(68/64)
إنها بلادي أيها الرئيس
عبدالرحمن بن محمد بن علي الهرفي
الداعية بمركز الدعوة بالمنطقة الشرقية
ما زال الرئيس الأمريكي (كاوبوي أمريكا ) يركض وهو يحمل مسدسة ذا السبطانة الأسطوانية وهو يطلق الأعيرة النارية ذات اليمين وذات الشمال كما يحب أن يلهو ذكور تاكساس .
اختلف الكثيرون حول سبب تحرك الرئيس لحرب الإرهاب المزعوم وموقفه من جرائم اليهود على الشعب الفلسطيني الأعزل هل هو لمصلحة أمريكا أم لمصلحة الرئيس ؟
أما في تقديري فهو لمصحلة الرئيس بالدرجة الأولى ثم استجابة لتعاليم دينه ، فالرئيس الأمريكي أنجيلي متعصب بل صهيوني يحتفظ بمعتقداته لنفسه !! كما قال جيف ستانبرج في جريدة الوطن السعودية ( يوم الجمعة 29/1/1423هـ) فهو أنجيلي ممن ارتبط بمعهد دالاس اللاهوتي الذين هم أكثر تطرفاً من غالبية الإسرائيليين فيما يتعلق بالحق الإلهي لإسرائيل في مناطق "إسرائيل الكبرى" بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان.
هذا من الناحية الدينية أما من ناحية المصالح الشخصية فعلى الصعيد الفلسطيني نجد أن المستشار السياسي الأول لجورج بوش في البيت الأبيض (كارل روف) يحذر الرئيس من أن أية ملحوظة أو عمل يمكن تفسيرها على أنها معادية لإسرائيل قد تعجل في تمرد الإنجليلكيين (الذين كانوا وراء انتخابه) . ويخشى (روف) أن يخسر شقيق جورج بوش (جيب بوش) معركة إعادة انتخابه حاكماً لولاية (فلوريدا) وذلك نتيجة المال الصهيوني الفائض الذي سيتم ضخه في حملة منافسه من الحزب الديمقراطي, ونتيجة المقاطعة من قبل الإنجليكيين. إذا خسر (جيب بوش) في فلوريدا, يخشى مستشارو الرئيس بوش السياسيون أن آمال (جورج بوش) بإعادة انتخابه محكوم عليها بالفشل مسبقاً تقريباً. إذا دفع الحزب الديمقراطي بمرشح قوي فإن هناك احتمالاً قوياً بأن الانتخابات المقبلة للرئاسة سيتقرر مصيرها مرة أخرى في فلوريدا. وقد كان تدخل (جيب بوش) في إعادة العد لصناديق اقتراع فلوريدا هو السبب الذي أدى إلى انتخاب (جورج بوش).
إن الرئيس الأمريكي ـ بكل وقاحة واستهتار ـ يطلب من القادة العرب اعتبار العمليات الاستشهادية في فلسطين ـ التي يقوم بها شباب وشابات ـ عمليات قتل إرهابية ويتهم حكام مصر والسعودية والأردن بأنهم يساعدون الإرهاب في الشرق الأوسط لأنهم يتبرعون لأسر القتلى , وأن عليهم إيقاف هذه المساعدات الإرهابية ثم يقول بكل وقاحة : على الحكام العرب أن يكونوا مواطنين صالحين !!! .
أما من ناحية محاربة الإسلام (الإرهاب) فالسبب الديني هو الأول فالرئيس حدد منذ البداية أنها حرب دينية فقد توعد بوش بشن ما سماه حملة صليبية طويلة الأمد لتخليص العالم ممن وصفهم بفاعلي الشر، وهي حملة يقول مسؤولون إنها قد تشمل ستين دولة كما نقل لنا ذلك موقع BBC .
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنه صهيوني فلن نستغرب حرصه على قتل المسلمين بأي طريقة
كانت فقد قال تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) (المائدة:82) ونجد أن (مثلث الشر) الذي يحوي اليهود في إسرائيل من جهة والهندوس المشركين في الهند من جهة أخرى ورأسه الصهاينة الصيلبيون الأمريكان هو الذي يدير الحرب الحالية ضد المسلمين في أقطار المعمورة .
وأعمال اليهود المشينة ضد المسلمين كثيرة لا تعد ولا تحصى ، وقد بدأت منذ أول يوم وصل فيه النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ إلى المدينة المنورة فعن أم المؤمنين صفية بنت حيي ـ رضي الله عنها ـ قالت ( لم يكن أحد من ولد أبي و عمي أحب إليهما مني لم ألقها في ولد لهما أهش إليهما إلا أخذاني دونه ، فلما جاء النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ و آله وَسَلَّمَ ـ قباء غدا إليه أبي و عمي أبو ياسر فوالله ما جاآنا إلا مع مغيب الشمس ، فجاآنا فاترين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا ، فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما نظر إلى أحد منهما فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي : أهو هو ؟ قال : نعم والله . قال : تعرفه بنعته و صفته ؟ قال : نعم و الله . قال فما في نفسك منه أنت فاعل ؟ قال عداواته و الله ما بقيت . !! ) ، وما زالت مستمرة على أشدها وجنين خير شاهد .
أما المصحلة الخاصة فنعلم أن الذي انتخب بوش هم أصحاب شركات الطاقة ، ـ بينما انتخب آل جور أصحاب شركات الصناعات ـ وهم يردون ثمن الانتخابات والثمن هو أنابيب البترول التي يحلم الرئيس بتمديدها عبر أفغانستان وحتى البحر ، ومازالت أرض أفغان بكرا لم ينقب بها عن البترول ولا غيره من المعادن الثمينة . وكانت الشركات الأمريكية قد عرضت التنقيب عنها ولكن الملا محمد عمر رفض دخول مصاص الدماء الصليبي (الأمريكي) للأراضي الأفغانية ، فضلا على أن عائلة الرئيس تملك شركات طاقة أيضا ، وحتى يتأكد الرئيس من تجديد الانتخاب لابد أن يفجر لمنتخبيه آبار النفط .(68/65)
ولكن سماجة هذا ( الكاوبوي ) تجاوزت كل حد لما هدد الدول التي قد تهدد أمن أسرائيل بضربها بالنووي وحدد كلا من إيران وسوريا والعراق وليبا ، هذا هو التهديد العلني والتهديد الضمني يشمل الكل بلا استثناء .
لذا فإنه يتوجب على جميع طبقات المجتمع العربي والإسلامي العمل بجدية للتصدي لمثل هذا الحمق والصلف الأمريكي الذي تجاوز كل الحدود ، حتى قال وزير الخارجية الإماراتي : ( إن خطاب الرئيس الأمريكي تجاوز حدود اللياقة !! ) .
وأقسّم طبقات الأمة إلى ثلاث طبقات وهم : الحكام ومن كان في زمرتهم والشعب والعلماء ، أما الشعوب الإسلامية فهم أيتام على موائد اللئام من الصليبيين واليهود وحكامهم حيارى لا يدرون ماذا يصنعون ولا كيف يتصرفون .
والفجوة عظيمة جدا بين الشعوب والحكام فما الذي يمنع الحكام المسلمين جميعاً أو كل واحد منهم على حدة أن يتحدث مع شعبه ويوضح لهم أسباب اتخاذه لما يراه صالحاً من مواقف سياسية أو اقتصادية أو سواها ؟ فالذي لا يرى مصلحة في مقاطعة إسرائيل أو أمريكا ما الذي يمنعه من الحديث عن سر إصراره على هذه العلاقة ؟ والذي لا يتفق مع شعبه على مقاطعة أمريكا اقتصادياً لماذا لا يشرح لهم بالتفيصل عن محاسن العلاقة الاقتصادية مع أمريكا ومساوئ غيرها؟.
والذي لا يرى فتح الحدود مع العدو للراغبين في الجهاد لماذا لا يشرح لأمته مخاطر هذا العمل إن كان يرى فيه خطورة على بلاده وشعبه؟.
الصمت وحده لا يكفي بل أعتقد أنه يوسع الهوة ويباعد بين الأطراف… إن من مصلحة الأمة العربية والإسلامية أن تكون يدا واحدة شعوبا وحكومات ، وإن من مصلحة الحاكم العربي والمسلم أن يقترب كثيراً من شعبه كما أن من مصلحة الشعب - كل الشعب - أن يقترب من حكامه ولا يمكن أن يتحقق هذا كله في ظل عدم فهم الواحد منهما للآخر وابتعاده عنه فهل يمكن أن نرى قريبا ما يقرب الأفهام والقلوب ؟. وهذا جزء مما قاله والدي الأستاذ الدكتور محمد الهرفي ـ وفقه الله ورعاه ـ في مقالة بعنوان (الفجوة بين الحكام والشعوب... من يسدها؟) جريدة الوطن (10/2/1423هـ) .
وواجب الشعوب الإسلامية بذل كل ما يستطعون كل بحسبه سواء من زيارة الحكام وجميع المسؤلين ونصحهم وبيان خطر هذا السكوت الذي مرغ وجوهنا في الوحل بل أكثر من ذلك ، وأرسال برقيات وخطابات المناصحة لعل أن يكون لها أثر إن تجاوزت الملايين .
ولا أرى للمظاهرات كثير نفع فهي كقولهم أسمع جعجعة ولا أرى طحنا ، فكل من تظاهر يظن نفسه قد قدم شيئا وهو في الحقيقة لم يفعل سوى الصراخ وحرق الأعلام ونفس عن نفسه فقط ، وفي الدول المتحضرة ـ كما يقال ـ تقوم الدولة بتحريك المظاهرات لامتصاص غضب الشعب والتنفيس عنهم ، وفي العالم الثالث المتخلف ـ كما يقال أيضا ـ تضرب المضاهرات بكل طريقة ، وقد تختلف النظرة في المضاهرات حسب الدولة التي تقام فيها وملابسات الأحداث ، وقد يراها البعض وسيلة لإنكار منكر أو أمر بمعروف . وقد يرى البعض الآخر مصلحة بالإضرابات الشاملة وعلى جميع الأصعدة سواء في الأعمال أو المدارس وغيرها .
ولكن لابد أن يتنبه أننا لا نسع لتحقيق مكسب مضنون ونضيع مكسبا ـ دينيا ـ متحققا ظاهرا ، وقد يكون بعض أهل الخير جسرا للعلمانيين من حيث لا يشعرون .(68/66)
أما العلماء فواجبهم كبير جدا فالله قد أتم عليهم نعمته بالعلم وأوجب عليهم البيان والصدع بالحق ، وويل لمن كتم منهم وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى فقد توعدهم الله بذلك ، وأما من خاف مقام ربه وبين للأمة الحق فإن الجنة هي المأوى بإذن الله تعالى ، هذا واجب على علماء الشريعة مهما كان منصب العالم ومهما كانت مكانته ، يجب عليه الرد على أعداء الإسلام وبيان دين الله وإنكار المنكرات وإصلاح الفساد والدفاع عن الشريعة وأحكامها وأن يكون هذا همهم ، ولا يحل لهم ترك شيئا من ذلك محابة لفلان أو إرضاء لفلان بل يكون هدفهم رضا الله سبحانه ورضى المسلمين لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ : " من التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ومن التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرض عليه الناس " فحِمْلُ العلماء ثقيل والأمانة التي حملوها عظيمة ولا ينظروا إلى حاكم ولا كبير ولا صغير ولا عامة ولا خاصة بل يصدعوا بالحق رغم كل كاره له ، أما إذا تقاعسوا وتركوا ما أوجبه الله عليهم فهم خاسرون ، وينبغي للعلماء أن تكون مواقفهم مع الله فلا يبالوا بأحد سواه ، كما يجب عليهم بذل النصح لولاة الامور ، فالله منّ عليهم بعلم وتفضل عليهم به وجعلهم من حملته فعليهم أن يؤدوا واجبه ويقوموا بما فرض الله عليهم فيه ، وقد أخذ الله ميثاق العلماء فقال : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران:187) وقد وصف ابن القيم ـ رحمه الله ـ حال بعض العلماء فقال : ( وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس ، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق ، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين .
وخيارهم المتحزن المتلمظ ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد ، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه ، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم ؛ قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون وهو موت القلوب ، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل )
فمن نبذ دينه خلفه فقد فرط في الدنيا والآخرة ، ومن بيّن فقد باع نفسه لله تعالى فبخ بخ وقد ربح البيع والفردوس هي الموعد .
===============(68/67)
(68/68)
من منا ينطبق عليه الوصف الشيطاني ؟!
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أكاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام
للبابا "بنديكت السادس عشر" أقول هذا نموذج بسيط للصورة التي نقلها تاريخكم عن تحرك أجدادكم بدوافع دينية صليبية، صورة لا أفهم كيف تجاهلتموها في محاضرتكم تلك
كنت أسابق الساعات لأجلس أمام الحاسوب لعلي أتمكن من تدوين سعادتي بما سمعته مؤخرا على لسان أحد القائمين على الأمر في البلاد، إلا أن ذلك بدا لي محالاً مع وصول رسالة جوال ألقت علي خبراً كان كالصاعقة، فقد نقلت ما كان من رأس الفاتيكان والقائم عليها "البابا بنديكت السادس عشر" الذي قام - هو نفسه- بتطاول سافر على ديننا وعلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فعل ذلك من خلال محاضرة له ألقاها أمام حشد من الأكاديميين في جنوب ألمانيا، كان يفترض منه وحسب ما هو مقرر ألا يخرج عن مضمون المحاضرة المحدد بعنوان (الإيمان والمنطق) إلا أنه اختار نقل قول لإمبراطور بيزنطي وجهه لرجل فارسي جاء فيه: (أرني ماذا قدم محمد من جديد، وسوف لن تجد إلا أموراً شيطانية وغير إنسانية، مثل التي دعا إليها بنشر الإسلام عن طريق السيف)! وهذا جزء مما ناله ديننا الإسلامي على لسانه في تلك المحاضرة.
إلا أن علاقة الكنيسة التاريخية مع الإسلام كانت دائما علاقة يشوبها الظلم والتعسف من الطرف المسيحي بطبيعة الحال، وما الحروب الصليبية عن التاريخ الإنساني ببعيد، ولا القدس المدينة المقدسة التي نهبت عن بكرة أبيها على أيدي جيوشكم تلك محل جدال، الجيوش التي ما كانت لتتحرك إلا والصليب قد علق على رؤوس جنودها، وما كانت لتقبل بجنود لا يرتدون ثياباً طرزت الصلبان بلون أحمر على أكتافها وصدورها، كان عليهم أن يتذكروا دوما أن أساس تحركهم ودوافعهم دينية صليبية.
فلنر معا وعلى لسان مؤرخين غربيين ما كان من جنودكم الصليبيين عند دخولهم القدس، لندع التاريخ الصليبي يرد على بابا الفاتيكان، الذي يظهر أنه قليل الاطلاع على تاريخ سطر حروفه الدموية رجال سفكوا باسم الصليب ودمروا باسمه وأجرموا باسمه، بل وتراقصوا على جثث ودماء الشهداء والقتلى باسمه، وهاهم اليوم يتطاولون على ديننا وعلى رسولنا المبعوث رحمة للعالمين باسمه، وأحمد المولى سبحانه أنهم فعلوا ذلك باسم الصليب لا باسم نبي الله عيسى عليه السلام.
وللبابا دون غيره أنقل وصفاً لذلك اليوم الذي غرقت فيه طرقات القدس على يد الصليبين بدماء أهلها من مسلمين ويهود ونصارى، وصفاً نقله لنا كتاب لا يمتون للإسلام بصله ـ كتاب شرفاء تحروا الحقيقة في أقلامهم، ودونوها بتجرد كامل، إليك أيها البابا ما جاء به (ستيفن رنسيمان) في كتابه "تاريخ الحروب الصليبية" عما حدث في القدس يوم أن دخلها هؤلاء، فقد قال: (وفي الصباح الباكر من اليوم التالي اقتحم باب المسجد ثلة من الصليبيين، فأجهزت على جميع اللاجئين إليه، وحينما توجه قائد القوة (ريموند أجيل) في الضحى لزيارة ساحة المعبد أخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبتيه، لقد تركت مذبحة بيت المقدس أثرا عميقا في جميع العالم، ومع أنه ليس معروفا بالضبط عدد ضحاياها، غير أنها أدت إلى خلو المدينة من سكانها المسلمين واليهود؛ بل إن كثيراً من المسيحيين اشتد جزعهم لما حدث).
أما "غوستاف لوبون" فقد أكد تلك المجزرة، في كتابه "الحضارة العربية" نقلا عن روايات رهبان ومؤرخين، ممن رافقوا الحملة الصليبية على القدس، فكان من هؤلاء الراهب "روبرت" الذي استحسن سلوك قومه ووصف ذلك بقوله: (كان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل، كانوا كاللبؤات التي خطفت صغارها! كانوا يذبحون الأولاد والشباب ويقطعونهم إربا إربا، كانوا يشنقون أناسا كثيرين بحبل واحد بغية السرعة، وكان قومنا يقبضون على كل شيء يجدونه فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعا ذهبية! فيا للشره وحب الذهب، وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث)، كما نقل عن كاهن أبوس (ريموند داجميل) الذي تباهى بدوره بما قام به قومه بقوله: (حدث ما هو عجيب بين العرب عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها، فقد قطعت رؤوس بعضهم، فكان هذا أقل ما يمكن أن يصيبهم، وبقرت بطون بعضهم؛ فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار، وحرق بعضهم في النار؛ فكان ذلك بعد عذاب طويل، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا... لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهناك، وكانت الأيدي المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها. ولم يكتف الفرسان الصليبيون الأتقياء بذلك، إذ عقدوا مؤتمرا أجمعوا فيه على إبادة جميع سكان القدس من المسلمين واليهود وخوارج النصارى - الذين كان عددهم ستين ألفا - فأفنوهم عن بكرة أبيهم في ثمانية أيام، و لم يستبقوا منهم امرأة ولا ولدا ولا شيخا).(68/69)
وقد وصف كثير من المؤرخين أحداث المذبحة التي حدثت في القدس يوم دخول الصليبيين إليها، و كيف أنهم كانوا يتباهون لأن ركب خيولهم كانت تخوض في دماء المسلمين التي سالت في الشوارع، وكيف أنهم كانوا يرفهون عن أنفسهم بشيِّ أطفال المسلمين كما تشوى النعاج.
وللبابا "بنديكت السادس عشر" أقول هذا نموذج بسيط للصورة التي نقلها تاريخكم عن تحرك أجدادكم بدوافع دينية صليبية، صورة لا أفهم كيف تجاهلتموها في محاضرتكم تلك، ولا أدري كيف جاز لكم نكران فضل الخليفة عمر بن الخطاب والقائد صلاح الدين وأمثالهما من المسلمين الفاتحين - رضي الله عنهم أجمعين - على الإنسانية جمعاء، كيف جاز لك نسيان سموهم وعلو همتهم، وقدرتهم على العفو والإحسان وهم أعزاء منتصرون، وأنتم مهزومون أذلة؟!
ألم يصف مؤرخوكم ما حدث في اليوم الذي دخل فيه صلاح الدين الأيوبي رحمه الله إلى القدس فاتحا؟! ألم يؤكد هؤلاء المؤرخون أنه لم ينتقم أو يقتل أو يذبح؟! ألم يؤكدوا أن المسلمين الظافرين اشتهروا بالاستقامة والإنسانية؟! فلم يتعرض أحد من المسلمين لنهب دار من دور بيت المقدس؟! ألم ينقلوا لنا حال الأمن والأمان الذي حلا على القدس وأهلها ساعة دخول صلاح الدين إليها؟! ألم يأمر جنوده بمنع كل اعتداء يحتمل وقوعه على المسيحيين من سكان القدس؟! ألم يستجب لطلب الملك العادل الذي تأثر لمنظر الأسرى فطلب إطلاق سراح ألف أسير، فوهبهم له، فأطلق العادل سراحهم على الفور؟! ألم يعلن صلاح الدين أنه سوف يطلق سراح كل شيخ وكل امرأة عجوز؟! ألم يستجب لرجاء النساء النصرانيات وأطلق سراح أزواجهن؟! ألم يبذل العطايا للأرامل واليتامى من قومكم؟!.
ثم كيف تجاهلت وأنت رب الكنيسة الكاثوليكية ما فعل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أجدادكم عندما فتح القدس؟! ألم يعط الأمن والأمان لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم؟! ألم يعاهدهم على ألا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا يكرهون على دينهم؟! ألم ينعموا بذلك كله تحت الحكم الإسلامي؟!
إن هذا هو ما قدمه محمد عليه الصلاة والسلام للإنسانية، وذاك ما قدمتموه على مر تاريخكم القديم وحتى الحديث منه، ثم ألم تطلع على كتاب (العصور الوسطى الباكرة) والذي قال فيه صاحبه "نورمان ف. كانتور": (منذ زمن بعيد تم دحض وتفنيد الأسطورة التي تزعم بأن العرب - المسلمين - اندفعوا بالسيف في يد والقرآن في اليد الأخرى يخيرون شعوب البحر المتوسط بين اعتناق الإسلام أو الموت، فالحقيقة أن المسلمين تسامحوا مع من قهرهم من المسيحيين واليهود... وهكذا لم يحاول المسلمون إجبار رعاياهم على اعتناق الإسلام).. بالله عليك من منا ينطبق عليه الوصف الشيطاني؟!.
================(68/70)
(68/71)
إنصراف القلوب عما يجري في فلسطين من الخطوب
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد …
فلسطين .. أرض الأنبياء ، مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم . حاصرها كبار الصحابة ، وفتحها صاحب البغلة الهزيلة والثياب المرقّعة المعفّرة بالطين والتراب: أمير المؤمنين عمر بن الخطاب .. كانت كالعروس قروناً من الزمان يزينها خلفاء المسلمين بأبهى الحُلل ، ويقصدها وجهاء المسلمين وعوامهم تعظيماً لبيتها وتشريفا دون كلل ، حتى سلبها النصارى من أيدي المسلمين في زمنِ الإنحطاط وانتكاس راية الجهاد فنحروا على أعتاب أقصاها 70 ألف نفسٍ مسلمة ، وما توقفوا إلا لتعبهم من القتل .. بقيت سجينة حزينة مأسورة بيد الصليبيين قرابة الـ 90 سنة حتى ضج المسجد الأقصى فأرسل برسالة من وراء القضبان لقائد المسلمين ومُحطّم الصُّلبان ، مفادها:
يا أيها الملك الذي .... لمعالم الصلبان نكَّسْ
لقد أتتكَ ظِلامةٌ .... تسعى من البيت المقدَّسْ
كلٌ المساجد طُهِّرت .... وأنا على شَرفي منجَّسْ
فما رُؤي بعدها السلطان "صلاح الدين" مبتسماً حتى حرر المسجد الأقصى ، وعادت فلسطين حاضرة من حواضر المسلمين.
أراد اليهود مساومة خليفة المسلمين العثماني "عبد الحميد" (وليس السلطان كما يزعمون) على تراب فلسطين فكان له - رحمه الله - موقف سجله التاريخ بمداد من نور .. عم بعده الإنحلال من ربقة الدين ، وارتفعت شعارات الجاهلية والكفر المبين ، وخسر العرب دينهم ثم دنياهم ، فسقطت فلسطين مرة أُخرى في أيدي الصليبيين ، وبمؤامرة دنيئة خسيسة (من قبل حكام مصر وسوريا والأردن والعراق وغيرهم) سُلِّمت فلسطين لليهود على طبق نضح بدماء أهلها ، وجعل المتآمرون "وعد بلفور" شمّاعة تعلَّق عليها خياناتهم. [وقد كتبت في هذا مقالة بعنوان "يا أهل العراق: هكذا سقطت فلسطين" ]
أكثر من 50 سنة واليهود يقتلون ويعذّبون ويشرّدون أبناء الأرض المباركة ، والمسلمون منصرفون بقلوبهم وعقولهم عن قضيتهم الأولى وكأن الذي يحدث في فلسطين ضرب من القصص والخيال الذي لا وجود له في الواقع المحسوس.
لماذا لا يتأثر المسلمون بما يحصل في فلسطين وهم يرون كل يوم على شاشات التلفاز وصفحات الجرائد والمجلات صور القتلى والجرحى من النساء والأطفال والشيوخ !! بيوت تُهدّم ، ومزارع تُحرق ، وأقصى يُدنّس ، والمسلمون لاهون عن أولى القبلتين وثالث المسجدين (وليس ثالث الحرمين ، لأن المسجد الأقصى ليس بحرم كما قرر العلماء) !!
بعد البحث والنظر ، والسؤال والاستقراء ، خرجت بمجموعة من الأسباب التي قد تُعيننا على فهم واقع المسلمين السلبي تجاه أهم قضيّة من قضاياهم المصيرية ، هذا الواقع الأليم الذي قُتل فيه الإحساس ، وغابت عنه النخوة ، ووؤدت فيه المروءة .. ثم ثنيته بما رأيت أنه يصلح أن يكون باعثاً للقضية وموقضاً للقلوب الأبيّة.
من أهم أسباب انصراف قلوب المسلمين عما يجري في فلسطين:
1- تكرار المشهد: حيث يألف الإنسان مشاهد الدماء والأشلاء ، ويعتاد سماع الأخبار عن القتلى والجرحى فتكتسب نفسه مناعة ضد التأثر بالأحداث التي تمر عليه مرور من سئمها فتحصل عنده رتابة نفسية يتبلّد على إثرها حسه ويموت إحساسه.
2- إنشغال المسلمين بطعامهم وشرابهم وشهواتهم عن قضاياهم المصيرية ، بل عن دينهم ، وهذا مما حذر منه صلى الله عليه وسلم حين قال: "إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بالدِّينَار والدِّرْهَم، وَتَبَايَعُوا بالعِينَةِ، واتَّبَعُوا أذْنَابَ البَقَرِ، وَترَكُوا الجِهَادَ في سَبِيلِ الله، أنْزَلَ الله بِهِمْ بَلاَءً، فلم يَرْفَعْهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينهُم" (أبو داود \ حسن) .. إن الله لم يجعل في جوف امرئ قلبين ، فمن انشغل بدنياه ولم يكن همه الإسلام ورفع رايته فإن قلبه لا يحترق ولا يتأثر لما يحصل لإخوانه في العقيدة ، وهذا شأن أكثر عوام المسلمين اليوم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
3- ضعف الإيمان في قلوب المسلمين ، وبالتالي ضعف الرابطة الأخوية بينهم .. إن علاقة الإسلام بالإيمان علاقة العام بالخاص: فكل مؤمن مسلم ، وليس كل مسلم مؤمن ، وأغلب التكاليف العملية الشاقة في القرآن يخاطب بها المؤمن وليس المسلم (كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) .. إن رابطة الإيمان أقوى من أية رابطة في الأرض ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى" (متفق عليه). فإذا غاب الإيمان تقطعت الأعضاء وانفرط عقد الجسد ، وهذا من أعظم أسباب انصراف قلوب المسلمين عن قضاياهم .. فالله المستعان.(68/72)
4- تَعْمد الأجهزة الحكومية في البلدان العربية إلى عقد اللقاءات وإقامة المهرجانات باسم فلسطين ، فتكون فيها من ألوان المنكرات كالرقص والأغاني والاختلاط ، وترتفع فيها الشعارات الجاهلية والرايات الكفرية مما يصرف أصحاب القلوب الحية عن التفكير في القضية .. كما تقوم الحكومات العربية برفع بعض الشعارات الجوفاء وإطلاق بعض الكلمات الرنّانة التي وظيفتها تخدير القلوب وقتل الهمم وزرع الخمول في الأجساد ، فيشتغل الناس بها عن العمل الجاد المثمر .
5- تسليم أمر القضية إلى سمسار من سماسرة الدماء والأشلاء ليُتاجر بها باسم المسلمين .. لقد أُتي بعرفات بعد أن ارتفعت راية الجهاد في فلسطين (وليس الإنتفاضة كما يزعمون) ليعمل على القضاء على الجهاد والمجاهدين ، ولكي يضمن يهود عدم تمكن راية إسلامية إرهابية في فلسطين " لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ " (الحشر : 13) ، فكان قرار الإعتراف بهذا السمسار الخبيث من قبل يهود طعنة في قلوب المسلمين في الأرض المباركة لأنهم إن قاتلوه انشغلوا به عن يهود ، وإن هادنوه أو أطاعوه أشغلهم بأنفسهم وتسلّط عليهم يهود !! لقد أبغض الناس هذا السمسار حتى اختلط في القلوب مع بغض شخصه نوع من الإنصراف اللاإرادي عن القضية الإسلامية الكبرى ، نسأل الله أن يرينا فيه عجائب قدرته ..
6- إنصراف فلسطينيي المهجر في البلاد العربية وغيرها عن قضية بلادهم أعطى انطباعاً سلبياً لكثير من الناس مفاده ، أنه: إذا انصرف أصحاب الحق عن الإشتغال بقضيتهم فلماذا ينشغل بها غيرهم !! وهذا من جهل عوام الناس بالقضية التي هي إسلامية عقدية وليست فلسطينية أو عربية .
7- دفن أوراق القضية في مقبرة المنظمات الدولية التي يتحكم فيها النصارى والصهيونية .. هذه المنظمات الكفرية لم ولن تحل أي مشكلة إسلامية ، وهي إنما وُضعت لقهر الشعوب الغير "نصراصهيونية" بأقل الخسائر ، وكل قضية إسلامية عُرضت في هذه المنظمات كان مصيرها الخراب (كما حصل للقضية الأفغانية الأولى في مؤتمر "جنيف" الذي أعد بنوده يهودي خبيث) .. وللأسف: لا زال هناك من المسلمين من يُعلّق آمالاً على هذه المنظمات التدميرية التخريبية ، فينتظر القرارات ويصدّق ما يُرفع من الشعارات فتضيع القضية وسط هذا الكم الهائل من الترهات !! نسأل الله للمسلمين الهداية ..
8- قامت الأجهزة الإعلامية الرسمية في البلاد العربية بصرف قلوب المسلمين عن هذه القضية بطريقة خبيثة شيطانية ، حيث تعمد إلى عقد لقاءات مع أناس لا خلاق لهم ولا دين عُرفوا بفسقهم وفجورهم ليُبدوا رأيهم في قضايا المسلمين (راقصات ، مغنيات ، ممثلات وممثلين ..) ، وهذا يخلق نوع من النفرة الباطنية في قلوب المسلمين الصادقين الذين ترتبط صورة الأقصى وخريطة فلسطين - لا شعورياً - في قلوبهم بهؤلاء الماجنين .. هذا في الوقت الذي لا تسمح فيه الدول العربية للعلماء والخطباء بالخوض الصريح في هذه القضية إلا بما تُملي عليهم كي لا تنهض القوب وتتدفق الدماء في العروق.
9- أصبحت قضية المسلمين كرة يتقاذفها ساسة الكفار من فوق رؤوس المسلمين حتى أصابها الدوران .. فمرة تُعلن أمريكا استنكارها لأعمال يهود فيتدافع المغفلون إلى عتبات البيت الأبيض طمعاً في رقة قلوب الكافرين !! ثم تعلن أمريكا أنها مع يهود في الوقت الذي تُعلن فيه فرنسا شجبها لما يحدث في فلسطين ليكسر المغفلون رتاد باب مجلس النواب الفرنسي طمعاً في وقوفهم بجانب المسلمين !! ومرة روسيا ، ومرة بريطانيا ، ومرة ، ومرة .. !! ولقد لُدغ العرب بهذه الحيلة آلاف المرّات ، ولو أنهم آمنوا بربهم لما لُدغوا أكثر من مرّة "لا يُلْدغ المؤمن من جُحْر مرَّتين" (متفق عليه)
أما كيفية إحياء القضية ، فأرى أنه لا بد من :
1- إعادة بعث المفاهيم العقدية من مصادرها الأصلية: كالولاء والبراء ، والحب والبغض في الله ، والجهاد في سبيل الله ، ومفهوم وحدة الأمة ، وحقيقة وعد الله ناصري دينه بالنصر والتمكين.
2- تصعيد العمليات الجهادية ضد الكفار والإثخان في قتلهم ، وهذا من شأنه أن يبعث الأمل في قلوب المسلمين ، ويُبقي القضية حية في الإعلام وبين الناس.
3- تربية الأبناء تربية إيمانية أصولية بعيدة عن فلسفات التيارات التمييعية التي تحاول التقرب إلى الكفار بقتل الثوابت الشرعية باسم الوسطية والتقدمية والعقلانية والحداثية وكل "إيّة" ليست إسلامية !!
4- دخول غير الفلسطينيين إلى داخل فلسطين للجهاد والإعلان عن ذلك يعطي القضية بعداً آخر في نفوس المسلمين ، ويا حبذا لو كانوا من غير العرب .
5- تميز الراية الإسلامية عن الرايات الكفرية الموسومة بالقومية والديمقراطية وما إلى ذلك ، وبهذا تتضح الصورة ويعرف المسلمون أين يجعلوا ولائهم .. وهناك اليوم "حماس" و "الجهاد الإسلامي" نسأل الله أن ينصرهم على أعداء الأمة ويمكن لهم ..(68/73)
6- جمع الأموال والعتاد للمجاهدين في فلسطين (سراً ، أو علناً إن أمكن) ، فلا يجب على المسلمين ترك إخوانهم يواجهون الكفر اليهودي - الصليبي العالمي بمفردهم ، وهذا يؤدي إلى استمرارية التفاعل مع القضية ، وهو بحد ذاته جهاد إن خلُصت النية .
7- يجب على الفلسطينيين في كل مكان (المسلمين منهم .. ولا شأن لنا بغيرهم) أن يدركوا بأن أنظار المسلمين ترمقهم ، وأنهم مخاطبون بهذا قبل غيرهم لأن عوام الناس يتأثرون بموقفهم ، فعليهم أن يتقوا الله ويُدركوا تبعات تصرفاتهم وانشغالهم عن مسرى رسولهم.
8- يجب أن يدرك المسلمون بأن آخر ما يفكر فيه الحكام هو التحرك من أجل فلسطين ، وأذكركم بالمكالمة الهاتفية التي التقطها وبثها "صدام حسين" عبر الإذاعات ، والتي كانت بين حاكمين من حكام الخليج - إبان حرب الخليج الثانية - حينما قال أحدهما للآخر "وِش لِنا حِنَّا بفلسطين" (ما لنا نحن ولفلسطين) !! .. فالقضية في نظرهم انتهت منذ أن سلّموها (وآبائهم) لليهود ، فعلينا أن لا نركض خلف فتات الشعارات وأصداء الكلمات التي مغزاها إشغال القلوب الحية عن القضية ..
9- لا بد للعلماء الربّانيين أن يحطموا ذل القيود التي كممت أفواههم ، ويجاهدوا في سبيل الله بأعظم الجهاد ، فهم قادة الأمة ومحرّكيها ، والأمور من غيرهم فوضى ، فلا راية شرعية تُرفع ، ولا منهج قويم يُتَّبع .. "لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم" ..
10- يجب أن يعتقد المسلمون اعتقادا لا يزاوله شك بأن فلسطين لا تتحرر بالإتفاقيات ، ولا بالسياسات ، ولا بالمحافل الكفرية (الدولية) ، إنما يحرر فلسطين (كل فلسطين) أهل الإيمان والجهاد (الذي هو القتال) ، وليس غيرهم (إلا أن يقضي الله أمراً من عنده) ، وهذه الحقيقة يجب أن تكون محفورة في أذهاننا ، وأن لا تغيب عنا طرفة عين ..
11- وقبل هذا وذاك: لا بد من الرجوع إلى الله والتوكل عليه والعمل بإخلاص على نُصرة دينه ، فلا نصر ولا تمكين ولا بقاء بغير توفيق ومدد من الله سبحانه وتعالى .
وبعد:
فإن فلسطين أمانة في أعناق مسلمي الصين وأمريكا والبرازيل وأستراليا والجزيرة وكل من يشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ، يُسألون عنها يوم القيامة .. الجهاد في فلسطين لم يصبح فرض عين بعد الـ "48" ، بل كان فرض عين منذ احتلت بريطانيا النصرانية الأرض المباركة ، ولكن المنافقين من الحكام وأذنابهم الذين باعوا مسرى نبينا بثمن بخس غسلوا أدمغة المسلمين وحاولوا إخفاء الحقائق الشرعية والتاريخية التي تعريهم وتكشف سوْأتهم طمعاً في بركات أسيادهم الصليبيين ، وأبى الله إلا أن يظهر هذه الحقائق ويكشف خبث طويتهم ويفضحهم على رؤوس الخلائق ..
اللهم ارفع علم الجهاد ، وادحر أهل الكفر العناد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ، اللهم صب عليهم سوط عذاب ، وكن لهم بالمرصاد .. اللهم عذبهم عذاباً لا يُعذّبَه أحد ، وأوثقهم بوثاق لا يوثِقه غيرك أحد ، يا جبار السموات والأرض ، يا ذا القوة المتين ..
كتبه
حسين بن محمود
12 ذو القعدة 1423 هـ
شبكة الفجر الإسلامية
===============(68/74)
(68/75)
الموقف من العدوان على الفلوجة
نص السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم فضيلة الشيخ الدكتور رياض بن محمد المسيميري حفظه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد ،، لعله بلغكم ما يحصل هذه الأيام في الفلوجة من جراء العدوان الأمريكي نود أن تبينوا لنا ما واجب المسلمين تجاههم ؟ وتجاه هذا العدوان ؟
أجاب عنها / الدكتور / رياض بن محمد المسيميري
نص الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
فأقول حامداً لربي، ومثنياً عليه الخير كله، ومصلياً ومسلماً على نبينا محمد وآله وصحبه, ومن سار على نهجه, واقتفى أثره إلى يوم الدين.
فلا ريب أنَّ الحرب القائمة ضد الأمة المسلمة في العراق, وفي مدينة الفلوجة على وجه الخصوص, هي جزءٌ من العدوان الصليبي ضد الأمة المسلمة في محيطها الكبير .
إذ من القصور بمكان, أن نحصر العدوان على العراق فضلاً عن الفلوجة, و نغض الطرف على عدوانها الحربي, والاقتصادي والفكري، وحربها العقدية الشاملة ضد كل ما يمت إلى الإسلام بصلة.
إنَّ دماء المسلمين لا تزال تنزفُ في أفغانستان، ولا تزالُ الجيوش الصليبيةِ وحلفائها يحتلون البلاد، ويذلون العباد، ويدنسون العقائد، ويلوثون القيم والأخلاق.
و أناَّ قلَّبت الطرف في حاضرةٍ من حواضر العالم الإسلامي، وجدت منهم فحيح الأفاعي، وعواء الذئاب المتربصة بمزيد من الضحايا المُسلمة.
إن على المسلمين أن يُدركوا أبعاد الصراع القائم, بين الإسلام والنصرانية منذ القدم، قبل أن يحاولوا فهم خلفيات العدوان القائم اليوم ودوافعه.
فالصراع في أصله عقدي، والعداءُ في فلسفته ديني، ولذا فهو أبدي، وحتى الديمقراطيات, وإزالة الدكتاتوريات, وأما حرية الشعوب، وقيم العدالة، وأسس الإضلال, فما هي إلا مخادعات مكشوفة، ومزايدات ممقوتة، ورماد في العيون.
قال الله جل شأنه : (( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ )) (البقرة: من الآية109) .
وقال سبحانه : (( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ )) (البقرة: من الآية120) والآيات في هذا الشأن كثيرة معلومة.
و حتى لا يتشعب بنا الحديث, فإني سأُقدم بالفقرتين الواردتين في سؤال الموقع.
أما أولهما : وهي ما واجب المسلمين تجاههم؟ فأقول :
لا شك أن المؤمنين جسد واحد, إذا أشتكى منه عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى, كما ثبت بذلك الحديث.
والمسلمون في العراق إخوةُ لنا في الدين والعقيدة، يؤلمنا حقاً ما يُصيبهم، ويُقضُّ مضاجعنا ما يتعرضون له من أولئك الأوباش المجرمين الحاقدين، الذين صبوا جام أحقادهم، ولهيب أضغانهم, على إخواننا الأبرياء الشرفاء.
فالواجب تجاه هؤلاءِ المنكوبين المكلومين، هو ما أوجبه الله تجاههم في كتابه الكريم، (( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ )) (لأنفال: من الآية72) .
الواجب :
أولاً: الدعاء لهم بصدقٍ وحرارةٍ وإخلاصٍ، بأن يفرج كربتهم، ويكشف بلائهم، ويكبت عدونا وعدوهم.
ثانيا ً: بيان عدالةَ قضيتهم، وأنهم محقون كل الحق في الدفاع عن دينهم، وأعراضهم وأموالهم، بل هم ملزمون وجوباً في جهادِ عدوهم حتى النصر أو الشهادة.
ثالثاً : تثبيتهم وتشجيعهم على مواصلةِ الجهاد, وإحسان الظن بالله ، وتعظيم الثقة بموعود الله، وعدم الرضوخ, أو الرهبة من عدوهم, فإنه ضعيفٌ حقيرٌ في قبضةِ رب الأرباب، ومسبب الأسباب، وهازم الأحزاب سبحانه.
وألاَّ ينخدعوا بالدعاية والزخم الإعلامي المضخِّم، والمهوِّل لقوة العدو، فالنصر بالتوكل وصدق العزائم، لا بالسلاح والعتاد (( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ )) (البقرة: من الآية249) .
رابعاً : دعوتهم للوحدةِ والتكاتف، ونبذ الفرقةِ والاختلاف، فلعمري كم قصمت وحدة الصف من عدوٍ!؟ (( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ )) (الأنفال: من الآية46) .
وخامساً : مدهم بكل مشروعٍ وسببٍ قرآني وسني، يُعينهم في أداءِ مهمتهم، وقهرِ عدوهم، وكبت جما ح صولتهم, وأطماعهم التوسعية والاحتلالية.
وأمَّا واجب المسلمين تجاه هذا العدوان :
فأولاً: أكررُ على المسلمين, أن يدركوا أبعاد الصراعِ بين الإسلام والنصرانية، وأنها حرب دينية عقائدية، وليست نزوةً متغطرس, أو غضب مكلوم، أو ردةُ فعلٍ غير محسوبة .
ثانياً : على المسلمين في كل مكانٍ, أن يدركوا أنَّ العدوَّ من تُرك له الحبل على الغارب، ولم يُجاهد، ولم يُقاوم، فإنَّه لن يقف عند حدٍ, ولن يتوقف عن التهام دولٍ أخرى متذرعاً بأوهى الحجج وأسخفها .
فبالأمس أفغانستان، واليوم العراق، وغداً السودان، وهكذا والله المستعان, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثالثاً: على المسلمين أن يجتهدوا في الدعاءِ على العدو الغاشم الكافر، فهل هُزم المشركون في بدرٍ إلا بالدعاء ؟ وهل زُلزل الأحزاب يوم الخندق إلا بالدعاء ؟ وهل دخل قائد من الأسلاف معركة إلا بالدعاء والابتهال والتضرع ؟(68/76)
قال سبحانه : (( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ )) (لأنفال:9) .
رابعاً: بغض هذا العدوِّ والبراءةُ منه، وعدم التعاونِ معه، أو تسهيل أسباب بقائه، أو الانخداعُ بدعاياته وحملاته التضليلية.
(( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)) (الممتحنة:4) .
وختاماً: أسأل الله جلّت قدرته, أن يُفرحنا بنصره, ويذيقنا حلاوته، وأن يطهر العراق وأقطار المسلمين كآفةً, من رجس النصارى واليهود، وأن يحفظ علينا أمننا وديننا وبلادنا من كل سوءٍ، وأن يُعلي كلمته، وينصر دينه، وينصر عباده الموحدين .
إنه جوادٌ كريم, وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
نص السؤال
لعله بلغكم ما يحصل هذه الأيام في الفلوجة من جراء العدوان الأمريكي نود أن تبينوا لنا ما واجب المسلمين تجاههم ؟ وتجاه هذا العدوان ؟
أجاب عنها / الدكتور / سليمان بن حمد العودة
نص الجواب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد ،،،
فإجابة على سؤالكم عن واجب المسلمين تجاه أخوانهم المسلمين في العراق جراء العدوان الأمريكي عليهم أقول :
إن ما يحدث في العراق بشكل عام وفي الفلوجة ـ هذه الأيام ـ على وجه الخصوص شيء مؤلم لا يرفضه المسلمون فحسب ، بل يرفضه ويستنكره كل عقل ، فقد فاقت الجريمة كل تصور ، وبلغ العدوان والحقد مبلغه حتى لم تسلم المساجد من دخول الأنجاس ولم يسلم الجرحى من القتل بشكل بشع حتى أعتبر في عداد جرائم الحرب ؟
أما واجب المسلمين فهو كبير تجاه أخوانهم المسلمين المظلومين في كل مكان ، ومنها العراق فهم أخواننا بنص القرآن ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ)(الحجرات: من الآية10) والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه كما أخبر صلى الله عليه وسلم ، بل أكد الرسو صلى الله عليه وسلم على نصرة المسلم ظالماً فكيف إذا كان مظلوماً ( أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً )
أن من المؤسف أن هيئات ومنظمات ( الصليب ) هي التي ترعى وتُطالب للمسلمين، وذلك في غفلة أو غياب من المنظمات والهيئات الإسلامية، فأين هي في محنة المسلمين في العراق بل وأين أغنياء المسلمين من فقراء ومشردي العراق ؟
إن الدعاء سلاح يملكه كل مسلم فهل بذلناه بصدق لنصرة أخواننا في العراق وفلسطين ؟
وإن الرأي والمشورة حق واجب لكل مسلم فهي نصحنا لإخواننا المسلمين ؟
أين إعلام المسلمين عن توضيح الصورة والمطالبة برفع الظلم والعدوان عن المظلومين ؟
أين علماء الأمة وهيئاتها ومجالسها المختلفة عن النظر في وضع المسلمين في العراق ؟
وأين الموقف السياسي الصادق تجاه العدوان الصارخ في العراق ؟
إنها مسؤوليات وواجبات كثيرة ينتظرها منَّا إخواننا المسلمون في العراق وفي فلسطين وغيرها فهل نقوم بها؟ وعلى الأقل بشي منها ؟
اللهم أعز الإسلام و أنصر المسلمين .
المصدر : شبكة نور الإسلام
============(68/77)
(68/78)
اللحظات الحاسمة
تأليف
محمد بن عبد العزيز المسند
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد .. فقد روى البخاري في صحيحه ، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : نظر النبيُ r إلى رجل يقاتل المشركين - وكان من أعظم المسلمين غناءً عنهم - فقال : " من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا " فتعبه رجل ، فلم يزل على ذلك حتى جُرح ، فاستعجل الموتَ ، فقال بذبابة سيفه (1) فوضعه بين ثديين ، فتحامل عليه حتى خرج من بين كتفيه ( أي أنه قتل نفسه ) ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إن العبد ليعمل - فيما يرى للناس - عمل أهل الجنة ، وإنه لمن أهل النار ، ويعمل - فيما يرى للناس - عمل أهل النار ، وهو من أهل الجنة ، وإنما الأعمال بالخواتيم " (2 )
إن المؤمن حين يقرأ هذا الحديث ليشعره بقشعريرة تسري في كيانه ، يرتجف منها الجنان ، وتهتز لها سائر الجوارح والأركان كيف وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم : " لن يُدخل أحداً عملُه الجنةَ " ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ ! قال : " ولا أنا إلا أن يتغمدني اللهُ بفضل وحمةٍ " ( 3 ) فتأمل قوله : " ولا أنا " 4 وهو القائ صلى الله عليه وسلم : " إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا " وقارن نفسك يا مسكين بسيد الخلق أجمعين ، عندها ستعرف حقيقة نفسك ، ومدى تفريطك في جنب الله ، وكلنا كذلك - لكنا لا نملك إلا أن نقول كما قال الأبوان عليهما السلام : ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) .
وبعد : فهذه بعض القصص الواقعية لأناس خُتم لهم بخاتمة السعادة ، وآخرين خُتم لهم بالأخرى ، وهي خاتمة السوء (عياذاً بالله تعالى ) وقد دفعني إلى جمعها قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : " أكثروا ذكرَ هاذمِ اللذات ك الموت " 5 . وغفلة الكثيرين عن هذه الحقيقة العظمى ، والفاجعة الكبرى ، سائلاً المولى عز وجل أن يختم لي ولإخواني المسلمين بخاتمة السعادة ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، ولا إلى أحد سواه .
المؤلف في 1/4/1422هـ
قال السهيلي الأندلسي :
يا من يرى ما في الضمير ويسمعُ
أنت المُعدُّ لكل ما يُتوقعُ
يا من يُرجَّى للشدائد كلها
يا من إليه المشتكى والمَفزعُ
يا من خزائنُ رزقه في قول كن
امنن .. فإن الخير عندك أجمعُ
ما لي سوى فقري إليك وسيلة
فبالافتقار إليك فقري أدفعُ
مالي سوى قرعي لبابك حيلة
فلن رُدِدتُ ، فأي بابٍ أقرعُ ؟
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ؟
إن كان فضلك عن فقيرك يُمنعُ
حاشا لجودك أن تٌقَنِّط عاصياً
الفضل أجزل ، والمواهب أوسعُ
وجاءت سكرة الموت بالحق(6)
كان باراً بإمه ، وبعد وفاة أبيه كان هو العائل الوحيد لأسرته .. قال على إخوته اليتامى فأحسن تربيتهم ، وملأ البيت حباً وعطفاً وحناناً .. أ؛بته أمه حباً شديداً فجعلت من إخوته خدماً له .. تقف أخته الصغرى عند الباب لاستقباله ونزع حذائه ، بينما يبتسم الجميع فرحاً بقدومه .
وتمضي الأعوام ، ويكبر الإخوة ، ويفكر عبد الله بالزوج لإكمال نصف دينه ، فيستشير والدته ، وتُسَرُّ بذلك ، وتختار له فتاة ذات مال وجمال .. لكنها تفتقر إلى الآداب الإسلامية .. غنية بمالها وجمالها ، فقيرة في دينها وخُلُقها ..
لقد نسيت تلك الأم أن الجمال الحقيقي هو جمال الروح والخُلُق .. لإجمال الصورة والمنظر ، كما نسيت وصية المصطفى صىل الله عليه وسلم ك " فاظفر بذات الدين تربت يداك " .
وتزوج عبد الله ، كلنه سرعان ما انقلب رأساً على عقب .. فقد عصّته زوجته الجميلة على أمه ، فأطاعها وعق أمه وأصبح مخلوقاً آخر فما هو بالذي كانت تعرف ..
ولم تكن زوجته الحسناء خضراء الدمن (7) بأحسن حال منه ، فقد كانت هي الأخرى عاقه بوالديها اللذين ربما بخلت عليهما بحساء ساخن في أيام الشتاء الباردة .
وتمضي الأيام .. وتحصل هذه الزوجة على ترقية عالية في عملها ، فتقيم احتفالاً بهذه المناسبة في أفخم فندق من فنادق المدينة دعت إليه خواص زميلاتها اللاتي يماثلنها في الثراء أو يتظاهرن بذلك .. وأردت أن يكون احتفالاً متميزاً يسمع به القاصي والداني ، فاستقدمت له فرقة موسيقية بعشرات الآلاف من الريالات .
وبعد ليلة صاخبة أُنفق فيها الكثير ، عادت إلي بيتها ، وألقت بنفسها على فراشها الوثير .. وفجأة ... صرخت بأعلى صوتها : عبد الله ...عبد الله ... النار .. النار ... تحرقني .. أحسُّ بأظافر من حديد تنهش جسمي .. وتكرر ذلك على زوجها : عبد الله .. النار .. النار .. ولم يكن زوجها يرى ناراً ، ولكنه ذهب مسرعاً وأحضر ماءً بارداً وصبه عليها ، فما زادت إلا صراخاً ، ولا النار إلا توهجاً في جسمها ، وما هي - والله بنار ، ولكنها سكرات الموت : ( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيدُ ) [ سورة ق : ] ( 8)
ولعلها كانت بداية لعذاب الآخرة جزاء ما اقترفته من معاص وآثام .
وبعد ساعة من الصراخ والعذاب والألم لفظت أنفاسها الأخيرة على فراشها الوثير مودعة هذه الدنيا على عالم النسيان . أين جاهُها الذي احتفلت من أجله ؟(68/79)
أين مالها الذي أنفقته في البذخ والإسراف واللهو والغناء ؟ ..
أين جمالها الذي كانت تفخر به ؟
أين وأين وأين .. لقد انتهى كلُ ذلك ولم يبق إلا العمل ..
يا من بدنياه اشتغل قد غره طول الأمل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل .
قال رسول ا صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى ليملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته " متفق عليه .
داعية بعد الموت (9)
في جمهورية رواندا الأفريقية شاء الله أن يولد مسلم جديد ... كان حياً قبل ذلك ، ولكن بجسده فقط لأنه كان نصرانياً ...أما روحه فلم تعرف إلا بعد أن أعلن إسلامه وذاق طعم الإيمان . .
ويعلم أهله بالخبر فيثورون عليه ، ويُقيمون الدنيا ولا يقعدونها ، ولا عجب ، فقلوبهم قد امتلأت بالحقد الصليبي وهو يسمعون يومياً في المدرسة ، وفي الكنيسة ، أن العربي ( المسلم ) مرادف للشيطان ، مع أنهم نادراً ما يرون مسلماً !.
في المدرسة وهم صغار تتلقفتهم الكنيسة البلجيكية ، وتلقنهم أن العرب قوم متوحشون ... يُحرقون القرى ويقتلون الأبرياء ، ويسرقون النساء ، ويتركون وراءهم الأرض خراباً يباباً !! هذه المعاني كلها تؤكدها الكنيسة في كل مناسبة ... ويصل الخبر إلى شقيق هذا المسلم الجديد ، فيستشيط غضباً ، وينفجر وهو يرى أخاه يصلي واضعاً جبهته في الأرض لله رب العالمين ، وتؤتي تلك التعاليم الفاسدة ثمارها الخبيثة في صورة ثورة عارمة ، تنتهي بقتل النصراني الحاقد لأخيه المسلم وهو ساجد .
ولكن هل انتهت القصة ؟ كلا ... لقد قبض رجال الشرطة على القاتل ، بينما بقيت جثة المسلم ثلاثة أيام في تلك الأجواء الحارة لم تتغير لتكون دليلاً ملموساً وشاهداً صامتاً على عظمة هذا الدين وطهارته ، وأنه هو الدين الحق ... ويأتي عشرات النصارى ليروا جنازة المسلم التي تنظر الإذن بالدفن من طبيب الشرطة ... ويعلن العشرات منهم إسلامهم بسبب هذا المشهد ، ويستحق هذا المسلم الجديد لقب : داعية بعد الموت .
إن ربك لبالمرصاد (10)
بعد أن أتم خالد دراسته الثانوية كان يحلم بما يحلم به غيره من الشباب المراهق من السفر إلى الخارج والدراسة في ديار الغرب بعيداً عن رقابة الأهل والمجتمع (! ) ، وقد شجعه والده على ذلك (!) وهيأ له كل ما يحتاجه من مستلزمات ....
وحان موعد السفر ن فودعته أمه وقبلها يتوجس خيفة ويتفطر ألماً ، وحذرته من هفوات الشباب ،ومهاوي الردى ...
بات خالد يعد الدقائق والساعات شوقاً لتلك البلاد التي سمع عنها الكثير ولما يرها ، وما إن وطئتها قدماه حتى نسي وصية أمه المشفقة ، ونسي نفسه ، بل نسي ربه الذي يراقبه في كل مكان ، وانهمك في فعل المعاصي والآثام ، حتى كاد أن ينسى دراسته التي سافر من أجلها ...
وبعد سنوات أمضاها في ديار الغرب ما بين لهو ولعب ومجون ، وقليل من الدراسة ، عاد .. ولكن بعقل ممسوخ وقلب مظلم قد عصفت فيه رياح الأهواء والشهوات ، وفتكت به أمراض الشكوك والشبهات ، ولقد كان قلبه خالياً قبل ذلك ، فتمكن منه الداء :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
كانت أمه طوال تلك السنين كالثكلى تنتظر قدومه بفارغ الصبر ، وتعدّ الدقائق والساعات شوقاً إلى لقائه ، وتذرف الدموع في كل وقت خوفاً عليه ، أما هو فلم تخطر له أمه على بال ، ولا فكر بالسؤال عنها مجر سؤال ... إلا في فترات متباعدة .
وأزف موعد قدومه فخرجت أمه إلى المطار بصحبة أخته لاستقباله ، وقلبها يكاد يطير من شدة الفرح ...
وفي صالة الانتظار ، وقفت تترقب قدومه ، وتفحص وجوه القادمين بحثاً عن ولدها الحبيب ..
ها هو خالدٌ قد أقبل ..
" أهذا هو خالدٌ ؟! " همست الأم في أذن ابنتها والدهشة تكاد تعقد لسانها.
كان يلبس نظارة سوداء وقد نفش شعره وأعفى لحيته على الطريقة الغربية ... فلما اقترب منها عرفته بملامحه التي لا تخفى ...
نادته خالد ... خالد ...
التفت إليها ... مدت الأم يدها إليه لتصافحه ، قالت أنا أمك يا خالد ، وهذه أختك . كانت تنتظر منه أن يضمّها ، أن يقبل رأسها ، أن يبكي فرحاً بلقائها ، لكنه لم يفعل شيئاً من ذلك ، بل مد يده ببرود شديد ، وقال متهكماً : أما زلتين تغطين وجوهكن وتلبسن هذه الملابس السوداء ؟!
ذُهلت الأم لمقالة ابنها ، وتحولت دموع الفرح التي ذرفتها احتفالاً بقدومه ، إلى دموع حزن وأسى أسفاً على حاله ، لكنها أخفت عبرتها خلف حجابها المصون وكتمت أنفاسها الحرّى ... وهي تردد : إنا لله وإنا إليه راجعون ..
ومضت الأيام ، وخالد سار في غيه وضلاله ، ينتهز كل فرصة ليسافر على تلك الديار ثم يعود وقد ازداد تعلقاً بها ، ومقتاً لدينه وأهله .
أما أمه فلم تعد تقيم له وزناً ، أو تلقى له بالاً ، فقد سقط من عينها ، وأبغضته في الله ، وهذا هو مقتضى لا إله إلا الله : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم .. ) الآية [ المجادلة : الآية : 22]
وصارت تدعو له بالصلاح والهداية ، وربما دعت بالهلاك إن لم يهده الله ..
وجاءت ساعة الصفر ..(68/80)
كانت ليلة زفاف من العروس التي اختارها لنفسه ، لكن الأجل لم يمهله ، فبينما هو يسير بسيارته الصغير ، إذا اعترضت طريقه شاحنة نقل كبيرة فلم يجد مفراً من الدخول تحتها ليتحول هو وسيارته إلى كومة من حديد ...
وبعد ساعة من الزمن وقف شرطي المرور وهو يحمل في كفيه كتلاً من اللحم والعظام ... إنه ما تبقى من خالد .
قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا ، مع ما يدخره له في الآخرة ، من البغي وقطيعة الرحم " أخرجه أحمد وغيره .
اللحظات الحاسمة (11)
شرب الخمر ، فسَكِر ، فضر أمه ..
فلما أفاق من سكره وعاد إليه عقله ، قال وهو يتجرع غصص الندم : ليت يدي بُتِرت قبل أن تمتد إليها .. ليتها شُلَّت .. وليتني متُّ قبل أن أفعل هذا ... لا .. لن أغفر لنفسي أبداً .. كل هذه الانفعالات العنيفة ، والأحاسيس الجياشة ، هزت مشاعره هزاً ، واقتلعت قلبه من جذوره ، في محاولة يائسة لإيقاظ ضميره المتحجر بعد أن تبلد عقله وتوقف تماماً عن التمييز ...
لقد ذهبت الخمر بعقله ، وجعلته أسيراً لها حتى إنه لم يستطع التفريق بين صديقه ، وعدوه .. . بين من يحبه ، وبين من يكرهه ، وها هي ذي يده تمتد بكل وقاحة لتصفع أعز إنسان لديه .. أمه .. ينبوع الحنان !.
ولماذا ؟! .
ألا إنها كانت تريد له الخير ، وتنصحه بالإقلاع عما حرم الله ، وتجنب رفقاء السوء ، والالتفات إلى مستقبله ؟ .. أم لأنها كانت تدعو له بالهداية ، وترجو له أن يثوب إلى رشده ، وينتبه لنفسه وعائلته ؟ .
لم يتمالك نفسه من هول الموقف ، فاغرورقت عيناه بالدموع وأخذ يجهش بالبكاء .. وتوجه نحو والدته التي كانت تبكي وترثي لحالها وحاله .. وارتمى على صدرها كالطفل ، وأخذ يبكي ويصرخ ، وهي تهدئ من روعه ، وتدعو الله أن يتوب عليه ويغفر له ..
وبدأ صوته يخفت شيئاً فشيئاً ... حتى سكت تماماً ..
فقالت له : قم يا بني ، واغسل وجهك ، وتوضأ وصلِّ ، وتضرع إلى الله ، واسأله أن يغفر لك وأن يسامحك على ما اقترفته من ذنب في حق نفسك وحق والدتك .. ولكنه لم يُحر جواباً ولم يتحرك أبداً ... ي
فحركته وهزته ..فإذا هو بارد كالثلج ... فقد لفظ أنفاسه الأخيرة في حجر أمه ..
المشيئة الإلهية (12)
الحافلة متوجهة صوب مدينة رسول ا صلى الله عليه وسلم على متنها عدد من الركب الكرام تكاد نفوسهم تحترق شوقاً إلى رؤية مسجد رسول ا صلى الله عليه وسلم ، والصلاة فيه ، والسلام على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وصاحبه الكريمين .
كانت تسير في طريقها في أمن ودعة ... ها هي قد وصلت إلى مشارف المدينة ، والشوق يزداد ، والقلوب تخفق فرحاً بالوصول ، إلا أن نفساً شقية كانت مع الركب أبت إلا أن تعكر صفوف هذا الشوق ، وتعوق هذا الركب عن سيره المبارك ...
قال صاحبها : وصلنا إلى المدينة ... وسكت
فقال له أحد الموفقين مذكراً له بالمشيئة الإلهية : قل إن شاء الله . فما كان من ذلك الشقي إلا أن قال كلمة عظيمة وكأنه يتحدى بها ربه ، قال : وإن لم يشأ الله ..
لا إله إلا الله ، ما أشعنها من كلمة ، وما أشقاها من نفس .. وهل يحدث شيء في هذا الكون إلا بمشيئة الله وإرادته ؟ ... لكنه الشقاء والحرمان نعوذ بالله من ذلك .. .
وبعد لحظات يسيرة من مقولة ذلك الشقي شاء الله عز وجل ... ولكن أن يبتلي ذلك الركب الكريم ، وتنقلب الحافلة ، وتكون تلك العنق الفاجرة أول عنق تدق في تلك الفاجعة ...
اليد الطاهرة
كان يعمل في إحدى الجهات المشبوهة في وظيفة مرموقة ، وبراتب مجز يتجاوز العشرة آلاف ريال ، وفي يوم من الأيام أصابته صحوة ضمير ، فاتصل بأحد العلماء الجلاء يسأله عن عمله ذلك أحلال هو أم حرام ، فأجابه الشيخ بأن عمله المذكور حرام ، وأن عليه أن يتركه ويبحث عن عمل آخر .. لم يتردد في ترك العمل الحرام ، والبحث عن عمل آخر حلال ، ولو براتب أقل ، المهم أن يأكل حلالاً ، ويطعم أولاده الحلال ، ووجد عملاً .
كان ذلك في شهر رمضان المبارك ، ومضى شوال وذو العقدة ، وفي غرة شهر ذي الحجة عزم على الحج ، ومضى ... وفي الميقات خلع ثيابه ولبس ملابس الإحرام ، وانطلق ملبياً مع ضيوف الرحمن الذين جاءوا من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات .. . وفي عرافات ، وما أدارك ما عرفات ، يوم يباهي الله بعباده ملائكته .. وقف هذا الرجل تحت أشعة الشمس الحارقة يسقي الحجاج بيده ، ماء بارداً سبيلاً سلسبيلاً ، يبتغي بذلك الأجر والثواب من الله الكريم المنان ، وبينا هو كذلك إذ فاضت روحه على ذلك الصعيد الطيب ، صعيد عرفات .. لقد شاء الله عز وجل أن يختاره في ذلك اليوم الكريم ، وفي هذه المناسبة العظيمة ، ليُبعث يوم القيامة ملبياً كما جاء في الحديث (13) يده التي كان يكتب بها الحرام ، تحولت إلى يد طاهرة كريمة تحمل الماء العذب الرقراق لأكرم الضيوف وفي أطهر البقاع ، إنه فضل الله يؤتيه من يشاء ، ويمن به على من اختار طريق الخير على طريق الشر مهما كلفه ذلك من التضحيات ، فيا لها من خاتمة حسنة ...(68/81)
جاء في الأثر : " من ترك شيئاً لله ، عوضه الله خيراً منه " .
شاتم أبي هريرة
إنه رجل بليد ، أراد الشهرة ، ولكن على حساب دينه وآخرته ، درس في الأزهر ، وأخفق في الحصول على الثانوية الأزهرية عدة مرات ، ولما ترك الأزهر ، بل لما تركه الأزهر لغبائه وكسله ، كان يقف على قارعة الطريق يتحرش بطلابه ، فيبدي استهزاءه بهم لانقطاعهم إلى تعليم الدين وشرائعه ، ويرى ذلك دليلاً على سخف عقولهم وسذاجتهم !! بدأ نشاطه التأليفي بكتاب تافه جداً سماه : ( أضواء على السنة المحمدية ) شحنه بالأكاذيب والأغلوطات ، وقد تبنته بعض الجهات المشبوهة ، لكن الكتاب لم يحقق له الشهرة المنشودة ، فأراد أن يتقدم خطوات أخرى لتحقيق مزيد من الشهرة ، وقد رأى كيف سُلِّطت الأضواء على أمثال القاضي " علي عبد الرزاق " الذي كان مجهولاً إلى أن أخرج للناس بكتابه " الإسلام وأصول الحكم " الذي تهجم فيه على دين الإسلام ، ورأى كيف استقطب " طه حسين " أضواء الشهرة بكتابه عن الشعر الجاهلي الذي أنكر فيه وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام .
رأى ذلك كله فأراد أن يحقق أقصى درجات الشهرة ، فألف كتابه : (شيخ المضيرة أبو هريرة ) ملأه بالطعن في رواية الإسلام الأول الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه .
وقد كان عنوان كتابه مبيناً لسوء مقصده ، عامله الله بما يستحق ، فالمضيرة لون من الطعام كان أبو هريرة يحبه - ولا ضير في ذلك - ووصف أبو هريرة رضي الله عنه بأنه شيخ المضيرة لا يخفى ما فيه من السخرية والاستهزاء والانتقاص ، كما لو قيل عن رجل بأنه شيخ البطاطا أو شيخ الدجاج ... فأي وقاحة أعظم من هذه الوقاحة ؟! ومع من ؟! مع رواية الإسلام الأول ، الذي كان ملازماً لرسول ا صلى الله عليه وسلم وروى عنه : 5374 حديثاً ، فهو أكثر من روى عن رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ولعل هذا هو السر في محاولة فئات عديدة من المغرضين إسقاطه وتشويه سيرته رضي الله عنه .
والآن ، أتدري أيها القارئ من هو هذا الشقي ؟... إنه محمود أبو رية عامله الله بما يستحق .
أما خاتمته فقد كانت بئس الخاتمة ... قال الشيخ محمد الشنقيطي حفظه اللهُ (14) : حدثنا الثقة ، عن العالم الذي حضر وفاة هذا الرجل ، قال : أتيت إلى بلده فتذكرته ، فخر لي أن أزوره لأعرف بعض الشيء عنه ، ويشاء الله عز وجل أن توافق زيارتي له وهو في النزع الخير وفي سكرات الموت ، قال : فدخلت عليه - والعياذ بالله - قد تغر لونه ، وكلح وجهه ، واتسعت حدقتا عينيه ، وهو يئن ويقول : آه أبو هريرة ... آه أبو هريرة . .. وظل يتأوه بها حتى نُزعت روحه .. ولم ينطق بكلمة الحق .
لقد مضى هذا القي ، وبقي أبو هريرة رضي الله عنه عَلَماً شامخاً ، يُذكر في كل حين ويقترن اسمه كثيراً باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتباً لكل أفاك أثيم .
قضى الله أن البغي يصرع أهله وأن على الباغي تدور الدوائرُ
قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " من سب أصحابي ، فعليه لعنة الله ، والملائكة ، والناس أجمعين " (15)
حاملة القرآن 16
خرجت من دار تحفيظ القرآن الكريم .. كانت تحمل في يدها كتاب ربها ، وفي يدها الأخرى طبقاً خيرياً ... وقبل ذلك وبعده تحمل في قلبها همّ الإسلام ، وهمّ إخوتها المسلمين ...
لم تشتر الطبق الخيري لتأكله ، وإنما لتنفق من مالها في سبيل الله ... لتتذكر وهي تأكله إخوانها المسلمين في شتى بقاع الأرض .. وما يعانونه من بؤس وجوع وألم ولعل الله أراد أن يكون شاهداً لها يوم القيامة ...
خرجت من تلك الدار العامرة لتتخطفها يد المنون ... ليختارها الله إلى جواره - نحسبها كذلك ، ولا نزكي على الله أحداً ... سيارة مسرعة يمتطيها سائق متهور تحطم ذلك الجسد الطاهر .... تطرحه أرضاً ... ويهتز المصحف في يدها ، ويتناثر الطبق الخيري .. والقلب لا يزال ينبض بالحياة ...
وتنقل إلى المستشفى وهي في حالة خطرة ... كان ذلك يوم الأحد ، وفي يوم الجمعة تخرج روحها إلى بارئها ..
رحمكِ الله يا حاملة القرآن ، لم تحملي شريطاً ماجناً ، ولا مجلة ساقطة ... ولا خرجت من مرقص أو ملهى ، أو سوق تتسكعين فيه متبرجة سافرة . وإنما خرجتِ من روضة القرآن .. يا حملة القرآن .. هنيئاً لك بشارة رسول ا صلى الله عليه وسلم :
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر " (17) فنامي آمنة مطمئنة ...
صريع المال والسرطان (18)
" " يا رب ، هات مليون جنيه وهات معه سرطان " (!) ... كان هذا دعاؤه الذي يردده في كل مجلس ، وصدق رسول ا صلى الله عليه وسلم حين قال : " تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم .. " إنه يتحدث عن هذا الصنف من الناس .
" يا رب ، هات مليون جنيه وهات معه سرطان ،كان يرددها على مسمع من زملائه ، فيضحك بعضهم ، ويمتعض آخرون ، ويحذرونه من مغبة قوله هذا ...ولكن :
يُقضى على المرء في أيامه محنته
حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن .(68/82)
كان يطمح أن يكون غنياً ، فبدأ بالفعل ودخل عالم الفن ، وشق طريقه نحو الشهرة ، ولم تمض سنوات معدودة حتى نال ما تمناه من الشهرة والمال ،وامتلك واحدة من أكبر العمارات بمصر وهي عمارة " الايموبيليا " الشهيرة ، وتحقق ما كن يطلبه من الثراء ، وكلن بقي الشق الآخر مما كان يطلبه ، وهو السرطان ..فأبى الله عز وجل إلا أن يريه دلائل قدرته سبحانه ، ويلقنه - وغيره- درساً لا يُنسى أبداً .
ويُصاب بالسرطان كما كان يتمنى ، ويراه الناس واقفاً أمام عمارته الكبيرة هزيلاً باكياً يتمنى العافية ويردد متحسراً : " يا رب خذ مني كل شيء وأعطني الصحة والعافية " ، وصدق اللهُ القائل : ( قتل الإنسانُ ما أكفره ) .
محدث حتى الموت
قضى حياته في طلب الحديث وتعلمه وتعليمه حتى صار إماماً في الحديث ... إنه الإمام أبو زرعة الرازي ، عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد .. سيد الحفاظ في زمانه .
كان رحمه الله - كما ذُكر عنه - يحفظ مئتي ألف حديث ، كما يحفظ أحدنا ( قل هو اله أحد ) وذلك في زمن تعز فيه الوسائل .. فهل خذله الله عند الموت ؟
استمعوا إلى ما حدث له عند النزع ، وهو يصارح السكرات : فقد روى الإمام الذهبي رحمه الله ، عن وراق أبي زرعة ، قال حضرنا أبا زرعة وهو في النزع ، وعنده أبو حاتم ، وابن وارة ، والمنذر بن شاذان - وهم من أئمة الحديث - فذكروا حديث التلقين " لقنوا موتاكم : لا إله الله " ، واستحيوا من أبي زرعة أن يلقنوه ، فقالوا : تعالوا نذكر الحديث ... فقال ابن وارة : حدثنا عاصم ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح بن أبي ... وسكت . وقال أبو حاتم : حدثنا بندار ، حدثنا أبو عاصم ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح ... وسكت ، والباقون سكتوا ، وذلك منهم استثارة لأبي زرعة رحمه الله حتى ينطق بالشهادة .
فقال أبو زرعة وهو في النزع الأخير : حدثنا بندار ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا عبد الحميد ، عن صالح ابن أبي عريب ، عن كثير بن مرة ، عن معاذ بن جبل ،قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " من كان آخر كلامه ، لا إله إلا الله ، دخل الجنة " ... ثم فاضت روحه (19)
إن القلوب كالإسفنج ، تتشرب ما وضع فيها ، حتى إذا ما امتلأت واحتاجها العبد في وقت شدته ، لم يجد إلا ما أودعه فيها من خير أو شر ، فهلا عقل ذلك أولئك الذين حشوا قلوبهم بالأغاني والترهات ، وحفظوها عن ظهر قلب ، قبل أن تُنتزع أرواحهم من أجسادهم عند الاحتضار ، فلا يقووا على قول كلمة الحق ؟
نعوذ بالله من الخذلان .
نهاية مؤلمة (20 )
في ليلة من ليلي الربيع المقمرة ، جلس مجموعة من الشباب الصالحين على كثبان الرمل في منطقة معروفة ، وبينما هم يتجاذبون أطراف الحديث إذ سمعوا صوتاً مفزعاً ، تبعه دوي هائل اشتعلت على إثره النيران ... نظروا باتجاه الصوت ، فرأوا ناراً تشتعل ... انطلق اثنان منهم مسرعين صوب النار حتى وصلا إلى الشارع العام ، فوجدا سيارتين محطمين إحداهما تحترق وقد أخرج منهما رجلان : أحدهما قد فارق الحياة ، والآخر ما زال يلفظ أنفاسه الأخيرة ... حملاه إلى أقرب مركز صحي أملاً في إنقاذه ، لكن الأجل لم يمهله ففارق الحياة وهم في الطريق ..
ليس هذا هو المؤلم ، فإن الآجال محدودة ، والأنفاس معدودة ، وقد اعتاد الناس سماع مثل هذه الأخبار والحوادث ؛ ولكن المؤلم أن اللذان لقيا حتفهما كانا ... مخمورين ... نعم ، مخمورين كما يقال - حتى الثمالة ... نعوذ بالله من ميتة السوء .
قال رسولُ ا صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة قد حرّم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر ، والعاق ، والديوث الذي يُقرُّ في أهله الخبث " (21)
حتى يأتيك اليقين (22)
نادرة تلك المواقف التي تمتزج فيها الدمعة بالبسمة ، يورق فيها شجر الحزن ، وتزهر فيها أزاهير السرور .. يختلط فيها نشيد الفرح بنشيج الحزن ..
جاء ذلك اليوم بيد أنه لم يكن كسابقه من الأيام ، جاء ليزف لنا البشرى ... بشرى رقيك وسموك ...
كم أرقَّه ذلك النداء : " لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم "(23) .
كم من الاهتمامات ازدحمت في قلبك العليل : ابنك الصغير .. العائلة ميسورة الحال .. الوظيفة ... الدعوة ... الدعوة ... نعم إنها هي ، فلم نرك إلا سباقاً لها ..
كنت - فقط - تزرع أشجار العطاء ... تسقي أرضاً جدباء ، فتغدوا أرضاً مخضرة بإذن ربها ...
تبذر البذور على الصخور ونظرك لأعلى قد تعودت التفاؤل في السير على هذا الطريق المعشوشب بالأجر ..
همك سعاد الإنسان أينما ارتحلت ... وحيثما حللت ، ولا سعادة إلا بالإيمان ... كم قلب ضامئ أرويته ... كم روح تائهة في دياجير الأهواء كنت مناراً وفناراً لها .. لكن ! ما بال القلب ؟! أهو العطب ؟!
كان يقتات المعاناة جلداً ، ويحتسى مرارة الألم صابراً ، وتزيده صفاءً ونقاءً . .
أخبروه أن القلب عليل .. . بيد أنه لم يفتأ في التقاط أشلاء النفس المبعثرة ليجعل منها عبداً لبارئها ..
يتحسس حطام القلوب والأرواح .. يجمعها من جديد ليؤلف منها " صالحاً " بما تعني الكلمة من معنى ...(68/83)
يزدد خفقان القلب .. ينقبض .. يضيق .. ، وما يزال مستمراً على الدرب ، يد ترشد وتعلم ، وأخرى على القلب ... آلام شديدة ... لكنها لا تظهر على صفحة الوجه .. فلا مكان إلا للبسمة .. أما مكان تكسر الآهات والأنات ففي الصدر فقط .
" لا بد للسفر إلى لندن " قال الأخصائي ..
وبسرعة لاح في خاطره : " هناك كثير عشطى .. جوعى للنور .. إذن فلأبدأ ومن الآن " .
كتب بلغات مختلفة ... أشرطة لمحاضرين ودعاة .. كان هذا ( عشقه ) .
وخلال مدة علاج قلب مجروح ، تدب الحياة في قلب ميت ، يولد أحد القوم هناك ،يخرج من رحم الظلمة إلى فسحة النور .. لكن القلب الأول بدأ يذوي ، يخفف نوره ، وعلى ذلك السرير كانت النهاية ، وما أجملها من نهاية :
عشر تشهدات نطق بها لطالما أرقه عدم انتشارها ...
ويفارق الدنيا مبتسماً كما عهدناه ، وماذا يهمه وقد نطق بالشهادة عشر مرات ..فيا له من فراق ....
همة في صدره تلتهبُ من جراح المسلمين المفجعة
راعف الجرح وحيداً سامقاً عُمرى العزم لا يرضى الدعة
يقتضي آثار جيل خالدٍ ساق للدنيا الهدي والمنفعة
وتغادرنا ، بيد أن صورتك ما تزال شاخصة أمامي تصرخ بي :
حتى متى هذا الجفاء ؟ ! .
حتى متى هذا التردد والعناء ؟! حتى متى هذا الشقاء ؟! حتى متى يا قلب تغشاك الظنون ؟! الناس في محراب لذات الدنايا عاكفون .. حتى متى ؟! .. وإلي متى يل قلب تغشاك الظنون ؟! .
قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " من كان آخر كلام لا إله إلا الله دخل الجنة " (24)
وزمجر الرعد (25)
الوقت فجراً ... الأمطار تهطل بغزارة .. والرعد يزمجر ... والبرق يكاد يخطف الأبصار ...
صوت استغاثة يصدر من إحدى الشقق .. امرأة بلا شعور تستغيث ... يسمعها الجيران فيأتون مسرعين ..إنها جارتهم .. زوجها قد خرج إلى العمل فما الذي حدث ؟ !
رجل عارٍ ممدد على الأرض قد فارق الحياة ... قلّبوه .. حركوه ... إنه جارهم الآخر ، وبعد التحقيق تعترف المرأة .. كانت على موعدٍ معه بعد خروج زوجها .. وأثناء ممارسته لجريمته القذرة دوّى صوت الرعد مسبحاً لله عز وجل فأصيب الرجل بالهلع ، ولقي حتفه على تلك الحال .. سبحانك ربنا ما أعدلك .. سبحانك ربنا ما أحلمك .. كما من عاص لك قد سترته .. وكم من مذنب قد بارزك بالعصيان فتجاوزت عن ذنبه وغفرنه .. ولكن ، هل نغتر بعفو الله وحلمه ؟ .
يا ساهر الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً
قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم " لأن يزني الرجل بعشر نسوة ، خير له من أن يزني بامرأة جاره " (26)
الصلاة ... الصلاة والحجاب
قال الراوي : كنت في مصر أثناء أزمة الكويت ، وقد اعتدت دفن الموتى منذ أن كنت في الكويت ، واشتهرت بذلك ، وذات ليلة اتصلت بي فتاة تطلب مني دفن أمها المتوفاة ... فلبيت طلبها ، وذهبت إلى المقبرة .. وانتظرت عند مكان التغسيل ... وفجأة ، أربع فتيات محجبات يخرجن مسرعات ... لم أسأل عن سبب خروجهن وسرعتهن في الخروج ، لأن ذلك أمر لا يعنيني ..
وبعد مدة وجيزة ، حرجت المُغَسِّلة وطلبت مساعدتها في تغسيل الجنازة ، فقلت لها : إن هذا لا يجوز ، فلا يحل للرجل أن يطلع على عورة المرأة ، فَعلّلت ذلك بضخامة جسم الميتة وصعوبة تغسيلها ! .. لكنها عادت وأتمت تغسيلها ثم كفنتها ، وأذنت لنا في الدخول لحملها .. دخلنا ، وكنا أحد عشر رجلاً ، وكان الحمل ثقيلاً جداً ، ولما وصلنا إلى فتحة القبر - وكعادة أهل مصر فإن قبورهم مثل الغرف ، ينزلون من الفتحة العلوية إلى قاعة الغرفة يسلّم ثم يضعون موتاهم بلا دفن (!) (27) فتحتا الباب العلوي ، وأنزلنا الجنازة من على أكتافنا لإدخالها ، لكنها - لثقلها - انزلقت وسقطت منا داخل الغرفة حتى سمعنا قعقعة عظامها وهي تتكسر من جرّاء السقوط ...
قال : فنظرت ، فإذا الكفن قد انفتح قليلاً وظهر شيء من الجسم ، فنزلت مسرعاً إلى الجثة وغطيتها ، ثم سحبتها بصعوبة بالغة إلى اتجاه القبلة ، وكشفت عن بعض وجهها (28) فرأيت منظراً مفزعاً ، عينين جاحظتين مخيفتين ، ووجهاً مسوداً ، فداخلني رعب عظيم ، وكدت أصعق من هول ما رأيت ، فخرجت مسرعاً وأغلقت باب القبر .. وفور وصولي إلى البيت ، اتصلت بي إحدى بنات المتوفاة ، واستحلفتني بالله أن أخبرها بما جرى لوالدتها ... حاولت إخفاء الحقيقة لكنها ألحّت ، فأخبرتها بالذي رأيت ... فقالت : إن هذا هو الذي دعانا إلى الخروج من مكان التغسيل بتلك السرعة .. وأجهشت بالبكاء .. فصبّرتها ... ثم سألتها عن حال والدتها ، وهل كانت قبل موتها مقيمة على شيء من المعاصي ؟ فأجابت والحسرة تكاد تقتلها : يا شيخ ، إن والدتنا ثم تصلّ لله ركعة ، وقد ماتت وهي متبرجة (29)
قال رسولُ ا صلى الله عليه وسلم : " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " أخرجه مسلم .
كأنك عجّل الأقوامُ غسْلّك وقام الناس يبتدرون حملك
ونُجِّدَ بالثرى لك بيتُ هَجرٍ وأسرعت الأكف إليه نَقْلَكْ
وأسلمك ابنُ عمك فيه فرداً وأرسل من يديه أخوك حبلك
وحاولت القلوبُ سواك ذكراً أنسن بوصله ونسين وصلك
وصار الوارثون - وأنت صفرٌ من الدنيا - لمالك منك أملك(68/84)
إذا لم تتخذ للموت زاداً ولم تجعل بكر الموت شُغلَكْ
فقد ضيعت حظَّكَ يوم تُدعى وأصلَكَ حين تَنْسِبُهُ وقَصْلَكْ
والموعد الجنة (30 )
خرجا من بيتهما في إحدى المدن يريدان البيت الحرام .. هو شيخ صالح ن وهي امرأة صائمة قائمة .. وقبل الخروج حدث شيء غريب .. ودعت الأم أولادها ، وكتبت وصيتها ، وقبلت أطفالها وهي تبكي ، ونظرت إليهم وكأنها نظرة مفارق ..
ومضى الزوجان إلى أطهر بقعة على وجه الأرض يطويان الفيافي والقفار ، وهناك طافا حول الكعبة المشرفة ، وسعيا بين الصفا والمروة ، ثم حلق وقصّرت ، وكرا راجعين وهما في غاية السرور والاغتباط . ولكن ... يشاء الله عز وجل - ولا راد لأمره - أن تنفجر إحدى عجلات السيارة ، فتخرج عن مسارها وتنقلب رأساً على عقب .... ويخرج الزوج سليماً معافى ، ويبحث عن امرأته الصوامة القوامة .. التقية النقية . (نحسبها كذلك والله حسيبها ) ،فيجدها . ... ولكن في سكرات الموت .. (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) ..
مد إليها يديه ليحملها ، لكنها نظرت إليه نظرة مودع قالت له : عفا الله عنك ... بلّغْ أهلي السلام .. اللقاء - إن شاء الله - في الجنة ...
ثم ختمت كلامها بشهادة التوحيد وكلمة الإخلاص : لا إله إلا الله محمد رسولُ الله لتنام قريرة العين ... لكنها الرقدة الكبرى ..
يا بانيَ الدارِ المعدَّ لها
ماذا عملت لدارك الأخرى ؟
ومُمَهِّد الفُرُشِ الوثيرةِ لا
لا تُغفل فراش الرقدة الكبرى
ويعود الرجل وحيداً بعد أن وارى جثمان امرأته والحزن يملأ قلبه ، فيستقبله أطفاله استقبلاً حاراً .. وتسأله ابنته الصغرى : أبي أين أمي ؟ .. فينعقد لسانه ويعجز عن الجواب .. فتصرخ في وجهه : أبي ، أريد أن أرى أمي ، أين أمي ؟ فينهار الرجل أمام طفلته الصغيرة ويبكي بكاء مراً ، ويقول لها : سوف ترينها بإذن الله ، ولكن في جنة عرضها السموات والأرض .. ليست كدنيانا الحقيرة ...
إلى رحمة الله يا صالح
صالح شاب عربي .امتلأ قلبه إيماناً ، وجسمه نشاطاً وقوة .. كانت أمنيته أن يرقه الشهادة في سبيله ، ويلحقه بركب الشهداء الأبرار ، فحقق الله أمنيته ولكن ...
أحد الإخوة كان مع صالح لحظة ودع الدنيا ، حدثني فقال :
كما مجموعة من الشباب لا يجمع بيننا حسب ولا نسب إلا الأخُوَّةُ في الله ، قررنا ذات يوم القيام برحلة خلوية ، نستعيد فيها نشاطنا ، ونستجمع قوانا ، وانطلقنا ..وهناك ..وعبد أن صلينا الفجر ؛ خرجنا مهرولين ، هتفانا : " الله أكبر " ونشيدنا :
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً
ظللنا على هذه الحال قرابة ساعتين ونصف الساعة حتى أصابنا الإعياء من شدة التعب ...كان صالح - رحمه اله - أكثرنا حماساً ، وأشدنا بأساً ..كان يجري وقلبه يتفطر ألماً وحسرة ، وكأنه على مشارف الأقصى ليحرره من أيدي اليهود الغاصبين ، ولسان حاله يقوله : هاأنذا قادم إليكم ولنعيد أقدسنا ونصلي في أقصانا ..
وبعد تلك الجولة المرهقة ؛ أوينا إلى شجرة وارفة الظلال حول إحدى العيون .. كانت السماء صافية ، والجو ساكناً ، والصمت يخيم على أرجاء المكان ، يقطعه أصوات العصافير وهي تنشد أشعارها فوق أغصان الأشجار ..
كنا نتحدث ، ويمازح بعضنا بعضاً فترتد أصداء أصواتنا من الجبال القريبة منا فنتذكر تسبيح الجبال مع داود - عليه السلام - فيزيدنا ذلك إيماناً بالله ، واعترافاً بعظمته - سبحانه -.
ولما افتربنا من عيرن الماء ، تاقت أنفسنا إلى السباحة ، فنزلنا جميعاً إلا صالحاً ظل واقفاً في مكانه ينظر إلينا وكأنها نظرة مودع ... دعوته إلى النزول فأبدى عدم رغبته في ذلك ، وكان قد نسي ملابس السباحة ... لكنه بعد لحظات أقبل علينا وقد لبس ملابس رياضية استعارها من أحد الأخوة ، ولما هم أن يلقي بنفسه في الماء ؛ التفت فرأى رجلاً من بعيد في يده سيجارة ، فأبى إلا أن يذهب إليه وينصحه ، فاستجاب الرجل ، وألقى ما في يده .. وعاد صلح ..ووقف على حافة العين ، وكأنه يريد منا أن نفسح له ليأخذ مكانه بيننا ..فقضينا وقتاً ممتعاً داخل تلك العين ، ولم نكن نعلم أن ملك الموت كان قريباً منا في تلك اللحظات .. لقد كان في تلك العين فتحة صغيرة تسمى ( القصبة ) قطرها لا يزيد عن قطر إطار السيارة .. كان الأطفال الصغار يدخلونها ، ويذهبون إلى قرابة مترين ونصف المتر تحت الماء حتى يصلوا إلى منطقة فيها منسم ، فيستريحون قليلاً ثم يخرجون ..وكثيراً ما كنا نفكر في اقتحام هذه القصبة ، لكنّ أحداً منا لم يجرؤ على ذلك ، مع أن الأمر يبدو في ظاهره سهلاً ..
وفجأة ، ونحن مشغولون بمطاردة الكائنات المائية الصغيرة ، ينسل صالح ويدخل لك القصبة ، وكأنه يريد أن يقول لنفسه: إذا كنت اليوم تخافين دخول مثل هذه القصبة ، فكيف بد غداً إذا لقيتِ أعداء الله في أعماق البحار وقمم الجبال ..
" أوصيك بالتسجيلات " (31) قالها صالح لأحد الإخوة ، وهي أخر كلمة سمعناها منه فلم نلقِ لها بالاً ...(68/85)
وحضر طعام الإفطار .. كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً ...انتظرنا صالحاً فلم يأتِ ، فقلنا : لعله ذهب لقضاء الحاجة أو نحو ذلك ... وطال انتظارنا فأصابنا القلق .. وطفقنا نبحث عنه يميناً وشمالاً ، شرقاً وغرباً فلم نعثر له على أثر...
أين ذهب صالحٌ ؟! سؤال دار في أذهاننا جميعاً ... لكنا لم نجد له جواباً ...
وبعد ساعة من الزمن ساورتنا الشكوك وخشينا أن يكون داخل العين ، ولكننا استبعدنا ذلك ، ومع ذلك حاول بعضنا دخول القصبة وإزالة الشك باليقين ، ولكن لا جدوى ؛ فقد كانت ضيقة ، والدخول فيها يعد مخاطرة .
وأكرمنا الله - عز وجل - بمجيء صبي صغير ماهر في السباحة ، فطلبنا منه الدخول والتحري ، وبعد دقائق خرج إلينا وكلنا ننظر إليه في لهفة ووجل ، فقال : لا أحد هنا .. كدنا نطير من الفرح ، وحمدنا الله - عز وجل - فصالح لا يزال بخير إن شاء الله ... لكنا فرحتنا لم تدم طويلاً ؛ فقد جاء أحد المزارعين من أهل المنطقة وأخبرنا أن ماء هذا العين يخرج من هاهنا - وأشار إلى ناحية منها - ثم قال : أرى أن الماء لا يخرج كالعادة ، وأظن أن صاحبكم داخل العين قد حبس خروج الماء بجسمه ..
نظر بعضنا إلى بعض وقد عقدت الدهشة ألسنتنا ، وأيقنا أن صالحاً - إن كان الأمر كما قال هذا الرجل - لن يخرج حياً .. فلا أحد يستطيع البقاء داخل تلك القصبة أكثر من دقائق معدودة .
الرجل المدخن الذي نصحه صالح كان قريباً منا يسمع ما نقول : وكان ماهراً في السباحة فقال : أنا آتيكم بالخبر اليقين ... ولم يمض دقائق معدودة حتى عاد إلينا فزعاً ، وقال : إن صاحبكم داخل القصبة ، واظنه لم يمت بعد ..
فأسرعنا وطلبنا الدفاع المدني ، ولكن بعد فوات الأوان ، فخرج صالح ، ولكن خرج جثة هامدة بلا روح ... وقد ظهر على جسمه علامات وقشوط تدل على أنه لاقى من شدة الموت وسكراته ما تتصدع منه الجبال ...
ومن الذي دلّ على موته ؟ إنه الرجل الذي نصحه صالح قبل وفاته بزمن يسير ... رحمك الله يا صالح ... شهيد إن شاء الله .. فأنت غريق (32) .
وأنت داعية قبل موتك بدقائق ، تقول : يا أخي ، اترك التدخين فإنه حرام ومدمر ..
لقد صدق الله فصدقه الله - عز وجل - ، فقد رآه أحد الإخوة بعد موته في صورة بهية ومعه زوجة حسناء .
وقد صلى عليه جمع غفير من الناس ، وضجت الأصوات بالبكاء ، فقد كان باراً بوالديه وإخوانه ..
صالح ... إن العين لتدمع ، وإن القلب ليحزن ، وإنا لفراقك أيا أبا أسامة لمحزون ...
صلاة مودع (33)
كان يعمل نجاراً في إحدى المدن .. لا يعرف الغش ولا الكذب ، ولا المكر ولا الخديعة ، قد رضي بما قسم الله له من الزرق الحلال وإن كان قليلاً . في ضحى كل صباح كان يغلق دكانه وينطلق إلى المسجد القريب ليتوضأ ويصلي ما كتب الله له صلاة الضحى - ثم يعود إلى دكانه ليباشر عمله إلى وقت صلاة الظهر ... وفي ضحى أحد الأيام أغلق دكانه وتوجه إلى المسجد يحث الخطى وهو في شوق إلى مناجاة ربه والوقوف بين يديه ، ودلف إلى المسجد وكبّر للصلاة فقرأ ما تيسر له من القرآن ، ثم ركع ثم رفع .. ثم سجد ..ثم قال إلى الركعة الثانية واضعاً يديه اليمنى على اليسرى ، فإذا بملك الموت قد حضر في تلك اللحظة ليقبض روح هذا العبد الصالح وهو واقف بين يدي ربه ، يناجيه بأحب الكلام إليه ، فتخرج روحه من جسده ، ويخر ساقطاً على الأرض ، ويده اليمنى على اليسرى ، فما علم به أحد إلا وقت صلاة الظهر ، ويُحمل إلى بيته ، فلما أرادوا خلع ثيابه لتغسيله أبت يده اليمنى - بإذن الله عز وجل - أن تفارق يده اليسرى وكأنه لا يزال في صلاة ، وبعد محاولات عديدة كفنوه على هذه الحال ووضعوه في قبره ليلقى ربه مصلياً ...
قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " يُبعث كل عبد على ما مات عليه " ( 34)
فاختبر لنفسك ما تشاء يا أخي المسلم .
خسر الدنيا والآخرة (35)
حادثة غريبة ..
ليست مشهداً من " فيلم " أو مسلسل تلفزيوني ، أو قصة نسجها مؤلف أو قاص ، ولكنه واقع أليم شهدته مدينة .. لشاب لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره ....
كان فتى يافعاً ممتلئاً نشاطاً وقوة ، لكنه لم يترب تربية إسلامية صحيحة ، ولم يُقَدِّر له أن يواصل تعليمه كسائر إخوانه وأترابه .. ضاقت به الحياة داخل أركان غرفته المتواضعة التي مكث فيها سنوات بلا عمل ... سئم الفراغ ، انتابته حالة نفسية حبسته بين الجدران ليل نهار ... ولضعف إيمانه أدمن المخدرات ..
وذات ليلة ... وبعد أن انتهى من سماع أغنية لمطرب مشهور ؛ خرج عن صمته ، وكسر أسوار العزلة .. وهرع إلى المطبخ ، ليشعل النيران في جسده الهزيل الذي أنهكه المخدرات ، مردداً في هستيريا " وداعاً أيتها الحياة " .
قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " من قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذِّب به يوم القيامة " ( 36)
حافظ الزمان (37)
إنه إمام الحفّاظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري صالح الصحيح رحمه الله تعالى الذي لم تسمع الدنيا بحافظ مثله ... لقد كانت حياته عجباً ، ووفاته أعجب ..(68/86)
ذكر الحافظ ابن حجر في الهدي أن الإمام البخاري رحمه لما رجع في آخر حياته إلى بخاري نُصبت له الخيام على فرسخ من البلد ، واستقبله أهلها استقبالاً حافلاً ، ونثروا عليه الدراهم والدنانير ، فمكث مدة مكرماً معززاً ، ثم طلب منه والي بخاري خالد بن أحمد الذهلي الحضور إلى داره ليسمع منه ويقرأ كتاب الجامع والتاريخ على أولاده ، فقال الإمام رحمه الله لمبعوث الوالي : " قل له إني لا أذل العلم ، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين ، فإن كانت له حاجة في شيء منه فليحضرني في مسجدي أو في داري ، فإن لم يعجبه هذا فهو سلطان فيمنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة أني لا أكتم العلم "
هكذا أعلنها صريحة ، فكانت سبباً للوحشة بينهما ، وأراد الوالي أن ينتقم منه ، فاستعان بحريث بن أبي الورقاء وغيره من أهل بخارى حتى تكلموا في مذهب البخاري وطعنوا فيه ، فنفاه عن البلد ، فما كان منه رحمه الله إلا أن دعا الله عليهم فقال : " اللهم أرهم ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم " ، فاستجاب الله دعاءه ، فأما خالد ( والي بخارى ) فلم يأت عليه أقل من شهر حتى ورد أمر الخليفة بأن يُنادى عليه فنودي عيه وهو على أتان( 38) ثم صار عاقبة أمره إلى الذل والحبس ، وأما حريث بن أب الورقاء فإنه ابتلي في أهله فرأى فيهم ما يجل عن الوصف ، وأما فلان فإنه ابتلي في أولاده فأراه الله فيهم البلايا ..
وأما الإمام رحمه الله فقد خرج إلى قرية من قرى سمرقند تدعى " خرتنك " وكان له بها أقرباء فنز عندهم ، فسُمع ليلة من الليالي وقد فرغ من صلاة الليل يقول في دعائه : " اللهم ضاقت عليّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك " ، فما تم الشهر حتى قبضه الله .. وقال محمد الوراق .. سمعت غالب بن جبريل وهو الذي نزل عليه البخاري يخرتنك يقول : إنه أقام أياماً فمرض حتى وُجه إليه رسولٌ من أهل سمرقند يلتمسون منه الخروج إليهم فأجاب ، وتهيأ للركوب ولبس خفيه وتعمم ، فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها إلى الدابة ليركبها وأنا آخذ بعضده ، قال أرسلوني فأرسلناه ، فدعا بدعوات ثم اضطجع ففاضت روحه ، ثم سأل منه عرق كثير ، فما أدرجناه في أكفانه وصلينا عليه ووضعناه في حفرته ؛ فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك ن ودامت أياماً .
قال عبد الواحد بن آدم الطواويسي : رأيت صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه جماعة من أصحابه وهو واقف في موضع ، فسلّمت عليه ، فرد عليّ السلام ، فقلت : ما وقوفك هنا يا رسول الله ؟ ، قال : انتظر محمد بن إسماعيل ( يعني البخاري ) .. قال فلما كان بعد أيام بلغني موته ، فنظرت فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت فيها النبي صلى الله عليه وسلم
قال مهيب بن سليم : كانت وفاته ليلة السبت ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين ...
