)
ص -80- ... الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضًا غير الذي وقع بمكة، كذا قال، وليس بظاهر، بل قد يكون رأى ذلك ليلة الإسراء ولم يحدث به إلا في المدينة. وليس في الحديث ما يدل على أنه حدث به قريبًا من العرض عليه.
قوله: (فرأيت النبي ومعه الرهط): هو الجماعة دون العشرة، قاله النووي.
قوله: (والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد). فيه أن الأنبياء متفاوتون في عدد أتباعهم، وأن بعضهم لا يتبعه أحد، وفيه الرد على من احتج بالأكثر، وزعم أن الحق محصور فيهم، وليس كذلك، بل الواجب اتباع الكتاب والسنة مع من كان وأين كان.
قوله: (إذ رفع لي سواد عظيم). السواد: ضد البياض، والمراد هنا: الشخص الذي يرى من بعيد، أي: رفع لي أشخاص كثيرة.
قوله: فظننت أنهم أمتي. استشكل الإسماعيلي كونه صلى الله عليه وسلم لم يعرف أمته حتى ظن أنهم أمة موسى عليه السلام ; وقد ثبت حديث أبي هريرة: "كيف تعرف من لم تر من أمتك؟ فقال: إنهم غر محجلون من أثر الوضوء"1.
وأجاب بأن الأشخاص التي رآها في الأفق لا يدرك منها إلا الكثرة من غير تمييز لأعيانهم. وأما ما في حديث أبي هريرة فمحمول على ما إذا قربوا منه، ذكره الحافظ.
قوله: (فقيل لي: هذا موسى وقومه)، أي: موسى بن عمران، كليم الرحمن، وقومه: الذين اتبعوه وفيه فضيلة موسى وقومه.
قوله: (فنظرت فإذا سواد عظيم). لفظ مسلم ـ بعد قوله: هذا موسى وقومه ـ، ولكن انظر إلى الأفق فنظرت، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك.
قوله: (ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب)، أي: لتحقيقهم التوحيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه: الطهارة وسننها (284) , وأحمد (1/403 ,1/453).(4/130)
ص -81- ... قال الحافظ: المراد بالمعية المعنوية، فإن السبعين ألفًا المذكورين من جملة أمته، لكن لم يكونوا في الذين عرضوا إذ ذاك، فأريد الزيادة في تكثير أمته بإضافة السبعين ألفًا إليهم. قلت: وما قاله ليس بظاهر
فإن في رواية ابن فضيل: "ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفًا". وقد ورد في حديث أبي هريرة في " الصحيحين " وصف السبعين ألفًا بأنهم تضيء وجوهم إضاءة القمر ليلة البدر.
وفيهما عنه مرفوعًا: " أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة "1. وجاء في أحاديث أخر أن مع السبعين ألفًا زيادة عليهم، فروى أحمد والبيهقي في البعث حديث أبي هريرة في السبعين ألفًا فذكره وزاد. قال: " فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفًا "2. قال الحافظ: وسنده جيد.
وفي الباب عن أبي أيوب عند الطبراني، وعن حذيفة عند أحمد، وعن أنس عند البزار، وعن ثوبان عند [ابن] أبي عاصم قال: فهذه طرق يقوي بعضها بعضًا. قال: وجاء في أحاديث أخر أكثر من ذلك، فأخرج الترمذي وحسنه، والطبراني وابن حبان في "صحيحه " من حديث أبي أمامة رفعه " وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا مع كل ألف سبعين كذا ألفًا لا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربي "3 .
وروى أحمد وأبو يعلى من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " أعطيت سبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي عز وجل فزادني مع كل واحد سبعين ألفًا "4 .قال الحافظ: وفي سنده راويان: أحدهما: ضعيف الحفظ والآخر لم يسمّ).
قلت: وفيه أن كل أمة تحشر مع نبيها.
قوله: (ثم نهض)، أي: قام.(4/131)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: بدء الخلق (3254) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2834) , والترمذي: صفة الجنة (2537) , وابن ماجه: الزهد (4333) , وأحمد (2/230 ,2/231 ,2/247 ,2/253 ,2/257 ,2/316 ,2/473 ,2/502 ,2/504 ,2/507) , والدارمي: الرقاق (2823).
2 أحمد (2/359).
3 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2437) , وابن ماجه: الزهد (4286) , وأحمد (5/250 ,5/268).
4 أحمد (1/6).(4/132)
ص -82- ... قوله: (فخاض الناس في أولئك). قال النووي هو بالخاء والضاد المعجمتين، أي: تكلموا وتناظروا.
قال: وفي هذا إباحة المناظرة في العلم والمباحثة في نصوص الشرع على جهة الاستفادة وإظهار الحق.
وفيه عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعملٍ، وفيه حرصهم على الخير; ذكره المصنف.
قوله: فقال " هم الذين لا يسترقون ". هكذا ثبت في "الصحيحين" وفي رواية مسلم التي ساقها المصنف هنا زيادة: "ولا يرقون"، وكأن المصنف اختصرها ـ كغيرها ـ لما قيل: إنها معلولة.
قال شيخ الإسلام: هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: لا يرقون، لأن الراقي محسن إلى أخيه. وقد قال صلى الله عليه وسلم ـ وقد سئل عن الرقى ـ قال: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه"1 وقال: "لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا"2. قال: وأيضا فقد "رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم "، "ورقى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه"3.
قال: والفرق بين الراقي والمسترقي في أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير اللّه بقلبه، والراقي محسن. قال: وإنما المراد وصف السبعين ألفًا بتمام التوكل فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم ولا يتطيرون. وكذا قال ابن القيم; ولكن اعترضه بعضهم بأن قال: تغليط الراوي مع إمكان تصحيح الزيادة لا يصار إليه.
والمعنى الذي حمله على التغليط موجود في المرقى، لأنه اعتل بأن الذي لا يطلب من غيره أن يرقيه تام التوكل، فكذا يقال: والذي يفعل به غيره ذلك ينبغي أن لا يمكنه منه لأجل تمام التوكل، وليس في وقوع ذلك من جبريل عليه السلام دلالة على المدعى، ولا في فعل النبي صلى الله عليه وسلم له أيضًا دلالة؛ لأنّه في مقام التشريع، وتبيين الأحكام كذا قال هذا القائل وهو خطأ من وجوه:
الأول: أن هذه الزيادة لا يمكن تصحيحها إلا بحملها على وجوه لا يصح حملها عليها كقول بعضهم: المراد لا يرقون بما كان شركًا أو(4/133)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: السلام (2199).
2 مسلم: السلام (2200) , وأبو داود: الطب (3886).
3 البخاري: الطب (5746) , ومسلم: السلام (2194) , وأبو داود: الطب (3895) , وابن ماجه: الطب (3521) , وأحمد (6/93).(4/134)
ص -83- ... احتمله فإنه ليس في الحديث ما يدل على هذا أصلا. وأيضًا فعلى هذا لا يكون للسبعين مزية على غيره; فإن جملة المؤمنين لا يرقون بما كان شركًا.
الثاني: قوله: (فكذا يقال...) إلخ لا يصح هذا القياس، فإنه من أفسد القياس وكيف يقاس من سأل وطلب على من لم يسأل؟! مع أنه قياس مع وجود الفارق الشرعي، فهو فاسد الاعتبار، لأنه تسوية بين ما فرق الشارع بينهما بقوله: "من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل"1. رواه أحمد والترمذي وصححه وابن ماجة، وصححه ابن حبان والحاكم أيضًا. وكيف يجعل ترك الإحسان إلى الخلق سببًا للسبق إلى الجنان؟! وهذا بخلاف من رقى أو رقي من غير سؤال، فقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يجوز أن يقال: إنه عليه السلام لم يكن متوكلاً في تلك الحال.
الثالث: قوله: (ليس في وقوع ذلك من جبريل عليه السلام...) إلخ، كلام غير صحيح بل هما سيدا المتوكلين، فإذا وقع ذلك منهما، دل على أنه لا ينافي التوكل فاعلم ذلك.
قوله: "ولا يكتوون"، أي: لا يسألون غيرهم أن يكويهم، كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم استسلامًا للقضاء وتلذذًا بالبلاء.
أما الكي في نفسه، فجائز كما في " الصحيح " عن جابر بن عبد اللّه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلي أبي بن كعب طبيبًا، فقطع له عرقًا وكواه"2. وفي " صحيح البخاري " عن أنس: "أنه كوي من ذات الجنب والنبي صلى الله عليه وسلم حي"3.
وروى الترمذي وغيره عن أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة"4. وفي " صحيح البخاري "عن ابن عباس مرفوعًا: "الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار. وأنا أنهى عن الكي"5. وفي لفظ: "وما أحب أن أكتوي"6 .(4/135)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337).
2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532).
3 البخاري: الطب (5721).
4 البخاري: المرضى (5673) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2816) , وأحمد (2/256 ,2/264 ,2/326 ,2/385 ,2/390 ,2/469 ,2/473 ,2/524).
5 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645).
6 البخاري: الصلاة (434) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/51).(4/136)
ص -84- ... قال ابن القيم: فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع. أحدها: فعله، والثاني: عدم محبته له. والثالث: الثناء على من تركه. والرابع: النهي عنه. ولا تعارض بينها بحمد اللّه، فإن فعله له يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه. وأما الثناء على تاركيه، فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه، فعلى سبيل الاختيار والكراهية.
قوله: "ولا يتطيرون"، أي: لا يتشاءمون بالطيور ونحوها، وسيأتي بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها إن شاء اللّه تعالى.
قوله: "وعلى ربهم يتوكلون"1. ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال وهو التوكل على اللّه، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه الذي هو خلاصة التفريد، ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء، والرضى به ربًا وإلهًا، والرضى بقضائه، بل ربما أوصل العبد إلى التلذذ بالبلاء، وعده من النعماء، فسبحان من يتفضل على من يشاء بما يشاء، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، [البقرة، من الآية: 105].
واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً كما يظنه الجهلة، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه حتى الحيوان البهيم، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}2، أي: كافيه إنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على اللّه، كالاسترقاء والاكتواء فتركهم له ليس لكونه سببا لكن لكونه سببا مكروهًا، لاسيما والمريض ـ يتشبث بما يظنه سببًا لشفائه ـ بخيط العنكبوت أما نفس مباشرة الأسباب، والتداوي على وجه لا كراهية فيه، فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعًا؟ في " الصحيحين "(4/137)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الطب (5752) , ومسلم: الإيمان (220) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2446) , وأحمد (1/271).
2 سورة الطلاق آية: 3.(4/138)
ص -85- ... عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما أنزل اللّه من داء إلا أنزل له شفاء"1 .
وعن أسامة بن شريك قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، فقالوا يا رسول اللّه! أنتداوى؟ فقال: نعم يا عباد اللّه تَدَاوَوا، فإن اللّه عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له شفاء، غير داء واحد قالوا: ما هو؟ قال: الهرم"2. رواه أحمد.
قال ابن القيم: فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطشى والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها اللّه مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح بمباشرته في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى من التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على اللّه في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه. ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للأمر والحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزًا.
وقد اختلف العلماء في التداوي، هل هو مباح وتركه أفضل، أو مستحب أو واجب؟ فالمشهور عن أحمد الأول لهذا الحديث وما في معناه،
ولكن على ما تقدم لا يتم الاستدلال به على ذلك، والمشهور عند الشافعي الثاني، حتى ذكر النووي في " شرح مسلم " أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف. واختاره الوزير أبو المظفر.
قال: ومذهب أبو حنيفة أنه مؤكد حتى يداني به الوجوب قال: ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه فإنه قال: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه.
وقال شيخ الإسلام: ليس بواجب عند جماهير الأئمة، إنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد.
قوله: (فقام إليه عكاشة بن محصن). بضم العين وتشديد الكاف(4/139)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الطب (5678) , وابن ماجه: الطب (3439).
2 الترمذي: الطب (2038) , وأبو داود: الطب (3855) , وابن ماجه: الطب (3436).(4/140)
ص -86- ... ويجوز تخفيفها. ومحصن بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الصاد المهملتين - ابن حرثان- بضم المهملة وسكون الراء وبعدها مثلثة- الأسدي من بني أسد بن خزيمة ومنه خلفاء بني أمية، كان من السابقين إلى الإسلام، ومن أجمل الرجال - هاجر وشهد بدرا وقاتل فيها. قال ابن إسحاق: وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:- "خير فارس في العرب عكاشة". ومناقبه مشهورة استشهد في قتال أهل الردة مع خالد بن الوليد بيدي طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة ثم أسلم طليحة بعد ذلك.
قوله: "قال: ادع اللّه أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم"1. في رواية البخاري: فقال: (اللهم اجعله منهم). وكذلك في حديث أبي هريرة عند البخاري مثله. وفي بعض الروايات: "أمنهم أنا يا رسول اللّه؟ قال: نعم"2. قال الحافظ: ويجمع بأنه سأل الدعاء أولاً، فدعا له ثم استفهم هل أجيب؟ فأخبره. وفيه طلب الدعاء من الفاضل.
قوله: (ثم قام إليه رجل آخر). لم نقف على تسميته إلا في طريق واهية ذكرها الخطيب في "المبهمات" من رواية أبي حذيفة إسحاق بن بشر ـ أحد الضعفاء ـ من طريقين له عن مجاهد أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما انصرف من غزاة بني المصطلق...، فساق قصة طويلة فيها ذلك. قال الحافظ: وهذا مع ضعفه وإرساله يستبعد من جهة جلالة سعد بن عبادة، فإن كان محفوظًا، فلعله آخر باسم سيد الخزرج واسم أبيه، فإن في الصحابة كذلك آخر له في " مسند بقي بن مخلد " وفي الصحابة سعد بن عمارة فلعل اسم أبيه تحرف.
قوله: "سبقك بها عكاشة"3. قال ابن بطال: معنى قوله سبقك. أي: إلى إحراز هذه الصفات، وهي التوكل وعدم التطير وما ذكر معه، وعدل ـ عن قوله: لست منهم، أو لست على أخلاقهم ـ تلطفًا بأصحابه، وحسن أدب معهم. وقال القرطبي: لم يكن عند الثاني(4/141)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (220).
2 البخاري: الطب (5752) , ومسلم: الإيمان (220) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2446) , وأحمد (1/271).
3 البخاري: الطب (5705) , ومسلم: الإيمان (220) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2446) , وأحمد (1/271).(4/142)
ص -87- ... من الأحوال ما كان عند عكاشة، فلذلك لم يجب؛ إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضرًا فيتسلسل الأمر، فسدَّ الباب بقوله ذلك، وهذا أولى من قول من قال: كان منافقًا لوجهين:
أحدهما: أن الأصل في الصحابة عدم النفاق فلا يثبت ما يخالف ذلك إلا بنقل صحيح.
والثاني: أنه قل أن يصدر مثل هذا السؤال إلا عن قصد صحيح، ويقين بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم. وكيف يصدر ذلك من منافق؟!
قلت: هذا أولى ما قيل في تأويله، وإليه مال شيخ الإسلام. قال المصنف: وفيه استعمال المعاريض وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم.
[م4 باب الخوف من الشرك]
ش: لما كان الشرك أعظم ذنب عُصِيَ اللّه به، ولهذا رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، من إباحة دماء أهله وأموالهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه; نبه المصنف بهذه الترجمة على أنه ينبغي للمؤمن أن يخاف منه ويحذره ويعرف أسبابه ومبادئه وأنواعه لئلا يقع فيه، ولهذا قال حذيفة: "كان الناس يسألون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أساله عن الشر مخافة أن أقع فيه". رواه البخاري. وذلك أن من لم يعرف إلا الخير قد يأتيه الشر ولا يعرف أنه شر فإما أن يقع فيه، وإما أن لا ينكره كما ينكره الذي عرفه، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية " .
قال شيخ الإسلام: وهو كما قال عمر، فإن كمال الإسلام هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمام ذلك بالجهاد في سبيل اللّه، ومن نشأ في المعروف، فلم يعرف غيره، فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند مَنْ عَلِمَهُ، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم; ولهذا يوجد [في] الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز(4/143)
ص -88- ... عنه والجهاد لهم ما ليس عند غيره، ولهذا كان الصحابة أعظم إيمانًا وجهادًا ممن بعدهم لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر لما علموه من حسن حال الإيمان والعمل الصالح، وقُبْح حال الكفر والمعاصي.
قال: وقول اللّه:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}1.
قال ابن كثير: أخبر تعالى أنه {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}، أي: {لا يَغْفِرُ} لعبد لقيه وهو مشرك به، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} ، أي: من الذنوب {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} من عباده.
قلت: فتبين بهذا أن الشرك أعظم الذنوب، لأن اللّه تعالى أخبر أنه لا يغفره، أي: إلا بالتوبة منه، وما عداه، فهو داخل تحت مشيئة الله إن شاء غفره بلا توبة وإن شاء عذب به. وهذا يوجب للعبد شدة الخوف من هذا الذنب الذي هذا شأنه عند اللّه، وإنما كان كذلك؟ 1-لأنه أقبح القبح وأظلم الظلم إذ مضمونه تنقيص رب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به كما قال تعالى:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}2. 2-ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر منافٍ له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعته والذل له، والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك. فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: اللّه اللّه"3 رواه مسلم.
ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق ـ تعالى وتقدس ـ في خصائص الإلهية من ملك الضر والنفع، والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها باللّه وحده. فمن علق ذلك لمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه {ضرًا ولا نفعًا ولا... موتًا ولا حياة ولا نشورًا} [الفرقان]_ فضلاً عن غيره ـ شبيهًا بمن {لَهُ الْخَلْقُ}(4/144)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 48.
2 سورة الأنعام آية: 1.
3 مسلم: الإيمان (148) , والترمذي: الفتن (2207) , وأحمد (3/107 ,3/201 ,3/259).(4/145)
ص -89- ... كله، {وَلَهُ الْمُلْكُ} كله وبيده الخير كله، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ}. فَأَزِمَّة الأمور كلها بيديه سبحانه، ومرجعها إليه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس {رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات القادر الغني بالذات، ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والتوبة والاستعانة وغاية الحب مع غاية الذل، كل ذلك يجب عقلاً وشرعًا وفطرة أن يكون للّه وحده، ويمتنع عقلاً وشرعًا وفطرة أن يكون لغيره، فمن فعل شيئًا من ذلك لغيره، فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثل له ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه أنه لا يغفره مع أنه {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، فهذا معنى كلام ابن القيم.
وفي الآية رد على الخوارج المكفِّرين بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يدخلون النار ولا بد، ولا يخرجون منها، وهم أصحاب المنْزلة بين المنْزلتين. ووجه ذلك أن اللّه تعالى جعل مغفرة ما دون الشرك معلقة بالمشيئة، ولا يجوز أن يحمل هذا على التأكيد، فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره. كما قال تعالى في الآية الأخرى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}1. فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق؛ لأن المراد به ما لم يتب. قاله شيخ الإسلام.
قوله: وقال الخليل عليه السلام:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}2.
(الصنم): ما(4/146)
كان منحوتًا على صورة البشر. والوثن: ما كان منحوتًا على غير ذلك. ذكره الطبري عن مجاهد. والظاهر أن الصنم ما كان مصورًا على أي صورة، والوثن بخلافه كالحجر والبينة، وإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 53.
2 سورة إبراهيم آية: 35.(4/147)
ص -90- ... كان الوثن قد يطلق على الصنم، ذكر معناه غير واحد، ويروى عن بعض السلف ما يدل عليه. وقوله:{وَاجْنُبْنِي}، أي: اجعلني {وَبَنِيَّ} في جانب عن عبادة الأصنام، وباعد بيني وبينها. قيل: وأراد بذلك بنيه وبناته من صلبه، ولم يذكر البنات لدخولهم تبعا في البنين، وقد استجاب اللّه دعاءه وجعل بنيه أنبياء وجنبهم عبادة الأصنام، وإنما دعا إبراهيم عليه السلام بذلك، لأن كثيرًا من الناس افتتنوا بها، كما قال:{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}1. فخاف من ذلك ودعا اللّه أن يعافيه وبنيه من عبادتها، فإذا كان إبراهيم عليه السلام يسأل اللّه أن يجنبه ويجنب بنيه عبادة الأصنام، فما ظنك بغيره؟ كما قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن من البلاء بعد إبراهيم؟! رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وهذا يوجب للقلب الحي أن يخاف من الشرك، لا كما يقول الجهال: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة، ولهذا أمنوا الشرك فوقعوا فيه، وهذا وجه مناسبة الآية للترجمة.
[بيان أن الرياء من الشرك الأصغر]
قال: وفي الحديث "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء"2.
ش: هكذا أورد المصنف هذا الحديث مختصرًا غير معزوّ، وقد رواه الإمام أحمد والطبراني، وابن أبي الدنيا، والبيهقي في " الزهد" ; وهذا لفظ أحمد قال: حدثنا يونس، ثنا ليث عن يزيد، يعني ابن الهاد، عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول اللّه؟ قال: الرياء، يقول اللّه يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء"3 .
قال المنذري: ومحمود بن لبيد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح له منه سماع فيما أرى. وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال: له صحبة. قال: وقال أبي: لا تعرف له صحبة، ورجح ابن عبد البر والحافظ أن له صحبة وقال:(4/148)
جل روايته عن الصحابة. وقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة إبراهيم آية: 36.
2 أحمد (5/428).
3 أحمد (5/428).(4/149)
ص -91- ... رواه الطبراني بإسناد جيد عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج.
وقيل: إن حديث محمود هو الصواب دون ذكر رافع. مات محمود سنة ست وتسعين. وقيل: سنة سبع، وله تسع وتسعون سنة. قوله: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"1. هذا من رحمته صلى الله عليه وسلم لأمته وشفقته عليهم، وتحذيره مما يخاف عليهم، فإنه ما من خير إلا دلهم عليه وأمر به، وما من شر إلا وأخبرهم به وحذرهم عنه. كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "ما بعث اللّه من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم"2. ولما كانت النفوس مجبولة على محبة الرياسة والمنْزلة في قلوب الخلق إلا من سلم اللّه، كان هذا أخوف ما يخاف على الصالحين، لقوة الداعي إلى ذلك، والمعصوم مَنْ عَصَمَهُ اللّه، وهذا بخلاف الداعي إلى الشرك الأكبر، فإنه إما معدوم في قلوب المؤمنين الكاملين، ولهذا يكون. الإلقاء في النار أسهل عندهم من الكفر. وإما ضعيف، هذا مع العافية، وإما مع البلاء، ف{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}. فلذلك صار خوفه صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء أشد لقوة الداعي وكثرته، دون الشرك الأكبر لما تقدم، مع أنه أخبر أنه لا بد من وقوع عبادة الأوثان في أمته، فدل على أنه ينبغي للإنسان أن يخاف على نفسه الشرك الأكبر، إذا كان الأصغر مخوفًا على الصالحين من الصحابة مع كمال إيمانهم، فينبغي للإنسان أن يخاف الأكبر لنقصان إيمانه ومعرفته باللّه، فهذا وجه إيراد المصنف له هنا مع أن الترجمة تشمل النوعين.
قال المصنف: وفيه أن الرياء من الشرك، وأنه من الأصغر، وأنه أخوف ما يخاف على الصالحين، وفيه قرب الجنة والنار، والجمع بين قربهما في حديث واحد على عمل واحد متقارب في الصورة.(4/150)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/428).
2 مسلم: الإمارة (1844) , والنسائي: البيعة (4191) , وابن ماجه: الفتن (3956) , وأحمد (2/191).(4/151)
ص -92- ... قال: وعن ابن مسعود أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو للّه ندًا دخل النار"1. رواه البخاري.
ش: قال ابن القيم: (الند): الشبه، يقال: فلان ند فلان ونديده، أي: مثله وشبهه انتهى. وهذا كما قال تعالى:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}2. وقال تعالى:{وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}3.
أي: من مات وهو يدع للّه ندًا، أي: يجعل للّه ندًا فيما يختص به تعالى ويستحقه من الربوبية والإلهية، دخل النار، لأنه مشرك، فإن اللّه تعالى هو المستحق للعبادة لذاته، لأنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وترغب إليه، وتفزع إليه عند الشدائد، وما سواه فهو مفتقر إليه، مقهور بالعبودية له، تجري عليه أقداره وأحكامه {طوعًا وكرهًا}، فكيف يصلح أن يكون ندًا؟ قال اللّه تعالى:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الأِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}4. وقال:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}5. وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}6. فبطل أن يكون له نديد من خلقه، تعالى عن ذلك {علوًا كبيرًا} {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}7 .
واعلم أن دعاء الند على قسمين: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره اللّه إلا بالتوبة منه، وهو الشرك الأكبر. والأصغر كيسير الرياء، وقول الرجل: ما شاء اللّه وشئت،(4/152)
ونحو ذلك. فقد ثبت "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل: ما شاء اللّه وشئت قال: أجعلتني للّه ندًا؟ بل ما شاء اللّه وحده"8. رواه أحمد وابن أبي شيبة، والبخاري في " الأدب المفرد " والنسائي، وابن ماجة، وقد تقدم حكمه في باب فضل التوحيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/374 ,1/402 ,1/407 ,1/462 ,1/464).
2 سورة البقرة آية: 22.
3 سورة الزمر آية: 8.
4 سورة الزخرف آية: 15.
5 سورة مريم آية: 93-95.
6 سورة فاطر آية: 15.
7 سورة المؤمنون آية: 91-92.
8 أحمد (1/214).(4/153)
ص -93- ... [من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار]
قال: ولمسلم عن جابر أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي اللّه لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار"1 .
ش: جابر: هو ابن عبد اللّه بن عمرو بن حرام ـ بمهملتين ـ الأنصاري ثم السلمي بفتحتين، صحابي جليل مكثر، ابن صحابي، له ولأبيه مناقب مشهورة رضي الله عنهما. مات بالمدينة بعد السبعين، ـ وقد كف بصره ـ وله أربع وتسعون سنة.
قوله: "من لقي اللّه لا يشرك به شيئًا". قال القرطبي: أي: من لم يتخذ معه شريكًا في الإلهية ولا في الخلق، ولا في العبادة. ومن المعلوم ـ من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة ـ أن من مات على ذلك، فلا بد له من دخول الجنة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة، وإن مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من اللّه رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد من غير انقطاع عذاب، ولا تصرم آماد، وهذا معلوم ضروري من الدين، مجمع عليه بين المسلمين.
وقال النووي: أما دخول المشرك إلى النار، فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة من المرتدين والمعطلين، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادًا وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام، وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده وغير ذلك. وأما دخول من مات غير مشرك الجنة، فهو مقطوع له به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرًا عليها دخل الجنة أولاً، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرًا عليها، فهو تحت المشيئة، فإن عفا عنه دخل الجنة أولاً، وإلا عذب في النار ثم أخرج فيدخل الجنة.
وقال غيره: اقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء، واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم، إذ من كذب رسل اللّه، فقد كذب اللّه، ومن كذب اللّه، فهو مشرك، وهو قولك: من توضأ صحت صلاته، أي مع سائر الشروط، فالمراد من مات حال كونه مؤمنًا بجميع(4/154)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (93) , وأحمد (3/374).(4/155)
ص -94- ... ما يجب الإيمان به إجمالاً في الإجمالي، وتفصيلاً في التفصيلي.
قلت: قد تقدم بعض ما يتعلق بذلك في باب فضل التوحيد.
قال المصنف: وفيه تفسير لا إله إلا اللّه، كما ذكره البخاري في "صحيحه" يعني أن معنى لا إله إلا اللّه: ترك الشرك، وإفراد اللّه بالعبادة، والبراءة ممن عبد سواه، كما بينه الحديث، وفيه فضيلة من سلم من الشرك.
[م5 باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه]
ش: لما بين المصنف رحمه اللّه الأمر الذي خلقت له الخليقة وفضله وهو التوحيد، وذكر الخوف من ضده الذي هو الشرك، وأنه يوجب لصاحبه الخلود في النار، نبّه بهذه الترجمة على أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه كما يظن الجهال; ويقولون: اعمل بالحق واترك الناس وما يعنيك من الناس، بل يدعو إلى اللّه {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} والمجادلة {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، كما كان ذلك شأن المرسلين وأتباعهم إلى يوم الدين، وكما جرى للمصنف وأشباهه من أهل العلم والدين والصبر واليقين.
وإذا أراد الدعوة إلى ذلك، فليبدأ بالدعوة إلى التوحيد الذي هو معنى شهادة أن: لا إله إلا اللّه، إذ لا تصح الأعمال إلا به، فهو أصلها الذي تبنى عليه، ومتى لم يوجد، لم ينفع العمل، بل هو حابط، إذ لا تصح العبادة مع الشرك، كما قال تعالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}1. ولأن معرفة معنى هذه الشهادة هو أول واجب على العباد، فكان أول ما يبدأ به في الدعوة.
قال: وقوله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}2.
ش: قال ابن كثير: يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمرًا له أن يخبر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 17.
2 سورة يوسف آية: 108.(4/156)
ص -95- ... الناس أن هذه سبيله، أي: طريقته وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه، يدعو إلى اللّه بها على بصيرة من ذلك، ويقين وبرهان ـ هو وكل من اتبعه ـ يدعو إلى ما دعا إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على بصيرة وبرهان عقلي شرعي.
وقوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ}. أي: وأنزه اللّه وأجل وأعظم عن أن يكون له شريك ونديد، تبارك وتعالى عن ذلك {علوًا كبيرًا}. قلت: فتبين وجه المطابقة بين الآية والترجمة. قيل: ويظهر ذلك إذا كان قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} عطفًا على الضمير في {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}، فهو دليل على أن أتباعه هم الدعاة إلى اللّه تعالى، وإن كان عطفًا على الضمير المنفصل، فهو صريح في أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون من عداهم، والتحقيق أن العطف يتضمن المعنيين، فأتباعه هم أهل البصيرة الذين يدعون إلى اللّه.
وفي الآية مسائل نبه عليها المصنف:
منها: التنبيه على الإخلاص، لأن كثيرًا ولو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه.
ومنها: أن البصيرة من الفرائض، ووجه ذلك أن اتباعه صلى الله عليه وسلم واجب، وليس اتباعه حقًا إلا
أهل البصيرة، فمن لم يكن منهم فليس من أتباعه، فتعين أن البصيرة من الفرائض.
ومنها: أن من دلائل حسن التوحيد أنه تنْزيه للّه عز وجل عن المسبة.
ومنها: أن من أقبح الشرك كونه مسبة للّه.
ومنها: إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير معهم ولو لم يشرك، وكل هذه الثلاث في قوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ...} الآية.
[وصية الرسول لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن]
قال: وعن ابن عباس: "أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا اللّه"1.
وفي رواية: "إلى أن يوحدوا اللّه فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم(4/157)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1395 ,1496) والمغازي (4347) والتوحيد (7372) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614).(4/158)
ص -96- ... أن اللّه افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة; فإن أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن اللّه افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائمَ أموالهم: واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين اللّه حجاب" أخرجاه.
ش: قوله: "لما بعث معاذًا إلى اليمن". قال الحافظ: كان صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره المصنف - يعني البخاري - في أواخر المغازي. وقيل: كان ذلك في آخر سنة تسع عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك. رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك، وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه. ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر. وقيل: بعثه عام الفتح سنة ثمان. واتفقوا أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر، ثم توجه إلى الشام فمات بها; واختلف هل كان معاذ واليًا أو قاضيًا، فجزم ابن عبد البر بالثاني، والغساني بالأول. قلت: الظاهر أنه كان واليًا قاضيًا.
قوله: (إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب).
قال القرطبي: يعني به اليهود والنصارى، لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب، وإنما نبهه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم، ويعد الأدلة لامتحانهم، لأنهم أهل علم سابق، بخلاف المشركين وعبدة الأوثان.
وقال الحافظ: هو كالتوطئة للوصية ليجمع همته عليها، ثم ذكر معنى كلام القرطبي. قلت: وفيه أن مخاطبة العالم ليست كمخاطبة الجاهل، والتنبيه على أنه ينبغي للإنسان أن يكون على بصيرة في دينه، لئلا يبتلى بمن يورد عليه شبهة من علماء المشركين، ففيه التنبيه على الاحتراز من الشبه، والحرص على طلب العلم.
قوله: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا اللّه". يجوز رفع "أول " مع نصب " شهادة " وبالعكس.
قوله: وفي رواية: "إلى أن يوحدوا اللّه"، هذه الرواية في التوحيد من " صحيح البخاري " وفي بعض الروايات: "فادعهم(4/159)
ص -97- ... إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه"1. وفي بعضها وأن محمدًا رسول اللّه وأكثر الروايات فيها ذكر الدعوة إلى الشهادتين.
وأشار المصنف رحمه اللّه بإيراد هذه الرواية إلى التنبيه على معنى شهادة أن لا إله إلا اللّه، إذ معناها توحيد اللّه بالعبادة، وترك عبادة ما سواه. فلذلك جاء الحديث مرة بلفظ "شهادة أن لا إله إلا اللّه" ومرة "إلى أن يوحدوا اللّه". ومرة "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة اللّه، فإذا عرفوا اللّه فأخبرهم أن اللّه افترض عليهم خمس صلوات"2. وذلك هو الكفر بالطاغوت، والإيمان باللّه الذي قال اللّه فيه:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا}3.
ومعنى الكفر بالطاغوت: هو خلع الأنداد والآلهة ـ التي تدعى من دون اللّه ـ من القلب، وترك الشرك بها رأسًا، وبغضه وعداوته.
ومعنى الإيمان باللّه: هو إفراده بالعبادة التي تتضمن غاية الحب بغاية الذل والانقياد لأمره، وهذا هو الإيمان باللّه المستلزم للإيمان بالرسل عليهم السلام، المستلزم لإخلاص العبادة للّه تعالى، وذلك هو توحيد اللّه تعالى ودينه الحق المستلزم للعلم النافع، والعمل الصالح، وهو حقيقة شهادة أن لا إله إلا اللّه، وحقيقة المعرفة باللّه، وحقيقة عبادته وحده لا شريك له.
فللّه ما أفقه من روى هذا الحديث بهذه الألفاظ المختلفة لفظًا المتفقة معنى! فعرفوا أن المراد من شهادة أن لا إله إلا اللّه هو الإقرار بها علمًا ونطقًا وعملاً، خلافًا لما يظنه بعض الجهال أن المراد من هذه الكلمة هو مجرد النطق بها، أو الإقرار بوجود اللّه أو ملكه لكل شيء من غير شريك، فإن هذا القدر قد عرفه عباد الأوثان وأقروا به، فضلاً عن أهل الكتاب، ولو كان كذلك لم يحتاجوا إلى الدعوة إليه.
وفيه دليل على أن التوحيد ـ الذي هو إخلاص العبادة للّه وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه ـ هو(4/160)
أول واجب، فلهذا كان أول ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614).
2 البخاري: الزكاة (1458) , ومسلم: الإيمان (19).
3 سورة البقرة آية: 256.(4/161)
ص -98- ... دعت إليه الرسل عليهم السلام، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}1. وقال:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}2.
قال شيخ الإسلام رحمه اللّه: وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه، فبذلك يصير الكافر مسلمًا، والعدو وليًا، والمباح دمه وماله معصومَ الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه، فقد دخل في الإيمان، وإن قاله بلسانه دون قلبه، فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان، وفيه البداءة في الدعوة والتعليم بالأهم فالأهم، واستدل به من قال من العلماء: إنه لا يشترط في صحة الإسلام النطق بالتبري من كل دين يخالف دين الإسلام، لأن اعتقاد الشهادتين يستلزم ذلك...، وفي ذلك تفصيل.
وفيه: أنه لا يحكم بإسلام الكافر إلا بالنطق بالشهادتين. قال شيخ الإسلام: فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطنًا وظاهرًا عند سلف الأمة وأئمتها، وجماهير علمائها.
قلت: هذا ـ واللّه أعلم ـ فيمن لا يقر بهما أو بإحداهما، أما من كُفْرُهُ مع الإقرار بهما... ففيه بحث، والظاهر أن إسلامه هو توبته عما كفر به.
وفيه أن الإنسان قد يكون قارئًا عالمًا وهو لا يعرف معنى لا إله إلا اللّه، أو يعرفه ولا يعمل به، نبه عليه المصنف.
وقال بعضهم: هذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا، هو الدعوة قبل القتال التي كان يوصي بها النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه.
قلت: فعلى هذا فيه استحباب الدعوة قبل القتال لمن بلغته الدعوة، أما من لم تبلغه فتجب دعوته.(4/162)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 25.
2 سورة النحل آية: 36.(4/163)
ص -99- ... قوله: (فإن هم أطاعوك لذلك)، أي: شهدوا وانقادوا لذلك.
قوله: (فأعلمهم أن اللّه افترض عليهم خمس صلوات)، فيه أن الصلاة ـ بعد التوحيد والإقرار بالرسالة ـ أعظم الواجبات وأحبها، واستُدِلَ به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع؛ حيث دعاهم أولًا إلى التوحيد فقط، ثم دعوا إلى العمل ورتب ذلك عليها بالفاء، وأيضًا فإن قوله: "فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم"، يفهم منه أنهم لو لم يطيعوا لم يجب عليهم شيء.
قال النووي: وهذا الاستدلال ضعيف، فإن المراد أعلمهم بأنهم مطالبون بالصلوات وغيرها في الدنيا، والمطالبة في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام، ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها، ويزاد في عذابهم بسببها في الآخرة، قال: ثم اعلم أن المختار أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه، هذا قول المحققين والأكثرين.
قلت: ويدل عليه قوله تعالى:{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}1 الآيات.
وفيه دليل على أن الوتر ليس بفرض إذ لو كان فرضًا لكان صلاة سادسة لا سيما وهذا في آخر الأمر.
قوله: "فإن هم أطاعوك" لذلك، أي: آمنوا بأن اللّه افترضها عليهم وفعلوها.
قوله: "فأعلمهم أن اللّه افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"، فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلاة، وأنها تؤخذ من الأغنياء، وتصرف إلى الفقراء، وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم الفقراء بالذكر ـ مع أنها تدفع إلى المجاهد والعامل ونحوهما وإن كانوا أغنياء ـ؛ لأن الفقراء - واللّه أعلم - هم أكثر من تدفع إليهم، أو لأن حقهم آكد. وفيه أن الإمام هو الذي يتولى قبض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المدثّر آية: 43-48.(4/164)
ص -100- ... الزكاة وصرفها إما بنفسه أو نائبه، فمن امتنع عن أدائها إليه أخذت منه قهرًا.
قيل: وفيه دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد كما هو مذهب مالك وأحمد. وعلى ما تقدم لا يكون فيه دليل. وفيه أنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا كافر، وأن الفقير لا زكاة عليه، وأن من ملك نصابًا لا يعطى من الزكاة من حيث إنه جعل المأخوذ منه غنيًا وقابله بالفقير. ومن ملك النصاب فالزكاة مأخوذة منه فهو غني، والغنى مانع من إعطاء الزكاة إلا من استثني، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون، كما هو قول الجمهور لعموم قوله: من أغنيائهم.
قوله: "فإياك وكرائمَ أموالهم"1 هو بنصب كرائم على التحذير، والكرائم جمع كريمة، أي: نفيسة. قال صاحب " المطالع [ابن قلقل]". وهي جامعة الكمال الممكن في حقها من غزارة لبن وجمال صورة، أو كثرة لحم وصوف. ذكره النووي. وفيه أنه يحرم على العامل أخذ كرائم المال في الزكاة، بل يأخذ الوسط، ويحرم على صاحب المال إخراج شر المال، بل يخرج: الوسط، فإن طابت نفسه بإخراج الكريمة جاز.
قوله: "واتق دعوة المظلوم" أي: احذر دعوة المظلوم واجعل بينك وبينهم وقاية بفعل العدل وترك الظلم، لئلا يدعو عليك المظلوم. وفيه
تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم، والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم إشارة إلى أن أخذها ظلم، ذكره الحافظ.
قوله: فإنه- أي الشأن - ليس بينها وبين اللّه حجاب. أي: لا تحجب عن اللّه تعالى، بل ترفع إليه فيقبلها وإن كان عاصيًا، كما في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعًا: "دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه"2. وإسناده حسن، قاله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1496) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614).
2 أحمد (2/367).(4/165)
ص -101- ... الحافظ.
وقال أبو بكر بن العربي: هذا وإن كان مطلقًا، فهو مقيد بالحديث الآخر أن الداعي على ثلاث مراتب: إما أن يعجل له ما طلب، وإما أن يدخر له [في الآخرة] أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله. وهذا كما قيد مطلق قوله:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}1. بقوله تعالى:{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ}2.وفي الحديث أيضا قبول خبر الواحد العدل ووجوب العمل به، وأن الإمام يبعث العمال لجباية الزكاة وأنه يعظ عماله وولاته، ويأمرهم بتقوى اللّه، ويعلمهم ما يحتاجون إليه، وينهاهم عن الظلم، ويعرفهم قبح عاقبته والتنبيه على التعليم بالتدريج، ذكره المصنف.
واعلم أنه لم يذكر في هذا الحديث ونحوه الصوم والحج، مع أن بعث معاذ كان في آخر الأمر كما تقدم، فأشكل ذلك على كثير من العلماء.
قال شيخ الإسلام: أجاب بعض الناس أن الرواة اختصر بعضهم الحديث وليس الأمر كذلك، فإن هذا طعن في الرواة، لأن هذا إنما يقع في الحديث الواحد مثل حديث عبد القيس ـ حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره ـ. فأما الحديثان المنفصلان، فليس الأمر فيهما كذلك، ولكن عن هذا جوابان:
أحدهما: أن ذلك بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض اللّه الشهادتان. ثم الصلاة، فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي، ولهذا لم يذكر وجوب الحج في عامة الأحاديث إنما جاء في الأحاديث المتأخرة. قلت: وهذا من الأحاديث المتأخرة ولم يذكر فيها الجواب.
الثاني: أنه كان صلى الله عليه وسلم يذكر في كل مقام ما يناسبه، فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها كالصلاة والزكاة، ويذكر تارة الصلاة والصيام إن لم يكن عليه زكاة، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصيام، فإما أن يكون قبل فرض الحج، كما في حديث عبد القيس ونحوه، وإما أن يكون المخاطب بذلك لا حج عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النمل آية: 62.
2 سورة الأنعام آية: 41.(4/166)
ص -102- ... وأما الصلاة والزكاة، فلهما شأن ليس لسائر الفرائض، ولهذا ذكر اللّه تعالى في كتابه القتال عليهما، لأنهما عبادتان ظاهرتان بخلاف الصوم، فإنه أمر باطن وهو مما ائتمن عليه الناس، فهو من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة: ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد، فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سرًا، كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، بخلاف الصلاة والزكاة، وهو صلى الله عليه وسلم يذكر في الإعلام الأعمال الظاهرة التي يقاتل الناس عليها، ويصيرون مسلمين بفعلها، فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصيام، وإن كان واجبًا كما في آيتي (براءة11) فإن (براءة) نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس.
وكذلك لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن لم يذكر في حديثه الصيام؛ ـ لأنه تبع وهو باطن ـ ولا ذكر الحج، لأن وجوبه خاص ليس بعام، وهو لا يجب في العمر إلا مرة واحدة. انتهى ملخصًا بمعناه
قوله: أخرجاه، أي: أخرجه البخاري [4347]ومسلم [19] في " الصحيحين " وأخرجه أيضًا أحمد [2070] وأبو داود [1584] والترمذي [629] والنسائي [2284] وابن ماجة [1784].
إعطاء الرسول الراية لعلي بن أبي طالب يوم خيبر .
قال: ولهما عن سهل بن سعد: "أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله; يفتح اللّه على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبحوا غدوا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكلهم يرجو أن يعطاها. فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه قال: فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق في عينيه، ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجَع، فأعطاه الراية. وقال: انفذ على رسلك حتى تنْزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق اللّه تعالى فيه، فواللّه لأن يهدي اللّه بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم"1. يدوكون أي: يخوضون.(4/167)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (3009) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأحمد (5/333).(4/168)
ص -103- ... ش: قال شيخ الإسلام: هذا الحديث أصح ما روي لعلي رضي الله عنه من الفضائل أخرجاه في " الصحيحين " من غير وجه.
قوله: (عن سهل). هو سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي أبو العباس صحابي شهير، وأبوه صحابي أيضًا. مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة.
قوله: (قال يوم خيبر)، أي: في غزوة خيبر. في " الصحيحين " واللفظ لمسلم عن سلمة بن الأكوع قال: "كان علي رضي الله عنه قد تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان رمدًا، فقال: أنا تخلفت عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فخرج علي رضي الله عنه فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما كان مساء الليلة التي فتحها اللّه عز وجل في صباحها" قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية، أو ليأخذن بالراية غدًا رجل يحبه اللّه ورسوله أو قال: يحب اللّه ورسوله يفتح اللّه عليه فإذا نحن بعلي وما نرجوه. فقالوا: هذا علي: فأعطاه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الراية، ففتح اللّه عليه"1. وهذا يبين أن عليًا رضي الله عنه لم يشهد أول خيبر، وأنه عليه السلام قال هذه المقالة مساء الليلة التي فتحها اللّه في صباحها.
قوله: "لأعطين الراية". قال الحافظ في رواية بريدة: "إني دافع اللواء إلى رجل يحبه اللّه ورسوله"2. والراية بمعنى اللواء، وهو العلم الذي يحمل في الحرب، يعرف به موضع صاحب الجيش وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم العسكر. وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفهما، لكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس: كانت راية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض. ومثله عند الطبراني عن بريدة، وعند ابن عدي عن أبي هريرة وزاد: مكتوب فيه: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، وهو ظاهر في التغاير فلعل التفرقة بينهما عرفية.(4/169)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (2975) , ومسلم: فضائل الصحابة (2407).
2 البخاري: الجهاد والسير (2975) , ومسلم: فضائل الصحابة (2407).(4/170)
ص -104- ... قوله: "يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله". فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بذلك، ولكن ليس هذا من خصائصه. قال شيخ الإسلام: ليس هذا الوصف مختصًا بعلي ولا بالأئمة، فإن اللّه ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب اللّه ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذي يتبرؤون منه ولا يتولونه، بل لقد يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج. لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك، لكن هذا باطل فإن اللّه ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم أنه يموت كافرًا. وفيه إثبات صفة المحبة للّه، وفيه إشارة إلى أن عليًا تام الاتباع لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى أحبه اللّه، ولهذا كانت محبته علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق ذكره. الحافظ بمعناه.
قوله: "يفتح اللّه على يديه". صريح في البشارة بحصول الفتح على يديه، فكان الأمر كذلك، ففيه دليل على شهادة أن محمدًا رسول اللّه.
قوله: (فبات الناس يدوكون ليلتهم)، هو بنصب " ليلتهم " على الظرفية، ويدوكون. قال المصنف: يخوضون. والمراد أنهم باتوا تلك الليلة في خوض واختلاف فيمن يدفعها إليه، وفيه حرص الصحابة على الخير ومزيد اهتمامهم به، وذلك يدل على علو مراتبهم في العلم والإيمان.
قوله: أيهم يعطاها. فهو برفع " أي " على البناء.
قوله: "فلما أصبحوا غدوا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها"1. وفي رواية أبي هريرة عند مسلم: "أن عمر قال: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ ".
فإن قلت: إن كانت هذه الفضيلة لعلي رضي الله عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المناقب (3701) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأحمد (5/333).(4/171)
ص -105- ... ليست من خصائصه; فلماذا تمنى بعض الصحابة أن يكون له ذلك؟ قيل الجواب كما قال شيخ الإسلام أن في ذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بإيمانه باطنًا وظاهرًا، وإثبات لموالاته للّه ورسوله، ووجوب موالاة المؤمنين له، وإذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمعين بشهادة أو دعا له بدعاء أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة، ومثل ذلك الدعاء، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو به لخلق كثير، وكان تعيينه لذلك المعين من أعظم فضائله ومناقبه، وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس، وعبد اللّه بن سلام وغيرهما، ـ وإن كان قد شهد بالجنة لآخرين ـ، والشهادة لمحبة اللّه ورسوله للذي ضرب في الخمر. قلت: وفي هذه الجملة أيضًا حرص الصحابة على الخير.
قوله: فقال: "أين علي بن أبي طالب؟". قال بعضهم: كأنه صلى الله عليه وسلم استبعد غيبته عن حضرته في مثل ذلك الموطن، لا سيما وقد قال: "لأعطين الراية"، إلى آخره وقد حضر الناس وكلهم طمع بأن يكون هو الذي يفوز بذلك الوعد. وفيه سؤال الإمام عن رعيته وتفقده أحوالهم وسؤاله عنهم في مجامع الخير.
قوله: (فقيل له: هو يشتكي عينيه)، أي: من الرمد كما في " صحيح مسلم " عن سعد بن أبي وقاص فقال: "ادعوا لي عليًا، فأتي به أرمد فبصق في عينيه"1 .
قوله: قال: "فأرسلوا إليه". بهمزة قطع، أمر من الإرسال، أمرهم بأن يرسلوا إليه فيدعوه له. ولمسلم من طريق إياس بن سلمة عن أبيه قال: "فأرسلني إلى علي...، فجئت به أقوده... أرمد...، فبصق في عينيه فبرأ".
قوله: " فبصق "، بفتح الصاد، أي: تفل.
قوله: "ودعا له فبرأ". وهو بفتح الراء والهمزة، بوزن ضرب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (2942) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأحمد (5/333).(4/172)
ص -106- ... ويجوز الكسر بوزن علم، أي: عوفي في الحال عافية كاملة، كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر أصلاً. وعند الطبراني من حديث علي: فما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلي النبي صلى الله عليه وسلم الراية. وفيه دليل على الشهادتين.
قوله: "فأعطاه الراية". قال المصنف: فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع، ومنعها عمن سعى، وفيه التوكل على اللّه، والإقبال بالقلب إليه، وعدم الالتفات إلى الأسباب، وإن فعلها لا ينافي التوكل.
قوله: "وقال انفُذ على رسلك". أما " انفذ " فهو بضم الفاء، أي: امض لوجهك. ورسلك: ـ بكسر الراء وسكون السين ـ، أي: على رفقك ولينك من غير عجلة، يقال لمن يعمل الشيء برفق. وساحتهم: فناء أرضهم، وهو حواليها. وفيه الأدب عند القتال، وترك الطيش والأصوات المزعجة التي لا حاجة إليها، وفيه أمر الإمام عماله بالرفق واللين من غير ضعف ولا انتقاض عزيمة كما يشير إليه قوله: "حتى تنْزل بساحتهم".
قوله: "ثم ادعهم إلى الإسلام"، أي: الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه، ومن هذا الوجه طابق الحديث الترجمة.
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "فدعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب، فأعطاه الراية. وقال: امش ولا تلتفت حتى يفتح اللّه عليك. فسار علي شيئًا ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول اللّه على ماذا أقاتل الناس؟ فقال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه"1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: فضائل الصحابة (2405).(4/173)
ص -107- ... وفيه أن الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه، المراد بها الدعوة إلى الإخلاص بها وترك الشرك وإلا فاليهود يقولونها، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إليها بينهم وبين من لا يقولها من مشركي العرب، فعلم أن المراد من هذه الكلمة هو اللفظ بها، واعتقاد معناها، والعمل به، وذلك هو معنى قوله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}1 .
وقوله:{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ}، [الرّعد، من الآية: 36]. وذلك هو معنى قوله: "ثم ادعهم إلى الإسلام " الذي هو الاستسلام لله تعالى، والانقياد له بفعل التوحيد وترك الشرك. وفيه مشروعية الدعوة قبل القتال، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وتستحب دعوتهم لهذا الحديث وما في معناه، وإن كانوا لم تبلغهم وجبت دعوتهم.
وقوله: "وأخبرهم بما يجب عليهم من حق اللّه تعالى فيه". أي.: في الإسلام، أي: إذا أجابوا إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقوقه التي لا بد من فعلها، كالصلاة، والزكاة، وهذا كقوله في حديث أبي هريرة: "فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها"2 وقد فسره أبو بكر الصديق لعمر رضي الله عنهما لما قاتل أهل الردة الذين يشهدون أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه. فقال له عمر: "كيف نقاتل الناس وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، فإذا قالوا فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟! قال أبو بكر: فإن(4/174)
الزكاة حق المال، واللّه لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعها"3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 64.
2 مسلم: فضائل الصحابة (2405).
3 البخاري: الصلاة (393) , والترمذي: الإيمان (2608) , والنسائي: تحريم الدم (3966 ,3967) والإيمان وشرائعه (5003) , وأبو داود: الجهاد (2641) , وأحمد (3/199 ,3/224).(4/175)
ص -108- ... وحاصله أنهم إذا أجابوا إلى الإسلام الذي ـ هو التوحيد ـ فأخبرهم بما
يجب عليهم بعد ذلك من حق اللّه تعالى في الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام الظاهرة وحقوقه؛ فإن أجابوا إلى ذلك فقد أجابوا إلى الإسلام حقًا، وإن امتنعوا عن شيء من ذلك فالقتال باق بحاله إجماعًا. فدل على أن النطق بكلمتي الشهادة دليل العصمة لا أنه عصمة، أو يقال: هو العصمة لكن بشرط العمل، يدل على ذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا}1 الآية، ولو كان النطق بالشهادتين عاصمًا لم يكن للتثبت معنى، يدل على ذلك قوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا} ، أي: عن الشرك وفعلوا التوحيد {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}2 فدل على أن القتال يكون على هذه الأمور.
وفيه أن للّه تعالى حقوقًا في الإسلام من لم يأت بها لم يكن مسلمًا، كإخلاص العبادة له والكفر بما يعبد من دونه.وفيه بعث الإمام الدعاة إلى اللّه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يفعلون.وفيه تعليم الإمام أمراءه وعماله ما يحتاجون إليه.
قوله: "فواللّه لأن يهدي اللّه بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم"3 أن: هي المصدرية، واللام قبلها مفتوحة، لأنها لام القسم، ومدخولها مسبوك بمصدر مرفوع على أنه مبتدأ خبره " خير ".
وحمر بضم المهملة وسكون الميم. والنعم بفتح النون والعين المهملة. أي: خير لك من الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء. قيل: المراد خير من أن تكون لك فتتصدق بها. وقيل تقتنيها وتملكها. قلت: هذا هو الأظهر، والأول لا دليل عليه. أي أنكم تحبون متاع الدنيا، وهذا خير منه.
قال النووي: وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام، وإلا فذرة من الآخرة خير من الأرض بأسرها، وأمثالها معها.(4/176)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 94.
2 سورة التوبة آية: 5.
3 البخاري: الجهاد والسير (3009) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأبو داود: العلم (3661) , وأحمد (5/333).(4/177)
ص -109- ... وفيه فضيلة الدعوة إلى اللّه، وفضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد، وجواز الحلف على الفتية والقضاء والخبر، والحلف من غير استحلاف.
[م6 باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا اللّه]
ش: أي تفسير هاتين الكلمتين، والعطف لتغاير اللفظين، وإلا فالمعنى واحد. ولما ذكر المصنف في الأبواب السابقة التوحيد وفضائله، والدعوة إليه، والخوف من ضده الذي هو الشرك، فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة هذا الأمر الذي خلقت له الخليقة، والذي بلغ من شأنه عند اللّه أن من لقيه به غفر له، ـ وإن لقيه بملء الأرض خطايا ـ; بين رحمه اللّه في هذا الباب أنه ليس اسمًا لا معنى له، أو قولاً لا حقيقة له، كما يظنه الجاهلون الذين يظنون أن غاية التحقيق فيه هو النطق بكلمة الشهادة من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معنى الإله هو الخالق المتفرد بالملك، فتكون غاية معرفته هو الإقرار بتوحيد الربوبية، وهذا ليس هو المراد بالتوحيد، ولا هو أيضًا معنى " لا إله إلا اللّه " وإن كان لا بد منه في التوحيد بل التوحيد اسم لمعنى عظيم، وقول له معنى جليل هو أجل من جميع المعاني.
وحاصله هو البراءة من عبادة كل ما سوى اللّه، والإقبال بالقلب والعبادة على اللّه، وذلك هو معنى الكفر بالطاغوت، والإيمان باللّه، وهو معنى " لا إله إلا اللّه" كما قال تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}1. وقال تعالى حكاية عن مؤمن يس:{وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 2. وقال تعالى:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 163.
2 سورة يس آية: 22-24.(4/178)
ص -110- ... أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} 1 .
وقال تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون:{وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ}2 والآيات في هذا كثيرة تبين أن معنى " لا إله إلا اللّه " هو البراءة من عبادة ما سوى اللّه من الشفعاء والأنداد، وإفراد اللّه بالعبادة. فهذا هو الهدى، ودين الحق الذي أرسل اللّه به رسله، وأنزل به كتبه.
أما قول الإنسان: " لا إله إلا اللّه " من غير معرفة لمعناها، ولا عمل به، أو دعواه أنه من أهل التوحيد، وهو لا يعرف التوحيد، بل ربما يخلص لغير اللّه من عبادته من الدعاء والخوف والذبح والنذر والتوبة والإنابة وغير ذلك من أنواع العبادات، فلا يكفي في التوحيد، بل لا يكون إلا مشركًا والحالة هذه، كما هو شأن عباد القبور. ثم ذكر المصنف آيات تدل على هذا فقال:وقول اللّه تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}3 الآية.
قلت: يبين معنى هذه الآية التي قبلها، وهي قوله:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ...}4 الآية.
قال ابن كثير: يقول تعالى: قل للمشركين ادعوا الذين زعمتم من دونه من الأنداد، وارغبوا إليهم، فإنهم(4/179)
لا يملكون كشف الضر عنكم، أي: بالكلية، ولا تحويلاً، أي: أن يحولوه إلى غيركم، والمعنى: إن الذي يقدر على ذلك هو اللّه وحده لا شريك له.
قال العوفي عن ابن عباس في الآية: "كان أهل الشرك يقولون: نعبد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 11-14.
2 سورة غافر آية: 41-43.
3 سورة الإسراء آية: 57.
4 سورة الإسراء آية: 56-57.(4/180)
ص -111- ... الملائكة والمسيح والمسيح وعزيرًا وهم الذين يدعون يعني: الملائكة وعزيرًا".
وقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ...}1 الآية. وروى البخاري عن ابن مسعود في الآية قال: "ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا". وفي رواية: "كان ناس من الإنس يعبدون ناسًا من الجن، فأسلم الجن، وتمسك هؤلاء بدينهم".
وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في الآية:قال: عيسى وأمه وعزير. وقال مغيرة عن إبراهيم: كان ابن عباس يقول في هذه الآية هم: عيسى وعزير والشمس والقمر.
وقال مجاهد:عيسى وعزير والملائكة.
وقوله:{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}2، لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء.
وفي التفسير المنسوب إلى الطبري الحنفي قل للمشركين: يدعون أصنامهم دعاء استغاثة فلا يقدرون كشف الضر عنهم، ولا تحويلا إلى غيرهم أولئك الذين يدعون، أي: الملائكة المعبودة لهم يتبادرون إلى طلب القرية إلى اللّه، فيرجون رحمته، ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذورًا، أي: مما يحذره كل عاقل.
وعن الضحاك وعطاء، أنهم الملائكة. وعن ابن عباس: أولئك الذين يدعون عيسى وأمه وعزيرًا.
قال شيخ الإسلام: وهذه الأقوال كلها حق، فإن الآية تعم من كان معبوده عابدًا للّه سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر، والسلف في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله ما معنى لفظ الخبز؟ فيريه رغيفًا، فيقول: هذا، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه، وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول الآية للنوعين، فالآية خطاب لكل من دعا دون اللّه مدعوًا.
وذلك المدعو يبتغي إلى اللّه الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه. فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها، فقد تناولته هذه الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجن، ومعلوم أن هؤلاء كلهم(4/181)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية: 57.
2 سورة الإسراء آية: 57.(4/182)
ص -112- ... يكونون وسائط فيما يقدره اللّه بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى اللّه عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلى موضع، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال:{وَلا تَحْوِيلاً} ، فذكر نكرة تعم أنواع التحويل فكل من دعا ميتًا أو غائبا من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة أو دعا الجن، فقد دعا من لا يغيثه، ولا يملك كشف الضر عنه، ولا تحويله انتهى.
وبنحو ما تقدم من كلام هؤلاء قال جميع المفسرين: فتبين أن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا اللّه: هو ترك ما عليه المشركون من دعوة الصالحين، والاستشفاع بهم إلى اللّه في كشف الضر وتحويله، فكيف ممن أخلص لهم الدعوة، وأنه لا يكفي في التوحيد دعواه، والنطق بكلمة الشهادة من غير مفارقة لدين المشركين، وأن دعاء الصالحين لكشف الضر أو تحويله هو الشرك الأكبر نبه عليه المصنف.
قال: وقوله:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي...}1 الآية.
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها: إنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}2 أي: هذه الكلمة؛ وهي عبادة اللّه وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا اللّه أي: جعلها في ذريته يقتدي به فيها من هداه اللّه من ذرية إبراهيم عليه السلام. لعلهم يرجعون، أي: إليها.
قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}3 يعني لا إله إلا اللّه، لا يزال في ذريته من يقولها. وقال ابن زيد: كلمة الإسلام، وهو يرجع(4/183)
إلى ما قاله الجماعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزّخرف آية: 26-27.
2 سورة الزّخرف آية: 26-28.
3 سورة الزخرف آية: 28.(4/184)
ص -113- ... قلت: وروى ابن جرير عن قتادة في قوله:{إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي}1. قال: خلقني: وعنه {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي}2. قال: إنهم يقولون: إن اللّه ربنا {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}3، فلم يبرأ من ربه. رواه عبد بن حميد. قلت: يعني أن قوم إبراهيم يعبدون اللّه ويعبدون غيره، فتبرأ مما يعبدون إلا اللّه،
لا كما يظن الجهال أن الكفار لا يعرفون اللّه، ولا يعبدونه أصلاً. وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}4 قال: الإخلاص والتوحيد، لا يزال في ذريته من يوحد اللّه ويعبده.
فتبين بهذا أن معنى لا إله إلا اللّه هو البراءة مما يُعْبَدُ من دون اللّه، وإفراد اللّه بالعبادة، وذلك هو التوحيد لا مجرد الإقرار بوجود اللّه وملكه وقدرته وخلقه لكل شيء، فإن هذا يقرُّ به الكفار وذلك هو معنى قوله:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}5 فاستثنى من المعبودين ربه وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي شهادة أن لا إله إلا اللّه. قاله المصنف.
قال: وقوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ...}6.
ش: الأحبار: هم العلماء. والرهبان: هم العباد. وهذه الآية قد فسرها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، وذلك أنه "لما جاء مسلمًا دخل على رسول صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: إنهم حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم فذاك عبادتهم إياه" رواه أحمد والترمذي وحسنه وعبد بن حميد وابن سعد وابن أبي حاتم والطبراني وغيرهم من طرق. وهكذا قال جميع المفسرين.
قال السدي: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم، ولهذا قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}7، أي: الذي إذا(4/185)
حرم شيئًا فهو الحرام وما حلله حل، وما شرعه اتبع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف آية: 27.
2 سورة آية: 26-27.
3 سورة الزخرف آية: 87.
4 سورة الزخرف آية: 28.
5 سورة الزّخرف آية: 26-28.
6 سورة التوبة آية: 31.
7 سورة التوبة آية: 31.(4/186)
ص -114- ... {سُبْحَانَهُ} وتعالى {عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، أي: تعالى وتقدس عن الشركاء والنظراء والأضداد، والأندا،{ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، ، ولا رب سواه.
ومراد المصنف رحمه اللّه بإيراد الآية هنا أن الطاعة في تحريم الحلال، وتحليل الحرام، من العبادة المنفية من غير اللّه تعالى، ولهذا فسرت العبادة بالطاعة، وفسر الإله بالمعبود المطاع، فمن أطاع مخلوقًا في ذلك فقد عبده، إذ معنى التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا اللّه يقتضي إفراد اللّه بالطاعة، وإفراد الرسول بالمتابعة، فإن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أطاع اللّه، وهذا أعظم ما يبين التوحيد وشهادة أن لا إله إلا اللّه، لأنها تقتضي نفي الشرك في الطاعة، فما ظنك بشرك العبادة، كالدعاء والاستغاثة والتوبة وسؤال الشفاعة وغير ذلك من أنواع الشرك في العبادة، وسيأتي مزيد لهذا إن شاء اللّه تعالى في باب من أطاع العلماء والأمراء (= 469).
قال وقوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ...}1.
ش: قال المصنف رحمه اللّه في مسائله: ومنها، أي: من الأمور المبينة لتفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا اللّه، آية البقرة في الكفار الذين قال اللّه فيهم:{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}2. وذكر أنهم يحبون أندادهم كحب اللّه، فدل على أنهم يحبون اللّه حبًا عظيما، ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند حبًا أكبر من حب اللّه؟! فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده، ولم يحب اللّه؟! قلت: مراده أن معنى التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا اللّه، هو إفراد اللّه بأصل الحب الذي يستلزم إخلاص العبادة للّه وحده لا شريك له، وعلى قدر التفاضل في هذا الأصل، وما ينبني عليه من الأعمال الصالحة يكون تفاضل الإيمان والجزاء عليه في الآخرة.
فمن أشرك باللّه تعالى في ذلك، فهو المشرك، لهذه الآية، أخبر تعالى عن أهل(4/187)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 165.
2 سورة البقرة آية: 167.(4/188)
ص -115- ... هذا الشرك أنهم يقولون لآلهتهم وهم في الجحيم:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}1. ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الخلق والرزق والملك، وإنما ساووهم به في المحبة والإلهية والتعظيم والطاعة. فمن قال لا إله إلا اللّه، وهو مشرك باللّه في هذه المحبة، فما قالها حق القول وإن نطق بها، إذ هو قد خالفها بالعمل، كما قال المصنف. فكيف بمن أحب الند حبًا أكبر من حب اللّه؟! .وسيأتي الكلام على هذه الآية في بابها إن شاء اللّه تعالى (=401).
[شرح حديث من قال لا إله إلا اللّه وكفر بما يعبد من دون اللّه حرم ماله ودمه]
قال في "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلا اللّه وكفر بما يعبد من دون اللّه حرم ماله ودمه، وحسابه على اللّه"2 .
ش: قوله في " الصحيح " أي: " صحيح مسلم" عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وأبو مالك اسمه سعد بن طارق كوفي ثقة مات في حدود الأربعين ومائة، وأبوه طارق بن أشيم ـ بالمعجمة والمثناة التحتية وزن أحمر ـ ابن مسعود الأشجعي صحابي له أحاديث. قال مسلم: لم يرو عنه غير ابنه.
قوله: "من قال لا إله إلا اللّه وكفر بما يعبد من دون اللّه"3. اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث علق عصمة المال والدم بأمرين: الأول: قول: لا إله إلا اللّه. الثاني: الكفر بما يعبد من دون اللّه، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لا بد من قولها والعمل بها
قال المصنف: وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا اللّه، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع التلفظ بها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا اللّه وحده لا شريك له، بل لا يحرم دمه وماله حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون اللّه، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أجلها! ويا له من بيان(4/189)
ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع!
قلت: وقد أجمع العلماء على معنى ذلك فلا بدّ في العصمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشّعراء آية: 97-97.
2 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394).
3 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394).(4/190)
ص -116- ... من الإتيان بالتوحيد، والتزام أحكامه، وترك الشرك كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}1 والفتنة هنا: الشرك، فدل على أنه إذا وجد الشرك، فالقتال باق بحاله كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}2 وقال تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}3 فأمر بقتالهم على فعل التوحيد، وترك الشرك، وإقامة شعائر الدين الظاهرة، فإذا فعلوها خلي سبيلهم، ومتى أبوا عن فعلها أو فعل شيء منها، فالقتال باق بحاله إجماعًا. ولو قالوا: لا إله إلا اللّه.
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم علق العصمة بما علقها اللّه به في كتابه كما في هذا الحديث. وفي " صحيح مسلم ". عن أبي هريرة مرفوعًا: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه"4. وفي "الصحيحين " عنه قال: "لما توفي رسول اللّه وكفر من كفر من العرب، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه،فمن قال: لا إله إلا اللّه، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على اللّه؟ فقال أبو بكر: واللّه لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، واللّه لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه. فقال عمر بن الخطاب: فواللّه ما هو إلا أن رأيت اللّه قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق"5 لفظ مسلم. فانظر(4/191)
كيف فهم صديق الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد مجرد اللفظ بها من غير إلزام لمعناها وأحكامها، فكان ذلك هو الصواب، واتفق عليه الصحابة، ولم يختلف فيه منهم اثنان إلا ما كان من عمر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال آية: 39.
2 سورة التوبة آية: 36.
3 سورة التوبة آية: 5.
4 البخاري: الجهاد والسير (2946) , ومسلم: الإيمان (21) , والترمذي: الإيمان (2606) , والنسائي: الجهاد (3090 ,3095) وتحريم الدم (3972 ,3974 ,3976 ,3977) , وأبو داود: الجهاد (2640) , وابن ماجه: الفتن (3927 ,3928) , وأحمد (2/377 ,2/423 ,2/502 ,2/528 ,3/332 ,3/339 ,3/394).
5 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924) , ومسلم: الإيمان (20) , والترمذي: الإيمان (2607) , والنسائي: الزكاة (2443) والجهاد (3091 ,3092) , وأبو داود: الزكاة (1556) , وأحمد (1/19 ,1/47).(4/192)
ص -117- ... حتى رجع إلى الحق.
وكان فهم الصديق هو الموافق لنصوص القرآن والسنة. وفي " الصحيحين " أيضا عن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوه عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه"1. فهذا الحديث كآية براءة بيّن فيه ما يقاتل عليه الناس ابتداء، فإذا فعلوه، وجب الكف عنهم إلا بحقه، فإن فعلوا بعد ذلك ما يناقض هذا الإقرار والدخول في الإسلام، وجب القتال حتى يكون الدين كله للّه، بل لو أقروا بالأركان الخمسة وفعلوها، وأبوا عن فعل الوضوء للصلاة ونحوه، ـ أو عن تحريم بعض محرمات الإسلام كالربا أو الزنا أو نحو ذلك ـ وجب قتالهم إجماعًا، ولم تعصمهم لا إله إلا اللّه ولا ما فعلوه من الأركان.
وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا اللّه، وأنه ليس المراد منها مجرد النطق، فإذا كانت لا تعصم من استباح محرمًا، أو أبى عن فعل الوضوء مثلاً بل يقاتل على ذلك حتى يفعله، فكيف تعصم من دان بالشرك وفعله وأحبه ومدحه، وأثنى على أهله، ووالى عليه، وعادى عليه، وأبغض التوحيد الذي هو إخلاص العبادة للّه، وتبرأ منه، وحارب أهله، وكفرهم، وصد عن سبيل اللّه كما هو شأن عباد القبور، وقد أجمع العلماء على أن من قال: لا إله إلا اللّه، وهو مشرك أنه يقاتل حتى يأتي بالتوحيد.
ذكر التنبيه على كلام العلماء في ذلك فإن الحاجة داعية إليه لدفع شبه عباد القبور في تعلقهم بهذه الأحاديث وما في معناها مع أنها حجة عليهم بحمد اللّه لا لهم.
قال أبو سليمان الخطابي في قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه"2. معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون(4/193)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22).
2 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924) , ومسلم: الإيمان (20) , والترمذي: الإيمان (2607) , والنسائي: الزكاة (2443) والجهاد (3091 ,3092) , وأبو داود: الزكاة (1556) , وأحمد (1/19 ,1/47).(4/194)
ص -118- ... أهل الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا اللّه، ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم السيف .
وقال القاضي عياض: اختصاص عصم المال والنفس بمن قال لا إله إلا اللّه تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب، وأهل الأوثان، ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام، وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقوله لا إله إلا اللّه، إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر: "ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة"1.
وقال النووي: لا بد مع هذا من الإيمان لجميع ما جاء به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكما جاء في الرواية الأخرى: "ويؤمنوا بي وبما جئت به"2 .
وقال شيخ الإسلام: لما سئل عن قتال التتار مع التمسك بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام، فقال: كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ملتزمين بعض شرائعه كما قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم قال: فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء أو الأموال أو الخمر أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء.
قال: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنْزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام بمنْزلة مانعي الزكاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22).
2 مسلم: الإيمان (21).(4/195)
ص -119- ... ومثل هذا كثير في كلام العلماء.
والمقصود التنبيه على ذلك، ويكفي العاقل المنصف ما ذكره العلماء من كل مذهب في باب حكم المرتد، فإنهم ذكروا فيه أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان، ولو أتى بجميع الدين. وهو صريح في كفر عباد القبور، ووجوب قتالهم إن لم ينتهوا حتى يكون الدين للّه وحده، فإذا كان من التزام شرائع الدين كلها إلا تحريم الميسر أو الربا أو الزنا يكون كافرًا يجب قتاله، فكيف بمن أشرك باللّه ودعي إلى إخلاص الدين للّه والبراءة والكفر بمن عبد غير اللّه، فأبى عن ذلك، واستكبر وكان من الكافرين؟!
قوله: "وحسابه على اللّه" أي: إلى اللّه تبارك وتعالى، هو الذي يتولى حسابه، فإن كان صادقًا من قلبه جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقا عذبه العذاب الأليم. وأما في الدنيا، فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد والتزم شرائعه ظاهرًا، وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك.
واستدل الشافعية بالحديث على قبول توبة الزنديق، وهو الذي يظهر الإسلام، ويسر الكفر. والمشهور في مذهب أحمد ومالك أنها لا تقبل، لقوله تعالى:{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا}1 والزنديق لا يتبين رجوعه، لأنه مظهر الإسلام، مسر للكفر، فإذا أظهر التوبة لم يزد على ما كان منه قبلها. والحديث محمول على المشرك. ويتفرع على ذلك سقوط القتل وعدمه، أما في الآخرة فإن كان دخل في الإسلام صادقًا قبلت.
وفيه وجوب الكف عن الكافر إذا دخل في الإسلام ولو في حال القتال حتى يتبين منه ما يخالف ذلك.
وفيه أن الإنسان قد يقول: لا إله إلا اللّه، ولا يكفر بما يعبد من دون اللّه.
وفيه أن شرط الإيمان الإقرار بالشهادة، والكفر بما يعبد من دون اللّه مع اعتقاد ذلك واعتقاد جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفيه أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن مال المسلم ودمه حرام إلا في حق، كالقتل قصاصًا ونحوه، وتغريمه قيمة ما يتلفه.(4/196)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 160.(4/197)
ص -120- ... قوله: وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب. يعني أن ما يأتي بعد هذه الترجمة من الأبواب شرح للتوحيد، وشهادة أن لا إله إلا اللّه، لأن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا اللّه، أن لا يُعْبَدُ إلا اللّه ولا يعتقد النفع والضر إلا في اللّه، وأن يكفر بما يعبد من دون اللّه، ويتبرأ منها ومن عابديها، وما بعد هذا من الأبواب بيان لأنواع من العبادات والاعتقادات التي يجب إخلاصها للّه تعالى، وذلك هو معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا اللّه، واللّه أعلم.
[1ــ باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه]
ش: رفع البلاء: إزالته بعد حصوله، ودفعه: منعه قبله، ومن هنا ابتدأ المصنف في تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا اللّه بذكر شيء مما يضاد ذلك من أنواع الشرك الأكبر والأصغر، فإن الضد لا يعرف إلا بضده.
كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.
فمن لا يعرف الشرك لم يعرف التوحيد وبالعكس، فبدأ بالأصغر الاعتقادي انتقالاً من الأدنى إلى الأعلى فقال:
وقول اللّه تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ...}1.
ش: قال ابن كثير في تفسيرها، أي: لا تستطيع شيئا من الأمر. قل:{حَسْبِيَ اللَّهُ}، أي: اللّه كافي مَن توكل عليه، {عَلَيْهِ} يتوكل {الْمُتَوَكِّلُونَ} ، كما قال هود عليه السلام حين قال له قومه:{إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 38.
2 سورة هود آية: 54-56.(4/198)
ص -121- ... قلت: حاصله أن اللّه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: أرأيتم، أي: أخبروني عن {مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} مّا تدعون من دون اللّه، أي: تعبدونهم وتسألونهم من الأنداد والأصنام والآلهة المسميات بأسماء الإناث الدالة أسماؤهن على بطلانهن وعجزهن، لأن الأنوثة من باب اللين والرخاوة، كاللات والعزى {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ}1، أي: بمرض أو فقر أو بلاء أو شدة {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}2، أي: لا يقدرون على ذلك أصلاً {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ}3، أي: صحة، وعافية، وخير، وكشف بلاء. {هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ}4. قال مقاتل: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا، أي: لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها، وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند اللّه، لا لأنهم يكشفون الضر ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك للّه وحده كما قال تعالى:{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}5. وقد دخل في ذلك كل من دعي من دون اللّه من الملائكة والأنبياء والصالحين، فضلا عن غيرهم فلا يقدر أحد علىكشف ضر ولا إمساك رحمة، كما قال تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}6 .
وإذا كان كذلك بطلت عبادتهم من دون اللّه، وإذا بطلت عبادتهم فبطلان دعوة الآلهة والأصنام أبطل وأبطل، وليس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه كذلك، فهذا وجه استدلال المصنف بالآية، وإن كانت الترجمة في الشرك الأصغر، فإن السلف يستدلون بما نزل في الأكبر على الأصغر، كما استدل حذيفة وابن عباس وغيرهما وكذلك من جعل رؤوس الْحُمُر ونحوها في البيت والزرع لدفع العين كما يفعله أشباه المشركين، فإنه يدخل في(4/199)
ذلك، وقد يحتجون على ذلك بما رواه أبو داود في المراسيل [540] عن علي بن الحسين مرفوعًا: "احرثوا فإن الحرث مبارك، وأكثروا فيه من الجماجم". وعنه أجوبة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 38.
2 سورة الزمر آية: 38.
3 سورة الزمر آية: 38.
4 سورة الزمر آية: 38.
5 سورة النّحل آية: 53-54.
6 سورة فاطر آية: 2.(4/200)
ص -122- ... أحدها: أنه حديث ساقط مرسل وأبو داود لم يشترط في مراسيله جمع المراسيل الصحيحة الإسناد، وقد ضعفه السيوطي وغيره.
الثاني: أنه اختلف في تفسير الجماجم، فقيل: هي البذر، ذكره العزيزي في "شرح الجامع". وقيل: الخشبة التي يكون في رأسها سكة الحرث، قاله أبو السعادات بن الأثير في " النهاية ". وقيل: هي جماجم رؤوس الحيوان ذكره العزيزي وغيره. وعلى هذا فقيل: أمر بجعلها لدفع الطير، ذكره العزيزي وغيره، وهذا هو الأقرب لو ثبت الحديث مع أنه باطل وقيل: بل لدفع العين، وفيه حديث ساقط أنه أمر بالجماجم في الزرع من أجل العين، وهو مع ذلك منقطع، ذكره السيوطي وغيره، وهذا المعنى هو الذي تعلق به أشباه المشركين ولا ريب أنه معنى باطل، لم يرده النبي صلى الله عليه وسلم لو كان الحديث صحيحًا، وكيف يريده وقد أمر بقطع الأوتار كما في " الصحيح " .