رحم اللهُ الإمام البخاري وتغمده بواسع فضله ومغفرته ..
الليلة الأخيرة (39)
اندمج في الرقص مأخذواً بنشوة الفرح ..
رقص ورقص .. ورقصت كل ذروة من ذرات جسده .. كان ذلك في حفل زفاف في إحدى المحافظات .. وفجأة سقط .. دُهش الحضور ، وظنوا أنها لحظة إغماءة من جراء الرقص الشديد تزول بعد دقائق ، إلا أنه لم يفق ..
حملوه إلى المستشفى على عجل ، وهناك كانت المفاجأة .. حيث أكد الطبيب وفاته قبل وصوله إلى المستشفى عقب أزمة قلبية حادة ..
قضى ذلك الرجل ، وقد كتب اسمه في سجل " الراقصين " فبئست الخاتمة ، وصدق الله إذ يقول : " وكان الشيطان للإنسان خذولاً " .
الوداع الأخير
امرأة صالحة .. ومربية عظيمة ..ومتصدقة كريمة .. هذا ما شهد به المقربون منها .. خمسون عاماً مرت عليها وهي بكماء ولم تنبس ببنت شفة ..
أعتاد زوجها وأهلها هذا الوضع ، مؤمنين بقضاء الله وقدره ، فله - سبحانه - الحكمة البالغة في كل ما يدبره في هذا الكون ..وهكذا ينبغي للمسلم أن يرضى بقضاء الله وقدره في كل ما يصيبه من كرب أو بلاء .
في ليلة من الليالي - وعلى غير عادتها - استيقظت مبكرة قبل الفجر بساعات ، ووقفت تصلي بين يدي الله عز وجل .. وفجأة ..نطقت بصوت مسموع ... واستيقظ الزوج على إثر ذلك الصوت ...
يا إلهي ..ما الذي حدث ، أبعد هذه العقود الخمسة من الصمت المطبق ينطلق لسانها ... " نعم نطقت ، وبالشهادتين ، بلغة واضحة وصريحة ، وتضرعت إلى الله بالدعاء بالكلمة المسموعة . ..
وانتظر زوجها فراغها من الصلاة وهو في غاية اللهفة ، ليسألها عما حدث ، ولكن قدر الله كان أسبق ، فما إن فرغت من صلاتها حتى قُبضت روحها وهي لم تبرح سجادتها الأثيرة ، وقد ختمت حياتها بكلمة التوحيد والدعاء ، فهل سمعتم بخاتمة أحسن من هذه الخاتمة ؟ (40)
واستجاب الله دعاءه (41)
مَن منا لا يريد حسن الخاتمة ، ومن منا لا يتطلع إليها .. هكذا كان الحاج اللبناني الذي يبلغ من العمر ثلاثة وسبعين عاماً ... لقد كان يكثر من الدعاء بحسن الخاتمة كما حدّث عنه أحد أبنائه ...(68/87)
وفي العام الأخير من حياته أصر على تأدية مناسك الحج على الرغم من كبر سنه ورقة عظمه ، وبدأ يجهز نفسه للرحلة على غير عادته في السنوات الماضية ، وكان يردد بين الحين والآخر : " اللهم أحسن خاتمتي ووقفني لأداء مناسك الحج مع إخواني المسلمين " .
واقترب موسم الحج ، وودع الشيخ عائلته وداعاً لم يعهدوه منه قبل ذلك ، وطلب منهم الدعاء له بحسن الخاتمة ، وقال : " قد لا أراكم مرة أخرى " ، وكرر هذا القول مراراً ..
وفي صعيد عرفات ، جلس الشيخ على كرسيه مستقبلاً القبلة ، ورافعاً يديه إلى السماء داعياً الله عز وجل بحسن الخاتمة ، والنصر للمسلمين ، وتوحيد شملهم . .
يقول ابنه الذي كان يرافقه ، لقد كان والدي جالساً على كرسيه أثناء الدعاء ، وفي الساعة السادسة وعشرين دقيقة عصراً ، وقبل أن ينفر الحجيج إلى مزدلفة ، اقتربت منه لكي آخذه إلى الحافلة المعدة لنقلنا إلى مزدلفة ، فإذا به قد فارق الحياة على تلك الحال ، في صعيد عرفات الطيب ، فقد استجاب الله دعاءه ، وختم له بخاتمة السعادة إن شاء الله تعالى .. فهنيئاً له هذه الخاتمة الطيبة .
( فصل ) في أسباب سوء الخاتمة ( أعاذنا اللهُ منها )
اعلم أيها الموفق - إن شاء الله - أن سوء الخاتمة لا يكون لمن صلح ظاهره وباطنه مع الله ، وصدق في أقواله وأفعاله ؛ فإن هذا لم يُسمع به ، وإنما يقع سوء الخاتمة لمن فسد باطنه اعتقاداً ، وظاهره عملاً ، ولمن له جرأة على الكبائر ، وإقدام على الجرائم ، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة النصوح .
ثم اعلم أن لسوء الخاتمة أسباباً كثيرة من أهمها ما يلي :
أولاً : الشرك بالله عز وجل .. وحقيقته تعلق القلب بغير الله حباً وخوفاً ورجاءً ودعاءً وتوكلاً وإنابةً ... الخ .
ثانياً : الابتداع في الدين ... وهو اختراع ما لم يأذن به الله ولا رسول صلى الله عليه وسلم فأهل البدع لا يوفقون لحسن الخاتمة ، لا سيما من قامت عليه الحجة فأصر على بدعته ، نعوذ بالله من الخذلان .
ثالثاً : الإصرار على المعاصي تهاوناً بها واستصغاراً لشأنها لا سيما الكبائر فإنها تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له فيجتمع عليه مع ضعف الإيمان فيقع في سوء الخاتمة .
رابعاً الاستهزاء بالدين وأهله من العلماء والدعاة والصالحين ، وبسط الأيدي والألسن إليهم بالسوء والأذى .
خامساً : الغفلة عن الله والأمن من مكره . قال تعالى " ( فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " [ الأعراف : 99] .
سادساً : الظلم .. فالظلم مرتعه وخيم ، والظلمة من أولى الناس بسوء الخاتمة عياذاً بالله . قال تعالى : ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) [ الأنعام : 144] .
سابعاً : مصاحبة الأشرار ، قال تعالى ( يوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً * يا ويلتى ليتني لم اتخذ فلاناً خليلاً * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني ) [ الفرقان : 27- 29 ] .
ثامناً : العُجب .. وحقيقته إعجاب العامل بعمله مع احتقار أعمال الآخرين والتعالي عليهم ، وهو داء يخاف منه على الصالحين ، وبه تحبط الأعمال وتقع سوء الخاتمة .
هذه بعض الأسباب الموقعة في سوء الخاتمة ، وهي أصول الشر ومنابته ، فينبغي لكل عاقل موفق أن يحذرها ويتجنبها حذراً من سوء الخاتمة .
( فصل )
في علامات حسن الخاتمة
علامات حسن الخاتمة كثيرة ، أذكر منها :
1. النطق بكلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) عند الموت .قا صلى الله عليه وسلم : " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " (42)
2. الموت ليلة الجمعة ، أو نهارها ، قا صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يموت يوم الجمعة ، أو ليلة الجمعة ، إلا وقاه الله تعالى فتنة القبرة " (43) .
3. الموت بعرق الجبين ، قا صلى الله عليه وسلم : " المؤمن يموت بعرق الجبين " (44)
4. الموت بمرض من الأمراض الوبائية مع الصبر والاحتساب ، كالطاعون والسل وذات الجنب ونحو ذلك .
5. موت المرأة في نفاسها سبب ولدها ، قا صلى الله عليه وسلم : " والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة يجرها ولدها بسرره إلى الجنة " (45) .
6. الرائحة الطيبة الزكية ، وهي رائحة تنبعث من جسد الميت بعد موته يجدها من حوله ، وهي كثيراً ما تنبعث من أجساد الشهداء ، لا سيما شهداء المعارك .
7. الثناء الحسن بعد الموت ، وقد مر صلى الله عليه وسلم بجنازة ، فأثنوا عليها خيراً ، فقال رسولُ ا صلى الله عليه وسلم : " وجبت " ( أي الجنة ) ، ثم قال : " أنتم شهداء الله في الأرض " (46)
8. رؤية ما يسر النفس عند خروج الروح ، كمن يرى طيوراً بيضاء جميلة وبساتين خضراء ومناظر خلابة لا يراها من حوله ، وقد حصل هذا لبعض الصالحين فكانوا يصفون ما يرونه لحظة احتضارهم وهم في سعادة غامرة ، والذين من حولهم في غاية الدهشة والذهول
==============(68/88)
(68/89)
احذروا الطعم القاتل يا أهل السنة!
لقد أعنتم الأعداء الذين تربصوا ولا زالوا يتربصون بكم على أنفسكم بأمرين:
الأمر الأول: اختلافكم في حسم أمركم بحيث تكونون صفا واحدا في الدخول في الانتخابات أو عدمه.
الأمر الثاني: تعدد مرجعياتكم، والمفروض أنكم أنشأتم من أول الغزو الصليبي مجلسا من أهل الحل والعقد عندكم، يدرس شئونكم وتصدرون في نشاطكم ضد الغزو عن توجيهاته، ولهذا تعددت اجتهاداتكم فشتت شمل أتباعكم.
ومن هنا اغتنم أعداؤكم فرصة تفرقكم، واجتمع ما يسمى بالتحالف الغربي، والتحالف الشيعي، ورموكم عن قوس واحد، بثلاثة أمور:
الأمر الأول: تدميركم بحرب السلاح، الذي يكف عنكم يوما من الأيام، وبخاصة في الأوقات الحاسمة، مثل أوقات الانتخابات والاستفتاء على الدستور.
الأمر الثاني: تحقيق كل طرف مصالح للآخر، لا تمس جوهر مصالحه، ولكنها تجمعهم على انتهاك حقوقكم، وقد يوهمون فاقدي الوعي السياسي، بأنهم يختلون على بعض القضايا، وهو إيهام كاذب في واقع الأمر.
إن الحقد الطائفي عليكم يا أهل السنة حقد متأصل في نفوس أصحابه، وإن ما يخططونه للقضاء عليكم إذا استتب لهم الأمر أكبر مما يظهرونه اليوم.
لهذا يصرون على أن يعضوا بنواجذهم على النصر الذي حققتها لهم القوات الأمريكية، لأنهم يعلمون أنه كان بعيد المنال بدون تلك القوات، ولهذا يكررون نفي إعادة الانتخابات بعزم وإصرار.
ولكنهم قد يرسلون لكم طعما قاتلا يسلونكم به إن استطاعوا، وهو إظهار تقاسم السلطة بمنحكم بعض الوزارات التي يسكتونكم بها مع بقاء الأصل الذي يستطيعون به التحكم في مصيرهم وهو الأغلبية المريحة في الجمعية الوطنية، التي يسلبونكم فيها بالتصويت أي مصلحة من مصالحكم، ومنه الوزارات، فيصبح الوزير كما يقول أهل اليمن بعد فترة فاقد الواو (زيرا)
هذا مع العلم أن أمريكا لن تسحب جيشها من العراق، مهما قدمت من وعود، لأن الوحش الجائع الذي ركض بعد فريسته لا يمكن أن يفلتها، والقيادة الأمريكية قيادة مستبدة (دكتاتورية) لا تأبه للاحتجاجات ولو من شعبها، وإرضاء اليهود عندها أولى من إرضاء شعبها، وأساس غزو العراق ومحاولة الهيمنة على دول المنطقة هو اليهود، ولا يمكن أن تخرج القوات الأمريكية بدون مقاومة جهادية تصبر وتصابر، حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
لهذا يجب على جميع من يسكن في العراق أن يستمروا في المقاومة الجهادية بكل وسيلة ممكنة، فلا حل سواها، فاحذروا الطعم القاتل الذي قد يرسلونه في وآلة الاصطياد!
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
==============(68/90)
(68/91)
بعد سبّ النبي بطل سحرهم ، وانتهى كيدهم
محمد جلال القصاص
حين غزا الشرقُ والغربُ في القرن التاسع عشر الميلادي العالمَ الإسلامي ، هَالَ فريقٌ من المنتسبين للعلم حال الغرب ، وأخذهم الإعجاب بهم كل مأخذ ، فالتفتوا إليهم ينظرون حالهم ثم التفوا حول الشريعة الإسلامية وراحوا يحملونها ليسيروا بها على هوى الغرب الكافر والشرق الملحد .
فزعم نفر منهم أن الاشتراكية من الإسلام ، وأن أول اشتراكي كان من صحابة محمد صلى الله عليه وسلم وأن الأديان متكاملة ، وأن الإسلام نزع منا بغض ( الآخر ) .!!
وراح نفر من هؤلاء المنهزمين المنبهرين يَكذبون على أنفسهم قبل قومهم وربهم ويقولون للقوم أن ما عندكم عندنا ، فحبُّ الأوطان هو الولاء والبراء عندنا ، والقوانين الكلية ( الدستور ) هي القواعد الفقيه عندنا ... !!
ونفر من هؤلاء صدَّّّق أن القوم عقلاء حكماء قد فهموا وأبصروا وغيرهم ـ من المسلمين ـ ما زالوا في غيهم يعهمون ، فتنكر للنصوص وخط للعقل و ( العقلاء ) خطا في عمق الشريعة فابتدع المقاصد ـ بمفهومها الجديد ـ ليقول للقوم أننا مثلكم نحترم العقل على ذات طريقتكم .!!
وظل هذا الركب من المنهزمين المنبهرين يسير فجاء فيما بعد من حاولوا تفسير القرآن ـ تفسيرا ( علميا ) حديثا يتماشى مع العقل ـ فزعموا أن الطير الأبابيل التي أرسلها الله على أبرها الحبشي وجنده ترميهم بحجارة من سجيل هي مرض ( الجُدري ) ، وأن آية الدم التي أرسلها الله على فرعون هي البلهارسيا وغير ذلك . كل ذلك ليحسنوا صورة الإسلام أما الغرب .!!
والذين جاؤوا من بعدهم قالوا بـ ( اشتراكية الإسلام ) وأن ( الديمقراطية من الإسلام ) . و أن الحجاب عادة كانت وما عادت . وأن الأخوة أخوة الأوطان واللغة لا الدين والمِلَّة .
وإن كنا نحسن الظن بنفرٍ منهم ونرى أنهم كانوا يريدون حقا الصلاح لأمتهم ، إلا أن حُسن النية قد يرفع العقوبة أو يخففها إلا أنه لا يكفي لتصحيح الفعل وتمريره .
ومضت الأيام لتقول لنا أن القوم كانوا جسورا ركبها الكفر ، وغزا بها ثوابتنا العقدية فتغير مفهوم الولاء والبراء وظهرت ( القومية ) و( الوطنية و ( الجامعة العربية ) بدلا من الخلافة الإسلامية ، وتغير مفهوم الحجاب والجهاد وتحكيم الشريعة والتحاكم إليها . والمنهزمون يُؤولون أو ( يتفهمون ) .!!
ثم نادي الكفار بالحوار ( الحضاري ) فبرز إليهم ثلة من المنهزمين ـ وما أخرجهم أحد من المسلمين ـ وهم يتصببون عرقا ويتوارون من ( سوء ) ما يفعله المنتسبون للإسلام من ( إرهاب ) . يجلسون جلسة الخائف المذنب أمام من يحاكمه ، وانتهى الحوار بكل ما يسئ الصديق ويفرِّح العدو .
وحين ظهرت ( العولمة ) اشتدَّ الدجل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وخرج ( الليبراليون )
على الناس وألقوا حبالهم وعصيهم يريدون أن يجعلوا الكل سواء ... عقيدة الكفر كعقيدة الإيمان ... والمسلمين كالمجرمين ... حاولوا إعادة قراءة الدين من جديد ليكون إسلامي الأُطر غربي المحتوى .
إلى يومهم هذا وهم مازالوا يقيمون الجسور والكباري بين الكفر والإيمان بدعوى أن القوم ( عقلاء ) ( مؤدبون ) ، وأن ما يصدر منهم من قتل وتعذيب للمسلمين والمسلمات في كل مكان وتطاول على الدين الإسلامي ، إنما هو من فعل الساسة والمتشددين وأن القوم ليسوا سواء ، بل جُلُّهم عقلاء .
واليوم ـ بعد سب صلى الله عليه وسلم وإهانة المصحف ـ بطل سحرهم ، وانكشف جهلهم ، وراحت تأويلاتهم وتصويغاتهم ، فها هو الغرب يسبُّ الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ليس الدينمارك وحدها ، وإنما دول أوروبا ومن قبلهم أمريكا .
وليس المتشددون ، وإنما الكل .
لم نسمع من احتج ، وإنما أحسنُهم من يُبرر .
كلهم يسبون ، وكلهم يسخرون منا ومن شرعنا ، وليس الدافع هو ( إرهاب ) إخواننا .
فأين الجسور التي يبنيها القوم من قرون ؟!
اليوم ، وبعد سبِّ الحبيب صلى الله عليه وسلم وما حدث في ( أبو غريب ) و ( جوانتنامو ) و( قلعة حاجي ) في أفغانستان ، تبين للعُميان أن ( العلمانية ) ولّت أدبارها ، وانتهى من التاريخ دورها ، فها هي الأمة الإسلامية تتفاعل مع قضايا إخوانها في فلسطين والعراق وأفغانستان وجوانتنامو ، وها هو الغرب كله يسفر عن وجهه الصليبي الكالح ، ليقول لكل مغفل ما زال يؤمن بالعلمانية وأنه لا دين .أن الصراع بدأ يتجدد على خلفيات دينية ، وأن الذين كفروا بعضهم أولياء بعض ، وقد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ، وأن المنافقين يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ،
وأن الأمة الإسلامية بدأت ترجع إلى شرع ربها ،
وأهمس في أذن علمائنا وشيوخ صحوتنا : ها هي سَوْءة العلمانيين والليبراليين وكل المخذِّلين انكشفت ، وهي هي الأمة تلقي بزمامها إليكم فلا تفرطوا فيه ، والأجر على قدر المشقة ، ولا يدوم عسر ولا يسر ، ولكل جيل رجال ، فأنتم أنتم . والله نسأل أن يعجل بنصرة وعزِّة أولياءه . وأن يكون سبّ الحبيب صلى الله عليه وسلم بداية النصر والتمكين ، وما ذلك على الله بعزيز .
==================(68/92)
(68/93)
مناصرة وبيان حول أحداث الصومال )
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين . وبعد :
فإنه قد آلم كل مسلم غيور على دينه ما حدث من اجتياح الدولة الأثيوبية النصرانية ، ومن يقف وراءها من القوى الظالمة لبلاد الصومال العربية المسلمة .
وإننا لنعلم ويعلم كل مسلم متابع للأحداث أن هذا البغي والظلم والعدوان من هذه الدولة النصرانية ماهو إلا حلقة في مسلسل الهجمة العالمية على العالم الإسلامي بقيادة دول الصليب المتحالفة وعلى رأسها أمريكا وإن المتابع العاقل لهذه الأحداث ليعجب من أولئك المؤتمرين والمنضوين تحت مظلة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات العالمية كيف يتغافلون عن هذا الإرهاب الدولي والانتهاك لسيادة دولة عضو في منظماتهم وهم يزعمون محاربة الإرهاب والدعوة إلى العدالة والسلم العالمي .
والمنصفون يعلمون أن الصومال قد عانى كثيرا من الحكومات والميليشيات العسكرية التي أهلكت الحرث والنسل وأقحمت الشعب الصومالي في نزاعات بينية فرقت الشمل وفككت الوحدة وأهدرت المقدرات والمصالح الوطنية، وربطت مصير البلد بتحالفات مشبوهة مع الأعداء وأدخلته في المحاور الدولية المتشابكة خدمة لخطط الأعداء وللمصالح الذاتية الضيقة. ومن هذا المنطلق يمكننا فهم تفاعل الشعب الصومالي مع حكومة المحاكم الإسلامية واختياره لها وسرعة تجاوبه مع جهودها لتوحيد الصومال والبحث عن مصالحه الحقيقية وإبعاده عن شباك الأعداء.
ونحن نعلم أن الدول الكبرى تقبل بسياسات الأمر الواقع إذا كانت تصب في مصالحها، والتاريخ القريب والبعيد يشهد بالعديد من الانقلابات العسكرية التي تسفك فيها دماء المواطنين العزل بأيدي العملاء خدمة لهذه القوة العالمية أو تلك وخصوصاً في أفريقيا. واليوم حين يأتي الحراك من داخل الشعب الصومالي المسلم وبرغبته المحضة واختياره الحر، تأتي هذه الهجمة الشرسة عليه وعلى قيادته الشرعية التي تجاوب معها ومنحها ثقته وفتح لها ولسلطاتها أراضيه ومناطقه الواحدة تلو الأخرى، فأين دعاة حرية الشعوب في اختيار قياداتها السياسية وأين المحاربون للإرهاب من هذا الإرهاب الذي تمارسه الدولة الباغية وحلفاؤها .
وإننا إذ نكتب هذا البيان ؛ إعذاراً وإنذاراً ونصرة لإخواننا نحب أن نؤكد على مايلي :
أولا : نشد على أيدي إخواننا المجاهدين الصوماليين ممثلين بقيادتهم الشرعية ( المحاكم الإسلامية ) ونحثهم على الصبر والتقوى امتثالاً لأمر ربنا سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200) . وقوله :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:7) ، وقول صلى الله عليه وسلم : ( واعلم أن النصر مع الصبر ) أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس بسند صحيح . وندعوهم إلى اجتماع الكلمة ورص الصفوف والاهتداء بهدي سيد المرسلين في السلم والحرب امتثالاً لقوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46) والانتباه إلى مايحيكه لهم عدوهم من الخديعة وإفساد ماقاموا به من الإصلاح وجمع الكلمة والاجتماع على الكتاب والسنة .
ثانيا : يجب على المسلمين جميعا وكذا بقية شعوب العالم المحبة للعدل والسلام أن يحذروا من هذه القوى الصهيونية والصليبية التي تشعل النار وتثير الحروب ضد من لايدور في فلكها أو ينصاع إلى أطماعها حيث يصدق عليها قوله تعالى : (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة:205) لذا فإن هذا العدوان إن لم يواجه بما يستحقه من حزم وقوة فإنه ينذر بخطر عظيم ويؤدي إلى كارثة إنسانية ويشيع الفوضى والدمار في الصومال وما جاوره من البلاد.
ثالثا : الشعب الصومالي شعب عربي مسلم وهو عضو في الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ، وله علينا واجب النصرة والمؤازرة بكل مانستطيع من وسائل النصر تحقيقا لمبدأ الولاء للمؤمنين ، فعلى المسلمين جميعا ، أفرادا وجماعات ، وخصوصاً الحكومات العربية والإسلامية واجب القيام بهذا الحق وعدم التخاذل عنه .
رابعا : على الشعوب المسلمة أن تهب نصرة لإخوانها في الصومال كل بحسب استطاعته ( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) الآية (الأنفال:72) ، وألا يقفوا متفرجين منتظرين للحلول الأممية التي لم تجد شيئاً في القضايا السابقة بل زادتها تعقيداً وخسراناً .(68/94)
خامساً : لم يغب عنا وعن كثير من المسلمين هذا التحالف الصليبي الأمريكي مع دولة أثيوبيا المعتدية وهو امتداد لتحالفاتها السابقة مع الصهاينة اليهود وكذا مع الرافضة في الاعتداء على المسلمين واغتصاب حقوقهم وانتهاك حرماتهم وهو ما يؤكد وجوب مواصلة المدافعة والمجاهدة لهذه الحكومة الأمريكية المتطرفة وإفشال مخططاتها .
سادساً : ما وقع من الحكومة الصومالية المؤقتة ، في التحالف مع الحكومة الأثيوبية في عدوانها واجتياحها لبلدهم الصومال وما ثبت من مشاركة بعض عناصرها وأفرادها في هذا الهجوم، ليؤكد بما لا يدع مجالاً للشك حقيقة هذه الحكومة الانتقالية ومدى عمالتها لأعداء الصومال ووقوفها ضد مصالح الشعب الصومالي .كما أن ذلك يؤكد خطورة هذه التيارات المستغربة والمتحالفة مع الأعداء ضد بلادها ومواطنيها في أي بلد من بلاد الإسلام، كما يجدد الحاجة الماسة للحذر منهم والتضييق عليهم حتى لا يصلوا ببلاد المسلمين وسيادتهم ومصالحهم ومقدراتهم إلى هذا المستوى من الخزي والعار والخيانة.
سابعاً : إننا لنرثي لهذه المنظمات العالمية ومنها الأمم المتحدة ومجلس أمنها والتي تدعي أنها اجتمعت لإحقاق الحق وردع الظالم كما تنص عليه اتفاقياتها وأنظمتها المعلنة وما وصل إليه أمرها من الضعف والاستكانة والهوان ، ونؤكد لها أن الشعوب الإسلامية قد فقدت الثقة بها بسبب هذا التعامي عن حقوق المستضعفين من المسلمين والكيل بمكيالين في القضايا العالمية والتي يكون المسلمون طرفاً فيها .
ثامناً : إن هذه الهجمة الغاشمة على الإسلام وأهله لن تفقدنا الأمل والتفاؤل بنصرة الإسلام والمسلمين بإذن الله ، وما اشتداد هذه الهجمة على الإسلام وأهله إلا دلالة على قوته وعلو شأنه ، ما أقض مضاجعهم وجعلهم يتخبطون يمنة ويسرة ، يقتلون ويأسرون ، ويدمرون بلا عقل أو روية ، لشدة ما يعانونه من اجتياح الإسلام بقيمه ومبادئه لحصونهم التي ما كانوا يظنوا أن تنهار أمام الدين الرباني الخاتم .
ونذكر كل مسلم ونخص المجاهدين منهم بقوله تعالى :( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60)
وختاما... فإننا وفي هذه الأيام الفاضلة أيام الحج المباركة نحث إخواننا المسلمين في كل مكان على الدعاء والتضرع لله - جل وعلا - بأن ينصر إخواننا المسلمين المجاهدين والمستضعفين في الصومال والعراق وفلسطين وأفغانستان وغيرها من بلاد المسلمين وأن يكبت عدوهم ويردهم خاسئين لا ينالون خيراً (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء:227) ، إنه قوي عزيز جواد كريم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
حرِّر في مكة المكرمة يوم الخميس 8 ، ذوالحجة ، 1427هـ
الموقعون /
1. الشيخ العلامة/ عبدالله بن محمد الغنيمان (رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية سابقاً)
2. الشيخ/ سفر بن عبد الرحمن الحوالي (رئيس قسم العقيدة بجامعة أم القرى سابقاً)
3. الشيخ/عبد الله بن حمود التويجري (رئيس قسم السنة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً)
4. الشيخ/ عبدالرحمن بن صالح المحمود ( عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية)
5. الشيخ/ ناصر بن سليمان العمر (وكيل كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً والمشرف العام على موقع المسلم)
6. أحمد بن عبدالله شيبان ( المعلم في منطقة عسير سابقاُ )
7. الشيخ/خالد بن عبد الرحمن العجيمي (عميد شؤون الطلاب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً)
8. الشيخ/ محمد بن سعيد القحطاني ( عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة بجامعة أم القرى سابقاً)
9. الشيخ/ سعد بن عبدالله الحميد (عضو هيئة التدريس في جامعة الملك سعود)
10. الشيخ/عبدالعزيز بن عبدالمحسن التركي (رئيس قسم التوجيه والإشراف التربوي بجنوب الرياض سابقاً)
11. الشيخ/ محمد بن عبدالله الخضيري ( عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة بجامعة القصيم )
12. الشيخ/محمد بن عبد العزيز اللاحم (مشرف تربوي وخطيب جامع بالقصيم)
13. الشيخ/ وليد بن عثمان الرشودي (رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية المعلمين بالرياض)
14. الشيخ/ حسن بن صالح الحميد (عضو هيئة التدريس بقسم القرآن وعلومه بجامعة القصيم )
المصدر : موقع المسلم
بيان من الشيخ سلمان حول أحداث الصومال
إن ما جرى من عدوان أثيوبيا على دولة الصومال الإسلامية هو جريمة نكراء بكل المقاييس وتجاوز لأبسط الحقوق الإنسانية والمواثيق الدولية.
لقد ظلت الصومال سنين طويلة تعيش اضطراباً وفوضى وضياعاً، دون أن تتحرك أي قوة دولية مجاورة أو بعيدة لضبط الأمن وحفظ مصالح الناس، وبعد أن ظهرت قوات المحاكم الإسلامية بداء المكر والتآمر، والتدخل الفاجر خفية في الماضي، ثم علانية ودون مواربة كما يحدث الآن.(68/95)
إن المحاكم الإسلامية ذات وجود منبثق من حاجة الشعب الصومالي المسلم، وليس لها أي امتداد خارجي، ولا يوجد لها علاقة مع أي جهة خارجية، وإلصاق تهمة الإرهاب بها كما تروجه بعض الوسائل والقوى هو لمجرد افتعال ذرية كاذبة للتدخل السافر والحرب الشعواء.
إن واجب المسلمين شعوباً وحكومات وعلماء وجمعيات خيرية وإنسانية، يحتم عليهم أن يسارعوا لتطويق الموقف، وحفظ خيار الشعب الصومالي المسلم ودعمه ومساندته بكل احتياجاته الإغاثية، والإنسانية، والطبية، والمادية، والمعنوية.
إلى متى تظل البلاد الإسلامية مجالاً للمغامرة، وممارسة التسلط والعدوان بمأمن عن ردود الأفعال.
إن النظام الدولي ومؤسساته بما فيها الأمم المتحدة وكذلك الدول الكبرى ستظل بعيدة عن شعاراتها المتعلقة بالعدل والسلام إذا وقفت في صف الظالم والمعتدي ولم تعترف بحقوق المسلمين.
إن مجرد الضعف الذي يعيشه المسلمون ليس مسوغاً للاستخفاف بهم، فالضعيف لديه ما يفعله وسيظل قادراً على إلحاق الأذى بالمعتدين والظالمين وبمن ساندهم وأيدهم والدهر دول والأيام قلّب.
إن العالم الإسلامي كله يحتفظ بعشرات الأمثلة التي يختص بها من بين دول العالم كله، والتي تجعله استثناء في التعامل، وتسمح بتفعيل السلاح القاتل في أهله وشعوبه وتتجاهل معاناته وآلامه، ولا تصغي لصوت الاحتجاج بل وتغالط في الحقائق وتزور الواقع وتفتعل الأكاذيب.
والواقع أثبت أن المسلمين مهما ضعفوا فهم أقوياء في الممانعة والمقاومة، والمطاولة لعدوهم، وهم أصبر وأطول نفساً وأجدر بالتضحية وأوثق بالنصر .. ولتعلمن نبأه بعد حين، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .. والحمد لله رب العالمين.
سلمان بن فهد العودة
مكة المكرمة
7 ذو الحجة 1427هـ
موقع الإسلام اليوم
==============(68/96)
(68/97)
"المتمسلمون"
فهد بن محمد الحميزي
لما ذكر مؤرخ الإسلام الحافظ الإمام الذهبي أنواع التواريخ التي تناولت شتى طبقات المجتمع المسلم والتي أوصلها إلى أربعين تاريخاً حتى أنه ذكر منها تاريخ عقلاء المجانين والموسوسين والمنجمين والسحرة . . ليته ـ رحمه الله ـ ذكر منها تاريخ أولئك الخونة الذين سودوا صفحات التاريخ بمواقفهم وعمالتهم . .
هم لم يسقطوا ملوكاً فحسب بل أسقطوا شعوباً وأمماً وخلافات , وللأسف فإن العلماء وسابروا التاريخ وقتها أصيبوا (برهاب سياسي) فتولد عندهم خوفاً من الخوض في مثل هذه القضايا الخطيرة مما جعلها تصبح حبيسة الأذهان . ومن تكلم من العلماء حينها وصدع بكلمة الحق أصبح يترقب (ضيوف الفجر) ممن كابدوا الليل لا بطول قيام وإنما بخبث طوية وفساد معتقد!!
وقد حدثنا التاريخ كثيراً عن أولئك الخونة(المتمسلمين)حدثنا عن عبد الله بن سبأ لما كان يعمل في الخفاء ويُحدث الفتنة كما في حادثة الجمل , وبالثورة والتأليب كما وقع منه حيال عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ ..
حدثنا التاريخ عن عبيد الله بن يزيد قاتل الحسين..
حدثنا التاريخ عن أبي دؤاد المعتزلي قاتل القضاة والعلماء..
حدثنا التاريخ عن أبي طاهر القرمطي منتهك حرمة المسجد الحرام ..
حدثنا التاريخ عن الحسين الحلاج صاحب البدعة المكفرة والقول بالحلول والإتحاد ..
وحدثنا التاريخ عن ابن العلقمي الوزير المنافق صاحب الرسائل العلقمية الخائنة لهولاكو...!!
إن التاريخ القديم كما حدثنا عن أولئك الخونة ( المتمسلمين) في الحقبة الماضية , فقد حدثنا التاريخ الحديث عن أسماء سوداء وعملاء مرجفين وطوابير مختلفة الأجناس والتوجهات للإطاحة بدول عربية تنتمي إلى الإسلام ولو بالظاهر أمثال حسني الزعيم, وأديب الشيشكلي, وسامي الحناوي ,وأسعد طلس ـ عميل بريطانيا الوفي ـ ونوري السعيد وأحمد خان قائد اتجاه التغريب في الهند ومؤسس المدرسة الفكرية التغريبية والذي دعا إلى تقليد الحضارة الغربية وإلى تفسير الإسلام تفسيراً مطابقاً لما وصلت إليه المدنية الحديثة في آخر القرن التاسع عشر . وغير هؤلاء الكثير الكثير ممن تعرفهم بلحن القول..!!
ولذلك كتب الدكتور محمد محمد حسين وقتها كتابه القيم "حصوننا مهددة من داخلها" وشنع فيه على الإنهزاميين( المتمسلمين) الذين وقعوا تحت سيطرة الأفكار والنظم الغربية.
ومثل هؤلاء لا ينبغي أبداً أن يذكر أحدٌ لهم سيره وإنما تكفي الإشارة بأسمائهم ، فهم في الحقيقة لا يستحقون أن يرفع لهم ذكر أو شأن وإن كانوا أبقوا بصماتهم في دولهم بصمات الخزي والعمالة والتخريب .
إن بعض هؤلاء العملاء حاول أن يبني له ( قاعدة صلبة ولو على المدى البعيد ) قاعدة ذات نتائج وخيمة وأهداف خبيثة وخطط مدعومة والأثر المترتب على ذلك الإطاحة بكيان الأمة المسلمة .
ولذلك لما حصلت الانقلابات المتتالية في الدول العربية المجاورة في السنوات السابقة كانت قوى الانقلاب فيما تُدعم من عدوٍ خارجي لمصالح ومطامع ثرواتية فيها . وبينما كانت هذه الدول العربية تتقلب بين هذه الانقلابات كانت إسرائيل التي قامت على أكتاف الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية تعد العدة للعدوان والاحتلال وتوسيع رقعتها الجغرافية .
إن العدو الآن يتربص بنا وإننا لنعلم أن هناك خططاً تآمرية رهيبة تطبخ بدوائر ( البنتاغون ) والمخابرات المركزية الأمريكية على نار هادئة . وما تقارير مؤسسة راند الأمريكية لدراسات طبيعة الشرق الأوسط والتيارات الإسلامية بها إلا أكبر نموذج مشاهد بهذا التربص فهل لك أن تعي الواقع الذي من حولك ؟!
إن ما كنا نسمعه من أسماء لهولاء العملاء الخونة في بلد عربي مثل مصر أمثال فكري أباضه -صاحب مقالة إن أعظم رجل في التاريخ الحديث هو مصطفى كمال أتا تورك -ومن تصدروا أعمدة الصحف والمجلات في تلك الحقبة أمثال عبدا لرحمن الشرقاوي ويوسف الخال وغيرهم من ( المتمسلمين ) الذين ينتسبون للإسلام اسماً وهم في حقيقة الأمر أعداء حاقدون ، هم أنفسهم -وإن اختلفت أسمائهم -الذين نراهم ونشادهم في قنواتنا وهم الذين اعتلوا أعمدة صحافتنا وفُتح لهم المجال لكتابة ما يريدون .. !! كنا نعرفهم ( طابوراً خامساً ) فإذا بهم طوابيراً منظمة ومدعومة .
ولا زالت ( الصحافة الصفراء ) تخِّرج لنا أسماءً جديدة لهولاء ( المتمسلمين ) وتنشر لهم أفكاراً مستوردة حتى أضحت هذه الصحافة التي تحتضنها بعض البلاد المسلمة حرباً على الإسلام هدفها هدم القيم الإسلامية وتدمير مفاهيمها .
إن الخيانة التي نتحدث عنها هنا ليست قيام بعض الأشخاص بالتجسس لصالح العدو وقت السلم أو وقت الحرب فمثل أولئك يعرفهم الناس وتلفظهم الشعوب , ويحتقرهم كل عاقل ..
إن الخيانة التي نعنيها هي تلك التي يقوم بها أناس من بني جلدتنا ويتحدثون بألسنتنا ويكيدون في نفوسهم أو عند ملئهم لكل ما يمت للإسلام بصلة , سواءً كانوا حكاماً أو وزراء أو مفكرون أو ليبراليون ( متمسلمون ) .(68/98)
إن ما حدث من الخيانات منذ قرون وسنوات مازالت تخلف وراءها الآثار السلبية وتؤكد أن الجرح لازال غائراً .. ولا أدل على ذلك من الآثار التي بقيت بعد ( واضح الصقلي) أول من استعان بالغرب ضد أهل الإسلام !!
نعم سيظل ابن سبأ ومن كان على شاكلته رمزاَ لخيانة الضمير قبل خيانة العقيدة وخيانة الوسيلة قبل خيانة الهدف .
* العروض المجانية :
من العروض المجانية التي سجلها التاريخ الحديث ما تلقاه السلطان عبد الحميد الثاني الخليفة العثماني حينما تلقى عروض هرتزل ممثل الصهيونية العالمية ،وكرر إغراءاته لإنقاذ الدولة العثمانية من ديونها ، وتقوية جيوشها وتدعيم اقتصادها ، مقابل (بيع فلسطين!!) والتنازل عن بعض أراضيها .. فما كان أمام السلطان إلا أن يرفض إغراءات العروض الصهيونية ويصمم على الحفاظ على سائر الديار الإسلامية ، فثارت القوى الصهيونية ،وخرجت التسمية الأوربية للدولة العثمانية باسم (الرجل المريض ) وظهر في عالم السياسة ذلك الوقت ما عرف (بالمسألة الشرقية ) والتي سعت فيها أوربا لطرد العثمانيين وتقسيم ممتلكاتهم .
ثم توالت (العروض المجانية) حتى اختير الرجل المناسب في المكان المناسب ـ ممن باع آخرته بدنياه ـ لما لمُع شخص (كمال أتاتورك) ذلك (المتمسلم ) الذي عرف بلقب الغازي لما فُتحت الأبواب أمامه وأُظهر انتصاره على اليونانيين ،ولكنه لم يلبث حتى ظهر على حقيقته ، وأنه صنيعه لأعداء الإسلام من اليهود والنصارى .
وفي عام 1342 هـ قدم أعظم هديه للغرب (إلغاء الخلافة )و لما أثقلت كاهله العمالة وطمست على قلبه وأعمت بصره وبصيرته قال بعد أن ألقي القرآن ذات مره في يده (إن ارتقاء الشعوب لا يصلح أن ينفذ بقوانين وقواعد سنت في العصور الغابرة ) .
ومثل هذه العروض المجانية ما تقوم به الدول العربية و الشرق أوسطية من القيام بدعوة أبناءها للإبتعاث في الخارج .. والنتيجة أن يصبحوا لقمة سائغة للتغريب ،ويذوب الطرف الأضعف في الطرف الأقوى ذوباناً شبه كامل حيث يترسَّمون خطاهم ويسيرون على منوالهم في كل شيء في النظم و التشريعات و القوانين بل حتى في الزي واللباس وطريقة التفكير . وما نموذج رفاعة الطهطاوي من مصر ، وخير الدين التونسي من تونس ،إلا أكبر شاهد لنقل الحضارة (الباريسية)التي ترعرعوا عليها هناك .
إنما تبثه بعض قنواتنا العربية وما تلاقيه من دعم من جهات مشبوهة لأكبر شاهد على القيام بدور العمالة والخيانة ، لكن بدل أن يقوم بهذا الدور فرد قام به أفراد وجماعات منظمة !! وبدل أن تكون ارتجالية أصبحت مؤسسية وتدار على طاولة النقاش !!
يجلي ذلك ما ذكر في تقرير ( r anD2007) من الإشارة إلى الدعم التي تتلقاه قناة الحرة الفضائية وراديو (سوا) ـ و التي تخاطب سكان دول الخليج على وجه الخصوص ـ والذي بلغ (671)مليون دولار في السنة !!.
وهذا دليل جديد على الدعم المستمر لكل ما من شأنه زعزعة الهوية الإسلامية .
* الأفكار التوفيقية :
إن هذه الأفكار نشأة نتيجة الإغراق في التبعية للغرب والتي نستطيع أن نقول أنها بدأت بعد انهيار الخلافة العثمانية حينما واجه الغرب الصليبي والشيوعية والصهيونية الأمة الإسلامية ونشط حينها ( المتمسلمون ) وأصبحوا في حل من القيود ، وأخذت أفكارهم تجد هوى وتأييداَ لدى العامة لتصبح رأياً عاماً باسم التقدمية والنهضة والإصلاح !! وقامت هذه المدرسة الجديدة ذات الأفكار التوفيقية والتي ترمي إلى التقريب بين الإسلام والحضارة الغربية في ميادين الحياة حتى كان من نتاج هذه الأفكار : تفسير النصوص تفسيراً عصريا يلائم الفكر السائد !!
وقد ألجأ الهجوم الفكري في هذه المدارس إلى مواقف دفاعية غريبة عن الإسلام إذ جردته من كثير من أحكامه الصريحة نحو تعدد الزوجات ، والربا ، والتماثيل ، والجهاد ، وأهل الذمة .. فأصبحت هذه الأمور عندهم من نقاط الضعف في الإسلام والتي تحتاج إلى دفاع !!
اسأل الله بمنه وكرمه أن يكفينا شر هؤلاء ( المتمسلمين ) وأن يكبت انتشار أفكار هذه المدرسة التغريبية . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وكتب
فهد بن محمد الحميزي
Fahad442@maktoob.com
===============
التقويم الزمني بين الوثنية والإسلام
عبد القادر أحمد عبد القادر
كلما انتهي العام الروماني. الميلادي وبدأ عام جديد، يشعر المسلم بنوع من التقزز بسبب سلوكيات المنتسبين إلي المسيح ـ عليه السلام ـ وبسبب ابتداء دورة جديدة للأشهر الرومانية، تلك الأشهر التي سميت بأسماء الآلهة الوثنية المزعومة عند الرومان واليونان أو بأسماء طواغيتهم.. ويزداد شعور التقزز بقدر الاستخدام الإعلامي والإداري لتلك الأشهر التي تشكل تراثا للتخلف العقلي والديني في ديار المسلمين، فرض عليهم بواسطة الغزاه.(68/99)
وبسبب استعمالنا للتقويم الروماني، منذ جاءت جيوش المستعمر الصليبي الأوروبي بديار المسلمين، وبعد رحيلة بواسطة أذنابه، فقد صار ذلك الاستعمال أمراً عاديا رغم ما يحمله ذلك التقويم من خلل زمني، ورغم ما تحمله أسماء الشهور من تخليد للوثنيات القديمة، والطواغيت الرومان الذين قهروا البشر، وحاربوا شرائع الله.
تعالوا بنا في هذه الجولة للتعرف إلي أصول الأسماء الأشهر الرومانية، والعبرة بتسميتها الميلادية، لإضفاء، نوع من الاحترام عليها.
1ـ يناير (1): وقد سماه الرومان بهذا الاسم اشتقاقا من اسم الإله "يانوس" yanus إله الشمس ـ في زعمهم ـ وكانوا يصورونه بصورة رجل يحمل صواجانا بيده اليمني، ومفتاحاً بيده اليسري، وبما أنه "إله الشمس" فكانوا يقصدونه عند البدء في العمل، وعند الفراغ منه! وكانت أبواب المعبد المخصص له في "رومان" تبقي مفتوحة من أثناء الحرب، ولا تقفل إلا في أيام السلم!.
2ـ فبراير: واسمه عند الرومان anius hch r u ومعناها الكفارة والغفران، ففي الخامس عشر منه، كانوا يحتفلون بعيد التطهير والتقديس، حيث كان مخصصا للإله "لوبروقوس" وكان كهنة هذا الإله المزعوم يذبحون جدي ماعز ـ أو كلبا ويمسحون جباههم بالدم!.
وكان من خرافاتهم أن يقطعوا من جلود تلك الذبائح قطعا يطوفون بها حول معبد الاله "لوبوقوس" فإذا ضربوا بتلك القطع امرأة عاقرًا فإنها تشفي من عقمها!.
تلك القطع من الجلد كانوا يسمونها biua fe ـ فيبروا ـ وكان للرومان مع هذا الإله عيد يسمونه ـ فبروتيو ـ feb r uteii .
أما صورة هذا الإله في مخيلة الرومان، فكانت المرأة متشمة ببإزار، وفي يدها طائرة صغير ، وإلي جانبها فوهة ماء متدفق، وعند رجليها طائر، مالك الحزين!.
3ـ مارس: نبسة إلي النجم ـ المريخ: إله الحرب، وناصر الرومان وحاميهم ـ كما كانوا يظنون ـ بالاضافة إلي أنه كان في العصور السابقه إلها للعاصفة، أو للشمس ثم إلها للزرع والنبت!! إنه إله ذو صلاحيات متعددة حسب أهواء البشر.
4ـ إبريل: وهو باللاتينية Apcilis مشتقه من Apci r c بمعني التفتح والازدهار، وكان يرمز إليه بالزهرة "فينوس" أما صورته عند الرومان فهي صورة راقص يرقص علي أنغام الموسيقي!
وكان يعد عند القدماء أول السنة!
ومن هذا العبث بالشهور ـ حيث نقل أول السنة من مارس إلي إبريل، ثم إلي يناير ـ يتضح مظهر آخر من مظاهر الخلل في التقويم الروماني، ثم انتقل الرقص من أول إبريل إلي أول يناير فيما تسميه العامة، عيد رقص السنة!
5ـ مايو: باللاتينية Mains إلهة يونانية رومانية، وهي إبنة الإلة "أطلس" وأم الإلة "هرمس" وفي رواية أم "عطارد" الهة تلد وتولد كالمخلوقين!.
في أول هذا الشهر، ينتخب الرومان، أجمل فتاة ليتوجوها ملكة! ارايتم أصل ملكات الجمال؟!
وفي المدة من 28 إبريل، إلي 2 مايو يقع عيد "فلورا" إلهة الزهر!
6ـ يونيو: وهو إسم قبيلة رومانية .. ولكن لماذا سمي الشهر باسم هذه القبيلة؟
السبب عيهم، ومختلف عليه، وتكفي معرفتنا بأن السبب الجامع لكل أسماء الشهور هو تخليد الهة وعظماء الرومان في الحقيقة الوثنية.
7ـ يوليو: سمي الشهر باسم القيصر كايوس بوليوس تخليدا وتعظيما، لأنه ولد فيه وكان الشهر قبل ذلك اسمه Quinlilis بمعني الشهر الخامس.
8ـ أغسطس: سمي باسم أول قياصرة روما، تعظيما له، وكان يعرف قبل ذلك الإسم Sexliis بمعني الشهر السادس، وجعله مجلس الشيوخ الروماني 31 يوما أسوة بشهر يوليو، لكي لا يشعر القيصر أغسطس بأنه أقل منزلة من يوليوس! وكانت صورة الشهر عند الرومان رجلا عاريا، له شعر كثيف أشعث وفي يده إناء يشرب منه!
9ـ سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر وديسمبر:
هذه الأشهر الأربعة ظلت بأسمائها القديمة.
سبتمبر: مشتق من seplcm ومعناها (7).
ـ أكتوبر: مشتق من okto ومعناها (8) وكان عيدًا للخمر!
نوفمبر: مشتق من Novem ومعناها
(10)
ومع ملاحظة أن الشهر الأول كان مارس قبل التقويم البوليوسي، يتضح لنا ترتيب هذه الشهورالأخيرة، وهذا مما يدعم الخلل الحاصل في حساب التقويم الروماني.
يقول الدكتور أنيس فريحة: وقد حاولوا أن يغيروا أسماء هذه الأشهر بتسميتها بأسماء، أباطرة، فحاولوا مثلا أن يسموا نوفمبر "طيباريوس" وأكتوبر "جرمانوس" أو "أنطونيوس" ولكن المحاولة فشلت لأسباب سياسية أو حزبية
الأشهر السريانة، أو الرومانية أو المسيحية:
وهي: كانون الثاني ـ شباط ـ اذار ـ نيسان ـ آيار ـ حزيران ـ تموز ـ أب ـ آيلول ـ تشرين الأول ـ تشرين الثاني ـ كانون الأول.
وهي الأشهر المستعملة في الشام والعراق، وهي كنظيرتها المستعملة في الشام والعراق، أصول وثنية في مسمياتها.
خلاصة هذا الموضوع(68/100)
إن التقويم أجزاء ـ عن كيانات الأمم، بل ومن شعائرها الدينية، وتقويمنا، الهجري يأخذ من هذا المعني أعمق دلالته، لارتباط بعض أركان الإسلام وشعائره وأعياد المسلمين به، وهو تقويم يبدأ شهره وبظهور الهلال، والذي ابتدا به النظام الزمني يوم خلق الله السموات والأرض {إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منهم أربعة حرم} السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متوانيات ذو القعدة، وذو الحجة ومحرم مضر الذي بين جمادي وشعبان (رواه البخاري ومسلم وغيرهما).
بين الوثنية والإسلام
الآن والصحوة تعفق جذورها، وتقوي أصولها، لابد أن يأخذ أبناؤها موضوع التقويم باهتمام شديد، فلا يمكن أن تنقل أيام صوم رمضان إلي أي تقويم آخر، ولا يمكن أن ينتقل العيدان: الفطر والأضحي من أول شوال والعاشر من ذي الحجة إلي غيرهما من الأيام والأشهر، ولا يمكن أن ينتقل العاشر من المحرم، أو تنتقل ليلة تقويمنا حساب شرعي دقيق نلزمني وهو أي تقويم شعيرة من شعائرنا {136} (الحج 32) من هنا نقول هل يليق بمسلم ألا يكون حافظًا للأشهر الإسلامية؟وهل يستطيع المسلم أن يردد أسماء الآلهة الوثنية القديمة عن خلال ترديده لأسماء الشهور الرومانية، وهل يستثقل المسلم انتحق بأسماء الشهور الاسلامية؟
إن اليهود يعتزون بتقويمهم، وقد أحيوه بعد إندثاره مع لغتهم.
وإن النصاري يعتبرون أنفسهم امتدادا لرومان، فواصلوا العمل بتقويمهم الوثني فأين نحن؟
المصدر مفكرة الإسلام
=================(68/101)
(68/102)
جِيء بهم لفيفا
محمد جلال القصاص
أربعةٌ :
الأولى :
أطال النفس الشيخ الدكتور عبد العزيز كامل في التحدث عن بني إسرائيل . . . من هم ؟
وأبان بما لا يدع مجالا للشك أن بني إسرائيل هم اليهود والبروتستانت ( الإنجيليين ) مستندا إلى أن اليهود حين سباهم النصارى وحَمَلوهم إلى أوروبا عبيدا اعتنقوا النصرانية ثم حرفوها ، وقد كان ( مارتن لوثر ) ذا جذور يهودية [1]. والبروتستانت هم أقل الطوائف بغضا للنصارى ، وهم أكثرها إيمانا بالعهد القديم[2] ، بل هم من ينصرون النصارى على أرض الواقع بدوافع إيمانية .
والمقصود أن بني إسرائيل هم اليهود والإنجيلين من النصارى ( أمريكا وبريطانيا واستراليا ) الذين يقاتلون في العراق وأفغانستان وفلسطين اليوم . . . أو قل الذين يتولون قتال المسلمين اليوم .
الثانية :
في محكم التنزيل : " وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً{4} فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً{5} ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً{6} إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً{7}
والنفير هو عدة الحرب ، وهم اليوم ولا شك أكثر نفيرا ، وهم اليوم علو علوا كبيرا في الأرض .
ــ و ( إن قارئ أسفار التوراة -لاسيما أنبياء عهد السبي وما بعده- يجد بوضوح تام أنها تشتمل على نبوءات عن اليهود في آخر الزمان ، وأن لهم بقية يكون لها اجتماع ومملكة أخرى في فلسطين ، وأن الله سوف يسلط عليهم غضبه بواسطة أمة قديرة تجتمع عليهم من أطراف الأرض) كما يقرر الدكتور سفر الحوالي في كتابه ( يوم الغضب هل بدأ بانتفاضة رجب ؟) ص 7 وما بعدها .
الثالثة :
وإن فتن آخر الزمان ستكون ببيت المقدس وأجوار بيت المقدس ، هكذا يتكلم النصارى ، وهكذا يتكلم اليهود ، وهكذا يتكلم المسلمون[3] .
والرابعة :
أن العلمانية شدت رحالها ، وأن الصراع اليوم على خلفيات دينية واضحة ، يشهد لذلك اليهود بعلمهم ذي الخطين الأزرقين ، وخريطة إسرائيل الكبرى على الكنيست الإسرائيلي ، وبوش الصليبي المتعصب ، وحملات التنصير المنتشرة كالجراد في كل بقاع العالم الإسلامي ، وتشهد هذه الصحوة المباركة في الأمة الإسلامية .
لا تكاد تخطئ عين كل متابع أنها بدأت . فها هم بنو إسرائيل على ذات الأوصاف التي تكلمت عنها نبوءات ( الكتاب المقدس ) ـ رجسة خراب ــ ، وعلى الذات الأوصاف الذي تكلم عنها القرآن الكريم ــ أكثر نفيرا وعلو علوا كبيرا ــ ، وها هو الصراع بدأ شرقي نهر الأردن ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ، وعلى يد ( أمّة قديرة اجتمعت عليهم من أطراف الأرض ) .
وهاهي الأمة الإسلامية تنفض يدها من العلمانيين . . . القوميين بعد أن خانوا وهانوا وأبدوا للأعادي الِّلينا . . . بعد أن أضاعوا شعوبهم فلم يبقوا دنيا ولا دينا .
وقد نفدت كل الحيل ورمى القوم بكل سهامهم ، ولم تنكسر شوكة المسلمين بل شبَّت واشتدت ، ولكن لا زالت الصورة مُغَبَّشَةٌ ، لا زالت النخبة تتكلم من منطلقات دنيوية تبحث عن ( السلام) بمفهوم القوم ، وتنادي بتحرير الأوطان بحدودها المستحدثة على يد ( سايكس ــ بيكو ) ، ونحتاج لتنقية الأذهان من رواسب الجاهلية . لتنطلق الأمة مؤمنة بربها ، تبحث عن تعبيد الناس لله . . . تنطلق وهي تحمل لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وتنادي في الناس اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . عندها سنردد جميعا " ألا إن نصر الله قريب " .
فليت الهمم تنشط لتصحيح المفاهيم ، وحشد الجماهير ، فإن نصر الله لا يتنزل إلا على المؤمنين .
-------------------------------------------
[1] تجد ذلك في عدد من مقالات الشيخ في مجلة البيان ، وفي ثنايا كتابه القيم ( حمى سنة 2000) ، وهو حق يدعمه تاريخ اليهود فقد كان ( بولس ــ شاؤول ) يهوديا تولى تعذيب المؤمنين بالمسيح عليه السلام ثم بين عشية وضحاها وفي قصة يشكك في صحتها الأصدقاء قبل الأعداء أصبح رسولا من عند ( رب المجد يسوع ) ، ورفع المسيح عليه السلام لدرجة الألوهية ومارس هو مهام الرسول كاملة . ومن يتدبر في قصة بن السوداء يجده سار على ذات الطريق بذات الألفاظ . . . أراد رفع علي بن أبي طالب لدرجة الإله ، وأخذ هو يتحدث للناس بما يستحق هذا ( الإله ) وما يجب عليهم نحوه ، وقد بقيت آثار لأقواله في أرباب التشيع إلى اليوم . [ انظر ترجمة بن سبأ في البداية والنهاية : وفيات عام 38 هـ ] .(68/103)
[2] كتاب النصارى الذي في أيديهم اليوم يتكون من قسمين : العهد القديم والعهد الجديد ، العهد القديم يتكون من عدة أجزاء : الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى عليه السلام ، وهي ما يقال لها عند المسلمين التوراة مجازا ، و الأسفار التاريخية منسوبة لعدد من الأنبياء الذين عاصروا هذه المرحلة . ، و أسفار الشعر والحكمة ، والأسفار النبوية ، واسفار الأبوكريفا ـ وهي محل خلاف عندهم ـ ويطلق النصارى لا اليهود على هذا الأجزاء الأربعة اسم العهد القديم ، وتسمى أيضا الكتب والناموس ، ويطلق اسم التوراة على الأجزاء الثلاثة الأخيرة تجوزا .
و العهد الجديد هو مجموعة الأناجيل الأربعة والرسائل الملحقة بها، وينسب إلى ثمانية من المحررين ، بعضهم تنصر على يد من لم يلق المسيح ، وبعضهم غامض لا يعرف له تاريخ إلى اليوم ، وكذا كثير من كتبة العهد القديم . راجع إن شئت ـ هل العهد الجديد كلمة الله ؟! ، وهل العهد القديم كلمة الله ؟! للشيخ الدكتور منقذ محمود السقار .
[3] انظر رسالة إلى الطائفة المنصورة ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ( ملحق مجلة البيان العدد 200 ) .
===============(68/104)
(68/105)
الإنجليزي الماكر.. الذي خدع ( طوال الشوارب ) .. !
سليمان بن صالح الخراشي
أنقل لكم من كتاب الأستاذ أنور الجندي - رحمه الله - : " الإسلام والثقافة العربية " ( ص 196-198) - شيئًا عن " لورنس " الإنجليزي الماكر الذي استطاع خديعة " طوال الشوارب " ! من القوميين العرب ، وسخرهم لخدمة بلاده . ولا تعجب فإذا ما نُحي الإسلام وأحكامه عن قضايا المسلمين ، أصبحوا - وإن ادعى بعضهم الفهم - كمن يمشي مُكبًا على وجهه ، يتلاعب به أعداؤه ، ( ومن يُهن الله فما له من مُكرم ) ، وفي نقل التاريخ عبرة لكي لا نُلدغ مرة ثانية بأسلوب مُشابه .
لورنس .. الأعمدة السبعة
إن الجانب الذي يهمنا من دراسة هذا المغامر البريطاني في هذا المجال هو كتاباته عن العرب في كتابه (أعمدة الحكمة السبعة) فقد كشف في كتابه عن حقد وكراهية للعرب والمسلمين ولتاريخهم، وحاول التقليل من شأنهم ورميهم بالجهل والتخلف. فضلاً عن مغالطاته المتعددة وأخطائه التاريخية.
وأبرز ما يؤكد ذلك قوله بالنص:
" لقد كنت أعلم أننا إذا كسبنا الحرب فإن عهودنا للعرب ستصبح ( أوراقا ميتة ) غير أن الاندفاع العربي كان وسيلتنا الرئيسية في كسب الحرب الشرقية، وعلى ذلك فقد أكدت لهم أن بريطانيا سوف تحافظ على عهودها نصاً روحاً فاطمأنوا إلى هذا القول وقاموا بالكثير من الأعمال المدهشة، ولكني في الواقع بدلاً من أن أشعر بالفخر لهذا الذي فعلته، كنت أشعر دائماً بنوع من المرارة والخجل، لقد ذهبت إلى الصحراء غربياً لا أملك أن أفكر على طريقة أهلها ولا أن أشاركهم معتقداتهم، ولكنه كان علي أن أقود العرب وأن استخدم حركتهم إلى أقصى حد لصالح بريطانيا في الحرب وإذا لم أكن أقدر على التطبع بطباعهم فعلى على الأقل أن أخفي ما عندي وأن أتسلل بنفوذي بينهم، إن الرجل إذا ألقت به الظروف إلى من لا يماثلونه عاش بينهم ولا ضمير له، لأنه قد يعمل ضد صالحهم أو يستميلهم إلى غير ما يحبون لأنفسهم، وهو يتحايل بدهائه لتغلب دهاءهم، وهكذا كنت مع العرب، كنت أقلد أحوالهم فيقلدونني حكاية واقتداء، وكنت أخرج على مألوفي وأتظاهر بمألوفهم.
لقد كان بعض الإنجليز وعلى رأسهم كتشنر يعتقدون أن ثورة يقوم بها العرب على الأتراك تساعد انكلترا وهي تحارب ألمانيا على دحر خليفتها تركيا، إنني لم أبلغ درجة من الحمق تجعلني لا أدرك أنه لو قضي للخلفاء أن ينتصروا وأننا لو كسبنا الحرب فإن هذه الوعود سوف تكون حبراً على ورق، ولو كنت مناصحاً شريفاً للعرب لنصحتهم بالعود إلى بيوتهم وسرحت جيشهم وجنبتهم التضحية بأرواحهم ودعوتهم إلى عدم المخاطرة بحياتهم في مثل هذه الحرب، أما الشرف فقد فقدته يوم أن أكدت للعرب بأن بريطانيا ستحافظ على وعدها.
لقد كان قواد الحركة العربية يفهمون السياسية الخارجية فهماً عشائرياً بدوياً، وكانت طبيعة قلبهم وصفاء نيتهم وانعزالهم عن العالم الغربي تخفي عليهم ملتويات السياسة وأخطاءها وتشجع البريطانيين والفرنسيين على القيام بمناورات جريئة يعتمدون في نجاحها على سذاجة العرب وضعفهم وبساطة قلوبهم، وكانت لهم بساطة في التفكير وثقة في العدو.
إنني أكثر ما أكون فخراً إن الدم الإنجليزي لم يسفك في المعارك الثلاثين التي خضتها لأن جميع الأقطار الخاضعة لنا لم تكن تساوي في نظري موت إنجليزي واحد، لقد جازفت بخديعة العرب لاعتقادي أن مساعدتهم كانت ضرورية لانتصارنا القليل الثمن في الشرق، ولاعتقادي أن كسبنا للحرب مع الحنث بوعودنا أفضل من عدم الانتصار". اهـ.
وأعتقد أن هذه النصوص كافية لكي تكشف حقيقة لورنس والدور الذي قام به في العالم العربي، وآية خداع لورنس وتآمره على العرب ما سجله ( وايزمان ) في كتابه "التجربة والخطأ" قوله: وأود أن أعلن في هذا المجال تقديري للخدمات الجليلة التي أسداها لقضيتنا الكولونيل لورنس، لقد اجتمعت به في مصر وفلسطين، وقابلته فيما بعد مقابلات عدة، إن علاقته بالصهيونية علاقة إيجابية على الرغم من تظاهره بالميل للعرب.
وقد ظل اسم لورنس يدوي مصوراً تلك المغامرة السحرية الجريئة التي قام بها والعمل البطولي الذي وصف من أجله بأنه سلطان الصحراء العربية وملك العرب غير المتوج حتى توفي في 19 مايو 1935.
ثم ظهرت بعد ذلك كتابات كشفت وجهه الحقيقي؛ كتبها أمثال ريتشارد الدنجتون في كتابه "لورنس الدجال" وجان بيروقيلار الكاتب الفرنسي، ولويل توماس، وروبرت جرنقر، وليدل هارت، فكشفوا عن حقيقته وأظهروا مئات المغالطات التي ملأ بها كتابه، وعزوا سر اندفاعه ومحبته للظهور إلى سبب باطني، ذلك أنه كان ابنا غير شرعي لأمه، ووصفوه بأنه كان متحمساً للقضاء على الإمبراطورية العثمانية لتأكيد سطوة الاستعمار البريطاني وحده, وأن ما ادعاه من محبته للعرب ومقابلته للملك البريطاني مع فيصل بالعباءة والعقال العربي ورفضه قبول الوسام إنما كان هذا كله تغطيةً لمواقفه، وبلوغا بالمسرحية إلى غايتها.(68/106)
وقد دحض ريتشارد الدنجتون في كتابه هذه الأسطورة البطولية، ليحل محلها إنسان مليء بالعقد والشذوذ، وعنده أن لورنس هو الذي عمل على اجتماع فيصل وحايم وايزمان في باريس 1919 وهو الذي كتب الاتفاقية التي وقعها كليهما، وكان لورنس يُطلق على الثورة العربية (تقطيع أوصال الدولة العثمانية) !! وهدفه إيقاع الخلاف وتعميقه بين العرب والترك.
وقد عرف أن لورنس لم يصل إبان الحرب العالمية مصادفة، ولكن العمل الذي قام به كان قد بدأ ربيع 1914 عندما وصل إلى الشرق، متخذا من ( فن البناء العسكري الصليبي ) موضوعاً لدراسته، وكان قبل ذلك ملتحقاً ببعثة أوفدت إلى وادي الفرات للبحث عن الآثار، وهكذا كانت خطته في دراسة الصحراء تختفي وراء عمل علمي بحت، هو دراسة البادية والمدن العربية والإلمام بطبائع سكان الأصقاع من مدن وحضر، والإلمام باللهجات التي يتكلمون بها والوقوف على عاداتهم، ثم استخدمه الإنجليز في ديوان الاستخبارات بعد ذلك حتى وصل جدة 1916 واتصل بفيصل وعمل معه ) .
==================(68/107)
(68/108)
وانفجر قيح أوسلو
أطق الصليبي الأمريكي كلماته الفارغة عن أي معنى انتظره منه المتوسلون.
وتلقفه منه المهرولون والوسطاء واصفين له بالإيجابية... وكان أسرعهم... رئيس الشرطة الفلسطينية وبعض رجاله الذين كان أحدهم مجاورا للبيت الأبيض في واشنطن...
وأحس بعض رجال الشرطة بأن كفة االاختيار اليهودي والصليبي، تميل لصالح بعضهم دون بعض...من أجل تحقيق الإصلاح المطلوب وهو القضاء على رجال الحركة الجهادية... ومن في صفهم من المقاومة في الفئات الفلسطينية، فانفجر قيح أوسلو بين الفريقين وأخذ بعضهم يكيل الاتهامات لبعض...
وأصبح شغلهم الشاغل على الفضائيات... هل سيرشح عرفات نفسه للانتخابات المقبلة أو لا؟ وهل سيعقد المؤتمر الإقليمي في هذا الصيف أو لا؟
كل ذلك يحدث واليهود مستمرون في محاصرة المجاهدين وهدم المنازل عليهم... وإمطارهم بكافة الأسلحة اليهودية من الجو والأرض.. وقتل المئات منهم واعتقال الآخرين ونقلهم إلى معتقلات الجحيم اليهودية، ليقتلوا من شاءوا... ويعذبوا من شاءوا
إن (CIA ) تعد في بعض العواصم العربية مع تلاميذها من المخابرات العربية إقامة قسم شرطة جديد قوي في الأرض المباركة، بعد أن استهلكت القسم السابق، من أجل القضاء على الحركة الجهادية المباركة....
والحقيقة أن رجال المخابرات وأجهزة ما يسمى بالأمن هي التي ستتولى قيادة الشعب الفلسطيني رغم أنفه، للقضاء على الأحرار المقاومين للاحتلال اليهودي، بناء على الرغبة الأمريكية واليهودية...
http://www.alwatan.com.sa/daily/2002-07-02/politics/politics01.htm
كما تعد (أمريكا ) العدة للهجوم على الشعب العراقي، لتدخل المنطقة في ضنك جديد في السياسة والاقتصاد والإحن والعداوات...
وتخطط لتغيير خارطة المنطقة وتمزيقها والقضاء على ما بقي فيها من عروق حياة تنبض، ليتمكن اليهود من الاستقرار واستئناف الاستعداد لتوسيع رقعة دولة (إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات)
ووجهت وسائل الإعلام لتثير ضجة حول خطاب الرئيس الأمريكي، وحول إصلاح القيادة الفلسطينية وتغييرها أو بقائها، لتشغل الرأي العام بهذا الضجيج... عن الهدف المقصود... الذي تطبخه أجهزة المخابرات هنا وهناك...
الكونغرس الأمريكي أصبح يحاكمنا ويحاكم علماءنا بالاشتراك مع بعض قادة الصهاينة علنا، ويكشف عن مقاصده التي يريد تنفيذها في بلداننا بدون تحفظ.
ونحن على ثقة كاملة بأن الله تعالى معنا، وأنه سيحبط أعمال أعدائنا، وينصرنا عليهم، ولكن نصر الله لا يؤتاه من لم يتخذ له أسبابه، ويعد له عدته، فقد قال عمر رضي الله عنه لمن لازموا السجد وادعوا أنهم متوكلون: "بل أنتم متواكلون... إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة"
والله تعالى الذي وعد المؤمنين بالنصر لم يطلق وعده بدون قيد ولا شرط، وإنما رتبه جزاء على شرط، فقال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )) (7) محمد.
والمراد بنصر الله نصر دين، وهذا النصر لا يتحقق إلا بأمور، ومنها:
أولا: اجتماع كلمتهم على الحق واعتصامهم بحبل الله وعدم تفرقهم، كما قال تعالى:
((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون(103) آل عمران
ورتب سبحانه على التفرق والتنازع الفشل وذهاب القوة والهيبة، فقال تعلى: ((ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم))
ثانيا: اتخاذ أسباب النصر، ومنها إعداد العدة المستطاعة المناسبة لأحوال العصر الذي يعيشون فيه، قال تعالى: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون)) (60) الأنفال
إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير(39) التوبة
هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم(38) محمد.
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
===============(68/109)
(68/110)
العلمانية إلى أين ؟
محمد جلال القصاص
في استطلاع للرأي أجري في أمريكا قبل الإنتخابات الأخيرة بثلاثة أشهر تقريبا وجد أن 70 % من الأمريكيين المسجلين على قائمة اللوائح الانتخابية الأمريكية قالوا : إن الرئيس الأمريكي المقبل يجب أن يحدد سياسته بناءا على قناعات دينية ( المجتمع العدد 1627 ص 28 ) .
وفي الانتخابات الأخيرة رأينا عقد ما يشبه المؤتمرات الانتخابية في الكنائس ، وتصويت جماعي من المنظمات الدينية لجورج بوش .
ولم يستطع كيري الثبات على خطابه العلماني الذي ابتدأ به حملته الانتخابية فأخذ هو الآخر يتلو ما يحفظه من وصايا ( الرب ) ويزور الكنائس .ورأينا المناظرات الأمريكية بين المرشحين تنتهي بدعوات مثل " فليحمِ الرب أمريكا " .
نعم اختيار الشعب الأمريكي بوش تعبير واضح عن صحوة دينية لدى الشعب الأمريكي .
والأمر ليس خاص بأمريكا وحدها وإنما بكل عباد الصليب وفقط أشير اشارات إلى مظاهر هذه الصحوة.
على المستوى الرسمي ( الحكومات) .
في فرنسا التي تتشدق بالعدل مُنع الحجاب في المدارس والجامعات ، وبريطانيا جنبا إلى جنب مع أمريكا ـ والأمر لا يتعلق بشخص "بلير " كما يحلو للبعض أن يصوره . بل بمن اختار بلير فترتين متتاليتين ومن سكت عليه أعني الشعب بعد كل ما اقترف فهذا كله تعبير واضح عن وجه الشعب البريطاني المعادي للإسلام ـ. وأوروبات جميعها لا تريد تركيا ـ وهي بعلمانيتها كما هي ـ فقط لكونها تحمل الهوية الإسلامية تاريخيا. أقول :وجه أوروبا الصليبي لا يخفى على أحد ولكنه متوارى خلف السيطرة الأمريكية , وإلا فأين أوروبا مما يحدث للعالم الاسلامي ومصالحها مرتبطة به ؟! .
وانحسار العلمانية على مستوى الأفراد والمؤسسات الأهلية أوضح :
فقد رأينا الدبابات الأمريكية على أبواب الفلوجة ترفع الصليب ، ومعها الرهبان والحاخامات .
ومن قبل رأينا قطعان المنصرين وهي تقف خلف الجيش الأمريكي تنتظر إرهاب هذا الشعب وتجويعه لتقوم بتنصيره .
ومن يقرأ عن التنصير المنتشر كالجراد في بقاع العالم الإسلامي التى تعاني من الفقر وما يصرف عليه وما تقدمه دول الغرب من تسهيلات لهؤلاء الضالين المضلين يعلم أن الأمر ليس عملا فرديا أو محدودا بل توجه عام لدى هذه الأمم ورغبة جاده في هدم كيان الإسلام " والله متم نوره ولو كره الكافرون "
بل ومِن قراءة أولية لنجاح بوش في الانتخابات الأخيرة يتبين أن الشعب الأمريكي اختار بوش الصغير وهو يعرف تماما توجهه الديني المتشدد ، وأنه يتجه إلى تقليص حريتهم المزعومة بموقفه السلبي من الشواذ وموقفه الداعم للتعليم الدين ( المسيحي ) في المدارس وموقفه الإيجابي من الإعدام ، اختار الشعب الأمريكي بوش الصغير ولم يلتفت إلى ما حلَّ به من مصيبة إقتصادية حيث تحول فائض الموازنة في عهد كلينتون من 463 مليار دولار تقريبا إلى عجز بلغ 1200 مليار دولار في آخر فترة بوش الأولى . ولم يتأثر الشعب الأمريكي بارتفاع أسعار النفط وزيادة معدل البطالة ، نعم اختاره وهو يعلم تماما أنه يرفع حربا صليبية على الإرهاب ـ الذي لا يعني في حس الشعب الامريكي إلا الإسلام ـ .
ولا يقول أحد أن بوش لم يأخذ إلا ما يزيد عن النصف قليلا من أصوات الشعب الأمريكي . فلم يكن الشعب يختار بين ضدين ( بوش وكيري ) بل متماثلين يختلفان في الوسائل لا الأهداف . وهم اختاروا الأشد .
وليس يجدي ما يذهب إليه البعض من تبرئة الشعب الأمريكي والشعوب الغربية عموما بدعوى أن هذا كله بسبب التضليل الذي تمارسه القيادة عليهم من نقل صورة مشوهة لهم عن الإسلام وأهله .
أقول : هذا تفسير وليس تبرير , فالحال هكذا منذ كانت الدنيا . والقرآن يخبرنا بأن الملأ الذين استكبروا يمكرون على شعوبهم "...قال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا ..." " قالوا إنكم كنتم تنأتوننا عن اليمين ", وجهنم تجمع الصنفين . ولا ييظلم ربك أحدا.
وما يعنيني في هذا التقرير هو أن المد الديني عند النصارى في كل بقاع العالم يتزايد مما يشي بأن طور العلمانية قد آذن بالانتهاء وأن الصراع قد بدأ يعود عَقَدِيَّا كما كان .
هذا على صعيد النصارى .
وغني عن القول أن اليهود تُحركهم معتقدات توراتية وأنهم ما جاؤا لفلسطين إلا لتحقيق نبوءات توراتية يشهد لذلك عَلَمُهم ذو .الخطين الأخضرين.( النيل والفرات ) , وخارطة إسرائيل الكبرى على الكنيست ( الإسرائيلي ) والعملة اليهودية تشهد بذلك .
ومشكلة المشاكل التي استعصت على الحل طوال قرن أو يزيد من الزمان أعني الشرق الأوسط لاتعني عند اليهود والأمريكان إلا (إسرائيل الكبرى ) ... ( مملكة الرب ) التي عاصمتها القس وحدودها النيل والفرات وأجزائها التي لا تتجزأ منها القدس والطور(طور سيناء )، وكل اليهود على قولة واحدة وهي : أنه لابد من (مملكة الرب .. إسرائيل الكبرى) . ويشاركهم في هذا الإنجليين من النصارى بوش ومن معه ، وعند الشيخ الدكتور عبد العزيزمصطفى كامل في كتاب ( حمى سنة 2000 ) ما ينِّور العقول ويشرح الصدور لمن أراد أن يستيقن أو يستزيد .(68/111)
أما المسلمون فـ (الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة ).والملاحظ أن المد الدعوي يتزايد يوما بعد يوم ، فالقومية العربية رحلت ودارت عليها عجلة الأيام ، وها هي ذا الأجيال الناشئة تلعنها بعد أن أضاعت المقدسات وأهدرت الثروات ولم تنتصر على عدو قط ؛ بل لم يكن لها عدو إلا أبناء أمتها ممن قالوا ربنا الله .فاليوم بعد أن خزلت العراق ( الشقيق ) ووضعت يدها في يد اليهود ولم تعد تشجب مايحدث بمجرد الكلمات وبعد وقوفها في صف من كانوا أعدائها حربا على أبناء دينها وبعد أن أفلس منظريهم ولم يعد عندهم مشاريع فكرية جديده يضحكون بها على العوام لم تعد تثق فيهم الجماهير ولا فيمن ينتسب إليهم من علماء الدين ( الرسميين ) ،. وبدأت الجماهير تنفض أيديها منهم وتصغي إلى الخطاب الإسلامي .
فالعلمانية في الأمة الإسلامية شدت رحالها ، ولم يعد إلا إرهاب السلطان وعربدة الأقلام التي تحتمي بحمى القانون . كل هذا جعلني أقول : أن طور العلمانية في طريقه للأفول ، وأنها ستعود كما بدأت .. إيمان وكفر .
===============(68/112)
(68/113)
المقاومة الإسلامية في العراق من يحصد ثمارها ؟
محمد جلال القصاص
ليست المقاومة العراقية ولا الأفغانية ولا الشيشانية هي الأولى التي يقوم بها شعب ضد من يتعدى على أرضه وعرضه ويدنس مقدساته ؛ بل هي أمر فطري فطر الله عليه الناس من يوم كانوا ، وما استكان شعب إلا حين يؤمن بمعتقدات الغير كما حدث مع الفتوحات الإسلامية . فالمقاومة إذا أمر فطري ، بَيّدَ أنها تُوجه ... يَدٌ تزرعها وأخرى تحصدها .
وفي مقالي هذا ـ بحول الله وقوته ـ أحاول من خلال تتبع بعض حركات المقاومة في التاريخ وكيف كان مصيرها استخلاص بعض الدروس التي ربما يستفيد منها أهل الجهاد في العراق . وأبدأ ـ مستعينا بالله ـ بهذا النموذج .
نهضة محمد علي باشا في مصر .
قبل مجيء الحملة الفرنسية على مصر ( 1798م ـ 1801م ) لم تكن الأمة متخلفة غافلة كما يُدندن بعض أدعياء الثقافة ، ولم تكن الأمة فقيرة إلى كل العوامل التي تساعدها على النهوض الذاتي لذا كان لابد من الاتصال بالغير والأخذ عنه كما يدعي جهلة المثقفين . أبدا لم يكن الأمر كذلك . فقد كانت هناك العديد من دعوات اليقظة التي كانت في الأمة قبل مجيء الحملات ( الاستعمارية ) الأوروبية عليها ، منها ـ على سبيل المثال ـ الدعوة السلفية على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد ، والجهود التي قام بها عبد القادر عمر البغدادي صاحب خزانة الأدب في العراق ، ومحمد عبد الرزاق الحسيني المشهور بـ ( المرتضى الزبيدي ) صاحب تاج العروس ، وكذا الإمام الشوكاني في اليمن ، وحسن إبراهيم الجبرتي ( الجبرتي الكبير ) في مصر والذي كانت له جهود ومخترعات في مجال الفلك والرياضيات وهو جد الجبرتي صاحب التاريخ[1] ؛ وما يعنيني هو أنه كانت هناك بوادر صحوة فكرية تسير في الاتجاه الصحيح قبل مجيء الحملة الفرنسية على مصر ، وكذا نمت صحوة في مجال آخر حين قدمت الحملة الفرنسية ، إذ أنه بعد أن هَزم الفرنسيون النظام المملوكي الحاكم في مصر ، قامت مقاومة شعبية تحت قيادة علماء الدين وفي إطار الجهاد الشرعي ضد العدو الكافر ، فقد استطاع ( الشعب المصري تحت قيادة علماء الدين أن يمارس جهادا مسلحا ناجحا ضد الحملة الفرنسية ( ا1798 ـ 1801 م ) وضد حملة فريزر الإنجليزية ( 1807م ) .... وفي مجال التصنيع كان ثُوَّار القاهرة في الثورة الثانية على الحملة الفرنسية كانوا قد استطاعوا تصنيع البارود والمدافع )[2] . فقد كان رفضا للمحتل كما هو الحاصل اليوم في العراق ، وكانت صحوة يقودها علماء الدين .. تنطلق من الأزهر وترفع شعار الجهاد ضد المحتل الكافر .
وماذا حدث لهذه الصحوة وتلك ؟
أحاطت بالفرنسيس المشاكل فجعلتهم يرحلون عن مصر . ولكنهم خلَّفوا ورائهم محمد علي باشا ، وسواء أكانوا هم الذين جاؤوا به عن طريق التوسط عند الخليفة العثماني كما تحكي بعض المصادر [3] أم أنهم فقط وقفوا بجواره وشجعوه بمدِّهِ بالخبراء ( كسُليمان باشا الفرنساوي مثلا ) الذين أسسوا له الأسطول وبنوا الجيش من جديد وأنشئوا له القناطر الخيرية لتنظيم الريّ في الدلتا لتكتمل صورة ( النهضة ) في عين الفلاحين من أبناء الشعب ، فهذا لا يعنيني هنا ، وإنما فقط يعنيني أن الصحوة التي كانت في الأمة يومها قَطف ثمارها العدو بأيدي ( أبناء ) هذه الأمة وانقلب على الشجرة فقطع فروعها وأنهك جذرها فلم يبقى منها إلا قليل توارى في الأرض ؛ وأصبحت طاقات الأمة المصرية الناهضة حربا على الخلافة الإسلامية وعلى الدعوة السلفية في الجزيرة العربية ، واستخدمت الموارد البشرية والمادية لتحيق حلم يرتبط بشخص محمد علي ويمهد لقدوم العدو مرة ثانية ، وحين كاد عمرو أن يشب عن الطوق ... حين أراد محمد علي أن يتطاول على أسياده الأوربيين ويهاجم إحدى الدول الصليبية ( اليونان ) تجمع له الأوربيون في معركة ( نافرين ) وأرجعوه ، وفي مرحلة أخرى ـ في عهد الخديوي إسماعيل ـ زجوا بجيش (الصحوة ) في غابات أفريقيا ـ الصومال وأثيوبيا ـ حتى ذهبت قواه وعاد هيكلا لا يقوى إلا على قمع المعترضين من أبناء الشعب [4].إلى هذا الحد انتهت الصحوة المصرية ضد العدو الصليبي الفرنسي يومها ؟
ولكن ما هو السبب الحقيقي ؟
أجيب إن شاء الله بعد عرض هذا النموذج :
في العقدين الخامس والسادس من القرن الميلادي المنصرم كانت الأمة الإسلامية تعيش حالة من الغليان على الغرب كلِه ، وقامت حركات مسلحة تقاتل عن أرضها ودينها وحركات دعوية تريد إعادة الخلافة وتوحيد الكلمة وحركات سياسية مُغرضة ومخلصة تسير في نفس الاتجاه ؛ وكانت الصبغة الغالبة هي الصبغة الدينية ، والمطالب الأولى هي مطالب شرعية ، كان هذا في مصر ( حركة الإخوان المسلمون وخروج الثورات من الأزهر ) وفي الجزيرة العربية قامت صحوة ـ إن صح التعبير ـ من أجل لمّ الشمل تحت راية التوحيد ، وفي الجزائر ( الثورة الإسلامية ـ المليون شهيد ) وفي ليبيا كان عمر المختار ورفاقه يرفعون راية الجهاد ، ولم تخلو الشام ولا العراق ، والمهم أن الأمة كلها باختلاف شرائحها من عوام ومثقفين كانت ثائرة تريد طرد المحتل وإقامة شرع الله في الجملة .(68/114)
فماذا حدث ؟
العكس تماما ... ما حدث كان على العكس تماما مما كانت تطالب به الأمة .
أُنشِأت الجامعة العربية كبديل للجامعة الإسلامية التي ربما لو تكونت لأعادت الخلافة الإسلامية أو حافظت على هوية الأمة على الأقل ، ثم بعد حين أصبحت الجامعة العربية شكلية لم تقدم أي شيء سوى أنها استوعبت حماس الأمة وكانت حلا مرحليا لمطالبة الشعوب بالوحدة ، وفي الأخير صارت إلى ما هي عليه اليوم .
انتهى أمر هذه الصحوة بالعلمانية ـ فصل الدين عن الحياة ـ ... بكلمات أُخر : قَطَفَ ثمار هذه الصحوة العلمانيون ، وحدث ما لا يخفى من ابتلاء لقطاع عريض من الصحوة الإسلامية . فثمار هذه الصحوة ـ في العقدين الرابع والخامس من القرن العشرين ـ وضعت في سلّة العدو بيد ( أبناء ) الأمة ، فلم تعد الخلافة الإسلامية ، ولم تتحرر فلسطين بل لم تحافظ على هويتها الإسلامية ، ولم يُطبق شرع الله كما كانت تنادي الصحوة في كثير من البلدان التي قامت فيها . وخرجت الصحوة من المحنة فصائل بطيئة الحركة تتعثر في سيرها ... كلما نهضت من كبوة وقعت مرَّة أخرى ، فمن التعصب للجماعات إلى التعصب للأفراد ... ولا أريد الاسترسال فقط أريد القول : إننا بصدد تكرار ما حدث.
. وحتى يتضح مرادي أجيب على السؤال الذي طرحته من قبل :
كيف ضاعت الثمار بهذه السهولة ؟
أو قل : لماذا اتجه محمد على نحو فرنسا ؟ ولماذا أثني ( الشيوخ ) على ديار الكفر أعني رفاعة الطهطاوي ومن معه ومن جاء بعده ممن ينتسبون إلى الإسلام ؟ ثم لماذا قبلت الجماهير ـ ولو بعد حين ـ ما طُرح عليها ؟
أهي العمالة ؟
وإن كانت فهي ـ أي العمالة ـ عَرَض وليست بالمرض .. ليست هي الداء الحقيقي .
الداء الحقيقي هو الخلل العقدي .... نعم . خلل عقدي عند النخبة المثقفة جعلها تنبهر بالغرب تريد محاكاته ، وخلل عقدي عند الشعوب جعلها تقبل ما يملي عليها . ولا تهب- في الغالب - إلا دفاعا عن لقمة عيشها لا دينها .
وهذه معادلة أطرحها ليستبين بها قولي .
قبل قيام الثورة في مصر عام 1952م كان جل الشعب مع التيار الإسلامي .. ( الإخوان يومئذ ) ، وبعد قيام الثورة كان الشعب كله مع العبد الخاسر الذي ما عبد الناصر ( عبد الناصر ) . ما الذي جعل الجماهير بالأمس هنا واليوم هناك ؟ .
لا شيء سوى الخلل العقدي .
لا شيء سوى جرثومة الإرجاء التي أصابت الدين في القلوب فخلفته شهادة باللسان وصلاة في المساجد وصوم في رمضان وحجا إن قدروا على ذلك .
وهو بأم عينه ـ الخلل العقدي ـ الذي جعلهم يقبلون حكم ( الثوار ) ( الأحرار ) .. ( العرب الأمجاد ) وهم يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله .. وهم يعذبون أولياء الله .. وهم يسخرون من سنة الحبيب ـ بأبي هو وأمي وأهلي وابني r - بأوقع الألفاظ حتى قال سفيههم : لن نعود إلى عهد البغال والحمير .
هو بعينه ـ الخلل العقدي ـ الذي غيّم على العيون فجعلها لا ترى إلا ما يكتب في الهوية من ديانة .
وهو بعينه ـ الخلل العقدي ـ الذي جعل الحكام ـ إن كانوا صادقين في أنهم يريدون الخير لشعوبهم ـ يسيرون وراء الكفر وأهله .
ببساطة : الإرجاء العقدي عند الشعوب هو السبب في تقبل العلمانية ؟ .
حين عرفوا أن الدين صلاة وصيام وحج ونطق بالشهادة نظروا إلى مطالب الصحوة من إقامة سلطان الله في الأرض على أنه أمر ذائد . وأن قضية الصحوة مع العلمانية قضية من يحكم ـ كأفراد ـ ؟ وليس قضية إيمان وكفر ـ أكبر أو أصغر ـ .
هذا هو السبب ببساطة .
الحال هو الحال !
المقاومة العراقية تمثل حالة من الرفض لدى الشعوب ، وهي قابلة للتكرار إن توجه الأمريكان إلى قطر آخر ـ والله أسال أن يقصم ظهورهم في العراق ولا يخرجون منها بعافية ـ ولكنها إلى الآن لم تُوجهه . ويمكن أن تُسيس أو يغير مصيرها تماما كما حدث مع المصرين بعد رحيل الفرنسيين وكما حدث مع صحوة الأمة قبل حقبة الثورات في القرن الماضي كما قدمت ، ونستفيق وقد دخلنا في دوامة تذهب بجهد السابقين ويجلد فيها ظهور الحاضرين . وتكون عبئا على القادمين .والعياذ بالله .
أيها السادة !(68/115)
ما أراه هو أن : الزمان قد دار دورة وها نحن نشهد نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى ... فَشَلَتْ القومية العربية كطرح فكري وكتطبيق عملي ... وملّتها الجماهير ، ولا بد من البديل ، وقد جاءت الموجة الجديدة من الحروب الصليبية ... أو خَفِفْ اللفظ وقل : موجة جديدة من الحملات ( الاستعمارية ) ـ ولا فرق بينهما عندي ـ لتدشين مرحلة جديدة يمكن تسميتها بمرحلة العملاء ... فبالأمس قرضاي واليوم علاوي عميل المخابرات الأمريكية ومحمود عباس الذي رضي عنه كبير المغضوب عليهم ( شارون ) وكبير الضالين ( بوش ) ... وكثير من الباقين لا يحتاجون إلى تغيير ... وليس فقط في مجال الحكم بل في المجال الديني وفي مجال التعليم .. فانظر إلى علماء الدين (الرسميين ) ـ أتكلم عن الغالبية في الدول الديمقراطية ـ وانظر إلى القائمين على ( تطوير ) التعليم في العالم الإسلامي . أليس الكل يشترك في رفض ( الإرهاب ) ؟ والرغبة الجادة في ( تحسين ) صورة الإسلام عن طريق إعادة قراءته بصيغة يتفهمها أو يقبلها أبناء العم سام ومن وراءهم ؟! .
فيمكن أن ترحل أمريكا وتخلف وراءها عملاها . وهذا غالب الظن . ستختفي من الصورة ـ وإن بقيت على الأرض ـ ويتولى حلفاءها قتال المجاهدين وهنا ستختلط الرايات ثانية ، والعامة تُؤتى من أذنها ، وهي ـ العامّة ـ مع من يأتيها برزقها ، وأروني يوما صوَّتت فيه الجماهير لصاح الحرب .
والمقصود هو الخوف من أن تنطفئ جذوة الصحوة ويذهب ثمارها بعد الرحيل الصوري للقوات الأمريكية المحتلة [5]وظهور حكومة ( وطنية خالصة ) ليس فيها أحد من بني الأصفر .وتصبح المقاومة بين مطرق جيش الحكومة العميل وسندان الشعب ، وفي أرضٍ كالعراق ليس فيها جبال مَنِيعة كأفغانستان تصعب عملية المقاومة جدا بل تكاد تكون مستحيلة .
فقبل أن يقطف العدو ثمار المقاومة الإسلامية في العراق بيد إخوانه من بني جلدتنا . علينا أن نتحرك للحيلولة دون ذلك . وهذه بعض المقترحات تحت العناوين التالية :
1ـ البلاء عام
الحملة الصليبية الجديدة تتميز بأنها متعددة الأهداف .. متشعبة متغلغلة في كل مناحي الحياة الفكرية والثقافية والاقتصادية والعسكرية . وفي ظني أن العولمة ـ بأبعادها الثلاث الثقافية الفكرية والعسكرية والاقتصادية ـ هي المسمى الحقيقي للحملة الصليبية الجديدة .فحين يتجرد الكلام من الدبلوماسية ، وترفع عن المتكلمين الأقنعة الزائفة تجد العولمة في بعدها الثقافي : دعوة كُفرية[6] تهدف إلى هدم ثوابتنا الإسلامية وإعادة قراءة الشريعة من جديد بلسان ( المتنورين ) من ( أبناء ) الأمة الإسلامية لصياغة ما أسموه بالإسلام المدني الديمقراطي .
وهي ـ العولمة ـ في بعدها الاقتصادي : هجمة شرسة يريد منها أصحاب رؤوس الأموال أن يأخذوا من فم الطبقة الكادحة في الشرق الأوسط ـ الدول العربية المسلمة ـ اللقمة التي يقتاتون بها ويصبح المالُ دُولَة بين الأغنياء منهم .
وهي ـ العولمة في بعدها العسكري ـ قوة واحدة في صورة تحالفات مشبوهة تريد السيطرة على العالم الإسلامي خاصة وغيره عامة .
هذه هي العولمة بدون مواربة ولا دغدغة في الكلام ... فكما ترى الجانبُ العسكري فرع منها . وهي تستهدف كل شيء على أرض المسلمين ... الناس والمال والقيم الدينية والخلقية .... كل شيء .
والعجيب أن الأمة تقف مشدوه كالأبله الأبكم العيي الذي لا يقدر على شيء وكل التصرفات خبط عشواء ... فردية ... خارج السيطرة أو في إطار الحزبية المبتدعة . وكما أن الأمة كلها مستهدفه فلابد أن تكون الأمة منوطة بالمواجهة والتصدي لهذا الغزو كل بما يستطيع . وإنني أرى المسئولية كلها تقع على ولاة الأمر ، وأزيد البيان تحت هذا العنوان .
2ـ متى تتحركون ؟
لا يجادلني أحدٌ في أن ولاة الأمر الذين عني الله في قوله : [ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ]( النساء : 83 ) وقوله تعالى :[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ]( النساء : 59 ) . هم الأمراء والعلماء .وإن دققتَ وجدتَ الأمر كله يرجع للعلماء فهم الذين يبُيَنِّونَ للأمراء ، وهم أهل الحلِّ والعقد الذين تنعقد بهم بيعة الأمراء ، و من العلماء تُعطى لغيرهم شرعية الخروج عليهم إن هم حادوا.(68/116)
ومن عقود طويلة وأهل السلطان وأهل القرآن يتصارعان ( حتى حسم الطغاة في الأزمنة الأخيرة المعركة لصالح سلطان بلا قرآن ، ونصبت العلمانية خيامها الثقيلة الغليظة على جُل ربوع المسلمين ، تحادّ الدين في بلاده ، وتحارب التوحيد في مواطنه ، وتنفرد بالقيادة والريادة دون أهل العلم والعدل والعبادة ، وأصبحت ديكتاتورية لُكع ابن لُكع ، أو ديمقراطية الرويبضات التوافه ؛ هي صاحبة الحل والعقد واليد الطولى في التخطيط المتخبط ، والتصدي المرتجل المرتجف في مواجهة التحديات . . . إننا لو تأملنا عناصر القوة في هذه الأمة ؛ لوجدناها كلها تُفَرَّغ من مضمونها بذلك الفراغ القاتل في القيادة العلمية الموحِّدة لكلمتها ، والموجِّهة لسياستها ، والمنظِّمة لعلاقتها ، والدافِعة لقوتها في الدفاع أو الهجوم ؛ بحسب الضوابط المستمدة من شريعة الله .
إن غياب القيادة القائمة بهذه الشريعة على مستوى الأمة قد أبطل أثر هذه الشريعة في الارتفاع بأمتنا إلى العزة والتمكين ، فصارت الشريعة لا تحكم إلا بعض مظاهر الحياة الفردية للناس ؛ تماماً كما أرادت العلمانية بزعاماتها المزعومة ) [7]
ولعمر الله : لا بد لها ممن يجاهدون بسلاحهم تحت إمرة من يجاهدون بأقلامهم . واليوم الأمر معكوس قام المسلحون وقعد العلماء الربانيون عن توحيد الكلمة ـ فيما بينهم ـ والقيام بدور القيادة للأمة ... دور الأنبياء . فمتى يتحركون لسقيا هذه الشجرة التي نبتت في العراق وأفغانستان والشيشان وفلسطين والاعتناء بها حتى يطيب ثمرها وحمايتها كي لا يقطف العدو ثمارها ؟ ومَنْ ظن أنه في هذا الزمان يقوم بآداء واجب العلم الذي حمله الله إياه في قوله تعالى [ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ]( آل عمران : 187 ) وهو معافى في نفسه وأهله وماله فلا أظنه قد أصاب " يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانهى عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور [ لقمان : 17] .
3ـ لم هي عراقية ؟
وأيضا لم هي أفغانية ؟ ولم هي فلسطينية ؟ ولم هي شيشانية ؟ لم لا يقال المقاومة الإسلامية في العراق والمقاومة الإسلامية في فلسطين ... وهكذا؟ ؛ وبين الأسلوبين فرق كبير .
وأجد في نفسي حين أرى كثير من مشاهير المحللين الإسلاميين في المواقع الإسلامية على الشبكة العنكبوتية وفي الصحف والمجلات الإسلامية يتكلمون عن تحرير العراق ( الأرض ) وتحرير فلسطين (الأرض ) ... وكأنهم لا يعرفون أن ( راية الجهاد رفعت أساسا من أجل حفظ الدين " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنه ويكون الدين لله " أي " حتى لا يكون شرك ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له " ، فتحرير الأرض يكون من أجل منع فتنة الكفر والشرك عنها حتى لا يعبد فيها غير الله . ولو بقيت الأرض بعد ( استقلالها ) ( وتحريرها ) واقعة تحت هيمنة الكفر ولو كان محليا وطنيا , لما غير ذلك من أمر وجوب الجهاد شيئا . فالأمر إذا ليس إقامة سلطة محل سلطة وإنما ما هو السلطان الذي ستقيمه هذه السلطة ؟ أهو سلطان القرآن أم سلطان الشيطان ؟ !
وكذا تحرير الشعوب الإسلامية والمقدسات الإسلامية يكون لصد ضرر الكفر والشرك عنها . فغاية الجهاد واحدة في جوهرها : ـ أن لا تكون فتنة وأن يكون الدين ـ كل الدين ـ لله رب العالمين)[8] ولا أستطيع التوضيح أكثر من هذا .
وتغيير الخطاب إلى هذه الصورة يساعد على نضوج ثمرة المقاومة الإسلامية في العراق وغيرها وإبعاد اللصوص المتسلقين عن شجرتها ...لم لا تكون مفاصلة ـ ولو خطابية ـ والقوم اليوم قد أعلنوها مواجهة شاملة ورمونا عن قوس واحدة ؟
-------------------------------
[1] وفي كتاب ( الطريق إلى ثقافتنا ) للعلامة محمود محمد شاكر تفصيلٌ لذلك
[2] [ محمد مورو ـ المحايد العدد 107 ]
[3] في رسالة علمية ( ماجستير ) بعنوان الانحرافات العقدية والعملية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجري . تعرض الكاتب فيها لهذه المرحلة الزمنية و واثبت بما لا يدع مجالا للشك أن محمد علي كان عميلا .
[4] المصدر السابق
[5] وهذا الاحتمال ـــ وهو الانسحاب الصوري ـــ وارد إذاتغيرت الإدارة الامريكية من جمهورية إلى ديمقراطية أو إذا ذاد الضرب على رأس بوش وجنده .
[6] كما يعرفها الدكتور عابد السفياني .. البيان عدد شوال 1422هـ
[7] دكتور عبد العزيز كامل من مقال ( تغير الخطط في مواجهة خطط التغيير )
[8] رسالة إلى طلائع الطائفة المنصورة ببيت المقدس واكناف بيت المقدس ملحق البيان العدد 200
===============(68/117)
(68/118)
معذرة العراق إنه زمن الهوان
إبراهيم العريفان
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
إخوة الإيمان والعقيدة ... في هدا الزمان ، وفي كل مكان .. يراق دم الإنسان .. كل ذنبه أنه يقرأ القرآن .. لقد سمعنا قبل سنوات كلمات مريرة من أرض البوسنة والهرسك تقول : نحن لا نريد أن تدافعوا عنا ، فلا ترسلوا جيوشكم إلينا ، ولا تبعثوا لنا بالسلاح ، ولا نريد صدقاتكم وأموالكم .. فقط أرسلوا لنا حبوب منع الحمل ، حتى لا ينبت في أحشائنا أبناء الصرب !!
كانت هده الكلمات المريرة لامرأة بوسنية مزجتها بطعم الألم والحسرة والخيبة ، التي ارتوت منها العروق ، والتي كانت شاهدًا على أعلى صور الخزي والهوان الذي ضربنا به المثل في ذلك الوقت ، والتي حسبنا وقتها أن الأمة لن تمر بتلك الصورة من التخاذل والمخزي مرة أخرى . وظننا أن بُعد الشُقة بيننا وبين البوسنة ، وقطيعة الرحم الإسلامية معها أدت إلى جزء من ذلك التخاذل ، فما الذي كانت تعرفه الأمة عن البوسنة قبل حروبها ، وما هي صور التواصل التي كانت بيننا وبينها !! لا شيء .
واليوم نخشى أن تخرج علينا امرأة أخرى بالنداء المرير الأليم نفسه ! ولكن .. ليس من البوسنة هده المرة .. إنما نخشى أن تصلنا تلك الرسالة من فلسطين .. من بغداد .. من عمان .. من القاهرة .. من دمشق .. من أي بلد عربي أو إسلامي ليس بعيدًا عنا ، لنا معه روابط ووشائج ، نحفظ تاريخه ، نعرف حتى أسماء أزقته ودروبه .
وما يمنع ؟ فها هي العراق قد رأينا فيها الموتى الجماعي التي كنا نسمع عنها في البلاد البعيدة .. في البوسنة .. في كوسوفا ..
وما يمنع من ذلك ! وها هي العراق قد رأينا فيها الدمار والخراب الهائل الذي رأيناه في البلاد البعيدة .. في كابول .. في كشمير .
ما يمنع من ذلك ! والرسائل الموجعة كتلك الرسالة البوسنية تأتيتنا كل يوم ، وها هو مناديهم ينادي :
أعيرونا مدافعكم ليوم .. لا مدامعكم .. أعيرونا .. وظلوا في مواقعكم ... ألسنا أخوة في الدين قد كنا .. وما زلنا ... فهل هنتم !! وهل هُنا !! .. أيعجبكم إذا ضعنا .. أيسعدكم إذا جعنا .. وما معنى قلوبكم معنا ؟ رأينا الدمع لا يشفي لنا صدرًا .. ولا يبري لنا جرحًا .. أعيرونا رصاصًا يخرق الأجساد .. لا نحتاج لا رزًا ولا قمحًا .. أعيرونا وخلو الشجب واستحيوا .. سئمنا الشجب والردحا ..
في العراق اليوم .. المدينة تلو المدينة تنتظر دورها في الدمار والخراب والقتل والتشريد .. وأمتنا تقف موقف المشاهد ، ورغم وضوح الصورة وقوة الصوت وبشاعة المشهد ، ورغم العيون التي لم يصبها العمى بعد ، والآذان ما زالت تسمع ، فإن الاستجابة مخزية .. وكأن القوم يرون مشهدًا سينمائيًا مؤلمًا ، أو يسمعن أغنية عاطفية مؤثرة كالتي أشربوها من قنواتهم ومذائعهم .
ماذا نقول لربنا عن خذلاننا لإخواننا في الدين وقد استنصرونا وهو القائل سبحانه { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } ماذا نقول لنبينا صلى الله عليه وسلم وهو القائل ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخدله ) وهو القائل أيضًا ( ما من امرئ يخذل امرأً مسلمًا في موضع تنتهك فيه حرمته ، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله ) ماذا نقول يا أمة المليار عن عائلة عراقية مؤلفة من خمسة عشر شخصًا قُتِلت .. ماذا نقول لربنا عن طفلة عراقية ماتت ولم تتجاوز ستة أشهر .
ماذا نقول .. وهم ليسوا بعيدًا عنا فنعتذر بطول السفر ؟ ماذا نقول وقد ذُبحوا بغير ذنب ، هل نعتذر عن عدم النفرة لشدة الحر { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } ؟ ماذا نقول وليس بيننا وبينهم إلا أسلاك شائكة ؟
ماذا فعلنا لتلك الدموع المنهمرة التي تستغيث بنا ليلاً ونهاراً .. فما زادنا ذلك إلا فرارًا .. فمعذرة العراق .. قد فُجعْتِ بنا ولم نُفجع بك .. عندنا صَمَتَ كلُ شيء ، وعندكم حركتم الأرواح تبذلونها رخيصة في سبيل الله .. نحن مُتنًا جُبْنًا في جلودنا ، وأنتم الذين تصنعون الحياة بموتكم .. فمعذرة العراق إنه زمن الهوان ..
معذرة أيتها النائحة الثكلى على والد أو زوج أو أخ أو ولد .. فما عادت نخوتنا كما كانت ، وما عادت شهامتنا كما كانت .. وما عاد الشرف الرفيع الذي لم يسلم من الأذى تراق على جوانبه حتى قطرة من دمع !!
معذرة بني !! أيها الصغير حين لم تجد فينا رجالاً يضمونك إليهم ، يهدئون روعك ، يؤمنون خوفك ، يشبعون جوعك ، أو حتى يمسحون دمعك !!
معذرة أخي المجاهد .. خذلناك وما خلفناك في أهلك ومالك بخير .. خذلناك وما أمددناك ولا نصرناك .. ولا حتى واسيناك !!
معذرة أيتها النساء .. حزنا بحزنكن .. وفرحنا بقوتكن وصمودكن أمام دبابات وصواريخ تحملون السلاح .. تدافعون عن دينكم وأمتكم ..
ألف أسف على أمة يدافع عنها نساؤها .. يحمي أعراضها نساؤها ، تجود بأرواحها نساؤها .. حماية للقاعدين .. حماية للمتثاقلين إلى الأرض .. حماية للمخلفين .. فمعذرة العراق ..(68/119)
يا أمة المليار ونصف المليار .. هل تعلمين أن أهلنا في العراق قد تردت أوضاعهم ، وكثر عدد شهدائهم ، تمزقت أجسادهم ، وتقطعت أطرافهم ، وانتشروا في الطرقات وتحت أنقاض البيوت ، ألا يحق لي أن أقول صارخًا : وا فضيحتاه !!
في العراق … خراب ودمار وقتل وتشريد .
في العراق … أطفال أبرياء يُقتلون .. ونساء ضعاف يُذبَّحون .. وشيوخ كبار يُؤسرون .
في العراق … صياح وصراخ وبكاء
اليوم وليس غدًا إخوانكم هناك في ثغور دائمة مطيَّبين بالكفاح مُضخنين بالجراح .. اليوم الدماء مهدرة والبيوت مهدَّمة .. اليوم الجرحى يتساقطون في الشوارع ولا أحد يُسعفهم أو يُنقذهم .. أطفال أبرياء يُقتلون ، وسيِّدات مُسِنَّات يُذبَحْن ، ومساجد هُدِّمت ، والصلبيون متسلطون .. واللهِ إن الخطب جسيم ، والمأساة أليم .. ونحن والله ثم والله ثم والله مسؤولون عن مناظر القتل والحصار التي نسمع عنها أو نراها عبر الشاشات أو نطالعها عبر الجرائد والمجلات .. مسؤولون عن مناظر القتل والحصار التي يمارسها الصليبية كلاب الروم .. وكثير منَّا لا يحرك ساكنًا .. تقع أمامهم الحوادث وتتلَهِمُّ الخطوب ، فلا يألمون لمتؤلم ، ولا يَتَوَجَّعون لمستصرخ ، ولا يحنون لبائس ، بل الأعظم من كل ذلك أنَّه في ذات الوقت الذي يُذبح فيه المسلمون ترى كثيرًا منَّا لاهين عن مُصابِهم في إقامة مهرجانات سياحية تُسوِّقُ للعهر والفجور ، أو دورات وبطولات رياضية ، أو رقصٍ على جراح الأمة بحفلات غنائية .. فإلى الله المشتكى ..
فهل هذا هو الشعور بالإخوة الإسلامية .. وهل هذه هي النخوة العربية التي تميزت بها العرب .. هل يُعقل أن تتحرك المظاهرات في البلاد الأجنبي والدول الكافرة باستنكار ما حدث ثم ترى العربَ والمسلمين لا يحركون ساكنًا .. إن إخواننا في العراق يودُّون عنا الواجبات التي قصَّرنا فيها .. يؤدُّونها بعمليات استشهادية حين يقوم شبابٌ منهم بتقديم أنفسهم شهداء في سبيل الله ليقتلون العدو الغادر .. فهم يؤدون الواجب الذي قصَّرنا فيه .. ثم نحن نقصِّر عن دعمهم بالمال ، حتى الدعاء بخلنا به ، حتى القنوت في المساجد .. ترى كثيرًا من أئمتنا وهم من أهل الخير تركوا القنوت .. بالرغم من أنه قنوت أمر به ولاة الأمر في هذه البلاد . فأي ذلَّ وأي خوَر هذا الذي نراه ..
إن عمل الصليبية هذا لَهُوَ أكبرُ ردٍّ على ما يُسمى بمشروع السلام.. ووضَّح لنا أن كلاب الروم قوم جُبناء لا يهمُّهم من السلام إلا ما يتوافق مع مصالحهم ، وما يُسوِّغ بضائعهم وتجاراتهم ، فهل نعِي ذلك ! هل نعِي الدور الإجرامي القذر الذي يمارسه الصلبيون في دولة تُسمى زورًا وبُهتانًا راعية السلام ، وهي التي تقوم بكل تلك الممارسات .
يا أمة المليار ونصف المليار إن كنت لا تعلمين بذلك ولم تسمعين به فتلك مصيبة ، وإن كنت تعلمين بذلك فالمصيبة أعظم .
يا أمة المليار ونصف المليار .. ما بالكم .. أين غيرتُكم ! أين حسَّكم الإسلامي ! أين الشعور بالجسد الواحد ! أين تمعُّر الوجوه ! أين عاطفتكم ! ألا تتحرك وهي ترى هذه الدماء وهذه التهديدات .. والله إننا لنخشى أن يعُمَّنا الله بعقوباته المتعددة من زلازل وفيَضانات وفقْد للأمن وجوع وغير ذلك { وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً } .
نداءات كثيرة سمعناها ، وأهوال كثيرة رأيناها ، فما الذي تحرك فينا ، تحركنا في تظاهرات صوتية ، وبكينا على أسرة وعائلة عراقية .. ومن حرك منا يده فبالقلم أو بالهتافات والشعارات المنبرية ، أو بالدعوة للمقاطعة عن المنتجات الأمريكية تضامنًا مع القضية العراقية .
وما أعز وما أفرح الناس إلا تلك الانتصارات التي أوجعت كلاب الروم كثيرًا ، ففي الوقت الذي صمتت فيه كل الأسلحة .. عسكرية أو اقتصادية أو سياسية .. نطقت أفواه الأطفال والنساء والشيوخ ، نطقت أرواح الشهداء في العراق لتسمع العالم كله أن أمتنا لن تموت موت الخراف ، ولن تذل ولن تخنع ولن تساوم ، وستقاوم كل الجهود التي تعمل على إيجاد موطئ قدم لدولة إمريكا في أرض الشام .
في العراق لن تحل القضية في مجلس الأمن ولا في الأمم المتحدة ، ولا في البيت الأبيض ولا بالدبلوماسية العرجاء ، ولا بالتسول السياسي ... قضيتنا حسمها الله عز وجل فقال { قاتلوهم يعذبهم الله بأديكم ويُخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين } وقال رسول ا صلى الله عليه وسلم ( إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقرة ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذُلاً لا ينزعه حتى تعودوا إلى دينكم ) ..
هذا كلام ربنا ، وهذا كلام رسولنا r ، أنجيبه ؟ هل ننقاد له ؟ هل نعمل به ؟ أم نتركه لقول الإمريكيين بأن قتالهم في العراق هو القضاء على الإرهاب .
انتفض أو متْ إذا شئت شهيدًا فحديد الموت قد فلَّ الحديدًا(68/120)
فجِّر الأرض ودعْها شعلة قطَّع الباغي وريدًا فوريدًا
دُسْ على هامات أذيال الخنا بائعي الزور ولا تبقِ يهودا
سمِّها إن شئت عُنفًا أو فداءً أو قَصاصًا أو دفاعًا أو صمودًا
أيها المسلم أطلق صرخة تضع الحاملُ بالهول الوليدًا
يا شهيد الحق أيقظْ أمتي فالإذاعات غناءً ونشيدًا
خُذْ دمي حبرًا وجلدي دفترا واكتبه فيه خلودًا يا شهيدًا
معاشر المؤمنين .. أبشروا يا مؤمنون أن النصر قريب .. وإن كان هو في نظرنا بعيد .. ولكن مادام الناس على إعراضهم عن عبادة الله بمعناها الحقيقي فسيبقون مسخرين لجميع أنواع المتحكمين فيهم من يهود أو أذنابهم ، وأما في الوقت الذي تقوم فيه أمة ترفع لواء الإسلام ، وتعيد سيرته الأولى فإن جميع من أمامهم من إمريكا وأعوانهم لا يستحقون أكثر من وصف الجرذان فلا يخيف والله العدو ولا أتباع العدو إلا العصبة المؤمنة العابدة لربها التي تجدد مجد أمتها وتعيد تاريخها وما ذلك على الله بعزيز { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } .
لابد أيها المسلمون من إعادة الفريضة الغائبة فريضة الجهاد في سبيل الله ، لابد أن نمتثل قوله تبارك وتعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } لابد من التربية الجهادية ، لابد أن يعلم كل أحد ينتمي إلى الإسلام أن العزة لهذه الأمة مربوطة بالجهاد في سبيل الله ، ولابد أن نحفظ أنفسنا ونساءنا وأطفالنا وشيوخنا ، قال صلى الله عليه وسلم ( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) .
ولا يرد العدو الصليبي عما عزمت عليه غير منطق ( الجواب ما تراه لا ما تسمعه ) !
لقد كان هذا هو منطق أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في زمانه هارون الرشيد يوم أطلقها مُدوّية من أرض بغداد . لقد تجرأ نقفور ملك الروم فكتب ( مُجرّد كِتابة !!! ) إلى هارون ملك العرب أما بعد : فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق ، فحملت إليك من أموالها وذلك لضعف النساء وحمقهن ، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك وافتد نفسك وإلا فالسيف بيننا ! فلما قرأ الرشيد الكتاب اشتد غضبه وتفرق جلساؤه خوفاً من بادرة تقع منه ، ثم كتب بيده على ظهر الكتاب : من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم !
قرأت كتابك يا ابن الكافرة ! والجواب ما تراه لا ما تسمعه .
ثم ركب من يومه وأسرع حتى نزل على مدينة هرقل وأوطأ الروم ذلاً وبلاءً ، فقتل وسبى وذل نقفور ، وطلب الموادعة على خراج يؤديه إليه في كل سنة ، فأجابه الرشيد إلى ذلك . الله أكبر .
لله أبوك يا هارون الرشيد ! ألا يوجد مثلك اليوم رَجُل رشيد !!
والله إن الأمة بحاجة إلى مُخاطبة كلب الروم - اليوم - بهذا الخطاب ، وبهذه القوّة ، وبهذه اللغة .
وكم هو والله بحاجة إلى أن يُعرّف قدره . إن طلب الروم يعيث اليوم في الأرض فساداً ولا هارون ! أليس مِنا القائد الرشيد ؟ بلى ، ولكن الأمة استنوقت ! إلا من رحم الله وقليل ما هم .
يا ألف مليون تكاثر عدّهم إن الصليب بأرضنا يتبخترُ
فالحرب دائرة على الإسلام يا قومي ، فهل منكم أبيٌّ يثأرُ
إنا سئمنا من إدانة مُنكرٍ إنا مللنا من لسانٍ يزأرُ
يتقاسم الأعداء أوطاني على مرأى الورى وكأننا لا نشعرُ
أين النظام العالمي ألا ترى شعباً يُباد وبالقذائف يُقبرُ
أين العدالة أم شعار يحتوي سفك الدماء وبالإدانة يُسترُ
ما دام أن الشعب شعب مسلمٌ لا حل إلا قولهم : نستنكرُ
يا أمتي والقلب يعصره الأسى إن الجراح بكل شبرٍ تُسعِرُ
والله لن يحمي ربى أوطاننا إلا الجهاد ومصحف يتقدّر
اللهم إنَّك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، اللهم لا يُهزم جُندُك ، اللهم إنا نسألك نصرًا مؤزَّرًا لإخواننا المستضعفين في العراق ، اللهم فكَّ حِصارهم ، اللهم أهلك عدوهم
اللهم أعز الإسلام والمسلمين .
==============(68/121)
(68/122)
قبل أن تضيع الفرصة
رسالة إلى علماء الأمة ودعاتها
محمد جلال القصاص
إخواني وشيوخي الكرام !
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد : ــــ
عجلة الأحداث تدور سريعا وتجرنا ــ نحن الإسلاميين ـــ ورائها ، فإلى اليوم نقف موقف المشاهد للحدث نحكيه ، وفي أحسن الأحوال نحلله .
إن فريقا منا أصبحت الغاية عندهم معرفة الأخبار . دون التحرك إيجابيا نحو حلٍّ عملي لوقف نزيف الدم الذي يسيل من العروق ومن الفروج .
وفريقا آخر جلس هادئا مستريحا يحلل الحدث ... يبحث عن دوافعه وأهدافه ، ليصبغها مقالا أو كتابا ... ربما ليقتات منه رزقا .
وتضج الأصوات على المنابر تحكي عن غدر يهود وجبنهم وخيانتهم للعهود ، وعن حرية أمريكا الكاذبة ، وحقوق الإنسان التي جعلته كالحيوان . . . ، وكله خير ، إلا أنه دون ما نريد .
وعلى مستوى العلماء والدعاة وطلبة العلم ، لا زلنا وراء الأحداث ، نتحرك بحركتها ، نبحث في شرعيتها ، ونرد على من خالف رأينا من إخواننا ، نكشف شيئا من خطط أعدائنا . وهو خير إلا أنه دون ما نريد .
شيوخي الكرام !
هناك من يفعل ويتركنا نكتب ، ولا ينبغي أن يظل الأمر هكذا ، فلابد من اتخاذ الخطوات اللازمة للأخذ بزمام الأحداث . وفي رسالتي هذه أعرض بعض الأمور التي تؤرقني على الساحة الإسلامية . وأتبعها ببعض المقترحات . والله أسأل أن يبارك لي في كلماتي هذه ، وأن تجد أذنا تسمع .
في العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي ، فيما عرف تاريخيا بفترة الثورات ، كانت الأمة تعيش حالة من الغليان على الغرب كله ، وكانت جماهير الأمة تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية وإعادة الخلافة الإسلامية ، وطرد اليهود من بيت المقدس وفلسطين ، ثم انتهت هذه الحقبة بالعلمانية ــ فصل الدين عن الحياة ــ كمنهج حياة ، وبالعلمانيين في سدة الحكم الذين أضاعوا الثورات ، ومزقوا الأمة ، ومهدوا لمجيء المحتل ثانية .ولم تستطع الصحوة الإسلامية يومها قيادة الأمة الإسلامية ، وخسرت معركتها مع العلمانية المدعومة من الغرب . وكتبرير لما حدث قيل أن الصحوة لم تنضج بعد .
وبعد أكثر من ستين عاما عادت الفرصة مرة ثانية .
فهاهي القومية العربية تسقط جماهيريا ، بعد أن فشلت في تحقيق أي من أهدافها ، وأتت أمريكا تجر الغرب الصليبي الضال والشرق الوثني الملحد ــ يحركهم جميعا اليهود ـــ وتتدرع بعملائها من بني جلدتنا للقضاء على ( الإرهاب ) وتجفيف منابعه ، ووضِع العمل الإسلامي بكل حركاته ومؤسساته ورموزه هدفا للقضاء عليه ، وباتت كل الخطط مكشوفة ، وأصبحنا في موطن الدفاع غاية ما يرجوه أغلبنا هو السلامة والخروج بالكفاف لا له ولا عليه ، فماذا أنتم فاعلون ؟!
وأمريكا اليوم تتكلم عن البديل ( الإسلامي ) ، بعد أن قسمت الإسلام إلى إسلام سياسي ، وإسلام سلفي ، وإسلام جهادي ( متشدد ) ، وهي تغازل من تصفهم بالتيارات المعتدلة للتحاور معهم كي يكونوا بدلاء أو شركاء في التغيرات القادمة . أو أنهم أخبث من هذا ويرمون إلى تشتيت صف الحركة الإسلامية بين مؤيد لهم ومعارض ، وينشأ تصادم داخلي ( إسلامي إسلامي ) حين يتولى المؤيدون الرد على المعارضين ، وندخل في دوامة جديدة تستقطب جهدنا ، وتشتت شملنا .
وقبل أن يحدث أي شيء على الأرض اشرأبت بعض الرؤوس تريد أن تحظى بعطية أمريكا وتشارك في السياسة مُدعية أنه ظرف تاريخي قد لا يتكرر ، وأنها فرصة سانحة ( للتخلص من هذه الأنظمة التي أذاقتهم كل صنوف التعذيب والقتل خارج دائرة القانون ) . وأنه ( لابد من الفصل بين ( الدروشة ) و السياسة ) .
أو أن الكفر يستثير الأنظمة العلمانية لتقدم مزيدا من التنازلات ، وكثيرا من التعاون في حرب ( الإرهاب ) . وكله شر . فماذا انتم فاعلون ؟
ومع كثرة الدماء التي تسيل من فروج نساء الأمة ومن شرايين رجالها ، ومع انتشار البطالة وزيادة معدلات الفقر , ومع كثرة المُفتين ، ومع قلة الفقهاء الراسخين ، وكثرة الخطباء الحماسيين ، بدأت طائفة من أحداث الأسنان .. تتحرك من تلقاء نفسها لنصرة الدين ، وفي حادث تفجير المدرسة البريطانية في قطر ، وتفجيرات طابا ، وتفجير الأزهر بالقاهرة وما تلاه من أحداث ، دليل على قولي ، فيجمعها جميعا أنها حوادث فردية أو شبه فردية من أناس لا علاقة لهم بالعمل الإسلامي المنظم . ودوافعها جميعا ما يحدث للمسلمين في العراق وفلسطين ، وهذه الأحداث قابلة للتكرار ، ويمكن أن تصبح ظاهرة ، وهي حالة صحية تحتاج من يرشدها ويستثمرها ، لا من يفسِّقُها ويُبدعها فيدفعها للشطط والغلو وأخذ موقف معادي من علماء الأمة ورموزها ، ويعطي مسوغا للأنظمة العلمانية المجرمة لمزيد من البطش بأبناء الصحوة الإسلامية . فما ذا أنتم فاعلون ؟
وأفرزت الحملة الصليبية الجديدة ـ العولمة [1]ـــ في بعدها الفكري توجها جديدا داخل التيار الإسلامي ، يدَّعي الليبرالية ( الإسلامية ) ، ويدعو إلى إزالة العقبات من أجل التقدم الحضاري والرقي المادي(68/123)
ويعتبر ــ أهل هذا التيار أن ( الإصلاح والتجديد هو المدخل المناسب للتقدم والقوة والمنعة ، وأن الإصلاح الديني يقع في مقدمة أوليات الإصلاح )[2] ثم هم تحت دعوى التجديد هذه تسللوا إلى الفقه الإسلامي من باب المقاصد لإعادة صياغته [3] .
ولو سلمت النفوس من أهوائها لعلمت أن الإشكال ليس في الشرع وإنما فيمن يحملون الشرع . وكل هؤلاء الليبراليين يحاولون أخذ زمام الأمة والسير بها خلف الغرب ، وإن ألبسها البعض حلة الدين .
وهذا شر ـــ في جملته ـــ يحتاج من يتصدى له ، فما ذا أنتم فاعلون ؟
ـــ وهناك أمر أكثر أهمية مما مضى من وجهة نظري ، وهو يتعلق بما يحدث في العراق وفلسطين وفي باقي المواطن التي تُرفع فيها للجهاد راية . ولي بخصوص هؤلاء عدّة ملاحظات :
ـــ الأولى : تتعلق بأهل الجهاد أنفسهم ، وهو أن مرجعيتهم في تحديد الأهداف والوسائل ذاتية ، والشأن أن يكون أهل الجهاد تبع للعلماء الربانيين الراسخين في العلم الناصحين للأمة . وأن إمارتهم إمارة سرايا لا إمارة حل وعقد . وأنهم ليسوا أهلا للفتوى ، فلا بد ـــ من وجهة نظري ـــ من توجيه الرسائل إلي أعيانهم ، ومناصحتهم ، والاتصال بهم ، كي يثمر الحوار , أعرف أن هناك رسائل ومناصحات . ولكنها تأخذ شكل العموم الذي قد يُصغى إليه وقد لا يصغى إليه ، وما أنادي به هو الحوار المباشر . . . أشبه ما يكون بالمناظرة .
أيها الكرام !
من بديهيات العقل أنه لابد للحق من قوة تحميه . . . لا بد من أهل الجهاد كي يقوم سلطان الرحمن ويندحر سلطان الشيطان , ولا أحسب أن عاقلا ــ فضلا عن عالم ـــ يخالف في هذا . ثم هم قاموا ولن يتراجعوا . ولهم مدد من بين أجيال الصاعدة . فلكل قوم وريث . فلا مناص إذا من الاتصال بهم ومناصحتهم شفويا وجها لوجه . وهذا الأمر يحتاج من يتجشم الصعاب ، وموضوع الحوار معهم يتبين من الملاحظات التالية .
أولاً : يَغضُ كلُ من يتابع ما يحدث في العراق الطرفَ عن ظاهرة تعدد فرق المجاهدين [4] أو ( المقاومة ) ولم أرَ أحدا حاول قراءتها على غرار التجربة الأفغانية ، رغم التشابه الكبير بين التجربتين ، فالجهاد من أجل تحرير العراق ـــ الأرض ـــ وهذا من شأنه أن يعيد القضية ثانية أدبارها إلى قضية وطنية ، و إن أخذت مَسحة دينية .وبين الصفوف وطنيون ، وليس بعيدا أن يدخل بين الصفوف حين تبدوا بشائر النصر بعض المنافقين ويتكرر ما حدث في الجزائر من قبل . . لذا نريد حوارا يدعوا إلى وحدة الصف وتنقيته . فهل تفعلون ؟
ثانيا : نظر حكيم [5] للتاريخ , فوجد أن من قاتلهم السلف الصالح ... رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم أسلموا ودخل الإسلام بلادهم وصاروا جنداً من جنود الإسلام , ومن قاتلهم الخلف ـ الذين تخلو عن هدي السلف ـ لم يسلموا بل عاندوا واستكبروا وملئت قلوبهم حقداً وغِلاً على الإسلام والمسلمين . فقد رأوا مقاتلين ولم يجدوا دعاة . وهذا هو الحال اليوم قتال أكثر منه جهاد ــ لا أشكك في النوايا وإنما أصف الفعال ـــ فحرق وتمثيل ، وثأر للأشخاص ، وشعارات جاهلية تبرز من حين لآخر , مما يضيع به غاية الجهاد . ونحتاج منكم أيها الكرام أن تبينوا لهؤلاء أنهم دعاة قبل أن يكونوا مقاتلين . . . أعرف جيدا ما يطرح من نصائح وما أطالب به غير ذلك . . . حوار مباشر كما أسلفت .
ثالثا : اتصال العلماء المباشر بالمجاهدين ، وقيادتهم لصفوفهم فيه حماية للمجاهدين من أنفسهم ، إذ أنه لو استمر الحال على ما هو عليه اليوم ربما تكرر ما حدث في أفغانستان من قبل كما أسلفت ، وحماية للأمة وعلمائها من المجاهدين ، فما ذا لو انتصروا وهم قد صنفوا كثيرا من علماء الأمة ودعاتها ضمن ( مََن خالفهم أو مَن خذلهم ) ؟ .
رابعا : نريد من طلبة العلم ( تغطية ) الأحداث ، وأن لا يتركوا الأمر للصحافيين و ( المفكرين ) ، فهؤلاء غير هؤلاء . الصحفيون يتكلمون عن فلسطين الأرض والعراق الأرض ، وأمريكا ( البلد ) ، ويتكلمون عن ( المقاومة الوطنية الشريفة ) ، وجُلهم بادي الرأي يبحث عن سبقٍ صحفي .
ومنطق طلبة العلم أنه جهاد يستهدف الكفر أيا كان جنسه أو لغته أو موطنه ، وأن الغزاة مشركون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وإن كان المال أحد أهدافهم ، وأن للنصر أسباب أخرى غير التي يدندن بها العلمانيون . . . نعم هؤلاء غير هؤلاء في الأهداف والمنطلقات . وهم ـــ أي طلبة العلم ـــ تبعا لكم أيها العلماء . فهل توجهونهم لتغطية الأحداث ؟
وحتى لا أطيل عليكم أعرض بعض الأمور كحل للخروج من هذه الأزمة :
ـــــ قبل أي شيء لم شمل علماء الأمة ، وليس العدد من الأهمية بمكان , ففي كل مواطن الفتن عبر التاريخ ، نجد أن من يثبتون قلة يعدون على أصابع اليد الواحدة . ويصور لي الخيال الأيام كأنها أرض والرجال فيها نبت طيب ونبت خبيث ، وفي أيام الإمام أحمد مثلا . . . أجد أن أرض العراق بها شجرة أو اثنتين ، وكذا الشام ومصر والجزيرة العربية ، والباقي عشب أخضر طيب الرائحة نضر ، بيد أنه ضعيف الساق ، لا تَحْمِلُ عليه متاعا ولا تجد له ظلا تفيء إليه .(68/124)
ثم إن فكرة تجميع أكبر قدر ممكن مع التنازل عن بعض الضروريات تحتاج إلى مراجعة على ضوء قوله تعالى " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا " .
ـــ كان جمال الدين الأفغاني عجولا يريد أن ينقلب على أبناء جيله في يوم وليلة ، وأن يعتنق الناس أفكاره بخطبة أو خطبتين ، فجلس إليه تلميذه المخلص محمد عبده ـــ وكلاهما إلي بغيض ــــ وقال له : عَلِّم عشرة وكل واحد من هؤلاء العشرة يعلم عشرة فيكون عندك في ثلاثين أو أربعين عاما مائة من القيادات التي تستطيع الأخذ بزمام الأمة حيث تريد[6] . وهو ما كان ، فإن رحت تعدد من اشتركوا في تغريب الأمة والسير بها على درب الكافرين وهي تحسب أنها مهتدية وجدتهم قلة . وهو ما أنادي به اليوم .
ثم إن الاهتمام بخاصة الطلبة له بُعد آخر ، وهو حفظ التراث العلمي للشيخ ، فما ضيع الليث بن سعد إلا إهمال طلبته ، ولم يترك أبو حنيفة كتبا وإنما ترك أبرارا عرفوا فضل أستاذهم فدونوا ودرَّسوا .
فمن أراد أن تكون له صدقة جارية ، وأن يترك أثرا فليجب طلبي .
ثم إنه لا بد من الأخذ بيد الأمة ــ أعني عامة الناس ــــ وإشراكهم في الحلول .
أي يكون الخطاب ذو شقين شق تربوي للخاصة ، وآخر يخاطب به العامة .ولعل النقاط التالية تزيد الأمر بيانا .
ــــ زمام الأمة ليس بيد علمائها . وهناك من تنصت إليه الجماهير من غير العلماء ، بل إن الجماهير تشارك في صناعة القرار ،وما أراه هو أن نتوجه بخطاب إلى عامة الناس يبين حق العلماء في قيادة الأمة أو بكلمات أوضح : لَمِّ العامة على الأئمة الربانيين . وإسناد الأمر إلى أهله .
ــ (الكثرة الغالبة من المجادلين لا تجادل بحثاً عن الحقيقة . ولا رغبةً في المعرفة ، وإنما فقط لإثارة الشبهات ومحاولة الفتنة . والرد الحقيقي عليهم ليس هو الدخول معهم في معركة جدلية ولو أفحمهم الرد في لحظتهم !
إنما الرد الحقيقي يكون بإخراج نماذج من المسلمين تربت على حقيقة الإسلام فأصبحت نموذجاً تطبيقياً واقعياً لهذه الحقيقة ، يراه الناس فيحبونه ويسعون إلى الإكثار منه وتوسيع رقعته في واقع الحياة . هذا هو الذي ( ينفع الناس فيمكث في الأرض ) [7] أطالب بالاستقلال في الخطاب وعدم السير وراء ردود الأفعال . . . . عدم الانشغال بالآخر كثيرا ، وإنما خط طريق جديد في الطرح ، ويكون بيان فساد آراء المخالف ضمن بيان الحق .
محمد جلال القصاص
صباح الاثنين 15 /04 /1426
الموافق 23 /05 /2005
--------------------------------------
[1] هكذا أرى أن العولمة بأبعادها الثلاث ــــ الفكرية والعسكرية والاقتصادية ــــ هي المسمى الحقيقي للحملة الصليبية ،وقد شرحت هذا في تقريري عن المقاومة الإسلامية في العراق المنشور في موقع المسلم بعنوان " المقاومة الإسلامية في العراق من يحصد ثمارها ؟
[2] محمد أبو رمان ــ من مقال ( محمد عبده وعوده لمشروع الإصلاح الديني ) . موقع الإسلام اليوم . قلتُ : الهوى هو السبب في الانحراف عن الجادة بإفراط أو تفريط , و النصوص بريئة من ذلك . و يقيني بأن الانهزامية والانبهار بالآخر وثقل الواقع في حس الليبراليين ــ كل الليبراليين إسلاميين وعلمانيين ـــ هما اللذان أوجد الرغبة عند هؤلاء في تحسين الصورة أمام الغرب الكافر ، والتشبه به واقتفاء أثره عند بعضهم . وهما ــ الانهزامية والهوى ــ السبب في إلقاء هؤلاء تبعية التخلف الذي وصلت إليه الأمة في عصورها الأخيرة على الشريعة الإسلامية لا على الإنسان المعاصر الذي أقعده الإرجاء عن حمل الرسالة الصحيحة كما حملها الجيل الأول رضوان الله عليهم . وهذا أمر بين الفساد ، إذ أن الفكرة هي التي تصوغ الواقع ، لا أن الواقع هو الذي يصوغ الفكرة . وهذا أمر بديهي لو تدبروا ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور . ثم الجهل المطبق هو الذي جعل هؤلاء يتناسون أن الرسالة التي نحملها هي تعبيد الناس لله وليس النهوض بمستوياتهم المعيشية . وإن كانت الثانية ــــ النهوض المادي ــ إحدى نتائج الاستقامة على شرع الله .
[3] ومن يتدبر يعرف أن الأحكام الشرعية سابقة على المقاصد . فمن الأحكام تستنبط المقاصد . لا العكس كما يريدون اليوم . راجع إن شئت مقال ( المقاصديون الجدد ) لسعد مقيل العنزي . المحايد العدد : 132
[4] قرات في موقع المفكرة ــ وهي أقرب المواقع لهم ـــ أن هناك 23 مجموعة ضمن المقامة . وكذا الحال في فلسطين .
[5] هو الشيخ الدكتور سفر الحوالي في " مقدمة في التطور الفكري والحداثة "
[6] أكتب من حفظي والمقصود هو المعنى .
[7] . محمد قطب مقدمة شبهات حول الإسلام بتصرف يسير
================
هكذا طلبوا .. وهكذا كان جوابنا !!
الأميرة فهده آل سعود
===================(68/125)
(68/126)
انظر إلى ما فعله القس الأمريكي " بات روبرتسون " بهذا الطفل المسلم ؟.
علي التمني
قرأت في مجلة وزارة الخارجية الأمريكية مقالا للسناتور جيسي هيلمز رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس الأمريكي ، مفاده : أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جورج بوش الإبن مهتم شخصيا وبصورة لم يسبق لها مثيل من رئيس أمريكي بدعم المؤسسات الخيرية الكنسية داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها ، والتي يسميها بوش الإبن باسم ( جيوش الرحمة ) ، حيث يرى الرئيس بوش الابن أن هذه المؤسسات والجمعيات أهم بكثير من المؤسسات الخيرية وجمعيات الضمان الاجتماعي الحكومية ، وأجدى نفعا منها ، حيث تتعثر خطى تلك الجمعيات الرسمية في يسمي بـ البيروقراطية التي تقتل العمل الخيري ، ولذا فالرئيس الأمريكي جورج بوش الابن الذي يدعم المؤسسات الخيرية غير الرسمية التابعة على وجه الخصوص للكنيسة ، هو نفسه الذي يشن حربا عالمية ثالثة ضد الإسلام على حد تعبير الصحفي اليهودي الأمريكي توماس فريدمان الذي كتب أن هذه الحرب يجب أن تشن ضد المسجد والمدرسة والمقرر الدراسي ، والجمعية الخيرية الإسلامية ، الرئيس الأمريكي يدرك أهمية تلك الجمعيات الكنسية الخيرية في دعم الفقراء والمحتاجين وذي الاحتياجات الخاصة ولذا سارع إلى دعمها من أول يوم ، وفي حفل كبير داخل البيت الأبيض قدم الرئيس شيكا بمبلغ عشرة ملايين دولار للقس الأمريكي بات روبرتسون الذي وصف الرسو صلى الله عليه وسلم بأن إرهابي متعطش للدماء ، ويعد ذلك الحفل في البيت الأبيض دعما غير محدود للكنيسة وللجمعيات "الخيرية" التي تتبعها داخل أمريكا وخارجها ، وفي هذا الصدد فيجب أن نذكر أن الكنيسة الأمريكية تعتبر ومنذ مايزيد على المائة عام أكبر الكنائس العاملة في مجال التنصير خاصة داخل المجتمعات الإسلامية مستغلة ضخامة الموارد الاقتصادية التي تغرف منها بلا حدود والفقر والحاجة والأوضاع المتردية التي يعاني منها كثير من المسلمين في آسيا وأفريقيا بل وفي بعض البلاد العربية أيضا .
وهنا لانتستغرب كل ذلك الاهتمام من الرئيس الأمريكي بالجمعيات الخيرية الأمريكية التي تدعم المواطن الأمريكي ذا الحاجة والفقر داخل الايات المتحدة ، وتدعم الموقف الأمريكي وصورة أمريكا في العالم ، حيث تقدمها على أنها دولة رحمة وشفقة وإنسانية وأنها دولة نجدة للفقراء والمنكوبين ، اللأمر الذي يقوي مواقعها داخل المجتمعات الأخرى ومن بينها المتجتمعات الإسلامية و يقوي من نفوذها ويساهم إلى حد بعيد في تقبل مشروعاتها الفكرية والثقافية والسياسية ، هذا إلى ما هو أخطر من ذلك وهو تغيير عقيدة بعض المسلمين ليعتنقوا النصرانية ، وهنا نذكر فقط بما يخطط لأندونيسيا أكبر بلد إسلامي من حيث عدد السكان ، فالكنيسة و لجمعيات التنصيرية الخيرية - أو التي تتظاهر بالأعمال الخيرية - تخططان لتنصير أكثر من نصف سكان إندونيسيا خلال الخمسين عاما القادمة أي بحلول عام 1470هـ ( 2050م ) لتصبح بذلك بلدا نصرانيا ( مسيحيا) على حد تعبير تلك الجمعيات ولهذا الغرض خصصت الكنائس الأمريكية - خاصة الإنجليكانية منها - مئات الملايين من موازناتها سنويا لهذا الغرض ، وهنا نذكر بأن الكنائس الأمريكية تعتبر أغنى من الحكومة الفيدرالية ، حيث تعاني الحكومة الفيدرالية الأمريكية من الديون الضخمة في حين تملك هذه الكنائس موازنات بمئات الآلاف من الملايين ، في صورة استثمارات صناعية وفي صورة إعانات ضخمة من قبل بليونيرات أمريكا الذين لا يترددون في دعمها بآلاف الملايين من الدولارات سنويا .
وكان من أخطر الدوافع التي دفعتني إلى كتابة هذه السطور ما قرأناه في بعض الصحف المحلية من هجوم جاهل وغير مسؤول على الجمعيات الخيرية السعودية من قبل بعض الصحافيين والكتاب الذين لا يقدمون ما عند الله ولا يدركون - أو ربما يدركون - أنهم بهذا يضعفون بلادنا و يضرون بها وبمصالحها ويقدمون خدمات جلى للأعداء الذين يخشون الأقويتء الذين يعتزون بمبادئهم و يقولون لا لمن يحاول المساس بدينهم وبمبادئهم واستقلالهم .
لقد هاجم هؤلاء الجمعيات الخيرية في دعمها للمسلمين في خارج هذه البلاد ، بالإضافة إلى دعمها لمواطني بلادنا حرسها الله من حماقات و تهورات بعض المنتسبين إليها ، وهنا أذكرهم بما يقوم به الرئيس الأمريكي نفسه الذي ضرب المثل في الاستماتة في دعم الكنيسة ومشروعاتها التنصيرية التي تتخفى وراء الإغاثة وتقديم المعونات حول العالم ، وذلك حين احتفل برجال الكنيسة داخل البيت الأبيض - كما تقدم ذكره - في دولة علمانية الدستور ، فهل هي كذلك ؟.(68/127)
إن الرئيس الأمريكي هو الذي أطلق العنان لمحاربة الجمعيات الخيرية الإسلامية حول العالم ، وذلك بحجة دعمها للإرهاب ، وهو أكبر داعم له ، وضد من ؟ ضد الفلسطينيين العزل ، الذين لايجدون عليبة الدواء ولا لقمة العيش ، فقد أغلق داخل امريكا أكبر الجمعيات التي تجمع التبرعات لإغاثة هذا الشعب المظلوم المضطهد ، وللقضاء على البقية الباقية من الحياة فيه ، ومع ذلك فهذه الإجراء لاتزيده إلا ثباتا واصطبارا ، لكن المدهش والمحزن هو أن يأتي من يكتب متماهيا مع حملة الرئيس بوش ضد الجمعيات الخيرية السعودية ومتمما لها ومتضامنا مع أهدافها ، حتى لو حاول أن يبرر هجومه الآثم على الجمعيات الخيرية بإهمالها لمحتاجي وفقراء الداخل ، وهذه من الحجج المتهافتة ، فبلادنا ولله الحمد تنعم بالكثير من الأجهزة التي تعنى بأحوال الفقراء والمحتاجين في الداخل : فهناك الضمان الاجتماعي وهناك جمعيات البر الخيرية الموجودة في كل بلدة والجنعيات الخيرية الأخرى التى توجه لها السهام الت لم تهمل فقراء الداخل ، وهناك المحسنون الذين يقدمون التبرعات العينية والنقدية السخية في كل المناسبات ، وهذا لايعني عدم وجود الفقر والفقراء ، لكني أجزم بأن أحدا لن يموت جوعا في بلادنا ضمن موجة مجاعة كالتي تحدث على مدار الساعة لمسلمين حول العالم الأمر الذي لم تعرفه بلادنا منذ عقود بفضل الله تعالى ثم بما تقدمه دولتنا جزاها الله خيرا ، بل لن يجوع في بلدنا أحد ولا يجد من يمد له اليد خاصة في ظل التماسك و التكافل الاجتماعي القائم على قيمنا الإسلامية العظيمة ، هذا إلى أن فقراء بلادنا لن يكونوا عرضة لأخطر هدف تسعى إليه منظمات الإغاثة وه التنصير ، وهي منظمات تتستر بالأمم المتحدة أو غيرها وهي منظمات تنصيرية في المقام الأول ، فهذه المنظمات قد وجدت أن أعظم هدية قدمها لها أعداء العمل الخيري الإسلامي هو الهجوم على الجمعيات الخيرية الإسلامية ومن ثم السعي إلى إغلاقها وتجفيف ينابيع الخير الذي تقدمه للمسلمين حول العالم - رغم محدودية قدراتها أصلا - بينما يعاني إخواننا المسلمون في كثير من بقاع الأرض من الكوارث التي لاتنتهي حتى تعود في كل أرجاء المعمورة تقريبا ، حيث يلحظ كل من لديه قليل من المتابعة أن الكوارث حكر تقريبا على المسلمين : فالحروب من حظ المسلمين وحدهم ، حيث لم ننس بعد حرب الإبادة التي تعرض لها الشعب البوسني المسلم على يد الصرب في عمق أوربا التي تدعي التحضر وحقوق الإنسان حيث استمرت تلك الحرب ثلاث سنوات كاملة وبعد استكمال حرب الإبادة لأهدافها جرت مسرحية مؤتمر دايتون للسلام ، وبعد حرب الإبادة في البوسنة كانت حرب كوسوفو ، وأيضا داخل أروبا الحضارة وحقوق افنسان ، وقبل ذلك الغزو السوفيتي لأفغانستان ، وليبيريا وحرب الشيشان القائمة حاليا التي أتت على الأخضر واليابسة ومارست فيها روسيا أبشع صنوف الإبادة والاغتصاب بحق المسلمين ، وهناك كشمير والفلبين وجنوب السودان وأريتريا والصومال ، وأخيرا جاء دور العراق الذي يتعرض بعد الغزو الصليبي البريطاني الأمريطي المشترك إلى حرب إبادة لدينه أولا ثم حرب إفقار ونهب لجميعى مقوماته وهو الشعب المسلم العريق الذي يمثل أحد مراكز القوة الحقيقية في العالم الإسلامي بأسره ، فهل هذه الحروب والكوارث بعيدة عن تخطيط الكنيسة وعن اهدافها التنصيرية ؟ .(68/128)
إن الهدف من هذا الاستطراد أن أبين - وهو واضح لكل ذي عقل وإنصاف - لمن كتب ضد مد يد العون لإخواننا المسلمين حول العالم أن المسلمين في هجير تلك الكوراث يحتاجون للقرش عوضا عن الريال ، ويحتاجون للبطانية البالية التي ربما تعفف الكاتب أن يرميها أمام باب بيته فهو يجتهد في مواراتها في كيس الزبالة حتى لا تراها العيون ، هؤلاء المسلمون يعانون من الجوع القاتل الذي يهدد الملايين سنويا ، ويعانون من البرد القارس في رؤوس الجبال بعد أن أخرجوا من ديارهم : أليس لذلك النوع من الكتاب الذين ماتت ضمائرهم عيون ليبصروا بها معاناة المسلمين القاتلة في المنافي وفي القفار حيث يبيت الملايين منهم فوق الثلوج والأوحال بلا مأوى وبلا طعام وبلا دواء ، ويموت منهم مئات الآلاف سنويا من الجوع والمرض والبرد وهناك المختطفون ، ولا يصح أن يغيب عن بالنا ما تتعرض له المسلمات الطاهرات من الاغتصاب على يدي من ينتمون لحضارة الغرب الظالمة المظلمة ، والسؤال الذي يجب أن يجيب عليه هؤلاء الكتاب الظالمون لأنفسهم أولا الظالمون لأمتهم ثانيا : أليس من حق هؤلاء المسلمين أن يحصلوا على الدواء والطعام والدثار والفراش والمأوى في أقل صورها و مقاديرها كما وكيفا ، أليس من حقهم ان يأكلوا ما يبقي على حياتهم ليس إلا ، وقد رأينا جميعا كيف يقتتل بعض الصبية على رغيف العيش الذي يطير من فوق الشاحنة فتتلقه مئات الأيدي دفعة واحدة ومن وقع في يدعه فربما مصيره الموت من قبل مئات الجوعى من حوله ، أليس من حق هؤلاء أن يطعموا ما يبقي على حياتهم وأن يلبسوا أقل ما يمكن ليقيهم بعض البرد لا كله ؟ وهنا تجد الكنيسة والجمعيات التنصيرية فرصتها الذهبية لتمارس رسالتها ، رسالتها في تغيير عقيدة المسلمين تحت ضغط الحاجة ، حيث تنتشر تلك الجمعيات الكنسية التنصيرية في كل أرجاء العالم لإغاثة المسلمين على وجه الخصوص ، وذلك لأنه لايوجد تقريبا في العالم لاجئون ومشردون من غير المسلمين ، فمَن غير المسلمين يمكن أن توجه له أذرعة التنصير الجهنمية تحت طائلة الفاقة والجوع والعري والمرض والجهل ؟ وفي ظل غياب المعونات التي ينتظرها هؤلاء من إخوانهم المسلمين ، فهل سيرفض الجائع لقمة عيش نظيفة ظاهرا ولكنها ملوثة بالقصد منها وهو تغيير عقيدته ليكون مشركا من أهل الصليب ، فهل سيرفض الجائع المشرف على الهلاك تلك اللقمة بحجة كونها مقدمة من كنيسة أو منصر أو من جمعية تنصيرية ؟ طبعا الجواب كلا ، فهو سيأكل تلك اللقمة وسيسمع معها موعظة القسيس وسيقرأ معها الكتيب التنصيري ، وقد سمعنا خلال حرب البوسنة بقيام الكنائس الأوربية بترحيل آلاف الأطفال المسلمين من البوسنة والهرسك إلى مختلف أرجاء أوربا ليعيشوا في ضيافة الأسر الأوربية برعاية ومتابعة الكنائس ، فهل سيرضي هذا الحال الكتاب الذين يوجهون سهامهم إلى جمعياتنا الخيرية التي يجب أن نشد من أزرها جميعا بالقول والفعل والثناء والدعاء والدعم على كل صعيد .
لقد كان المنتظر من أولئك الكتاب هداهم الله للحق - وهم قليل بحمد الله - أن يجندوا أقلامهم للدفاع عن تلك الجمعيات الخيرية السعودية الإسلامية ، على الأقل أسوة بما يفعله الرئيس امريكي من دعم غير محدود للجمعيات الخيرية الكنيسة داخل وخارج الولايات المتحدة الأمريكية التي سماها جورج بوش الإبن ( جيوش الرحمة ) وكأنه يلفت انتباهنا إلى أنها تعد مكملا ضروريا لجيوش الدبابة والطائرة والمدفع والصاروخ والقنابل العنقودية التي تجرب في أجساد أهلنا في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وباكستان وتايلند وغيرها ، خاصة وأن بعض أولئك الكتاب يجيدون الكتابة باللغة الإنجليزية ، فلماذا لم نقرأ لهم دفاعا مكتوبا بالإنجليزية و مترجما إلى العربية يرد على الهجمة الغربية التي تقودها أمريكا ضد جمعياتنا الخيرية الإسلامية ، وبمنطق الرئيس الأمريكي ذاته ، حيث يحرص على دعم مؤسساته الخيرية وقد حتم علينا ديننا أن نغيث أهلنا و إخواننا الجوعى والعراياحول العالم كما يفعل بوش لفقراء الكنيسة ومحتاجيها ، أم أنه يراد أن تنفرد ( جيوش الرحمة ) الأمريكية بالساحة حول العالم .(68/129)
إن الجمعيات الخيرية الإسلامية رصيد لبلادنا في الداخل والخارج ، وهي تثبت صورة هذه البلاد كقائدة ورائدة للعالم الإسلامي وللمسلمين في كل أرجاء المعمورة ، وهذه الجمعيات الخيرية برجالها المخلصين ونسائها المخلصات ، يمثلون ويمثلن قوة لبلادنا حيث تنطلق الدعوات من حناجر الجوعى والغرثى والمشردين في شتى أصقاع الأرض حين تأتيهم الإغاثة من هذه البلاد الطاهرة بأن يجزي قادة هذه البلاد وشعبها المؤمن المخلص خير الجزاء ، وحيث ترتبط قلوب وأفئدة وجوارح مئات الملايين بهذه البلاد المقدسة الزعيمة ، وبهذا يكون هؤلاء المئات من الملايين الذين يرون شعب هذه البلاد وحكومته معهم في محنهم وفي آلامهم رصيدا استرتيجيا وعمقا حقيقيا لهذه البلاد في زمن التكتلات ، الذي يظهر أن هؤلاء الكتاب الانعزاليين - الذين لايعرفون لماذا يكتبون - لم يعرفوا بعد مقدار الجهل والحماقة والجناية على هذه البلاد في كتاباتهم هداهم الله.
-------------
علي التمني
ابها في 11/9/1425
===============(68/130)
(68/131)
الحرب الإعلامية الصليبية على العراق
حسين بن محمود
لقد أصبح الإعلام في زماننا هذا الخط الأول للجيوش وقلبها ومؤخرتها ، فهو يشارك في الحرب قبل تحرك الجيوش ، ومع تحركها ، وبعد انتهاء المعركة ، ولا شك أن أكثر ما نسمعه هذه الأيام في الوسائل الإعلامية هو من قبيل الحرب الدعائية بين الحكومة الأمريكية ومن والها وبين العراق والمسلمين ، فليس كل ما تعلنه الحكومة الأمريكية والإعلام الغربي أو الشرقي يكون صادقاً أو دقيقاً ..
إن التصريحات التي يُطلقا ساسة البيت الأبيض والحكومة البريطانية ليست ارتجالية على الإطلاق ، وإنما هي نتاج لقاءات بين متخصصين في علم النفس وسياسيين وإعلاميين يتفقون على صيَغ موحدة للتأثير على الرأي العام العالمي وفق دراسات ميدانية علمية تاريخية نفسية .. هذه التصريحات التي تنقلها وسائل الإعلام لها مدلولات وأهداف خاصة تصب في مصلحة القوات المعتدية في فترة معينة ثم تستخدم بعدها مصطلحات ومفاهيم أخرى للفترة المقبلة وفق مجريات الأحداث يحددها أهل الخبرة والدراية ..
ولحسن الحظ أن الإدارة الأمريكية لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب إعلامياً بحيث تستطيع التأثير على الرأي العام العالمي في الحروب (وإن كانت تملك أضخم القنوات الإعلامية في العالم) ، فقد رأينا في حرب الصومال كيف أنها حضّرت له إعلامياً لأكثر من سنتين ينقل إعلامها المجاعات والصور لأطفال الصومال ، ثم بدأت عملية احتلال الصومال تحت غطاء المساعدات الإنسانية ولكن سرعان ما انكشف زيف إدعاءاتها للعالم بعد أن اصطدمت قواتها بالمجاهدين الصوماليين الذين برهنوا للدنيا بأن الأمريكان غير مرغوب بهم من قبل سكان الصومال ، فقد زعمت أنها أتت لمساعدة الصوماليين وإذا بها تقتلهم .. ويجب أن ننبه بأن الحكومة الأمريكية قد تُسلم الحرب الإعلامية للبريطانيين الذين هم من أخبث الناس في هذا المجال لخبرتهم الطويلة ومعرفتهم الكبيرة بالنفسية العربية والإسلامية ..
وسوف نذْكر هنا بعض الأساليب الدعائية الأمريكية في الحرب الراهنة للتحذير منها أولاً ، ثم لمعرفة أسلوب العدو في حربه الدعائية وكيفية التعامل معها :
بعض الأساليب الدعائية الأمريكية في الحرب العراقية:
1- إستخدام مصطلح "صدام" أو "حزب البعث" : فالإعلام الأمريكي والغربي عامة لا يقول بأنه يحارب "دولة العراق" بل يردد بأنه يحارب "صدّام" أو حكومة "صدام" أو "حزب البعث" وهذا يهدف إلى تقليل تفاعل الجموع الإسلامية مع العراق لكون المُحارَب لم يزل عدو للإسلام والمسلمين في نظر أكثر الناس .. والرد على هذا يكون بتركيز الحكومة العراقية على المعاني الإسلامية في خطاباتها وتصريحاتها لتكسب الرأي العام الإسلامي ، وتبتعد كل البعد عن التركيز على "البعث" أو على شخص صدام ..
2- التركيز على إستخدام ألفاظ كـ "الأكراد" أو "كردستان العراقية" للإيحاء بإقرار الحكومة الأمريكية بحق الأكراد في وطن قومي لإستجلاب الأكراد في صفهم وللتفريق بينهم وبين باقي الشعب العراقي ، وقد رأينا مثل هذا في الحرب الأمريكية على أفغانستان حيث أعلن بوش عن موافقته لقيام "دولة فلسطينية" لكسب الرأي العام الإسلامي (فهل يتعظ بعض الأكراد) .. والرد على هذا يكون بالتركيز على أسلمة القضية ومخاطبة أحفاذ صلاح الدين من منطلق إسلامي شرعي تاريخي ، مع بيان الأسباب الحقيقية للحملة الصليبية على بلاد الإسلام ..
3- الضرب على وتر "الشيعة المضطهدين" في العراق ، أو الأقليات المضطهدة فيها للتفريق بين العراقيين وربما التحريش بينهم ليكونوا كأفغان الشمال الذين وقعوا في الفخ الأمريكي بكل سهولة فأصبحوا كبش فداء القوات الأمريكية الغازية لبلادهم ، وللتقليل من تدخل شيعة إيران في الحرب : حيث أنها أتت لتخليص إخوانهم من الطاغية "صدام" .. وللرد على هذا ينبغي الإستعانة بعلماء الرافضة في إيران والعراق لإقناع الرافضة في العراق بأن القنابل الأمريكية والجيش الأمريكي لا يُفرق بين سُنّي ورافضي ..
4- التذكير بماضي "صدام" الدموي في الوسائل الإعلامية لكسب الرأي العام الإسلامي خاصة والعالمي عامة ، وهذا يصرف النظر (بعض الشيء) عن تاريخ أمريكا الدموي في جميع أنحاء العالم .. فينبغي على الإعلام العراقي تذكير الناس بما جنته الحومة الأمريكية على شعوب العالم وفضح تاريخها الأسود ..(68/132)
5- تكرار أسماء الدول العربية التي تنطلق منها القوات الأمريكية (كالكويت وقطر وغيرهما) لخلق نوع من السخط في الشارع الإسلامي على هاتين الدولتين ومن ثم عزلهما عن باقي جسد الأمة ، وبهذا يسهل إبقائهما كقاعدتين دائمتين للقوات الأمريكية في المنطقة ، ولصرف نظر البعض عن الغزو الصليبي واشغالهم بنقد هذه الدول ، وللإيحاء بأن العالم العربي في صف القضية الأمريكية العادلة (لسماح الدول العربية بانطلاق الطائرات والصواريخ الأمريكية منها) .. ينبغي على الحكومة العراقية مخاطبة الشعوب العربية والإسلامية وعدم استعداء أي شعب (وخاصة شعوب دول الجزيرة والشام) ، والتفريق بين الشعوب وحكوماتها والتصريح بأن أمريكا أرغمت حكومات هذه الدول على التعاون معها بغير إرادتها ..
6- التركيز على تكرار الأسباب المُعلنة للحرب : كنزع الأسلحة ، وتخليص العالم من "صدام" وغيرها من الأسباب التي قد تصبح في يوم من الأيام من المسلّمات بسبب التكرار . والتركيز على "أسلحة الدمار الشامل العراقية" يصرف النظر عن استخدام أمريكا وبريطانيا لهذه الأسلحة ضد العراقيين (وقد استخدم الجيش الأمريكي القنابل العنقودية في اليوم الثاني من الحرب على العراق) .. فينبغي على الحكومة العراقية تذكير الناس بتاريخ أمريكا في استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد بعض الدول وكشف استخدام أمريكا وبريطانيا للقنابل "المحرمة دولياً" في حربها الحالية برغم إعلانها أنها بدأت الحرب لتخليص العالم من هذه الأسلحة ، وبهذا يكون للعراق الحق في الدفاع عن نفسه بأسلحة مشابهة !!
7- يركز الإعلام الغربي على إظهار صافرات الإنذار الكويتية وتصوير مشاهد من الكويت وهي تتعرض للقصف العراقي ، وذلك لكسب الرأي العام العربي .. فينبغي على الحكومة العراقية إعلان أن الجيش الأمريكي هو المتسبب في هذا القصف بتواجده في الكويت وبناء قواعده فيها ، وأن الشعب الكويتي ليس هو المستهدف في هذا القصف ، وأن الأمريكان يقصفون المدنيين العراقيين من الكويت فيجب الرد عليهم وعلى مواقعهم العسكرية ، وإذا كانت القنابل الأمريكية الذكية تُخطئ أهدافها بين الحين والآخر ، فالقنابل العراقية من باب أولى ..
8- يستخدم الإعلام الغربي بعض المرتدين العرب (الذين يُطلق عليهم لقب العَلمانيين) من الكويت وغيرها للدفاع عن هذه الحرب الصليبية ضد العراق في وسائل الإعلام العربية ، فإذا دافع العرب عن الأمريكان فليس لأحد الإعتراض على أمريكا !! وهؤلاء أشبه ما يكونون بـ "كلاب القافلة" التي تنبح حولها ولكن لا ناقة لها في القافلة ولا جمل .. وينبغي فضح هؤلاء ووصفهم بما يليق بهم من الألقاب : كالعملاء المنافقين ، وأذناب الإحتلال المرتدين ، وغيرها من المصطلحات التي برع فيها العراقيون ، ولكن ينبغي أن تكون هذه الألقاب ذات صبغة إسلامية ..
9- عمدت القوات الأمريكية بمساندة قوات "طالباني" و "بارزاني" المرتديْن على منع الصحفيين من التواجد في مناطق الأحزاب الإسلامية الكردية في شمال العراق وذلك لمنعهم من نقل ما يدور هناك من قصف أمريكي عنيف وقتل للأكراد المدنيين العُزّل من قبل الأمريكان ، ولو أن الإعلام نقل ذلك لتفككت أواصر الصلة بين بعض الأكراد والأمريكان ولأدرك الأكراد بأن الأمريكان لم يأتوا لتحريرهم من "صدام" .. فينبغي على الحكومة العراقية أن تعمل جاهدة على توصيل صور ضحايا الأكراد جراء القصف الأمريكي للإعلام المحلي العراقي وللإعلام والعربي والدولي ..
10- يبث الإعلام الغربي صور لأسرى عراقيين ، وتُضخّم التصريحات الأمريكية والبريطانية أعداد الأسرى وتُعلن بين ساعة وأخرى عن استسلام الجنود العراقيين لتبث حالة من اليأس في صفوف الجيش العراقي ، وكذلك تُعلن عن إضطرابات داخلية في الحكومة العراقية أو إشاعات بمقتل "صدام" تهدف من ورائها إلى نشر حالة من الفوضى في صفوف القادة الميدانيين وأفراد الجيش العراقي .. وقد أحسن العراقيون بإظهار الأسرى الأمريكان على شاشات التلفاز ، ولا ينبغي لهم الإستماع إلى الأمريكان بضرورة معاملة الأسرى وفق معاهدة جنيف ، وإن استخدم الأمريكان سلاح القوانين الدولية فعلى العراقيين تذكير العالم بأسرى جوانتنامو ..
11- تُعلن الحكومة الأمريكية عن سقوط المدن تباعاً في يدها لقتل روح المقاومة في الجيش العراقي ولخلق حالة من الذعر والهلع في صفوف المدنيين العراقيين .. وينبغي صد هذه الهجمة النفسية بالإعلان عن سقوط أعداد كبيرة من القتلى والأسرى في صفوف الأمريكان والبريطانيين لإرباك هذه القوات ولتهييج الرأي العام في هاتين الدولتين ..(68/133)
12- المراقب للإعلام الأمريكي يرى بأنه لا ينقل الجانب المعماري أو الحضاري للمدن العراقية ، وكل ما ينقله هو ليل العراق المظلم مع المناظر الصحراوية ليُعطي انطباعاً للشعب الأمريكي (الجاهل) بأن حكومته إنما تحارب بلد صحراوي متخلّف ليس فيه جانب حضاري (وهكذا في نقلها من جميع البلاد العربية) ، واستخدمت أمريكا هذه الطريقة في حربها الباردة مع السوفييت التي ما كانت تنقل على شاشاتها إلا صور المسنيين الذين تنتقيهم إنتقاءً ليكونوا أقبح الموجودين ، وتنقل معها أيام موسكو الباردة المظلمة .. ينبغي على الحكومة العراقية إبراز الجانب المدني والجمالي من الآثار والعمران في المدن العراقية على شاشات التلفاز ليفهم الشعب الأمريكي بأن هذه المدن وهذه البلاد عامرة زاخرة لها تاريخ عريق ..
13- سوف تحاول الحكومات العربية الضرب على وتر العقيدة البعثية عن طريق بعض العلماء المرتزقة لتفريق الصف الإسلامي وصرف الناس عن مساندة العراق بحجة أن حاكمه وحزبه من الكفار (مع أن هؤلاء الحكام ارتكبوا أكثر من ناقض من نواقض الإسلام ، منها موالاة النصارى ضد بلاد الإسلام) .. يينبغي أن يكون واضحاً لك مسلم بأن الجهاد في العراق "ضد جيوش نصرانية غازية لدولة إسلامية" لا شأن للبعثيين بهذه الحرب ، فالعراق ملك للمسلمين وليس للبعثيين أو حتى أهل العراق (كما هو الشأن في فلسطين وسائر بلاد المسلمين) ، ولقد أخطأ التلفزيون العراقي خطأ كبيراً جداً بتصوير بعض الأفراد وهم يهللون ويفدّون صدام ، فهذا من شأنه أن يقلل الدعم العربي والإسلامي للقضية ، فينبغي للإعلام العراقي أن ينتبه لهذا وأن يعمل على أسلمة القضية بدلاً من تحزيبها ..
ليس المقصود هنا استقصاء جميع الإشاعات أو احتواء كل الوسائل والتكتيكات الإعلامية في هذه الحرب الصليبية ولكننا ذكرنا هنا بعض النماذج حتى نبين أسلوب العدو في هذه الحرب وكيفية تسخيره لهذا السلاح (الإعلامي) الخطير في سبيل تحقيق مصالحه ، ولكي نبين للقارئ المسلم أساليب الحرب الإعلامية والنفسية حتى لا يقع فريسة سهلة للأمواج الإعلامية النصرانية اليهودية العاتية ..
للأسف فإن الإعلام العراقي والتصريحات العراقية لم تكن بالمستوى المطلوب ، فقد أتى الكثير منها ارتجالياً لا يخدم المصلحة العراقية على المدى البعيد (ولقد رأينا ذلك جلياً في مقابلة الأسرى الأمريكان) ، فلا بد للحكومة العراقية من الإنتباه لهذا الجانب الخطير من الحرب وعدم تمكين غير المؤهلين للظهور في وسائل الإعلام العالمية فإن هذا قد يؤدي إلى نتائج عكسية قد تضر بالمصالح العراقية على المدى القريب والبعيد ..
كيف يتعامل الشارع الإسلامي مع هذه الحرب الإعلامية:
سوف تكثر الإشاعات والتخمينات والتحليلات والتصريحات ، فالحرب الإعلامية - كما بينا - لها أهمية كبيرة لا يمكن تجاهلها من الطرفين ، فكيف نتلقى هذه الأخبار وهذه التصريحات !! وكيف نواجه هذه الحرب الإعلامية !!
1- يجب أن نعي بأن الأصل في الكفار أنهم أهل غدر وكذب وخيانة وعلى المسلم أن لا يصدقهم في كل ما يقولونه ، فإن الذين تقوّلوا على الله وزعموا أن له ولداً (تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً) لأحرى بأن يكذبوا في ما هو دون ذلك ، وإن كان الله قد أمرنا بالتبين من المسلم (الفاسق) إذا أتانا بخبر ، فكيف بالأمريكي أو البريطاني الكافر "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا .. "
2- لقد فقدت أجهزة الإعلام الغربية مصداقيتها فلم تعد نزيهة (كما كان يظن البعض) بل لم تكن نزيهة في يوم من الأيام ، وإنما كان الإعلام الغربي أفضل من الإعلام العربي الرسمي فقط ، وهذا من قبيل أفضل الموجود ، أما الآن فقد أصبحت الأخبار تُنقل من وسائل متعددة كثيرة يصعب التعتيم عليها أو كتمانها ، فلا ينبغي التعويل على الأخبار المنقولة في وسائل الإعلام الغربية ولا ينبغي نشرها بين الناس إلا في نطاق ضيق يخدم المصلحة الإسلامية العامة ..
3- لا يمكن التأثير إعلامياً على من يمتلك جملة من الإعتقادات الثابتة الراسخة ، فلا بد من غرس العقيدة الإسلامية الصحيحة في قلوب المسلمين ، والتي من أهمها في وقتنا هذا : عقيدة الولاء والبراء ، والحب في الله والبغض في الله ، وحقيقة وحدة الأمة الإسلامية على أساس دينها ، ونبذ العصبية الجاهلية ، ولا بد من بيان وترسيخ أسباب هذه الحرب الصليبية في نفوس المسلمين . وإذا تمكنت هذه العقائد في قلوب المسلمين فلن تؤثر فيهم - إن شاء الله - أية دعاية صليبية أو "عَلمانية" مهما بلغت درجة قوتها ..(68/134)
4- لا بد من الحذر الشديد من المنافقين والمرجفين في صفوفنا ، فليس كل من تكلم بلغتنا ولبس لباسنا وظهر بمظهرنا يكون على قلب أتقى رجل منا !! فالقنوات الإعلامية الرسمية في الدول العربية ليس لها رسالة إلا تحقيق مصالح حكوماتها الموالية للصليبيين ، وهناك الكثير من العرب (الذين باعوا دينهم بدنيا حكامهم) وظيفتهم تثبيط المؤمنين وتخذيلهم والتحريش بينهم ، وسترون أغلب هذا في الإذاعات الكويتية التي تمكن منها (العَلمانون) الذين لا يمثلون الشعب الكويتي المسلم وإن زعموا ما زعموا (واسألوا عنهم الشيخ الكويتي الفاضل: حامد العلي ، حفظه الله) .. كما أن معظم القنوات العربية يسيطر عليها النصارى الذين يوالون الأمريكان من منطلق عقدي ..
5- ينبغي الحذر من الفُرقة والشتات الفكري في النوازل ، فمع كل نازلة تنتشر المواضيع التي تُطرح على الساحة لإشغال العامة والرأي العام الإسلامي (وخاصة بين شباب الصحوة) عن عن القضايا المصيرية ، ومن هذه المواضيع المتكررة : الإنشغال بالطعن في العلماء (وعلى رأسهم الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله) ، إشغال الناس بالخلاف بين السنة والرافضة ، إستحداث قضايا مدنية ذات بعد فقهي (كما حدث في حرب أفغانستان من قضايا : كسواقة المرأة ، وبطاقة الإئتمان ، والتأمين ... ) فينشغل العلماء وشباب الصحوة بها عن الحرب الراهنة ، وهذا من عمل الحكام وعلماء السوء وأتباعهم !!
6- يجب أن نتعلم فن تحويل السلبيات إلى إيجابيات : فمن مات من المسلمين في الحرب فهو شهيد مات ميتة يتمناها كل مسلم فنحن لا نحزن لموته ، ومن مات من الكفار فهو مخلّد في النار . وإذا سقطت مدينة في يد الصليبيين فهي فرصة للمجاهدين لمواجهتهم في حرب أرضية . وإذا قصفت القوات الصليبية المدن فإننا نستثمر هذا لزيادة بث الكراهية لهم والحقد عليهم بين الجموع المسلمة . فكل سلبية نستطيع تحويلها إلى إيجابية تصب في مصلحة الأمة ، وذلك يتطلب نوع من الفطنة والوعي النفسي والإعلامي يقوم به أهل الخبرة والدراية "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا " (83 النساء)..
وبعد:
فقد بينت السيرة النبوية (على صاحبها الصلاة والسلام) خطورة الجانب الإعلامي في الحرب ، فقد قال عليه الصلاة والسلام لحسّان رضي الله عنه "اهج قريشا، فإنه أشد عليهم من رشق النبل" (متفق عليه) .. ولقد استخدم صلى الله عليه وسلم هذه الحرب النفسية الكلامية ضد قريش (ولمّا يؤذن له بالقتال بعد ) ، فقد قال لجمع من كبرائهم يوماً في مكة " أتسمعون يا معشر قريش !! أما والذي نفس محمد بيده : لقد جئتكم بالذبح" . فأخذت [القوم] كلمته ، حتى ما منهم رجل إلا لكأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وطأة قبل ذلك يترفؤه بأحسن ما يجيب من [القول]؛ حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم ، انصرف راشدا ، فوالله ما كنت جهولا !! فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم .." (حسن : صحيح الموارد 1404) ، وهذا التهديد والوعيد وهذه النبرة المتحدية هي من صلب السياسة الشرعية ، وليست السياسة دائما اللين في القول وخفض الصوت كما يظن بعض الجُهّال ..
إن جهاد اللسان (الذي هو الجهاد الإعلامي الآن) من أهم أنواع الجهاد الذي يتطلب دراية وخبرة ، وهو من الجهاد المأمور به شرعاً "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" (صحيح : صحيح سنن أبي داود 2186) ، وقال عليه الصلاة والسلام "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه" (صحيح : رواه أحمد والطبراني ، وهو في صحيح الجامع :1930) ، ولولا أهمية وخطورة هذا الجانب الجهادي لما أمر به صلى الله عليه وسلم ولما حث عليه .. فعلينا معرفة الأساليب الحديثة لهذا الجهاد البياني كمعرفتنا بأساليب استخدام الأسلحة الحديثة ، وينبغي لنا التنبه ومحاولة اتقاء تأثير الحرب اللسانية التي يخوضها أعدائنا ضدنا حتى لا نقع فريسة الهزيمة النفسية ..
وختاماً : أُذكّر المسلمين بأن قضيتهم الأولى ليست العراق بل فلسطين ، فلا ينبغي لنا أن ننسى فلسطين في زحمة الأحداث ، ولقد استغل المجرم شارون انشغال العالم بالحرب في العراق فأخذ يصول ويجول في فلسطين الحبيبة .. وأنا أُهيب بمن عقد النية على الذهاب إلى العراق للدفاع عن المسلمين هناك أن يُفكر في فلسطين أولاً ، فإن لم يستطع الذهاب إليها فعليه بثغر العراق أو أي ثغر من ثغور المسلمين الكثيرة (كالشيشان ، وكشمير ، والفلبين ، والسودان ، وأندونيسيا ، وأفغانستان ، وتركستان الشرقية ... بعد التنسيق مع المجاهدين في هذه الثغور) ..(68/135)
اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب أهزم النصارى والمنافقين واليهود المحاربين للإسلام والمسلمين .. اللهم أهزمهم وزلزلهم ، اللهم أقذف الرعب في قلوبهم ، وفرق جمعهم ، وشتت شملهم ، وخالف بين آرائهم .. اللهم أجعل بأسهم بينهم شديداً ، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك ، يا قوي يا جبار ..
اللهم أذل الدول الكافرة المحاربة للإسلام والمسلمين ، اللهم أرسل عليهم الرياح الصرصر العاتية ، والأعاصير الفتاكة الماحية ، والقوارع المدمرة ، والأمراض القاتلة ، اللهم أشغلهم بأنفسهم عن المسلمين ..
اللهم لا تجعل لهم على المسلمين سبيلا ، اللهم أتبعهم بأصحاب الفيل ، وأجعل كيدهم في تضليل ، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل فتجعلهم كعصف مأكول ..
اللهم خذهم بالصيحة والرجفة وأرسل عليهم حاصبا .. اللهم صب عليهم العذاب صبا .. اللهم أخسف بهم الأرض ، وأنزل عليهم كسفاً من السماء .. اللهم اقلب البحر عليهم نارا ، والجو شهباً وإعصارا ..
اللهم أسقط طائراتهم ، ودمر مدمراتهم ، وأغرق سفنهم ، وفجّر صواريخهم في نحورهم ، وأجعل أسلحتهم عليهم دمارا ، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم يا قوي يا متين ..
اللهم إليك نشكوا ضعفنا وقلّة حيلتنا وهواننا على الناس ، اللهم إنا مسّنا الضرّ وأنت أرحم الراحمين .. اللهم إنك ترى مصيبتنا وما جنيناه على أنفسنا ببعدنا عنك ، اللهم إنا نُقر لك بذوبنا ، اللهم أعنا على طاعتك ونُصرة دينك ، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .. لا اله إلا أنت العظيم الحليم ، لا اله إلا أنت رب العرش الكريم .. اللهم كن معنا واهدنا إلى الحق وانصرنا على القوم الظالمين ..
اللهم انصر الإسلام والمسلمين ، وأذل الكفر والكافرين ، وأحفظ إخواننا المجاهدين في كل مكان .. وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
كتبه
حسين بن محمود
22 محرم 1424 هـ
==============(68/136)
(68/137)
حوار مجلة البيان
مع فضيلة الشيخ الدكتور ناصر بن سليمان العمر
مجلة البيان العدد 184 ذو الحجة 1423هـ
فضيلة العلامة الأستاذ الدكتور ناصر بن سليمان العمر، من أعلام العلماء المعاصرين، أستاذ في قسم القرآن وعلومه في كلية أصول الدين، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ سابقاً ـ.
تخرج في كلية الشريعة، وحصل على درجة الأستاذية في القرآن وعلومه، وله العديد من المؤلفات؛ منها: (الوسطية في القرآن الكريم)، و (سورة الحجرات: دراسة تحليلية وموضوعية)، و (العهد والميثاق في القرآن الكريم)، وله العديد من الرسائل؛ من آخرها: (رؤية استراتيجية في القضية الفلسطينية)، ويعكف منذ مدة طويلة على تعليق فوائد على صحيح الإمام مسلم.
كما أن له دروساً علمية من أشهرها شرح (منار السبيل)، وفضيلته هو المشرف العام على موقع (المسلم) على شبكة الإنترنت، والذي سيبدأ انطلاقته بمشيئة الله ـ تعالى ـ في مطلع العام الهجري الجديد.
ويسعدنا في مجلة البيان أن نلتقي فضيلته؛ لنتحدث في بعض القضايا الدعوية، والمستجدات السياسية.
( البيان ): كان لأحداث (11 سبتمبر) آثار عميقة في جسم الصحوة الإسلامية، وظهرت اتجاهات عديدة لتجاوز هذه الأزمة؛ منها اتجاهان متباينان؛ أحدهما: يحاول جاهداً تطويع الإسلام للواقع؛ حتى لو أدى ذلك إلى تأويل النصوص الشرعية وتعطيلها. والآخر: يتجاوز الواقع ويتعامل مع الأحداث بسطحية شديدة غير مدرك لكثير من جوانب الكيد والمكر؛ فما رأي فضيلتكم في ذلك؟
(*) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد، فإني أشكر للإخوة القائمين على مجلة البيان حسن ظنهم بي، وإتاحتهم لي هذا المجال، في هذه المجلة المتميزة بطرحها ـ حتى غدت مرجعاً لكثير من الدعاة في العالم الإسلامي ـ في زمن تميز فيه الغثاء، وراج فيه الغث إلا قليلاً.
ثم أقول جواباً عن السؤال: تكمن المشكلة في عدم تحديد حجم الأزمة؛ حيث إن اختيار أي طريق لمعالجتها نابع من تصور الفريق المعالج لحجم المشكلة، والذي أراه ـ بغض النظر عن الحدث والحكم الذي ينطبق عليه - أن باطن الحدث (11 سبتمبر) فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فالأذى نتيجة طبيعية للحدث في المنظور القريب، أما على المدى البعيد ـ وآمل أن يكون قريباً ـ فسوف تتحقق انتصارات ضخمة على جميع المستويات ـ بإذن الله ـ وهذا مرتبط بكثير من العوامل والأسباب التي إن أخذنا بها تحقق ذلك الفتح المبين.
والمشكلة التي تعاني منها الأمة عند الأزمات؛ هي أنها لا تفكر إلا بأسلوب الخروج من الأزمة، بينما الأحرى بها أن ترتفع في مستوى تفكيرها من البحث عن سبيل الخروج من الأزمة إلى استثمارها واعتبارها منطلقاً لعز الأمة ومجدها، فتتجاوز ظاهر الحدث إلى الغوص في باطنه والبحث في أعماقه؛ فإن كل محنة تنطوي على منح عظيمة، فلا يصرفنا مظهر المحنة عن حقيقة المنحة؛ فإن الله ـ سبحانه ـ لم يخلق شراً محضاً.
أما بالنسبة للاتجاهات المتباينة التي أشرتم إليها؛ فإن العبرة بمقدار حجم كل اتجاه ومدى تأثيره ونفوذه، أما مجرد الاختلاف فهو سنة كونية وطبيعة بشرية {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119]، ومن هنا؛ فإننا بعد أن نحدد الاتجاه المؤثر والفاعل في الساحة؛ يجب أن ننظر في مدى قربه أو بعده عن الحق، ومن ثم يكون مدار البحث في أسباب نمو هذا الاتجاه، والعوامل المؤثرة في بقائه، والأسباب التي أدت إلى بروزه، وبعدها يأتي العلاج المناسب.
وتباين الاتجاهات المذكورة في سؤالكم هو إفراز طبيعي للمناهج الدعوية السائدة، ومن المعروف أن مناهج الرخاء لا تخرّج قادة الأزمات..
فكيف يُنال المجد والجسم وادعٌ *** وكيف يُحاز الحمد والوفْر وافِرُ؟
فأي فضل يحصل مع غير مشقة؟ وأي مجد لم تبعد بطالبه الشقة؟!
لولا المشقة ساد الناس كلهُمُ *** الجود يُفقِر والإقدام قَتّالُ
وليس المهم حديثنا عن مناهج الآخرين، وإنما العبرة في قدرتنا على صياغة المنهج الحق، والأسلوب الأمثل الذي يقود الأمة في أزماتها، ويستثمر مواطن القوة فيها، وعندها لن تكون للمناهج الخاطئة تأثيرات يُخشى منها.
( البيان ) : كان علماء السلف الصالح نماذج متميزة في الجمع بين التخصص الشرعي، والاهتمام بمصالح الأمة، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكيف نعيد سيرة علمائنا إلى الواقع؛ مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، والعز بن عبد السلام... وغيرهما؟
(*) تميز النتيجة خاضع لتميز الوسيلة والهدف.
وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسامُ
وإخراج قادة للأمة هدف عظيم وأمنية سامية؛ منطلقها وجماع أمرها قوله ـ تعالى ـ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، ومما يساهم في تحقيق تلك الغاية، وإبراز مثل تلك النماذج مراعاة ما يلي:(68/138)
1 - إعادة النظر في مناهجنا الدعوية والتربوية والعلمية؛ حيث إنها غالباً تتسم بالتجزئة بدعوى التخصص؛ فيكون المولود خداجاً، أو تصاغ بشمول ينقصه الطموح، ويرضى بالأمر الواقع؛ فتخرّج أنصاف متعلمين.
2 - إيجاد مدارس خاصة لإعداد قادة الأمة وتربية المجددين.
3 - الجدية والواقعية، وعدم الركون إلى الدنيا، والبعد عن المماطلة والتسويف، والإفراط أو التفريط.
4 - عمق التأصيل، وتجاوز المحلية، وعدم الاستغراق في اللحظة الحاضرة، مع استشراف ما وراء الأفق.
5 - تحويل العالم النصوص التي تلقاها إلى واقع ماثل، وذلك بتفاعله مع الأمة، ومعايشة قضاياها، ومشاركتها في شؤونها وشجونها، مع عدم الانعزال عن المجتمع، والعيش في برج عاجي، بل لا بد من النزول إلى أرض الواقع، وصنع المبادرات والمواقف المنهجية التي يحتسب بها على الباطل وأهله، وفي الوقت نفسه تُقاد بها الجماهير، وتُضبط بها انفعالاتهم.
6 - علو الهمة، والصدق مع الله، والاستعداد للتضحية، وأن يصوغ العالم حياته وفق النص القرآني: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163].
7 - تجاوز عقلية البطل المنتظر، وأن يهيِّئ كل واحد من أفراد الأمة نفسه ليساهم في صنع بطولة الإسلام؛ فما أضر وأضل كفار قريش إلا عقيدتهم {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8]، ومن مظاهر انحراف الرافضة استكانتهم عبر القرون لكذبة الغائب المنتظر، ومن جملة ضلال النصارى عقيدتهم في مخلص البشر!
( البيان ) : الجهاد رأس سنام الإسلام، وفي خضم الواقع المؤلم لأمتنا الإسلامية؛ هناك محاولات جادة من بعض المنتسبين للإسلام، ومن أعداء الإسلام للدعوة إلى إلغاء هذه الشعيرة؛ حتى من المناهج الدراسية، وذلك بدعاوى باطلة؛ فماذا تقول لهؤلاء؟
(*) مشكلة هؤلاء عبر التاريخ هو الغباء المتذاكي! وتكمن مأساتهم في عدم فهمهم وإدراكهم لطبيعة هذا الدين وسر الجهاد فيه، ولنا أن نسألهم وعليهم أن يجيبوا: هل الجهاد في أفغانستان منبعه المناهج الدراسية؟ وقل مثل ذلك في البلقان، وفي فلسطين، وفي غيرها من مواطن الجهاد.
وليعلموا أن الجهاد ليس سلعة تجارية تُحجب بقرار من هيئة الأمم، أو نظرية هندسية تحتاج إلى كتاب ومعلم وطالب، وإنما هو سنة ربانية، وضرورة بشرية، وحاجة فطرية؛ متى ما وُجدت بواعثه انطلق كالسيل العرم لا يوقفه شيء، سره وعظمته أنه يُخضع الآخرين ولا يخضع لهم، وغايته تطويع الأرض لله، وإخضاعها لشرعه وأمره ونهيه.
وإذا كانوا جادّين في إيقاف الجهاد ـ وأنّى لهم ذلك ـ فليتجهوا صوب أسبابه وبواعثه من الظلم الذي تمارسه جبابرة القرون؛ من فرض إرادة البشر على البشر، ومنعهم من أن يختاروا الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وإلا فَهُم كما قال الله عن أسلافهم: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].
ومن العجب أن من خصائص هذا الجهاد أنه ينمو ويقوى كلما حاول أعداؤه النيل منه، والحد من انطلاقته ومسيرته، وبيننا وبينهم: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29]، وجواز المرور إليهم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، وغاية الأماني: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
وحقيقة هؤلاء أنهم: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، ونقول للمسارعين فيهم: {فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} [المائدة: 52].
( البيان ) : التقلب والاضطراب في المواقف والمبادىء آفة يزداد ظهورها في الأزمات والشدائد؛ فما السبيل للثبات على الحق والصبر على الأذى فيه؟
(*) هذه آفة راسخة في عمق التاريخ، فقد أشار إليها القرآن في أكثر من موضع؛ حيث ذكر الله عن بني إسرائيل أنه لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].
وذكر الله قصة الذي آتاه آياته فانسلخ منها: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175].
وعاتب الله صحابة محمد ، وحذرهم من التقلب بعد نبيهم(68/139)
فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
أما في العصر الحاضر؛ فقد أصبح الاضطراب سمة من سمات هذا الزمن بسبب الابتلاءات والمحن، ومن هنا؛ فإن هذه القضية لا يمكن استيعابها من خلال إجابة عن سؤال في عدة أسطر، وإنما تحتاج إلى بسط وتفصيل وبيان، وقد شغلني هذا الموضوع طويلاً، ومن ثم قمت بكتابة مفصلة تبين أسباب الاضطراب وآثاره، وركزت فيه على موضوع الاطراد في المنهج، وبيان ثمار الاطراد وكيف يتحقق، وسينشر الموضوع قريباً بإذن الله؛ سائلاً الله التوفيق والسداد، والثبات على دينه في الشدّة والرخاء، وأن يجعلنا ممن قال فيهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
( البيان ) : المحن التي تصيب الأمة يرى فيها بعض الناس كل أبواب التشاؤم والإحباط، ويرى فيها آخرون طريق الفلاح والتمكين؛ فما رؤية فضيلتكم في ذلك؟
(*) المحن هي الجامعة الكبرى التي تُخرّج القادة والمجددين والمصلحين؛ حيث لا يتحقق التمكين إلا بعد الابتلاء، وقد سئل الشافعي ـ رحمه الله ـ: أيهما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟ قال: لا يمكن حتى يبتلى(1). قال ابن القيم: «سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، ثم تلا قوله ـ تعالى ـ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] »(2).
وقديماً قال ورقة لرسول ا صلى الله عليه وسلم : «يا ليتني فيها جذعاً أكون حياً حين يخرجك قومك!»، فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : «أَوَ مخرجيَّ هم؟» فقال ورقة: «نعم! لم يأت رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً»(3).
وقد بين الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن دخول الجنة مرهون بتجاوز المحن والبأساء والضراء، كما قال ـ سبحانه ـ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
ولذلك قال أحد الدعاة المعاصرين ـ عندما سئل عما أصابه من بلاء ومحنة ـ: ألم تصدك هذه المحن عن الطريق إلى الله أو توهن من عزيمتك؟ فقال: لولا هذه المحن والابتلاءات لشككنا في طريقنا. وقرأ: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]، ومن هنا؛ فإن هذه المحن التي تصيب الأمة هي علامات الطريق للوصول إلى العز والكرامة والسؤدد؛ فإن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل(1).
وقد يكون البلاء عقوبة على ذنب وقع من الأفراد أو الأمة، ومع ذلك فلا يخلو من خير إن تاب الناس وأنابوا، أما إذا تمادوا في ظلمهم فربما كانت القاصمة: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ نَ} [الأنبياء: 11 - 15] .
( البيان ) : من المحن التي تمر بنا هذه الأيام الحملة الأمريكية على العراق؛ فما أبعاد هذه الحملة؟
(*) الحملة الأمريكية على العراق حلقة من سلسلة الحملة الصليبية على الأمة الإسلامية، والتي ابتدأها الغرب النصراني بقيادة أمريكا في أفغانستان، ضمن مخطط مرسوم أعلنوا بدايته ولم يحددوا نهايته، لكنهم حددوا أهدافهم وغاياتهم مصداقاً لقوله ـ تعالى ـ: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].(68/140)
وما يجري هو لون جديد من ألوان الاستعمار الصليبي؛ وذلك أن الغرب بعد فترة الاستعمار العسكري بدأ في مشروعات استعمارية مثل الانقلابات العسكرية، ثم إنشاء منظمات دولية تخضع في النهاية لإرادة الغرب، وكذلك التحالفات بين دول الغرب وحكومات العالم الإسلامي؛ سواء التحالفات الفردية أو الجماعية، ثم جاء النظام العالمي الجديد. ومع ما لعبته هذه المشروعات والصيغ الاستعمارية من دور مهم ومؤثر في تاريخ المنطقة؛ فلم يحقق ما ترجوه هذه الدول الاستعمارية، وحدثت أمور كثيرة على مستوى الدول والشعوب اعتبرتها الدول الغربية تجاوزات لا يجوز السكوت عنها، وتزامن هذا مع ضعف المنظمات الدولية وتأثيرها، ونشوء تكتلات جديدة، وقوى مؤثرة كالصين والكوريتين واليابان وغيرها؛ مما ينازع الغرب هيمنته وسلطته، وبخاصة بعد تنامي المدّ الجهادي في العالم الإسلامي، وسقوط المعسكر الشرقي بعد خروجه من أفغانستان خاسراً، بالإضافة لما أحدثته الانتفاضة في فلسطين من هزة عنيفة تجاه المخططات اليهودية خصوصاً والغربية عموماً، مما جعل الغرب بقيادة أمريكا يأخذ بزمام المبادرة؛ وذلك بإعادة الاستعمار العسكري القديم بثوب جديد لا يختلف عن سابقه إلا في المظهر والشكل، والحقيقة واحدة.
وما أعلنوه ليس إلا جزءاً يسيراً مما تخفي صدورهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]، وحقيقة لم أستغرب أن ينهج الغرب هذا النهج، أو يسلك هذا الطريق؛ لأن هذا من بدهيات معرفة حقيقة اليهود والنصارى، كما بين الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابه، وقد قيل:
تلك العصا من هذه العصية *** هل تلد الحية إلاّ الحية؟
وإنما مكمن الاستغراب أن يتجاوز بعض أفراد الأمة الغفلة عن هذه الحقيقة إلى الدفاع عن أولئك، وإنكار أهدافهم ومراميهم! وهل أُتينا إلا من داخلنا، وممن هم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا؟!
( البيان ) : ولكن كيف يرى فضيلتكم الدور الذي يجب أن يقوم به العلماء والدعاة في مواجهة هذه الأزمة؟
(*) قناعتي أن المشكلة ليست في تحديد هذا الدور، ولا في بيان الطريق وسبل النجاة، فهي أوضح من الشمس في رابعة النهار، كما قال: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك..»(2). وإنما تكمن المشكلة في السؤال الكبير: هل لدينا الاستعداد لمواجهة تلك المحنة؟ وهل الأمة على قدر المسؤولية؟ وهل نحن على استعداد للتخلي عن الدنيا وزخرفها، والتضحية بذلك في سبيل عقيدتنا ومبادئنا؛ لاستعادة مجدنا وعزتنا وسؤددنا؟
لقد سئمت الأمة من التنظير واجترار الكلمات، وآن الأوان أن نقبل التحدي بصدق ويقين وتفاؤل؛ فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وقد ذم الله القائلين ما لا يفعلون: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]، وبيت القصيد ونقطة البداية والنهاية في الآية التي تليها: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4].
ونبراسنا الذي يضيء معالم طريقنا قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، وإلا فهو الذل والصغار، و (على نفسها جنت براقش) .. «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»(1). وأقول بكل ثقة ويقين: إن المعركة مع الغرب محسومة لصالح الأمة ـ بإذن الله ـ والعدو يحفر قبره بيديه، {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، ولكن الأمر يحتاج إلى خطة استراتيجية كبرى؛ نعي فيها أن في المعركة صولات وجولات، وكر وفر، قد تصاب الأمة بجروح وقروح في أولها، ثم يكون الانتصار العظيم في نهايتها؛ إذا صدقنا مع الله، وأخذنا بالأسباب الشرعية لذلك، {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } [آل عمران: 140 - 141].(68/141)
( البيان ) : يسعى بعض الكتاب والمفكرين إلى الاصطياد في الماء العكر، حيث يدفع في اتجاه التخويف من المناهج التعليمية، والكليات الشرعية، والمؤسسات الخيرية ... ونحوها؛ فما رأي فضيلتكم في ذلك؟ وهل من سبيل للمحافظة على هذه المكتسبات؟
(*) دون تقليل أو استهانة بما يفعله هؤلاء؛ لماذا نحصر أنفسنا بالأزمات ؟ ولماذا ندع لخصمنا تحديد بداية المعركة ومكانها ومدتها؟ ولماذا لا نغزوهم في دورهم ومؤسساتهم؟ ومع أهمية تلك المرافق الحيوية وتأثيرها الضخم في حياة الأمة؛ فإنه يجب أن لا تنحصر جهودنا فيما يحدده لنا أعداؤنا.
إننا بحاجة إلى تغيير عقليتنا ومنهجنا واستراتيجيتنا في مواجهة تلك الأزمات، فَلِمَ لا نغزوهم قبل أن نُغزى؟ فما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، ولماذا لا نشغلهم قبل أن نُشغل؟ يؤسفني أن كثيراً منا يقفون دائماً موقف المدافع، والسنة الكونية أن كل شيء متحرك.. إما أن يتقدم وإما أن يتقهقر، فمن لم يكن متقدماً فهو يقيناً في تأخر، ومن لم يربح فهو حتماً يحقق الخسائر الواحدة تلو الأخرى.
لقد أدرك عدونا سر ضعفنا ومكمن الداء فينا؛ فأشغلنا قبل أن نشغله، وهاجمنا قبل أن نهاجمه، وغدا ينقلنا من مصيبة إلى أخرى، ومن بلية إلى كارثة؛ دون أن نعي كيف نخرج من تلك الحلقات المفرغة، مسلِّمين بنقاط ضعفنا؛ مع أننا لم نبرز جوانب القوة فينا، ضخّمنا دور عدونا دون أن نعي أن الذل لا يفارق جباههم؛ وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين؛ فنصرناهم على أنفسنا بقذفنا الرعب في قلوبنا، فشتان شتان بين أسلافنا الذين نُصروا بالرعب، وبين مَنْ قُذف في قلوبهم الوهن، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها..
ومن يتهيب صعود الجبال *** يعش أبد الدهر بين الحفر
إن من أعظم الخطط والاستراتيجيات في المعارك هو إيجاد البدائل تحسباً لأي طارئ؛ ولذا فإنني أتساءل: ألم نكن ندرك أن عدونا يتربص بتلك المؤسسات الرائدة ويحيك لها المؤامرات؟! فإن كانت الإجابة بالنفي فيا لها من مصيبة! وإن كان الجواب بالإيجاب فالمصيبة أعظم؛ فلِمَ لم نعدّ البدائل، ونقم المؤسسات التي تحمي أجيالنا وأمتنا؟ لماذا نضع البيض في سلة واحدة ثم نتحسر إذا تكسر؟ لماذا نبني حياتنا على ردود الأفعال في عالم يبني استراتيجيته الكبرى على المكر، وأخذ المؤمنين على حين غرة؟ فهل نفيق من سباتنا؟
( البيان ) : كان بعض المحللين يرى أن الصحوة الإسلامية سوف تتراجع وتنحسر كثيراً بعد الحملة الأمريكية على الإرهاب، وتشاءم كثير من الصالحين بسبب الضغوطات الكثيرة، ومع ذلك فانتصارات التيارات الإسلامية في الباكستان والمغرب وتركيا قلبت الموازين؛ فما تفسيركم لهذه الظاهرة؟ وهل من أمل يلوح في الأفق؟
(*) مَنْ هؤلاء المحللون؟ وما مستوى ثقافتهم؟ وإلى أي بلد ينتمون؟ ولحساب أي جهة يعملون؟ إنَّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقد أصبحنا ننظر إلى كثير من الآراء التي تصدر من غير المتخصصين بنظرة الريبة والشك، والخطورة في تصديق بعض أصحاب الشأن لمثل تلك التحليلات التي لا تُبْنى على علم ويقين، وإنما هي مجرد ظن وحدس وتخمين. ومأساة أصحابها أنهم لا يفقهون حقيقة هذا الدين، وقد يكونون من المرتزقة المأجورين، وإلاّ فقد أثبت التاريخ أن الضربات التي تُوجَّه إلى الأمة لا تزيدها إلاّ صموداً وثباتاً، وهي وإن ترنحت أمام تلك المحن ساعات معدودة، ولأيام وشهور محدودة؛ فإنها سرعان ما تثبت على قدميها، مفاجئة أقرب الناظرين إليها، وهي وإن غابت عن الساحة لحظات؛ فإنما هي استراحة المحارب، وغفوة المجاهد.. {إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]، تتلو ذلك صولات وجولات تحقق أعظم الانتصارات، ولو كانت هذه الصحوة تخضع للظنون والتحليلات لكبَّرنا عليها ـ منذ زمن ـ أربع تكبيرات، ثم ووريت التراب منذ سنوات، ولكن {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].