وقال: "من تعلق شيئًا وكل إليه"1. وقال: "من تعلق ودعة فلا ودع اللّه له"2 وكانوا يجعلون ذلك من أجل العين كما سيأتي، فهلا أرخص لهم فيه؟!
الثالث: أن هذا مضاد لدين الإسلام الذي بعث اللّه به رسله، فإنه تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يشرك به شيء، لا في العبادة ولا في الاعتقاد، وهذا من جنس فعل الجاهلية الذين يعتقدون البركة والنفع والضر فيما لم يجعل اللّه فيه شيئًا من ذلك، ويعلقون التمائم والودع ونحوهما على أنفسهم لدفع الأمراض والعين فيما زعموا.
فإن قيل: الفاعل لذلك لم يعتقد النفع فيه استقلالاً، فإن ذلك لله وحده، فهو النافع الضار، وإنما اعتقد أن اللّه جعله سببا كغيره من الأسباب. قيل: هذا باطل أيضًا، فإن اللّه لم يجعل ذلك سببًا أصلاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الطب (2072) , وأحمد (4/310).
2 أحمد (4/154).(4/201)
ص -123- ... وكيف يكون الشرك سببًا لجلب الخير ولدفع الضر، ولو قدر أن فيه بعض النفع، فهو كالخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما. فإن قيل: كيف يكون شركًا وقد روى أبو داود ذلك في مراسيله وغيره من العلماء يروون الحديث ولم ينكره.
قيل: أهل العلم يروون الأحاديث الضعيفة والموضوعة لبيان حالها وإسنادها لا للاعتماد عليها واعتقادها، وكتب المحدثين مشحونة بذلك، فبعضهم يذكر علة الحديث، ويبين حاله وضعفه إن كان ضعيفًا، ووضعه إن كان موضوعًا، وبعضهم يكتفي بإيراد الحديث بإسناده ويرى أنه قد برئ من عهدته إذا أورده بإسناده لظهور حال رواته، كما يفعل ذلك الحافظ أبو نعيم، وأبو القاسم بن عساكر وغيرهما، فليس في رواية من رواه وسكوته عنه دليل على أنه عنده صحيح أو حسن أو ضعيف، بل قد يكون موضوعًا عنده، فلا يدل سكوته عنه على جواز العمل به عنده، وسيأتي في الكلام على حديث قطع الأوتار ما يدل على النهي عن هذا من كلام العلماء.
قال: عن عمران بن حصين "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر. فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة. فقال انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا"1. رواه أحمد بسند لا بأس به.
ش: هذا الحديث ذكره المصنف بمعناه، أما لفظه فقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، ثنا المبارك عن الحسن قال أخبرني عمران بن حصين "أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة ـ قال: أراه قال: من صفر ـ، فقال: ويحك ما هذه قال من الواهنة قال: أما إنها لا تزيدك إلا وهنا، انبذها عنك، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا"2. ورواه ابن ماجة دون قوله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه: الطب (3531) , وأحمد (4/445).
2 ابن ماجه: الطب (3531) , وأحمد (4/445).(4/202)
ص -124- ... انبذها إلى آخره، وابن حبان في " صحيحه". وقال: فإنك إن مت وكلت إليها والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي: قال المنذري: رووه كلهم عن مبارك بن فضالة عن الحسن عن عمران. ورواه ابن حبان أيضًا بنحوه عن أبي عامر الخزاز، عن الحسن، وهذه متابعة جيدة، إلا أن الحسن اختلف في سماعه من عمران.
قال ابن المديني وغيره: لم يسمع منه،: وقال الحاكم: وأكثر مشايخنا على أنه سمع منه. قلت: رواية الإمام أحمد ظاهرة في سماعه منه وهو الصواب.
قوله: عن عمران بن حصين. أي: ابن عبيد بن خلف الخزاعي أبو نجيد - بنون وجيم مصغر - صحابي ابن صحابي. أسلم عام خيبر، ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة.
قوله: " رأى رجلاً " في رواية الحاكم: "دخلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر. فقال: ما هذه؟ قلت: من الواهنة فقال: انبذها". فالمبهم في رواية أحمد ومن وافقه هو عمران راوي الحديث.
قوله: "فقال ما هذا؟". يحتمل أن الاستفهام للاستفصال هل لبسها تحليًا أم لا؟ ويحتمل أن يكون للإنكار فظن اللابس أنه استفصل.
قوله: "من الواهنة". قال أبو السعادات: الواهنة: عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها، فيرقى منها. وقيل: هو مرض يأخذ في العضد، وربما علق عليها جنس من الخرز يقال له: خرز الواهنة، وهي تأخذ الرجال دون النساء قال: وإنما نهاه عنها، لأنه اتخذها على معنى أنها تعصمه من الألم، فكان عنده في معنى التمائم المنهي عنه. قلت: وفيه استفصال المفتي واعتبار المقاصد.(4/203)
ص -125- ... قوله: "انزعها"؛ فإنها لا تزيدك إلا وهنا. لفظ الحديث: "انبذها" وهو أبلغ، أي: اطرحها. والنّزع هو الجذب بقوة، والنبذ يتضمن ذلك وزيادة وهو الطرح والإبعاد، أمره بطرحها عنه وأخبر أنها لا تنفعه بل تضره، فلا تزيده إلا وهنًا، أي: ضعفًا. وكذلك كل أمر نهي عنه فإنه لا ينفع غالبًا أصلاً، وإن نفع بعضه، فضره أكبر من نفعه، وفيه النهي عن تعليق الحلق والخرز ونحوهما على المريض أو غيره، والتنبيه على النهي عن التداوي بالحرام. وروى أبو داود بإسناد حسن، والبيهقي عن أبي الدرداء مرفوعًا في حديث: "تداوَوا ولا تداوَوا بحرام"1.
فإن قيل كيف قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزيدك إلا وهنًا" وهي ليس لها تأثير؟ وقيل: هذا - واللّه أعلم - يكون عقوبة له على شركه لأنه وضعها لدفع الواهنة، فعوقب بنقيض مقصوده.
قوله: "فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا،"، أي:- لأنه مشرك والحالة هذه، والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة.
قال المصنف: فيه شاهد لكلام الصحابة أن الشرك الأصغر أكبر الكبائر، وأنه لم يعذر بالجهالة، والإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك.
قلت: وفيه أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح أبدًا، ففيه رد على المغرورين الذين يفتخرون بكونهم من ذرية الصالحين، أو من أصحابهم، ويظنون أنهم يشفعون لهم عند اللّه، وإن فعلوا المعاصي وفيه أن رتب الإنكار متفاوتة فإذا كفى الكلام في إزالة المنكر لم يحتج إلى ضرب ونحوه. وفيه أن المسلم إذا فعل ذنبًا وأنكر عليه فتاب منه فإن ذلك لا ينقصه، وأنه ليس من شرط أولياء اللّه عدم الذنوب.
قوله: رواه أحمد بسند لا بأس به. هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، أبو عبد اللّه المروزي، ثم البغدادي; إمام أهل عصره وأعلمهم بالفقه والحديث، وأشدهم ورعًا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الطب (3874).(4/204)
ص -126- ... ومتابعة للسنة. روى عن الشافعي ويزيد بن هارون وابن مهدي ويحيى القطان وابن عيينة وعفان وخلف. وروى عنه ابناه: عبد الله وصالح والبخاري ومسلم وأبو داود وأبو بكر الأثرم والمروزي وخلق لا يحصون، مات سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة.
قال: وله عن عقبة بن عامر مرفوعًا: "من تعلق تميمة فلا أتم اللّه له، ومن تعلق ودعة فلا ودع اللّه له"1. وفي رواية: "من تعلق تميمة فقد أشرك"2.
ش: الحديث الأول رواه أحمد كما قال المصنف، ورواه أيضًا أبو يعلى والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي.
وقوله: "وفي رواية": هذا يوهم أن هذا في بعض الأحاديث المذكورة، وليس كذلك، بل المراد أنه في حديث آخر رواه أحمد أيضًا فقال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا عبد العزيز بن مسلم، ثنا يزيد بن أبي منصور، عن دخين الحجري، عن عقبة بن عامر الجهني "أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد. فقالوا: يا رسول اللّه، بايعت تسعة وأمسكت عن هذا؟ قال: إن عليه تميمة فأدخل يده فقطعها، فبايعه. وقال: من علق تميمة فقد أشرك"3. ورواه الحاكم بنحوه، ورواته ثقات.
وقوله: (في هذا الحديث): فأدخل يده فقطعها. أي: الرجل، بينه الحاكم في روايته.
قوله: (عن عقبة بن عامر). هو الجهني، صحابي مشهور، وكان فقيهًا فاضلاً ولي إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين ومات قريبًا من الستين.
قوله: "من تعلق تميمة"، أي: متمسكًا بها عليه وعلى غيره من طفل
أو دابة ونحو ذلك. قال المنذري: يقال: إنها خرزة كانوا يعلقونها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (4/154).
2 أحمد (4/156).
3 أحمد (4/156).(4/205)
ص -127- ... يرون أنها تدفع عنهم الآفات واعتقاد هذا الرأي جهل وضلالة إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى.
وقال أبو السعادات: التمائم جمع تميمة وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم، يتقون بها العين في زعمهم، فأبطله الإسلام. قال: كأنّهم كانوا يعتقدون أنها تمائم الدواء والشفاء.
قوله: "فلا أتم الله له"، دعاء عليه بأن اللّه لا يتم له أموره.
قوله: "ومن تعلق ودعة"، بفتح الواو وسكون المهملة. قال [الدّيلمي] في "مسند الفردوس" شيء يخرج من البحر يشبه الصدف، يتقون به العين،
قوله: "فلا ودع اللّه له"، بتخفيف الدال، أي: لا جعله في دعة وسكون، وقيل: هو لفظ بني من الودعة، أي: لا خفف الله عنه ما يخافه، قاله أبو السعادات. وهذا دعاء عليه، فيه وعيد شديد لمن فعل ذلك، فإنه مع كونه شركًا، فقد دعا عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بنقيض مقصوده.
قوله: "من تعلق تميمة فقد أشرك". قال ابن عبد البر: إذا اعتقد الذي علقها أنها ترد العين، فقد ظن أنها ترد القدر، واعتقاد ذلك شرك. وقال أبو السعادات: إنما جعلها شركًا، لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم، وطلبوا دفع الأذى من غير اللّه الذي هو دافعه .
قال: ولابن أبي حاتم، "عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}1 ".
ش: هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم كما قال المصنف.
ولفظه: حدثنا محمد بن الحسين بن إبراهيم بن إشكاب، ثنا يونس بن محمد ثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية: 106.(4/206)
ص -128- ... عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده سيرًا1 فقطعه أو انتزعه، ثم قال:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}2 وابن أبي حاتم هو الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي التميمي الحنظلي، الحافظ ابن الحافظ، صاحب "الجرح والتعديل"، والتفسير وغيرهما. مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.
وحذيفة هو ابن اليمان، واسم اليمان حسيل بمهملتين. مصغرًا ويقال حسل بكسر ثم سكون، العبسي بالموحدة، حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين ويقال [له]: صاحب السر، وأبوه أيضًا صحابي، مات حذيفة في أول خلافة علي سنة ست وثلاثين.
قوله: (رأى رجلاً في يده خيط من الحمى). أي: من أجل الحمى لدفعها، وكان الجهال يعلقون لذلك التمائم والخيوط ونحوها. وروى وكيع: "عن حذيفة أنه دخل على مريض يعوده، فلمس عضده فإذا فيه خيط فقال: ما هذا؟ فقال: شيء رقي لي فيه، فقطعه فقال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك".
قوله: (فقطعه)، فيه إنكار هذا، وإن كان يعتقد أنه سبب فإن الأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم مع عدم الاعتماد عليه، فكيف بما هو شرك كالتمائم والخيوط والخرز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهال؟ وفيه إزالة المنكر باليد بغير إذن الفاعل، وإن كان يظن أن الفاعل يزيله، وإن إتلاف آلات المنكر واللهو جائزة وإن لم يأذن صاحبها.
قوله: وتلا قوله:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السّير من الجلد ونحوه، ما يشقّ منه مستطيلاً.
2 سورة يوسف آية: 106.(4/207)
ص -129- ... مُشْرِكُونَ}1. استدل حذيفة بهذه الآية على أن تعليق الخيط ونحوه مما ذكر شرك، أي: أصغر كما تقدم في الحديث، ففيه صحة الاستدلال بما نزل في الأكبر على الأصغر، ومعنى الآية أن اللّه أخبر عن المشركين أنهم يجمعون بين الإيمان باللّه، أي: بوجوده، وأنه الخالق الرزاق المحيي المميت، ثم مع ذلك يشركون في عبادته فسرها بذلك ابن عباس وعطاء ومجاهد والضحاك وابن زيد وغيرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية: 106.
[2- باب ما جاء في الرقى والتمائم]
ش: أي: في حكمها. ولما كانت الرقى على ثلاثة أقسام، قسم يجوز، وقسم لا يجوز، وقسم في جوازه خلاف; لم يجزم المصنف بكونهما من الشرك، لأن في ذلك تفصيلاً بخلاف لبس الحلقة والخيط ونحوهما مما ذكر، فإن ذلك شرك مطلقًا.
قال في "الصحيح": عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً "أن لا يبقين في رقبة بعير ـ قلادة من وتر أو ـ قلادة إلا قطعت"1.
ش: قوله: في "الصحيح" أي: في "الصحيحين".
قوله: (عن أبي بشير) ـ بفتح أوله وكسر المعجمة- الأنصاري، قيل: اسمه قيس بن عبيد، قاله ابن سعد. وقال ابن عبد البر: لا يوقف له على اسم صحيح، وهو صحابي شهد الخندق ومات بعد الستين، يقال: جاوز المائة.
قوله: "في بعض أسفاره". قال الحافظ: لم أقف على تعيينها.
قوله: (فأرسل رسولا). هو زيد بن حارثة. وروى ذلك الحارث بن أبي أسامة في " مسنده " قاله الحافظ.
قوله: "أن لا يبقين". هو بالمثناة والقاف المفتوحتين; وفي رواية لا تبقين بحذف "أن" والمثناة الفوقية والقاف المفتوحتين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (3005) , ومسلم: اللباس والزينة (2115) , وأبو داود: الجهاد (2552) , وأحمد (5/216) , ومالك: الجامع (1745).(4/208)
ص -130- ... أيضًا. و"قلادة" مرفوع على أنه فاعل و"الوتر" بفتحتين واحد أوتار القوس.
قوله: "أو قلادة إلا قطعت" هو برفع "قلادة" أيضًا، عطف على الأول، ومعناه أن الراوي شك، هل قال شيخه قلادة من وتر؟ فقيد القلادة بأنها من وتر، أو قال: قلادة وأطلق ولم يقيد. ويؤيده ما روي عن مالك أنه سئل عن القلادة فقال: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر. وفي رواية أبي داود: "ولا قلادة"، بغير شك، والأولى أصح، لاتفاق الشيخين عليها، وللرخصة في القلائد، إلا الأوتار ولما روى أبو داود والنسائي من حديث أبي وهب الجشمي مرفوعًا: "ارتبطوا الخيل وقلدوها،ولا تقلدوها الأوتار" ولأحمد عن جابر مرفوعًا مثله وإسناده جيد.
قال البغوي في "شرح السنة1 ": تأول مالك أمره عليه السلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين، وذلك أنهم كانوا يشدون بتلك الأوتار والتمائم والقلائد، ويعلقون عليها العوذ، يظنون أنها تعصم من الآفات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وأعلمهم أنها لا ترد من أمر اللّه شيئًا. وقال أبو عبيد القاسم بن سلاّم: كانوا يقلدون الإبل الأوتار لئلا نصيبها العين، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإزالتها إعلامًا لهم بأن الأوتار لا ترد شيئًا، وكذلك قال ابن الجوزي وغيره.
قال الحافظ: ويؤيده حديث عقبة بن عامر رفعه: "من تعلق تميمة فلا أتم اللّه له"2. رواه أبو داود، وهي ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك انتهى.
فعلى هذا، يكون تقليد الإبل وغيرها الأوتار وما في معناها لهذا المعنى حرامًا، بل شركًا، لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر ذلك في كتاب الجهاد باب قطع القلائد والأوتار 11/ 27. وشرح السنة من أعظم الكتب في بابه, وقد شرفنا الله بخدمته وطبعه في 16 مجلدا مع الفهارس المسهلة, ولله الحمد والمنة.
2 أحمد (4/154).(4/209)
ص -131- ... من تعليق التمائم المحرمة، ومن تعلق تميمة فقد أشرك ولم يصب من قال: إنه مكروه كراهة تنْزيه.
قال: وعن ابن مسعود سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك"1 رواه أحمد وأبو داود.
ش: الحديث رواه أحمد، وأبو داود، كما قال المصنف، وفيه قصة كأن المصنف اختصرها. ولفظ أبي داود: "عن زينب امرأة عبد اللّه بن مسعود أن عبد اللّه بن مسعود رأى في عنقي خيطًا، فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقي لي فيه. قالت: فأخذه فقطعه ثم قال: إن آل عبد اللّه لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول:إن الرقى والتمائم والتولة شرك. فقلت: لم تقول هكذا؟ لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فإذا رقاها: سكنت: فقال عبد اللّه: إنما ذلك عمل الشيطان ينخسها بيده، فإذا رقيتها كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلاّ شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا". ورواه ابن ماجة وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح وأقره الذهبي.
قوله: "إن الرقى". قال المصنف: الرقي هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من العين والحمة.
يشير إلى أن الرقى الموصوفة بكونها شركًا هي الرقى التي فيها شرك، من دعاء غير اللّه، والاستغاثة والاستعاذة به، كالرقى بأسماء الملائكة والأنبياء والجن ونحو ذلك، أما الرقى بالقرآن وأسماء اللّه وصفاته ودعائه والاستعاذة به وحده لا شريك له، فليست شركًا، بل ولا ممنوعة، بل مستحبة أو جائزة.
قوله: "فقد رخص فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من العين والحمة". تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد، وكذلك رخص فيه من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الطب (3883) , وابن ماجه: الطب (3530) , وأحمد (1/381).(4/210)
ص -132- ... غيرها، كما في "صحيح مسلم": "عن عوف بن مالك قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى، ما لم يكن فيه شرك"1. وفيه "عن أنس قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة"2. "وعن عمران بن حصين مرفوعًا "لا رقية إلا من عين أو حمة أو دم"3. رواه أبو داود وفي الباب أحاديث كثيرة.
قال الخطابي: وكان عليه السلام قد رقى ورقي، وأمر بها وأجازها، فإذا كانت بالقرآن أو بأسماء اللّه تعالى، فهي مباحة أو مأمور بها، وإنما جاءت الكراهية والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفرًا، أو قولاً يدخله الشرك، قال: ويحتمل أن يكون الذي يكره من ذلك ماكان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها، وأنها تدفع عنهم الآفات، ويعتقدون ذلك من قبل الجن ومعونتهم.
قلت: ويدل على ذلك: "قول علي بن أبي طالب: إن كثيرًا من هذه الرقى والتمائم شرك، فاجتنبوه". رواه وكيع، فهذا يبين معنى حديث ابن مسعود ونحوه.
وقال [عبد الواحد] بن التين: الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء اللّه تعالى هو الطب الروحانِي، فإذا كان على لسان الأبرار من الخلق، حصل الشفاء بإذن اللّه تعالى، فلما عفي عن هذا النوع، فزع الناس إلى الطب الجسماني وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له، فيأتي بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر الله تعالى وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم والتعوذ بمردتهم.
ويقال: إن الحية لعداوتها الإنسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزم على الحية(4/211)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: السلام (2200) , وأبو داود: الطب (3886).
2 مسلم: السلام (2196) , وابن ماجه: الطب (3516) , وأحمد (3/118 ,3/119 ,3/127).
3 مسلم: الإيمان (220) , وأحمد (1/271).(4/212)
ص -133- ... بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها. وكذا اللديغ إذا رقي بتلك الأسماء سالت سمها من بدن الإنسان، ولذلك كره الرقى ما لم تكن بآيات اللّه وأسمائه خاصة، وباللسان العربي الذي يعرف معناه، ليكون بريئًا من شوب الشرك، وعلى كراهية الرقى بغير كتاب اللّه علماء الأمة.
قال شيخ الإسلام: كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقى به، فضلاً عن أن يدعو به ولو عرف معناه، لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يعرف العربية، فأما جعل الألفاظ العجمية شعارًا، فليس من الإسلام.
قلت: وسئل ابن عبد السلام عن الحروف المقطعة، فمنع منها ما لا يعرف، لئلا يكون فيه كفر.
وقال السيوطي: قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام اللّه تعالى أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي وبما يعرف معناه، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير اللّه تعالى، فتلخص أن الرقية ثلاثة أقسام.
قوله: "والتمائم". تقدم كلام المنذري وابن الأثير في معناه في الباب قبله وظاهره تخصيص التمائم بما ذكراه.
وقال المصنف: التمائم شيء يعلق على الأولاد من العين. وقال الخلخالي: التمائم جمع تميمة وهي ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين، وهذا منهي عنه، لأنه لا دافع إلا اللّه، ولا يطلب دفع المؤذيات إلا باللّه وأسمائه وصفاته، وظاهره أن ما علق لدفع العين وغيرها فهو تميمة من أي شيء كان، وهذا هو الصحيح.
وقد يقال: إن كلام المنذري وابن الأثير وغيرهما لا يخالفه.
قال المصنف: لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود.(4/213)
ص -134- ... اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء اللّه وصفاته، فقالت طائفة: يجوز ذلك، وهو قول عبد اللّه بن عمرو بن العاص وغيره، وهو ظاهر ما روي عن عائشة، وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية، وحملوا الحديث على التمائم الشركية، أما التي فيها القرآن وأسماء اللّه وصفاته، فكالرقية بذلك. قلت: وهو ظاهر اختيار ابن القيم.
وقالت طائفة: لا يجوز ذلك، وبه قال ابن مسعود، وابن عباس وهو ظاهر قول حذيفة، وعقبة بن عامر، وابن عكيم رضي الله عنهم، وبه قال جماعة من التابعين، منهم أصحاب ابن مسعود، وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه، وجزم بها المتأخرون، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه فإن ظاهره العموم لم يفرق بين التي في القرآن وغيرها بخلاف الرقى فقد فرق فيها، ويؤيد ذلك أن الصحابة الذين رووا الحديث فهموا العموم كما تقدم عن ابن مسعود. وروى أبو داود: "عن عيسى بن حمزة1, قال: دخلت على عبد اللّه بن عكيم وبه حمرة. فقلت: ألا تعلق تميمة؟ فقال: نعوذ باللّه من ذلك قال رسول اللّه: "من تعلق شيئًا وكل إليه"2. وروى وكيع: "عن ابن عباس قال: اتفل بالمعوذتين ولا تعلق".
وأما القياس على الرقية بذلك، فقد يقال بالفرق، فكيف يقاس التعليق الذي لا بد فيه من ورق أو جلود ونحوهما على ما لا يوجد ذلك فيه، فهذا إلى الرقى المركبة من حق وباطل أقرب.
هذا اختلاف العلماء في تعليق القرآن وأسماء اللّه وصفاته، فما ظنك بما حدث بعدهم من الرقى بأسماء الشياطين وغيرهم وتعليقها؟! بل والتعلق عليهم، والاستعاذة بهم، والذبح لهم، وسؤالهم كشف الضر، وجلب الخير مما هو شرك محض، وهو غالب على كثير من الناس إلا من سلم اللّه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا، والصّواب: عيسى بن عبد الله بن أبي ليلى.
2 الترمذي: الطب (2072) , وأحمد (4/310).(4/214)
ص -135- ... فتأمل ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه والتابعون، وما ذكره العلماء بعدهم في هذا الباب وغيره من أبواب الكتاب، ثم انظر إلى ما حدث في الخلوف المتأخرة، يتبين لك دين الرسول صلى الله عليه وسلم وغربته الآن في كل شيء، فاللّه المستعان.
قوله: "والتولة شرك:" قال المصنف: هو شيء يصنعونه يزعمون أنه
يحبب المرأة إلى زوجها، والزوج إلى امرأته، وكذا قال غيره أيضًا. وبهذا فسره ابن مسعود راوي الحديث كما في "صحيح ابن حبان" والحاكم. قالوا: يا أبا عبد الرحمن هذه الرقى والتمائم قد عرفناهما، فما التولة؟ قال شيء يضعه النساء يتحببن إلى أزواجهن. قال الحافظ: التولة بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففًا شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، وإنما كان ذلك من الشرك، لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير اللّه.
قال: وعن عبد اللّه بن عكيم مرفوعًا: "من تعلق شيئًا وكل إليه"1 رواه أحمد، والترمذي.
ش: ورواه أيضًا أبو داود والحاكم.
قوله: (عن عبد اللّه بن عكيم). هو بضم المهملة مصغرًا، ويكنى أبا معبد الجهني الكوفي. قال البخاري: أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له سماع صحيح، وكذا قال أبو حاتم: وقال معناه أبو زرعة، وابن حبان وابن منده، وأبو نعيم. وقال البغوي: يشك في سماعه. وقال الخطيب: سكن الكوفة، وقدم المدائن في حياة حذيفة، وكان ثقة، وذكر ابن سعد عن غيره أنه مات في ولاية الحجاج، وظاهر كلام هؤلاء الأئمة أن الحديث مرسل.
قوله: "من تعلق شيئًا وكل إليه".
التعلق يكون بالقلب ويكون بالفعل، ويكون بهما جميعًا، أي: من تعلق شيئا بقلبه، أو تعلقه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الطب (2072) , وأحمد (4/310).(4/215)
ص -136- ... بقلبه وفعله، وكل إليه، أي: وكله اللّه إلى ذلك الشيء الذي تعلقه، فمن تعلقت نفسه باللّه، وأنزل حوائجه باللّه، والتجأ إليه، وفوض أمره كله إليه، كفاه كل مؤنة، وقرب إليه كل بعيد، ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن
إلى علمه وعقله ودوائه وتمائمه، واعتمد على حوله وقوته، وكله اللّه إلى ذلك وخذله، وهذا معروف بالنصوص والتجارب.
قال اللّه تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}1. وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، ثنا أبو سعيد المؤدب، ثنا من سمع: "عطاء الخراساني، قال: لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت، فقلت له: حدثني حديثًا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز. قال: "نعم، أوحى اللّه تبارك وتعالى إلى داود: يا داود أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبيدي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السموات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له من بينهن مخرجًا، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبيدي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالي بأي واد هلك".
قال: وروى الإمام أحمد: "عن رويفع قال: قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "يا رويفع، لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترًا أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمدًا بريء منه"2 .
ش: الحديث رواه الإمام أحمد عن يحيي بن إسحاق، والحسن بن موسى الأشيب، كلاهما عن ابن لهيعة، وفيه قصة، فاختصرها المصنف، وهذا لفظ الحسن. قال: حدثنا ابن لهيعة: ثنا عياش بن عباس، عن شييم بن بيتان قال: ثنا: "رويفع بن ثابت قال: كان أحدنا في زمان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما يغنم، وله النصف، حتى إن أحدنا ليصير له النصل(4/216)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الطلاق آية: 3.
2 النسائي: الزينة (5067) , وأبو داود: الطهارة (36) , وأحمد (4/109).(4/217)
ص -137- ... والريش، والآخر القدح، ثم قال: قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "يا رويفع لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أنه من عقد لحيته، أو تقلد وترًا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه". ثم رواه أحمد عن يحيى بن غيلان، ثنا المفضل، حدثني عياش بن عباس أن شييم بن بيتان أخبره أنه سمع شيبان القتباني يقول: استخلف مسلمة بن مخلد رويفع بن ثابت الأنصاري على أسفل الأرض، قال: فسرنا معه، فقال: قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم... الحديث.
وفي الإسناد الأول ابن لهيعة، وفيه مقال، وفي الثاني شيبان القتباني قيل فيه: مجهول، وبقية رجالهما ثقات. ورواه أبو داود من طريق المفضل به مطولاً وسكت عليه، ثم قال: حدثنا يزيد بن خالد،أنا مفضل عن عياش أن شييم بن بيتان أخبره أيضًا بهذا الحديث عن أبي سالم الجيشاني عن عبد اللّه بن عمرو يذكر ذلك وهو معه مرابط بحصن باب أليون.
قال أبو داود: حصن أليون بالفسطاط على جبل. قلت: وهذا إسناد جيد. رواه النسائي من رواية شييم عن رويفع، وصرح بسماعه منه ولم يذكر شيبان، فإن كان ذكر شيبان وهمًا فالإسناد صحيح، وحسنه النووي، وصححه بعضهم. قال الحافظ أبو زرعة [بن العراقي] في "شرح أبي داود": ورواه الطحاوي مختصرًا فذكر منه الاستنجاء برجيع دابة أو عظم فقط. ورواه محمد بن الربيع الجيزي في كتاب من دخل مصر من الصحابة أولاً، وفيه أن من عقد لحيته في الصلاة.
قوله: "فأخبر الناس". دليل على وجوب إخبار الناس بذلك على رويفع، وليس هذا مختصًا به، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس، وجب عليه تبليغه للناس، وإعلامهم به فإن اشترك هو وغيره في علم ذلك، فالتبليغ فرض كفاية. هذا كلام أبي زرعة.
قوله: "لعل الحياة تطول بك". علم من إعلام النبوة، لأنه وقع(4/218)
ص -138- ... كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فإن رويفعًا طالت حياته إلى سنة ست وخمسين، فمات فيها ببرقة من أعمال مصر أميرًا عليها، وهو من الأنصار. وقيل: مات سنة ثلاث وخمسين، قاله ابن يونس.
قوله: أن من عقد لحيته. بكسر اللام لا غير، قاله في "المشارق" والجمع لحى، بالكسر والضم، قاله الجوهري.
قال الخطابي: وأما نهيه عن عقد اللحية، فإن ذلك يفسر على وجهين: أحدهما: ما كانوا يفعلونه من ذلك في الحروب، كانوا في الجاهلية يعقدون لحاهم، وذلك من زي بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها.
قلت: كأنهم كانوا يفعلونه تكبرًا وعجبًا، كما ذكره أبو السعادات.
قال: ثانيهما: أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد، وذلك من فعل أهل التوضيع والتأنيث.
وقال أبو زرعة بن العراقي: والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع المتقدم ذكرها، فهو موافق للحديث الصحيح في النهي عن كف الشعر والثوب فإن عقد اللحية فيه كفها وزيادة.
قوله: "أو تقلد وترًا". أي: جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته ونحو ذلك.
وفي رواية محمد بن الربيع: أو تقلد وترًا، يريد تميمة،
فهذا يدل على أنهم كانوا يتقلدون الأوتار من أجل العين، إذ فسره بالتميمة وهي تجعل لذلك.
قوله:"أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمدًا بريء منه". قال النووي: أي: بريء من فعله. وقال بهذه الصيغة ليكون أبلغ في الزجر.
قلت: فيه النهي عن الاستنجاء برجيع الدواب والعظام.
وقد ورد في ذلك أحاديث، منها: ما في "صحيح مسلم" عن ابن(4/219)
ص -139- ... مسعود مرفوعًا: "لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن"1. وعلى هذا فلا يجزئ الاستنجاء بهما كما هو ظاهر مذهب أحمد، واختار شيخ الإسلام وجماعة الإجزاء وإن كان محرمًا.
قالوا: لأنه لم ينه عنه لكونهما لا ينقيان، بل لإفسادهما. قلت: الأول أولى، لما رواه ابن خزيمة، والدارقطني من طريق الحسن بن الفرات، عن أبيه، عن أبي حازم الأشجعي، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن يستنجى بعظم أو روث وقال: إنهما لا يطهران". وهذا إسناد جيد.
قال: وعن سعيد بن جبير، قال:"من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة". رواه وكيع.
ش: هذا عند أهل العلم له حكم الرفع، لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي فيكون على هذا مرسلاً، لأن سعيدًا تابعي، وفيه فضل قطع التمائم، لأنها من الشرك.
ووكيع هو ابن الجراح بن وكيع الكوفي،
ثقة إمام، صاحب تصانيف منها "الجامع" وغيره.
روى عنه الإمام أحمد وطبقته. مات سنة سبع وتسعين ومائة.
قال: وله عن إبراهيم، كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن.
ش: إبراهيم: هو إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي يكنى أبا عمران، ثقة إمام، من كبار فقهاء الكوفة.
قال المزني: دخل على عائشة ولم يثبت له سماع منها، مات سنة ست وتسعين وله خمسون سنة ونحوها.
قوله:"كانوا يكرهون التمائم..." إلى آخره.
مراده بذلك أصحاب عبد اللّه بن مسعود كعلقمة والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد وعبيدة السلماني، ومسروق والربيع بن خيثم وسويد بن غفلة وغيرهم من أصحاب ابن مسعود وهم من سادات التابعين، وهذه الصيغة يستعملها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الصلاة (450) , والترمذي: الطهارة (18) , وأحمد (1/436).(4/220)
ص -140- ... إبراهيم في حكاية أقوالهم كما بين ذلك الحفاظ كالعراقي وغيره.
[3- باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما]
ش: كبقعة وغار وعين وقبر ونحو ذلك مما يعتقد كثير من عباد القبور وأشباههم فيه البركة فيقصدونه رجاء البركة.
ويعني بقوله: تبرك أي: طلب البركة ورجاها واعتقدها، أي: ما حكمه هل هو شرك أم لا؟ .
[ذكر صفة الأوثان التي كانت تعبد من دون الله]
قال: وقول اللّه تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}1.
ش: هكذا ثبت في خط المصنف الآيات يعني إلى قوله:{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}. قال القرطبي لما ذكر الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر من آثار قدرته ما ذكر، حاج المشركين، إذ عبدوا ما لا يعقل وقيل: أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونها أوحَيْنَ إليكم شيئًا كما أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟ وكانت اللات لثقيف، والعزى لقريش وبني كنانة، ومناة لبني هلال. وقال ابن هشام [بن الكلبي في الأصنام]: كانت مناة لهذيل وخزاعة.
ذكر صفة هذه الأوثان .
ليعرف المؤمن كيفية الأوثان، وكيفية عبادتها، وما هو شرك العرب الذين كانوا يفعلونه حتى يفرق بين التوحيد والإخلاص وبين الشرك والكفر.
فأما اللات فقرأ الجمهور بتخفيف التاء، وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح ورويس عن يعقوب: اللات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النجم آية: 19-23.(4/221)
ص -141- ... بتشديد التاء.
1- فعلى الأولى قال الأعمش: سموا اللات من الإله والعزى من العزيز.
قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اللّه تعالى، فقالوا: اللات مؤنثة منه، تعالى اللّه عن قولهم علوًا كبيرًا. قال: وكذا العزى من العزيز.
قال ابن كثير: وكانت صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت بالطائف، له أستار وسدنة1، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش.
قال ابن هشام [بن الكلبي]: وكانت في موضع مسجد الطائف اليسرى، فلم يزل كذلك إلى أن أسلمت ثقيف، فبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار.
2- وعلى الثانية قال ابن عباس: كان رجلاً يَلُتُّ2 السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره.ذكره البخاري.
وقال ابن عباس كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويلته عليها، فلما مات ذلك الرجل، عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظامًا لصاحب السويق. وعن مجاهد نحوه، وقال: فلما مات عبدوه. رواه سعيد بن منصور والفاكهي، وكذا روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنهم عبدوه.
وقال ابن جُريج: كان رجل من ثقيف يَلُتُّ السويق بالزيت، فلما توفي جعلوا إلى قبره وثنا،. وبنحو ذلك قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمع سادِنٍ، وهو الحاجب.
2 أي: يخطله بالسَّمن أو غيره. و(السّويق): طعام يتّخذ من مدقوق الحنطة والشّعير.(4/222)
ص -142- ... جماعة من أهل العلم، ولا تخالف بين القولين، فإن من قال: إنها صخرة لم ينف أن تكون صخرة على القبر أو حواليه فعظمت وعبدت تبعًا لا قصدًا، فالعبادة إنما أرادوا بها صاحب القبر، فهو الذي عبدوه بالأصالة; يدل على ذلك ما روى الفاكهي عن ابن عباس أن اللات لما مات قال لهم عمرو بن لُحَيْيّ: إنه لم يمت، ولكنه دخل الصخرة فعبدوها، وبنوا عليها بيتًا، فتأمل فعل المشركين مع هذا الوثن، ووازن بينه وبين بناء القباب على القبور والعكوف عندها ودعائها، وجعلها ملاذًا عند الشدائد.
وأما العزى فقال ابن جرير: كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف كانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: "لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قولوا: "اللّه مولانا ولا مولى لكم"1. وروى النسائي وابن مردويه عن أبي الطفيل قال: "لما فتح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات2 فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئًا، فرجع خالد، فلما أبصرته السدنة وهم حجبتها أمعنوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى يا عزى فأتاها خالد، فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها، تحفن التراب على رأسها فعمّمها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: تلك العزى" قال هشام [بن الكلبي]: وكانوا يسمعون منها الصوت. وقال أبو صالح [با ذام مولى أم هانئ]: "العزى نخلة كانوا يعلقون عليها السيور والعهن". رواه عبد بن حميد وابن جرير.
فتأمل فعل المشركين مع هذا الوثن، ووازن بينه وبين ما يفعله عباد القبور من دعائها، والذبح عندها، وتعليق الخيوط وإلقاء الخرق في ضرائح الأموات ونحو ذلك، فاللّه المستعان.(4/223)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (3039) , وأحمد (4/293).
2 السَّمُرُ: ضربٌ من شجر العِضاهِ. عِظامٌ، والعِضاه: كلّ شجر له شوك.(4/224)
ص -143- ... وأما مناة، فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها، ويهلون مهنا للحج إلى الكعبة وأصل اشتقاقها من اسم اللّه المنان،
وقيل: من منى اللّه الشيء: إذا قدره. وقيل: سميت مناة لكثرة ما يمنى، أي: يراق عندها من الدماء للتبرك بها.
قال هشام [بن الكلبي]: فبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عليًا فهدمها عام الفتح.
قال ابن إسحاق في "السيرة": وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي لها كما يهدى للكعبة، وتطوف بها وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده.
قلت: هذا الذي ذكره ابن إسحاق من شرك العرب هو بعينه الذي يفعله عباد القبور، بل زادوا على الأولين.
إذا تبين هذا فمعنى الآية كما قال القرطبي: إن فيها حذفًا تقديره: أفرأيتم هذه الآلهة هل نفعت أو ضرت حتى تكون شركاء للّه؟!.
وقال غيره: ومناة الثالثة الأخرى، ذم، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله:{وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ} [الأعراف، من الآية: 39]، أي وضعاؤهم لرؤسائهم.
وقوله:{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى}. قال ابن كثير: أي أتجعلون له ولدًا وتجعلون ولده الأنثى، وتختارون لكم الذكور؟! وقال غيره: بجوز أن يراد اللات والعزى ومناة إناث، وقد جعلتموهن للّه شركاء، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث وتستنكفوا من أن يولدن لكم، أو ينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادًا للّه وتسمونهن آلهة؟!. قلت: ما أقرب هذا القول إلى سياق الآية؟!
وقوله:{تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}، أي: جور وباطلة، فكيف. تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورًا وسفهًا، فتنْزهون أنفسكم عن الإناث، وتجعلونهن للّه، تعالى اللّه عن ذلك علوًا كبيرًا؟!.
وقوله:{إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ(4/225)
وَآبَاؤُكُم} .
قال ابن كثير،(4/226)
ص -144- ... ثم قال منكرًا عليهم فيما ابتدعوه، وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر من عبادة الأصنام، وتسميتها آلهة:{إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ}، أي: من تلقاء أنفسكم. {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} ، أي: من حجة .{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنّ} ، أي: ليس لهم
مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظ أنفسهم في رياستهم، وتعظيم آبائهم الأقدمين! .
وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}1 .
ش: قال ابن كثير: ولقد أرسل اللّه إليهم الرسل بالحق المنير، والحجة القاطعة، ومع هذا ما اتبعوا ما جاؤوهم به ولا انقادوا له.
قلت: في هذه الآيات من الدلائل القطعية على بطلان عبادة هذه الطواغيت، وأشباهها بما لا مزيد عليه، فسبحان من جعل كلامه شفاء وهدى ورحمة، وبشرى للمسلمين.
منها: أنها أسماء مؤنثة دالة على اللين والرخاوة، وما كان كذلك فليس بإله,ومنها: أنكم قاسمتم اللّه بزعمكم فجعلتم له هذه الأسماء المؤنثة شركاء ودعوتم له الأولاد، ثم جعلتموهم بنات واختصصتم بالذكور، فجعلتم له المكروه الناقص، ولكم المحبوب الكامل:{لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}2.
ومنها: أنها أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم، ابتدعتموها.
ومنها: أنها ما أنزل اللّه بها من سلطان، أي: حجة وبرهان، ومنها أنكم لم تستندوا في تسميتها إلى علم ويقين، وإنما استندتم في ذلك إلى الظن والهوى اللذين هما أصلا الهلاك دنيا وأخرى.
ومنها:{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}، أي: بإبطال عبادتها، وما كان كذلك، فهو عين المحال البين البطلان، وكل واحد من هذه الأدلة كاف شاف في بطلان عبادتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النجم آية: 23.
2 سورة النحل آية: 60.(4/227)
ص -145- ... فإن قلت: فأين دليل الترجمة من الآيات؟ قيل: هو بيّن بحمد اللّه، لأنه إن كان التبرك بالشجر والقبور والأحجار من الأكبر فواضح، وإن كان من الأصغر، فالسلف يستدلون بما نزل في الأكبر على الأصغر.
قال:"وعن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط. فقلنا: يا رسول اللّه اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط: فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اللّه أكبر إنها السنن، قلتم: والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إِلهًا كما لهم آلهة. قال: إِنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم"1. رواه الترمذي وصححه.
ش: الحديث رواه الترمذي كما قال المصنف: ولفظه: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي حدثنا سفيان عن الزهري عن سنان بن أبي سنان عن أبي واقد الليثي "أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم، قالوا يا رسول اللّه اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان اللّه هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم"2 هذا حديث حسن صحيح.
وأبو واقد الليثي اسمه الحارث بن عوف وفي الباب عن أبي سعيد، وأبي هريرة، هذا لفظ الترمذي بحروفه.
وفيه مخالفة لما في الكتاب لفظًا ومعنى، وقد اتفق اللفظان على المقصود هنا. وقد رواه أحمد وأبو داود وأبو يعلى وابن أبي شيبة والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه. وروى ابن أبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218).
2 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218).(4/228)
ص -146- ... حاتم وابن مردويه والطبراني من طريق كثير بن عبد اللّه بن عمرو بن عوف [بن زيد] عن أبيه عن جده نحوه أيضًا.
قوله: "عن أبي واقد الليثي". اسمه الحارث بن عوف، كما قال الترمذي، وقيل: الحارث بن مالك، صحابي مشهور. مات سنة ثمان وستين وله خمس وثمانون سنة.
قوله: (خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى حنين). في حديث عمرو بن عوف، قال: "غزونا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ونحن ألف ونيف حتى إذا كنا بين حنين والطائف". ولا مخالفة بينهما في المعنى، فإن غزوة الفتح وحنين كانتا في سفر واحد.
قوله: "ونحن حدثاء عهد بكفر". أي: قريبو عهد بكفر، ففيه دليل أن غيرهم لا يجهل هذا، وأن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادات الباطلة، ذكره المصنف.
قوله:"يعكفون عندها". الاعتكاف: هو الإقامة على الشيء بالمكان، ولزومها، ومنه قوله:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}1. وكانوا يعكفون عند هذه السدرة تبركًا بها.وفي حديث عمرو بن عوف قال،: كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط، وكانت تعبد من دون اللّه، فلما رآها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صرف عنها في يوم صائف إلى ظل هو أدنى منها. الحديث فيجمع بينهما بأن عبادتها هي العكوف عندها رجاء لبركتها.
قوله: "وينوطون بها أسلحتهم"، أي: يعلقونها عليها للبركة
قوله: يقال لها: ذات أنواط.
قال أبو السعادات: سألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك.
وأنواط جمع نوط، وهو مصدر سمي به المنوط.
قوله: (فقلنا: يا رسول اللّه اجعل لنا ذات أنواط). أي. شجرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 52.(4/229)
ص -147- ... مثلها نعلق عليها، ونعكف حواليها، ظنوا أن هذا أمر محبوب عند اللّه فقصدوا التقرب إلى اللّه بذلك، وإلا فهم أجل قدرًا، وإن كانوا حديثي عهد بكفر عن قصد مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللّه أكبر". هكذا في بعض الروايات. وفي رواية الترمذي "سبحان اللّه" والمقصود باللفظين واحد، لأن المراد تعظيم اللّه، وتنْزيهه عن الشرك، والتقرب به إليه، وفيه تكبير اللّه وتنْزيهه عند التعجب، أو ذكر الشرك، خلافًا لمن كرهه.
قوله: "إنها السنن". بضم السين،- أي: الطرق.
قوله: "قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها. إلخ". أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا الأمر الذي طلبوه منه، وهو اتخاذ شجرة للعكوف عندها، وتعليق الأسلحة بها تبركاً كالأمر الذي طلبه بنو إسرائيل من موسى عليه السلام حيث قالوا: (اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة)، فإذا كان اتخاذ شجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف عندها، اتخاذ إله مع اللّه مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما الظن بما حدث من عباد القبور من دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، والذبح، والنذر لهم، والطواف بقبورهم، وتقبيلها، وتقبيل أعتابها وجدرانها، والتمسح بها، والعكوف عندها، وجعل السدنة والحجاب لها؟! وأي نسبة بين هذا، وبين تعليق الأسلحة على شجرة تبركًا؟!
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي من أئمة المالكية: فانظروا رحمكم اللّه أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط فاقطعوها.
وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بأبي شامة في كتاب "البدع والحوادث": ومن هذا القسم(4/230)
ص -148- ... أيضًا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة، تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاكٍ أنه رأى في منامه بها أحدًا ممن شهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض اللّه تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر، وفي مدينة دمشق صانها اللّه من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحما خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق، سهل اللّه قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث! ثم ذكر الحديث المتقدم، وكلام الطرطوشي الذي ذكرنا، ثم قال: ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الجبنياني رحمه اللّه تعالى أحد الصالحين ببلاد أفريقية في المائة الرابعة حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبد اللّه محمد ابن أبي العباس المؤدب أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية، كان العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق، من تعذر عليها نكاح أو ولد قالت: امضوا بي إلى العافية، فتعرف بها الفتنة، قال أبو عبد اللّه: فأنا في السحر ذات ليلة إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها وأذن الصبح عليها ثم قال: اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسًا، قال: فما رفع لها رأس إلى الآن.
قلت: أبو إسحاق الذي هدمها إمام مشهور من أئمة المالكية زاهد اسمه إبراهيم بن أحمد بن علي بن أسلم، وكان الإمام أبو محمد ابن أبي زيد يعظم شأنه، ويقول: طريق(4/231)
ص -149- ... أبي إسحاق خالية لا يسلكها أحد في الوقت، وكان القابسي يقول: الجبنياني إمام يقتدى به. مات سنة تسع وستين وثلاثمائة.
وذكر ابن القيم نحو ما ذكره أبو شامة، ثم قال: فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون اللّه، ولو كانت ما كانت، ويقولون: إن هذا الحجر، وهذه الشجرة، وهذه العين تقبل النذر، أي: تقبل العبادة من دون اللّه، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له.
وسيأتي شيء يتعلق بهذا الباب عند قوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد"1. وفي هذه الجملة من الفوائد:
أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها، والعكوف عندها، والذبح لها، هو الشرك، ولا يغتر بالعوام والطغام، ولا يستبعد كون هذا شركًا، ويقع في هذه الأمة. فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسنًا، وطلبوه من النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين لهم أن ذلك كقول بني إسرائيل: اجعل لنا إلهًا، فكيف بغيرهم مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة؟ .
وفيها أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم طلبتهم كطلبة بني إسرائيل، ولم يلتفت إلى كونهم سموها ذات أنواط، فالمشرك وإن سمى شركه ما سماه، كمن يسمي دعاء الأموات، والذبح لهم والنذر ونحو ذلك تعظيمًا ومحبة، فإن ذلك هو الشرك، وإن سماه ما سماه، وقس على ذلك.
وفيها: أن من عبد فهو إله، لأن بني إسرائيل والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ،لم يريدوا من الأصنام والشجرة الخلق والرزق، وإنما أرادوا البركة، والعكوف عندها، فكان ذلك اتخاذًا له مع اللّه تعالى.
وفيها: أن معنى الإله هو المعبود، وأن من أراد أن يفعل الشرك جهلاً فنهي عن ذلك فانتهى لا يكفر. وأن لا إله إلا اللّه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مالك: النداء للصلاة (416).(4/232)
ص -150- ... تنفي هذا الفعل مع دقته وخفائه على أولئك الصحابة. ذكره المصنف، فكيف بما هو أعظم منه؟ ففيه رد على الجهال الذين يظنون أن معناها الإقرار بأن اللّه خالق كل شيء، وأن ما سواه مخلوق ونحو ذلك من العبارات، والإغلاظ على من وقع منه ذلك جهلاً.
قوله: "لتركبن"، بضم الموحدة، أي: لتتبعن أنتم أيها الأمة سنن من كان قبلكم بضم السين، أي: طرقهم ومناهجهم وأفعالهم، ويجوز فتح السين، وهذا خبر صحيح وجد كما أخبر صلى الله عليه وسلم ففيه دليل على شهادة أن محمدًا رسول اللّه.
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم:النهي عن التشبه بأهل الجاهلية من أهل الكتاب والمشركين، وأنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيها التنبيه على مسائل القبر، أما من ربك؟ فواضح، وأما من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما ما دينك؟ فمن قولهم: اجعل لنا إلهًا إلى آخره، قاله المصنف.وفيه أن الشرك لا بد أن يقع في هذه الأمة كما وقع فيمن قبلها، ففيه رد على من قال: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة، وفيه سد الذرائع والغضب عند التعليم، وأن ما ذم اللّه به اليهود والنصارى، فإنه لنا لنحذره، ذكر ذلك المصنف.
تنبيه: ذكر بعض المتأخرين أن التبرك بآثار الصالحين مستحب كشرب سؤرهم، والتمسح بهم أو بثيابهم، وحمل المولود إلى أحد منهم ليحنكه بتمرة حتى يكون أول ما يدخل جوفه ريق الصالحين، والتبرك بعرقهم ونحو ذلك، وقد أكثر من ذلك أبو زكريا النووي في "شرح مسلم" في الأحاديث التي فيها أن الصحابة فعلوا شيئًا من ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم وظن أن بقية الصالحين في ذلك كالنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا خطأ صريح لوجوه:منها: عدم المقاربة فضلاً عن المساواة للنبي صلى الله عليه وسلم في الفضل والبركة.ومنها: عدم تحقق الصلاح، فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب، وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص، كالصحابة الذين أثنى اللّه عليهم ورسوله، أو أئمة التابعين،(4/233)
ص -151- ... ومن شهر بصلاح ودين كالأئمة الأربعة ونحوهم من الذين تشهد لهم الأمة بالصلاح وقد عدم أولئك، أما غيرهم، فغاية الأمر أن نظن أنهم صالحون فنرجو لهم.ومنها: أنا لو ظننا صلاح شخص، فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء، والأعمال بالخواتيم، فلا يكون أهلاً للتبرك بآثاره.
ومنها: أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره لا في حياته، ولا بعد موته، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، فهلا فعلوه مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم من الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكذلك التابعون، هلا فعلوه مع سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وأويس القرني، والحسن البصري ونحوهم ممن يقطع بصلاحهم، فدل أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن فعل هذا مع غيره صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أن يفتنه، وتعجبه نفسه، فيورثه العجب والكبر والرياء، فيكون هذا كالمدح في الوجه بل أعظم.
[باب ما جاء في الذبح لغير اللّه]
أي: من الوعيد، وهل يكون شركًا أم لا؟ .
قال وقول اللّه تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ...}1.
ش: قال ابن كثير: يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير اللّه، ويذبحون لغير اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}2. أي: أخلص له صلاتك وذبيحتك، فإن المشركين يعبدون الأصنام، ويذبحون لها، فأمر اللّه بمخالفتهم، والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية، والعزم على الإخلاص للّه تعالى.
قال مجاهد في قوله:{صَلاتِي وَنُسُكِي}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 162-163.
2 سورة الكوثر آية: 2.(4/234)
ص -152- ... قال: النسك الذبح في الحج والعمرة، وقال الثّووي عن السدي عن سعيد بن جبير: {وَنُسُكِي}: ذبحي، وكذا قال الضحاك. وقال غيره: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} ، أي وما آتيه في حياتي، وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خالصة لوجهه، {لا شَرِيكَ لَهُ ، وَبِذَلِكَ} من الإخلاص {أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}، لأن إسلام كل نبي متقدم لإسلام أمته كما قال قتادة:{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}، أي: من هذه الأمة.
قال ابن كثير: وهو كما قال، فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الإسلام، وهو عبادة اللّه وحده لا شريك له. كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}1. وأخبر تعالى عن نوح عليه السلام أنه
قال لقومه:{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}2. وذكر آيات في هذا المعنى.
قلت: وفي الآية دلائل متعددة على أن الذبح لغير اللّه شرك، كما هو بين عند التأمل، وفيها بيان العبادة، وأن التوحيد مناف للشرك مضاد له.
قال وقوله:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}3. قال شيخ الإسلام: أمره اللّه أن يجمع بين هاتين العبادتين، وهما: الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار، وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى اللّه، وإلى عدته، عكس حال أهل الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن اللّه الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها، والذين لا ينحرون له خوفًا من الفقر. ولهذا جمع بينهما في قوله:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي}الآية. والنسك: الذبيحة للّه تعالى ابتغاء وجهه، فإنها أجل ما يتقرب به إلى اللّه، فإنه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب، لأن فعل ذلك سبب للقيام بشكر ما أعطاه(4/235)
اللّه من الكوثر، وأجل العبادات البدنية الصلاة، وأجل العبادات المالية النحر، وما يجتمع للعبد في الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 25.
2 سورة يونس آية: 72.
3 سورة الكوثر آية: 2.(4/236)
ص -153- ... لا يجتمع له في غيرها، كما عرفه أرباب القلوب الحية.
وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص من قوة اليقين، وحسن الظن أمر عجيب. وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثير الصلاة، كثير النحر.
وقال غيره: أي: فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه، وشرفك وصانك، من منن الخلق مراغمًا لقومك الذين يعبدون غير اللّه، وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت مخالفًا لهم في النحر للأوثان. انتهى. وهذا هو الصحيح في تفسيرها.
وأما ما رواه الحاكم عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}1.
قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لجبريل: "ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟ قال: إنها ليست بنحيرة، ولكن يأمرك إذا أحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت، وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع" الحديث. فهو حديث منكر جدًا، في إسناده إسرائيل بن حاتم، قال ابن حبان: يروي عن مقاتل الموضوعات والأوابد والطامات من ذلك خبر يرويه عمر بن صبح عن مقاتل، وظفر به إسرائيل فرواه عن مقاتل عن الأصبغ بن نباته عن علي لما نزلت:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} الحديث.
[حديث علي: لعن اللّه من ذبح لغير اللّه]
قال عن علي رضي الله عنه قال: "حدثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن اللّه من ذبح لغير اللّه، ولعن اللّه من لعن والديه، ولعن اللّه من آوى محدثًا، ولعن اللّه من غير منار الأرض"2. رواه مسلم .
ش: الحديث رواه مسلم من طرق بمعنى ما ذكره المصنف، وفيه قصة ورواه الإمام أحمد كذلك.وعلي بن أبي طالب هو الإمام أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم. وزوج ابنته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 1-2.
2 مسلم: الأضاحي (1978) , والنسائي: الضحايا (4422) , وأحمد (1/108 ,1/118 ,1/152).(4/237)
ص -154- ... فاطمة الزهراء -واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم القرشي- كان من السابقين الأولين إلى الإسلام ومن أهل بدر وبيعة الرضوان، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ورابع الخلفاء الراشدين، ومناقبه كثيرة رضي الله عنه. قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين.
قوله:"لعن الله". قالوا: اللعنة: البعد عن مظان الرحمة ومواطنها. فيل: واللعين والملعون: من حقت عليه اللعنة، أو دعي عليه بها قال أبو السعادات: أصل اللعنة، الطرد والإبعاد من اللّه، ومن الخلق: السّبّ والدعاء.
قوله:"من ذبح لغير اللّه". قال النووي. المراد به أن يذبح باسم غير اسم اللّه تعالى، كمن يذبح للصنم أو للصليب أو لموسى أو لعيسى صلى اللّه عليهما وسلم، أو للكعبة ونحو ذلك، وكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلمًا أو نصرانيًا أو يهوديًا نص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابنا، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير اللّه والعبادة له، كان ذلك كفرًا، فإن كان الذابح مسلمًا قبل ذلك صار بالذبح مرتدًا. ذكره في "شرح مسلم" ونقله غير واحد من الشافعية وغيرهم.
وقال شيخ الإسلام قوله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}1. ظاهره أنه ما ذبح لغير اللّه مثل أن يقال: هذه الذبيحة لكذا. وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ. وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى اللّه كان أزكى وأعظم مما ذبحنا للحم، وقلنا عليه: بسم اللّه. فإن عبادة اللّه بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فكذلك الشرك بالصلاة لغيره. والنسك لغيره أعظم من الاستعانة باسم غيره في فواتح الأمور، فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 173.(4/238)
ص -155- ... فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى، فإن العبادة لغير اللّه أعظم كفرًا من الاستعانة بغير اللّه، وعلى هذا، فلو ذبح لغير الله متقرّباً إليه لَحَرُم َ، وإنْ قال فيه: باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، الذين قد يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان.
ومن هذا الباب ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن ذبائح الجن" قلت: هذا الحديث رواه البيهقي عن الزهري مرسلاً، وفي إسناده عمر بن هارون، وهو ضعيف عند الجمهور إلا أن أحمد بن سيار روى عن قتيبة أنه كان يوثقه ورواه ابن حبان في الضعفاء من وجه آخر عن عبد اللّه بن أذينة عن ثور بن يزيد، عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة مرفوعًا. قال ابن حبان: وعبد اللّه يروي عن ثور ما ليس من حديثه.قال الزمخشري: كانوا إذا اشتروا دارًا أو بنوها أو استخرجوا عينًا ذبحوا ذبيحة خوفًا أن تصيبهم الجن، فأضيفت الذبائح إليهم، لذلك قال النووي: وذكر الشيخ إبراهيم المروذي من أصحابنا أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربًا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير اللّه.قال الرافعي: هذا إنما يذبحونه استبشارًا بقدومه، فهو كذبح العقيقة لولادة المولود. قلت: إن كانوا يذبحون استبشارًا كما ذكر الرافعي فلا يدخل في ذلك، وإن كانوا يذبحونه تقربًا، إليه فهو داخل في الحديث.
قوله:"لعن اللّه من لعن والديه". قال بعضهم: يعني أباه وأمه(4/239)
ص -156- ... وإن علوا وفي "الصحيح" أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الكبائر شتم الرجل والديه". قالوا: يا رسول اللّه، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه"1 فإذا كان هذا حال المتسبب فما ظنك بالمباشر؟ .
قوله: "ولعن اللّه من آوى محدثًا". أما "آوى" بفتح الهمزة ممدودة أي: ضم إليه وحمى، وقال أبو السعادات: يقال: أويت إلى المنْزل وآويت غيري وأويته، وأنكر بعضهم المقصور المتعدي. وقال الأزهري: هي لغة فصيحة.
وأما "محدثًا" فقال أبو السعادات: يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانيًا وآواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه، والفتح: هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضى به والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر عليها فاعلها، ولم ينكر عليه، فقد آواه. قلت: الظاهر أنه على الرواية الأولى يعم المعنيين، لأن المحدث أعم من أن يكون بجناية أو ببدعة في الدين، بل المحدث بالبدعة في الدين شر من المحدث بالجناية، فإيواؤه أعظم إثمًا، ولهذا عده ابن القيم في كتاب "الكبائر" وقال: هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر، كانت الكبيرة أعظم
قوله:"ولعن اللّه من غير منار الأرض". قال المصنف: هي المراسيم التي تفرق بينك وبين جارك. وقال النووي: منار الأرض -بفتح الميم- علامات حدودها، والمعنى واحد. قيل: وتغييرها أن يقدمها أو يؤخرها، فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "من ظلم شبرًا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين". رواه البخاري ومسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الزكاة (1641) , وابن ماجه: التجارات (2198).(4/240)
ص -157- ... وفي الحديث دليل على جواز لعن أنواع الفساق، كقوله:"لعن اللّه آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه"1. ونحو ذلك، فأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان: ذكرهما شيخ الإسلام أحدهما: أنه جائز اختاره ابن الجوزي وغيره. والثاني: لا يجوز، اختاره أبو بكر عبد العزيز وشيخ الإسلام. قال: والمعروف عن أحمد كراهة لعن المعين كالحجاج وأمثاله، وأن يقول كما قال اللّه تعالى:{أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}2.
قال:وعن طارق بن شهاب أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب". قالوا: وكيف ذلك يا رسول اللّه؟ قال: " مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئًا. فقالوا لأحدهما: قرب. قال: ما عندي شيء. قالوا: قرب ولو ذبابًا، فقرب ذبابًا فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب. قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئًا دون اللّه عز وجل. فضربوا عنقه، فدخل الجنة". رواه أحمد
ش: هذا الحديث. ذكره المصنف معزوًا لأحمد، وأظنه تبع ابن القيم في عزوه لأحمد.
قال ابن القيم: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه قال: "دخل رجل الجنة في ذباب". الحديث.
وقد طالعت "المسند" فما رأيته فيه، فلعل الإمام رواه في كتاب الزهد3 أو غيره.
قوله: (عن طارق بن شهاب). أي: البجلي الأحمسي أبو عبد اللّه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل، ويقال: إنه لم يسمع منه شيئًا. قال البغوي: ونزل الكوفة. قال أبو حاتم: ليست له صحبة. والحديث الذي رواه مرسل. وقال أبو داود: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (4/127).
2 سورة هود آية: 18.
3 هو فيه 15 عن طارق عن سلمان الفارسي موقوفاً بسندٍ صحيحٍ.(4/241)
ص -158- ... قال الحافظ: إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي على الراجح، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه، فروايته عن مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح. وقد أخرج له النسائي عدة أحاديث، وذلك مصير منه إلى إثباتِ صحبته. وكانت وفاته على ما جزم به ابن حبان سنه ثلاث وثمانين.
قوله: "دخل الجنة رجل في ذباب". أي: من أجل ذباب.
قوله: "قالوا: وكيف ذلك يا رسول اللّه". سألوا عن هذا الأمر العجيب؛ لأنهم قد علموا أن الجنة لا يدخلها أحد إلا بالأعمال الصالحة كما قال تعالى:{دْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1. وأن النار لا يدخلها أحد إلا بالأعمال السيئة. فكأنهم تَقَالُّوا ذلك وتعجبوا واحتقروه، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما صَيَّرَ هذا الأمر الحقير عندهم عظيما يستحق هذا عليه الجنة، ويستحق الآخر عليه النار، ولعل هذين الرجلين من بني إسرائيل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم. يحدثهم عن بني إسرائيل كثيرًا.
قوله: "فقال: مر رجلان على قوم لهم صنم". الصنم : ما كان منحوتًا على صورة. قوله: "لا يجاوزه". أي: لا يمر به ولا يتعداه أحد حتى يقرب له شيئًا وإن قل.
قوله : "قالوا: قرب ولو ذبابًا، فقرب ذبابًا فخلوا سبيله فدخل النار".
في هذا بيان عظمة الشرك ولو في شيء قليل، وأنه يوجب النار، ألا ترى إلى هذا لما قرب لهذا الصنم أرذل الحيوان وأخسه وهو الذباب كان جزاؤه النار، لإشراكه في عبادة اللّه، إذ الذبح على سبيل القربة والتعظيم عبادة، وهذا مطابق لقوله تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}2. وفيه الحذر من الذنوب وإن كانت صغيرة في الحسبان، كما قال أنس: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الموبقات". رواه البخاري.(4/242)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 32.
2 سورة المائدة آية: 72.(4/243)
ص -159- ... قال المصنف ما معناه: وفيه أنه دخل النار بسبب لم يقصده، بل فعله تخلصًا من شرهم.
وفيه أن الذي دخل النار مسلم، لأنه لو كان كافرًا لم يقل: دخل النار في ذباب، وفيه أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان.
قوله: "وقالوا للآخر: قرب. قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئًا دون اللّه عز وجل" إلى آخره. في هذا بيان فضيلة التوحيد والإخلاص.قال المصنف: وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين،. كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر، وفيه شاهد للحديث الصحيح: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك"1.
قلت: وفيه التنبيه على سعة مغفرة اللّه وشدة عقوبته، وأن الأعمال بالخواتيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الرقاق (6488) , وأحمد (1/387 ,1/413 ,1/442).
[5- باب لا يذبح للّه بمكان يذبح فيه لغير اللّه]
ش: أي أن ذلك لا يجوز لما سيذكره المصنف.
قال: وقول اللّه تعالى:{لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}1.
ش: "حاصل كلام المفسرين في الآية أن اللّه نهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوم في مسجد الضرار في الصلاة فيه أبدًا، والأمة تبع له في ذلك، ثم حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بني فيه على التقوى، وهي طاعة اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم وجمعًا لكلمة المؤمنين، ومعقلاً ومنْزلاً للإسلام وأهله بقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} والسياق إنما هو في مسجد قباء، ولهذا جاء في الحديث الصحيح "أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: صلاة في(4/244)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 108.(4/245)
ص -160- ... مسجد قباء كعمرة"1. وفي "الصحيح: "أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء راكبًا وماشيًا"2. وقد صرح بأن المسجد المؤسس على التقوى هو مسجد قباء.
ذكره جماعة من السلف، منهم: ابن عباس وعروة وعطية والشعبي والحسن وغير واحد. وقيل: هو مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لحديث أبي سعيد قال: "تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "هو مسجدي هذا"3 رواه مسلم. وهو قول عمر وابنه وزيد بن ثابت وغيرهم. قال ابن كثير: وهذا صحيح، ولا منافاة بين الآية وبين هذا، لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى. وهذا بخلاف مسجد الضرار الذي أسس على معصية اللّه تعالى كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}4. فلهذه الأمور نهى اللّه نبيه صلى الله عليه وسلم عن القيام فيه للصلاة، وكان المنافقون الذين بنوه جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى تبوك فسألوه أن يصلي فيه ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره.وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه اللّه من الصلاة فيه فقال: "إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء اللّه" فلما قفل عليه السلام راجعًا إلى المدينة ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل الوحي بخبر المسجد، فبعث إليه فهدمه قبل مقدمه إلى المدينة" ووجه الدلالة من الآية على الترجمة من جهة القياس، لأنه إذا منع اللّه رسوله صلى الله عليه وسلم عن القيام للّه تعالى في هذا المسجد(4/246)
المؤسس على هذه المقاصد الخبيثة مع أنه لا يقوم فيه إلا للّه، فكذلك المواضع المعدة للذبح لغير اللّه لا يذبح فيها الموحد للّه، لأنها قد أسست على معصية اللّه والشرك به، يؤيده حديث ثابت بن الضحاك الآتي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الصلاة (324) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1411).
2 البخاري: الجمعة (1192 ,1194) , ومسلم: الحج (1399) , والنسائي: المساجد (698) , وأبو داود: المناسك (2040) , وأحمد (2/4 ,2/57 ,2/58 ,2/65 ,2/72 ,2/80 ,2/101 ,2/107 ,2/155) , ومالك: النداء للصلاة (402).
3 الترمذي: تفسير القرآن (3099) , والنسائي: المساجد (697) , وأحمد (3/8 ,3/23 ,3/91).
4 سورة التوبة آية: 107.(4/247)
ص -161- ... وقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} روى الإمام أحمد وابن خزيمة والطبراني والحاكم عن عويم في ساعدة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: "إن اللّه قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ فقالوا: واللّه يا رسول اللّه ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا"1. وفي رواية عن جابر وأنس مرفوعًا "هو ذاك فعليكموه" رواه ابن ماجة وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم.
وقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}. أي: الذين يتنزهون من القاذورات والنجاسات بعد ما يتنَزهون من أوضار الشرك وأقذاره. قال أبو العالية. إن الطهور بالماء لحسن، ولكنهم المتطهرون من الذنوب.
قال ابن كثير: وفيه دليل على استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين المتنَزهين عن ملابسة القاذورات، المحافظين على إسباغ الوضوء. قلت: وفيه إثبات صفة المحبة.
قال: عن ثابت بن الضحاك، قال: نذر رجل أن ينحر إِبلًا ببوانة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية اللّه ولا فيما لا يملك ابن آدم"2. رواه أبو داود وإِسناده على شرطهما.
ش: هذا الحديث رواه أبو داود، فقال: حدثنا داود بن رشيد قال: ثنا شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو قلابة، قال: حدثني ثابت بن الضحاك. "قال: نذر رجل على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هل كان فيها وثن." الحديث.
وهذا إسناد جيد، وروى أبو داود أيضًا عن عمرو بن شعيب، عن(4/248)
أبيه عن جده "أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (3/422).
2 أبو داود: الأيمان والنذور (3313).(4/249)
ص -162- ... امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا، مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية قال: "لصنم"، قالت: لا. قال: "لوثن؟ " قالت: لا قال: "أوف بنذرك"1. مختصر. ومعنى قوله: "لصنم" إلى آخره. هل يذبحون فيه لصنم أو وثن فيكون كحديث ثابت.
قوله: (عن ثابت بن الضحاك)، أي: ابن خليفة الأشهلي، صحابي مشهور، روى عنه أبو قلابة وغيره ومات سنة أربع وستين. قوله: نذر رجل. يحتمل أن يكون هو كردم بن سفيان والد ميمونة لما روى أبو داود عنها، "قالت: خرجت مع أبي في حجة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "قالت: فدنا إليه أبي. فقال: يا رسول اللّه، إني نذرت إن وُلِدَ لي ولد ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من النعم. قال: لا أعلم إلا أنها قالت خمسين. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هل بها من هذه الأوثان شيء؟ قال: لا قال: فأوف بما نذرت للّه" وذكر الحديث.
قوله: "أن ينحر إبلًا في حديث ميمونة، قال: فأوف بما نذرت للّه قال: فجمعها فجعل يذبحها، فانفلتت منه شاة فطلبها. وهو يقول: اللهم أوف بنذري فظفر بها فذبحها". فيحتمل أن يكون نذر إبلاً وغنمًا ويحتمل أن يكون ذلك قضيتين! .
قوله: "ببوانة". بضم الباء وقيل بفتحها. قال البغوي: موضع في أسفل مكة دون يلملم، وقال أبو السعادات: هضبة من وراء ينبع.
قوله: "فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ = " قال [الحرالي] في "عروة المفتاح" الصنم: هو ما له صورة، والوثن: ما ليس له صورة. قلت: هذا هو الصحيح في الفرق بينهما، وقد جاء عن السلف ما يدل على ذلك. وفيه المنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان وثن من أوثانهم، ولو بعد زواله. ذكره المصنف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الأيمان والنذور (3312).(4/250)
ص -163- ... قوله: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟" قال شيخ الإسلام: العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائدًا إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك، والمراد به هنا الاجتماع المعتاد من اجتماع الجاهلية، فالعيد يجمع أمورًا منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات. وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقًا. وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدًا، فالزمان: كقول النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة: "إن هذا يوم جعله اللّه للمسلمين عيدًا"1. والاجتماع والأعمال "كقول ابن عباس: شهدت العيد مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم".
والمكان كقوله: "لا تتخذوا قبري عيدًا"2. وقد يكون لفظ العيد اسمًا لمجموع اليوم والعمل فيه، وهو الغالب "كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدًا"3. انتهى. وفيه استفصال المفتي، والمنع من الوفاء بالنذر إذا
كان في المكان عيد من أعياد الجاهلية ولو بعد زواله، والحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده. ذكره المصنف.
قوله: "فأوف بنذرك". هذا يدل على أن الذبح للّه في المكان الذي يذبح فيه المشركون لغيره، أو في محل أعيادهم معصية، لأن قوله: فأوف بنذرك تعقيب للوصف بالحكم بحرف الفاء، وذلك يدل على أن الوصف سبب الحكم، فيكون سبب الأمر بالوفاء وجود النذر خاليًا عن هذين الوصفين، فيكونان مانعين من الوفاء، ولو لم يكن معصية لجاز الوفاء به، ولأنه عقبه بقوله: فإنه لا وفاء لنذر في معصية اللّه. فدل أن الصورة المسئول عنها مندرجة في هذا اللفظ العام؛ لأن العام إذا أورد على سبب فلا بد أن يكون السبب مندرجًا فيه، ولأنه لو كان الذبح فيما ذكر جائزًا لسوغ صلى الله عليه وسلم للناذر الوفاء به كما سوغ لمن نذرت الضرب بالدف أن تضرب به؛ لأنه عليه السلام(4/251)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1098) , ومالك: الطهارة (146).
2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367).
3 البخاري: الجمعة (988) , ومسلم: صلاة العيدين (892) , والنسائي: صلاة العيدين (1593 ,1597) , وابن ماجه: النكاح (1898) , وأحمد (6/33 ,6/84 ,6/99 ,6/127 ,6/134 ,6/186).(4/252)
ص -164- ... استفصل. فلما قالوا: لا. قال له: "فأوف بنذرك".
وهذا يقتضي أن كون البقعة مكانًا لعيدهم، أو بها وثن من أوثانهم مانع من الذبح بها وإن نذر، وإلا لما حسن الاستفصال، هذا معنى كلام شيخ الإسلام.
وفيه أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع.
قوله: "فإنه لا وفاء لنذر في معصية اللّه". دليل على أن هذا نذر معصية، لا يجوز الوفاء به لما تقدم1. وعلى أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
وقد أجمع العلماء على ذلك لهذا الحديث، وحديث عائشة الآتي وما في معناهما، واختلفوا هل تجب به كفارة يمين؟ على قولين هما روايتان عن أحمد، أحدهما: تجب وهو المذهب المشهور عن أحمد. وروي عن ابن مسعود وابن عباس، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه لحديث عائشة مرفوعًا: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين"2. رواه أحمد وأهل السنن، واحتج به أحمد وإسحاق. والثاني: لا كفارة عليه. روي ذلك عن مسروق والشعبي، والشافعي لحديث الباب، وحديث عائشة الآتي. ولم يذكر فيهما كفارة، وجوابه أن عدم ذكر الكفارة لا يدل على عدم وجوبها.
قوله: "ولا فيما لا يملك ابن آدم". قال في "شرح المصابيح": يعني إذا أضاف النذر إلى معين لا يملكه بأن قال: إن شفى اللّه مريضي فللّه علي أن أعتق عبد فلان، أو أتصدق بثوبه ونحو ذلك، فأما إذا التزم في الذمة شيئًا لا يملكه فيصح نذره، مثاله إن شفى اللّه مريضي، فللّه علي أن أعتق رقبة، وهو في ذلك الحال لا يملك رقبة ولا قيمتها، فيصح نذره، وإذا شفي ثبت النذر في ذمته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: لما تقدم. أي من أن العام إذا ورد على سبب فلا بد أن يكون داخلا فيه.
2 الترمذي: النذور والأيمان (1524) , والنسائي: الأيمان والنذور (3834 ,3835 ,3836 ,3837 ,3838 ,3839) , وابن ماجه: الكفارات (2125).(4/253)
ص -165- ... قوله: (رواه أبو داود وإسناده على شرطيهما)، أي: شرط البخاري ومسلم، وأضمرهما للعلم بذلك. وأبو داود اسمه: سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشر بن شداد الأزدي السجستاني، صاحب الإمام أحمد، ومصنف "السنن" وغيرها ثقة إمام حافظ من كبار العلماء. مات سنة خمس وسبعين ومائتين.
[6- باب من الشرك النذر لغير اللّه]
ش: أي إنه من العبادة، فيكون صرفه لغير اللّه شركًا، فإذا نذر طاعة وجب عليه الوفاء بها وهو عبادة، وقربة إلى اللّه. ولهذا مدح اللّه الموفين به، فإن نذر لمخلوق تقربًا إليه ليشفع له عند اللّه، ويكشف ضره ونحو ذلك فقد أشرك في عبادة اللّه تعالى غيره ضرورة، كما أن من صلى للّه وصلى لغيره، فقد أشرك، كذلك هذا، لقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}1 وجه الدلالة من الآية على الترجمة أن اللّه تعالى مدح الموفين بالنذر، واللّه تعالى لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب، أو ترك محرم، لا يمدح على فعل المباح المجرد، وذلك هو العبادة، فمن فعل ذلك لغير اللّه متقربًا إليه فقد أشرك.
قال: وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}2.
وجه الدلالة من الآية على الترجمة أن اللّه تعالى أخبر بأن ما أنفقناه من نفقة، أو نذرناه من نذر متقربين بذلك إليه أنه يعلمه، ويجازينا عليه. فدل ذلك أنه عبادة. وبالضرورة يدري كل مسلم أن من صرف شيئًا من أنواع العبادة لغير اللّه فقد أشرك.
قال ابن كثير: يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات. وتضمن ذلك مجازاته على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإنسان آية: 7.
2 سورة البقرة آية: 270.(4/254)
ص -166- ... ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك، ابتغاء وجهه، ورجاء موعوده. إذا علمت ذلك فهذه النذور الواقعة من عباد القبور وأشباههم لمن يعتقدون فيه نفعًا أو ضرًا فيتقرب إليه بالنذر، ليقضي حاجته أو ليشفع له. كل ذلك شرك في العبادة، وهو شبيه بما ذكر اللّه عن المشركين في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}1. روى ابن أبي حاتم في الآية. يعني: جعلوا للّه جزءًا من الحرث ولشركائهم ولأوثانهم جزءًا، فما ذهبت به الريح مما سموا للّه إلى جزء أوثانهم تركوه، وقالوا: اللّه عن هذا غني، وما ذهبت به الريح من جزء أوثانهم إلى جزء اللّه أخذوه.
وعباد القبور يجعلون للّه جزءًا من أموالهم بالنذر والصدقة، وللأموات والطواغيت جزءًا كذلك، وقد نص غير واحد من العلماء، على أن النذر لغير اللّه شرك.
قال شيخ الإسلام: وأما ما نذره لغير اللّه كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك، فهو بمنْزلة أن يحلف بغير اللّه من المخلوقات، والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوق ليس عليه وفاء ولا كفارة، فإن كليهما شرك، والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر اللّه من هذا العقد ويقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا اللّه"2. وقال أيضًا فيمن نذر للقبور ونحوها دهنًا لتنور به ويقول: إنها تقبل النذر كما يقول بعض الضالين. فهذا النذر معصية باتفاق العلماء، لا يجوز الوفاء به، وكذلك إذا نذر مالاً من النقد أو غيره للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن هؤلاء السدنة فيهم شبه من السدنة التي كانت للات والعزى ومناة يأكلون {أَمْوَالَ(4/255)
النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 136.