( البيان ) : الواقع الدعوي وتشققه حتى في الاتجاه الواحد؛ إلى ماذا يعزوه فضيلتكم؟
(*) عندما لا يكون المصدر الوحيد لصهر النفوس البشرية وإخضاعها المطلق هو الكتاب والسنة؛ فحينئذ يكون للمؤثرات الأخرى نصيبها في بناء التوجه وتحديد المسيرة، فيكون للبيئة الاجتماعية سلطانها الذي لا ينكر، وللتربية الأسرية تأثيرها الذي لا ينازع فيه، وللمؤثرات البشرية الأخرى من سلطة أو جماعة أو مدرسة نصيبها في بناء الفرد وتكوين شخصيته، ويزداد الأمر سوءاً عندما تُكوِّن النفس البشرية ذاتها بذاتها، فتكون نفس الإنسان هي مربيته ومعلمته وقائدته؛ فيسير في دروب الانحراف وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.(68/142)
ومن هنا؛ فبمقدار تأثير أي عامل من هذه العوامل تكون صياغة الإنسان، وتبرز ملامح طريقه وأهدافه، ولذلك عندما خضع الجيل الأول الذي تربى على يد المصطفى خضوعاً مطلقاً للوحي، وأسلموا قيادهم لمحمد دون منازعة أو حظوظ نفس، أو تأثير بيئة أو قبيلة أو مجتمع، كان ذلك الجيل الرائع الذي لم ولن يأتي مثله على مر التاريخ، وعبر السنوات والقرون.
وما أشرت إليه في سؤالك هو نتيجة طبيعية لتلك المؤثرات التي تُنازع الوحي سلطته وهيمنته؛ فمنهم مستقل ومستكثر.. {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
( البيان ) : هناك بعض طلاب العلم الذين همُّهم التنقيب عن عثرات العلماء وتكبيرها، والاشتغال بها عن العلم الحقيقي، بل يصل بهم الأمر إلى تجريح المخالفين ومحاولة إسقاطهم من أعين الناس؛ فهل من سبيل لعلاج هذه الظاهرة والتقليل من آثارها؟
(*) أخي الكريم! إنني أخالفك؛ فلا أعد هؤلاء طلاب علم إذا كان همهم التنقيب عن عثرات العلماء وتكبيرها كما ذكرت! بل يزداد عجبي من وصفك لهم بهذا الوصف (طلاب علم)، ثم تقول: وهم منشغلون بهذه العثرات عن العلم الحقيقي! فأي علم يُحسبون عليه، أو يتشرفون بالانتماء إليه؟ وسؤالك يحمل السؤال والجواب معاً؛ فلو كانوا طلاب علم حقاً لما انشغلوا ببُنيَّات الطريق، وأكاد أجزم أن هؤلاء شغلتهم حظوظ النفس والهوى عن الانشغال بميراث النبوة وفهم الكتاب والسنة.
وهذه من أعظم البلايا التي ابتليت بها الأمة في قرونها المتأخرة؛ فعاقت مسيرتها، وشغلتها عن تحقيق أهدافها، ومما زاد الأمر سوءاً استمرار المعركة بين رادٍّ ومردود عليه؛ الأمر الذي جعل الناس في متاهة؛ لا يدرون أين يكمن الحق وأين يكون الباطل؟ ولن نستطيع أن نتخلص من هذه المحنة إلاّ بالتجرد المطلق، والصدق مع الله، والابتعاد عن حظوظ النفس، وإقامة ميزان العدل والقسط على النفس أولاً قبل أن ندعي إقامته على خصومنا ومخالفينا؛ التزاماً بقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].
ومما يحز في نفوس المؤمنين عدم وصولنا في العدل والقسط مع من خالفنا الرأي، إلى ما أمر الله به من عدل مع المشركين الذين أخرجوا صلى الله عليه وسلم من مكة وصدوه عن المسجد الحرام، فقال ـ سبحانه ـ: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [المائدة: 2].
وقال أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
ولنكن صرحاء مع أنفسنا: هل عدلنا مع من يخالفنا من إخواننا كما أمرنا الله بالعدل مع أعدائنا؟ أين الرحمة بالمخالف والدعاء له، وإظهار الشفقة عليه؟ مأساة بعضنا أنهم يشكون الظلم وهم يمارسونه صباح مساء، ثم يدّعون أنهم البرآء براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام، فخير لهم أن يراجعوا أنفسهم، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محمد: 21]، خيراً لنا أن نصحح ما بأنفسنا قبل يوم الفصل {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9]، ويُحصّل ما في الصدور.
من السهل اتهام الآخرين وقد يكونون أهلاً لذلك، ولكن من الصعب الاعتراف بالحقيقة والتجرد عن الهوى إذا كان الأمر يتعلق بأنفسنا وذواتنا.
( البيان ) : تشهد الصحوة الإسلامية انتشاراً محموداً ـ ولله الحمد والمنة ـ، ولكن ألا يرى فضيلتكم أن هناك قصوراً ظاهراً في توظيف الطاقات واستيعابها لخدمة الأمة؟(68/143)
(*) نعم! هناك قصور واضح وظاهر في استخدام المكاسب التي حققتها الأمة في سنواتها الأخيرة متمثلة في هذه الصحوة المباركة، ولولا ذلك لكنَّا قاب قوسين أو أدنى من قيادة الأمم، ومع ذلك؛ فلا أرى أن نضيع الأوقات في البكاء على الأطلال، والنياحة على ما مضى وفات؛ فإن ذلك لن يزيدنا إلا تقهقراً وتأخراً، وإنما أدعو إلى سرعة المبادرة واغتنام الفرصة، واستخدام ذلك التفريط قوة دافعة إلى الأمام؛ فإن المؤمن لا يُلدغ من جحر واحد مرتين، وليست العبرة كيف كنا؟ وإنما المهم كيف نكون؟ وكم أتمنى أن نستفيد من بعض ما لدى أعدائنا من نقاط القوة والتمكن، فقد استطاعوا أن يسيطروا على أماكن كثيرة من المعمورة، مع أنهم أصحاب أهداف دنيوية، وما ذاك إلاّ لأخذهم بالأسباب التي حققت لهم ما يصبون إليه وما يريدون، ونحن أصحاب دين ودنيا حري بنا أن نأخذ بأسباب النجاة والسؤدد.. {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 201 - 202].
( البيان ) : الواقع الدعوي يشهد منذ زمن تشققاً حزبياً وصراعاً مؤلماً في وقت تحالف فيه العدو لمواجهتنا؛ فهل من سبيل لإصلاح ذات البين؟ أو على أدنى الأحوال لكف الأذى بين العاملين في الحقل الدعوي؟
(*) مرت الأمة في تاريخها بمراحل من التعصب والتحزب، فبعد القرون المفضلة نشأت الفرق البدعية، كالمعتزلة والخوارج والجهمية وغيرها من الفرق المعروفة التي أحدثت شرخاً في جسم الأمة، ثم بعد ذلك نشأت مرحلة أخرى؛ وهي مرحلة التعصب المذهبي واستمرت قروناً عديدة، وكان لها من الآثار السلبية ما لا يخفى، ثم في هذا العصر بدأت الجماعات والتنظيمات الدعوية، والتي لا تُنكر جهودها في مقاومة الاستعمار، والمحافظة على دين الأمة وتربية أجيالها، ولكنها ـ للأسف ـ وقع كثير منها في التعصب المقيت الذي فرَّق الأمة شيعاً وأحزاباً، ثم بدأ في السنوات الأخيرة التعصب للأفراد، وضعف تأثير الجماعات؛ فكانت المصيبة أشدّ وأنكى، وهذا وإن كان قدراً كونياً، كما أخبر الصادق المصدوق r في حديث الافتراق؛ فإن الواجب على الأمة أن تتعامل مع هذا القَدَر الكوني بالقَدَر الشرعي؛ وهو وجوب جمع شمل الأمة وتوحيد كلمتها امتثالاً لقوله ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، مع التحذير من التفرق والتشتت نظراً لما يؤدي إليه التنازع والخلاف، قال ـ تعالى ـ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
وأنبه هنا إلى أن الاختلاف الذي أشرت إليه في سؤالك على نوعين:
النوع الأول: من قبيل اختلاف التضاد، وذلك عندما يكون الاختلاف في المنهج، وهو موطن الخطورة الذي يُخشى على أصحابه من أن يكونوا داخلين فيما حذر منه النبي في حديث الافتراق، وهذه مسألة يغفل عنها كثير من أصحاب التنظيمات والجماعات.
النوع الثاني: وهو ما يكون من اختلاف التنوع، وذلك عندما يكون الاختلاف في وسائل مشروعة لا في المنهج، أو من باب اختلاف ما يناسب الأماكن والبلدان؛ فهذا الاختلاف لا تثريب على أهله، ولكن الخطورة نشأت فيما دخل على تلك الجماعات من أمور غير مشروعة؛ كالتعصب، والتحزب، والتنابز، وافتعال العداوات، وجَعْل مسائل الاجتهاد ميداناً للولاء والبراء.
ومع أهمية التعامل مع كل تلك الجماعات والأحزاب بنوعيها وفق منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع المخالف والموافق، وإنزال كل واحد منزلته مع البعد عن البغي والظلم والعدوان؛ فإنني أتطلّع إلى مرحلة جديدة تتجاوز فيها الأمة هذا الواقع المرير؛ وذلك بأن يقوم العمل الدعوي على طرح المنهج الحق والدعوة إلى العلم بدلاً من الجماعات والأحزاب؛ مع التنبيه إلى أن الخلل ليس في الاجتماع والترتيب والانتماء؛ فهذه أمور مشروعة إذا تخلصت من بدعيات التجمعات المحدثة، وهناك فرق بين الأمرين. وإنما الخلل فيما يفعله بعض ممن يخلطون بينهما لنقص فقههم وعلمهم؛ فتجدهم يحملون على أصحاب التجمعات والتنظيمات لمجرد التجمع والتنظيم والانتماء، فوقعوا في شر مما حذروا منه؛ إذ أنشؤوا مجموعات وتكتلات حزبية متعصبة نسبوها إلى السلف ظلماً وزوراً.(68/144)
والخروج من هذا المأزق الذي وقعت فيه الأمة يحتاج إلى تجرد وصدق، مع التضلع في العلم، وصدق الانتماء لمنهج أهل السنة والجماعة، مع البعد عن الظلم والهوى والكيل بمكيالين، فكثير ممن حذر من تلك الظاهرة وقع في شر مما حذر منه كما أشرت آنفاً، وأُذكّر الجميع بقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة: 119].
( البيان ) : من أبرز جوانب الصراع مع الغرب في المرحلة القادمة: مسألة الحرب على الأسرة والأخلاق الفاضلة، وتغريب المرأة المسلمة... أليس كذلك؟ فكيف يُقَوِّم فضيلتكم دورنا في الدعوة النسائية؟ وهل هو مواز لمقدار التحدي؟
(*) لقد قصَّر الدعاة وطلاب العلم والمؤسسات الدعوية كثيراً فيما يتعلق بالواجب تجاه المرأة المسلمة، ومواجهة الحملة الشرسة من الغرب والشرق عليها، ولكن الذي يخفف من المعاناة ويزيد من التفاؤل؛ هو هذه الالتفاتة الظاهرة من الدعاة إلى المرأة تعليماً وتربيةً وإعداداً، مع تلك الاستجابة الواضحة في صفوف النساء؛ مما جعلني أقول في أكثر من مناسبة: إن كانت الصحوة في العقود الماضية في صفوف الرجال؛ فقد أصبحت في السنوات الأخيرة «صحوة النساء»؛ وذلك لما أراه من إقبال كبير من الفتيات على الحجاب، واعتزازهن بقيم الفضيلة، ولما أراه من إقبال عظيم من المرأة على كتاب الله تعلماً وتعليماً، عبر مؤسسات متعددة، كالدور والجمعيات النسائية الإسلامية، وجماعات تحفيظ القرآن، بالإضافة للنشاط الظاهر في إقامة الدورات المتخصصة في الدعوة والتربية والتعليم، وإلقاء المحاضرات الخاصة للنساء، وكثير منها تُلقيها داعيات معروفات، وطالبات علم موفقات، مع أن الأمر بالنسبة للنساء لا يزال في أوله.
ولذا؛ فإنه لا بد من عناية فائقة، واهتمام خاص بهذا المرفق الدعوي المهم؛ لأن المرأة إذا ربيت تربية صالحة كانت سداً منيعاً تجاه الضربات التي توجه نحو الأمة عموماً ونحو الأسرة خصوصاً، كما أن المرأة الواعية تحمل عن زوجها وعن ولي أمرها أعباء كثيرة من العمل الجاد في الصفوف الخلفية، بل وفي الأمامية أحياناً، «ومن خلف غازياً في سبيل الله بخيرٍ فقد غزا»(1)، كما أخبر الصادق المصدوق r.
ونظراً لحداثة العمل «في الجانب النسوي»؛ فربما عرضت أخطاء أو حدثت ثغرات، وربما نقص جانب من الجوانب التي يحتاج إليها في قيام البناء، وحتى يتم ذلك على وجهه الشرعي الأكمل؛ فلا بد من حسن التوجيه، وسلامة المنهج، مع التركيز على الجوانب التي تتعلق بطبيعة المرأة ومهمتها، والحذر مما وقع في بعض البلاد الإسلامية من إقحام المرأة فيما لا يعنيها، وتكليفها بما لم تُخلق له.
ومن بدهيات ذلك: إشراف العلماء وأهل الورع والديانة إشرافاً مباشراً على كل ما يتعلق بشؤون المرأة ومؤسساتها؛ التزاماً بقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
كما أننا بحاجة إلى يقظة تامة في التعامل مع المرأة؛ حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، أو نسيء من حيث أردنا الإحسان.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الهجمة العلمانية التي يشنها الغرب وحلفاؤه على المرأة المسلمة؛ تتعدى أهدافها إلى تقويض المجتمع المسلم؛ وذلك بحرب الفضيلة، وإشاعة الرذيلة، وإغراق الأمة في الشهوات، وصرفها عن الجادة والأخذ بمعالي الأمور، وإخراج أجيال جل عنايتها وغاية مقصدها إشباع غرائزها والانهماك في ملذاتها وشهواتها؛ غافلة عن المعركة الدائرة بين الحق والباطل، مشغولة بالسفاسف عن مواجهة أعداء الله والدفاع عن دينها وحرماتها ومقدساتها؛ فيسهل على العدو إشعال الفتنة داخل صفوفها، ويتيسر له زمام قيادها.
وبمثل هذا ضاعت الأندلس، ودخل اليهود والنصارى إلى كثير من بلاد المسلمين، وما حرب يونيو 7691م عنّا ببعيدة، فقد ضُربت الجيوش العربية وطائراتها الحربية وهي جاثمة في مطاراتها، ولا عجب فقد كان قادتها يتابعون أغنيات كوكب الشرق، ويسهرون في المسارح والحانات، فكانت تلك الكارثة التي سودت تاريخ الأمة ولم تتخلص من آثارها.
وآمل أن لا يعيد التاريخ نفسه.
( البيان ) : مع استمرار الانتفاضة المباركة في أرض الإسراء، وارتفاع حدتها؛ هناك العديد من الأسئلة التي تفرض نفسها؛ لعل من أهمها: التساؤل حول قدرة الأمة على مواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة، وخاصة في ظل تعالي أصوات المطبعين على شتى المستويات السياسية والفكرية والاقتصادية، وهل هناك رؤية لمواجهة التطبيع؟
(*) نعم نحن قادرون ـ بعون الله ـ على مواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي وغيره من مشاريع الكفر، وبوادر هذا اليقين أصبحت أمراً واقعاً.. والحمد لله؛ فدولة إسرائيل لا تملك مقومات الدولة المستقرة الآمنة، وإنما تعتمد على الدعم الخارجي غير المحدود عسكرياً واقتصادياً وسياسياً من الشرق والغرب.
وإدراكاً لهذا الواقع من قبل إسرائيل وحلفائها؛ طرحت عدة مشاريع استراتيجية لحماية إسرائيل وترسيخ أقدامها؛ أهمها:
1 - إسرائيل الكبرى.(68/145)
2 - تفتيت المنطقة.
3 - مرحلة السلام.
4 - الـ (شرق أوسطية).
النظرية الأولى ثبت عدم نجاحها واستحالتها؛ وذلك أن إسرائيل لم تستطع أن تحافظ على أمنها واستقرارها في نسبة صغيرة من الأرض؛ فكيف تحافظ على أضعاف ذلك؟!
وأما الثانية؛ فمع ما تحقق فيها من نجاح محدود فقد أدرك الجميع صعوبة الاعتماد عليها؛ وخاصة بعد حرب لبنان.
أما مرحلة السلام فتحتاج إلى حديث خاص؛ أما مرحلة الـ (شرق أوسطية)؛ فهي نظرية سياسية حديثة جاءت من قبل حلفاء إسرائيل عندما أدركوا صعوبة نجاح الاستراتيجيات الأخرى، وقد تزعمها شمعون بيريز، وقد بدأت هذه النظرية قبل عدة سنوات، وكان من أبرز ميادينها المؤتمر الاقتصادي الذي عقد في المغرب والقاهرة والدوحة، وهي تقوم على أن تندمج دول المنطقة في استراتيجية اقتصادية وسياسية لا ترتكز على القومية أو الدين؛ بل على رقعة جغرافية محدودة (الشرق الأوسط)، وهذه النظرية ترعاها أمريكا وتدعمها دول الغرب، ويصعب الجزم بمستقبلها.
لكن من أجل مواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي، وتحرير فلسطين، وعودة بيت المقدس؛ لا بد من توافر عوامل عدة أخذاً بالأسباب الشرعية، وانسجاماً مع السنن الكونية؛ فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وما ضاع في عشرات السنين لا يسترد بأيام وشهور، ولذلك لا بد من تضافر الجهود، والأخذ بأسباب النصر، والتوكل على الله.
ومن المعالم المهمة في ذلك:
1 - العودة الصادقة إلى الله.
2 - تربية الأمة على الإسلام.
3 - الإيمان المطلق بأن الإسلام هو المنطلق الوحيد لتعاملنا مع قضية فلسطين.
4 - توعية الأمة بأن الجهاد هو الوسيلة الوحيدة لتحرير فلسطين.
5 - وحدة الكلمة واجتماع الصفوف.
6 - وجود خطة محكمة واستراتيجية واضحة تراعى فيها الظروف والإمكانات، وتدرس فيها العوائق.
أما التطبيع؛ فإنني على ثقة ـ بإذن الله ـ من أنه لن يتحقق كما أراد له مخططوه، وأنى للزيت أن يمازج الماء، عقيدة اليهود تأبى، بل عقيدة المسلمين تأنف، والضدان لا يجتمعان، وفي تجارب بعض الدول القريبة أقوى دليل وأظهر برهان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [يوسف: 21].
( البيان ) : نشكر فضيلتكم، ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
===============(68/146)
ثامنا: غرس الأخلاق الفاضلة في النفوس.
الجانب الخلقي في الإنسان هو الذي يحدد موقع صاحبه أهو إنسان حقا أم أنه أحط من رتبة الحيوان؟!
ولهذا كان أئمة أهل الحق الذين يسابقون غيرهم من أهل الباطل بالحق إلى العقول، هم منبع الأخلاق الفاضلة وقدوة البشر فيها، ولهذا وصف الله تعالى خاتم رسله محمدا r بهذا الوصف العالي: ((وإنك لعلى خلق عظيم)).[القلم: 4]
وعندما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلق صلى الله عليه وسلم لم تزد السائل على قولها له: "كان خلقه القرآن".[ صحيح مسلم (1/513) بلفظ: " فإن خلق نبي ا صلى الله عليه وسلم كان القرآن ".]
وهذا الجواب المختصر الجامع (والسنة وحي كالقرآن إلا أنها غير متلوة) يدل على أن تصرفات الرسو صلى الله عليه وسلم في حياته سواء في علاقته مع ربه أو مع الناس قريبهم وبعيدهم كان محكومة بالقرآن، فإذا سمع الناس قول صلى الله عليه وسلم أو رأوا فعله، علموا معاني القرآن الكريم، فكأن القرآن ينطق بلسانه ويتحرك بحركته، ولهذا كان r القدوة الحسنة لأمته: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )).[الأحزاب: 21]
والأخلاق الفاضلة في الإسلام شاملة لنشاط المؤمن كله باطنه وظاهره، وليست مقصورة على تصرفات محدودة، ويدل على هذا الشمول جواب عائشة السابق: "كان خلقه القرآن.."
ويمتاز اتصاف أهل الحق بالأخلاق الفاضلة عن سواهم من أهل الباطل بأمور:
الأمر الأول: إيمان أهل الحق بمشروعية تلك الأخلاق الفاضلة إيمانا صادرا عن شرع رباني، أي إنها أخلاق مشروعة من عند الله تعالى، فهو الذي شرعها ورضي الاتصاف بها وإن كانت العقول السليمة تقر بأن تلك الأخلاق حميدة والاتصاف بها خير.
الأمر الثاني: أن أهل الحق يتصفون بتلك الأخلاق طمعا في رضا الله وهربا من سخطه تعالى، ويرجون عليها ثوابه بدخول الجنة، والنجاة من النار.
الأمر الثالث: أن أهل الحق يثبتون على الالتزام بتلك الأخلاق على كل حال ويتخذون اتصافهم بها عبادة لربهم، فاتصافهم بالأخلاق الفاضلة ثابت ودائم، وليس تابعا للأهواء يتقلب بتقلبها ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم )).[الأحزاب: 36]
الأمر الرابع: أن أهل الحق الذين يتصفون بتلك الأخلاق الفاضلة يحبون لجميع الناس أن يتصفوا بها مثلهم من أجل سعادتهم بها، ولذلك يسعى أهل الحق سعيا حثيثا لدعوة الناس إلى الاتصاف بها والتمتع بثمراتها، كما يسعون إلى إزالة كل خلق سيئ يفسد حياة البشر وينشر بينهم الضلال والفحش والمنكر.
نماذج من الأخلاق الفاضلة.
ولنذكر شيئا من الأخلاق الفاضلة التي يتصف بها أهل الحق، وقد يتصف ببعضها أهل الباطل، ولكن ليس كاتصاف أهل الحق بها، لأن أهل الحق يمتازون عن سواهم في الاتصاف بالأخلاق الفاضلة بميزات لا توجد في غيرهم، كما مضى. ومن تلك الأخلاق:
أولا: الإخلاص في الأعمال.
أي إنهم يريدون بأعمالهم وجه الله وحده، فلا يتصفون بخلق ولا يعملون عملا يريدون من ورائه مدحا ولا ثناء من غير الله، ولا جاها أو منصبا أو مالا أو غير ذلك من المخلوقين، كما قال تعالى: ((وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين..)).[البينة: 5]
والذي يعمل العمل مخلصا لله، لا يترك عمله من أجل هوى أو شهوة أو تقربٍ لأحدٍ من الخلق.[ وقد فصلت القول في أهمية الإخلاص وصعوبته والأسباب المعينة على الاتصاف به في كتاب: الإيمان هو الأساس، في مبحث: الإيمان باليوم الآخر، فليراجعه من شاء…]
ثانيا: التزام الصدق.
وخلق الصدق في الإنسان يجعله مستقيم السيرة مع ربه ومع الخلق: يصدق في إيمانه وفي عبادته، وفي معاملاته مع أسرته، ومع جيرانه ومع مجتمعه كله، وباستقامة الناس على هذه السيرة المبنية على الصدق تستقيم الحياة.
والصدق شرط أساسي في أهل الحق الذين يسابقون أهل الباطل إلى العقول بحقهم، فلا يقبل الحقَّ الإلهيَّ إلا الصادقون، ولا يحمله إلا الصادقون، ولا يدعو إليه ويثابر في الدعوة إليه إلا الصادقون، ولا يصبر على البلاء في السباق إلى العقول بالحق إلا الصادقون.
فالصادقون هم أهل الحق الذين يَحْيَونَ صادقين، مهما كلفهم الصدق من تبعات، ويموتون على الصدق، لأنهم يعلمون أنه لا ينفع عند الله إلا الصدق، ولا يبقى الحق في الأرض إلا بالصدق، ولا حق بدون صدق، كما أنه لا صدق بدون حق.
ولما كان الله تعالى هو الحق، وهو مصدر الحق أسند إلى نفسه الصدق، ونفى أن يكون أحد أصدق منه.
كما قال تعالى: ((قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين)).[آل عمران: 95]
وقال تعالى: ((ومن أصدق من الله حديثا)).[النساء: 87]
وقال تعالى: ((وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا)).[النساء: 122]
والصدق من صفات أولي العزم من الرسل الذين يسألهم الله يوم القيامة عن صدقهم إقامة للحجة على من كذب بالصدق، ولا يكذب بالصدق إلا الكاذبون.(68/147)
قال تعالى: ((وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا، ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما)).[الأحزاب: 8]
وقال تعالى: ((والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون)).[الزمر: 33]
وأهل الحق الصادقون ينفعهم صدقهم عند الله يوم يلقونه في الدار الآخرة، كما قال تعالى: ((هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم)).[المائدة: 119]
وإنما كان للصدق هذه المنزلة العظيمة لما يترتب عليه من الآثار السامية، فإن صاحبه يَصْدُق ربَّه في إيمانه وفي عبادته، فلا يكون منافقا يظهر خلاف ما يبطن، ولا مرائيا يعمل العمل الذي ظاهره الصلاح من أجل أن يراه الناس فيحمدونه، فإذا خلا بنفسه بارز الله بخلاف ذلك، ويَصْدُق الناسَ الذين يتعامل معهم في أي موقع كان، حاكما كان أو محكوما، خادما كان أو مخدوما، أبا كان أو ولدا، يُصَدِّق فعلُه قولَه، فتسري الثقة بين الناس بالصدق، ولا يتوجس أحد من آخر خيفة بسبب الكذب. إيمانه صادق وجهاده بأعز ما يملك: (ماله ونفسه)، صادق كما قال تعالى: ((إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون))[الحجرات: 15]
ويُظهر هذه المنزلةَ العظيمة للصدق: الكذبُ الذي هو من أبرز صفات أعداء الله من الكافرين والمنافقين، وإمام الكاذبين هو إبليس الذي يعدهم ويمنيهم ويكذب عليهم ويغريهم بالكذب، فيضلهم عن الحق حتى يكذبوا به ويصدقوا الباطل، فإذا جاء اليوم الذي لا ينفع فيه إلا الصدق وعاينوا جزاء التكذيب بالصدق، بث حقده وأظهر ازدراءه لهم وأنزل الحسرة في قلوبهم وتبرأ منهم فعرفوه على حقيقته، كما قال تعالى: ((وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص، وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمونِ من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم))[إبراهيم: 22 أصل الصراخ: الصوت الشديد، والصارخ: المستغيث. والمصرخ-على وزن المكرم-المغيث.]
تأمل قول الله تعالى: ((إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم)) أي إن الله الحق أمركم بالحق ووعدكم على الإيمان به وفعله وعدا حقا، وهو رضاه عمن آمن بالحق وفَعَلَه، وصدَق الله في وعده فأثاب أولياءه رضاه وجنته، كما قال تعالى بعد الآية السابقة: ((وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام))
أما إبليس فقد صدهم عن الحق وأغراهم بالباطل، ووعدهم في الدنيا بالسعادة إذا هم اتبعوه، وذلك كله كذب وافتراء، فلم يُعْمِلوا عقولهم ويفكروا بها ليعرفوا صدق الرسو صلى الله عليه وسلم وكذب الشيطان، فاتبعوا خطوات الشيطان، فكانت تلك عاقبتهم في الآخرة: عذاب الله الذي لا يغني عنهم منه أحد من قادة الكفر والاستكبار الذين كان خطاب إبليس خيبة أمل لهم جميعا في ذلك الموقف الرهيب.
وهذا هو جزاء كل من اتبع أهل الباطل من زعماء الضلال المحاربين لله ولرسوله، الذين دأبهم الكذب على أتباعهم في دينهم ودنياهم يكفرون بالله ويحاربون شريعته، ويحلفون الإيمان المغلظة بأنهم هم المؤمنون: ((إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون، اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كنوا يعملون)).[المنافقون: 1-2]
ويفسدون في الأرض بتأييد الكفر والكافرين وموالاتهم، ونشر الفسق والفجور وتيسير سبل ارتكاب الفواحش والمنكرات والمحرمات، ومناصرة الظلم والظالمين، وحجب العدل عن الضعفاء، والانغماس في الترف المهلك الذي يعينهم عليه السلطان والمال، ومحاربة أهل الحق والصلاح الذين يدعون الناس إلى الحق والصلاح، ويحذرونهم من المنكر والفساد، ويضلل أولئك المفسدون جماهير الناس المغفلين بقلب الحقائق، وبالكذب المتكرر منهم على تلك الجماهير مزينين لهم أعمالهم منفرين لهم من سماع ما يدعوهم إليه أهل الحق، ويدَّعون أن فسادهم صلاح وصلاح أهل الحق فساد، كما قال تعالى: ((ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد)).[ البقرة: 204، 206]
((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)).[البقرة: 11-12](68/148)
وإذا كان يترتب على الكذب واتباع أهله ذلك الجزاء الأخروي، فإنه يترتب عليه في الدنيا أيضا الفوضى والاضطراب وسوء العاقبة والمحن التي تزلزل البشر زلزالا شديدا في كل شؤون حياتهم.
الأضرار الرئيسة المترتبة على الكذب.
ولو أردنا استعراض الأضرار المترتبة على الكذب لطال الكلام على ذلك ولذلك نكتفي بالأضرار الرئيسة الآتية:
الضرر الأول: القول على الله بالباطل بعلم أو بغير علم.
وهذه صفة علماء السوء من أهل الكتاب ومن اقتدى بهم من هذه الأمة، كما قال تعالى: ((فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون)).[البقرة: 79]
وصفة الجهلة من المشركين أيضا، كما قال تعالى: ((قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)).[الأنعام: 144]
الضرر الثاني: تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل.
وهو مترتب على القول على الله بعلم أو بلا علم، مع نسبة ذلك إلى الله تعالى كذبا وبهتانا، فيجمعون بذلك بين الكذب والافتراء على الله-عن علم أو عن غير علم-وتحريم الحلال وتحليل الحرام، ويدخل في هذا كل حلال وحرام. أو محاربة دينه وشريعته بإنكارهما، وادعاء حق التشريع ادعاء صريحا، ويصدرون الأنظمة والقوانين التي تحرم ما أحل الله للناس وتضيق عليهم ما وسع الله لهم، أو تحلل ما حرم الله من المعاصي المتنوعة بحسب الأهواء في التحليل والتحريم معا.
الضرر الثالث: الكذب السياسي المدمر.
وهذا يحصل من الطغاة المحاربين للحق وأهله، عندما تعوزهم الحجة ويصرعهم برهان الحق، ومن الأمثلة الواضحة على هذا موقف فرعون من دعوة موسى وأخيه هارون عليهما السلام، فقد حاول محاورة موسى فغلبه موسى، وحاول الاستعانة عليه بالسحرة والحشود الجماهيرية فغلبه موسى، فلجأ إلى الكذب والافتراء مدعيا أن موسى إنما جاءهم بما جاء به، ليستولي على الحكم ويخرج أهل مصر من بلادهم ويتكبر عليهم-كما يقول المثل: "رمتني بدائها وانسلت".
قال تعالى عن فرعون-بعد ذكره حوارا طويلا معه: ((قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون، قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين، يأتوك بكل سحار عليم، فجمع السحرة لميقات يوم معلوم، وقيل للناس هل أنتم مجتمعون، لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين، فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين، قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين، قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون، فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون، فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، فألقي السحرة ساجدين، قالوا آمنا برب العالمين، رب موسى وهارون، قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فسوف تعلمون، لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين، قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون، إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين)) إلى قوله تعالى: ((فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم... وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين)).[طه: 34-36] ؟؟
تلك هي عاقبة أهل الباطل الكاذبين من الطغاة الذين يدمرون أممهم بكذبهم عليهم، كما حصل لفرعون و قومه، وهذه هي عاقبة أهل الحق الصادقين الذين ينصحون لقومهم ويبلغونهم الحقائق، بدون زيف ولا افتراء كما حصل لموسى عليه السلام ومن معه.
وما أكثر صنف فرعون وقومه الذين يكذبون على أممهم في كل شئ ويستخفونهم فيطيعونهم، ويحاول أهل الحق إنقاذهم من سياسات ألئك الطغاة، فتوضع أمام محاولاتهم العقبات، ثم لا يتبين القوم كذب ساستهم إلا عندما ينزل بهم الدمار، فيندمون ولات ساعة مندم. وهذه الأمم اليوم تساق إلى دمارها وهلاكها بكذب طغاتها عليها وقلبهم الحقائق لها، وهذه الشعوب في الأرض تُدمر في دينها ونفسها وعقلها ونسلها وعرضها ومالها، ولا تعتبر بما جرى ويجري من المصائب النازلة بها، ولا زالت تسير وراء طغاتها كالشياه وراء الراعي الأحمق، لم تستبن رشدها الذي دعاها إليه الصادقون من رجالها، على حد قول دريد بن الصمة:
أمرتهمُ أمري بمنعرج اللوى === فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
أمثلة لكذب الطغاة المدمر للشعوب.
ولا بد من ذكر بعض الأمثلة الواقعة لتتنبه العقول الغافلة بها، فقد عميت بصائر الأمم عن الاعتبار بمن سبقها في الأمم الماضية، ولعل في التذكير بالواقع ما ينبه تلك العقول الغافلة:
المثال الأول: الثورة الكمالية التي خطط لها اليهود والنصارى، للإجهاز على ما بقي من رمز الخلافة الإسلامية التي حملها بنو عثمان.(68/149)
فقد ضعفت هذه الخلافة، حتى أصبحت تسمى بالرجل المريض، واحتل أعداء الإسلام من الصليبيين الأوربيين عاصمة الخلافة (الأستانة) وقد أخرجوا صنما أحاطوه بهالة من العظمة والانتصارات-وكان الخليفة سجينا في دار الخلافة-حتى انتعشت آمال المسلمين الذين ظنوا ذلك الصنم مجددا لمعركة بدر، وجهاد صلاح الدين، وتخيلوا الملائكة وهي تحفه بالنصر في السماء وكتائب الجهاد ترفع رايته الأرض، فمدحه الشعراء وأثنوا عليه ثناء عطرا، كما قال فيه شوقي:
الله أكبر كم في الفتح من عجب """""""""يا خالد الترك جدد خالد العرب
يوم كبدر فخيل الحق راقصة """""""""على الصعيد وخيل الله في السحب
وأخذت أجهزة الإعلام المتاحة في تلك الفترة تكيل المديحَ للقائد المنتصر، والقدحَ والذمَّ للخليفة المغلوب على أمره، الذي بقي يصارع المساومات اليهودية الصليبية إلى آخر لحظة من ولايته.
وبذلك سوغ الكذبُ والتضليل لفرعونِ التركِ الصغير أن يقضي على رمز الخلافة ويفصل الدين عن الدولة-كما أراد ذلك اليهود والصليبيون-ويطرد الخليفة وأسرته إلى خارج حدود تركيا، ويحارب الإسلام وأهله حربا بلا هوادة فيها. ولا زال أتباعه يحذون حذوه في محاربة الإسلام والمسلمين، ليضاعفوا له الوزر الذي سيتضاعف لهم كذلك [1].
وعند ذلك استيقظ الغافلون عن المكر اليهودي الصليبي، وأخذوا ينوحون على الخلافة والخليفة والإسلام ويحاولون محاولة فاشلة، أن يجدوا لعودتهما سبيلا، وهيهات، و ذاق المسلمون بعدها أقسى عقاب وأعظم ذل. فناحوا وبكوا، وهل يعيد الموتى النواح والبكاء؟!
وهنا قال شوقي في الخلافة التي أطاح بها خالد الترك!:
عادت أغاني العرس رجع نُواحِي """""""""""ونُعِيتِ بين معالم الأرواح
كُفِّنتِ في ليل الزفاف بثوبه""""""""""""ودُفِنتِ عند تبلج الإصباح
ضجت عليكِ مآذن ومنابر"""""""""""وبكت عليك ممالك ونَواح
الهند والهة ومصر حزينة"""""""""""تبكي عليك بمدمع سحاح
والشام تسأل والعراق وفارس""""""""""""أمحا من الأرض الخلافةَ ماح؟
[راجع هذا المعاني في: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر.(225) طبع دار الإرشاد في بيروت، للدكتور محمد بن محمد حسين.]
وأما كيف خدع المسلمين مصطفى كمال أتاتورك، وكذب عليهم حتى صدقوه ودعموه، فيكفي نقل هذا المقطع من كتاب: تاريخ الدولة العلية العثمانية [2] : (وكما أن الغربيين قد نجحوا في مخططهم وجعلوا العالم الإسلامي كله يسير فخورا بضع سنوات وراء الثورة الكمالية، فقد استغل مصطفى كمال عواطف المسلمين وأموالهم إلى أبعد حدود الاستغلال، وكسا ثورته لباسا إسلاميا، سواء بأحاديثه وتصريحاته وخطبه أو بمعاملته لزعماء المسلمين، فمن ذلك أنه استعان بالزعيم الليبي الشهير أحمد السنوسي وجعله مستشارا له، وكان يبرق إليه، كما قال لي صديقي الأمير شكيب أرسلان، إذا أراد شن هجوم على مكان ما قائلا: إننا ننوي الهجوم غدا أو بعد غدٍ على مكان ما، فاقرؤوا البخاري الشريف على نية النجاح والتوفيق.
واستغل أيضا أعمال وأقوال جمعية الخلفاء الهندية التي قامت برعاية الأخوين شوكت علي ومحمد علي واستغل الشعراء فمدحوه، والأدباء فأثنوا عليه، ومشايخ الطرق فرفعوه إلى مقام الولاية [-ولا زال بعضهم يؤيد علمانيته إلى اليوم. وهكذا يستغل الطغاة المحاربون للإسلام بعضَ المنتسبين إلى العلم والأدب للإشادة بهم حتى يغتر بهم عوام الناس فيؤيد الطواغيت. ]
كان مصطفى كمال يبطن غير ما يظهر وينوي أن يفعل غير ما يقول، إذ أنه ما كاد ينتصر نهائيا ويطمئن إلى مصيره، حتى ألغى الخلافة وطرد الخليفة من البلاد وطرد السيد أحمد السنوسي، وتنكر لكل القيم الإسلامية وسار بسيرة ليس فيها أي مصلحة للإسلام ولا للمسلمين، لا بل ليس فيها أية مصلحة لتركيا نفسها، فها هي تركيا بعد مضي ستين سنة على هذه الثورة، ما زالت بلدا ناميا ضعيفا، لا حول له ولا طول، فالحركة العلمية فيها ضعيفة، والأمية سائدة، والحياة الاجتماعية متأخرة والحالة الاقتصادية في الحضيض، وكل ما فعلته هذه الثورة أنها شغلت الناس بأمور جانبية تافهة مثل إلغاء الطربوش، وسفور النساء، ولو كان هذان الأمران تركا للزمن لتكفل بتحقيقهما من غير ثورة كما حدث في كل البلاد الإسلامية...).[ ولا زال الكماليون مصرين على تطبيق العلمانية المعادية للإسلام والمحاربة لأهله في تركيا ويضايقون دعاة الحكم بالإسلام، بل بلغ بهم الأمر أن يغلقوا مدارس تحفيظ القرآن الكريم، ويتخذون كل الوسائل للقضاء على تعليم الشباب المسلم العلوم الإسلامية، ومن ذلك إغلاقهم معاهد الأئمة والخطباء، وعدم اعترافهم بشهادات الجامعات الإسلامية في عواصم الإسلام، كالأزهر والجامعة الإسلامية وغيرهما، ولكن الصحوة الإسلامية تشق طريقها إلى إعادة مجد الإسلام ورفع رايته وسينصرهم الله على أعدائهم.](68/150)
المثال الثاني: الثورة الناصرية في مصر التي اتخذ زعماؤها الإسلام واجهة لثورتهم، والقومية العربية شعارا لهم، وعلى رأسهم عبد الناصر الذي اختفى وراء كبار الضباط في أول الأمر، واغتر بهم دعاة الإسلام بسبب كذبهم ووعودهم التي قطعوها على أنفسهم، بل إن عبد الناصر بايع المرشد العام للإخوان المسلمين "حسن البنا"، ثم خدعهم وقلب لهم ظهر المجن، وكان من أهم أسباب نجاح ثورته مناصرتهم له، اعتمادا على أن ولاءه وولاء الضباط الأحرار كان في الأصل للإسلام ودعاته، وكانت التسمية نفسها "الضباط الأحرار" قد أطلقها الإخوان الذين كانوا مسؤولين عن الضباط، ولكن عبد الناصر الذي بايع المرشد العام وسار تابعا للمسؤول الذي عينه الإخوان للإشراف على الضباط الذين انضموا للحركة الإسلامية وارتبطوا بها، كان يخطط في الخفاء لسحب الولاء له شخصيا، بدلا من الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وكافأ الإخوان الذين خدعهم وأقام الثورة على أكتافهم، بما يعرفه القاصي والداني من الاعتقال والسجن والتعذيب والقتل والتشريد والحظر لنشاطهم.[ راجع كتاب: صفحات من التاريخ، لصلاح شادي (1120) وما بعدها، وراجع كتاب: الإخوان المسلمون لمحمود عبد الحليم (وهو ثلاثة أجزاء).]
كما أنه عندما تمكن من الحكم أسرف في وعوده وتبشيره للشعب المصري والعالم العربي والشعوب الإسلامية، بأنه سيحقق لهم العزة والكرامة ضد البغي والعدوان الأجنبي، ويرفع عنهم الذنب الذي نزل بهم وغلا في رفع شعار القومية العربية مخففا من ذكر الإسلام، ثم تطور حكمه إلى أن وصل إلى الاشتراكية، العربية ثم الاشتراكية العلمية، وأحدث شقاقا ونزاعا شديدا بين الدول العربية، بل بين أحزاب قامت معتمدة على دعمه وتحر يشه وبين الحكومات القائمة، وحكم مصر حكما عسكريا بغيضا، وسلب الأغنياء غناهم، وزاد الفقراء فقرا، حتى أصبحت مصر شبيهة بمقبرة يخيم عليها الصمت المطبق، لا ينطق من سكانها إلا من يسبح بحمد الطاغية.
وانقلبت العزة التي بشر بها الشعب والعرب والمسلمين إلى ذلة نالت كل عربي ومسلم، ولا زال المسلمون يسبحون في مستنقع تلك الذلة، فقد احتل اليهود مصر عمرو بن العاص ومرتفعات الجولان والقدس وما حولها وغزة، ولم تعد أرض مصر إلى المصريين إلا بعد أن سجد خَلَفُه أمام أقدام اليهود، ورفع العلم اليهودي على مصر، ولا زالت الأراضي الأخرى-إضافة إلى أرض فلسطين التي احتلها اليهود سنة 1948م-في قبضة اليهود يعيثون فيها فسادا يعلمه الناس كلهم.
وهذا وغيره من المصائب والمحن التي أنزلها بالأمة كانت عكس وعوده وتصريحاته، فقد كذب على الأمة كما كذب قبله مصطفى أتاتورك كذبا سياسيا مدمرا.
وليس من السهل الاستمرار في ضرب الأمثلة لطغاة الكذب السياسي المدمر للشعوب، فهو الأصل-وما عداه استثناء-في وعد طاغية العراق شعبه بإمبراطورية واسعة الأطراف، بالغزو المسلح الذي بدأه باحتلال الكويت وما آل إليه أمر العراق والشعوب الإسلامية، وبخاصة العربية منها ما فيه غناء عن الأمثلة للأكاذيب السياسية المدمرة.
ولم يعد يخفى على كثير من أبناء الشعوب كذب طغاتها المحاربين للإسلام، والذي تحتاجه تلك الشعوب الآن ليس كشف ذلك الكذب المدمر الذي لم يعد خافيا عليها، ولكنها تحتاج إلى معرفة السبيل التي تسلكها للتخلص من ذلك الدمار [3].
ولكني أذكر مثالا واضحا من أمثلة كذب الطغاة المدمر لشعوبهم نراه رأي العين اليوم ويراه العالم كله، وهو كذب طاغية الصومال الذي استولى على الحكم-كغيره من حكام الشعوب الإسلامية-بالقوة العسكرية [4] مدعيا أنه أراد بذلك تخليص الشعب الصومالي من محنته، واعدا إياه بالعيش في جنة من الحياة، وهو الآن يعيش تعيسا جائعا، عاريا، عطشانا، لم يبق من أفراده إلا الجلد والعظم تلهبه الشمس المحرقة، ويقتله البرد القارس، وتفتك به الأمراض المتنوعة، عدا المئات الذين يموتون كل يوم من الجوع والعطش والمرض.
وأمامي الآن جريدة الشرق الأوسط[عدد (5110) 30/5/1413هـ-24/11/1992م. ص: 8 بقلم اللواء عمر الحاج محمد مصلي. ] وبها عنوان: (الصومال.... أسوأ كارثة إنسانية) أقتطف من المقال الذي كتب تحته المقطع الآتي لأنه يناسب المقام:
"النظام الذي استولى على الحكم في عام 1969م تراجع عن المبادئ التي أعلنها بعد أعوام قليلة من استيلائه على الحكم وبعد أن أعلن حربا على الفساد والمحسوبية واختلاس أموال، والقبلية، تعثرت خطاه من تلقاء نفسه، مما أدى إلى اختلال ترتيب الأمور والتقاعس في تحقيق الوعود. من تلك اللحظة بدأ كل شئ يخطو عكس ما خطط له سابقا [5] فظهرت القبيلة بقوة جبارة وفعالة، وسيطرت المحسوبية على الدوائر الحكومية، ونهبت الأموال العامة والخاصة، وعمّت الفوضى ربوع البلاد.
هذه الظواهر السلبية مهدت الطريق إلى ظهور ديكتاتور ينفرد بحكم البلاد لا يشاركه أحد في اتخاذ القرارات، كما أن السلطات كلها أصبحت في قبضته وتمكن من التخلص من المسؤولين الذين كانوا يتقاسمون معه الحكم، وعين بدلا منهم شخصيات انتهازية لا تعارضه في أبسط الأمور.(68/151)
هذا الخلل الذي أصاب النظام وفّر مناخا ملائما لتنشيط القبلية، كما أعطى فرصة ثمينة لصيادي القبلية والمستفيدين منها، فزرعوا الفتن والشكوك بين القبائل، وكسبوا مراكز حكومية رفيعة في الدوائر الحكومية، وأداروا ظهورهم للمصلحة العامة.
ظهرت شخصيات كثيرة في قمة سلم الحكم، لا يهمها التاريخ وما يسجله من تصرفاتهم، فركزوا نفوذهم على الكسب غير المشروع..."
هذا النص من مقال اللواء عمر الحاج، وهو وزير الدفاع الصومالي السابق الذي كان مشاركا في الحكم، وقد جرت العادة أن التاريخ الذي يكتب في عهد الطغاة وينشر، يكون غالبا في صفهم مدحا وثناء بالكذب والبهتان، وأن التاريخ الذي يكتب بعد ذهابهم قد يكون صادقا وقد يكون مبالغا في ذمهم ونسبة السوء إليهم، ولكننا نعرف أن هذا الكاتب لم يذكر إلا قطرة من بحار تاريخ الزعيم الصومالي وكذبه السياسي المدمر.
كما أنه لم يذكر ما يتعلق بمحاربته الإسلام وعلماء الإسلام الذين أحرق مجموعة منهم[راجع مجلة المجتمع الكويتية. عدد (234) 15/11/1395هـ-. 28يناير سنة 1975م ص: 6 وما بعدها.] بسبب معارضتهم لقانون أصدره يساوي بين المرأة والرجل في الإرث الذي فرق الله فيه بينهما في نص كتابه.
والأمة التي تحارب عقيدتها ودينها وشريعتها ويحرق علماؤها، ثم لا تحرك ساكنا في ردع المعتدي الآثم، لا بد أن تصل في النهاية إلى هذه المأساة التي يقول الله فيها وفي أمثالها: ((واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب)).[الأنفال: 25]
ومن هنا نعلم أن أهل الحق الصادقين يسعدون البشرية بحقهم وصدقهم، وأن أهل الباطل الكاذبين يشقون البشرية بباطلهم وكذبهم.
ولعل الأمة الإسلامية تتنبه لخطر كذب قادتها الذين يحاربون الإسلام، وكذبهم السياسي المدمر الذي تجند لترويجه كل طاقات الدولة، حتى ينطلي عليها ويستمر في تضليلها فترة طويلة، ولا تشعر بآثاره المدمرة إلا بعد أن يفوت الأوان وتتحطم الشعوب اقتصاديا وسياسيا وأمنيا وخلقيا وعسكريا، حتى يصبح استعمارها من قبل أعداء الإسلام الذين يوفرون لها لقمة العيش وشيئا من الأمن النسبي، أحب إليها من بقائها تحت مطارق الخوف والجوع والسلب والنهب والقتل والتشريد [كما هو حاصل الآن في الصومال الذي سيطرت عليه القوات الأمريكية تحت مظلة مجلس الأمن والإغاثة الإنسانية مستترة بتأييد حلفائها الذين شاركوها بقوات رمزية شبيهة بالمحلل في فقه النكاح!]
الضرر الرابع للكذب: نشر الفاحشة بين المؤمنين.
ومن الأضرار المترتبة على الكذب: انتهاك أعراض الناس والولوغ فيها، ونشر الفاحشة بين المؤمنين، بقذف المحصنات المؤمنات الغافلات-والمحصنين كذلك-وذلك مما يفقد الثقة بين الأسر والمجتمعات ويفككها، ويؤذي شرفاءها ويجرئ فساقها على ارتكاب الرذائل، والطمع في نيل المعصية والإثم من أهل الطاعة والزلفى عند الله تعالى.
وهذا الاعتداء الآثم على أعراض الشرفاء لا يقدم عليه إلا من أصبحت الرذيلة صفة معتادة لهم، والكذب والافتراء ديدنهم، وحب انتشار الفاحشة متأصلا في نفوسهم، يؤذيهم وجود الطهر والطاهرين، ويرضيهم وجود القذر والقذرين، فلا يهدأ لهم بال حتى يلطخوا سمعة الأطهار، وذلك دأب المنافقين الذين تلازمهم الأخلاق السيئة وبخاصة الكذب.
ولقد نال أذاهم أطهر من وجد على الأرض رسول ا صلى الله عليه وسلم ، في زوجه أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، وكان الذي تولى كبر الإفك العظيم رئيس المنافقين آنذاك: عبد الله بن أبي بن سلول، وجر معه بعض المسلمين الذين لم يحسنوا الظن ببيت النبوة والرسالة، فأنزلوا بذلك من الأذى والفتنة والغم، ما يعجز عنه الوصف إلا أن يكون وصف المؤمنة المحصنة الغافلة المظلومة، عائشة رضي الله عنها-كما روى القصة بطولها مسلم عنها [رقم الحديث: رقم:4974]
وفي ذلك أنزل الله تعالى آيات محكمة توبخ من وقعوا في هذا البهتان العظيم الذي رميت به السيدة الطاهرة-التي يعد من اتهمها بعد نزول هذه الآيات المبرئة لها مكذبا للقرآن، ومن كذب بالقرآن-كغلاة الرافضة-فقد كفر.
قال تعالى: ((والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا أولئك هم الفاسقون...)).؟؟
ثم قال تعالى بعد ذلك: ((إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم، لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين-إلى قوله تعالى-: ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم، إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم، يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين، ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم، إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون)).[النور: 12-19](68/152)
فأهل الحق الصادقون لا يفترون ما يخدش الأعراض، بل لو عملوا منكرا ارتكبه مؤمن فالستر عندهم عليه أولى، إلا إذا جاهر صاحبه وعاند، وأهل الباطل الكاذبون يطلقون ألسنتهم في أعراض الناس افتراءً بدون علم.
الضرر الخامس: إهدار الحقوق بشهادة الزور.
ومن الآثار المترتبة على الكذب شهادة الزور، وشهادة الزور تزهق بها الأرواح، وتنتهك بها الأعراض، وتغتصب بها الأموال، وتستحل بها الفروج، ويزكى بها الفساق، ويفسق بها العدول، ويفقد بها الكفء مكانه الذي يستحقه لتنتفع به فيه الأمة، ويوضع الخائن بها في مكان تقتضي الضرورة أن يكون فيه الأمين.
وقد شرع الله الشهادة من أجل توثيق الحق، والذي يوثق الحق بشهادته هو العدل، أما شاهد الزور فإنه يضيع الحق بدلا من حفظه.
قال تعالى: ((وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله)).[الطلاق: 2]
ونفى عن أهل الحق-وهم المؤمنون به-صفة شهادة الزور، فقال تعالى: ((والذين لا يشهدون الزور )).[الفرقان: 72]
وأمرهم-أي أهل الحق-أن يشهدوا بالحق في كل حال، ولو كانت الشهادة تؤدي إلى أخذ صاحب الحق حقه منهم، كما قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)).[النساء: 35]
الضرر السادس: اتهام الكاذب بعيوبه مَن هم منها براء.
كما قال تعالى في مثل هذا: ((ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا)). [النساء: 112]
وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في طعمة بن أبيرق الذي سرق سلاحا، فشكاه صاحب السلاح إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فألقى السارق السلاح المسروق في بيت رجل برئ، ليبرئ نفسه ويحمل البريء إثمه، وعندما وجد السلاح في بيت الرجل البريء ثبتت-في الظاهر-براءة السارق، فأنزل الله هذه الآية وآيات قبلها منها قوله تعالى: ((إنا أنزلنا إليك الكتاب لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)).[ النساء: 105، وراجع تفسير هذه الآيات في كتاب تفسير القرآن العظيم لابن كثير.]
وما أكثر ما يرتكب ناس مثل هذه الخطيئة! ويبرؤن أنفسهم مما ارتكبوه ويلطخون به البريئين.
وبنظرة في وسائل الإعلام في هذا العصر، يرى المرء العجب العجاب من الاتهامات الكاذبة من فرد لآخر، ومن جماعة أو حزب لجماعة أو حزب آخر، ومن دولة لدولة أخرى، وكثيرا ما يكون المتَّهِم غارقا في العيوب والنقائص التي اتهم بها غيره.
والسبب في ذلك هو الاتصاف بصفة الكذب التي تلازم أهل الباطل غالبا، وفقد صفة الصدق التي تلازم أهل الحق.
تابع لغرس الأخلاق الفاضلة في النفوس
ثالثا: العدل.
والعدل من أسس صفات أهل الحق، وهو مطلوب ضرورة في الحياة عند كل الأمم، ولا تستقيم الحياة بدونه، والأمم كلها مسلمها وكافرها تعلم أنه ضرورة لحياتها، لأن كل فرد وكل أسرة وكل أمة تحرص على أن لا يمسها غيرها بالظلم، بل تحب أن ينصفها المتعامل معها، لكن الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وشريعة الله العادلة-وهم أهل الباطل-يحرصون على أن يعاملهم الناس بالعدل، والغالب أنهم إذا قدروا على ظلم غيرهم-من غير أن ينالهم ضرر-لا يتورعون عن الظلم، لأنهم لا يخشون جزاء ولا عقابا إلا إذا نالهم القانون والقضاء وما يسمى بأجهزة الأمن-في الدنيا-فإذا أمنوا من ذلك كله، فالأصل عندهم الأثرة وظلم الغير، لأنهم أهل باطل.
والذي لا يحب الظلم ويلازمه العدل مع القريب والبعيد والصديق والعدو، هو المؤمن بالله وبرسول صلى الله عليه وسلم واليوم الآخر الذي يلتزم بشريعة الله وحكمه وينفذهما، وهؤلاء هم أهل الحق، لأن الحق تعالى أمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم، وهم يطمعون في ثوابه على طاعته ويخافون من عقابه على معصيته، ويعلمون أن إيمانهم لا يكمل إلا إذا أحبوا لغيرهم ما يحبون لأنفسهم من الخير، وقد يصل بهم إيمانهم إلى التنازل عن بعض حقوقهم الخاصة، إذا كان التنازل عنها مشروعا، ولكنهم يحرصون على إيفاء الناس حقوقهم بدون نقصان.
وقد أكد الله تعالى لعباده أنه يأمر بالعدل والإحسان وينهي عما يناقضهما من الظلم والفساد والمنكر، فقال تعالى: ((إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)).[النحل: 90]
وقد نهى الله رسوله عن اتباع أهواء أهل الكتاب الذين تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم، وأمره أن يعلن للناس إيمانه بما أنزل الله، وأنه أمر بالعدل بينهم، كما قال تعالى: ((فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير)).[الشورى: 15](68/153)
وأمر الله تعالى عباده المؤمنين-كما أمر نبيه-بالعدل ولو كان على أنفسهم ونهاهم عن اتباع الهوى-كما نهى نبيه-كما قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا)).[النساء: 135]
فالهوى كثيرا ما يغري الإنسان بالظلم وترك العدل، إما لجر مصلحة لصاحبه أو لقريب أو صديق، وإما لإنزال ضرر بعدو بغيض. والحق سبحانه وتعالى أراد أن يستأصل هذا الهوى الظالم في كلا الأمرين: محاباة القريب، بل والنفس، كما مضى، وبغض العدو أو الخصم، فقال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)).[المائدة: 8]
إنه قمة ما تحتاج إليه الأمم في كل زمان: أن ينصف القادر خصمه ولو على نفسه أو أقربائه وأن يعدل مع أشدّ أعدائه.
وقد يرى أعداء الحق أن هذا من المثاليات قد تدور بالخيال ولكن تطبيقها في الواقع بعيد المنال، وهذا الرأي صحيح بالنظر إلى الأوضاع التي يعيش الناس فيها بعيدا عن منهج الحق وتطبيقه: منهج الله الذي أنزله في كتابه ودعا إليه عباده، وقد استجاب لدعوته الرعيل الأول من أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم فطبقوه تطبيقا تندب البشرية اليوم حظها التعيس لفقده، وتبعهم على ذلك أهل الحق ولا زال منهم من يتمسك به-وإن كانوا قلة في هذا الزمان-ولو عاد المسلمون إلى ذلك المنهج من جديد، لرأت الأمم في الأرض ما تتمناه من العدل الذي أمر الله به على وجه العموم، وأمر به في الحكم كما قال تعالى: ((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا)).[النساء: 58]
وأمر به في الشهادة كما قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم)).[المائدة: 106]
وأمر به في الصلح بين الناس، بحيث لا يكون في الصلح ظلم لأحد المتخاصمين، بسبب ضعفه وقوة خصمه أو لغير ذلك، كما قال تعالى: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)).[الحجرات: 9]
وأمر به في التعامل الأسري، فقال تعالى: ((فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت إيمانكم ذلك أدنى أن لا تعولوا)).[النساء: ؟]
وكل الحقوق التي أمر الله بها، وكل المظالم التي نهى الله عنها، إنما تتحقق بالعدل الذي هو ملازم لأهل الحق بحسب نصيبهم منه.
وصح عن: رسول ا صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور". [مسلم: (3/1458) رقم الحديث: 1827.]
وقد ربى رسوله ا صلى الله عليه وسلم أصحابه-وكل رسول سبقه كذلك-على العدل، حتى اعترف لهم بذلك أعداؤهم من أهل الكتاب كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: افتتح رسول ا صلى الله عليه وسلم خيبر، واشترط أن له الأرض وكل صفراء وبيضاء [يعني الذهب والفضة]. قال أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض منكم فأعطناها على أن لكم نصف الثمرة، ولنا نصف، فزعم أنه أعطاهم على ذلك، فلما كان حين يصرم النخل [يقطع] بعث إليهم عبد الله بن رواحة، فحرز عليهم النخل، وهو الذي يسميه أهل المدينة الخرص، فقال: في ذِه كذا وكذا، قالوا أكثرت علينا يا ابن رواحة، فقال: فأنا أَلي[أي أتولى] حزر النخل وأعطيكم نصف الذي قلت. قالوا: هذا الحق (و) به تقوم السماء والأرض قد رضينا أن نأخذه بالذي قلت" [أبو داود واللفظ له (3/698) وابن ماجة (1 /582) وهو صحيح.].
وعن سليمان بن يسار أن رسول ا صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر، فيخرص بينه وبين يهود خيبر، قال: فجمعوا له حليا من حلي نسائهم، فقالوا له: هذا لك [يعني رشوة] وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: (يا معشر اليهود! والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليّ وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما ما عرضتم عليّ من الرشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها). فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض [الموطأ (4/ 270) والحديث مرسل وهو يفيد شيئا مما جرى بين ابن رواحة واليهود.].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(68/154)
(وأمور الناس تستقيم مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم". فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شئ، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعد ل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة...)[ مجموع الفتاوى: (28146).]
وإن الذي يتأمل أحوال العالم اليوم، يدرك المآسي التي نزلت به بسبب فقد العدل أو قلته التي تقترب من العدم، فلا نجد ضعيفا ينصفه القوي-إلا ما شاء الله-من الأفراد والجماعات والدول، ولو أردنا أن نضرب أمثلة لذلك لطال بنا المقام.
ويكفي أن تقعد قليلا أمام شاشة التلفاز، لترى ماذا يفعل اليهود بأطفال فلسطين وشيوخها ونسائها من قهر وإذلال وقتل وتشريد وسجن واعتقال وهدم منازل بالصواريخ على من فيها.
وأن ترى نصارى الصرب وهم يفعلون بالمسلمين في البوسنة والهرسك، أعظم مما فعله اليهود، وذلك في وسط قارة الحرية والعدل والمساواة [وفي هذه الأيام-من سنة 1417ه--1996م-يكشف عن مقابر جماعية لآلاف المسلمين الذين قتلهم الصرب عندما احتلوا مدنهم وقراهم.]
والعالم كله يمور بالفتن والمصائب بسبب الظلم وفقد العدل، وهيئة الأمم المتحدة ومنظماتها ومجلسها المسمى بمجلس الأمن، تتصرف فيها دولة واحدة استبدت بالأمر، تحرك تلك الهيئة ومنظماتها ودول العالم كله كما تريد، فإذا رأت أن لها مصلحة من التدخل في أي حدث يقع في العالم أجلبت بخيلها ورجلها وحشدت كل الدول لتحقيق مآربها ولو أهلكت بذلك الحرث والنسل مدعية أنها تنصف المظلوم من ظالمه، وإذا رأت أن عدم التدخل من مصلحتها أحجمت عن التدخل في الحدث وروضت غيرها على الإحجام بأسلوب ماكر مخادع، أو بتهديد شديد ظالم.
وكيف يرجى من هيئة الأمم المتحدة خير لضعيف وهي تصدر قراراتها بالإجماع أو الأغلبية، فَتُعَطِّل كُلَّ تلك القرارات دولةٌ واحدة عند التنفيذ؟!
بل أين العدل والإنصاف فيما يسمى مجلس الأمن وقد احتشدت بجواره جميع دول العالم، ومع ذلك تستطيع دولة من خمس دول تعطيل أي قرار يصدره [الدول التي لها مندوبون دائمون، ولها حق نقض أي قرار يتخذه المجلس مجتمعة أو كل دولة على حدة هي: أمريكا وفرنسا، وبريطانيا، والصين، وروسيا، ولكن أمريكا في الوقت الحاضر تقود المجلس وغيره من منظمات الهيئة لانفرادها بالهيمنة الدولية، ومع زعمها أنها دولة ديمقراطية، فإن استبدادها الدولي لا حدود له إلا مصالحها وعجزها.].
وبهذا يعلم أن العدل-وهو صفة ملازمة لأهل الحق-هو الذي يثبت الحق ويطرد الباطل، وأن الظلم-وهو ملازم لأهل الباطل-هو الذي تشقى به البشرية على مدار التاريخ.
وإذا شئت أن تعرف أنموذجا للظلم الغاشم، وبخاصة على المسلمين من أعلى مسؤول في هيئة الأمم المتحدة، فاقرأ عن مواقف أمينها العام العربي النصراني المصري بطرس غالي، [عندما كان أمينا عاما للأمم المتحدة]من قضية المسلمين في البوسنة والهرسك وإصراره على عدم تدخل الأمم المتحدة لحماية هؤلاء المسلمين الذين يتعرضون لأبشع اعتداء من قبل إخوانه الصرب النصارى [مجلة المجتمع الكويتية عدد 1002 ص22.].
=========
[1]-وما يفعله العسكر وحلفاؤهم في تركيا اليوم من حرب للقرآن ومدارسه، والمساجد وأئمتها، والدعاة إلى الله وأنصارهم، غير خاف على أحد.
[2]-للأستاذ محمد فريد بك المحامي تحقيق الدكتور إحسان حقي دار النفائس ص 754 وما بعدها.
[3]-لعل شيئا من ذلك يأتي في مكانه المناسب من هذا الكتاب.
[4]-سنة 1969م.
[5]-هذا إذا أحسن الظن بمن الأصل فيهم الكذب فيقال: خططوا بأن يقضوا على الفساد، أما إذا جرينا على الأصل فهو أن أصل التخطيط كان الهدف منه الفساد المذكور وإن زعم صاحبه أنه أراد الصلاح.
والشك في ذي الكذبِ أصل ولو لم يكذبِ
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
===============(68/155)
(68/156)
(68/157)
(68/158)
(68/159)
(68/160)
كيف احتل الإنجليز بلاد الهند المسلمة ؟!
سليمان بن صالح الخراشي
يجد القارئ الكريم على ( هذا الرابط ) مبحثًا سابقًا متعلقًا بهذا المقال ، عنوانه " كيف احتل الإنجليز مصر ؟ " ، فيه عبرة لكل معتبر بأساليب العدو في إضعاف أو احتلال بلاد المسلمين ، وسيجد أن الخطة واحدة ، تتكرر في كل بلد ، وتنجح للأسف ! لأن المقابل لهم ساذج أو غافل ، لا يُبادر إلى التصدي للشر وهو في مهده ، بما يُفشله ويُحبطه ويقضي عليه .
والإنجليز - كما هو معلوم - من أمهر الناس في الوصول إلى أهدافهم بطريقة هادئة ، طويلة النَفَس ، ذاق منها المسلمون العلقم ، لأسباب كثيرة ؛ على رأسها انصرافهم عن دينهم الصحيح ، وتفريطهم في اتخاذ القوة المادية الرادعة ، وتشبثهم إما بالبدع أو بالأفكار القومية و الوطنية التي تُغيّب عنهم الحقائق . والله يقول : ( إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ) .
ومن أراد معرفة شيئ من كيد الإنجليز وتاريخهم فعليه بكتاب الأستاذ محمد العُبيدي الموصلي - رحمه الله - : ( جنايات الإنكليز على البشر عامة وعلى المسلمين خاصة ) - وقد طُبع حديثًا - .
ملخص الخطة المتكررة للإنجليز ووارثيهم
1- التمهيد للاحتلال أو الإضعاف بنشر الفكر المخلخل لوحدة البلاد المسلمة - بواسطة العملاء - ، تحت شعارات : " التسامح " ، " المحبة " ، " التعددية " .. الخ الشعارات التي تُذيب الفوارق بين المسلم والكافر ، والسني والبدعي ، وتكسر الحواجز ، وتُفتت الوحدة ، وتُحدث " الفراغ " الذي يملؤه العدو القادم . ولهذا : فمن يُعين - بجهل أو غفلة أو خبث - على نشر مثل هذه الأفكار في صحيفته أو وسيلته ، ويُمكن لأصحابها من الليبراليين والعصريين ؛ فهو خائن لأمته ووطنه . ويجد القارئ على ( هذا الرابط )
اعترافًا مهمًا لأحد رؤوس العصريين حول هذا الموضوع .
2- التعاون مع الأقليات ، ومحاولة " تضخيمها " ، واستغلال مطامحها ؛ لتفتيت المجتمع وتقسيمه .
3- إحداث نزاعات مختلفة بين أهل البلاد وحكامهم ؛ ليلجأ الجميع - في نهاية الأمر - إليهم ! ( فرق تسُد ) .
4- استغلال طموحات المتطلعين أو المتنازعين على الحكم إن وجدوا ، والتوازن في دعم الجميع بما يحفظ مصالحهم ، ويُسهل مهمتهم .
5- استخدام المال والرشاوى .
هذه أبرز وسائلهم . وأما بعد وقوع البلد في الاحتلال فتنتقل مهمتهم إلى : نهب خيرات البلاد ، التمكين لحلفائهم ، تسريح الجيش ، نشر الفساد الأخلاقي ، دعم الأقليات ، بعث التاريخ قبل الإسلامي ..
وقد اطلعت على رسالة جامعية مقدمة لنيل الدكتوراة بجامعة أم القرى ، جديرة بالنشر ، تتحدث عن كيفية احتلال الإنجليز للهند ، وسقوط الدولة الإسلامية فيها ، عنوانها :
( شركة الهند الشرقية الإنجليزية منذ تأسيسها حتى سقوط دولة المغول الإسلامية في الهند )
للباحث الأستاذ نصير أحمد نور أحمد
تتبع فيها الباحث خطة الإنجليز - وهي لا تخرج كثيرًا عما سبق - لتحقيق هذا الهدف بواسطة شركتهم السابقة ، وهو ماكان يظنه كثيرون مستحيلا ؛ إذ كيف تستولي شركة تجارية على دولة عظيمة كالهند ؟! ولكنهم غفلوا عن أن معظم النار من مستصغر الشرر ، وأن التفريط في دين الله ونصره ، والتهاون في مواجهة الأخطار المحتملة ، وعدم المبادرة بحسمها ، يُحدث ذلك وأكثر .
وأنتقي من الرسالة هذه العبارات مع ذكر الفهرس
- إلى أن يتيسر طبعها -
- ( انتهجت دولة المغول الإسلامية في الهند سياسة تسامحية تجاه مختلف المعتقدات والطوائف الموجودة بالهند والقادمة من خارج الهند، بشكل لم ير عالمٌ ذلك الزمان مثيلاً لها، وقد وضع أسس هذه السياسة مؤسس الدولة المغولية في الهند ظهير الدين محمد بابر شاه ) .
- ( لقد أخذ حفيد بابر شاه السلطان أكبر الأول بهذه الوصايا جملة وتفصيلاً، بل ذهب في تطبيقها إلى درجة مفرطة تحول فيها التسامح إلى التهاون تجاه القيام بمسئولياته في نشر الدعوة الإسلامية، وفي هذا الإطار قام أكبر شاه بعقد المصاهرات مع الراجيوت الطبقة العسكرية الهندوكية ، وأباح المناصب الكبيرة لهم ولغيرهم من الهندوكيين، ولم يتعرض لمعابدهم وطقوسهم الدينية، وتزوج بالهندوكيات زواج مصلحة وسياسة ) .
- ( أصبحت الدولة لا تتمتع بحماية دين أو عصبية في مجتمع بدأ ولاؤه ينقسم إلى الطوائف، ومعنى هذا أن السياسة التي أريد منها كسب ود الجميع انتهت إلى أن خسرت الدولة ود الجميع، لتبقى الدولة المغولية في نهابة المطاف في حالة يرثى لها ؛ بحيث لم يبق لسلاطينها إلا التغني بالأمجاد الماضية، دون أن يجدوا من يقف إلى جانبهم بإخلاص ويعمل إلى إعادة تلك الأمجاد الغابرة إلى واقع ملموس ) .
- ( كانت شركة الهند الشرقية الإنجليزية تتحين الفرص لكسب ود سلطات دولة المغول الإسلامية في الهند، وكانت الشركة تعرف تماماً أنه ليس بمقدورها تحدي الدولة المغولية التي كانت قوية ومتماسكة وتضرب بيد عن حديد كل من يعبث بأمنها واستقرارها في البر الهندي، ومن هنا اختارت الشركة في هذه الفترة التذلل والتودد أمام سلطات الدولة على أمل أن يسمحوا لها بمزاولة نشاطاتها التجارية داخل أراضي الدولة ) .(68/161)
- حدث احتكاك عسكري بين الشركة والدولة : فتصدت له الدولة بقوة : ( وهكذا فشلت أولى محاولات الشركة في اختبار عرض القوة، وكان السلطان أورنكزيب أول من وجه ضربة قاسية إلى أطماع شركة الهند الشرقية الإنجليزية وأجبرها على التقهقر في المناطق التي كانت بحوزتها وتعهدت بأن لا تعود إلى مثل هذا السلوك في المستقبل ) .
- تعاون الإنجليز مع الأقلية السيخية : ( لقد رحب الإنجليز بنمو قوة الإمارة السيخية المتعاونة معهم في العداء السافر ضد الإسلام والمسلمين، واعتبروها إمارة حاجزة بينهم وبين أي هجوم محتمل من آسيا الوسطى لنجدة المسلمين في الهند ، كما جرى في خلال قرون عديدة مضت، وبارك الإنجليز نهج السيخ الإرهابي ضد المسلمين وأطلقوا يدهم ضمن الحدود التي سمحوا بها ) . ( بعد مرور ثلاث سنوات رأوا أن يقضوا على الإمارة السيخية نهائياً ويلحقوها بالأراضي التي تخضع لسيادة الشركة ) . ( وهكذا انتهت عن الوجود دولة السيخ بيد أصدقائها وحلفائها الإنجليز، بعد أن استنفذت خدماتها للأصدقاء ) .
- أعمالهم مع المسلمين : ( استمر الإنجليز على صب جام غضبهم على المسلمين واتبعوا معهم سياسة الإبعاد عن الوظائف وخيرات البلاد ، وتشجيع الهندوس وتثبيت أقدامهم في المراكز العليا والمناصب الرفيعة، كما فتحوا لهم أبواب الرخاء وميادين الرقي ويسروا أمام أبنائهم التعليم بالمدارس في حين كانوا يعملون على إبقاء المسلمين في ظلمات الجهل والتخلف ليكونوا آمنين من أي محاولة منهم لاسترجاع السيادة التي سلبها منهم الإنجليز بمساندة وتمهيد من جماعات الهندوس ) .
- مهمة تنصيرية : ( كانت لشركة الهند الشرقية الإنجليزية مهمة تنصيرية منذ تأسيسها، إلى جانب مهامها الأساسية في التجارة والكشف والاستعمار، وتبدو تلك المهمة واضحة في البراءة الملكية التي تم بموجبها تأسيس الشركة، إذ تنص على عدم السماح للشركة بالدخول في حرب مع أي أمير نصراني، في حين خولتها الصلاحية بإعلان الحرب أو عقد اتفاقيات السلام مع الحكام غير النصرانيين.
إن الصبغة الاستعمارية وبسط السيطرة الأوربية كانت هي الأخرى واضحة تمام الوضوح في المراسيم التي تأسست بموجبها الشركات الأوربية الاستعمارية وفي مقدمتها شركة الهند الشرقية الإنجليزية، إذ على الرغم من تظاهر الشركات بالتجارة أمام الحكام المحليين في بدايات قدومهم إلى الهند وسائر البلدان الشرقية، كانت مراسيم التأسيس تنص على منح هذه الشركات الصلاحية في إعلان الحرب وعقد المعاهدات وفتح ما تشاء من الأراضي وإقامة الحصون والقلاع، وامتلاك الجيوش والأساطيل الحربية ) .
- لماذا ضاع حكم المسلمين ؟ : ( ضاع حكم الهند من أيدي المسلمين نتيجة تفكك الجبهة الإسلامية الهندية واضمحلالها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً، وكان في مقدمة العوامل التي أدت إلى ذلك التفكك والاضمحلال الحروب العائلية التي كانت تنشب عند تولي كل سلطان مغولي العرش منذ النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري الموافق للنصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي، ولقد أنهكت هذه الحروب الدولة وقضت على هيبتها وأفقرتها بشرياً واقتصادياً وأضعفتها عسكرياً وسياسياً وأمنياً ، وفتحت المجال لزعزعة السلطة المركزية وزوالها وانفصال الأقاليم عن هذه السلطة واحدة بعد الأخرى، كما فتحت المجال للحاقدين على الحكم الإسلامي وللانتهازيين الذين لا تهمهم مصالح ومصير أمة، وأوقعت السلاطين الضعاف في أحضان المتغلبين الذين لعبوا بهم وفق أهوائهم وأغراضهم الضيقة على حساب مصلحة الدولة واستقرارها وثباتها، وكذلك مهدت هذه الأحداث المؤسفة الطريق أمام القادم الجديد الغريب في تاريخ الهند الإسلامي ليملأ ذلك الفراغ وليتحكم في مصير الهنود ، وليحول دون عودة الحكم الإسلامي في الهند بعد أن استمر قروناً متمادية يتداول بين الأسر الحاكمة المسلمة ) .
- أهم عامل للضياع : ( يبقى عامل العوامل في كل ما حدث من وضع مآساوي للمسلمين في الهند هو أخطاء حكامهم التي تأتي في مقدمتها عدم قيامهم خير قيام بأداء واجبهم تجاه نشر وترسيخ العقيدة الإسلامية الصافية المستمدة من الكتاب والسنة، ونتيجة النتائج لذلك التهاون والتقاعس - الذي يتحمل قسطاً من مسئوليته العلماء - هي أن المسلمين بقوا أقلية رغم حكمهم الطويل في شبه القارة الهندية، وحتى هذه الأقلية لم تهيأ لها فرصة توعيتها بالإسلام الصافي من البدع ، وما يطلب من المسلم القيام به تجاه ربه ونفسه وأمته وبني نوعه ومستقبل بلده، والاهتمام بالتربية والتعليم والبحث والتحقيق ، والأخذ بوسائل التقدم العلمي الحضاري التي لا تتوقف عند حد معين بل تتقدم وتتطور مع تقدم الزمن وتوالي الأجيال، وإن نتيجة النتائج هذه كانت العامل الحاسم فيما آلت إليه أوضاع المسلمين في شبه القارة الهندية من استضعاف ومأساة ، ونجاح التحالف الصليبي الهندوكي من إقصاء المسلمين عن السيادة والريادة في شبه القارة الهندية الموحد ) .
فهرس الموضوعات
1- المقدمة .
2- صدى سياسة التسامح في دولة المغول الإسلامية في الهند.
الفصل الأول
تأسيس شركات الهند(68/162)
- شركة الهند الشرقية الإنجليزية.
- شركة الهند الشرقية الهولندية.
- شركة الهند الشرقية الفرنسية.
الفصل الثاني
صراع الشركات الاستعمارية في الهند المغولية الإسلامية
- موقف السلطان جهانكير من القوى الأوربية الاستعمارية.
- تصاعد النفوذ الإنجليزي في عصر أورنكزيب.
- حروب الوراثة النمساوية في أوربا وحرب السنين السبع:
اشتداد الصراع بين الشركة الفرنسية والشركة الإنجليزية.
الفصل الثالث
وضع ثنائي في الهند
- معاهدة إله آباد بين شركة الهند الشرقية الإنجليزية والسلطان شاه عالم الثاني.
- وارن هستنجز وتنظيمات الشركة .
- الشركة دولة داخل دولة المغول الإسلامية في الهند.
- استيلاء الشركة على دهلي وتقدمها في أكثر أنحاء الهند.
- اتساع ممتلكات الشركة، كلكته عاصمة.
الفصل الرابع
وسائل شركة الهند الشرقية الإنجليزية
لإحكام سيطرتها على جميع الهند
- سياسة الإلحاق.
- قانون الثغور .
- عصر السكك الحديدية.
- التنصير .
- اللغة الإنجليزية وتطبيق القوانين الإنجليزية.
الفصل الخامس
الثورة الهندية (1273هـ / 1857م)
- رد الفعل لسيطرة شركة الهند الشرقية الإنجليزية على كل الهند.
- إخماد الثورة، سقوط دولة المغول الإسلامية في الهند.
- إنهاء حكم الشركة:
- الهند الإمبراطورية، طريق الإمبراطورية.
الخاتمة
- التحليل والنتائج.
- سلاطين دولة المغول الإسلامية في الهند خلال فترة البحث.
- الحكام العامون لشركة الهند الشرقية الإنجليزية خلال فترة البحث.
================(68/163)
(68/164)
لا يحصل الملك للعرب إلا بصبغة دينية!
هذا هو رأي ابن خلدون في مقدمته عن العرب، والمقصود بالملك السياسة الرشيدة التي يسوس فيها القادة ذوو العصبية القوية رعيتهم على أساس الشورى الصادقة، والعدل الشامل، والبعد عن الظلم والاستبداد، ومراعاة تحقيق مصالح الأمة، ودفع المفاسد عنها، والسعي في جمع كلمتها على الحق، واتخاذ الأسباب التي تقيها التنازع المؤدي إلى الفشل...
والمقصود أيضا إسناد الأمور إلى من هو أهل لها في شئون الدولة كلها، من أعلى موظف فيها إلى أصغر موظف، يضع في كل وظيفة من تتوفر فيه مقوماتها من علم وخبرة ومقدرة على تنفيذ مهماته فيها، بأمانة ومساواة بين الناس، وورع عن هضمهم حقوقهم..
والمقصود كذلك بسط الأمن في الدولة:
الأمن الداخلي، بغرس الإيمان الصادق في نفوس أجيال الأمة، والعبادة الخالصة لله، والإحاطة بكل ما يحتاجه المسلمون من العلوم الإنسانية والكونية، عن طريق دور العلم من المدارس و المعاهد والجامعات، وكل ما بردع القوي عن ظلم الضعيف، والأخذ على أيدي المجرمين من السراق والقتلة وقطاع الطرق والمرتشين، ليأمن الناس على ضرورات حياتهم، وهي دينهم ونفوسهم ونسلهم وعقولهم وأموالهم، وما يكملها في ذلك، بإقامة الحدود والتعازير الجامعة بين عقوبات المعتدين وزجر من يفكر في الاعتداء من مرضى النفوس البطالين...
وبذلك تزدهر البلاد في اقتصادها وتجارتها وزراعتها وسائر ما يحقق أمنها واستقرارها، ويطمئن أهلها على ضمان حقوقهم والعدل في أداء واجباتهم...
كما يُقصد كذلك سمع وطاعة الرعية لولاة أمرها، فيما لا معصية فيه لربها، واستجابتها لما يفرض عليها من حقوق يؤديها بعضهم لبعض، سواء في ذلك ما تعلق بالأمة ممثلة في الدولة، أو الأسرة أو الأفراد... لا ينازعون في الأمر أهله، ولا ينزعون يدا من طاعة، ولا يخرجون على من ولاه الله أمرهم، لما يترتب على ذلك من فوت مصالح ونزول مفاسد، وانتشار فوضى واضطراب وإهلاك للحرث والنسل...
والأمن الخارجي، بحماية صف الأمة من فساد المفسدين، من جواسيس الأعداء و المنافقين، وإعداد العدة لرفع راية الجهاد في سبيل الله، لإرهاب الطغاة المعتدين، وطرد من احتل أي جزء من البلاد من الغاصبين.
وأساس تلك العدة وعمادها، إيجاد الرجال الشجعان الذين يتحلون بالعقيدة والإيمان، والعبادة الصادقة للديان، وإيجاد كل أنواع السلاح الفعال، وتدريب جند الله من حماة الأمة على تلك الأنواع، وعلى كل أساليب القتال، التي تناسب العصر والحال، وحشد الأمة كلها لنصرة أبنائها الأبطال، كل فيما يقدر عليه من خدمة أو مال، ليتم النصر على الأعداء، ويطمئن الشعب ويَثبُت البناء...
ذلك هو الملك الذي عناه ابن خلدون، كما يظهر ذلك من فصول مقدمته الكثيرة في هذا الباب، كما يظهر كذلك من كتب السياسة الشرعية التي كتبها علماؤنا العظام، مثل كتاب "الأحكام السلطانية" للماوردي، وكتاب "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى، وكتاب "الغياثي" لإمام الحرمين الجويني، وكتاب "السياسة الشرعية" لابن تيمية، وما بينه علماء التفسير عند الآيات المناسبة، وشراح الأحاديث عند الأحاديث المناسبة كذلك...
ومما لاشك فيه أن ولاة أمر المسلمين من العرب، قد حققوا تلك الأمور لأمتهم، عندما تمسكوا بدينهم، وكان ذلك بارزا في العصور المفضلة أكثر من غيرها مما تلاها من العصور، وكلما قوي تمسك ولاة الأمر من العرب بالإسلام وتطبيق شريعته في شعوبهم، ازداد تحقق تلك المقاصد والمصالح، وخف وجود المفاسد والشرور...
وعندما يضعف تمسكهم بالإسلام وتطبيق شريعته، يضعف تحقق تلك المصالح، ويكثر نزول المفاسد والمصائب بأمتهم بمقدار ما يصيبهم من ضعف في تمسكهم بالإسلام...
إلى أن يستبدل الله بهم غيرهم، منهم أو من غيرهم، من الشعوب الأخرى التي تتمسك بالإسلام، وكان آخر أمة قادت الشعوب الإسلامية الدولة العثمانية، التي أفل نجمها في أوائل القرن العشرين، لسببين:
السبب الأول: بعد حكامها عن الإسلام وتصدع صففها.
السبب الثاني: تعاون اليهود والصليبيين ومن خدعوا بهم من الطامعين في الزعامات من العرب، كما هو حال أمثالهم اليوم مع الأمريكان واليهود كذلك...
والذي يظهر من كلام ابن خلدون رحمه الله، أن العرب إذا لم تكن سياستهم مصبوغة بالصبغة الدينية، يكونون أبعد من غيرهم عن إقامة الملك الرشيد والحكم السديد، وقد أبدى في هذا الأمر وأعاد.
ويكفي أن ننقل عنه أحد فصول هذا الموضوع من مقدمته، فقد قال رحمه:
"الفصل السابع والعشرون
في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة
والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم، أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع أهواؤهم.
فإذا كان الدين بالنبوءة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خُلُق الكبر والمنافسة منهم، فَسَهُل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدين الْمُذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس.(68/165)
فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، يُذهب عنهم مذموماتِ الأخلاق ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق، تَمَّ اجتماعُهم وحصل لهم التغلب والملك، وهم مع ذلك أسرع الناس قبولا للحق والهدى، لسلامة طباعهم من عِوَج الْمَلَكات وبراءتها من ذميم الأخلاق، إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة المتهيئ لقبول الخير ببقائه على الفطرة الأولى، وبُعدِه عما ينطبع في النفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات فإن كان مولود يولد على الفطرة كما ورد في الحديث وقد تقدم..."
وابن خلدون يتمتع بصفات وخلال، تؤهله لمثل هذا التحليل:
فهو أولا عربي أصيل، لأنه يمني حضرمي، لا يستطيع أحد اتهامه بعنصرية أو معاداة للعرب...
وهو ثانيا مسلم متحمس لدينه، كما يظهر مما كتبه في هذه المقدمة وفي تاريخه، فلا يستطيع أحد اتهامه بعدم المبالاة بما يكتب ويقول...
وهو ثالثا مؤرخ اجتماعي، يجمع بين الاطلاع على سجلات تاريخ الأمم وتحليلها اجتماعيا...
وهو رابعا محلل سياسي، يراقب تصرفات الساسة وتدابيرهم، بانيا تحليله على الربط بين التدبير ونتائجه.
ليس المقصود الحط من شأن جنس العرب
ولست ناسيا ما ذكره ابن تيمية رحمه الله، من فضل جنس العرب في الجملة، فلهم فضلهم في النسب والنجدة والشهامة والشجاعة والكرم وغيرها، فقد قال رحمه الله:
"فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم عبرانيهم وسريانيهم رومهم وفرسهم وغيرهم، وأن قريشا أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول ا صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم، فهو أفضل الخلق نفسا وأفضلهم نسبا.
وليس فضل العرب، ثم قريش ثم بني هاشم، بمجرد كون صلى الله عليه وسلم منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك ثبت لرسول ا صلى الله عليه وسلم أنه أفضل نفسا ونسبا وإلا لزم الدور" [اقتضاء الصراط المستقيم (1/148)]
ثم ذكر حديث سلمان رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك، قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله؟ قال" تبغض العرب فتبغضني) [اقتضاء الصراط المستقيم (1/155) والحديث قال فيه الترمذي: "
حديث حسن غريب..." وقال الحاكم المستدرك (4/96): هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه]
والمقصود من هذا الفضل، ما يتميز به جنس العرب عن غيرهم، من الخلال الطبيعية التي جبلوا 'ليها، ولكل جنس من أجناس البشر ميزات تخصهم، كما يتميز بعض الأفراد من كل جنس أو قبيلة أو أسرة عن بعضهم.
ولكن تلك الخلال التي تتحلى بها الأجناس والشعوب والجماعات والأسر والأفراد، قد تتغير وتستعمل في غير موضعها، كالشجاعة الممدوحة التي قد تنقلب إلى تهور وعدوان مذمومين، والكرم الممدوح الذي قد ينقلب إلى إسراف مذموم، والنسب الشريف الذي قد ينقلب إلى تعصب ممقوت وكبرياء مذمومة...
والذي يضبط ذلك كله هو الميزان الشرعي الذي قال الله تعالى فيه: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) ? [الحجرات]
وفي حديث أبي هريرة قَال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان الله عز وجل قد أذهب عنكم عُبِّيَة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، والناس بنو آدم وآدم من تراب، لينتهين أقوام فخرهم برجال، أو ليكونن أهون عند الله من عدتهم من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن) [المسند (2/361) و الترمذي (5/734) وحسنه]
وعن أبي نضرة: حدثني من سمع خطبة رسول ا صلى الله عليه وسلم ، في وسط أيام التشريق، فقال (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، إلا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى. أبلغت؟) قالوا بلغ رسول ا صلى الله عليه وسلم ... قال ليبلغ الشاهد الغائب) [المسند (5/411) مجمع الزوائد(3/266 ، 267) وقال: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ، وعن ابن عمر قال: نزلت هذه السورة على رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو بمنى في أوسط أيام التشريق"
وما ذكره ابن خلدون رحمه الله أمر ثابت دل عليه القرآن:
?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)? [آل عمران]
قال القرطبي رحمه الله في تفسير الآية: "أمر تعالى بتذكر نعمه وأعظمها الإسلام، واتباع نبيه محمد عليه السلام، فإن به زالت العداوة والفرقة، وكانت المحبة والألفة، والمراد الأوس والخزرج والآية تعم" [تفسير القرطبي (4/164)](68/166)
وقال ابن كثير رحمه الله: "وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج، فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن وذحول، طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى" [تفسير ابن كثير (1/390)]
وقال تعالى:?...هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)? [الأنفال]
قال القرطبي رحمه الله: ?وألف بين قلوبهم? أي جمع بين قلوب الأوس والخزرج، وكان تأليف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب، من آيات صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، لأن أحدهم كان يُلطم اللطمة، فيقاتل عنها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وقيل أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار والمعنى متقارب" [تفسير القرطبي 8(/42)]
وقال ابن كثير رحمه الله: "ثم ذكر نعمته عليه بما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقال: ?هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم? أي جمعها على الإيمان بك وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك، ?لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم? أي لما كان بينهم من العداوة والبغضاء، فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية بين الأوس والخزرج، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان، كما قال تعالى:
?واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون?
وفي الصحيحين أن رسول ا صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين، قال لهم: (يامعشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي) كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمن"
الواقع يدل على ما ذكره ابن خلدون.
وإن الواقع الذي رأيناه في عمرنا القصير في هذا العصر، ليدل دلالة واضحة أن العرب لا تجتمع كلمتهم، ولا ينصاع بعضهم لبعض، بدون أن يقودهم منهج الله الذي أتاهم به كتابه وسنة نبيه.
ولنضرب بعض الأمثلة من دلالة الواقع في زمننا القريب:
المثال الأول: أن غالب الدول العربية جربت كل مبدأ من المبادئ التي ظهرت في العالم شرقيه وغربيه:
أطلقت شعار القومية العربية التي أراد المعتدون الغربيون، إحلالها محل الجامعة الإسلامية، بعد سقوط رمز الخلافة العثمانية، ونشأت على إثرها جامعة الدول العربية، سنة 1945م.
وأطلقت شعار العلمانية التي طبقت في الغرب، وهي تعني في الغرب، فصل الدين عن الدولة، ولكن الدول العربية التي نادت بهذا الشعار لم تكتف، بفصل الدين عن الدولة، بل حاربت كل من يدعو إلى العمل بالكتاب والسنة وتطبيق شريعة الله، وقامت باعتقالهم وسجنهم وتعذيبهم وتشريدهم بل وقتل كثير منهم، ولا زالت هذه الحرب مستمرة في بعض تلك البلدان إلى يومنا هذا...
ورفعت شعار الاشتراكية العلمية التي كانت سببا في فقر الأغنياء، وزيادة في فقر الفقراء...
بل إن بعضها رفعت شعار الإلحاد الشيوعي، وقامت عليه، وأنزلت بقادة الفكر والعلم وأهل الرأي في بشعوبها أشد أنواع الابتلاء، التي فاقوا فيها أساتذتهم في روسيا الماركسية و الصين الماوية....
المثال الثاني: عدوان من ملك القوة من زعماء العرب على من ضعف منهم، وما حصل في الستينات وما تلاها إلى أواخر الثمانينات التي كان آخرها حروب الحليج المختومة بالعدوان الصليبي اليهودي اليوم...
المثال الثالث: ما رفع من شعار الوحدة أو الاتحادات سواء كانت ثنائية أو إقليمية، بحيث لا ينادى بها اليوم إلا لتنشب بين أهلها نزاعات وإحن وعداوات غدا، ومن أمثلة ذلك الوحدة بين مصر وسوريا، والاتحاد المغاربي، والاتحاد العربي الذي أعلن بين مصر والعراق والأردن واليمن...
المثال الرابع: فشل المؤتمرات والاجتماعات العربية الثنائية أو الإقليمية أو القومية، التي تعقد بعد ضجيج إعلامي يظن عوام الناس معه أن وراء رعودها وبروقها غيثا مدرارا، ثم يفاجأون بعد زمن يسير بما يحزنهم من المواقف، وقد سربت وسائل الإعلام في الفترات الأخيرة قليلا مما يحدث بين بعض الزعماء من خصام وتلاسن كافيين للدلالة على ما خفي من ذلك...
المثال الخامس: ما جرى بين الدول العربية من حروب وعداوات، بسبب قِطَعٍ من الأميال على الحدود، وهي كثيرة ولا زالت ناشبة في بعض الدول العربية إلى اليوم...
المثال السادس: فشل جامعة الدول العربية التي مضى على إنشائها ستون عاما:
[كان التوقيع الرسمي على ميثاق في 22/3/ 1945م
http://www.a r ableagueonline.o r g/a r ableague/a r abic/details_a صلى الله عليه وسلم jsp?a r t_id=185&level_id=60 ](68/167)
وقد أعلن قادتها على كل مستويات مجالسها، اتفاقات مهمة سطرت في أوراق وحفظت في ملفات.
ويمكن تصفح قراراتها من عام 1945 إلى هذا العام 2004م، التي يعجز عن حملها مائة وعشرون بعيرا، لوثائق كل سنة بعيران، دون أن ترى شعوبها منها ما يشعرها بالأمل في إنجاز شيء من تلك الاتفاقات...
ومن تلك الاتفاقات ما يتعلق بالاقتصاد، ومنها ما يتعلق بالدفاع العربي المشترك، ومنا ما يتعلق بالموقف من اليهود المغتصبين للأرض المباركة...
تكوين اللجنة السياسية 30/11/1946م
http://www.a r ableagueonline.o r g/a r ableague/a r abic/details_a صلى الله عليه وسلم jsp?a r t_id=185&level_id=60&page_no=2
معاهدة الدفاع العربي المشترك
2 رمضان 1369هـ ـ 17 يونيو 1950م
http://www.a r ableagueonline.o r g/a r ableague/a r abic/details_a صلى الله عليه وسلم jsp?a r t_id=135&level_id=121
http://www.a r ableagueonline.o r g/a r ableague/a r abic/details_a صلى الله عليه وسلم jsp?a r t_id=185&level_id=60&page_no=2
اتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجاري العربي 1359م
إبرام اتفاقية الوحدة الاقتصادية 1953م
إنشاء السوق العربية المشتركة 1960م
تكوين اللجنة السياسية 30/11/1946م
http://www.a r ableagueonline.o r g/a r ableague/a r abic/details_a صلى الله عليه وسلم jsp?a r t_id=185&level_id=60&page_no=2
ومن عجائب فشل هذه الجامعة، أن يتنازع زعماؤها تنازعا قد يصل إلى حد القطيعة، في أصعب الأوقات وأشدها حرجا على شعوبها، كما حصل في العدوان العراقي على الكويت، وكما حصل في آخر اجتماع لقمتها في تونس هذا العام 1425هـ ـ 2004م
بل بلغ إن زعيما واحدا من زعماء الجامعة، يستبد بإلغاء اجتماع قمتها قبل انعقاده بساعات، لأسباب خاصة داخلية أو خارجية:
زعيم واحد ينفرد بتأجيل انعقاد مؤتمر القمة...
http://pe r so.club-inte r net.f r /mo r mik/
http://pe r so.club-inte r net.f r /mo r mik/ad182-moatama r %20tounis.htm
حتى أصبح بعض الكتاب يتمنى عدم انعقاد تلك القمة:
"ليتها ما انعقدت! 30/5/2004م"
http://www.da r alhayat.com/opinion/05-2004/Item-20040529-d1e5d1cb-c0a8-01ed-001a-f0b13fc01f94/sto r y.html
وفي نفس الوقت الذي تحصل هذه العجائب، تجد الشعوب العربية بعض قادتها يتسابقون إلى كسب ود اليهود، إما جهارا نهارا، وإما خفية وإسرارا!!!
كما يتسابق بعض زعمائها في تقديم مبادرات في جداول أعمال مؤتمرات قِممِها، كل مبادة تنقض أختها، يتبعها التنازع وعدم الاتفاق على شيء، ثم الخروج بالقرارات والتوصيات الإعلامية المعتادة التي لا تنتظر الشعوب من ورائها إلى فائدة...
مقارنة مخجلة!
وإن مما يثبت نظرية ابن خلدون رحمه الله، في الفشل العربي، مقارنة سريعة بين هذه الجامعة، وبين السوق العربية المشتركة التي أنشئت في روما، عام 1957م أي بعد تأسيس الجامعة العربية باثنتي عشرة سنة، وهذه السوق هي أساس الاتحاد الأوربي الذي أصبح اليوم يضم 25 دولة، بعد أن بدأ بثلاث دول تقريبا، ويكاد الاتحاد أن يعلن: "الولايات المتحدة الأوربية":
العوامل الجامعة والعوامل المفرق بين المؤسستين:
وإذا رجعنا إلى العوامل الجامعة والمفرقة بين المؤسستين، وجدنا عوامل كثيرة قوية تقتضي اجتماع الدول العربية، وعوامل كثيرة قوية تقتضي تفرق الدول الأوربية:
أولا: العوامل المقتضية لاجتماع الدول العربية:
أساس العوامل التي تقتضي اجتماع الدول العربية: الإسلام الذي هو دين غالبها، حيث إن بعض البلدان لا يوجد فيها إلا المسلمون، وبعضها غالب سكانها مسلمون، وغير المسلمين قلة فيها...
والإسلام هو الذي جمع العرب على كلمة سواء، بعد أن كانوا متفرقين، بل جمع العرب وغيرهم في البلدان الأخرى، إما بدخول أهلها في الإسلام، وإما باقتناعهم بفضائل منهج الإسلام الذي لم يجدوا في نظمهم ما يدانيه في عدله ومساواته ونشر أمنه في تلك البلدان...
ومن أهم العوامل الجامعة للدول العربية: اللغة التي حفظها الله لهم بحفظ كتابه وحفظ دينه، واشتراك أي قوم في اللغة، يسهل اتصال بعضهم ببعض في كثير من الأمور: الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية والإعلامية وغيرها، وقد كان للغة العربية أثر بالغ في اجتماع العرب في جميع العصور، حتى في ظل الخلافة العثمانية التي كان قادتها من غير العرب.
كما أن اللغة العربية عامل لاجتماع المسلمين كلهم عربهم وعجمهم، لأنها لغة دينهم ولغة كتابهم ولغة سنة رسولهم، ولغة مصادر ثقافتهم الأصلية...
ومن أهم العوامل التي تجمع الدول العربية: الاتصال الجغرافي بين شعوبها، من موريتانيا غربا، إلى الخليج العربي شرقا، وتتخلل أرضهم بحار وأنهار، ولا تفصل بينهم أي دولة غير عربية.