2 البخاري: الأدب (6107) , ومسلم: الأيمان (1647) , والترمذي: النذور والأيمان (1545) , والنسائي: الأيمان والنذور (3775) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3247) , وابن ماجه: الكفارات (2096) , وأحمد (2/309).(4/256)
ص -167- ... والمجاورون هناك فيهم شبه من العاكفين الذين قال فيهم إبراهيم الخليل عليه السلام: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}1. والذين اجتاز بهم موسى عليه السلام وقومه؛ قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}2. فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع التي لا فضل للشريعة في المجاورة فيها نذر معصية، وفيه شبه من النذر للسدنة الصلبان المجاورين عندها، أو لسدنة الأبدال التي في الهند والمجاورين عندها، ثم هذا المال إذا صرفه في جنس تلك العبادة من المشروع مثل أن يصرفه في عمارة المساجد أو للصالحين من فقراء المسلمين، يستعينون بالمال على عبادة اللّه كان حسنًا.
وقد تقدم كلام ابن القيم في قوله: ويقولون إنها تقبل النذر، أي: تقبل العبادة من دون اللّه، فإن النذر عبادة. إلى آخره.
وقال الإمام الأذرعي " في شرح منهاج النووي": وأما النذر للمشاهد التي بنيت على قبر ولي أو شيخ، أو على اسم من حلها من الأولياء، أو تردد في تلك البقعة من الأنبياء والصالحين، فإن قصد الناذر بذلك وهو الغالب أو الواقع من قصود العاقد تعظيم البقعة والمشهد والزاوية، أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه، أو بنيت على اسمه، فهذا النذر باطل غير منعقد، فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات لأنفسها، ويرون أنها مما يدفع به البلاء، ويستجلب به النعماء، ويستشفى بالنذر لها من الأدواء، حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل: إنه جلس إليها أو استند إليها عبد صالح، وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت، ويقولون: القبر الفلاني أو المكان الفلاني يقبل النذر، يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض، وقدوم غائب، وسلامة مال، وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة.
فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه، بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل(4/257)
مطلقًا، من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 52.
2 سورة الأعراف آية: 138.(4/258)
ص -168- ... ذلك نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر الخليل عليه السلام، ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء، فإن الناذر لا يقصد بذلك إلا الإيقاد على القبر تبركًا وتعظيمًا، ظانًا أن ذلك قربة، فهذا مما لا ريب في بطلانه. والإيقاد المذكور محرم سواء انتفع به هناك منتفع أم لا إلى آخر كلامه.
وقال الشيخ قاسم [بن قُطُلُبُغَى] الحنفي في "شرح درر البحار": النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد، كأن يكون للإنسان غائب أو مريض أو له حاجة ضرورية، فيأتي إلى بعض الصلحاء، ويجعل على رأسه سترة ويقول: يا سيدي فلان إن رد اللّه غائبي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب كذا أو من الفضة كذا، أو من الطعام كذا، أو من الماء ومن الشمع والزيت كذا، فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه. منها: أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز لأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق.
ومنها أن المنذور له ميت والميت لا يملك.
ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون اللّه، واعتقاد ذلك كفر، إلى أن قال: إذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربًا إليهم فحرام بإجماع المسلمين. نقله عنه ابن نجيم في "البحر الرائق" في آخر كتاب الصوم.ومنه نقله المرشدي أيضًا في "تذكرته" ونقله غيرهما عنه وزاد: وقد ابتلي الناس بهذا لا سيما في مولد أحمد البدوي.
وقال الشيخ صنع اللّه الحلبي الحنفي في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء، وأثبت الأجر في ذلك: فهذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان وفلان فهو لغير اللّه، فيكون باطلاً.
وفي التنزيل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}1. وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}2. أي: صلاتي وذبحي للّه، كما فسر به قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}3. وفي(4/259)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 121.
2 سورة الأنعام آية: 162.
3 سورة الكوثر آية: 2.(4/260)
ص -169- ... الحديث: "لا نذر في معصية اللّه"1. رواه أبو داود وغيره.
والنذر لغير اللّه إشراك مع اللّه، إلى أن قال: فالنذر لغير اللّه كالذبح لغيره. وقال الفقهاء: خمسة لغير اللّه شرك: الركوع والسجود والنذر والذبح واليمين. قال: والحاصل أن النذر لغير اللّه فجور، فمن أين تحصل لهم الأجور؟ انتهى ملخصًا.
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي: قد نهي عن النذر، وندب إلى الدعاء، والسبب فيه أن الدعاء عبادة عاجلة، ويظهر به التوجه إلى اللّه تعالى، والتضرع له، وهذا بخلاف النذر فإن فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضرورة.
فقد نص أبو بكر على أن الدعاء والنذر عبادتان، ولا يمتري مسلم أن من عبد غير اللّه فقد أشرك، ولكن كما قال تعالى:{وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}2.
قال: وفي " الصحيح " " عن عائشة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه "3 .
ش: قوله في "الصحيح" أي: "صحيح البخاري".
قوله: "عن عائشة". هي أم المؤمنين، وزوج النبي صلى الله عليه وسلم. وبنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم. وهي بنت سبع سنين، ودخل بها وهي بنت تسع سنين، وهي أفقه النساء مطلقًا، وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلا خديجة ففيهما خلاف كثير. وماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح، قاله الحافظ [في التّقريب].
قوله: "من نذر أن يطيع اللّه فليطعه" أي: فليفعل ما نذره من طاعة اللّه وقد أجمع العلماء على أن من نذر طاعة بشرط يرجوه كقوله: إن شفى اللّه مريضي فعلي أن أتصدق بكذا ونحو ذلك، وجب عليه أن يوفي بها مطلقًا إذا حصل الشرط، إلا أنه حكي عن أبي حنيفة أنه لا يلزمه الوفاء بما لا أصل له في الوجوب،(4/261)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: النذر (1641) , والنسائي: الأيمان والنذور (3812 ,3849) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/443) , والدارمي: السير (2505).
2 سورة يونس آية: 101.
3 البخاري: الأيمان والنذور (6696) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806 ,3807 ,3808) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجه: الكفارات (2126) , وأحمد (6/36 ,6/41 ,6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338).(4/262)
ص -170- ... كالاعتكاف، وعيادة المريض. والحديث حجة عليه، لأنه لم يفرق بين ما له أصل في الوجوب وما لا أصل له، فإنّ نذر ابتداء كقوله: للّه تعالى علي صوم شهر فالحكم أيضًا كذلك في قول الأكثرين. وعن بعضهم أنه لا يلزم، والحديث حجة عليه أيضًا، لأنه لم يفرق بين ما علقه على شرط وبين ما نذره ابتداء قوله: "ومن نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه"1. زاد الطحاوي "وليكفر عن يمينه". قال ابن القطان: عندي شك في رفع هذه الزيادة، أي: لا يفعل المعصية التي نذرها وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية.
قال الحافظ في "الفتح": واتفقوا على تحريم النذر في المعصية، وتنازعوا هل ينعقد موجبًا للكفارة أم لا؟ وقد تقدم ذلك في الباب قبله.
وقد يستدل بقوله: "ومن نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه" بصحة النذر في المباح، كما هو مذهب أحمد وغيره. يؤيده ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورواه أحمد والترمذي عن بريدة "أن امرأة قالت: يا رسول اللّه إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف. فقال: "أوف بنذرك"2 وإذا صححناه فحكمه حكم الحلف على فعله، فيخير بين فعله وكفارة اليمين.
وأما نذر اللجاج والغضب، فهو يمين عند أحمد، فيخير بين فعله وكفارة اليمين، لحديث عمران بن حصين مرفوعًا: "لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين"3. رواه سعيد [بن منصور] وأحمد، والنسائي، وله طرق، وفيه كلام، فإن نذر مكروها كالطلاق، استحب أن يكفر ولا يفعله.(4/263)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأيمان والنذور (6696 ,6700) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806 ,3807 ,3808) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجه: الكفارات (2126) , وأحمد (6/36 ,6/41 ,6/208 ,6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338).
2 أبو داود: الأيمان والنذور (3312).
3 النسائي: الأيمان والنذور (3842) , وأحمد (4/433).
[باب من الشرك الاستعاذة بغير اللّه]
الاستعاذة: الالتجاء، والاعتصام، والتحرز، وحقيقتها: الهرب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه، ولهذا يسمى المستعاذ به معاذًا،(4/264)
ص -171- ... وملجأ ووزرًا، فالعائذ باللّه قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه إلى ربه ومالكه، وفر إليه، وألقى نفسه بين يديه واعتصم به، واستجار به، والتجأ إليه، وهذا تمثيل وتفهيم، وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى اللّه، والاعتصام به، والإطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه، والتذلل بين يديه، أمر لا تحيط به العبارة. هذا معنى كلام ابن القيم.
وقال ابن كثير: الاستعاذة هي: الالتجاء إلى اللّه والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر. والعياذ يكون لدفع الشر. واللياذ لطلب الخير. وهذا معنى كلام غيرهما من العلماء، فتبين بهذا أن الاستعاذة باللّه عبادة للّه، ولهذا أمر اللّه بالاستعاذة به في غير آية، وتواترت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. قال اللّه تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}1. وقال:{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}2. وقال:{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}3. وقال:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}4. وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ}5. فإذا كان تعالى هو ربنا وملكنا وإلهنا، فلا مفزع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبود لنا غيره، فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى ولا يحب غيره، ولا يذل ولا يخضع لغيره، ولا يتوكل إلا عليه، لأن من تخافه وترجوه وتدعوه وتتوكل عليه، إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك، ومتولي شأنك، فهو ربك، ولا رب لك سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقًّا، وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين، بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك وروحك، فهو الإله الحق إله الناس، فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا(4/265)
بغيره، ولا يستنصروا بسواه، ولا يلجئوا إلى غير حماه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فصلت آية: 36.
2 سورة المؤمنون آية: 97-98.
3 سورة غافر آية: 56.
4 سورة الفلق آية: 1.
5 سورة آية: 1-3.(4/266)
ص -172- ... فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم ومتولي أمورهم جميعًا بربوبيته وملكه وإلهيته لهم، فكيف لا يلتجئ العبد عند النوازل ونزول عدوه به إلى ربه وملكه وإلهه، وهذه طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على توحيد الإلهية، هذا معنى كلام ابن القيم، فإذا تحقق العبد بهذه الصفات: الرب والملك والإله، وامتثل أمر اللّه واستعاذ به، فلا ريب أن هذه عبادة من أجل العبادات، بل هو من حقائق توحيد الإلهية، فإن استعاذ بغيره فهو عابد لذلك الغير، كما أن من صلى للّه وصلى لغيره يكون عابدًا لغير اللّه كذلك في الاستعاذة، ولا فرق إلا أن المخلوق يطلب منه ما يقدر عليه ويستعاذ به فيه، بخلاف ما لا يقدر عليه إلا اللّه، فلا يستعاذ فيه إلا باللّه، كالدعاء، فإن الاستعاذة من أنواعه.
قال: وقول اللّه تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً}1.
ش: المعنى واللّه أعلم على قول أن الإنس زادوا الجن باستعاذتهم بهم رهقًا، أي: إثمًا وطغيانًا وشرًا، فضمير الفاعل على هذا للعائذين من الإنس وضمير المفعول للمستعاذ بهم من الجن، وعلى القول الثاني بالعكس، وزيادتهم للإنس رهقًا بإغوائهم وإضلالهم، وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر في بعض سيره وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد الجن وكبيرهم.
قال مجاهد: كانوا يقولون إذا هبطوا واديًا: نعوذ بعظيم هذا الوادي، فزادوهم رهقًا. قال: زادوا الكفار طغيانًا. رواه عبد بن حميد، وابن المنذر.
والآثار بذلك عن السلف مشهورة، ووجه الاستدلال بالآية على الترجمة أن اللّه حكى عن مؤمني الجن أنهم لما تبين لهم دين الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، ذكروا أشياء من الشرك كانوا يعتقدونها في الجاهلية، من جملتها الاستعاذة بغير اللّه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجن آية: 6.(4/267)
ص -173- ... وقد أجمع العلماء على أنه لا تجوز الاستعاذة بغير اللّه، ولهذا نهوا عن الرقى التي لا يعرف معناها، خشية أن يكون فيها شيء من ذلك. قال ملا علي القاري الحنفي: ولا تجوز الاستعاذة بالجن، فقد ذم اللّه الكافرين على ذلك فقال: :{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً}1، إلى أن قال: وقال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ}2. فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره، أو إخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه، واستعاذته به، واستغاثته وخضوعه له. وفيه أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع لا يدل على أنه ليس من الشرك. ذكره المصنف.
قال: وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من نزل منْزلاً فقال: أعوذ بكلمات اللّه التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك"3. رواه مسلم.
قوله: "عن خولة بنت حكيم". أي: ابن أمية السلمية، يقال لها: أم شريك. ويقال لها: خويلة بالتصغير، ويقال: إنها هي الواهبة، وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون. قال ابن عبد البر: وكانت صالحة فاضلة.
قوله: (أعوذ بكلمات اللّه التامات). هذا ما شرعه اللّه لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلاً عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن، فشرع اللّه للمسلمين أن يستعيذوا به أو بصفاته.
قال القرطبي في "المفهم":
قيل: معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب، كما يلحق كلام البشر. وقيل: معناه الشافية الكافية، وقيل: الكلمات هنا: هي القرآن، فإن اللّه أخبر عنه بأنه {هُدىً وَشِفَاءٌ}وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به(4/268)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجن آية: 6.
2 سورة الأنعام آية: 128.
3 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي: الدعوات (3437) , وابن ماجه: الطب (3547) , وأحمد (6/377 ,6/378 ,6/409) , والدارمي: الاستئذان (2680).(4/269)
ص -174- ... الأذى. ولما كان ذلك استعاذة بصفات اللّه تعالى والالتجاء إليه، كان ذلك من باب المندوب إليه المرغب فيه.
وعلى هذا فحق المتعوذ باللّه تعالى وبأسمائه وصفاته أن يصدق اللّه في التجائه إليه، ويتوكل في ذلك عليه، ويحضر ذلك في قلبه، فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه، ومغفرة ذنبه.
وقال غيره: وقد اتفق العلماء على أن الاستعاذة بالمخلوق لا تجوز، واستدلوا بحديث خولة، وقالوا: فيه دليل على أن كلمات اللّه غير مخلوقة، وردوا به على الجهمية والمعتزلة في قولهم بخلق القرآن، قالوا: فلو كانت كلمات اللّه مخلوقة لم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بها، لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
وقال شيخ الإسلام: وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام اللّه غير مخلوق. قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات اللّه وأمر بذلك، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والتعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون فيها شرك.
وقال ابن القيم: ومن ذبح للشيطان ودعاه واستغاث به، وتقرب إليه بما يحب، فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة، ويسميه استخدامًا، وصدق هو استخدام الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له ويعبده كما يفعل هو به.
قوله:{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}1. أي: من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسيًّا كان أو جنيًّا أو هامة أو دابة، أو ريحًا أو صاعقة، أي نوع كان من أنواع البلاء في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفلق آية: 2.(4/270)
ص -175- ... الدنيا والآخرة. وما ههنا موصولة ليس إلا، وليس المراد بها العموم الإطلاقي، بل المراد التقييدي الوصفي والمعنى من شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر كل ما خلقه اللّه تعالى، فإن الجِنة والملائكة والأنبياء ليس فيهم شر، هذا معنى كلام ابن القيم. قال: والشر يقال على شيئين على الألم وعلى ما يفضي إليه.
قوله: "لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك". قال القرطبي: هذا خبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلاً وتجربة، فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شيء إلى أن تركته، فلدغتني عقرب بالمهدية1 ليلاً، فتفكرت في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات.قال المصنف: فيه فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مدينة قرب القيروان في شمالِها، وتقع الآن في الجمهورية التّونسية، اختطّها المهديُّ رأسُ الدّولة العُبيدية المشهورة بالفاطمية.
[8- باب من الشرك أن يستغيث بغير اللّه أو يدعو غيره]
ش: قال شيخ الإسلام: الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون.وقال غيره: الفرق بين الاستغاثة والدعاء: أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب كما قال تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}1. وقال:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}2.والدعاء أعم من الاستغاثة لأنه يكون من المكروب وغيره، فعلى هذا عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
وقال أبو السعادات: الإغاثة: الإعانة، فعلى هذا تكون الاستغاثة هي الاستعانة. ولا ريب أن من استغاثك فأغثته فقد أعنته، إلا أن لفظ الاستغاثة مخصوص بطلب العون في حالة الشدة، بخلاف الاستعانة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القصص آية: 15.
2 سورة الأنفال آية: 9.(4/271)
ص -176- ... وقوله: "أو يدعو غيره". المراد بالدعاء هنا. هو دعاء المسألة فيما لا يقدر عليه إلا اللّه تعالى، فإن ذلك شرك لما سيذكره المصنف من الآيات.
واعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة كما حققه غير واحد منهم: شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما، ويراد به في القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان.
فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، فالمعبود لا بد أن يكون مالكًا للنفع والضر، ولهذا أنكر اللّه تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرًّا ولا نفعًا كقوله:{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}1. وقوله:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}2. وذلك كثير في القرآن يبين أن المعبود لا بد وأن يكون مالكًا للنفع والضر، فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعى خوفًا ورجاء دعاء العبادة، فعلم أن النوعين متلازمان. فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة. وبهذا التحقيق يندفع عنك ما يقوله عباد القبور إذ احتج عليهم بما ذكر اللّه في القرآن من الأمر بإخلاص الدعاء له.
قالوا: المراد به العبادة، فيقولون في مثل قوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}3. أي: لا تعبدوا مع اللّه أحدًا، فيقال لهم: وإن أريد به دعاء العبادة، فلا ينفي أن يدخل دعاء المسألة في العبادة، لأن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، هذا لو لم يرد في دعاء المسألة بخصوصه من القرآن إلا الآيات التي ذكر فيها دعاء العبادة. فكيف وقد ذكر اللّه في القرآن في غير موضع. قال اللّه تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً(4/272)
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}4. وقال تعالى:{وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً}5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية: 76.
2 سورة يونس آية: 18.
3 سورة الجن آية: 18.
4 سورة الأعراف آية: 55.
5 سورة الأعراف آية: 56.(4/273)
ص -177- ... وقال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ}1. وقال تعالى:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}2. وقال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}3.
وقال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ}4. وقال تعالى: عن إبراهيم عليه السلام:{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}5. وقال عنه أيضًا:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ...}6. وقال تعالى:{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}7.8. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً}9. وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الأِنْسَانُ كَفُوراً}10. وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}11. وقال تعالى عن زكريا عليه السلام:{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ(4/274)
الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً}12. وقال تعالى:{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}13. وقال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}14. فكفى بهذه الآيات نجاة وحجة وبرهانًا في الفرق بين التوحيد والشرك عمومًا وفي هذه المسألة خصوصًا.
وقال تعالى:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}15. وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}16. وقال تعالى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 135.
2 سورة النساء آية: 32.
3 سورة آية: 40-41.
4 سورة الرعد آية: 14.
5 سورة إبراهيم آية: 39.
6 سورة آية: 48-49.
7 سورة النحل آية: 53.
8 سورة النحل آية: 53-54.
9 سورة الإسراء آية: 56.
10 سورة الإسراء آية: 67.
11 سورة الإسراء آية: 110.
12 سورة مريم آية: 4.
13 سورة القصص آية: 64.
14 سورة العنكبوت آية: 65.
15 سورة العنكبوت آية: 17.
16 سورة الزمر آية: 8.(4/275)
ص -178- ... {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}1. وقال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}2. وغير ذلك من الآيات.
وفي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى، منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم"3. رواه مسلم "وقوله صلى الله عليه وسلم ينْزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ثم يقول: من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟"4. رواه البخاري ومسلم.
وقوله: "ليس شيء أكرم على اللّه من الدعاء"5 رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان، والحاكم وصححه. وقوله: "من لم يدع اللّه يغضب عليه"6 رواه أحمد وابن أبي شيبة والحاكم وقوله: "سلوا اللّه من فضله فإن اللّه يحب أن يسأل"7. رواه الترمذي، وقوله: "الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض". رواه الحاكم وصححه8. وقوله: "الدعاء هو العبادة"9. رواه أحمد والترمذي. وفي حديث آخر: "الدعاء مخ العبادة"10. رواه الترمذي. وقوله لما سئل: "أي العبادة أفضل؟ قال: دعاء المرء لنفسه". رواه البخاري في "الأدب"11. وقوله: "لن ينفع حذر من قدر ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينْزل فعليكم بالدعاء يا عباد اللّه"12. رواه أحمد. وقوله: "سلوا اللّه كل شيء(4/276)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فاطر آية: 13-14.
2 سورة غافر آية: 60.
3 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2495) , وابن ماجه: الزهد (4257) , وأحمد (5/154 ,5/160 ,5/177).
4 البخاري: الجمعة (1145) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504 ,2/521) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479).
5 الترمذي: الدعوات (3370) , وابن ماجه: الدعاء (3829) , وأحمد (2/362).
6 الترمذي: الدعوات (3373) , وابن ماجه: الدعاء (3827) , وأحمد (2/477).
7 الترمذي: الدعوات (3571).
8 موضوع، الجامع [300].
9 البخاري: الزكاة (1461) , ومسلم: الزكاة (998) , والترمذي: تفسير القرآن (2997) , والنسائي: الأحباس (3602) , وأبو داود: الزكاة (1689) , وأحمد (3/141) , ومالك: الجامع (1875) , والدارمي: الزكاة (1655).
10 مسلم: الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863).
11 موضوع، الجامع [1008].
12 البخاري: الإيمان (36) وفرض الخمس (3123) والتوحيد (7457 ,7463) , ومسلم: الإمارة (1876) , والنسائي: الجهاد (3122 ,3123) والإيمان وشرائعه (5029 ,5030) , وابن ماجه: الجهاد (2753) , وأحمد (2/231 ,2/384 ,2/399 ,2/424 ,2/494) , ومالك: الجهاد (974) , والدارمي: الجهاد (2391).(4/277)
ص -179- ... حتى الشسع1 إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر" رواه أبو يعلى بإسناد صحيح. وقوله: "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع وحتى يسأله الملح"2. رواه البزار بإسناد صحيح.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء علمت أن الإجابة معه". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " أفضل العبادة الدعاء وقرأ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " رواه ابن المنذر والحياكم وصححه. "وقال مطرف: تذكرت ما جماع الخير؟ فإذا الخير كثير، الصلاة والصيام، وإذا هو في يد اللّه تعالى، وإذا أنت لا تقدر على ما في يد اللّه إلا أن تسأله فيعطيك". رواه أحمد. [في الزّهد].
والأحاديث والآثار في ذلك لا يحيط بها إلا اللّه تعالى. فثبت بهذا أن الدعاء عبادة من أجل العبادات، بل هو أكرمها على اللّه كما تقدم، فإن لم يكن الإشراك فيه شركًا، فليس في الأرض شرك، وإن كان في الأرض شرك فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركًا من الإشراك في غيره من أنواع العبادة، بل الإشراك في الدعاء - هو أكبر شرك المشركين الذين بعث إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإنهم يدعون الأنبياء والصالحين والملائكة، ويتقربون إليهم ليشفعوا لهم عند اللّه، ولهذا يخلصون في الشدائد للّه وينسون ما يشركون، حتى جاء أنهم إذا جاءتهم الشدائد في البحر يلقون أصنامهم في البحر ويقولون: يا اللّه يا اللّه، لعلمهم أن آلهتهم لا تكشف الضر ولا تجيب المضطر. وقال تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشِّسْعُ: أحد سُيور النّعل. هو الي يُدخَل بين الإصبعين، ويُدخَل طرفه في الثّقب الذي في صدر النّعل المشدود في الزّمام. والزّمام السَّير الذي يُعقَد فيه الشّسع.
2 البخاري: الجهاد والسير (2896) , وأحمد (1/173).(4/278)
ص -180- ... الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}1. فهم كانوا يعلمون أن ذلك للّه وحده، وأن آلهتهم ليس عندها شيء من ذلك، ولهذا احتج سبحانه وتعالى عليهم بذلك أنه هو الإله الحق، وعلى بطلان إلهية ما سواه. وقال تعالى: :{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}2.فهذه حال المشركين الأولين.
وأما عباد القبور اليوم فلا إله إلا اللّه، كم ذا بينهم وبين المشركين الأولين من التفاوت العظيم في الشرك، فإنهم إذا أصابتهم الشدائد برًّا وبحرًا أخلصوا لآلهتهم وأوثانهم التي يدعونها من دون اللّه، وأكثرهم قد اتخذ ذكر إلهه وشيخه ديدنه، وهجيراه إن قام وإن قعد وإن عثر. هذا يقول: يا علي [الشّاذلي]، وهذا يقول: يا عبد القادر [الجيلاني]، وهذا يقول: يا ابن علوان، وهذا يدعو البدوي، وهذا يدعو العيدروس. وبالجملة ففي كل بلد في الغالب أناس يدعونهم ويسألونهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات. بل بلغ الأمر إلى أن سألوهم مغفرة الذنوب، وترجيح الميزان، ودخول الجنة والنجاة من النار، والتثبيت عند الموت والسؤال، وغير ذلك من أنواع المطالب التي لا تطلب إلا من اللّه. وقد يسألون ذلك من أناس يدعون الولاية، وينصبون أنفسهم لهذه الأمور وغيرها من أنواع النفع والضر التي هي خواص الإلهية، ويلفقون لهم من الأكاذيب في ذلك عجائب. منها أنهم يدعون أنهم يخلصون مَنِ اْلَتَجَأَ إليهم وَلاَذَ بِحماهم من النار والعذاب، فيقول أحدهم: إنه يقف عند النار فلا يدع أحدًا ممن يرتجيه ويدعوه يدخلها أو نحو هذا، وقد قال تعالى لسيد المرسلين صلى اللّه عليه وعليهم أجمعين:{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ}3. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر على تخليص أحد من النار، فكيف بغيره، بل كيف بمن يدعي نفسه(4/279)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النمل آية: 62.
2 سورة العنكبوت آية: 65.
3 سورة الزمر آية: 19.(4/280)
ص -181- ... أنه هو يفعل ذلك؟! ومنها أن أكثرهم يلفق حكايات في أن بعض الناس استغاث بفلان فأغاثه، أو دعا الولي الفلاني فأجابه، أو في كربة ففرج عنه، وعند عباد القبور من ذلك شيء كثير من جنس ما عند عباد الأصنام الذين استولت عليهم الشياطين، ولعبوا بهم لعب الصبيان بالكرة.
ويوجد شيء من ذلك في أشعار المادحين لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم الذين جاوزوا الحد في مدحه صلى الله عليه وسلم وعصوه في نهيه من الغلو فيه، وإطرائه كما أطرت النصارى ابن مريم، وصار حظهم منه صلى الله عليه وسلم هو مدحه بالأشعار والقصائد، والغلو الزائد، مع عصيانهم له في أمره ونهيه، فتجد هذا النوع من أعصى الخلق له صلوات اللّه عليه وسلامه.
ويقع من ذلك كثير في مدح غيره، فإن عباد القبور لا يقتصرون على بعض من يعتقدون فيه الضر والنفع، بل كل من ظنوا فيه ذلك بَالَغُوا في مدحه وأنزلوه منْزلة الربوبية وصرفوا له خالص العبودية، حتى إنهم إذا جاءهم رجل وادعى أنه رأى رؤيا مضمونها أنه دفن في المحل الفلاني رجل صالح، بادروا إلى المحل وبنوا عليه قبة وزخرفوها بأنواع الزخارف، وعبدوها بأنواع من العبادات.
وأما القبور المعروفة أو المتوهمة، فأفعالهم معها وعندها لا يمكن حصره، فكثير منهم إذا رأوا القباب التي يقصدونها كشفوا الرؤوس فنَزلوا عن الأكوار، فإذا أتوها طافوا بها واستلموا أركانها، وتمسحوا بها، وصلوا عندها ركعتين، وحلقوا عندها الرؤوس ووقفوا باكين متذللين متضرعين سائلين مطالبهم، وهذا هو الحج، وكثير منهم يسجدون لها إذا رأوها، ويعفرون وجوههم في التراب تعظيمًا لها، وخضوعًا لمن فيها، فإن كان للإنسان منهم حاجة من شفاء مريض أو غير ذلك، نادى صاحب القبر، يا سيدي فلان جئتك قاصدًا من مكان بعيد، لا تخيبني، وكذلك إذا قحط المطر، أو عقرت المرأة عن الولد، أو دهمهم عدو أو جراد، فزعوا إلى صاحب القبر، وبكوا عنده فإن(4/281)
ص -182- ... جرى المقدور بحصول شيء مما يريدون، استبشروا وفرحوا ونسبوا ذلك إلى صاحب القبر، فإن لم يتيسر شيء من ذلك اعتذروا عن صاحب القبر بأنه إما غائب في مكان آخر، أو ساخط لبعض أعمالهم، أو أن اعتقادهم في الولي ضعيف، أو أنهم لم يعطوه نذره ونحو هذه الخرافات. ومن بعض أشعار المادحين لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم قول البوصيري:
152 يا أكرم الخلق ما لي مَنْ أَلُوذُ به ... سواك عند حلول الحادث العمم .
153 ولن يضيق رسول اللّه جاهك بي ... إذا الكريم تجلى باسم منتقم .
146 فإن لي ذمة منه بتسميتي ... محمدًا وهو أوفى الخلق بالذمم .
147 إن لم يكن في معادي آخذًا بيدي ... فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم .
فتأمل ما في هذه الأبيات من الشرك.
منها. أنه نفى أن يكون له ملاذًا إذا حلت به الحوادث، إلا النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا للّه وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو.
الثاني. أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه، وسأل منه هذه المطالب التي لا تُطْلَبُ إلا من اللّه، وذلك هو الشرك في الإلهية.
الثالث. سؤاله منه أن يشفع له في قوله: ولن يضيق رسول اللّه. البيت. وهذا هو الذي أرادها المشركون ممن عبدوه، وهو الجاه والشفاعة عند اللّه، وذلك هو الشرك وأيضًا فإن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن اللّه فلا معنى لطلبها من غيره، فإن اللّه تعالى هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لأن الشافع يشفع ابتداء.
الرابع. قوله: فإن لي ذمة. إلى آخره. كذب على اللّه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فليس بينه وبين من اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة، لا بمجرد الإشراك في الاسم مع الشرك.
الخامس. قوله: إن لم يكن في معادي. البيت. تناقض(4/282)
ص -183- ... عظيم وشرك ظاهر، فإنه طلب أولاً أن لا يضيق به جاهه، ثم طلب هنا أن يأخذ بيده فضلاً وإحسانًا، وإلاّ فيا هلاكه! فيقال: كيف طلبت منه أولاً الشفاعة ثم طلبت منه هنا أن يتفضل عليك؟! فإن كنت تقول: إن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن اللّه، فكيف تدعو النبي صلى الله عليه وسلم وترجوه وتسأله الشفاعة؟! فهلا سألتها مَنْ له الشفاعة جميعًا الذي له ملك السموات والأرض الذي لا تكون الشفاعة إلا من بعد إذنه، فهذا يبطل عليك طلب الشفاعة من غير اللّه.
وإن قلت: ما أريد إلا جاهه، وشفاعته بإذن اللّه. قيل: فكيف سألته أن يتفضل عليك ويأخذ بيدك في يوم الدين، فهذا مضاد لقوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}1. فكيف يجتمع في قلب عبد الإيمان بهذا وهذا؟! وإن قلت: سألته أن يأخذ بيدي، ويتفضل علي بجاهه وشفاعته. قيل: عاد الأمر إلى طلب الشفاعة من غير اللّه، وذلك هو محض الشرك.
السادس. في هذه الأبيات من التبري من الخالق - تعالى وتقدس - والاعتماد على المخلوق في حوادث الدنيا والآخرة ما لا يخفى علىمؤمن، فأين هذا من قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}2. وقوله تعالى:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}3. وقوله:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً}4. وقوله تعالى:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ}5.(4/283)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الانفطار آية: 19-20-.
2 سورة الفاتحة آية: 5.
3 سورة التوبة آية: 129.
4 سورة الفرقان آية: 58.
5 سورة الجنّ آية: 21-23.(4/284)
ص -184- ... فإن قيل: هو لم يسأله أن يتفضل عليه، وإنما أخبر أنه إن لم يدخل في عموم شفاعته فيا هلاكه. قيل: المراد بذلك سؤاله، وطلب الفضل منه، كما دعاه أول مرة وأخبر أنه لا ملاذ له سواه، ثم صرح بسؤال الفضل والإحسان بصيغة الشرط والدعاء، والسؤال كما يكون بصيغة الطلب يكون بصيغة الشرط كما قال نوح عليه السلام:{إِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}1.
ومن شعر البرعي قوله:
ماذا تعامل يا شمس النبوة من ... أضحى إليك من الأشواق في كبدي
فامنع جناب صريع لا صريخ له ... نائي المزار غريب الدار مبتعد .
حليف ودك واه الصبر منتظر ... لغارة منك يا ركني ويا عضدي .
أسير ذنبي وزلاتي ولا عمل ... أرجو النجاة به إن أنت لم تجد .
وجرى في شركه إلى أن قال:
وحُلَ عقدة كربي يا محمد من ... هم على خطرات القلب مطرد .
أرجوك في سكرات الموت تشهدني ... كيما يهون إذ الأنفاس في صعد
وإن نزلت ضريحا لا أنيس به ... فكن أنيس وحيد فيه منفرد .
وارحم مؤلفها عبد الرحيم ومن ... يليه من أجله وانعشه وافتقد .
وإن دعا فأجبه واحم جانبه ... من حاسد شامت أو ظالم نكد
وقوله من أخرى:
يا رسول الله يا ذا الفضل يا ... بهجة في الحشر جاها ومقاما .
عد على عبد الرحيم الملتجي ... بحمى عزك يا غوث اليتامى .
وأقلني عثرتي يا سيدي ... في اكتساب الذنب في خمسين عاما .
وقوله:
يا سيدي يا رسول الله يا أملي ... يا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني .
هبني بجاهك ما قدمت من زلل ... جودًا ورجح بفضل منك ميزاني .
واسمع دعائي واكشف ما يساورني ... من الخطوب ونفس كل أحزاني .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية: 47.(4/285)
ص -185- ... فأنت أقرب من ترجى عواطفه ... عندي وإن بعدت داري وأوطاني .
إني دعوتك من "نيابتي برع" ... وأنت أسمع من يدعوه ذو شان .
فامنع جنابي وأكرمني وصل نسبي ... برحمة وكرامات وغفران .
لقد أنسانا هذا ما قبله، وهذا بعينه هو الذي ادعته النصارى في عيسى عليه السلام، إلا أن أولئك أطلقوا عليه اسم الإله، وهذا لم يطلقه ولكن أتى بلباب دعواهم وخلاصتها، وترك الاسم، إذ في الاسم نوع تمييز، فرأى الشيطان أن الإتيان بالمعنى دون الاسم أقرب إلى ترويج الباطل، وقبوله عند ذوي العقول السخيفة، إذ كان من المتقرر عند الأمة المحمدية أن دعوى النصارى في عيسى عليه السلام كفر.
فلو أتاهم بدعوى النصارى اسما ومعنى لردوه وأنكروه، فأخذ المعنى وأعطاه البرعي وأضرابه، وترك الاسم للنصارى وإلا فما ندري ماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث للخالق تعالى وتقدس من سؤال مطلب أو تحصيل مأرب، فاللّه المستعان.
وهذا كثير جدًّا في أشعار المادحين لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو حجة أعداء دينه الذين يجوزون الشرك باللّه، ويحتجون بأشعار هؤلاء، ولم يقتصروا أيضًا على طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بل يطلبون مثل ذلك من غيره، كما حدث بعض الثقاة أنه رأى في رابية صاحب مشهد من المشاهد: هذه راية البحر التيار، به أستغيث، وأستجير، وبه أعوذ من النار.
وقال بعضهم في قصيدة في بعض آلهتهم:
يا سيدي يا صفي الدين يا سندي ... يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري
أنت الملاذ لما أخشى ضرورته ... وأنت لي ملجأ من حادث الدهر .
إلى أن قال:
وامنن علي بتوفيق وعافية ... وخير خاتمة مهما انقضى عمري .
وكف عنا أكف الظالمين إذا ام ... تدت بسوء لأمر مؤلم نكر .
فإنني عبدك الراجي بودك ما ... أملته يا صفي السادة الغرر .(4/286)
ص -186- ... قال بعض العلماء: فلا ندري أي معنى اختص به الخالق تعالى بعد هذه المنزلة، وماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث لخالقه من الأمر، فإن المشركين أهل الأوثان ما يؤهلون من عبدوه لشيء من هذا. انتهى.
وكثير من عباد القبور ينادون الميت من مسافة شهر وأكثر يسألونه حوائجهم، ويعتقدون أنه يسمع دعاءهم ويستجيب لهم، وتسمع عندهم حال ركوبهم البحر واضطرابه من دعاء الأموات والاستغاثة بهم ما لا يخطر على بال، وكذلك إذا أصابتهم الشدائد، من مرض، أو كسوف، أو ريح شديدة، أو غير ذلك، فالولي في ذلك نصب أعينهم، والاستغاثة به هي ملاذهم، ولو ذهبنا نذكر ما يشبه هذا لطال الكلام. إذا عرفت هذا، فقد تقدم ذكر دعاء المسألة.
[كلام العلماء في الغلو والمغالين]
وأما دعاء العبادة، فهو عبادة اللّه تعالى بأنواع العبادات، من الصلاة، والذبح، والنذر، والصيام، والحج وغيرها، خوفًا وطمعًا، يرجو رحمته، ويخاف عذابه، وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب، فالعابد الذي يريد الجنة ويهرب من النار، وهو سائل راغب راهب. يرغب في حصول مراده، ويذهب من فواته، وهو سائل لما يطلبه بامتثال الأمر في فعل العبادة، وقد فسر قوله تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}1. بهذا. وهذا قيل: اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم، وقيل: سلوني أعطكم، وعلى هذا القول تدل الأحاديث والآثار.
إذا تبين ذلك، فاعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئًا من نوعي الدعاء لغير اللّه فهو مشرك، ولو قال لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه وصلى وصام، إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعبد إلا اللّه، فمن أتى بالشهادتين وعبد غير اللّه فما أتى بهما حقيقة وإن تلفظ بهما كاليهود الذين يقولون: لا إله إلا اللّه وهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة غافر آية: 60.(4/287)
ص -187- ... مشركون، ومجرد التلفظ بهما لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعًا.
ذكر شيء من كلام العلماء في ذلك وإن كنا غنيين بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم عن كل كلام، إلا أنه قد صار بعض الناس منتسبًا إلى طائفة معينة، فلو أتيته بكل آية من كتاب اللّه وكل سنة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
لم يقبل حتى تأتيه بشيء من كلام العلماء، أو بشيء من كلام طائفته التي ينتسب إليها.
قال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي صاحب كتاب "الفنون" الذي ألفه في نحو أربعمائة مجلد، وغيره من التصانيف.
قال في الكتاب المذكور: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار لهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، أو إلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى. نقله غير واحد، مقررين له، راضين به، منهم الإمام أبو الفرج بن الجوزي، الإمام ابن مفلح صاحب كتاب "الفروع" وغيرهما.
وقال شيخ الإسلام في "الرسالة السنية": فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان أيضًا قد يمرق أيضًا من الإسلام وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه اللّه في كتابه حيث قال:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ...}1. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح عليه السلام، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعًا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 171.(4/288)
ص -188- ... هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن اللّه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يدعى معه إله آخر والذين يدعون مع اللّه آلهة أخرى، مثل المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم، يقولون:إنما {نَعْبُدُهُمْ... لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}1. ويقولون:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}2. فبعث اللّه رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. انتهى.
وقد نص الحافظ أبو بكر أحمد بن علي المقريزي صاحب كتاب "الخطط" في كتاب له في التوحيد على أن دعاء غير اللّه شرك.
وقال شيخ الإسلام: من جعل بينه وبين اللّه وسائط يتوكل عليهم يدعوهم ويسألهم، كفر إجماعًا، نقله عنه غير واحد مقررين له، منهم ابن مفلح في "الفروع" وصاحب "الإنصاف [المرداوي]" وصاحب "الغاية [مرعي الكرمي]" وصاحب "الإقناع [الحجاوي]" وشارحه [البهوتي]، وغيرهم، ونقله صاحب "القواطع [ابن حجر الهيثمي]" في كتابه عن صاحب "الفروع".
قلت: وهو إجماع صحيح معلوم بالضرورة من الدين، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم في باب حكم المرتد، على أن من أشرك باللّه فهو كافر، أي: عبد مع اللّه غيره بنوع من أنواع العبادات.
وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن دعاء اللّه عبادة له، فيكون صرفه لغير اللّه شركًا.
وقال الإمام ابن النحاس الشافعي في كتاب "الكبائر": ومنها إيقادهم السرج عند الأحجار، والأشجار والعيون، والآبار، ويقولون: إنها تقبل النذر، وهذه كلها بدع شنيعة ومنكرات قبيحة تجب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 3.
2 سورة يونس آية: 18.(4/289)
ص -189- ... إزالتها ومحو أثرها، فإن أكثر الجهال يعتقدون أنها تنفع وتضر، وتجلب وتدفع، وتشفي المرض وترد الغائب، إذا نذر لها، وهذا شرك ومحادة للّه تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
قلت: فصرح رحمه اللّه أن الاعتقاد في هذه الأمور أنها تضر وتنفع وتجلب، وتدفع، وتشفي المريض وترد الغائب إذا نذر لها، أن ذلك شرك، وإذا ثبت أنه شرك، فلا فرق في ذلك بين اعتقاده في الملائكة والنبيين، ولا بين اعتقاده في الأصنام والأوثان، إذ لا يجوز الإشراك بين اللّه تعالى وبين مخلوق فيما يختص بالخالق سبحانه، كما قال تعالى:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}1 وهذا بعينه هو الذي يعتقده من دعا الأنبياء والصالحين، ولهذا يسألونهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وشفاء ذوي الأمراض والعاهات، فثبت أن ذلك شرك.
وقال الإمام ابن القيم رحمه اللّه تعالى في "شرح المنازل" ومن أنواعه أي: الشرك، طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، فضلاً لمن استغاث به أو سأله أن يشفع إلى اللّه، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن اللّه سبحانه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، واللّه سبحانه لم يجعل سؤال غيره سببًا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، والميت محتاج إلى من يدعو له، كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، وندعو لهم، ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانًا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق سبحانه بالشرك وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم،(4/290)
وتنقصوا من أشركوا به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 80.(4/291)
ص -190- ... غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان. وما أكثر المستجيبين لهم! وللّه در خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث قال:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}1. وما نجا مَنْ أشرك بهذا الشرك الأكبر، إلا مَنْ جرد توحيده للّه، وعادى المشركين في اللّه، وتقرب بمقتهم إلى اللّه.
وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي في رده على السبكي وقوله: أي: قول السبكي: إن المبالغة في تعظيمه، أي تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة: إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيمًا، حتى الحج إلى قبره، والسجود له، والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون اللّه الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء، فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين.
قلت: هذا هو اعتقاد عباد القبور فيمن هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم فضلاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم بعض ذلك، والأمر أعظم وأطم من ذلك. وفي "الفتاوى البزازية" من كتب الحنفية، قال علماؤنا: من قال: أرواح المشايخ حاضرة تعلم، يكفر.
فإن أراد بالعلماء علماء الشريعة فهو حكاية للإجماع على كفر معتقد ذلك، وإن أراد علماء الحنفية خاصة، فهو حكاية لاتفاقهم على كفر معتقد ذلك، وعلى التقديرين تأمله تجده صريحًا في كفر من دعا أهل القبور، لأنه ما دعاهم حتى اعتقد أنهم يعلمون ذلك، ويقدرون على إجابة سؤاله، وقضاء مأموله.
وقال الشيخ صنع اللّه الحلبي الحنفي في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفًا على الحياة وبعد الممات في سبيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة إبراهيم آية: 35-36.(4/292)
ص -191- ... الكرامة: هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهممهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم، وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، وقالوا: منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيها الأجور.
قال: وهذا الكلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة. وفي التنْزيل:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}1، إلى أن قال: الفصل الأول فيما انتحلوه من الإفك الوخيم والشرك العظيم. إلى أن قال: فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، فيرده قوله تعالى:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}2،{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}3، {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}4، ونحوه من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه، فالكل تحت ملكه وقهره تصرفًا وملكًا، وإحياء وإماتة، وخلقًا، وتمدح الرب سبحانه بانفراده في ملكه بآيات من كتابه كقوله:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}5.{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}6. وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فقوله في الآيات كلها {مِنْ دُونِهِ} ، أي: من غيره، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي وشيطان تستمده، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره، إلى أن قال: فكيف يتصور لغيره من ممكن أن يتصرف،(4/293)
إن هذا من السفاهة لقول وخيم، وشرك عظيم، إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 115.
2 سورة النمل آية: 60.
3 سورة الأعراف آية: 54.
4 سورة آل عمران آية: 189.
5 سورة فاطر آية: 3.
6 سورة فاطر آية: 13.(4/294)
ص -192- ... الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة. قال جل ذكره:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}1،{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ}2،{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}3،{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}4.
وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله"5. الحديث، فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك أن ليس للميت تصرفًا في ذاته فضلاً عن غيره بحركة، وأن روحه محبوسة مرهونة بعملها من خير وشر، فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره؟! فاللّه سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة. قل أأنتم أعلم أم اللّه؟.
قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات، فهو من المغالطة، لأن الكرامة شيء من عند اللّه يكرم بها أولياءه، لا قصد لهم فيه ولا تحدي، ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني.
قال: وأما قولهم: فيستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله، وأبدع لمصادمته قوله جل ذكره:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}6،{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}7. وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المتعين لكشف الشدائد والكرب وأنه المتفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، والقادر على إيصال الخير، فهو المنفرد بذلك فإذا تعين هو جل ذكره، خرج غيره من ملك ونبي وولي.
قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال أو إدراك(4/295)
عدو أو سبع ونحوه كقولهم: يا لزيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 30.
2 سورة الزمر آية: 42.
3 سورة آل عمران آية: 185.
4 سورة المدثر آية: 38.
5 مسلم: الوصية (1631) , والترمذي: الأحكام (1376) , والنسائي: الوصايا (3651) , وأبو داود: الوصايا (2880) , وأحمد (2/372) , والدارمي: المقدمة (559).
6 سورة النمل آية: 62.
7 سورة الأنعام آية: 63.(4/296)
ص -193- ... يا لقوم يا للمسلمين كما ذكروا ذلك في كتب النحو بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد، كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه، فمن خصائص اللّه، فلا يطلب فيها غيره.
قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية والجهال، وينادونهم ويستنجدون بهم، فهذا من المنكرات، إلى أن قال: فمن اعتقد أن لغير اللّه من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربه أو قضاء حاجته تأثيرًا، فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير. وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشا للّه أن تكون أولياء اللّه بهذه المثابة، فهذا ظن أهل الأوثان كذا أخبر الرحمن {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}1،{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}2،{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ}3. فإنَّ ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نَبِيٍّ وولي وغيره على وجه الإمداد منه إشراك مع اللّه، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره قال: وأما ما قالوه: من أن منهم أبدالاً ونقباء، وأوتادًا ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، فهذا من موضوعات إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في "سراج المريدين" وابن الجوزي وابن تيمية. انتهى باختصار. ومثل هذا يوجد في كلام غيرهم من العلماء، والمقصود أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور ويبينون أنها شرك، وإن كان بعض المتأخرين ممن ينتسب إلى العلم والدين ممن أصيب في عقله ودينه قد يُرَخِّصُ في بعض هذه الأمور، وهو مخطئ في ذلك، ضال مخالف لكتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، فكل أحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا(4/297)
قول ربنا، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية: 18.
2 سورة الزمر آية: 3.
3 سورة يس آية: 23.(4/298)
ص -194- ... يتطرق إليه الخطأ بحال، بل واجب على الخلق اتباعه في كل زمان، على أنه لو أجمع المتأخرون على جواز هذا لم يعتد بإجماعهم المخالف لكلام اللّه وكلام رسوله في محل النّزاع، لأنه إجماع غير معصوم، بل هو من زلة العالم التي حُذِّرْنَا من اتباعها، وأما الإجماع المعصوم، فهو إجماع الصحابة والتابعين وما وافقه، وهو السواد الأعظم الذي ورد الحث على اتباعه وإن لم يكن عليه إلا الغرباء الذين أخبر بهم صلى الله عليه وسلم في قوله: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء"1 رواه مسلم، لا ما كان عليه العوام والطغام، والخلف المتأخرون الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.
[النفع والضر من الله وحده]
قال: وقول اللّه تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ...}2.
ش: قال ابن عطية: معناه قيل لي: ولا تدع، فهو عطف على "أقم" وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت هكذا، فأحرى أن يحذر من ذلك غيره.
وقال غيره:{فَإِنْ فَعَلْتَ} معناه: فإن دعوت من دون اللّه ما لا ينفعك ولا يضرك، فكنى عنه بالفعل إيجازًا، {فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}، إذًا جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر، كأن سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان، وجُعِلَ من الظالمين، لأنه لا ظلم أعظم من الشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}3.
قلت: حاصل كلام المفسرين أن اللّه تعالى نهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو من دونه ما لا ينفعه ولا يضره، والمراد به كل ما سوى اللّه، فإنهم لا ينفعون ولا يضرون وسواء في ذلك الأنبياء والصالحون وغيرهم، كما قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}4. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت(4/299)
فاسأل اللّه وإذا استعنت فاستعن باللّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389).
2 سورة يونس آية: 106-107.
3 سورة لقمان آية: 13.
4 سورة الجن آية: 18.(4/300)
ص -195- ... بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللّه لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللّه عليك"1 رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
وفي الآية تنبيه على أن المدعو لا بد أن يكون مالكًا للنفع والضر حتى يعطي من دعاه أو يبطش بمن عصاه، وليس ذلك إلا للّه وحده، فتعين أن يكون هو المدعو دون ما سواه، والآية شاملة لنوعي الدعاء.
وقوله:{فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} أي المشركين، وهذا كقوله:{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}2. وقوله:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}3. وقوله في الأنعام:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}4. فإذا كان هذا الأمر لا يصدر من الأنبياء وحاشاهم من ذلك لم يفكوا أنفسهم من عذاب اللّه، فما ظنك بغيرهم؟! فلم يبق شيء يقرب إلى اللّه ويباعد من سخطه إلا توحيده والعمل بما يرضاه، لا الاعتماد على شخص أو قبر أو صنم أو وثن أو مال أو غير ذلك من الأسباب {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}5 والآية. نص في أن دعاء غير اللّه والاستغاثة به شرك أكبر، ولهذا قال:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ}6؛ لأنه المتفرد بالملك والقهر والعطاء والمنع، ولازم ذلك إفراده بتوحيد الإلهية لأنهما متلازمان، وإفراده بسؤال كشف الضر وجلب الخير، لأنه لا يكشف الضر إلا هو، ولا يجلب الخير إلا هو {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ(4/301)
الْحَكِيمُ}7. فتعين أن لا يدعى لذلك إلا هو، وبطل دعاء من سواه ممن لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا فضلاً عن غيره، وهذا ضد ما عليه عباد القبور، فإنهم يعتقدون أن الأولياء والطواغيت الذي يسمونهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293 ,1/303 ,1/307).
2 سورة الشعراء آية: 213.
3 سورة الزمر آية: 65.
4 سورة الأنعام آية: 88.
5 سورة المؤمنون آية: 117.
6 سورة يونس آية: 107.
7 سورة فاطر آية: 2.(4/302)
ص -196- ... المجاذيب ينفعون ويضرون ويمسون بالضر ويكشفونه، وأن لهم التصرف المطلق في الملك، أي: على سبيل الكرامة، وهذا فوق شرك كفار العرب، وإما على سبيل الوساطة بينهم وبين اللّه بالشفاعة وهذا شرك الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}1.وفي الآية دليل على أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين. ذكره المصنف.
وقوله:{يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، فلا يرده عنه راد، لأنه العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، فأي فائدة في دعاء غيره لشفاعة أو غيرها؟ فإنه تعالى فعال لما يريد، لا يغنيه عنه شفيع ولا غيره، بل لا يتكلم أحد عنده إلا بإذنه، ولا يشفع أحد إلا بإذنه {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}2.
وقوله:{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي لمن تاب إليه وأقبل عليه حتى ولو كان من الشرك.
قال: وقوله:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ}3.
ش: أمر اللّه تعالى بابتغاء الرزق عنده لا عند غيره ممن لا يملك رزقًا من الأوثان والأصنام وغيرها، كما قال في أولا الآية: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً}، [العنكبوت، من الآية: 17]. قال ابن كثير: وهذا أبلغ في الحصر كقوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}4. {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ}5. ولهذا قال:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}6. أي: لا عند غيره لأنه المالك له وغيره لا يملك شيئًا من ذلك {فَاعْبُدُوهُ}، أي: أخلصوا له العبادة وحده لا شريك له {وَاشْكُرُوا لَهُ} أي: على ما أنعم عليكم {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أي: فيجازي كل عامل بعمله.
قلت: في الآية الرد على المشركين الذين يدعون غير اللّه(4/303)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 3.
2 سورة السجدة آية: 4.
3 سورة العنكبوت آية: 17.
4 سورة الفاتحة آية: 5.
5 سورة التحريم آية: 11.
6 سورة العنكبوت آية: 17.(4/304)
ص -197- ... ليشفعوا لهم عنده في جلب الرزق، فما ظنك بمن دعاهم أنفسهم، واستغاث بهم ليرزقوه وينصروه كما هو الواقع من عباد القبور؟ .
وقال المصنف: وفيه أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من اللّه، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه.
قال: وقوله {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}، [الأحقاف الآيتان: 5-6].
ش: حاصل كلام المفسرين أن اللّه تعالى حكم بأنه لا أضل ممن يدعو من دون اللّه، لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة واستغاثة من هذه حاله. ومعنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالاً ممن عبد غير اللّه ودعاه، حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كل بغية ومرام، ويدعون من دونه من لا يستجيب لهم، ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دام في الدنيا وإلى أن تقوم القيامة، كما قال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ}1 وقوله:{وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}2.أي لا يشعرون بدعاء من دعاهم، لأنهم إما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم كالملائكة، وإما أموات كالأنبياء والصالحين، وإما أصنام وأوثان. وقوله:{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً}3. أي: إذا قامت القيامة وحشر الناس للحساب عادوهم وكانوا بعبادتهم الدعاء وغيره من أنواع العبادة كافرين، كما قال تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}4. فليسوا في الدارين إلا(4/305)
على نكد ومضرة، لا تتولاهم بالاستجابة في الدنيا، وتجحد عبادتهم في الآخرة وهم أحوج ما كانوا إليها.
وفي الآيتين مسائل نبه عليها المصنف: أحدها: أنه لا أضل ممن دعا غير اللّه. الثانية: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه. الثالثة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الرعد آية: 14.
2 سورة الأحقاف آية: 5.
3 سورة الأحقاف آية: 6.
4 سورة مريم آية: 81-82.(4/306)
ص -198- ... أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له. الرابعة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو. الخامسة: كفر المدعو بتلك العبادة. السادسة: أن هذه الأمور هي سبب كونه أضل الناس.
[لا يجيب المضطر إلا الله]
قال: وقوله:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}1 .
ش: يقرر تعالى أنه الإله الواحد الذي لا شريك له، ولا معبود سواه مما يشترك في معرفته المؤمن والكافر، لأن القلوب مفطورة على ذلك، فمتى جاء الاضطرار رجعت القلوب إلى الفطرة، وزال ما ينازعها، فالتجأت إليه وأنابت إليه وحده لا شريك له، كما قال تعالى:{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}2 وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}3. ومثل هذا كثير في القرآن.
يبين تعالى أنه المدعو عند الشدائد، الكاشف للسوء وحده، فيكون هو المعبود وحده، وكذا قال في هذه الآية: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}4. أي: من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه والذي لا يكشف ضر المضطرين سواه، ومن المعلوم أن المشركين كانوا يعلمون أنه لا يقدر على هذه الأمور إلا اللّه وحده، وإذا جاءتهم الشدائد أخلصوا الدعاء للّه، كما قال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}5 .
فتبين أن من اعتقد في غير اللّه أنه يكشف السوء أو يجيب دعوة المضطر، أو دعاه لذلك فقد أشرك شركًا أكبر من شرك العرب كما هو الواقع من عباد(4/307)
القبور.
[تحريم الاستغاثة بغير الله]
قال: وروى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين. فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول اللّه صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث باللّه" .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النمل آية: 62.
2 سورة النّحل آية: 53-54.
3 سورة الزمر آية: 8.
4 سورة النمل آية: 62.
5 سورة العنكبوت آية: 65.(4/308)
ص -199- ... ش: قوله: (روى الطبراني)، هو: الإمام الحافظ الثقة، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها. روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الدَّبَرِي وخلق كثير، ومات سنة ستين وثلاثمائة، وقد بيض المصنف لاسم الراوي، وكأنه واللّه أعلم نقله عن غيره أو كتبه من حفظه، والحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
قوله: (إنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين). هذا المنافق لم أقف على تسميته، ويحتمل أن يكون هو عبد اللّه بن أُبَيّ، فإنه معروف بالأذى للمؤمنين بالكلام في أعراضهم ونحو ذلك، أما أذاهم بنحو ضرب أو زجر، فلا نعلم منافقًا بهذه الصفة.
قوله: (فقال بعضهم). أي: بعض المؤمنين، وهذا البعض القائل لذلك يحتمل أن يكون واحدًا، وأن يكون جماعة، والظاهر أنه واحد، وأظن في بعض الروايات أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قوله: (قوموا بنا نستغيث برسول اللّه صلى الله عليه وسلم). مرادهم الاستغاثة به فيما يقدر عليه بكف المنافق عن أذاهم، بنحو ضربه أو زجره، لا الاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا اللّه.
قوله: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث باللّه" قال بعضهم: فيه التصريح بأنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأمور، وإنما يستغاث باللّه. والظاهر أن مراده صلى الله عليه وسلم إرشادهم إلى التأدب مع اللّه في الألفاظ، لأن استغاثتهم به صلى الله عليه وسلم من المنافق من الأمور التي يقدر عليها، إما بزجره أو تعزيره ونحو ذلك، فظهر أن المراد بذلك الإرشاد إلى حسن اللفظ والحماية منه صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد، وتعظيم اللّه تبارك وتعالى. فإذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في الاستغاثة به فيما يقدر عليه، فكيف بالاستغاثة به أو بغيره في الأمور المهمة التي لا يقدر عليها أحد إلا اللّه كما هو جار على ألسنة كثير من الشعراء وغيرهم؟! وقَلَّ من يعرف أن ذلك منكر، فضلاً(4/309)
عن معرفة كونه شركًا.(4/310)
ص -200- ... فإن قلت: ما الجمع بين هذا الحديث وبين قوله تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}1. فإن ظاهر الحديث المنع من إطلاق لفظ الاستغاثة على المخلوق فيما يقدر عليه، وظاهر الآية جوازه. قيل: تحمل الآية على الجواز، والحديث على الأدب والأولى، واللّه أعلم. وقد تبين بما ذُكِرَ في هذا الباب وشرحه من الآيات والأحاديث وأقوال العلماء أن دعاء الميت والغائب والحاضر فيما لا يقدر عليه إلا اللّه والاستغاثة بغير اللّه في كشف الضر أو تحويله، هو الشرك الأكبر، بل هو أكبر أنواع الشرك، لأن الدعاء مخ العبادة، ولأن من خصائص الإلهية إفراد اللّه بسؤال ذلك، إذ معنى الإله هو الذي يعبد لأجل هذه الأمور، ولأن الداعي إنما دعوا إلهه عند انقطاع أمله مما سواه، وذلك هو خلاصة التوحيد، وهو انقطاع الأمل مما سوى اللّه، فمن صرف شيئًا من ذلك لغير اللّه، فقد ساوى بينه وبين اللّه، وذلك هو الشرك، ولهذا يقول المشركون لآلهتهم وهم في الجحيم:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}2. ولكن لعباد القبور على هذا شبهات، ذكر المصنف كثيرًا منها في "كشف الشبهات" ونحن نذكر هنا ما لم يذكره.
فمن ذلك أنهم احتجوا بحديث رواه الترمذي في "جامعه" حيث قال: حدثنا محمود بن غيلان، ثنا عثمان بن عمرو، ثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حُنَيْف "أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع اللّه أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ، ويحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت به إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في". قال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من رواية أبي جعفر،(4/311)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القصص آية: 15.
2 سورة الشّعراء آية: 97-98.(4/312)
ص -201- ... وهو غير الخطمي، هكذا رواه الترمذي ورواه النسائي وابن شاهين والبيهقي كذلك، وفي بعض الروايات: "يا محمد إني أتوجه..."1 إلى آخره.
وهذه اللفظة هي التي تعلق بها المشركون، وليست عند هؤلاء الأئمة. قالوا: فلو كان دعاء غير اللّه شركًا لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى هذا الدعاء الذي فيه نداء غير اللّه.
والجواب من وجوه:
الأول: أن هذا الحديث من أصله وإن صححه الترمذي، فإن في ثبوته نظرًا، لأن الترمذي يتساهل في التصحيح كالحاكم، لكن الترمذي أحسن نقدًا، كما نص على ذلك الأئمة. ووجه عدم ثبوته أنه قد نص أن أبا جعفر الذي عليه مدار هذا الحديث هو غير الخطمي، وإذا كان غيره، فهو لا يعرف، ولعل عمدة الترمذي في تصحيحه أن شعبة لا يروي إلا عن ثقة، وهذا فيه نظر، فقد قال عاصم بن علي: سمعت شعبة يقول: لو لم أحدثكم إلا عن ثقة لم أحدثكم إلا عن ثلاثة، وفي نسخة عن ثلاثين، ذكره الحافظ العراقي، وهذا اعتراف منه بأنه يروي عن الثقة وغيره فينظر في حاله، ويتوقف الاحتجاج به على ثبوت صحته.
الثاني: أنه في غير محل النّزاع، فأين طلب الأعمى من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، وتوجهه بدعائه مع حضوره، من دعاء الأموات، والسجود لهم، ولقبورهم، والتوكل عليهم، والالتجاء إليهم في الشدائد والنذر والذبح لهم، وخطابهم بالحوائج من الأمكنة البعيدة: يا سيدي يا مولاي افعل بي كذا؟! فحديث الأعمى شيء، ودعاء غير اللّه تعالى والاستغاثة به شيء آخر، فليس في حديث الأعمى شيء غير أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، ويشفع له، فهو توسل بدعائه وشفاعته، ولهذا قال في آخره "اللهم فشفعه في". فعلم أنه شفع له.(4/313)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الفتن (7056) , والنسائي: البيعة (4149 ,4151 ,4152 ,4153 ,4154) , وابن ماجه: الجهاد (2866) , وأحمد (3/441 ,5/316 ,5/318 ,5/319 ,5/325) , ومالك: الجهاد (977).(4/314)
ص -202- ... وفي رواية أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فدل الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم شفع له بدعائه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو أن يدعو اللّه ويسأله قبول شفاعته، فهذا من أعظم الأدلة على أن دعاء غير اللّه شرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يسأل قبول شفاعته، فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعى. ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يقدر على شفائه إلا بدعاء اللّه له. فأين هذا من تلك الطوام، والكلام إنما هو في سؤال الغائب أو سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا اللّه، أما أن تأتي شخصًا يخاطبك فتسأله أن يدعو لك فلا إنكار في ذلك على ما في حديث الأعمى، فالحديث سواء كان صحيحًا أو لا، وسواء ثبت قوله فيه: يا محمد أو لا، لا يدل على سؤال الغائب، ولا على سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا اللّه بوجه من وجوه الدلالات. ومن ادعى ذلك، فهو مفتر على اللّه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إن كان سأل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فهو لم يسأل منه إلا ما يقدر عليه، وهو أن يدعو له، وهذا لا إنكار فيه وإن كان توجه به من غير سؤال منه نفسه، فهو لم يسأل منه، وإنما سأل من اللّه به،سواء كان متوجهًا بدعائه، كما هو نص أول الحديث وهو الصحيح، أو كان متوجهًا بذاته على قول ضعيف، فإن التوجه بذوات المخلوقين، والإقسام بهم على اللّه بدعة منكرة، لم تأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، والتابعين لهم بإحسان، ولا الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة الدين. قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو اللّه إلا به. وقال أبو يوسف: أكره بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام. وقال القدوري: المسألة بحق المخلوق لا تجوز، فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك أو أنبيائك ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، واختاره العز بن عبد السلام، إلا في حق النبي صلى الله عليه(4/315)
وسلم خاصة إن ثبت الحديث، يشير إلى حديث الأعمى، وقد تقدم أنه على تقدير ثبوته ليس فيه إلا أنه توسل بدعائه لا بذاته.(4/316)
ص -203- ... وقد ورد في ذلك حديث رواه الحاكم في "مستدركه" فأبعد النجعة من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم [عن أبيه عن جدّه عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه، رفع رأسه إلى العرش، فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي". الحديث. وهو حديث ضعيف بل موضوع، لأنه مخالف للقرآن. قال تعالى:{قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}1. فهذا هو الذي قاله آدم. قال الذهبي في هذا الحديث: أظنه موضوعًا، وعبد الرحمن بن زيد متفق على ضعفه، قال ابن معين: ليس حديثه بشيء.
الثالث. أن قوله: يا محمد إني أتوجه إلخ لم تثبت في أكثر الروايات. وبتقدير ثبوتها لا يدل على جواز دعاء غير اللّه، لأن هذا خطاب لحاضر معين يراه ويسمع كلامه، ولا إنكار في ذلك، فإن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه ما يقدر عليه، فأين هذا من دعاء الغائب والميت لو كان أهل البدع والشرك يعلمون؟! .
واحتجوا أيضًا بحديث رواه أبو يعلى وابن السني في "عمل اليوم والليلة" فقال ابن السني: حدثنا أبو يعلى ثنا الحسن بن عمرو بن شقيق ثنا معروف بن حسان أبو معاذ السمرقندي عن سعيد عن قتادة عن أبي بردة عن أبيه عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض [فلاة] فليناد يا عباد اللّه احبسوا" هكذا في كتاب ابن السني. وفي "الجامع الصغير:"فإن للّه عز وجل في الأرض حاضرًا سيحبسه عليكم".والجواب أن هذا الحديث مداره على معروف ابن حسان وهو أبو معاذ السمرقندي. فقوله في الأصل: ثنا أبو معاذ السمرقندي خطأ أظنه من الناسخ. قال ابن عدي: منكر الحديث، وقال الذهبي في "الميزان": قال ابن عدي: منكر الحديث، قد روى عن عمر بن ذر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 23.(4/317)
ص -204- ... نسخة طويلة كلها غير محفوظة، وقال السيوطي: حديث ضعيف، وأقول: بل هو باطل، إذ كيف يكون عند سعيد عن قتادة، ثم يغيب عن أصحاب سعيد الحفاظ الأثبات مثل يحيى القطان، وإسماعيل بن علية، وأبي أسامة، وخالد بن الحارث، وأبي خالد الأحمر وسفيان، وشعبة، وعبد الوارث، وابن المبارك، والأنصاري، وغندر، وابن أبي عدي ونحوهم، حتى يأتي به هذا الشيخ المجهول المنكر الحديث! فهذا من أقوى الأدلة على وضعه، وبتقدير ثبوته لا دليل فيه، لأن هذا من دعاء الحاضر فيما يقدر عليه كما قال: "فإن للّه في الأرض حاضرًا سيحبسه عليكم".
واحتجوا أيضًا بحديث رواه الطبراني في "المعجم الكبير" فقال: حدثنا طاهر بن عيسى بن قيرس المصري ثنا أصبغ بن الفرج، ثنا ابن وهب عن أبي سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المديني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف "أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان ابن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك ليقضي لي حاجتي". الحديث. والجواب من وجوه:
الأول: أن راوية طاهر بن عيسى ممن لا يعرف بالعدالة بل هو مجهول، قال الذهبي: طاهر بن عيسى بن قيرس أبو الحسين المصري المؤدب عن سعيد بن أبي مريم، ويحيى بن بكير، وأصبغ بن الفرج. وعنه الطبراني. توفي سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، فهو إذًا مجهول الحال لا يجوز الاحتجاج بخبره، لا سيما فيما يخالف نصوص الكتاب والسنة.
الثاني: قوله: عن أبي سعيد المكي أشد جهالة من الأول،(4/318)
ص -205- ... فإن مشايخ ابن وهب المكيين معروفون كداود بن عبد الرحمن، وزمعة بن صالح، وابن عيينة، وطلحة بن عمرو الحضرمي، وابن جريج، وعمر بن قيس، ومسلم بن خالد الزنجي، وليس فيهم من يكنى أبا سعيد، فتبين أنه مجهول.
الثالث: إن قلنا بتقدير ثبوته، فليس فيه دليل على دعاء الميت والغائب، غاية ما فيه أنه توجه به في دعائه، فأين هذا من دعاء الميت؟ فإن التوجه بالمخلوق سؤال به لا سؤال منه، والكلام إنما هو في سؤال المخلوق نفسه ودعائه والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا اللّه، وكل أحد يفرق بين سؤال الشخص، وبين السؤال به، فإنه في السؤال به قد أخلص الدعاء للّه، ولكن توجه على اللّه بذاته أو بدعائه. وأما في سؤاله نفسه ما لا يقدر عليه إلا اللّه، فقد جعله شريكًا للّه في عبادة الدعاء، فليس في حديث الأعمى، وحديث ابن حنيف هذا إلا إخلاص الدعاء للّه كما هو صريح فيه، إلا قوله، يا محمد إني أتوجه بك، وهذا ليس فيه المخاطبة لميت فيما لا يقدر عليه، إنما فيه مخاطبته مستحضرًا له في ذهنه كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته.
الرابع: أنهم زعموا أنه دليل على دعاء كل غائب وميت من الصالحين، فخرجوا عما فهموه من الحديث بفهمهم الفاسد إلى أنه دليل على دعاء كل غائب وميت صالح، ولا دليل فيه أصلاً على دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا في حياته فيما لا يقدر عليه، ثم لو كان فيه دليل على ذلك لم يكن فيه دليل على دعاء الغائب والميت مطلقًا، لأن هذا قياس مع وجود الفارق، وهو باطل بالإجماع، إذ ما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم من الفضائل والكرامات لا يساويه فيه أحد، فلا يجوز قياس غيره عليه، وأيضًا فالقياس إنما يجوز للحاجة ولا حاجة إلى قياس غيره عليه، فبطل قياسهم بنفس مذهبهم، هذا غاية ما احتجوا به مما هو موجود في بعض الكتب(4/319)
ص -206- ... المعروفة، وما سوى هذه الأحاديث الثلاثة فهو مما وضعوه بأنفسهم، كقولهم: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور، وقولهم: لو حسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه. قال ابن القيم: وهو من وضع المشركين عباد الأوثان.
[9- باب قول اللّه تعالى:{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُم يَنْصُرُونَ}، [الأعراف الآيتان: 191-192]
ش: المراد من هذه الترجمة بيان حال المدعوين من دون اللّه أنهم لا ينفعون ولا يضرون، وسواء في ذلك الملائكة والأنبياء والصالحون والأصنام، فكل من دعي من دون اللّه فهذه حاله، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}1. ويكفيك في ذلك قوله تعالى لأكرم الخلق:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ}2.وقال:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}3. وقال:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً}4.ومن المعلوم أنهم كانوا قد عبدوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ولهذا أخبر سبحانه(4/320)
وتعالى عن الملائكة أنهم يتبرؤون منهم يوم القيامة، كما قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحجّ آية: 73-74.
2 سورة الجنّ آية: 21-23.
3 سورة الأعراف آية: 188.
4 سورة الفرقان آية: 3.(4/321)
ص -207- ... يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}1. إذا تبين ذلك فحاصل كلام المفسرين على الآية المترجم
لها أن قوله تعالى:{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 2. توبيخ وتعنيف للمشركين بأنهم يعبدون مع اللّه تعالى عبادًا لا تخلق شيئًا وليس فيها ما تستحق به العبادة من الخلق والرزق والنصر، لأنفسهم أو لمن عبدهم وهم مع ذلك مخلوقون محدثون ولهم خالق خلقهم، وإن خرج الكلام مخرج الاستفهام، فالمراد به ما ذكرناه. وقوله:{وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُم يَنْصُرُونَ}3. أي: ويشركون به، ويعبدون من هذه حاله لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه بأن يدفع عن نفسه من أراد به الضر، ومن هذه حاله فهو في غاية العجز، فكيف يكون إلهًا معبودًا؟! وجميع الأنبياء والملائكة والصالحين وغيرهم داخلون في هذه الأوصاف، فلا يقدر أحد منهم أن يخلق شيئًا ولا يستطيعون لمن عبدهم نصرًا، ولا ينصرون أنفسهم، وإذا كان كذلك بطلت دعوتهم من دون اللّه.
قال: وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ...}4.
ش: حاصل كلام المفسرين كابن كثير وغيره أنه تعالى يخبر عن حال المدعوين من دونه من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها بما يدل على عجزهم وضعفهم، وأنهم قد انتفت عنهم الشروط التي لا بد أن تكون في المدعو وهي الملك، وسماع الدعاء، والقدرة على استجابته، فمتى عدم شرط بطل أن يكون مدعوًا، فكيف إذا عدمت كلها، فنفى عنهم الملك بقوله:{مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} .قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والحسن، وقتادة: القطمير: اللفافة التي تكون على نواة التمر، أي: ولا {يَمْلِكُونَ} من السموات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة سبأ آية: 40-41.
2 سورة الأعراف آية: 191.
3 سورة الأعراف آية: 192.
4 سورة فاطر آية: 13.(4/322)
ص -208- ... والأرض شيئًا، ولا بمقدار هذا القطمير، كما قال:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ}1. وقال:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ...}2. فمن كان هذا حاله فكيف يدعى من دون اللّه؟ ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله:{إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ}3. يعني أن الآلهة التي تدعونها لا يسمعون دعاءكم؛ لأنهم أموات أو ملائكة مشغولون بأحوالهم مسخرون لما خلقوا له أو جماد، فلعل المشرك يقول: هذا في الأصنام، أما الملائكة والأنبياء والصالحون فيسمعون ويستجيبون، فنفى سبحانه ذلك بقوله:{وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}، أي: لا يقدرون على ما تطلبون منهم، وما خص تعالى الأصنام، بل عم جميع مَن يدعى مِن دونه. ومن المعلوم أنهم كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين، كما ذكر اللّه تعالى ذلك في كتابه، فلم يرخص في دعاء أحد منهم لا استقلالًا ولا وساطة بالشفاعة.
وقوله:{يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}4. كقوله:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}5. وهذا نص صريح على أن من دعا غير اللّه فقد أشرك بشرطه، وأن المدعوين يكفرون به يوم القيامة، ويتبرءون منهم كقوله تعالى:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}6 .فهل على كلام رب العزة استدراك؟ ولهذا قال:{وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي: ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير بها. قال قتادة: يعني نفسه تبارك وتعالى، فإنه أخبر بالواقع لا محالة.(4/323)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 73.
2 سورة سبأ آية: 22.
3 سورة فاطر آية: 14.
4 سورة فاطر آية: 14.
5 سورة آية: 81-82.
6 سورة البقرة آية: 166.(4/324)
ص -209- ... قال: وفي " الصحيح " عن أنس. قال: "شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنَزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}، [آل عمران: 128] " .
ش: قوله في "الصحيح"، أي "الصحيحين" فعلقه البخاري عن حميد وثابت عن أنس، ووصله أحمد والترمذي والنسائي، عن حميد، عن أنس به. ووصله مسلم عن ثابت عن أنس وقال ابن إسحاق في " المغازي ": حدثني حميد الطويل، عن أنس قال: "كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وشج في وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟"1. فأنزل اللّه الآية.
قوله: شج النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو السعادات: الشج في الرأس خاصة في الأصل، وهو أن يضربه بشيء فيجرحه فيه ويشقه، ثم استعمل في غيره من الأعضاء. وذكر ابن هشام من حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد اللّه بن شهاب الزهري هو الذي شجه في جبهته، وأن عبد اللّه بن قمئة جرحه في وجنته، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وأن مالك بن سنان مص الدم من وجه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده، فقال له: "لن تمسك النار" .
وروى الطبراني من حديث أبي أمامة. قال: "رمى عبد اللّه بن قمئة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، فشجه في وجهه، وكسر رباعيته. فقال: خذها وأنا ابن قمئة. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما لك أقمأك اللّه فسلط اللّه عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة" .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجهاد والسير (1791) , والترمذي: تفسير القرآن (3003) , وابن ماجه: الفتن (4027) , وأحمد (3/99 ,3/178 ,3/201 ,3/206 ,3/253 ,3/288).(4/325)
ص -210- ... قال القرطبي: والرباعية - بفتح الراء وتخفيف الياء، وهي كل سن بعد ثنية. قال النووي: وللإنسان أربع رباعيات. قال الحافظ: والمراد أنها كسرت فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها. قلت: فظهر بهذا أن قول بعضهم: إنه شج في رأسه فيه نظر.
قال النووي: وفي هذا وقوع الأسقام والابتلاء بالأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر والثواب، ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم، ويتأسوا بهم.
قال القرطبي: وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون، ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات، ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم.
قوله: "يوم أُحد" جبل معروف إلى الآن، كانت عنده الواقعة المشهورة فأضيفت إليه.
قوله: فقال: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟"1. زاد مسلم من طريق ثابت عن أنس "وكسروا رباعيته وأدموا وجهه"2 .
قوله: فأنزل اللّه:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}. قال ابن عطية: كان النبي صلى الله عليه وسلم لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش، فمالت نفسه إلى أن يستأصلهم اللّه، ويريح منهم. فقيل له: بسبب ذلك {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}، أي: عواقب الأمور بيد اللّه فامض أنت لشأنك، ودم على الدعاء لربك.
وقال غيره: المعنى أن اللّه تعالى مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم {أَوْيَكْبِتَهُمْ}، {أَوْيَتُوبَ عَلَيْهِمْ} إن أسلموا، {أَوْيُعَذِّبَهُمْ} إن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المناقب (3783) , ومسلم: الإيمان (75) , والترمذي: المناقب (3900) , وأحمد (4/283 ,4/292).
2 مسلم: الجهاد والسير (1791) , والترمذي: تفسير القرآن (3002 ,3003) , وابن ماجه: الفتن (4027) , وأحمد (3/99 ,3/178 ,3/201 ,3/206 ,3/253 ,3/288).(4/326)
ص -211- ... أصروا، و{لَيْسَ لَكَ مِنَ} أمرهم {شَيْءٌ}، وإنما أنت عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم، فعلى هذا يكون قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}، اعتراض المعطوف والمعطوف عليه.
وقال ابن إسحاق: أي ليس لك من الحكم بشيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم.