ولا عبرة بوجود اليهود المغتصبين للأرض المباركة، فهم جسم غريب طارئ طروء ابن الزنا لا جذور له في المنطقة، ومع ذلك لا يعتبر وجودهم فاصلا بين الدول العربية، لأن الشعب الفلسطيني يشاركهم في الأرض، ويعد العدة لطردهم من أرضه...
وهذا العامل يجمع كذلك بين الدول العربية وغيرها من الشعوب الإسلامية، مثل إيران وتركيا وجمهوريات وسط آسيا وأفغانستان، وباكستان...(68/168)
ومن العوامل الجامعة بين الدول العربية: مصيرها المشترك في كل شئون حياتها: العقدية والتشريعية والتعليمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والجغرافية، فهي تعلم أن أعداءها في حالة تأهب قصوى مستمرة، في النيل من كل هذه الأمور.
الدليل على ذلك واضح، في لحرب اليهودية الصليبية قديما وحديثا، على هذا الدين وأسس تشريعه وتعليمه وسياسة أتباعه الشرعية، ومصادر قوتهم الأسرية والسلوكية والعسكرية...
وما نراه اليوم من الحملة الظالمة على هذه الأسس والمصادر، خير شاهد على هذه الحرب...
ولم يتمكن أعداء هذه الأمة من هزيمتها إلا بنيلهم من هذه الأسس والمصادر...
العوامل التي فرقت بين الدول العربية
وإذا شئنا أن نجمل عوامل تفرق العرب في جميع العصور، وبخاصة في هذا العصر، فإننا نلخصها في الأمور الآتية:
الأمر الأول: تفريطها في قاعدة قواعد اجتماعها، وهو الإيمان الصادق بدينها الذي يترتب عليه تطبيق شرع الله في حياتها، بل نقول: مبالغة كثير من حكامها في إبعاد هذه الشريعة عن حياة شعوبها وحربها لمن دعا إلى تحكيك شرع الله بدلا من أحكام القوانين المصادمة للمعلوم من الدين بالضرورة في تلك الشريعة...
الأمر الثاني: تعاطي أسباب التنازع المؤدي إلى الفشل وذهاب الريح والهيبة، حتى أصبحت كل دولة تعادي الدولة الأخرى، وفقدت الثقة بين دولة وأخرى في الغالب...
بل دب الخلاف بين غالب الدول العربية وشعوبها، وتعددت في تلك الدول الأحزاب والجماعات، واحتدم الخلاف بينها أيضا، فوجه العرب صراعهم إلى ذات بينهم، فازداد ضعفهم الذي مكنوا به تداعي عدوهم على قصعتهم، وأغرقوا سفينتهم بخرقها بأيديهم...
الأمر الثالث: تعاون بعض الدول العربية ضد بعضها مع العدو، وتنافسها في التقرب إليه، طمعا في مصالح وهمية عاجلة زائلة، وهو يتربص بها جميعا، فتنقلب تلك المصالح الوهمية مفاسد عليها وعلى شعوبها، وتتكرر المآسي المترتبة على تلك المعاشرة السيئة، دون أن يأخذوا العبرة منها، فيلغون جميعا من جحر واحد مرات ومرات!
ومن مظاهر ذلك إيثار أعدائهم بالتبادل التجاري والاقتصادي وحرمان بعضهم من بعض، مع حاجة بعض الدول العربية إلى بعض في هذا المجال، حيث يوجد لدى بعضها من المصالح ما لا يوجد عند بعضها الآخر.
فدولة لديها مصادر طاقة ومال، فاقدة الأراضي الزراعية الكافية والمياه الوافرة، ودولة لديها أراض زراعية كافية ووفرة مياه فاقدة المال، وتلك لديها ثروة حيوانية تفقدها أخرى، وهذه لديها كفاءات عالية من المتخصصين في كل مجال، لا يجد كثير منهم العمل في بلادهم...
فتؤثر كل دولة سد حاجتها من الدول الأجنبية بسعر أعلى، وتصدر لتلك ما تحتاجه مما يتوفر لديها بسعر أدنى، وتستقدم كل دولة من تحتاج إليهم من المتخصصين من دول أجنبية بأجور عالية، وتحرم المتخصصين العرب ذوي الكفاءات المتنوعة من العمل فيها بأجور أقل من أجور الأجانب... فيضطر المتخصصون العرب إلى هجر بلادهم والذهاب إلى البلدان الأجنبية، ليشاركوا في بنائها وتقدمها طلبا للرزق الذي حرموا منه في البلدان العربية...
إن الدول العربية لو تبادلت المنافع والمصالح بينها لتكاملت ونالت من القوة ما تفقدها اليوم، ولقلت حاجتها للدول الأجنبية التي تتحكم فيها جميعا...
وطبق ذلك كله بين الدول العربية وسائر حكومات الشعوب الإسلامية...
الأمر الرابع: قلة صبر الزعماء العرب على ما يجري بينهم من خلافات وبخاصة في جامعة الدول العربية، فإذا اختلف زعيم مع آخر في مشروع من المشروعات النافعة، أصر كل منهم على موقفه وعطلوا ذلك المشروع ولو كان مرغوبا فيه عند بقية الزعماء...
الأمر الخامس: استبداد غالب الزعماء العرب بالتدابير العامة في سلم أو حرب، وعدم إشراك أهل الحل والعقد وذوي الاختصاص في شعوبها في تلك التدابير، التي قد يترتب عليها من الضرر ما يصيب الجميع...
وماذا عن الاتحاد الأوربي؟
هذه إشارات سريعة إلى ما يجمع الدول العربية وما يفرقها، وإلى الأحوال التي آلت إليها شعوبها بسبب الميل عن عوامل الاجتماع إلى عوامل التفرقة...
فماذا عن الاتحاد الأوربي؟
إنا إذا نظرنا نظرة تاريخية إلى العوامل التي تجمع هذا الاتحاد، وإلى العوامل التي فرقه، لوجدنا عوامل الفرقة أكثر وأقوى من عوامل الاجتماع...
فالشعوب الأوربية تختلف في لغتها اختلافا واضحا، فلا يفهم شعب منها لغة شعب آخر.
وهي مختلفة في ديانتها اختلافا وصل إلى اشتعال الحروب فيما بينها، ولا زالت المعارك دائرة في بريطانيا بين البروتستانت والكاثوليك، وكانت الحروب طاحنة بين فروع هذه الديانات في الشعب الواحد...
وقد اختلفت في سياساتها واقتصادها اختلافا أشعل بينها حربين عالميتين، أهلكت الحرث والنسل ودمرت الأخضر واليابس...
ولم تقع مثل هذه الحروب بهذه الشدة بين الدول العربية وكذلك الشعوب الإسلامية في هذا العصر، وإن حصلت حروب متفرقة بين دولة أخرى منها...
و مع ذلك نرى الدول الأوربية، قفزت قفزات عظيمة في تقاربها واجتماعها، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا ودبلوماسيا، وكادت ترفع علم الولايات الأوربية المتحدة...(68/169)
ويمكن تلخيص الأسباب التي مكنتها من هذا الاتحاد في ما يأتي:
السبب الأول: الإرادة الجازمة والعزم المصمم على التقارب والتعاون، في الأمور التي يتفقون عليها وتنفيذ ذلك مهما قل أو كثر...
السبب الثاني: الإرادة الجازمة والعزم المصمم على الاستمرار في الحوار في ما اختلفوا فيه، وعدم الانقطاع عن ذلك الحوار ولو طال الوقت...
السبب الثالث: ضبط تصرفات الحكومات الأوربية وتدابيرها، بأنظمة وقوانين تمنعها عن الاستبداد بالأمر، وتجبرها على الرجوع إلى شعوبها وأهل الاختصاص فيها، في الأمور العامة التي تترتب عليها مصالح ومفاسد عامة، فلا تبت الحكومات في أمر من تلك الأمور دون الرجوع إلى شعوبها...
السبب الرابع: صبر الحكومات الأوربية على ما يجري بينها من خلافات، وعد التسرع في رفض ما لا ترغب دولة أو دول قبوله، وتنازل بعض تلك الدول عن بعض مصالحها الخاصة حرصا على مصالح أعظم منها تتحقق لها بذلك...
السبب الخامس: وضع حد للتنافس المفضي إلى عدم انقياد بعضهم لبعض، فهم يتنافسون وتحاول كل دولة أن تحصل على أكبر قدر ممكن من المصالح، ومن ذلك التنافس في القيادة والرئاسة، ولكن هذا التنافس لا يصل إلى عدم انقياد بعضهم لبعض، كما يفعل العرب...
ولهذا رأينا دولا قوية تتساوى مع دول ضعيفة في رئاسة بقية الدول، في الزمن المحدد، وتتفق على كبار الموظفين في الاتحاد...
السبب السادس: اتخاذ الحكومات الأوربية الوسائل القانونية مع شعوبها، فإذا رفضت أحزاب المعارضة ما ترى الدولة عمله في الاتحاد الأوربي، دعا الحزب الحاكم إلى الاستفتاء العام، فيقول الشعب كلمته ويحسم الأمر، وقد يرفض الشعب ما يدعو غليه الحزب الحاكم اليوم، فيجد الاستفتاء غدا، ويحظى بموافقة الشعب، كما حصل مرارا في كثير من تلك الدول، في ما يتعلق بالعملة الأوربية وغيرها...
ومن أهم المشروعات التي احتدم فيها الخلاف، الدستور الأوربي الموحد، ولا زالوا يواصلون التشاور والاجتماعات بشأنه، وما إخالهم إلا سيتفقون عليه قريبا... وستعلن الولايات المتحدة الأوربية التي هيئوا غالب أسس الوحدة لقيامها...
ولقد أجمل داهية العرب عمرو بن العاص رضي الله عنه، لشعوب الروم خمس صفات تميزوا بها، نراها اليوم ماثلة أمامنا، وهي:
1- إنهم لأحلم الناس عند فتنة.
2- وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة.
3- وأوشكهم كرة بعد فرة.
4- وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف.
5- وأمنعهم من ظلم الملوك.
[صحيح مسلم، رقم (2898) وشرح النووي على صحيح مسلم (18/23)
أليست المقارنة بين الاتحاد الأوربي والجامعة العربية مخجلة؟
ألست الشعوب العربية نتجرع غصص اختلافات زعمائها الذين أوصلوها إلى هذه الحال المتردية؟
أليست فلسفة ابن خلدون صحيحة، وهي أن العرب لا تقوم لهم دولة قوية، ولا يحصل لهم اجتماع، ولا ينقاد بعضهم لبعض، إلا بصبغة دينية تجمعهم على الحق؟
ألم تدعم فلسفة ابن خلدون التجارب المتكررة في جميع العصور؟
يا زعماء العرب عودوا إلى ما أنعم الله به على سلفكم، من الوحدة بعد الفرقة، ومن العز بعد الذل، ومن الغنى بعد الفقر، ومن التبعية إلى القيادة:
?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)? [آل عمران]
(يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وكنتم عالة فأغناكم الله) [صحيح البخاري (4/1574) وصحيح مسلم (2 /735)]
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
===============(68/170)
(68/171)
قل كل يعمل على شاكلته (جيش صلى الله عليه وسلم في سمرقند)
البتار
الحمد لله ثم الحمد لله و نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و نشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله و رسوله ؛ عباد الله أوصيكم و نفسي بتقوى الله عز وجل و أحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله و خير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه و آله و سلَّم و إنَّ من كلامه تعالى قوله : ( قل كلٌ يعمل على شاكلته فَرَبُّكُم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً )(1)؛ كلٌّ يعمل على شاكلته ؛ أي على ما هو دأبه و طريقه ؛ ما هي شاكلة الأمة المسلمة في البناء الإيماني و النفسي لأبنائها؟ و ما هي الآثار البعيدة لذلك على مستوى الأمة و الدولة و الحضارة ؟
عُمَرُ رضي الله عنه سلبَ النوم منه قول صلى الله عليه وسلم : (ما من والٍ يلي رعيةً من المسلمين فيموت و هو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة)(2)؛ هموم الأمة المسلمة امتزجت بروحه و قلبه ، ومرةً بعد جولة ليلية متعبة تفقد فيها الرعية ، جلس ليستريح قليلاً فسمع امرأة تقول لابنتها : قومي إلى اللبن فامذُقيه ، أي زيديه ماءً ؛ قالت البنت : قد نهى عمر عن ذلك ؛ قالت الأم : امذقيه فإن عمر لا يراك ، قالت البنت : يا أماه فأين رب عمر! هذه هي أمة الإسلام حُكَّامُ عَدْ لٍ و رعيةُ التزام ، و علَّم عُمَرُ الخِباءَ بعلامة و عاد إلى أبنائه يخبرهم عن فتاةٍ صالحةٍ تقيةٍ لا يُفرط بها : زوجة صالحة و امرأة تقية وسكنا ، فزوجها ابنه عاصم و بارك الله لهما فكانت لهما ابنة وافرة العقل جميلة الخَلقِِ و الخُلُقْ تزوجها عبد العزيز بن مروان و رزق عبد العزيز من حفيدة ابن الخطاب رجلاً ملأ الدنيا عدلاً! ذلكم هو عمر بن عبد العزيز.
( قل كل يعمل على شاكلته ) صاحب التقوى يبحث عن التقوى و صاحب المال يبحث عن المال ، وشاكلة التقوى في الأسرة المسلمة تمتد في ذراريها ، وقد عاش عمر بن عبد العزيز في شبابه عيشة ترف مدهش و رأى من النعيم ما لم يره أحد ، ولكن شاكلته الأولى تجمعت ثم انبثقت فتدفق الخير و العدل و الأمن و الإيمان.
أما مربيه الأول فكان عالم الأمة عبد الله بن عمر ، وأما أساتذته فأئمة فحول : عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، و أنس و السائب و عبادة .. ، ورغم كل ماعاشه من ترف فإن البداية التربوية الأولى حفظته (ومن صحت بدايته صحت نهايته) وقد تأخر يوماً عن الصلاة فسأله مؤدبه صالح ابن كَيْسان عن السببِ فاعتذر بأن مُرجِّلته كانت تُرَجِّل له شعره! فكتب المؤدب بذلك إلى أبيه عبد العزيز ؛ فحلقَ له شعره كله كيلا ينشأ مترهلاً مدللاً سخيفاً وصدق الهادي صلى الله عليه و آله و سلم فيما أخرجه عنهُ ابن حبان :(إن الله سائلٌ كُلَّ راعٍ عما استرعاه حفِظ أم ضيع حتى يُسألَ الرجلُ عن أهل بيته)(3) و تمضي الأيام فإذا بأمر الخلافة العظمى يوكلُ إلى عمرَ بن عبد العزيز فحمله حملاً أضناه و أتعبَ كلَّ من أتى بعدَهُ ، وصارَ حُكمه فضيحة لكل من تولى الأمر بعدَهُ . لقد تجمعتْ شاكلةُ البصماتِ العمريةِ فخرجت كُلُّها في ابن حفيدتِه .
أتته امرأة من أقصى حدود دولته التي امتدت ما بين الصين و فرنسة و سألت عن قصره فدلوها على دار شديدةِ التواضع ، و إذا بالدارِ رجل يُطينُ الجدارَ و امرأةٌ تناولُهُ الطينَ ، قالت لها : ألا تحتجبينَ من هذا الطيان فقالت : إنه أميرُ المؤمنين! وأجيرة الطيان هي فاطمةُ التي قال التاريخُ عنها أنها كانت (زوجةَ خليفة ؛ بنتُ خليفة ؛ أُختُ أربعةِ خلفاء ، وعمةُ خليفتين) . ومرض ابن عبد العزيز و عاده أخو زوجته مَسْلمَة فلما خرج قال لأخته اغسلي قميص أمير المؤمنين فإنه وسخ ، والناس تزوره فلما رَجَع بعد أيامٍ وجد القميص لم يغسل فأعاد القول ، وزاره ثالثة فإذا بأمير المؤمنين ما يزال في قميصه يئن مريضاً متوجعاً ، و أغلظ مَسْلَمة لأخته الكلام فأحنت رأسها وخرج صوتها من بين دموعها وقالت : والله ماله قميص غيره!!
قد أتعبت يا عمر من بعدك و فضحت لصوص الأمة ؛ وتحقق حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (إن الله جعل الحق على لسان عمر و قلبه)(4) بل امتد معناه في ابن حفيدته ابن عبد العزيز!
( قلْ كلٌ يعملُ على شاكلَته ) ولعمرَ بن عبد العزيز وِقفات حبس التاريخ فيها أنفاسه ، فما رأى بعد عدلاً ومساواة ولا إحساناً أوإنصافاً يتدفق مثلما تدفق في عهد خامس الراشدين ، و هاكم شاكلةٍ عمريهٍ مذهلةٍ : الإسلام في أوج قوته وراية لا إله إلا الله تمتد في الأرض أسرع من انتشارِ ضوء الصباح ، والدولة الإسلامية أعظم قوة حضارية على وجه الأرض وخليفةٌ واحدٌ في دمشق تنقاد له بلادٌ ممتدة ما بين مشرق الأرض إلى مغربها ، وبعيداً آلاف الأميال عن عاصمة المسلمين وفي ظلمة الليل خرج رجل تقدح عيناه بالشرر يتلفت حوله بحذر حتى طرق أحد الأبواب باحتراس شديد و أعطى كلمة السر ففتح له الباب ؛ فاجتازه إلى غرف دخل من مكان سري في أحدها إلى سراديب مظلمة يضيئها لهب أزرق يضفي ظلالاً مرعبة على المكان!حتى انتهى إلى غرفة صخرية فيها سَدَنَةُ آلهة دميمة.(68/172)
كان اجتماع مؤامرة حقودة على المسلمين [نموذج مصغر من مؤامرة دول العالم على شعب البوسنة المسلم] ولكنها كانت في سمرقند ، وكان الكهنة يتحدثون بحقد عن المسلمين و دينهم ، وكيف أنهم دخلوا سمرقند فملكوها ، وكانت في جعبة الكهنة خُطَّةُ فتنةٍ خبيثةٍ ولكنهم قرروا إطلاق سهم أخير من جعبتهم ، واختاروا زائرهم الأخير ليكون رسولهم إلى عاصمة الخلافة ؛ فقد سمعوا أن فيها حاكماً عادلاً ملأ عدله الأرض ؛ فوكلوا صاحبهم بحمل الرسالة ؛ خاصة و أنه يتقن العربية ، ومضى الرجل في ديار المسلمين فإذا كل حاضرة من حوا ضرهم أعظم من الأخرى فتمتلئ نفسه خوفاً من لقاء خليفةٍ هو حاكمُ تلك الأقطار العظيمة ، ثم وصل دمشق (سيدة التاريخ وأمل المستقبل ) فخفق قلبه و تصور صعوبة لقاء الخليفة و تحسس رقبته فقد خشي أن يتصرف بطريقة يكون ثمنها رأسه! تذكر الأكاسرة و القياصرةَ و الجبابرةَ و الفراعنةَ ، ثم ذهل ؛ فكيف يقابل خليفةً كلُّ مُلكِ الشاهنشاه الذي كانوا يعظمونه وتخشى بأسه الشعوب لا يبلغ قدر ولاية صغيرة من ولاياته ؛ واضطرب فؤاده بين الخوف على النفس و الخوف من اندثار عقيدة آلهة المعبد الوثني المرعبة ، وتذكر بلاده و الكهنة فتشجع و كلما رأى قصراً خفق قلبه وظنَّ أنه قصر الخليفة ؛ ثم وجد نفسه فجأة مقابل قصرٍ عظيم ما رأى و لا سمع عن مثله ، وكاد يخر على الأرض لذهوله إلا أنه تشجع لما رأى الناس يدخلون ويخرجون فلا يسألهم أحد إلى أين ، وإذا بصحن واسع عظيم أرضه من رخام يلمع كالمرايا بالكاد يرى مَنْ في أوله مَنْ في آخره ، وعلى الأطراف أعمدةٌ شامخةٌ و أقواسٌ مرتفعةٌ وفي المنتصف بركة ماء يتدفق منها الماء عذباً زلالاً ، وإذا بصوت حان جميل كأنه من أنفاس الجنان لا من حناجر أهل الأرض يرتفع مردداً : (الله أكبر الله أكبر ... أشهد أن لا إله إلا الله ؛ أشهد أن لا إله إلا الله ؛ أشهد أن محمداً رسول الله .. ) فإذا بالكل كأن على رؤوسهم الطير .
ما كان ذلك الرجل يعلم أن نبي الأمة صلى الله عليه وآله وسلم قال : (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليَّ ، فإنه من صلَّى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشرا ؛ ثم سلوا الله لي الوسيلة [ ومحل ذلك إنما يكون بعد الأذان لا عند إقامة الصلاة ] فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله و أرجو أن أكون أنا هو ؛ فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة )(5) و تلفت الرجل فإذا بنظام عجيب وإذا بالآلاف يصطفون مثل كتائب جيش كثيف و إذا برجل يتقدمهم فتكون منهم طاعةٌ مدهشةٌ و انضباط عظيم ؛ ثم انفض الجمع و تشجع الرجل فسأل عن الخليفة فقالوا : هو الذي صلى بالناس ؛ أما صليت معنا؟ قال : وما الصلاة؟ فقالوا له : عبادة وطاعة ، والتزام ونظام وترك للفحشاء والمنكر وفضيلة و طهارة ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر)(6) ؛ ألست بمسلم؟ قال باضطراب شديد: لا ، وهو يظن أنه سيلقى وحوشاً مثل وحش الصرب ينهالون عليه بالسواطير ؛ فقالوا له باسمين : هداك الله وما دينك ؛ فتلعثم الرجل ، وظنهم سيقتلونه لكنهم شجعوه فقال: أنا على دين كهنة سمرقند ؛ قالوا وما دينهم؟ قال لا أدري ؛ يسجدون للنار! فقالوا له : ومن ربكم؟ قال : أصنام المعبد المخيفة! قالوا : إنَّ نبينا بُعث رحمة للعالمين وقال الله له :( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )(7) ، وعسى أن يرزقك الله وقومك الهداية! قال : وما الله؟ فقالوا له : ( ربِّ السماواتِ و الأرضِ و ما بينَهما إن كنتم موقنين * لا إله إلا هو يحى و يميتُ ربكم و ربُّ آبائكم الأولين )(8) ( وهو الذي في السماء إله و في الأرض إله وهو الحكيم العليم * وتبارك الذي له ملك السماوات و الأرض وما بينهما و عنده علم الساعة و إليه ترجعون )(9) ؛ ثم قاموا عنه وقد دلوه إلى الباب الذي يصل به إلى الخليفة .. فظنَّ أنه سيدخل قصراً آخر أعظم وأفخم ؛ فإذا بيتٌ متواضع وامرأة تعجن فلحقهم وقال أتكذبون علي؟ أسألكم عن قصر الخليفة فتدلوني على بيتِ فقيرٍ يُصلح داره بيده و امرأته تعجن ؛ قالوا له : ذاك خليفتنا!!
ولم يصدق الرجل أذنيه ؛ وقال: إني غريب ناشدتكم بما تؤمنون أن تدلوني ؛ فقالوا : حاشا لله أن نكذب عليك ؛ إن الكذب في ديننا كبيرة من الكبائر و نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يقول لنا أن المؤمن لا يكون كاذباً أبداً(10)، و جعل الرجل يفرك رأسه بيديه أهذا حلم أم واقع ، تعب الطريق و عناء المهمة أم الحقيقة.(68/173)
وأحس بتصدع في أفكاره وشعر بجدران المعبد و الآلهة المزيفة و الفراعنة المتجبرين يتهاوى بعضها على بعض فتصبح شظايا تسقط في قعر بئر عميق ووقف الرجل متحيراً فلمحه الخليفة و عَرَف أنه غريب فجلس إليه ينظر في أمره فازدادت دهشة الغريب ولكنه بعد تردد شكا إلى عمر بن عبد العزيز أن قائده قتيبة بن مسلم دخل سمرقند غدراً دون دعوة أحد إلى الإسلام و لا منابذة و لا إعلان .. و أطرق الخليفة العظيم الذي أمر خطباء منابره بأن يذكِّروا الناس كل جمعة بقوله تعالى : ( إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون )(11) كي تبقى الأمة متشبثة بحقها إن نسيه الحكام وأطرق الخليفة العظيم قائلاً : والله ما أمرنا نبينا محمدٌ بظلم و لا أجازه لنا ، و إن الله أوجب علينا العدل مع المسلم و غير المسلم ، و دعا الخليفة بورقة كَتب عليها سطرين و ختمها ثم دفعها إلى الرجل ؛ ليذهب بها إلى حاكم سمرقند ، وحمل الرجل الورقة متشككا!ً أتفعل هذه الورقة شيئاً مع قائد عظيم مثل قتيبة؟ ، ولله در قتيبة وأمير قتيبة! وعلم الكهنة فاصفرت وجوههم و تلمسوا رقابهم [حسبوها مكيدةً مثل مكائد عصابات مجلس الإرهاب الذي سموه مجلس الأمن] فما راعهم إلا منادٍ يدعو الناس كلَّهم إلى المسجد و إذا بالقائد العظيم قتيبة يدخل وراء رجل نحيل أجلسه وكهنة المعبد الأكبر بين يديه ، ثم سأل القاضي الكاهنَ بصوت ضعيف : ما قولك ، فقال : إن القائد المبجل قتيبة بن مسلم دخل بلدنا غدراً من غير منابذة ولا دعوة إلى الإسلام ولا طلب جزية ، و التفت القاضي إلى الأمير مستفهماً : ما قولك يا قتيبة؟ فقال قتيبة : إن الحرب خدعة وهذا بلد عظيم أنعم الله به علينا ، وأنقذه بنا من الكفر وأورثه المسلمين ؛ قال القاضي: هل دعوتم أهله إلى الإسلام أو الجزية أو القتال؟ قال قتيبة : لا ولكننا دخلناه مباغتة! قال القاضي : قد أقررتَ يا قتيبة ، والله ما نصر الله هذه الأمة إلا بوفائها بما ائتمنت عليه من عهود الله (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا)(12).
يا قتيبة ( ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون )(13).
يا قتيبةَ جيش محمد جيش صدق و عهد و وفاء
يا قتيبة جيش محمد ليس جيش احتلال ولا جيش إبادة ولا عدوان ، جيش محمد ليس مثل جيوش الحقد الصليبي السافر ، جيش محمد لا يبيد الحياة ولا الأحياء ، جيش محمد ليس مثل جيوش الكفرة الصرب و الأنذال من قوات التحالف الدولية المتآمرة (14) .
جيش محمد يا قتيبة لا يعتدي على النساء و ينشئ لهنَّ معسكرات الاغتصاب ..
جيش محمد يا قتيبة لا يعطي العهد للأبرياء الآمنين ثم يحصدهم بالرشاشات أو يذبحهم ذبح النعاج بالسواطير ، جيش محمد لا يضع المسدسات في رؤوس الأطفال ليفجرها ..
جيش محمد و قادة جيشه لا يقررون ملاذات آمنة لشعب بائس مسكين ثم يتعاورون عليها ذئاباً ووحوشاً بشرية لا تمل من شرب الدماء ..
جيش محمد لا يغير على المدنيين ولا على المستشفيات ولا يقتل العزل و النساء و الأطفال ..
جيش محمد يا قتيبة إذا وعد وفى وإذا حدَّث صدق وإذا ائتمن أدى الأمانة ولو لقي في ذلك الأهوال والحتوف ..
يا قتيبة : حكمت بخروج المسلمين من البلد وأن يُرَدَّ إلى أهله و يُدْعَوا إلى أحكام الإسلام ، ولم يصدق أحد أن هذا سيحصل ، و لكن ما مضت إلا ساعات فإذا بالجوِّ يرتجف من صليل السلاح .. جيش قتيبة ينسحب .. ونظر الكاهن الأكبر إلى أتباعه فنكَسوا رؤوسهم ونظر إلى رسوله إلى الخليفة فوجده يرتجف بشدة ، وهو يقول : أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمداً رسول الله .. وكأنما دبت بالكهنة الحياة بعد موت .. فصرخوا في أتباعهم : أن أدركوا جيش محمد وقولوا لقتيبةَ أن يعود ..
يا جند محمد ما شهدت الأرض مثل عدلكم وإنصافكم .. عودوا إلينا .. ما عدتم وحدكم المسلمون .. و ما محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لكم وحدكم فهو نبينا كذلك ، و إننا لنشهد جميعاً أنه لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله. وصدق تعالى : ( يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليم خبير ) (15).
- ألقيت هذه الخطبة بتاريخ الجمعة : 23 صفر 1416هـ الموافق 21/ 7 /1995م.
-----------------------
الإحالات :
1- الإسراء 84 .
2- البخاري ، الأحكام 7151.
3- هذا لفظ ابن حبان والحديث في البخاري ، الجمعة 893.
4- سنن الترمذي ، كتاب المناقب 3682 ، وقال هذا حديث حسن صحيح غريب.
5- مسلم ، كتاب الصلاة 384.
6- العنكبوت 45.
7- الأنبياء 107.
8- الدخان 7-8 .
9- الزخرف 84 - 85.
10- في مجمع الزوائد ، المجلد الأول ، كتاب الإيمان (1) ، باب ماجاء أن الصدق من الإيمان (37) ،
الحديث 228 : (يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب) وذكر أنه من رواية البزار وأبي يعلى ورجاله رجال الصحيح ، وفي فيض القدير : الجزء السادس ، حرف الياء ، الحديث 10014 ؛ أن ابن حجر قال في الفتح أن سنده قوي .(68/174)
وفي القرآن الكريم: (إنما يفتري الكذب الذين لايؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) النحل 105.
أما رواية الموطأ ، الحديث 1862: قيل لرسول ا صلى الله عليه وسلم : ( أيكون المؤمن جبانا؟ فقال: نعم ؛ فقيل له : أيكون المؤمن بخيلا ؛ فقال: نعم ؛ فقيل له : أيكون المؤمن كذابا؟ فقال: لا ) فهي مرسلة أومعضلة.
11- النحل 90.
12- الإسراء 34.
13- النحل 95.
14- في ذروة المذابح ثبت أن الجنرال (ماكنزي) من أكبرقادة القوات الدولية (وهو كندي الجنسية) كان يسهل بل يشارك في اغتصاب المسلمات البوسنيات!! وضاعت جريمته في الدنيا مع آلاف المجرمين !!
15- الحجرات 13.
ملاحظة :
لقد وردت قصة فتح سمرقند بشكل مقتضب في كتب التاريخ ، ومن باب نسب الفضل لأهله نقول : إن إخراجها بالشكل القصصي المؤثر قد تم بالاستفادة الواسعة من كتاب : قصص من التاريخ لعلامة الشام الجليل الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله وأجزل مثوبته .
===============(68/175)
(68/176)
القوة الرعناء
د. جواهر بنت عبدالعزيز آل الشيخ
سبحان الله، التاريخ يعيد نفسه كل حقبة من أحقاب الزمن، القوة البغيضة الرعناء تتحكم في مصائر الأمم وتفتك بالشعوب فتكا بلا هوادة، معتمدة على تفوقها العسكري الذي نمته وطرته في غفلة زمن غفلتها أوطان (غرقت في وهن حب الدنيا) والتكالب عليها، مع أن كل عاقل يعلم أنه لن يحيا إلا حياة واحدة ولن يخسر إلا ما لم يكتبه الخالق من رزقه.
واعتمدت الشعوب الإسلامية في العصور الحديثة على غيرها في الدفاع عن ذاتها، حينما كانت الكرة الأرضية تقسم إلى عدة معسكرات، فمنها من اعتمد على (المعسكر الشيوعي) اعتمادا كليا متوهمين أنه حاميهم الأكبر ضد الغطرسة اليهودية المدعومة بالقوة الأمريكية (دعم هيام) لا محدود! ومن اتكل على غير الله أوكل إليه؛ فقد قا صلى الله عليه وسلم محذرا: (من تعلق إلى شيء وكل إليه). فانغمست تلك الشعوب الإسلامية، والعربية منها خصوصا في (شهواتها ولهوها وطربها وحماسها الكروي)، فانتحر من انتحر من أجل فنان أو فنانة، وتقاتل من تقاتل بسبب فوز فريق كروي على آخر، بينما القوم منشغلون بإعداد العتاد الرهيب ضدنا، بحجة مقاومة المعسكر الآخر، فانضوى البعض الآخر من الأمة الإسلامية إلى هذا المعسكر الأمريكي لأنه رأى (ببصيرته الثاقبة) أنه هو الغالب الصادق في وعوده، ولكن للأسف لمحبوبته اليهودية، أما العربية فلها الفتات فحسب لمجرد إسكاتها في سبيل ضمها كحليفة لها وذلك هو الفوز المبين.
وجرت هذه القوة الذكية الشعوب المسلمة لكي تجاهد معها القوة الإلحادية الماركسية الغاشمة وهي دعوة حق ولكن أريد بها باطل، فحينما تم النصر الساحق على المعسكر الكافر، كشَّر منافسه الصليبي عن أنيابه وأصبحنا شغله الشاغل في الحرب والسلم.
ولكن الغريب هو استسلام الأمة الإسلامية المطلق لهذه القوة المتعاظمة المتكبرة استسلاما ينذر بنهايتنا جميعا نهاية سوء عاجلة لا قدّر الله، إذا استمرت الفرقة بيننا وبين بعضنا بعضا، حيث تفجرت الصراعات الطائفية، وسارع مفجروها؛ أهل البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، إلى تغذية روح الفرقة بين المسلمين الذين لا ينقصهم الضعف ويحوطهم التمزق من كل جانب بعد أن استعرت فيهم حروب الغدر من بعضهم بعضا، والحسد لكل من تفضل الله عليه بنعمة من نعمه.
والأهم ما دورنا الآن لإصلاح ما يمكن إصلاحه؟ أم يا ترى فات الأوان؟ إذن فلم يبق أمامنا إلا أن ننتظر تلك القوة الغاشمة لكي تفتك بنا ونحن في حظيرتنا ترتجف أوصالنا لمجرد تفوقها العسكري المخيف الذي لن يقضي على أحد قبل يومه الموعود؟
ليس الهدف هو التصرف (برعونة وتفرد) أشبه بالوعل الناطح للصخرة لكي يوهنها، إنما اعتماد أساليب ذكية متعددة أهمها سلاح الدعاء الفردي والجماعي، وإعادة بناء الذات العسكرية والنفسية المعتمدة على الله وحده، واستخدام العتاد الاقتصادي والدعوة إلى الوحدة الإسلامية التي تأخذ بمبدأ (سددوا وقاربوا) دون وقوع في كبيرة الشرك، ودون تنابز بالألقاب الدينية بين الجماعات المنعكسة على الأفراد، ودون طمس لمعالم تاريخنا الإسلامي العظيم عن طريق الإساءة لعظمائه وعظيماته، ووجوب الاعتماد على الذات فحسب لبناء اقتصادنا من الداخل والاستغناء - ببدائله القادرة - عن غطرسة الخارج أما أول الأولويات الآن هو المسارعة لنصرة إخواننا في الدين ضد من يحاربونهم حرب عقيدة مقرين بها وهي سبب حماسهم وتجمعهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما). فلا يوجد أي مبرر للقوة اليهودية الغاشمة في تصرفاتها الرعناء لضرب الشعوب المستضعفة العزلاء من أي سلاح، معتمدة على طريقة الضربات الجوية الجبانة بالعتاد المتفوق المذهل، بحجة مطاردة أفراد لم تستطع إلى الساعة الوصول إليهم؛ مقتدية في ذلك بالقوة العظمى التي تدعي أنها تحارب الإرهاب الفردي وهي مبتدعة الإرهاب الدولي عن طريق سحق الشعوب المسلمة وإعادتها لعصر الكهوف، دون أن تحقق أي ادعاء من ادعاءاتها التي كانت وما زالت تدعيها؟!
================(68/177)
(68/178)
الطريق إلى التمكين
تلخيص لفصل منهج الحركة من كتاب واقعنا المعاصر لمحمد قطب
علاء شعبان
تغيير حال هذه الأمة ، وإرجاعها إلى حقيقة الإسلام ، أمر لا يتم بالسهولة التي يتصورها كثير من الناس ، إنما يحتاج - بحسب السنة الجارية - إلى وقت أطول بكثير ، وجهد أكبر بكثير ، مما تم في هذه اللحظة في جميع الميادين .
فيحتاج إلى :
أولاً : " تبيين الحقائق المجهولة من هذا الدين " .
ثانياً : " تربية الناس على ما تقتضيه هذه الحقائق من سلوك واقعي في واقع الحياة " .
وهنا قد يقول قائل :
هل من المعقول أن ننتظر حتى تتربى الأمة كلها على الإسلام ؟ وكيف نربى والحكومات المعادية للإسلام تنقض علينا كل فترة من الزمن ، كلما ربينا جيلاً من الشباب أخذوه ، فعذبوه وقتلوه وقضوا عليه ؟
فأما بالنسبة للسؤال الأول فنقول :
لم يقل أحد قط إنه ينبغي الانتظار حتى تتربى الأمة كلها ، فهذا أمر - بالفعل - لا يتحقق أبداً في واقع الأرض .
ومجتمع الرسو صلى الله عليه وسلم لم يكن كله على القمة السابقة التي كان عليها أصحابه رضى الله عنهم ، الذين رباهم على عينه ، وتعهدهم برعايته .
بل هؤلاء أنفسهم لم يكونوا على مستوى واحد من العظمة والارتفاع ، وقرن الرسو صلى الله عليه وسلم هو خير القرون على الإطلاق ؛ فما بالك بقرننا الحاضر !
إنما المقصود أن تتربى القاعدة التي تحمل البناء ، بالحجم المعقول ، وبأقرب شئ إلى المواصفات المطلوبة لهذا العمل الخطير .
وأما بالنسبة للسؤال الثاني فنقول :
نعم نحنُ معكم إنهم بالفعل يعوقون الحركة عن الإنطلاق ، أما القضاء على الحركة فهم أنفسهم لا يزعمون ذلك وإن تمنوه إنما الذي يحدث دائماً - بقدر من الله ، وحسب سننه - أنه بعد كل مذبحة بشعة يقومون بها يأتي مد جديد من الشباب ، وتتسع القاعدة على الدوام - برغم كل التعذيب الوحشي ، وكل التقتيل والتشريد .
( سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ) [سورة الفتح 48/23]
فربما يقول أحد أحبتنا :
لقد ربينا بما فيه الكفاية ، وآن الأوان أن "نعمل".
وهذه المقولة - على قصرها - تشتمل على قضيتين خطيرتين من قضايا العمل الإسلامي ، تحتاج كل منهما إلى بيان :
الأولى : هل ربينا حقاً بما فيه الكفاية ؟ وما المعيار الذي نقيس به ما تم من التربية حتى اليوم ، لنعرف إن كان كافياً أم إنه يحتاج إلى مزيد ؟
والثانية : ما نوع "العمل" المقصود ، الذي يفكر فيه المتعجلون ؟
نجيبُ أولاً عن السؤال الثاني لأنه محدد في أذهان أصحابه بخلاف الأولى فما تزال تحتاج إلى تحديد فنقول :
هناك نوعان رئيسيان من التفكير ، ونوعان من العمل ، يفكر فيهما من يطرح هذا السؤال بحسب كونهم من الشباب ومن الشيوخ ، بالإضافة إلى لون ثالث .
فأما الشباب - الذين تملؤهم الحماسة وتدفعهم إلى التعجل - فتفكيرهم هو :
وجوب الوصول إلى الحكم بالقوة ، وتربية الأمة من موقع السلطة لا من موقع الدعوة ، لأن التربية من موقع الدعوة أمر يطول به الزمن ويطول به الطريق ، بسبب وقوف الأعداء بالمرصاد ، وتعويقهم المستمر للحركة الإسلامية ، وتشتيتها كلما أرادت أن تتجمع .
وأما الشيوخ - الذين أجهدهم المشوار الطويل ، والضربات المتوالية على الطريق - فتفكيرهم هو الدعوة السلمية التي لا تصطدم مع السلطة أبداً ، والتي تتخذ جناحاً من أجنحتها الدخول في البرلمانات والانتخابات ، ومحاولة التأثير على مجرى السياسة من داخله ، أو على الأقل إعلان صوت الإسلام من داخل الأجهزة السياسية التي تسيطر اليوم على حياة الناس ، حتى يكون لهذا الصوت وقع في حس الناس .
ونحن نفترض - بادئ ذي بدء - الإخلاص الكامل في كل من الفريقين ( والفريق الثالث كذلك الذي سنتكلم عنه فيما بعد) .
ولكن الإخلاص وحده لا يكفي ؛ بل لابد معه من البصيرة ، لأن عدم البصيرة حري أن يفسد ثمرة الإخلاص !
نفترض جدلاً أن مجموعة من الشباب المتحمس قد أحكمت التدبير ، فقامت "بانقلاب" وأقامت حكومة إسلامية في أي بقعة من العالم الإسلام . فمن يُسندها ؟!
ولنأخذ مصر مثلاً : " فالقاعدة الإسلامية" في مصر هي أوسع قاعدة حتى الآن في العالم الإسلامي كله ، فهل تكفي هذه القاعدة لسند الحكم الإسلامي ، وحمايته من العدوان الصليبي الصهيوني المتوقع في جميع الأحوال ؟
ولنفترض أن أمريكا لم تتدخل بعدوان مباشر ، وإنما فقط مُنع القمح عن الشعب المصري !
هل يصبر الشعب المصري - في حالته الراهنة - على الجوع من أجل إقامة الحكم الإسلامي ؟ أم تسير المظاهرات - بقيادة الشيوعيين والعلمانيين والملحدين ، ومن ورائها " الجماهير " الجائعة - تقول : نريد الخبز والحرية ؟!
فلنكن واقعيين .. ولنقل إن "القاعدة الإسلامية" لم تزل بعد أصغر من حجم العمل المطلوب!(68/179)
وقبل أن تقوم القاعدة بالصورة الصحيحة ، فكل محاولة للصدام مع السلطة للوصول إلى الحكم عبث غير مبنى على بصيرة ولا تدبر .. وقمته هو ما حدث في مذبحة حماة . . نموذجاً بارزاً ينبغي أن تتدبره الحركة الإسلامية جيداً لتعرف كل أبعاده ، ولا تقع في مثله مرة أخرى مهما كانت الأسباب .
فإن قال المتعجلون من الشباب : كيف نقعد " بلا عمل " حتى تتكون مثل تلك القاعدة ؟
فنقول : إن القاعدة تتكون ببطء نعم ، ولكنها تتسع على الدوام ، ولا تتوقف على النمو ، وينضم لها على الدوام شباب جديد ، يعلم سلفاً عقبات الطريق ، وعذابات الطريق ، فيوطن نفسه على ملاقاة الموت ، واحتمال العذاب ، ويطن نفسه كذلك على المشوار الطويل .
وذات يوم - لا يعلمه إلا الله سبحانه - ستنضح القاعدة وتتسع ، وتصبح بندقة صعبة الكسر وعندئذ - بسنة من سنن الله الجارية - سيدخل الناس فيها أفواجاً ، وسيجد العدو نفسه لا أمام جماعة منعزلة يحصدها حصداً وهو مطمئن ، إنما أمام أمة قد اجتمعت على إرادة موحدة ؛ فيجرى قدر الله بما تفرح به قلوب المؤمنين .
أما القول بأن الشباب سيقعد "بلا عمل" حتى تتكون تلك القاعدة .
فتقول لهم : من إذن الذي سيبنى القاعدة ؟! إن لم يكن هؤلاء الشباب أنفسهم ؟! وكيف يكونون بلا عمل إذا كانوا منهمكين في البناء ؟!
إنما تصدر هذه القولة نتيجة أمرين معاً :
1 - عدم إدراك الأبعاد الحقيقية المطلوبة لعملية التربية .
2 - الاعتقاد - من ثم - بأن التربية قد تمت ، وأننا ينبغي إذن أن ننقل إلى الخطوة التالية ، وهي ملاقاة الأعداء .
ولنتذكر بادئ ذي بدء أن شيوخ اليوم هم أنفسهم بقية شباب الجيل الأول المتعجل ! الذي كان يعتقد أن " العمل " قد وجب - وأنها ضربة قوية أو مجموعة ضربات ، فيخر الطغاة هداً ، ويحكم الإسلام !
وقد تخلى من أولئك الشباب من قبل من تخلى ، ولكن هؤلاء الشيوخ هم الذين بقوا ولم يتخلوا نعم ، لم يتخلوا .
ولكنهم يعتقدون أن الدعوة قد وصلت إلى طريق مسدود ، وأنه يجب - من ثم - تغيير الطريق !
والسبب في هذه الرؤية من جانبهم واضح .
فقد كانوا تربوا على أنهم هم الذين سيضربون الضربة الأولى ، أو مجموعة الضربات ، ثم تنجلي الضربة عن هزيمة العدو ، وانتصار الإسلام . في سنوات معدودات.
وقد وجدوا أنهم هم الذين يضربون المرة بعد المرة على امتداد السنوات ، وأن الأعداء هم الذين يكسبون الجولة ، بينما لا يصنعون هم شيئاً إلا تلقى الضربات.
ومن ثم فإن الطريق - كما تصوروه - يبدو مسدوداً بالفعل ، ولا يؤذن بانفتاح قريب ؛ فلابد - في حسهم - من البحث عن طريق غير مسدود .
والطريق الذي يظنونه موصلاً هو :
دخول البرلمانات والانتخابات، وإعلان صوت الإسلام من هناك ، مادام لا يُسْمَح بإعلانه من غير هذا الطريق .
وكما ناقشنا الشباب المتعجل ، الذي يدعو إلى حمل السلاح وملاقاة العدو ، ورأينا - على ضوء الواقع ، وعلى ضوء ما حدث في حماة - أن الصدام مع السلطة قبل تكوّن " القاعدة المسلمة " ذات الحجم المعقول ، عبث لا يجنى منع العمل الإسلامي إلا ما جناه في حماة .
كذلك نناقش الشيوخ المتعجلين ، الذين يظنون أنهم يحركون العمل الإسلامي بولوج هذا الطريق غير المسدود ، ويصلون عن طريقه إلى تحقيق الأمل المنشود .
نقول لهم نفس الشيء ، إن استخدام هذا الطريق عبث لا يؤدى إلى نتيجة قبل تكوّن " القاعدة المسلمة" ذات الحجم المعقول ! ولنفرض جدلاً أننا توصلنا إلى تشكيل برلمان مسلم مائة في المائة ، كل أعضائه يطالبون بتحكيم شريعة الله ! فماذا يستطيع هذا البرلمان أن يصنع بدون " القاعدة المسلمة " التي تسند قيام الحكم الإسلامي ، ثم تسند استمراره في الوجود بعد قيامه ؟!
انقلاب عسكري يحل البرلمان ، ويقبض على أعضائه فيودعهم السجون والمعتقلات ، وينتهي كل شئ في لحظات !!
إنه تفكير ساذج رغم كل ما يقدم له من المبررات ، وفوق ذلك فهو يحتوى على مزالق خطيرة تصيب الدعوة في الصميم ألا وهي :
أولاً : المزلق العقدي :
فكيف يجوز للمسلم الذي يأمره دينه بالتحاكم إلى شريعة الله وحدها دون سواها ، والذي يقول له دينه إن كل حكم غير حكم الله هو حكم جاهلي ، لا يجوز قبوله ، ولا الرضى عنه ، ولا المشاركة فيه .
كيف يجوز له أن يشارك في المجلس الذي يشرع بغير ما أنزل الله ، ويعلن بسلوكه العملي - في كل مناسبة - أنه يرفض التحاكم إلى شريعة الله ؟!
كيف يجوز له أن يشارك فيه ، فضلاً عن أن يُقسم يمين الولاء له، ويتعهد بالمحافظة عليه ، وعلى الدستور الذي ينبثق عنه ، والله يقول سبحانه:
( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) [سورة النساء 4/140] .
وهؤلاء حديثهم الدائم هو مخالفة شريعة الله ، والإعراض عنها ؛ ولا حديث لهم غيره ينتظره المنتظر حتى يخوضوا فيه ! فكيف إذن يقعد معهم ؟!(68/180)
كل ما يقال من مبررات: أننا نُسْمعهم صوت الإسلام ، أننا نعلن رفضنا المستمر للتشريع بغير ما أنزل الله ، أننا نتكلم من المنبر الرسمي فندعو إلى تحكيم شريعة الله ، كل ذلك لا يبرر تلك المخالفة العقدية الواضحة .
يقولون : ألم يكن صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قريش في ندوتها ليبلغها كلام الله ؟!
بلى، ولكنه لم يكن يشاركهم في ندوتهم ، ولو أن مسلماً يدعو إلى تحكيم شريعة الله ، استطاع أن يذهب إلى ندوة الجاهلية المعاصرة ، ويُسْمح له بالكلام فيها كما كانت تَسْمح الجاهلية الأولى لرسول ا صلى الله عليه وسلم ، لكان واجباً عليه أن يذهب وأن يبلغ ، لأنه في هذه الحالة لا يكون " عضواً " في الندوة ، إنما هو داعية من خارجها ، جاء يدعوها إلى اتباع ما أنزل الله ، فلا الندوة تعتبره منها ، ولا هو يعتبر نفسه من الندوة ، إنما هو مبلغ جاء يلقى كلمته ثم يمضى .
أما المشاركة في " عضوية " الندوة بحجة إتاحة الفرصة لتبليغها كلمة الحق ، فأمر ليس له سند من دين الله .
ثانياً : " تمييع القضية بالنسبة ( للجماهير ) " :
إننا نقول للجماهير في كل مناسبة إن الحكم بغير ما أنزل الله باطل ، وإنه لا شرعية إلا للحكم الذي يحكم بشريعة الله ؛ ثم تنظر الجماهير فترانا قد شاركنا فيما ندعوها هي لعدم المشاركة فيه ! فكيف تكون النتيجة ؟!
وإذا كنا نحن نجد لأنفسنا المبررات للمشاركة في النظام الذي نعلن للناس أنه باطل ، فكيف نتوقع من الجماهير أن تمتنع عن المشاركة ، وكيف تنشأ " القاعدة الإسلامية " التي سيقوم عليها الحكم الإسلامي ، القاعدة التي ترفض كل حكم غير حكم الله ، وترفض المشاركة في كل حكم غير حكم الله !
إننا نحسب أننا بدخولنا البرلمانات ، نقوم " بعمل " ييسر قيام " القاعدة الإسلامية " ، لأنه يدعو إليها من فوق المنبر الرسمي ، الذي له عند الناس رنين مسموع ، ولكنا في الحقيقة نعوق قيام هذه القاعدة بهذه التمييع الذي نصنعه في قضية الحكم بما أنزل الله .
فلا يعود عند الجماهير تصور واضح للسلوك " الإسلامي " الواجب في هذه الشئون ، ولن تتكون القاعدة بالحجم المطلوب لقيام الحكم الإسلامي حتى ينضج وعى الجماهير ، وتعلم علم اليقين أن عليها - عقيدة - أن تسعى لإقامة الحكم الإسلامي وحده دون أي حكم سواه ، وألا تقبل وجود حكم غير حكم الله .
ثالثاً : أن لعبة "الدبلوماسية" كما أثبتت تجارب القرون كلها ، لعبة يأكل القوى فيها الضعيف ، ولا يتاح لضعيف من خلالها أن " يُغافل " القوى فينتزع من يده شيئاً من السلطان !
والقوة والضعف - في لعبة الدبلوماسية - لا علاقة لها بالحق والباطل ! ولا علاقة لها بالكثرة والقلة !
فالأقلية المنبوذة من الشعب ، المكروهة منه ، التي تسندها في الداخل القوة العسكرية ، وتسندها من الخارج إحدى القوى الشيطانية الموجودة اليوم في الأرض هي القوية ، ولو لم يكن لها أنصار ، والأكثرية المسحوقة المستضعفة هي الضعيفة ، ولو كانت تمثل أكثرية السكان !
ومن ثم فالجماعات الإسلامية - الداخلة في التنظيمات السياسية لأعداء الإسلام - هي الخاسرة في لعبة الدبلوماسية، والأعداء هم الكاسبون! سواء بتنظيف سمعتهم أمام الجماهير ، بتعاون الجماعات الإسلامية معهم ، أو تحالفها معهم ، أو اشتراكها معهم في أي أمر من الأمور ؛ أو بتمييع قضية الإسلاميين في نظر الجماهير ، وزوال تفردهم وتميزهم الذي كان لهم يوم أن كانوا يقفون متميزين في الساحة ، لا يشاركون في جاهلية الساسة من حولهم ، ويعرف الناس عنهم أنهم أصحاب قضية أعلى وأشرف وأعظم من كل التشكيلات السياسية الأخرى ، التي تريد الحياة الدنيا وحدها ، وتتصارع وتتكالب على متاع الأرض .
ولا تعرف في سياستها الأخلاق الإسلامية ولا المعاني الإسلامية ؛ فضلاً عن مناداتها بالشعارات الجاهلية ، وإعراضها عن تحكيم شريعة الله .
ولم يحدث مرة واحدة في لعبة الدبلوماسية أن استطاع المستضعفون أن يديروا دفة الأمور من داخل التنظيمات السياسية التي يديرها أعداؤهم ، لأن " الترس " الواحد لا يتحكم في دوران العجلة ، ولكن العجلة الدائرة هي التي تتحكم في " التروس " ! وما حدث من " إصلاحات " جزئة عارضة في بعض نواحي الحياة على يد " الإسلاميين " لا تطيقه الجاهلية ولا تصبر عليه ، وسرعان ما تمحوه محواً وتبطل آثاره .
وتظل الآثار السيئة التي ينشئها تمييع القضية باقية لا تزول ، وشرها أكبر بكثير من النفع الجزئي الذي يتحقق بهذه المشاركة ، حتى لكأنما ينطبق عليه قوله تعالى:
( فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ) [سورة البقرة 2/219]
أما توهم من يتصور أن الجاهلية تظل غافلة حتى يتسلل الإسلاميون إلى مراكز السلطة ، ثم - على حين غفلة من أهلها - ينتزعون السلطة ويقيمون الحكم الإسلامي ، فوصفه بالسذاجة قد لا يكفي لتصويره ! وتجربة الجزائر تكفي - فيما اعتقد - لإبطال هذا الوهم - إن كان له وجود حقيقي في ذهن من الأذهان .
أخيراً :
أما الفريق الثالث من المتعجلين فهم : أصحاب " التفكير العلمي" و"الدراسات العلمية"!(68/181)
وقد نبت هذا الاتجاه أو تمركز عند الشباب العربي المسلم الذي يعيش في أمريكا ، وإن كانت له جذور مشابهة ، أو مماثلة عند غيرهم ممن يعيش في أوربا أو في " العالم القديم " !
يقول أصحاب هذا الاتجاه إن " التجربة الشرقية " قد استنفدت أغراضها ، ووصلت إلى طريق مسدود .
وإنه أن الآوان أن تتسلم قيادة العمل الإسلامي عقول جديدة ، تفكر بطريقة جديدة تكفر تفكيراً علمياً ، مبنياً على دراسات علمية ؛ فتقدم للناس الحلول العملية لمشكلاتهم ، مستمدة من الإسلام ، وهذا هو الطريق !
ومن كل قلوبنا نتمنى للقيادة الجديدة التوفيق ، ولكنا نتدارس معهم مدارسة " علمية " و " واقعية " في مزالق هذا الطريق .
إن تصور أن كل الذي ينقص الناس هو معرفة الحلول الإسلامية لمشكلاتهم ، وأنهم إن عرفوا ووثقوا واطمأنوا أن الحلول الإسلامية أفضل من الحلول الرأسمالية والاشتراكية ، ووثقوا بأنها حلول عملية لا نظرية ، ولا دعائية ، ولا خطابية ، فسيقبلون لتوهم على الإسلام ، ويقيمون لتوهم حكومة إسلامية .
إن هذا التصور قد نشأ - على الأرجح - من حياة أولئك الشباب في ظل الديمقراطية الغربية ، حيث الحرية متاحة لكل الناس أن يفكروا ، وأن يجربوا ، وأن يدعوا ، وحيث يوجد احتمال - ظاهري على الأقل - أنه حين يقتنع الناس بشيء فإنهم يسعون إلى تطبيقه في عالم الواقع ، ويتمكنون - عن طريق الأجهزة الديمقراطية - من تنفيذه ( ).
ونفترض جدلاً أن كل الذي ينقص الناس في " العالم القديم " هو معرفة الحلول الإسلامية العملية لمشكلاتهم ، وأنهم إن اطمأنوا ووثقوا أن الإسلام يقدم لهم حلولاً عملية أفضل مما تقدم الرأسمالية والاشتراكية ، فسيسعون بالفعل لإقامة الحكم الإسلامي .
نفترض هذا ، ونسقط كل الدلالة المرة التي تدل عليها مرور مقتل الإمام الشهيد ومرور مذابح السفاح هينة على قلوب الناس ، لأن وعيهم بأن تحكيم شريعة الله جزء من عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ما زال ناقصاً جداً ، وما زال في حاجة إلى بيان طويل ودعوة وتربية ، حتى تصحح العقيدة إلى صورتها الربانية الحقيقية التي جاء بها رسول ا صلى الله عليه وسلم من عند الله .
نفترض هذا ، ونفترض أنه بمجرد أن تعرض عليهم الأبحاث العلمية المتضمنة للحلول الإسلامية العملية سيقتنعون بالإسلام ، وبضرورة " الحل الإسلامي "، ويسعون إلى التطبيق ، أو يطالبون بالتطبيق ؛ فماذا تكون النتيجة ؟
هل تقول روسيا وأمريكا إنه ما دام المسلمون قد اقتنعوا عن طريق الدراسة العملية والتفكير العلمي بضرورة إقامة حكومة إسلامية فدعوهم وشأنهم ! وليقيموا حكمهم الإسلامي الذي ينشدون ؟! أم إنهما ستكلفان عملاءهما - كما تفعلان الآن - بتذبيح المسلمين وتقتيلهم ، وتشريدهم وتعذيبهم ، لكي يتخلوا عما هم مقدمون عليه من إقامة حكومة إسلامية في الأرض؟!
وعندئذٍ :
هل يكفي "الاقتناع" وحده ، و" التفكير العلمي " وحده ، لمواجهة التعذيب الوحشي الذي يصب على المسلمين المطالبين بتحكيم شريعة الله ؟ أم يحتاج الأمر إلى " عقيدة " ؟ .. العقيدة التي تقول إنها قضية كفر وإيمان لا قضية الحل " الأفضل ".. قضية جنة ونار ، لا قضية مشكلات عملية في الحياة الدنيا تحتاج إلى حل ! والتي يستيقن الناس بها أنهم لا يكونون مؤمنين ، ولا يتقبلهم الله يوم القيامة إذا أرادوا التحاكم إلى غير شريعة الله ، أو رضوا بحكم غير حكم الله .
ولا شك أن الإسلام هو دين الدنيا والآخرة ، وأنه ليس عقيدة فحسب ، إنما هو عقيدة ومنهج كامل للحياة ، محسوب فيه كل احتياجات البشرية في الحياة الدنيا ، بل محسوب فيه أن ترتفع الحياة البشرية عن مستوى الضرورة ، وتصل إلى درجة " الجمال " ودرجة " الإحسان " في كل شئ :
[ إن الله كتب الإحسان على كل شئ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، و ليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته ] .
وأنه يقدم لتلبية هذه الاحتياجات وتنميتها وترقيتها أفضل منهج وأحنه:
( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) [سورة المائدة 5/50]
صحيح هذا كله ، ولكن لأمر ما أمر الله رسول صلى الله عليه وسلم أن يقيم الاعتقاد الصحيح أولاً ، ويجلى للناس الألوهية ، ويبين لهم أن الالتزام بما جاء من عند الله من أمر ونهي هو مقتضى هذه العقيدة الذي لا تصح بدونه ، ثم - بعد ذلك - أنزل " الحلول العملية " لمشكلات البشرية ، وجعل الالتزام بها قضية كفر وإيمان ، وقضية جنة ونار :
( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ....) [سورة النساء 4/65]
( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ )[سورة المائدة 5/44]
( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ) [سورة الأعراف 7/3]
( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) [سورة الشورى 42/21](68/182)
فإن نحن قدمنا " الحلول العملية " للناس قبل أن يستقر في خلدهم - إلى درجة اليقين - أن التزامهم بشريعة الله أو عدم التزامهم بها هو قضية الإيمان والكفر.. قضية الجنة والنار.. فهل يتم الأمر على الصورة التي يتخيلها الباحثون ؟!
وما القول في الذين يقولون لك - وهم كثير - بعد أن تقنعهم عن طريق البحث العلمي والدراسة العلمية أن الحل الإسلامي هو الأفضل ، يقولون لك : أقتنعنا ! وما كنا نتصور - والله - أن الإسلام بهذه العظمة وهذا الشمول وهذه القدرة على تقديم الحلول العملية لمشكلات الناس ! هلموا ! أقيموا الدولة الإسلامية ، وحين تقيمونها ستجدوننا أول المستحبين !
هل تقوم الدولة الإسلامية على هذه الصورة ؟!
إن الاقتناع العقلي وحده لم يغير قط في عالم الواقع ، حتى في أوقات السلامة وألمن ، فضلاً عن حالات الاضطهاد الوحشي ! وهذه هي " الفلسفة " منذ سقراط وأرسطو إلى وقتنا الحاضر .
هل غيرت شيئاً في واقع الأرض ؟ إلا أن تكون عقيدة أو مرتكزة على عقيدة ، فعندئذ تكون العقيدة هي التي تغير واقع الناس .
والذي أثبتته التجربة في "العالم القديم" أن هذه العقيدة هي التي تحتاج قبل كل شئ إلى تصحيح. لأنها فرغت من محتواها خلال الأجيال، وفي القرن الأخير خاصة، فأصبحت في حاجة ملحة إلى بيان حقيقتها، ثم تربية الناس على مقتضى هذه الحقيقة حتى يصبح سلوكهم العملي في كل المجالات - ومن بينها مجال السياسة والحكم، والاجتماع والاقتصاد، واعلم والفكر - مطابقاً لمقتضيات لا إله إلا الله.
ونحن مع ذلك لا نقول للباحثين العلميين لا تبحثوا! بل نحن نفرح بكل بحث متعمق يظهر من حقائق الإسلام ما كان خافياً من قبل. ولكن فيم يكون البحث؟ وعلى أي نحو يكون؟
إن هناك في الحياة البشرية - وفي الإسلام كذلك - ثوابت ومتغيرات.
هناك أمور ثبتها الله سبحانه وتعالى وأمر بتثبيتها على صورتها في حياة الناس، كعقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله - بمعناها الشامل المتكامل الذي نزلت به من عند الله، والذي يشتمل فيما يشتمل على الالتزام بكل ما جاء من عند الله - والعبادات بجملتها وتفصيلاتها، والحدود، وغير ذلك مما فصله الفقهاء.
وهناك أمور متغيرة أذن الشارع بالاجتهاد فيها، ولكنه قيدها - في تغيرها الدائم - بمحاور ثابتة أو أصول ثابتة، لا يجوز أن تحيد عنها في أثناء تغيرها ونموها بما يلائم ما يجد من أمور في حياة الناس.
فحين نبحث اليوم بحثاً علمياً في الحلول الإسلامية الواقعية للمشاكل الحاضرة ففي أي شئ نبحث: في المحاور الثابتة أم في التفصيلات المتغيرة؟
أما البحث في المحاور الثابتة فواجب، وهو جزء من الفقه اللازم لهذا الدين. وكلما اتسع علم الناس بحقائق دينهم كان ذلك أوفق لهم، وأحرى باستقامة طريقهم.
أما المتغيرات - وخاصة في المشاكل الاقتصادية التي هي عقدة العقد في حياة الناس اليوم - فحين نبحث فيها، فلمن نقدم البحث على وجه التحديد؟ وعلى "مقاس" من نقيم البحث؟ أو بعبارة أخرى: على أساس احتياجات أي قوم من الأقوام، وأي زمان من الأزمان؟!
إنه لابد من ارتياد الطريق الطويل .. المجهد الشاق .. البطيء الثمرة .. المستنفد للطاقة ، طريق التربية، لإنشاء " القاعدة المسلمة " الواعية المجاهدة ، التي تسند الحكم الإسلامي حين يقوم ، وتظل تسنده لكي يستمر في الوجود بعد أن يقوم . وقد رأينا في دراستنا التي ناقشنا فيها الوسائل الثلاثة التي يستخدمها المتعجلون - كل من زاويته - أنها كلها تؤدى إلى طريق مسدود، وإن بدا في ظاهر الأمر أنها هي "الحركة" التي تخرج "بالعمل" من حالة الجمود !
وحين نقول إنه لابد من التربية أولاً لإنشاء القاعدة المسلمة الواعية المجاهدة ، يثور كثير من التساؤلات والتصورات :
ربينا بما فيه الكفاية !
إلى متى نظل نربى دون أن " نعمل " !
ما جدوى التربية وكلما ربينا جيلاً من الشباب قضى عليه الأعداء !
ما المقصود بالتربية ؟!
ونريد الآن أن نلقى بعض الضوء على المقصود بالتربية ، ولكن لابد من تصحيح بعض هذه التصورات أولاً تمهيداً لبيان الصورة الصحيحة المطلوبة ، المثمرة بإذن الله .
إن الذين يقولون : ربينا بما فيه الكفاية ، يغفلون عن حقائق كثيرة واقعة في الساحة ، ربما كان أفضل لون من التربية قام في الساحة حتى اليوم هو الذي قام به الإمام الشهيد بين " الإخوان العاملين " الذين رباهم على عينه .
وأفضل جوانب هذه التربية هو :
1 - الأخوة المتينة التي رباها في أتباعه .
2 - الروح الفدائية الصادقة التي طبعهم بها .
3 - والجندية الملتزمة التي زرعها في نفوسهم .
4 - تحرير لا إله إلا الله في حسهم من تواكل الصوفية وتواكل الفكر الإرجائى ، وتحويلها في سلوكهم إلى حركة واقعية وعمل .
ولكنا رأينا كم من الجوانب كان ينقص هذه التربية ذات الطابع الأصيل العميق ، وكم أثر هذا النقص في خطوات العمل الإسلامي بعد مقتل الإمام الشهيد بصفة خاصة.(68/183)
ولا ندرى كم من هذه الجوانب كان الإمام الشهيد قمينا بإضافته أو تصحيحه لو امتد به العمر ، ولكنا نجد على الساحة الواقعية أن الجنود قد ربوا ليكونوا جنوداً فحسب، لا ليكونوا قادة بعد ذهاب قائدهم ، كما ربى رسول ا صلى الله عليه وسلم أصحابه ليكونوا جنوداً فائقين تحت قيادت صلى الله عليه وسلم ، وليكونوا في الوقت ذاته " صفاً ثانياً " بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، كما كان الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم في قيادة الأمة ، وكما كان بقية الصحابة رضوان الله عليهم في كل ميدان انتدبوا إليه .
نجد غياب "الصف الثاني" على المستوى المطلوب للجماعة التي تتزعم العمل الإسلامي في ظروفه الراهنة واضحاً ملموساً كلما امتد الزمن بعد مقتل الإمام الشهيد ، فندرك - على الصعيد الواقعي - أنه كان هناك نقص في التربية ، في هذا الجانب ، ينبغي أن يستدرك ونحن نُعدّ لمسيرة طويلة قد تستغرق بضعة أجيال من عمر الدعوة قبل أن يكتب لها التمكين في الأرض .
ومن قبل لاحظنا العجلة في الإعداد والعجلة في التحرك والعجلة في السماح للجماهير بالانتماء للحركة قبل تربية العدد المناسب من الدعاة ، الذين هم جنود تحت قيادة القائد ، وقادة في ذات الوقت ومربون .
وكيف كان لهذا كله آثاره في خط السير ، والمفروض - ونحن نعد للمسيرة الطويلة - أن نتلاقى كل هذه الجوانب من النقص التي اشتملت عليها الجولة الأولى ، أي أن نغير أسلوب التربية بما يتناسب مع أهداف الحركة ، وطول المسيرة ، ومشقة الطرق ، وكيد الأعداء .
فإذا نظرنا إلى الساحة الآن فقد نجد نوعيات أفضل في بعض الجوانب ، ولكنا نجد نقصاً كبيراً في التربية في جوانب أخرى .
نجد شباباً أكثر وعياً بمفهوم لا إله إلا الله ، وصلتها الوثيقة بتحكيم شريعة الله ، أي : أكثر إدراكاً لقضية " الحاكمية " التي كانت قد أُجملت إجمالاً من قبل جعلها تخفي على كثير من الدعاة أنفسهم .
ونجد شباباً أكثر إدراكاً لطبيعة المعركة وما يلقى فيها من الأسلحة الظاهرة والخفية ، ودور الأجهزة المختلفة في محاربة الدعوة عن طريق مناهج التعليم ووسائل الإعلام ، وإثارة قضايا سياسية واجتماعية وفكرية معينة ، تتجه بالناس وجهة بعيدة عن الإسلام ، وتبعدهم باستمرار عن التلقي من المصدر الرباني .
ولكن هؤلاء الشباب - في كثير من الأحيان - ينقصهم التجمع الصحيح ، فيتجمعون في جماعات صغيرة مبعثرة ، يكيد بعضها لبعض ، أو يتربص بعضها ببعض ، أو يتجادل بعضها مع بعض بروح الخصام لا بروح المودة .
ويمكن أن تنقسم الجماعة الصغيرة إلى جماعات أصغر عند أول اختلاف على تفسير نص من النصوص ، أو تقويم قضية من القضايا .
مما يقطع بأن التربية الجماعية عندهم ناقصة ، وأن الروح الفردية فيهم أقوى ، بينما التربية المطلوبة - لتنشئة المسلمين عموماً فضلاً عن الجيل الذي يقع عليه عبء المواجهة الأولى مع الجاهلية - ينبغي أن توازن بين الروح الفردية والروح الجماعية عند أفراد الجماعة ، فلا تحيلهم أصفاراً عن طريق تنمية الروح الجماعية على سحاب الروح الفردية ، ولا تنمى فيهم الفردية الجانحة فيعتز كل منهم بفكره وبذاته وبتقييمه الخاص للأمور ، فلا تأتلف منهم جماعة ، ولا يلتئم لهم تجمع له وزن .
كما أن هذا الشباب - في معظم الأحيان - تنقصه الخبرة الحركية ( وهي جزء من التربية المطلوبة ) ، مع أنه أكثر وعياً من الجيل السابق في كثير من القضايا ذات الطابع الفكري .
ومن أجل هذا يتعجل في الصدام مع السلطة ، وفي استعراض قوته في قضايا لا تقدم ولا تؤخرن أو في قضايا ذات وزن وذات خطر ولكن لا يستطيع المسلمون في حالتهم الراهنة أن يغيروا شيئاً من مجراها .
مثال عملي :
تجمع شباب الجماعات الدينية بجامعة الإسكندرية ذات مرة ، للحيلولة بالقوة دون إقامة حفل كانت إدارة الجامعة قد رتبته لمكايدة الجماعات الدينية خاصة والروح الإسلامي عامة ، وبالفعل نجح شباب الجماعات الدينية في منع إقامة الحفل رغم كل الترتيبات الرسمية التي رتبت له ، فلم يحدث ما كان مرتباً من رقص وغناء وتمثيل مبتذل .
هذا نموذج لبعض " النشاط " الذي كانت تقوم به الجماعات الدينية في الجامعات ؛ فما تقويمه الصحيح ؟
إن استعراض القوة على هذا النحو كان بالفعل يرهب " المتحررين " و" المتحررات " من الطلبة والأساتذة على السواء .
فلا تجرؤ " فتاة جامعية " على التبذل الرخيص الذي يقع من كثير من " الفتيات الجامعيات " حتى كأنهن راقصات في ملهى ، أو عارضات أزياء في محل تجارى متبذل ، لا طالبات علم يتحشمن على الأقل في وقت تلقي العلم ، كما تتحشم الفتاة الأوروبية الملحدة الكافرة المنسلخة تماماً من كل دين أو أخلاق أو تقاليد ، في أثناء الساعات التي تتلقى فيها العلم .
قد يكون هذا سلوكاً مناسباً لو أن لتلك الجماعات الدينية وجوداً دائماً في الجامعات ، بحيث يكون لهذا الوجود ضغط مستمر يقاوم ضغط الشيوعيين والملحدين و" المتحررين " لإفساد الأخلاق ، وصرف الشباب والفتيات عن القيم الدينية ، وإشاعة التحلل الخلقي بينهم .(68/184)
أما إذا كان وجود تلك الجماعات عابراً - كما سنبين في السطور التالية - فهل هذه العملية المفردة ستغير شيئاً حقيقياً في حياة الفاسدين والفاسدات من الأساتذة أو الطلاب ؟ أم الأجدى - وقد أتيحت الفرصة لتلك الجماعات أن توجد فترة محدودة من الزمن - أن ينصرف الجهد إلى التربية الحقيقية على مبادئ الإسلام ، وكل شاب فرد ، وكل فتاة ، وكل مدرس أو أستاذ ، تنقذهم هذه الجماعات من الوحل الذي يرتعون فيه إلى النظافة والطهر ، هو كسب للدعوة ، وعمل مثمر خير من الدنيا وما فيها كما قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :
[ لأن يهدى الله بك رجلاً خير لك من الدنيا وما فيها ] ، أو قال : [ خير لك من حمر النعم ]
لقد كانت "اللعبة" التي أبرزت تلك الجماعات الدينية إلى الوجود أن الحاكم يومئذ كان يواجه ضغطاً شديداً من التيار الشيوعي ، والتيار الناصري المتحالف معه ، فكان منطقياً بالنسبة إليه أن يستند - مؤقتاً - إلى التيار الإسلامي ، فيفسخ له المجال للعمل والحركة ، ليصد عنه هو شخصاً الضغوط التي يواجهها ، لا لينظف الجامعة من الفساد والإلحاد والكفر والتحلل الخلقي ، ولا لينشئ في البلد حركة إسلامية تطرها من تلك الأدران ! وليتعرف في ذات الوقت - عن طريق أجهزته البوليسية - على القوى الكامنة في الشباب ، ليضربها في الوقت المناسب - بعد أن تنتهي " اللعبة " - ضربة تشلها عن الحركة أو تقضى عليها !
فهل كان استعراض القوة في حادث الحفل الذي أشرنا إليه - أو أمثاله - هو السلوك المناسب إزاء هذه اللعبة ؟! أم أنه كان قمينا بالتعجيل في إنهاء اللعبة وتوجيه الضربة ؟
وحقيقة إن الضربة كانت آتية لا ريب فيها كما أشار إلى ذلك مدير السجن الحربي ؛ فبمجرد أن يحس " المسئولون " أن التيار الإسلامي قد أخذ يقوى ، يتفجر الموقف بالضرورة للقضاء على الخطر المرهوب ، والذي تخشاه الصليبية الصهيونية وكل من يعمل لحسابها في الأرض .
ولكن يختلف الأمر حين يكون كل " العمل " الذي تقوم به تلك الجماعات هو تربية شباب نظيف الأخلاق ، متطهر من الدنس ، يعرف ربه ولا يعرف رجس الشيطان ؛ فإن الحاكم يتردد كثيراً في ضربها ، ثم يتردد أكثر في استخدام الوسائل الوحشية لتعذيبها ، لأنه يومئذ لا يستطيع أن يبرر عمله الوحشي أمام الجماهير .
وفي وسع أجهزة الأمن بلا شك أن تفتعل قضية ، وأن تنشب إلى الناس جرائم لم يرتكبوها قط ولم يفكروا مجرد تفكير في ارتكابها ، وأن تحملهم - بوسائل التعذيب البربرية - على "الاعتراف" بما لم يفكروا فيه أصلاً ... ولكن الجماهير لم تعد اليوم غافلة كما كانت قبل ثلاثين سنة أو عشر ! وصارت اليوم تقدم سوء الظن بأجهزة الأمن على إحسان الظن ! ولم يعد يسهل على حاكم أن ينقض على جماعة كل عملها هو التربية الإسلامية ، فيصب عليها وحشيته وهو آمن من الإنكار والسخط .
وحقيقة إن أولئك الطغاة لا يهمهم كثيراً غضب الجماهير ، ولكن الذين يشغلونهم لحسابهم لا يحبون أن يكون عميلهم مفضوح الأمر أمام الناس ، لأن هذا يفسد اللعبة في النهاية ولا يحقق المطلوب ؛ بل إنهم في بعض الأحيان يدفعونه دفعاً إلى ما يسخط الناس عليه ، حين يكونون قد قرروا إنهاء دوره والإتيان بوجه جديد ، كما فعلوا بالسادات من قبل ، ومن بعده النميرى !
ضربنا نموذجاً من إنفاق الطاقة في قضايا لا تقدم ولا تؤخر ، ولا تغير شيئاً في الحقيقة ، إذ سرعان ما أزيلت الجماعات الدينية من الجماعات ، رجع الفاسدون والفاسدات أشد فساداً من ذى قبل !
ونضرب الآن نموذجاً من قضايا ذات خطر حقيقي ، كقضية تحكيم الشريعة الإسلامية ، وهي قضية رئيسية بالنسبة لكيان الأمة كلها ؛ والسعي إلى تحكيم شريعة الله فرض على كل مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ، لأنه هو المقتضى المباشر لتلك الكلمة العظيمة التي يعلن بها شهادة الإسلام .
نعم ! ولكن !
هل يمكن حقاً أن تقوم شريعة الله في الأرض قبل أن توجد القاعدة المؤمنة الواعية المجاهدة التي تواجه النتائج المترتبة على إعلان الحكم الإسلامي ، وأولها تحرش الصليبية الصهيونية على نحو ما حدث في الجزائر وفي تركيا ؟
وهل يكفي " الضغط الشعبي " لإقامة الحكم الإسلامي ، إن لم يكن " الشعب " الذي يمارس الضغط مستعداً لجهاد ، ومستعداً لخوض معركة طويلة الأمد ، يصبر فيها على الخوف ، والجوع ، ونقص الأموال ، والأنفس ، والثمرات كما بين الله في كتابه المنزل :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ ) [سورة البقرة 2/153-155](68/185)
أليس الأجدى إذن إنفاق الطاقة في إقامة " القاعدة المسلمة " التي تحتمل هذه التبعات الجسام ، بدلاً من إنفاقها - أو إنفاق قدر منها - في المطالبة الشفوية التي لا يترتب عليها شئ في الحقيقة ، إنما تكون كالطلقة الطائشة ، تنبه عدوك إلى مكانك دون أن تصيب شيئاً في الواقع ؟!
إن القضية ليست إلهاب حماسة الجماهير لتطبيق الشريعة الإسلامية ، فهذا وحده لا يكفي ، ولا يغير شيئاً من الواقع ، طالما كانت هذه الجماهير لا تملك إلا تلك الحماسة العاطفية ، التي يمكن أن تنطفئ بذات السرعة التي تلتهب بها .
إنما يتغير الواقع حين تُعْمِل تلك الجماهير نفسها لقضية تحكيم الشريعة على أساس أن هذا التحكيم هو المقتضى المباشر لقول لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .
والفارق الضخم - في مجال الحركة الواقعية - بين الحماسة العاطفية التي لا تنتهي إلى شئ واقعي، وبين تجنيد الناس أنفسهم لهذه القضية ، ينشأ من فارق دقيق - وخطير في الوقت ذاته - في تفهم حقيقة القضية وإدراك أبعادها .
فحين تكون القضية في حس الناس أن تحكيم الشريعة " كمالات " يكتمل بها دينهم ، ولكنهم قبل ذلك مسلمون ولو رضوا بشريعة غير شريعة الله ، وتحاكموا إليها بغير حرج في ضمائرهم ، سيكون أقصى ما يعطونه للقضية هو تلك الحماسة العاطفية التى لا تصمد للبطش الوحشي الذي يقابل به الطغاة الدعوة لتحكيم شريعة الله ، وأن إيمانهم لا يكون ناقصاً إنما يكون غير قائم أصلاً إذا تحاكموا - راضين - إلى شرائع يضعها البشر من عند أنفسهم بغير إذن من الله .
عندئذ سيجند الناس أنفسهم لتلك القضية ، لأنها ستكون في حسهم قضية إيمان وكفر ، لا مجرد "كمالات" يكملون بها إيماناً موجوداً بالفعل، مرضياً عند الله!
أما الحماسة العاطفية فمهما أعجب الدعاة مظهرها ، فلست رصيداً حقيقياً في المعركة الهائلة التي يرصدها للإسلام أعداء الإسلام .
تلك نماذج نضربها لصرف الطاقة في غير مجالها الحقيقي ، أو للتقصير في صرفها في مجالها الذي يجب أن توجه إليه ، ودلالتها أن هناك جوانب نقص في عملية التربية القائمة في ساحة العمل الإسلامي .
فإذا أضيف إلى ذلك ما يشكو منه كثير من الشباب العاملين في الدعوة من أن بعض " المسئولين " عنهم ينقصهم التجرد الكافي للدعوة ، الذي يجعل مصلحتها الحقيقة هي رائدهم ، لا ذواتهم ، ولا رغبتهم في الظهور والاستحواذ على أكبر عدد من الأنصار .
إذا وضعنا هذا كله في الميزان ؛ فهل يحق لقائل أن يقول : ربينا بما فيه الكفاية ؟!
أما الذين يسألون : إلى متى نظل نربى دون أن "نعمل" ؟
فلا نستطيع أن نعطيهم موعداً محدداً فنقول لهم : عشر سنوات من الآن ، أو عشرين سنة من الآن ؛ فهذا رجم بالغيب لا يعتمد على دليل واضح ، إنما نستطيع أن نقول لهم : نظل نربى حتى تتكون القاعدة المطلوبة بالحجم المعقول .
وواضح أن هذه الإجابة غير محددة ؛ فلا هي تحدد " الزمن المطلوب "، ولا هي تحدد "الحجم المطلوب ".
ولكن الحقيقة أنه لا يوجد بشر في الأرض يستطيع أن يعطى هذا التحديد ، لأن فيه عنصراً بل عناصر غيبية لا يمكن للبشر تحديدها.
لقد كان الوحي هو الذي ينقل خطى الجماعة الأولى بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أمره الله بادئ ذي بدء بإنذار عشيرته الأقربين ، فأخذ يدعو إلى الله سراً فترة من الوقت وهو يتحمل الأذى من عشيرته صابراً محتسباً حتى نزل الأمر الرباني بالجهر بالدعوة ، فصدع رسول ا صلى الله عليه وسلم بالأمر ، ونزل الأذى بالمؤمنين وتحركت مشاعر بعضهم للرد على الأذى ، فنزل الوحي يقول لهم : ( كفوا أيديكم ) فكفوا ، واحتملوا الأذى صابرين حتى أذن الله لهم بالقتال فقال سبحانه :
( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) [سورة الحج 22/39]
ثم جاء الأمر بقتال الذين يقاتلون المؤمنين من المشركين ، دون سواهم :
( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) [سورة البقرة 2/190]
ثم جاء الأمر بقتال المشركين كافة:
( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً...) [سورة التوبة 9/36]
واليوم وقد انقطعت الرسالات وختمت النبوة فلن يتنزل وحي يقول للمسلمين : كفوا أيديكم إلى سنة كذا ، وقاتلوا سنة كذا ! إنما هو الاجتهاد والرأي بحسب الظروف القائمة في الأرض ، وبحسب السنن الجارية التي يجرى الله بها قدره في حياة الناس .(68/186)
وهذه السنن تقول إن الانحراف الضخم الذي وقعت فيه الأمة حتى أصبح الإسلام فيها غريباً كما كان غريباً أول مرة ، يحتاج إلى جهد ضخ وزمن غير قصير حتى تعود الأمة إلى الصراط السوي ، أو حتى تعود منها فئة تحتمل الصراع والصدام مع القوى العالمية المعادية للإسلام ، وتصمد لها حتى يمدها الله بالنصر ، ويمكن لها في الأرض ، ويكون لها من رسوخ القدم في الإيمان ، وصدق العزيمة ، والشجاعة في الحق ، والزهد في متاع الدنيا ، والحرص على ما عند الله في الآخرة ، وما يجعلها تحمل العبء صابرة محتسبة ، ويجعلها تحمل أدران بقية الأمة من المنافقين وضعاف الإيمان والمتقاعسين عن الجهاد فلا يخذلونها ، بل ترفعهم هي بالمثال الرفيع الذي تضربه للناس .
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) [سورة الأنفال 8/2-4]
( مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) [سورة الأحزاب 33/23]
( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) [سورة المائدة 5/54]
( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) [سورة آل عمران 3/146]
( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) [سورة النساء 4/74]
فالزمن المطلوب للتربية هو الزمن الذي يكفل ترسيخ هذه الصفات في نفوس الفئة المختارة التي يقع عليها عبء المواجهة مع الأعداء .
وهو زمن لا يستطيع بشر أن يحدده على وجه الدقة لأنه غيب ، ولأن فيه جملة متغيرات تتغير النتيجة في كل مرة بحسب نوعها ومقدارها ألا وهي :
أولاً : الجهد الذي ينبغي أن نبذله لبلوغ هذا الهدف الأساسي :
فكلما بذلنا جهداً أكبر ، كان لنا أن نطمع في تقريب الزمن ، أما إذا تراخينا في بذل الجهد ، أو لم نوجهه الوجهة الصحيحة فسيطول الزمن ولا شك .
ثانياً : مدى استجابة الذين ندعوهم ونربيهم وهذا أمر ليس في يد البشر إطلاقاً :
( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) [سورة القصص 28/56]
إنما كلفنا الله سبحانه وتعالى أن نبذل الجهد ، وتكفل هو سبحانه بالنتائج ، لأنها تتم بقدر منه ، وبحسب مشيئته .
وإن كنا نطمع دائماً في منّ الله وكرمه ، أننا إذا صدقنا في بذل الجهد فإن الله يرتب النتائج في صالح الدعوة .
وقد رأينا بأعيننا أن استشهاد رجل واحد صدق ما عاهد الله عليه ، يصنع لهذه الدعوة من العجائب ما لا تصنعه ألف خطبة ولا ألف درس ولا ألف كتاب ، وهذا عون الله الذي وعد به سبحانه حين يصدق عباده في التوجه إليه ، والتوكل عليه ، والإيمان به .
والمتغير الثالث هو الظروف التي تحيط بالدعوة وتحيط بالأعداء ، والتي تحدد بدورها الحجم المناسب للقاعدة المطلوبة .
فحين يخلق الله ظروفاً مواتية فقد تستطيع قاعدة أصغر حجماً مما نتخيل الآن ، أن تقيم حكم الله في الأرض ، وتسانده بعد قيامه .
وحين تجرى مشيئة الله بغير ذلك - لحكمة يريدها - فقد نحتاج إلى قاعدة أكبر حجماً مما نفترض في لحظة معينة .
والحكم في هذا الأمر مسألة اجتهادية ، سواء في تقدير الحجم اللازم للقاعدة ، أو في تقدير الظروف القائمة من حولها .
ومن أجل هذه المتغيرات - وغيرها كثير - لا يستطيع بشر أن يحدد زمناً يقول فيه : نظل نربى إلى عام كذا ، ثم نبدأ " العمل " !
على أن ينبغي أن نضع في حسابنا أن التربية لا يمكن أن تتوقف في أية لحظة فهي بذاتها هدف دائم بالنسبة للأمة حتى لو قام الحكم الإسلامي ؛ فرسول ا صلى الله عليه وسلم لم يكفّ عن تربية أصحابه حين قامت الدولة ، بل استمر إلى آخر لحظة يربيهم ، وانظر مثلاً خطبته في حجة الوداع ، كذلك سار من بعده من الخلفاء الراشدين على نهج صلى الله عليه وسلم يربون الأمة وبالسلطان .
إنما بدأ الانحراف في الأمة حين نقصت التربية عن القدر المطلوب ، وحين تحولت عن النهج المطلوب .
إنما كانت إجابتنا موجهة للذين يعنون بسؤالهم : إلى متى نظل نخصص الوقت كله والجهد كله لعملية التربية المطلوبة .(68/187)
وأما الذين يقولون : ما جدوى التربية ، ونحن كلما ربينا جيلاً من الشباب قضى عليه الأعداء ! فقد سبق أن أجبنا على تساؤلهم من الواقع المشهود .
ونحن لا نعلم الغيب ، ولا نعلم إن كان الشاب الذي نربيه اليوم سيموت غداً أم يموت بعد عمر مديد ، ولا نعلم كذلك هل يثبت على الطريق أم يفتن في دينه، ولكن علينا دائماً أن نبذل جهدنا في تربيته على النهج الصحيح .
فإن شاء الله أن يمتد به العمر فهو قوة للدعوة وامتداد لها ، أما إن كان في قدر الله أن يفتن في دينه فمنذا الذي يستطيع أن يرد عنه قدر الله ؟ ومنذا الذي يستطيع أن يعرف لفرد ما يكون من أمره في الغداة ؟!
في جميع الأحوال إذن ينبغي أن نمضي في التربية ، ونحن واثقون أنها الطريق الواصل في النهاية ، حتى وإن كانت هي الطريق الشاق المجهد البطيء الطويل .
ولابد من كلمة تبين لنا على الأقل بعض أبعاد التربية المطلوبة ، وما يمكننا أن نتحدث عن كل أبعاد التربية أو عن المناهج التربوية ، فتلك بحوث متخصصة .
ونكتفي بثلاثة أبعاد لأنها ذات أهمية خاصة ، ومن أراد البسط فعليه بمراجعة مظان المسألة :
البعد الأول : " اليقين " :
يقول سبحانه وتعالى :
( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) [سورة الذاريات 51/58]
ولو أنك سألت أي إنسان في الطريق : من الذي يرزقك ؟ لقال لك على البديهة : الله !
ولكن انظر إلى هذا الإنسان إذا ضُيق عليه في الرزق ، يقول : فلان يريد أن يقطع رزقي ! فما دلالة هذه الكلمة ؟
دلالتها أن تلك البديهية التي نطق بها لم تكن " يقيناً " قلبياً ، إنما كانت بديهية ذهنية فحسب ، بديهية تستقر في وقت السلم والأمن ، ولكنها تهتز إذا عرضت للشدة ، لأنها ليست عميقة الجذور .
هل يصلح مثل هذا الإنسان لأعباء الدعوة ومشقاتها ؟!
هل يصلح لتلك الأعباء إلا شخص قد استقر في قلبه إلى درجة اليقين أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين .
أن الله هو المحيى والمميت ، أن الله هو الضار والنافع ، أن الله هو المعطى والمانع ، أن الله هو المدبر ، أن الله هو الذي بيده كل شئ .
وإذا اهتز اليقين لحظة واحدة فماذا يحدث ؟!
لقد كنا نرى في المعتقل بعض الذين يهتز في قلوبهم هذا اليقين لحظة ، فتهتز خطواتهم على الطريق ! يتسرب إلى روعهم أن هذا الشخص أو ذاك يمكن أن ينفع ، أو يمكن أن يضر .
فيتوجهون إليه يحسبون أنه يمكن أن يخرجهم مما هم فيه من الضيق ؛ فينزلقون ، وينتهي دورهم في الدعوة ، إلا أن يتوب الله عليهم فيتوبوا .
ترى كم جلسة.. كم درساً.. كم موعظة.. كم توجيهاً.. يحتاج إليها الإنسان ليرسخ في قلبه إلى درجة اليقين أن الله هو الذي يدبر ، وأن هذه المخلوقات البشرية التي يخالطها في حياته إن هي إلا أدوات لقدر الله، وأنها حين تضره فهي تضره بشيء قد قدره الله له، وحين تنفعه فإنما تنفعه بشيء قد كتبه الله له فلا يتوجه إلا إلى الله ، في سرائه وفي ضرائه سواء ، ويعلم - يقيناً - أن الخلق كلهم لا يملكون له - ولا يملكون لأنفسهم - ضراً ولا نفعا ً؟! فإذا دخل في الشدة - وطريق الدعوة مملوء بالأشواك والدماء والدموع - طلب التثبيت من الله، ونظر إلى كل ما يصيبه على أنه قدر مكتوب له .
ثم نظر إلى هذا القدر المكتوب له على أنه كله خير ، ما دام يسير على طريق الإيمان ، لأن أمر المؤمن كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ؛ وليس ذلك إلا للمؤمن .
فإذا لم يصل إلى هذا اليقين القلبي ، الذي يترتب عليه سلوك عملي ؛ فهل يصلح لحمل أعباء الدعوة ؟!
كم يحتاج الفرد الواحد حتى ترسخ هذه العقيدة في قلبه إلى درجة اليقين ؟ وكم يحتاج الجمع من الناس ؟ وكم يحتاج تكوين " قاعدة " صلبة من مثل هؤلاء ، يقوم عليها بناء دعوة ، ثم يقوم عليها - حين يأذن الله - بناء دولة ؟!
إنه لمثل هذا كان يعمل رسول ا صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً كاملة في مكة ، وبعدها سنوات في المدينة كان يعمل ، ولم يكن يقول في نفسه وهو في مكة : إلى متى نظل نربى دون أن " نعمل " ؟ فقد كان يعلم يقيناً - بما علمه ربه - أن هذا هو " العمل " الأساسي الذي يسبق كل عمل .
هذه هي " العقيدة " ، هذه هي " لا إله إلا الله " في حقيقتها الاعتقادية ، ليست مجرد إقرار ذهني بأن الله تعالى واحد .
فما أيسر أن يعتقد الذهن ذلك - وإن كان قد صعب على العرب في جاهليتهم - ولكن تبقى " شوائب " نفسية وشعورية كثيرة عالقة بهذا الاعتقاد الذهني ، ولا تظهر إلا في السلوك العملي ، في حالي الشدة والرخاء سواء ، وإن كانت الشدة هي المجهر الأقوى الذي تبرز تحته كل شوائب الاعتقاد .
( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ...) [سورة العنكبوت 29/10]
( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) [سورة العنكبوت 29/2-3] .(68/188)
لمثل هذا كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يلقى أصحابه في دار الأرقم : يربيهم ويعلمهم ، يعلمهم العقيدة الصحيحة ، ويربيهم عليها .
فليست العقيدة مفهوماً ذهنياً تستوعبه الأذهان ثم يستقر فيها هناك ! إنها على هذا النحو لا تصنع شيئاً في عالم الواقع ، ولا تغير شيئاً في عالم الواقع .
كالفلسفة في الأبراج العاجية ، لا تغير شيئاً في واقع الناس ! إنما هي " عقيدة " ، ترسخ وترسخ وترسخ ، حتى تصبح يقيناً قلبياً تنطلق على هداه مشاعر القلب ، ويجرى بمقتضاه السلوك العملي للإنسان .
وبهذه الصورة تعمل " العقيدة " في عالم الواقع .. تغير .. تهدم وتبنى .. تهدم الباطل وتبنى مكانه الحق .
وحين كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يربى أصحابه على العقيدة الصحيحة ، كان ينشئ - بقدر الله - ذلك اليقين القلبي الذي ينبثق منه السلوك العملي ، وكان - بهذا - ينشئ - بقدر الله - تلك النفوس العجيبة التي صنعت ما شاء الله لها أن تصنع من عجائب التاريخ .
بالقرآن .. بتوجيهاته الدائمة صلى الله عليه وسلم . بقيام الليل .. بالقدوة العملية في شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم . برعايته لهم في المحنة .. بالحب الفياض من قلبه العظيم لهم .
بكل تلك الوسائل مجتمعة ، تأصلت " العقيدة " في قلوب ذلك الجيل المتفرد ، فكانت تلك " الطاقة " الهائلة التي صنعت الأعاجيب .
وفي غربة الإسلام الثانية نحتاج إلى مثل ما احتاج إليه الأمر في الغربة الأولى ، إن لم يكن على ذات المستوى السامق ، فعلى أقرب مستوى إليه يطيقه البشر في جولتهم الثانية لإزالة غربة الإسلام .
كم من الزمن يستغرق هذا الأمر ؟ لا أدرى ! ولكنى أعلم يقيناً أنه مطلوب ، وأن " القاعدة " المطلوبة لابد أن تقوم على مثل هذا " الاعتقاد " في لا إله إلا الله ، الذي يملأ القلب باليقين ، ويتمثل - من ثم - في سلوك عملي .
البعد الثاني : " الأخوة " :
يقول سبحانه وتعالى:
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) [سورة الحجرات 49/10]
والأخوة من أجمل " المعاني " التي يمكن أن يتحدث عنها الإنسان ! شفيفة لطيفة كالنور ! ندية محببة إلى القلوب ، ولكن ما " الأخوة " التي وردت الإشارة إليها في كتاب الله ؟
يستطيع اثنان من البشر وهما يسيران في الطريق الواسع - في الأمن والسلامة - أن يتآخيا ! أن يسيرا معاً وقد لف كل منهما ذراعه حول أخيه من الحب.
ولكن انظر إليهما وقد ضاق الطريق ، فلا يتسع إلا لواحد منهما يسير وراء الآخر ؛ فمن أُقدّم ؟ أقدم نفسي أم أقدم أخي وأتبعه ؟
أم انظر إلى الطريق قد ضاق أكثر ؛ فلم يعد يتسع إلا لواحد فقط دون الآخر !
إنها فرصة واحدة .. إما لى وإما لأخي .. فمن أُقدّم ؟ أقول: هذه فرصتي ، وليبحث هو لنفسه عن فرصة ؟ أم أقول لأخي : خذ هذه الفرصة أنت ، وأنا أبحث لنفسي ؟!
هذا هو "المحك" .
إن الأخوة في الأمن والسلامة لا تكلف شيئاً ! ولا تتعارض مع رغائب النفس ؛ بل هي ذاتها رغبة من تلك الرغائب يسعى الإنسان لتحقيقها مقابل الراحة النفسية التي يجدها في تحققها.
أما في الشدة - أو في الطمع - فهنا تختبر الأخوة الاختبار الحق ، الذي يتميز فيه الإيثار والحب للآخرين ، ومن الأثرة وحب الذات ، التي قد تخفي على صاحبها نفسه في السلام والأمن ، فيظن نفسه " أخاً " محققاً لكل مستلزمات الأخوة !
كم جلسة .. كم درساً .. كم موعظة .. كم توجيهاً .. يحتاج إليها الإنسان الفرد ، وتحتاج إليها الجماعة ، وتحتاج إليها " القاعدة " ليرسخ في حسهم جميعاً هذا " المعنى " فلا يعود حقيقة ذهنية يستوعبها الذهن ثم ينتهي بها المقام هناك ، إنما تتحول إلى وجدان قلبى ، يتعمق في القلب حتى يصدر عنه سلوك عملي كذلك الذي ورد ذكره في كتاب الله :
( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ) [سورة الحشر 59/9]
إنه لمثل هذا كان يعمل رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو يربى أصحابه رضوان الله عليهم ، ثلاثة عشر عاماً في مكة ، وسنوات في المدينة بعد ذلك .
لم يكن يقول في نفسه وهو في مكة : إلى متى نظل نربى تلك المشاعر دون أن " نعمل " ! لأنه كان يعلم يقيناً - بما علمه ربه - أن هذا من العمل الأساسي المطلوب لإنشاء القاعدة المؤمنة التي وُجِّ صلى الله عليه وسلم لإنشائها .
وأن هذه الأخوة - فوق أنها ضرورية لإقامة القاعدة المؤمنة التي هي نواة " الأمة المسلمة " - فهي جزء من " التحقيق السلوكي " للا إله إلا الله .
فليست لا إله إلا الله وجداناً قلبياً عميقاً فحسب ، بل هي التزام بما أنزل الله ، ومن ثم فكل ما جاء من عند الله فالالتزام به هو من مقتضيات لا إله إلا الله، وقد أحب الله هذه الأخوة وامتدحها ، وأوجبها على المؤمنين به ، وأنزل فيها آيات كثيرة لعل من أبرزها :(68/189)
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) [سورة الحجرات 49/11-12]
بالقرآن .. بالمصاحبة .. بالمعايشة .. بالتوجيه المستمر .. بالقدوة في شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم . بالحب الذي يفيض من قلبه الكبير إليهم .. بالاهتمام بكل فرد منهم كأنه هو الأثير عنده .. بالممارسة العملية للمشاعر الإيمانية داخل " الجماعة " .
بهذه الوسائل مجتمعة ربى رسول ا صلى الله عليه وسلم هذه الجماعة المتآخية ، التي صنعت بتآخيها الأعاجيب ، وأقام ذلك البنيان المتين المترابط ، الذي يشد بعضه بعضاً فيقويه .
وفي غربة الإسلام الثانية ، نحتاج إلى مثل ما احتاج إليه الأمر في الغربة الأولى ، إن لم يكن على ذات المستوى السامق ، فعلى أقرب المستويات إليه .
ذلك أن الضغوط الجاهلية تفتت كل ترابط ، ما لم يكن ثيق الرباط إلى الحد الذي يتحمل كل الضغوط ، ويبقى وثيقاً رغم كل الضغوط .
كم يستغرق هذا الأمر ؟ لا أدرى ! ولكنى أعلم يقيناً أنه مطلوب ، وأن " القاعدة " التي يقع عليها عبء مواجهة الجاهلية بكل كيدها ، ينبغي أن تحقق في سلوكها العملي هذا الخلق من أخلاقيات لا إله إلا الله ، لتصبح جديرة برعاية الله ، ولكي تستطيع أن تمضى في الطريق متآخية متساندة مترابطة وهي تتعرض للأهوال .
البعد الثالث : " النظام " :
من ضرورات الحياة البشرية ، وفي هذه الأيام خاصة يتردد القول بأنه من " التحديات الحضارية " التي تواجه هذه الأمة .
والبيئة التي انتشر فيها الإسلام - بقدر من الله - تقع كلها - ما عدا النادر منها - في المنطقة الحارة والمنطقة المعتدلة الحارة ، وهذه البيئة فوضوية بطبيعتها !
إن الحياة - في معظمها -سهلة رخية ، لا أحد يموت من الجوع إلا النادر ، ولا أحد يموت من البرد إلا النادر .
أقل قدر من الطعام يمكن أن يحفظ الأولاد لأنه لا يوجد البرد القارس الذي يستهلك الطاقة ويحتاج إلى " الوقود " الغذائي المتجدد .
كذلك لا يحتاج الإنسان أن يختزن في أعصابه تدبيراً وترتيباً للمستقبل ، لأن المستقبل في حسه مثل الحاضر ، والحاضر تقضى أموره بصورة من الصور ليس فيها ترتيب مسبق ولا تدبير كثير . ومن ثم لا يحتاج الإنسان أن " يخطط " للمستقبل ، ولا أن يمد بصره أو تفكيره إلى بعيد ، فحين يأتي الغد بمشكلاته ، نحلها بذات العفوية التي نحل بها مشاكلنا الحاضرة ! ومن ثم تتسم طباع أهل المنطقة - المستمدة من تأثير البيئة - بالعفوية الشديدة و" قصر النفس "، لأن النفس الطويل لا يفترق في نتائجه العملية - في حسهم - عن النفس القصير الذي يواجه المشاكل - وقت حدوثها - وينتهي منها في لحظتها، وينصرف إلى غيرها !
وخلاصة القول أن أهل هذه البيئة - حين يتركون لتأثير البيئة وحده - قوم يكرهون النظام ، ويرونه عبئاً ثقيلاً على أعصابهم لا ينبغي أن يحملوه ، ولا ضرورة - في حسهم - لحمله .
وقوم عفويون يكرهون التخطيط والنظر إلى بعيد ، ويرونه كذلك عبئاً ثقيلاً على أعصابهم لا موجب له ، وهم أخيراً قوم قصار النفس يشتعلون حماسة لفترة موقوتة ، ثم تخبو حماستهم كأن لم تشتعل قط ، وتنصرف إلى موضوع جديد .
من هذه الطباع - المستمدة من تأثير البيئة - تسلمهم الإسلام فأنشأ منهم خلقاً آخر.
أنشأ منهم بادئ ذي بدء أمة شديدة التنظيم ، لا تكره النظام ولا تتمرد عليهن بل تسارع إليه وتمتثل لمقتضياته .
وليس بنا - هنا - أن نستطرد كثيراً إلى الوسائل التي غير بها الإسلام طباع هذه الأمة المستمدة من البيئة ، والموروثة فيها قروناً إثر قرون .
ولكنى كلما قرأت في كتب السيرة : " كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يصفنا للصلاة كما يصفنا للقتال " تهتز نفسي تأثراً وعجباً لهذا المربى العظيم r كيف كان يعد هذه الأمة لمهمتها .
لتكون "خير أمة أخرجت للناس"وأعجب لهذا الدين كيف يصنع في النفوس، فيغير من الطباع ما يبدو لأول وهلة داءً مستعصياً على الحل!
كان عليه الصلاة والسلام لا يبدأ الصلاة حتى يرى الصف قد استقام ، وكان يقوّم الصف بيديه الشريفتين ، يلصق كتف هذا بذاك ، وقدم هذا بذاك ، حتى يقوّم صف الصلاة كصف القتال ، كأنه بنيان مرصوص !
والإسلام كله نظام ودقة ، مع سماحته التي تعطف على الضعف البشرى ولا تلعنه ما دام صاحبه لا يصر عليه ، ومع نداوته التي تتعامل مع النفوس البشرية لا على أنها آلات وأدوات ، ولكن على أنها مشاعر وعواطف ، فيرفع عنها الحرج :(68/190)
( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) [سورة آل عمران 3/135-136]
( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) [سورة الحج 22/78]
( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [سورة المائدة 5/6] .
ويتبدى التنظيم واضحاً في العبادات خاصة ؛ فالصلاة مواقيت ، والصوم مواقيت ، والحج مواقيت، والزكاة مواقيت ؛ فضلاً عن التنظيم الدقيق في كل عبادة من هؤلاء ، وخاصة في الصلاة والحج .
والقرآن يعلم المؤمنين النظام والدقة في الآداب التي نسميها اليوم " الآداب الاجتماعية " :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ) [سورة النور 24/27-29] .
والتربية الإسلامية التي رباها الرسو صلى الله عليه وسلم لأصحابه جعلت منهم أمة منظمة تنظيماً دقيقاً على أساس " إنساني " لا على أساس آلي .
وتلك مزية الإسلام ؛ فهو ينظم الحياة - في جميع جوانبها - مع المحافظة على " إنسانية الإنسان " ألا يتحول إلى آلة ، فيفقد العمل دلالته النفسية التي يؤدى من أجلها ، بل يظل الإنسان - مع محافظته على النظام - واعياً لأهداف وجوده ، مريداً لتحقيقها في كل مرة ، لا مدفوعاً دفعاً آلياً إليها .
ومع النظام لم تعد العفوية هي صورة العمل في الأمة الإسلامية ، لأنه لكل عمل ضوابطه الشرعية ، وللشريعة في كل عمل " مقاصد " ينبغي تحقيقها .
ومن ثم يراجع الإنسان كل عمل يعمله ليرى هل هو في دائرة الحلال المباح أم خرج عنها، ويراجع النتائج التي يمكن أن تترتب على عمله ، ليرى هل هي متمشية مع مقاصد الشريعة أم مخالفة لها .
ومع النظام والانضباط والنظر في النتائج رباهم الإسلام على النفس الطويل والرؤية البعيدة ؛ فهناك هدف بعيد لكل فرد ، وهناك أهداف ممتدة لمجموع الأمة .
فأما الفرد فقد رباه الإسلام على أن يعمل لا ناظراً لدنياه وحدها ، ولا لغده القريب وحده ؛ بل وضع له هدفاً يتجاوز العالم المشهود كله ، والحياة الدنيا كلها .
ليصل به إلى عالم الغيب وإلى اليوم الآخر ؛ فيعمل في دنياه الحاضرة وفي لحظته الحاضرة وهو ناظر إلى عالم بعيد بعيد يتجاوز كل مدى الحس ، ولكنه حاضر في قلبه كأنه يراه أمامه ، وكأنه متحقق في هذه اللحظة .
ويعمل وفي حسه ذلك الهدف البعيد الذي يسعى كل لحظة إلى تحقيقه ، وهو الجنة ورضوان الله، هدف لا يمكن أن يوجد في حس البشرية كلها هدف أبعد منه .
ومع ذلك فهو متعلق به دائماً ، يشعر في كل لحظة أن كيانه كله مرتبط به ، وأن كل خطوة يخطوها هي خطوة على الطريق إلى ذلك الهدف البعيد .
وأما الأمة فقد رباها الإسلام على أن مهمتها لا تنحصر في تحقيق كيانها الذاتي المحدود ، ولا في أن تعيش لحظتها الراهنة ، وإنما لها هدف ممتد في الحياة الدنيا ، وممتد من الحياة الدنيا إلى الآخرة ، ذلك هو دعوة البشرية كلها إلى النور الرباني ، والجهاد لتكون كلمة الله هي العليا في كل الأرض ، لتكون شاهدة على البشرة كلها في اليوم الآخر :
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً )[سورة البقرة 2/143] .
ولقد ظلت الأمة تلاحق هذا الهدف ما يقرب من عشرة قرون متوالية ، لا تفتر حماستها له ، ولا تتقاعس عن الجهاد من أجله ، جيلاً بعد جيل ، وهذا " أطول نفس " عاشته أمة في التاريخ .
ولكن خط الانحراف الطويل الذي مررت به الأمة ، وآثاره فيها ، ظل يحدث انحساراً مستمراً في حقائق الإسلام ، وفي فاعليتها في نفوس الناس .
فارتدت الأمة رويداً رويداً إلى تأثير البيئة ، ذلك أنه في غيبة العقيدة الحية المتمكنة من النفوس تصبح البيئة هي صاحبة التأثير ، ومن ثم رجعت الأمة إلى طبيعتها الفوضوية التي تكره الانضباط ، العفوية التي تكره التخطيط ، القصيرة النفس التي تكره الرؤية البعيدة ولا تطيق المتابعة للأمد الطويل .
وإذ كانت هذه هي حالة الأمة - كما هو واضح لكل من يدرس أحوالها - فمن يصلحها ؟!(68/191)
هل تصلحها الأحزاب السياسية الموالية للغرب ، وهي لا تضع ذلك في برامجها ، ولا تقدر عليه حتى إن قصدت إليه .
وهذه هي تجربة قرن كامل من الزمان ، كانت الأمة منجرفة فيه إلى تقليد الغرب والذوبان فيه ، فما استطاعت الأحزاب الموالية للغرب ، والداعية إلى التغريب ، أن تصلح شيئاً في هذا المجال ، وظلت الأمة - إن لم تكن قد زادت - في فوضويتها الكارهة للنظام ، وعفويته الكارهة للانضباط ، وقصر نفسها الذي يشتعل حماسة للحظات ، ثم تنطفئ الحماسة وتخمد العزائم وتنصرف الجهود !
هل تصلحها الأحزاب الشيوعية ، وهي لا تضع ذلك في برامجها ، ولا تقدر عليه حتى إن قصدت إليه ، وهذه هي تجربة ما يزيد على ربع قرن في البلدان التي ابتليت بها من العالم الإسلامي ، لم تغير شيئاً من حال الناس ، إن لم تكن قد زادتهم انحرافاً في كل جوانب الحياة !
إنه لا يقدر على إصلاح آثار هذه البيئة إلا العقيدة ، ولا يقدر على إصلاحها إلا أصحاب العقيدة الصحيحة ، والواعون لحقيقتها ، الذين تربوا تربية إسلامية صحيحة ، كتلك التي رباها الرسو صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، فتستطيع هذه التربية - كما استطاعت أول مرة - أن تنشئ النفوس نشأة جديدة ، منظمة منضبطة طويلة النفس ، تزيل آثار الانحراف ، وتعيد الأمة إلى ما كانت عليه وقت استقامتها على هذا الدين ، ولا بهدف مواجهة " التحديات الحضارية " التي يذكرها بعض الناس وهم يتكلون عن " الإصلاح " المطلوب ، بل يهدف إعادة الأمة إلى " خيريتها " التي أخرجها الله من أجلها :
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) [سورة آل عمران 3/110]
وهو هدف يتجاوز كل " التحديات الحضارية " إلى ما هو أعلى وأنفس ، خير الدنيا والآخرة على السواء .
ترى كم جلسة .. كم درساً .. كم موعظة .. كم توجيهاً .. يحتاج إليها الإنسان الفرد ، وتحتاج إليها الجماعة ، وتحتاج إليها " القاعدة " ليتمثل فيها أولاً هذا " المعنى " ثم لتكون قادرة على إعطاء المثل لغيرها ، فتستطيع بالتالي تربية الأمة كلها - أو من يستجيب منها - على هذه الصفات وهذه الأخلاقيات الضرورية لها ، لتتجاوز أزمتها الحاضرة وتأخذ في الصعود ؟!
تلك ثلاثة أبعاد للتربية من بين أبعاد كثيرة في مجالات مختلفة ، ليست مثلاً خيالية ، ولا هي " تحديات " ! إنما هي شروط ضرورية لقيام القاعدة المطلوبة ، التي تستطيع أن تتحمل العبء الملقى عليها في مواجهة الجاهلية المتربصة بالكيد .
ومن هذه النماذج - ومن غيرها الذي لم نذكره - يتضح جلياً أن أمامنا شوطاً طويلاً في مجال التربية لا غنى لنا عن المضي فيه، قبل أن يحق لنا أن نتساءل: وماذا بعد ؟!
إن بعض مجالات التربية قد قطعنا فيه شوطاً ولم نصل ، وإن بعضها الآخر لم نبدأ فيه بعد! وكل تعجل في ميدان التربية بالذات لا يأتي بخير .
لأنه يكون بمثابة إقامة بنيان على غير أساس ، أو على غير أساس مكين ، فكلما ارتفع كان عرضة للانهيار .
والذين يستطيلون الطريق ، ويحسبون أن هناك طرقاً أقصر وأخصر ، ينبغي أن يأخذوا عبرة التجربة ، سواء كانت التجربة هي مذبحة حماة ، أم كانت هي التجربة " السياسية " في تركيا ؛ فإذا كنا لا نعتبر بالأحداث ، فذلك في ذاته دليل على نقس في تربيتنا يحتاج إلى علاج .
================(68/192)
(68/193)
اجتماع الجيوش القرآنية على تجريم الولايات المتحدة الصليبية
رسالة مهداة إلى الشعب العراقي المجاهد
تأليف/د. وسيم فتح الله
اجتماع الجيوش القرآنية على تجريم الولايات المتحدة الصليبية
الحمد لله منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، والصلاة والسلام على نبينا محمد قائد المجاهدين وإمام الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد؛
فإن سحب التضليل وغمامات الفتن لا تبرح تشوش على المسلم فكره وبصيرته بغية فتنته عن دينه، ولا يزال الحق نوراً ساطعاً يبدد هذه الغمام ويقشع تلك السحب، ولكن لا بد لنور الحق من منابر يرتقيها وقراطيس يُسطر عليها كما لا بد له من صدورٍ تحمل الحق وأجسادٍ تفنى في سبيل الله على بينة.
ولما تولى كِبر فتنة المسلمين عن دينهم اليوم كيانٌ مسخ حقود تلبَّس بمائة لبوس ولبوسٍ ليوهم ويضلل ويفتن المسلمين عن الحق، كان لزاماً علينا معاشر المسلمين أن نفضح هذا الكيان ولو عن طريق تقرير البدهيات، ولكنه تقرير مؤصلٌ بثوابت الشرع ومؤطرٌ بأطر الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من عزيز حميد.
لقد لبَّست الولايات المتحدة الأمريكية على العالم مصطلحات الإرهاب والتخلف والجريمة والخروج على القانون، فكان لزاماً علينا أن نحاكمها إلى بعض هذه المصطلحات ولكن بضبطٍ اصطلاحي آخر لا لبس فيه ولا غموض، ولهذا اخترت أن أضع هذه الدولة المارقة في قفص الإتهام أمام محكمة القرآن لأثبت للعالم عامةً وللمسلمين خاصةً حقيقةً ثابتةً يجب أن تستقر في روح وفكر كل واحد منا ألا وهي أن الولايات المتحدة مجرمةٌ مجرمةٌ مجرمة، نعم، لقد استقرأت وأحصيت كل ألفاظ الجريمة الواردة في القرآن الكريم فهالتني الحقيقة التالية وهي أنه ما من جريمة وردت في القرآن الكريم نصاً إلا وقد تلبست بها هذه الدولة المارقة، فوجدت لزاماً عليَّ أن أبلغ إخواني لأن تنزيل هذا الحكم القرآني على هذا الكيان المجرم بعينه هو من جنس تنزيل حكم الكفر على من استكبر عن عبادة الله على إبليس عليه لعائن الله.
وإني أسأل الله تعالى أن يوفقني في هذه الرسالة الموجزة إلى عرض أدلة تجريم الولايات المتحدة الصليبية كما أسميتها لأنه أفصح في بيان هويتها وأصول جريمتها، ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.كما أنني أردفت ببيان وسائل التصدي لجرائم هذا الكيان لدحر عصاباته المجرمة وكف بأسها عن المسلمين وعن العالم أجمعين. والله أسأل القبول لما وفقت فيه من خير والمغفرة لما زل به القلم من خطأ، إنه خير مأمول وأكرم مسؤول، والله المستعان وعليه التكلان.
فصل : تسليط جيوش القرآن على جرائم الأمريكان:
وسأعرض في هذا الفصل إن شاء الله تعالى عشر جرائم أثبتها القرآن الكريم وأثبتنا تلبُّس الولايات المتحدة بها لنخرج بناءً على ذلك بالحكم النهائي الفاصل إن شاء الله.
أولاً: جريمة الشرك والكفر:
لا يختلف اثنان في أن الولايات المتحدة الأمريكية دولة كافرة مشركة؛ ترى ذلك واضحاً في مقدمة الدستور الأمريكي كما تجده واضحاً في السواد الأعظم لشعبها. أما الدستور فحسبك منه ما يلي :"نحن شعب الولايات المتحدة وبهدف تشكيل اتحاد أفضل وإقامة العدل وتأمين الاستقرار الداخلي وللتأهب للدفاع العام ولتحسين المستوى المعيشي العام ولضمان نِعم الحرية لأنفسنا ولخلفنا،نشرع ونؤسس هذا الدستور للولايات المتحدة الأمريكية" 1
وأما السواد الأعظم للشعب الأمريكي فمن الكفار، حيث يشكل النصارى 84% من السكان ( البروتستانت 56% والكاثوليك 28%)واليهود 2% واللادينيين 10% وتشكل 4% ديانات أخرى2.
فخلاصة الأمر إذاً أن مرجعية الحكم في الولايات المتحدة علمانية كافرة، وأن السواد الأعظم فيها هم من كفرة أهل الكتاب، فاجتمع بذلك كفر النظام الحاكم وحكم السواد الكافر الراضي بهذه المرجعية الكفرية كما هو نص الدستور لديهم.
فإذا أردنا أن نتجاوز ذلك إلى الحكم بتجريم الولايات المتحدة من هذا الوجه لم ينقصنا سوى إثبات حكم الجريمة على من تلبس بوصف الكفر والشرك، وهاتيكم إخواني في الله جيوش قرآنية جرارة من لدن حكيم خبير لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولسوف أستفيض في ذكر الشواهد على المطلوب لضرورة رسوخه وتحققه في قلوبنا وعقولنا، فهلم بنا:
قال تعالى :" إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تُفتَّح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَمِّ الخِياط وكذلك نجزي المجرمين"3،
وقال تعالى:" ليُحق الحق ويُبطل الباطل ولو كره المجرمون"4
وقال تعالى:" فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذَّب بآياته إنه لا يفلح المجرمون"5،
وقال تعالى:" حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا فنُجِّي من نشاء ولا يُرد بأسنا عن القوم المجرمين"6،
وقال تعالى:" وترى المجرمين يومئذٍ مقرَّنين في الأصفاد"7،(68/194)
وقال تعالى:" ووُضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مالِ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً"8،
وقال تعالى:" ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً"9،
وقال تعالى:" يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً. ونسوق المجرمين إلى جهنم وِرداً"10،
وقال تعالى:" يوم يُنفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذٍ زُرقاً"11
وقال تعالى:" كذلك سلكناه في قلوب المجرمين. لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم"12،
وقال تعالى:" ويوم تقوم الساعة يُبلس المجرمون. ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين"13،
وقال تعالى:" ويوم تقوم الساعة يُقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون"14،
وقال تعالى:"وامتازوا اليوم أيها المجرمون"15،
وقال تعالى:" أهم خير أم قوم تُبَّع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين"16،
وقال تعالى:" إن المجرمين في ضلال وسُعُر. يوم يُسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسَّ سقر"17،
وقال تعالى:" يُعرف المجرمون بسيماهم فيُؤخذ بالنواصي والأقدام. فبأي آلاء ربكما تكذّبان. هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون. يطوفون بينها وبين حميم آن"18،
وقال تعالى:" أفنجعل المسلمين كالمجرمين. ما لكم كيف تحكمون"19،
وقال تعالى:" كل نفس بما كسبت رهينة. إلا أصحاب اليمين. في جنات يتساءلون . عن المجرمين . ما سلككم في سقر"20،
وقال تعالى:" كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون. ويل يومئذٍ للمكذبين. وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون. ويلٌ يومئذ للمكذبين. فبأي حديث بعده يؤمنون"21
فهذه تسعة عشر موضعاً في القرآن الكريم تؤكد بشاعة هذا الفعل وبشاعة من اقترفه، وهكذا اجتمعت جحافل القرآن وسرايا العقيدة القرآنية لتنقض انقضاضة الأسد على معالم كفر الطاغوت الصليبي، ولتشن الغارة على أركان هذا الكفر وتهدم بمعاول الحق معالم الشرك، ولتنطق بحكم الجريمة الأولى التي تلبست بها هذه الدويلة البائسة عدوة نفسها، ألا وهي جريمة الكفر والشرك بالله العظيم، الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد.
ثانياً: جريمة تكذيب الرسل وعداوة الأنبياء :
لقد ترددت في إثبات ما أنا بصدد إثباته من أدلة على هذه الجريمة النكراء بسبب قبح وبشاعة نفس الأدلة، ولكني تأملت في القرآن الكريم فوجدت أن الله تعالى قد فضح أعداء الأنبياء والرسل بإظهار وبيان ما ينسبونه إليهم ويفترونه عليهم زوراً وبهتاناً وكذباً، فاستأنست بذلك رغم الحرج الذي أجده في إثبات كلامهم الوقح بل إني قد أشير إلى معنى كلام بعض هؤلاء المجرمين تحرجاً من إثبات مقالاتهم الإجرامية، ولا عجب من صنيع هؤلاء إذ أنهم أحفاد من رموا الصدِّيقة مريم بنت عمران بالزنا - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة - وأحفاد من رموا الأنبياء بالسحر والكفر والعياذ بالله. وفيما يلي نماذج معاصرة لجرائم هؤلاء قد أثبتُّ بعضاً منها دون استطراد ترفعاً عن مجلسهم القبيح ولقد استفاضت مقولات هؤلاء المجرمين في وسائل الإعلام، كما أنني أشرت إلى بعض المراجع للتوثق وإن كنت أدعو إخواني إلى عدم العودة إلى هذه المراجع من باب هجر الوقاية من سموم هؤلاء عملاً بأمر الله تعالى:" وقد نزَّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً"22.
وقبل عرض أدلة إدانة بعض مجرمي الولايات المتحدة الصليبية هذه ، أنوِّه إلى أن حكومة الولايات المتحدة قد سكتت في الجملة على أقوال هؤلاء بما يفيد الإقرار الضمني لمقولاتهم بحيث يلتحم جبن الحكومة مع وقاحة الشعب الذي تفوه بهذه القبائح ليكون الجميع شريكاً في هذه الجريمة:
1. عدو الله جيري فالويل Je r ry Fa r well
وهو قسيس إنجيلي معروف، ويقيم في منطقة فيرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية وله برنامج أسبوعي إذاعي وتلفزيوني يصل إلى أكثر من 10 مليون منزل أسبوعيا، وله جامعة خاصة أصولية تسمى جامعة الحرية (Libe r ty Unive r sity) يهاجم صلى الله عليه وسلم من خلال وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى ، إضافة إلى موقعه الخاص على الإنترنت23، يضع في صفحته الأولى تأريخاً زائفاً عن النبي صلى الله عليه و على آله وسلم، ومما قاله هذا المجرم - في برنامج " ستون دقيقة " الأمريكي و أذيع في 6 أكتوبر 2002م - وصف المجرم فالويل- رسول الله محمد بن عبد الله بأبي هو وأمي r ، بأنه "إرهابي" ، وقال " أنا أعتقد أن محمداً ( r )كان إرهابياً. لقد قرأت ...كتابات لمسلمين ولغير مسلمين، - لكي أقرر- أنه كان رجلاً عنيفاً، و رجل حرب".
2. عدو الله بات روبرتسون Pat r obe r tson(68/195)
وهو قسيس إنجيلي معروف باهتماماته السياسية وتأييده المطلق للمسخ المسمى "إسرائيل" ويمتلك عدداً من المؤسسات الإعلامية ومنها إذاعة الشرق الأوسط المتخصصة في التنصير في منطقة العالم العربي. كما سعى بات روبرتسون إلى الترشح لمنصب الرئيس الأمريكي في عام 1988، وله موقعه الإليكتروني يبث من خلاله سمومه النتنة24 ، و مما قاله هذا الهالك في برنامج تلفزيوني أذاعته قناة فوكس الأمريكية في 18 سبتمبر 2002 م من خلال برنامج (هانتي وكولمز) الذي تبثه قناة (فوكس نيوز)، حيث قال عن الرسول محمد بأبي هو وأمي r أنه " كان مجرد متطرف ذو عيون متوحشة تتحرك عبثا من الجنون"، وقال :" لقد كان سارقاً وقاطع طريق" وقال :" إن ما يدعو إليه هذا الرجل في رأيي الشخصي ليس إلا خديعة وحيلة ضخمة "
ج. جيري فاينز Je r ry Vines .
هو راعي كنيسة في (جاكسونفيل فلوريدا)، يصل عدد أتباعها إلى 25 ألف شخص، وهو من أبرز المتحدثين الأمريكيين في المؤتمر السنوي للكنائس المعمدانية الجنوبية، الذي يُعتبر أكبر مؤتمر ديني يعقد في كل عام. وقام الرئيس الحالي جورج بوش الابن والرئيس السابق بل كلينتون بمدح هذا القسيس واعتباره من المتحدثين بصدق عن دينهم. وله موقعه على الشبكة25 ، ولقد تهجم هذا الهالك على سيد الخلق عليه أفضل الصلاة و التسليم، و تلفظ بأقذع العبارات. حيث أصدر هذا الرجل تصريحات مليئة بالكراهية والعداء للإسلام خلال الاجتماع السنوي للكنيسة المعمدانية الجنوبية، والذي عقد في مدينة سانت لويس في ولاية «ميسوري الأميركية» حيث تحدث بافتراءات آثمة في حق صلى الله عليه وسلم :
* اتهمه بأنه " شاذ يميل للأطفال ويتملكه الشيطان"
* وأنه " تزوج من (12) زوجه أخرهم طفلة عمرها تسع سنوات"
* وأضاف فاينز أن "الله الذي يؤمن به المسلمون ليس الرب الذي يؤمن به المسيحيون
فعليه لعائن الله المتتابعة، هذا وقد رفض قادة الكنيسة المعمدانية الجنوبية إدانة تصريحات فاينز، مما يدل على تبنيهم لها وإثارتهم روح التعصب والكراهية بين أبناء الشعب الأميركي نفسه.
هذا غيض من فيض، ولولا اشمئزاز النفس والتحرج من الإثم لأثبتُّ المزيد، ولكن جبل الملح يكفيك أن تذوق منه قبصةً واحدة. هذا ولا بد من الإشارة ولو سريعاً إلى ما تمثله الرموز الدينية السابقة من مرجعية دينية للتيار الأصولي اليميني المتطرف الحالي والحزب الجمهوري الذي يمثله الرئيس الأميركي الحالي، وللدلالة على ذلك نذكر ما يلي :
1. فرانكلين جراهام : هو الذي قرأ الأدعية الافتتاحية لمباركة الفترة الرئاسية للرئيس الأميركي الحالي.
2. حضور الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش الابن عن طريق الأقمار الصناعية المؤتمر السنوي للكنيسة المعمدانية الجنوبية.
3. قيام الحزب الجمهوري بتكريم كل من بات روبرتسون وجيري فالويل لمساهمتهما في دعم الحزب الجمهوري والتيار اليميني المعارض.
4. مدح الرئيسين الأميركيين السابق والحالي لجيري فاينز باعتباره من المتحدثين بصدق عن دينهم.
5. قيام روبرتسون عام 1989م، بتأسيس منظمة سياسية تسمى(التحالف المسيحي26)، تهدف إلى توحيد أصوات المتدينين من التيار اليميني في السياسة والانتخابات الأميركية، وقد لعب هذا التحالف دوراً كبيراً في فوز الرئيس الحالي للولايات المتحدة.
6. قيام البيت الأبيض بالإعلان عن منحة قدرها نصف مليون دولار إلى بات روبرتسون. كما كان يحضر في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق ريجان اجتماع مجلس الأمن القومي الأميركي.
7. إن علاقة هؤلاء بالرؤساء الأميركيين السابقين والحاليين علاقة قوية ومعروفة لكل الأوساط السياسية والدينية والإعلامية الأميركية . 27
وبعد هذا الاستعراض لقبائح هؤلاء بقي علينا أن نستلّ الصارم البتار من كتاب الواحد القهار لنضرب فوق أعناق هؤلاء ونضرب منهم كل بنان، ففيما يلي بعض سرايا الدفاع القرآنية التي تسم جباه هؤلاء الجبناء بسمتهم المميزة؛ سمة الجريمة، ووصف المجرمين، تأمل معي :
قال تعالى :" فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يُرد بأسه عن القوم المجرمين"28،
وقال تعالى:" ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفةً بأنهم كانوا مجرمين"29،
وقال تعالى:" وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون. كذلك نسلكه في قلوب المجرمين"30
وقال تعالى:" وكذلك جعلنا لكل نبيٍ عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً"31،
وقال تعالى:"ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين"32(68/196)
فالآن حصحص الحق وبان لذي عينين أن هذه الدويلة الصليبية دويلة مجرمة تؤوي من المجرمين ما يكفي لأن تفوح منهم الأرض كلها نتناً وأذى، ولا حجة لأحد من المتفلسفين والمتشدقين أن يدعي أن هذه أقوال فردية لأن أتباع هؤلاء ومستمعيهم بالملايين كما أننا أشرنا ولو بإيجاز إلى طبيعة العلاقة الوثيقة بين هؤلاء المنظِّرين في الواقع وبين أركان الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى كل حال فما هذه إلا واحدة من سلسلة من الجرائم التي نمضي في استعراضها إن شاء الله تعالى.
ثالثاً : جريمة الاستكبار والاستعلاء بغير الحق:
ولا أحسب أنني بحاجة إلى إقامة أدلة على نزعة الاستعلاء والاستكبار بغير الحق التي تسيطر على الولايات المتحدة، إذ أن علم هذا مستفيض بين الناس كما أن كفر إبليس وإيمان جبريل وميكائيل مستفيض بينهم لا يفتقر إلى استدلال. ومع ذلك نشير إلى بعض الملامح العامة التي تؤصل لهذه الجريمة، فأنت إذا تأملت العملة الورقية الأمريكية (الدولار) فئة الدولار الواحد وجدت في أحد أطرافها عبارة لاتينية33 تعني " النظام العالمي الجديد"، وهو نفس الشعار الذي أطلقه الرئيس السابق للولايات المتحدة جورج بوش الأب في سياق حملته المسعورة ضد العراق في حرب الخليج الثانية، وتمثل هذه العبارة الموجزة حقيقة وجود الولايات المتحدة الأمريكية، هذا الوجود الذي قام منذ بدايته على أنقاض شعب بأكمله ذبحتهم آلة الاستيطان الأمريكية لتمحو من على وجه قارة بأكملها شعباً كان يسمى بالهنود الحمر فإذا ببقايا بقاياهم اليوم أعداد تافهة في مستعمرات أقرب إلى حظائر البهائم منها إلى ديار البشر، وبعد جريمة الإبادة هذه التي كانت حصيلتها بالملايين ظهرت نزعة استعلاء أخرى تمثلت في استعباد واسترقاق ملايين الأفارقة السود - وكثير منهم من المسلمين - ليكونوا آلة الحرث التي تسوى بها البلاد وكير الحدادة الذي تؤسس به صتاعاتها، ثم لم تلبث أن مدت الولايات المتحدة الأمريكية أذرع الاستكبار الأخطبوطي عبر العالم لاستنزاف ثروات الشعوب ونهب خيراتها والعبث بمصيرها، فما من منطقة في العالم قد سلمت من حرب أو آثار حرب أمريكية، وخذ على سبيل المثال لا الحصر بعضاً من الحروب الدامية التي لوثت بها أمريكا يديها في القرن العشرين : الحرب الأمريكية الإسبانية(1898)، والحرب الأمريكية الفليبينية ( 1899)، والحرب الأمريكية الصينية(1900)، والحرب العالمية الأولى ( 1917-1918)، والحرب العالمية الثانية( 1941-1945)، والحرب الكورية (1950-1953)، والحرب الأمريكية الفيتنامية ( 1961- 1973)،وحرب الخليج الثانية ( 1991)، الحرب العدوانية على إمارة أفغانستان الإسلامية (1991- لم تنته )، والحرب العدوانية الهمجية على العراق ( 2003 - لم تنته )، وغير هذا كثير مما من شأنه إثبات طبيعة المد التوسعي الذي تمضي الولايات المتحدة في سبيله. ولو أنه كان توسعاً يبث الخير والرفاهية والعدالة بين الناس لكان أمراً ذا شأن، ولكنه لم ولن يكون يوماً كذلك، وهذا مجرد نموذج بسيط من الامتداد التوسعي والطمع الشره والنهم الذي لا يمكن إشباعه لهذه الدويلة المارقة، ولو أن المرء استطرد في سبر كل هذه الجرائم لما أسعفه الوقت ولأضناه الجهد، وحسبنا الواقع المشاهد من تصريحات القيادة الأمريكية الحالية لنقف على خطورة الأمر، فقد سمع العالم أجمع تصريحات المتعجرف الصغير في سياق حملته المسعورة على ما سماه الحرب ضد الإرهاب حيث أنطق الله لسانه ليفصح عن القيح المحتبس في صدره ويعلنها حرباً صليبية ولا يدع للناس خياراً سوى الانضواء تحت راية الولايات المتحدة أو اعتباره عدواً لها.
يمكننا إذاً أن نلخص سيرة هذه الدويلة في ثلاث مراحل : إبادة شعب وسرقة أرضه، ثم استرقاق شعب للقيام ببناء هذه الأرض، ثم الهيمنة على باقي شعوب العالم لضمان رفاهية وأمن هذه الأرض. وهل هذه إلا سيرة المستعلين في الأرض المتكبرين بغير الحق؟ وهل أدل على هذه الروح الاستكبارية من ذلك الصلف والإعراض المطلق عن أي كلمة نصح أو تنبيه أو دعوة تأني أو دعوة إلى دين الإسلام، فإذا بالولايات المتحدة تضرب بذلك كله عرض الحائط وتمضي بصلف وكبر فرعون لسان حالها يقول أنا ربكم الأعلى.
وإن الله تعالى قد أمهل فرعون ومد له مداً حتى إذا قال فرعون قولته الآثمة :" فقال أنا ربكم الأعلى"34 كان أخذ الله تعالى له أخذ عزيزٍ مقتدر :" فأخذه الله نكال الآخرة والأولى"35، فلننظر إذاً كيف سلط القرآن الكريم آياته المحكمة القاطعة الفارقة بين الحق والباطل ليُجرِّم كل مستكبرٍ مستعلٍ في الأرض بغير حق:
فقد قال تعالى :" وقالوا مهما تأتنا به من آيةٍ لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين. فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمَّل والضفادع والدم آياتٍ مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين"36،
وقال تعالى:" ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون ومَلَإه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين. فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين"37،(68/197)
وقال تعالى:" وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أُنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً. يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذٍ للمجرمين ويقولون حِجراً محجوراً"38،
وقال تعالى:" ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسولٌ كريم. أن أدُّوا إليَّ عباد الله إني لكم رسولٌ أمين. وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين. وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون. وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون. فدعا ربه أن هؤلاء قومٌ مجرمون"39،
وقال تعالى:" وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تُتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين"40،
ولا تقتصر هذه الجريمة على ما يسمى بالحكومة بل إن الشعب الذي انتخب هذه الحكومة كما يزعم ويفاخر بأن نظام هذه الدويلة الديمقراطي يعني أن الحكومة تمثل الشعب ورأي الشعب ومراد الشعب، إن هذا الشعب مجرمٌ كحكومته اللهم إلا النذر اليسير، فمنهم من هو مجرم لموافقة حكومته ومنهم من هو مجرم لسكوته عن جرائمها ومنهم من هو مجرم من جهة ولائه لمنظومة هذه الدويلة المجرمة، وهاتيك الصارم البتار على رقاب هؤلاء قوله تعالى :" قال الذين استكبروا للذين استُضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين. وقال الذين استُضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يُجزون إلا ما كانوا يعملون"41
فالحاصل مما مضى أن الولايات المتحدة الأمريكية بنزعتها الإستكبارية والاستعلائية بغير حق عبارة عن دولة إجرامية النشأة إجرامية النزعة إجرامية السمت والصفة وإجرامية التوجه والأطماع، وقد رأينا سيوف القرآن مشرعة عليها لتفت في عضد هذه النزعة وتردها خائبةً إلى وكر الذئاب وجحور الفئران حيث مزبلة التاريخ..
رابعاً: جريمة الفاحشة:
قد يضج القلم ويضيق الورق بالمرء إن حاول إثبات واقع الفحش والقذر الذي يمثله المستنقع الأمريكي الآسن بكل ما يعج فيه من ديدان وحشرات وبهيمية جنسية مفرطة الفحش والدناءة.ولعلي من باب الموضوعية أشير إشارة عاجلة إلى بعض الحقائق المتعلقة بهذا الأمر ثم ننظر إلى حكم القرآن الكريم في هؤلاء بناءً على واقعهم الذي يتلبسون به بل ويفاخرون به:
* إن الزنا واللواط والسحاق مسموح به قانوناً في الولايات المتحدة طالما كان بإقرار الطرفين البالغين
* إن المجاهرة بكون المرء شاذاً جنسياً مسموح به قانوناً في الولايات المتحدة
* إن اتهام الشاذين جنسياً بأي شيء يسيء إلى مشاعرهم يعتبر جريمة كراهية ممنوعة قانوناً في الولايات المتحدة
* إن عدد المجاهرين بنمط الشذوذ الجنسي في الولايات المتحدة يقدر بالملايين
* بعد فضيحة التعدي الجنسي على الأطفال المرتادين للكنائس الأمريكية أعلن كثير من القسس في الكنائس عن نمط حياتهم الشاذ جنسياً بما يمثل ربع أو ثلث القسس الأمريكيين.
* تؤكد الهيئات الطبية الأمريكية على أن نمط الحياة الجنسية الشاذ ( للواطيين والسحاقيات) نمط حياة طبيعي مقبول وهو نوع من أنواع التعبير الطبيعي عن فطرة الجنس عن الإنسان42
* تمنح دائرة الهجرة الأمريكية فرصة طلب حق اللجوء السياسي لمن يثبت أنه قد يتعرض للاضطهاد في بلده بسبب ميوله الجنسية الشاذة، وهناك بالفعل عدد من الحالات التي حصلت على اللجوء السياسي في أمريكا بناء على مجاهرة هؤلاء الأفراد بميولهم الجنسية الشاذة وادعائهم انهم يتعرضون للاضطهاد لأجل ذلك في بلدانهم ( ومعظمها بلدان إسلامية)
* لا يكاد يخلو إعلان شاغر وظيفي حكومي أو خاص في الولايات المتحدة من عبارة مفادها ضمان عدم التفرقة بين المتقدمين للوظيفة بسبب أصولهم العرقية أو انتماءاتهم الدينية أو تصوراتهم الجنسية.
* توجد مؤتمرات سنوية إقليمية ومحلية في الولايات المتحدة الأمريكية لمجتمعات اللوطية والسحاقية الأمريكية، كما توجد مسيرات مجاهرة بهذه الفواحش، ولهم دورياتهم ومجلاتهم التي تعنى بشؤونهم وتدافع عن حقوقهم وتحميهم من أي "اضطهاد" مدني.
* تعتبر شبكات الدعارة الجنسية ومنها ما هو خاص بالشذوذ الجنسي وليدة وربيبة الإعلام الأمريكي، مشكلةً بذلك ذراعاً من أذرع المد الأخطبوطي الهادف لنشر هذا الفكر وبثه في العالم.
وكما قلت فإن بإمكان المرء أن يؤلف الكتب والمجلدات في توثيق ما لا حاجة لتوثيقه لأننا عشنا بين القوم ورأت أعيننا وسمعت آذاننا ودهشت عقولنا لما يجاهرون به ويمارسونه ويؤصلون له ويقننونه، حتى إن الشذوذ والانحراف أصبح لديهم أصلاً، والعفة والالتزام خروجاً طارئاً عن الجادة، ولكأني بلسان حالهم كما نطق قوم لوط عليه السلام حين نهاهم عن الفاحشة :" فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناسٌ يتطهرون"43 ، وهنا لا بد من أن تتصدى حجافل القرآن لنوادي المنكر والطغيان لتطهر الأرض من رجس هؤلاء وتطهر الأرض من دنس هؤلاء، فلنتدبر مشهد القوارع القرآنية تنكس أفئدة وأجسام هؤلاء كما نكسوا فطرة الله عز وجل، فلنتدبر:(68/198)
قال تعالى:" ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحدٍ من العالمين. إنكم لتأتون الرجال شهوةً من دون النساء بل أنتم قومٌ مسرفون.وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناسٌ يتطهرون. فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين. وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين"44،
وقال تعالى أيضاً حكايةً عن قوم لوط :" قال فما خطبكم أيها المرسلون. قالوا إنا أُرسلنا إلى قومٍ مجرمين"45،
وقال تعالى:" قال فما خطبكم أيها المرسلون. قالوا إنا أُرسلنا إلى قومٍ مجرمين. لنرسل عليهم حجارةً من طين. مسومة عند ربك للمسرفين"46
وبهذا تتواتر الأدلة وتترادف صواعق الحق لتسم هؤلاء بوسم الجريمة جزاء وفاقاً على قبائحهم الشنيعة، ويتبين بهذا مدى تلبُّس الولايات المتحدة الأمريكية حكومةً وشعباً بهذه الجريمة القبيحة لتضيف إلى سجلهم الإجرامي صفحة أخرى من صفحات العار الذي يدنس حكاية بني آدم، ويلوث صفحات كتاب البشرية طاهر الفطرة بهذا السواد وبهذا التنكيس كالذي استهوته الشياطين حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا، ولكن أنَّى لقلوب تنكست فطرتها إلى حضيض دون البهائم أن تستجيب، وأنّى لمن أغرقته شهوات الجنس ومستنقعات القذارة الشاذة أن يعي، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
خامساً: جريمة العدوان والظلم والفساد في الأرض:
ولا أريد أن أنبش ذاكرة التاريخ بحثاً عن الرصيد اللامتناهي لجرائم العدوان الأمريكي على شعوب العالم، فلقد انقدحت في ذهن كل إنسان فداحة جريمة القنبلة الذرية الأمريكية في هيروشيما وناجازكي وجرائم الحرب الأمريكية في فيتنام وكوريا وأمريكا اللاتينية وغيرها، ولكنني أستقرئ صفحة الواقع المشاهد اليوم لأشير إلى ثلاثة مشاهد قائمة حيّة تمثل الطبع الإجرامي للاعتداء على الغير في أسوأ وأبشع صوره، وهذه المشاهد تتمثل فيما يلي:
أولاً: التأييد والتمويل والمظاهرة التامة للمسخ المسمى "إسرائيل" في جرائمه اليومية ضد الشعب الفلسطيني ، بحيث تتدفق ملايين الدولارات يومياً من أمريكا إلى الكيان الصهيوني وتعج أجهزة الجيش الصهيوني بكل ألوان أسلحة الدمار والفتك أمريكية الصنع وتؤصل الحكومة والقوى الشعبية الأمريكية لوجود وبقاء وعدوانية الكيان الصهيوني الممسوخ بصور لا يرتاب معها من له أدنى مسكة من عقل أن هذا الكيان لا يمكن له أن يستمر في الوجود ناهيك عن العدوان بدون هذا الدعم اللامتناهي. إن الجريمة الصهيونية ليست في الحقيقة إلا واجهة الإجرام الأمريكي في واحدة من أبشع صور هذا الإجرام، ولعل الجرائم البشعة التي عايشناها في سياق ملحمة الانتفاضة الجهادية القائمة نصرها الله تعالى وأيدها بجنده وتوفيقه ما هي إلا نموذج من نماذج هذه الجريمة الأمريكية القذرة.
ثانياً: العدوان الأمريكي على إمارة أفغانستان الإسلامية وقد قُتل في هذا العدوان من الأطفال والنساء والشيوخ من قتل كما بينت ذلك وسائل الإعلام بالبث الحي 47، ولم تبذل حكومة الولايات المتحدة جهداً في التكتم على أفعالها بل فاخرت بقنابل " الديزي كتر " وبوابل الحمم التي صبتها على تورا بورا وغارديز ، وبالقضاء على تمرد سجن جانجي قلعة وقد تبين بعد ذلك أن الجيش الأمريكي أشرف وشارك في جرائم حرب كما وثقته جهات محايدة48، وها هي أفغانستان قد عادت بعد حرب "التحرير" الأمريكية يعتريها الهلع وفقدان الأمن والجريمة والفاحشة والعهر والفساد ونبذ التحاكم إلى الشريعة وعودة انتشار زراعة المخدرات وغير ذلك كثير يغص به القلم.
ثالثاً: العدوان الأمريكي الأخير على شعب العراق ومهد الخلافة العباسية وعاصمة الإسلام قروناً من الزمن حيث يفاخر مجرمو الإدارة الأمريكية الخارجون حتى عن القانون الدولي الذي يحاكمون الناس إليه يفاخرون بتدمير هذا الشعب وهذه الحضارة، فها هي ألوف الصواريخ والحمم تصب فوق رؤوس الشعب العراقي البطل المجاهد في حين يمضي أركان الإدارة الأمريكية في صفاقتهم التي لا نظير لها في التاريخ يقولون جئنا لتحرير العراق، ولا أرى حاجة لتوثيق ما يراه الناس بأعينهم ويسمعونه بآذانهم عن هذه الجريمة الحيّة، وإنما هي - كما قلت - إشارات نتعرف بها على مناط الجرم في هذا المجال.
ولنتأمل في القرآن الكريم لننظر إلى مدى تحقق هذا العدوان والفساد مناطاً لوصف الجريمة، حتى نكون على بينة من الأمر ولا نرمي القوم بشيء دون دليل، فلنتدبر:
قال تعالى:" ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين"49
قال تعالى:" فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتَّبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه وكانوا مجرمين"50،
وقال تعالى:" ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مالِ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً"51،(68/199)
وقال تعالى حكايةً عن موسى عليه السلام :"ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدوٌ مضلٌ مبين. قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم. قال رب بما أنعمت عليَّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين"52،
وقال تعالى:" إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون. لا يُفتر عنهم وهم فيه مبلسون. وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين"53
وقال تعالى:" أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر. أم يقولون نحن جميعٌ منتصر. سيُهزم الجمع ويولون الدبر. بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر. إن المجرمين في ضلال وسعر. يوم يُسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر"54
فهذه ستة سرايا قرآنية موجهة كلها في سياق الظلم والعدوان والفساد ضد عصابات الإجرام، وقد تبين لك في اللمحة الموجزة المتقدمة تلبُّس الولايات المتحدة الأمريكية بكل نوع من أنواع العدوان والفساد هذا بما يجعل وصف الجريمة من هذا الوجه ملازماً لتصرف هذه الدويلة البائسة حتى إن المرء ليظن الترادف المعنوي بين لفظ الجريمة ولفظ الولايات المتحدة الأمريكية، وحسبي في هؤلاء حكم محكمة القرآن فيهم وعمل سيوف الحق في جرائمهم.
سادساً: جريمة الإضلال والتضليل:
وهذه ليست مجرد جريمة اقترفتها الولايات المتحدة بل هي حرفة أمريكية بحتة؛ إنه منهج حياة وأسلوب تعامل مع الآخرين أملاه عليهم كذبهم وإجرامهم وسوداويتهم وحقدهم وطمعهم بحيث لا يستطيعون أبداً أن يتعاملوا مع غيرهم بصراحة أو بصدق فإن ذلك يفضحهم، فلا مندوحة لهم عن الخداع والتضليل والتمويه والتزييف.
ولسوف أضرب مثالاً واحداً يكفي لإثبات مدى التضليل والزيف الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية ، ففي مجلس الشيوخ الامريكي المنعقد في الدورة الخامسة بعد المائة يوم الثلاثاء الموافق 27 يناير عام 1998 في العاصمة الأمريكية واشنطن صدر القرار الخاص المسمى بقرار الحريات الدينية العالمي55 ، والذي يهدف إلى تحديد موقف الولايات المتحدة تجاه ما أسمته اضطهاد الدول الأجنبية ضد الأفراد على أساس الدين، وتعزيز هذا الموقف الرسمي بما يكفل صيانة الحقوق الدينية في العالم.وجاء في البند الثالث عشر من الفقرة الثالثة - وهي فقرة التعريفات - تحديد الأمور التي تمثل انتهاكاً للحرية الدينية ما يلي : " إن اصطلاح (انتهاك الحرية الدينية) يعني انتهاك حق حرية الاعتقاد الديني والممارسة الدينية المتعارف عليه دولياً .. " ثم ذكر نماذج لهذه الانتهاكات ومنها:
" منع وتقنين والمعاقبة على أي من الأنشطة التالية :
1. الاجتماع لأداء نشاطات دينية سلمية كالعبادة والوعظ والصلاة، ويعتبر طلب تسجيل هذه الأنشطة انتهاكاً للحرية الدينية
2. الحديث بحرية عن معتقدات الفرد
3. تغيير دين الفرد وانتمائه
4. امتلاك وتوزيع مطبوعات دينية بما فيها الأناجيل
5. تربية أطفال الفرد وفق معتقده وتعليماته الدينية.56 اهـ.
هذه بعض الفقرات الواردة في القرار وقد اقتبستها دونما إخلال بالسياق ويمكن لمن شاء أن يراجع القرار كاملاً، وأريد أن أكشف زيف وتضليل حكومة الولايات المتحدة الصليبية في حقيقة الأمر من خلال أمرين أحدهما تشريعي والثاني تنفيذي؛ أما من الناحية التشريعية فإن الملحق الأول للدستور الأمريكي يمنع من تشريع أي قانون يؤسس لظهور دين معين، كما يمنع من منع التدين بدين معين57. ولكنك إذا تأملت المثال رقم أربعة في أمثلة انتهاك الحرية الدينية الذي يتحدث عن منع توزيع مطبوعات دينية كأحد أشكال انتهاك حرية التدين تجد القرار ينص على تضمين الأناجيل تحديداً - مع أنها داخلة في الجملة مع باقي الكتب الدينية - وهذا ليس إلا نوع تفضيل أو تقديم دين معين في وثيقة وموقف حكومي رسمي مما يشكل انتهاكاً للدستور الأمريكي، هذا من جهة التشريع58، وأما من جهة التنفيذ فدعونا نذهب في جولة خاطفة اليوم في أرجاء الولايات المتحدة لنشاهد إحصاء المساجد وطلب تسجيل أسماء مرتاديها وفرض الرقابة والتجسس على نشاطات المراكز الإسلامية، كما أنني أذكر حادثة وقعت في إحدى الولايات الأمريكية حيث أسلمت امرأة أمريكية فما كان من المحكمة الأمريكية إلا أن حكمت لأقاربها الذين طالبوا بسحب حضانة ولدها منها لأنهم لا يريدونها أن تربيه على الإسلام، وهذا هو نفس نوع الانتهاك الذي ذكرته الفقرة الخامسة أعلاه، وهذه هي بعض التناقضات الصارخة بين واقع الممارسة الأمريكية وبنود وثيقة الحرية الدينية العالمية، بل قل إنه التضليل والخداع المقصود ، إذ أن حقيقة هذه الوثيقة ليست سوى تمهيد الطريق في العالم أجمع أمام المنظمات الكنسية والتنصيرية الضالة المضلة لتتمكن من نفح سمومها في العالم أجمع لا سيما العالم الإسلامي، ولكن هيهات إن هم إلا كما قال الشاعر :
كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يهنها وأوهى قرنه الوعل(68/200)
وتمارس الحكومة الأمريكية سياسة التضليل والغواية عبر شتى الطرق ابتداء من الدعاية السياسية كتلك التي تروج خدعة الديمقراطية التي وقع فريستها كثير من شعوب العالم بما فيهم المحسوبون على بعض التيارات الإسلامية، ومروراً بوسائل الإعلام التي تروج لما يريده الساسة والمنظرون، كالصورة الكاذبة التي يروجها الإعلام الأمريكي عن الإسلام جملةً وتفصيلاً، بل إن الحكومة الأمريكية بدأت تروج لنموذج إسلامي أمريكي تريد تقديمه للعالم على أنه النموذج المثالي للمسلم الذي يمارس دينه ويوالي بلده ويكون مثال المواطن الصالح الذي يرفع الرأس!59 وانظر إذا شئت بعض مواقع الدعاية والترويج الكاذب فإليك هذا النموذج من فم القوم أنفسهم لا نفتري عليهم وسوف أثبت هذا النص كاملاً لتقرأه وأنت تشاهد حمم القنابل والصواريخ والقاذفات تدك أرض العراق في بغداد والموصل وكركوك والبصرة وأم القصر والنجف وكربلاء ولتحكم بنفسك أيها القارئ العزيز:
"الولايات المتحدة تسعى إلى إعادة العراق السريعة الى شعبه
(العراقيون سيحددون معالم الحكومة الجديدة)
من إدموند شير
مراسل نشرة واشنطن الخاص
واشنطن، 20 آذار/مارس- أكد مسؤول رفيع المستوى بوزارة الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة تريد "إعادة العراق الى الشعب العراقي بالسرعة الممكنة" في فترة ما بعد الحرب الحالية.
وشدد المسؤول الأميركي، مارك غروسمان، وكيل الوزارة للشؤون السياسية، على أن الولايات المتحدة تسعى إلى بروز عراق ديمقراطي موحد ومتعدد القوميات، محتفظ بوحدته الاقليمة. وأضاف: "ذلك العراق سيكون مجردا من أسلحة الدمار الشامل وسيكون في حالة سلم مع جيرانه."
وقال المسؤول إن الولايات المتحدة تود بالسرعة الممكنة أن تباشر باعادة الإعمار الاقتصادي والسياسي للعراق "معيدة ذلك البلد إلى مسار يفضي إلى الرخاء والحرية."
وأدلى غروسمان بهذه التصريحات في مؤتمر صحفي يوم الأربعاء 19 الجاري في مركز الصحافة الأجنبية بواشنطن حيث بحث المساعدات الإنسانية والإعمار في العراق بعد الحرب وتشكيل الحكومة العراقية الجديدة بعد إطاحة نظام صدام.
وأبلغ غروسمان المراسلين أنه يتعين أن يحدد الشعب العراقي معالم الديمقراطية العراقية، مضيفا: "تلك الديمقراطية لن تكون ديمقراطية أميركية بل ستكون ديمقراطية عراقية." كما أشار إلى أن هناك نظماً ديمقراطية في العالم (في بلدان) متعددة القوميات وتتمتع بوحدة إقليمية.
وجاء في كلام غروسمان: "إذا توفرت لدى الشعب العراقي فرصة.. لإدارة شؤون حياتهم فإن الكثير من التوتر الاثني في ذلك البلد سيتبدد،" مشيرا إلى أن النظام الحالي يستغل هذه التوترات.
وشدد على القول إن الديمقراطية في العراق "ستكون مثالاً فذاً" لشعوب المنطقة.
وفي رده على سؤال صحفي، أعرب غروسمان عن أمله بأن الاعتراف بدولة اسرائيل سيكون من بين الاجراءات الأولى للحكومة العراقية الجديدة. وقال: "يتعين أن تتوفر الفرصة للناس كي يديروا شؤونهم، وهذا الحق يجب الا ينتفي بسبب الجغرافيا أو العرق أو الديانة أو الثقافة."
وكرر السفير كلام الرئيس بوش أن الولايات المتحدة ستسعى لتحرير العراق، لا احتلاله أو استغلال موارده الطبيعية. وشدد ثانية على أن الموقف الأميركي يقول إن نفط العراق يعود الى الشعب العراقي. وأشار إلى أن أمر التصرف بالنفط يعود للشعب العراقي كي يقرره.
وأوضح أن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تتنبأ بأضرار الحرب في العراق أو ما سيقدم عليه صدام حسين في بلاده بالذات، "لكننا بذلنا جهداً هائلاً" في خططنا "للإقلال إلى أدنى حد من الأثر (العسكري) على السكان المدنيين."
ولفت غروسمان إلى أن تحديد مكان أسلحة الدمار الشامل وتأمينها وتدميرها في العراق "سيمثل أولوية مستعجلة" خلال الحرب وما بعدها. لكن الولايات المتحدة ستركز اهتمامها كذلك على القضايا الإنسانية وإيصال الغذاء والدواء الى من يحتاجها.
وتابع غروسمان قائلا: "الولايات المتحدة تعمل على مدى عدة أشهر على خطط للمساعدة في عراق ما بعد الحرب ولديها إمدادات إنسانية جاهزة أو في طريقها. وأضاف أن فرق عمل ركزت نشاطاتها على مسائل مثل الصحة، والصرف الصحي، والتعليم، والنقل، وسيادة القانون، والزراعة، والنظام المصرفي، فيما تتطلع الولايات المتحدة قدما الى العمل مع الأمم المتحدة ومنظمات القطاع الخاص بشأن جهود الغوث هذه.
وحدد السفير غروسمان ثلاث مراحل في عراق ما بعد الحرب:
• فترة لإشاعة الاستقرار في ظل سلطة القائد العسكري للتحالف الذي سيكون مسؤولا عن الجانب الأمني في البلاد؛
• فترة انتقالية سريعة حيث تنتقل السلطة تدريجيا الى العراقيين. "وعندها ستلعب سلطة انتقالية عتيدة دورا هاما" مشيراً الى أن هذه السلطة ستضم عراقيين من داخل العراق وخارجه؛
• أخيرا، الانتقال بالعراق "بالسرعة الممكنة الى إعادة العراق الى سيادة الشعب العراقي."60اهـ.(68/201)
هذا نموذج من نما\ج الدجل الاحترافي الذي يمارسه ساسة الإجرام في أمريكا، ثم تأمل معي كيف يفترون على الله تعالى حيث يزيفون لسياساتهم هذه غطاءً دينياً كاذباً تأمل معي خاتمة كلمة ألقاها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جورج بوش الإبن حيث ختم خطابه قائلاً:" نحن الأميركيون لدينا ثقة بأنفسنا، لكن ليس بأنفسنا فقط. نحن لا ندعي بأننا نعرف جميع توجهات العناية الإلهية، ومع ذلك نستطيع أن نثق بها، واضعين ثقتنا بالإله المحب وراء كل الحياة، وكل التاريخ فليرشدنا الآن، وليبارك الله أميركا دائما"61، فانظر كيف يفترون على الله تعالى وينسبون أنفسهم زوراً وبهتاناً إلى الاسترشاد بالعناية الإلهية، وهذه مجرد نماذج من الدجل والتضليل تمارسه المؤسسة الرسمية للولايات المتحدة لتضيف إلى رصيد الجريمة لديها، ولا أريد أن أستطرد في البدهيات كما قلت مراراً ، ولكن يبقى علينا في هذا المقام أن نثبت أن هذا الوصف المتحقق في الولايات المتحدة - أعني الإضلال والتضليل والغواية والافتراء على الله تعالى - هو مناط من مناطات التجريم، ولذا لا بد لنا من أن نستل من كنانة القرآن سهام تجريم هذه الدويلة من هذا الوجه أيضاً إن شاء الله، فلنتدبر:
قال تعالى:" فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته إنه لا يفلح المجرمون"62،
وقال تعالى:" أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعليَّ إجرامي وانا بريء مما تجرمون"63،
وقال تعالى:" فكُبكبوا فيها هم والغاوون. وجنود إبليس أجمعون. قالوا وهم فيها يختصمون. تالله إن كنا لفي ضلال مبين. إذ نسويكم برب العالمين. وما أضلنا إلا المجرمون"64،
وقال تعالى:" وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين. قالوا بل لم تكونوا مؤمنين. وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوماً طاغين. فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون. فأغويناكم إنا كنا غاوين. فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون. إنا كذلك نفعل بالمجرمين"65،
وبهذا تتواتر الآيات بالتنصيص على تجريم الافتراء والتضليل والكذب كما هو دأب هذه الدويلة الآبقة عن عبوديتها لله تعالى، فياويلها من دويلة مارقة، ويا ويلها من أَمَة آبقة، يا ويلها...
سابعاً: جريمة المكر :
إن تاريخ الولايات المتحدة تاريخٌ حافل بالمكر والتخطيط لتخريب وتدمير وزعزعة استقرار شعوب بل مناطق بأكملها من العالم، بدءاً بالاغتيالات السياسية ومروراً بالانقلابات العسكرية المدبرة، ومن ثم المكر والكيد لاختراق مناطق مختلفة من العالم تحت أستارٍ وخدع شتى، لعل من أهمها ما جرى ويجري في العراق، وأحيل القارئ على كتاب "جرائم الحرب : تقرير عن جرائم الحرب الأمريكية ضد العراق، مقدم إلى لجنة التقصي التابعة لمحكمة جرائم الحرب الدولية"، إعداد رمزي كلارك ورفاقه66، وقد جاءت لائحة الاتهام الموجهة لكل من جورج بوش، ودان كويل ، وجيمس بيكر ، وريتشارد تشيني، ووليم وبشتر، وكولن باول، ونورمان شوارزكوف وغيرهم وفي اللائحة تسع عشرة تهمة لحكومة الولايات المتحدة أو لشخص الرئيس بوش، وأريد أن أشير إلى بعض من هذه التهم وهي :
1. انخرطت الولايات المتحدة مع بداية عام 1989 بمجموعة تصرفات ترمي إلى تحريض العراق بحيث يبرر للولايات المتحدة القيام بعمل عسكري ضده.
2. تحريض الرئيس بوش الأب فئات الشيعة والأكراد على التمرد ضد نظام الحكم بهدف زعزعة الاستقرار الداخلي، ولما فشل هذا التمرد احتلت الولايات المتحدة أجزاء من العراق بهدف زعزعة استقراره
3. استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية أسلحة محرمة قادرة على الدمار الشامل مع استعمال قوة فائقة غير مبررة من أجل الفتك بدون تمييز بين المدنيين والعسكريين.
4. منع الرئيس بوش (الأب) الطعام والدواء والماء النقي والضرورات الأساسية الأخرى عن شعب العراق عمداً.
5. قامت الولايات المتحدة باستعمال القوة لأجل تأمين وجود عسكري في منطقة الخليج لأجل السيطرة على منابع النفط وعلى المناخ الجغرافي السياسي للمنطقة.67اهـ(68/202)
قلت: فإذا تأملت كثيراً من هذه التهم وجدتها عناصر مكر وحيلة وتآمر بشع وقد ظهرت حقيقة منتهاها اليوم، والحقيقة إن الكتاب المذكور يركز بصورة رئيسية على إبراز وسائل المكر والخداع والتضليل التى مارستها حكومة الرئيس بوش الأب في سبيل تسلل الولايات المتحدة إلى المنطقة وتدمير العراق تدميراً منهجياً متعمداً، وليس هذا سوى مظهر من مظاهر المكر والخديعة، تماماً كما فعلت الولايات المتحدة عبر تاريخها الطويل من المكر عبر تدبير الاغتيالات السياسية والانقلابات العسكرية في بلدان العالم أجمع، بل إن إحدى فضائح وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تمثلت في حربها ضد المخدرات في أمريكا اللاتينية حيث ثبت تورط الوكالة في تجارة المخدرات من أجل تمويل عمليات مخابراتية أخرى، وبهذا تستفيد الوكالة مادياً من جهة وتغرق السوق الأمريكية بالمخدرات من جهة أخرى ( وهذه السوق تستهدف الأمريكان السود بشكل رئيسي إمعاناً في تحطيم المجتمع الأمريكي الأسود كما هو معروف لكل من له أدنى معرفة بطبيعة الأمر في الولايات المتحدة وكما حدثنا كثير من الأخوة الأمريكان السود الذين هداهم الله تعالى للإسلام).
هذا غيض من فيض، وها هو العالم اليوم يشهد المكر والخديعة فصولاً تتوالى تقوم الإدارة الأمريكية بتمثيلها أسوأ ما يكون التمثيل حتى باتت أفلام هوليود أقرب إلى الصدق والعقل والممكن من استعراضات هذه الحكومة البائسة! فماذا في كنانة القرآن الكريم من سهام ترمي هؤلاء، وماذا أعد الله تعالى لهذه الشياطين الماردة من شهب حارقة، فلنتأمل؛
قال تعالى:" وكذلك جعلنا في كل قريةٍ أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون"68،
وقال تعالى:" قال الذين استكبروا للذين استُضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين. وقال الذين استُضعفوا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسرّوا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون"69،
وهكذا تتنزل هذه الآيات كالشهب المحرقة لتسم هؤلاء الماكرين بوسمهم ؛ إنهم مجرمون، بل هم أكابر المجرمين، ألا فليحذر هؤلاء إذاً وليعلموا أن مكرهم لا يحيق إلا بهم كما قال تعالى:" ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله"70، وليعلموا أن مكر الله تعالى بهم أشد وأن عذابه بهم متربص، وحسبنا فيهم قوله تعالى:" قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرَّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون"71
ثامناً: جريمة الاستهزاء بالمؤمنين:
لقد بلغت آثار هذه الجريمة في الآونة الأخيرة مبلغاً، حتى أصبح الحديث عن الإسلام والمسلمين علكة يمضغها كل تافه وحقير من هؤلاء، ولقد شاهدنا من ذلك بأنفسنا ما تشمئز النفوس من ذكره، بل وقد ظهر على إعلامهم ما لا يدع للناقل شيئاً يذكره، فها هو أحد سفهائهم ويدعى جيمي سويجارت72 يشبه العمامة التي يرتديها بعض المسلمين بحفاض الأطفال، وها هي بعض أفلام الرسوم المتحركة - التي يشتريها ويشاهدها بكل سفاهة بعض المسلمين مع الأسف - تغص بأنواع القذع والتشويه لصورة المسلم والعربي بل والأنبياء والرسل 73، ناهيك عن الاستهزاء بالحجاب والنقاب واللحى والصلاة ويمكن لمن أراد أن يراجع توثيقات مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية 74 ليقف على مئات الحوادث التي تحكي مدى القيح المتولد في صدور القوم تجاه المسلمين في الولايات المتحدة على سبيل المثال.
ولا بد أن يدرك من له أدنى تعامل مع كتاب الله عز وجل أن هذه القبائح هي من جملة الجرائم التي فضحها القرآن الكريم، ولنتأمل معاً هذا المشهد القرآني الذي نقلته لنا سورة المطففين حيث قال تعالى : "إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون. وإذا مروا بهم يتغامزون. وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين. وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون. وما أُرسلوا عليهم حافظين. فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون. على الأرائك ينظرون. هل ثُوِّب الكفار ما كانوا يفعلون"75
نعم، إن الاستهزاء بالمؤمن جريمة، وإن الضحك من المؤمنين جريمة، وإن غمز المؤمنين جريمة، وإن رمي المؤمنين بالضلال جريمة، وإن الولايات المتحدة الأمريكية التي تهزأ بالمؤمنين ليست إلا مجرمة مجرمة، ولن يكون سجلها في التاريخ إلا في خانة المجرمين...
تاسعاً: جريمة الطغيان:(68/203)
إن التقدم العلمي الذي أحرزته الولايات المتحدة حقيقة لا سبيل إلى إنكارها من جهة العلم الظاهري الدنيوي كما قال تعالى:" يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون"76، ولقد دفع هذا التقدم العلمي بالقوم إلى درجة من الطغيان لظنهم أنهم قد استغنوا بهذا العلم وما عادوا مفتقرين إلى أحد ولا الله سبحانه وتعالى، لذلك تجد حديث القوم حديث ذلك المستغني بجهله يحسب أن ما عنده هو نتيجة علم أو قوة أو ركن يأوي إليه من دون الله، وأريد أن أعطي مثالاً واحداً فقط يثبت باللفظ والمعنى أن هؤلاء القوم قد طغوا وجاوزوا الحد؛ فمن المعلوم أن حاملات الطائرات التابعة للبحرية الأمريكية تحتاج إلى أجهزة استطلاع ومراقبة وإن أحد نظم المراقبة هذه يسمى " نظام المسح المشترك لرقابة الهجوم على الهدف"77 ويصف الخبراء العسكريون والفنيون هذا النظام بأنه " عين الله" God's - eye تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. نعم، هذا هو مدى طغيان القوم، إنه طغيان بلا حدود ، إنه - كما يعلمنا القرآن الكريم - جريمة، وأي جريمة، فلنتأمل حال أمثال هؤلاء في القرآن الكريم حيث قال تعالى في قصة قارون:
" إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليه وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين. وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين.قال إنما أوتيته على علمٍ عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوةً وأكثر جمعاً ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون"78
نعم، إنها جريمة، نعم إنهم مجرمون، تكاد هذه الدويلة ألا تدع جريمة إلا تلبَّست بها، فهل لجرائمهم هذه من حد، وهل لإجرامهم هذا من غايةٍ ينتهي إليها؟
عاشراً: جريمة التولي والإعراض عن الله :
لقد قام العديد من أهل الإسلام العظيم بدعوة الأمريكان إلى الإسلام والإذعان لأمر الله عز وجل، أما عن دعوة الشعب الأمريكي فإني أعلم ذلك يقيناً من خلال معاينتي لذلك، فالحق أقول إن الغيورين من المسلمين القاطنين - لسبب أو لآخر79 - في الولايات المتحدة يبذلون جهوداً طيبة في نشر الإسلام والدعوة إليه، وأقول من خلال خبرتي الشخصية المتواضعة أن المعرِضين من الأمريكان أكثر بكثير من القابلين للدعوة، وإن كانت نسبة الدخول في الإسلام لا تزال نسبة معتبرة80. أما بالنسبة للحكومة الأمريكية فما لا يسع أحد جهله هو أن هذه الحكومة تعرف عن الإسلام الكثير بل الكثير جداً؛ ويكفي في إقامة الحجة عليهم أنهم جعلوا لوزارة الخارجية الأمريكية منبراً يتحدث ويتشدق عن الإسلام في أمريكا وعن احترام الحكومة الأمريكية لدين الإسلام، وها هو الرئيس جورج بوش يوجه كلمة للمسلمين بمناسبة عيد الأضحى يقول فيها :" أطيب التمنيات الى المسلمين في الولايات المتحدة بمناسبة احتفالكم بعيد الأضحى المبارك، ومشاركتكم الروحية مع الملايين المحتشدين في مكة المكرمة لأداء فريضة الحج.. أنشئت أميركا على أسس روحية قوية، والاحتفالات الدينية أمر أساسي في حياتنا. عندما تؤدون فريضة الحج السنوية، وهي الركن الخامس من أركان الإسلام، فإنكم تكرمون بذلك التضحيات العظيمة والتقوى للنبي ابراهيم وهو ما تؤمن به الديانات اليهودية والمسيحية كما الإسلام. وبتوعيتكم الآخرين حول تقاليدكم الدينية، تساهمون في إثراء حياة الآخرين في مجتمعاتكم المحلية. إن تعدد الأمم والثقافات التي يمثلها الذين يحجون الى الكعبة المشرفة في مكة المكرمة كل عام، والطرق المختلفة التي يساهم بها المسلمون في الحياة الأميركية عبر الولايات المتحدة، تشكل إشارة قوية بأنه لا يجب للاختلافات الإثنية والعرقية أن تفرق بيننا، بينما نحن نتقاسم قيماً وأهدافاً مشتركة. فببناء أسس قوية من الاحترام المتبادل، يمكننا تحقيق السلام والوئام في عالمنا. زوجتي لورا تشاركني في تقديم أطيب التمنيات بمناسبة عيد الأضحى المبارك81." اهـ. قلت: هذا الكلام إن كان مقصوداً معناه فليس كلام من يجهل الإسلام بل هو كلام من يعرض عن الإسلام، إنه كلام أحبار اليهود الذين أقروا للنبي r أنه النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ولكن لا يسلمون ولا ينقادون له حسداً من عند أنفسهم، وأما إن كان مقصوده من هذا الكلام التدليس والنفاق والمداهنة فلا يخرج أيضاً عن كونه حجةً عليه لأنه لا يتمكن من مثل هذه المداهنة من لم يدرس شيئاً عن الإسلام تقوم بمثله الحجة عليه، وهذا الكلام ينطبق على كل الساسة الأمريكيين الذين يتشدقون بالكلام عن الإسلام وعظمة الإسلام وروعة الإسلام، وصدق الله العظيم إذ قال :" أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون"82.(68/204)
إن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الولايات المتحدة الأمريكية حكومةً وشعباً وباعتبار الغالب منهما قد أعرضت وتولت عن ذكر الله وعن آيات الله وعن دين الله، وإني لست أعفي أمة الإسلام من واجب ومسؤولية التقصير في الدعوة والطلب، ولكني أنفي أن تكون حجة الجهل قائمةً لهؤلاء كما هي قائمة للقبائل البدائية التي تعيش في مجاهيل الكونغو والأمازون، لا بل إن الأمريكان يعرفون الإسلام ويعرفون عن الإسلام ويعرفون حقيقة الإسلام وأكبر دليل على ذلك أنهم يحاربون الإسلام؛ وهل كان كفر قريش وحربهم التي لا هوادة فيها على الرسو صلى الله عليه وسلم وصدر الصحابة إلا لأنهم فقهوا - إي والله فقهوا - معنى لا إله إلا الله!
فإذا تقرر هذا - وأنا على استعداد بإذن الله وفضله لمناقشة من يجادل في هذا - فما هو الحكم القرآني على هؤلاء المعرضين، وما هو الحكم القرآني على من يتولى منهم لا بل ويدعي أنه يريد أن يغزو بلاد الإسلام في الشرق ليحررهم من ربقة الإسلام ويدخلهم في محبة وعبودية المسيح زعموا - ولقد سمعت هذا الكلام أذناي ورأت عيناي من بعض منظريهم الصليبيين الخائبين - فما هو هذا الحكم؟ فلنتدبر؛
قال تعالى:" وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذابٌ شديد بما كانوا يمكرون"83،
وقال تعالى:" ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوةً إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين"84،
وقال تعالى:" ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون. ولو شئنا لآتينا كل نفسٍ هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجِنة والناس أجمعين. فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون"85،
وقال تعالى:" ومن أظلم ممن ذُكِّر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون"86
فهذه أربع صواعق من صواعق القرآن المجيد تنقض على هؤلاء المعرضين الذين تولوا عن آيات الله وذكر الله فما باؤوا إلا بالخسران وما عادوا إلا بوصف الجريمة المنكرة، لتضاف هذه الجريمة إلى سجلهم الإجرامي ولتحيط بهم سرادقات القرآن العظيم فلا ملجأ ولا منجى ولا مهرب ولا مخبى، قد حاقت بهم جرائمهم، وأخلدوا بها في غياهب التاريخ ومقبرته في هذه الدنيا، وأما في الاخرة فالله كافينا فيهم ولا نتطاول على الله عز وجل فهو وحده المتصرف فيهم كما يحب ويرضى وليس لنا سوى الإذعان لأمره سبحانه وتعالى.
وهكذا نكون قد انتهينا من استعراض السجل الإجرامي الأسود لهذه الدولة المارقة، نظرنا أفعال القوم وأقوالهم ثم نظرنا إلى القرآن الكريم ليحكم بتجريمهم وفق اصطلاح القرآن لا وفق أهواء المنافقين والمرتدين والموالين ومرضى القلوب، إذ أن للجريمة في القرآن معنى لا يريد أن يقر به هؤلاء، ولكننا بفضل الله تعالى قد رأينا أنوار القرآن مسلَّطةً على ظُلمة هؤلاء ، وثبت عليهم الحكم القرآني وهو أن الولايات المتحدة الأمريكية الصليبية دولة مجرمة بكل ما في القرآن من معاني الجريمة، وها قد أثبتنا ذلك بفضل الله تعالى ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، ولله الحمد من قبل ومن بعد.
فصل: سبل التصدي الشرعية لجرائم الولايات المتحدة الصليبية:
إننا حين ننظر إلى تجريم الولايات المتحدة بالاعتبار الشرعي نكون قد ألزمنا أنفسنا بالعمل وفق مقتضى الشرع لمجابهة هذه الجرائم والتصدي لأصحابها، ولن نقبع في أقبية التاريخ منتظرين صدور حكم محكمة جرائم الحرب الدولية على عصابة الإجرام هذه - علماً أن الولايات المتحدة قد حصنت نفسها ضد محاكمة أي من جنودها أو قياديها في محكمة جرائم الحرب الدولية وكأنها تعلم أنها ستكون من أوائل من يشغلون أقفاص الإتهام - لا لن ننتظر، فلقد صدر الحكم الذي لا معقب له، نعم صدر حكم القرآن الكريم بأن هذه الدولة مجرمة ولا بد من التصدي لها حماية لدين الله وحماية لأنفسنا من أن تطالنا آثار جرائمها. وهذا الفصل المختصر عبارة عن إشارات موجزة استقرأتها من نفس الآيات التي جرَّمت هؤلاء لتكون لصيقة الصلة بالتصدي لهذه الجرائم، وصدق الله العظيم إذ قال :" وننزل من القرآن ما هو شفاءٌُ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً"87، فهلم بنا نستلهم من آيات الذكر الحكيم سبل التصدي هذه :
أولاً: بيان الحق :(68/205)
إن أول خطوة في التصدي للباطل وجرائمه هي فضحه والاجتهاد في بيانه وفضح سبله وخدعه في نفس الوقت الذي يبين فيه سبيل الحق فبضدها تتميز الأشياء، والدليل على وسيلة التصدي هذه مأخوذ من قوله تعالى:" وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين"88، وهذا يعني أن يجتهد أهل العلم علماء وطلاب في بيان الحق واستفاضة البلاغ به وتحذير الناس والعامة من مكائد المجرمين وآثار الجريمة وآثار السكوت على هذه الجريمة، ولا بد من أن تُسمى الأشياء بأسمائها بسبب اللبس والغموض والتخبط والحيرة الذي أصاب الناس اليوم، فلا كنايات ولا ألغاز ولا التفاف على المصطلحات، بل كلمة حق مدوية ترضي الله عز وجل رضي من رضي وسخط من سخط بعد ذلك؛ فيا أيها العلماء قولوها بملئ أفواهكم : أمريكا مجرمة صليبية حاقدة ، ولا تحدثوني اليوم عن التتار وعن المغول ولا تكلموني عن الشيوعية والبوذية، فالذي يستبيح حمى الإسلام اليوم صليبية صهيونية جمعتها عداوة الإسلام وصهرتها في بوتقة واحدة اسمها الولايات المتحدة الصليبية، اللهم هل بلغت اللهم فاشهد..
ثانياً: تطبيب ومعالجة القلوب:
إن الحق بعد بيانه يحتاج أن يستقر في قلوب صالحة لغرس الحق حتى يشتد عوده ويستغلظ ويؤتي أُكله كلمةً طيبة كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء، ولما كانت سنّة الله تعالى أن يعاقب بالسيئة السيئة وأن يجازي بالحسنة الحسنة، كان لزاماً علينا أن نقي قلوبنا ونحفظها من غرس الإجرام وميول الإجرام حتى لا نُعاقب بتمكُّن الجريمة من قلوبنا كما فعل سبحانه وتعالى بالمكذبين بالرسل والمستهزئين بهم حيث جازاهم على جريمتهم بأن مكَّن لهذه الجريمة من قلوبهم تأمل معي قوله تعالى:"وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون. كذلك نسلكه في قلوب المجرمين. لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين"89، ومثله قوله تعالى:" كذلك سلكناه في قلوب المجرمين. لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم. فيأتيهم بغتةً وهم لا يشعرون"90، فلا منجاة من هذا إلا بإشغال القلوب بما يصلحها وقايةً لها مما يفسدها، فقد قيل المشغول لا يُشغل؛ ونحن إذا شغلنا قلوبنا بكلمة التوحيد حفظناها - بإذن الله - من تسرب بذور الإجرام إلى تربتها، فتهيأ لنا من القلوب المؤمنة الصالحة جيوشاً وحجافل تكر على قلوب المجرمين كرةً واحدة وتميل عليها ميلةً واحدة فتفنيها بإذن الله وتذرها أثراً بعد عين؛ بئرٍ معطلةٍ وقصرٍ مشيد...
وإن خصوصية هذه المعركة اليوم تستلزم منا أن نعقد قلوبنا على حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية مجرمةٌ شرعاً، وأن نعقد قلوبنا على الكفر بهذا الكيان المجرم وعلى البراءة كل البراءة منه وممن يواليه، وبغير هذا لا يمكن أن تسلم لنا قلوب، ولا يمكن أن تطهر لنا صحائف أعمال ...
ثالثاً: محاربة الفساد :
إن من أهم وسائل التصدي لجرائم الولايات المتحدة الأمريكية تطهير المجتمع من آثار هذه الجرائم التي تدنس أرض المجتمع وماء المجتمع وهواء المجتمع، تدنس أفراد المجتمع، تدنس المجتمع كله..
علينا أن ندرك أننا كلما نهينا عن منكر نكون قد تصدينا لجريمة من جرائمها، وكلما أزلنا منكراً نكون قد محونا أثر جريمة من جرائمها، وعلينا أن ندرك أن السكوت على المنكر ليس إلا مشاركة للولايات المتحدة في جرائمها، تأمل معي قول الحق عز وجل:"فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتّبع الذين ظلموا ما أُترِفوا فيه وكانوا مجرمين"91، نعم؛ إن الإقرار على الجريمة جريمة، وإن السكوت على الجريمة جريمة، وإن الرضا بالجريمة جريمة..
إن واقع الأمر اليوم يملي علينا ويفرض علينا التنبه إلى أن كل ما له مساس بالولايات المتحدة له وجه من وجوه الإفساد؛ وتوضيح ذلك أن الأمر إن كان جريمةً من جرائمها فهو مفسدة من هذا الوجه، وإن كان أمراً مستقلاً لا شر فيه في نفسه فهو مفسدة من جهة اعتقاد الخيرية في هذا الكيان المجرم ومن ثمَّ افتتان الناس والمسلمين به، ألا فلنعلم أن قبح جرائم الولايات المتحدة تنأى بنا عن الركون إلى أي من خيراتها في هذه المرحلة، ولا تذهب أنفسنا حسرات على فوات خيرات الولايات المتحدة بل حسبنا في هذا قوله تعالى:" وإن خفتم عَيلةً فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم"92.
رابعاً: هجر الترف :
فأنت إذا تأملت قوله تعالى :" فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتّبع الذين ظلموا ما أُترِفوا فيه وكانوا مجرمين"93 وجدت أن حياة الترف والدعة والإسراف رديفة الظلم وسبيل الإجرام لا محالة، فالمترف لا يأبه لشيء سوى وسائل ترفه ومتعته ولهوه ومجونه، ترى جراحات البعض تثج بالدماء ثجاً في سبيل هذه العقيدة في حين ينشغل المترفون بالمهرجانات والقيان والأغاني ؛ مجونٌ وفجور ، أفخاذٌ وخمور، اختلاط وسفور، ربا وثبور، يفيق البعض من سكرةٍ غربية ليغط بعدها في سهرةٍ شرقية، ولربما قال في آخر السهرة : اللهم انصر المسلمين...(68/206)
ألا فلنهجر حياة الترف والدعة، ألا فلنتق الله قبل أن نكون في الجريمة شركاء بعد أن كنا الضحايا الأبرياء، اللهم هل بلغت اللهم فاشهد..
خامساً: عدم مظاهرة المجرمين:
وهذه خطوة مهمة من خطوات التخلية قبل التحلية، والتصفية قبل التربية، فلا يتصور أن ننشغل بالصد عن جرائم هذه الدويلة المارقة في حين أننا نمثل عناصر مشاركةٍ فعالة في منظومتها الإجرامية. إن التوقف الفوري عن مظاهرة الولايات المتحدة الأمريكية على المسلمين ومظاهرتها في كل أنواع جرائمها هو واجب الساعة، ابتداءً بالكاتب الذي يبرر جريمتها، ومروراً بالشاب الذي يحفظ أغنيتها، والفتاة التي تنزع ثوب عفتها، والحارس الذي يحفظ أمنها، والحاكم الذي يبيح بيضة الإسلام لها، والتاجر الذي يودع أمواله عندها، وكل كلمة أو فكرة أو فعل أو شعور مؤيد لها فهو مظاهرة لا تقل إجراماً عن جرائمها، ولتكن قدوتك في هذا رسولٌ من أولي العزم من الرسل موسى عليه السلام، قال تعالى:" قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين"94
ألا فليتق الله قومٌ يسارعون في هذه الدولة المجرمة تأييداً وتبريراً وإرجافاً وتغريراً، اللهم إنا نبرؤ إليك من هؤلاء فلا تأخذنا بذنوبهم، اللهم هل بلغت اللهم فاشهد...
سادساً: التوبة والاستغفار:
بعد أن ذكرنا مجموعة من وسائل التصدي لجرائم الولايات المتحدة يدور معظمها حول التطهر من أنواعٍ من الذنوب والآثام التي يؤدي اقترافها إلى التمكين لهذه الجرائم واستفحال شرورها، فإن من المناسب أن نتبع الإقلاع عن هذه المعاصي بالتوية والاستغفار حتى ننتقل بعد ذلك إلى الدور الفاعل والإيحابي في هذه المجابهة الحتمية، وإن القرآن الكريم لم يترك لنا هذه الوسيلة دون ضبط أو بيان، وإنما جنَّد سلاح التوبة والاستغفار ضد جحافل المجرمين الكفار، تأمل معي قوله تعالى:" ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوةً إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين"95.
ومن المعلوم من دين الإسلام أن التوبة والاستغفار ليست كلمات تجري على الألسنة، وإنما هي إقلاع حقيقي عن المعاصي والجرائم وندم على ما اقتُرف منها، ونية خالصة في التوبة إلى الله ، وعزمٌ قويٌ على ألا يعود، ورد الحقوق إلى أهلها، فإذا ما تمثلنا بتويةٍ كهذه فإننا نطمع في أن يقبل الله منا ونطمع في أن يجعل توبتنا هذه سهماً يصيب مجرمي أمريكا في مقتل، وسيفاً يفل منظومتها الإجرامية، ونوراً يهتك حجب ظلماتها الحالكة إنه ولي ذلك والقادر عليه، فهلم إخواني توبةً نصوحاً، جنِّدوا جنود الاستغفار في الليالي والأسحار، فإني والله لأراها صارماً بتاراً على هؤلاء ، إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب...
سابعاً: العمل الصالح:
إن من يتأمل المشهد القرآني التالي في قوله تعالى:" ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون"96، ليدرك تلك الحقيقة التي وعيها سلف هذه الأمة وهي أننا إنما نُنصر على عدونا بذنوبهم وبصالح أعمالنا؛ فإن كانت لنا ذنوبٌ كذنوبهم أو لم تكن لنا أعمال ترجح على ذنوبهم وُكلنا إلى أنفسنا فخبنا وخسرنا.
إن التزود بالعمل الصالح الواجب منه ثم المندوب ثم المستحب، والاستكثار من ذلك كله وسيلة من أقوى وسائل التصدي لهذه الدولة المجرمة، عندما نصد جريمة الشرك بالتوحيد، ونصد جريمة الاستكبار بالسجود لله تعالى، ونصد جريمة الزنا بالعفاف والإحصان، ونصد جريمة الربا بالكسب الطيب والزكاة، ونصد جريمة الاعتداء وسفك الدماء باحترام حرمة الدماء وحقنها، ونصد جريمة الكذب والتضليل بالدعوة إلى الله، ونصد جريمة الاستعلاء بغير الحق بالتواضع والاستعلاء الإيماني، ونصد جريمة استضعاف الناس بالنصرة والتأييد لهم، ونصد جريمة تولي الكافرين بتولي المؤمنين، ونصد جريمة التبرؤ من المؤمنين بالتبرؤ من الكافرين، ونصد جريمة انتهاك الحرمات بالجهاد في سبيل الله، ونصد جريمة المداهنة في دين الله بكلمة حق لا تخاف في الله لومة لائم، ونصد كل جريمة للولايات المتحدة بعملٍ صالحٍ يدرؤها ويفضحها، عند ذلك نتمكن بإذن الله من دحر عصابات الإجرام وردها خاسئة إلى مزبلة التاريخ وأماكن جمع قمامة البشرية، عندها فقط نتمكن من ذلك ...
ثامناً: نصرة المؤمنين:(68/207)
لقد تقدمت معنا بعض أنواع الجريمة الأمريكية وما فيها من عدوان ظالم حقود آثم على حرمات المسلمين؛ حرمات الدماء وحرمات الأبضاع وحرمات الأموال، فهم سفاحوا دماء منتهكوا أعراض سارقوا أموال، ولا بد لمواجهة جرائمهم القبيحة هذه من أن نهب لأجل نصرة المؤمنين أينما كانوا وإلا تمادى زحف المجرمين ليطال دماء وأعراض وأموال مزيد من المؤمنين ومزيد من المسلمين ومزيد من الآدميين، وكيف لا نهب وقد انيطت بنا مهمة نصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم واستنقاذ البشرية من استعباد بعضها البعض، ألا فلنتأمل جيداً قوله تعالى:" ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين"97، لنتأمل هذه الآية جيداً لندرك أن نصر المؤمنين وسيلة لازمة من أجل وضع حد لجرائم هؤلاء، ومن أجل الأخذ على أيدي هؤلاء قبل أن يُهلكوا ويَهلكوا ...
تاسعاً: الجهاد في سبيل الله:
نعم لا بد لهذه المهمة البطولية من تضحيات وفداء، ولا بد لكتابة صفحات التاريخ هذه من مداد الشهداء، لا مندوحة عن ذلك ولا بديل عنه البتة، ولتعلم أيها المسلم أن هذا اختبار وابتلاء الله عز وجل فلتصبر على ما فيه من مشقة فإن ما يليه من حلاوة ولذة أعظم شاناً وأدوم حالاً، تأمل معي حكمة الله عز وجل في سنِّ هذه السنة لهذه الأمة العظيمة :" وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين. ليُحق الحق ويُبطل الباطل ولو كره المجرمون"98، نعم لا بد من الجهاد حتى تمضي جحافل الحق وتدحر جيوش الكفر والإجرام، فإن سفينة الإسلام لا تبحر ما لم تكن روافد الحق أنهارٌ من دماء الشهادة الزكية العبقة، وإن فئران الباطل وقطاع الطرق المجرمين لا يخنسون ما لم يبهرهم بريق السيوف ولمعان الأسنة، فبمثل هذا الجهاد المبارك جهاد السيف والسنان ينقطع دابر الكفر ويبطل سحر الباطل ويشق نور الحق سحب الظلام ، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة، ألا هل من بائعٍ ومشتري...
عاشراً: اليقين بوعد الله:
إن استيفاء المقدمات والأسباب السابقة لا يجدي شيئاً ما لم تكن الثقة بوعد الله تعالى مطلقة، لأن الرحلة شاقة، والطريق موحشة ، والقرح والجراح أمر لا بد منه، فما هو وقود المعركة إذا فترت الهمة، وما هو الزاد إذا أوحش الطريق، تأمل معي قول الحق تبارك وتعالى:" حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا فنُجِيَّ من نشاء ولا يُرد بأسنا عن القوم المجرمين"99
فلا سبيل لصد جرائم هؤلاء إلا باليقين والثقة المطلقة في وعد الله بالغلبة والنصر، وإلا فإن ما عندنا من أسباب لا يُركن إليه، وما عندنا من قوة وعتاد لا يُعول عليه، بل إن شهود الأسباب وعدمه لدينا سواء إن نحن أعددنا فأحسنا العدة، وتوكلنا فأحسنا التوكل، وآمنا حق اليقين ، وجاهدنا في سبيل الله حتى نراها عين اليقين ...
حادي عشر: التدبر في عاقبة المجرمين:
ولا بد للسائر في طريق مكافحة الجريمة وتعقب المجرمين من أن يدرك أن المجرم مهما كانت له صولة وجولة وعزة ومنعة ظاهرة فإن مصيره إلى السوء، وعاقبته إلى الخسران، وقد أمرنا الله تعالى بالتدبر في هذا الأمر ليكون عوناً لنا على اجتناب سبيل المجرمين من جهة، وعلى عدم الوهن في ابتغاء هؤلاء المجرمين ومحاسبتهم ومعاقبتهم بما يليق بهم في الدنيا مع إيكالهم إلى الله تعالى في الآخرة، وتأمل معي هذه القاعدة القرآنية في تقرير هذا الأصل العظيم، حيث قال تعالى:" قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين"100
فلنقرأ التاريخ لا لنتباكى على أمجاد الماضي وإنما لنأخذ العبر التي تفيد الحاضر، نعم لقد استباح التتار بغداد وسفكوا دم مليوني مسلم، ولا يعني هذا أن نسلم بغداد لصليبيي أمريكا ليقتلوا مليوني مسلم آخرين، وإنما يعني أن نلحق الصليبيين المجرمين بمن سبقهم من كفرة التتار والمغول والصليبيين الأول لتعوي على جثثهم الهالكة كلاب التاريخ ولتقف بغداد شماء أبية تقول بملء فيها : حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ...
ثاني عشر: الدعاء :
وقد جعلته آخراً لأن الدعاء لا بد من أن يكون معه شيء من قطران101، وهذا القطران هو تحصيل ما يمكن تحصيله من مقدمات وأسباب وبذل الوسع في تحصيل ما يرضي الله عز وجل قبل أن نمد أيدي التضرع والذلة بين يدي الله الحق، لنكون أقرب إلى حال العبد المجتهد في خدمة سيده الواقف ذليلاً بين يديه معترفاً بتقصيره، لا كحال ذلك العبد الآبق الكسول المتخاذل الذي يرجو سيده ولا حسنة لديه تشفع له ولا عمل لديه يدلل على صدق ذله وضراعته بين يدي مولاه.(68/208)
ونحن إذا ما قمنا بالاجتهاد في تحصيل وسائل التصدي لهذه الدولة المجرمة واستنفذنا وسعنا وبذلنا جهدنا بصدق وإخلاص وجد وعزيمة، فإننا نأمل من الله تعالى أن نرفع أكف الدعاء كما رفعها من قبل موسى عليه السلام حيث قال تعالى:" فدعا ربه أن هؤلاء قومٌ مجرمون"102، ونأمل أن يجيب الله تعالى دعاءنا بهلاك هذه الدولة الصليبية المجرمة كما استجاب لموسى عليه السلام بهلاك فرعون وجنده، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وبعد، فهذه اثنتا عشرة وسيلة من وسائل التصدي لجرائم الولايات المتحدة الصليبية، ليس منا أحد لا يستطيع الإنشغال ولو بواحدة منها على الأقل، أي إنه ليس لأحد منا حجة في عدم الانخراط في منظومة الدفاع القرآنية لصد هذه الجحافل الإجرامية، فلا حجة لأحدٍ منا أن يقبع في أقبية التخاذل والتثبيط، أو أن يلجأ إلى زوايا الدراويش ليواجه بزعمه عصابات الإجرام بحضرات الدروشة والمسكنة والسلبية والخذلان، إلا فليحذر هؤلاء قوله تعالى:" يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير"103
اللهم هل بلغت اللهم فاشهد..
وكتبه الفقير إلى رحمة ربه
وسيم فتح الله
25 محرم 1424 / الموافق 8 مارس 2003
==================(68/209)
(68/210)
في مايسمى " صدام الحضارات "
د.فواز الجابري
- جدة - المملكة العربية السعودية
لفت نظري منذ فترة تنوف عن عامين, وفي غمرة استعدادات الدولة الاكبر في العالم ل"محاربة الارهاب" في أفغانستان , عنوان كتاب ل"صموئيل هتنغتون" وهو من مثقفي هذه الدولة يدعى" صدام الحضارات". بدأ,لم يثر العنوان اهتماما في , حيث انه كان مذكورا بأيجاز شديد في صفحةداخلية لصحيفة عربية تصدر في أوروبا. لكن تطورات الاحداث آنئذ في أفغانستان ثم العراق وبقاع أخرى من العالم, مع مارافقها من ظهور عالمي لتنظيمات جديدة أخذت تشرّع نفسها بلغة سياسية-دينية أسوة بالقوة الاكبر , جعل الريط بينها-أي الاحداث- وبين محتوى الكتاب أمرا لامناص منه. وجاءت قناعتي بكتابة هذا المقال بعد أن أرسل صديق لي عبر البريد الالكتروني مقتطفات باللغة الانكليزية من الكتاب المذكور مشفوعة باعجابه الشديد بالكتاب فكرة وموضوعا ومحتوى مع قناعته باحتوائه(أي الكتاب) على كثير من الحقائق. هنا, كان لابد من وقفة لوضع نقاط على حروف ولاستيضاح بعضا من تعريفات ضاع معناها الحقيقي في زحام الحرب الاعلامية المستعرة حاليا:
أولا: في تعريف الحضارة:
1- الحضارة civilization : يقصد بالحضارة أو التمدن(الترجمة الحرفية للمصطلح اللاتيني) الانتاج الفكري والمادي والسلوك العام لمجموعة معينة من الناس في حقبة زمنية معينة. يشمل الانتاج الفكري كافة النشاطات العلمية والادبية والفلسفية بينما يشمل المادي انشاء البنى التحتية والفوقية والثراء المادي للفرد والمجتمع, أما السلوك العام فيمثل العادات والتقاليد والقيم الفكرية والاخلاقية والمفاهيم الاجتماعية للمجتمع والسلطة الحاكمة لهذا المجتمع.
2- منابع الحضارة r esou r ces : يستنتج من التعريف السابق ضرورة وجود مصادر مادية وفكرية لتكوين وبناء الحضارة في بلد ما . بالنسبة للمصادر المادية تمثل الثروات الطبيعية كالماء بكافة أشكا! له الطبيعية والنفط والمعادن والتربة الصالحة للزراعة أهمها بالاضافة للقوى البشرية الضرورية لاستثمار تلك الثروات في انشاء البنى التحتية والفوقية وفي التبادل التجاري. اما المصادر الفكرية فيمثل الدين والفلسفة والعلوم التجريبية والترجمة أهمها بالاضافة - بالطبع - الى العقول البشرية اللازمة لحفظ وتطوير ونشر تلك المصادر في المجتمع وفي المجتمعات المجاورة.