قال: وفيه عن ابن عمر أنه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: "اللهم العن فلانًا وفلانًا"، بعد ما يقول: سمع اللّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد. فأنزل اللّه:{ليس لك من الأمر شيء}"1. وفي رواية: "يدعو على صفوان ابن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فنَزلت:{ليس لك من الأمر شيء}"2 .
ش: قوله: وفيه: أي في "الصحيح" والمراد به "صحيح البخاري"، ورواه النسائي.
قوله: عن ابن عمر. هو عبد اللّه بن عمر بن الخطاب، صحابي جليل، من عباد الصحابة، شهد له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالصلاح. مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها، أو أول التي تليها.
قوله: إنه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ... إلى آخره. هذا القنوت على هؤلاء هو بعد ما شج، وكسرت رباعيته يوم أحد.
قوله: "اللهم العن فلانًا وفلانًا". قال أبو السعادات: أصل اللعن: الطرد والإبعاد من اللّه، ومن الخلق السب والدعاء. قلت: الظاهر أنه من الخلق طلب طرد الملعون وإبعاده من اللّه بلفظ اللعن، لا مطلق السب والشتم.
قوله: (فلانًا وفلانًا)، يعني صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام كما بينه في الرواية التي بعدها. وفيه جواز الدعاء على المشركين في الصلاة، وتسمية المدعو عليهم ولهم بأسمائهم في الصلاة، وأن ذلك لا يضر الصلاة.(4/327)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن (4559) , والترمذي: تفسير القرآن (3005) , والنسائي: التطبيق (1078) , وأحمد (2/93 ,2/104 ,2/118 ,2/147).
2 البخاري: المغازي (4070) , والترمذي: تفسير القرآن (3004) , وأحمد (2/93).(4/328)
ص -212- ... قوله: (بعد ما يقول: سمع اللّه لمن حمده). قال أبو السعادات، أي: أجاب حمده وتقبله. وقال السهيلي: مفعول "سمع" محذوف، لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها، فاللام تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة المقارنة للسمع، فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد، وهو الاستجابة لمن حمده.
وقال ابن القيم رحمه اللّه تعالى ما معناه: عدى سمع اللّه لمن حمده باللام لتضمنه معنى: استجاب له، ولا حذف هناك، وإنما هو مضمن.
قوله: ربنا ولك الحمد. في بعض روايات البخاري بإسقاط الواو. قال النووي: لا ترجيح لإحداهما على الأخرى. وقال ابن دقيق العيد: كأن إثباتها دال على معنى زائد، لأنه يكون التقدير مثلاً: ربنا استجب ولك الحمد، فيشتمل على معنى الدعاء، ومعنى الخبر.
قال شيخ الإسلام: والحمد ضد الذم، والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له، كما أن الذم يكون على مساوئه مع البغض له، وكذا قال ابن القيم، وفرق بينه وبين المدح بأن الإخبار عن محاسن الغير، إما أن يكون إخبارًا مجردًا عن حب وإرادة، أو مقرونًا بحبه وإرادته، فإن كان الأول، فهو المدح، وإن كان الثاني، فهو الحمد. فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه، ولهذا كان خبرًا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح، فإنه خبر مجرد. فالقائل إذا قال: الحمد للّه، وقال: ربنا ولك الحمد، تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الجملة المحققة والمقدرة، وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى، ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه، ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه، وهو الحميد المجيد. وفيه التصريح بأن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي يوسف، وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة فقالا: يقتصر على قول: سمع اللّه لمن حمده.
قوله: وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن(4/329)
ص -213- ... عمرو، والحارث بن هشام. إنما دعا عليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأنهم رؤساء المشركين يوم أُحد، والسبب في تلك الأفاعيل التي جرت على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هم وأبو سفيان، ومع ذلك فما استجيب له فيهم، بل أنزل اللّه عليه:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}1. فتاب اللّه عليهم وآمنوا، مع أنهم فعلوا أشياء لم يفعلها أكثر الكفار، منها غزوهم نبيهم صلى الله عليه وسلم في بلاده، وشجهم له، وكسر رباعيته، وقتلهم بني عمهم المؤمنين، وقتلهم الأنصار والتمثيل بقتلى المسلمين، وإعلانهم بشركهم وكفرهم، ومع هذا كله لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفعهم عن نفسه، ولا عن أصحابه، كما قال تعالى: :{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ}2. بل لجأ صلى الله عليه وسلم إلى ربه المالك القادر على النفع والضر وإهلاكهم، ودعا عليهم صلى الله عليه وسلم في الصلاة المكتوبة جهرا، وخلفه سادات الأولياء يُؤَمِّنون على دعائه، ومع هذا كله ما استجاب اللّه له فيهم، بل تاب عليهم وآمنوا، فلو كان عنده صلى الله عليه وسلم من النفع والضر شيء لكان يفعل بهم ما يستحقونه على هذه الأفعال العظيمة، ولكن الأمر كما قال تعالى:{هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}3. فأين هذا مما يعتقده عباد القبور في الأولياء والصالحين بل في الطواغيت الذين يسمونهم المجاذيب والفقراء أنهم ينفعون من دعاهم، وينصرون من لاذ بحماهم، ويدعونهم برًّا وبحرًا في غيبتهم وحضرتهم.
[إنذاره عليه الصلاة والسلام لأقاربه وعشيرته]
قال: وفيه عن أبي هريرة قال: "قام(4/330)
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين أنزل اللّه عليه"{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}4. قال: يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من اللّه شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من اللّه شيئًا، يا صفية عمة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من اللّه شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من اللّه شيئًا" .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 128.
2 سورة الجنّ آية: 21-23.
3 سورة إبراهيم آية: 52.
4 سورة الشّعراء آية: 214. البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (206) , والنسائي: الوصايا (3646 ,3647) , وأحمد (2/350 ,2/398) , والدارمي: الرقاق (2732).(4/331)
ص -214- ... ش: قوله: وفيه، أي: في "صحيح البخاري".
قوله: عن أبي هريرة. اختلف الحفاظ في اسمه على أكثر من ثلاثين قولاً، وصحح النووي أن اسمه عبد الرحمن بن صخر، كما رواه الحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة قال: "كان اسمي في الجاهلية عبد شمس بن صخر، فَسُمِّيَت في الإسلام عبد الرحمن". وقال غيره: اسمه عبد الله بن عمرو، وقيل: ابن عامر. وقال ابن الكلبي: اسمه عمير بن عامر، ويقال: كان اسمه في الجاهلية عبد شمس وكنيته أبو الأسود، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وكناه أبا هريرة. وروى الدولابي بإسناده عن "أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه عبد الله". وهو دوسي من فضلاء الصحابة، وحفاظهم، وعلمائهم، حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما حفظه غيره، وروي له في كتب السنة أكثر من خمسة آلاف حديث، ومات سنة سبعة أو ثمان أو تسع وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة؟ .
قوله: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم. في "الصحيح" من رواية ابن عباس "صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا "1 .
قوله: حين أنزل الله عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} عشيرة الرجل: هم بنو أبيه الأدنون أو قبيلته. والأقربين: أي الأقرب فالأقرب منهم.
1- لأنهم أحق الناس بِبِرِّك وإحسانك الديني والدنيوي، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}2 .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: من أبر؟ قال: "أمك قال: ثم من، قال: ثم أباك، ثم أختك وأخاك"3.
2- ولأنه إذا قام عليهم في أمر الله كان أدعى لغيرهم إلى الانقياد، والطاعة له.
3- ولئلا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من الرأفة والمحاباة فيحابيهم في الدعوة والتخويف، ولذلك أُمِرَ بإنذارهم خاصة، وقد أمره الله أيضًا بالنذارة العامة كما قال:{لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً(4/332)
لُدّاً}4. وقال:{لِتُنْذِرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن (4770) , ومسلم: الإيمان (208) , والترمذي: تفسير القرآن (3363) , وأحمد (1/281 ,1/307).
2 سورة التحريم آية: 6.
3 البخاري: الأدب (5971) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2548) , وأحمد (2/327 ,2/391 ,2/402).
4 سورة مريم آية: 97.(4/333)
ص -215- ... قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}1. ولا تنافي بينهما، لأن النذارة الخاصة فرد من أفراد العامة.
قوله: "يا معشر قريش" المعشر كمسكن: الجماعة .
قوله، أو كلمة نحوها. هو بنصب "كلمة" على أنه معطوف على ما قبله، أي أو قال كلمة نحو قوله: يا معشر قريش، أي: بمعناها.
قوله: "اشتروا أنفسكم". أي: بتوحيد الله، وإخلاص العباده له وعدم الإشراك به، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه زجر، فإن جميع ذلك ثمن النجاة، والخلاص من عذاب الله، لا الاعتماد على الأنساب، وترك الأسباب، فإن ذلك غير نافع عند رب الأرباب: ودفع بقوله: "{لا أغني عنكم من الله شيئا}"2. ما عساه أن يتوهم بعضم أنه يغني عنهم من الله شيئا بشفاعته، فإذا كان لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرا، ولا يدفع عن نفسه عذاب ربه لو عصاه، كما قال تعالى:{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}3. فكيف يملك لغيره نفعًا أو ضرًا، أو يدفع عنه عذاب الله؟ وأما شفاعته صلى الله عليه وسلم في بعض العصاة، فهو أمر من الله ابتداء فضلا عليه وعليهم، لا أنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء.
وفي صحيح البخاري بعد قوله: "لا أغني عنكم من الله شيئا يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا"4 فلعل المصنف اختصرها.
قوله: "يا عباس بن عبد المطلب". بنصب "ابن" ويجوز في "عباس" الرفع والنصب، وكذا القول في قوله: "ويا صفية عمة رسول الله، ويا فاطمة بنت محمد"5 صلى الله عليه وسلم.(4/334)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يس آية: 6.
2 البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (206) , والنسائي: الوصايا (3646 ,3647) , والدارمي: الرقاق (2732).
3 سورة الأنعام آية: 15.
4 البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (206) , والنسائي: الوصايا (3646 ,3647) , والدارمي: الرقاق (2732).
5 البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (204 ,206) , والنسائي: الوصايا (3644 ,3646 ,3647) , وأحمد (2/333 ,2/350 ,2/360 ,2/398 ,2/448 ,2/519) , والدارمي: الرقاق (2732).(4/335)
ص -216- ... قوله: "سليني من مالي ما شئت"1. في رواية مسلم عن عائشة. قالت "لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 2. قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، سلوني من مالي ما شئتم". فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا ينجيهم من عذاب الله، ولا يدخلهم الجنة، ولا يقربهم إلى الله، وإنما الذي يقرب إلى الله، ويدخل الجنة، وينجي من النار برحمة الله، هو طاعة الله. وأما ما يقدر عليه صلى الله عليه وسلم من أمور الدنيا فلا يبخل بها عنهم، كما قال: "سلوني من مالي ما شئتم"3 وكما قال: "ألا إن لكم رحمًا سأبلها ببلالها"4. رواه أحمد وعبد بن حميد وابن المنذر، وهو عند مسلم في حديث آخر.
فإذا صرح وهو سيد المرسلين لأقاربه المؤمنين وغيرهم، خصوصا سيدة نساء العالمين وعمه وعمته، وآمن الإنسان أنه لا يقول إلا الحق، ثم نظر إلى ما وقع في قلوب كثير من الناس من الاعتقاد فيه وفي غيره من الأنبياء والصالحين، أنهم ينفعون ويضرون ويغنون من عذاب الله حتى يقول صاحب "البردة [البوصيري]".
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم .(4/336)
تبين له التوحيد، وعرف غربة الدين: فأين هذا من قول صاحب "البردة" والبرعي وأضرابهما من المادحين له صلى الله عليه وسلم بما هو يتبرأ منه ليلا ونهارًا، ويبين اختصاصه، بالخالق تعالى وتقدس، كما قال تعالى:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}5. {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}6 تالله لقد تاهت عقول تركت كلام ربها، وكلام نبيها لوساوس صدرها، وما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (204 ,206) , والنسائي: الوصايا (3646 ,3647) , وأحمد (2/333 ,2/350 ,2/360 ,2/398 ,2/448 ,2/519) , والدارمي: الرقاق (2732).
2 مسلم: الإيمان (205) , والترمذي: الزهد (2310) وتفسير القرآن (3184) , والنسائي: الوصايا (3648) , وأحمد (6/136 ,6/187).
3 مسلم: الإيمان (205) , والترمذي: الزهد (2310) وتفسير القرآن (3184) , والنسائي: الوصايا (3648) , وأحمد (6/136 ,6/187).
4 مسلم: الإيمان (204) , والترمذي: تفسير القرآن (3185) , والنسائي: الوصايا (3644) , وأحمد (2/360).
5 سورة الأعراف آية: 188.
6 سورة آية: 32-33.(4/337)
ص -217- ... ألقاه الشيطان في نفوسها.ومن العجب أن اللعين كادهم مكيدة أدرك بها مأموله، فأظهر لهم هذا الشرك في صورة محبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، ومحبة الصالحين وتعظيمهم، ولعمر الله إن تبرئتهم من هذا التعطيم والمحبة، هو التعطيم لهم والمحبة، وهو الواجب المتعين. وأظهر لهم التوحيد والإخلاص في سورة بغض النبي صلى الله عليه وسلم وبغض الصالحين، والتنقص بهم، وما شعروا أنهم تنقصوا الخالق سبحانه وتعالى، وبخسوه حقه، وتنقصوا النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين بذلك.أما تنقّصهم للخالق تعالى، فلأنهم جعلوا المخلوق العاجز مثل الرب القادر في القدرة على النفع والضر.وأما بخسهم حقه تعالى، فلأن العبادة بجميع أنواعها حق لله تعالى، فإذا جعلوا شيئًا منها لغيره، فقد بخسوه حقه.وأما تنقصهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللصالحين، فلأنهم ظنوا أنهم راضون منهم بذلك أو أمروهم به وحاشا لله أن يرضوا بذلك أو يأمروا به، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}1 .وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم، جِدّه صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب به إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن، قاله المصنف.
وفيه دليل على الاجتهاد في الأعمال وترك البطالة والاعتماد على مجرد الانتساب إلى الأشخاص كما يفعله أهل الطيش والحمق ممن ينتسب إلى نبي أو صالح ونحو ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم إذا خاطب بنته وعمه وعمته وقرابته بهذا الخطاب كان تنبيها لذريتهم ونحوهم على ذلك، لأنه إذا كان لا يغني عن هؤلاء شيئًا، كان ذريتهم أولى أن لا يغني عنهم من الله شيئًا، وقد قال تعالى لمن اكتفى بالانتساب إلى الأنبياء عن متابعتهم:{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}2 .
وفيه أن أولى(4/338)
الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل طاعته، ومتابعته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 25.
2 سورة البقرة آية: 134.(4/339)
ص -218- ... في محياه ومماته، كما قال صلى الله عليه وسلم: "ألا إن آل أبي -يعني فلانًا- ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالحو المؤمنين"1. رواه مسلم. وروى عبد بن حميد عن الحسن. أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع أهل بيته قبل موته فقال: "ألا إن لي عملي ولكم عملكم، ألا إني لا أغني عنكم من الله شيئا، ألا إن أوليائي منكم المتقون، ألا لا أعرفنكم يوم القيامة تأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم ويأتي الناس يحملون الآخرة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأدب (5990) , ومسلم: الإيمان (215) , وأحمد (4/203).
باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، [سبأ، من الآية: 23].
ش: أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة بيان حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم مَن عبد مِن دون الله، فإذا كان هذا حالهم مع الله تعالى، وهيبتهم منه، وخشيتهم له، فكيف يدعوهم أحد من دون الله؟! وإذا كانوا لا يدعون مع الله تعالى لا استقلالا، ولا وساطة بالشفاعة، فغيرهم ممن لا يقدر على شيء من الأموات والأصنام أولى أن لا يدعى، ولا يعبد، ففيه الرد على جميع فرق المشركين الذين يدعون مع الله من لا يداني الملائكة ولا يساويهم في صفة من صفاتهم. وقد قال تعالى فيهم:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}1. فهذه حالهم وصفاتهم، وليس لهم من الربوبية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 26-29.(4/340)
ص -219- ... والإلهية شيء، بل ذلك لله وحده لا شريك له، وكذا قال في هذه الآية :{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} ، أي: زال الفزع عنها " قاله ابن عباس، وابن عمر، وأبو عبد الرحمن السلمي، والشعبي والحسن وغيرهم.والضمير عائد على ما عادت عليه الضمائر التي للغيبة في قوله: (لا يملكون)، (وفي أموالهم)، (وما له منهم). و "حتى" تدل على الغاية، وليس في الكلام ما يدل على أنه غاية له، فقال ابن عطية: في الكلام حذف يدل عليه الظاهر، كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم، بل هم عبدة مسلمون أبدًا، يعني: منقادون، حتى إذا فزع عن قلوبهم، والمراد الملائكة على ما اختاره ابن جرير وغيره.
قال ابن كثير: وهو الحق الذي لا مرية فيه، لصحة الأحاديث فيه والآثار. وقال أبو حيان: تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوله:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}، إنما هي في الملائكة، إذا سمعت الوحي إلى جبريل يأمر الله به، سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة. قال: وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى، ومَنْ لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: (الذين زعمتم) لم تتصل له هذه الآية بما قبلها.
وقال ابن كثير: هذا مقام رفيع في العظمة، وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي، فسمع أهل السماوات كلامه، أُرْعِدُوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي قاله ابن مسعود ومسروق وغيرهما.
وقوله:{قَالُوا الْحَقَّ} أي: قالوا: قال الله الحق، وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله وصعقوا ثم أفاقوا، أخذوا يتساؤلون، فيقولون:{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟} فيقولون: قال{الْحَقُّ}.(4/341)
ص -220- ... قوله:{وَهُوَ الْعَلِيُّ} أي: العالي، فهو فوق كل شيء، فهو تعالى على العرش الذي هو فوق السماوات كما قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}1 .
قال: في "الصحيح" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله. كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}2 فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض" وصفه سفيان بكفه فحرقها وبدد بين أصابعه، فيسمع الكلمة فيلقيها إلى مَنْ تحته، ثم يلقيها الآخر إلى مَنْ تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر والكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء"
ش: قوله: في "الصحيح" أي "صحيح البخاري"
قوله: إذا قضى الله الأمر في السماء. أي: إذا تكلم الله بأمره الذي قضاه في السماء مما يكون، كما روى سعيد بن منصور، وأبو داود، وابن جرير عن ابن مسعود قال: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان. وروى ابن أبي حاتم، وابن مردوية عن ابن عباس قال: "لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كُشِفَ عن قلوبهم سألوا عما قال الله، فقالوا: الحق، وعلموا أن الله لا يقول إلا حقًا" .
قوله: "ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله"3. أي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة طه آية: 5.
2 سورة سبأ آية: 23.
3 البخاري: تفسير القرآن (4701) , والترمذي: تفسير القرآن (3223) , وابن ماجه: المقدمة (194).(4/342)
ص -221- ... لقول الله تعالى؟ قال الحافظ: خضعانًا بفتحتين من الخضوع، وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه، وهو مصدر بمعنى خاضعين.
قوله: كأنه سلسلة على صفوان. أي: كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان، وهو الحجر الأملس. قال الحافظ: هو مثل قوله في بدء الوحي: صلصلة كصلصلة الجرس، وهو صوت الملك بالوحي. وقد روى ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه: "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان..."1 الحديث.
قوله: ينفذهم ذلك هو بفتح التحتيه وسكون النون وضم الفاء والذال المعجمة، ذلك، أي القول، والضمير في (ينفذهم) عائد على الملائكة. أي ينفذ الله ذلك القول إلى الملائكة، أي: يلقيه إليهم. وقيل: وهو أظهر. أي: يخلص ذلك القول، ويمضي في قلوب الملائكة حتى يفزعوا من ذلك، كما في حديث النواس وفي حديث ابن عباس عن ابن مردويه من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه: "فلا ينْزل على أهل سماء إلا صعقوا" وفي حديث ابن مسعود عند أبي داود وغيره مرفوعًا: "إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل" الحديث.
قوله:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أي: أزيل عنها الخوف والغشي. قوله:{قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} أي: قال الملائكة بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم. قوله:{قَالُوا الْحَقَّ} ، أي: قالوا: قال الله الحق، علموا أن الله لا يقول إلا حقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: السنة (4738).(4/343)
ص -222- ... قوله:"فيسمعها مسترق السمع"أي: يسمع الكلمة التي قضاها الله مسترق السمع، وهم الشياطين يركب بعضهم بعضًا، فيسمعون أصوات الملائكة بالأمر يقضيه الله، كما قال تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}، [الحجر الآيتان: 17-18].وفي "صحيح البخاري" عن عائشة مرفوعًا: "إن الملائكة تنْزل في العنان وهو السحاب، فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه، فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم"1. وظاهر هذا أنهم لا يسمعون كلام الملائكة الذين في السماء الدنيا، وإنما يسمعون كلام الملائكة الذين في السحاب.
قوله: (وصفه سفيان بكفه). أي: وصف ركوب بعضهم فوق بعض. وسفيان هو ابن عيينة أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ فقيه
إمام حجة، إلا أنه تغير حفظه بأخرة، وربما، دلس لكن عن الثقات. مات سنة ثمان وتسعين ومائة وله إحدى وتسعون سنة. قوله: فحرفها. بحاء مهملة وراء مشددة وفاء.
قوله: (وبدد). أي: فرّق بين أصابعه.
قوله: (فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته). أي: يسمع المسترق الفوقاني الكلمة من الوحي، فيلقيها إلى الشيطان الذي تحته، ثم يلقيها الآخر مَنْ تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر والكاهن، وحينئذ يقع الرجم.
قوله: (فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها). الشهاب: هو النجم الذي يرمى به. أي: ربما أدرك المسترق الشهاب إذا رمي به قبل أن يلقي الكلمة إلى من تحته، وربما ألقاها المسترق قبل أن يدركه الشهاب، وهذا يدل على أن الرجم بالنجوم كان قبل المبعث، كما روى أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في نفر من أصحابه فرمي بنجم فاستنار، فقال(4/344)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأحكام (7144) , ومسلم: الإمارة (1839) , والترمذي: الجهاد (1707) , وأبو داود: الجهاد (2626) , وابن ماجه: الجهاد (2864) , وأحمد (2/17 ,2/142).(4/345)
ص -223- ... ما كنتم تقولون إذا كان هذا في الجاهلية قالوا: كنا نقول: يولد عظيم، أو يموت عظيم، قال فإنها لا يرمى بها لموت أحد، ولا لحياته، ولكن ربنا إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يحرفونه ويزيدون فيه" قال معمر: قلت للزهري: "أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال نعم. قال أرأيت: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً}، [الجن:9].
قال: غلظت، وشدد أمرها حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه الرد على المنجمين الذين ينسبون الخير والشر والإعطاء والمنع إلى الكواكب بحسب السعود منها والنحوس، وعلى حسب كونها في البروج الموافقة، أو المنافرة، ونحو ذلك لما في الرمي بها من الدلالة على تسخيرها لما خلقت له، كما قال تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}1 .
قوله: فيكذب معها مائة كذبة، أي: يكذب الكاهن أو الساحر مع الكلمة التي ألقاها إليه وليّه من الشياطين مائة كذبة، بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة، أو يكذب الشيطان مع الكلمة التي استرقها مائة كذبة، ويخبر بالجميع وليّه من الإنس، فما جاؤوا به على وجهه فهو صدق، وما خلط فيه فهو كذب، ومع هذا فيفتتن الإنس بالإنس الساحر والكاهن، ويفتتنان بولّيهما من الشياطين، ويقبلون ما جاؤوا به من الصدق والكذب، لكونهم قد(4/346)
يصدقون فيما يأتون به من خبر السماء.
قوله: فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا كذا؟ هكذا بيض المصنف في هذا الموضع، ولفظ الحديث في "الصحيح" فيقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 54.(4/347)
ص -224- ... "أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا هكذا"1. والمعنى أن الذين يأتون الكهان يصدقونهم في كذبهم، ويستدلون على ذلك بكونهم يصدقون بعض الأحيان فيما سمعوه من الوحي، ويذكرون أنه أخبرهم بشيء مرة فوجدوه حقًا، وتلك الكلمة من الحق كما في "الصحيح" عن عائشة قلت: "يا رسول الله: إن الكهان كانوا يحدثونا بالشيء فنجده حقا، قال: "تلك الكلمة الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه، ويزيد فيها مائة كذبة"2 وفيه قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة، ولا يعتبرون بمائة كذبة؟! ذكره المصنف. وفيه أن الشيء إذا كان فيه نوع من الحق لا يدل على أنه حق كله، بل لا يدل على إباحته كما في الكهانة والسحر والتنجيم.
قوله: فيصدق بتلك الكمة التي سمعت من السماء. أي: يستدلون على صدقها.
قال: وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة أو قال: رعدة شديدة خوفا من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخرّوا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء يسأله ملائكته: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال: الحق وهو العلي الكبير قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل" .
ش قوله: عن النواس بن سمعان بكسر السين، أي: ابن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: العلم (1017) , والترمذي: العلم (2675) , والنسائي: الزكاة (2554) , وابن ماجه: المقدمة (203) , وأحمد (4/357) , والدارمي: المقدمة (512 ,514).
2 مسلم: الجهاد والسير (1731) , وأبو داود: الجهاد (2612) , وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352 ,5/358).(4/348)
ص -225- ... خالد الكلابي، ويقال: الأنصاري، صحابي، ويقال: إن أباه صحابي أيضًا. قال أبو حاتم الرازي: سكن الشام.
قوله: "ذا أراد الله أن يوحي بالأمر" إلخ هذا والله أعلم في جميع الأمور التي يقضيها الرب تبارك وتعالى، كما يدل عليه عموم اللفظ، ويدل على ذلك أيضًا حديث أبي هريرة الذي تقدم وغيره من الأحاديث المتقدمة.
قوله:"أخذت السماوات منه رجفة" هو برفع "رجفة" على أنه فاعل، أي: أصاب السماوات منه رجفة، أي: ارتجفت، كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: إذا قضى الله أمرًا تكلم وتبارك وتعالى، رجفت السماوات والأرض والجبال، وخرت الملائكة كلهم سجدًا.
قوله:"أو قال: رعدة شديدة".يعني أن الراوي شك، هل قال النبي صلى الله عليه وسلم: رجفة، أو قال: رعدة، وهو بفتح الراء بمعنى الأول.
قوله:"خوفا من الله عز وجل".لا ينكر أن السماوات والأرض ترجف وترتعد خوفا من الله عز وجل فقد قال تعالى:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}1. وقال تعالى:{فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}2. وقال تعالى:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً}3. قال تعالى:{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}4.
وفي "البخاري" عن أبي مسعود قال: "كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل" وفي حديث أبي ذر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات، فسمع لهن تسبيح كخنين النحل، وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان" وهو حديث مشهور في(4/349)
"المسانيد".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية: 44.
2 سورة فصلت آية: 11.
3 سورة مريم آية: 90.
4 سورة البقرة آية: 74.(4/350)
ص -226- ... وكذلك في "الصحيح" قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل اتخاذ المنبر، ومثل هذا كثير.
قوله:"صعقوا وخروا لله سجدا"،أي: يقع منهم الأمران: الصعق - وهو الغشي- والسجود، والله أعلم أيهما قبل الآخر، فإن الواو لا تقتضي ترتيبًا.
قوله:"فيكون أول مَنْ يرفع رأسه جبريل"معنى جبريل:عبد الله كما روى ابن جرير، وأبو الشيخ الأصبهاني عن على بن حسين قال: اسم جبريل عبد الله، واسم ميكائيل عبيد الله، وإسرافيل عبد الرحمن، وكل شيء راجع إلى إيل فهو معبد لله عز وجل.
وفيه دليل على فضيلة جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}، [التكوير: 19-21]. قال أبو صالح [باذم] في قوله: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}. قال: جبريل يدخل في سبعين حجابًا من نور بغير إذن.
وقد ورد في صفة جبريل أحاديث صحيحة، منها: ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم"1 .
قوله: "ثم يمر جبريل على الملائكة..." إلى آخره. معناه ظاهر، فإذا كان هذا حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم مِمَّن عُبِدَ من دون الله، وشدة خشيتهم من الله، وهيبتم له مع ما أعطاهم الله من القوة العظيمة التي لا يعلمها إلا الله، ومع هذا فقد نفى عنهم الشفاعة بغير إذنه كما قال:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}2. وأخبر أنهم لا يملكون كشف الضر عمن دعاهم ولا تحويله. فقال:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً}3. وفي ضمن ذلك(4/351)
النهي عن دعائهم وعبادتهم الشفاعة وغيرها، كما قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (174) , والترمذي: تفسير القرآن (3277) , وأحمد (1/395).
2 سورة النجم آية: 26.
3 سورة الإسراء آية: 56.(4/352)
ص -227- ... تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}1. فكيف يدعوهم المشرك ويظن أنهم يشفعون له عند الله كما يشفع الوزراء عند الملوك، وإذا بطلت دعوتهم مع أنهم أحياء ناطقون مقرَبُّون عند الله، فدعاء غيرهم من الأموات الذين لا يستطيعون سمعًا ولا يملكون ضرًا ولا نفعًا أولى بالبطلان.{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}2. وقال:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُون}3.
قوله:"ثم ينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل".قد بيض المصنف رحمه الله بعد هذا، ولعله أراد أن يكتب تمام الحديث ومن رواه. وتمامه: إلى حيث أمره الله عز وجل من السماء والأرض. ورواه ابن جرير وابن خزيمة [في التّوحيد 206]، وابن أبي حاتم والطبراني، وفي الحديث من الفوائد إثبات الكلام خلافًا للجهمية، وإثبات الصوت خلافًا لهم وللأشاعرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزّمر آية: 43-44.
2 سورة الأعراف آية: 194.
3 سورة النّحل آية: 20-22.(4/353)
[11- باب الشفاعة]
لما كان المشركون في قديم الزمان وحديثه إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم بأذيال الشفاعة، كما قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}1. وقال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}2. وكذلك قطع الله أطماع المشركين منها، وأخبر أنه شرك، ونزه نفسه عنه، ونفى أن يكون الخلق من دونه ولي أو شفيع، كما قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية: 18.
2 سورة الزمر آية: 3.(4/354)
ص -228- ... تَتَذَكَّرُونَ}1. أراد المصنف في هذا الباب إقامة الحجج على أن ذلك هو عين الشرك وأن الشفاعة التي يظنها مَنْ دعا غير الله ليشفع له كما يشفع الوزير عند الملك منتفية دنيا وأخرى، وإنما الله هو الذي يأذن للشافع ابتداء، لا يشفع ابتداء كما يظنه أعداء الله. فإن قلت: إذا كان من اتخذ شفيعا عند الله، إنما قصده تعظيم الرب تعالى وتقدس أن يتوصل إليه إلا بالشفعاء، فلم كان هذا القدر شركًا؟!
قيل: قصده للتعظيم لا يدل على أن ذلك تعظيم لله تعالى، فكم من يقصد التعظيم لشخص ينقصة بتعظيمه، ولهذا قيل في المثل المشهور: يضر الصديق الجاهل ما لا يضر العدو العاقل. فإن اتخاذ الشفعاء والأنداد من دون الله هضم لحق الربوبية، وتنقص للعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، كما قال تعالى:{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}2 فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحدوه حق توحيده، ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره وكيف يقدره حق قدره من اتخذ من دونه ندًا، أو شفيعًا يحبه ويخافه ويرجوه، ويذل له، ويخضع له ويهرب من سخطه ويؤثر مرضاته ويدعوه ويذبح له وينذر، وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم، وعرفوا وهم في النار أنها كانت باطلا وضلالاً، فيقولون وهم في النار:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}3. ومعلوم، أنهم ما ساووهم به في الذات والصفات والأفعال، ولا قالوا: إن آلهتكم خلقت السماوات والأرض وإنها تحيي وتميت، وإنما ساووهم به في المحبة والتعظيم والعبادة، كما ترى عليه أهل الإشراك ممن ينتسب إلى الإسلام،(4/355)
وإنما كان ذلك هضمًا لحق الربوبية، وتنقصًا لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، لأن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة السجدة آية: 4.
2 سورة الفتح آية: 6.
3 سورة الشّعراء آية: 97-98.(4/356)
ص -229- ... المتخذ للشفعاء والأنداد، إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى مَنْ يدبّر أمر العالم معه من وزير أو ظهير أو معين، وهذا أعظم التنقص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته، وإما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشفيع، وإما أن يظن أنه لا يعلم حتى يعلمه الشفيع، أو لا يرحم حتى يجعله الشفيع يرحم، أو لا يكفي وحده، أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده كما يشفع عند المخلوق، أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الشفيع أن يرفع حاجتهم إليه، كما هو حال ملوك الدنيا. وهذا أصل شرك الخلق، أو يظن أنه لا يسمع حتى يرفع الشفيع إليه ذلك، أو يظن أن للشفيع عليه حقًا، فهو يقسم عليه بحقه، ويتوسل إليه بذلك الشفيع، كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم، ولا تمكنهم مخالفته، وكل هذا تنقص للربوبية، وهضم لحقها. ذكر معناه ابن القيم.فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك شرك، ونزه نفسه عنه فقال:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}1.
فإن قلت: إنما حكم سبحانه وتعالى بالشرك على من عبد الشفعاء، أما من دعاهم للشفاعة فقط، فهو لم يعبدهم، فلا يكون ذلك شركًا.
قيل: مجرد اتخاذ الشفعاء ملزوم للشرك، والشرك، لازم له كما أن الشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه وتعالى، والتنقص لازم له ضرورة، شاء المشرك أم أبى، وعلى هذا فالسؤال باطل من أصله لا وجود له في الخارج، وإنما هو شيء قدره المشركون في أذهانهم، فإن الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، فإذا دعاهم للشفاعة، فقد عبدهم وأشرك في عبادة الله شاء أم أبى.
قال: وقول الله عز وجل:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ(4/357)
يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ}2 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية: 18.
2 سورة الأنعام آية: 51.(4/358)
ص -230- ... ش: الإنذار: هو الإعلام بموضع المخافة- وقوله: "به"، قال ابن عباس بالقرآن وقوله:{الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ}1، أي أنذر يا محمد بالقرآن الذين هم من خشية ربهم مشفقون. الذين يخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب، وهم المؤمنون، كما روي ذلك عن ابن عباس والسدي وعن "الفضيل بن عياض: ليس كل خلقه عاتب، إنما عاتب الذين يعقلون فقال:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ}، أي: وهم المؤمنون أصحاب القلوب الواعية، فإنهم المقصودون، والمنظور إليهم لا أصحاب التجمل والسيادة،فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"
وقوله:{لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ}2. قال الزجاج: موضع "ليس" نصب على الحال كأنه قال: متخلين من ولي وشفيع، والعامل فيه "يخافون". وقال ابن كثير: ليس لهم من دونه يومئذ ولي ولا شفيع من عذابه إن أرادهم به لعلهم يتقون، فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به من عذابه يوم القيامة. قلت: فنفى سبحانه وتعالى عن المؤمنين أن يكون لهم ولي أو شفيع من دون الله كما هو دين المشركين، فمن اتخذ من دون الله شفيعا، فليس من المؤمنين، ولا تحصل له الشفاعة.وليس في الآية دليل على نفي الشفاعة لأهل الكبائر بإذن الله كما ادعته المعتزلة، بل فيها دليل على نفي اتخاذ الشفعاء من المؤمنين، وعلى نفيها بغير إذن الله، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع كما قال:{مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}3.
قال وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}، [الزّمر، من الآية: 44].
ش: هكذا أوردها المصنف، ونتكلم عليها وعلى الآية التي قبلها ليتضح المعنى. قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً(4/359)
وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 51.
2 سورة الأنعام آية: 51.
3 سورة يونس آية: 3.(4/360)
ص -231- ... جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، [الزّمر: 43-44].فقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا}، أي: بل اتخذوا، أي: المشركون. والهمزة للإنكار من دون الله شفعاء، أي: أتشفع لهم عند الله بزعمهم كما قال:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}1.
وقال:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}2. فكذبهم وكفرهم بذلك وقال تعالى:{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}3. فهذا هو مقصود المشركين ممن عبدوهم وهو الشفاعة لهم عند الله.
قوله: من دون الله. أي: من دون إذنه وأمره. والحال أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأن يكون المشفوع له مرتضى، وههنا الشرطان مفقودان، فإن الله سبحانه لم يجعل اتخاذ الشفعاء ودعاءهم من دونه سببًا لإذنه ورضاه، بل ذلك سبب لمنعه وغضبه.
قوله:{قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ}4. أي: أيشفعون ولو كانوا على هذه الصفة كما تشاهدونهم جمادات لا تقدر ولا تعلم، أو أموات كذلك، حتى ولا يملكون الشفاعة كما قال:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}، أي: هو مالكها كلها فليس لمن تدعونهم منها شيء، قال البيضاوي: لعله رد لما عسى يجيبون به وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون، هي تماثيلهم. والمعنى: أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه، ولا يستقل بها.
وقوله:{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}. تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه بأنه مالك الملك كله،(4/361)
لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه، فاندرج في ذلك ملك الشفاعة، فإذا كان هو مالكها بطل اتخاذ الشفعاء من دونه كائنًا من كان.
وقوله:{ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية: 18.
2 سورة الزمر آية: 3.
3 سورة الأحقاف آية: 28.
4 سورة الزمر آية: 43.(4/362)
ص -232- ... فتعلمون أنهم لا يشفعون، ويخيب سعيكم في عبادتهم، بل، يكونون عليكم ضدًا ويتبرؤون من عبادتكم كما قال تعالى:{كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}1،وقال تعالى:{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ}2.
قال: وقوله:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}3 .
في هذه الآية رد على المشركين الذين اتخذوا الشفعاء من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام المصورة على صور الصالحين وغيرهم، وظنوا أنهم يشفعون عنده بغير إذنه فأنكر ذلك عليهم، وبين عظيم ملكوته وكبريائه وأن أحدا لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام كقوله: {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ}، [النبأ، من الآية: 38].
وقوله:{يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود]. قال ابن جرير في هذه الآية: نزلت لما قال الكفار: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى فقال الله تعالى:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء بالشفاعة، وهم الأنبياء والعلماء وغيرهم، والإذن راجع إلى الأمر فيما نص عليه كمحمد صلى الله عليه وسلم إذا قيل له: اشفع تشفع، وكذلك قاله غير واحد من المفسرين.
[بيان أنه لا شفاعة إلا بإذن الله]
قال: وقوله:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}4
ش: قال أبو حيان: "كم" خبرية ومعناها: التكثير، وهي في موضع رفع بالابتداء والخبر. "لا(4/363)
تغني" والغناء جلب النفع، ودفع الضرر بحسب الأمر الذي يكون فيه الغناء. و"كم": لفظها مفرد، ومعناها جمع. وإذا كانت الملائكة المقربون{لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة مريم آية: 82.
2 سورة يونس آية: 28-29.
3 سورة البقرة آية: 255.
4 سورة النجم آية: 26.(4/364)
ص -233- ... إلا بعد إذن الله ورضاه أن يرضاه أهلا للشفاعة، فكيف تشفع الأصنام لمن عبدها؟ قلت: في هذه الآيات من الرد على مَنْ عَبَدَ الملائكة والصالحين لشفاعة أو غيرها ما لا يخفى، لأنهم إذا كانوا لا يشفعون إلا بإذن من الله ابتداء، فلأي معنى يُدعَون ويُعْبَدُون؟ وأيضًا فإن الله لا يأذن إلا لمن ارتضى.
قوله: (وعمله)، وهو الموحد لا المشرك. كما قال:{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً}1 والله لا يرتضي إلا التوحيد كما قال:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}2.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه"3. فلم يقل: أسعد الناس بشفاعتي مَنْ دعاني.
فإن قال المشرك: أنا أعلم أنهم لا يشفعون إلا بإذنه لكن أدعوهم ليأذن الله لهم في الشفاعة لي. قيل: فإن الله لم يجعل الشرك به ودعاء غيره سببًا لإذنه ورضاه، بل ذلك سبب لغضبه، ولهذا نهى عن دعاء غيره في غير آية كقوله:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ}4.
فتبين أن دعاء الصالحين من الملائكة والأنبياء وغيرهم شرك كما كان المشركون الأولون "يدعونهم ليشفعوا لهم عند الله، فأنكر الله عليهم ذلك، وأخبر أنه لا يرضاه، ولا يأمر به كما قال تعالى:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}5. وقال تعالى:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}6. قال ابن كثير: تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدنيا: فنقول(4/365)
الملائكة:{تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}.وقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}7
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة طه آية: 109.
2 سورة آل عمران آية: 85.
3 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373).
4 سورة يونس آية: 106.
5 سورة آل عمران آية: 80.
6 سورة البقرة آية: 166.
7 سورة المائدة آية: 116.(4/366)
ص -234- ... وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً}1.
روى سعيد بن منصور والبخاري والنسائي وابن جرير عن ابن مسعود في الآية: "كان نفر من الإنس يعبدون نفرًا من الجن فأسلم نفر من الجن وتمسك الإنسيون بعبادتهم فأنزل الله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}" كلاهما بالياء.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن "ابن عباس في الآية لما كان أهل الشرك يعبدون الملائكة والمسيح وعزيرًا. وفي رواية عنه عندهما في قوله:{فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ} قال عيسى وأمه وعزير.وقال تعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}2 إلى قوله:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}3 قال ابن إسحاق: لما ذكر قصة ابن الزبعري ومخاصمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية قال: وأنزل الله:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ...}4 الآيتين، أي: عيسى وعزير ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على أمر الله، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابًا من دون الله. وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ}5 الآيات.
وروى ابن أبي حاتم عن الزهري قال: "نزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من السب والشتم والشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما نال أصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالتهم، فكان يتمنى هداهم، فلما أنزل الله(4/367)
سورة النجم قال:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم] ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الطواغيت فقال: تلك الغرانيق العلا، وإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية: 56.
2 سورة الأنبياء آية: 98.
3 سورة الأنبياء آية: 101.
4 سورة الأنبياء آية: 101.
5 سورة الحج آية: 52.(4/368)
ص -235- ... شفاعتهن لترتجى، وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وذلت بها ألسنتهم، وتباشروا بها وقالوا: إن محمدًا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم، سجد، وسجد كل من حضر من مسلم ومشرك، ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة فأنزل الله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ...} الآيات. فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بعداوتهم وضلالتهم للمسلمين، واشتدوا عليه ". وهي قصة مشهورة صحيحة رويت عن ابن عباس من طرق بعضها صحيح. ورويت عن جماعة من التابعين بأسانيد صحيحة منهم عروة وسعيد بن جبير وأبو العالية وأبو بكر بن عبد الرحمن وعكرمة، والضحاك وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس والسدي وغيرهم. وذكرها أيضًا أهل السير وغيرها وأصلها في "الصحيحين" .
والمقصود منها قوله: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى. فإن الغرانيق هي الملائكة على قول، وعلى آخر هي الأصنام ولا تنافي بينهما، فإن المقصود بعبادتهما الأصنام الملائكة والصالحين كما تقدم عن البيضاوي. فلما سمع المشركون هذا الكلام المقتضي لجواز عبادة الملائكة رجاء شفاعتهم عند الله ظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، فرضوا عنه وسجدوا معه، وحكموا بأنه قد وافقهم على دينهم من دعاء الملائكة والأصنام للشفاعة حتى طارت الكلمة كل مطار، وبلغ المهاجرين إلى الحبشة أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفت أن الفارق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هي مسألة الشفاعة، لأنم يقولون: نريد من الملائكة(4/369)
ص -236- ... والأصنام المصورة على صورهم بزعمهم أن يشفعوا لنا عند الله، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أتاهم بإبطال ذلك، والنهي عنه، وتكفير من دان به وتضليلهم وتسفيه عقولهم ولم يرخص لهم في سؤال الشفاعة من الملائكة، ولا من الأنبياء ولا الأصنام، بل أتاهم بقوله تعالى:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}. وقوله:{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}1. وهذا كثير جدًا لمن تتبعه.
والمقصود أن المشركين الأولين يدعون الملائكة والصالحين ليشفعوا لهم عند الله، كما تشهد به نصوص القرآن، وكتب التفسير والسير، والآثار طافحة بذلك، ويكفي العاقل المنصف قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}2.
قال: وقوله:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ...}3 .
ش: هذه الآية هي التي قال فيها بعض العلماء: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها. قال ابن القيم في الكلام عليها: وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها قطعًا، يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليًا، فمثله{كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت]، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن يكون فيه خصالا من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له، كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن(4/370)
معينًا ولا ظهيرًا، كان شفيعًا عنده، فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة التي، قال: فهو الذي يأذن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 23-24.
2 سورة آية: 40-41.
3 سورة سبأ آية: 22.(4/371)
ص -237- ... للشافع، وإن لم يأذن له لم يتقدم في الشفاعة بين يديه كما يكون في حق المخلوقين، فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له، فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها، وأما كل ما سواه فقير إليه بذاته وهو الغني بذاته عن كل ما سواه، فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه؟!
فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا ونجاة وتجريدًا للتوحيد، وقطعًا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها. والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنه في نوع، وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثًا، وهذا الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم وشر منهم ودونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية". وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما دعا به القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه الجاهلية، أو نظيره أو شر منه أو دونه، فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانًا، فالله المستعان.
وقال الله تعالى حاكيًا عن أسلاف هؤلاء المشركين:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}1. فهذه حال من اتخذ من دون الله وليًا يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى، وما أعز من يخلص من هذا بل ما أعز من يعادي من أنكره. والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند(4/372)
الله، وهذا عين الشرك، وقد أنكره الله عليهم في كتابه، وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 3.(4/373)
ص -238- ... لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن الله تعالى أن يشفع له فيه، ورضي قوله وعملة. وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، فإنه سبحانه وتعالى يأذن في الشفاعة فيهم لمن يشاء، حيث لم يتخذوهم شفعاء من دونه، فيكون أسعد الناس بشفاعته من يأذن الله تعالى له، صاحب التوحيد الذي لم يتخذ شفيعا من دون الله. والشفاعة التي أثبتها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحده، والتي نفاها الله تعالى هي الشفاعة الشركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله شفعاء، فيعاملون بنقيض مقصودهم من شفاعتهم، ويفوز بها الموحدون. انتهى.
ولكن تأمل الآية كيف أمرهم تعالى بدعاء الملائكة أمر تعجيز، والمراد بيان أنهم لا يملكون شيئا، فلا يدعون لا لشفاعة ولا غيرها، ثم أخبر أنهم هم الذين اتخذوهم بزعمهم شفعاء فنسبه إلى زعمهم وإفكهم الذي ابتدعوه من غير برهان ولا حجة من الله وهذه الآية نزلت في دعوة الملائكة، ودخول غيرهم فيها من باب أولى، كما روى ابن أبي حاتم عن السدي في قوله:{وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}. يقول: من عون الملائكة. وكما يدل عليه قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}. كما تقدم.
فإذا كان اتخاذ الملائكة شفعاء من دون الله شركًا، فكيف باتخاذ الأموات كما يفعله عباد القبور؟ أم كيف باتخاذ الفجار والفساق إخوان الشياطين من المجاذيب الذين جذبهم إبليس إلى جانبه وطاعته شفعاء؟ وأعظم من ذلك اعتقاد الربوبية في هؤلاء الملاعين مع ما يشاهده الناس منهم من الفجور، وأنواع الفسوق، وترك الصلوات، وفعل المنكرات، والمشي في الأسواق عراة.
كما قال بعض المتأخرين:
كقوم عراة في ذرى مصر ما يرى ... على عورة منهم هناك ثياب .
يدورون فيها كاشفين لعورة ... تواتر هذا لا يقال كذاب.
يعدونهم في مصرهم فضلاءهم ... دعاؤهم فيما يرون مجاب(4/374)
ومن العجب أنهم لم يأتوا بشيء يدل على كون هؤلاء الشياطين(4/375)
ص -239- ... من جملة المسلمين، فضلا عن كونهم أولياء، فضلاً عن كونهم يدعون ويستغاث بهم إلا بشيء من المخاريق والسحر والشعبذة، يدعون أن لهم كرامات، وأنهم أولياء لما يظهرونه من المخاريق.
وأعلم أن الضلال والكفر إنما استولى على أكثر المتأخرين بسبب نبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإحسان الظن بمن سحرهم، ودعا إلى نفسه، واقتصارهم على القوانين والدعاوي والأوضاع التي وضعوها لأنفسهم، وإلا فلو قرؤوا كتاب الله، وعلموا بما فيه، ورجعوا عند الاختلاف إليه لوجدوا فيه الهدى والشفاء والنور، ولكن نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلا فبئس ما يشترون وتقدم الكلام على بقية الآية.
قال المؤلف: قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون ، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عونًا لله، ولم يبق إلا الشفاعة. فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}. فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له. ارفع رأسك، وقل يسمع، واسأل تعط واشفع تشفع. وقال له أبو هريرة: "من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه "1. فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ولا تكون لمن أشرك، بالله وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، وينال المقام المحمود فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373).(4/376)
ص -240- ... ش: قوله: قال أبو العباس. هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، الإمام المشهور، صاحب "المصنفات" شهرته وإمامته في علوم الإسلام وتفننه تغني عن الإطناب في وصفه. قال الذهبي: لم يأت قبلة بخمس مائة سنة مثله، وفي رواية: بأربع مائة وقال أيضًا: لو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني لم أر مثله. وما رأي بعينيه مثل نفسه رحمه الله. وقال ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما يشاء، ويدع ما يشاء. وبالجملة فما أتى بعد عصر الإمام أحمد له نظير، وكانت وفاته سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
قوله: نفي الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، أي: أن الله تعالى نفى في الآية المذكورة قبل ما يتعلق به المشركون من الاعتقاد في غير الله من الملك والشركة فيه والمعاونة والشفاعة، فهذه الأمور الأربعة هي التي يتعلق بها المشركون.
قوله: فنفى أن يكون لغيره ملك، وذلك في قوله تعالى:{لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ}1. ومن لا يملك هذا المقدار فليس بأهل أن يدعى
قوله: أو قسط منه. أي من الملك، والقسط- بكسر القاف- هو النصيب من الشيء، وذلك في قوله:{وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ}. أي: ما لمن تدعون من الملائكة وغيرهم فيها، أي: في السماوات والأرض من شرك ومن ليس بمالك ولا شريك للمالك فكيف يدعي من دون الله؟!
قوله: أو أن يكون عونًا لله، وذلك في قوله:{وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} أي ما لله ممن تدعونهم عون.
قوله: ولم يبق إلا الشفاعة، فتبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب. إلخ. جملة الشروط التي لا بد وأن يكون أحدها في المدعو، أربعة حتى يقدر على إجابة من دعاه:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة سبأ آية: 22.(4/377)
ص -241- ... الأول: الملك، فنفاه بقوله: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ}1 .
الثاني: إذا لم يكن مالكا فيكون شريكا للمالك،. فنفاه بقوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ}.
الثالث: إذا لم يكن مالكا ولا شريكا للمالك فيكون عونا ووزيرًا فنفاه بقوله: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}
الرابع: إذا لم يكن مالكا ولا شريكا ولا عونًا فيكون شفيعا، فنفى سبحانه وتعالى الشفاعة عنده إلا بإذنه، فهو الذي يأذن للشافع ابتداء فيشفع، فبنفي هذه الأمور بطلت دعوة غير الله، إذ ليس عند غيره من النفع والضر ما يوجب قصده بشيء من العبادة. كما قال تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً}2.
وقال تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ}3. وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً}4 .
قوله: فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن. يعني أن الشفاعة التي يطلبها المشركون من الشفعاء والأنداد من دون الله منتفية دنيا وأخرى، كما قال تعالى عن مؤمن يس:{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}5. وقال تعالى عن مؤمن آل فرعون:{لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ}6. وقال تعالى:{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ(4/378)
ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}7. وقال تعالى:{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة سبأ آية: 22.
2 سورة الفرقان آية: 3.
3 سورة آية: 74-75.
4 سورة الفرقان آية: 55.
5 سورة آية: 23-24.
6 سورة غافر آية: 43.
7 سورة الأحقاف آية: 28.(4/379)
ص -242- ... يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}1. وقال تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}2. وقال تعالى:{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}3. فهذه حال كل من دعي من دون الله لشفاعة أو غيرها في الدنيا والآخرة
قوله: وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولاً. إلى آخره. هذا ثابت في "الصحيحين" وغيرهما من حديث أنس وغيره عنه صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال: "فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين حتى أستأذن على ربي، فإذا رأيته وقعت له، أو خررت ساجدا لربي، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم قال: ارفع محمد، قل يسمع واشفع تشفع، وسل تعطه، فأرفع رأسي فأحمد بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه الثانية، فإذا رأيت ربي وقعت له، أو خررت ساجدًا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد، قل يسمع، وسل فتعطه. واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم اشفع فيحد لي حدًا، فأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة، فإذا رأيت ربي وقعت له، أو خررت ساجدًا لربي، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلّمنيه، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة، ثم أعود الرابعة فأقول: يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن" الحديث، فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يشفع إلا بعد الإذن في الشفاعة(4/380)
وفي المشفوع فيهم، كما قال: "فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة"4 .
[أنواع الشفاعة التي تكون للرسول صلى الله عليه وسلم في القيامة]
قوله: وقال أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك إلى آخره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية: 101.
2 سورة الأنعام آية: 94.
3 سورة القصص آية: 64.
4 البخاري: تفسير القرآن (4476) , ومسلم: الإيمان (193) , وابن ماجه: الزهد (4312) , وأحمد (3/116 ,3/244 ,3/247).(4/381)
ص -243- ... هذا الحديث رواه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة فقال: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قبل نفسه"1. وفي رواية: "خالصًا مخلصًا من قلبه أو نفسه "2 رواه أحمد من طريق آخر، وصححه ابن حبان، وفيه: "وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا، يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه"3 .
قال شيخ الإسلام: فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصًا. وقال في الحديث الصحيح: "من سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة"4. ولم يقل: كان أسعد الناس بشفاعتي، فعلم أن ما يحصل للعبد بالتوحيد والإخلاص من شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها ما لا يحصل بغيره من الأعمال، وإن كان صالحا لسؤال الوسيلة للرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بما لم يأمر به من الأعمال، بل نهى عنه، فذلك لا يُنال به خيرٌ لا في الدنيا ولا في الآخرة، مثل غلو النصارى في المسيح، فإنه يضرهم ولا ينفعهم، ونظير هذا في "الصحيح" عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئًا"5. وكذلك في أحاديث الشفاعة كلها إنما يشفع في أهل التوحيد، فبحسب توحيد العبد لربه، وإخلاصه دينه لله تعالى يستحق كرامة الله بالشفاعة وغيرها.
وقال ابن القيم ما معناه: تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين من أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء، وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع. ومن جهل(4/382)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الرقاق (6570) , وأحمد (2/373).
2 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373).
3 أحمد (2/307).
4 مسلم: الصلاة (384) , والترمذي: المناقب (3614) , والنسائي: الأذان (678) , وأبو داود: الصلاة (523) , وأحمد (2/168).
5 البخاري: الدعوات (6304) والتوحيد (7474) , ومسلم: الإيمان (199) , والترمذي: الدعوات (3602) , وابن ماجه: الزهد (4307) , وأحمد (2/275 ,2/313 ,2/381 ,2/396 ,2/409 ,2/426 ,2/430 ,2/486) , ومالك: النداء للصلاة (492) , والدارمي: الرقاق (2805).(4/383)
ص -244- ... المشرك اعتقاده أن من اتخذه وليا أو شفيعًا أنه يشفع له، وينفعه عند الله، كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم، ولم يعلموا أن الله لا يشفع عند أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا من رضي قوله وعمله، قال تعالى في الفصل الأول:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}1.
وفي الفصل الثاني:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}2.
وبقي فصل ثالث وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فهذه ثلاثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها. انتهى ملخصًا.
وقال الحافظ: المراد بهذه الشفاعة، المسؤول عنها هنا بعض أنواع الشفاعة، وهي التي يقول صلى الله عليه وسلم: "أمتي أمتي"، فيقال له: أخرج من النار من كان في قلبه وزن كذا من الإيمان. فأسعد الناس بهذه الشفاعة من يكون إيمانه أكمل ممن دونه. وأما الشفاعة العظمى فالإراحة من كرب الموقف. فأسعد الناس بها من يسبق إلى الجنة، وهم الذين يدخلونها بغير حساب، ثم الذين يلونهم وهو من يدخلها بغير عذاب بعد أن يحاسب. ويستحق العذاب، ثم من يصيبه لفح من النار ولا يسقط.
واعلم أن شفاعته صلى الله عليه وسلم في القيامة ستة أنواع كما ذكره ابن القيم:
الأول: الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها. أولو العزم عليهم الصلاة والسلام حتى تنتهي إليه فيقول: "أنا لها". وذلك حين يرغب الخلائق إلى الأنبياء ليشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف. وهذه شفاعة يختص بها، لا يشركه فيها أحد.
الثاني: شفاعته لأهل الجنة في دخولها. وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه.
الثالث: شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار، فيشفع لهم أن لا يدخلوها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 255.
2 سورة الأنبياء آية: 28.(4/384)
ص -245- ... الرابع: شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين دخلوا النار بذنوبهم، والأحاديث بها متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة، وبدعوا من أنكرها، وصاحوا به من كل جانب، ونادوا عليه بالضلال.
الخامس: شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفع درجتهم، وهذه مما لم ينازع فيها أحد.
السادس: شفاعته في بعض الكفار من أهل النار حتى يخفف عذابه، وهذه خاصة بأبي طالب وحده.
قوله: وحقيقته. أي: حقيقة الأمر، أي: أمر الشفاعة أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه، وينال المقام المحمود. فهذا هو حقيقة الشفاعة، لا كما يظن المشركون والجهال أن الشفاعة هي كون الشفيع يشفع ابتداء فيمن شاء، فيدخله الجنة وينجيه من النار. ولهذا يسألونها من الأموات وغيرهم إذا زاروهم وذلك أنهم قالوا: إن الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله لا تزال تأتيه الألطاف من الله، وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به، وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له. قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره. وكل ما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به، وشفاعته له.
قال ابن القيم: وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور. وبهذا(4/385)
ص -246- ... السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذ أعياد، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد الرسول صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقه، وناقضوه في قصده وكان صلى الله عليه وسلم في شق وهؤلاء في شق. وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله. قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله، وتوجه بهمته إليه، وعكف بقلبه عليه، صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به، فما يحصل لذلك السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق بحسب تعلقه به. فهذا سر عبادة الأصنام وهو الذي بعث الله رسله، وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه، ولعنهم، وأباح دماءهم، وأموالهم، وسبى ذراريهم، وأوجب لهم النار، والقرآن من أوله إلى آخره، مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم. انتهى.
قوله: (وينال المقام المحمود)، أي: المقام الذي يحمده فيه الخلائق
كلهم وخالقهم تبارك وتعالى: قال ابن جرير: قال أكثر أهل التأويل: ذلك المقام، الذي يقومه صلى الله عليه وسلم الشفاعة للناس ليريحهم ربهم مما هم فيه من شدة ذلك اليوم.
وقال "ابن عباس: المقام المحمود مقام الشفاعة". وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال قتادة: هو أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود.
قوله: فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك. يعني: أن الشفاعة التي نفاها الله في القرآن هي الشفاعة التي فيها شرك بالله، من دعاء غير الله وعبادته ليشفع له عند الله، فإن الله سبحانه نفى هذه(4/386)
ص -247- ... الشفاعة، وأخبر أنها لا تكون أبدًا، بل أخبر أن ذلك شرك، ونزه نفسه عنه، ونفى أن يكون للمؤمنين ولي أو شفيع من دونه، مع أن الشفاعة يوم القيامة لهم بإذنه، لا للمشركين كما قال تعالى:{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً}1. فنفى سبحانه أن تنفع الشفاعة أحدًا {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ} قوله وعمله، وهو المؤمن المخلص.
وأما المشرك الداعي لغير الله ليشفع له فلا تنفعه الشفاعة، ولا يؤذن لأحد في الشفاعة فيه. كما قال:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}. وقال تعالى:{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}2.
قوله: وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخره. تقدم ما يتعلق بذلك والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة طه آية: 109.
2 سورة القصص آية: 64.
[باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، [القصص: 56]،].
أراد المصنف رحمه الله الرد على عباد القبور الذين يعتقدون في الأنبياء والصالحين أنهم ينفعون ويضرون، فيسألونهم مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب، وهداية القلوب، وغير ذلك من أنواع المطالب الدنيوية والأخروية، ويعتقدون أن لهم التصرف بعد الموت على سبيل الكرامة. وقد وقفت على رسالة لرجل منهم في ذلك، ويحتجون على ذلك بقوله:{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ}يقول قائلهم [البوصيري] في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم الروح والقلم .
فإذا عرف الإنسان معنى هذه الآية ومن نزلت فيه; تبين له بطلان قولهم وفساد شركهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق(4/387)
ص -248- ... وأقربهم من الله، وأعظمهم جاها عنده، ومع ذلك حرص واجتهد على هداية عمه أبي طالب في حياة أبي طالب وعند موته، فلم يتيسر ذلك ولم يقدر عليه، ثم استغفر له بعد موته، فلم يغفر له حتى نهاه الله عن ذلك.
ففي هذا أعظم البيان، وأوضح البرهان على أنه صلى الله عليه وسلم لا يملك ضرًا ولا نفعًا، ولا عطاء ولا منعًا، وأن الأمر كله بيد الله، فهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، ويكشف الضر عمن يشاء، ويصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم وهو الذي من جوده الدنيا والآخرة، وهو بكل شيء عليم. ولو كان عنده صلى الله عليه وسلم من هداية القلوب ومغفرة الذنوب وتفريج الكروب شيء ; لكان أحق الناس به، وأولاهم من قام معه أتم القيام ونصره، وأحاطه من بلوغه ثمان سنين إلى ما بعد النبوة بثمان سنين أو أكثر، بل قال تعالى:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}1. وقال تعالى:{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى}2. فهل يجتمع في قلب عبد الإيمان بهذه الآيات وما أشبهها، والإيمان بذلك البيت وما أشبهه، ولكن قاتل الله أعداءه الذين جاوزوا الحد في إطرائه والغلو فيه.
وأما معنى الآية فقال ابن كثير: يقول تعالى لرسوله: إنك يا محمد لا تهدي من أحببت، أي: ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة كما قال تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}3 وقال:{وَمَا أَكْثَرُ(4/388)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 188.
2 سورة الأنعام آية: 50.
3 سورة البقرة آية: 272.(4/389)
ص -249- ... النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}1. وهذه الآية أخص من هذا كله فإنه قال:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}2. أي: أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية. وقد ثبت في "الصحيحين" أنها نزلت في أبي طالب، وقد كان يحوطه وينصره، ويقوم في حقه، ويحبه حبًا طبعيًا لا حبًا شرعيًا، فلما حضرته الوفاة وحان أجله دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام فسبق القدر فيه، واختطف من يده، واستمر على ما كان عليه من الكفر ولله الحجة البالغة. فإن قلت: قال الله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3.
فالجمع بينها وبين الآية. المترجم لها، قيل: الهداية التي تصح نسبتها لغير الله بوجه ما هي هداية الإرشاد والدلالة، كما قال:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4. أي: ترشد وتبين، والهداية المنفية عن غير الله هي هداية التوفيق وخلق القدرة على الطاعة، ذكره بعضهم بمعناه.
قال: في " الصحيح " عن ابن المسيب عن أبيه قال. "لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل فقال: يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أُحَاجُّ لك بها عند الله، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك فأنزل الله عز وجل:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة] " وأنزل الله في أبي طالب:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}5.
ش: قوله في "الصحيح". أي "الصحيحين" .
قوله: (عن ابن(4/390)
المسيب)، هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية: 103.
2 سورة القصص آية: 56.
3 سورة الشورى آية: 52.
4 سورة الشورى آية: 52.
5 سورة القصص آية: 56.(4/391)
ص -250- ... وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي، أحد العلماء الأثبات، الفقهاء الكبار، الحفاظ العباد، اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل. وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين، وأبوه المسيب صحابي، بقي إلى خلافة عثمان رضي الله عنه وكذلك جده حزن صحابي، استشهد باليمامة.
قوله: (لما حضرت أبا طالب الوفاة)، أي: حضرت علامات الوفاة وإلا فلو كان انتهى إلى المعاينة لم ينفعه الإيمان لو آمن. ويدل على ذلك ما وقع من المراجعة بينه وبينهم، ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة، لكن رجا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقر بالتوحيد ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه بخصوصه، ويسوغ فيه شفاعته صلى الله عليه وسلم ولهذا قال: أجادل لك بها، وأشهد لك بها، وأحاج لك بها. ويدل على الخصوصية أنه بعد أن امتنع من الإقرار بالتوحيد، ومات على الامتناع منه لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة له، بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة إلى غيره. وكان ذلك من الخصائص في حقه.
قوله: (جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يحتمل أن يكون المسيب حضر هذه القصة، فإن المذكورين من بني مخزوم وهو أيضًا مخزومي، وكانوا يومئذ كفارًا فمات أبو جهل على كفره، وأسلم الآخران. وقول بعض الشراح: إن هذا الحديث من مراسيل الصحابة مردود، وفي هذا جواز عيادة المشرك إذا رجي إسلامه. وجواز حمل العلم إذا كان فيه مصلحة راجحة على عدمه.
قوله: (يا عم). منادى مضاف يجوز فيه إثبات الياء وحذفها.
قوله: (قل لا إله إلا الله)، أي: قل هذه الكلمة، عارفًا لمعناها، معتقدًا له في هذه الحال وإن لم تعمل به، إذ لا يمكن عند الموت إلا ذلك، ولا بد مع ذلك من شهادة أن محمدًا رسول الله.(4/392)
ص -251- ... قوله: (كلمة). قال القرطبي: أحسن ما تقيد "كلمة" بالنصب على أنه بدل من لا إله إلا الله، ويجوز رفعها على احتمال المبتدأ .
قوله: (أحاج لك بها عند الله). هو بتشديد الجيم من "المحاجة" وهي مفاعلة من الحجة، والجيم مفتوحة، على الجزم جواب الأمر، أي: أشهد لك بها عند الله كما في الرواية الأخرى وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم، لأنه لو قالها لنفعته، وإن مات على التوحيد نفعته الشفاعة وإن لم يعمل شيئًا غير ذلك، وأن من كان كافرًا يجحدها إذا قالها عند الموت أجريت عليه أحكام الإسلام، فإن كان صادقًا من قلبه نفعته عند الله، وإلا فليس لنا إلا الظاهر، بخلاف من كان يتكلم بها في حال كفره.
قوله: (فقالا له): أترغب عن ملة عبد المطلب. ذَكَّرَاهُ الحجة الملعونة التي يتعلق بها المشركون من الأولين والآخرين، ويردون بها على الرسل، وهي تقليد الآباء والكبراء، وأخرجا الكلام مخرج الاستفهام مبالغة في الإنكار لعظمة هذه الحجة في قلوب الضالين، وكذلك اكتفيا بها في المجادلة، مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصرا عليها. قال المصنف: وفيه تفسير لا إله إلا الله بخلاف ما عليه أكثر من يدعي العلم. وفيه أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال الرجل: قل لا إله إلا الله. فقبح الله مَن أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام.
قوله: (فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأعادا)، أي: أعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم مقالته، وأعادا عليه مقالتهما مبالغة منه صلى الله عليه وسلم وحرصًا على إسلام عمه، ومع ذلك لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولا على تخليصه من عذاب الله، بل سبق فيه القضاء المحتوم، واستمر على كفره ليعلم الناس أن لا إله إلا الله فلو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم من هداية القلوب، وتفريج الكروب شيء، لكان أحق الناس بذلك وأولاهم عمه الذي فعل معه ما(4/393)
فعل. وفيه الحرص في الدعوة إلى الله والصبر على(4/394)
ص -252- ... الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن رد ذلك على صاحبه، وتكريره وعدم الاكتفاء بمرة واحدة.
قوله: (فكان آخر ما قال - هو بنصب آخر على الظرفية-)، أي: آخر زمن تكليمه إياهم، ويجوز رفعه.
قوله: (هو على ملة عبد المطلب). الظاهر أن أبا طالب قال: أنا، فغيره الراوي أنفة أن يحكي كلام أبي طالب استقباحًا للفظ المذكور، وهي من التصرفات الحسنة، قاله الحافظ وقد رواه الإمام أحمد بلفظ أنا. فدل على ما ذكرناه.
قوله: (وأبى أن يقول لا إله إلا الله). قال الحافظ: هذا تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب، وكأنه استند في ذلك إلى عدم سماعه منه في تلك الحال. كذا قال. وفيه نظر، بل نفيه مستند إلى إباء أبي طالب عن قولها بقوله: وهو على ملة عبد المطلب. قال المصنف: وفيه الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه، ومضرة أصحاب السوء على الإنسان، ومضرة تعظيم الأسلاف والأكابر. أي: زيادة على المشروع بحيث يجعل أقوالهم حجة يرجع إليها عند التنازع.
قوله: فقال النبي: "لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك"1. أقسم صلى الله عليه وسلم ليستغفرن له إلا أن ينهى عن ذلك، كما في رواية مسلم: "أما والله لأستغفرن لك" قال النووي: وفيه جواز الحلف من غير استحلاف، وكأن الحلف هنا لتأكيد العزم على الاستغفار، وتطبيبًا لنفس أبي طالب وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل.
قال ابن فارس: مات أبو طالب ولرسول الله صلى الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يومًا. وتوفيت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثمانية أيام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجنائز (1360) , ومسلم: الإيمان (24) , والنسائي: الجنائز (2035) , وأحمد (5/433).(4/395)
ص -253- ... قوله: فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}1. أي: ما ينبغي لهم ذلك، وهو خبر بمعنى النهي. وقد روى الطبري عن عمرو بن دينار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى نهاني عنه ربي فقال أصحابه: نستغفر لآبائنا كما استغفر نبينا لعمه فنزلت:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}". وهذا فيه إشكال لأن وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقًا. وقد ثبت "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية"2. وفيه دلالة على تأخر نزول الآية عن وفاة أبي طالب، ولكن يحتمل أن يكون نزول الآية تأخر وإن كان سببها تقدم، ويكون لنُزولها سببان: متقدم: وهو أمر أبي طالب، ومتأخر: وهو أمر أمه ويؤيد تأخر النّزول استغفاره صلى الله عليه وسلم للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك، فإن ذلك يقتضي تأخر النزول وإن تقدم السبب ويشير إلى ذلك أيضًا قوله في حديث الباب، وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}. لأنه يشعر بأن الأولى نزلت في أبي طالب وفي غيره، والثانية فيه وحده. ويؤيد تعدد السبب ما أخرج أحمد عن علي قال: "سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ...} الآية". قاله الحافظ، وفيه تحريم الاستغفار للمشركين، وتحريم موالاتهم ومحبتهم، لأنه إذا حرم الاستغفار(4/396)
لهم، فموالاتهم ومحبتهم أولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 113.
2 ضعيف. وأخرجه مسلم (976)، بنحوه دون سبب النُّزول.(4/397)
ص -254- ... [13- باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم وهو الغلو في الصالحين]
أما تركهم فهو مجرور عطفًا على المضاف إليه، ولما ذكر المصنف رحمه الله بعض ما يفعله عباد القبور مع الأموات من الشرك، أراد أن يبين السبب في ذلك ليحذر، وهو الغلو مطلقًا لاسيما في الصالحين، فإنه أصل الشرك قديمًا وحديثًا لقرب الشرك بالصالحين من النفوس فإن الشيطان يظهره في قالب المحبة والتعظيم.
وقول الله عز وجل:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 1. قال العلماء: الغلو هو مجاورة الحد في مدح الشيء أو ذمه، وضابطه تعدي ما أمر الله به وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله:{وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}2. وكذا قال تعالى في هذه الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}3. أي: لا تتعدوا ما حدد الله لكم. وأهل الكتاب هنا هم اليهود والنصارى، فنهاهم عن الغلو في الدين ونحن كذلك، كما قال تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}4.
والغلو كثير في النصارى، فإنهم غلوا في عيسى عليه السلام، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدون الله، بل غلوا فيمن زعم أنه على دينه من أتباعه، فادعوا فيهم العصمة، فاتبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقا أو باطلا، وناقضتهم اليهود في أمر عيسى عليه السلام، فغلوا فيه فحطوه من منْزلته حتى جعلوه ولد بغي.
قال شيخ الإسلام: و من تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط وضاهاهم في ذلك، فقد شابههم كالخوارج المارقين من الإسلام، الذين خرجوا في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقاتلهم حين خرجوا على المسلمين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك من عشرة أوجه في "الصحاح" و "المسانيد" وغير: ذلك،(4/398)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية: 77.
2 سورة طه آية: 81.
3 سورة النساء آية: 171.
4 سورة هود آية: 112.(4/399)
ص -255- ... وكذلك من غلا في دينه من الرافضة والقدرية والجهمية والمعتزلة والأشاعرة. وقال أيضًا: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام، وقد مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام وذلك، بأسباب:منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}1. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذفهم فيها واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم، ولكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف من غير تحريق. وهو قول أكثر العلماء.
[سبب عبادة الأصنام]
قال: في "الصحيح" عن "ابن عباس في قول الله تعالى:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}. قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت".
ش: قوله: في "الصحيح"، أي: "صحيح البخاري". وهذا الأثر اختصره المصنف، وقد رواه البخاري عن ابن عباس ولفظه:(وصارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث، فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف2 عند سبأ، وأما يعوق، فكانت لهمدان، وأما نسر، فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين في قوم نوح...) إلى آخره. وهكذا روي عن عكرمة والضحاك وابن إسحاق نحو هذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية: 77.
2 كذا تبعاً لبعض نسخ البخاري، ولعلّ الصّواب: (الْجَوف) تبعاً لبعضها الآخر، كما قال ياقوت الحموي.(4/400)
ص -256- ... وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس: أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كانوا أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون، دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم. قال سفيان عن أبيه عن عكرمة قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، وروى ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أنهم كانوا أولاد آدم لصلبه، وكان ود أكبرهم وأبرهم به، هكذا رواه عمر بن شبه في "أخبار مكة" من طريق محمد بن كعب القرظي، وذكر السهيلي في "التعريف": أن يغوث بن شيث بن آدم فيما قيل، وكذا سواع وما بعده. فكانوا يتبركون بدعائهم، وكلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بها إلى زمن مهلاييل، فعبدوها بتدريج الشيطان لهم، ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية.
ولا أدري من أين سرت تلك الأسماء أمن قبل الهند؟ فقد قيل: إنهم كانوا المبدأ في عبادة الأصنام بعد نوح عليه السلام، أم الشيطان ألهم العرب ذلك. انتهى وقد روى الفاكهي عن ابن الكلبي قال: كان لعمرو بن ربيعة رئي1 من الجن فأتاه فقال: أجب أبا ثمامة وادخل بلا ملامة، ثم ائت سيف2 جدة، تجد بها أصناما معدة، ثم أوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تُجَبْ. قال فأتى عمرو ساحل جدة فوجد بها ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا، وهي الأصنام التي عبدت على عهد نوح وإدريس، ثم إن الطوفان طرحها هناك فسفا عليها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: الْجِنِّيّ يعرض للإنسان ويُطْلبه على ما يزعم من الغيب، أو يُلْهِمه الشِّعر.
2 أي: ساحل.(4/401)
ص -257- ... الرمل، فاستثارها عمرو وخرج بها إلى تهامة، وحضر الموسم ودعا إلى عبادتها فأجيب.
وعمرو بن ربيعة: هو عمرو بن لحي، قاله الحافظ. قلت: وهو سيد خزاعة، وكان أول من سيب السوائب، وغير دين إبراهيم عليه السلام. وكانت العرب قبله على دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، حتى نشأ فيهم عمرو فأحدث الشرك، كما روى ابن جرير عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون1: "يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك فقال أكثم: أتخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك مؤمن، وهو كافر، إنه أول من غير دين إبراهيم، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، وحمى الحامي". إسناده حسن.
وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب"2 .
قوله: أن انصبوا. بكسر الصاد المهملة.
قوله: أنصابًا جمع نصب، وأصله ما نصب كغرض ونحوه، والمراد به هنا الأصنام المصورة على صورهم المنصوبة في مجالسهم.
قوله: حتى إذا هلك أولئك، أي: الذين نصبوها ليكون أشوق إليهم إلى العبادة، وليتذكروا برؤيتها أفعال أصحابها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: صحابي جليل وعمّ الصّحابي سليمان بن صُرَد، وهما من نسل ابن لُحَيْيّ.
2 البخاري: تفسير القرآن (4623) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2856).(4/402)
ص -258- ... قوله: ونسي العلم. أي: زالت المعرفة بحالها وما قصده من صورها، وغلب الجهال الذين لا يميزون بين التوحيد والشرك، وذهب العلماء الذين يعرفون ذلك.
قوله: عبدت. تقدم أنه دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم. وفي رواية أنهم قالوا: ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله، فعبدوهم فهذا هو السبب في عبادة هؤلاء الصالحين، وهو رجاء شفاعتهم عند الله، وكذلك هو السبب في عبادة صورهم، وهذه هي الشبهة التي ألقاها الشيطان على المشركين من الأولين والآخرين.
وقد بين الله ذلك في القرآن بيانًا شافيًا، وتقدم في هذا الكتاب من الكلام على ذلك ما يكفي لمن هداه الله.
قال: وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمر فعبدوهم.
ش: قوله: وقال ابن القيم. هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية، تلميذ شيخ الإسلام، وصاحب المصنفات الكثيرة في فنون العلم. قال الحافظ السخاوي في حقه: العلامة الحجة، المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان، المجمع عليه بين الموافق والمخالف، صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة. مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.
قوله: قال غير واحد من السلف إلى آخره. الظاهر أن ابن القيم ذكر ذلك بالمعنى لا باللفظ، وقد روي عن غير واحد من السلف معنى ذلك، منهم أبو جعفر الباقر وغيره، وتقدم ما يدل على ذلك.(4/403)
ص -259- ... قوله: ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. أي: طال عليهم الزمان، ونسوا ما قصده الأولون بتصوير صورهم، فعبدوهم، فتبين أن مبدأ الشرك بالصالحين هو الغلو فيهم، كما أن سبب الشرك بالنجوم هو الغلو فيها واعتقاد النحوس فيها والسعود، ونحو ذلك. وهذا هو الغالب على الفلاسفة ونحوهم، كما أن ذاك هو الغالب على عباد القبور، ونحوهم، وهو أصل عبادة الأصنام، فإنهم عظموا الأموات تعظيمًا مبتدعًا، فصوروا صورهم، وتبركوا بها، فآل الأمر إلى أن عبدت الصور ومن صورته، وهذا أول شرك حدث في الأرض، وهو الذي أوحاه الشيطان إلى عباد القبور في هذه الأزمان، فإنه ألقى إليهم أن البناء على القبور والعكوف عليها من محبة الصالحين وتعظيمهم، وأن الدعاء عندها أرجى في الإجابة من الدعاء في المسجد الحرام والمساجد، فاعتادوها لذلك. فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى الدعاء به والإقسام على الله به.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذا أعظم من الذي قبله، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعائه وعبادته، وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنًا يعكف عليه، وتعلق عليه القناديل والستور ويطاف به ويستلم، ويقبل ويحج إليه، ويذبح عنده، فإذا تقرر ذلك عندهم، نقله منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدًا ومنسكًا، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم، وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد لله، وألا يعبد إلا الله، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أنّ مَنْ نَهى عن ذلك، فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم عن منْزلتهم، وزعم أنهم لا حرمة لهم، ولا قدر، وغضب المشركون، واشمأزت قلوبهم كما قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ(4/404)
الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}1. وسرى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 45.(4/405)
ص -260- ... ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ}1.