3 - نرى اذا - وبداهة - ان العنصر البشري هو العامل الاساسبي والمشترك لبناء كافة أشكال الحضارة مادة وفكرا. ومن هنا تبرزأهمية المحافظة عليه وتربيته وتنشئته بطريقة صحيحة جسما وعقلا ليؤد دوره كاملا في بناء المجتمع وتكوين الحضارة والارتقاء بها.
4- محطات للحضارة: عرفت البشرية على مر تاريخها الطويل الذي يقدر بملايين السنين أشكالا مختلفة من الحضارة, لكن كانت هنالك محطات رئيسية ومفصلية في مسيرة قطارها حيث أحدثت تلك المحطات تغييرات جذرية في الحضارة الانسانية واعطتها دفعات كبيرة الى الامام كما ونوعا. اهم هذه المحطات هي:
اكتشاف النار, اكتشاف وتصنيع أدوات الصيد, أكتشاف الزراعة والري ,أكتشاف العجلة, أكتشاف الكتابة وتطور أدواتها وأسلوبها, أكتشاف الرقم صفر والكشوفات الرياضية والفيزيائية والكيميائية الاخرى,الكشوفات الجغرافية والفلكية الكبرى, الثورة الفكرية فالصناعية وأخيرا-وليس آخرا-المعلوماتية.
هذا غيض من فيض من فترات حاسمة أعطت للنتاج الحضاري الانساني دفعات كبيرة للأمام,وبنظرة سريعة وشاملة لسلّم تطوّر الحضارة نلاحظ انّ شعوبا وأمما عدّة ساهمت في صنعها وأدلت بدلوها فيها بغضّ النظر عن انتمائها الجغرافي أو العرقي أو الطائفي.
5- مفاهيم مشتركة للحضارة: كالأبنية المتماثلة حجما وتصميما في شارع واحد والمختلفة والمتنوعة محتوى , هي المظاهر الحضارية عند مختلف الامم والشعوب,فقد تطابقت الأمم في أسس تكوين الحضارة من بنى تحتية وفوقية ولغة وقوانين وأنظمة حكم وأنتا! ج علمي وأدبي وفنّي بفروعه المختلفة, وتنوعت في مظاهرها, فالادب-على سبيل المثال- مفهومه واحد لم يتغيّر بتغيّر الزمان والمكان لكن اختلفت لغته واختلف شكله وأسلوبه واتّخذ خصوصية تدل على الامة التي انتجته وكذلك بالنسبة للموسيقى ولجميع فروع الآداب الاخرى.
أما الانتاج العلمي فلا خصوصية له, فهو مشترك بين جميع الامم البائدة والحاضرة تقريبا, ويمكن تشبيهه بكرة الثلج التي تكبر عندما تتدحرج من مكان الى مكان, حيث يغتني عبر الازمنة والامكنة بمفاهيم جديدة وتتعدل أخرى وذلك يمساهمة كل شعب وكل أمة بنصيب في ذلك الاغناء. اما طرق هذا النقل فهي عديدة وتشمل الحروب بين الامم والممالك, طرق التجارة, السفارات بين الامم والبعثات العلمية والتجارية, الكتابة والكتب وأخيرا وسائل الاعلام والمعلوماتية المعاصرة.
6- نتائج مهمة: يجب ذكرها قبل أن نورد أسباب نفي صدام الحضارات وهو الهدف من مقالنا هذا:
أ- لايستطيع أي شعب أو أية أمة أو جماعة في أي! زمان أو مكان الادعاء باحتكار أي أنتاج حضاري(68/211)
أيا كان نوعه أوهدفه وبالتالي ادعاء التفوق على أقرانهم من باقي الشعوب والامم, اذا فالحضارة
والعنصرية لايجتمعان وهما يتاقضان بعضهما تماما.
ب- أن الصراعات بين الامم والدول - وهي احدى وسائل الاحتكاك بين الشوب كما تقدم - هي التي تسهل
انتقال واغناء الانتاج الحضاري وليس العكس كما ذكر هذا الكاتب المرموق(الحروب الصليبية,حملة
نابليون على مصر,الفتوحات العربية الاسلامية, غزوات البرابرة للامبراطورية الرومانية).
ثانيا: العنصرية أداة ولها أدواتها:
1- تعريف العنصرية: صلى الله عليه وسلم acism : هي تعصب فرد أو فئة من الناس لجنس أو عرق أو قبيلة أو عشيرة أو دين أو طائفة أو معتقد أو حتى لون بشرة واباحة قتل أو اضطهاد أو حتى ازدراء الفئات الاخرى بدون وجه حق أو سبب واضح سوى انها تختلف عنه في جنسها أو عرقها أو طائفتها أو لون بشرتها(زنوج وهنود أمريكا,القبائل العربية قبل الاسلام, فكرة الحروب الصليبية, الحركة الصهيونية,النازية,التحزّب والحزبية,الصدامات العرقية والطائفية المعاصرة, مصطلح محاربة الارهاب).
2- تربة العنصرية Envi r onment: من التعريف السابق نصل الى نتيجة بالغة الاهمية هو أن الفكر العنصري يزدهر في المجتمع الجاهل والبيئة غير المتنورة, نتيجة عدم معرفة الفرد أو تلك الفئة من الناس بالطبيعة الانسانية وبحضارات وتاريخ الآخر وكذلك - وهو الاهم حتما -! الجهل التام أو الجزئي بالقيم الدينية والاخلاقية والنواميس الالهية التي لاتتغير على مرّ العصور. اذا: الجهل مرادف للعنصرية وبكلمة أخرى : الجهل عدو الحضارة.
3- الفكر العنصري كأداة للصراعات: بما ان الفكر العنصري مناف للعقل والحضارة كما تقّدم, ويجد في المجتمعات المتخلفة فكريا وصحيا واقتصاديا مرتعا خصيبا له,فلايدّ اذن من وجود مستفيدين وأصحاب مصلحة في وجوده ثم استمراره في مكان وزمان معينين وذلك عبر استخدامه كستار لخدمة وتحقيق مصالحهم الفردية والمادية فقط . لذا, يمكن اعتبار الفكر العنصري كأداة فعّالة في يد أصحاب طموح السلطة والنفوذ والجاه على مرّ العصور واختلاف الامكنة(نفس الامثلة التي ذكرتها في تعريف العنصرية). ويقتضي التنويه للاهمية البالغة هنا بأن أصحاب الفكر العنصري والمستفيدين منه ليسوا مجموعة واحدة متجانسة يورثون فكرهم وسلطتهم لاحفادهم أو منتسبي مجموعتهم فقط (كما يعتقد بذلك أصحاب نظرية المؤامرة), بل هم موجودون ومنتشرون في كافة البلدان وعلى مرّ العصور, والشواهد التاريخية كثيرة جدا لايتسع المجال لذكرها هنا.
4- أدوات الفكر العنصري: حالما تتوافر التربة الملائمة لنمو الفكر العنصري ويتواجد من يستفيد منه كما تقدّم, يبدأ البحث عن وسائل لنشره وترويجه وتشريعه بين أكبر عدد ممكن من الناس على أنه المعيار الحقيقي لاسباب الصدامات بين المجتمعات الشرية. هنا, يبدأ تشويه التاريخ ونتشأ مصطاحات جديدة مغلوطة, ويتغير تفسير أخرى معروفة منذ قدم التاريخ المكتوب لتلائم هذا الفكر الخطير. أما أهمّ مظاهر وأدوات الفكر العنصري فهي - الترتيب حسب الاهمية - :
أ- تشويه الفكر الديني وجعله بخدمة طبقة من الساسة والطامعين بدل أن يكون هو الموجه لرقي وصلاح المجتمع والفرد ولدفع مسيرة الحضارة. من أبرز مظاهر هذا التيار: قادة الحركة الصهيونية, الاباطرة البيزنطيين,ملوك فرنسا وألمانيا وانكلترا في العصور الوسطى, بعض القادة" والخلفاء" المسلمين وخاصة العثمانيين وقادة الثورة "الاسلامية في ايران ,الاحزاب والمنظمات الدينية المعاصرةالتي شوهت مفهوم الجهاد والخلافة في الاسلام وابتدعت مصطلح الصليبية العالمية وذلك خدمة لاهداف الولايات المتحدة في ربط المقاومة الفلسطينية واللبنانية المشروعة بالارهاب والعنصرية وبالتالي محاربتهما.
تتجلى هنا "ثقافة الطائفة" بأسوأ صورها حيث تبيح هذه "الثقافة" رفض وأحيانا الالغاء الجسدي (ان لزم)
لأفراد من طوائف اخرى وذلك خدمة فقط - وثم فقط - لاصحاب المصالح- من الاقطاعيين والملوك في
العصور الوسطى- وليس لعامة النلس الذين سيكتشفون لاحقا بانهم " طلعوا من المولد بلا حمّص"....!!!
( الحروب الصليبية, حرب المائة عام بين فرنسا وبريطانيا,الصراعات بين الامبراطورية النمساوية وروسيا
القيصرية والدولة العثمانية).
ب- تشويه الفكر القومي: نشأ هذا المنحى في عصور لاحقة (العصور الحديثة بالتعريف التاريخي والتي تبدأ مع مطلع القرن 15 حتى اليوم) بعدما بدأت الامبراطوريات القديمة بالتهاوي(البيزنطية، الرومانية المقدسة ثم
الاسبانية, البرتغالية والهولندية) والتي كانت قائمة على التحالف المشبوه بين الاباطرة ورجال الدين(وليس الدين)
وحلّت محل أصحاب القرار نخبة من الصناعيين وكبار التجار التي مافتئت تزيد ثرواتها من خلال امتصاص
دماء شعوبها وشعوب مستعمراتها الآخذة في التوسعّ. تلك النخبة كانت تبحث عن " تشريع" legalization
وتبرير لحروبها الاستعمارية, فاستخدمت النعرات القومية والاثنية لذلك واستغلت الفروق والخصائص القومية(68/212)
والحضارية الموجودة اصلا بين الشوب والامم على مرّ العصور واختلاف الامكنة لتحقيق مآربها الشخصية من مادية واسترتيجية (نابليون,المانيا,ايطاليا,فرنساوبريطانيا في القرن التاسع عشر الى الحرب العالمية الثانية,
الاحزاب القومية المعاصرة في شتّى بقاع العالم).
ج- تشويه الفكر الانساني: وذلك باستخدام معايير انسانية وأخلاقية ثابتة ومطلقة لتبرير وتغطية التوسع والهيمنة:
كالدفاع عن الحرية والديموقراطية, محاربة الارهاب(وهو بيت القصيد في مقالي هذا).
د- استخدام نظريات ومصطلحات ماتت مع موت أصحابها: كالماركسية, الاشتراكية الخيالية, الهيغلية, المكيافيللية الفوضوية,......الخ.
ه- ابتداع نظريات وفلسفات خاصة لتغطية وتبرير التوسع والهيمنة: كالنازية, الفاشية, الصهيونية, و العلمانية.
5- اعود للتنويه والتركيز على أن الفكر العنصري بكافة أشكاله وادواته المعروضة سابقا هو أداة وليس هدفا في حدّ ذاته, حيث لم يكن يهم أصحاب القرار السياسي تحقيق الهدف المعلن لهم والذي شرّعوا على أساسه عدوانهم أو حربهم ضد الآخر بل كان يهمهم تحقيق أكبر كسب مادي واستراتيجي على حساب الاطراف الاخرى المتصارعة(الحربين العالميتين الاولى والثانية, انشاء دولة اسرائيل).
ثالثا: الاديان,الحضارة والعقل:
عودة الى تعريفنا السابق للحضارة ومقوماتها, حيث ذكرت بان العقل البشري هو أحد المقومات الرئيسية لصنع الحضارة وان الاديان هي أحد المصادر الفكرية الرئيسية لها.
بمحاكمة منطقية بسيطة وبعيدا عن السفسطائيات نصل الى نتيجة عظيمة في الاهمية وهي : حيثما يوجد عقل سليم يعمل نجد حتما تطبيقا سليما للدين وبالتالي نجد الحضارة. اي أن العقل والدين والحضارة توائم ثلاثة لاتنفصل مطلقا على مرّ العصور وباختلاف الامكنة, وان أي غياب لاحدها يعني حكما غياب الاثنين الباقيين.
وبمحاكمة مماثلة نستنتج أنه حيثما يوجد الفكر العنصري وأدواته وزبانيته يغيب العقل والدين الصحيح والحضارة.
لكن, هل ينطبق هذا الاستنتاج على الواقع التاريخي قديما وحاضرا؟ وبعبارة أخرى؛ ! هل حدث وتعايش في مكان واحد وزمان واحد الفكر العنصري مع بيئة حضارية متنورة أم لا؟
الجواب؛ نعم حدث في أكثر من زمان ومكان أن تعايش الفكر الجاهل العنصري مع الفكر الحضاري المتنور. هذا واقع تاريخي لايمكن انكاره, وهو يناقض- ظاهريا على الاقل- النتيجة التي توصلنا اليها منذ قليل,لكن بقليل من الدراسة المتأنية لمعظم الدول والحضارات البائدة والسائدة نتبين انكفاء الجهل والفكر العنصري(وليس غيابه نماما) في حال ازدهار الحضارة كما نلاحظ ازدهاره في فترات انكغاء الحضارة والعقل, وهذا مايفسر وجود طبقات السياسيين والاقتصاديين المغامرين والطامعين الى الثروة والسلطان حتى في أعتى الدول قوة وأكثرها حضارة( بسمارك وهتلر في ألمانيا, نابليون في فرنسا, لينين في روسيا واتحاد الصناعات العسكرية والمافيا في الولايات المتحدة), كما يفسر أيضا وجود جمهرة مفكرين وكتّاب متنورين حتى في أشد المجتمعات تخلفا وظلامية. اذن, انه صراع أبدي وتوازن بين العقل والجهل, بين الحضارة والتعصب, وبعبارة أخرى: بين الخير والشرّ.
رابعا: الشرق والغرب:
سأكتفي بسرد مثالين مرتبطين ببعضهما ارتباطا وثيقا منذ قدم التاريخ شكّلا- ومازالا يشكلان حتى اللحظة الراهنة_ محور الصراعات العالمية أو مايعرف ب" الصراع بين الشرق والغرب" وهما: الحضارة العربية الاسلامية والحضارة الغربية الحديثة:
كان لظهور الاسلام في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي الاثر الاعظم في نقل المنطقة بأسرها من حالة الجهل والتخلف والعنصرية القبلية وعبادة الاوثان وتقديس الطاغوت الى عبادة الاله الواحد وازالة الفروق بين البشر. حمل الاسلام كافة المفاهيم الانسانية الى ثلاثة محاور رئيسية: محور علاقة الفرد مع خالقه(العبادات), محور علاقة الافراد والمجتمعات ببعضها بعضا(التشريع الاجتماعي والاخلاقي والاقتصادي), ثم محور علاقة الحاكم بالرعية وأسلوب الحكم.
لم يتسامح الشرع الاسلامي في اهمال اي محور من تلك المحاور وشدد على تطبيق الكل, وهذا مانراه واضحا في سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم - والصحابة والخلفاء الراشدين- رضي الله عنهم_ حيث شددوا في كل مناسبة على تلازم هذه المحاور بحيث يكون المسلم مسلما في كل شيء ابتداء من سلوكه الشخصي فسلوكه مع محيطه وأخيرا اسلوب حكمه(اذا كان حاكما).
النقطة التي تهمنا هنا هي "اسلوب الحكم في الاسلام". فبحسب النصوص الشرعية والكتب الكثيرة المختصة بهذا الشأن, قام الحكم في الاسلام على ثلاثة دعامات رئيسية: العدل, التسامح وتكافؤ الفرص. أما العدل فيقصد به اعطاء كل ذي حق حقّه من ثواب أو عقاب بغض النظر عن صفة اعتبارية أو لون أو عرق أو دين. وأما التسامح فيعني حرية المعتقد والاتجاه السياسي. وأخيرا يعني تكافؤ الفرص وضع الرجل المناسب في المكان المناسب واتاحة الفرصة أمام جميع الرعايا لممارسة عملهم ونشاطهم اقتصاديا أكان أم اجتماعيا أم علميا.(68/213)
كان لتطبيق أسلوب الحكم الذي ذكرته آنفا والنابع لاشك من ايمان ديني عميق الاثر الكبير في انطلاق الحضارة العربية الاسلامية واشعاعها على العالم كله في ذلك الوقت. انقلبت موازين وتغيرت مفاهيم ودالت دول الى غير رجعة وزالت طواغيت الى الابد في فترة زمنية قصيرة لاتنوف عن الثلاثين عاما منذ أنزل الوحي على الرسول- صلى الله عليه وسلم - لاول مرّة , وتتابعت الانجازت الحضارية التي كان الشرع الاسلامي دعامتها ومنبعها وملهمها دائما. كانت الفترة التي طالت حوالي ستمائة عام تقريبا فترة عقل وتنوير وانفتاح بحقّ. ولم يجد العلماء والمفكرين المسلمين وغيرهم ممّن انضووا تحت لوائها حرجا من الاستفادة من كل ماوقع تحت ايديهم من علوم واكتشافات وحتى فلسفات لشعوب اخرى بغضّ النظر عن دينها أو عرقها حيث لم يخرج ذلك عن نطاق النصوص الشرعية الاسلامية التي أمرتهم بالبحث عن المعرفة اينما وجدت.
بالطبع, لم تعدم تلك الفترة وجود الطامعين السياسيين واصحاب المصالح المادية البحتة, ولم تعدم وجود الباحثين عن السلطان والجاه والنفوذ, غير ان الوعي الديني الصحيح بين كافة فئات الناس من خاصة وعامة ومن علماء وباحثين ومستشارين وادباء وحتى عامة الناس, هذا الوعي كان يحبط دائما الانحراف في مسيرة الحضارة تلك.
في الفترة ذاتها(العصور الوسطى: 500-1500 م)كانت القارة الاوروبية غارقة في الجهل والتخلف والعنصرية. كان يحكمها خليط من امبراطوريات ادّعت خلافة الامبراطورية الرومانية ومن اقطاعيات عديدة متفرقة وصغيرة انتشرت في انحائها. وكان اصحاب السلطة والنفوذ من أباطرة واقطاعيين وأمراء يتحالفون مع رجال الدين لاضفاء الشرعية على سلطتهم. ولم يجد اولئك مقاومة تذكر من الشعوب التي حكموها آنذاك كونها(اي الشعوب) كانت غارقة في الفقر والجهل والمرض الذي بدأ يدبّ في أوصالها في السنين الاخيرة للامبراطورية الرومانية. لم تنفع محاولات قسطنطين (في القرن الرابع الميلادي) من اعلانه المسيحية دينا رسميا للدولة ثم تقسيمه لها الى شرقية وغربية في بعث الروح في جسد الامبراطورية الميّت بل عجّل -على العكس - في نهايتها, حيث حوّل بخطواته تلك تسامح المسيحية الاصولية وعالميتها كما نادى بها السيد المسيح- عليه السلام- وحواريه الى تعصب ديني وصل الى أوجه مع بداية الحروب الصليبية.
ظلّ نجم الحضارة للشرق العربي الاسلامي في صعود وللغرب الاوروبي في هبوط حتى ارهاصات القرن الثالث عشر الميلادي. فمع توسع مساحة الدولة الاسلامية وانطواء شعوب كثيرة تحت لوائها,كثرت المطامع السياسية وعادت المناحرات القبلية الى الظهور وخاصة مع ازدياد ثروة ورخاء الامّة, فكان التقسيم السياسي لها الى دويلات يحارب فيها الاخ أخيه(الاخوة أميري دمشق وحلب قبيل الغزو الفرنجي)مما أثار شهوة الدول والشعوب المجاورة ايضا والغير متحضرة(المغول البداوة والفرنجة الاقطاعيين), هنا بدأ نجم العقل والدين وال! حضارة يأفل ويفسح المجال لانحطاط بدأ سياسيا وانتهى دينيا واجتماعيا وفكريا واقتصادي الانزال نعيش اثاره لليوم(حلقة الجهل والفقر والمرض)....لكن:
لم تأب الحضارة العربية الاسلامية أن تختفي وتضمحلّ قبل أن تفسح المجال للأوروبيين بان ينهلوا منها, فكيف؟.
كانت الاندلس وصقلية وجنوب ايطاليا ثم الممالك الفرنجية في بلاد الشام الجسور التي عبرت منها الحضارة العربية الاسلامية وشعّت الى الغرب الاوروبي, حيث تدفّقت الانجازات الحضارية بكل اشكالها من علم وفلسفة وأدب ولاهوت عبر مناطق التماس تلك الى الشعوب الاوروبية سواء بالبعثات الدراسية أو بالترجمات المكثّفة أو الدبلوماسية أو بالتجارة أو بالحروب, ووجد في الغرب من يتبنّى التنوير ويعتبره فرصة للخلاص من نير وتسلّط الحكام والامراء ورجال الدين وخاصة في المدن التجارية الايطالية(البندقية, بيزا وجنوا)التي احتفظت على الدوام بعلاقات جيّدة مع الشرق الاسلامي.
شيئا فشيئا استبدلت بخارى والري وبغداد ودمشق والقاهرة والقيروان ومراكش وفاس وقرطبة كمراكز اشعاع فكري وحضاري في العالم المعروف آنذاك ببادوا وسالرنو و بولونيا وفلورنسا وبالرمو ثم لاحقا لشبونة وروما ومدريد ومونبيلييه وباريس وبرلين ولندن, وكانت نقطة البداية هي كسر القاعدة التي وضعها رجال الدين والقائلة بعدم دراسة فكر الشعوب الاخرى غير المسيحية باعتباره " زندقة وكفرا ومروقا على الدين".
استمر الصراع حادّا- وبالتوازي - بين الفكر الظلامي والفكر التنويري في أوروبا لمدة تزيد عن ثلاثمائة عام, حيث لم يسلّم الحلف المكوّن من! الملوك والامراء ورجال الدين مواقعه بسهولة. عرفت القارة موجات عارمة من التعصب الديني والطائفي والعرقي وعانت من حروب داخلية مدمّرة, لكنها عرفت في الوقت نفسه حركات اصلاح ديني وفكري واجتماعي واقتصادي كثيرة تّوجت بالثورة الفرنسية والانكليزية ثم الوحدتان الالمانية والايطالية, وعرفت على الصعيد العلمي تتابع الاختراعات والاكتشافات حتى يومنا هذا..(68/214)
كانت النهضة الفكرية الاوروبية بدورهاسببا رئيسيا في الكشوف الجغرافية الكبرى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر التي خلقت طبقة من كبار التجّار ثم الصناعيين بفعل الثروات المادية المتدفقة من المستعمرات, وهذه, بالاضافة للثورة الفكرية والعلمية, ساهمت في ادخال القارة في دوامة الحلقة الحضارية التي كان الشرق الاسلامي قد دخلها قبلها بحوالي 800 عام وهي حلقة الغنى والعقل والصحة.
أفسح اضمحلال طبقة الملوك والاقطاعيين ورجال الدين وزوال التحالف بينهم المجال لظهور طبقة جديدة في مراكز القرار وهي طبقة تحالف الشرك! ات الصناعية والتجارية الكبرى مع رجال السياسة الذين تبدلت ألقابهم وتغيرت مسمياتهم, اذ كان لابد للصناعات المتنوعة التي استحدثت بفضل التقدم العلمي والثروات الهائلة من المستعمرات المكتشفة حديثا أن تبحث لها عن أسواق لتصريف منتجاتها ,الى يد عاملة رخيصة والى- وهو الاهم- مواد أولية خام ضرورية لتلك الصناعات, فاشتد التنافس الاستعماري بين الدول الاوروبية الاكثلر تطورا واتصف لاول مرة في التاريخ - ومن الآن فصاعدا- بالعالمية لانه لم يعد مقتصرا على الحدود البرية المشتركة بين بلدين -كما كان سابقا-بل شمل كل البقاع التي وصلتها أساطيل وجيوش تلك الدول.
وصل التنافس الاستعماري بين ساسة وصناعيي الدول المتطورة الى ذروته خلال النصف الاول من القرن العشرين, وحاول كل طرف تحقيق مكاسب استعمارية جديدة على الساحة العالمية المفتوحة وخاصة بعد انضمام لاعبين جدد للنادي الاستعماري(المانبا, ايطاليا, بلجبكا, الولايات المتحدة,اليابان والاتحاد السوفياتي). وفي حين شهدت الحرب العالمية الاولى زوال آخر الامبراطوريات الاقطاعية -اللاهوتية القديمة ( النمسا,هنغاريا , الدولة العثمانية,روسيا القيصرية) شهدت الحرب العالمية الثانية زوال القوى الاستعمارية الامبريالية المتطورة (فرنسا,بريطانيا,المانيا,ايطالياواليابان) وصعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الى المسرح الاستعماري العالمي كقوتين عظميين وحيدتين تصولان وتجولان كما يحلو لهما عبر ماسمي "بالحرب الباردة", اذ لم يحدث صدام عسكري مباشر بينهما بل حدث عبر حروب ساخنة شتّى في العديد من بلاد العالم الثالث( كوريا, فييتنام, لاوس, كمبوديا, لبنان, فلسطين, القرن الافريقي, كوبا, نيكاراغوا, أنغولا....الخ). وقد اتخذت هذه الحروب ذرائع شتى من قومية وطائفية وقبلية وايديولوجية اذكت اوارها الآلة الاعلامية الضخمة للقوتين العظميين بالاضافة للتنظيمات والانظمة التابعة لها في تلك البلدان وايضا الجهل والفقر والمرض المتفشي بين شعوبها(اي شعوب العالم الثالث).!
شهد العقد الاخير من القرن العشرين انكفاء الاتحاد السوفياتي كقوّة عالمية وتفرّد الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في الساحة العالمية. تجلّى ذلك في اكتسابها مواقع استراتيجبة جديدة في شتّى بقاع العالم عبر اثارة الحروب الاهلية والاعمال الارهابية مباشرة أو بواسطة منظمات وأنظمة تعاديها ظاهريا, ثم التدخل عسكريا بحجة ايقافها واعادة الامن والاستقرار. كان هذاواضحا في يوغوسلافيا السابقة,بنما,القوقاز, أفغانستان,العراق.... والبقية تأتي.....!!
خامسا: الحركة الصهيونية, الهيمنة الامريكية وصدام الحضارات؛ نتيجة
هل هنالك ثمة علاقة بين الفكرة الصهيونية ونظرية" صدام الحضارات"؟
للاجابة على هذا السؤال يلزمنا العودة الى بعض التعريفات والمحطات التاريخية.
تعرّف الحركة الصهيونية بانها حركة تهتم بتجميع يهود العالم أجمع في "وطن قومي" أو "دولة يهودية" عبر جميع الوسائل الممكنة, وقد لخص روّادها هذه الوسائل " بالتجمّع والاقتحام", حيث قامت منظمات صهيونية عديدة بتجميع السكان اليهود من كافة بلدان العالم وتقديم التسهيلات المادية والاجتماعية لهم مقدمة لارسالهم الى فلسطين,ومن هناك, وبعد توفير عدد كاف منهم وتدريبهم تدريبا عسكريا مكثفا, قاموا بتثبيت أقدامهم في "الارض الموعود" ومن ثم تأسيس " الوطن القومي" ثم الدولة في عام 1948 م.
اعتمدت الحركة الصهيونية منذ نشأتهاعلى الاساطير الدينية التي لاأساس لها من الصحة كغطاء لعملها ولاعطائه الشرعية اللازمة,
لم تستطع الحركة الصهيونية منذ نشأتها في عام 1897 م وحتى اللحظة الراهنة- مرورا بكافة مراحل انشاء الدولة اليهودية- العمل منفردة ومن دون دعم مادي وسياسي وعسكري وبشري, فكان اعتمادها على بريطانيا وفرنسا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ومن ثم انتقل السند الى الولايات المتحدة التي ماتزال تعتمد عليها حتى الآن. ومن جهتها وجدت هاتان الدولتان في تلك الحركة ورقة رابحة عظيمة الاهميّة لتحقيق اهدافها الاستعمارية في المنطقة العربية خاصة بهدف تمزيقها الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي(اهمية وحدة مصر والشام في تكوين دولة قوية في المنطقة).
بناء على كل ماسبق نخلص للنتائج التالية:(68/215)
1- الحركة الصهيونية هي حركة عنصرية خالصة اعتمد خطابها على تفضيل اليهود على ماسواهم من البشر وتصويرهم للعالم على انهم المضطهدين والمساكين تمهيدا للقيام بأكبر عملية استعمارية استيطانية في التاريخ.
2- اتفق المضمون العنصري للحركة الصهيونية مع تفكير بني اسرائيل الاول حين حوّلوا الشريعة الالهية التي نادى بها موسى عليه السلام من توحيد الهي وعالمي لكل البشر الى عنصرية يهودية خاصّة بهم(شعب الله المختار).
3- تزامن ظهور الحركة الصهيونية عام 1798 م مع بداية ظهور الولايات المتحدة الامريكية كقوة استعمارية عالمية عام 1898 م ذلك وخلال الحرب الاسبانية-الامريكية التي جرّدت اسبانيا من معظم مستعمراتها في العالم.
4- اعتمدت الولايات المتحدة منذ ظهورها كقوة عالمية جديدة تسعى الى الهيمنة, أساليب وتشريعات عديدة لتبرير تدخلها الاستعماري ومنافسة القوى الكبرى المعروفة آنذاك أسوة بكل القوى والنظم الاستعمارية على مرّ التاريخ)كما ذكرت قبلا). وكان توافق المصالح بين الحركة الصهيونية من جهة وبريطانيا وفرنسا من جهة اخرى, واعتماد تلك الحركة كليا عليهما, كان ذلك مقدمة للزواج الابدي بين الحركة الصهيونية ومراكز صنع! القرار في الولايات المتحدة حتى هذه اللحظة.
أمّا الاساليب والخطابات التبريرية التي اعتمدها الثنائي "الصهيونية-الولايات المتحدة" حسب التسلسل الزمني فكانت كما يلي:
1- نقاط الرئيس الامريكي ويلسون الاربعة عشرة بشأن حق الشوب في تقرير مصيرها بنفسها(عام 1919 غداة انتهاء الحرب العالمية الاولى) وماتبعها من انشاء عصبة الامم ثم اعطاء الدول الاستعمارية الكبرى مايسمّى ب" حق الانتداب" لتهيمن به على الشعوب المستضعفة بحجة مساعدتها على بناء نفسها وتقرير مصيرها حيث ان هذه الشعوب غير مؤهلة للاستقلال بعد.....!!!!
2- محاربة النازيّة والفاشية والآلة العسكرية اليابانية باسم الحرية والديموقراطية وذلك في فترة مابين الحربين العالميتين وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية وانشاء محاكم "نورمبرغ" لمحاكمة" مجرمي الحرب النازيين" كما ادّعوا.
3- محاربة "الشيوعية" المتمثلة في القوة العظمى الثانية(الاتحاد السوفياتي)التي ظهرت الى المسرح العالمي قبيل الحرب العالمية الثانية.وقد استمرّ هذا المنحى حتى تفكك الاتحاد السوفياتي السياسي نهاية عام 1991 م.
4- محاربة الارهاب: وهو مصطلح قديم حديث بدأ الكلام عنه في بداية السبعينات من القرن العشرين مع تصاعد المقاومة الفلسطينية المشروعة ضد الوجود الاسرائيلي في فلسطين(وليس فقط ضد الاحتلال الاسرائيلي لاراضي مابعد حرب 1967).اذ روّعت المقاومة الفلسطينبة(وقبلها الجزائرية والفيتنامية والدومينيكانية والبوليفية وبعدها الافغانية ضد الاحتلال السوفياتي واللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي) دوائر صنع القرار في الثنائي الامريكي-الصهيوني ووجدت نفسها أمام عدو حقيقي اعتمد الفكرة والاسلوب الصحيحين في مواجهة الظلم والطغيان. لم تتبن المقاومة الفلسطينية- وبعدها اللبنانية- أي مشروع عنصري أو طائفي في صراعها مع عدوّها, كما لم تخرج قيد أنملة عن قتال من يجب قتاله(وهو الجيش المحتلّ فقط), فكان أن كسبت احترام العلم كله بمصداقيتها بمثل ماحققت من مكتسبات على صعيد التحرير وارباك العدو وترويعه ناهيك عن افقاده مصداقيته ومشروعيته. لقد حققت حركات المقاومة هذه بعض ماحققه نور الدين زنكي وصلاح الدين الايوبي قبل حوالي ثمانمائة عام في صراعهما ضد الغازي الفرنجي(وليس النصراني)رغم محاولات الفرنجة اضفاء الشرعية على غزوهم للشرق الاسلامي.اعتمد نور الدين وصلاح الدين الاسلوب ال! حضاري والصحيح في مقاومة الاحتلال ومحاربة قوى الظلام والعنصرية مشفوعا بالايمان الديني الصحيح وهو ماأدّى-حكما- الى نجاحهما.
لم يكن أمام الولايات المتحدة من خيار أمام تصاعد حركات المقاومة تلك واكتسابها تعاطفا شعبيا عربيا واسلاميا وعالميا, وخاصة بعد دعم الاتحاد السوفياتي لبعضها في سياق الحرب الباردة(وليس بالطبع لحسن نيّته), لم يكن أمامها من خيار الاّ البحث عن وسائل جديدة لتطويع المقاومة الشعبية ضد قوى الهيمنة والظلام , فكان اللجوء الى ثقافة العنف الطائفي والارهاب ومحاربة الارهاب, فكيف؟(68/216)
اعتمد استراتيجيو البنتاغون لهذا ثقافة كاملة بدأ نشرها عبر وسائل الاعلام المتعددة و خطابهم السياسي بشكل مكثّف منذ منتصف السبعينات وهي ثقافة "الطائفة" حيث حلّت المسميّات الطائفية والاثنية محل المسميات الدالة على الظلم, الاستبداد, التحرر والمقاومة وتحول وصف الصراع في ايرلندة الشمالية من صراع بين الوحدويين والانفصاليين في اذاعة ب.ب.سي. باللغة الانكليزية الى صراع بين البروتستانت والك! اثوليك في نفس الاذاعة باللغة العربية......!!!...... ساعدهم في ذلك بشكل رئيسي كثير من الانظمة والمنظمات والحركات والاحزاب في العالم الثالث التي استحدث بعضها و"حدّث" بعضها الآخر خصّيصا لتلك الاغراض. شكّلت الحرب الاهلية اللبنانية التي دامت ستة عشر عاما(1975-1991 م) أكبر مثال على ذلك حيث برزت ثقافة الطائفة والاقليمية والاثنية بشكل واضح فيها, كما شكلت الحرب الاهلية الافغانية التي دارت بين "المجاهدين" الافغان في العقد الاخير من القرن العشرين المثال القبيح لثقافة القبلية والطائفية.
وفي الواقع, فان تمرير ثقافة الطائفة لغايات استعمارية لم يكن جديدا في العصور الحديثة. فقد استعمل بشكل واضح في القرن التاسع عشر من قبل القوى الاستعمارية الكبرى في ذلك الوقت في الشرق العربي والهند . حيث تسابقت تلك القوى- وبدعوى حماية طائفة معينّة من التصفية على يد الطائفة الاخرى(ياللعجب....!!)- الى التدخل المتزايد في تلك البلدان واقتسام تركة الدولة العثمانية المريضة , حيث ادّى ذلك الى تقسيمها ! بعد استقلالها الى كيانات سياسية عديدة,كما ادّت تلك السياسة في الهند الى تقسيمها لثلاثة دول كان التوتر هو الغالب على علاقاتها ببعضها لغاية الآن.
استعمل سلاح "ثقافة الطائفة" بشكل فعّال كذلك في وأد الاتجاهات التنويرية التي ظهرت في مصر والشام والصين والهند والبلقان وروسيا القيصرية في القرن التاسع عشر. اذ حّجم مشروع محمد علي باشا في مصر لبناء دولة اسلامية حديثة منفتحة وعصرية وقوية,واثيرت الحركات الاثنية والطائفية ضده. كما صّور كثير من كتاب مصر والشام المسلمين وغير المسلمين المتنورين كملحدين مارقين وعملاء "للغرب الصليبي" وللمستشرقين الاوروبيين. تمّ هذا بمباركة السلطات العثمانية والدول الاستعمارية الاوروبية التي كانت تفَضّل وجود دولة مريضة ظالمة في الشرق تمهيدا للانقضاض عليها في اللحظة المناسبة,.هكذا,وبدلا من قيام ثورة عامة ضد الظلم والاستبداد في كافة ارجاء الدولة العثمانية ومن كافة شعوبها بدون استثناء (كما بشّر الكواكبي في كتابه"طبائع الاستبداد"), قامت ثورة "عربية" غير واضحة الاهداف متعاونة مع البريطانيين في وجه حكم طوراني متعصّب ساهمت بريطانيا نفسها في صنعه.....!!!!
توافق استعمال سلاح"ثقافة الطائفة" مع مضمون الحركة الصهيونية من أساسها كما ذكرت سابقا, ووجدت الحركة في تلك السلاح تشريعا أساسيا لوجودها ولوجود الدولة العبرية المصطنعة , ومن جهة أخرى, ونظرا لحاجة الولايات المتحدة الدائمة لتبرير استعمارها وهيمنتها و الحاجة لوجود عدو ايديولوجي دائم تحاربه(كما تدّعي), تم اعتبار الارهاب كعدو أول للديموقراطية والحرية الامريكية بعد سقوط الشيوعية ومن قبلها النازية والعسكرية اليابانية,ووجدت في الانظمة والمنظمات التي استعملت العنف الديني والقومي ضالتها فأخذت تشجعها وتدعمها تمهيدا لعصر جديد من الهيمنة العالمية.أما الحركات والمنظمات التوّاقة الى الحرية والتنوير فقد أخذت تضمحل شيئا فشيئا وأصبحت توصف بالارهاب أسوة بالمنظمات الارهابية الفعلية الاخرى التي كان للولايات المتحدة الدور الكبير في صنعها.
وأخيرا كان للصبغة الدينية أو الاثنية لتلك المنظمات الايحاء الاكبر(لدى شعوب العالم الثلث خاصة) بان الحروب التي يخوضها الثنائي الصهيوني الامريكي هي حروب دينية وأثنية لاعلاقة لها مطلقا باية مصالح استرتيجية أو اقتصادية, وهو بالضبط ماأراد هذا الثنائي ايهام العالم به ! واظنه نجح الى حدّ ما في ذلك......للأسف.
سادسا: هل يوجد صدام للحضارات؟:
بعد كل ماتقدم, هل نستطيع أقرار وجود صدام للحضارات؟
هل يعقل أن تدمر حضارة ما حضارة أخرى اذا كان السلام والامن أحد ركائزها؟
وهل من المنطقي أن تدمر الحضارة نفسها بالحروب بينما اسمها وتعريفها يعنيان "البناء والازدهار"؟
وهل ثقافة العدل والتسامح ونشر المعرفة تؤدي الى العنصرية والاحتكار والطغيان؟
وهل تحضّ تعاليم السماء حقا على قتل الانسان للأنسان لمجرد اعتقاده؟
وأخيرا, هل من الممكن أن تصارع الحضارات بعضها اذا كان وجود كل واحدة منها سبب للأخرى؟
هل يريد السيد هتنغتون أن نصدّق أن البروتستانتي والكاثوليكي يقتلان بعضهما بسبب المعتقد في بلفاست بينما يشربان البيرة سوية في احدى بارات لندن أو ليفربول؟(68/217)
وهل يريدنا أن نصدّق ان الغرب "المسيحي" والشرق "المسلم" يكرهان بعضهما لدرجة الموت بينما عشرات الرحلات الجوية ومثلها البحرية الشرعية وغير الشرعية تنتقل كل يوم ناقلة "الشرقيين" الباحثين عن الامن الاقتصادي والاجتماعي الىالغرب المتطوّر من جهة وناقلة الغربيين الى الشرق المليء بالتاريخ والحضارات والمغامرة الفكرية والفلسفية؟
وهل يطلب منّا أن نوافقه القول باستحالة تعايش الماليزي المسلم والصيني البوذي والهندي بكافة طوائفه وأديانه في ماليزيا ويبنون معا بلدا متطورا وحضاريا منفتحا؟
هل يطلب منّ الاطباء والعلماء العرب بعدم اعتماد المراجع الاجنبية في دراستهم وابحاثهم بحجة انتمائها(أي المراجع) لحضارة مغايرة؟
وهل كان يتصوّر نهضة أوروبا في نهاية العصور الوسطى من دون الاحتكاك المستمر بالعرب والمسلمين؟
وهل في اعتقاده أن حضارة بلده(الولايات المتحدة) قد نزلت من السماء ولم تأت عبر الاطلسي من أوروبا نفسها ومن العقول الجبارة لابناء العالم الثالث المهاجرون اليها؟
هل يريد السيد هيتينغتون أن لايعرف غير الامريكي بأرنست همنغواي وأن لايعرف غير الروسي بليون تولستوي وغير العربي بنجيب محفوظ؟ وبناء عليه هل يريد ألغاء الترجمة ورمي القواميس في البحر نظرا لانتفاء الحاجة لها في عصر صدام الحضارات؟
ان الحضارة ياسيد هتنغتون ليست سيوفا ورماحا ودبابات وطائرات وصواريخ تفني بها أمّة سواها من الامم, وهي ليست مطامع مادية واس! تراتيجية وسياسية. ان الحضارة تعني العقل, والعقل لايعرف سوى العقل, والفكر لايعرف سوى الجدل والدين لايعرف سوى التسامح, والثقافة تقول دائما لنظرائها :" هل من مزيد"؟
اذا كان هنالك مايسمّى فعلا "صدام الحضارات" فلماذا انتشرت الكتابة المسمارية من جنوب مابين النهرين صعودا حتى "ايبلا" (جنوب حلب) والى أوغاريت(شمال اللاذقية)؟, ولماذا انتشرت الابجدية الكنعانية وحروفها الى كافة انحاء أوروبا ثم العالم كله عبر الابجدية اللاتينية؟. لماذا سمّى العرب المسلمون " أبوقراط الاغريقي" بأبي الطبّ وترجمت كتبه وكتب جالينوس الى العربية؟. كيف انتشرت صناعة الورق من الصين الى أوروبا مرورا بالشرق الاسلامي؟.و لماذا ظلّت مؤلفات الرازي وابن رشد وابن زهر وابن سينا تدرّس في الجامعات الاوروبية حتى نهاية القرن الثامن عشر؟ . لماذا ألّفت المستشرقة الالمانية(الشرقية الشيوعية) "زيغريد هونكه" كتابها المشهور " شمس العرب تسطع على الغرب" ؟,ولماذا اتجه معظم المثقفين والعلماء من كافة انحاء العالم الى باريس (عاصمة النور)ولندن وبرلين للدراسة والتحصيل ابتداء من القرن التاسع عشر؟. وأخيرا, لماذا يتمنى مئات الملايين من سكان ه! ذا العالم البائس الاقامة في الولايات المتحدة سواء للعمل أو للتحصيل العلمي في عصرنا الحالي؟.
أذا سلّمنا بوجود ما يسمّى"صدام الحضارات" فكيف نفّسر الحروب اللانهائية التي شهدتها دول أوروبا"المسيحية" فيما بينها على مدى ألف وستمائة عام؟ وكيف نشرح الفتن السياسية والطائفية التي شهدتها بلاد الشام والعراق ومصر والاندلس "الاسلامية" عندما بدأت منذ ألف وثلاثمائة عام ولازالت؟؟!!... بماذا ننظّر حرب استقلال الامريكيين "البروتستانت" عن بريطانيا " البروتستانتية" ثم الحرب الاهلية الامريكية(بين الامريكيين البروتستانت انفسهم) في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ؟...وهل كانت الغزوات الهمجية لتيمورلنك "المسلم" في العراق والشام " الاسلامية" أوائل القرن الخامس عشر تعتبر صداما حضاربا؟؟!! وكيف نفسّر الستعمار الاوروبي "المسيحي" الدائم لافريقيا "المسيحية" وامتصاص ثرواتها ودماء شعوبها وتركها فريسة للمجاعات والجهل والمرض؟.
وأخيرا كيف نفسّر وجود دولة اسرائيل بذاتها على أساس ديني (كما ادّعوا) بينما يتواجد ثلاث! ة أرباع يهود العالم خارجها(خاصة يهود الدول المتطورة), بينما تعاني تلك الدولة المصطنعة من علل الهجرة المعاكسة والتمييز الحاد بداخلها بين يهود الاشكناز والسفارديم....!!!؟.
سابعا: لماذا" صدام الحضارات"؟
ماهي الأهداف اذا من تعميم نظرية "صدام الحضارات" وماشابهها من نظريات "كالصراع الديني والعقائدي" ," الحروب الصليبية الجديدة(كما نطقها السيد بوش ) وانتظار قدوم المسيح الدجّال, "نظرية المؤامرة والثورة العالمية"...الخ؟.
اذا عدنا لما جاء سابقا في المقال , سنجد أن الاهداف من تعميم تلك النظريات تتلخص في النقاط التالية:
1- اضفاء الشرعية على انشاء دولة "اسرائيل" ذات الطابع العنصري والتي هي اصلا أداة بيد سياسيي واقتصاديي الدول الاستعمارية على مدى تاريخ وجودها.
2- ابعاد الانظار عن الاهداف الحقيقية للتدخلات الاستعمارية في كافة بقاع العالم وهي كما أثبت ويثبت لنا التاريخ كل يوم أهداف اقتصادية واستراتيجية(النفط خاصة)بحتة, وأودّ التنويه فقط بان احصائية نشرت في منصف عام 2002م أظهرت بان الشعب الامريكي وحده والذي يشكلّ تعداده 1/ 25 من التعداد العالم! ي يستهلك 1/4 الانتاج اليومي العالمي من النفط...!! أليس هذا سببا كافيا؟؟(68/218)
3- ايقاع الشعوب المقهورة والباحثة عن حرّيتها وكرامتها بفخ الصراعات الوهمية التي تهدف الى الالغاء الجسدي للآخر( تشجيع الفكر العنصري).
4- تشويه التقييم التاريخي الصحيح للأفراد ولأنظمة الحكم والدول والحقبات الزمنية وغيرها, بحيث يتمّ تقييمها في هذه الحالة على أساس انتمائها الطائفي أو العرقي أوالقومي وليس على أساس نتيجة عملها وبمقدار ماساهمت به في الحضارة الانسانية.
5- الخلط بين حركات التحرر من جهة وحركات الارهاب من جهة اخرى واعتبارها كلّها ارهابا مصدره حضارة معيّنة يجب مواجهتها بحضارة اخرى(الارهاب الاسلامي والتمدن الغربي....!!).
ثامنا: مواجهة الفكر العنصري:
عودة على بدأ, وكخاتمة لمقالي هذا, هل هنلك من سبيل لمواجهة الفكر العنصري؟
الجواب: نعم, وهذا دور يقع على عاتق المثقّفين والمتنوّرين في جميع انحاء العالم. فبما أنّ تعلّم أية لغة يبدأ بتعلّم حروفها الابجدبة وتمييزها ونطقها نطقا صحيحا, كذلك هي الطريقة التي تجب فيها مواجهة الفكر العنصري ونظر! يات" صدام الحضارات" التي هي أحدى افرازاته.
لقد استعمل منظّرو الفكر العنصري التاريخ بشكل رئيسي لتمرير أفكارهم معتمدين على جهل وعدم معرفة معظم العامة والخاصّة به على مرّ الازمنة واختلاف الامكنة. وكما رأينا سابقا فان الجهل يشكّل الوعاء الخصب لنمو الفكر العنصري وترعرعه. اذا, وكنتيجة منطقية وحتميّة يعتبر استخدام العقل الدواء الناجع لمرض الفكر العنصري هذا ولاحد أهمّ اعراضه وهو "صدام الحضارات".
ادعوا جميع متنوّري العالم وخاصّة العرب والمسامين منهم الى اثبات تنورهم وعقلانيتهم وعدم تحيّزهم. ادعوهم الى حكم صحيح ماأمكن على التاريخ اذا أرادوا مستقبلا أفضل. ادعوهم الى فرز الغثّ من السمين من زحام المصطلحات المشبوهة التي حفل بها حاضرنا, وليتذكروا دوما انّ التاريخ واحد لايتغيّر مهما حاول دعاة الفكر العنصري تجييره لصالحهم وانّ حكمه هو الاصحّ على الدوام مهما طال الزمن.
دعونا - ان كنّا مثقفين ومتنوّرين حقّا - نقتدي بسيرة الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وغيرهم من عقلاء الامّة واليشرية كلّها. دعونا نقتدي بنور الدين وصلاح الدين اللذان ل! نتصرا على العنصرية الصليبية بالعقل والتسامح والرحمة وليس بالرمح والسيف فقط. لنتذكّر دائما أبا ذر الغفاري وابن الحلاّج والمتنبّي الذين قاوموا الطاغوت ونطقوا بوجهه كلمة الحقّ بدون خوف أو وجل. دعونا نقتدي بديكارت الذي قال:" أنا أفكّر اذا أنا موجود" وفرنسيس بيكون صاحب المنهج التجريبي وجان جاك روسّو صاحب "العقد الاجتماعي", ولنضع نصب أعيننا دائما كلام العالم الايطالي غاليليو الذي همس لمساعده بعدما وقّع على وثيقة أمام قوى الجهل والعنصرية يتراجع فيها عن قوله بدوران الارض, اذ قال:" ومع ذلك فهي تدور"....!!
والله أعلم
==================
الموقف من الحرب الراهنة
حسين بن محمود
الحمد لله معز المؤمنين ومذلّ الكافرين .. والصلاة والسلام على قدوة المجاهدين وإمام النبيين المبعوث بالسيف بين يدي الساعة رحمة للعالمين ، وعلى آله وصبح أجمعين .. أما بعد :
فقد بدأت الحرب الصليبية على العراق الشقيقة بالأمس ، وها نحن في اليوم الثاني من هذه الحرب النصرانية - اليهودية على الإسلام والمسلمين ، نسأل الله أن يمكن للمسلمين ويعينهم على عدوهم ويمنحهم أكتافهم ، كما نسأل الله أن يدمر كل قوة كافرة ومنافقة تريد بالإسلام والمسلمين السوء .
لقد كتبنا كثيراً عن أسباب هذه الحرب وعن نوايا هؤلاء الكفار في بلاد المسلمين ، وأصبح من المسلمات عند أهل الأرض جميعاً بأن هذه الحرب حرب من أجل النفط والمصالح الإقتصادية والإستراتيجية ، ويعرف المسلمون - دون غيرهم من الناس - بأن من أعظم أسباب هذه الحرب : حقد النصارى واليهود على الإسلام والمسلمين ومحاولة إذلالهم أو القضاء عليهم وعلى دينهم ..
لقد كثرت الأقاويل والفتاوى ، وكثرت الأراجيف والإجتهادات المتناقضة حول هذه الأحداث ، وأصبح بعض الناس في حيرة من أمره لا يدري ما يفعل أو من يصدق !! وسنحاول هنا ، وفي هذه العجالة ، أن نبين بعض الأمور التي تساعد المسلم على تحديد موقفه في مثل هذه النازلة ، وسنذكر هنا أكثر الأطراف المتداخلة هذه الحرب ثم نعلّق على كل طرف على حدة .
أطراف الحرب
1- جيش نصراني يهودي يريد احتلال قطر إسلامي .
2- حكومة بعثية تحكم العراق.
3- شعب عراقي مسلم مستهدف.
4- أخلاط من النصارى والمرتدين في صفوف الشعب العراق .
5- الرافضة في الجنوب .
6- الأكراد في الشمال (على اختلاف توجهاتهم) .
7- حكومات الدول العربية الموالية للنصارى طوعاً أو كرهاً .
8- إيران وتركيا .
9- الشعوب المسلمة .
10- حكومات الدول الأوروبية وشعوبها .
11- الشعب الأمريكي .
12- الإعلام العربي والدولي .
13- شباب الصحوة المجاهد .
14- العلماء .
موقفنا من هذه الأطراف
أولاً : الجيوش النصرانية واليهودية التي تريد احتلال بلاد المسلمين :(68/219)
لا يشك عاقل الآن بأن الأمريكان والبريطانيين والأستراليين أهل حرب (ونقول هذا لأننا نتوقع من بعض من طُمست بصيرتهم أن يخرجوا علينا ليقولوا بأن هؤلاء لا زالوا أهل عهد) ، وأحكام أهل الحرب واضحة صريحة في ديننا تجدها في كتب الفقه في جميع المذاهب (في باب الجهاد ، أو كتاب السير من كتب الفقه) ، وخلاصة هذه الأحكام : أن الحربي حلال المال والدم ، فأينما وجدته فاقتله واسلبه ، هذا هو حكم الحربي الفرد ، أما حكم هذه الجيوش فهي : جيوش عدوة كافرة معتدية على قطر إسلامي يجب على أفراد هذا القطر (وجوب عين) أن يردوا هذه الجيوش عن بلادهم ، فإن لم يستطع أهل العراق صدهم وجب على من جاورهم من المسلمين نجدتهم والدفاع عنهم ، وهذا هو دفع العدو الصائل الذي هو فرض عين باتفاق المسلمين (انظر كتب الفقه في جميع المذاهب) ..
ولا يجوز بأي حال من الأحوال مساندة هذه الجيوش ولو بشربة ماء أو استحداث ظل يستظلون به أو أي أمر من الأمور ، ومن ساعدهم في شيء فقد ارتد عن دين الله وحبط عمله وأصبح من الكافرين : سواء كان حاكماً أو محكوماً أو جندياً أو تاجراً أو طبيباً أو عالماً أو صحفياً ... لا يجوز مساعدة هذه الجيوش بأي حال من الأحوال ، وهذا مُجمع عليه بين علماء المسلمين (إلّا إن كان بعض الناس يعد القاديانية من المسلمين) ..
ثانياً: الحكومة البعثية :
من المعروف أن هذه الحكومة لا تبالي بشعبها ولا تجعل لهم قيمة ، وهذا أمر معروف لمن تتبع تاريخ هذا الطاغية الظالم المرتد وزبانيته ، وكل ما يهم "صدام" اليوم هو البقاء على عرش بغداد .. وهنا يأتي الإشكال : هل يقاتل الناس تحت رايته للدفاع عن العراق ، أم يتركوا العراق والدفاع عنها لأن الحاكم بعثي كافر !!
الجواب: لا يجوز تسليم العراق للصليبيين بسبب هذا الطاغية ، ولو قلنا بهذا لتعطل الجهاد في الأرض لأن أكثر حكام بلاد المسلمين طواغيت ، أفكلما اعتدى العدو على قطر مسلم نقف مكتوفي الأيدي ونقول "لن نقاتل تحت حكم الطاغوت" !!
إن صدام لن يبقى في الحكم كثيراً ، وسوف يموت ويخلفه غيره ، ولكن العراق باقية وهي قطر إسلامي لا يجوز للمسلمين التفريط فيها وتسليمها للنصارى لأي سبب كان .. والحكومة الأمريكية ليست "بوش" ووزرائه وإنما هي إدارة منظمة تبقى بعد زوال بوش ، فاحتلال النصارى للعراق أطول من حكم هذا الطاغية لها ، فكيف نرجح حكم نصراني كافر طويل على حكم بعثي كافر قصير ، فالجهاد في العراق فرض عين على أهلها (ومن يجاورهم إن لم يستطع أهلها الدفاع عنها) سواء كان تحت قيادة صدام أم غيره ، فالجهاد للدفاع عن بلاد الإسلام وليس للدفاع عن صدام وحكومته !!
ثالثاً : الشعب العراقي المسلم :
إن أكثر الشعب العراقي هم من أهل السنة والجماعة ، وكثير من المنافقين يروجون بأن أكثرية الشعب العراقي من الرافضة أو البعثية أو الفسقة أو العلمانية (لحاجة في أنفسهم) ، وهذا محض افتراء على هذا الشعب المسلم العظيم ..
العراق مهد الخلافة العباسة ، منها انطلقت رايات الجهاد لتفتح مشارق الأرض ، ومنها خرج أكثر علماء المسلمين ، وأكثر ما نقرأ من الكتب الفقهية والحديثية وكتب التفسير وغيرها من الكتب الشرعية إنما كُتبت في العراق .. فأهل العراق أهل دين وعلم وجهاد ، وما هذا التعتيم الإعلامي والتلبيس على المسلمين إلا لخلق حالة من التوتر والشقاق بين المسلمين .. وهؤلاء البعثيين هم قلة قليلة لا يمثلون الشعب العراقي المسلم بأي حال من الأحوال ، بل أهل السنة عانوا الأمرين منهم ..
فأهل السنة في العراق منهم العباد والزهاد والعلماء والمجاهدين ، ولهم علينا حق النصرة الشرعية " وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ " (الأنفال : 72) ، فلا ينبغي لنا تسليمهم للنصارى واليهود ، كما لم يكن ينبغي لنا تسليمهم للحكم البعثي الغاشم الذي سامهم سوء العذاب ..
إلى الشعب العراقي المسلم:(68/220)
أيها الشعب العراقي الأبي : إليكم هذه الحقيقة القرآنية الكبرى " ... وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً " (النساء : 141) ، قال "السعدي رحمه الله" : أي تسلطاً واستيلاء عليهم ، بل لا تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة ، لا يضرهم مَن خذلهم ولا من خالفهم ، ولا يزال الله يحدث من أسباب النصر للمؤمنين ودفع لتسلط الكافرين ، ما هو مشهود للعيان" (انتهى كلامه رحمه الله) .. فلا تيئسوا من رحمة الله " وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ " (آل عمران : 139) ، ولا تغرنكم الأقاويل والأباطيل ما دمتم مع الله "فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ " (محمد : 35) ، فقد وعد الله المؤمنين بقوله " إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ " (غافر : 51) ، فشرط النصر تحقيق الإيمان ونصرة دين الله بالجهاد في سبيله " إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ " (محمد : 7) .. فاصبورا وصابروا وجاهدوا في سبيل الله " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " (آل عمران : 200) ، فتحقيق معاني التقوى والتجرد والإخلاص لله من أعظم أسباب النصر .. نسأل الله أن يمكن لكم وينصركم على أعداء الدين ..
رابعاً : أخلاط من النصارى واليهود والمرتدين في صفوف الشعب العراقي :
وهؤلاء يجب الحذر منهم ، وعدم الركون إليهم أو اطلاعهم على أسرار المسلمين ، فهم عيون الأعداء على الأمة ، وهم أشد ضرراً علينا من العدو الخارجي ، وخاصة في مثل هذه الأوقات العصيبة ..
خامساً : الرافضة في الجنوب :
وهم أخلاط : منهم من لا ناقة له ولا جمل في الأحداث وهم البسطاء وغير المتعصبين للمذهب الرافضي ، فهؤلاء لا ينبغي التعرض لهم بالكلام أو بالفعل ، بل ينبغي دعوتهم وكسبهم في صفوف المسلمين .. ومنهم من يُبغض أهل السنة أشد من بغضه لليهود والنصارى وهؤلاء خطر كبير على الأمة في مثل هذه الظروف فيجب الحذر منهم ، وقد رأينا كيف سارعوا لموالاة الأمريكان ضد بلادهم ، ولكني أرى أن لا نستعديهم ابتداءً .. وهناك أمر يجب التنبه إليه : ليس كل من في جنوب العراق من الرافضة بل هناك الكثير من أهل السنة في المدن الجنوبية في العراق ، وقد بالغ الكثير من الناس في تحديد نسبة الرافضة في العراق وقالوا بأنهم الأكثرية ، وهذا من تزوير الحقائق لتحقيق مصالح سياسية .. ولقد حاولت أمريكا التقرب من الرافضة في الجنوب طوال السنوات العشر الماضية ليكونوا لهم سنداً في مثل هذا اليوم ، وقد حصل ..
سادساً : الأكراد في الشمال :
من المعروف بأن الأكراد من المسلمين من أهل السنة ، وهم أعداد كبيرة من القبائل يسكنون المناطق الجبلية الواقعة بين تركيا وإيران والعراق وسوريا .. وهم أصحاب عاطفة دينية وتاريخ مشرف في الإسلام ، كيف لا وهم أحفاد صلاح الدين الأيوبي ، ولكن للأسف ، خرج من هؤلاء من انسلخ عن دينه وعن هويته الإسلامية للوصول إلى بعض المصالح الشخصية باسم تحرير الشعب الكردي وحصول الحكم الذاتي ، وعلى رأس هؤلاء : "طالباني" و"بارزاني" ، وهذان (لهما قوة عسكرية كردية في شمال العراق) تحالفا مع أمريكا ضد العراق ، وهما أشبه ما يكونان بـ "دوستم" و "فهيم" الأفغانيان الشيوعيان ..
لقد عانى الأكراد في العراق الكثير من ظلم الطاغية "صدام" حيث أحرق قراهم ومدنهم بغاز الخردل وقتل منعهم عشرات الآلاف وساق خيرات بلادهم إلى بغداد وتركهم في فقرهم وجوعهم ومعاناتهم ، فهم من أشد الناس حنقاً على هذا الطاغية ، ولقد استغلت أمريكا هذه العداوة لتجلب الأكراد في صفها ليكونوا كأصحاب الشمال في أفغانستان .. ولكن هناك من الأكراد مَن يحملون عقيدة الإسلام الصافية ويعرفون عدوهم الحقيقي وما يريد بهم ، وهؤلاء ليسوا قلة ولله الحمد ، وكثير منهم يحمل السلاح ، وبعضهم تدرب في أفغانستان ابان الحرب الشيوعية ، وأنصح من استطاع الإتصال بهم من أهل الجهاد أن يلتحق بصفوفهم للجهاد ضد النصارى واليهود ، ويا حبذا لو أن بعض دعاتهم يتصل بعلماء جزيرة العرب والشام وغيرها من بلاد الإسلام للتنسيق معهم في دعوة الناس إلى النصرة بالنفس والمال ..
سابعاً : حكومات الدول العربية الموالية للنصارى :
وهذه الحكومات ارتكبت أكثر من ناقض من نواقض الإسلام : فقد استحلت الدم الحرام ، ووالت أعداء الإسلام ، ومكنت لليهود والنصارى من بلاد المسلمين ، وعطّلت الجهاد ، ونشرت الفساد بين العباد ، نسأل الله أن يعاملها بعدله ..(68/221)
وهؤلاء لا طاعة لهم اليوم على المسلمين لإرتدادهم عن دين الله (على الأقل في المعصية) : فلا يجوز لجيوشهم طاعتهم في الدخول تحت الحزب النصراني اليهودي لقتل المسلمين في العراق ، ولا يجوز انتظار الإذن منهم في الجهاد ضد الكفار لأنه عُلم بالضرورة أنهم يعطّلون الجهاد إرضاءً للأمريكان الكفار ، ولأن الجهاد أصبح فرض عين و"لا استئذان في فروض الأعيان" ..
ولو كانت هذه الحكومات مسلمة لما سمحت للنصارى بالتمركز وبناء القواعد العسكرية في بلادها لقتل المسلمين ، ولو كانت مسلمة لوجهت جيوشها شطر العراق لقتال الصليبيين (بعد أن أصبح الجهاد فرض عين) بدل من تسخير أتباع صلى الله عليه وسلم ليكونوا خدماً لعُباد الصليب ، ولو كانت مسلمة لحرضت الناس على الجهاد بدلاً من زجها المجاهدين في السجون ، ولو كانت مسلمة لأطلقت العنان للعلماء يحرضون الأمة على الجهاد بالمال والنفس بدلاً من تكميم أفواههم ومراقبتهم ومحاسبتهم على كل كلمة وحرف ، ولو كانت مسلمة لأوقفت مظاهر الفساد في بلاد المسلمين في هذه الأوقات العصيبة ولما عملت على كبت روح الشعوب المسلمة المتوقدة ..
أما مسألة الخروج عليهم : فليس هذا وقته ، ولكن يجب توعية الناس بما يترتب على أفعال هذه الحكومات والعمل على التخلص منها تدريجياً " وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" .. أما من لا زال يرتجي من هذه الحكومات بعض الخير فنقول له : هذه هي الحفرة المليون التي وقعت فيها من حفرهم التي يحفرونها ليُضلوا المؤمنين ، فهلّا وقفة صدق مع النفس !!
ثامناً : إيران وتركيا :
إيران دولة يحكمها الرافضة ، وهؤلاء كما قلنا أشد بغضاً لنا من بغضهم لليهود والنصارى .. والحكومة الإيرانية سياستها الأولى "المصالح الشخصية " وليست المذهبية كما يظن البعض (وهذا لا ينفي حقدهم الشديد على أهل السنة) ، فحكام إيران من أكثر الناس نهباً لخيرات بلادهم ، وهذا لا يخفى على الشعب الإيراني نفسه .. فليس الموقف العقدي هو المحرك الأول للحكومة الإيرانية بل هو منطق المصلحة الشخصية ، ولكنها تستطيع تسيير الشعب الرافضي في إيران - وبكل سهولة - نحو المواجهة مع أمريكا أو مع العراق لتمكّن العصبية والجهل في غوغاء الرافضة ودهمائهم !! ولإيران بعد عقدي في جنوب العراق حيث الأكثرية الرافضية ، وهؤلاء (على الأرجح) يعملون لمصلحة الحكومة الرافضية في إيران ..
أما تركيا : فالذي يسيطر على حكومتها هو الجيش الذي أكثر قادته من يهود الدونمة والمرتدّين الأتراك أعداء الدين .. والشعب التركي شعب مسلم ، والكثير من الشعب التركي ذو عاطفة دينية ، وهو ضد التواجد العسكري الأمريكي في بلاده وضد حرب النصارى على المسلمين في العراق ..
لقد استطاع اليهود أن يسيطروا على الإعلام والإقتصاد والجيش التركي خلال القرنين الماضيين في غفلة من الشعب ، ولكن بدأت بوادر الصحوة الإسلامية في تركيا تظهر للعيان ..
تنبيه: لا ينبغي لنا التعويل على الرفض التركي للوجود الأمريكي في المدى القريب لأن الإسلاميين ليست لديهم السلطة الحقيقية في البلاد بعد ، وربما تدخل الجيش التركي في الوقت المناسب في هذه الحرب لمصلحة أمريكا واليهود ، نسأل الله أن يمكن للمسلمين في مهد الخلافة العثمانية ..
تاسعاً : الشعوب المسلمة .
هذه الشعوب المسلمة (العربية وغير العربية) هي مع الشعب العراقي قلباً وقالباً ، وهي ضد العدوان الأمريكي الصهيوني ، وموقف حكومات هذه الشعوب لا يمثلها بأي حال من الأحوال ، وينبغي لشباب الصحوة نشر أقوال وفتاوى العلماء بين عامة هذه الشعوب وتثقيفهم الثقافة الشرعية ، وخاصة عقيدة الولاء والبراء ونصرة أهل الإسلام وحقيقة وحدة أراضي المسلمين ..
ولأن الكلام قد كثر عن الشعب الكويتي بالذات ، فلنا مع هذا الكلام وقفة:
موقفنا من الشعب الكويتي :
الشعب الكويتي - في جملته - شعب مسلم أبيّ ، وهم من أكثر الشعوب تعاطفاً وحرصاً وعملاً من أجل قضايا المسلمين في جميع الأرض ، ولا يقول غير هذا إلا جاهل أعمى البصيرة . ولقد شهد لهم المجاهدون الأفغان والشيشان والبوسنيون وغيرهم بذلك ، وتكفيهم شهادة الشيخ عبد الله عزام - رحمه الله - الذي ما زال يطري على تفاعل الشعب الكويتي مع الجهاد الأفغاني حتى وافته المنية ، يرحمه الله ..
إن دخول القوات الأمريكية في الأراضي الكويتية لم يكن بإرادة الشعب الكويتي ، إنما الكويت اليوم مُحتلة من قبل الأمريكان الذين يستخدمونها كقاعدة متقدمة لغزو العراق ، وإن كانت الحكومة الكويتية أقرت هذه الحال واختارت الخضوع ذليلة للإرادة الأمريكية (كحال جميع حكومات الدول العربية) فإن الشعب الكويتي لم ولن يرضى بهذا الذل أبداً ، وليس أدل على ذلك من كون أكثر الهجمات الفردية على الجنود الأمريكان كانت في الكويت ..
إن الشعب الكويتي الأعزل لا يستطيع مواجهة القوة العسكرية الأمريكية الجاثمة على بلاده ، فلا ينبغي أن نتجنى عليهم ونحملهم مسؤولية ما جنته حكومتهم عليهم ..(68/222)
إن الطائرات والصواريخ الأمريكية تنطلق من جميع دول الخليج (بلا استثناء) فلماذا نحمل الشعب الكويتي المسؤولية لمواجهة الجيش الأمريكي ونترك البقية !!
لا شك أننا نسمع بين الفينة والأخرى من بعض أبناء الكويت من يحاول خلط الأوراق ويحاول أن يتكلم باسم الكويت والشعب الكويتي ، وهؤلاء لا يمثلون الكويت أيظاً ، وإنما هؤلاء بعض المرتدين (أو ما يسمون بالعَلمانيين) من أهل الكويت الذين مكنتهم الحكومة الكويتية من الإعلام ، وهم شرذمة قليلة من أهل الكويت ، وهم أشبه ما يكونون بكلاب القافلة التي تنبح على أطرافها دون أن تكون في صلب القافلة (وهؤلاء موجودون في جميع الدول العربية) ، ولكنهم نشطاء وقد يؤثرون على بعض الجهال من سكان الكويت ، ولكن أغلب الكويتيين على قلب "سليمان أبو غيث" ، ولله الحمد .. فينبغي لنا - أيها أحبة - أن نتفهم هذه الظروف ولا نعمم في الحكم على جميع أهل الكويت فنحقق غرض أعدائنا في التفريق بيننا "فالمؤمن كيّس فطن" ، وقل ذلك عن الشعب القطري المسلم ..
عاشراً : دول أوروبا وشعوبها :
إعتراض أوروبا ( وعلى رأسها فرنسا) على الحرب الصليبية ضد العراق سببه عدم الإتفاق على زيادة الحصة من الغنائم العراقية والخليجية بعد الحرب ، فأمريكا إذا احتلت العراق (لا قدر الله) فإنها سوف تتحكم في نفطها الذي سوف تأخذه بالمجان ، وكذلك نفط الخليج ، فلا بد لأوروبا من ضمان حصتها من هذا النفط ، فلا ينبغي لنا الإغترار أو التعويل على موقف الحكومات الأوروبية النصرانية التي سوف يركض ورائها المنافقون في موقف إستعراضي ليُشغلوا المسلمين عن التفكير في الجهاد .
الواقع أنه لا تملك أي دولة من الدول المتقدمة أن تعترض (حقيقة) على هذه الحرب إلا روسيا لأنها الوحيدة التي تملك إحتياطي نفطي يكفيها ويسد حاجتها لفترة زمنية معقولة ، أما غيرها من الدول فكلها تعتمد (أو سوف تعتمد مستقبلاً) على نفط الخليج ، ولا يمكن أن تعارض هذه الحرب حقيقة .. فكل ما ترون وتسمعون هو كذب ودجل من هذه الحكومات لتضليل الرأي العالمي عامة والإسلامي خاصة ..
أما الشعوب الأوروبية : فهم أخلاط بين مؤيد لهذه الحرب من منطلق صليبي ديني (وخاصة البروتستانت) ، وبين معارض لهذه الحرب من منطلق إقتصادي وعرقي وسياسي وديني (فليس كل الأوروبيين على دين الأمريكان البروتستانتي) ، وأكثر هذه الشعوب لاهية في فسادها وغيها لا تعبأ بما يجري في العالم ، وهناك الكثير من هؤلاء ممن يخاف عواقب هذه الحرب من منطلق الخوف من المسلمين وانتقامهم ، وهذه حقيقة قلما ينتبه إليها من يتحدث عن هذه الحرب ، وهناك من الغربيين من يبحثون فعلاً عن السلام العالمي ، فينبغي معرفة هذه الفئات والتعامل معها بحكمة كل على حدة ..
الحادية عشر : الشعب الأمريكي :
الشعب الأمريكي أغلبه جاهل لا يأبه بما يجري في العالم ، فتؤثر عليه الدعاية الإعلامية الحكومية اليهودية وتشكل أفكاره بما يتماشى وأهداف الحكومة .. وهناك صحوة صليبية كبيرة في أمريكا يقودها اليهود من خلف الستار عن طريق النصارى المتصهينين ، ويقدر بعض الدارسين عدد أفراد هذه الصحوة في صفوف الأمريكان بـ (80) مليون أمريكي ، أكثرهم يرى ضرورة الحفاظ على والدفاع عن حق اليهود في فلسطين ، بل وحقهم في "إسرائيل الكبرى" من النيل إلى الفرات ، وهؤلاء يرون أنه لا بد من القضاء على الجيش البابلي (العراق) لتحقيق الأمن لـ "بني إسرائيل" ، ومن هؤلاء الرئيس الأمريكي الحالي ونائبه وأكثر حكومته ..
والشعب الأمريكي حاله كحال الشعوب الأوروبية ، فهو منقسم على نفسه بين مؤيد ومعارض للحرب من منطلقات عقدية وسياسية وإقتصادية وأمنية ، وأكثرهم لا يعرف موقع العراق على الخارطة العالمية ، فعلينا استغلال هذه الفروق والعمل على توسيع الفجوة بينهم كما تفعل حكومتهم بالمسلمين ..
الثانية عشر : الإعلام العربي والعالمي :
لقد أصبح الإعلام في هذا الزمان الخط الأول للجيوش ومقدمتها وقلبها وساقتها ، فهو يشارك في الحرب قبل تحرك الجيوش ، ومع تحركها ، وبعد انتهاء المعركة .. لا شك أن أكثر ما نسمعه هذه الأيام (وسنسمع الكثير منه في المستقبل من قبيل: سقوط المدن واستسلام الجنود العراقيين وغيرها من الإشاعات المثبطة) هو من قبيل الحرب الإعلامية بين الحكومة الأمريكية ومن والها وبين الحكومة العراقية ، فليس كل ما تعلنه الحكومة الأمريكية والإعلام الغربي أو الشرقي يكون صادقاً أو دقيقاً ، وكذلك بالنسبة للحكومة العراقية ..
سوف تكثر الإشاعات ، والتخمينات ، والتحليلات ، والتصريحات التي يجب أن نتعامل معها من منطلق "فتبيّنوا" ومن منطق "ولا تهنوا ولا تحزنوا" ، فينبغي على الشباب أن لا ينجرفوا وراء هذه الدعايات ولا يكونوا ضحية هذه الحرب النفسية التي سوف يشنها عليهم الإعلام الغربي والعربي معاً ..(68/223)
وللشيخ العلامة "سلمان بن فهد العودة" - حفظه الله كلمات جميلة في كيفية التعامل مع الأخبار ، حيث قال أنه ينبغي " الهدوء في التعامل مع الأخبار والتحليلات والتصريحات والمواد الإعلامية ، فإن مزيد الانهماك فيها ربما صنع لدى المتلقي قدراً من البلبلة والحيرة والتردد، ثم الخوف المفرط. وكثير من هذا الضخّ الإعلامي هو مواد مشققة مفرعة، يعاد إنتاجها بطرق مختلفة ، أو وجهات نظر وتحليلات وظنون وتوقعات قد ينتفع اللبيب بها إذا أحسن قراءتها والتعامل معها , وعرف ما يأتي وما يذر، وما يأخذ وما يدع ، أما غير الفطن فربما كانت شقوة له ، تحرمه هناءة حياته وطيب عيشه ، وتعوقه عن سيره ، دون أن يظفر من ورائها بطائل ، أو يكون من معالجتها بسبيل.
[ وينبغي] الحذر من ترويج الشائعات والأقاويل والأخبار المرتبكة والتحليلات المغرقة في التشاؤم ، فإننا في عصر صارت قوة الدول تبنى على مقدار ما لديها من سعة المعلومات ودقتها، إننا في عصر (( المعلوماتية ))، وكم من خبر يروج ويتم تداوله وتبنى عليه نتائج قريبة وبعيدة ، وقرارات واجتهادات ، وهو غير مؤكد ولا ثابت .. فكيف تظن بمثل هذه الرؤية المبنية على شائعة أو ظن , أو خبر مكذوب , أو رواية مضطربة , أو معلومة ناقصة , أو مضللة، والحصول على المعلومة لم يعد صعباً ولا عسيراً ولا مكلفاً متى توفرت الإرادة ، وأدركت الأمة الأهمية القصوى لهذه المعلومات.
أليس من المحزن أن تكون عدوتنا الأولى ، أو ما يسمى بـ ( إسرائيل ) من أكثر دول العالم تقدماً معلوماتياً ، بينما نحن في العالم الإسلامي ربما لا نملك حتى القدر الضروري من ذلك! فضلاً عن فقدان الكثيرين لمنهج التعامل مع المعلومات والأخبار ، مع وضوح هداية القرآن في ذلك ونصاعتها "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ.... " الآية فيأمر سبحانه بالتثبت والتبين في الأخبار , وعدم الاندفاع في تناولها أو بناء النتائج والقرارات عليها. ويقول الله سبحانه : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً"(النساء: من الآية94) ... " (من مقالة للشيخ بعنوان : واجب الوقت 1\2) ..
ومن الشائعات التي قد نسمعها في هذه الأوقات :
- استسلام الكتائب والجنود العراقيين للصليبيين !!
- التقدم السريع للقوات الصليبية دون مقاومة !!
- لا يمكن للجندي الأمريكي أن يموت بنيران العدو ، فكل قتيل إنما يُقتل بسبب خطأ فني (كما هو الحال في أفغانستان) !!
- الخلل الداخلي في صفوف الحكومة العراقية !!
- خروج بعض العرب المرتدين (وخاصة الخليجيين) في الإعلام للدفاع عن الحملة الصليبية ، وهذا من شأنه أن يفرق بين المسلمين ويُشغلهم عن القوات الصليبية !!
- وغيرها من الشائعات الكثيرة التي سيبثها الإعلام الغربي والعربي في كل مرئي ومسموع ومقروء لقتل روح المقاومة للإحتلال الأمريكي الصليبي (حتى في المنتديات الإسلامية التي تغلغل فيها المرجفون) ..
لقد علمتنا الحرب في أفغانستان عدم تصديق شائعات الحكومة الأمريكية التي لا تفتأ تكذب على الرأي العام لتوهن معنويات خصومها .. لقد وقعت الحكومة العراقية في فخ الحملة الإعلامية الأمريكية حيث وضعتها هذه الحملة في موضع المدافع والنافي لهذه الأخبار ، وينبغي على الحكومة العراقية أن تنشر إشاعات مضادة تُجبر الحكومة الأمريكية على اتخاذ موقف المدافع ، وهذا سيكون أنكى في الحكومة الأمريكية والشعب الأمريكي من دعايات الأمريكان ، ولا ينبغي للحكومة العراقية أن تنشغل بنفي تفاصيل الإشاعات الأمريكية فهذا لا يزيد على كونه تكراراً لما يقوله الأمريكان ، بل عليهم بث الأخبار (ابتداء) التي تنخر في معنويات الجيش والشعب الأمريكي ..
الثالثة عشر : شباب الصحوة المجاهد :
كثير من الشباب تتوق نفسه للجهاد في سبيل الله والذب عن حرمات المسلمين ، وكثير منهم يسأل عن جدوى الذهاب إلى العراق للقتال ضد الصليبيين . وهذه المسألة الشائكة ينبغي التعامل معها بحذر وحكمة ، وقد أبدى بعض أهل العلم رأيهم في المسألة على ما قدروا من مصلحة ، ولعلي أذكر هنا بعض النقاط التي تجمع بين أصلح ما قالوه ، أو لم يقولوه (في نظري) :
أرى - والله أعلم - بأن :
1- الدفاع عن أرض العراق فرض عين بالإتفاق ، فينبغي للمسلم أن يعقد النية على الجهاد دفاعاً عن بلاد الإسلام ، فقد قا صلى الله عليه وسلم "مَنْ مَاتَ، وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ" (مسلم) .
2- أرى أن يتحقق الشباب أولاً من جدوى الذهاب إلى العراق في هذه المرحلة قبل أن يذهبوا ، وذلك باستشارة أهل العلم والخبرة والدراية من المجاهدين .
3- أرى أن لا يذهب أحد حتى يعلم أين يذهب وتحت راية من يقاتل . فقد يذهب الإنسان إلى العراق ويقع في أيدي الرافضة أو البعثيين أو بعض الأكراد المرتدين فتخسر الأمة جهاده وجهده .(68/224)
4- أرى أنه إذا سمحت القوات العراقية بالقتال تحت رايتها فإنه يجوز للمجاهدين ذلك على أن يختاروا من هو أقرب إلى السنة من القادة العراقيين ويدخلوا تحت رايته ، فإن لم يستطيعوا فالأقرب والأقرب .
5- أرى أنه من كانت عنده اتصالات بالمجاهدين الأكراد أو المجاهدين من أهل السنة في العراق أن يتصل بهم قبل الذهاب إلى هناك ليتيقن من حاجتهم له قبل الذهاب ، فقد لا يحتاجون له في هذه المرحلة ، وخاصة أن الحرب حرب قصف بالطائرات والصواريخ بعيدة المدى .
6- على من لا يستطيع الذهاب إلى العراق أن يستعد للحرب باقتناء الأسلحة والذخيرة والتعلم على فنون القتال بأي طريقة استطاع ، وإن اضطر للإشتراك في جيش بلاده ، فالإستعداد مطلب شرعي لا يجوز التفريط فيه .
7- على من لا يستطيع الجهاد في العراق أن يتجه إلى فلسطين (وخاصة أهل مصر وسوريا والأردن) وهذا سيخفف الضغط على العراق ، وكذلك الحال بالنسبة لإخواننا المجاهدين في أفغانستان الذين ينبغي لهم في هذه الأوقات تصعيد العمل العسكري لتشتيت تركيز القوات الأمريكية الصليبية ..
8- لست مع الذين يدعون بتهدئة الأوضاع ودفن الرؤوس في التراب بل أرى أن نؤجج النار تحت أقدام الأمريكا في جميع العالم فنقتل كل رجل أمريكي ونفجر كل سفارة أمريكية ونهاجم كل قاعدة أمريكية حتى تعلم دول العالم عواقب التجرئ على أمة الإسلام ، أما أن ندخل جحورنا كلما اعتُدي علينا ونطلب الحوار والنقاش من عدونا فهذا ليس من الحكمة في شيء ، وليس من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم"... فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا " (النساء : 91)
9- الجهاد لا يكون بالنفس فقط ، وإنما يكون بالنفس والمال واللسان ، فقد قال صلى الله عليه وسلم "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" (صحيح : صحيح سنن أبي داود 2186) ، وقال عليه الصلاة السلام "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه" (صحيح : رواه أحمد والطبراني ، وهو في صحيح الجامع :1930 ) ، فينبغي عدم إهمال الجوانب الجهادية الأُخرى ، فأهل القتال بالقتال ، وأهل المال بالمال ، وأهل اللسان بالبيان ، ومن لم يستطع بالنفس أو بالمال أو بالبيان فبالقلب ..
10- ليس هناك سلاح أقوى من الدعاء ، فإن النصر ليس بالحرب ولا بالسلاح وإنما يكون من عند الله "... وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" (126 آل عمران) ، فيجب على المسلمين جميعاً التضرع إلى الله والإلحاح عليه بالدعاء في السجود وفي الأسحار وفي كل وقت ، فيجب أن ندعوا ونوصي من نعرف بضرورة الدعاء والتضرع إلى الله .. وكل ما ذكرناه سابقاً لا قيمة له إن لم نلجأ إلى الله ونذل أنفسنا بين يديه ، فهو وحده القادر على جلب النصر وهو وحده الذي يهزم الأعداء ، وليس صادقاً من قال بأن قلبه مع المسلمين في العراق وهو قد انشغل عن الدعاء لهم ، وليس صادقاً من زعم أنه يود فداء إخوانه بدمه وقد بخل عليهم بدمعة في سحَر ..
الرابعة عشر: العلماء :
إن التعامل مع هذه الأحداث يكون من منطلق استجلاب المصلحة للأمة الإسلامية ، وتقدير المصالح يتفاوت في إدراكه الناس تفاوتاً كبيراً ، وهذا هو سر اختلاف آراء بعض العلماء الربانيين في هذه الأحداث .. والعالم بشر يخطئ ويصيب بناءً على فهمه البشري القاصر للأحداث ، ولذلك ينبغي مراعاة عدم التشنيع على من عُرف من العلماء بالجهاد الدعوي إن هم خالفوا غيرهم في تقديرهم للمصالح والمفاسد ، بل ينبغي بيان الواقع لهم ونصحهم ، ولكن لا ينبغي موافقتهم في ما هو خطأ ظاهر بيّن ، وهذا لا يُنقص من قدرهم عندنا ..
ولعلنا نكون نحن المخطؤون وهم المصيبون في تقدير هذه المصالح ، أما التشنيع على من عُرف بمواقفه وبصدقه لمجرد أنه لم يرى ما رأينا فهذا ما لا ينبغي .. ويجب هنا التنبيه إلى أمر في غاية الأهمية : إن اختلاف الوسائل ليس من قبيل اختلاف القواعد والثوابت : فمن قال بعدم ذهاب المجاهدين إلى العراق للقتال تحت راية صدام ليس كمن أحل القتال تحت راية أمريكا ، فالأول خلاف فيه نظر ، أما الثاني فهو كفر وردّة والعياذ بالله ، فينبغي للمسلم أن يفقه الثوابت التي ليس فيها خلاف : كحكم موالاة الكفار ، أو محبتهم أو تمكينهم من أراضي المسلمين ، فليس هناك شك في حكم من قاتل في صفوف الأمريكان أو أعانهم ضد المسلمين ، فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين سلفاً وخلفاً ، فمن علم هذا الحكم ولم يأبه به ورضي أن يكون في صفوف الكفار ضد المسلمين فلا شك في كفره ..(68/225)
فعلى العلماء أن يبينوا هذه الأحكام بكل قوة وثبات ، وأن لا تأخذهم في الله لومة لائم ، فإن هذا من أعظم الجهاد في هذه الأيام "إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" (صحيح : الترمذي ، وهو في صحيح الجامع 2205) ، ولعل أحدهم يُعذر عند الله أن لم يجاهد بنفسه ، ولا تنفعنا الفتاوى المُبهمة أو المترددة : فأنتم معاشر العلماء تعرفون حكم الله في حكّام بلادنا ، وتعرفون حكم الله في من اشترك في هذه الحرب مع الصليبيين ، وتعلمون حكم الله في الجهاد المتعين في العراق وغيرها !! إن الحرب تحتاج إلى مواقف ثابتة لا لبس فيها ولا غموض ، وهذا ابن تيمية رحمه الله يقول "لو رأتموني في صفوفهم والمصحف على رأسي فاقتلوني" ، هكذا تكون الفتاوى في هذه الأوقات حتى لا يكون هناك مجال لمتأول أو محرّف .. ورحم الله الشيخ العقلا فقد ترك بعده من تلاميذه من قام مقامه ..
.. والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
كتبه
حسين بن محمود
18 محرم 1424 هـ
================(68/226)
(68/227)
المورمون
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف:
المورمون طائفة نصرانية جديدة نسبياً منشقة عن النصرانية الأم، تلبس لباس الدعوة إلى دين(*) المسيح(*) عليه السلام، وتدعو إلى تطهير هذا الدين(*) بالعودة به إلى الأصل أي إلى كتاب اليهود، ذلك أن المسيح - في نظرهم - قد جاء لينقذ اليهود من الاضطهاد وليمكنهم من الأرض، إنها - كما تسمي نفسها - طائفة القديسين المعاصرين لكنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة، نبيها(*) المؤسس هو يوسف سميث وكتابها المقدس هو الكتاب المقدس الحديث.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
ولد يوسف سميث في 23/12/1805م بمدينة شارون بمقاطعة وندسور التابعة لولاية فرمونت. وعندما بلغ العاشرة من عمره رحل مع والده إلى مدينة بالمايرا بمقاطعة أونتاريو التابعة لولاية نيويورك.
في الرابعة عشرة من عمره انتقل مع أهله إلى مانشستر من نفس المقاطعة.
ولما بلغ الخامسة عشرة وجد الناس حوله منقسمين إلى طوائف:
الميثوديست(*)، والمشيخي(*)، والمعمداني(*).. فشعر باضطراب وقلق.
في ربيع عام 1820م ذهب إلى غابة، وأخذ يصلي منفرداً طالباً من الله الهداية، وبينما هو كذلك إذ شاهد - كما يزعم - نوراً فوق رأسه، تمثل هذا النور في شخصين سماويين هما (الله، وابنه عيسى - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) وقد نهياه عن الانضمام إلى أي من هذه الفرق.
يدعي بأن الوحي(*) قد انقطع عنه، وأنه خضع لاضطهاد عنيف وسخرية من جراء جهره برؤيته هذه، وقد تورط خلال ذلك بزلات طائشة إذ يقول عن نفسه: "وكثيراً ما أدت مخالطتي لشتى البيئات إلى اقتراف زلات طائشة وللاتِّسام بما للشباب من نزق وما للطبيعة البشرية من قصور وقد ورطني ذلك للأسف في ألوان من التجارب والآثام المبغضة إلى الله ولا يتبادر إلى الذهن بسبب هذا الاعتراف أني ارتكبت إثماً فظيعاً أو وزراً منكراً، فما كان بي نزوع قط إلى مثل هذه الأوزار أو تلك الآثام" شهادة يوسف ص7.
ـ كما يدعي أنه في مساء 21 سبتمبر 1823م نزل عليه ملاك من السماء اسمه موروني وأخبره بأنه قد أعده لمهمة ينبغي عليه إنجازها، وأخبره عن كتاب نقشت عليه كلمات على صحائف من الذهب تروي أخبار القوم الذين استوطنوا القارة الأمريكية في الأزمنة الغابرة، وتاريخ السلف الذين انحدروا منهم، وأنبأه عن حجرين في قوسين من الفضة لترجمة الكتاب، وغادره هذا الملاك بعد أن نهاه عن إظهار أحد من الناس على هذه الصحف.
في 18 يناير 1827م تزوج من فتاة اسمها إيما هيل، فكان له من حميه فيما بعد سنداً قوياً أعانه على نشر فكرته، وذلك لما تتمتع به هذه الأسرة من مكانة طيبة.
في 22 سبتمبر 1827م استلم الصحف - كما يزعم - متعهداً بإعادتها بعد نهوضه بالمطلوب.
رحل عن مقاطعة مانشستر الأمريكية وذهب إلى حيث حموه في مقاطعة سوسكويهانا بولاية بنسلفانيا، واستوطن مدينة هارموني.
شرع في الترجمة بمساعدة مارتن هاريس الذي أخذ بعض الحروف وشيئاً من الترجمة وعرض ذلك على الأستاذ تشارلز آنثون، والدكتور ميتشيل فأقرا بأن ما رأياه إنما هو ترجمة عن اللغة المصرية القديمة وأن الأصل إنما يتألف من حروف مصرية قديمة، وحروف كلدانية، وحروف آشورية، وحروف عربية.
في 25 مايو 1825م ذهب مع أوليفر كودري للصلاة في الغابة حيث زعما أنه هبط عليهما يوحنا المعمدان (أي نبي(*) الله يحيى عليه السلام) وأمرهما بأن يعمد(*) كل منهما الآخر، وأخبرهما بأنه قد جاء إليهما تنفيذاً لأمر بطرس يعقوب، ورسَّمهما لرعاية الكنيسة(*) المورمونية.
يدعي كل من أوليفر كودري، وداود ويتمر، ومارتن هاريس أنهم قد شاهدوا الصحف وأنهم يشهدون على صحة الترجمة ودقتها وبأن هذا الكتاب إنما هو سجل لقوم نافي ولإخوتهم اللامانيين.
أعلن في عام 1830م وبحضور عدد من الشخصيات عن تأسيس كنيسة يسوع المسيح(*) لقديسي الأيام الأخيرة.
رحل يوسف سميث وأتباعه عن نيويورك إلى مدينة كيرتلاند المجاورة لمدينة كليفلاند بولاية أوهايو حيث شيَّد هيكلاً عظيماً، كما أنه قام بعمل تبشيري واسع النطاق في تلك المنطقة وما جاورها.
بعث بإحدى الإرساليات إلى ولاية ميسوري للتبشير ولاكتساب المؤيدين.
تعرضوا للاضطهاد فتنازلوا عن منازلهم ومزارعهم ورحلوا إلى ولاية الينوي حيث اشتروا المستنقعات الشاسعة المهجورة على شاطئ المسيسبي وقاموا بإصلاحها وبنوا مدينة نوفو أي الجديدة.
سجن يوسف سميث وأخوه هايرم في مدينة كارسيج بولاية الينوي لاتهامات ضدهما، وبينما هما في السجن دخل عليهما مسلحان مقنعان فقتلاهما بالرصاص. وقد حدث ذلك في 27 يونيو 1844م فانتهت بذلك حياة هذا النبي(*) المزعوم.
آلت رئاسة الحركة(*) والنبوة(*) بعده إلى بريجام يونج الذي رحل بالقوم إلى جبال روكي حيث حدد لهم مكان إقامتهم فبنوا مدينة سولت ليك وقد خطط الهجرات إلى يوتاه إذ كان بينهم آلاف البريطانيين والاسكندنافيين، كما يعتبر يونج مسئولاً عن هذه الرحلة المأساوية والتي حدثت عام 1856م حيث مات أثناءها أكثر من مئتي شخص من أتباعه.(68/228)
ـ رؤساء الكنيسة(*) هم الأنبياء، فقد تتابع هؤلاء الأنبياء - بزعمهم - وأخرهم سبنسر كيمبل وقد زاد عدد أعضاء هذه الطائفة إذ بلغوا خمسة ملايين شخص تقريباً وما يزالون في نمو وازدياد.
هناك أقلية من المورمون لم توافق على سيطرة يونج بعد موت يوسف سميث، فقد بقي هؤلاء في الينوي مؤسسين - بالتعاون مع إيما سميث الزوجة الأولى لنبيهم ومع ابن سميث جوزيف - كنيسة يسوع المسيح(*) للقديسين المعاصرين المعاد تنظيمها، ومركزها ميسوري، تنفيذاً لوصية النبي المؤسس الذي قال لهم: إن صهيون ستكون فيها. وقامت كذلك فئات أخرى منشقة، كل منها تدعي بأنها قد تلقت صحفاً فيها كتب قديمة مقدسة.
أوليفر كودري، ومارتن هاريس، كانا ممن شارك في مرحلة التأسيس وتلقيا الوحي(*) المزعوم.
وتتابع أنبياؤهم(*) الذين هم رؤساء الكنيسة على النحو التالي:
يوسف سميث.
بريجام يونج.
جون تيلور.
ويلفورد وودروف.
لورينزوسنو.
هيبر جرانت.
جورج ألبرت سميث.
داود مكاي.
يوسف فليدنج سميث.
وأخيراً سبنسر كيمبل الذي ما يزال نبياً ورئيساً لهم إلى الآن.
يرد في كتبهم اسم: إلما، يارد، لحي، إنهم أنبياء في كتاب المورمون.
لهم شخصيات بارزة في مجلس الشيوخ الأمريكي ومجلس النواب.
الأفكار والمعتقدات:
الكتب المقدسة لديهم اليوم:
الكتاب المقدس: يعتقدون بأنه مجموعة من كتابات مقدسة تحتوي على رؤى الله للإنسان، وأنها مخطوطات تتناول قروناً كثيرة منذ أيام آدم حتى الوقت الذي عاش فيه المسيح(*) وقد كتبها أنبياء كثيرون - على زعمهم - عاشوا في أزمنة مختلفة، وهو ينقسم إلى قسمين:
1 ـ العهد القديم(*): فيه كثير من النبوءات التي تنبأت بقدوم المسيح.
2 - العهد الجديد(*): يروي حياة المسيح وتأسيس الكنيسة(*) في ذلك اليوم.
كتاب المورمون: هو سجل مقدس لبعض الناس الذين عاشوا في قارة أمريكا بين 2000 ق.م إلى 400 بعد الميلاد، وهو يروي قصة زيارة يسوع المسيح لشعب القارة الأمريكية بعد قيامه من الموت مباشرة (كما يعتقدون). وهذا الكتاب يعدّ الحجر الأساسي لديهم، وإن الإنسان المورموني يتقرب إلى الله بطاعة تعاليمه، وقد قام يوسف سميث بترجمته إلى اللغة الإنجليزية بموهبة الله وقوته، وقد نزل به ملاك من السماء اسمه (موروني) على يوسف سميث.
كتاب المبادئ والعهود: هو مجموعة من الرؤى الحديثة التي تخصّ كنيسة يسوع المسيح كما أعيدت إلى أصلها في هذه الأيام الأخيرة، وهو يوضح تنظيم الكنيسة وأعمالها ووظائفها، وفيه نبوءات عن حوادث ستأتي، وفيه أجزاء فيها معلومات مفقودة لمئات السنين، وفيه تعاليم الكتاب المقدس.
الخريدة النفيسة: يحتوي على:
1 ـ سفر(*) موسى: فيه بعض رؤى موسى وكتاباته كما كُشفت ليوسف سميث في عام 1830م.
2 ـ سفر إبراهيم: ترجمة يوسف سميث من درج بردي مأخوذ من مقابر المصريين القدماء.
3 ـ كتابات يوسف سميث ذاته: تحتوي على جزء من ترجمة الكتب المقدسة ومختارات من تاريخ الكنيسة(*) المورمونية وبنود الإيمان لديهم ورؤية المملكة السماوية.
4ـ رؤية فداء الأموات: وهي تروي زيارة يسوع المسيح(*) للعالم الروحي، وهي رؤية أعطيت للرئيس يوسف سميث في 3 أكتوبر 1918م.
إضافة إلى الكتب الأربعة السابقة فإن كلمات الوحي(*) والرؤى التي يذكرها أنبياؤهم تصبح كتباً مقدسة، وكل النشرات والتعاليم وقرارات المؤتمرات كلها تعتبر كتباً مقدسة أيضاً.
بنود الإيمان لديهم: كما وضعها يوسف سميث ذاته:
الإيمان بالله، الأب(*) الأزلي، وبابنه(*) يسوع المسيح، وبالروح القدس(*).
الإيمان بأن البشر سيعاقبون من أجل خطاياهم، وليس بسبب تعدي آدم.
الإيمان بأن جميع البشر يستطيعون أن يخلصوا عن طريق كفارة المسيح وذلك بإطاعة شرائع الإنجيل(*) ومراسيمه.
الإيمان بأن المبادئ والمراسم الأربعة للإنجيل هي:
1ـ الإيمان بالرب يسوع المسيح.
2ـ التوبة.
3ـ العماد(*) بالتغطيس لغفران الخطايا.
4ـ وضع الأيدي لموهبة الروح القدس(*).
الإيمان بأن الإنسان يجب أن يُدعى من الله عن طريق النبوة(*) ووضع الأيدي على يد هؤلاء الذين لهم السلطة لكي يبشر بالإنجيل(*) ويقوم بالمراسيم المتعلقة به.
الإيمان بنفس التنظيم الذي قامت عليه الكنيسة(*) القديمة، أي: الرسل(*) والأنبياء والرعاة والمعلمين والمبشرين… الخ.
الإيمان بموهبة الألسن والنبوة والرؤيا والأحلام والشفاء وتفسير الألسن.
الإيمان بأن الكتاب المقدس هو كلمة الله بقدر ما ترجم صحيحاً، والإيمان بأن كتاب المورمون هو كلمة الله.
الإيمان بكل ما كشفه الله وبما يكشفه الآن وبأنه سيظل يكشف أموراً كثيرة عظيمة تتعلق بملكوت الله.
الإيمان بتجمع إسرائيل واستعادة القبائل العشر، وأن دولة صهيون (أورشليم الجديدة) ستؤسس على القارة الأمريكية وأن المسيح(*) سيحلُّ شخصياً على الأرض، وأن الأرض ستتجدد وتتسلم مجدها الفردوسي.