قلت: وفي القصة فوائد نبه المصنف على بعضها.
منها: أن من فهم هذا الباب وما بعده تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله، وتقليبه القلوب العجب.
ومنها: معرفة أن أول شرك حدث في الأرض بشبهة محبة الصالحين.
ومنها: معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء.
ومنها: معرفة سبب قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تنكرها.
ومنها: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول محبة الصالحين، والثاني فعل أناس من أهل العلم والدين شيئًا أرادوا به خيرًا فظن من بعدهم أنهم أرادوا غيره.
ومنها: معرفة جبلة الإنسان في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد.
ومنها: أن فيها شاهدًا لما نقل عن بعض السلف أن البدعة سبب للكفر، وأنها أحب إلى إبليس من المعصية، لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها.
ومنها: معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل.
ومنها: معرفة القاعدة الكلية وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يؤول إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال آية: 34.(4/406)
ص -261- ... ومنها: مضرة العكوف على قبر لأجل عمل صالح.
ومنها: معرفة النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها.
ومنها: معرفه عظم شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
ومنها: -وهي أعجب العجب- قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بين قلوبهم، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن نهي الله ورسوله هو الكفر المبيح للدم والمال.
ومنها: التصريح أنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.
ومنها: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك
ومنها: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها معرفة قدر وجوده، ومضرة فقده.
ومنها: أن سبب فقد العلم موت العلماء. انتهى بمعناه.
ومنها: شدة حاجة الخلق بل ضرورتهم إلى الرسالة، وأن ضرورتهم إليها أشد وأعظم من ضرورتهم إلى الطعام والشراب.
ومنها: الرد على من يقدم الشبهات التي يسميها عقليات على ما جاء من عند الله، لأن ذلك الذي أوقع المشركين في الشرك.
ومنها: مضرة التقليد وكيف آل بأهله إلى المروق من الإسلام.
[النهي عن الإطراء ومجاوزة الحد في المدح]
قال: وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله"1 أخرجاه.
ش: قوله عن عمر. هو ابن الخطاب بن نفيل بنون وفاء مصغرًا بن عبد العزى بن رياح بتحتانية بن عبد الله بن قرط بضم القاف بن رزاح براء ثم زاي خفيفة بن عدي بن كعب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23).(4/407)
ص -262- ... القرشي العدوي، أمير المؤمنين وأفضل الصحابة بعد الصديق رضي الله عنهما، ولي الخلافة عشر سنين ونصفًا، فامتلأت الدنيا عدلاً، وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر، واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين.
قوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم"1. الإطراء: مجاوزة الحد في المدح، والكذب فيه، قاله أبو السعادات. وقال غيره:
لا تطروني بضم التاء وسكون الطاء المهملة من الإطراء، أي: لا تمدحوني بالباطل، أو لا تجاوزوا الحد في مدحي.
قوله: (إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)، أي: لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى، فادعوا فيه الربوبية، وإنما أنا عبد لله فصفوني بذلك كما وصفني به ربي، وقولوا عبد الله ورسوله. فأبى عباد القبور إلا مخالفة لأمره، وارتكابًا لنهيه، وناقضوه أعظم المناقضة، وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبد الله ورسوله، وأنه لا يدعى ولا يستغاث به، ولا ينذر له، ولا يطاف بحجرته، وأنه ليس له من الأمر شيء، ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، أن في ذلك هضمًا لجنابه، وغضًا من قدره، فرفعوه فوق منْزلته، وادعوا فيه ما ادعت النصارى في عيسى أو قريبًا منه، فسألوه مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب.
وقد ذكر شيخ الإسلام في كتاب "الاستغاثة" عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف فيه مصنفًا. وكان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله. وحكى عن آخر من جنسه يباشر التدريس، وينسب إلى الفتيا أنه كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه، وأن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن، ثم انتقل في ذرية الحسن إلى أبي الحسن الشاذلي، وقالوا: هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع، ومن هؤلاء من يقول(4/408)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23).(4/409)
ص -263- ... في قول الله تعالى:{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يسبَّح بكرة وأصيلاً ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله، فيجعلون الرسول معبودًا.
قلت: وقال البوصيري:
154 فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم الروح والقلم .
فجعل الدنيا والآخرة من جوده، وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، وهذا هو الذي حكاه شيخ الإسلام عن ذلك المدرس، وكل ذلك كفر صريح. ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته عليه السلام وتعظيمه ومتابعته، وهذا شأن اللعين لا بد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام اتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، لأن هذا ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح وهم أبعد الناس منه، فإن التعظيم بالقلب: ما يتبع اعتقاد كونه عبدًا رسولاً، من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين.
ويصدق هذه المحبة أمران:
أحدهما: تجريد التوحيد، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرص الخلق على تجريده، حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال: "أجعلتني لله ندًّا؟ بل ما شاء الله وحده"1. ونهى أن يحلف بغير الله، وأخبر أن ذلك شرك. ونهى أن يصلى إلى القبر أو يتخذ مسجدًا أو عيدًا، أو يوقد عليه سراج، بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحا النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره النبي بقوله وفعله، وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه.
الثاني: تجريد متابعته، وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (1/214).(4/410)
ص -264- ... أصول الدين وفروعه، والرضى بحكمه، والانقياد له والتسليم، والإعراض عما خالفه، وعدم الالتفات إلى ما خالفه، حتى يكون وحده هو الحاكم المتبع المقبول قوله، المردود ما خالفه، كما كان ربه تعالى وحده هو المعبود المألوه المخوف المرجو المستغاث به، المتوكل عليه، الذي إليه الرغبة والرهبة، الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد ومغفرة الذنوب، الذي من جوده الدنيا والآخرة، الذي خلق الخلق وحده، ورزقهم وحده، ويبعثهم وحده، ويغفر ويرحم ويهدي ويضل، ويسعد ويشقي وحده، وليس لغيره من الأمر شيء كائنًا من كان، لا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ولا لجبريل عليه السلام ولا غيرهما. فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم، النافع للمعظم في معاشه ومعاده، والذي هو لازم إيمانه وملزومه.
وأما التعظيم باللسان، فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به عليه ربه وأثنى على نفسه من غير غلو ولا تقصير، كما فعل عباد القبور، فإنهم غلوا في مدحه إلى الغاية.
وأما التعظيم بالجوارح، فهو العمل بطاعته، والسعي في إظهار دينه، ونصر ما جاء به، وجهاد ما خالفه.
وبالجملة فالتعظيم النافع هو التصديق فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله، وتحكيمه وحده، والرضى بحكمه، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله فما وافقها من قوله صلى الله عليه وسلم قبله، وما خالفها رده أو تأوله أو أعرض عنه، والله سبحانه يشهد وكفى به شهيدًا وملائكته ورسله وأولياؤه، أن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك، والله المستعان.
[النهي عن التنطع في الدين]
وقال المصنف: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"1 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: مناسك الحج (3057).(4/411)
ص -265- ... ش: هكذا ثبت هذا البياض في أصل المصنف، وذكره أيضًا غير معزو. والحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس، وهذا لفظ ابن ماجة: حدثنا علي بن محمد حدثنا أبو أسامة عن عوف عن زياد بن الحصين عن أبي العالية عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غداة العقبة وهو على ناقته: القط لي حصى. فلقطت له سبع حصيات هن حصى الحذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين"1. وهذا إسناد صحيح. وعوف، هو الأعرابي ثقة مشهور.
قوله: إياكم والغلو. إلى آخره. قل شيخ الإسلام: هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه، مثل الرمي بالحجارة الكبار، بناء على أنه أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقتضي مجانبة هديهم، أي: هدي من كان قبلنا إبعادًا عن الوقوع فيما هلكوا به، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك.
قال: ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون قالها ثلاثا"2.
ش: قوله: "هلك المتنطعون"3. قال الخطابي: المتنطع المتعمق في الشيء، المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام، الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم.
وقال أبو السعادات: هم المتعمقون الغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم; مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولاً وفعلاً.
وقال غيره: هم الغالون في عبادتهم بحيث تخرج عن قوانين الشريعة، ويسترسل مع الشيطان في الوسوسة. وكل هذه الأقوال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: مناسك الحج (3057).
2 مسلم: العلم (2670) , وأبو داود: السنة (4608) , وأحمد (1/386).
3 مسلم: العلم (2670) , وأبو داود: السنة (4608) , وأحمد (1/386).(4/412)
ص -266- ... صحيحة، فإن المتكلفين من أهل الكلام متنطعون، والمتقعرون في الكلام ومخارج الحروف متنطعون، والغالون في عباداتهم متنطعون، وبالجملة فالتنطع: التعمق في قول أو فعل كما قال أبو السعادات. وقال النووي: فيه كراهة المتقعر في الكلام بالتشدق، وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم.
قوله: (قالها ثلاثًا). أي: قال هذه الكلمة ثلاث مرات، مبالغة في التحذير والتعليم، فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين، فما ترك شيئًا يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا أخبرنا به، وإنما ضل الأكثرون بمخالفة هذه الأحاديث وما في معناها، فغلوا وتنطعوا فهلكوا، ولو اقتصروا على ما جاءهم من ربهم على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلموا وسعدوا، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة العنكبوت آية: 51.
[باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟!]
أي: عبد القبر أو الرجل الصالح، ولما كان عباد القبور إنما دُهُوا من حيث ظنوا أنهم محسنون، فرأوا أن أعمالهم القبيحة حسنة، كما قال تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً...}1 الآية. نَوَّعَ المصنف التحذير من الافتتان بالقبور، وأخرجه في أبواب مختلفة، ليكون أوقع في القلب، وأحسن في التعليم، وأعظم في الترهيب، فإذا كان قصد قبور الصالحين لعبادة الله عندها فيه من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فاطر آية: 8.(4/413)
ص -267- ... النهي والوعيد ما سَيَمُرُّ بك إن شاء الله، فكيف بعبادة أربابها من دون الله واعتيادها لذلك في اليوم والأسبوع والشهر مرات كثيرة.
قال: في "الصحيح" عن عائشة أن "أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور. فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله"1 .
فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل.
ش قوله: في "الصحيح". أي في "الصحيحين".
قوله: أن أم سلمة. هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله ابن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية; تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل ثلاث، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة، ماتت سنة اثنتين وستين.
قوله: (ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم). كان ذكر أم سلمة هذه الكنيسة للنبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته، كما جاء مبينًا في رواية في "الصحيح". وفي "الصحيحين" أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (كنيسة). وفي رواية يقال: لها مارية، وهي بفتح الكاف وكسر النون: معبد النصارى.
قوله: (أولئك). بفتح الكاف وكسرها.
قوله: (إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح). هذا والله أعلم شك من بعض رواة الحديث، هل قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا أو هذا، ففيه التحري في الرواية، وجواز رواية الحديث بالمعنى.
قوله: (بنوا على قبره مسجدًا)، أي: موضعًا للعبادة، وإن لم يسم مسجدًا كالكنائس والمشاهد .
قوله: (وصوروا فيه تلك الصور). الإشارة بتلك الصور إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلاة (434) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/51).(4/414)
ص -268- ... ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنيسة، كما في بعض ألفاظ الحديث فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها.
قوله: (أولئك شرار الخلق عند الله). مقتضى هذا تحريم ما ذكر، لا سيما وقد ثبت اللعن عليه. قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانًا، لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم ومنع المسلمين عن مثل ذلك. قال القرطبي: وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سدًّا للذريعة المؤدية إلى ذلك.
قوله: (فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين....) إلى آخره. هذا من كلام شيخ الإسلام، ذكره المصنف عنه. يعني أن الذين بنوا هذه الكنيسة جمعوا فيها بين فتنتين، ضل بها كثير من الخلق. الأولى: فتنة القبور، لأنهم افتتنوا بقبور الصالحين، وعظموها تعظيمًا مبتدعًا، فآل بهم إلى الشرك، وهي أعظم الفتنتين، بل هي مبدأ الفتنة. الثانية: وهي فتنة التماثيل، أي: الصور، فإنهم لما افتتنوا بقبور الصالحين وعظموها، وبنوا عليها المساجد، وصوروا فيها الصور للقصد الذي ذكره القرطبي، فآل الأمر إلى أن عبدت الصور ومن هي صورته من دون الله، وهاتان الفتنتان هما سبب عبادة الصالحين كاللات وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وغيرهم من الصالحين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وهذه العلة هي التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور، وهي التي أوقعت كثيرًا من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم لكواكب ونحو ذلك، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب(4/415)
ص -269- ... إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر. ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها ويخشعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد، فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقًا وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد. كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها، لأنها أوقات يقصد المشركون فيها الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون سدًّا للذريعة. قال: وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركًا بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد. فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، فقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليط فيه.
وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة. وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة. والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم إحسانًا للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه.
[لعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد]
قال: ولهما عنها قالت: "لما نُزِلَ برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ(4/416)
مسجدًا"1 أخرجاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121) , والدارمي: الصلاة (1403).(4/417)
ص -270- ... ش: هكذا ثبت في أول هذا الحديث "ولهما" وفي آخره: "أخرجاه" بخط المصنف، وأحد اللفظين يغني عن الآخر، لأن المراد صاحبا "الصحيحين".
قوله: (لما نزل). هو بضم النون وكسر الزاي. أي: نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام.
قوله: (طفق)، بكسر الفاء وفتحها والكسر أفصح، وبه جاء القرآن ومعناه: جعل.
قوله: (خميصة)، بفتح المعجمة كساء له أعلام.
قوله: (فإذا اغتم بها كشفها)، أي: إذا احتبس نفسه عن الخروج كشفها عن وجهه.
قوله: "لعن الله اليهود والنصارى" إلى آخره. لعنهم صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل بعينه وهو اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، أي: كنائس وبيع يتعبدون ويسجدون فيها لله، وإن لم يسموها مساجد، فإن الاعتبار بالمعنى لا بالاسم. ومثل ذلك القباب والمشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، فإنها هي المساجد الملعون من بناها على قبورهم وإن لم يسمها من بناها مساجد. وفيه رد على من أجاز البناء على قبور العلماء والصالحين تمييزًا لهم عن غيرهم، فإذا كان صلى الله عليه وسلم لعن من بنى المساجد على قبور الأنبياء، فكيف بمن بناها على قبور غيرهم؟!
قوله: "يحذر ما صنعوا". الظاهر أن هذا من كلام عائشة رضي الله عنها، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على ذلك تحذيرًا لأمته أن تصنع ما صنعوا.
قال القرطبي: وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام.
قوله: (ولولا ذاك)، أي: لولا تحذير النبي صلى الله عليه وسلم ما صنعوا ولعن من فعل ذلك.(4/418)
ص -271- ... قوله: (لأبرز قبره)، أي: لدفن خارج بيته ومنه الحديث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بارزًا للناس. أي: جالسًا خارج بيته"1 .
قوله: (غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا). روي بفتح الخاء وضمها بالبناء للفاعل والمفعول، قالوا: فأما رواية الفتح، فإنها تقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم بذلك، وأما رواية الضم، فيحتمل أن تكون عائشة هي التي خشيت كما في لفظ آخر، غير أني أخشى. أو هي ومن معها من الصحابة. قلت: وهذا أظهر. ورواية: غير أني أخشى، لا تخالفه.
قال القرطبي: ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره.
قلت: وفي الحديثين مسائل نبه المصنف على بعضها. منها: ما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن بنى مسجدًا يعبد الله فيه على قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل. ومنها: النهي عن التماثيل بتغليظ الأمر. ومنها: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر. ومنها: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم. ومنها: لعنه إياهم على ذلك. ومنها: مراده بذلك تحذيره إيانا عن قبره، ومنها: العلة في عدم إبراز قبره، ومنها: ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النّزع.
قلت: ومنها التنبيه على علة تحريم ذلك، وعلة لعن من فعله.
[النهي عن اتخاذ القبور مساجد]
قال: ولمسلم: عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (6/240).(4/419)
ص -272- ... يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك"1. فقد نهى عنه وهو في آخر حياته، ثم إنه لعن -وهو في السياق- مَنْ فعله، والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجدًا، وهو معنى قوله: أخشى أن يتخذ مسجدًا، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا. وكل موضع قُصِدَتِ الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدًا، بل كل موضع يُصَلَّى فيه يُسَمَّى مسجدًا كما قال صلى الله عليه وسلم "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"2 .
ش: قوله: عن جندب بن عبد الله. أي: ابن سفيان البجلي أبو عبد الله، وينسب إلى جده، صحابي مشهور مات بعد الستين.
قوله: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، أي: أمتنع من هذا وأنكره. والخليل: هو المحبوب غاية المحبة، مشتق من الخلة بفتح الخاء وهي تخلل المودة في القلب، كما قال الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح ... مني وبذا سمي الخليل خللاً
هذا هو الصحيح في معناه، كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وغيرهم.
قال القرطبي: وإنما كان ذلك لأن قلبه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ من محبة الله، وتعظيمه ومعرفته، فلا يسع لمخالة غيره.
قوله: "فإن الله قد اتخذني خليلاً". فيه التصريح بأن الخلة أكمل من المحبة قال ابن القيم: وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة، وأن إبراهيم خليل الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم حبيب الله، فمن جهلهم، فإن المحبة عامة والخلة خاصة، وهي نهاية المحبة، قال: وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد اتخذه خليلاً، ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن(4/420)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532).
2 البخاري: التيمم (335) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي: الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي: الصلاة (1389).(4/421)
ص -273- ... الخطاب رضي الله عنهم وغيرهم. وأيضًا فإن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الصابرين، وخلته خاصة بالخليلين. وفيه جواز ذكر الإنسان ما فيه من الفضل إذا دعت الحاجة الشرعية إلى ذلك.
قوله: "ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلاً"1. فيه دليل على أن الصِّدِّيق أفضل الصحابة، حيث صرح صلى الله عليه وسلم أنه لو اتخذ خليلاً غير ربه، لاتخذ أبا بكر، فيه رد على الرافضة وعلى الجهمية الذين هم شر أهل البدع، بل أخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد قاتلهم الله، قاله المصنف. وفيه إشارة إلى خلافته، لأن من كانت محبته لشخص أشد، فهو أحق الناس بالنيابة عنه، لا سيما وقد قال ذلك في مرض موته، خصوصًا وقد استخلفه على الصلاة بالناس، وغضب لما صلى بهم عمر.
واسم أبي بكر: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الصحابة بإجماع من يعتد به من أهل السنة، مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنة.
قوله: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد...)، إلى آخر الحديث. قال الخلخالي: وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم صنيعهم هذا يخرج على وجهين، أحدهما: أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لهم، والثاني: أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والسجود في مقابرهم، والتوجه إليها حالة الصلاة نظرًا منهم بذلك إلى عبادة الله، والمبالغة في تعظيم الأنبياء. والأول هو الشرك الجلي، والثاني الخفي، فلذلك استحقوا اللعن.
قلت: (الحديث أعم من ذلك)، فيشمله ويشمل بناء المساجد والقباب عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المناقب (3656) , وأحمد (1/270).(4/422)
ص -274- ... قوله: (فقد نهى عنه في آخر حياته)، أي: كما في حديث جندب.
قوله: (ثم إنه لعن) -وهو في السياق- من فعله، أي: كما في حديث عائشة.
قوله: (والصلاة عندها من ذلك)، وإن لم يبن مسجدًا، يعني: أن الصلاة عند القبور وإليها من اتخاذها مساجد الملعون من فعله، وإن لم يبن مسجدًا، فتحرم الصلاة في المقبرة وإلى القبور، بل لا تنعقد أصلاً لما في هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها، من لعن من اتخذها مساجد.
وروى مسلم عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها"1 وعن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"2. رواه أحمد وأهل السنن، وصححه ابن حبان والحاكم من طرق على شرط الشيخين، وفي "صحيح البخاري" أن: "عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر فقال: القبر القبر". وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة ما نهاهم عنه نبيهم صلى الله عليه وسلم من الصلاة عند القبور. وفعل أنس لا يدل على اعتقاد جوازه، فإنه لعله لم يره، ولم يعلم أنه قبر أو ذهل عنه، فلما نبهه عمر تنبه.
وفي هذا كله إبطال قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، بل العلة في ذلك الخوف على الأمة أن يقعوا فيما وقعت فيه اليهود والنصارى، وعباد {اللَّاتَ وَالْعُزَّى} من الشرك، ويدل على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجنائز (972) , والترمذي: الجنائز (1050) , والنسائي: القبلة (760) , وأبو داود: الجنائز (3229) , وأحمد (4/135).
2 الترمذي: الصلاة (317) , وأبو داود: الصلاة (492) , وابن ماجه: المساجد والجماعات (745).(4/423)
ص -275- ... ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم قطعًا أن هذا ليس لأجل النجاسة، لأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم، فهم في قبورهم طريون.
وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم متخذي المساجد عليها وموقدي السرج عليها، ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما هو لعن فاعله، لكونه وسيلة إلى تعظيمها وجعلها نصبًا يوفض إليها المشركون كما هو الواقع، فهكذا اتخاذ المساجد عليها.
قال ابن القيم: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه، وذرائعه، وفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده جزم جزمًا لا يحتمل النقيض، أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغتيه: صيغة: (لا تفعلوا) وصيغة: (إني أنهاكم) ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه واتبع هواه ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه، أو عدم من تحقيق لا إله إلا الله، فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابًا لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا التعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشد لها تعظيمًا، وأشد فيهم غلوًّا كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد. ولعمر الله من هذا الباب بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر، ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة. فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية، وسلب خصائص الإلهية.(4/424)
ص -276- ... قلت: وممن علل بخوف الفتنة والشرك الشافعي وأبو بكر الأثرم وأبو محمد المقدسي وشيخ الإسلام وغيرهم وهو الحق.
قوله: فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا، أي: لما علموا من تشديده في ذلك وتغليظه، ولعن من فعله، فكيف يتخذون على قبره مسجدًا؟ وإنما خشوا أن يعتاده بعض الجهال للصلاة عنده، من غير شعور من الصحابة بذلك، فلذلك دفنوه في بيته.
قوله: (وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدًا)، أي: وإن لم يبن مسجدًا. قوله: "بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدًا"، الظاهر أن الأول في الأمكنة المعدة للصلاة، وإن لم يبن فيها مسجدًا. وهذا في أي موضع صلي فيه، وإن لم يعد لذلك، كالمواضع التي يصلي فيها المسافر ونحو ذلك. فعلى هذا إذا صلى عند القبور ولو مرة واحدة وإن لم يكن هناك مسجد، فقد اتخذها مساجد.
قوله: كما قال صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"1 أي: فسمى الأرض مسجدًا، وليست مسجدًا مبنيًّا، لكن لما كان يسجد فيها سميت مسجدًا. فدل هذا الحديث أن من صلى عند القبور أو إليها فقد اتخذها مساجد. وهذا الحديث طرف من حديث صحيح متفق عليه عن جابر.
قال البغوي في "شرح السنة": أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، وأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا، تخفيفًا عليهم وتيسيرًا، ثم خص من جميع المواضع الحمام والمقبرة والمكان النجس.
وقوله: (طهورا). أراد به التيمم. وفي حديث جندب من الفوائد أيضًا، العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في النهي عن بناء المساجد على القبور، كيف بيّن لهم ذلك أولاً، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في النّزع لم يكتف بما تقدم، بل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: التيمم (335) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي: الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي: الصلاة (1389).(4/425)
ص -277- ... لعن من فعل ذلك. فدلت هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة على تحريم البناء على القبور مطلقًا، فلذلك اكتفى المصنف بإيرادها عن غيرها، كحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه. رواه مسلم وغيره وزاد أبو داود والحاكم: وأن يكتب عليه.
[شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد]
قال: ولأحمد بسند جيد، عن ابن مسعود مرفوعًا: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد"1 رواه أبو حاتم [وابن حبان] في " صحيحه".
ش: قوله: "إن من شرار الناس". هو بكسر الشين جمع شر.
قوله: "من تدركهم الساعة وهم أحياء". أي: من تقوم عليهم الساعة بحيث ينفخ في الصور وهم أحياء، وهذا كحديثه الآخر الذي في مسلم: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق".
فإن قلت: ما الجمع بين هذا وبين حديث ثوبان: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق"2. وما في معناه.
قيل: حديث ثوبان مستغرق للأزمنة، عامّ فيها، وهذا مخصص وسيأتي زيادة لذلك عند الكلام على حديث ثوبان إن شاء الله تعالى.
قوله: "والذين يتخذون القبور مساجد". "الذين" في محل نصب عطفًا على "من" الموصولة، أي: إن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد، بالصلاة عندها وإليها، وبناء المساجد عليها. وهذا المعنى متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم معلوم بالاضطرار من دينه. وكل ذلك شفقة على الأمة وخوفًا عليهم أن يقودهم ذلك إلى الشرك بها وبأصحابها، كما قاد إلى ذلك اليهود والنصارى. فأبى عباد القبور إلا الضرب بهذه الأحاديث الجدار ونبذها وراء الظهر، أو الدفع في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه : الفتن (4019).
2 الترمذي : تفسير القرآن (3058) , وابن ماجه : الفتن (4014).(4/426)
ص -278- ... صدورها وأعجازها بحمل ذلك على غير قبور الأنبياء والصالحين. أما قبورهم فتجوز الصلاة إليها وعندها، وبناء المساجد والقباب عليها رجاء أن تصل إليهم العواطف الروحانية. ولا ريب أن هذا مراغمة ومحادة لله ورسوله، وهذا هو قول اليهود:{قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة، النساء]، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لعن من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، كما هو نص حديث عائشة رضي الله عنها وغيره، وقبور غيرهم إنما أخذ النهي عن البناء عليها من هذه الأحاديث ونحوها بقياس الأولى، أو من عموم أحاديث أخر، فمن أعظم المراغمة والمناصبة والمحادة لله ورسوله، أن تحمل على غير ما وردت فيه، ويباح ما وردت بالنهي عنه، ولعن من فعله، ولكن هذا شأن عباد القبور{أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1.
وقد أجمع العلماء على النهي عن البناء على القبور وتحريمه ووجوب هدمه لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن فيها بوجه من الوجوه، ولا فرق في ذلك بين البناء في مقبرة مسبلة، أو مملوكة، إلا أنه في المملوكة أشد. ولا عبرة بمن شذ من المتأخرين فأباح ذلك، إما مطلقًا، وإما في المملوكة.
قال الإمام أبو محمد بن قدامة: "ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا. ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها".
وقال شيخ الإسلام: "أما بناء المساجد على القبور، فقد صرح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث الصحيحة، وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي، بتحريمه. قال: ولا ريب في(4/427)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القصص آية : 50.(4/428)
ص -279- ... القطع بتحريمه، ثم ذكر الأحاديث في ذلك. إلى أن قال: فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، أو الملوك وغيرهم، تتعين إزالتها بهدم أو بغيره هذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين".
وقال ابن القيم: "يجب هدم القباب التي على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم". وقال أبو حفص: "تحرم الحجرة بل تهدم. فإذا كان هذا كلامه في الحجرة فكيف بالقبة". وقال الشافعي: "أكره أن يعظم مخلوق، حتى يجعل قبره مسجدًا مخافة الفتنة عليه، وعلى من بعده من الناس". وقال أيضًا: "تسطح القبور ولا تبنى ولا ترفع، وتكون على وجه الأرض. وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية، منهم ابن الجميزي والظهير التزمنْتِي وغيرهما". وقال القاضي ابن كج: "ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يبنى عليها قباب ولا غير قباب، والوصية بها باطلة". وقال الأذرعي: "وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة، وإنفاق الأموال الكثيرة، فلا ريب في تحريمه".
قلت: وجزم النووي في "شرح المهذب" بتحريم البناء مطلقًا، وذكر في "شرح مسلم" نحوه أيضًا. وقال القرطبي في حديث جابر: "نهى أن يجصص القبر أو يبنى عليه، وبظاهر هذا الحديث قال مالك، وكره البناء والجص على القبور، وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه، ووجه النهي عن البناء والتجصيص في القبور أن ذلك مباهاة، واستعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبه بمن كان يعبد القبور ويعظمها، وباعتبار هذه المعاني وبظاهر هذا النص ينبغي أن يقال: هو حرام كما قال به بعض أهل العلم". وقال ابن رشد: "كره مالك البناء على القبر، وجعل البلاطة المكتوبة، وهو من بدع أهل الطول، أحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة،(4/429)
ص -280- ... وهو مما لا اختلاف فيه". وقال الزيلعي في "شرح الكنْز": "ويكره أن يبنى على القبر. وفي "الخلاصة" ولا يجصص القبر ولا يطين، ولا يرفع عليه بناء". وذكر أيضًا قاضي خان "أنه لا يجصص القبر، ولا يبنى عليه، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التجصيص وعن البناء فوق القبر، والمراد بالكراهة عند الحنفية كراهة التحريم التي هي في مقابلة ترك الواجب". وقد ذكر ذلك ابن نجيم في "شرح الكنْز". "ومثل هذا كثير في كلام العلماء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم، والمقصود أن كلام العلماء موافق لما دلت عليه السنة الصحيحة في النهي عن البناء على القبور".
واعلم أنه قد وقع بسبب البناء على القبور من المفاسد التي لا يحيط بها على التفصيل إلا الله، ما يغضب من أجله كل من في قلبه رائحة إيمان، كما نبه عليه ابن القيم وغيره.
فمنها: اعتيادها للصلاة عندها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
ومنها: تحري الدعاء عندها. ويقولون: من دعا الله عند قبر فلان استجاب له، وقبر فلان الترياق المجرب، وهذا بدعة منكرة.
ومنها: ظنهم أن لها خصوصيات بأنفسها في دفع البلاء وجلب النعماء. ويقولون: إن البلاء يدفع عن أهل البلدان بقبور من فيها من الصالحين، ولا ريب أن هذا مخالف للكتاب والسنة والإجماع. فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله، فلما عصوا الرسول وخالفوا ما أمرهم الله به، سلط الله عليهم من انتقم منهم. وكذلك أهل المدينة لما تغيروا بعض التغير، جرى عليهم عام الحرة من النهب والقتل وغير ذلك(4/430)
ص -281- ... من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك. وهذا أكثر من أن يحصر.
ومنها: الدخول في لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها.
ومنها: أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد، وخراب المساجد، كما هو الواقع، ودين الله بضد ذلك.
ومنها: اجتماعهم لزيارتها واختلاط النساء بالرجال، وما يقع في ضمن ذلك من الفواحش وترك الصلوات، ويزعمون أن صاحب التربة تَحَمَّلَهَا عنهم، بل اشتهر أن البغايا يسقطن أجرتهن على البغاء في أيام زيارة المشايخ، كالبدوي وغيره تقربًا إلى الله بذلك، فهل بعد هذا في الكفر غاية؟
ومنها: كسوتها بالثياب النفيسة المنسوجة بالحرير والذهب والفضة ونحو ذلك.
ومنها: جعل الخزائن والأموال ووقف الوقوف لما يحتاج إليه من ترميمها ونحو ذلك.
ومنها: إهداء الأموال ونذر النذور لسدنتها العاكفين عليها الذين هم أصل كل بلية وكفر، فإنهم الذين يكذبون على الجهال والطغام بأن فلانًا دعا صاحب التربة فأجابه، واستغاثه فأغاثه، ومرادهم بذلك تكثير النذر والهدايا لهم.
ومنها: جعل السدنة لها كسدنة عباد الأصنام.
ومنها: الإقسام على الله في الدعاء بالمدفون فيها.
ومنها: أن كثيرًا من الزوار إذا رأى البناء الذي على قبر صاحب التربة سجد له. ولا ريب أن هذا كفر بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، بل هذا هو عبادة الأوثان، لأن السجود للقبة عبادة لها، وهو من جنس عبادة النصارى للصور التي في كنائسهم على صور من يعبدونه بزعمهم الباطل، فإنهم عبدوها ومن هي صورته، وكذلك(4/431)
ص -282- ... عباد القبور لما بنوا القباب على القبور آل بهم إلى أن عبدت القباب ومن بنيت عليه من دون الله عزّ وجل.
ومنها: النذر للمدفون فيها، وفرض نصيب من المال والولد، وهذا هو الذي قال الله فيه:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا...} 1. بل هذا أبلغ فإن المشركين ما كانوا يبيعون أولادهم لأوثانهم.
ومنها: أن المدفون فيها أعظم في قلوب عباد القبور من الله وأخوف، ولهذا لو طلبت من أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الأيمان كاذبًا أو صادقًا، وإذا طلبت بصاحب التربة لم يقدم إن كان كاذبًا. ولا ريب أن عباد الأوثان ما بلغ شركهم إلى هذا الحد، بل كانوا إذا أرادوا تغليظ اليمين، غلظوها بالله كما في قصة القسامة وغيرها.
ومنها: سؤال الميت قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والإخلاص له من دون الله في أكثر الحالات.
ومنها: التضرع عند مصارع الأموات والبكاء بالهيبة والخشوع لمن فيها أعظم مما يفعلونه مع الله في المساجد والصلوات.
ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله وهي المساجد، فيعتقدون أن العبادة والعكوف فيها أفضل من العبادة والعكوف في المساجد، وهذا أمر ما بلغ إليه شرك الأولين، فإنهم يعظمون المسجد الحرام أعظم من بيوت الأصنام يرون فضله عليها، وهؤلاء يرون العكوف في المشاهد أفضل من العكوف في المساجد.
ومنها: أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور إنما هو تذكرة الآخرة، كما قال: "زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة"2. والإحسان إلى المزور بالترحم عليه، والدعاء له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 136.
2 ابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1569).(4/432)
ص -283- ... والاستغفار، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت، فقلب عباد القبور الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم ونصرهم على الأعداء ونحو ذلك. فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه الله من الدعاء والترحم عليه والاستغفار له.
ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله عباد القبور بها، فإنه يؤذيهم ما يفعلونه عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهة، كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرؤون منهم كما قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1.
ومنها: محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها.
ومنها: التعب العظيم مع الوزر الكبير، والإثم العظيم، وكل هذه المفاسد العظيمة وغيرها مما لم يذكر، إنما حدثت بسبب البناء على القبور، ولهذا تجد القبور التي ليس عليها قباب لا يأتيها أحد ولا يعتادها لشيء مما ذكر إلا ما شاء الله، وصاحب الشرع أعلم بما يؤول إليه هذا الأمر، فلذلك غلظ فيه وأبدأ وأعاد، ولعن من فعله، فالخير والهدى في طاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته. والعجب ممن يشاهد هذه المفاسد العظيمة عند القبور، ثم يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة، كما يظنه بعض متأخري الفقهاء، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر المجازر والحشوش بل ذكر التحرز من البول والغائط أولى. وإنما ذلك لأجل نجاسة الشرك التي وقعت من عباد(4/433)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحقاف آية : 5-6.(4/434)
ص -284- ... القبور لما خالفوا ذلك ونبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلاً فبئس ما يشترون.
[15- باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله]
ش: أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة أمورًا:
الأول: التحذير من الغلو في قبور الصالحين.
الثاني: أن الغلو فيها يؤول إلى عبادتها.
الثالث: أنها إذا عبدت سميت أوثانًا ولو كانت قبور الصالحين.
الرابع: التنبيه على العلة في المنع من البناء عليها واتخاذها مساجد والأوثان هي المعبودات التي لا صورة لها، كالقبور والأشجار والعمد والحيطان والأحجار ونحوها، وقد تقدم بيان ذلك.
وقيل: الوثن هو الصنم، والصنم هو الوثن، وهذا غير صحيح إلا مع التجريد، فأحدهما قد يعني به الآخر، وأما مع الاقتران، فيفسر كل واحد بمعناه.
قال: روى مالك في "الموطأ" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"1 .
ش: هذا الحديث رواه مالك في "باب جامع الصلاة" مرسلاً عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله. ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن أبي خالد الأحمر عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم به ولم يذكر عطاء. ورواه البزار عن عمر بن محمد عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا، وعمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ثقة من أشراف أهل المدينة روى عنه مالك والثوري وسليمان بن بلال، فالحديث صحيح عند من يحتج بمراسيل الثقات. وعند من قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مالك : النداء للصلاة (416).(4/435)
ص -285- ... بالمسند لإسناد عمر بن محمد له بلفظ "الموطأ" سواء، وهو ممن تقبل زيادته. وله شاهد عند الإمام أحمد والعقيلي من طريق سفيان عن حمزة ابن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"1.
قوله: (روى مالك في "الموطأ")، هو الإمام مالك بن أنس بن مالك ابن أبي عامر بن عمر الأصبحي أبو عبد الله المدني الفقيه، إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة، وأحد المتقنين في الحديث، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر. مات سنة تسع وسبعين ومائة. وكان مولده سنة ثلاث وتسعين. وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة.
قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد). قد استجاب الله دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم فمنع الناس من الوصول إلى قبره لئلا يعبد استجابة لدعاء رسوله صلى الله عليه وسلم. كما قال ابن القيم:
فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة من الجدران
ودل الحديث على أن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لو عبد لكان وثنًا، فما ظنك بقبر غيره من القبور التي عبدت هي وأربابها من دون الله، وإذا أريد تغيير شيء من ذلك أنف عبادها، واشمأزت قلوبهم، واستكبرت نفوسهم، وقالوا: تنقص أهل الرتب العالية، ورموهم بالعظائم، فماذا يقولون لو قيل لهم: إنها أوثان تعبد من دون الله؟! فالله المستعان على غربة الإسلام، وهذه هي الفتنة العظمى التي قال فيها عبد الله بن مسعود: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، تجري على الناس يتخذونها سنة، إذا غيرت". قيل: غيرت السنة.
ويؤخذ من الحديث المنع من تتبع آثار الأنبياء والصالحين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/246).(4/436)
ص -286- ... كقبورهم ومجالسهم، ومواضع صلاتهم للصلاة، والدعاء عندها، فإن ذلك من البدع، أنكره السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم. ولا نعلم أحدًا أجازه أو فعله إلا ابن عمر على وجه غير معروف عند عباد القبور، وهو إرادة التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فيما صلى فيه ونحو ذلك. ومع ذلك فلا نعلم أحدا وافقه عليه من الصحابة، بل خالفه أبوه وغيره، لئلا يفضي ذلك إلى اتخاذها أوثانا كما وقع. قال ابن عبد الباقي [الزّرقاني] في "شرح الموطأ" روى أشهب عن مالك أنه كره لذلك أن يدفن في المسجد قال: "وإذا منع من ذاك فسائر آثاره أحرى بذلك". وقد كره مالك طلب موضع شجرة بيعة الرضوان مخالفة لليهود والنصارى. انتهى.
قال ابن وضاح: سمعت عيسى بن يونس يقول: "أمر عمر بن الخطاب بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعها، لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة". قال عيسى بن يونس: وهو عندنا من حديث ابن عون عن نافع: أن الناس كانوا يأتون الشجرة فقطعها عمر رضي الله عنه.
وقال "المعرور بن سويد: صليت مع عمر بن الخطاب في طريق مكة صلاة الصبح، فقرأ فيها:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} ، [الفيل: 1]، و{لإِيلافِ قُرَيْشٍ}، [قريش: 1]، ثم رأى الناس يذهبون مذاهب فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يصلون فيه، فقال: إنما أهلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم، ويتخذونها كنائس وبيعًا، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها".(4/437)
ص -287- ... وفي "مغازي ابن إسحاق" من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة: خالد بن دينار، حدثنا "أبو العالية قال: لما فتحنا تستر [سنة: 17ه]. وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرًا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر، فدعا له كعبًا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل قرأه من العرب، قرأته مثل ما أقرأ القرآن، فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبرًا متفرقة فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال. فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة. قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض".
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو إنكار منهم لذلك، فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم يستحب الشارع قصدها، فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء قصدها ليصلي عندها، أو ليدعوا عندها(4/438)
ص -288- ... أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله عندها، أو ليسكن عندها بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيصها به لا نوعًا ولا عينًا، لأن ذلك قد يجوز بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها، كمن يدعو الله في طريقه، ويتفق أن يمر في طريقه بالقبور أو كمن يزورها ويسلم عليها، ويسأل الله العافية له وللموتى كما جاءت به السُّنَّة، فإن ذلك ونحوه لا بأس به.
وأما تحري الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره، فهذا هو المنهي عنه. والفرق بين النوعين ظاهر، فإن الرجل لو كان يدعو الله واجتاز في ممره بصنم أو صليب أو كنيسة أو دخل إليها ليبيت فيها مبيتًا جائزًا ودعا الله في الليل، أو أتى بعض أصدقائه ودعا الله في بيته لم يكن بهذا بأس. ولو تحرى الدعاء عند هذه المواضع لكان من العظائم بل قد يكون كفرًا.
قوله: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"1 هذه الجملة بعد الأولى تنبيه على سبب لحوق اللعن بهم، وهو توسلهم بذلك إلى أن تصير أوثانًا تعبد. ففيه إشارة إلى ما ترجم له المصنف، وفيه تحريم البناء على القبور، وتحريم الصلاة عندها.
وقد روى أصحاب مالك عنه أنه كره أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وعلل وجه الكراهة بقوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"2 فكره إضافة هذا اللفظ إلى القبر لئلا يقع التشبه بفعل أولئك سدًّا للذريعة، وحسمًا للباب. ذكره [الْمُحِبّ] الطبري [في القرى 629]. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه. ذكره المصنف.
قال: ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} 3. قال: كان يلت لهم السويق فمات، فعكفوا على قبره وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج.
ش: قوله: (ولابن جرير). هو الإمام الحافظ محمد بن جرير بن(4/439)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مالك : النداء للصلاة (416).
2 مالك : النداء للصلاة (416).
3 سورة النجم آية : 19.(4/440)
ص -289- ... يزيد الطبري صاحب "التفسير" و "التاريخ" وغيرهما. قال ابن خزيمة: لا أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير، وكان من الأئمة المجتهدين، لا يقلد أحدًا وله أصحاب يتفقهون على مذهبه. ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، ومات ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة.
قوله: (عن سفيان). هو أحد السفيانين، إما ابن عيينة وإما الثوري، فإن كان ابن عيينة فقد تقدمت ترجمته، وإن كان الثوري وهو الأظهر فهو سفيان بن سعيد بن مسروق أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة عابد. وكان مجتهدًا، له أتباع وأصحاب يتفقهون على مذهبه. مات سنة إحدى وستين ومائة، وله أربع وستون سنة.
قوله: (عن منصور). هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي أبو عتاب -بمثناة ثقيلة ثم موحدة- الكوفي، ثقة ثبت فقيه. مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قوله: (عن مجاهد هو ابن جبر) -بالجيم والموحدة- أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير والعلم، أخذ التفسير عن ابن عباس وغيره.
مات سنة أربع ومائة، قاله يحيى القطان، وقال ابن حبان: مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد، وكان مولده سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر رضي الله عنه.
قوله: (كان يلت لهم السويق فمات)، فعكفوا على قبره. لت السويق هو خلطه بسمن ونحوه. وقد قيل: إن اسم الرجل صرمة بن غنم، وعن ابن عباس: كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه، رواه ابن أبي حاتم.
وعن مجاهد: كان اللات رجلاً في الجاهلية، وكان له غنم فكان يسلؤ من رسلها(4/441)
ص -290- ... ويأخذ من زبيب الطائف والأقط، فيجعل منه حيسًا ويطعم من يمر من الناس، فلما مات عبدوه وقالوا: هو اللات. وكان يقرأ اللات مشددة، رواه سعيد بن منصور والفاكهي.
قوله: (وكذا قال أبو الجوزاء...) إلى آخره. هو أوس بن عبد الله الربعي، بفتح الراء والباء، ثقة مشهور، مات سنة ثلاث وثمانين.
وهذا الأثر ذكره المصنف ولم يعزه، وقد رواه البخاري، ولا تخالف بين هذا التفسير والقراءة وبين قراءة من قرأ بالتخفيف. وقال: إنه كان حجرًا فعبدوه، واشتقوا له من اسم الله الإله، كما تقدم تقريره في باب: من تبرك بشجرة. وأيضا فيجاب على الأول بأن أصله التشديد، وخفف لكثرة الاستعمال، وأما كونهم اشتقوا هذا الاسم من اسم الله الإله، فلا ينافي ذلك أيضًا، فقد رأيت أن سبب عبادة اللات هو الغلو في قبره حتى صار وثنًا يعبد، كما كان ذلك هو السبب في عبادة الصالحين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وغيرهم، وكما كان ذلك هو السبب في عبادة الصالحين من الأموات وغيرهم اليوم، فإنهم غلوا فيهم، وبنوا على قبورهم القباب والمشاهد، وجعلوها ملاذًا لقضاء المآرب.
وبالجملة فالغلو أصل الشرك في الأولين والآخرين إلى يوم القيامة. وقد أمرنا الله تعالى بمحبة أوليائه وإنزالهم منازلهم من العبودية، وسلب خصائص الإلهية عنهم، وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم، ونهانا عن الغلو فيهم، فلا نرفعهم فوق منْزلتهم، ولا نحطهم منها لما يعلمه تعالى في ذلك من الفساد العظيم، فما وقع الشرك إلا بسبب الغلو فيهم، فإن الشرك بهم غلو فيهم، وأنزلوهم منازل الإلهية، وعصوا أمرهم، وتنقصوهم في صورة التعظيم لهم، فتجد أكثر هؤلاء الغالين فيهم، العاكفين على قبورهم،(4/442)
ص -291- ... معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته، عائبين لها مشتغلين بقبورهم عما أمروا به ودعوا إليه.
وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما هي باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح، واقتفاء آثارهم، وسلوك طريقتهم دون عبادتهم وعبادة قبورهم، والعكوف عليها كالذين يعكفون على الأصنام واتخاذها أعيادًا ومجامع للزيارات والفواحش وترك الصلوات، فإن من اقتفى آثارهم كان متسببًا في تكثير أجورهم باتباعه لهم، ودعوته الناس إلى اتباعهم; فإذا أعرض عما دعوا إليه واشتغل بضده حرم نفسه وحرمهم ذلك الأجر.
فأي تعظيم لهم واحترام في هذا؟!
قال: وعن ابن عباس قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج"1. رواه أهل السنن.
ش: قوله: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور"2. أي: من النساء وهذا يدل على تحريم زيارة القبور عليهن كما هو مذهب أحمد وطائفة. وقيل في تعليل ذلك: إنه يخرجها إلى الجزع والندب والنياحة والافتتان بها وبصورتها وتأذي الميت ببكائها، كما في حديث آخر: "فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت". وإذا كان زيارة النساء مظنة وسببًا للأمور المحرمة في حقهن وحق الرجال، وتقدير ذلك غير مضبوط، لأنه لا يمكن حد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ولا التمييز بين نوع ونوع.
ومن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها، فتحرم سدًّا للذريعة، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة لما في ذلك من الفتنة، وكما حرمت الخلوة بالأجنبية، وليس في زيارتها من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة، لأنه ليس في زيارتها إلا دعواها للميت أو اعتبارها به، وذلك ممكن في بيتها.
وقد روى الإمام أحمد وابن ماجة والحاكم عن حسان بن ثابت مرفوعًا: "لعن رسول الله زوارات القبور"3. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعن زوارات القبور"4. رواه أحمد(4/443)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الصلاة (320) , والنسائي : الجنائز (2043) , وأبو داود : الجنائز (3236) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337).
2 الترمذي : الصلاة (320) , والنسائي : الجنائز (2043) , وأبو داود : الجنائز (3236) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337).
3 الترمذي : الجنائز (1056) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1576).
4 مسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2702) , وأحمد (4/211).(4/444)
ص -292- ... وابن ماجة، والترمذي وصححه، وضعفه عبد الحق، وحسنه ابن القطان. ولا يعارض هذا حديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"رواه مسلم وغيره; لأن هذا إن سلم دخول النساء فيه، فهو عامّ والأول خاص، والخاص مقدم عليه، وأيضا ففي دخول النساء في خطاب الذكور خلاف عند الأصوليين.
قوله: "والمتخذين عليها المساجد"1 تقدم في الباب قبله شرحه وتعليله.
قوله: (والسرج). هذا دليل على تحريم اتخاذ السرج على القبور.
قال أبو محمد المقدسي: لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله، لأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطا في تعظيم القبور، أشبه تعظيم الأصنام. وقال ابن القيم: اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها من الكبائر.
ووجه إيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب دون الذي قبله، هو أنه لعن المتخذين عليها المساجد والسرج، وقرن بينهما، فهما قرينان في اللعنة، فدل ذلك على أنه ليس المنع من اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة، بل لأجل نجاسة الشرك، ولذلك قرن بينه وبين من لا سراج عليها، وليس النهي عن الإسراج لأجل النجاسة، فكذلك البناء.
قوله: (رواه أهل "السنن") يعني هنا أبا داود، وابن ماجة، والترمذي فقط، ولم يروه النسائي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الإيمان (2641).
[16- باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك]
الجناب: هو الجانب. واعلم أن في الأبواب المتقدمة شيئًا من حمايته صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد، ولكن أراد المصنف هنا بيان حمايته(4/445)
ص -293- ... الخاصة. ولقد بالغ صلى الله عليه وسلم وحذر وأنذر، وأبدأ وأعاد، وخص وعم في حماية الحنيفية السمحة التي بعثه الله بها، فهي حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل، كما قال بعض العلماء: هي أشد الشرائع في التوحيد والإبعاد عن الشرك، وأسمح الشرائع في العمل.
قال: وقوله تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ...} 1 .
ش: قوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} 2. هذا خطاب من الله تعالى للعرب في قول الجمهور، وهذا على جهة تعديده نعمه عليهم، إذ جاءهم بلسانهم، وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة، وشرفوا به أبد الآبدين.
وقوله: رسول، أي: رسول عظيم أرسله الله إليكم من أنفسكم، أي: ترجعون معه إلى نفس واحدة، لأنه وأنتم من أب قريب، كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3. وذلك أقرب وأسرع إلى فهم الحجة، وأبعد من المحْكِ واللجاجة، وهذا يقتضي مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب.
قال جعفر بن محمد في قوله:{مِنْ أَنْفُسِكُمْ} قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية.
وقوله:{عَزِيزٌ عَلَيْهِ} 4 أي: شديد عليه جدا ما عنتم، أي: عنتكم وهو لحاق الأذى الذي يضيق به الصدر، ولا يهتدي للمخرج، وهي هنا لفظ عام أي: ما شق عليكم من كفر وضلال وقتل وأسر وامتحان بسبب الحق. و"ما" مصدرية وهي مبتدأ، و "عزيز" خبر مقدم، ويجوز أن يكون "ما عنتم" فاعلاً ب "عزيز" و "عزيز" صفة للرسول، وهذا أصوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 128.
2 سورة التوبة آية : 128.
3 سورة البقرة آية : 129.
4 سورة التوبة آية : 128.(4/446)
ص -294- ... وقوله:{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي: بليغ الحرص عليكم، أي: على نفعكم وإيمانكم وهداكم. والمعنى: شدة طلب الشيء على الاجتهاد فيه.
وروى الطبراني بإسناد جيد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهوى إلا وهو يذكر لنا منه علمًا. قال: وقال: "ما بقي شيء يقرِّب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم".
وروى مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثلي كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها قال: "فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار. هَلُمَّ عن النار، هَلُمَّ عن النار، فتغلبونني وتَقَحَمُّون فيها"1 .
وقوله:{بِالْمُؤْمِنِينَ}، أي: لا بغيرهم، كما يفيده تقديم الجار رؤءوف، أي: بليغ الشفقة. قال أبو عبيدة: الرأفة أرق الرحمة (رحيم). أي: بليغ الرحمة، كما هو اللائق بشريف منصبه، وعظيم خلقه، فتأمل هذه الآية وما فيها من أوصافه الكريمة ومحاسنه الجمة التي تقتضي أن ينصح لأمته، ويبلغ البلاغ المبين، ويسد الطرق الموصلة إلى الشرك، ويحمي جناب التوحيد غاية الحماية، ويبالغ أشد المبالغة في ذلك لئلا تقع الأمة في الشرك، وأعظم ذلك الفتنة بالقبور، فإن الغلو فيها هو الذي جر الناس في قديم الزمان وحديثه إلى الشرك، لا جرم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وحمى جناب التوحيد حتى في قبره الذي هو أشرف القبور، حتى نهى عن جعله عيدًا، ودعا الله أن لا يجعله وثنًا يعبد.
وفي الآية مسائل:
منها: التنبيه على هذه النعمة العظيمة، وهي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الملاحم (4339) , وابن ماجه : الفتن (4009).(4/447)
ص -295- ... إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم فينا، كما قال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1 .
ومنها: كونه منا نعمة أخرى عظيمة.
ومنها: كونه بهذه الصفات نعم متعددة.
ومنها: مدح نسبه صلى الله عليه وسلم فهو أشرف العرب بيتًا ونسبًا.
ومنها: رأفته بالمؤمنين.
ومنها: غلظته على الكفار والمنافقين.
قال: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلُّوا عَلَيَّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم"2. رواه أبو داود بإسناد حسن. رواته ثقات.
ش قوله: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا"3. قال شيخ الإسلام نور الله ضريحه: أي: لا تعطّلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنْزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى، ومن تشبه بهم.
وفي "الصحيحين" عن ابن عمر مرفوعا "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا"4 .
وفي "صحيح مسلم" عن ابن عمر مرفوعًا "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه"5.
وفيه أن الصلاة في المقبرة لا تجوز، وأن التطوع في البيت أفضل منه في المسجد. وفي حديث أبي هريرة الذي ذكرنا كراهة القراءة في المقابر، وكل هذا إبعاد لأمته عن الشرك.
قوله: "ولا تجعلوا قبري عيدًا"6. قال شيخ الإسلام: "العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائدًا إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك وتقدم ذلك".
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "العيد ما يعتاد مجيئه(4/448)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 164.
2 أبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/367).
3 أبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/367).
4 البخاري : الصلاة (432) والجمعة (1187) , ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (777) , والنسائي : قيام الليل وتطوع النهار (1598) , وأبو داود : الصلاة (1448) , وأحمد (2/16 ,2/122).
5 مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (780) , والترمذي : فضائل القرآن (2877) , وأحمد (2/284 ,2/337 ,2/378 ,2/388).
6 أبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/367).(4/449)
ص -296- ... وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإن كان اسمًا للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة أو لغيرها، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدًا للحنفاء ومثابة، كما جعل أيام العيد فيها عيدًا، وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوّض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام مني، كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر".
وقال غيره: "هذا أمر بملازمة قبره والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه، ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين، فكأنه قال: لا تجعلوه كالعيد الذي يكون من الحول إلى الحول، واقصدوه كل ساعة وكل وقت".
قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا مراغمة ومحادة ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وقلب للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التلبيس والتدليس بعد التناقض، فقاتل الله أهل الباطل أنَّى يؤفكون. ولا ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر وملازمته وكثرة انتيابه بقوله: لا تجعلوا عيدًا، فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان، وهكذا غُيِّرَت أديان الرسل، ولولا أن الله أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابّين عنه، لجرى عليه، ما جرى على الأديان قبله. ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله هؤلاء الضلال لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ويلعن فاعل ذلك، فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها وأن يعتاد قصدها وانتيابها؟! ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنًا يعبد، وكيف يقول أعلم الخلق بذلك: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجدًا، وكيف يقول: "لا تجعلوا قبري(4/450)
ص -297- ... عيدًا، وصلُّوا عليّ حيثما كنتم"1. وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف؟! وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما، نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم واستدل بالحديث وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علي رضي الله عنهما، وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال، وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته، كره أن يقصد الرجل القبر إذا لم يكن يريد المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدًا. انتهى.
قلت: وكيف يريد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى ويعبر عنه بهذا الكلام، مع أنه أفصح الخلق وأنصحهم، وكان يمكنه أن يقول: أكثروا زيارة قبري، أو اجعلوه عيدًا تعتادون المجيء إليه والعبادة عنده؟! فظهر بطلان هذا القول.
إذا تبين ذلك، فمعنى الحديث نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، واجتماع معهود كالعيد الذي يكون على وجه مخصوص، في زمان مخصوص. وذلك يدل على المنع في جميع القبور وغيرها، لأن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدًا فقبر غيره أولى بالنهي كائنًا من كان. قال المصنف: وفيه النهي عن الإكثار من الزيارة.
قوله: "وصلُّوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"2. قال شيخ الإسلام: يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدًا. انتهى.
وقد روى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما من أحد يسلِّم عَلَيَّ إلا رد الله عَلَيَّ روحي حتى أرد عليه السلام" 3 ؟ وعن أوس بن أوس مرفوعًا: "أكثروا من الصلاة علي يوم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/367).
2 أبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/367).
3 أبو داود : المناسك (2041) , وأحمد (2/527).(4/451)
ص -298- ... الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي" قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: "إن الله حرّم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء"1. رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة.
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن صلاتنا عليه تبلغه سواء كنا عند قبره أو لم نكن، فلا مزية لمن سلم عليه أو صلى عند قبره، كما قال الحسن بن الحسن: ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء.
وأما حديث: . فرواه البيهقي [في حياة الأنبياء ص: 15]، وغيره من حديث العلاء بن عمرو الحنفي: حدثنا أبو عبد الرحمن عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. قال البيهقي: أبو عبد الرحمن هذا، هو محمد بن مروان السدي فيما أرى، وفيه نظر.
قلت: محمد بن مروان السدي الصغير قال فيه يحيى بن معين: ليس بثقة، وقال الجوزجاني: ذاهب الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وكذلك قال أبو حاتم الرازي والأزدي.
وقال صالح بن محمد: كان يضع الحديث على أن معناه صحيح معلوم من أحاديث أخر، كإخباره بسماع الموتى لسلام من يسلم عليهم إذا مر على قبورهم.
فإن قيل: إذا سمع سلام المسلم عليه عند قبره حصلت المزية بسماعه.
قيل: هذا لو حصل الوصول إلى قبره، أما وقد منع الناس من الوصول إليه بثلاثة الجدران، فلا تحصل مزية، فسواء سلم عليه عند قبره أو في مسجده إذا دخله، أو في أقصى المشرق والمغرب، فالكل يبلغه، كما وردت به الأحاديث، وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي والمسلم بنفسه، إنما فيها أن ذلك يعرض عليه ويبلغه صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر به الله، سواء صلى عليه في مسجده أو في مدينته أو في مكان آخر، فعلم أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي : الجمعة (1374) , وأبو داود : الصلاة (1047 ,1531) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1636) , وأحمد (4/8) , والدارمي : الصلاة (1572).(4/452)
ص -299- ... ما أمر الله به من ذلك فإنه يبلغه، وأما من سلم عليه عند قبره فإنه يرد عليه وذلك كالسلام على سائر المؤمنين ليس هو من خصائصه، ولكن لا يوصل إلى قبره صلى الله عليه وسلم.
قال: وعن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه. وقال ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، فإنّ تسليمكم يبلغني أين كنتم"1. رواه في " المختارة".
ش: هذان الحديثان جيدان، حسنا الإسنادين، أما الحديث الأول فرواه أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع الصائغ قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة... فذكره. ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع فيه لين لا يمنع الاحتجاج به. قال ابن معين: هو ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ تعرف وتنكر. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومثال هذا قد يخاف أن يغلط أحيانًا، فإذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة.
وقال الحافظ ابن عبد الهادي: هو حديث حسن جيد الإسناد، وله شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الصحة.
وأما الحديث الثاني فرواه أبو يعلى والقاضي إسماعيل والحافظ الضياء في "المختارة".
قال أبو يعلى: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا زيد بن الحباب ثنا جعفر بن إبراهيم من "ولد" ذي الجناحين ثنا علي بن عمر عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/367).(4/453)
ص -300- ... أبيه عن علي بن حسين... فذكره.
وعلي بن عمر: هو علي بن عمر بن علي بن الحسين. قال شيخ الإسلام: فانظر كيف هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا أضبط.
قلت: وللحديثين شواهد، منها ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان عن سهيل عن جبير بن حنين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"1. وقال سعيد بن منصور: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل [المدني العابد]، قال: أتى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"2. ما أنتم ومَنْ بالأندلس إلا سواء. ورواه القاضي إسماعيل في كتاب (فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم)3. ولم يذكر: ما أنتم ومَنْ بالأندلس إلا سواء.
وقال سعيد: أيضًا حدثنا حبان ابن علي ثنا محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني"4. قال شيخ الإسلام: "فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله، وذلك يقتضي(4/454)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/367).
2 أبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/367).
3 وقد طبع لأول مرة في المكتب الإسلامي.
4 أبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/367).(4/455)
ص -301- ... ثبوته عنده، هذا لو لم يرو من وجوه مسندة غير هذين، فكيف وقد تقدم مسندًا".
قوله: (عن علي بن الحسين). أي: ابن علي بن أبي طالب المعروف بزين العابدين رضي الله عنه وهو أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم.
قال الزهري: "ما رأيت قرشيًّا أفضل منه. مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح، وأبوه الحسين سبط النبي صلى الله عليه وسلم وريحانته، وحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسون سنة".
قوله: (إنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة) -هو بضم الفاء وسكون الراء واحدة الفرج- وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما.
قوله: (فيدخل فيها فيدعو فنهاه إلى آخر الحديث). وهذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها كما تقدم بعض ذلك، لأن ذلك من اتخاذها عيدًا كما فهمه علي بن الحسين من الحديث. فنهى ذلك الرجل عن المجيء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم للدعاء عنده، فكيف بقبر غيره؟!
ويدل أيضًا على أن قصد الرجل القبر لأجل السلام إذا لم يكن يريد المسجد من اتخاذه عيدًا المنهي عنه، ولهذا لما رأى الحسن بن الحسن سهيلا عند القبر نهاه عن ذلك وذكر له الحديث مستدلا به، وأمر بالسلام عليه عند دخول المسجد. قال شيخ الإسلام: ما علمت أحدًا، أي: من علماء السلف رخص فيه، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدًا، ويدل أيضًا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهي عنه، لأن ذلك من اتخاذه عيدًا، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك.
قال: ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، بل كان الصحابة والتابعون(4/456)
ص -302- ... يأتون إلى مسجده صلى الله عليه وسلم فيصلون خلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا، أو خرجوا ولم يكونوا يأتون القبر للسلام، لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل. وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك، أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم بل نهاهم بقوله: "لا تتخذوا قبري عيدًا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني"1. فبين أن الصلاة تصل إليه من بعد وكذلك السلام. ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة فيها، وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر. وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه لا لسلام ولا لصلاة ولا لدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلامًا أو سلامًا فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبين لهم الأحاديث أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج كما طمع الشيطان في غيرهم، فأضلهم عند قبره وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجًا من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم، فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج.
والمقصود أن الصحابة ما كانوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره، كما يفعله من بعدهم من الخلوف، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر، كما كان ابن عمر رضي الله عنه يفعل. قال عبيد الله بن عمر عن نافع: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه، ثم ينصرف. قال عبيد الله: ما نعلم أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر.
وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما(4/457)
يفعله كثير. قال شيخ الإسلام: إن ذلك لم ينقل عن أحد من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/367).(4/458)
ص -303- ... الصحابة، فكان بدعة محضة. وفي "المبسوط" قال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ليسلم ويمضي. والحكاية التي رواها القاضي عياض بإسناده عن مالك في قصته مع المنصور وأنه قال لمالك: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به يشفعه الله فيك. فهذه الرواية ضعيفة، أو موضوعة لأن في إسنادها من يتهم محمد بن حميد ومن يجهل حاله.
ونص أحمد أنه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره وذلك بعد تحيته والسلام عليه، فظاهر هذا أنه يقف للدعاء بعد السلام. وذكر أصحاب مالك أنه يدعو مستقبلاً القبلة يوليه ظهره.
وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر، وتنازعوا هل يستقبله عند السلام عليه أم لا؟ ومن الحجة في ذلك ما روى ابن زبالة وهو في "أخبار المدينة" عن عمر بن هارون، عن سلمة بن وردان وهما ساقطان قال: رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر، ثم يدعو.
وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره صلى الله عليه وسلم، وإلى غيره من القبور والمشاهد، لأن ذلك من اتخاذها أعيادًا، بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها، كما وقع من عباد القبور الذين يشدون إليها الرحال، وينفقون في ذلك الكثير من الأموال، وليس لهم مقصود إلا مجرد الزيارة للقبور تبركًا بتلك القباب والجدران فوقعوا في الشرك.
هذه المسألة التي أفتى فيها شيخ الإسلام أعني من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ومشاهدهم ونقل فيها اختلاف العلماء في الإباحة والمنع، فمن مبيح لذلك كأبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي، ومن مانع لذلك كابن بطة وابن عقيل وأبي محمد الجويني والقاضي عياض، وهو قول الجمهور نص عليه مالك ولم يكن يخالفه أحد من الأئمة(4/459)
وهو الصواب.
فقام عليه بعض(4/460)
ص -304- ... المعاصرين له كالسبكي ونحوه فنسبه إلى إنكار الزيارة مطلقًا وهو لم ينكر منها إلا ما كان بشد رحل، كما أنكره جمهور العلماء قبله، أو الزيارة التي يكون فيها دعاء الأموات والاستغاثة بهم في الملمات، مع ما ينضم إلى ذلك من أنواع المنكرات.
ومما يدل على النهي عن شد الرحال إلى القبور ونحوها ما أخرجاه في "الصحيحين" عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"1. فدخل في ذلك شدها لزيارة القبور والمشاهد فإما أن يكون نهيًا، وإما أن يكون نفيًا للاستحباب.
وقد جاء في رواية في "الصحيح" بصيغة النهي صريحًا فتعين أن يكون للنهي. ولهذا فهم منه الصحابة المنع، كما في "الموطأ" و "السنن" عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لأبي هريرة وقد أقبل من الطور: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"2. وروى الإمام أحمد وعمر بن شبه في "أخبار المدينة" بإسناد جيد عن قزعة. قال: أتيت ابن عمر فقلت: "إني أريد الطور. فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك الطور فلا تأته".
وروى أحمد وعمر بن شبه أيضًا عن شهر بن حوشب. قال: سمعت أبا سعيد وذكر عنده الصلاة في الطور. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"3.
فأبو سعيد جعل الطور مما نهي عن شد الرحال إليه، مع أن اللفظ الذي ذكره إنما فيه النهي عن شدها إلى المساجد، فدل على أنه علم أن غير المساجد أولى بالنهي. والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة وأن الله تعالى سماه(4/461)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الجمعة (1189) , ومسلم : الحج (1397) , والنسائي : المساجد (700) , وأبو داود : المناسك (2033) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) , وأحمد (2/238) , والدارمي : الصلاة (1421).
2 النسائي : الجمعة (1430) , وأحمد (6/7) , ومالك : النداء للصلاة (243).
3 الترمذي : الصلاة (326) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1410) , وأحمد (3/64).(4/462)
ص -305- ... {الْوَادِ الْمُقَدَّسِ} و {الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ}، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} هناك.
وهذا ظاهر لا يخفى على أحد ممن يقول بفحوى الخطاب وتنبيهه، وهم الجمهور والأئمة الأربعة وأتباعهم ولهذا لم يوجبوا على من نذر أن يسافر إلى أثر نبي من الأنبياء قبورهم أو غير قبورهم الوفاء بذلك، بل لو سافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعًا باتفاق الأئمة الأربعة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت راكبًا وماشيًا، وإن كان في وجوب الوفاء بنذر إتيانه خلاف والجمهور على أنه لا يجب.
وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفَّى بنذره، وإن كان مقصوه مجرد زيارة القبر من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره. قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد"1. ذكره إسماعيل ابن إسحاق في "المبسوط" ومعناه في "المدونة" و "الجلاب" وغيرهما من كتب أصحاب مالك.
وبالجملة فقد تنازع العلماء في جواز شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، فالجمهور على المنع، وطائفة من المتأخرين على الجواز، فاستحباب شد الرحال إلى القبور والمشاهد والتقرب به إلى الله كما ظنه السبكي وغيره، قول مبتدع مخالف للإجماع قبله، والأحاديث التي احتج بها كحديث: "من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي"، ونحوها لا يصح منها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه البتة، بل هي ما بين ضعيف وموضوع، أو كلها موضوعة كما قد بين عِلَلَها شيخ الإسلام وغيره. وكثير منها لا يدل على محل النّزاع إذ ليس فيه إلا مطلق الزيارة.
وذلك لا ينكره شيخ الإسلام ولا غيره من العلماء، لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي : الجمعة (1430) , وأحمد (6/7) , ومالك : النداء للصلاة (243).(4/463)
ص -306- ... محمول على الزيارة الشرعية الجارية على وفق مراد النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي لا يكون فيها شرك ولا شد رحل إلى قبر، وبتقدير ثبوتها لا تدل على شد الرحال إلى قبر غيره، والسبكي أجاز ذلك في سائر القبور فخالف الأحاديث وخرق الإجماع، والله أعلم.
قال المصنف: وفيه أنه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض عليه أعمال أمته في الصلاة والسلام.
قوله: رواه في "المختارة" المختارة: كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة على "الصحيحين" ومؤلفه هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي، أحد أعلام الإسلام وحفاظ الحديث. قال الذهبي أفنى عمره في هذا الشأن مع الدين المتين والورع والفضيلة التامة والثقة والإتقان، انتفع الناس بتصانيفه والمحدثون بكتبه فالله يرحمه ويرضى عنه. وقال شيخ الإسلام: تصحيحه في "مختاراته" خير من تصحيح الحاكم بلا ريب. مات سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
[17- باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان]
ش: أراد المصنف بهذه الترجمة الرد على عباد القبور، الذين يفعلون الشرك ويقولون: إنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فبين في هذا الباب من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تنوع الشرك في هذه الأمة ورجوع كثير منها إلى عبادة الأوثان، وإن كانت طائفة منها لا تزال على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى.
قال: وقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1.
ش: يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً} 2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 51.
2 سورة آل عمران آية : 23.(4/464)
ص -307- ... أي: أعطوا نصيبًا أي: حظًّا {مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1. روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: "لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى إلى هذا الصنبور2 المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج، وأهل السدنة وأهل السقاية قال: أنتم خير، قال فنَزلت فيهم:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر] ونزل:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ...} إلى.{... نَصِيراً}".
وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: "جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب، وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد فقال: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من غفار. فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلاً، فأنزل الله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}".
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان.
وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم، وعن ابن عباس وعكرمة وأبي مالك: الجبت: الشيطان زاد ابن عباس بالحبشية وعن ابن عباس أيضًا الجبت: الشرك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 51.
2 هو الأبتر الذي لا عقب له, وأصله سعفة تنبت في جذع النخلة لا في الأرض, وقيل: هي النخلة المنفردة التي دق أسفلها. أرادوا أنه إذا قلع انقطع ذكره كما يذهب الصنبور; لأنه لا عقب له.(4/465)
ص -308- ... وعنه الجبت: الأصنام، وعنه الجبت: حيي ابن أخطب، وعن الشعبي الجبت: الكاهن.وعن مجاهد الجبت: كعب ابن الأشرف.
قلت: الظاهر أنه يعم ذلك كله كما قال الجوهري: الجبت: كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك. وفي الحديث "الطيرة والعيافة والطرق من الجبت" قال: وهذا ليس من محض العربية لاجتماع الجيم والباء في حرف واحد من غير حرف ذولقي1.
قال المصنف: وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في [هذا] الموضع، هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟ وأما الطاغوت فتقدم الكلام عليه في أول الكتاب.
قال: وقوله تعالى:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} 2.
ش: يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب، الطاعنين في دينكم الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادة، دون ما سواه {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} 3، أي: هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا، هم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المذمومة المفسرة بقوله:{مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} 4، أي: أبعده وطرده من رحمته وغضب عليه، أي: غضبًا لا يرضى بعده، وجعل منهم القردة والخنازير، أي: مسخ منهم الذين عصوا أمره، فجعلهم قردة وخنازير، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والحروف الذولقية ستة: الراء واللام والنون والفاء والباء والميم.
2 سورة المائدة آية : 60.
3 سورة المائدة آية : 60.
4 سورة المائدة آية : 60.(4/466)
ص -309- ... لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} 1.وذلك أن الله تعالى أخذ عليهم تعظيم السبت، والقيام بأمره، وترك الاصطياد فيه، وكانت الحيتان لا تأتيهم إلا يوم السبت، فتحيلوا اصطيادها فيه بما وضعوه لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت الحيتان يوم السبت على عادتها نشبت تلك الحبائل فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك مسخهم الله تعالى إلى صورة القردة، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، فكان جزاؤهم من جنس عملهم.
قال العوفي عن ابن عباس في قوله:{فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} 2 فجعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شباب القوم صاروا قردة والمشيخة صاروا خنازير.
وروى مسلم في "صحيحه" عن ابن مسعود قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله؟ فقال: إن الله لم يهلك قومًا أو قال: لم يمسخ قومًا فيجعل الله لهم نسلاً ولا عاقبة، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك"3.
وفي هذه القصة دليل قاطع على تحريم الحيل التي يتوصل بها إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال ونحو ذلك.
وقوله: {وعبد الطاغوت}. قال شيخ الإسلام: الصواب أنه معطوف على قوله:{مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} 4. فهو فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية، أي: من لعنه الله ومن غضب عليه، ومن جعل منهم القردة والخنازير، ومن عبد الطاغوت. لكن الأفعال المقدمة الفاعل فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 65.
2 سورة البقرة آية : 65.
3 مسلم : القدر (2663) , وأحمد (1/390 ,1/395 ,1/396 ,1/421).
4 سورة المائدة آية : 60.(4/467)
ص -310- ... هو اسم الله مظهرًا ومضمرًا، وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت، وهو الضمير في "عبد".
ولم يعد سبحانه لفظ "من" لأنه جعل هذه الأفعال كلها صفة لصنف واحد وهم اليهود.
قال: وقوله:{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 1.
ش: يخبر تعالى عن الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف أنهم قالوا هذه المقالة لنتخذن عليهم مسجدًا.
وقد حكى ابن جرير في القائلين في ذلك قولين، أحدهما: أنهم المسلمون. والثاني: أنهم المشركون. وعلى القولين فهم مذمومون.
1- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد يحذر ما فعلوا"2. رواه البخاري ومسلم.
2- ولما يفضي إليه ذلك من الإشراك بأصحابها كما هو الواقع. ولهذا لما فعلته اليهود والنصارى جرهم ذلك إلى الشرك، فدل ذلك على أن هذه الأمة تفعله كما فعلته اليهود والنصارى، فيجرها ذلك إلى الشرك، لأن ما فعلته اليهود والنصارى ستفعله هذه الأمة شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى وبهذا يظهر وجه استشهاد المصنف بهذه الآيات.
قال عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله! آليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!"3. أخرجاه.
ش: هذا الحديث أورده المصنف بهذا اللفظ معزوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكهف آية : 21.
2 البخاري : الجنائز (1330) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي : المساجد (703) , وأحمد (1/218) , والدارمي : الصلاة (1403).
3 البخاري : أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم : العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94).(4/468)
ص -311- ... "للصحيحين". ولعله نقله عن غيره ولفظهما، والسياق لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا: يا رسول الله آليهود والنصارى؟ قال فمن؟!"1. ويحتمل أن يكون مرويًّا عند غيرهما باللفظ الذي ذكره المصنف وأراد أصله لا لفظه.
قوله: (لتتبعن)، هو بضم العين وتشديد النون.
قوله: (سنن)، بفتح المهملة، أي: طريق من كان قبلكم. أي: الذين قبلكم قال الْمُهَلَّب: الفتح أولى، وقال ابن التين: قرأناه بضمها.
قوله: (حذو القذة بالقذة)، هو بنصب حذو على المصدر، والقذة - بضم القاف - واحدة القذذ وهي ريش السهم، وله قذتان متساويتان، أي: لتفعلن أفعالهم، ولتتبعن طرائقهم حتى تشبهوهم وتحاذوهم، كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى، ثم إن هذا لفظ خبر معناه النهي عن متابعتهم، ومنعهم من الالتفات لغير دين الإسلام، لأن نوره قد بهر الأنوار وشريعته نسخت الشرائع، وهذا من معجزاته، فقد اتبع كثير من أمته سنن اليهود والنصارى وفارس في شيمهم ومراكبهم وملابسهم، وإقامة شعارهم في الأديان والحروب والعادات من زخرفة المساجد، وتعظيم القبور واتخاذها مساجد، حتى عبدوها ومن فيها من دون الله، وإقامة الحدود والتعزيرات على الضعفاء دون الأقوياء، وترك العمل يوم الجمعة، والتسليم بالأصابع، وعدم عيادة المريض يوم السبت، والسرور بخميس البيض، وأن الحائض لا تمس عجينًا، واتخاذ الأحبار والرهبان أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله، والإعراض عن كتاب الله، والإقبال على كتب الضلال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم : العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94).(4/469)
ص -312- ... من السحر والفلسفة والكلام والتكذيب بصفات الله التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم ووصفه بما لا يليق به من النقائص والعيوب إلى غير ذلك مما اتبعوا فيه اليهود والنصارى.
قوله: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، الْجحر - بضم الجيم بعدها حاء مهملة - معروف.
وفي حديث آخر: "حتى لو كان فيهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك"1 وفي حديث آخر: "حتى لو أن أحدهم جامع أمه في الطريق لفعلتموه"صحت بذلك الأحاديث، فأخبر أن أمته ستفعل ما فعلته اليهود والنصارى وفارس من الأديان والعادات والاختلاف.
قال شيخ الإسلام: هذا خرج مخرج الخبر والذم لمن يفعله كما كان يخبر عما يكون بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمة.
وقال غيره: وجمع ذلك أن كفر اليهود أشد من جهة عدم العمل بعلمهم فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه عملاً ولا قولاً، وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم، فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون ما لا يعلمون، ففي هذه الأمة من يحذو حذو الفريقين.
ولهذا كان السلف كسفيان بن عيينة يقولون: من فسد من علمائنا، ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى، وقضاء الله نافذ بما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم بما سبق في علمه، لكن ليس الحديث إخبارًا عن جميع الأمة لما تواتر عنه أنها لا تجتمع على ضلالة.
قوله: "قالوا: يا رسول الله آليهود والنصارى؟ قال فمن؟" هو برفع اليهود خبر مبتدأ محذوف، أي: أهم اليهود والنصارى الذين نتبع سنتهم؟ وقوله: قال: "فمن" استفهام إنكار، أي: فمن هم غير أولئك؟ ثم إنه فسر هنا باليهود والنصارى، وفي رواية أبي هريرة في البخاري بفارس والروم ولا تعارض، كما قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الإيمان (2641).(4/470)
ص -313- ... بعضهم لاختلاف الجواب بحسب اختلاف المقام، فحيث قيل: فارس والروم كان ثم قرينة تتعلق بالحكم بين الناس، وسياسة الرعية، وحيث قيل: اليهود والنصارى كان هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات، أصولها وفروعها كذا قال. ولا يلزم وجود قرينة، بل الظاهر أنه أخبر أن هذه الأمة ستفعل ما فعلته الأمم قبلها من الديانات والعادات والسياسات مطلقًا، والتفسير ببعض الأمم لا ينفي التفسير بأمة أخرى، إذ المقصود التمثيل لا الحصر.
ووجه مطابقة الحديث للترجمة واضح؛ لأن الأمم قبلنا وجد فيها الشرك، فكذلك يوجد في هذه الأمة كما هو الواقع.
[إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن أمر أمته سيتسع]
قال: ولمسلم عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنْزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا"1.
ورواه البرقاني في " صحيحه " وزاد: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان،وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى"2.
ش: هذا الحديث رواه أبو داود في "سننه" وابن ماجة بالزيادة التي زكرها المصنف، ورواه الترمذي مختصرًا ببعضها.(4/471)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الفتن وأشراط الساعة (2889) , والترمذي : الفتن (2176) , وأبو داود : الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه : الفتن (3952) , وأحمد (5/284).
2 أبو داود : الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه : الفتن (3952) , وأحمد (5/278 ,5/284) , والدارمي : المقدمة (209).(4/472)
ص -314- ... قوله: (عن ثوبان). هو ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم صحبه ولازمه ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين.
قوله: (زوى لي الأرض). قال التوربشتي: زويت الشيء جمعته وقبضته، يريد به تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب. وحاصله أن الله طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة نظره.
وقال القرطبي: "أي جمعها لي حتى أبصرت ما تملك أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها، وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن الله تعالى قوى إدراك بصره، ورفع عنه الموانع المعتادة فأدرك البعيد من موضعه كما أدرك بيت المقدس من مكة، وأخذ يخبرهم عن آياته وهو ينظر إليه. وكما قال: "إني لأبصر قصر المدائن الأبيض". ويحتمل أن يكون مثلها الله له، والأول أولى".
قوله: (وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها). قال القرطبي: "هذا الخبر وجد مخبره كما قاله، فكان ذلك من دلائل نبوته، وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى بحر طنجة، بالنون والجيم الذي هو منتهى عمارة المغرب وإلى أقصى المشرق، ما وراء خراسان والنهر وكثير من بلاد الهند والسند والصغد. ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال، ولذلك لم يذكر عليه السلام أنه أريه ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه".
وقوله: (زوى)، يحتمل أن يكون مبنيًّا للفاعل، وأن يكون مبنيًّا للمفعول والأول أظهر.
قوله: (وأعطيت الكنْزين: الأحمر والأبيض)، قال القرطبي: يعني بهما كنز كسرى وهو ملك الفرس، وكنْز قيصر وهو ملك الروم، وقصورهما وبلادهما. وقد دل على ذلك قوله عليه السلام حين أخبر عن هلاكهما: "والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله" وعبر بالأحمر عن كنْز قيصر، لأن الغالب عندهم كان الذهب، وبالأبيض عن كنْز كسرى لأن الغالب عندهم كان الجوهر والفضة. وقد ظهر ذلك ووجد كذلك في زمان الفتوح في(4/473)
ص -315- ... إمارة عمر رضي الله عنه، فإنه سيق إليه تاج كسرى وحليته، وما كان في بيوت أمواله وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها، وكذلك فعل الله بقيصر لما فتحت بلاده. كذا قال في الغالب على كنوز كسرى وقيصر وعكس ذلك التوربشتي والخلخالي. والأبيض والأحمر منصوبان على البدل.
قوله: (وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة)، هكذا ثبت في أصل المصنف بعامة بالباء وهي رواية صحيحة في أصل "مسلم" وفي بعض أصوله بسنة عامة بحذفها.
قال القرطبي: "وكأنها زائدة لأن عامة صفة لسنة فكأنه قال: بسنة عامة. ويعني بالسنة: الجدب العام الذي يكون به الهلاك العام، ويسمى الجدب والقحط سنة ويجمع على سنين كما قال تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} 1. أي: بالجدب المتوالي.
قوله: (من سوى أنفسهم). أي: من غيرهم يعني الكفار.
قوله: (فيستبيح بيضتهم). قال الجوهري: بيضة كل شيء: حوزته، وبيضة القوم: ساحتهم، وعلى هذا فيكون معنى الحديث: أن الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض، ولو اجتمع عليهم كل من بين أقطار الأرض، وهو جوانبها.
وقيل: بيضتهم معظمهم وجماعتهم.
قلت: وهذا هو الظاهر، وأن الله تعالى لا يسلط الكفار على معظم المسلمين وجماعتهم وإمامهم ما داموا بضد هذه الأوصاف المذكورة في قوله: (حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا). فأما إذا وجدت هذه الأوصاف، فقد يسلط الكفار على جماعتهم ومعظمهم وإمامهم كما وقع.
قوله: (وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد). قال بعضهم: أي: إذا حكمت حكمًا مبرمًا فإنه نافذ لا يرد بشيء، ولا يقدر أحد على رده، بل كل جميع الخلق تمضي عليهم الأقدار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 130.(4/474)
ص -316- ... طوعًا وكرهًا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا راد لما قضيت".
قلت: الظاهر أنه سواء في ذلك المبرم والمعلق، فالكل لا يرد فإن هذا إخبار عن عدم الرد لجنس القضاء، والنبي صلى الله عليه وسلم سأل ذلك مطلقًا فأجيب بهذا، واستجاب له دعاءه ما لم يوجد الشرط المقتضي لتسليط العدو، فإذا وجد ذلك وجد القضاء المعلق.
قوله: (حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا...) إلى آخره. أي: حتى يوجد ذلك منهم فإن وجد فإنه يسلط عليهم عدوهم من الكفار، فيستبيح جماعتهم وإمامهم ومعظمهم لا كل الأمة، ثم أيضًا تكون العاقبة لهذه الأمة إن رجعوا عما هم فيه من الأسباب الموجبة للتسليط، وكذلك وقع، فإن هذه الأمة لما جعل بأسها بينها اقتتلوا فأهلك بعضهم بعضًا، وسبى بعضهم بعضًا، فلما فعلوا ذلك تفرقت جماعتهم، واشتغل بعضهم ببعض عن جهاد العدو، واستولوا عليهم، كما وقع ذلك في المائة السابعة في المشرق والمغرب، فاختلفت ملوك المشرق وتخاذلوا واستولى التتار على غالب أرض خراسان، وعلى العراق وديار الروم، وقتلوا الخليفة والعلماء والملوك الكبار، وكذلك ملوك المغرب اختلفوا وتخاذلوا واستولت الإفرنج على جميع بلاد الأندلس والجزر القريبة منها، فهي في أيديهم إلى اليوم، بل استولوا على كثير من بلدان الشام حتى استنقذها منهم صلاح الدين ابن أيوب وغيره.
[خوف الرسول صلى الله عيه وسلم من الأئمة المضلين]
قوله: ورواه البرقاني في "صحيحه". البرقاني هو الحافظ الكبير أبو بكر محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي، ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ومات سنة خمس وعشرين وأربع مائة. قال الخطيب: كان ثبتًا ورعًا، لم نر في شيوخنا أثبت منه،(4/475)
ص -317- ... عارفًا بالفقه كثير التصنيف، صنف مسندًا ضمنه ما اشتمل عليه "الصحيحان" وجمع حديث الثوري، وحديث شعبة، وطائفة وكان حريصًا على العلم منصرف الهمة إليه.
قلت: وهذا "المسند" الذي ذكره الخطيب هو صحيحه الذي عزا إليه المصنف.
قوله: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين). أي: الأمراء والعلماء والعباد، الذين يقتدي بهم الناس، ويحكمون فيهم بغير علم فيضلون ويضلون، فهم ضالون عن الحق مضلون لغيرهم، كما قال تعالى عن أهل النار:{حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} 1. وقال تعالى:{رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} 2. وقال تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 3. ولشدة الضرورة إلى اتباع أئمة الهدى ومعرفتهم، والتفريق بينهم وبين أئمة الضلال المغضوب عليهم والضالين، أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى سلوك صراط أئمة الهدى، وهم المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير المغضوب عليهم؛ الذين يعلمون الحق ولا يعملون به، ولا الضالين الذين يعملون على غير شرع من الله، بل بما تهوى أنفسهم.
فصراط المنعم عليهم هو الجامع بين العلم بالهدى والعمل به، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم أئمة الهدى لما ذكر التفرق من بعده، بأنهم الذين كانوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما رواه أبو داود وغيره.
فمن كان على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو من الأئمة المهديين، ومن خالفهم فهو من الضالين، كالذي يقول لأصحابه من كانت له حاجة فليأت إلى قبري فإني أقضيها له، ولا خير في رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب، أو(4/476)
نحو هذا كالذي يدعي أنه يخلص أصحابه ومريديه من النار، وأنه يحفظ الناس ويكلأهم إذا اعتقدوه، ويضر بهم إذا كفروا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 38.
2 سورة الأحزاب آية : 67.
3 سورة الكهف آية : 103-104.(4/477)
ص -318- ... به وحاربوه، ويدعي أن ذلك من كراماته.
وكالذي يمشي في الأسواق عريانًا، ولا يشهد بصلاة ولا ذكر الله ولا علمًا، بل يعيب علماء الشرع، ويغمزهم ويسميهم أهل علم الظاهر، ويدعي أنه صاحب علم الباطن، وربما يدعي أنه يسعه الخروج من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام، ونحو ذلك من الكفر والهذيان. وكالذي يدعي أن العبد يصل مع الله إلى حال تسقط عنه التكاليف، أو يدعي أن الأولياء يدعون، ويستغاث بهم في حياتهم ومماتهم، وأنهم ينفعون ويضرون ويدبرون الأمور على سبيل الكرامة، أو أنه يطلع على اللوح المحفوظ، ويعلم أسرار الناس وما في ضمائرهم، أو يجوز بناء المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وإيقادها بالسرج والشموع، وكسوتها بالحرير والديباج، والفرش النفيسة، أو يدعي أن من عمل بالقرآن والسنة في أصول الدين وفروعه، فقد ضل وأضل وابتدع، أو أن ظواهر القرآن في آيات الصفات تشبيه وتمثيل، وأن الهدى لا يؤخذ منه في هذا الباب ولا في غيره، وإنما يؤخذ من الشبهات الوهمية التي يسميها بزعمه براهين عقلية. فكل هؤلاء وأشباههم من أئمة الضلال الذين خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وحذر منهم.
والضابط في الفرق بين أئمة المتقين وبين الأئمة المضلين قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 1 فافهم عن ربك وكن على بصيرة، ولا يغرك جلالة شخص أو عظمته في النفوس، فربك أعظم واتباعك لكلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم هو الفرض، والعصمة منتفية عن غير الرسول، وربك أدرى بما في الضمائر، فرب مَنْ تعتقده إمام هدى ليس كذلك، وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى(4/478)
شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل آية : 31-32.
2 سورة الجاثية آية : 18.(4/479)
ص -319- ... فكل مَن أتى بشيء يخالف ما جاء عن الله وعن رسوله، فهو من أهواء الذين لا يعلمون، ومن لم يستجب للرسول صلى الله عليه وسلم فإنما يتبع هواه.
قال الله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1. وقال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 2. وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين". رواه الدارمي .
وقال يزيد بن عميرة: "كان معاذ بن جبل لا يجلس مجلسًا للذكر إلا قال حين يجلس: الله حكم قسط هلك المرتابون". الحديث. وفيه: "واحذروا زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. قلت لمعاذ: ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال لي: اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال: ما هذه ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله يراجع الحق، وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نورًا". رواه أبو داود وغيره وما أحسن ما قال ابن المبارك رضي الله عنه:
وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها .
قوله: (وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة). أي: إذا وقعت الفتنة والقتال بينهم بقي إلى يوم القيامة، وكذلك وقع، فإن السيف لما وضع فيهم بقتل عثمان رضي الله عنه لم يرتفع إلى اليوم، وكذلك يكون إلى يوم القيامة، ولكن يكثر تارة ويقل أخرى، ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى.
قوله: (ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين). الحي واحد الأحياء، وهي القبائل وفي رواية أبي داود:(4/480)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القصص آية : 50.
2 سورة الأعراف آية : 3.(4/481)
ص -320- ... "ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين"1 والمعنى: أنهم ينْزلون معهم في ديارهم، ويصيرون منهم بالردة ونحوها.
[لا تقوم الساعة حتى تعبد فئام من الناس الأوثان]
قوله: (وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان). الفئام - مهموز - الجماعات الكثيرة، قاله أبو السعادات، وفي رواية أبي داود: (وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان)، ومعناه ظاهر.
وهذا هو شاهد الترجمة، ففيه الرد على من قال بخلافه من عباد القبور الذين ينكرون وقوع الشرك، وعبادة الأوثان في هذه الأمة. وفي معنى هذا ما في "الصحيحين" عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة"2. قال: وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية. وروى ابن حبان عن معمر قال: إن عليه الآن بيتًا مبنيًّا مغلقًا.
وفي "صحيح مسلم" عن عائشة مرفوعًا: "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى"3 وقيل: إن القبر المنسوب إلى ابن عباس بالطائف إنه قبر اللات، وكانوا يعبدونه، ويطوفون به ويقربون إليه القرابين وينذرون له النذور ويسألونه قضاء حاجتهم وتفريج كربتهم.
إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون في هذه الأمة دجالون كذابون
قوله: (وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون)، كلهم يزعم أنه نبي. قال القرطبي: وقد جاء عددهم معينًا في حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون، منهم أربع نسوة". أخرجه أبو نعيم. وقال: هذا حديث غريب تفرد به معاوية بن هشام.
قلت: حديث ثوبان أصح من هذا.
قال القاضي عياض: عُدَّ من تنبأ من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن ممن اشتهر بذلك، وعرف واتبعه جماعة على ضلالته، فوجد هذا العدد فيهم، ومن طالع كتب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا.
وقال الحافظ: قد ظهر مصداق ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة، والأسود العنسي باليمن، ثم خرج(4/482)
في خلافة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الفتن (2219) , وأبو داود : الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه : الفتن (3952) , وأحمد (5/278).
2 البخاري : الفتن (7116) , ومسلم : الفتن وأشراط الساعة (2906) , وأحمد (2/271).
3 مسلم : الفتن وأشراط الساعة (2907).(4/483)
ص -321- ... أبي بكر طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة، وسجاح التميمية في بني تميم، وقتل الأسود قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل مسيلمة الكذاب في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وتاب طليحة ومات على الإسلام على الصحيح في زمن عمر رضي الله عنه. ويقال: إن سجاح تابت أيضًا.
ثم خرج المختار بن أبي عبيد الثقفي، وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير فأظهر محبة أهل البيت، ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين، فاتبعهم فقتل كثيرًا ممن باشر ذلك، أو أعان عليه فأحبه الناس، ثم إنه زين له الشيطان أن يدعي النبوة، وزعم أن جبريل عليه السلام يأتيه.
ومنهم: الحارث الكذاب خرج في خلافة عبد الملك بن مروان فقتل، وخرج في خلافة بني العباس جماعة. وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقا؛ فإنهم لا يحصون كثرة لكون غالبهم ينشأ عن جنون أو سوداء، وإنما المراد من قامت له شوكة، وبدت له شبهة، كمن وصفنا، وقد أهلك الله تعالى من وقع له منهم ذلك، وبقي منهم من يلحقه بأصحابه وآخرهم الدجال الأكبر.
قوله: (وأنا خاتم النبيين). الخاتم - بفتح التاء- بمعنى الطابع، وبكسرها بمعنى فاعل الطبع والختم. قال الحسن: خاتم الذي ختم به، أي: آخر
النبيين، كما قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 1 وإنما ينْزل عيسى ابن مريم عليه السلام في آخر الزمان حاكماً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم مصليًا إلى قبلته، فهو كآحاد أمته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنْزير، وليضعن الجزية"2.
قوله: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم(4/484)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب آية : 40.
2 البخاري : البيوع (2222) والمظالم والغصب (2476) وأحاديث الأنبياء (3448) , ومسلم : الإيمان (155) , والترمذي : الفتن (2233) , وابن ماجه : الفتن (4078) , وأحمد (2/272 ,2/290 ,2/336 ,2/394 ,2/482 ,2/493 ,2/538).(4/485)
ص -322- ... مَنْ خذلهم ولا مَنْ خالفهم"1.
قال يزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. وكذلك قال: إنهم أهل الحديث عبد الله ابن المبارك، وعلي بن المديني، وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم. وقال المديني في رواية: هم العرب، واستدل برواية من روى هم أهل الغرب، وفسر الغرب بالدلو العظيمة، لأن العرب هم الذين يستقون بها.
قلت: ولا تعارض بين القولين، إذ يمتنع أن تكون الطائفة المنصورة لا تعرف الحديث، ولا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لا يكون منصورًا على الحق إلا من عمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم أهل الحديث من العرب وغيرهم.
فإن قيل: فلم خصصه بالعرب؟ قيل: المراد التمثيل لا الحصر، أي: أن العرب إن استقاموا على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهم الطائفة المنصورة حال استقامتهم.
قال القرطبي: وفيه دليل على أن الإجماع حجة، لأن الأمة إذا أجمعت فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة.
وقال المصنف: وفيه الآية العظيمة أنهم مع قلتهم لا يضرهم مَنْ خذلهم ولا مَنْ خالفهم. والبشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة.
قوله: (حتى يأتي أمر الله). الظاهر أن المراد بأمر الله ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة، ووقوع الآيات العظام، ثم لا يبقى إلا شرار الناس كما روى الحاكم. وأصله في "مسلم" عن عبد الرحمن بن شماسة أن عبد الله بن عمرو قال: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية. فقال عقبة بن عامر لعبد الله: أعلم ما تقول، وأما أنا فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة على ذلك. فقال عبد الله: ويبعث الله ريحًا ريحها المسك، ومسها مس الحرير، فلا تترك أحدًا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس(4/486)
فعليهم تقوم الساعة"2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإمارة (1920) , والترمذي : الفتن (2229) , وابن ماجه : المقدمة (10) والفتن (3952) , وأحمد (5/279).
2 مسلم : الفتن وأشراط الساعة (2949) , وأحمد (1/394).(4/487)
ص -323- ... وفي "صحيح مسلم" عن ابن مسعود مرفوعًا: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس"1. وفي "صحيحه" أيضًا: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله"2 وذلك إنما يقع بعد طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وسائر الآيات العظام.وقد ثبت أن الآيات العظام مثل السلك إذا انقطع تناثر الخرز بسرعة، رواه أحمد. ويؤيده حديث عمران بن حصين مرفوعًا: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على مَنْ ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال"3 رواه أبو داود والحاكم. وعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه من الأحاديث "حتى تأتيهم الساعة". ساعتهم وهي وقت موتهم بهبوب الريح، ذكره الحافظ وهو المعتمد.
وقد اختلف في محل هذه الطائفة، فقال ابن بطال: إنّها تكون ببيت المقدس إلى أن تقوم الساعة، كما روى الطبري من حديث أبي أمامة: "قيل يا رسول الله وأين هم؟ قال: (ببيت المقدس)" وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (هم بالشام). وهذا قول أكثر الشارحين.
وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائمًا إلى أن يقاتلوا الدجال، بل قد تكون في موضع آخر، لكن لا تخلو الأرض منها حتى يأتي أمر الله.
قلت: وهذا هو الحق فإنه ليس في الشام منذ أزمان أحد بهذه الصفات، بل ليس فيه إلا عباد القبور، وأهل الفسق وأنواع الفواحش والمنكرات، ويمتنع أن يكونوا هم الطائفة المنصورة، وأيضًا فهم منذ أزمان لا يقاتلون أحدًا من أهل الكفر، وإنما بأسهم وقتالهم بينهم. وعلى هذا فقوله في الحديث: (هم ببيت المقدس). وقول معاذ: (هم بالشام). المراد أنهم يكونون في بعض الأزمان دون بعض، وكذلك الواقع فدل على ما ذكرنا4.(4/488)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الفتن وأشراط الساعة (2949) , وأحمد (1/394).
2 مسلم : الإيمان (148) , والترمذي : الفتن (2207) , وأحمد (3/107 ,3/201 ,3/259).
3 أبو داود : الجهاد (2484) , وأحمد (4/434 ,4/437).
4 يوم أن كتب الشّيخ سليمان ذلك، كانت المعارك قائمة بين الدّولة العثمانية وبين الدّولة النّاشئة في الدِّرْعية، وهو لم يزر الشّام ولم يجتمع بأهلها، وإنّما شاهد الحرب، فكلامه غير دقيقٍ، والسّلفية انتشرت وعمَّت بلاد الشّام.
وكذلك قوله: (في بعض الأزمان دون بعضٍ) تجاوز لمطلق الحديث.
ويردّه أيضاً ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: "والنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ميّز أهل الشّام بالقيام بأمر الله دائماً إلى أخر الدّهر، وبأنّ الطّائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدّهر. فهو إخبار عن أمرٍ دائمٍ مستمرٍّ فيهم مع الكثرة والقوّة، وهذا الوصف ليس لغير أهل الشّام من أرض الإسلام، فإنّ الحجاز التي هي أصل الإيمان نَقَصَ في آخر الزّمان منها: العلم، والإيمان، والنّصر، والجهاد [أي: في زمان ابن تيمية]، وكذلك اليمن والعراق والمشرق، وأمّا الشّام فلم يزل فيها العلم والإيمان ومَن يقاتل عليه منصوراً مؤيّداً في كلّ وقت". اه. مجموع الفتاوى 4/449.(4/489)
ص -324- ... قوله: (تبارك وتعالى). قال ابن القيم: البركة نوعان: أحدهما بركة وهي فعله تبارك وتعالى، والفعل منها بارك، ويتعدى بنفسه تارة وبأداة "على" تارة، وبأداة "في" تارة والمفعول منها مبارك، وهو ما جعل كذلك فكان مباركا بجعله تعالى.
والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها تبارك، ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصلح إلا له عزّ وجل، فهو سبحانه المتبارك وعبده ورسوله المبارك. كما قال المسيح عليه السلام:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} 1. فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك، وأما صفة تبارك، فمختصة به كما أطلقها على نفسه بقوله:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2. {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3. أفلا تراها كيف اطّردت في القرآن جارية عليه مختصة به لا تطلق على غيره، وجاءت على بناء السعة والمبالغة، كتعالى وتعاظم ونحوه، فجاءت تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته، فكذلك تبارك، دال على كمال بركته وعظمته وسعتها.
وهذا معنى قول من قال من السلف تبارك: تعاظم. وقال ابن عباس: جاء بكل بركة واعلم أن هذا الحديث بجملته مما عد من الأدلة على الشهادتين فإن كل جملة منه وقعت كما أخبر بها صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة مريم آية : 31.
2 سورة غافر آية : 64.
3 سورة الملك آية : 1.(4/490)
ص -325- ... [18- باب ما جاء في السحر]
ش: السحر في اللغة: عبارة عما خفي ولطف سببه، ولهذا جاء في الحديث: "إن من البيان لسحرا". وسمي السحور سحورًا، لأنه يقع خفيًا آخر الليل. وقال تعالى:{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} 1، أي أخفوا عنهم علمهم. ولما كان السحر من أنواع الشرك إذ لا يأتي السحر بدونه، ولهذا جاء في الحديث: "ومن سحر فقد أشرك"2. أدخله "المصنف" في كتاب "التوحيد" ليبين ذلك تحذيرًا منه كما ذكر غيره من أنواع الشرك.
قال أبو محمد المقدسي في "الكافي": السحر: عزائم ورقى وعقد يؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل، ويفرق... المرء وزوجته، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه. قال الله تعالى:{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} 3، وقال سبحانه:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إلى قوله:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} 4. يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن، ولولا أن للسحر حقيقة لم يأمر بالاستعاذة منه.
وروت عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: أتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي. فقال: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: من طبه؟ قال: لبيد بن أعصم في مشط ومشاطة في جف طلعة ذكر في بئر ذي أروان"5. رواه البخاري. انتهى.
وقد زعم قوم من المعتزلة وغيرهم أن السحر تخييل لا حقيقة له، وهذا ليس بصحيح على إطلاقه، بل منه ما هو تخييل، ومنه ما له حقيقة كما يفهم مما تقدم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 116.
2 النسائي : تحريم الدم (4079).
3 سورة الفلق آية : 1.
4 سورة الفلق آية : 4.
5 البخاري : الدعوات (6391) , ومسلم : السلام (2189) , وابن ماجه : الطب (3545) , وأحمد (6/57 ,6/63 ,6/96).(4/491)
ص -326- ... قال: وقول الله تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}1.
ش: أي: ولقد علم اليهود الذين استبدلوا السحر عن متابعة الرسل والإيمان بالله لمن اشتراه، أي: استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله ومتابعة رسله، ما له في الآخرة من خلاق. قال ابن عباس: من نصيب. قال قتادة: وقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة.
وقال الحسن: ليس له دين. فدلت الآية على تحريم السحر، وهو كذلك، بل هو محرم في جميع أديان الرسل عليهم السلام كما قال تعالى:{وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 2. واستدل بها بعضهم على كفر الساحر لعموم قوله:{لَمَنِ اشْتَرَاهُ}يدل عليه قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} 3. وقد نص أصحاب أحمد على أنه يكفر بتعلمه وتعليمه.
وروى عبد الرزاق عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم شيئًا من السحر قليلاً كان أو كثيرًا كان آخر عهده من الله"وهذا مرسل.
واختلفوا هل يكفر الساحر أو لا ؟ فذهب طائفة من السلف إلى أنه يكفر، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد، قال أصحابه: إلا أن يكون سحره بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر فلا يكفر، وقيل: لا يكفر إلا أن يكون في سحره شرك فيكفر، وهذا قول الشافعي وجماعته. قال الشافعي رحمه الله: إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر، مثل ما اعتقد أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها، فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، فإن اعتقد إباحته، كفر.
وعند التحقيق ليس بين القولين اختلاف، فإن من لم يكفر لظنه أنه يتأتى بدون الشرك وليس كذلك بل لا يأتي السحر الذي من قبل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 102.
2 سورة طه آية : 69.
3 سورة البقرة آية : 102.(4/492)
ص -327- ... الشياطين إلا بالشرك وعبادة الشيطان والكواكب، ولهذا سماه الله كفرًا في قوله:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 1. وقوله:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} 2. وفي حديث مرفوع رواه رزين: "الساحر كافر". وقال أبو العالية: السحر من الكفر. وقال ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 3. وذلك أنهما علّماه الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر. وقال ابن جريج في الآية: لا يجترئ على السحر إلا الكافر.
وأما سحر الأدوية والتدخين ونحوه فليس بسحر، وإن سمي سحرًا فعلى سبيل المجاز كتسمية القول البليغ والنميمة سحرًا، ولكنه يكون حرامًا لمضرته يعزر من يفعله تعزيرًا بليغًا.
قال: وقوله:{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 4.
ش: تقدم الكلام عليها في الباب الذي قبله، ووجه إيرادها هنا ظاهر، لأن السحر من الجبت، كما قال عمر بن الخطاب.
قال "المصنف": قال عمر بن الخطاب: "الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان".
ش: هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم وغيره، وفيه معرفة الجبت والطاغوت والفرق بينهما.
قال: وقال جابر: "الطواغيت كهان كان ينْزل عليهم الشيطان في كل حي واحد".
ش: هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم بنحوه مطولا عن وهب بن مُنَبّه. قال: "سألت جابر بن عبد الله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها. قال: إن في جهينة واحدًا، وفي أسلم واحدًا، وفي هلال واحدًا، وفي كل حي واحدًا، وهم كهان تَنَزَّل عليهم الشياطين".
قوله: (قال جابر). هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام أبو عبد الله الأنصاري ثم السلمي بفتحتين. صحابي جليل ابن صحابي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 102.
2 سورة البقرة آية : 102.
3 سورة البقرة آية : 102.
4 سورة النساء آية : 51.(4/493)
ص -328- ... جليل مكثر عن النبي صلى الله عليه وسلم. مات بالمدينة بعد السبعين، وقد كف بصره وله أربع وتسعون سنة.
قوله: (الطواغيت كهان...) إلى آخره. المراد بهذا أن الكهان من الطواغيت لا أنهم الطواغيت لا غير.
وقوله: (كان ينْزل عليهم الشيطان)، أراد الجنس لا الشيطان الذي هو إبليس فقط، بل تتنَزّل عليهم الشياطين ويخاطبونهم ويخبرونهم ببعض الغيب، مما يسترقونه من السمع فيصدقون مرة ويكذبون مائة.
قوله: (في كل حي واحد). الحي: واحد الأحياء، وهم القبائل، أي: في كل قبيلة من قبائل العرب كاهن يتحاكمون إليه، ويسألونه عن الغيب. وكذلك كان الأمر قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فأبطل الله ذلك بالإسلام، وحرست السماء بالشهب.
ومطابقة هذا للترجمة ظاهر من جهة أن الساحر طاغوت من الطواغيت؛ إذ كان هذا الاسم يطلق على الكاهن فالساحر أولى، لأنه أشر وأخبث.
[أمره صلى الله عليه وسلم باجتناب السبع الموبقات]
قال: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"1.
ش: هكذا أورد المصنف هذا الحديث غير معزو، وقد رواه البخاري ومسلم.
قوله: (اجتنبوا السبع). أي: أبعدوا، وهو أبلغ من: لا تفعلوا، لأن نهي القربان أبلغ من نهي المباشرة. ذكره الطَّيْبِي.
قوله: (السبع الموبقات). بموحدة وقاف، أي: المهلكات: وسميت الكبائر موبقات، لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب.
قلت: هكذا ثبت في هذه الرواية عن السبع الموبقات، وكذلك في كتاب عمرو بن حزم الذي أخرجه(4/494)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الوصايا (2767) , ومسلم : الإيمان (89) , والنسائي : الوصايا (3671) , وأبو داود : الوصايا (2874).(4/495)
ص -329- ... النسائي وابن حبان في "صحيحه" والطبراني من طريق سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الفرائض والديات والسنن، وبعث به مع عمرو بن حزم إلى اليمن. الحديث بطوله.
وفيه: وكان في الكتاب: "وإن أكبر الكبائر الشرك"، فذكر مثل حديث أبي هريرة سواء. وأخرجه البزار وابن المنذر من طريق عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: "الكبائر: الشرك بالله وقتل النفس". الحديث. وذكر بدل السحر الانتقال إلى الأعرابية بعد الهجرة، وكذلك في حديث عند الطبراني، وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن [مَن سمع] الحسن قال: "الكبائر الإشراك بالله..." فذكر مثل الأول سواء، إلا أنه قال: (اليمين الفاجرة)، بدل السحر. وفي حديث ابن عمر عند البخاري في "الأدب المفرد" والطبري في "التفسير" وعبد الرزاق مرفوعًا وموقوفًا قال: "الكبائر تسع" فذكر السبع المذكورة وزاد: "والإلحاد في الحرم وعقوق الوالدين".
وأخرج إسماعيل القاضي بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب قال: (هن عشر) فذكر السبع التي في الأصل وزاد: "عقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشرب الخمر". ولابن أبي حاتم عن علي قال: الكبائر. فذكر السبع إلا مال اليتيم. وزاد: "العقوق والتعرب بعد الهجرة وفراق الجماعة، ونكث الصفقة".
وللطبراني عن أبي أمامة أنهم "تذاكروا الكبائر، فقالوا: الشرك، ومال اليتيم، والفرار من الزحف، والسحر، والعقوق، وقول الزور، والغلول والربا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلاً؟!"وقد جاء في أحاديث غير ما ذكرنا جملة من الكبائر منها اليمين الغموس، وشهادة الزور والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله وسوء الظن بالله، والزنا، والسرقة وغير ذلك.
قال الحافظ: "ويحتاج عندها إلى الجواب عن(4/496)
ص -330- ... الحكمة في الاقتصار على سبع، ويجاب بأن مفهوم العدد ليس بحجة وهو جواب ضعيف، أو بأنه أعلم أولاً بالمذكورات، ثم أعلم بما زاد، فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة للسائل، أو من وقعت له واقعة ونحو ذلك".
وقد أخرج الطبري وإسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له: الكبائر سبع؟ فقال: هن أكثر من سبع. وفي رواية عنه: هي إلى السبعين أقرب، وفي رواية: إلى السبعمئة. وإذا تقرر ذلك عرف فساد من عرف الكبيرة بأنها ما وجب فيها الحد، لأن أكثر المذكورات لا يجب فيها الحد انتهى. وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله.
قوله: قال: (الشرك بالله). هو أن يجعل لله ندًّا يدعوه كما يدعو الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويخافه كما يخاف الله، وبدأ به لأنه أعظم ذنب عصي الله به كما في "الصحيحين" عن ابن مسعود سألت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أيّ ذنبٍ أعظ عن الله؟ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك"1.
قوله: (والسحر). تقدم معناه، وهذا وجه إيراد المصنف لهذا الحديث في الباب.
قوله: (وقتل النفس التي حرم الله). أي: حرم قتلها إلا بالحق، أي: بفعل موجب للقتل، كقتل المشرك المحارب، والنفس بالنفس، والزاني بعد الإحصان، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} 2 وسواء في ذلك القتل عمدًا أو شبه عمد، كما صرح به طائفة من الشافعية بخلاف قتل الخطإ، فإنه لا كبيرة ولا صغيرة، لأنه غير معصية.
قلت: ويلتحق بذلك قتل المعاهد كما صح الحديث: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة."الحديث.(4/497)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : تفسير القرآن (4477) , ومسلم : الإيمان (86) , والترمذي : تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي : تحريم الدم (4013 ,4014) , وأبو داود : الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464).
2 سورة النساء آية : 93.(4/498)
ص -331- ... قوله: (وأكل الربا). أي: تناوله بأي وجه كان كما قال تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ...} 1 إلى قوله:{وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 2. قال ابن دقيق العيد: وهو مجرب لسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك.
قوله: (وأكل مال اليتيم). يعني التعدي فيه، وعبر بالأكل، لأنه أهم وجوه الانتفاع كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} 3.
قوله: (والتولي يوم الزحف)، أي: الإدبار من وجوه الكفار وقت ازدحام الطائفتين في القتال، وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة أو غير متحرف لقتال كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 4.
قوله: (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات). هو بفتح الصاد المحفوظات من الزنا، وبكسرها: الحافظات فروجهن منه. والمراد الحرائر العفيفات، ولا يختص بالمتزوجات، بل حكم البكر كذلك بالإجماع كما ذكره الحافظ، إلا إن كانت دون تسع سنين، والمراد رميهن بزنا أو لواط. والغافلات، أي: عن الفواحش وما رمين به، لا خبر عندهن من ذلك، فهو كناية عن البريئات، لأن الغافل بريء عما بهت به من الزنا، والمؤمنات، أي: بالله تعالى احترازًا عن قذف الكافرات، فإنه من الصغائر.
[ما ورد في حد الساحر]
قال: وعن جندب مرفوعًا "حد الساحر ضربة بالسيف"5. رواه الترمذي وقال: الصحيح أنه موقوف.
ش: هذا الحديث رواه الترمذي كما قال المصنف من طريق(4/499)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 275.
2 سورة البقرة آية : 275.
3 سورة النساء آية : 10.
4 سورة الأنفال آية : 15-16.
5 الترمذي : الحدود (1460).(4/500)
ص -332- ... إسماعيل بن مسلم المكي وقال بعد أن رواه: لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث من قبل حفظه، وإسماعيل بن مسلم العبدي البصري، قال وكيع: هو ثقة، ويروى عن الحسن أيضًا، والصحيح عن جندب موقوف انتهى. ورواه أيضًا الدارقطني والبيهقي والحاكم وقال: صحيح غريب. وقال الترمذي في "العلل": سألت عنه محمدًا يعني البخاري فقال: هذا لا شيء، وإسماعيل ضعيف جدًّا وقال الذهبي في "الكبائر": إنه من قول جندب، وأشار مغلطاي إلى أنه - وإن كان ضعيفًا يتقوى بكثرة طرقه. وقال: خرجه جمع: منهم البغوي الكبير والصغير، والطبراني، والبزار ومن لا يحصى كثرة.
قوله: (عن جندب). ظاهر صنيع الطبراني في "الكبير" أنه جندب بن عبد الله البجلي لا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر، فإنه رواه في "ترجمة" جندب البجلي من طريق خالد العبد عن الحسن عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم .... وذكره، وخالد العبد ضعيف.
قال الحافظ: والصواب أنه غيره، فقد رواه ابن قانع والحسن بن سفيان من وجهين، عن الحسن عن جندب الخير أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ...، فذكره.
وجندب الخير هو جندب بن كعب - وقيل: جندب بن زهير، وقيل: هما واحد كما قاله ابن حبان - أبو عبد الله الأزدي الغامدي صحابي. وروى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يضرب ضربة فيكون أمة وحده".
قوله: (حد الساحر ضربة بالسيف). روي بالهاء والتاء وكلاهما صحيح، وبهذا الحديث أخذ أحمد ومالك وأبو حنيفة، فقالوا: يقتل الساحر. وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبد الله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن(5/1)
ص -333- ... عبد العزيز. ولم ير الشافعي عليه القتل بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر. وبه قال ابن المنذر وهو رواية عن أحمد، والأول أولى للحديث، ولأثر عمر الذي ذكره المصنف وعمل به الناس في خلافته من غير نكير فكان إجماعًا.
[أمر عمر رضي الله عنه بقتل الساحر]
قال: وفي " صحيح البخاري" عن بجالة بن عبدة قال: "كتب عمر بن الخطاب! أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر".
ش: هذا الأثر رواه البخاري كما ذكره المصنف، لكنه لم يذكر قتل السحرة. ولفظه: عن بجالة بن عبدة قال: كنت كاتبًا لجزء بن معاوية عم الأحنف، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة: فرقوا بين كل محرم من المجوس ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. وعلى هذا فعزو المصنف إلى البخاري يحتمل أنه أراد أصله لا لفظه ورواه الترمذي والنسائي مختصرًا، ورواه عبد الرزاق وأحمد وأبو داود والبيهقي مطولاً. ورواه القطيعي في الجزء الثاني من "فوائده" بزيادة، فقال: حدثنا أبو علي بشر بن موسى الأسدي، ثنا هوذة بن خليفة، ثنا عوف عن عمار مولى بني هاشم عن بجالة بن عبدة قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب أن اعرضوا على من كان قبلكم من المجوس أن يدعوا نكاح أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ويأكلوا جميعًا كيما نلحقهم بأهل الكتاب، ثم اقتلوا كل كاهن وساحر. قلت: وإسناده حسن.
قوله: (عن بجالة). هو بفتح الموحدة بعدها جيم ابن عبدة بفتحتين التيمي العنبري بصري ثقة.
قوله: (كتب إلينا عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر(5/2)
ص -334- ... وساحرة...) إلى آخره. صريح في قتل الساحر والساحرة، وهو من حجج الجمهور القائلين بأنه يقتل، وظاهره أنه يقتل من غير استتابة، وهو كذلك على المشهور عن أحمد، وبه قال مالك: إن الصحابة لم يستتيبوهم، ولأن علم السحر لا يزول بالتوبة. وعن أحمد يستتاب فإن تاب، قبلت توبته وخلي سبيل، وبه قال الشافعي، لأن ذنبه لا يزيد على الشرك، والمشرك يستتاب وتقبل توبته، فكذلك الساحر، وعلمه بالسحر لا يمنع توبته بدليل ساحر أهل الكتاب إذا أسلم، ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم.
قلت: الأول أصح لظاهر عمل الصحابة.
فلو كانت الاستتابة واجبة لفعلوها أو بينوها، وأما قياسه على المشرك فلا يصح، لأنه أكثر فسادًا وتشويها من المشرك، وكذلك لا يصح قياسه على ساحر أهل الكتاب، لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وهذا الخلاف إنما هو في إسقاط الحد عنه بالتوبة، أما فيما بينه وبين الله، فإن كان صادقًا قبلت توبته.
قال: وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها.
ش: هذا الأثر رواه مالك في "الموطأ" عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه "أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها وكانت قد دبرتها فأمرت بها فقتلت". ورواه عبد الرزاق.
وحفصة هي أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خنيس بن حذافة سنة ثلاث وماتت سنة خمس وأربعين.
قال: وكذا صح عن جندب.
ش: المراد به هنا قطعًا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر، وهو جندب بن كعب بن عبد الله. قال أبو حاتم: جندب بن كعب(5/3)
ص -335- ... قاتل الساحر، ويقال: جندب بن زهير، فجعلهما واحدًا وفرق بينهما ابن الكلبي وغيره. قال ابن عبد البر: ذكره الزبير أن جندب بن زهير قاتل الساحر والصحيح أنه غيره. وأشار المصنف بهذا إلى قتله الساحر، كما رواه البخاري في "تاريخه" عن أبي عثمان النهدي قال: كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنسانًا وأبان رأسه فعجبنا فأعاد رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله.
ورواه البيهقي في "الدلائل" مطولاً وفيه، فقال الناس: سبحان الله يحيي الموتى. ورآه رجل صالح من المهاجرين، فنظر إليه فلما كان من الغد اشتمل على سيفه فذهب يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنقه، وقال: إن كان صادقًا، فليحي نفسه فأمر به الوليد فسجن. وذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة.
قوله: (قال أحمد عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم).
ش: أحمد هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل. وقوله: عن ثلاثة أي: صح قتل الساحر عن ثلاثة أو جاء قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعني: عمر، وحفصة، وجندبًا والله أعلم.
[19- باب بيان شيء من أنواع السحر]
لما ذكر المصنف ما جاء في السحر أراد هنا أن يبين شيئًا من أنواعه لكثرة وقوعها وخفائها على الناس حتى اعتقد كثير من الناس أن من صدرت عنه هذه الأمور، فهو من الأولياء، وعدّوها من كرامات الأولياء وآل الأمر إلى أن عبد أصحابها ورجي منهم النفع والضر، والحفظ والكلاءة والنصر أحياء وأمواتًا، بل اعتقد كثير في أناس من هؤلاء أن لهم التصرف التام المطلق في الملك، ولا بد من ذكر فرقان يفرق به المؤمن بين ولي الله وبين عدو الله، من ساحر وكاهن وعائف وزاجر ومتطير ونحوهم ممن قد يجري على يده شيء من الخوارق.(5/4)
ص -336- ... فاعلم أنه ليس كل من جرى على يده شيء من خوارق العادة يجب أن يكون وليًّا لله تعالى، لأن العادة تنخرق بفعل الساحر والمشعوذ وخبر المنجم والكاهن بشيء من الغيب، مما يخبره به الشياطين المسترقون للسمع. وفعل الشياطين بأناس ممن ينتسبون إلى دين وصلاح ورياسة مخالفة للشريعة، كأناس من الصوفية وكرهبان النصارى ونحوهم، فيطيرون بهم في الهواء، ويمشون بهم على الماء، ويأتون بالطعام والشراب والدراهم، وقد يكون ذلك بعزائم ورقى شيطانية وبحيل وأدوية، كالذين يدخلون النار بحجر الطلق ودهن النارنج.
وقد يكون برؤيا صادقة فيها وما يستدل به على وقوع ما لم يقع، وهذه مشتركة بين ولي الله وعدوه.
وقد يكون ذلك بنوع طيرة يجدها الإنسان في نفسه فتوافق القدر، وتقع كما أخبر، وقد يكون بعلم الرمل والضرب بالحصى، وقد يكون ذلك استدراجًا والأحوال الشيطانية كثيرة.
وقد فرق الله بين أوليائه وأعدائه في كتابه فاعتصم به وحده، لا إله إلا هو، فإنه لا يضل من اعتصم به ولا يشقى.
قال الله تعالى:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 1. فذكر تعالى أن أولياءه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هم المؤمنون المتقون، ولم يشترط أن يجري على أيديهم شيء من خوارق العادة. فدل أن الشخص قد يكون وليًّا لله وإن لم يجر على يديه شيء من الخوارق إذا كان مؤمنًا متقيًا.
وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. فأولياء الله المحبوبون عند الله هم المتبعون للرسول صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا، ومن كان بخلاف هذا فليس بمؤمن فضلاً عن أن يكون وليًّا لله تعالى، وإنما أحبهم الله تعالى لأنهم والوه، فأحبوا ما يحب، وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى، وسخطوا ما يسخط، وأمروا بما(5/5)
يأمر، ونهوا عما ينهى، وأعطوا من يحب أن يعطى، ومنعوا من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية : 62-63.
2 سورة آل عمران آية : 31.(5/6)
ص -337- ... يحب أن يمنع.وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد.
وبالجملة فأولياء الله هم أحبابه المقربون إليه بالفرائض والنوافل وترك المحارم، الموحدون له، الذين لا يشركون بالله شيئًا وإن لم تجر على أيديهم خوارق، فإن كانت الخوارق دليلاً على ولاية الله، فلتكن دليلاً على ولاية الساحر والكاهن والمنجم والمتفرس، ورهبان اليهود والنصارى، وعباد الأصنام، فإنهم يجري لهم من الخوارق ألوف، ولكن هي من قِبَل الشياطين، فإنهم يتنَزلون عليهم لمجانستهم لهم في الأفعال والأقوال كما قال تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 1. وقال تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 2. وقد طارت الشياطين ببعض من ينتسب إلى الولاية، فقال: لا إله إلا الله فسقط. وتجد عمدة كثير من الناس في اعتقادهم الولاية في شخص أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض الخوارق للعادة، مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها أحيانًا، أو يمشي على الماء، أو يملأ إبريقًا من الهواء، أو يخبر في بعض الأوقات بشيء من الغيب، أو يختفي أحيانًا عن أعين الناس، أو يخبر بعض الناس بما سرق له، أو بحال غائب أو مريض، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت، فرآه قد جاء فقضى حاجته أو نحو ذلك، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها مسلم فضلاً عن أن يكون وليًّا لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يغتر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشّعراء آية : 221-222.
2 سورة الزخرف آية : 36.(5/7)
ص -338- ... به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه.
ومثل هذه الأمور قد يكون صاحبها وليًّا لله، وقد يكون عدوًّا له، فإنها قد تكون لكثير من الكفار والمشركين واليهود والنصارى والمنافقين وأهل البدع، وتكون لهؤلاء من قِبَل الشياطين أو تكون استدراجًا، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور فهو ولي لله، بل يعرف أولياء الله بصفاتهم وأحوالهم وأفعالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، وأكثر هذه الأمور قد توجد في أشخاص يكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي المكتوبة ولا يتنظف ولا يتطهر الطهارة الشرعية، بل يكون ملابسًا للنجاسات، معاشرًا للكلاب، يأوي إلى المزابل، رائحته خبيثة، ركابًا للفواحش، يمشي في الأسواق كاشفًا لعورته، غامزًا للشرع، مستهزئًا به وبحملته، يأكل العقارب والخبائث التي تحبها الشياطين، كافرًا بالله، ساجدًا لغير الله من القبور وغيرها، يكره سماع القرآن وينفر منه، ويؤثر سماع الأغاني والأشعار ومزامير الشيطان على كلام الرحمن. فلو جرى على يدي شخص من الخوارق ماذا عساه أن يجري فلا يكون وليًّا لله، محبوبًا عنده حتى يكون متبعًا لرسوله صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا.
فإن قلت: فعلى هذا ما الفرق بين الكرامة وبين الاستدراج والأحوال الشيطانية ؟ قيل: إن علمت ما ذكرنا عرفت الفرق، لأنه إذا كان الشخص مخالفًا للشرع، فما يجري له من هذه الأمور ليس بكرامة، بل هي إما استدراج وإما من عمل الشياطين، ويكون سببها هو ارتكاب ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن المعاصي لا تكون سببا لكرامة الله، ولا يستعان بالكرامات عليها، فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن والدعاء بل تحصل بما تحبه الشياطين كالاستغاثة بغير الله، أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش، فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية، وكلما كان الإنسان أبعد عن الكتاب والسنة(5/8)
كانت الخوارق الشيطانية(5/9)
ص -339- ... له أقوى وأكثر من غيره، فإن الجن الذين يقترنون بالإنس من جنسهم. فإن كان كافرًا ووافقهم على ما يختارونه من الكفر والفسوق والضلال والإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه، وللسجود لهم وكتابة أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة فعلوا معه كثيرًا مما يشتهيه بسبب ما برطلهم به من الكفر وقد يأتونه بما يهواه من امرأة وصبي، بخلاف الكرامة، فإنها لا تحصل إلا بعبادة الله والتقرب إليه ودعائه وحده لا شريك له، والتمسك بكتابه، واجتناب المحرمات، فما يجري من هذا الضرب فهو كرامة. وقد اتفق على هذا الفرق جميع العلماء.
وبالجملة فإن عرفت الأسباب التي بها تنال ولاية الله عرفت أهلها وعرفت أنهم أهل الكرامة، وإن كنت ممن يسمع بالأولياء وهو لا يعرف الولاية ولا أسبابها ولا أهلها بل يميل مع كل ناعق وساحر {وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس، من الآية101]. ولشيخ الإسلام كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان1". فراجعه فإنه أتى فيه بالحق المبين.
[العيافة والطرق والطيرة من الجبت]
قال رحمه الله: قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر ثنا عوف ثنا حبان بن العلاء، ثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت"2.
قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط في الأرض، والجبت: قال الحسن: رنة الشيطان. إسناده جيد. ولأبي داود والنسائي وابن حبان في " صحيحه " المسند منه.
ش: قوله: "قال أحمد". هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، ومحمد ابن جعفر هو المشهور بغندر الهذلي البصري ثقة مشهور،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو من مطبوعات المكتب الإسلامي.
2 أبو داود : الطب (3907) , وأحمد (5/60).(5/10)
ص -340- ... ثبت في شعبة حتى فضله علي بن المديني فيه على عبد الرحمن بن مهدي بل أقر له ابن مهدي بذلك. مات سنة ثلاث وتسعين ومائة1 أو أربع وتسعين ومائة. وعوف هو ابن أبي جميلة - بفتح الجيم - العبدي البصري المعروف بعوف الأعرابي ثقة. مات سنة ست أو سبع وأربعين ومائة، وله ست وثمانون سنة. وحبان بن العلاء هو بالتحتية ويقال: حيان بن مخارق أبو العلاء البصري مقبول. وقطن - بفتحتين - أبو سهلة البصري صدوق.
قوله: (عن أبيه). هو قبيصة - بفتح أوله وكسر الموحدة ابن المخارق - بضم الميم وتخفيف المعجمة أبو عبد الله الهلالي، صحابي نزل البصرة.
قوله: (إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت). قال عوف: العيافة زجر الطير. هذا التفسير ذكره غير واحد كما قال عوف وهو كذلك.
قال أبو السعادات: العيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، وهو من عادة العرب كثيرًا وهو كثير في أشعارهم، يقال: عاف يعيف عيفًا: إذا زجر وحدس وظن.
قوله: (والطرق): الخط يخط في الأرض هكذا فسره عوف، وهو تفسير صحيح. وقال أبو السعادات: هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء.
قلت: وأيًّا ما كان فهو من الجبت، وأما الطيرة، فسيأتي الكلام عليها في بابها إن شاء الله تعالى
قوله: "من الجبت". أي: من أعمال السحر. قال القاضي: والجبت في الأصل: الجبس الذي لا خير فيه، ثم استعير لما يعبد من دون الله وللساحر والسحر. وقال الطيبي: "من" فيه إما ابتدائية أو تبعيضية، فعلى الأول المعنى الطيرة ناشئة من الساحر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: ست ومائتين وهو خطأ.(5/11)
ص -341- ... وعلى الثاني المعنى الطيرة من جملة السحر والكهانة، أو من جملة عبادة غير الله، أي: الشرك يؤيده قوله في الحديث الآتي: (الطيرة شرك)انتهى.
وفي الحديث دليل على تحريم التنجيم، لأنه إذا كان الخط ونحوه الذي هو من فروع النجامة من الجبت فكيف بالنجامة؟! .
قوله: (قال الحسن: رنة الشيطان). لم أجد فيه كلامًا.
قوله: (ولأبي داود والنسائي وابن حبان في "صحيحه" المسند منه). يعني أن هؤلاء رووا الحديث واقتصروا على المرفوع منه، ولم يذكروا التفسير الذي فسره به عوف. وقد رواه أبو داود في التفسير المذكور بدون كلام الحسن.
والنسائي هو الإمام الحافظ أحمد بن شعيب بن علي ابن سنان بن بحر بن دينار أبو عبد الرحمن صاحب "السنن" وغيرها من المصنفات. روى عن محمد بن المثنى وابن بشار وقتيبة بن سعيد وخلق. وكان إليه المنتهى في الحفظ والعلم لعلل الحديث. مات سنة ثلاث وثلاثمائة وله ثمان وثمانون سنة.
قال: وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد"1. رواه أبو داود بإسناد صحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الطب (3905) , وابن ماجه : الأدب (3726) , وأحمد (1/227 ,1/311).(5/12)
ص -342- ... ش: هذا الحديث رواه أبو داود كما قال المصنف بإسناد صحيح، وكذا صححه النووي والذهبي ورواه أحمد وابن ماجة.
قوله: (من اقتبس). قال أبو السعادات: قبست العلم واقتبسته: إذا تعلمته. انتهى.
وعلى هذا، فالمعنى من تعلم.
قوله: (شعبة)، أي: طائفة وقطعة من النجوم، والشعبة: الطائفة من الشيء والقطعة منه، ومنه الحديث: "الحياء شعبة من الإيمان"1، أي: جزء منه.
قوله: (فقد اقتبس شعبة من السحر). أي: المعلوم تحريمه قال شيخ الإسلام: فقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن علم النجوم من السحر. وقد قال الله تعالى:{وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 2. وهكذا الواقع فإن الاستقراء يدل على أن أهل النجوم لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة.
قوله: "زاد ما زاد" يعني: كلما زاد من علم النجوم زاد له من الإثم مثل إثم الساحر، أو زاد اقتباس شعب السحر ما زاد اقتباس علم النجوم.
قلت: والقولان متلازمان، لأن زيادة الإثم فرع عن زيادة السحر، وذلك لأنه تحكم على الغيب الذي استأثر الله بعلمه. فعلم أن تأثير النجوم باطل محرم، وكذا العمل بمقتضاه، كالتقرب إليها بتقريب القرابين لها كفر، قاله ابن رجب.
قال: وللنسائي من حديث أبي هريرة: "من عقد عقدة ثم نفث فيها، فقد سحر، ومن سحر، فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا، وُكِّلَ إليه"3.
ش: هذا الحديث ذكره المصنف من حديث أبي هريرة وعزاه للنسائي ولم يبين هل هو موقوف أو مرفوع؟ وقد رواه النسائي مرفوعًا وذكر المصنف عن الذهبي أنه قال: لا يصح، وحسنه ابن مفلح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الإيمان (9) , ومسلم : الإيمان (35) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (5006) , وأبو داود : السنة (4676) , وابن ماجه : المقدمة (57) , وأحمد (2/414 ,2/442).
2 سورة طه آية : 69.
3 النسائي : تحريم الدم (4079).(5/13)
ص -343- ... قوله: (من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر). اعلم أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر، عقدوا الخيوط، ونفثوا على كل عقدة حتى ينعقد ما يريدونه من السحر. ولهذا أمر الله بالاستعاذة من شرهم في قوله:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} 1. يعني: السواحر اللاتي يفعلن ذلك، والنفث: هو النفخ مع ريق، وهو دون التفل وهو مرتبة بينهما، والنفث فعل الساحر. فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة، نفخ في تلك العقد نفخًا معه ريق، فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى مقترن بالريق الممازج لذلك. وقد يتساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور، فيصيبه السحر بإذن الله الكوني الشرعي، لا الإذن القدري قاله ابن القيم.
قوله: (ومن سحر فقد أشرك). نص في أن الساحر مشرك إذ لا يتأتى السحر بدون الشرك كما حكاه الحافظ عن بعضهم.
قوله: (ومن تعلق شيئًا وُكِّلَ إليه). أي: من تعلق قلبه شيئًا بحيث يتوكل عليه، ويرجوه وكله الله إلى ذلك الشيء. فإن تعلق العبد على ربه وإلهه وسيده ومولاه، رب كل شيء ومليكه وكله إليه فكفاه ووقاه وحفظه وتولاه، و {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}، [لأنفال، من الآية: 40]، كما قال تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 2. ومن تعلق على السحر والشياطين وكله الله إليهم فأهلكوه في الدنيا والآخرة.
وبالجملة فمن توكل على غير الله كائنًا من كان وكل إليه، وأتاه الشر في الدنيا والآخرة من جهته مقابلة له بنقيض قصده، وهذه سنة الله في عباده التي لا تبدل، وعادته التي لا تحول، أن من اطمأن إلى غيره أو وثق بسواه، أو ركن إلى مخلوق يدبره، أجرى الله تعالى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفلق آية : 4.
2 سورة الزمر آية : 36.(5/14)
ص -344- ... له بسببه أو من جهته خلاف ما علق به آماله. وهذا أمر معلوم بالنص والعيان. ومن تأمل ذلك في أحوال الخلق بعين البصيرة النافذة رأى ذلك عيانًا.
وفائدة هذه الجملة بعد ما قبلها الإشارة إلى أن الساحر متعلق على غير الله، فإنه متعلق على الشياطين.
قال: وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا هل أنبئكم ما العضه هي النميمة القالة بين الناس"1 رواه مسلم.
ش: قوله: (هل أنبئكم)، أي: أخبركم.
قوله: (ما العضه؟)، هو بفتح العين المهملة وسكون المعجمة. قال أبو السعادات: هكذا يروى في كتب الحديث. والذي جاء في كتب الغريب ألا أنبئكم ما العضة بكسر العين وفتح الضاد. وفي حديث آخر "إياكم والعضة" قال الزمخشري: أصلها العضهة فعلة من العضه، وهو البهت فحذفت لامه، كما حذفت من السنة والشفة وتجمع على عضين. ثم فسره بقوله: هي النميمة القالة بين الناس. وعلى هذا فأطلق عليها العضه، لأنها لا تنفك عن الكذب والبهتان غالبًا، ذكره القرطبي.
قلت: ظاهر إيراد المصنف لهذا الحديث هنا يدل على أن معنى العضه عنده هنا هو السحر، ويدل على ذلك حديث: "كادت النميمة أن تكون سحرًا". رواه ابن لالٍ في "مكارم الأخلاق" بإسناد ضعيف. وذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال: يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة.
وقال أبو الخطاب في "عيون المسائل": ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس.
قال في "الفروع" ووجهه أنه يقصد الأذى بكلامه وعلمه على وجه المكر والحيلة، أشبه السحر، ولهذا يعلم بالعرف والعادة أنه يؤثر وينتج ما يعمله الساحر أو أكثر، فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين، لكنه يقال: الساحر إنما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : البر والصلة والآداب (2606) , وأحمد (1/437).(5/15)
ص -345- ... كفر لوصف السحر وهو أمر خاص، ودليله خاص، وهذا ليس بساحر وإنما يؤثر عمله ما يؤثره فيعطى حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة انتهى ملخصًا. وبه يظهر مطابقة الحديث للترجمة.
والحديث دليل على تحريم الغيبة والنميمة، وهو كذلك بالإجماع. وقد قال أبو محمد بن حزم: اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة، وفيه دليل على أنها من الكبائر.
وقوله: (القالة بين الناس). قال أبو السعادات: أي: كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس بما يحكى للبعض عن البعض، ومنه الحديث "ففشت القالة بين الناس"1.
قال: ولهما عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من البيان لسحرًا"2.
ش: البيان: البلاغة والفصاحة، قال صعصعة بن صوحان: صدق نبي الله أما قوله: (إن من البيان لسحرًا)، فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق، فيسحر القوم ببيانه، فيذهب بالحق. وقال ابن عبد البر: تأولته طائفة على الذم، لأن السحر مذموم. وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح، لأن الله تعالى مدح البيان. قال: وقد قال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن حاجة، فأحسن المسألة، فأعجبه قوله فقال: "هذا والله السحر الحلال".
قلت: الأول أصح وهو أنه خرج مخرج الذم لبعض البيان لا كله،
وهو الذي فيه تصويب الباطل وتحسينه، حتى يتوهم السامع أنه حق أو يكون فيه بلاغة زائدة عن الحد، أو قوة في الخصومة حتى يسحر القوم ببيانه، فيذهب بالحق ونحو ذلك، فسماه سحرًا لأنه يستميل القلوب كالسحر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجلان من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : البر والصلة والآداب (2606) , وأحمد (1/437).
2 البخاري : النكاح (5146) , والترمذي : البر والصلة (2028) , وأبو داود : الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/59 ,2/62 ,2/94) , ومالك : الجامع (1850).(5/16)
ص -346- ... المشرق، فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من البيان لسحرًا"1. كما رواه مالك والبخاري وغيرهم.
وأما جنس البيان، فمحمود بخلاف الشعر فجنسه مذموم إلا ما كان حكمًا، ولكن لا يحمد البيان إلا إذا لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب، أو تصوير الباطل في صورة الحق، فإذا خرج إلى هذا الحد فهو مذموم. وعلى هذا تدل الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها"2. رواه أحمد وأبو داود.
وقوله: (لقد رأيت أو لقد أمرت أن أتجوز في القول فإن الجواز هو خير). رواه أبو داود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : النكاح (5146) , والترمذي : البر والصلة (2028) , وأبو داود : الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/59 ,2/62 ,2/94) , ومالك : الجامع (1850).
2 الترمذي : الأدب (2853) , وأبو داود : الأدب (5005) , وأحمد (2/165 ,2/187).
[20- باب ما جاء في الكهان ونحوهم]
اعلم أن الكهان الذين يأخذون عن مسترقي السمع موجودون إلى اليوم، لكنهم قليل بالنسبة لما كانوا عليه في الجاهلية، لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب، ولم يبق من استراقهم إلا ما يخطفه الأعلى، فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب.
وأما ما يخبر به الجني مواليه من الإنس بما غاب عن غيره مما لا يطلع عليه الإنسان غالبًا فكثير جدًّا في أناس ينتسبون إلى الولاية والكشف، وهم من الكهان إخوان الشياطين لا من الأولياء.
ولما ذكر المصنف شيئًا مما يتعلق بالسحر ذكر ما جاء في الكهان ونحوهم كالعراف لمشابهة هؤلاء للسحرة.
والكهانة: ادعاء علم الغيب كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب.
والأصل فيه استراق الجن السمع من كلام الملائكة، فتلقيه في أذن الكاهن، والكاهن لفظ يطلق على العراف والذي يضرب الحصى والمنجم. وقال في "المحكم": الكاهن: القاضي بالغيب.(5/17)
ص -347- ... وقال الخطابي: الكهان فيما علم بشهادة الامتحان : قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة، وطبائع نارية، فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم، ويستفتونهم في الحوادث، فيلقون إليهم الكلمات.
]من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يومًا] .
قال: وروى مسلم في " صحيحه " عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يومًا"1.
ش: هذا الحديث رواه مسلم كما قال المصنف، ولفظه: حدثنا محمد بن المثنى العنْزي، ثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله - في نسخة: عبد الله - عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يومًا وليلة"2. هكذا رواه، وليس فيه "فصدقه".
قوله: (عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم). هي حفصة، على ما ذكره أبو مسعود الدمشقي، لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها وكذلك سماه بعض الرواة.
قوله: (من أتى عرافًا فسأله عن شيء). العراف سيأتي بيانه وهو من أنواع الكهان، وظاهر الحديث أن هذا الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله سواء صدقه، أو شك في خبره، لأن إتيان الكهان منهي عنه، كما في حديث معاوية بن الحكم السلمي "قلت: يا رسول الله إن منا رجالاً يأتون الكهان قال: فلا تأتهم"3. رواه مسلم. ولأنه إذا شك في خبره، فقد شك في أنه لا يعلم الغيب، وذلك موجب للوعيد، بل يجب عليه أن يقطع ويعتقد أنه لا يعلم الغيب إلا الله.
قوله: (لم تقبل له صلاة أربعين يومًا)، إذا كانت هذه حال السائل، فكيف بالمسؤول؟ قال النووي وغيره: معناه: أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه، ولا يحتاج معها إلى(5/18)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : السلام (2230) , وأحمد (4/68 ,5/380).
2 مسلم : السلام (2230) , وأحمد (4/68 ,5/380).
3 مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (537) , والنسائي : السهو (1218) , وأبو داود : الصلاة (930) , وأحمد (5/447).(5/19)
ص -348- ... إعادة، ونظير هذه الصلاة في أرض مغصوبة مجزئة مسقطة للقضاء، لكن لا ثواب له فيها، قاله جمهور أصحابنا. قالوا: فصلاة الفرض إذا أتى بها على وجهها الكامل، ترتب عليها شيئان: سقوط الفرض، وحصول الثواب. فإذا أداها في أرض مغصوبة، حصل له الأول دون الثاني ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة فوجب تأويله، هذا كلامه. وهو مبني على الملازمة بين الإجزاء وعدم الإعادة.
والصواب أن عدم الإعادة لا يستلزم الإجزاء، لكن الصلاة في الأرض المغصوبة في إجزائها نزاع، والمشهور من مذهب أحمد أنها لا تجزئ وتجب إعادتها.
وفي الحديث النهي عن إتيان الكاهن ونحوه قال القرطبي: يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم على من يتعاطى شيئًا من ذلك من التعزيرات. وينكر عليهم أشد النكير وعلى من يجيء إليهم، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينسب إلى العلم، فإنهم غير راسخين في العلم، بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور.
[من أتى كاهنًا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد]
قال: وعن أبي هريرة.عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"1. رواه أبو داود.
ش: هذا الحديث رواه أبو داود ولفظه: حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد. ح وحدثنا مسدد ثنا يحيى عن حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أتى كاهنًا قال موسى في حديثه: فصدقه بما يقول أو أتى امرأة، قال مسدد: امرأته حائضًا، أو أتى امرأة. قال مسدد: يعني: امرأته في دبرها، فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"، ورواه(5/20)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الطهارة (135) , وأبو داود : الطب (3904) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/429 ,2/476) , والدارمي : الطهارة (1136).(5/21)
ص -349- ... الترمذي والنسائي وابن ماجة بنحوه وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث الأثرم، وضعف محمد هذا الحديث من جهة إسناده. وقال البغوي: سنده ضعيف، وقال الذهبي: ليس إسناده بالقائم.
قلت: أطال أبو الفتح اليعمري في بيان ضعفه وادعى أن متنه منكر، وأخطأ في إطلاق ذلك، فإن إتيان الكاهن له شواهد صحيحة، منها ما ذكره المصنف بعده، وكذلك إتيان المرأة في الدبر له شواهد، منها ما رواه عبد بن حميد بإسناد صحيح عن طاووس "أن رجلاً سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها فقال: تسألني عن الكفر؟". ومنها ما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في "صحيحه". وصححه ابن حزم عن ابن عباس مرفوعًا: "لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في الدبر"1.
والأحاديث في ذلك كثيرة. وغاية ما ينكر من متنه ذكر إتيان الحائض والله أعلم.
قال: وللأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن... "من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"2.
ش: هكذا بيض المصنف اسم الراوي. وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا ولفظ أحمد:حدثنا يحيى بن سعيد عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة والحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم ... فذكره. وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري فقد روي عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة، حديث "أن موسى كان رجلاً حييا..." الحديث. قال العراقي في أماليه: حديث صحيح. وقال الذهبي: إسناده قوي. وعلى هذا فعزو المصنف إلى الأربعة ليس كذلك، فإنه لم يروه أحد منهم، وأظنه تبع في ذلك الحافظ، فإنه عزاه في "الفتح" إلى أصحاب السنن والحاكم فوهم، ولعله أراد الذي قبله.
قوله: "من أتى كاهنًا..."3 إلى آخره. قال بعضهم: لا تعارض(5/22)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الرضاع (1166).
2 سنن ابن ماجه : كتاب الطهارة وسننها (639) , وسنن الدارمي : كتاب الطهارة (1136).
3 الترمذي : الطهارة (135) , وأبو داود : الطب (3904) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/429 ,2/476) , والدارمي : الطهارة (1136).(5/23)
ص -350- ... بين هذا الخبر، وبين حديث: "من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة"1. إذ الغرض في هذا الحديث أنه سأله معتقدًا صدقه وأنه يعلم الغيب فإنه يكفر، فإن اعتقد أن الجن تلقي إليه ما سمعته من الملائكة، أو أنه بإلهام فصدقه من هذه الجهة لا يكفر كذا قال، وفيه نظر. وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان، لاعتقاده أنه يعلم الغيب، وسواء كان ذلك من قِبَل الشياطين، أو من قِبَل الإلهام لا سيما وغالب الكهان في وقت النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين. وفي حديث رواه الطبراني عن واثلة مرفوعًا: "من أتى كاهنًا فسأله عن شيء حجبت عنه التوبة أربعين ليلة فإن صدقه بما قال كفر". قال المنذري: ضعيف. فهذا - لو ثبت - نص في المسألة لكن ما تقدم من الأحاديث يشهد له، فإن الحديث الذي فيه الوعيد بعدم قبول الصلاة أربعين ليلة ليس فيه ذكر تصديقه والأحاديث التي فيها إطلاق الكفر مقيدة بتصديقه.
قوله: "فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم". قال الطيبي: المراد بالمنزل الكتاب والسنة، أي: من ارتكب هذه فقد برئ من دين محمد صلى الله عليه وسلم وما أُنزل عليه انتهى. وهل الكفر في هذا الموضوع كفر دون كفر أو يجب التوقف؟ فلا يقال: ينقل عن الملة. ذكروا فيها روايتين عن أحمد وقيل: هذا على التشديد والتأكيد، أي: قارب الكفر والمراد كفر النعمة، وهذان القولان باطلان.
قال: ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفًا.
ش: أبو يعلى اسمه أحمد بن علي بن المثنى الموصلي الإمام صاحب التصانيف ك: "المسند" وغيره روى عن يحيى بن معين وأبي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة وخلق وكان من الأئمة الحفاظ مات سنة سبع وثلاثمائة. وهذا الأثر رواه البزار أيضًا وإسناده على شرط مسلم ولفظه: "من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"2. وفيه دليل على كفر(5/24)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : السلام (2230) , وأحمد (4/68 ,5/380).
2 الترمذي : الطهارة (135) , وأبو داود : الطب (3904) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/408 ,2/429 ,2/476) , والدارمي : الطهارة (1136).(5/25)
ص -351- ... الكاهن والساحر والمصدق لهما، لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به وذلك كفر أيضًا.
قال: وعن عمران بن الحصين مرفوعًا "ليس منا من تطير أو تطير له، [أو تكهن] أو تكهن له، [أو سحر] أو سحر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم". رواه البزار بإسناد جيد.
ورواه الطبراني بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: (ومن أتى...) إلى آخره.
ش: هذا الحديث رواه الطبراني كما قال "المصنف" في "الأوسط" قال المنذري: إسناد الطبراني حسن وإسناد البزار جيد.
قوله: (ليس منا) أي: ليس يفعل ذلك من هو من أشياعنا العاملين باتباعنا المقتفين لشرعنا.
قوله: (من تطير) أي: فعل الطيرة أو تطير له، أي: أمر من يتطير له، وكذلك معنى تكهن أو تكهن له [أو سحر] أو سحر له.
قوله: (رواه البزار). اسمه أحمد بن عمرو بن عبد الخالق أبو بكر البزار البصري صاحب "المسند الكبير" الذي عزا إليه المصنف، روى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق. قال الدارقطني: ثقة يخطئ ويتكل على حفظه مات سنة اثنين وتسعين ومائتين.
[تعريف الكاهن والعراف]
قوله: قال البغوي [في شرح السّنة 3259]: "العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك، وقيل: هو الكاهن، والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل: الذي يخبر عما في الضمير، وقال أبو العباس ابن تيمية: "العرّاف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق".
ش: البغوى بفتحتين اسمه الحسين بن مسعود بن الفراء(5/26)
ص -352- ... المعروف بمحيي السنة الشافعي صاحب التصانيف، وعالم أهل خراسان وكان ثقة فقيهًا زاهدًا مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة.
قوله: (العراف الذي يدعي معرفة الأمور...) إلى آخره. هذا تفسير حسن وظاهره يقتضي أن العراف هو الذي يخبر عن الواقع كالمسروق والضالة، وأحسن منه كلام شيخ الإسلام: أن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف. وقال أيضًا: "والمنجم يدخل في اسم العراف وعند بعضهم هو في معناه". وقال أيضًا: "والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء وحكى ذلك عن العرب وعند آخرين من جنس الكاهن وأسوء حالاً منه، فيلحق به من جهة المعنى"، وقال الإمام أحمد: "العراف طرف من السحر والساحر أخبث". وقال أبو السعادات: "العراف المنجم والحازر الذي يدعي علم الغيب وقد استأثر الله تعالى به".
وقال ابن القيم: "من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفًا وعرافًا. والمقصود من هذا معرفة أن من يدعي علم شيء من المغيبات، فهو إما داخل في اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به، وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف. ومنه ما هو من الشياطين ويكون بالفأل والزجر والطير والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر ونحو هذا من علوم الجاهلية. ونعني بالجاهلية: كل من ليس من أتباع الرسل كالفلاسفة والكهان والمنجمين وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. فإن هذه علوم قوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل عليهم السلام. وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهنًا أو عرافًا أو في معناهما فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد.(5/27)
ص -353- ... وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة، ولا ريب أن من ادعى الولاية، واستدل عليها بإخباره ببعض المغيبات، فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، إذ الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن المتقي، إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها بخلاف من يدعي أنه ولي لله ويقول للناس: اعلموا أني أعلم المغيبات، فإن مثل هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب وإن كانت أسبابًا محرمة كاذبة في الغالب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في وصف الكهان: "فيكذبون معها مائة كذبة"1. فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة. وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس مع أن نفس دعواه دليل على كذبه، لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله:{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} 2. وليس هذا من شأن الأولياء، بل شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها وخوفهم من ربهم.
فكيف يأتون الناس يقولون: اعرفوا أنا أولياء، وأنا نعلم الغيب. وفي ضمن ذلك طلب المنْزلة في قلوب الخلق، واقتناص الدنيا بهذه الأمور؟! وحسبك بحال الصحابة والتابعين وهم سادات الأولياء أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء؟! لا والله. بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن كالصديق. وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده بالليل فيمرض منها ليالي يعوده الناس، وكان تميم الداري يتقلب في فراشه لا يستطيع النوم إلا قليلاً خوفًا من النار، ثم يقوم إلى صلاته ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكر الله تعالى من صفاتهم في سورة الرعد [20، 22، 28]، والمؤمنين [1، 9، 57، 61]، والفرقان [63، 74]، والذاريات [16، 19]، والطور [26، 28]، فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء لا أهل الدعوى(5/28)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : بدء الخلق (3210) , ومسلم : السلام (2228) , وأحمد (6/87).
2 سورة النجم آية : 32.(5/29)
ص -354- ... والكذب، ومنازعة رب العالمين فيما اختص من الكبرياء والعظمة، وعلم الغيب، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر، فكيف يكون المدعي لذلك وليًّا لله؟! ولقد عظم الضرر، واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين، ولبسوا بها على خفافيش البصائر. نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة".
فإن قلت: كيف يكون علم الخط من الكهانة؟ وقد روى أحمد ومسلم عن "معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنا رجال يخطون فقال كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك"1 .
قلت: قال النووي: "معناه أن من وافق خطه، فهو مباح له، لكن لا طريق لنا إلى العلم باليقين بالموافقة، فلا يباح. والقصد أنه لا يباح إلا بيقين الموافقة وليس لنا يقين". وقال غيره: "المراد به النهي عنه والزجر عن تعاطيه، لأن خط ذلك النبي كان معجزة وعَلَمًا لنبوته، وقد انقطعت نبوته ولم يقل: فذلك الخط حرام دفعًا لتوهم أن خط ذلك النبي حرام".
قلت: ويحتمل أن المعنى أن سبب إصابة صاحب الخط هو موافقته لخط ذلك النبي، فمن وافق خطه أصاب. وإذا كان كذلك وكانت الإصابة نادرة بالنسبة إلى الخط، ولا طريق إلى اليقين بالموافقة صار ذلك بالنسبة إلى من يتعاطاه من أنواع الكهانة لمشاركته لها في المعنى إذا علمت ذلك، فاعلم أن مذهب الإمام أحمد أن حكم الكاهن والعراف الاستتابة، فإن تابا وإلا قتلا. ذكره غير واحد من الأصحاب.
فأما المعزم الذي يعزم على المصروع، ويزعم أنه يجمع الجن وأنها تطيعه، والذي يحل السحر، فقال في "الكافي" ذكرهما أصحابنا في السحرة الذين ذكرنا حكمهم. وقد توقف أحمد لما سئل عن الرجل يحل السحر، فقال: قد رخص فيه بعض الناس. قيل: إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه، فنفض يده وقال: ما أدري ما هذا؟!. قيل له: فترى أن يؤتى مثل هذا يحل؟ قال: ما أدري(5/30)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (537) , وأبو داود : الطب (3909) , وأحمد (5/448).(5/31)
ص -355- ... ما هذا؟!. قال: وهذا يدل على أنه لا يكفر صاحبه، ولا يقتل.
قلت: إن كان ذلك لا يحصل إلا بالشرك والتقرب إلى الجن، فإنه يكفر ويقتل، ونص أحمد لا يدل على أنه لا يكفر، فإنه قد يقول مثل هذا في الحرام البين.
قوله: وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد، وينظرون في النجوم : ما أَُرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق.
ش: هذا الأثر ذكره المصنف عن ابن عباس، ولم يعزه، وقد رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا، وإسناده ضعيف، ولفظه: "رب معلم حروف أبي جاد دارس في النجوم ليس له عند الله من خلاق يوم القيامة". ورواه أيضًا حميد بن زنجويه عنه بلفظ "رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق".
قوله: (ما أَُرى). يجوز فتح الهمزة من "أرى" بمعنى: لا أعلم له عند الله من خلاق، أي: من نصيب، ويجوز ضمها بمعنى: لا أظن ذلك لاشتغاله بما فيه من اقتحام الخطر والجهالة وادعاء علم الغيب الذي استأثر الله به، وكتابة أبي جاد وتعلمها لمن يدعي بها معرفة علم الغيب هو الذي يسمى علم الحرف. ولبعض المبتدعة فيه مصنف، فأما تعليمها للتهجي وحساب الجمل، فلا بأس بذلك.
قوله: (وينظرون في النجوم). هذا محمول على علم التأثير لا التسيير، كما سيجيء في باب التنجيم، وفيه عدم الاغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم، كما قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة غافر آية : 83.(5/32)
ص -356- ... [21- باب ما جاء في النشرة]
لما ذكر المصنف حكم السحرة والكهانة ذكر ما جاء في النشرة، لأنها قد تكون من قبل الشياطين والسحرة، فتكون مضادة للتوحيد، وقد تكون مباحة، كما سيأتي تفصيله.
قال أبو السعادات: النشرة ضرب من العلاج والرقية، يعالج به من كان يظن أن به مسًّا من الجن، سميت نشرة، لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي: يكشف ويزال.
وقال الحسن: النشرة من السحر، وقد نشرت عنه تنشيرًا، ومنه الحديث: "فلعل طبا أصابه ثم نشره ب {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} "أي: رقاه. وقال غيره: ونشره أيضًا إذا كتب له النشرة، وهي كالتعويذ والرقية. وقال ابن الجوزي: النشرة حل السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر.
[النشرة من عمل الشيطان]
قال: عن جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة، فقال: هي من عمل الشيطان"1. رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود، قال: سئل أحمد عنها، فقال ابن مسعود: يكره هذا كله.
ش: هذا الحديث رواه أحمد، ورواه عنه أبو داود في "سننه" والفضل بن زياد في كتاب "المسائل" عن عبد الرزاق عن عقيل بن معقل بن منبه عن عمه وهب بن منبه عن جابر، فذكره، قال ابن مفلح: إسناده جيد، وحسن الحافظ إسناده، ورواه ابن أبي شيبة، وأبو داود في المراسيل عن الحسن رفعه "النشرة من عمل الشيطان"2 .
قوله: (سئل عن النشرة). الألف واللام في النشرة للعهد، أي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الطب (3868) , وأحمد (3/294).
2 أبو داود : الطب (3868) , وأحمد (3/294).(5/33)
ص -357- ... النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يصنعونها، هي من عمل الشيطان، لا النشرة بالرقى والتعوذات الشرعية والأدوية المباحة، فإن ذلك جائز كما قرره ابن القيم فيما سيأتي.
قوله: (وقال: سئل أحمد عنها فقال ابن مسعود: يكره هذا كله). مراد أحمد - والله أعلم - أن ابن مسعود يكره النشرة التي من عمل الشيطان والنشرة التي بكتابة وتعليق كالتمائم، فإن ابن مسعود كان يكره التمائم كلها من القرآن وغير القرآن، أما النشرة بالتعويذ والرقى بأسماء الله وكلامه من غير تعليق، فلا أعلم أحدًا كرهه، وكذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم: كانوا يكرهون التمائم والرقى والنشر. محمول على ما ذكرنا.
قال وفي " البخاري " عن قتادة قلت لابن المسيب: رجل به طب، أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر ؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه؟ .
ش: هذا الأثر علقه البخاري، ووصله أبو بكر الأثرم في كتاب "السنن" من طريق أبان العطار عن قتادة مثله، ومن طريق هشام الدستوائي عن قتادة بلفظ: (يلتمس من يداويه). فقال: إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع.
قوله: (عن قتادة)، هو ابن دعامة بكسر الدال السدوسي البصري ثقة
ثبت فقيه من أحفظ التابعين، يقال: إنه ولد أكمه مات سنة بضع عشرة ومائة.
قوله: (رجل به طب)، بكسر الطاء، أى: سحر، يقال: طب الرجل بالضم: إذا سحر، ويقال: كنوا عن السحر بالطب تفاؤلاً، كما قالوا للديغ: سليم، وقال ابن الأنباري: الطب من الأضداد يقال لعلاج الداء: طب، والسحر من الداء، يقال له: طب.
قوله: (أو يؤخذ). بفتح الواو مهموز، وتشديد الخاء المعجمة(5/34)
ص -358- ... وبعدها ذال معجمة، أي: يحبس عن امرأته، ولا يصل إلى جماعها والأخذ بضم الهمزة: الكلام الذي يقوله الساحر.
قوله: (يحل) بضم الياء وفتح الحاء مبني للمفعول.
قوله: (وينشر)، بتشديد المعجمة.
قوله: (قال لا بأس به...) إلى آخره يعني أن النشرة لا بأس بها لأنهم يريدون بها الإصلاح، أي: إزالة السحر، ولم ينه عما يراد به الإصلاح، إنما ينهى عما يضر. وهذا الكلام من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم هل هو نوع من السحر أم لا؟ فأما أن يكون ابن المسيب يفتي بجواز قصد الساحر الكافر المأمور بقتله ليعمل السحر، فلا يظن به ذلك، حاشاه منه، ويدل على ذلك قوله: إنما يريدون به الإصلاح، فأي إصلاح في السحر؟! بل كله فساد وكفر والله أعلم.
قال: وروي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر.
ش: هذا الأثر ذكره ابن الجوزي في "جامع المسانيد" بغير إسناد، ولفظه: (لا يطلق السحر إلا ساحر)، وروى ابن جرير في "التهذيب" من طريق يزيد بن زريع عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأسًا إذا كان بالرجل سحر أن يمشي إلى من يطلق عنه، فقال: هو صلاح، قال قتادة: وكان الحسن يكره ذلك يقول: لا يعلم ذلك إلا ساحر، قال: فقال سعيد بن المسيب: إنما نهى الله عما يضر، ولم ينه عما ينفع.
قوله: (عن الحسن)، هو ابن أبي الحسن، واسمه يسار بالتحتانية والمهملة البصري الأنصاري مولاهم ثقة فقيه إمام فاضل من خيار التابعين. مات سنة عشر ومائة، وقد قارب التسعين.
[أنواع النشرة]
قوله: قال ابن القيم: النشرة حل السحر عن المسحور. وهي نوعان: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان. وعليه(5/35)
ص -359- ... يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية المباحة، فهذا جائز.
ش: هذا الثاني هو الذي يحمل عليه كلام ابن المسيب، أو على نوع لا يدرى هل هو من السحر أم لا؟ وكذلك ما روي عن الإمام أحمد من إجازة النشرة، فإنه محمول على ذلك وغلط من ظن أنه أجاز النشرة السحرية، وليس في كلامه ما يدل على ذلك، بل لما سئل عن الرجل يحل السحر قال: قد رخص فيه بعض الناس. قيل: إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه؟ فنفض يده وقال: لا أدري ما هذا؟ قيل له: أفترى أن يؤتى مثل هذا؟ قال لا أدري ما هذا؟ وهذا صريح في النهي عن النشرة على الوجه المكروه. وكيف يجيزه؟! وهو الذي روى الحديث أنها من عمل الشيطان. ولكن لما كان لفظ النشرة مشتركًا بين الجائزة والتي من عمل الشيطان، ورأوه قد أجاز النشرة ظنوا أنه قد أجاز التي من عمل الشيطان، وحاشاه من ذلك. ومما جاء في صفة النشرة الجائزة ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تقرأ في إناء فيه ماء ثم تصب على رأس المسحور الآية التي في يونس: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}، إلى قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}، [يونس: من الآيتان: 81-82]. وقوله:{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ...} 1، إلى آخر أربع آيات. وقوله:{إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 2. وقال ابن بطال: في كتاب وهب بن منبه أنه يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله.(5/36)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 118.
2 سورة طه آية : 69.(5/37)
ص -360- ... [22- باب ما جاء في التطير]
مصدر تطير يتطير والطيرة أيضًا - بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن - مصدر تطير، يقال: تطير طيرة وتخير خيرة ولم يجئ من المصادر هكذا غيرهما، وأصله فيما يقال: التطير بالسوانح، والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم. فإذا أرادوا أمرًا، فإن رأوا الطير مثلاً طار يمنة، تيمنوا به، وإن طار يسرة، تشاؤموا به، فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع أو دفع ضر. قال المدائني: سألت رؤبة بن العجاج ما السانح؟ قال: ما ولاك ميامنه قلت: فما البارح؟ قال: ما ولاك مياسره. قال والذي يجيء من أمامك فهو الناطح والنطيح، والذي يجيء من خلفك هو القاعد والقعيد.
ولما كانت الطيرة بابًا من الشرك منافيًا للتوحيد أو لكماله، لأنها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته، ذكره المصنف في كتاب "التوحيد" تحذيرًا منها وإرشادًا إلى كمال التوحيد بالتوكل على الله. واعلم أن ما كان معتنيًا بها قابلاً بها كانت إليه أسرع من السيل إلى منحدره، وتفتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه، وينكد عليه عيشه، فالواجب على العبد التوكل على الله ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يمضي لشأنه لا يرده شيء من الطيرة عن حاجته فيدخل في الشرك.
قال: وقول الله تعالى:{أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1. ش: أول الآية قوله تعالى:{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ...} 2 الآية. المعنى أن آل فرعون إذا أصابتهم {الْحَسَنَةُ}، أي: الخصب والسعة والعافية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 131.
2 سورة الأعراف آية : 131.(5/38)
ص -361- ... على ما فسره مجاهد وغيره قالوا: لنا هذه، أي: نحن الجديرون الحقيقون به، ونحن أهله وإن تصبهم سيئة، أي: بلاء وضيق وقحط يطيروا بموسى ومن معه، فيقولون: هذا بسبب موسى وأصحابه أصابنا بشؤمهم كما يقوله المتطير لمن يتطير به. فأخبر سبحانه أن طائرهم عنده فقال:{أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} 1. قال ابن عباس: طائرهم ما قضي عليهم وقدر لهم. وفى رواية ذكرها ابن جرير عنه قال: الأمر من قبل الله، وفي رواية: شؤمهم عند الله ومن قبله، أي: إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله. وقيل: المعنى أن الشؤم العظيم هو الذي عند الله من عذاب النار لا هذا الذي أصابهم في الدنيا. والظاهر أن هذه الآية كقوله تعالى:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 2، أي: أن الكل من الله لكن هذا الشؤم الذي أجراه عليهم من عنده هو بسبب أعمالهم لا بسبب موسى عليه السلام ومن معه. وكيف يكون ذلك وما جاء به خير محض؟ والطيرة إنما تكون بالشر لا بالخير.
وقوله:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 3، أي: أن أكثرهم جهال لا يدرون، ولو فهموا أو عقلوا لعلموا أنه ليس فيما جاء به موسى عليه السلام شيء يقتضي الطيرة.
وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: ألا إنمّا طائر آل فرعون وغيرهم - وذلك أنصباؤهم من الرخاء والخصب وغير ذلك من أنصباء الخير والشر - إلا عند الله، ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك كذلك، فلجهلهم بذلك كانوا يتطيرون بموسى ومن معه.
قال: وقوله:{قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ...} 4 الآية .
ش: المعنى والله أعلم، أي: حظكم وما نالكم من خير وشر معكم بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين، ليس هو من أجلنا ولا بسببنا، بل ببغيكم وعداوتكم فطائر الباغي الظالم معه وهو عند الله كما قال تعالى:{وَإِنْ(5/39)
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 131.
2 سورة النساء آية : 78.
3 سورة الأنعام آية : 37.
4 سورة يس آية : 19.(5/40)
ص -362- ... مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} 1. ولو فقهوا أو فهموا لما تطيروا بما جئت به، لأنه ليس فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقتضي الطيرة، كأنه خير محض لا شر فيه، وصلاح لا فساد فيه، وحكمة لا عيب فيها، ورحمة لا جور فيها. فلو كان هؤلاء القوم من أهل الفهم والعقول السليمة لم يتطيروا من هذا، لأن الطيرة إنما تكون بالشر لا بالخير المحض والحكمة والرحمة، بل طائرهم معهم بسبب كفرهم وشركهم وبغيهم وهو عند الله كسائر حظوظهم، وأنصبائهم التي ينالونها منه بأعمالهم. ويحتمل أن يكون المعنى{طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}، أي: راجع عليكم، فالتطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم، وهذا من باب القصاص في الكلام ونظيره قوله عليه السلام: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم"2. ذكره ابن القيم.
وقوله:{أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} 3 أي: من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله، وإخلاص العبادة له قابلتمونا بهذا الكلام؟! وتوعدتمونا بل أنتم قوم مسرفون. وقال قتادة: أئن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا؟
ومطابقة الآيتين لمقصود الباب ظاهر، لأن الله تعالى لم يذكر الطير إلا عن أعدائه، فهو من أمر الجاهلية، لا من أمر الإسلام.
[لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر]
قال: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر"4. أخرجاه. زاد مسلم عن جابر: "ولا نوء ولا غول"5 .
ش: قوله: (لا عدوى). قال أبو السعادات: العدوى اسم من الأعداء كالدعوى والبقوى من الادعاء والإبقاء. يقال: أعداه الداء يعديه إعداء، وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء. وذلك أن يكون ببعير جرب مثلاً يتقي مخالطته بإبل أخرى حَذَار أن يتعدى ما به من الجرب إليها، فيصيبها ما أصابه. انتهى.(5/41)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 78.
2 البخاري : الاستئذان (6258) , ومسلم : السلام (2163) , والترمذي : تفسير القرآن (3301) , وأبو داود : الأدب (5207) , وابن ماجه : الأدب (3697) , وأحمد (3/212).
3 سورة يس آية : 19.
4 البخاري : الطب (5757) , ومسلم : السلام (2220) , وأبو داود : الطب (3911) , وأحمد (2/267 ,2/327 ,2/397 ,2/434).
5 البخاري : الطب (5717 ,5757 ,5771) , ومسلم : السلام (2220) , وأبو داود : الطب (3911 ,3912) , وأحمد (2/267 ,2/397).(5/42)
ص -363- ... وفي بعض روايات هذا الحديث: "فقال أعرابي: يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجيء البعير الأجرب، فيدخل فيها فيجربها كلها؟ قال: فمن أعدى الأول"1. وفي رواية في "مسلم" أن أبا هريرة كان يحدث بحديث: "لا عدوى" ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يورد ممرِض على مصِح"2. ثم إن أبا هريرة اقتصر على حديث "لا يورد ممرض على مصح"3 وأمسك عن حديث: "لا عدوى"، فراجعوه فيه، فقالوا: سمعناك تحدثه، فأبى أن يعترف به. قال أبو سلمة الراوي عن أبي هريرة: فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر.
وقد روى حديث: "لا عدوى"، جماعة من الصحابة منهم أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، والسائب بن يزيد وابن عمر وغيرهم، فنسيان أبي هريرة له لا يضر. وفي بعض روايات هذا الحديث: "وفر من المجذوم كما تفر من الأسد".
وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافًا كثيرًا.
فردت طائفة حديث: "لا عدوى"، بأن أبا هريرة رجع عنه. قالوا: والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر فالمصير إليها أولى، وهذا ليس بشيء، لأن حديث: "لا عدوى"، قد رواه جماعة كما تقدم.
وعكست طائفة هذا القول، ورجحوا حديث: "لا عدوى"، وزيفوا ما سواه من الأخبار، وأعلوا بعضها بالشذوذ كحديث: "فر من المجذوم فرارك من الأسد"4. وبأن عائشة أنكرته كما روى ابن جرير عنها: أن امرأة سألتها عنه فقالت: ما قال ذلك، ولكنه قال: "لا عدوى"5. وقال: "فمن أعدى الأول"6. قالت: وكان لي مولى به(5/43)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الطب (5717 ,5771 ,5775) , ومسلم : السلام (2220) , وأبو داود : الطب (3911) , وأحمد (2/267 ,2/327).
2 مسلم : السلام (2221) , وابن ماجه : الطب (3541) , وأحمد (2/434).
3 مسلم : السلام (2221) , وابن ماجه : الطب (3541) , وأحمد (2/434).
4 البخاري : الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم : الحج (1337) , والنسائي : مناسك الحج (2619) , وابن ماجه : المقدمة (1 ,2) , وأحمد (2/247 ,2/258 ,2/313 ,2/355 ,2/428 ,2/447 ,2/456 ,2/467 ,2/482 ,2/495 ,2/508).
5 الترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2518) , والنسائي : الأشربة (5711) , وأحمد (1/200) , والدارمي : البيوع (2532).
6 البخاري : الجمعة (1014) , ومسلم : صلاة الاستسقاء (897) , والنسائي : الاستسقاء (1518).(5/44)
ص -364- ... هذا الداء، فكان يأكل في صحافي، ويشرب في أقداحي، وينام على فراشي. وهذا أيضًا ليس بشيء، فإن الأحاديث في الاجتناب ثابتة.
وحملت طائفة أخرى الإثبات والنفي على حالتين مختلفتين، فحيث جاء (لا عدوى) كان المخاطب بذلك من قوي يقينه، وصح توكله بحيث لا يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى، كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل واحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، وهذا كما أن قوة الطبيعة تدفع العلة وتبطلها. وحيث جاء الإثبات كان المراد به ضعيف الإيمان والتوكل ذكره بعض أصحابنا واختاره وفيه نظر. وقال مالك لما سئل عن حديث "فر من المجذوم": ما سمعت فيه بكراهية وما أرى ما جاء من ذلك إلا مخافة أن يقع في نفس المؤمن شيء. ومعنى هذا أنه نفى العدوى أصلاً، وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادة وسد الذريعة، لئلا يحدث للمخاطب شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة، فيثبت العدوى التي نفاها الشارع. وإلى هذا ذهب أبو عبيد وابن جرير والطحاوي وذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد.
قلت: وأحسن من هذا كله ما قاله البيهقي، وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم أن قوله: (لا عدوى) على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمراض تعدي بطبعها، وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح مَنْ به شيء من هذه العيوب سببًا لحدوث ذلك. ولهذا قال: "فر من المجذوم كما تفر من الأسد"وقال: "لا يورد ممرض على مصح". وقال في الطاعون: "من سمع به بأرض فلا يقدم عليه"1. وكل ذلك بتقدير الله تعالى كما قال: "فمن أعدى الأول"2.(5/45)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الجمعة (1013) , ومسلم : صلاة الاستسقاء (897) , والنسائي : الاستسقاء (1518) , وأبو داود : الصلاة (1174) , وأحمد (3/104 ,3/187 ,3/194 ,3/245 ,3/261 ,3/271).
2 البخاري : الجمعة (1014) , ومسلم : صلاة الاستسقاء (897) , والنسائي : الاستسقاء (1518).(5/46)
ص -365- ... يشير إلى أن الأول إنما جرب بقضاء الله وقدره، فكذلك الثاني وما بعده. وروى الإمام أحمد والترمذي عن ابن مسعود مرفوعًا: "لا يعدي شيء قالها ثلاثًا. فقال الأعرابي: يا رسول الله، النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أجرب الأول؟ لا عدوى، ولا هامة، ولا صفر، خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصابها ورزقها", فأخبر عليه السلام أن ذلك كله بقضاء الله وقدره كما دل عليه قوله تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} 1 .
وأما أمره بالفرار من المجذوم، ونهيه عن إيراد الممرض على المصح، وعن الدخول إلى موضع الطاعون، فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى، وجعلها أسبابًا للهلاك والأذى، والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية، فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء أو في النار أو تحت الهدم أو نحو ذلك مما جرت العادة بأنه يهلك ويؤذي، فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم، وقدوم بلد الطاعون، فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، والله تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها لا خالق غيره ولا مقدر غيره.
وأما إذا قوي التوكل على الله، والإيمان بقضائه وقدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادًا على الله ورجاء منه أن لا يحصل به ضرر ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك لا سيما إذا كانت فيه مصلحة عامة أو خاصة وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة ثم قال: كل باسم الله، ثقة بالله، وتوكلا عليه"2. وقد أخذ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحديد آية : 22.
2 الدارمي : المقدمة (649).(5/47)
ص -366- ... به الإمام أحمد. وروي ذلك عن عمر وابنه وسلمان رضي الله عنهم. ونظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد من أكل السم، ومن مشي سعد بن أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر قاله ابن رجب.
قوله: "ولا طيرة"قال ابن القيم: هذا يحتمل أن يكون نفيًا أو يكون نهيًا، أي: لا تتطيروا، ولكن قوله في الحديث: "ولا عدوى ولا صفر ولا هامة"1 يدل على أن المراد النفي وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها. والنفي في هذا أبلغ من النهي، لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدل على المنع منه وفي "صحيح مسلم" عن معاوية بن الحكم السلمي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومنا أناس يتطيرون؟ فقال: ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدَّنَّكم"2. فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لا ما رآه وسمعه، فأوضح صلى الله عليه وسلم لأمته الأمر وبين لهم فساد الطيرة ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها دلالة، ولا نصبها سببًا لما يخافونه ويحذرونه، ولتطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله ونزل بها كتبه، وخلق لأجلها السموات والأرض، وعمر الدارين الجنة والنار بسبب التوحيد فقطع صلى الله عليه وسلم علق الشرك من قلوبهم، لئلا يبقى فيها علق منها ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار البتة.
فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى واعتصم بحبله المتين، وتوكل على الله، قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها، وبادر خواطرها من قبل استمكانها. قال عكرمة: "كنا جلوسًا عند ابن عباس فمر طائر يصيح. فقال رجل من القوم: خير خير. فقال ابن عباس: لا خير ولا شر"فبادره بالإنكار عليه لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر. وخرج طاووس مع صاحب له في سفر، فصاح غراب، فقال الرجل: خير، فقال طاووس: وأي خير عند هذا لا(5/48)
تصحبني انتهى. ملخصًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الطب (5717) , ومسلم : السلام (2220 ,2221 ,2220) , وأبو داود : الطب (3911) , وأحمد (2/267 ,2/327 ,2/397).
2 مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (537) , وأبو داود : الصلاة (930) , وأحمد (5/447).(5/49)
ص -367- ... ولكن يشكل عليه ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أنس مرفوعًا: "لا طيرة، والطيرة على من تطير"فظاهر هذا أنها تكون سببًا لوقوع الشر بالمتطير.
وجوابه: أن المراد بذلك من تطير تطيرًا منهيًّا عنه، وهو أن يعتمد على ما يسمعه ويراه حتى يمنعه مما يريده من حاجته، فإنه قد يصيبه ما يكرهه عقوبة له، فأما من توكل على الله، ووثق به بحيث علق قلبه بالله خوفًا ورجاء، وقطعه عن الالتفات إلى غير الله. وقال: وفعل ما أمر به فإنه لا يضره ذلك. وأما من اتقى أسباب الضرر بعد انعقادها بالأسباب المنهي عنها، فإنه لا ينفعه ذلك غالبًا كمن ردته الطيرة عن حاجته خشية أن يصيبه ما تطير به، فإنه كثيرًا ما يصاب بما يخشى به.
وقد جاءت أحاديث ظن بعض الناس أنها تدل على جواز الطيرة.
منها: قوله عليه السلام: "الشؤم في ثلاث: في المرأة، والدابة، والدار"1. وفي رواية: "لا عدوى ولا طيرة، والشؤم في ثلاث...". الحديث وفي حديث آخر "إن كان ففي الفرس، والمرأة، والمسكن". رواهما البخاري فأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك وقالت: "كذب والذي أنزل الفرقان على أبي القاسم من حدث بها ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في المرأة والدار والدابة" ثم قرأت عائشة:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[الحديد: 22]. رواه أحمد وابن خزيمة والحاكم وصححه بمعناه. وقال الخطابي وابن قتيبة: هذا مستثنى من الطيرة، أي: الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها، أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع والطلاق ونحوه، ولا يقيم على الكراهة والتأذي به فإنه شؤم.
وقالت طائفة: لم يجزم النبي صلى الله عليه وسلم بالشؤم في هذه الثلاثة، بل(5/50)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي : قطع السارق (4877) , وأبو داود : الحدود (4380) , وابن ماجه : الحدود (2597) , وأحمد (5/293) , والدارمي : الحدود (2303).(5/51)
ص -368- ... علقه على الشرط كما ثبت ذلك في الصحيح، ولا يلزم من صدق الشرطية صدق كل واحد بمفردها، قالوا: والراوي غلط.
قلت: لا يصح تغليطه مع إمكان حمله على الصحة، ورواية تعليقه بالشرط لا تدل على نفي رواية الجزم.
وقالت طائفة أخرى: الشؤم بهذه الثلاثة إنما يلحق من تشاءم بها فيكون شؤمها عليه، ومن توكل على الله ولم يتشاءم ولم يتطير لم تكن مشئومة عليه، قالوا: ويدل عليه حديث أنس: "الطيرة على من تطير". وقد يجعل الله سبحانه تطير العبد وتشاؤمه سببًا لحلول المكروه، كما يجعل الثقة به والتوكل عليه، وإفراده بالخوف والرجاء من أعظم الأسباب التي يدفع بها الشر. وقال ابن القيم: إخباره صلى الله عليه وسلم بالشؤم في هذه الثلاثة، ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها الله وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق أعيانًا منها مشئومة على من قاربها وسكنها، وأعيانًا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر. وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولدًا مباركًا يريان الخير على وجهه، ويعطي غيرهما ولدًا مشئومًا يريان الشر على وجهه، وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية أو غيرها. فكذلك الدار والمرأة والفرس. والله سبحانه خالق الخير والشر والسعود والنحوس فيخلق بعض هذه الأعيان سعودًا مباركة، ويقضي بسعادة من قاربها وحصول اليمن والبركة له، ويخلق بعضها نحوسًا يتنحس بها من قاربها، وكل ذلك بقضائه وقدره كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة، كما خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة، ولذذ بها من قاربها من الناس، وخلق ضدها وجعلها سببًا لألم من قاربها من الناس، والفرق بين هذين النوعين مدرك بالحس فكذلك في الديار والنساء والخيل فهذا لون والطيرة الشركية لون. انتهى.
قلت: ولهذا يشرع لمن استفاد زوجة أو أمة أو دابة، أن يسأل الله من خيرها وخير ما جبلت عليه، ويستعيذ من شرها وشر ما جبلت عليه، وكذلك ينبغي لمن سكن دارًا أن يفعل ذلك(5/52)
ص -369- ... ولكن يبقى على هذا أن يقال: هذا جار في كل مشئوم فما وجه خصوصية هذه الثلاثة بالذكر؟ وجوابه أن أكثر ما يقع التطير في هذه الثلاثة فخصت بالذكر لذلك، ذكره في "شرح السنن".
ومنها ما روى مالك عن يحيى بن سعيد قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقل العدد وذهب المال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوها ذميمة"1. رواه أبو داود عن أنس بنحوه.
وجوابه أن هذا ليس من الطيرة المنهي عنها، بل أمرهم بالانتقال لأنهم استثقلوها واستوحشوا منها، لما لحقهم فيها ليتعجلوا الراحة مما دخلهم من الجزع، لأن الله قد جعل في غرائز الناس استثقال ما نالهم الشر فيه، وإن كان لا سبب له في ذلك وحب من جرى على يديه الخير لهم، وإن لم يردهم به، ولأن مقامهم فيها قد يقودهم إلى الطيرة، فيوقعهم ذلك في الشرك، والشر الذي يلحق المتطير بسبب طيرته، وهذا بمنْزلة الخارج من بلد الطاعون غير فار منه، ولو منع الناس الرحلة من الدار التي تتوالى عليهم فيها المصائب والمحن، وتعذر الأرزاق مع سلامة التوحيد في الرحلة، للزم كل من ضاق عليه رزق في بلد أو قلة فائدة صناعته أو تجارته فيها أن لا ينتقل عنها إلى غيرها.
ومنها فإن قيل: ما الفرق بين الدار وبين موضع الوباء حيث رخص في الارتحال عن الدار دون موضع البلاء؟ أجاب بعضهم أن الأمور بالنسبة إلى هذا المعنى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما لا يقع التطير منه إلا نادرًا، أو إلا مكررًا، فهذا لا يصغى إليه كنعي الغراب في السفر، وصراخ بومة في دار، وهذا كانت العرب تعتبره.
ثانيها: ما يقع به ضرر، ولكنه يعم ولا يخص ويندر ولا يتكرر كالوباء، فهذا لا يقدم عليه ولا يفر منه.
وثالثها: سبب محض ولا يعم ويلحق به الضرر لطول الملازمة كالمرأة، والفرس والدار فيباح له الاستبدال، أو التوكل على الله، والإعراض عما يقع في النفس ذكره في "شرح السنن".(5/53)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : التوحيد (7410) , ومسلم : الإيمان (193) , وابن ماجه : الزهد (4312) , وأحمد (3/116 ,3/244 ,3/247).(5/54)
ص -370- ... ومنها: "حديث اللقحة لما منع النبي صلى الله عليه وسلم حربًا ومرة من حلبها وأذن ليعيش". رواه مالك.
وجوابه: أن ابن عبد البر قال: ليس هذا عندي من باب الطيرة لأنه محال أن ينهى عن شيء ويفعله، وإنما هو من طلب الفأل الحسن. وقد كان أخبرهم عن أقبح الأسماء أنه حرب ومرة. فالمراد بذلك حتى لا يتسمى بهما أحد. وقد روى ابن وهب في "جامعه" ما يدل على هذا فإنه قال في هذا الحديث: "فقام عمر بن الخطاب فقال: أتكلم يا رسول الله أم أصمت؟ فقال: بل اصمت وأخبرك بما أردت، ظننت يا عمر أنها طيرة ولا طير إلا طيره، ولا خير إلا خيره، ولكن أحب الفأل الحسن".
وعلى هذا تجري بقية الأحاديث التي توهم بعضهم أنها من باب الطيرة.
قوله: "ولا هامة"بتخفيف الميم على الصحيح. قال الفراء: الهامة طائر من طير الليل كأنه يعني: البومة قال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول: نعت إلي نفسي أو أحدًا من أهل داري. وقال أبو عبيد: كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير، ويسمون ذلك الطائر الصدى، وبه جزم ابن رجب قال: وهذا شبيه باعتقاد أهل التناسخ أن أرواح الموتى تنتقل إلى أجساد حيوانات من غير بعث ولا نشور، وكل هذه اعتقادات باطلة جاء الإسلام بإبطالها وتكذيبها. ولكن الذي جاءت به الشريعة أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها إلى أن يردها الله إلى أجسادها. وذكر الزبير بن بكار في "الموفقيات" أن العرب كانت في الجاهلية تقول: إذا قتل الرجل، ولم يؤخذ بثأره، خرجت من رأسه هامة، وهي دودة فتدور حول قبره وتقول: اسقوني. وفي ذلك يقول شاعرهم:
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني
قال: وكانت اليهود تزعم أنها تدور حول قبره سبعة أيام ثم تذهب.(5/55)
ص -371- ... قوله: "ولا صفر"، بفتح الفاء. روى أبو عبيد القاسم بن سلام في "غريب الحديث " له عن رؤبة أنه قال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس وهي أعدى من الجرب عند العرب. فعلى هذا فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى، ويكون عطفه على العدوى من عطف الخاص على العام. وممن قال بهذا: سفيان بن عيينة وأحمد والبخاري وابن جرير، وقال آخرون: المراد به شهر صفر، والنفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، وكانوا يحلون المحرم، ويحرمون صفر مكانه. وهذا قول مالك وفيه نظر. وروى أبو داود عن محمد بن راشد عمن سمعه يقول: إن أهل الجاهلية كانوا يستشئمون بصفر ويقولون: إنه شهر مشؤوم فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال ابن رجب: ولعل هذا القول أشبه الأقوال، وكثير من الجهال يتشاءم بصفر، وربما ينتهي عن السفر فيه. والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام، كيوم الأربعاء وتشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة.
قوله: "ولا نوء"النوء واحد الأنواء. وسيأتي الكلام عليه في باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء.
قوله: "ولا غول". هو بالفتح مصدر معناه: البعد والهلاك وبالضم الاسم، وجمعه أغوال وغيلان وهو المراد هنا. قال أبو السعادات: الغول واحد الغيلان، وهو جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس فتتغول تغولاً، أي: تتلون تلونًا في صور شتى وتُغْوِلُهم، أي: تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم وأبطله.
وقيل: قوله: لا غول ليس نفيًا لعين الغول ووجوده، وإنما فيه إبطال زعم العرب في تلونه بالصور المختلفة واغتياله. فيكون المعنى بقوله: "لا غول"، أنها لا تستطيع أن تضل أحدًا ويشهد له الحديث الآخر: "لا غول ولكن السعالي سحرة(5/56)
ص -372- ... الجن" أي: ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل، ومنه الحديث: "إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان"1. أي: ادفعوا شرها بذكر الله، وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها عدمها، ومنه حديث أبي أيوب: كان لي تمر في سهوة فكانت الغول تجيء فتأخذ.
[كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل]
قال: ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة"2 .
ش قوله: "ويعجبني الفأل". قال أبو السعادات: الفأل مهموز فيما يسر ويسوء، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، وربما استعملت فيما يسر، يقال: تفاءلت بكذا، وتفألت على التخفيف والقلب. وقد أولع الناس بترك الهمزة تخفيفًا، وإنما أحب الفأل، لأن الناس إذا أملوا فائدة الله، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي، فهم على خير، ولو غلطوا في جهة الرجاء، فإن الرجاء لهم خير، وإذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر.
وأما الطيرة، فإن فيها سوء الظن بالله، وتوقع البلاء. ومعنى التفاؤل مثل أن يكون رجل مريض، فيتفاءل بما يسمع من كلام فيسمع آخر يقول: يا سالم، أو يكون طالب ضالة، فيسمع آخر يقول: يا واجد، فيقع في ظنه أنه برئ من مرضه ويجد ضالته ومنه الحديث قيل: "يا رسول الله ما الفأل؟ فقال: الكلمة الصالحة"3.
قوله: "قالوا وما الفأل؟ قال الكلمة الطيبة"4. بين لهم صلى الله عليه وسلم أن الفأل يعجبه فدل أنه ليس من الطيرة المنهي عنها.
قال ابن القيم:"ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة، ومن حب الفطرة الإنسانية التي(5/57)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (3/381).
2 البخاري : الطب (5776) , ومسلم : السلام (2224) , والترمذي : السير (1615) , وأبو داود : الطب (3916) , وابن ماجه : الطب (3537) , وأحمد (3/118 ,3/130 ,3/154 ,3/173 ,3/178 ,3/251 ,3/275 ,3/277).
3 البخاري : الطب (5754) , ومسلم : السلام (2223) , وأحمد (2/266 ,2/387 ,2/406 ,2/453 ,2/507 ,2/524).
4 البخاري : الطب (5754) , ومسلم : السلام (2223) , وابن ماجه : الطب (3536) , وأحمد (2/266 ,2/387 ,2/406 ,2/453 ,2/524).(5/58)
ص -373- ... تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، كما أخبرهم أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب. وكان يحب الحلوى والعسل، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه ويحب معالي الأخلاق، ومكارم الشيم، وبالجملة يحب كل كمال وخير وما يفضي إليهما. والله سبحانه وتعالى قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته، وميل نفوسهم إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك، فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع، استبشرت بها النفس، وانشرح لها الصدر، وقوي بها القلب، وإذا سمعت أضدادها، أوجب لها ضد هذه الحال، فأحزنها ذلك، وأثار لها خوفًا وطيرة وانكماشًا وانقباضًا عما قصدت له وعزمت عليه، فأورت لها ضررًا في الدنيا، ونقصًا في الإيمان، ومقارفة للشرك"
وقال الحليمي: "إنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال"
قال: ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: "ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أحسنها الفأل ولا ترد مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت،ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك"1.
ش: قوله: (عن عقبة بن عامر)، هكذا وقع في نسخ التوحيد، وصوابه عروة بن عامر كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وهو مكي اختلف في نسبه، فقال أحمد بن حنبل في روايته: عن عروة بن عامر القرشي، وقال غيره الجهني، واختلف في صحبته فقال البارودي: له صحبة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال المزي: لا صحبة له تصح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الطب (3919).(5/59)
ص -374- ... قوله: فقال: "أحسنها الفأل". قد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل. وروى الترمذي وصححه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع يا نجيح يا راشد"1 وروى أبو داود عن بريدة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملاً سأل عن اسمه فإذا أعجبه، فرح به وإن كره اسمه، رئي كراهيته ذلك في وجهه"2. وإسناده حسن. فهذا في استعمال الفأل. قال ابن القيم في الكلام على الحديث المشروح: أخبر صلى الله عليه وسلم أن الفأل من الطيرة وهو خيرها، فأبطل الطيرة، وأخبر أن الفأل منها، ولكنه خير منها، ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد، ونفع أحدهما ومضرة الآخر، ونظير هذا منعه من الرقى بالشرك، وإذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك لما فيها من المنفعة الخالية عن المفسدة.
قوله: "ولا ترد مسلمًا". قال الطّيْبِي: تعريض بأن الكافر بخلافه.
قوله: "اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت"، أي: لا تأتي الطيرة بالحسنات ولا تدفع المكروهات، بل أنت
وحدك لا شريك لك، الذي تأتي بالحسنات وتدفع السيئات. وهذا دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة، وتصريح بأنها لا تجلب نفعًا ولا تدفع ضرًّا، ويعد من اعتقدها سفيهًا مشركًا.
قوله: "ولا حول ولا قوة إلا بك"، استعانة بالله تعالى على فعل التوكل، وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سببًا لوقوع المكروه وعقوبة لفاعلها، وذلك إنما يصدر من تحقيق التوكل الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات، ودفع المكروهات. والحول: التحول والانتقال من حال إلى حال، والقوة على ذلك، أي: لا حول ولا قوة على ذلك الحول إلا بك، وذلك يفيد التوكل على الله لأنه علم وعمل، فالعلم معرفة القلب بتوحد الله بالنفع والضر، وعامة(5/60)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : السير (1616).
2 أبو داود : الطب (3920) , وأحمد (5/347).(5/61)
ص -375- ... المؤمنين بل كثير من المشركين يعلمون ذلك، والعمل هو ثقة القلب بالله وفراغه من كل ما سواه، وهذا عزيز ويختص به خواص المؤمنين، وهو داخل في هذه الكلمة، لأن فيها التبرؤ من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته والإقرار بقدرته على كل شيء، وبعجز العبد عن كل شيء إلا ما أقدره عليه ربه، وهذا نهاية توحيد الربوبية الذي يثمر التوكل وتوحيد العبادة.
[الطيرة شرك]
قال: وعن ابن مسعود مرفوعًا: "الطيرة شرك الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل"1. رواه أبو داود والترمذي وصححه وجعل آخره من قول ابن مسعود.
ش: هذا الحديث رواه أيضًا ابن ماجة وابن حبان ولفظ أبي داود: "الطيرة شرك الطيرة شرك ثلاثًا"2.
قوله: "الطيرة شرك"، صريح في تحريم الطيرة وأنها من الشرك لما فيها من تعلق القلب على غير الله. وقال ابن حمدان في "الرعاية": تكره الطيرة، وكذا قال غير واحد من أصحاب أحمد. قال ابن مفلح: والأولى القطع بتحريمها. ولعل مرادهم بالكراهة التحريم.
قلت: بل الصواب القطع بتحريمها، لأنها شرك وكيف يكون الشرك مكروهًا الكراهة الاصطلاحية؟! فإن كان القائل بكراهتها أراد ذلك فلا ريب في بطلانه. قال في "شرح السنن": وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب لهم نفعًا، أو يدفع عنهم ضرًّا إذا عملوا بموجبه فكأنهم شركوه مع الله تعالى.
قوله: "وما منا إلا...". قال أبو القاسم الأصبهاني والمنذري: في الحديث إضمار والتقدير: وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك انتهى. وحاصله: وما منا إلا من يعتريه التطير، ويسبق إلى قلبه الكراهة فيه. فحذف ذلك اعتمادًا على فهم السامع. وقال الخلخالي: حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة وهذا نوع من أدب الكلام.(5/62)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : السير (1614) , وأبو داود : الطب (3910) , وابن ماجه : الطب (3538) , وأحمد (1/389 ,1/438 ,1/440).
2 الترمذي : السير (1614) , وأبو داود : الطب (3910) , وابن ماجه : الطب (3538) , وأحمد (1/389 ,1/438 ,1/440).(5/63)
ص -376- ... قوله: "ولكن الله يذهبه بالتوكل"أي: ما منا إلا من يقع في قلبه ذلك، ولكن لما توكلنا على الله وآمنا به، واتبعنا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقدنا صدقه، أذهب الله ذلك عنا، وأقر قلوبنا على السنة واتباع الحق.
قوله: (وجعل آخره من قول ابن مسعود). قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان سليمان بن حرب يقول في هذا: "وما منا" هذا عندي من قول ابن مسعود، فالترمذي نقل ذلك عن سليمان بن حرب ووافقه على ذلك العلماء. قال ابن القيم: وهو الصواب، فإن الطيرة نوع من الشرك.
قال: ولأحمد من حديث ابن عمرو "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك قالوا: فما كفارة ذلك قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك"1 .
ش: هذا الحديث رواه الإمام أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا وفي إسناده ابن لهيعة وفيه اختلاف، وبقية رجاله ثقات.
قوله: (من حديث ابن عمرو). هو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن أحد السابقين المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة الفقهاء مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف.
قوله: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك". وذلك أن التطير هو التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع فإذا استعملها الإنسان فرجع بها عن سفره، وامتنع بها عما عزم عليه، فقد قرع باب الشرك، بل ولجه وبرئ من التوكل على الله، وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله، وذلك قاطع له عن مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فيصير قلبه متعلقًا بغير الله، وذلك شرك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/220).(5/64)
ص -377- ... فيفسد عليه إيمانه، ويبقى هدفًا لسهام الطيرة. ويقيض له الشيطان من ذلك ما يفسد عليه دينه ودنياه، وكم ممن هلك بذلك وخسر الدنيا والآخرة!
قوله: (فما كفارة ذلك...) إلى آخر الحديث. هذا كفارة لما يقع من الطيرة، ولكن يمضي مع ذلك ويتوكل على الله، وفيه الاعتراف بأن الطير خلق مسخر مملوك لله، لا يأتي بخير ولا يدفع شرًّا، وأنه لا خير في الدنيا والآخرة إلا خير الله، فكل خير فيهما فهو من الله تعالى تفضلاً على عباده، وإحسانًا إليهم وأن الإلهية كلها لله ليس فيها لأحد من الملائكة والأنبياء عليهم السلام شركة، فضلاً عن أن يشرك فيها ما يراه ويسمعه مما يتشاءم به.
قوله: وله من حديث الفضل بن العباس "إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك"1.
ش: هذا الحديث رواه أحمد في "المسند" ولفظه حدثنا حماد بن خالد قال: ثنا ابن علاثة عن مسلمة الجهني قال: سمعته يحدث عن الفضل بن عباس قال: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فبرح ظبي فمال في شقه فاحتضنته فقلت: يا رسول الله تطيرت قال: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك"2. هكذا رواه أحمد وفي إسناده نظر. وقرأت بخط المصنف: فيه رجل مختلف فيه، وفيه انقطاع أي: بين مسلم وبين الفضل وهو ابن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأكبر ولد العباس. قال ابن معين: قتل يوم اليرموك في عهد أبي بكر رضي الله عنه. وقال غيره: قتل يوم مرج الصفر، سنة ثلاث عشرة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة. قال أبو داود: قتل بدمشق كان عليه درع النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الواقدي وابن سعد: مات في طاعون عمواس.
قوله: "إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك"3. هذا حد للطيرة المنهي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (1/213).
2 أحمد (1/213).
3 أحمد (1/213).(5/65)
ص -378- ... عنها بأنها ما أوجب للإنسان أن يمضي لما يريده ولو من الفأل، فإن الفأل إنما يستحب لما فيه من البشارة والملاءمة للنفس، فأما أن يعتمد عليه ويمضي لأجله مع نسيان التوكل على الله، فإن ذلك من الطيرة. وكذلك إذا رأى أو سمع ما يكره فتشاءم به ورده عن حاجته، فإن ذلك أيضًا من الطيرة.
[23- باب ما جاء في التنجيم]
[التنجيم على ثلاثة أقسام]:
المراد هنا ذكر ما يجوز من التنجيم وما لا يجوز وما ورد فيه من الوعيد. قال شيخ الإسلام: التنجيم هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية. وقال الخطابي: علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان، كأوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار، وما كان في معناها من الأمور التي يزعمون أنهم يدركون معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها، ويدعون أن لها تأثيرًا في السفليات، وأنها تجري على قضايا موجباتها، وهذا منهم تحكم على الغيب، وتعاطٍ لعلم قد استأثر الله به لا يعلم الغيب سواه.
قلت: واعلم أن التنجيم على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما هو كفر بإجماع المسلمين، وهو القول بأن الموجودات في العالم السفلي مركبة على تأثير الكواكب والروحانيات، وأن الكواكب فاعلة مختارة وهذا كفر بإجماع المسلمين، وهذا قول الصابئة المنجمين الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل عليه السلام، [كما في الأنعام 75-79] ولهذا كانوا يعظمون الشمس والقمر والكواكب تعظيمًا يسجدون لها ويتذللون لها ويسبحونها تسابيح معروفة في كتبهم، ويدعونها دعوات لا تنبغي إلا لخالقها وفاطرها وحده لا شريك له، ويبنون لكل كوكب هيكلاً، أي: موضعًا لعبادته ويصورون فيه ذلك الكوكب، ويتخذونه لعبادته(5/66)
ص -379- ... وتعظيمه، ويزعمون أن روحانية ذلك الكوكب تنْزل عليهم وتخاطبهم وتقضي حوائجهم. وتلك الروحانيات هي الشياطين تنَزلت عليهم، وخاطبتهم وقضت حوائجهم. وقد صنف بعض المتأخرين في هذا الشرك مصنفًا وذكر صاحب "التذكرة" فيها.
الثاني: الاستدلال على الحوادث الأرضية بمسير الكواكب واجتماعها وافتراقها ونحو ذلك، ويقول: إن ذلك بتقدير الله ومشيئته، فلا ريب في تحريم ذلك، واختلف المتأخرون في تكفير القائل بذلك. وينبغي أن يقطع بكفره، لأنها دعوى لعلم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه بما لا يدل عليه.
الثالث: ما ذكره المصنف في تعلم المنازل وسيأتي الكلام عليه.
[خلق الله النجوم لثلاث]:
قوله قال البخاري في: " صحيحه " قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث، زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به.
ش: هذا الأثر علقه البخاري في "صحيحه" كما قال المصنف وأخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ والخطيب في كتاب "النجوم" عن قتادة. ولفظه: قال: إن الله إنما جعل هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يُهتدى بها، وجعلها رجومًا للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك، فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به، وإن ناسًا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والطويل والقصير والحسن والذميم، وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب، ولو أن أحدًا(5/67)
ص -380- ... علم الغيب، لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء.
قوله: خلق الله هذه النجوم لثلاث. إلى آخره. هذا مأخوذ من القرآن في قوله تعالى:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} 1. وقوله تعالى:{وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 2. وفيه إشارة إلى أن النجوم في السماء الدنيا كما هو ظاهر الآية، وفيه حديث رواه ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما السماء الدنيا، فإن الله خلقها من دخان، وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وزينها بمصابيح النجوم، وجعلها رجومًا للشياطين وحفظًا من كل شيطان رجيم".
وقوله: {وَعَلامَاتٍ} ، أي: دلالات على الجهات والبلدان ونحو ذلك يُهتدى بها بصيغة المجهول. أي: يهتدي بها الناس في ذلك كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 3. وليس المراد: يهتدون بها في علم الغيب ولهذا قال: فمن تأول فيها [غير] ذلك، أي: زعم فيها غير ما ذكر الله تعالى في هذه الثلاث، فادعى بها علم الغيب، فقد أخطأ، أي: حيث تكلم رجمًا بالغيب وأضاع نصيبه، أي: حظه من عمره، لأنه اشتغل بما لا فائدة فيه، بل مضرة محضة، وتكلف ما لا علم له به، أي: تعاطى شيئًا لا يتصور علمه، لأن أخبار السماء، والأمور المغيبة لا تعلم إلا من طريق الكتاب والسنة، وليس فيهما أزيد مما تقدم. قال الداوودي: قول قتادة في النجوم حسن إلا قوله: أخطأ وأضاع نصيبه، فإنه قصر في ذلك، بل قائل ذلك كافر.
فإن قلت: إن المنجمين قد يصدقون بعض الأحيان.
قيل: صدقهم كصدق الكهان يصدقون مرة ويكذبون مائة، وليس في صدقهم مرة ما يدل على أن ذلك علم صحيح كالكهان.(5/68)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الملك آية : 5.
2 سورة النحل آية : 16.
3 سورة الأنعام آية : 97.(5/69)
ص -381- ... وقد استدل بعض المنجمين بآيات من كتاب الله على صحة علم التنجيم 1-منها قوله:{وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 1
والجواب أنه ليس المراد بهذه الآية أن النجوم علامات على الغيب يهتدي بها الناس في علم الغيب، وإنما المعنى وعلامات، أي: دلالات على قدرة الله وتوحيده. وعن قتادة ومجاهد أن من النجوم ما يكون علامة لا يهتدى إلا بها، وقيل: إن هذا من تمام الكلام الأول وهو قوله:{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ} 2، أي: وألقى لكم معالم يعلم بها الطريق والأراضي من الجبال الكبار والصغار يستدل بها المسافرون في طرقهم. وقوله:{وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 3. قال ابن عباس في الآية:{وَعَلامَاتٍ} يعني: معالم الطرق بالنهار{وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 4. قال: يهتدون به في البحر في أسفارهم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. فهذا القول ونحوه هو معنى الآية، فالاستدلال بها على صحة علم التنجيم استدلال على ما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام بما لا يدل عليه لا نصًّا ولا ظاهرًا، وذلك أفسد أنواع الاستدلال، فإن الأحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإبطال علم التنجيم وذمه، منها حديث "من اقتبس شعبة من علم النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر"5. الحديث وقد تقدم. وعن عبد الله بن محيريز التابعي الجليل أن سليمان بن عبد الملك دعاه فقال: لو علمت علم النجوم فازددت إلى علمك. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث: حيف الأئمة، وتكذيب بالقدر، وإيمان بالنجوم". وعن رجاء بن حيوة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة". رواهما عبد بن حميد. فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان(5/70)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية : 16.
2 سورة آية : 15-16.
3 سورة النحل آية : 16.
4 سورة النحل آية : 16.
5 مسلم : الإيمان (153) , وأحمد (2/317 ,2/350).(5/71)
ص -382- ... على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج به من أرسله. وعن أبي محجن مرفوعًا: "أخاف على أمتي من بعدي ثلاثًا: حيف الأئمة، وإيمانًا بالنجوم، وتكذيبًا بالقدر". رواه ابن عساكر وحسنه السيوطي. وعن أنس مرفوعًا: "أخاف على أمتي بعدي خصلتين تكذيبًا بالقدر، وإيمانًا بالنجوم". رواه أبو يعلى وابن عدي والخطيب في كتاب "النجوم" وحسنه السيوطي أيضًا.
وروى الإمام أحمد والبخاري عن ابن عمر مرفوعًا: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما في غد إلا الله: ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله"1. لفظ البخاري. وعن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد طهر الله هذه الجزيرة من الشرك ما لم تضلهم النجوم". رواه ابن مردويه. وعن ابن عمر مرفوعًا: "تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا"2. وعن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النظر في النجوم". رواهما ابن مردويه والخطيب.
وعن سمرة بن جندب أنه خطب فذكر حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أما بعد: فإن ناسًا يزعمون أن كسوف هذه الشمس، وكسوف هذا القمر، وزوال هذه النجوم عن مواضعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض، وأنهم قد كذبوا ولكنها آيات من آيات الله يعتبر بها عباده لينظر من يحدث له منهم توبة". رواه أبو داود. وفي الباب أحاديث وآثار غير ما ذكرنا. فتبين بهذا أن الاستدلال بالآية على صحة أحكام النجوم من أفسد أنواع الاستدلال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الإيمان (2641).
2 أبو داود : الملاحم (4338) , وأحمد (1/5 ,1/7 ,1/9).(5/72)
ص -383- ... 2- ومنها قوله تعالى عن إبراهيم:{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} 1.
والجواب: أن هذا من جنس استدلاله بالآية الأولى في الفساد، فأين فيها ما يدل على صحة أحكام النجوم بوجه من وجوه الدلالات؟! وهل إذا رفع إنسان بصره إلى النجوم، فنظر إليها، دل ذلك على صحة علم النجوم عنده؟! وكل الناس ينظرون إلى النجوم، فلا يدل ذلك على صحة علم أحكامها. وكأن هذا ما شعر أن إبراهيم عليه السلام إنما بعث إلى الصابئة المنجمين مبطلاً لقولهم مناظرًا لهم على ذلك.
فإن قيل على هذا: فما فائدة نظرته في النجوم؟.
قيل: نظرته في النجوم من معارض الأفعال ليتوصل به إلى غرضه من كسر الأصنام كما كان قوله:{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} 2. فمن ظن أن نظرته في النجوم ليستنبط منها علم الأحكام، وعلم أن طالعه يقضي عليه بالنحس، فقد ضل ضلالاً بعيدًا. ولهذا جاء في حديث الشفاعة الصحيح أنه عليه السلام يقول: "لست هناكم ويذكر ثلاث كذبات كذبهن"وعدها العلماء قوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} . قوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}. وقوله لسارة: هي أختي.
فلو كان قوله: إني سقيم أخذه من علم النجوم لم يعتذر من ذلك، وإنما هي من معاريض الأفعال، فلهذا اعتذر منها كما اعتذر من قوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}، ذكر ذلك ابن القيم. لكن قوله: وعدها العلماء. يدل على أنه لم يستحضر الحديث الوارد في عدها. وقد رواه أحمد والبخاري وأصحاب "السنن" وابن جرير وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الصّافات آية : 88-89.
2 سورة الأنبياء آية : 63.(5/73)
ص -384- ... "لم يكذب إبراهيم عليه السلام غير ثلاث كذبات اثنتين في ذات الله قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله في سارة هي أختي"لفظ ابن جرير.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد مرفوعًا: "في كلمات إبراهيم الثلاث التي قال: ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله، فقال: إني سقيم، وقال: بل فعله كبيرهم هذا، وقال للملك حين أراد امرأته: هي أختي". وفي إسناده ضعف. وقال قتادة في الآية: العرب تقول لمن تفكر: نظر في النجوم قال ابن كثير: يعني قتادة: أنه نظر إلى السماء متفكرًا فيما يكذبهم به فقال: إني سقيم، أي: ضعيف.
قال: وكره قتادة تعلم منازل القمر ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.
ش: هذا هو القسم الثالث من علم التنجيم وهو تعلم منازل الشمس والقمر، للاستدلال بذلك على القبلة وأوقات الصلوات والفصول، وهو كما ترى من اختلاف السلف فيه، فما ظنك بذينك القسمين؟! ومنازل القمر ثمانية وعشرون كل ليلة في منْزلة منها، فكره قتادة وسفيان بن عيينة تعلم المنازل، وأجازه أحمد وإسحاق وغيرهما.
قال الخطابي: "أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والْخُبْر الذي يعرف به الزوال، وتعلم به جهة القبلة، فإنه غير داخل فيما نهي عنه، وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئًا بأكثر من أن الظل ما دام متناقصًا، فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي، وإذا أخذ في الزيادة، فالشمس هابطة من وسط السماء(5/74)
ص -385- ... نحو الأفق الغربي. وهذا علم يصح دركه بالمشاهدة، إلا أن أهل هذه الصناعة قد دبروها بما اتخذوا له من الآلات التي يستغني الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصدته، وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة، فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة بها من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين، ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به عنها. مثل أن يشاهدوها بحضرة الكعبة، ويشاهدوها على حال الغيبة عنها، فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة وإدراكنا ذلك بقبول خبرهم، إذ كانوا عندنا غير متهمين في دينهم، ولا مقصرين في معرفته".
وروى ابن المنذر عن مجاهد أنه كان لا يرى بأسًا أن يتعلم الرجل منازل القمر قلت: لأنه لا محذور في ذلك. وعن إبراهيم أنه كان لا يرى بأسًا أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به. رواه ابن المنذر.
قال ابن رجب: "والمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم التأثير، فإنه باطل محرم قليله وكثيره. وأما علم التسيير، فتعلم ما يحتاج إليه للاهتداء، ومعرفة القبلة، والطرق جائز عند الجمهور، وما زاد عليه لا حاجة إليه لشغله عما هو أهم منه، وربما أدى تدقيق النظر فيه إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين، كما وقع من أهل هذا العلم قديمًا وحديثًا، وذلك يفضي اعتقاده إلى خطإ السلف في صلاتهم وهو باطل. انتهى مختصرًا".
قلت: وهذا هو الصحيح إن شاء الله، ويدل على ذلك الآيات والأحاديث التي تقدمت. وهل يدخل في النهي وقت الكسوف الشمسي والقمري أم لا؟ رجح ابن القيم أنه لا يدخل.
قوله: (ذكره حرب عنهما). هو الإمام الحافظ حرب بن إسماعيل أبو محمد الكرماني الفقيه من أجلة أصحاب الإمام(5/75)
ص -386- ... أحمد روى عن أحمد وإسحاق وابن المديني وابن معين وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وغيرهم، وله مصنفات جليلة منها كتاب "المسائل" التي سئل عنها الإمام أحمد وغيره وأورد فيها الأحاديث والآثار، وأظنه روى أثر قتادة وابن عيينة فيها. مات سنة ثمانين ومائتين.
وإسحاق هو [ابن] إبراهيم بن مخلد أبو يعقوب الحنظلي النيسابوري الإمام المعروف بابن راهويه، روى عن ابن المبارك وأبي أسامة وابن عيينة وطبقتهم قال أحمد: إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين، وروى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، وروى هو أيضًا عن أحمد مات سنة تسع وثلاثين ومائتين.
[ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر]
قال: وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر"1. رواه أحمد وابن حبان في " صحيحه".
ش: هذا الحديث رواه أيضًا الطبراني والحاكم وقال: صحيح وأقره الذهبي: وتمام الحديث: "ومن مات وهو مدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوطة نهر يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريح فروجهن"2.
قوله: (عن أبي موسى)، هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بفتح المهملة وتشديد الضاد المعجمة أبو موسى الأشعري، صحابي جليل استعمله النبي صلى الله عليه وسلم وأمره عمر ثم عثمان، وهو أحد الحكمين بصفين مات سنة خمسين.
قوله: "ثلاثة لا يدخلون الجنة"، هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف تأويلها وقالوا: أمروها كما جاءت. وإن كان صاحبها لا ينتقل عن الملة عندهم، وكأن المصنف رحمه الله يميل إلى هذا القول. وقالت طائفة: هو على ظاهره فلا يدخل الجنة أصلاً مدمن الخمر ونحوه، ويكون هذا مخصصًا لعموم الأحاديث الدالة على خروج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (4/399).
2 أحمد (4/399).(5/76)
ص -387- ... الموحدين من النار ودخولهم الجنة، وحمله أكثر الشراح على من فعل ذلك مستحلاً، أو على معنى أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد العذاب إن لم يتوبوا والله أعلم.
قوله: (مدمن الخمر)، أي: المداوم على شربها.
قوله: (وقاطع الرحم). أي: القرابة كما قال تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} 1.
قوله: "ومصدق بالسحر"مطلقًا ويدخل فيه التنجيم لحديث: "من اقتبس علمًا من النجوم اقتبس علمًا من السحر"2. وهذا وجه مطابقة الحديث للباب. قال الذهبي في "الكبائر": ويدخل فيه تعلم السيمياء وعملها، وهو محض السحر، وعقد المرء عن زوجته، ومحبة الزوج لامرأته وبغضها وبغضه، وأشباه ذلك بكلمات مجهولة قال: وكثير من الكبائر بل عامتها إلا الأقل يجهل خلق من الأمة تحريمه، وما بلغه الزجر فيه، ولا الوعيد عليه، فهذا الضرب فيهم تفصيل، فينبغي للعالم أن لا يجهل على الجاهل، بل يرفق به ويعلمه سيما إذا قرب عهده بجهله، كمن أسر وجلب إلى أرض الإسلام وهو تركي فبالجهد أن يتلفظ بالشهادتين فلا يأثم أحد إلا بعد العلم بحاله وقيام الحجة عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة محمّد آية : 22-23.
2 أبو داود : الطب (3905) , وابن ماجه : الأدب (3726) , وأحمد (1/227 ,1/311).(5/77)
[24- باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء]
أي: من الوعيد، والمراد نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء جمع نوء وهي منازل القمر. قال أبو السعادات: وهي ثمانية وعشرون منْزلة ينزل القمر كل ليلة منْزلة منها ومنه قوله تعالى:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} 1، يسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت في الشرق فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة. وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنْزلة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يس آية : 39.(5/78)
ص -388- ... وطلوع رقيبها يكون مطر، وينسبونه إليها فيقولون: مطرنا بنوء كذا، وإنما سمي نوءًا لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق ينوء نوءًا، أي: نهض وطلع.
قال: وقول الله تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 1 .
روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في "المختارة" عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ}، يقول: شكركم:{أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} ، يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا" وهذا أولى ما فسرت به الآية. وروي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم. وهو قول جمهور المفسرين، وبه يظهر وجه استدلال المصنف بالآية على الترجمة، فالمعنى على هذا: وتجعلون شكركم لله على ما أنزل إليكم من الغيث والمطر والرحمة أنكم تكذبون، أي: تنسبونه إلى غيره. وقال ابن القيم: أي: وتجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم التكذيب به يعني: القرآن. قال الحسن: تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون، قال: وخسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب به. قلت: والآية تشمل المعنيين.
[أربع من أمر الجاهلية]
قال: عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة"2. وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب"3 رواه مسلم.
ش: قوله: (عن أبي مالك الأشعري) اسمه الحارث بن الحارث الشامي صحابي تفرد عنه بالرواية أبو سلام، وفي الصحابة أبو مالك الأشعري اثنان غير هذا، جزم به الحافظ.(5/79)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الواقعة آية : 82.
2 مسلم : الجنائز (934) , وأحمد (5/342 ,5/343 ,5/344).
3 مسلم : الجنائز (934) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1581) , وأحمد (5/342 ,5/343 ,5/344).(5/80)
ص -389- ... قوله: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن". أي: من أفعال أهلها بمعنى أنها معاصي ستفعلها هذه الأمة، إما مع العلم بتحريمها، وإما مع الجهل بذلك كما كان أهل الجاهلية يفعلونها. والمراد بالجاهلية هنا ما قبل المبعث، سموا بذلك لفرط جهلهم، وكل ما يخالف ما جاءت به الأنبياء والمرسلون فهو جاهلية منسوبة إلى الجاهل، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جاهل وإنما يفعله جاهل. قال شيخ الإسلام: أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذمًّا لمن لم يتركه، وهذا يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم، فهو مذموم في دين الإسلام وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها. ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم وهذا كقوله تعالى:{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 1 فإن في ذلك ذمًّا للتبرج، وذمًّا لحال الجاهلية الأولى وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة.
قوله: "الفخر بالأحساب"، أي: التشرف بالآباء والتعاظم بعدِّ مناقبهم ومآثرهم وفضائلهم وذلك جهل عظيم، إذ لا شرف إلا بالتقوى كما قال تعالى:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً...} 2 الآية. وقال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 3. وروى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم من تراب، لَيَدَعَنَّ رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب آية : 33.
2 سورة سبأ آية : 37.
3 سورة الحجرات آية : 13.(5/81)
ص -390- ... على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن"1. والأحساب جمع حسب وهو ما يعده الإنسان له ولآبائه من شجاعة وفصاحة ونحو ذلك.
قوله: "والطعن في الأنساب". أي: الوقوع فيها بالذم والعيب أو يقدح في نسب أحد من الناس فيقول: ليس هو من ذرية فلان أو يعيره بما في آبائه من المطاعن، ولهذا لما عير أبو ذر رضي الله عنه رجلاً بأمه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "أعيرته بأمه؟! إنك امرؤٌ فيك جاهلية"2. متفق عليه. فدل ذلك أن التعيير بالأنساب من أخلاق الجاهلية، وأن الرجل مع فضله وعلمه ودينه قد يكون فيه بعض هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية، ولا يوجب ذلك كفره وفسقه. قاله شيخ الإسلام.
قوله: "والاستسقاء بالنجوم". أي: نسبة السقيا ومجيء المطر إلى النجوم والأنواء، وهذا هو الذي خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، كما روى الإمام أحمد وابن جرير عن جابر السوائي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أخاف على أمتي ثلاثًا: استسقاء بالنجوم، وحيف السلطان، وتكذيبًا بالقدر"3 .
إذا تبين هذا، فالاستسقاء بالنجوم نوعان:
أحدهما: أن يعتقد أن المنَزل للمطر هو النجم، فهذا كفر ظاهر، إذ لا خالق إلا الله، وما كان المشركون هكذا، بل كانوا يعلمون أن الله هو المنزل للمطر، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}4. وليس هذا معنى الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا لا يزال في أمته، ومن اعتقد أن النجم ينَزل المطر، فهو كافر.
الثاني: أن ينسب إنزال المطر إلى النجم، مع اعتقاده أن الله تعالى هو الفاعل لذلك المنَزل له، إلا أنه سبحانه وتعالى أجرى(5/82)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : المناقب (3955) , وأبو داود : الأدب (5116).
2 البخاري : الإيمان (30) , ومسلم : الأيمان (1661) , وأبو داود : الأدب (5157 ,5158) , وأحمد (5/161).
3 أحمد (5/89).
4 سورة العنكبوت آية : 63.(5/83)
ص -391- ... وكراهته، وصرح أصحاب الشافعي بجوازه، والصحيح أنه محرم، لأنه من الشرك الخفي، وهو الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه من أمر الجاهلية، ونفاه، وأبطله، وهو الذي كان يزعم المشركون، ولم يزل موجودًا في هذه الأمة إلى اليوم، وأيضًا فإن هذا من النبي صلى الله عليه وسلم حماية لجناب التوحيد وسدًّا لذرائع الشرك ولو بالعبادات الموهمة التي لا يقصدها الإنسان، كما قال لرجل قال له: "ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندًّا؟! بل ما شاء الله وحده"1.
وفيه التنبيه على ما هو أولى بالمنع من نسبة السقيا إلى الأنواء كدعاء الأموات، وسؤالهم الرزق والنصر والعافية ونحو ذلك من المطالب، فإن هذا من الشرك الأكبر، سواء قالوا: إنهم شفعاؤنا إلى الله، كما قال المشركون:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، [يونس: من الآية: 18]، أو اعتقدوا أنهم يخلقون، ويرزقون وينصرون استقلالاً على سبيل الكرامة، كما ذكره بعض عباد القبور في رسالة صنفها في ذلك، لأنه إذا منع من إطلاق نسبة السقيا إلى الأنواء مع عدم القصد والاعتقاد، فلأن يمنع من دعاء الأموات والتوجه إليهم في الملمات مع اعتقاد أن لهم أنواع التصرفات أولى وأحرى.
قوله: (والنياحة). أي: رفع الصوت بالندب على الميت، لأنها سخط لقضاء الله ومعارضة لأحكامه وسوء أدب مع الله، ولا كذلك ينبغي أن يفعل المملوك مع سيده، فكيف يفعله مع ربه وسيده ومالكه وإلهه الذي لا إله له سواه! الذي كل قضائه عدل، وأيضًا ففيها تفويت الأجر مع ذهاب المصيبة.
وفي الحديث دليل على شهادة أن محمدًا رسول الله، لأن هذه الأخبار من أنباء الغيب، فأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم فكان كما أخبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه : الكفارات (2117) , وأحمد (1/214).(5/84)
ص -392- ... قوله: وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها". فيه تنبيه على أن الوعيد والذم لا يلحق مَنْ تاب من الذنب، وهو كذلك بالإجماع، فعلى هذا إذا عرف شخص بفعل ذنوب توعد الشرع عليها بوعيد لم يجز إطلاق القول بلحوقه لذلك الشخص المعين، كما يظنه كثير من أهل البدع، فإن عقوبات الذنوب ترتفع بالتوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وشفاعة نبيهم صلى الله عليه وسلم فيهم، وعفو الله عنهم.
وفيه أن مَنْ تاب قبل الموت ما لم يغرغر، فإن الله يتوب عليه، كما في حديث ابن عمر مرفوعًا: "إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"1. رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان في "صحيحه".
قوله: "تقام يوم القيامة"، أي: تبعث من قبرها، وعليها سربال من قطران ودرع من جرب. قال القرطبي: السربال. واحد السرابيل، وهي الثياب والقمص، يعني أنهن يلطخن بالقطران، فيصير لهن كالقميص حتى يكون اشتعال النار والتصاقها بأجسادهن أعظم ورائحتهن أنتن وألمها بسبب الجرب أشد. وروي عن "ابن عباس أن القطران هو النحاس المذاب"وروى الثعلبي في "تفسيره" عن "عمر بن الخطاب أنه سمع نائحة فأتاها، فضربها بالدرة حتى وقع خمارها، فقيل يا أمير المؤمنين: المرأة المرأة قد وقع خمارها. قال: إنها لا حرمة لها".
قال: ولهما عن زيد بن خالد قال: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس. فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما مَنْ قال: مُطِرْنَا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الدعوات (3537) , وابن ماجه : الزهد (4253).(5/85)
ص -393- ... بالكوكب، وأما مَنْ قال: مُطِرْنَا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب"1.
ش: قوله: (عن زيد بن خالد). أي: الجهني المدني، صحابي مشهور، مات سنة ثمان وستين بالكوفة، وقيل غير ذلك، وله خمس وثمانون سنة.
قوله: (صلى لنا)، أي: صلى بنا، فاللام بمعنى الباء. قال الحافظ: وفيه جواز إطلاق ذلك مجازًا، وإنما الصلاة لله.
قوله: (بالحديبية). بالمهملة والتصغير وتخفف ياؤها وتثقل.
قوله: (على إثر). بكسر الهمزة وسكون المثلثة على المشهورة، وهو ما يعقب الشيء.
قوله: (سماء). أي: مطر، وأطلق عليه سماء لكونه ينْزل من جهة السماء.
قوله: (فلما انصرف). أي: من صلاته لا من مكانه، كما يدل عليه.
قوله: (أقبل على الناس). أي: التفت إليهم بوجهه الشريف، ففيه دليل على أنه لا ينبغي للإمام إذا صلى أن يجلس مستقبل القبلة، بل ينصرف إلى المأمومين، كما صحت بذلك الأحاديث.
قوله: (هل تدرون؟)، لفظ استفهام، ومعناه التنبيه. وفي رواية النسائي "ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة؟"2 وهذا من الأحاديث القدسية
قال الحافظ: وهي تحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها عن الله بواسطة أو بلا واسطة، وفيه إلقاء العالم المسألة على أصحابه ليخبرهم، وإخراج العالم التعليم للمسألة بالاستفهام فيها ذكره المصنف.
قوله: "قالوا: الله ورسوله أعلم"فيه حسن الأدب للمسئول عما لا يعلم، وأنه يقول ذلك أو نحوه، ولا يتكلف ما لا يعنيه.
قوله: قال: "أصبح من عبادي". الإضافة هنا للعموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر.(5/86)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الجمعة (1038) , ومسلم : الإيمان (71) , والنسائي : الاستسقاء (1525) , وأبو داود : الطب (3906) , وأحمد (4/117) , ومالك : النداء للصلاة (451).
2 البخاري : الأذان (846) والجمعة (1038) والمغازي (4147) والتوحيد (7503) , ومسلم : الإيمان (71) , والنسائي : الاستسقاء (1525) , وأبو داود : الطب (3906) , وأحمد (4/116) , ومالك : النداء للصلاة (451).(5/87)
ص -394- ... فإن قيل: هذا يدل على أن المراد بالكفر هنا هو الأكبر. قيل: ليس فيه دليل إذ الأصغر يصدر من الكفار.
قوله: "مؤمن بي وكافر". المراد بالكفر هنا هو الأصغر بنسبة ذلك إلى غير الله وكفران نعمته، وإن كان يعتقد أن الله تعالى هو الخالق للمطر المنَزل له بدليل قوله في الحديث "فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته..."إلى آخره، فلو كان المراد هو الأكبر، لقال: أنزل علينا المطر نوء كذا، فأتى بباء السببية ليدل على أنهم نسبوا وجود المطر إلى ما اعتقدوه سببًا. وفي رواية: "فأما من حمدني على سقياي وأثنى علي، فذاك من آمن بي"1. فلم يقل فأما من قال: إني المنَزل للمطر، فذاك من آمن بي، لأن المؤمنين والكفار يقولون ذلك. فدل على أن المراد إضافة ذلك إلى غير الله، وإن كان يعتقد أن الفاعل لذلك هو الله. وروى النسائي والإسماعيلي نحوه. وقال في آخره: "وكفر بي أو كفر نعمتي"وفي رواية أبي صالح عن أبي هريرة عند مسلم: "قال الله تعالى: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين"2. وله من حديث ابن عباس "أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر..."3 الحديث. وفي حديث معاوية الليثي مرفوعًا: "يكون الناس مجدبين فينَزل اللّه عليهم رزقًا من رزقه فيصبحون مشركين، يقولون: مُطِرْنَا بنوء كذا"4. رواه أحمد، فبين الكفر والشرك المراد هنا بأن نسبة ذلك إلى غيره تعالى، بأن يقال: مطرنا بنوء كذا، قال ابن قتيبة: كانوا في الجاهلية يظنون أن نزول الغيث بواسطة النوء إما بصنعه على زعمهم، وإما بعلامته، فأبطل الشرع قولهم، وجعله كفرًا، فإن اعتقد قائل ذلك أن للنوء صنعًا في ذلك، فكفره كفر شرك، وإن اعتقد أن ذلك من قبيل التجربة، فليس بشرك، لكن يجوز إطلاق الكفر عليه وإرادة كفر النعمة، لأنه لم يقع في شيء من طرق الحديث بين الكفر والشرك واسطة، فيحمل الكفر فيه على المعنيين.(5/88)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأذان (846) والجمعة (1038) والمغازي (4147) , ومسلم : الإيمان (71) , والنسائي : الاستسقاء (1525) , وأبو داود : الطب (3906) , وأحمد (4/116 ,4/117) , ومالك : النداء للصلاة (451).
2 أحمد (1/283).
3 البخاري : الشروط (2729) , ومسلم : العتق (1504) , وأبو داود : العتق (3929) , ومالك : العتق والولاء (1519).
4 أحمد (2/169) , والدارمي : الرقاق (2721).(5/89)
ص -395- ... وقال الشافعي: من قال: مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا في وقت كذا، فلا يكون كفرًا، وغيره من الكلام أحب إلي منه.
قلت: قد يقال: إن كلام الشافعي لا يدل على جواز ذلك، وإنما يدل على أنه لا يكون كفر شرك، وغيره من الكلام أحسن منه. أما كونه يجوز إطلاق ذلك أو لا يجوز، فالصحيح أنه لا يجوز، لما تقدم أن معنى الحديث هو نسبة السقيا إلى الأنواء لفظًا، وإن كان القائل لذلك يعتقد أن اللّه هو المنَزل للمطر، فهذا من باب الشرك الخفي في الألفاظ، كقوله: لولا فلان لم يكن كذا، وفيه معنى قوله تعالى:{وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} 1. فإن كثيرًا من النعم قد تجر الإنسان إلى شر، كالذين قالوا: مطرنا بنوء كذا بسبب نزول النعمة.
وفيه التفطن للإيمان في هذا الموضع. ذكره المصنف، يشير إلى أن المراد به هنا نسبة النعمة إلى اللّه وحمده عليها، كما في قوله تعالى: "فأما من حمدني على سقياي وأثنى علي فذاك مَنْ آمن بي"، وقوله: "فأما من قال: مُطِرْنَا بفضل اللّه ورحمته"الحديث.
وفيه أن من الكفر ما لا يخرج عن الملة. ذكره المصنف.
قوله: (فأما مَنْ قال: مُطِرْنَا بفضل اللّه ورحمته). أي: من نسبه إلى اللّه واعتقد أنه أنزله بفضله ورحمته من غير استحقاق من العبد على ربه وأثنى به عليه، فقال: مطرنا بفضل اللّه ورحمته، وفي الرواية الأخرى: "فأما مَنْ حمدني على سقياي، وأثنى علي فذاك من آمن بي"2. وهكذا يجب على الإنسان أن لا يضيف نعم اللّه إلى غيره ولا يحمدهم عليها بل يضيفها إلى خالقها ومقدرها الذي أنعم بها على العبد بفضله ورحمته، ولا ينافي ذلك الدعاء لمن أحسن بها إليك، وذكر ما أولاكم من المعروف إذا سلم لك دينك، والسر في ذلك -واللّه أعلم- أن العبد يتعلق قلبه بمن يظن حصول الخير له من جهته وإن كان لا صنع له في ذلك، وذلك نوع شرك خفي فمنع من ذلك.(5/90)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 216.
2 البخاري : الأذان (657) , وأحمد (2/472 ,2/479).(5/91)
ص -396- ... قوله: (وأما من قال: مُطِرْنَا بنوء كذا...) إلى آخره. كالصريح فيما ذكرنا أن المراد نسبة ذلك إلى غير اللّه، وإن كان يعتقد أن المنَزل للمطر هو اللّه. ولهذا لم يقل: فأما من قال: أنزل علينا المطر أو أمطرنا بنوء كذا. قال المصنف: وفيه التفطن للكفر في هذا الموضع، يشير إلى أن المراد بالكفر هنا هو نسبة النعمة إلى غير اللّه كالنوء ونحوه على ما تقدم، ولما كان إنزال الغيث من أعظم نعم اللّه وإحسانه إلى عباده لما اشتمل عليه من منافعهم، فلا يستغنون عنه أبدًا كان من شكره الواجب عليهم أن يضيفوه إلى البر الرحيم المنعم، ويشكروه فإن النفوس قد جبلت على حب من أحسن إليها، واللّه تعالى هو المحسن المنعم على الإطلاق الذي ما بالعباد من نعمة فمنه وحده، كما قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 1.
[تفسير قوله تعالى: فلا أقسم بمواقع النجوم]
قال: ولهما من حديث ابن عباس معناه.
وفيه قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل اللّه هذه الآية:{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ...} 2 إلى قوله: {... تُكَذِّبُونَ}.
ش قوله: (ولهما). الحديث لمسلم فقط، ولفظه عن ابن عباس قال: "مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة اللّه، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، قال فنَزلت هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} 3 حتى بلغ{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} .
قوله: (قال بعضهم): ذكر الواقدي في "مغازيه" عن أبي قتادة أن عبد اللّه بن أبي هو القائل في ذلك الوقت: مطرنا بنوء الشعرى، وفي صحة ذلك نظر.
قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} 4. هذا قسم(5/92)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية : 53.
2 سورة الواقعة آية : 75.
3 مسلم : الإيمان (73).
4 سورة الواقعة آية : 75.(5/93)
ص -397- ... من اللّه عزّ وجل يقسم بما شاء من خلقه، وهو دليل على عظمة المقسم به وتشريفه.
وتقديره: أقسم بمواقع النجوم، ويكون جوابه:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} 1، فعلى هذا تكون "لا" صلة لتأكيد النفي، فتقدير الكلام: ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة، بل هو قرآن كريم.
قال ابن جرير: "قال بعض أهل العربية: معنى قوله: {فلا أقسم}، فليس الأمر كما تقولون، ثم استؤنف القسم بعد، فقيل: أقسم ; ومواقع النجوم. قال ابن عباس: يعني نجوم القرآن، فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقًا في السنين بعد، ثم قرأ ابن عباس هذه الآية. ومواقعها: نزولها شيئًا بعد شيء، وقيل: النجوم هي الكواكب، ومواقعها: مساقطها عند غروبها، قال مجاهد: مواقع النجوم يقال: مطالعها ومشارقها، واختاره ابن جرير. وعلى هذا فتكون المناسبة بين ذكر النجوم في القسم وبين المقسم عليه وهو القرآن من وجوه:
أحدها: أنّ النجوم جعلها اللّه يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الغي والجهل، فتلك هداية في الظلمات الحسية، وآيات القرآن هداية في الظلمات المعنوية، فجمع بين الهدايتين مع ما في النجوم من الزينة الظاهرة للعالم وفي القرآن من الزينة الباطنة، ومع ما في النجوم من الرجوم للشياطين، وفي آيات القرآن من رجوم شياطين الإنس والجن، والنجوم آياته المشهودة العيانية، والقرآن آياته المتلوة السمعية مع ما في مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النّزول، ذكره ابن القيم.
وقوله:{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} 2. قال ابن كثير: أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم، لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الواقعة آية : 77.
2 سورة الواقعة آية : 76.(5/94)
ص -398- ... وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}1. هذا هو المقسم عليه، وهو القرآن أي: إنه وحي اللّه وتنْزيله وكلامه، لا كما يقول الكفار: إنه سحر وكهانة أو شعر، بل هو قرآن كريم، أي: عظيم كثير الخير، لأنه كلام اللّه. قال ابن القيم: فوصفه بما يقتضي حسنه وكثرة خيره ومنافعه وجلالته، فإن الكريم هو البهي الكثير الخير، العظيم النفع، وهو من كل شيء أحسنه وأفضله، واللّه سبحانه وصف نفسه بالكرم [الانفطار 6، والنّحل 40]، ووصف به كلامه، ووصف به عرشه [المؤمنون 16]، ووصف به ما كثر خيره، وحسن منظره من النبات وغيره، ولذلك فسر السلف الكريم بالحسن، قال الأزهري: الكريم: اسم جامع لما يحمد، واللّه تعالى كريم جميل الفعال، إنه لقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان، والعلم والحكمة.
وقوله:{فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} 2. قال ابن كثير: أي: معظم في كتاب معظم محفوظ موقر. وقال ابن القيم: اختلف المفسرون في هذا فقيل: هو اللوح المحفوظ، والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة وهو المذكور في قوله:{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} 3. ويدل على أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله:{لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} 4. فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الواقعة آية : 77.
2 سورة الواقعة آية : 78.
3 سورة عبس آية : 13-16.
4 سورة الواقعة آية : 79.(5/95)
ص -399- ... وقوله:{لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} 1. قال "ابن عباس: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} 2. قال: الكتاب الذي في السماء"وفي رواية:" {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}3، يعني: الملائكة وقال قتادة: لا يمسه عند اللّه إلا المطهرون". أما في الدنيا، فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس. قال: وهي في قراءة ابن مسعود: ما يمسه إلا المطهرون. واختار هذا القول كثيرون منهم: ابن القيم ورجحه. وقال ابن زيد: زعمت قريش أن هذا القرآن تنَزلت به الشياطين فأخبر اللّه تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ...} 4 إلى قوله:{لَمَعْزُولُون}. وقال ابن كثير: وهذا قول جيد وهو لا يخرج عن القول قبله.
وقال البخاري في "صحيحه" في هذه الآية: لا يجد طعمه إلا من آمن به. قال ابن القيم: وهذا من إشارة الآية وتنبيهها وهو أنه لا يلتذ به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من يشهد أنه كلام اللّه تكلم به حقًا، وأنزله على رسوله وحيًا، ولا ينال معانيه إلا من لم يكن في قلبه منه حرج بوجه من الوجوه.
وقال آخرون:{لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}، [الواقعة: 79]، أي: من الجنابة والحدث قالوا: ولفظ الآية خبر ومعناه الطلب. قالوا: والمراد بالقرآن هنا المصحف، كما في حديث ابن عمر مرفوعًا: "نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو"5. واحتجوا على ذلك بما رواه مالك في "الموطأ" عن عبد اللّه بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: "أن لا يمس القرآن إلا طاهر".
وقوله:{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 6. قال ابن كثير: أي: هذا القرآن منَزل من اللّه رب العالمين، وليس كما يقولون: إنه سحر أو كهانة أو شعر، بل هو الحق الذي لا مرية فيه وليس وراءه حق(5/96)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الواقعة آية : 79.
2 سورة الواقعة آية : 79.
3 سورة الواقعة آية : 79.
4 سورة الشعراء آية : 210.
5 البخاري : الجهاد والسير (2990) , ومسلم : الإمارة (1869) , وأبو داود : الجهاد (2610) , وابن ماجه : الجهاد (2879 ,2880) , وأحمد (2/6 ,2/7 ,2/10 ,2/63 ,2/76 ,2/128) , ومالك : الجهاد (979).
6 سورة الواقعة آية : 80.(5/97)
ص -400- ... نافع. وفي هذه الآية 1-إثبات أنه كلام اللّه تكلم به. قال ابن القيم: ونظيره {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} 1 وقوله:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} 2. 2-وإثبات علو اللّه سبحانه على خلقه، فإن النّزول والتنْزيل الذي تعقله العقول، وتعرفه الفطر هو وصول الشيء من أعلى إلى أسفل، ولا يرد عليه قوله:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} 3. لأنا نقول: إن الذي أنزلها من فوق سماواته قد أنزلها لنا بأمره. قال ابن القيم: وذكر التنْزيل مضافًا إلى ربوبيته للعالمين المستلزمة لملكه لهم، وتصرفه فيهم، وحكمه عليهم، وإحسانه وإنعامه عليهم، وأن من هذا شأنه مع الخلق كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى، ويدعهم هملاً، ويخلقهم عبثًا، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم؟! فمن أقر بأنه رب العالمين أقر بأن القرآن نزله على رسوله، واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به. وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس، وتلك إنما تكون لخواص العقلاء.
وقوله:{أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} 4 قال مجاهد: أي: أتريدون أن تمالؤوهم فيه وتركنوا إليهم. قال ابن القيم: ثم وبخهم سبحانه على وضعهم الأدهان في غير موضعه، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به، ويفرق به، ويعض عليه بالنواجذ، وتثنى عليه الخناصر، وتعقد عليه القلوب والأفئدة، ويحارب ويسالم لأجله، ولا يلتوي عنه يمنة ولا يسرة، ولا يكون للقلب التفات إلى غيره، ولا محاكمة إلا إليه، ولا مخاصمة إلا به، ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به. فهو روح الوجود، وحياة العالم، ومدار السعادة، وقائد الفلاح، وطريق النجاة، وسبيل الرشاد، ونور البصائر، فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه؟! ولم(5/98)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة السجدة آية : 13.
2 سورة النحل آية : 102.
3 سورة الزمر آية : 6.
4 سورة الواقعة آية : 81.(5/99)
ص -401- ... ينْزل للمداهنة، وإنما أنزل بالحق وللحق، والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا تمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق، ويلتزم بعض الباطل. فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن فيه؟!
وقوله:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 1، تقدم الكلام عليها أول الباب، واللّه أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الواقعة آية : 82.
[25- بابقول اللّه تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 1]
[أقسام المحبة وأنواعها] .
ش: لما كانت محبة اللّه سبحانه هي أصل دين الإسلام، الذي يدور عليه قطب رحاها، فبكمالها يكمل الإيمان، وبنقصانها ينقص توحيد الإنسان، نبه المصنف رحمه اللّه على وجوبها على الأعيان، ولهذا جاء في الحديث: "أحبوا اللّه لما يغذوكم به من نعمه...". الحديث رواه الترمذي والحاكم. وفي حديث آخر: "أحبوا اللّه بكل قلوبكم". وفي حديث معاذ بن جبل في حديث المنام: "وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك". رواه أحمد والترمذي وصححه.
وما أحسن ما قال ابن القيم في وصفها: هي المنْزلة التي يتنافس فيها المتنافسون، وإلى عملها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها، فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده، ففي بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه، حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها، فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال التي متى خلت منها، فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 165.(5/100)
ص -402- ... يكونوا إلا إِلاَّ {بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا أبدًا بدونها واصليها، وتبوئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولا هي داخليها.
تاللّه لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، وقد قضى اللّه تعالى يوم قدر مقادير الخلائق، بمشيئته وحكمته البالغة،أن المرء مع من أحب، فيا لها من نعمة على المحبين سابغة. تاللّه لقد سبق القوم السعاة، وهم على ظهور الفرش نائمون، ولقد تقدموا الركب بمراحل وهم في مسيرهم واقفون، وأجابوا مؤذن الشوق، إذ نادى بهم: حي على الفلاح، وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم، وكان بذلهم بالرضى والسماح، وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح، تاللّه لقد حمدوا عند الوصول مسراهم، وشكروا مولاهم على ما أعطاهم، وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح. وأطال في وصفها فراجعه في "المدارج".
واعلم أن المحبة قسمان، مشتركة وخاصة:
فالمشتركة: ثلاثة أنواع،
أحدها: محبة طبيعية، كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، ونحو ذلك. وهذه لا تستلزم التعظيم.
الثاني: محبة رحمة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده الطفل، وهذه أيضًا لا تستلزم التعظيم.
الثالث: محبة أنس وألف، وهي محبة المشتركين في صناعة، أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر لبعضهم بعضًا، وكمحبة الإخوة، بعضهم بعضًا. فهذه الأنواع الثلاثة، التي تصلح للخلق، بعضهم من بعض ووجودها فيهم لا يكون شركا في محبة اللّه، ولهذا كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان يحب نساءه، وعائشة أحبهن إليه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصِّدِّيق رضي الله عنه.(5/101)
ص -403- ... القسم الثاني: المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا للّه، ومتى أحب العبد بها غيره، كان شركا لا يغفره اللّه، وهي محبة العبودية، المستلزمة للذل، والخضوع والتعظيم، وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره. فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير اللّه أصلاً كما حققه ابن القيم، وهي التي سوَّى المشركون بين اللّه تعالى وبين آلهتهم فيها. كما قال تعالى في الآية التي ترجم لها المصنف:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} 1. قال ابن كثير: يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا، وما لهم في الآخرة من العذاب والنكال حيث جعلوا للّه أندادًا، أي: أمثالاً ونظراء، يحبونهم كحبه، ويعبدونهم معه، وهو اللّه الذي لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ند له، ولا شريك معه.
وقوله:{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 2، أي: يساوونهم باللّه في المحبة والتعظيم، ولهذا يقولون لأندادهم، وهم في النار:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. فهذا هو مساواتهم برب العالمين، وهو العدل المذكور، في قوله:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 4. أما مساواتهم باللّه في الخلق والرزق وتدبير الأمور، فما كان أحد من المشركين يساوون أصنامهم باللّه في ذلك. وهذا القول رجحه شيخ الإسلام.
والثاني: أن المعنى يحبون أندادهم، كما يحب المؤمنون اللّه، ثم بين أن محبة المؤمنين للّه أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم. قال شيخ الإسلام: وهذا متناقض، وهو باطل، فإن المشركين لا يحبون الأنداد، مثل محبة المؤمنين اللّه، ودلت الآية على أن من أحب شيئًا، كحب اللّه، فقد اتخذه ندًّا للّه، وذلك هو الشرك الأكبر، قاله المصنف. وعلى وجوب إفراد اللّه بالمحبة الخاصة التي هي توحيد الإلهية، بل الخلق والأمر والثواب والعقاب، إنما نشأ عن المحبة، ولأجلها، فهي الحق الذي خلقت به السموات والأرض، وهي الحق(5/102)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 165.
2 سورة البقرة آية : 165.
3 سورة الشّعراء آية : 97-98.
4 سورة الأنعام آية : 1.(5/103)
ص -404- ... الذي تضمنه الأمر والنهي، وهي سر التأله، وتوحيدها هو شهادة أن لا إله إلا اللّه وليس كما زعم المنكرون، أن الإله هو الرب الخالق، فإن المشركين كانوا مقرين، بأنه لا رب إلا اللّه، ولا خالق سواه، ولم يكونوا مقرين بتوحيد الإلهية الذي هو حقيقة لا إله إلا اللّه، فإن الإله الذي تألهه القلوب حبًّا وذلاًّ وخوفًا ورجاء، وتعظيما وطاعة، إله بمعنى مألوه، أي: محبوب معبود، وأصله من التأله، وهو التعبد الذي هو آخر مراتب الحب، فالمحبة حقيقة العبودية، ودلت أيضًا على أن المشركين يعرفون اللّه ويحبونه، وإنما الذي أوجب كفرهم مساواتهم به الأنداد في المحبة، فكيف بمن أحب الأنداد أكثر من حب اللّه! فكيف بمن لم يحب اللّه أصلاً، ولم يحب إلا الند وحده فاللّه المستعان.
قوله:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 1.
نتكلم عليها لتعلقها بما قبلها تكميلاً للفائدة، وإن لم يذكرها المصنف، وفيها قولان: أحدهما وهو الصحيح أن المعنى: والذين آمنوا أشد حبًّا للّه من محبة المشركين بالأنداد للّه، فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة.
والثاني: والذين آمنوا أشد حبًّا للّه من حب أصحاب الأنداد لأندادهم التي يحبونها من دون اللّه. قال ابن القيم: والقولان مرتبان على القولين في قوله: يحبونهم كحب اللّه. وفي الآية دليل على أن اللّه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، وأن الشرك محبط للأعمال.
[توعد من قدم شيئا على محبة الله ورسوله]
قال: وقوله:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ...} 2 إلى قوله:{أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...} 3 .
هذا أمر من اللّه تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يتوعد من أحب أهله وعشيرته وأمواله ومساكنه، أو أحد هذه الأشياء على اللّه ورسوله،(5/104)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 165.
2 سورة التوبة آية : 24.
3 سورة التوبة آية : 24.(5/105)
ص -405- ... وجهاد في سبيله، وقد خوطب بهذا المؤمنين في آخر الأمر، كما قاله شيخ الإسلام، فقيل لهم:{إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} 1، أي: حصلتموها، {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} 2، أي: رخصها وفوات وقت نفاقها،{وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} 3، أي: لحسنها وطيبها،{أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} 4، أي: انتظروا ماذا يحل بكم من عذاب اللّه،{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 5، أي: الخارجين عن طاعة اللّه.
وهو تنبيه على أن من فعل ذلك، فهو من الفاسقين فهذا تشديد، ووعيد عظيم، ولا يخلص منه إلا من صح إيمانه فخلص للّه سره وإعلانه، وعلى أن المحبة الصادقة تستلزم تقديم مراضي اللّه على هذه الثمانية كلها، فكيف بمن آثر بعضها على اللّه ورسوله، وجهاد في سبيله!
فإن قلت: قد قال شيخ الإسلام: إن كثيرًا من المسلمين أو أكثرهم بهذه الصفة.
قيل: مراده أن كثيرًا من المسلمين قد يكون ما ذكر أحب إليه من اللّه ورسوله، أي: في إيثار ذلك على فعل أمر اللّه، وأمر رسوله الذي ينشأ عن المحبة لا في الحب الذي يوجب قصد المحبوب بالتأله، فإن من ساوى بين اللّه وبين غيره في هذا الحب، فهو مشرك، فكيف إذا كان غير اللّه أحب إليه كما هو الواقع من عباد القبور، فإنهم يحبون أندادهم أعظم من حب اللّه، وذلك أن أصل الحب يحتمل الشركة بخلاف الخلة، فإنها لا تقبل الشركة أصلاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن وأسامة: "اللهم إني أحبهما وأحب من يحبهما". حديث صحيح.
واعلم أن هذه الآية شبيهة بقوله:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ(5/106)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 24.
2 سورة التوبة آية : 24.
3 سورة التوبة آية : 24.
4 سورة التوبة آية : 24.
5 سورة المائدة آية : 108.(5/107)
ص -406- ... فَاتَّبِعُونِي} 1. فلما كثر المدعون لمحبة اللّه، طولبوا بإقامة البينة، فجاءت هذه الآية ونحوها. فمن ادعى محبة اللّه، وهو يحب ما ذكر على اللّه ورسوله، فهو كاذب كمن يدعي محبة اللّه، وهو على غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كاذب، إذ لو كان صادقًا لكان متبعًا له، قال مبارك ابن فضالة: عن الحسن. قال: كان ناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: يا رسول اللّه إننا نحب ربنا حبًّا شديدًا، فأحب اللّه أن يجعل لحبه عَلَمًا فأنزل اللّه:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 2. وقد وقع لكثير من المدعين نوع انبساط في دعوى المحبة أخرجهم إلى شيء من الرعونة والدعاوي التي تنافي العبودية، ويدعي أحدهم دعاوي تتجاوز حدود الأنبياء، ويطلبون من اللّه ما لا يصلح بكل وجه إلا للّه. وسبب هذا ضعف تحقيق المحبة التي هي محض العبودية، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته، ومدعي ذلك فيه شبه من اليهود والنصارى الذين قالوا: نحن أبناء اللّه وأحباؤه.
وشرط المحبة موافقة المحبوب، فتحب ما يحب، وتكره ما يكره، وتبغض ما يبغض، وذلك كمن يدعي أن الذنوب لا تضره، لكون اللّه يحبه فيصر عليها أو يدعي أنه يصل إلى حد في محبة اللّه تسقط عنه التكاليف، وكقول بعضهم: أي مريد لي ترك في النار أحدًا، فإن بريء منه، فقال الآخر: أي مريد لي ترك أحدًا من المؤمنين يدخل النار، فإنه بريء منه. ونحو ذلك من الدعاوي مع أن كثيرًا من هذا ونحوه لا يصدر إلا من كافر، والعاقل يتنبه. وما هكذا كان سادات المحبين: الأنبياء والمرسلون، والصحابة، والتابعون، فكن على حذر من ذلك، فإن كثيرًا من جهال المتصوفة وقع فيه، وقد ينسب ذلك إلى بعض المشايخ المشهورين، وهو إما كذب عليهم، وإما خطأ منهم، فإن العصمة منتفية عن غير الرسول صلى الله عليه وسلم.(5/108)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 31.
2 سورة آل عمران آية : 31.(5/109)
ص -407- ... [لا يكمل إيمان العبد حتى يحب الرسول أكثر من جميع البشر]
قال: عن أنس أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"1. أخرجاه
ش: قوله: (لا يؤمن أحدكم). أي. لا يحصل له الإيمان الذي تبرأ به ذمته، ويستحق به دخول الجنة بلا عذاب حتى يكون الرسول أحب إليه من أهله وولده ووالده والناس أجمعين، بل لا يحصل له ذلك حتى يكون الرسول أحب إليه من نفسه أيضًا، كما في حديث "عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لأنت يا رسول اللّه أحب إلي من كل شيء إلا نفسي فقال: والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنك الآن واللّه أحب إلي من نفسي، فقال: الآن يا عمر"2. رواه البخاري. فمن لم يكن كذلك، فهو من أصحاب الكبائر، إذا لم يكن كافرًا، فإنه لا يعهد في لسان الشرع نفي اسم مسمى أمر اللّه به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته، فأما إذا كان الفعل مستحبًّا في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، ولو صح هذا لنفي عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج وحب اللّه ورسوله، لأن ما من عمل إلا وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا أبو بكر ولا عمر، فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه لجاز أن ينفى عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل. وعلى هذا فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق، وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كلام اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم. قاله شيخ الإسلام. وأكثر الناس يدعي أن الرسول أحب إليه مما ذكر، فلا بد من تصديق ذلك بالعمل والمتابعة له، وإلا فالمدعي كاذب، فإن القرآن بين أن المحبة التي في القلب تستلزم العمل الظاهر بحبها كما قال تعالى:{قُلْ(5/110)
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 3. وقال تعالى:{وَيَقُولُونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الإيمان (15) , ومسلم : الإيمان (44) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (5013 ,5014) , وابن ماجه : المقدمة (67) , وأحمد (3/177 ,3/207 ,3/275 ,3/278) , والدارمي : الرقاق (2741).
2 البخاري : الأيمان والنذور (6632) , وأحمد (4/233 ,4/336 ,5/293).
3 سورة آل عمران آية : 31.(5/111)
ص -408- ... آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} 1، إلى قوله:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دُعوا إلى اللّه ورسوله سمعوا وأطاعوا. فتبين أن هذا من لوازم الإيمان والمحبة، لكن كل مسلم لا بد أن يكون محبًّا بقدر ما معه من الإسلام كما أن كل مؤمن لا بد أن يكون مسلمًا، وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمنًا، وإن لم يكن مؤمنًا الإيمان المطلق، لأن ذلك لا يحصل إلا لخواص المؤمنين، فإن الاستسلام للّه ومحبته لا تتوقف على هذا الإيمان الخاص.
قال شيخ الإسلام: وهذا الفرق يجده الإنسان من نفسه ويعرفه من غيره، فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام، والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة للّه ورسوله، وهم مسلمون، ومعهم إيمان مجمل، لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئًا فشيئًا إن أعطاهم اللّه ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين، ولا إلى الجهاد ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفارًا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب للّه ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال. وهؤلاء إن عرفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم اللّه عليهم بما يزيل الريب، وإلا صاروا مرتابين وانتقلوا إلى نوع من النفاق انتهى.
قوله: (أحب). هو بالنصب خبر كون.
قوله: (والناس أجمعين). هو من عطف العام على الخاص وهو كثير.(5/112)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية : 47.
2 سورة النور آية : 51.(5/113)
ص -409- ... وفي الحديث من الفوائد:
إذا كان هذا شأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فما الظن بمحبة اللّه؟!
وفيه أن الأعمال من الإيمان، لأن المحبة عمل، وقد نُفِيَ الإيمان عمن لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما ذكر فدل على ذلك.
وفيه أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.
وفيه وجوب محبته صلى الله عليه وسلم على ما ذكر، ذكرهما المصنف.
[ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان] .
قال: ولهما عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا للّه، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه كما يكره أن يقذف في النار"1. وفي رواية: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى..."2 إلى آخره.
ش: قوله: (ثلاث). أي: ثلاث خصال. وجاز الابتداء بثلاث، لأن المضاف إليه منوي ولذلك جاء التنوين.
قوله: (من كن فيه). أي: وجدن وحصلن، فهي تامة.
قوله: (وجد بهن حلاوة الإيمان). قال ابن أبي جمرة: إنما عبر بالحلاوة لأن اللّه شبه الإيمان بالشجرة في قوله:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} 3.
قلت: والشجرة لها ثمرة، والشجرة لها حلاوة، فكذلك شجرة الإيمان لا بد لها من ثمرة ولا بد لتلك الثمرة من حلاوة. لكن قد يجدها المؤمن وقد لا يجدها وإنما يجدها بما ذكر في الحديث.
قوله: (أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما). "أحب" منصوب لأنه خبر يكون. قال البيضاوي: المراد بالحب هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس كالمريض يعاف الدواء بطبعه، فينفر عنه بطبعه ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله. فإذا تأمل المرء أن الشارع(5/114)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الإيمان (16) , ومسلم : الإيمان (43) , والترمذي : الإيمان (2624) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (4987 ,4988 ,4989) , وابن ماجه : الفتن (4033) , وأحمد (3/103 ,3/113 ,3/172 ,3/174 ,3/230 ,3/248 ,3/288).
2 البخاري : الأدب (6041).
3 سورة إبراهيم آية : 24.(5/115)
ص -410- ... لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك تمرن على الائتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعًا له، ويلتذ بذلك التذاذًا عقليًّا إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك.
قلت: وكلامه على قواعد الجهمية ونحوهم من نفي محبة المؤمنين لربهم لهم. والحق خلاف ذلك بل المراد في الحديث أن يكون اللّه ورسوله عند العبد أحب إليه مما سواهما حبًّا قلبيًا كما في بعض الأحاديث: "أحبوا اللّه بكل قلوبكم". فيميل بكليته إلى اللّه وحده حتى يكون وحده محبوبه ومعبوده، وإنما يحب من سواه تبعًا لمحبته كما يحب الأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين لما كان يحبهم ربه سبحانه، وذلك موجب لمحبة ما يحبه سبحانه وكراهة ما يكره، وإيثار مرضاته على ما سواه والسعي فيما يرضيه ما استطاع وترك ما يكره. فهذه علامات المحبة الصادقة ولوازمها، وأما مجرد إيثار ما يقضي العقل رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه... إلى آخر
كلامه. فهذا قد يكون في بعض الأمور علامة على الحب ولازمًا له لا أنه هو الحب.
وقال شيخ الإسلام: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له فمن أحب شيئًا واشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك. واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى.
قال: فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح يتبع كمال محبة العبد للّه، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة وتفريعها ودفع ضدها.(5/116)
ص -411- ... فتكميلها أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما فإن محبة اللّه ورسوله، لا يكتفى فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون اللّه ورسوله، أحب إليه مما سواهما.
قلت: ولا يكون كذلك، إلا إذا وافق ربه، فيما يحبه وما يكرهه، قال: وتفريعها أن يحب المرء لا يحبه إلا للّه.
قلت: فإن من أحب مخلوقًا للّه، لا لغرض آخر، كان هذا من تمام حبه للّه، فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب، فإذا أحب أنبياء اللّه، وأولياءه، لأجل قيامهم بمحبوبات اللّه، لا لشيء آخر، فقد أحبهم للّه لا لغيره.
قال: ودفع ضدها أن يكره ضد الإيمان، كما يكره أن يقذف في النار.
قلت: وإنما كره الضد، لما دخل قلبه من محبة اللّه، فانكشف له بنور المحبة محاسن الإسلام، ورذائل الجهل، والكفران، وهذا هو الحب الذي يكون مع من أحب، كما في "الصحيحين". عن أنس: "أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة، فقال: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب اللّه ورسوله، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت"، وفي رواية للبخاري "فقلنا: ونحن كذلك، قال، نعم قال أنس: ففرحنا يومئذ، فرحًا شديدًا"1.
وقوله: (مما سواهما)، فيه جمع ضمير الرب سبحانه، وضمير الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أنكره على الخطيب، لما قال: ومن يعصهما، فقد غوى، وأحسن ما قيل فيه قولان: أحدهما ما قاله البيضاوي وغيره، أنه ثنى الضمير هنا إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة، فإنها وحدها لاغية، وأمر بالإفراد في حديث الخطيب إشعارًا بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام(5/117)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأدب (6171) , ومسلم : البر والصلة والآداب (2639) , والترمذي : الزهد (2385) , وأحمد (3/104 ,3/110 ,3/167 ,3/172 ,3/173 ,3/178 ,3/198 ,3/202 ,3/207 ,3/208 ,3/221 ,3/226 ,3/227 ,3/228 ,3/255 ,3/276 ,3/288).(5/118)
ص -412- ... الغواية، إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم. قلت: وهذا جواب بليغ جدًّا.
الثاني: حمل حديث الخطيب على الأدب والأولى، وهذا على الجواز.
وجواب ثالث، وهو أن هذا ورد على الأصل، وحديث الخطيب ناقل، فيكون أرجح.
قوله: (كما يكره أن يقذف في النار)، أي: يستوي عنده الأمران، الإلقاء في النار، والعود في الكفر.
قلت: وفي الحديث من الفوائد: أن اللّه تعالى يحبه المؤمنون، وهو تعالى يحبهم، كما قال:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 1 .
وفيه رد ما يظنه بعض الناس من أنه من ولد على الإسلام أفضل ممن كان كافرًا فأسلم، فمن اتصف بهذه الأمور، فهو أفضل ممن لم يتصف بها مطلقًا، ولهذا كان السابقون الأولون أفضل ممن ولد على الإسلام.
وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقًا، والصواب أنه إن لم يتب كان نقصًا وإن تاب فلا، ولهذا كان المهاجرون والأنصار أفضل هذه الأمة، وإن كانوا في أول الأمر كفارًا يعبدون الأصنام، بلا المنتقل من الضلال إلى الهدى، ومن السيئات إلى الحسنات يضاعف له الثواب، قاله شيخ الإسلام.
وفيه دليل على عداوة المشركين وبغضهم، لأن من أبغض شيئًا أبغض من اتصف به، فإذا كان يكره الكفر كما يكره أن يلقى في النار، فكذلك يكره من اتصف به.
قوله: (وفي رواية لا يجد أحد)، هذه الرواية أخرجها البخاري في "صحيحه" ولفظه: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا للّه، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 54.(5/119)
ص -413- ... من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه، وحتى يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما"1 .
[لا تنال ولاية الله إلا بالحب في الله والبغض في الله]
قال: وعن ابن عباس قال: "من أحب في اللّه، وأبغض في اللّه، ووالى في اللّه، وعادى في اللّه، فإنما تنال ولاية اللّه بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئًا". رواه ابن جرير.
ش: هذا الأثر رواه ابن جرير بكماله كما قال المصنف، وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط.
قوله: (من أحب في اللّه)، أي: أحب المسلمين والمؤمنين في اللّه.
قوله: (وأبغض في اللّه)، أي: أبغض الكفار والفاسقين في اللّه لمخالفتهم لربهم وإن كانوا أقرب الناس إليه، كما قال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}2.
قوله: (ووالى في اللّه). هذا بيان للازم المحبة في اللّه وهو الموالاة. فيه إشارة إلى أنه لا يكفي في ذلك مجرد الحب، بل لا بد مع ذلك من الموالاة التي هي لازم الحب، وهي النصرة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين باطنًا وظاهرًا.
قوله: (وعادى في اللّه)، هذا بيان للازم البغض في اللّه وهو المعاداة فيه، أي: إظهار العداوة بالفعل، كالجهاد لأعداء اللّه والبراءة منهم، والبعد عنهم باطنًا وظاهرًا إشارة إلى أنه لا يكفي مجرد بغض القلب، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه كما قال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ(5/120)
الْعَدَاوَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأدب (6041).
2 سورة المجادلة آية : 22.(5/121)
ص -414- ... وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 1 فهذا علامة الصدق في البغض في اللّه.
قوله: (فإنما تنال ولاية اللّه بذلك). يجوز فتح الواو وكسرها، أي: لا يكون العبد من أولياء اللّه ولا تحصل له ولاية اللّه إلا بما ذكر من الحب في اللّه، والبغض في اللّه، والموالاة في اللّه، والمعاداة في اللّه، كما روى الإمام أحمد والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب للّه ويبغض للّه، فإذا أحب للّه، وأبغض للّه، فقد استحق الولاية للّه"2. وفي حديث آخر "أوثق عرى الإيمان الحب في اللّه والبغض في اللّه عزّ وجل"3. رواه الطبراني وغيره، وينبغي لمن أحب شخصًا في اللّه أن يأتيه في بيته فيخبره أنه يحبه في اللّه كما روى أحمد والضياء عن أبي ذر مرفوعًا: "إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منْزله فليخبره أنه يحبه للّه"4 وفي حديث ابن عمر عند البيهقي في "الشعب" فإنه يجد مثل الذي يجد له.
قوله: (ولن يجد عبد طعم الإيمان...) إلى آخره أي: لا يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يحب في اللّه، ويبغض في اللّه، ويعادي في اللّه، ويوالي في اللّه، وهذا منتزع من حديث أنس السابق وفي حديث أبي أمامة مرفوعًا "من أحب للّه، وأبغض للّه، وأعطى للّه ومنع للّه فقد استكمل الإيمان"5 رواه أبو داود. والعجب ممن يدعي محبة اللّه وهو على خلاف ذلك، وما أحسن ما قال ابن القيم:
أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حبًّا له ما ذاك في إمكان
قوله: (وقد صارت عامة مؤاخات الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا)، أي: المؤاخاة على أمر الدنيا لا يجدي على أهله شيئًا، أي: لا ينفعهم أصلاً، بل يضرهم، كما قال تعالى:{الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} 6 . فهذا(5/122)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الممتحنة آية : 4.
2 أحمد (3/430).
3 أبو داود : السنة (4599).
4 أحمد (5/145).
5 أبو داود : السنة (4681).
6 سورة الزخرف آية : 67.(5/123)
ص -415- ... حال كل خلة ومحبة كانت في الدنيا على غير طاعة اللّه، فإنها تعود عداوة وندامة يوم القيامة بخلاف المحبة والخلة على طاعة اللّه، فإنها من أعظم القربات كما جاء في حديث السبعة الذين يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: "ورجلان تحابا في اللّه اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه"1. وفي الحديث القدسي الذي رواه مالك وابن حبان في صحيحه: "وجبت محبتي للمتحابين في وللمتجالسين فِيَّ، وللمتزاورين فِيَّ وللمتباذلين فِيَّ"2. وهذا الكلام قاله ابن عباس رضي الله عنه في أهل زمانه، فكيف لو رأى الناس فيما هم فيه من المؤاخاة على الكفر والبدع والفسوق والعصيان؟! ولكن هذا مصداق قوله عليه السلام: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ"3.
وفيه إشارة إلى أن الأمر قد تغير في زمن ابن عباس بحيث صار الأمر إلى هذا بالنسبة إلى ما كان في زمن الخلفاء الراشدين فضلاً عن زمن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وقد روى ابن ماجة عن "ابن عمر قال: لقد رأيتنا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم"4. وأبلغ منه قوله تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 5. فهذا كان حالهم في ذلك الوقت الطيب، وهؤلاء هم المتحابون لجلال اللّه كما في الحديث القدسي يقول اللّه عزّ وجل: "أين المتحابون لجلالي، اليوم أظلهم في ظلي"6 فهذه هي المحبة النافعة لا لمحبة الدنيا، وهي التي أوجبت لهم المواساة والإيثار على الأنفس. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 7.
قال المصنف: وقال "ابن عباس: في قوله:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة من الآية: 166] قال:المودة".
ش: هذا الأثر رواه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.(5/124)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأذان (660) , ومسلم : الزكاة (1031) , والترمذي : الزهد (2391) , وأحمد (2/439) , ومالك : الجامع (1777).
2 أحمد (5/233) , ومالك : الجامع (1779).
3 مسلم : الإيمان (145) , وابن ماجه : الفتن (3986) , وأحمد (2/389).
4 أحمد (2/84).
5 سورة الحشر آية : 9.
6 مسلم : البر والصلة والآداب (2566) , وأحمد (2/237 ,2/338 ,2/370 ,2/535) , ومالك : الجامع (1776) , والدارمي : الرقاق (2757).
7 سورة الحديد آية : 21.(5/125)
ص -416- ... قوله: (قال: المودة): أي: المحبة التي كانت بينهم في الدنيا وتقطعت بهم وخانتهم أحوج ما كانوا إليها، وتبرأ بعضهم من بعض، كما قال تعالى عن إبراهيم الخليل عليه السلام: أنه قال لقومه:{إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 1. وهذه الآية وإن كانت نزلت في المشركين عباد الأوثان الذين يحبون أندادهم وأوثانهم كحب اللّه، فإنها عامة، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولهذا "قال قتادة: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة، من الآية: 166]. قال: أسباب الندامة يوم القيامة". والأسباب: المواصلة التي يتواصلون بها ويتحابون بها، فصارت عداوة يوم القيامة، يلعن بعضهم بعضًا. رواه عبد بن حميد وابن جرير فهذا حال من كانت مودته لغير اللّه فاحذر من ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة العنكبوت آية : 25.(5/126)
[26- باب قول اللّه تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}1]
[الخوف على ثلاثة أقسام] .
الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها، فلذلك قال المصنف بوجوب إخلاصه باللّه تعالى. وقد ذكره اللّه تعالى في كتابه عن سادات المقربين من الملائكة والأولياء والصالحين قال اللّه تعالى:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 2. وقال اللّه تعالى:{وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 3 .
وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} 4. وقال تعالى:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ} 5. وأمر بإخلاصه له فقال تعالى:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 6. وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 7. وقال تعالى:{أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} 8 [النحل: 53] وهو على ثلاثة أقسام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 175.
2 سورة النحل آية : 50.
3 سورة الأنبياء آية : 28.
4 سورة المؤمنون آية : 57.
5 سورة الأحزاب آية : 39.
6 سورة البقرة آية : 40.
7 سورة المائدة آية : 44.
8 سورة النحل آية : 52.(5/127)
ص -417- ... أحدها: خوف السر وهو أن يخاف من غير اللّه أن يصيبه بما يشاء من مرض أو فقر أو قتل ونحو ذلك بقدرته ومشيئته، سواء ادعى أن ذلك كرامة للمخوف بالشفاعة، أو على سبيل الاستقلال، فهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير اللّه أصلاً، لأن هذا من لوازم الإلهية، فمن اتخذ مع اللّه ندًّا يخافه هذا الخوف فهو مشرك.
وهذا هو الذي كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم وآلهتهم ولهذا يخوفون بها أولياء الرحمن كما خوفوا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فقال لهم:{وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. وقال تعالى عن قوم هود إنهم قالوا له:{إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} 2. وقال تعالى:{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} 3.
وهذا القسم هو الواقع اليوم من عباد القبور، فإنهم يخافون الصالحين بل الطواغيت، كما يخافون اللّه بل أشد. ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين باللّه أعطاك ما شئت من الأيمان كاذبًا أو صادقًا، فإن كان اليمين بصاحب التربة لم يقدم على اليمين إن كان كاذبًا، وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أخوف عنده من اللّه. ولا ريب أن هذا ما بلغ إليه شرك الأولين، بل جهد أيمانهم اليمين باللّه تعالى، وكذلك لو أصاب أحدًا منهم ظلم لم يطلب كشفه إلا من المدفونين في التراب. وإذا أراد أن يظلم أحدًا فاستعاذ باللّه أو ببيته لم يعذه، ولو استعاذ بصاحب التربة أو بتربته لم يقدم(5/128)
عليه أحدًا ولم يتعرض له بالأذى حتى إن بعض الناس أخذ من التجار أموالاً عظيمة أيام موسم الحاج، ثم بعد أيام أظهر الإفلاس، فقام عليه أهل الأموال، فالتجأ إلى قبر في جدة يقال له: المظلوم فما تعرض له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية : 80-81.
2 سورة آية : 54-55.
3 سورة الزمر آية : 36.(5/129)
ص -418- ... أحد بمكروه خوفًا من سر المظلوم وأشباه هذا من الكفر، وهذا الخوف لا يكون العبد مسلمًا إلا بإخلاصه للّه تعالى وإفراده بذلك دون من سواه.
الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير عذر إلا لخوف من الناس، فهذا محرم، وهو الذي نزلت فيه الآية المترجم لها وهو الذي جاء فيه الحديث: "إن اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذا رأيت المنكر أن لا تغيره فيقول: يا رب خشيت الناس، فيقول إياي كنت أحق أن تخشى"1 رواه أحمد.
الثالث: خوف وعيد اللّه الذي توعد به العصاة وهو الذي قال اللّه فيه:{ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} 2.
وقال:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} 3. وقال تعالى:{قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} 4. وقال تعالى:{وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 5. وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان، ونسبة الأول إليه كنسبة الإسلام إلى الإحسان وإنما يكون محمودًا إذا لم يوقع في القنوط واليأس من روح اللّه، ولهذا قال شيخ الإسلام: هذا الخوف ما حجزك عن معاصي اللّه، فما زاد على ذلك، فهو غير محتاج إليه.
بقي قسم رابع وهو الخوف الطبيعي، كالخوف من عدو وسبع وهدم وغرق ونحو ذلك، فهذا لا يذم وهو الذي ذكره اللّه عن موسى عليه الصلاة والسلام في قوله:{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} 6.
إذا تبين هذا فمعنى قوله تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} 7، أي: يخوفكم أولياءه ويوهمكم أنهم ذو بأس وشدة. قال اللّه تعالى:{فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 8. أي: فإذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا على اللّه فإنه كافيكم وناصركم عليهم كما قال تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ(5/130)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه : الفتن (4008 ,4017) , وأحمد (3/47).
2 سورة إبراهيم آية : 14.
3 سورة الرحمن آية : 46.
4 سورة الطور آية : 26.
5 سورة الإنسان آية : 7.
6 سورة القصص آية : 21.
7 سورة آل عمران آية : 175.
8 سورة آل عمران آية : 175.(5/131)
ص -419- ... مِنْ دُونِهِ...} 1، إلى قوله:{قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 2. وقال تعالى:{فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} 3. قاله ابن كثير.
وقال ابن القيم: ومن كيد عدو اللّه أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه لئلا يجاهدوهم ولا يأمروهم بمعروف، ولا ينهوهم عن منكر. فأخبر تعالى أن هذا من كيده وتخويفه، ونهانا أن نخافهم، قال: والمعنى عند جميع المفسرين: يخوفكم بأوليائه قال قتادة: يعظمهم في صدوركم، ولهذا قال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4. فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمان العبد قوي خوفه منهم. قلت: فأمر تعالى بإخلاص هذا الخوف له، وأخبر أن ذلك شرط في الإيمان، فمن لم يأت به لم يأت بالإيمان الواجب، ففيه أن إخلاص الخوف للّه من الفرائض.
قال: وقوله تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ...} 5 الآية.
لما نفى تبارك وتعالى عمارة المساجد عن المشركين بقوله تعالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ...} 6 الآية إذ لا تنفعهم عمارتها مع الشرك، كما قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} 7. أثبت تعالى في هذه الآية عمارة المساجد بالعبادة للمؤمنين باللّه تعالى واليوم الآخر، المقيمين الصلاة المؤتين الزكاة، الذين لا يخشون إلا اللّه، ولا يخشون معه إلهًا آخر. كما قال تعالى:{وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} 8، فهذه هي العمارة النافعة، وهي الخالصة من الشرك، فإنه نار تحرق الأعمال.
وقوله:{وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} 9. قال ابن عطية: يريد خشية التعظيم(5/132)
والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره، ويخشى المحاذير الدنيوية، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء اللّه وتصريفه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 36.
2 سورة الزمر آية : 38.
3 سورة النساء آية : 76.
4 سورة آل عمران آية : 175.
5 سورة التوبة آية : 18.
6 سورة التوبة آية : 17.
7 سورة الفرقان آية : 23.
8 سورة الأحزاب آية : 39.
9 سورة التوبة آية : 18.(5/133)
ص -420- ... قلت: ولهذا قال ابن عباس في الآية: لم يعبد إلا اللّه، فإن الخوف كما قال ابن القيم: عبودية القلب، فلا يصلح إلا للّه، كالذل والإنابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب.
وقوله:{فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 1. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: إن أولئك المهتدون، كقوله:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} 2. وكل "عسى" في القرآن فهي واجبة. وتضمنت الآية أن من عَمَّر المساجد من المسلمين بالعبادة، هو من المؤمنين كما في حديث: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان" قال اللّه:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 3". رواه أحمد والترمذي والحاكم.
قال وقوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ...} 4.
قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبرًا عن قوم من الذين يدعون الإيمان بألسنتهم ولم يثبت الإيمان في قلوبهم بأنهم إذا جاءتهم محنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة اللّه بهم، فارتدوا عن الإسلام". قال ابن عباس: "يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في اللّه". وقال ابن القيم:"الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقول ذلك، بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه، والفتنة: الابتلاء والاختبار، ليتبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل: آمنا فلا يحسب أنه يعجز اللّه ويفوته ويسبقه فمن آمن بالرسل وأطاعهم، عاداه أعداؤهم وآذوه، فابتلي بما يؤلمه، ومن لم يؤمن بهم، ولم يطعهم، عوقب في الدنيا والآخرة، وحصل له ما يؤلمه، وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم اتباعهم، فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت، أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له(5/134)
العاقبة في الدنيا والآخرة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 18.
2 سورة الإسراء آية : 79.
3 الترمذي : الإيمان (2617) , وابن ماجه : المساجد والجماعات (802) , وأحمد (3/76) , والدارمي : الصلاة (1223).
4 سورة العنكبوت آية : 10.(5/135)
ص -421- ... والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء، ثم يصير له الألم الدائم. والإنسان لا بد أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه، وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب، تارة منهم، وتارة من غيرهم، كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة، ولا يتمكنون من فجورهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلم منهم، فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم، فالحزم كل الحزم بما قالت أم المؤمنين لمعاوية: "من أرضى اللّه بسخط الناس، كفاه اللّه مؤنة الناس ومن أرضى الناس بسخط اللّه، لم يغنوا عنه من اللّه شيئًا". فمن هداه اللّه، وألهمه رشده، ووقاه شر نفسه، امتنع من الموافقة على فعل المحرم، وصبر على عداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما كانت للرسل وأتباعهم".
ثم أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنه إذا أوذي في اللّه جعل فتنة الناس له، وهي أذاهم له، ونيلهم إياه بالمكروه، وهو الألم الذي لا بد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم، جعل ذلك في قراره منه وتركه السبب الذي يناله به كعذاب اللّه الذي فر منه المؤمنون بالإيمان. فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب اللّه إلى الإيمان، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قرب، وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب اللّه، فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنْزلة ألم عذاب اللّه، وغبن كل الغبن إذا استجار من الرمضاء بالنار، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر اللّه جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم واللّه عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق انتهى.
قلت: وإنما حمل ضعيف البصيرة على أن {جَعَلَ فِتْنَةَ(5/136)
النَّاسِ(5/137)
ص -422- ... كَعَذَابِ اللَّهِ}، هو الخوف منهم أن ينالوه بما يكره بسبب الإيمان باللّه، وذلك من جملة الخوف من غير اللّه، وهذا وجه مطابقة الآية للترجمة، وفي الآية رد على المرجئة والكرامية، وفيها الخوف على نفسك، والاستعداد للبلاء إذ لا بد منه مع سؤال اللّه العافية.
[من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط اللّه] .
قال: عن أبي سعيد مرفوعًا: "إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط اللّه، وأن تحمدهم على رزق اللّه، وأن تذمهم على ما لم يؤتك اللّه، إن رزق اللّه لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره".
ش: هذا الحديث رواه أبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي، وأعله بمحمد بن مروان السدي، وقال: ضعيف، وفيه أيضًا عطية العوفي، أورده الذهبي في الضعفاء والمتروكين، وقال: ضعفوه وموسى بن بلال، قال الأزدي: ساقط.
قلت: إسناده ضعيف، ومعناه صحيح، وتمامه: "وإن اللّه بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط".
قوله: (إن من ضعف اليقين)، قال في "المصباح": والضعف بفتح الضاد في لغة تميم وبضمها في لغة قريش: خلاف القوة والصحة. واليقين المراد به: الإيمان كله كما قال ابن مسعود: "اليقين الإيمان كله، والصبر نصف الإيمان"رواه الطبراني بسند صحيح، ورواه أبو نعيم في "الحلية" والبيهقي في "الزهد"(5/138)
ص -423- ... من حديثه مرفوعًا ولا يثبت رفعه. قاله الحافظ: ويدخل في ذلك تحقيق الإيمان بالقدر السابق كما في حديث ابن عباس مرفوعًا: "فإن استطعت أن تعمل بالرضى في اليقين فافعل، وإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا". وفي رواية أخرى في إسنادها ضعف: "قلت: يا رسول اللّه: كيف أصنع باليقين؟ قال: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك"1.
قوله: (أن ترضي الناس بسخط اللّه). أي: تؤثر رضاهم على رضي اللّه، فتوافقهم على ترك المأمور، أو فعل المحظور استجلابًا لرضاهم فلولا ضعف اليقين لما فعلت ذلك، لأن من قوي يقينه علم أن اللّه وحده هو النافع الضار، وأنه لا مُعَوَّل إلا على رضاه، وليس لسواه من الأمر شيء كائنًا ما كان فلا يهاب أحدًا، ولا يخشاه لخوف ضرر يلحقه من جهته كما قال تعالى:{وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} 2.
قوله: (وأن تحمدهم على رزق اللّه)، أي: تحمدهم وتشكرهم على ما وصل إليك على أيديهم من رزق، بأن تضيفه إليهم وتنسى المنعم المتفضل على الحقيقة وهو اللّه رب العالمين الذي قدر هذا الرزق لك، وأوصله إليك بلطفه ورحمته فإنه لطيف لما يشاء وهو العليم الحكيم فإذا أراد أمرًا قيض له أسبابًا ولا ينافي ذلك حديث: "من لا يشكر الناس لا يشكر اللّه". لأن المراد هنا إضافة النعمة إلى السبب ونسيان الخالق، والمراد بشكر الناس عدم كفر إحسانهم ومجازاتهم على ذلك بما استطعت، فإن لم تجد فجازهم بالدعاء.
قوله: (وأن تذمهم على ما لم يؤتك اللّه)، أي: إذا طلبتهم شيئًا فمنعوك ذممتهم على ذلك، فلو علمت يقينًا أن المتفرد بالعطاء والمنع هو اللّه وحده، وأن المخلوق مُدَبَّر {لا يَمْلِكُ} لنفسه {ضَرّاً وَلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : السنة (4700).
2 سورة الأحزاب آية : 39.(5/139)
ص -424- ... نَفْعاً} فضلاً عن غيره، وأن اللّه لو قدر لك رزقًا; أتاك ولو اجتهد الخلق كلهم في دفعه، وإن أرادك بمنع لم يأتك مرادك ولو اجتمع الخلق كلهم في إيصاله إليك; لقطعت العلائق عن الخلائق وتوجهت بقلبك إلى الخالق تبارك وتعالى، ولهذا قرر ذلك بقوله: "إن رزق اللّه لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره". فلا ترض الخلق بما يسخط اللّه، ولا تحمدهم على رزق اللّه، ولا تذمهم على ما لم يؤتك اللّه طلبًا لحصول رزق من جهتهم، {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، [فاطر: 2].
قال شيخ الإسلام: اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر اللّه وما وعد اللّه أهل طاعته ويتضمن اليقين بقدر اللّه وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط اللّه لم تكن موقنًا لا بوعد اللّه ولا برزق اللّه، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم فيترك القيام فيهم بأمر اللّه لما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديقه بما وعد اللّه أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أرضيت اللّه نصرك ورزقك وكفاك مؤنتهم، وإرضاؤهم بما يسخطه إنما يكون خوفًا منهم، ورجاء لهم وذلك من ضعف اليقين، وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى اللّه لا لهم، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما يقدر، كان ذلك من ضعف يقينك فلا تخفهم ولا ترجهم، ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، ولكن من حمده اللّه ورسوله منهم فهو المحمود، ومن ذمه اللّه ورسوله فهو المذموم، ولما قال بعض وفد بني تميم: "أي محمد أعطني فإن حمدي زين وذمي شين"= قال صلى الله عليه وسلم: "ذاك اللّه"ت.
وفي الحديث أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال داخلة في الإيمان وإلا لم تكن هذه الثلاث من ضعفه وأضدادها من قوته.(5/140)
ص -425- ... [من التمس رضي الناس بسخط اللّه سخط اللّه عليه].
قال: وعن عائشة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "من التمس رضا اللّه بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط اللّه، سخط اللّه عليه، وأسخط عليه الناس"1. رواه ابن حبان في " صحيحه".
ش: هذا الحديث رواه ابن حبان بهذا اللفظ الذي ذكره المصنف، ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة. قال: "كتب معاوية إلى عائشة أن اكتبي لي كتابًا توصيني فيه، ولا تكثري علي، فكتبت عائشة إلى معاوية: سلام عليك أما بعد فإني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من التمس رضى اللّه بسخط الناس كفاه اللّه مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط اللّه وكَّلَه اللّه إلى الناس. والسلام عليك"رواه أبو نعيم وغيره.
قوله: "من التمس"، أي: طلب قال شيخ الإسلام: "وكتبت عائشة إلى معاوية وروي أنها رفعته من أرضى اللّه بسخط الناس كفاه اللّه مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط اللّه لم يغنوا عنه من اللّه شيئًا", هذا لفظ المرفوع ولفظ الموقوف: "من أرضى اللّه بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط اللّه عاد حامده من الناس له ذامًّا". هذا اللفظ المأثور عنها، وهذا من أعظم الفقه في الدين والمأثور أحق وأصدق، فإن من أرضى اللّه بسخطهم كان قد اتقاه. وكان عبده الصالح واللّه يتولى الصالحين وهو كافٍ عبده {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} 2. واللّه يكفيه مؤنة الناس بلا ريب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه فقد يحصل ذلك، لكن يرضون إذا سلموا من الإعراض، وإذا تبين لهم العاقبة، ومن أرضى الناس بسخط اللّه لم يغنوا عنه من اللّه شيئًا، كالظالم الذي يعض على يديه، وأما كون حامده ينقلب ذامًّا، فهذا يقع كفرًا ويحصل في العاقبة، فإن العاقبة للتقوى لا تحصل ابتداء(5/141)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الزهد (2414).
2 سورة آية الطّلاق : 2-3.(5/142)
ص -426- ... عند أهوائهم.
قلت: وإنما يحمل الإنسان على إرضاء الخلق بسخط الخالق هو الخوف منهم، فلو كان خوفه خالصًا للّه لما أرضاهم بسخطه، فإن العبيد فقراء عاجزون لا قدرة لهم على نفع ولا ضر البتة، وما بهم من نعمة فمن اللّه، فكيف يحسن بالموحد المخلص أن يؤثر رضاهم على رضاء رب العالمين الذي له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، ومنه الخير كله، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ}، [هود، من الآية: 123]، {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، [آل عمران، من الآية: 6]. وقد أخبر تعالى أن ذلك من صفات المنافقين في قوله: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} وما أحسن ما قيل:
إذا صح منك الود يا غاية المنى ... فكل الذي فوق التراب تراب
قال ابن رجب: فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب، فهو تراب، فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟! أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب؟! {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}، [صّ، من الآية: 5].
وفي الحديث عقوبة من خاف الناس وآثر رضاهم على رضي اللّه، وأن العقوبة قد تكون في الدين عياذًا باللّه من ذلك. فإن المصيبة في الأديان أعظم من المصيبة في الأموال والأبدان. وفيه شدة الخوف على عقوبات الذنوب، لا سيما في الدين، فإن كثيرًا من الناس يفعل المعاصي ويستهين ولا يرى أثرًا لعقوبتها، ولا يدري المسكين بماذا أُصيب فقد تكون عقوبته في قلبه كما قال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} . اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.(5/143)
ص -427- ... [27- باب قول اللّه تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ...}1
[التوكل قسمان]:
قال أبو السعادات: يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان، أي: ألجأته واعتمدت عليه فيه، ووكل فلان فلانًا: إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته، أو عجز عن القيام بأمر نفسه انتهى.
ومراد المصنف بهذه الترجمة النص على أن التوكل فريضة يجب إخلاصه للّه تعالى لأنه من أفضل العبادات، وأعلى مقامات التوحيد. بل لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين، كما تقدم في صفة السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، ولذلك أمر اللّه به في غير آية من القرآن أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة، بل جعله شرطًا في الإيمان والإسلام ومفهوم ذلك انتفاء الإيمان والإسلام عند انتفائه كما في الآية المترجم لها وقوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}2. وقوله تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}3. وقوله:{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً}4. وقوله:{أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً}5. وقوله:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً}6. وقوله:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}7. وغير ذلك من الآيات.
وفي الحديث: "مَنْ سَرَّهُ أن يكون أقوى الناس إيمانًا فليتوكل على اللّه" رواه ابن أبي الدنيا، وأبو يعلى والحاكم وفي حديث آخر "لو أنكم توكلون على اللّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانا" . رواه أحمد وابن ماجة. قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب. وقال أبو إسماعيل الأنصاري: التوكل كلة الأمر إلى مالكه(5/144)
والتعويل على وكالته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية: 23.
2 سورة يونس آية: 84.
3 سورة هود آية: 123.
4 سورة المزمل آية: 9.
5 سورة الإسراء آية: 2.
6 سورة الفرقان آية: 58.
7 سورة التوبة آية: 129.(5/145)
ص -428- ... إذا تبين ذلك فمعنى الآية المترجم لها أن موسى عليه السلام أمر قومه بدخول الأرض المقدسة التي كتبها اللّه لهم، ولا يرتدوا على أدبارهم خوفًا من الجبارين، بل يمضوا قدمًا لا يهابونهم ولا يخشونهم، متوكلين على اللّه في هزيمتهم، مصدقين بصحة وعده لهم إن كانوا مؤمنين.
قال ابن القيم: فجعل التوكل على اللّه شرطًا في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه. وفي الآية الأخرى:{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}1. فجعل دليل صحة الإسلام التوكل، وقال:{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}2؟ فذكر اسم الإيمان ههنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل، وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفًا، فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد. واللّه تبارك وتعالى يجمع بين التوكل والعبادة، وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والهداية. فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منْزلته منها كمنْزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقوماته إلا على ساق التوكل.
قلت: وفي الآية دليل على أن التوكل على اللّه عبادة، وعلى أنه فرض، وإذا كان كذلك فصرفه لغير اللّه شرك. قال شيخ الإسلام: وما رجا أحد مخلوقًا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه، فإنه مشرك:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}3.
قلت: لكن التوكل على غير اللّه قسمان:
أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا اللّه، كالذين يتوكلون على الأموات(5/146)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية: 84.
2 سورة آل عمران آية: 122.
3 سورة الحج آية: 31.(5/147)
ص -429- ... والطواغيت في رجاء مطالبهم من النصر والحفظ والرزق والشفاعة، فهذا شرك أكبر فإن هذه الأمور ونحوها لا يقدر عليها إلا اللّه تبارك وتعالى.
الثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة العادية، كمن يتوكل على أمير أو سلطان، فيما جعله اللّه بيده من الرزق أو دفع الأذى ونحو ذلك. فهذا نوع شرك خفي، والوكالة الجائزة هي توكل الإنسان في فعل مقدور عليه. ولكن ليس له أن يتوكل عليه وإن وكله، بل يتوكل على اللّه ويعتمد عليه في تيسير ما وكله فيه كما قرره شيخ الإسلام.
قال: وقوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...}1 الآية.
قال ابن عباس في الآية: المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر اللّه عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات اللّه، ولا يتوكلون على اللّه، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر اللّه أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
2. فأدوا فرائضه. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وهذه صفة المؤمن الذي إذا ذكر اللّه وجل قلبه، أي: خاف من اللّه ففعل أوامره، وترك زواجره، فإن وجل القلب من اللّه يستلزم القيام بفعل المأمور، وترك المحظور كما قال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}3. ولهذا قال السدي في قوله:{إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}4. هو الرجل يريد أن يظلم، أو قال: يهم بمعصية، فيقال له: اتق اللّه فيجل قلبه. رواه ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم.
وقوله:{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}5. قد استدل الصحابة والتابعون ومن تبعهم بهذه الآية وأمثالها على زيادة الإيمان(5/148)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال آية: 2.
2 سورة الأنفال آية: 2.
3 سورة النازعات آية: 41-40.
4 سورة الأنفال آية: 2.
5 سورة الأنفال آية: 2.(5/149)
ص -430- ... ونقصانه. قال عمر بن حبيب [الْخُطمي] الصحابي: إن الإيمان يزيد وينقص فقيل له: وما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا اللّه وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه. رواه ابن سعد. وقال مجاهد في هذه الآية: الإيمان يزيد وينقص، وهو قول وعمل، رواه ابن أبي حاتم، وحكى الإجماع على ذلك الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم.
وقوله:{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}1، أي: يعتمدون عليه بقلوبهم مفوضين إليه أمورهم وحده لا شريك له، فلا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يرغبون إلا إليه، يعلمون أن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له.
وفي الآية وصف المؤمنين حقًّا بثلاث مقامات من مقامات الإحسان وهي: الخوف، وزيادة الإيمان، والتوكل على اللّه وحده.
فإن قيل: إذا كان المؤمن حقًّا هو الذي فعل المأمور وترك المحظور فلماذا لم يذكر إلا خمسة أشياء؟.قيل: لأن ما ذكر مستلزم لما ترك، فإنه ذكر وجل قلوبهم إذا ذكر اللّه، وزيادة إيمانهم إذا تليت عليهم آياته، مع التوكل عليه، وأقام الصلاة على الوجه المأمور به باطنًا وظاهرًا، والإنفاق من المال والمنافع فكان مستلزمًا للباقي. فإن وجل القلب عند ذكر اللّه يقتضي خشيته والخوف منه، وذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور، وترك المحظور. وكذلك زيادة الإيمان عند تلاوة آيات اللّه يقتضي زيادته علمًا وعملاً، ثم لا بد من التوكل على اللّه فيما لا يقدر عليه إلا اللّه ومن طاعة اللّه فيما يقدر عليه. وأصل ذلك الصلاة، والزكاة، فمن قام بهذه الخمس كما أُمِرَ لزم أن يأتي بسائر الواجبات، بل الصلاة نفسها إذا فعلها كما أمر فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر ذكر ذلك شيخ الإسلام.
قال: وقوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية2.
قال ابن القيم: أي: اللّه وحده كافيك وكافي أتباعك، فلا(5/150)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال آية: 2.
2 سورة الأنفال آية: 64.(5/151)
ص -431- ... تحتاجون معه إلى أحد، وقيل: المعنى حسبك اللّه وحسبك المؤمنون. قال ابن القيم: وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه، فإن الحسب والكفاية للّه وحده كالتوكل والتقوى والعبادة. قال تعالى:{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}1. ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب فقال تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}2. ولم يقولوا: حسبنا اللّه ورسوله، فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب تعالى لهم بذلك فكيف يقول لرسوله: اللّه وأتباعك حسبك؟! وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب، ولم يشركوا بينه وبين رسوله، فكيف يشرك بينه وبينهم في حسب رسوله صلى الله عليه وسلم؟! هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل.
ونظير هذا قوله سبحانه:{وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}3. فتأمل كيف جعل الإيتاء للّه والرسول كما قال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}4.
وجعل الحسب له، فلم يقل: وقالوا حسبنا اللّه ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال:{إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}5. ولم يقل وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحده، كما قال:{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}6. فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب للّه وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى انتهى كلامه.
وبهذا يتبين مطابقة الآية للترجمة، لأن اللّه تعالى أخبر أنه حسب رسوله، وحسب أتباعه. أي: كافيهم وناصرهم،{فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}، [الحج: من الآية: 78]، وفي ضمن ذلك أمر لهم(5/152)
بإفراده تعالى بالحسب، استكفاء بكفايته تبارك وتعالى وذلك هو التوكل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال آية: 62.
2 سورة آل عمران آية: 173.
3 سورة التوبة آية: 59.
4 سورة الحشر آية: 7.
5 سورة التوبة آية: 59.
6 سورة الشرح آية: 8.(5/153)
ص -432- ... قال: وقوله:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}1 .
قال ابن القيم:"أي: كافيه، ومن كان اللّه كافيه وواقيه، فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش. وأما أن يضره بما يبلغ به مراده فلا يكون أبدًا، وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء، وهو في الحقيقة إحسان إليه، وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يشتفى به منه. قال بعض السلف: جعل اللّه لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته، فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}2. ولم يقل: فله كذا وكذا من الأجر، كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه، وحسبه، وواقيه، فلو توكل العبد على اللّه حق توكله، وكادته السموات والأرض ومن فيهن، لجعل له مخرجًا، وكفاه، ونصره، انتهى.
وفي أثر رواه أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه، قال اللّه عزّ وجل في بعض كتبه: "بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات ومن فيهن، والأرضون بمن فيهن، فإني أجعل له بذلك مخرجًا، ومن لم يعتصم بي، فإني أقطع يديه من أسباب السماء، وأخسف من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه، كفى بي لعبدي مآلاً، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني، فأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه" .
وفي الآية دليل على فضل التوكل، وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع، ودفع المضار، لأن اللّه علق الجملة الأخيرة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط، فيمتنع أن يكون وجود الشرط كعدمه، لأنه تعالى رتب الحكم على الوصف المناسب له، فعلم أن توكله هو سبب كون اللّه حسبًا له، ذكره شيخ الإسلام.
وفيها تنبيه على القيام بالأسباب مع التوكل، لأنه تبارك وتعالى ذكر التقوى، ثم ذكر التوكل، كما قال:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}3. فجعل التقوى الذي هو قيام(5/154)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الطلاق آية: 3.
2 سورة الطلاق آية: 3.
3 سورة المائدة آية: 11.(5/155)
ص -433- ... بالأسباب المأمور بها، فحينئذ إذا توكل على اللّه، فهو حسبه، فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض، وإن كان مشوبًا بنوع من التوكل، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزًا، ولا عجزه توكلاً، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها. ذكر معناه ابن القيم.
قال عن ابن عباس: قال:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}1 قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً}2 . رواه البخاري.
ش: قوله:{حَسْبُنَا اللَّهُ} أي: كافينا فلا نتوكل إلا عليه، كما قال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}3 أي كافيه. كما قال:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}4.
قوله:{وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي: نعم الموكل إليه المتوكل عليه; كما قال تبارك وتعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}5. فقد تضمنت هذه الكلمة العظيمة التوكل على اللّه والالتجاء إليه، قال ابن القيم: وهو حسب من توكل عليه، وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمن خوف الخائف، ويجير المستجير وهو نعم المولى، ونعم النصير، فمن تولاه، واستنصر به، وتوكل عليه، وانقطع بكليته إليه، تولاه، وحفظه وحرسه، وصانه، ومن خافه، واتقاه آمنه مما يخاف ويحذر، وجلب إليه كل ما يحتاج إليه من المنافع.
قوله: "قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار"، وفي رواية عن " ابن عباس: قال: كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار.{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}6 " . رواه البخاري، وقد ذكر اللّه القصة في سورة الأنبياء [51-73] عليهم السلام.(5/156)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 173.
2 سورة آل عمران آية: 173.
3 سورة الطلاق آية: 3.
4 سورة الزمر آية: 36.
5 سورة الحج آية: 78.
6 سورة آل عمران آية: 173.(5/157)
ص -434- ... قوله: "وقالها محمد صلى الله عليه وسلم..." إلى آخره، وذلك بعدما كان من أمر أحد ما كان. بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والزبير وسعد وطلحة وعبد الرحمن بن عوف، وحذيفة بن اليمان وعبد اللّه ابن مسعود، وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين راكبًا حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثلاثة أميال، ثم ألقى اللّه الرعب في قلب أبي سفيان، فرجع إلى مكة، ومر به ركب من عبد قيس فقال: أين تريدون؟ فقالوا: نرييد المدينة، قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدًا رسالة أرسلكم بها إليه؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنَّا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، فمر الركب برسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه، فقال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}1. والقصة مشهورة في السير والتفاسير.
ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة وأنها قول إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام في الشدائد، ولهذا جاء في الحديث: "إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل" . رواه ابن مردويه وأن القيام بالأسباب مع التوكل على اللّه لا يتنافيان، بل يجب على العبد القيام بهما، كما فعل الخليلان عليهما الصلاة والسلام، ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن عوف بن مالك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي اللّه ونعم الوكيل، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ردوا علي الرجل. قال: ما قلت؟ قال: قلت: حسبي اللّه ونعم الوكيل فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إن اللّه يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر، فقل: حسبي اللّه ونعم الوكيل" . وفي الآية دليل على أن الإيمان يزيد(5/158)
وينقص. قال مجاهد في قوله:{فَزَادَهُمْ إِيمَاناً}. قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 173.(5/159)
ص -435- ... الإيمان يزيد وينقص، وعلى أن ما يكرهه الإنسان قد يكون خيرًا له، وأن التوكل أعظم الأسباب في حصول الخير، ودفع الشر في الدنيا والآخرة.
[28- باب قول اللّه تعالى:{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}1]
المراد بهذه الترجمة التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف، ولذلك ذكر بعد هذه الآية قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}2. هذا هو مقام الأنبياء والصديقين كما قال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}3. فابتغاء الوسيلة إليه هو التقرب بحبه وطاعته، ثم ذكر الرجاء والخوف وهذه أركان الإيمان. وقال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}4. وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام:{وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}5. وقال عن شعيب:{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا}6. فوكلا الأمر إلى مالكه، وقال تعالى عن الملائكة عليهم السلام:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}7. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلمكم باللّه وأشدكم له خشية" 8. وكلما قوي إيمان العبد ويقينه قوي خوفه ورجاؤه مطلقًا. قال اللّه تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}9. وقال:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ(5/160)
وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} 10. وقالت عائشة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 99.
2 سورة الحجر آية: 56.
3 سورة الإسراء آية: 57.
4 سورة الأنبياء آية: 90.
5 سورة الأنعام آية: 80.
6 سورة الأعراف آية: 89.
7 سورة النحل آية: 50.
8 البخاري: الإيمان (20 ,43) والصوم (1970) والأدب (6101) , وأبو داود: الصلاة (1368) , وأحمد (6/122) , ومالك: الصيام (641).
9 سورة فاطر آية: 28.
10 سورة المؤمنون، آيات: 57-60.(5/161)
ص -436- ... يارسول اللّه هو الرجل يزني ويسرق ويخاف أن يعاقب؟ قال: "لا يا بنت الصديق هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه " . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.
قال ابن القيم: الخوف من أجلِّ منازل الطريق، وخوف الخاصة أعظم من خوف العامة، وهم إليه أحوج، وهم به أليق وله ألزم، فإن العبد إما أن يكون مستقيمًا أو مائلاً عن الاستقامة. فإن كان مائلاً عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله، ولا يصح الإيمان إلا بهذا الخوف، وهو ينشأ من ثلاثة أمور: أحدها: معرفته بالجناية وقبحها، والثاني: تصديق الوعيد وأن اللّه رتب على المعصية عقوبتها، الثالث: أنه لا يعلم أنه يمنع من التوبة، ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وسبب قوتها وضعفها يكون قوة الخوف، وضعفه هذا قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشد. وبالجملة فمن استقر في قلبه ذكر الدار الآخرة وجزائها، وذكر المعصية والتوعد عليها، وعدم الوقوف بإتيانه بالتوبة النصوح، هاج من قلبه من الخوف ما لا يملكه، ولا يفارق حتى ينجو وأما إن كان مستقيمًا مع اللّه، فخوفه يكون من جريان الأنفاس لعلمه بأن اللّه مقلب القلوب. وما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عزّ وجل فإن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت أكثر يمينه: "لا ومقلب القلوب" 1. ويكفي في هذا قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}2. فأي قرار لمن هذه حاله ومن أحق بالخوف منه، بل خوفه لازم له في كل حال، وإن توارى عنه بغلبة حال أخرى عليه، فالخوف حشو قلبه، ولكن توارى عنه بغلبة غيره، فوجود الشيء غير العلم به، فالخوف الأول ثمرة العلم بالوعد والوعيد، وهذا الخوف ثمرة العلم بقدرة اللّه عزّ وجل وعزته وجلاله، وأنه الفعال لما(5/162)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: القدر (6617) , والترمذي: النذور والأيمان (1540) , والنسائي: الأيمان والنذور (3761 ,3762) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3263) , وابن ماجه: الكفارات (2092) , وأحمد (2/25 ,2/68 ,2/127) , والدارمي: النذور والأيمان (2350).
2 سورة الأنفال آية: 24.(5/163)
ص -437- ... يريد، وأنه المحرك للقلب المصرف له كيف يشاء، لا إله إلا هو العزيز الحكيم انتهى. فهذا الخوف الثاني هو من خوف المكر.
إذا علمت هذا، فمعنى الآية المترجم لها أن اللّه تبارك وتعالى لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل، بين أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن من عذاب اللّه، وعدم الخوف منه، كما قال:{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ}1 ثم بين أن ذلك بسبب الجهل والغرة باللّه، فأمنوا مكره فيما ابتلاهم به من السراء والضراء، بأن يكون استدراجًا، فقال:{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}2. أي: الهالكون. فدل على وجوب الخوف من مكر اللّه. قال الحسن: من وسع عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له، ومن قتر عليه، فلم ير أنه ينظر له فلا رأي له. وقال قتادة: بغت القوم أمر اللّه، وما أخذ اللّه قومًا قط إلا عند سلوتهم وغرتهم ونعمتهم. فلا تغتروا باللّه إنه لا يغتر به إلا القوم الفاسقون.
رواهما ابن أبي حاتم. وفي الحديث: "إذا رأيت اللّه يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب; فإنما هو استدراج" 3. رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم. وقال إسماعيل بن رافع: من الأمن من مكر اللّه إقامة العبد على الذنب يتمنى على اللّه المغفرة. رواه ابن أبي حاتم.
قال: وقوله:{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ}4.
نبه المصنف رحمه اللّه بهذه الآية على الجمع بين الرجاء والخوف، فإذا خاف فلا يقنط من رحمة اللّه، بل يرجوها مع العمل الصالح. كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}5. فذكر سبحانه(5/164)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 97-98.
2 سورة الأعراف آية: 99.
3 أحمد (4/145).
4 سورة الحجر آية: 56.
5 سورة البقرة آية: 218.(5/165)
ص -438- ... أنهم يرجون رحمة اللّه مع الاجتهاد في الأعمال الصالحة فأما الرجاء مع الإصرار على المعاصي، فذاك من غرور الشيطان; إذا تبين ذلك، فقوله تعالى: ومن يقنط حكاية قول إبراهيم عليه السلام لما بشرته الملائكة بولده إسحاق عليه السلام، ف{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}1. استبعادًا لوقوع هذا في العادة مع كبر السن منه ومن زوجته {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي: الذي لا ريب فيه ولا مثنوية، بل هو أمر الذي{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}2. وإن بعد مثله في العادة التي أجراها فإن ذلك عليه يسير، إذا أراده، فلا تكن من القانطين، أي لا تيأس من رحمة اللّه، قال إبراهيم عليه السلام:{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ}3. فأجابهم بأنه ليس بقانط، ولكن يرجو من اللّه الولد، وإن كان قد كبر، وأسنت امرأته، فإنه يعلم من قدرة اللّه ورحمته ما هو أبلغ من ذلك. قال السدي: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ}4. قال: من ييأس من رحمة ربه. رواه ابن أبي حاتم {إِلاَّ الضَّالُّونَ} قال بعضهم: إلا المخطئون طريق الصواب، أو الكافرون، كقوله:{لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}5. وفي حديث مرفوع: "الفاجر الراجي لرحمة اللّه أقرب منها من العابد القانط" رواه الحكيم الترمذي والحاكم في "تاريخه".
قال: عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائرقال: "الشرك باللّه، واليأس من روح اللّه، والأمن من مكر اللّه" .
ش: هذا الحديث رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "كان متكئًا، فدخل عليه رجل، فقال: ما الكبائر؟ فقال: الشرك باللّه" 6. وذكر الحديث. ورجاله ثقات إلا شبيب بن بشر فقال ابن(5/166)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحجر آية: 54.
2 سورة يس آية: 82.
3 سورة الحجر آية: 56.
4 سورة الحجر آية: 56.
5 سورة يوسف آية: 87.
6 أحمد (6/304).(5/167)
ص -439- ... معين: ثقة، ولينه ابن أبي حاتم، ومثل هذا يكون حسنًا. وقال ابن كثير: في إسناده نظر، والأشبه أن يكون موقوفًا.
قوله: "الشرك باللّه هو أكبر الكبائر"، إذ مضمونه تنقيص رب العالمين وإلههم ومالكهم وخالقهم الذي لا إله إلا هو، وعدل غيره به، كما قال:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}1. فهو أظلم الظلم، وأقبح القبيح، ولهذا لا يغفر إن لم يتب منه، بخلاف غيره من الذنوب، ففي مشيئة اللّه إن شاء غفرها، وإن شاء عذب بها.
قوله: "واليأس من روح اللّه" أي: قطع الرجاء والأمل من اللّه فيما يرومه ويقصده قال تعالى:{وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}2. وذلك إساءة ظن بكرم اللّه ورحمته وجوده ومغفرته.
قوله: "والأمن من مكر اللّه" أي: من استدراجه للعبد أو سلبه ما أعطاه من الإيمان - نعوذ باللّه من غضبه - وذلك جهل باللّه وبقدرته، وثقة بالنفس وعجب بها.
واعلم أن هذا الحديث لم يرد فيه حصر الكبائر فيما ذكر، بل الكبائر كثيرة، لكن ذكر ما هو أكبرها، أو من أكبرها، ولهذا قال ابن عباس: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع، رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم. وفي رواية هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار.
قال: وعن ابن مسعود قال: "أكبر الكبائر: الإشراك باللّه، والأمن من مكر اللّه، والقنوط من رحمة اللّه، واليأس من روح اللّه" . رواه عبد الرزاق.
ش: هذا الأثر رواه ابن جرير بأسانيد صحاح عن ابن مسعود، قال ابن كثير: وهو صحيح إليه بلا شك، ورواه الطبراني أيضًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 1.
2 سورة يوسف آية: 87.(5/168)
ص -440- ... قوله: "أكبر الكبائر الإشراك باللّه" . أي: في ربوبيته أو عبادته وهذا بالإجماع.
قوله: "والقنوط من رحمة اللّه" . قال أبو السعادات: هو أشد اليأس من الشيء.
قلت: فعلى هذا يكون الفرق بينه وبين اليأس كالفرق بين الاستغاثة والدعاء، فيكون القنوط من اليأس، وظاهر القرآن أن اليأس أشد لأنه حكم لأهله بالكفر، ولأهل القنوط بالضلال.
وفيه: التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف، فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس، وكان السلف يستحبون أن يقوى في الصحة الخوف، وفي المرض الرجاء، هذه طريقة أبي سليمان وغيره، قال: وينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف فإذا كان الغالب عليه الرجاء فسد، فنسأل اللّه تعالى أن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة إنه على كل شيء قدير.
[29- باب من الإيمان باللّه الصبر على أقدار اللّه]
لما كان ببديع حكمته، ولطيف رحمته، قضى أن يبتلي النوع الإنساني بالأوامر والنواهي والمصائب التي قدرها عليهم، وأمرهم بالصبر على ذلك، وافترضه عليهم تسلية لهم وتقوية على ذلك، ووعدهم عليه الثواب بغير حساب كما قال:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}1. فعلى هذا يكون الصبر ثلاثة أنواع: صبر على المأمور، وصبر عن المحظور، وصبر على المقدور، ويشملها قوله تعالى:{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}2. وقوله تعالى:{الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}3. ولما كان الصبر لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 10.
2 سورة الرعد آية: 22.
3 سورة النحل آية: 42.(5/169)
ص -441- ... يحصل إلا باللّه كما قال:{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ}1. أرشد تبارك وتعالى إلى الجمع بينهما. وقال تعالى:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}2. قال الإمام أحمد: ذكر اللّه الصبر في تسعين موضعًا وقال النبي صلى الله عليه وسلم "والصبر ضياء" 3. رواه أحمد ومسلم.
وقال عليه السلام: "ما أُعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر" 4. رواه البخاري ومسلم. وفي حديث آخر "الصبر نصف الإيمان" 5. رواه أبو نعيم والبيهقي في الشعب. وقال عمر: "وجدنا خير عيشنا بالصبر" . رواه البخاري [معلّقاً قبل: 6470]. وقال علي بن أبي طالب: "ألا إن الصبر من الإيمان بمنْزلة الرأس من الجسد فإذا قطع الرأس بان الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا لا إيمان لمن لا صبر له" . والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة.
واشتقاقه من صبر: إذا حبس ومنع، فالصبر حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي والسخط، والجوارح عن لطم الخدود، وشق الجيوب ونحوهما ذكره ابن القيم.
قال: وقوله تعالى:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}6.
ش: أول الآية:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}7. أخبر تعالى أن ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في الأنفس إلا بإذن اللّه، أي: بقدره وأمره كما قال في الآية الأخرى:{إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}8. "قال ابن عباس في قوله: إلا بإذن اللّه: إلا بأمر اللّه" . يعني: من قدره ومشيئته ومن يؤمن باللّه يهد قلبه، أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء اللّه وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء اللّه جازاه اللّه تعالى بهداية قلبه التي هي أصل كل سعادة وخير في الدنيا والآخرة. وقد يخلف(5/170)