يدَّعون امتياز عبادتهم لله القوي طبقاً لما يمليه عليهم ضميرهم كما يسمحون لجميع البشر بهذا الامتياز، فليعبدوا ما يريدون وكيف يريدون وأين يريدون.(68/229)
الإيمان بأنه يجب عليهم الخضوع للملوك والرؤساء والحكام وأصحاب السلطة القضائية، كما يؤمنون بأنه يجب عليهم إطاعة القانون واحترامه وتعضيده.
الإيمان بأنه يجب عليهم أن يكونوا أمناء وصادقين وأطهاراً ومحسنين وأصحاب فضيلة وأن يعملوا الخير لكل البشر وهم يسعون وراء كل شيء ذي فضيلة ومحبوب ويستحق التقدير أو المدح.
مراتبهم الدينية والتنظيمية:
ينقسم الكهنوت لديهم إلى قسمين:
1- كهنوت ملكي صادق: وهو أعظم كهنوت إذ يملك التوجيه والتبشير بالإنجيل(*) كما يملك سلطة قيادة الكنيسة(*).
2 ـ كهنوت هارون: وهو الكهنوت الذي منح لهارون ولأولاده خلال جميع الأجيال، وأصحاب هذا الكهنوت يقومون بمراسم الإيمان والتوبة والتعميد(*).
خلاصة أفكارهم:
يعتقدون أن الله هو على شكل إنسان له لحم وعظام وبداخل جسده الملموس روح أزلية. كما يؤكدون على أن الإله(*) متطور عن الإنسان، والناس يمكنهم أن يتطوروا إلى آلهة - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
الإنسان - كروح - ولد من والدين سماويين، وقد بقي هذا الإنسان في منازل الأب(*) الأبدية قبل المجيء إلى الأرض في جسد مادي، كما أن المسيح(*) هو الروح الأولى، فهو بذلك الابن الأكبر.
يسوع المسيح(*) هو الذي خلق الأرض وكل ما فيها، وخلق كذلك عوالم أخرى بتوجيه من أبيه السماوي. ثم خلق بعد ذلك الحيوانات.
المسيح عليه السلام: أمه مريم العذراء التي كانت مخطوبة لشخص اسمه يوسف، وقد حلّ عليها الروح القدس وقوة العلي ظللتها، وولدها هو ابن الله(*)، وقد جاء الولد وارثاً لسلطة إلهية من أبيه، ووارثاً الفناء من أمه.
قام يوحنا المعمدان بتعميده(*) وهو في الثلاثين من عمره، وقد صام أربعين يوماً ليحارب الشيطان، كما أنه قد ظهرت على يديه معجزات.
إن المسيح قد ضُرِبَ، وعُذِّبَ، ومن ثم صُلِبَ، ليسجل انتصاره على الخطيئة، وقد استودع روحه بين يدي أبيه، وقد ظل جسده ثلاثة أيام في القبر، ثم عادت إليه روحه فقام متغلباً على الموت.
بعد قيامه بقليل ظهر في أمريكا، وأسس كنيسته، ثم صعد إلى السماء. وقد دخلت الوثنية(*) إلى العقيدة المسيحية(*) كما حارب رجال الدين بعضهم بعضاً مما استوجب نزول المسيح مرة أخرى مع الله وهبوطهما على يوسف سميث بغية إعادتها إلى الأرض مرة أخرى كما كانت في الأصل.
حواء ابنة مختارة أعطيت لآدم، وسمح لهما بالأكل من كل الأشجار عدا شجرة معرفة الخير والشر، وقد أغراهما الشيطان فأكلا منها فأصبحا فانيين يشتغلان وينجبان.
الروح القدس(*): عضو في الهيئة الإلهية، وله جسد من الروح في شكل إنسان، وهو يوجد في مكان واحد فقط في نفس الوقت إلا أن نفوذه يصل إلى كل مكان.
النبي(*) رجل دعاه الله ليمثله على الأرض ويتكلم بالنيابة عنه، والنبوة لديهم مستمرة لا تنقطع.
التعميد: ترمز المعمودية إلى الموت والقيامة وذلك بأن ينزل رجل الدين إلى الماء مع الشخص الذي يريد تعميده، فيغطسه في الماء ثم يخرجه، وبذا تنتهي الحياة الخاطئة وتبدأ الحياة الجديدة، وهي تسمى الميلاد الثاني.
القربان: كانت القرابين قبل المسيح(*) تقدم على شكل ذبائح من الحيوانات، لكن كفارة المسيح بقتله أنهت هذا النوع من القرابين، وصارت عبارة عن خبز ونبيذ مصحوبة بالصلوات. وخلال رؤية حديثة لقديسي الأيام الأخيرة جعلوها خبزاً وماءً.
يقدسون يوم السبت لأن الله استراح فيه بعد انتهائه من خلق الكون ولقد كان قيام المسيح بعد صلبه في يوم الأحد الذي صار محل تقديس عوضاً عن يوم السبت.
الصوم: هو الامتناع عن الطعام والشراب مدة أكلتين متتابعتين وبذلك يصوم الشخص أربعاً وعشرين ساعة. فإذا أكل أحدهم العشاء فلا يجوز له أن يأكل مرة ثانية حتى العشاء الآخر. كما يقدم الصائم للقائد الكهنوتي إما مالاً أو طعاماً مساوياً لطعام الوجبتين وهذا يسمى بعطاء الصوم.
يحرمون شرب النبيذ، والمسكرات الكحولية والتبغ والدخان بكل أنواعه، ويمتنعون عن شرب القهوة والشاي لما يحتويان عليه من عقاقير مضرة. ويحذرون من تناول المرطبات وما فيها من مشروبات الصودا والمشروبات الفوارة والمياه الغازية، والكولا أشدها خطراً. وينبهون إلى عدم الإسراف في أكل اللحم من دون تحريم، ويبيحون تناول الفواكه والخضر والبقول والغلال مركزين على القمح بخاصة لاعتقادهم بأنه نافع لجسم الإنسان ويؤدي إلى المحافظة على صحته وقوامه. وجدير بالذكر أن يوسف سميث كان يرقص ويشرب الخمر ويشترك في المصارعة وقد كتب يقول: "خلق الإنسان ليتمتع بحياته".
يبيحون تعدد الزوجات ويجيزون للرجل أن يتزوج ما يشاء من النساء لأن في ذلك إعادة لما شرعه الله في الأزمان الغابرة. ولا يسمحون بذلك إلا لذوي الأخلاق(*) العالية على أن يثبتوا قدرة على إعالة أكثر من أسرة. وقد مارس يوسف سميث هذا التعدد. كما استمرت هذه العادة حتى عام 1890م.
تخلوا عن التعدد - ظاهرياً - في عهد نبيهم(*) ولفورد نتيجة للضغط الشديد الذي قوبلوا به من الطوائف الأخرى وكذلك بغية تمكنهم من الانضمام إلى السلطات الاتحادية. وعلى الرغم من التحريم الرسمي العلني إلا أنهم يمارسون التعدد سراً.(68/230)
يحرمون الزنى تحريماً مطلقاً، والذي يخطئ يمكنه التوبة والرجوع عن جميع خطاياه.
يجب على كل فرد أن يدفع عُشر النقود التي يكسبها على أن يكون ذلك مصحوباً بالفرح والسرور.
يدفعون عطاء الصوم، ويدفعون اشتراكات مختلفة وعطايا لغير سبب، فكنيستهم(*) بذلك من الكنائس الغنية الموسرة.
من علامات القيامة:
- الشرور والحروب والاضطرابات.
- استعادة الإنجيل.
- بزوغ كتاب المورمون.
- اللامانيون يصبحون شعباً عظيماً.
- بناء أورشليم الجديدة في ولاية ميسوري.
- بيت إسرائيل يصبح شعب الله المختار.
بعد الحساب هناك عدة ممالك:
- المملكة السماوية: للذين تسلموا شهادة يسوع وآمنوا باسمه وتعمدوا(*).
- المملكة الأرضية: للذين رفضوا الإنجيل(*) على الأرض ولكنهم استلموه في العالم الروحي.
المملكة السفلية: للذين لم يتسلموا الإنجيل(*) ولا شهادة يسوع سواء على الأرض أو في العالم الروحي ومع هؤلاء يكون الزناة والفجار.
الظلمة الخارجية: للذين شهدوا ليسوع بالروح القدس(*) وعرفوا قوة الرب لكنهم سمحوا للشيطان بأن يتغلب عليهم فينكروا الحق ويَتَحَدوا قوة الرب.
يؤمنون بالعهد الألفي السعيد الذي يدوم ألف سنة من تاريخ مجيء المسيح إلى الأرض حيث يقوم كثير من الأموات، وبعضهم يختطف للقائه عندما ينزل، وهي القيامة الأولى. أما الأشرار فيهلكون في الأجساد ويبقون كذلك مع الأشرار من الأموات حتى انتهاء الألف سنة حيث تأتي القيامة الآخرة.
في فترة الألف سنة هذه تسود المحبة والسلام، ويملك يسوع شخصياً، وتجتمع الأرض في مكان واحد، فلن يكون هناك قارات مختلفة، وينمو الأطفال بدون خطيئة.
لن يكون هناك موت: لأن الناس سيتغيرون من حالتهم الفانية إلى حياة الخلود في لحظة.
في نهاية العهد الألفي سيطلق سراح الشيطان لمدة قصيرة، وتحدث معركة بين أتباع الأنبياء(*) وأتباع الشيطان. وعندها ينتصر المؤمنون ويطرد الشيطان إلى الأبد مدحوراً.
المورمون واليهود:
مما لا شك فيه أن لليهود دوراً فعالاً ونشيطاً في حركة المورمون ولذلك فهم:
يعتقدون بأن الله أعطى وعده لإبراهيم، ومن ثم لابنه يعقوب بأن من ذريته سيكون شعب الله المختار.
وأن يعقوب الذي اسمه (إسرائيل) رزق باثني عشر ابناً يعرفون بالأسباط.
وأن هؤلاء الأنبياء ارتكبوا الشرور فبددهم الله في الأرض منقسمين إلى مملكتين:
1- المملكة الشمالية: وتسمى إسرائيل حيث عاش فيها عشرة أسباط.
2- المملكة الجنوبية: وتسمى مملكة يهوذا حيث عاش فيها سبطان فقط.
الأسباط الشماليون هزموا في معركة ودفعوا إلى السبي، وقد هرب بعضهم وتاهوا في البلاد.
بعد مائة عام انهزمت المملكة الجنوبية حوالي عام 600ق.م. عندها ترك لحي وعائلته أورشليم مستقرين في القارة الأمريكية فكان منهم النافيون وكذلك اللامانيون الذي يعتبرون من سلالة لحي. وقد هدمت أورشليم عام 586 ق.م.
سبطا إسرائيل اللذان بقيا أُخِذا أسيرين، كما أعيد بناء أورشليم بعد المسيح، إلا أن الجنود الرومانيين قد خربوها مرة ثانية.
يصرحون بأن في هذا الزمان قد وعد الرب بأنه سيجمع بني إسرائيل ليتعلموا الإنجيل(*)، كما أن موسى النبي قد نزل على يوسف سميث عام 1836م وأعطاه سلطة جمع بيت إسرائيل في هيكل كيرتلاند.
بيت إسرائيل الآن في طريقه إلى الجمع إذ أن آلافاً من الناس ينضمون إلى الكنيسة(*) سنوياً من الإسرائيليين الذي ينتمون إلى عائلة إبراهيم ويعقوب إما بعلاقة الدم أو بعلاقة التبني حسب ادعاءاتهم.
سيجمع سبطا افرايم ومنسي في أرض أمريكا، وسيعود سبط يهوذا إلى أورشليم كما أن الأسباط العشرة المفقودة ستتسلم البركات التي وعدت بها من سبط افرايم في أمريكا.
الإسرائيليون المشتتون في كل دولة يدعون للتجمع في حظيرة المسيح(*) في أوتاد صهيون.
هذا التجمع الحرفي لإسرائيل لن يتم حتى المجيء الثاني للمخلص كما يزعمون.
ستكون هناك عاصمتان في العالم: الأولى في أورشليم والثانية في أمريكا لأن من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم تخرج كلمة الرب.
الجذور الفكرية والعقائدية:
لليهود دور في نشوء هذه الطائفة تعزيزاً للانشقاق داخل الكنائس المسيحية بغية السيطرة عليها.
كتاب المورمون يشبه التلمود في كل شيء ويحاكيه وكأنه نسخة طبق الأصل عنه.
إن إسرائيل قد جندت كل إمكاناتها لخدمة هذه الطائفة عاملة على استمرارية العون والمساندة النصرانية لها.
يعملون على ربط صهيون أو القدس الجديدة بالأرض الأمريكية المقدسة - حسب وصايا الرب - انتظاراً لعودة المسيح(*) الذي سيعود ليملك الأرض ويملأها جنات خالدات.
يقولون عن فلسطين في كتاب المورمون في الإصحاح العاشر الفقرة 31: "فاستيقظي وانتفضي من الثرى يا أورشليم، نعم… والبسي حللك الجميلة يا ابنة صهيون، ووسعي حدودك إلى الأبد، لكي لا تعودي مغلوبة ولكي تتحقق عهود الأب(*) الأزلية التي قطعها معك، يا بيت إسرائيل".
يقولون في الإصحاح الرابع عشر فقرة 6 مخاطبين المورمون: "لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا دوركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت لتمزقكم".(68/231)
نلاحظ تعانق الفكر الصليبي مع الفكر الصهيوني في نظرتهم إلى فلسطين، إنهم يقولون ذلك منذ عام 1825م يوم كانت فلسطين ما تزال جزءً من أرض الإسلام.
الانتشار ومواقع النفوذ:
آمن بفكرة المورمون كثير من النصارى، وكان دعاتها من الشباب المتحمس، وقد بلغ عدد أفرادها أكثر من خمسة ملايين نسمة، ثمانون بالمائة منهم في الولايات المتحدة الأمريكية ويتمركزون في ولاية يوتاه حيث أن 68% من سكان هذه الولاية منهم، و62% من سكان مقاطعة البحيرات المالحة مسجلون كأعضاء في هذه الكنيسة(*) ومركزهم الرئيسي في ولاية يوتاه الأمريكية.
انتشروا في الولايات المتحدة الأمريكية، وأمريكا الجنوبية، وكندا، وأوروبا، كما أن لهم في معظم أنحاء العالم فروعاً ومكاتب ومراكز لنشر أفكارهم ومعتقداتهم.
أنهم يوزعون كتبهم مجاناً، ودعوتهم تأتي خدمة لمصلحة إسرائيل وتأكيداً لأهدافها المرسومة. ولهم 175 إرسالية تنصيرية، كما أنهم يملكون:
شبكة تلفزيونية، وإحدى عشرة محطة إذاعية.
ويملكون مجلة شهرية بالأسبانية، وصحيفة يومية واحدة.
ويملكون مركزاً متطوراً جداً للمعلومات في مدينة سولت ليك في ولاية يوتاه الأمريكية.
ويتضح مما سبق:
أن المورمون طائفة نصرانية جديدة نسبياً، انشقت عن النصرانية، وتدعو إلى التمسك بالكتب اليهودية وكتاب المورمون وكتاب المبادئ والعهود وغيرها ويدعون إلى الإيمان بالمسيح الذي جاء - في نظرهم - لينقذ اليهود من الاضطهاد، والإيمان بأن المبادئ والمراسم الأربعة للإنجيل(*) هي: الإيمان بالرب يسوع المسيح(*) كما يقولون، والتوبة والعماد(*) بالتغطيس لغفران الخطايا ووضع الأيدي لموهبة الروح القدس(*). ويصل شركهم مداه عندما يقولون إنهم يعتقدون إن الله تعالى هو على شكل إنسان له لحم وعظام وبداخل جسده الملموس روح أزلية، كما أن البشر عندهم هم أبناء وبنات الله، ومن هنا يجب حذر المسلمين من أفكارهم.
---------------------------------------------------------
مراجع للتوسع:
هناك نشرات توزعها كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة بمدينة سولت ليك بولاية يوتاه في الولايات المتحدة الأمريكية ومنها:
(a) The Chu r ch of Jesus Ch r ist of Latte r -day Saints
• ومن نشراتهم باللغة العربية ما يلي:
- مبادئ الإنجيل.
- دليل الشعبة.
- دليل القائد الكهنوتي.
- كلمة الحكمة.
- شهادة يوسف سميث.
- دليل العائلة.
- ماذا عن المورمون - طبع الولايات المتحدة.
- مقال عن المورمون في مجلة الأمة عدد 22 شوال 1402هـ/ آب 1982م.
- مقال في الموسوعة البريطانية عن المورمون.
- ولهم كذلك نشرات باللغة الإنجليزية هي:
- Succession in the P r esidency.
- W.H.Y. Famillies?
- A Family home evening p r og r am suggested by the Chu r ch of Jesus Ch r ist of latte r -day saints.
- The Mo r mons and the Jewish people.
- The Lo r d's Day.
- What the Mo r mons think of Ch r ist.
- A Wo r d of Wisdom, Ma r k E. Pe r e r sen.
- Baptism. How and by Whom administe r ed?
==============(68/232)
(68/233)
هلمّ نخرج من ظلمات التيه !
محمد قطب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ الأنعام:153]
صدق الله العظيم
مقدمة
" هلم نخرج من ظلمات التيه . . ! "
هذا نداء للأمة كلها التي تنطق بلسانها " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " .
إن هذه الكلمة العظيمة هي التي أخرجت هذه الأمة إلى الوجود أول مرة ، وهي التي رفعتها إلى مقام الخيرية على كل أمم الأرض ، وكل أمم التاريخ :
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)(1)
وهي التي دفعتها إلى الحركة في كل مجال من مجالات الحياة الإنسانية ، فأوصلتها إلى مرتبة التفوق في جميع الميادين : الحربية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والخُلقية والروحية ، وجعلت لها ذكرا ضخما في الأرض بعد أن كانت على هامش التاريخ !
ولم يكن النطق بلا إله إلا الله هو الذي صنع ذلك كله !
إنما كان هو النطق بها ، واليقين الذي يملأ القلب بحقيقتها ، والعمل بمقتضياتها ، هو الذي صنع كل تلك الأعاجيب التي وعاها التاريخ ، تحقيقا لوعد الله :
( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً )(2)
لقد كانت الأمة تعيش بكيانها كله في عالم الواقع ، ولكنها تحلق في عالم المثال !
واليوم . . ما أبعد الواقع عن المثال ! بل ما أبعد الواقع عن الحد الأدنى الذي لا يجوز للأمة أن تهبط عنه !
اليوم تخبط الأمة على غير هدى في ظلمات التيه . . إلا ما رحم ربك !
ولقد ابتلى الله أمة سابقة بالتيه : ( أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ )(3) .
وكان سبب ذلك الابتلاء أن تلك الأمة تقاعست عن الأمر الرباني الموجّه إليها لدخول الأرض المقدسة :
( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ، وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ . يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ، وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ . قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا ، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ . قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ . قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ، فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ . قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ )(4) .
وربما كانت حكمة ذلك التيه أن القوم المستضعفين، الذين تربوا على المذلة للفرعون ، لم يكونوا صالحين لحمل الأمانة المنوطة بهم على الوجه الذي يؤهلهم لتحقيق الرسالة الربانية ، وتحقيق منهج الله في الأرض ، فابتلاهم الله بذلك التيه في تلك الفترة المحددة، التي انتهى فيها ذلك الجيل المستضعف المستذل ، وولد بعده جيل جديد . . ولد في التيه . . في المشقة . . في المعاناة ، فكان أصلب عوداً وأقدر على تحمل المشاق . . فأذن الله له أن يدخل الأرض المقدسة ، ومكّن له في الأرض .
و الأمة الإسلامية اليوم تعيش في التيه . و لكنه تيه معنوي لا كذلك التيه الحسّي الذي عاشت فيه بنو إسرائيل . تيه في الأفكار والمشاعر والتصورات وأنماط السلوك .
وكان هذا ابتلاء لها من الله حين تقاعست عن حمل الرسالة التي حمّلها الله إياها ، وجعل لها فيها خيريتها ، وحدد لها فيها مهمتها :
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(5) .(68/234)
وقد بدأ ذلك التيه منذ أكثر من قرن ، حين نحّت هذه الأمة شريعتها ، واستبدلت بها الشرائع التي أخبرها ربها أنها شرائع جاهلية لأنها لا تحكم بما أنزل الله ؛ واستبدلت بقيمتها وأخلاقها وأنماط سلوكها قيم الغرب وأخلاقه وأنماط سلوكه ؛ وأدارت ظهرها لكتاب ربها وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، لتستورد الأفكار والنظم و" الأيدلوجيات " والمبادئ من المكان الذي توهمت فيه الرقي والتقدم والحضارة الحقيقية .
وكانت الفتنة بالغرب - بعد الانبهار الذي أصاب الأمة على أثر الهزيمة العسكرية أمامه - هي بداية التيه الذي ابتليت به الأمة في محنتها .
لقد كانت الأمة قبل ذلك قد أصابها من السقام ما أصابها ، فانكمشت وانحسرت ، وقبعت في داخل ذاتها ، تحتضن البقايا المتبقية لها من دينها ، وتحسب أنها على دين صحيح . ثم اشتد بها السقام حتى كادت تسقط من الإعياء ، وهي في مكانها لا تريم ، ولكنها لا تفكر في تغيير هويتها ، ولا تقبل ذلك لو دعيت إليه . ثم إذا هي فجأة - بعد هزيمتها العسكرية أمام الغرب - تنتفض مذعورة ولكن على غير هدى من ذلك الدين الهادي الذي عاشت به ما سلف من القرون ، وكان فيه مجدها وعزها وقوتها يوم أن كانت مستمسكة به على بصيرة . . وإذا هي - في وهلتها - تدور في التيه ، تبحث عن الهدى في المكان الذي لا تجده فيه !
وأوغلت الأمة في التيه ما يزيد على قرن من الزمان . .
ثم جاءت الصحوة بحمد الله . . وبدأت طلائع الأمة تخرج من التيه لتعود إلى منبع الهدى الحقيقي ومنبع القوة الحقيقية ، الذي كانت قد غفت عنه فترة من الوقت من قبل ، ثم هجرته فترة من الوقت و هي تدور في التيه .
ولكن الصحوة ذاتها ما تزال في أول الطريق ، وما يزال أمامها مشوار طويل لابد أن تقطعه لتحقق أهدافها . وما تزال طوابير طويلة من الأمة تسير في ظلمات التيه .
كم قدّر الله من الزمن لهذه الأمة تقضيه في التيه ؟ ذلك غيب لا يعلمه إلا الله . .
ولكنا نحسب أن آَن الأوان للأمة أن تخرج نفسها من ذلك التيه . فإن تكن الفتنة بالغرب هي التي أدخلتها في التيه بادئ ذي بدء ، فنحسب أن الغرب قد انكشف اليوم على حقيقته بصورة يلمسها من كان له أدنى قدر من البصر بمجريات الأمور .
والوحشية الصليبية التي ارتكبها الصرب في البوسنة والهرسك ، ثم السكوت المخزي الذي مارسه الغرب الصليبي كله على هذه الوحشية المسفّة ، لابد أن يكشفا لكل إنسان عن حقيقتين هائلتين : الأولى مدى الحقد الصليبي الكامن في نفوس الغرب تجاه الإسلام والمسلمين ؛ والثانية مقدار الزيف في تلك " الحضارة " التي زعمت أنها حضارة " إنسانية " تقوم على احترام " الاَخر " وإعطائه حقه في الوجود ، وحقه في التعبير عن ذلك الوجود !
إن الغرب هو أكبر أكذوبة حضارية في التاريخ . . برغم كل تقنياته ، وكل تقدمه العلمي و المادي ، ووصوله إلى القمر ووصوله إلى المريخ . . فكل ذلك - وحده - لا يصنع حضارة ، و إن كان العلم و تقنياته من مستلزمات كل حضارة . . إنما الحضارة الحقة هي التي ترتفع " بالإنسان " في جوهره الحقيقي . . في كيانه كله لا في جانب واحد منه . . في " كافة " مجالات حياته كما قال الله للمؤمنين :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ )(6)
" ادخلوا في السلم كافة " . . أي بكافتكم جميعا ، وبكافة كل واحد منكم . . بكافة نفسه وعقله ومشاعره وضميره وأنماط سلوكه ، فإن أية جزئية من كيان الإنسان لا تدخل في ذلك السلم الرباني فهي غذاء للشيطان المتربص ، يتلقفها ليجر الإنسان منها ، ليحاول أن يخرجه من السلم في الدنيا ويدخله الجحيم في الآخرة :
( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) (7).
والوحشية الصليبية في البوسنة والهرسك ، والسكوت المخزي الذي مارسه الغرب تجاهها ، هما المحك الحقيقي لتلك " الحضارة " الزائفة . المحك الذي يكشف معدنها الحقيقي ، ويكشف كم تركت من جوانب حياتها غذاء للشيطان .
ومع ذلك فهي ليست الوحشية الوحيدة التي مارسها العالم " المتحضر " أو سكت عنها السكوت المخزي ، أو باركها سراً وعلانية ، فمذبحة طاجستان لا تقل وحشية ، ومذابح الهند وكشمير لا تقل وحشية ، ومذابح فلسطين لا تقل وحشية ، ومذابح الفلبين لا تقل وحشية .. وغيرها وغيرها في كل بقاع الأرض ..
وقد آن للمخدوعين بالغرب من هذه الأمة أن يفيقوا ، وأن يخرجوا أنفسهم من ظلمات التيه .
وإذا كان الإنبهار بالغرب - الذي نشأ أساساً من الخواء العقدي الذي عاشته الأمة في فترتها الأخيرة - هو بداية التيه ، فليكن إنكشاف الغرب على حقيقته هو بداية التوجه للخروج من التيه لمن كان ما يزال يسير فيه .. ولن يخرج الإنسان من التيه حقيقة حتى يدخل بكافته في السلم الرباني .. في حقيقة " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " .(68/235)
والنداء موجّه إلى الأمة كلها للخروج من التيه والعودة إلى الطريق .. ولكنه موجّه بصفة خاصة إلى شباب الصحوة ، فهم الرواد الذين يدلون الأمة على الطريق ، وييسرون لها العودة إليه ، والمسير فيه :
( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) (8)
ولقد كتبت هذه الصفحات لأبين في إيجاز شديد كيف دخلت الأمة في التيه ، والحجم الحقيقي لذلك التيه الذي شمل كل جوانب الحياة : الروحية والفكرية والخلقية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية في فترة من الفترات . ثم الدور الذي قامت به الصحوة المباركة حتى هذه اللحظة على الرغم من كل سلبياتها وتعثراتها ، ثم صورة الغد المأمول بإذن الله ، حين تستكمل الصحوة نضجها ، وتستكمل الأمة خروجها من ظلمات التيه ، فيعود لها التمكن في الأرض بحسب وعد الله الدائم :
( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (9) .
والله المسئول أن يبصّر الأمة بالمخرج الحقيقي من التيه ، وبالسبيل الحق ، والمنهج الصحيح للسير فيه :
( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (10) .
محمد قطب
كيف دخلنا التيه ؟
إن الحرب الصليبية التي بلغت ذروتها في البوسنة والهرسك في أيامنا الأخيرة ، قد بدأت في الحقيقة منذ عدة قرون .. نستطيع أن نقول بشيء من التحديد إنها بدأت بطرد المسلمين من الأندلس . وقد سقطت آخر دويلة إسلامية في الأندلس عام 1492 م (11) ، بعد أن عملت محاكم التفتيش بكل فظائعها لإبادة المسلمين ، والقضاء الكامل على الإسلام في تلك البقاع . ثم أمر البابا بمتابعة المسلمين خارج الأندلس ، وفرض النصرانية عليهم بالسيف إن لم يستجيبوا لدعوة التنصير . وكانت الرحلات التي قام بها فاسكو داجاما وماجلان وغيرهما رحلات استكشافية ، لكشف نقاط الضعف التي يمكن عن طريقها اختراق العالم الإسلامي توطئة لغزوه والاستيلاء عليه ، وقد اضطرت كلها أن تسير في اتجاه مغاير للحملات الصليبية الأولى بسبب وجود الدولة العثمانية بقوتها الرهيبة في الشرق ، وتوغلها الكاسح في شرق أوربا ، فكان على الحملة الجديدة أن تدور حول أفريقيا ، وتحاول غزو الأطراف البعيدة أولا قبل أن تتجه إلى قلب العالم الإسلامي ، وبالذات إلى بيت المقدس ، الذي انهزمت عنده الحملات الصليبية الأولى . وفي هذه المرة لم يكن بيت المقدس هدفا للنصارى وحدهم ، بل اشترك اليهود معهم ، ولكن لحسابهم الخاص !
وشهد القرنان الثاني عشر والثالث عشر الهجريان ( الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديان ) تركيزا شديدا في الحملة الصليبية ، انتهى بالاستيلاء على معظم بلاد العالم الإسلامي ، بعد معارك عنيفة بين المسلمين و الصليبيين ، انتهت كلها بهزيمة المسلمين أمام الغزو الكاسح ، وخضوع العالم الإسلامي للغزو النصراني
وبطبيعة الحال لم تحدث تلك الهزيمة اعتباطا ، وإنما كان لها أسباب .
والأسباب الظاهرة هي التخلف الذي أحاط بالمسلمين في ميدان العلم ، وميدان " التكنولوجيا " ، وميدان الاقتصاد ، وميدان التدريب الحربي والتسلح . وقد كانت هذه الأسباب كلها قمينة بإحداث الهزيمة العسكرية أمام الغرب الذي كان قد تقدم في كل تلك الميادين بمقدار ما تخلف المسلمون ! ومعركة إمبابة الشهيرة بين المماليك ونابليون نموذج واضح لهذه الحقيقة ، فقد استغرقت المعركة كلها عشرين دقيقة ! ولم يكن ينقص المماليك الشجاعة الحربية ولا الرغبة في صد العدوان عن ملكهم ، ولكن مدافعهم المتخلفة التي تحتاج إلى فترة زمنية بعد كل طلقة حتى تبرد ويمكن حشوها بالبارود من جديد ، والتي يتناقص مداها كلما حميت ، لم تكن لتصمد أمام المدافع التي تتتابع طلقاتها بسرعة وقوة وتمكن ، ومن مدى أبعد مما تصل إليه مدافع المماليك .
ولكن الدراسة الواعية لتلك الفترة من التاريخ يجب ألا تقف عند الأسباب الظاهرة ، فتفوتها عندئذ الحقيقة الكامنة وراء تلك الأسباب . إنما يجب أن تتعمق لترى الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ذلك الانهيار .
وحين يقوم المؤرخ المسلم بدراسة هذه الفترة من التاريخ فسيكون له بالضرورة موقف مختلف عن المؤرخ الأوربي ، من ناحيتين اثنتين على الأقل .(68/236)
الناحية الأولى أنه سيتتبع الروح الصليبية الدافعة إلى غزو العالم الإسلامي ، التي يخفيها المؤرخ الغربي عامدا رغم وضوحها . فقد ظل الغرب يوحي إلينا أن غزوه الأخير للعالم الإسلامي لم يكن ذا صلة على الإطلاق بالروح الصليبية التي دعت إلى الحملات الصليبية القديمة ، إنما هو منبعث من أسباب اقتصادية بحتة ! فمرة سببه البحث عن التوابل ! ومرة سببه البحث عن الخامات الرخيصة ! ومرة سببه البحث عن أسواق لتصريف فائض المنتجات التي يصنّعها الغرب ! مع أن فاسكو داجاما- الرائد الأول للغزو الصليبي الحديث -قال بعبارة صريحة حين وصل إلى جزر الهند الشرقية - بمعاونة الخرائط الإسلامية ، ومعاونة البحار المسلم ابن ماجد - قال : الآن طوقنا رقبة الإسلام ، ولم يبق إلا جذب الحبل فيختنق ويموت !! كما أن ماجلان - وهو كذلك من الرواد الأوائل لهذا الغزو - ألح على البابا أن يأذن له بقيادة حملة صليبية بهدف محدد ، هو ضم أراضي الفلبين تحت راية الصليب ، ولما أذن له البابا على تردد - لعدم ثقته بقدرته على إنجاح حملته - ذهب بالفعل إلى الفلبين ، ورفع الصليب على إحدى جزرها ، فقتله المسلمون هناك وقضوا على حملته (12) !
وقد كانت للغرب مصلحة ظاهرة في إخفاء الوجه الصليبي للحملة الجديدة ، اتقاء لإثارة الروح الدينية عند المسلمين ، التي تبعث على " الجهاد المقدس " وهو أخطر ما يخشاه الغزاة - صليبين كانوا أو صهيونيين أو عباد بقر أو عباد أصنام - وقد ذاق الغزاة بأسه بالفعل في الهند والجزائر وغيرهما من البقاع .
كتب كرومر - المعتمد البريطاني في مصر أول أيام الاحتلال - في مذكراته المسماة " مصر الحديثة Mode r n Egypt " : " إن مهمة الرجل الأبيض الذي وضعته العناية الإلهية (!) على رأس هذه البلاد هي تثبيت دعائم الحضارة المسيحية إلى أقصى حد ممكن بحيث تصبح هي أساس العلاقات بين الناس وإن كان من الواجب - منعا من إثارة الشكوك - ألا يعمل رسميا على تنصير المسلمين ، وأن يرعى من منصبه الرسمي المظاهر الزائفة للدين الإسلامي ، كالاحتفالات الدينية وما شابه ذلك " !!
و الهدف من هذا الكلام واضح .. إبعاد المسلمين عن الإسلام دون إشعارهم أن الهدف هو إبعادهم عن الإسلام ! وذلك منعا من إثارة الشكوك .. أي منعا من إثارة الروح الدينية عند المسلمين ، حين يتضح الوجه الصليبي على حقيقته !
ونفي الدافع الصليبي عن الغزو الصليبي الحديث كان يهدف إلى ذات الغاية التي قصد إليها كرومر ، وهي عدم إثارة روح الجهاد المقدس ضد الغزاة ، والسعي إلى ترويضهم بحيث يقبلون الأمر الواقع ، وحتى إن اتجهوا إلى مقاومته ، قاوموه بغير روح الجهاد المقدس التي يفزع منها الغزاة !
ولترويج هذه الفرية في نفوس المسلمين في البلاد المحتلة قال الغرب إنه ترك الدين منذ فترة ! ولم يعد الدين هو الذي يحركه ! إنما الذي يحركه هو " المصالح الاقتصادية " فحسب! ولاكت ألسن المسلمين هذه الفرية في فترة التيه ، وروجها دعاة الغزو الفكري - بوعي أو بغير وعي - ليثبطوا أي تحرك جهادي إسلامي ضد الغزاة !
نعم ! لقد نبذت أوربا دينها ، فلم تعد تتحرك به داخل بلادها .. ولكنها لم تنس قط الروح الصليبية الكامنة في دمائها ، والتي تحركها دائما ضد الإسلام و المسلمين ! وهذه الحقيقة - حقيقة نبذ أوربا لدينها ، وبقاء الحقد الصليبي تجاه الإسلام مشتعلا رغم ذلك - قد أشار إليها المستشرق النمساوي " محمد أسد " في كتابه الشهير " الإسلام على مفترق الطرق " الذي ألفه بعد أن أعلن إسلامه ، وحاول فيه تفسير هذه الظاهرة الغريبة التي قال إنه لم يحدث مثلها في التاريخ ، فقال : إن هذا الحقد قد ولد في نفوس الأوروبيين في فترة طفولتهم الفكرية والحضارية ، فلم تستطع فترة النضج التالية أن تمحوه من نفوسهم ، لأن ما ينطبع في الطفولة يتبقى عالقا في النفس !!(13)
ولسنا نحن في حاجة إلى شهادة محمد أسد ولا تفسيره ، وعندنا شهادة الله سبحانه وتعالى وتقريره :( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) (14)
وعندنا مذبحة البوسنة والهرسك شهادة لا تحتمل التأويل . فالمندوب البريطاني " أوين " الذي ليست له أي مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في منطقة البوسنة والهرسك يتكلم حين يتكلم كأنما بلسان الصرب ، بل يطلب للصرب أحيانا أكثر مما يطلبون هم لأنفسهم ، بل طالب في أكثر من مرة بمعاقبة المسلمين لأنهم لم يتقبلوا اغتيال الصرب الوحشي لهم في صمت ولا هتكهم لأعراضهم ، بل كانوا يدافعون عن أنفسهم بين الحين و الحين !!
والأمر الثاني الذي يجب على المؤرخ المسلم إبرازه بينما المؤرخ الأوربي لا يذكره على الإطلاق ، هو أن السبب الحقيقي وراء كل ألوان التخلف التي أحاطت بالمسلمين في الفترة الأخيرة كان هو التخلف العقدي .. التخلف عن حقيقة لا إله إلا الله .(68/237)
إن الضعف ليس من طبيعة هذا الدين ، وهو دين القوة والجهاد والتمكن ، الذي اكتسح في سنوات معدودة الإمبراطورية الفارسية بأكملها ونصف الإمبراطورية الرومانية العتيدة ، والذي هزم التتار في عنفوانهم وهزم الصليبيين في حملاتهم القديمة ، واستقر في معظم الأرض المعمورة في وقته استقرار التمكن والرسولخ والنماء . إنما الضعف عنصر طارئ في حياة المسلمين لم يتأت لهم وهم مستمسكون استمساكا حقيقيا بدينهم . وسواء كان سببه الترف الذي أصاب الحكام العثمانيين بعد أن استتب لهم الملك والغلبة على الأعداء ، أو حلقات الذكر الصوفي التي تستوعب طاقة المسلم الروحية فتصرفها عن الجهاد ، وتحولها إلى سبحات روحية أشبه بالخدر منها إلى الوعي الحيّ ، أو انتشار الخرافة والتعلق بالخوارق الموهومة والكرامات المنسوبة إلى المشايخ ، الأحياء منهم والأموات ، أو إهمال العلوم الكونية وإهمال عمارة الأرض والانصراف عن أسباب التمكن ، أو الاستبداد السياسي الذي يجعل الناس ينصرفون إلى خاصة أنفسهم ويتركون الانشغال بالقضايا العامة التي تقرر مصاير الأمة ، ويتركز " الدين " في حسهم في الشعائر التعبدية فحسب ، أو تَحَوُّلَ الدين كله في النهاية إلى تقاليد تُرْعَى لذاتها ولكنها خاوية من الروح ..
سواء كان السبب هذا أو ذاك أو ذلك فكلها ليست من طبيعة هذا الدين ، ولاهي مستوحاة من نصوصه المنزلة أو سوابقه التاريخية حين كان مطبقا تطبيقا صحيحا في واقع الحياة .
والمؤرخ الأوربي المدقق لن تفوته معرفة هذه الحقيقة :
( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ) (15)
ولكنه لن يظهره وإن عرفه وتيقن منه :
( وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (16)
فإنه لو أظهره فكأنما سيوقظ المسلمين إلى حقيقة انحرافهم عن مصدر قوتهم الحقيقي ، و سيدعوهم إلى محاولة تغيير واقعهم ، والعودة إلى حقيقة الإسلام التي لا يمقت الغرب شيئا كمقته إياها ، ولا يخاف شيئا كخوفه منها .
بل لقد عمد المؤرخ الأوربي - وتبعه من تبعه من " المسلمين " الغارقين في التيه - إلى ما هو أسوأ من إخفاء تلك الحقيقة ، فزعم أن " الدين " ذاته كان هو السبب في كل هذا البلاء ! في الضعف والتخلف والخرافة والجهل والاستخذاء والقعود ! وأنه لابد من نبذ الدين ليتحرر الناس من الجهل والخرافة ، ويزيلوا الأغلال التي تمنعهم من الانطلاق ! وحرص - وحرصوا معه - على منع أية إشارة تنبه الناس إلى حقيقة بعدهم عن حقيقة الدين ، وأن الدين الحقيقي شيء آخر غير الذي يمارسونه باسم الدين !
حدثني ذات مرة صديق كنت أعمل معه في إدارة واحدة (17) ، أنه التقى بأحد المستشرقين أثناء مرور الأخير بالقاهرة في أوائل الستينيات من هذا القرن الميلادي ، فسأله عن جملة أشياء تتعلق بالإسلام والمسلمين وما يدور من أفكار بينهم ، وفي أثناء الحديث سأله : هل تعرف فلانا ؟ ( وذكر له اسمي ) فأجابه بالإيجاب . فسأله : هل هو من خريجي الأزهر ؟ قال له : لا ! إنه من خريجي قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة ! فلم يخفِ عجبه - وإستياءه كذلك - من أن ينشغل واحد من خريجي هذا القسم - الذي أنشئ ابتداء لتخريج " علمانيين " يتبعون طريقة التفكير الغربية ومنهج الغرب في الحياة - أن ينشغل بأمور الإسلام ، ويكتب في موضوعات دينية !
ثم راح المستشرق يكيل النقد لكتاباتي ، وخاصة كتاب " شبهات حول الإسلام " (18) وكان أشد حنقه على أمر معين ، هو أنني أنتقد مادية الغرب ، وأهاجم حضارته المادية الخالية من الروح . وقال لصديقي حانقا : ماذا صنعتم أنتم بروحانيتكم ؟! لولا تقدمنا المادي ما استطعتم أنتم أن تعيشوا ! فحدثه الصديق - رحمه الله - أنني أقول بأن الإسلام ليس روحانية فحسب ، وإنما هو يجمع بين عالم المادة وعالم الروح ، ويدعو إلى بذل النشاط في كلا المجالين في آن واحد . فقال له : ولكن واقعكم خلاف ذلك ! فقال الصديق - يتابع حديثه عني - " إنه يقول إن واقع المسلمين اليوم بعيد عن حقيقة الإسلام " ! فانتفض الرجل من كرسيه حنقا وغضبا وقال : هو يقول ذلك ؟! أين يقول هذا الكلام ؟! قال : في كتاب له يسمى " هل نحن مسلمون " . فقال المستشرق وهو ينصرف في عصبية ظاهرة : هذا أمر خطير !!
أمر خطير أن يتنبه أحد - أو ينبه الناس- إلى أن حقيقة الإسلام غير ما يمارس باسم الإسلام ، وأن الواقع السيء الذي يعيشه المسلمون اليوم سببه البعد عن حقيقة الإسلام !
المؤرخ المسلم - في تناوله لتاريخ تلك الفترة - عليه من إسلامه واجب لابد أن يؤديه ، هو أن يبين للناس السبب الحقيقي فيما حدث من هزيمة عسكرية أمام الغرب ، وأن يفسر لهم كذلك سبب الهزيمة الروحية التي تلت الهزيمة في ميدان الحرب ..
فأما الهزيمة الحربية فقد كانت نتيجة طبيعية لترك الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى القوة . ولكن ترك الأخذ بالأسباب كان هو ذاته نتيجةً للخلل العقدي الذي أصاب المسلمين فجعلهم ينحرفون بالدين عن حقيقته ، ولا يعملون بمقتضاه .(68/238)
فالفكر الإرجائي الذي أخرج العمل من مسمى الإيمان ، وجعل الإيمان هو التصديق القلبي والإقرار اللساني فحسب ، كان انحرافا متعلقا بالعقيدة ، ومجافيا لمنهج السلف الصالح الذين قالوا إن الإيمان قول وعمل ، والذين كان في حسهم أن العلم الذي لا يصحبه عمل ليس علما حقيقيا ، وأن العمل هو الثمرة الحقيقية للعلم .
وقد أدى هذا الانحراف العقدي إلى تصور للدين غير صحيح ، وسلوك بالدين غير صحيح ، فزاد تفلت الناس من التكاليف بغير حرج في صدورهم ، لأنهم - في وَهْم أنفسهم - مؤمنون صادقو الإيمان مهما تفلتوا ، ما داموا مصدقين بالقلب ، ومقرين باللسان !
والفكر الصوفي الذي أدى إلى تضخم " الشيخ " في حس " المريد " حتى صار واسطة بينه وبين الله ، كان انحرافا متعلقا بالعقيدة ، ومجافيا لمنهج السلف الصالح ، الذين تعلموا من كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم أنه لا وسطاء بين العبد والرب إلا العمل الصالح الذي يرضى الله عنه فيرضى عن صاحبه ، وان من أعظم القربات إلى الله الجهاد في سبيل الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والسعي إلى تقويم المجتمع إذا انحرف عن السبيل .. وكان من نتيجة هذا الانحراف العقدي ألوان من شرك العبادة من جهة ، وتعلق بالأوهام والخرافات من جهة ، وتركٌ للعمل الإيجابي الذي يجري الله به التغيير في الأرض بحسب سنته الجارية ، تطلعا إلى خارقة تتحقق على يد " وليّ " من أولياء الله تنحل بها المشاكل بلا تعب ولا نصب ولا انشغال بال !
والإيمان المختل بعقيدة القضاء والقدر ، الذي يسقط مسئولية الإنسان عن أعماله حين يخطئ أو يقصر بدعوى أن ما يصيبه هو قضاء وقدر لا حيلة له فيه ، ويدعو إلى الاستسلام السلبي لكل ما يقع ، وعدم السعي إلى تغييره بدعوى أن العمل على التغيير هو بمثابة التمرد على قدر الله وعدم الرضا بقضائه ، ويدعو إلى عدم الأخذ بالأسباب بدعوى أن هذا نقص في الإيمان ، ودليل على عدم التوكل على الله .. كل ذلك كان انحرافا متعلقا بالعقيدة، ومجافيا لمنهج السلف الصالح الذين كانوا أصفى الناس إيمانا بالقضاء والقدر ، ولكنهم كانوا يعلمون من كتاب الله ومن سنة رسول صلى الله عليه وسلم أن الإيمان بالقضاء والقدر لا يسقط مسئولية الإنسان عن عمله حين يخطئ أو يقصر ، ولا يمنع السعي إلى التغيير تطلعا إلى قدر جديد من عند الله ، وان التوكل الصحيح لا يمنع الأخذ بالأسباب ، وأن حتمية تحقق قدر الله ومشيئته لا تتنافى كذلك مع اتخاذ الأسباب .
ففي وقعة أحد قال الله للمسلمين إن ما أصابهم من الهزيمة هو من عند أنفسهم لمخالفتهم أمر الرسو صلى الله عليه وسلم ، وهو في الوقت ذاته قضاء وقدر :
( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ ..) (19) .
وحين وقعت الهزيمة لم يقعد رسول ا صلى الله عليه وسلم عن السعي إلى تغيير الموقف ، فأخذ المسلمين - بجراحاتهم - للقاء العدو ، فانصرف العدو بفضل الله وآثر الانسحاب دون قتال :
( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) (20).
وتلقى الرسو صلى الله عليه وسلم توجيها من ربه له وللأمة المسلمة من ورائه أن يعدّ العدة ثم يتوكل على اللَه :( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ) (21).
والعزيمة تقتضي الإعداد وإلا فهي مجرد أمانيّ لا تغير شيئا من الواقع .
وقرر الله سبحانه وتعالى أن الذين كفروا لن يسبقوا الله ولن يعجزوه . وأن قدر الله بالتمكين لهذا الدين في الأرض ماضٍ ونافذ . ومع ذلك أمر المسلمين بالإعداد واتخاذ الأسباب في نفس السياق :
( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (22).
وقد أدى هذا الخلل العقدي في عقيدة القضاء والقدر إلى تواكل سلبي بدلا من التوكل الحق ، وإلى إهمال اتخاذ الأسباب - ومن بينها أسباب القوة التي أمر الله بإعدادها لإرهاب عدو الله - وإلى انتشار الفقر والمرض والعجز ، والقعود في الوقت ذاته عن محاولة التغيير .(68/239)
والتصور المختل لطبيعة العلاقة بين الدنيا والآخرة ، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة ، كان انحرافا عن حقيقة الدين ، وعن منهج السلف الصالح الذين فهموا من كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم أن الدنيا مزرعة الآخرة ، وأن عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني جزء من العبادة المطلوبة من الإنسان ، وأن العمل للآخرة لا يتنافى مع السعي في الأرض :
( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)(23).
( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )(24) .
وقد نهى الرسو صلى الله عليه وسلم القوم الذين زعموا أنهم يعملون للآخرة بأن يصوموا الدهر ولا يفطروا أو يقوموا الليل ولا يناموا ، أو يعتزلوا النساء فلا يتزوجوا ، فقال لهم صلى الله عليه وسلم " ألا إني أعبدكم لله وأخشاكم له ، ولكني أصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " (25).
وقد أدى هذا الانحراف في تصور مقتضيات لا إله إلا الله إلى إهمال العلم بالطب والفلك والكيمياء والفيزياء والرياضيات والجغرافيا وغيرها من العلوم لأنها متعلقة بالأرض ، وبالحياة الدنيا ، فتخلف المسلمون في جميع الميادين .
من هنا يظهر جليا أن التخلف العلمي و " التكنولوجي " والمادي ..إلخ ، الذي كان سببا في الهزيمة العسكرية أمام الغرب قد نشأ أساسا من التخلف العقدي الذي تزايد في حياة المسلمين جيلا بعد جيل ، وتراكم حتى غشّى على العقيدة الصحيحة فلم تعد تتبين من بين الركام ، ولم تعد تعطى شحنتها الحية في حياة المسلمين .
ولكن القضية لا تنتهي مع المؤرخ المسلم عند هذا الحد .
فهناك قضية أخرى لا تقل عنها أهمية ، ولا تقل عنها خفاء كذلك في حس الذين يحصرون رؤيتهم في الأسباب الظاهرة ولا يتعمقون وراءها إلى السبب الحقيقي .
وقعت الهزيمة العسكرية فتلتها في نفوس المسلمين هزيمة روحية ، هي الأولى بالنسبة لهم في التاريخ .
وقد قلنا في أكثر من كتاب(26) إن الهزيمة العسكرية وحدها لم تكن لتحدث في نفوس المسلمين ذلك الأثر الهائل الذي أحدثته في المرة الأخيرة حين انهزمت جيوش المسلمين أمام الغرب .
حقيقة إن المسلمين فوجئوا مفاجأة حادة - بعد الهزيمة - بالفارق الهائل بينهم وبين الغرب الذي هزمهم ، في العلم وفي " التكنولوجيا " وفي التقدم المادي والحضاري .. وأن هذا كان له أثره في الهزيمة النفسية التي أصابت المسلمين.
ولكن الهزيمة العسكرية وحدها ، وإدراك المسلمين للفارق الهائل بينهم وبين أعدائهم في الأسباب المادية ، لم يكونا ليحدثا هذا التحول الهائل الذي حدث في حياة المسلمين ، لولا الخواء الروحي والعقدي الذي كان في حياتهم قبل وقوع الصدام .
وقعت الهزيمة العسكرية من قبل فلم تغير شيئا في تصورات المسلمين وأفكارهم وسلوكهم وعقائدهم ..
وقعت أول هزيمة يوم أحد فأنزل الله قوله تعالى : ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (27) . وكانوا مؤمنين بالفعل ، فوعوا الدرس ، وأفاقوا من هزيمتهم ، وعلموا أنهم الأعلون بإيمانهم مهما حدث لهم من هزيمة مؤقتة أمام عدوهم . فلم يهنوا بعد ذلك في مواجهتين عظيمتين خطيرتين وقعتا بينهم وبين التتار مرة ، وبينهم وبين الصليبيين مرة . وقد كانت الهزيمة أمام التتار ساحقة ..
اكتسح التتار بغداد ، وأزالوا الخلافة العباسية ، وأذلوا المسلمين إلى حد لا يتصور . فكان التتري يخرج من بيته وليس معه سلاحه ، فيلقى المسلم في الطريق ، فيقول له : ابق هنا حتى أحضر السيف لأقتلك ، فيقف المسلم صاغرا مستسلما حتى يعود التتري بسيفه فيقتله .. وليس بعد ذلك إذلال !
ولكن أرواحهم لم تذل !
لم ينظروا إلى التتار نظرة إكبار ! لم يعتقدوا أن التتار خير منهم بسبب أنهم هم الغالبون ! إنما كانوا في حسهم برابرة همجا متوحشين ، وقبل ذلك كله وثنيين لا يعرفون الله ، ولا يدينون دين الحق .
وانهزم المسلمون أمام الصليبيين في مبدأ الأمر ، وأقام الصليبيين دويلات لهم في بعض بقاع العالم الإسلامي استمرت ردحاً من الزمن يتسلطون فيها على المسلمين ويهينونهم ويذلونهم ..
ولكن أرواحهم لم تذل !
لم ينظروا للصليبيين نظرة إكبار ! لم يعتقدوا أن الصليبيين خير منهم بسبب أنهم هم الغالبون ! إنما كانوا في حسهم هم المشركين عبّاد الصليب ، وفوق ذلك كانوا يقولون عنهم إنهم دياييث لا أعراض لهم ، بسبب التحلل الأخلاقي الفاشي في حياتهم ، وضعف الحمية فيهم لأعراضهم .. ومن أجل ذلك كانوا يحتقرونهم .(68/240)
ثم جاء النصر من عند الله حين توجه المسلمون بالعقيدة الصحيحة إلى الله ، واتخذوا الأسباب ، فكانت صيحة "وا إسلاماه" على لسان قطز ، وهجمته الصادقة على التتار في عين جالوت تغييرا في صفحة التاريخ ، فلم ينتصر المسلمون فحسب ، بل بدأ التتار يدخلون في الإسلام بعد هزيمتهم أمام المسلمين . كما كان توجه صلاح الدين إلى إصلاح عقيدة الناس ، واتخاذ الأسباب ، إيذانا بالنصر الحاسم الذي أعاد بيت المقدس ، وصد الصليبيين عن الشرق الإسلامي عدة قرون . ثم تعدى الأمر آثاره المحلية ، إذ بدأت أوربا نهضتها مستمدة من الحضارة الإسلامية بعد هزيمتها أمام المسلمين ! (28)
فإذا نظرنا من ناحية أخرى إلى قضية الفارق "الحضاري" بين المسلمين وأعدائهم ، فقد كان الفارق هائلا جدا لصالح الأعداء حين التقى المسلمون مع الفرس ومع الرومان ، وهم صفر اليدين من أسباب الحضارة المادية أو يكادون ..
ولكن ذلك الفارق الهائل لم يستوقفهم لحظة واحدة ليفكروا فيه ، ولا كان له في حسّهم وزن .. أي وزن !
وانظر إلى ربعي بن عامر وهو يدخل بكل عزة الإيمان على رستم في أبهته وطنافسه وبذخه ، فينظر إلى ذلك كله باحتقار بالغ ، ويتعمد إعلان ازدرائه له وتحقيره ، فيخزّق بسن رمحه سجاجيدهم ، ويربط حماره القصير الأرجل في بعض ما يعتزون به من فراشهم ، ثم يقول لرستم حين سأله : ما الذي أتى بكم إلى بلادنا ؟ : " الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة .. "
أي عزة بالإيمان إزاء الاعتزاز الكاذب بكل " الحضارة المادية " وكل متاع الأرض !
ولكن موقف المسلمين من الهجمة الصليبية الأخيرة لم يكن كذلك .. لم يكن موقف الإعتزاز بالعقيدة الصحيحة ، ولا الاعتزاز بالإيمان .. إنما كان الذلة النفسة والإنكسار ..
أو قل : هو الإنبهار ..
لأول مرة في تاريخهم ينظرون إلى أعدائهم على أنهم أعلى منهم .. لا في مجالات العلم و " التكنولوجيا " وآلات الحرب ، فذلك ظاهر .. ولكن في الأفكار .. والنظم .. والعقائد .. وأنماط السلوك ..
لم يكن السبب هو الهزيمة العسكرية ، ولا فارق الحضارة المادية ..
إنما كان الخلل في الإيمان .. في موطن العزة والاستعلاء ..
(.. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (29)
كان السبب هو الخواء العقدي الذي وقعت فيه الأمة عدة قرون ..
لذلك أدت الهزيمة العسكرية إلى الانبهار ..
وحين بدأ الانبهار .. دخلت الأمة في التيه ..
حجم التيه
كان حجم التيه هائلا جدا .. أكبر بكثير مما يتصور أكثر الناس ..
ويكاد لا يوجد جانب واحد من حياة الأمة لم يتأثر بالتيه .. كأنما انقلبت في نصف قرن أو يزيد ، أمة أخرى غير التي كانت من قبل ! انقلبت في كل شيء .. في تصوراتها وأفكارها ومشاعرها وأنماط سلوكها .. في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق والفكر والأدب و "الفن" .. في كل شيء !
وكانت الأمة - ولا شك - تشعر بالانقلاب .. فقد كانت المفارقة حادة بين ما كانت عليه وما صارت إليه في تلك الفترة القصيرة من الزمن .. ولكن الكارثة أنها - وهي في التيه - كانت تظن أنها تنقلب إلى الأفضل ! وتنظر إلى نفسها وهي تنسلخ من دينها وتقاليدها وموروثاتها وتصوراتها ، على أنها قد بدأت - الآن - تخطو أولى خطواتها على الطريق المستقيم !
وهنا نقطة يجب أن يتبينها المؤرخ المسلم ويبينها للناس : أن الأمة قبل هذا الانقلاب لم تكن تسير على الطريق المستقيم ! لقد كانت قد حادت كثيرا عن الطريق وهي تظن أنها ما تزال سائرة فيه ! ولكن الذي يجب أن ندركه جيدا أن التوجه الجديد لم يكن إلى الطريق المستقيم حقا ، إنما كان انحرافا جديدا عن الجادة ، ولكنه كان أخطر بكثير من الأول . فقد كان الأول - على كل ما فيه من انحراف - تزييفا لواقع أصيل ، فمن السهل - حين تكشف الزيف - أن تعود إلى الأصل الذي خدعك الزيف عنه . أما الآخر فقد كان في اتجاه مضاد ، وكان أخطر ما فيه أنه يوسوس لك على الدوام أن لا ترجع أبدا إلى الطريق الأصيل .. بزعم أنه منبع الداء .. وأن البعد عنه هو وحده الدواء !!
لم يكن الذي غادره المسلمون ليدخلوا في التيه هو حقيقة الإسلام ..
فالتواكل والسلبية والجهل والخرافة والخمول والضعف والقعود عن اتخاذ الأسباب .. ليس من الإسلام .
وتحقير المرأة وحبسها في ظلمات الجهل والخرافة وتحجيم دورها في الحياة وحصره في الحمل والولادة والإرضاع .. ليس من الإسلام .
واستبداد الحكام بالسلطة ، وزجر الرعية عن التدخل في الشئون العامة ، فضلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. ليس من الإسلام .
وقعود الفقهاء عن النظر فيما جدّ في حياة الناس من أمور ، فضلا عن تحريم الإجتهاد واعتباره بدعة ضارة خطرة مخيفة .. ليس من الإسلام .
وعشرات غيرها من الأمور التي كانت سائدة في المجتمع .. كلها دخيلة ، وكلها انحراف عن مقتضيات لا إله إلا الله ..
ولكن العلاج لم يكن نبذ هذا الدين .. إنما كان هو الرجوع إليه ، ونبذ ما وقع في حياة الناس من انحراف .(68/241)
كان الأمر في حاجة إلى العالم الرباني المجدد ، الذي يجدد لهذه الأمة أمر دينها ، فيكشف الغاشية التي غشّت على بصيرتها ، ويردها إلى الطريق الصحيح ..
وشتان بين ما حدث بالفعل وبين ما كانت الأمة في حاجة إليه في ذلك الحين ..
ولقد كان العدو المتربص يستشعر أن اليقظة يمكن أن تحدث .. فقد كانت حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية نذيرا شديدا لهم أن الأمة يمكن أن تصحو وتنفض عنها ما وقعت فيه من البعد عن حقيقة الدين .. وعندئذ ماذا يكون من أمر الحملة الصليبيّة ؟ وكيف يواجه الصليبيون الجدد أمة مجدّدة الإيمان كأمة صلاح الدين ؟!.
لذلك فقد حاولوا كبت الحركة الوهابية في مهدها ، وأغروا بها محمد علي وأبناءه ليحاول القضاء عليها .. وأسرعوا في الوقت ذاته في دفع الأمة إلى التيه .. لكي تزداد بعدا عن طريق النجاة ..
وكان الواقع المشوّه الذي يعيشه المسلمون - بِوَهْم أنه واقع إسلامي - كان هو ذاته وقودا للانحراف الجديد . فقد قيل للناس - كذبا - هذا دينكم قد أوردكم المهالك ، وأوصلكم إلى ما أنتم فيه من الهوان والذل .. وليس أمامكم إلا أحد خيارين إما أن تظلوا متمسكين بالدين ، وتستمروا فيما أنتم فيه من التخلف والضعف ، وإما أن تنبذوا الدين وتسلكوا الطريق الذي سلكته أوربا قبلكم بقرنين من الزمان .. فتقدمت عليكم قرنين من الزمان !
وكانت مساوئ الحكم العثماني كذلك وقودا للانحراف الجديد ..
لم يكن الحكم العثماني كله مساوئ كما أُوهِم الناس - عمدا - في ذلك الحين ، لينفروهم من حكم الإسلام ، وييسروا عليهم الانزلاق إلى الحكم بغير شريعة الله !
ويكفي العثمانيين - عند الله وعند الناس - أنهم صدوا الزحف الصليبي أربعة قرون ، وأنهم إلى آخر لحظة من حياتهم لم يفرطوا في فلسطين ، بل جاهدوا مستميتين لصد الزحف الصهيوني إليها ، الذي تؤيده وتباركه الصليبية العالمية بكل ما في وسعها من قوة ، وكل ما تملكه من دهاء ..
ولكن كانت لهم مساوئ ولا شك ..
وكان في حكمهم مظالم كثيرة ..
وقيل للناس : إنه هكذا الحكم الذي يحكم باسم الدين . إنه استبدادي بطبعه ! ولا يمكن أن يكون إلا كذلك ! انظروا كيف كان الحكم الديني في أوربا يوم كان .. كان ظلما كله وتعسفا وطغيانا وهضما لحقوق " الشعب " ، ولم تفق منه أوربا إلا حين تخلصت من سلطان الدين ، وحصرته في شئون العبادة ، وأبعدته عن الهيمنة على شئون الحياة ..
و أنتم ..؟!
لا طريق لكم إلا ذات الطريق .. احصروا الدين - على الأكثر - في شئون العبادة ، ونحّوه عن كل مجال آخر ، وعن مجال السياسة بصفة خاصة ، ولا ضير عليكم .. فستظلون " مسلمين! " ولكنكم ستتحررون ؟؟ وستتقدمون .. وستتحضرون !
وفي التيه لم تتبين الأمة - إلا ما رحم ربك - ما في هذا الكلام من زيف وبعد عن الحقيقة .
فالدين الذي نبذته أوربا لتتقدم وتتحضر لم يكن هو الدين المنزل من عند الله ، إنما كان صناعة بشرية فاسدة ، أفسدته تصورات البشر وأهواؤهم وأوهامهم . وكان الخطأ في حياة أوربا هو اتباع ذلك الدين الفاسد ، وعدم الاهتداء إلى ما فيه من فساد ، وتقبل ما يقوله آباء الكنيسة على أنه قول مقدس واجب الاتباع ، على اعتبار أنهم خلفاء بطرس الذي منحه " الرب " - يقصدون عيسى عليه السلام - حق التحليل والتحريم ، كما منحه العصمة كذلك (30).
( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (31) .
ولكن الدين الذي يدين به المسلمون - وإن انحرفوا في ممارسته - هو الدين الحق المنزل من عند الله ، المحفوظة أصوله في الكتاب والسنة بحفظ الله له :
( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (32).
وكان الخطأ في حياة المسلمين هو انحرافهم في ممارسة هذا الدين ، إما بالبدع والمعاصي ، وإما بالتفلت من التكاليف ، وإما بأفكار دخيلة كالفكر الإرجائي أو الفكر الصوفي المنحرف .
لذلك يختلف العلاج في الحالتين . فالعلاج في حالة أوربا هو نبذ ذلك الدين الفاسد ، والاستعاضة عنه بالدين الصحيح . والعلاج في حالة المسلمين هو نبذ الانحرافات التي طرأت في سلوكهم ، والعودة إلى التمسك الصحيح بالدين .
وما أبعد هذا العلاج عن ذاك !
فأما أوربا فقد أخذت نصف العلاج اللازم لها وأبت أن تأخذ النصف الآخر ، فخرجت من دينها الفاسد ولم تدخل في الدين الحق ، فنشأت عن ذلك الأزمة التي يعانيها الغرب اليوم ، وتعانيها معه البشرية المغلوبة على أمرها تحت ضغط الغرب الساحق : وهي غلبة الروح المادية وانسحاق الجانب الروحي من الإنسان تحت ضغط المادة أو - بعبارة أخرى - التقدم العلمي والمادي والتكنولوجي بغير قيم ولا مبادئ ولا أخلاق !
أما الأمة الإسلامية - في التيه - فلم تأخذ نصف العلاج ولا ربعه ولا ثمنه .. إنما تناولت السموم التي قدمها لها الغرب ، فتلقفتها فرحة بها ، متوهمة أنها طريق الخلاص !(68/242)
فبدلا من أن تعود إلى حقيقة الدين التي كانت قد انحرفت عنها ، نبذت دينها - أو كادت - وفي الوقت ذاته لم تتخذ الأسباب التي اتخذها الغرب في تقدمه العلمي والمادي . فلم تأخذ من العلم إلا قشوره ، وتقاعست عن الجدّ الواجب له ، والجلد والمثابرة والصبر في تحصيله ، والتنظيم الفائق في شئون الحياة ، الذي يجعل الجهد مثمرا ، ويجمّع حصيلة الجهد فلا تتبدد ولا تتناثر !
وأخذت بدلا من ذلك ما في حياة الغرب من فساد ! فتراكم الفساد عندها أضعافا مضاعفة ! فلا هي عالجت أمراضها التي ورثتها من فترة التخلف العقدي ، الذي أنشأ من قبل التخلف الحربي والسياسي والعلمي والمادي ..إلخ ، وأضافت أمراضا جديدة دخيلة على البيئة الإسلامية ، من تحلل خلقي ، وخمر وميسر ولهو وتبجح بالمعاصي الكبائر ..
كذلك لم تدرك الأمة - وهي في التيه - مدى الفارق بين العلاج الذي كان يجب أن تتخذه إزاء مظالم الحكم العثماني ، والعلاج البديل الذي قدمه لها الغرب ..
لقد كان الخطأ في الحكم العثماني هو الاستبداد السياسي .. وكان العلاج الذي يجب أن يقدّم للأمة هو التربية على الروح الإسلامية الصحيحة في السياسة ، وهي السمع والطاعة للحاكم فيما يطيع فيه الحاكمُ الله ورسوله ، ومراقبة الأمة لأعمال الحاكم حتى ينضبط في تصرفاته بضوابط الشريعة . كما يتبين في ذلك المثال الفذ ، حين وقف عمر رضي الله عنه يخطب الناس فيقول : أيها الناس ، اسمعوا وأطيعوا ، فيقول له سلمان الفارسي رضي الله عنه : لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة ! فيقول عمر : ولمه ؟ فيقول : حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به ، وأنت رجل طوال لا يكفيك برد واحد كما نال بقية المسلمين ! فلما تبين لسلمان أن البرد الزائد هو برد عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، أعطاه لأبيه ليكمل به كسوته ، قال لعمر : الآن مر ! نسمع ونطيع !
وصحيح أن الأمة قد فرطت في حقها الرباني في مراقبة أعمال الحاكم ، والنصح له ، وأطره على الحق أطرا كما أمر رسول ا صلى الله عليه وسلم : " لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا " (33)
وأن هذا التفريط قديم في حياة الأمة من زمن بني أمية ، وأن الاستبداد العثماني لم يكن بدء الانحراف ، وإنما كان مجرد امتداد تاريخي له .. ولكن الواجب يظل واجبا مهما فرطت فيه الأمة ، ولا يسقط بالتقادم مهما طال عليه العهد .. والإصلاح الواجب يظل هو هو لا يتغير .. ينتظر العالم الرباني المجدد المجاهد ، الذي يأخذ على عاتقه إعادة الأمة إلى الأصل الذي انحرفت عنه ، ولو ضحى في سبيل ذلك بحياته كما فعل أكثر من عالم من علماء الإسلام خلال التاريخ .
ولكن العلاج الذي اتخذته الأمة - في التيه - كان مخالفا تماما لهذا الأمر ..
كان العلاج الذي اتخذته هو تنحية الشريعة الإسلامية ، واستجلاب " الدساتير " من الغرب ، من أجل إقامة " دولة حديثة " كالدول الأوربية الحديثة !
ما أبعد المدى بين الطريقين !
لم تدرك الأمة - في التيه - أبعاد القضية على حقيقتها ..
لم يكن الخطأ في حياة الأمة الإسلامية ناشئا من الشريعة ، حتى يكون العلاج هو إلغاء الشريعة ! إنما كان ناشئا من عدم تمسك الأمة بالحقوق التي كفلتها لها الشريعة الربانية .. وعلاج ذلك لا يكون باستيراد أحد النظم الأوربية ومحاولة تطبيقه . فسوف نرى أن استيراد النظم الأوربية لم يحل مشكلة واحدة من مشاكل المسلمين !
لقد كانت مشكلة أوربا في قرونها الوسطى المظلمة نائشة من الحكم " الثيوقراطي " ، أي حكم رجال الدين ، الذين استبدوا بالناس نتيجة تسلطهم الروحي على الناس في ذلك الدين الفاسد ، الذي انقلب كهّانه إلى وسطاء بين العبد والرب ، بسبب تحريف العقيدة ، وإضفاء القداسة على من لا تجوز لهم القداسة من البشر ، وتنحية الشريعة كذلك ، وتقديم الدين عقيدة - محرَّفة - بغير شريعة !
هذا السوء كله لم يكن له علاج في نظر أوربا إلا فصل الدين عن السياسة ، أي - في الحقيقة - إبعاد نفوذ رجال الدين عن أمور السياسة ، وجعل السياسة " علمانية " لا دخل فيها للدين .. وربما لم يكن أمام أوربا إلا ذلك الحل ، ما دامت لم تعرف الدين الرباني ، ولم تمارس في حياتها عدالة مستمدة من دين الله .
ولكن أوربا - حين خلعت نير رجال الدين عن السياسة - ابتليت باستبداد الملوك والأباطرة الذين نادوا بفصل الدين عن السياسة ليستقلوا هم بالسلطة الزمنية ، ويشبعوا نهمهم إلى السلطة بغير منافسة من آباء الكنيسة . وهذا الاستبداد هو الذي قامت الثورات المتتالية في أوربا لاجتثاث جذوره - بدءاً بالثورة الفرنسية - وكانت الديمقراطية هي الحل الذي اهتدت إليه أوربا لتأسيس سلطة الأمة في مراقبة أعمال الحاكم ، وجعل التشريع حقا للأمة لا ينفرد به الحكام .(68/243)
ونصرف النظر مؤقتا عما لا يمكن صرف النظر عنه ، من دخول اليهود في اللعبة ، وتوجيههم " مكاسب الديمقراطية " لحسابهم الخاص ، أي لحساب الرأسمالية التي كانوا هم كهنتها ودهاقنتها منذ بدء الثورة الصناعية ، ولحساب الفساد الخلقي الذي كانوا تواقين إلى نشره في المجتمع الأوربي ، ليركبوا ظهور "الأمميين" ويسخروهم لخدمتهم(34) ، وذلك من خلال مبدئهم الخطير الذي جعلوه شعارا للثورة Fai r e, Laissez Passe r Laissez : دعه يعمل ( ما يشاء ) ، دعه يمر ( من حيث يشاء ) أي حرية الرأسمالي في أن يربح كما يشاء ، وحرية الجماهير في الإلحاد والفساد الخلقي باسم الحرية الشخصية .
بصرف النظر - مؤقتا - عن هذا كله ، فقد كان فصل الدين عن السياسة هو " الحل الأوربي " لأزمة أوربية بحتة ، نشأت ابتداء من كون أوربا لا تملك دينا سماويا ترجع إليه ، إنما تملك عقيدة - محرفة - بغير شريعة .
أما المسلمون فقد كانت مشكلتهم بعيدة كل البعد عن هذا المجرى ، وإن وجد التشابه الظاهري في استبداد الحكام بسلطانهم السياسي .. فإعطاؤهم ذات الجرعة التي استخدمتها أوربا لم يحل مشكلتهم ، بل أضاف إليهم مشاكل جديدة ! كالطبيب الجاهل يأخذ عرضا واحدا من أعراض المرض - تشترك فيه أمراض كثيرة - فيعطي - مثلا جرعة من دواء الحمى السحائية لمريض بالتيفود ، لمجرد وجود الحرارة العالية في بدنه ! فلا العلاج يشفيه من مرضه ، وقد يضعف مقاومته فتزداد حالته سوءا على سوء !
مشكلة المسلمين - كما أسلفنا - كانت تفريطهم في الحقوق السياسية التي كفلتها لهم الشريعة الربانية (35) ، التي أقامت خير نظم الأرض السياسية حين طبقت تطبيقا صحيحا ، في فترة الخلافة الراشدة .
والعلاج - الذي يجب أن يقدمه العالم الرباني المجدد المجاهد - هو رد الأمة - عن طريق التربية والتوجيه - إلى الروح التي عاش بها المسلمون الأوائل ، ومارسوا بها الدين بتمامه في عالم الواقع .
أما استيراد الديمقراطية أو غيرها من النظم من الغرب (36) ، مع تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم ، فما الذي أفضى إليه في واقع الأمة ؟
لقد أفضى إلى مجموعة من الشرور ما تزال الأمة تعاني نتائجها ، وستظل كذلك حتى تفيء إلى أمر الله ، فتصلح أخطاءها بالعلاج الرباني الذي أنزله الله هدى للناس وشفاء لما في الصدور .
فأما تنحية الشريعة فسنتكلم بعد هنيهة عن المفاسد التي نجمت عنها في مجتمع التيه .
وأما الديمقراطية فقد أفضت في التطبيق الواقعي إلى مهازل مضحكة ، وإلى مآسٍ كثيرة في حياة الناس .
حين ثار المصريون ثورتهم " الوطنية " (37) في عام 1919 كان " تشرشل " الداهية البريطاني الكبير وزيرا في حكومة المحافظين يومئذ ، فسمع أخبار الثورة فسأل : ماذا يريد المصريون ؟ فقيل له يريدون أن يكون لهم برلمان ودستور . فقال ساخرا : "Give them a toy to play with : أعطوهم لعبة يتلهون بها " !!
أما المهازل فتنشأ من تدخل السلطة بالقوة لإنجاح " مرشح الحكومة " ، وتزييف الانتخابات ، واستغلال أمية الناخبين ، وشراء الأصوات بالمال ، وإلغاء الصناديق الحقيقية بالكلية والإتيان بصناديق بديلة معدة من قبل بالنسبة المطلوبة ( 99.9% ) ! واعتقال المعارضين لمنعهم من دخول الانتخابات ، وتقسيم الدوائر تقسيما تحكميا يخدم مصالح بعض المرشحين على حساب الآخرين ..
أما المآسي فليس أقلها تفريق الأسر وإيجاد العداوات ضد بعضها البعض ، بل إيجاد العداوات داخل الأسرة الواحدة أحيانا ، نتيجة الانتماء إلى الأحزاب المتفرقة ، ونشر الكذب السياسي ، وخداع " الجماهير " بالوعود المعسولة ، ونشر " المحسوبية " ، وملء كل حزب يصل إلى الحكم وظائف الدولة بأتباعه ومنافقيه من غير ذوي الكفايات مهما ترتب على ذلك من ضياع مصالح تلك " الجماهير " .. فضلا عن كون الدولة الصليبية المسيطرة في المنطقة هي التي تحكم في الحقيقة من خلال تلك الأحزاب ، والجماهير لاهية عن ذلك ، غير ملتفتة إليه وهي منهمكة في صراعاتها الحزبية التافهة .. فتتضاعف الجريمة بسبب ستر العدو الحقيقي ، وصرف همة الناس عن مجاهدته ، وتوجه الجهد كله إلى صراع الأحزاب بعضها ضد بعض!
وقد كان هذا كله ذريعة لما هو أسوأ منه بكثير .. وهو الانقلابات العسكرية التي قامت بحجة إصلاح الفساد الذي أحدثته الأحزاب في حياة الناس !!
ولقد كانت الانقلابات العسكرية هي قمة المأساة ..
فقد كانت الشعوب العربية بالذات قد ثارت على مظالم الحكم التركي ، وطلبت الاستقلال عن الدولة العثمانية فرار من الظلم (38) ، وضحك عليها اليهود والنصارى معاً - عن طريق لورنس ، رجل المخابرات البريطاني الذي قاد " الثورة العربية الكبرى " في حقيقة الأمر - فأفهموها أنها ستحصل على الاستقلال ، وعلى العدل السياسي ، وعلى العصرانية والتمدن والتقدم ، وأنها ستولد ولادة جديدة بعد الثورة ، وتحقق من أحلامها ما لم يتحقق لها في التاريخ !(68/244)
وعملت " الثورة العربية الكبرى " عملها ، ففتتت وحدة العالم الإسلامي ، وأسهمت إسهاما ظاهرا في هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (39) ، ودمرت الخط الحديدي الذي كان السلطان عبد الحميد قد أنشأه ما بين اسطنبول والمدينة المنورة ، ثم .. تقاسمت بريطانيا وفرنسا بلاد العالم العربي ، وقسّمتاه إلى دويلات ضعيفة هزيلة فقيرة ، خاضعة كلها للاحتلال الصليبي ، ووُضِعت فلسطين - هدف اللعبة كلها - تحت الانتداب البريطاني ، تمهيدا لتسليمها لليهود فيما بعد ، وإنشاء إسرائيل .
وكان هذا هو الثّمَن الذي حصلت عليه الدول العربية حين ثارت - أو أثيرت - ضد مظالم الحكم العثماني : فقدت استقلالها ، وفقدت كرامتها ، وفقدت الأرض المقدسة التي بارك الله فيها وجعلها مسرى رسوله صلى الله عيه وسلم ، وفيها ثالث الحرمين الشريفين ، واستعبدت للغرب الصليبي ، وعاث اليهود في أرجائها
ولم تكن المظالم العثمانية شيئا مقبولا ، ولا كان السكوت عليها جائزا في شرع الله .. ولكن الحل الذي قدم للأمة كان أسوأ بكثير في مجموعه من الحال التي اشتكى منها المسلمون من قبل ، حتى لقد انطبق عليه قول الشاعر :
رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه !
ومع ذلك فلم تكن تلك قمة المأساة ..
كانت القمة - كما أشرنا - هي الانقلابات العسكرية التي جاءت لتصلح الفساد الذي أحدثته الخطوة السابقة ، وتحرر الأمة من النفوذ الأجنبي الذي احتل العالم العربي بعد انسلاخه من الدولة الأم !!
لم تذق الأمة الإسلامية في تاريخها كله ظلما أشد من ذلك الظلم الذي أوقعته بها الانقلابات العسكرية .. فقد كان الاستبداد السياسي في العهود السابقة محدود النطاق .. يتعرض له أفراد بأعيانهم أو جماعة بعينها يقع عليها غضب السلطان ، ولكن الإنسان العادي لا يناله من ذلك الظلم إلا طمع الولاة في ماله ، أو ما يفرضونه عليه من الضرائب الباهظة مع فقره.. ولكنه يذهب إلى عمله وهو آمن ، يسمرون ، أو يتبادلون الحديث عن أوجاعهم ومتاعبهم ، أو يشتمون الوالي - في غيبته - وربما تعدوا الوالي فيشتمون السلطان ذاته .. وهم آمنون !
أما الحكم العسكري فقد كان شيئا يفوق في بشاعته كل حد ..
لا أمن ..
فجواسيس الحاكم يعدّون على الناس أنفاسهم . والويل لمن تكلم بكلمة ينتقد فيها عملا واحدا من أعمال الفرعون الجبار .. السجن والتعذيب والتشريد .. وقد يلقى حتفه في معتقله في ليل أو نهار في أثناء التعذيب ، فلا يجرؤ أهله - لا نقول أن يشتكوا - بل حتى أن يسألوا عنه : أحيّ هو أم ميت .. ومن سأل فجزاؤه على سؤاله أن يؤخذ إلى حيث يعود أو لا يعود !
وألوان من التعذيب تعفّ عنها الوحوش ..
فالوحش يفترس ليأكل ، فإذا شبع انصرف وكف عن الافتراس . ولكنه لايفترس من أجل تعذيب فريسته ، والتلذذ برؤية العذاب ينصب عليها ، كما يصنع الإنسان حين يفقد آدميته ، وينتكس أسفل سافلين .
وقد مارس العسكر هذه الوحشية كلها وهم " يحررون " الشعب من الخوف ! ويحررونه من الذل ! ويحررونه من الاستعباد ! وكان أحد هؤلاء الطغاة ينادي وهو يمارس أبشع ألوان الإذلال لشعبه : ارفع رأسك يا أخي ! فقد مضى عهد الاستبداد !!
ذَلَّ الناس .. وانكسرت أنفسهم .. وشملهم الرعب القاتل من " زائر الليل " الذي ينتزع الناس في جوف الليل من ديارهم وأزواجهم وأطفالهم ، ليلقيهم في ظلمات لا يعلم أحد مداها ، بل أخذت النساء كذلك لأول مرة في تاريخ الأمة ليعذبن داخل السجون .
ومع الفزع عم الفقر الشعب كله ، إلا المحظوظين الذين اكتنزت جيوبهم بالمال الحرام المسلوب من الأمة تحت سطوة القهر .. وطُحِنتْ مع كرامة الأمة أخلاقياتها ومثلها وقيمها ، وأصبح الهم الأكبر للناس البحث عن لقمة الخبز ، لهثاً وراءها حتى يجدوها - إن وجدوها - منقوعة في الذل والخوف والهوان .
ولحساب من يحدث هذا كله ؟!
لحساب من يسحق الشعب ، وتلقى كرامته في الأرض وتداس بأقدام الطغاة ؟!
لحساب الصليبية العالمية والصهيونية العالمية ، حتى تأمن إسرائيل وتستقر وتتوسع ، والشعوب الإسلامية حولها مسحوقة لا تملك الاعتراض ، فضلا عن الرفض .. فضلا عن الجهاد المقدس ضد الغاصبين .
وهذا الذي ظفرت به الشعوب التي ثارت على مظالم العثمانيين !!
مرة أخرى نقول : لم تكن مظالم العثمانيين مقبولة ، ولا كان السكوت عليها مقبولا في شرع الله . ولكن العلاج الذي تناولته الأمة - في التيه - كان أفظع بكثير ، وأمرّ بكثير .. كان هو الذل والهوان والضياع .
و من عجب أنه كان في التيه - دائما - طبالون وزمارون ، يطبلون ويزمرون لكل مرحلة من مراحل التيه . فإذا جاء غيرها لعنوا الأولى التي كانوا يطبلون لها ويزمرون ، وبدءوا طبلهم وزمرهم للمرحلة الجديدة بنفس الحماسة ونفس " الولاء " !(68/245)
حين جاءت الديمقراطية وتشكلت الأحزاب وخاضت " المعارك " ضد بعضها البعض ، هلل الدعاة وكبروا ، وقالوا : الآن تحررت الأمة وارتقت ، وأصبحت تعبر عن إرادتها من خلال الأحزاب .. وحين جاءت الدكتاتورية الاشتراكية قام الدعاة يلعنون " العهود البائدة " التي أفسدت الأمة بالصراعات الحزبية ، وشتتت كلمتها ، وأفقدتها وحدتها .. ويلعنون في الوقت ذاته أنه قد آن الأوان للأمة أن تتوحد ، وتتحرر من الفساد ، وتستعيد شخصيتها المفقودة ، وتسير في طريق الفلاح ..!
ويدور الطبالون والزمارون .. كتابا وصحفيين ، وخطباء وفنانين ، وقصاصين ومسرحيين .. والأمة تدور وراءهم في ظلمات التيه !
ولم يكن ذلك هو التيه الوحيد في المجال السياسي ..
فقد نُشِرَتْ - وانتشرت - دعاوى القومية والوطنية في مقابل الوحدة الإسلامية ..
لم تكن الوحدة الإسلامية في تاريخ هذه الأمة دعوة ولا دعوى .. إنما كانت واقعا معيشيا ، لا تفكر الأمة في غيره ، بحكم أنها تدين بالإسلام .
وقد تفككت " الدولة الإسلامية " أكثر من مرة ، في المشرق والمغرب ، لأسباب كثيرة ، ولكن شعور الأمة بأنها أمة واحدة من المغرب إلى المشرق لم يتأثر بتفكك الدولة ، بل لم يتأثر بالحروب التي قامت بين بعض الدويلات الإسلامية وبعض . " فالدول " بسلاطينها وأمرائها شيء ، و "الأمة " بوحدة عقيدتها ، ووحدة شعائرها ، ووحدة أفكارها ، ووحدة قيمها وتصوراتها شيء آخر ، لا دخل فيه لصراعات السلاطين والأمراء ..
حتى دخلت " الأمة " في التيه ..
عندئذ تفككت وحدتها لأول مرة في التاريخ .. ذلك أن الرابط الجامع لم يعد هو الذي تجتمع عليه الأمة .. وإنما حلت محله الأفكار الدخيلة المستوردة من الغرب ، وهذه من شأنها أن تفرّق لا أن تجمّع .. من شأنها أن تحوّل الأمة إلى فتات ..
ولكن الأمة - في التيه - لم تكن تعي ذلك ..
كانت تظن - وهي تتزيا بزي الوطنية والقومية - أنها ترتدي آخر " موضة " في عالم الفكر السياسي ، وأنها تخلع رداءها القديم البالي الذي مرت عليه القرون الطوال !
وحقيقة لقد كان الثوب قد أخذ يبلى .. لا لأنه قديم ! فهو ثوب من طبيعة خاصة ، تتجدد خيوطه - تلقائيا - مع كل جيل جديد .. إنما كان قد أخذ يبلى لأن " الروح " التي تجدد الخيوط كانت قد خمدت في داخل القلوب .
ولم يكن الحل أن تخلع الأمة رداءها .. إنما كان الحل أن تجدده .. فبمجرد أن تحيا العقيدة في القلوب تتجدد خيوط الرداء من تلقاء نفسها ، كما تتجدد أوراق الشجرة بمجرد أن تتحرك العصارة الحية في أليافها :
( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا .. ) (40).
ولكن الأمة نظرت إلى ثوبها الذي أخذ يهتريء فلم تقدره حق قدره .. لم تقدر قيمته ، ولم تقدر قدرته العجيبة على التجدد ، التي أودعها الله في الكلمة الطيبة ، كلمة لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .
خلعته زاهدة فيه .. وهفت في سذاجة - أو في بلاهة - إلى الأثواب المزركشة المستوردة من الغرب ، ولم تختبرها بعين بصيرة لكي تكتشف رداءة النسيج ..
لقد كانت القومية والوطنية ردود فعل أوربية لأزمة أوربية بحتة .. ولم تكن نتاجا " إنسانيا " كما زعم موردوها إلى العالم الإسلامي .
لقد كان طغيان الكنيسة الأوربية بدينها المحرف أساس البلاء كله الذي وقع في الغرب.
فحين زاد الطغيان عن الحد المحتمل ، أو قل حين دب الوعي بالطغيان في نفوس الأوربيين بعد احتكاكهم بالإسلام ، حاولوا الانسلاخ من نفوذ ذلك الغول البشع الذي يفسد عليهم حياتهم ، فاستقلوا بادئ ذي بدء في كنائس - أي مذاهب - لا تخضع لنفوذ البابا ، وانتهى الأمر إلى أن تصبح تلك السلخ المنسلخة قوميات ووطنيات ..
ثم قامت بينها الحروب التي كادت تعصف بكيان أوربا ، لولا تزامن أمرين اثنين على الأقل أعطيا تلك القوميات قوة ورسوخا ظن الأوربيون أنهما من طبيعة القومية والوطنية فزاد تمسكهم بهما ، حتى أدركوا أخيرا مقدار الشر الكامن فيهما ، فأخذوا يحاولون التجمع تحت رايات جديدة تذيب حواجز القومية والوطنية ، وتجمّع أوربا في وحدة شاملة (41) ..
أما الأمران اللذان أعطيا القوميات قوة - لفترة من الزمن - فأولهما الثورة الصناعية ، وثانيهما ضعف العالم الإسلامي !
الأول حفز كل قومية أن تنافس الأخرى بالقوة الاقتصادية الناجمة عن الصناعة ، والثاني جعل القوميات الأوربية تكف - مؤقتا - عن قتال بعضها البعض ، وتتجه إلى غزو العالم الإسلامي ، ونهب خيراته ..
وكان من همّ الغزو الصليبي للعالم الإسلامي أن يفتته لقيمات صغيرة ليستطيع ابتلاعه ، فزين للأمة - وهي في التيه - أن تلقي رداءها ذا النسيج الفذ ، وتتزيا بتلك الأثواب الرديئة النسيج ، المزركشة الألوان ..
ولما فعلت ذلك تم المطلوب ! وازدرد الغرب الصليبي فريسته ، بعد أن ساعدته على نفسها ، بتحويل نفسها إلى فتات !
لم تكن قضايا السياسة وحدها هي التي فسدت وأفسدت الأمة في مرحلة التيه ..(68/246)
فقد كانت تنحية الشريعة شراً شاملاً ، شمل من حياة الأمة كل شيء ، وأفسد من حياتها كل شيء ..
لقد أفسدت بادئ ذي بدء عقائد الناس وتصوراتهم عن " الدين " .
فالدين - كما نزل من عند الله - عقيدة وشعيرة وشريعة .. دين ودولة .. ومنهاج حياة (42).
ولكن الناس - في التيه - فقدوا ذلك التصور الواضح ، وتشربوا بدلا منه المفهوم الغربي الكنسي ، الذي يفصل الدين عن الدولة ، ويصور الدين علاقة بين العبد والرب محلها القلب ، ولا علاقة لها بواقع الحياة !
فقدوا الإحساس بمعنى قوله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (43).
وقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (44) .
وقوله تعالى : ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) ؟ (45) .
وهم يتلون ذلك كله في كتاب الله ، ولكنه لا يصل إلى أفئدتهم - في التيه - إلا أصداء بعيدة غير ذات مدلول ..
وصحيح أن مفهوم " الدين " ومفهوم " لا إله إلا الله " ومفهوم " العبادة " كان كله قد انحسر في نفوس المسلمين قبل مجيء الغزو الصليبي ، وهزيمة الجيوش الإسلامية أمامه . ولكن الانحسار كان قد توقف عند آخر حاجزين لم يكن يمكن - في حس المسلمين - أن يحدث التراجع عنهما وهما الصلاة وتحكيم شريعة الله . فقد يتهاونون في كل شيء ، ويغضون الطرف عن أي مخالفة ، ولكن يبقى في حسهم أن المسلم يصلي ، ولا يمكن أن يكون مسلما إذا ترك الصلاة ، ويتحاكم إلى شريعة الله ، ولا يمكن أن يكون مسلما إذا تحاكم إلى غير شريعة الله ..
ولكنهم - في التيه - تراجعوا عن كلا الحاجزين في وهلة الانبهار ! تراجعوا أولا عن الشريعة ، ثم تراجعوا عن الصلاة !
وأسرع الطبالون والزمارون يزينون للأمة ما فعلت ، ويقولون لها في الخطوة الأولى : لا بأس عليكم من عدم تحكيم شريعة الله ، فتلك مسألة خاضعة " للتطور " ! وما دمتم تصلون وتصومون فأنتم مسلمون ! ثم زينوا لهم - كما سيأتي بيانه - أن يتركوا الصلاة والصوم وسائر الشعائر التعبدية ، ثم قالوا لهم : لا بأس عليكم وإن لم تصلوا ولا تصوموا .. فما دمتم تقولون لا إله إلا الله ، فأنتم مسلمون !!
ووقعت الأمة في الفتنة من جانبين .. جانب الطبالين والزمارين - دعاة الغزو الفكري - وجانب علماء السوء ، عبيد السلطان .
فأما الطبالون والزمارون فقد قالوا للأمة : لقد كنتم تطبقون الشريعة وتقيمون الشعائر وتملئون المساجد فماذا أصابكم من ذلك كله إلا الضعف والتأخر والخذلان أمام الغرب ؟ وها هو ذا الغرب لا يحكّم شريعتكم الجامدة ! إنما يحتكم إلى قانون متطور مواكب للأحداث ، وها هو ذا لا يصلي مثلكم ولا يصوم .. فأين هو وأين أنتم ؟ هو في القمة وأنتم في الحضيض ! فدعكم من تلك الأغلال التي كانت تكبلكم .. وانطلقوا .. انطلقوا إلى الحضارة والقوة والرقي والتقدم !
وأما علماء السوء فقد اتكئوا على الفكر الإرجائي : من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن ، ولو لم يعمل عملا واحدا من أعمال الإسلام !! ربكم رب قلوب ! ما دام قلبك عامرا بالإيمان فلا يهمك شيء .. ولا يضر مع الإيمان معصية !
وتلاقت الفتنة من هنا ومن هناك .. واندفعت الأمة في التيه !
فأما " الطيبون " فقد ظلت عواطفهم مع الإسلام ، ومع كتاب الله ، ولكنهم جلسوا يتحسرون على الأيام الفائتة ، ويقولون لأنفسهم : ما حيلتنا ؟ لقد تغير الزمان ! ولم يعد في الوسع الرجوع إلى ما كان !
وأما العملاء فقد فركوا أيديهم سرورا بتخلص البلاد من عدو أسيادهم الذين يدينون هم لهم بالولاء !
وأما جموع أخرى من الناس فقد وقفوا حائرين : هل من المعقول أن يكون هؤلاء " الإفرنج " الراقون المتحضرون المتقدمون الذين نجلس نحن عند أقدامهم - إن سمحوا لنا أن نجلس هناك - هل من المعقول أن ينطبق عليهم ما جاء من وصفٍ في القرآن : أنهم الخاسرون .. أنهم الضالون .. أنهم هم الصم الذين لا يسمعون ، العمي الذين لا يبصرون ؟!
وي!
ومن الرابح إذن ومن المهتدي .. ومن المفتوح البصر والبصيرة ، الواصل إلى جوهر المعرفة وعلم اليقين ؟!
كلا ! لابد أن يكون القرآن يصف قوما آخرين .. كانوا في الماضي .. أما حاضر الغرب فلا يمكن أن ينطبق عليه الوصف !
ونحن أيضا ! أتنطبق علينا الأوصاف الواردة في القرآن إذا قلدنا الغرب وحاولنا أن نصنع مثلما يصنع ؟
حين نتعلم مثلهم ، ونرتقي مثلهم ، ونحطم الأغلال مثلهم ، ونحرر المرأة مثلهم ، ونشرع لأنفسنا مثلهم .. أنكون عندئذ في حكم " الجاهلية " كما يقول القرآن ؟!
كلا ! كلا !(68/247)
إما أن القرآن قد نزل لقوم معينين ، كانت أحكامه صحيحة بالنسبة إليهم ، لأنهم كانوا في بداوتهم لا يملكون فكرا راقيا ينظمون به حياتهم ، فكان القرآن رفعاً لهم وتقدماً بالنسبة إليهم ، وإما أن الدين كله - كما تقول أوربا - قد أخلى مكانه اليوم للتقدم البشري المبني على " العلم " .. فلا علينا إذن أن نخالف أحكامه ونحن مطمئنون !
كانت الشريعة هي العقدة الضامّة .. فلما انحلت انفرط عقد كل شيء ..
ولم يكن التغيير كله ذاتيا بطبيعة الحال .. بل أقله هو الذي كان تلقائيا ، وأكثره كان مدفوعا مدبرا مخططا من قِبَل القوى الصليبية المسيطرة ، تعاونها الصهيونية الداخلة تحت كنفها ، العاملة في إطارها . ولكن الأمة - في التيه - كانت سرعان ما تتقبل التغيير ، سواء كان ذاتيا من المنبهرين ، أو مدفوعا مدبرا مخططا من الصليبيين والصهيونيين .
ولم يبق مجال واحد من مجالات الحياة بعيدا عن تيار التغيير ..
تغيرت الحياة الاقتصادية
دخل الربا رسميا وعلنياً في حياة الناس . فقد قيل للناس : كيف تحكّمون مفاهيمكم الدينية الجامدة في دورة الحياة العصرية المتقدمة الموارة بالنشاط الحيّ ؟ تريدون أن تجمدوا الحياة على صورتها البدائية التي كانت عليها في القرون الوسطى ؟!
إن الاقتصاد الحديث لا يمكن إدارته بدون الربا .. لا يمكن ! لأنه لا بد من بنوك تقرض أصحاب الأعمال .. والبنوك شأنها هكذا .. لا تعمل بغير ربا ! لأنها لا بد أن تضمن أموالها التي تقرضها لأصحاب الأعمال .. فكيف إذا حكّمتم شريعتكم التي تحرّم الربا ؟! تتوقف البنوك عن الإقراض ، ويعجز أصحاب الأعمال عن إدارة أعمالهم ، فتتوقف دورة الاقتصاد ، وتتخلف الأمة ، ويسبقها غيرها . الربا ضرورة . والضرورة تبيح المحظور .. فاحتفظوا بشريعتكم في قلوبكم .. أما واقعكم فاتركوه ينطلق مع دوامة الحياة الحية .. أو فلتبقوا جامدين ، ودعوا أوربا تسبقكم في جميع المجالات !
وتقبلت الأمة - في التيه - كل القول على عواهنه .. وانساقت مع " الأمر الواقع "
ولم يكن لديها من الوعي أو البصيرة ما تفند به القول ، فضلا عن أن يكون لديها مبادرتها الخاصة المستمدة من فكرها وتصوراتها وعقيدتها .. فضلا عن أن تعتز بوضعها الذي أخرجها الله من أجله فتكون هادية ورائدة تصحح للبشرية أخطاءها وانحرافاتها ..
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(46) .
فأما أن بنوكهم هكذا .. فنعم !
فالبنك - في صورته الغربية - فكرة يهودية بحتة ، وتنفيذ يهودي كذلك ..
فحين قامت الثورة الصناعية في أوروبا - وكانت في حاجة إلى المال لتمويل مشروعاتها - لم يكن هناك من يملك المال المطلوب إلا أمراء الإقطاع والمرابين اليهود .. وقد أحجم أمراء الإقطاع عن تمويل الحركة الصناعية لأكثر من سبب ، فتقدم المرابون اليهود لعملية التمويل ولعابهم يسيل ! فقد أتيحت لهم فرصة " ذهبية " لتشغيل أموالهم بالربا على نطاق واسع . فهم لم يكونوا يشاركون بالمال الذي في أيديهم في المشروعات الصناعية - وقد كان كثير منها يخسر في مبدأ قيام الثورة الصناعية لإحجام كثير من الناس عن استخدام ما تنتجه الآلة ، كما كانت طرق المواصلات غير ممهدة ، وكان التخطيط شبه معدوم ، والإعلان عن المنتجات غير متوفر - إنما كانوا يقرضون المال بالربا .. وسواء كسب المقترض أم خسر ، فهم في مأمن من الخسارة بما يفرضون من ربا مقابل إقراض المال .. وحتى ذلك المال لم يكن كله مالهم الخاص ! فقد كان كثير منه من الودائع التي تعوّد الناس في أوربا أن يودعوها عند اليهود . وهكذا ولدت فكرة البنك الذي يأخذ ودائع المودعين فيقرضها للمقترضين مقابل جعل ربوي يفرض عليهم ، ويعطى صاحب الوديعة جانبا من الفائدة على وديعته ، ويأخذ البنك - أي أصحابه اليهود - بقية " الفوائد " ربحا خالصا مقابل لا شيء ! أي مالا حراما لا يحله الله :
( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) (47) .
وأما أن الاقتصاد " الحديث " لا يصلح بغير الربا ففرية يهودية ، أطلقها اليهود وروّجوها ليضمنوا لأنفسهم السيطرة المستمرة على عالم الاقتصاد - الذي يسيطرون عن طريقه على حياة الأمميين السياسية والاجتماعية والأخلاقية والفكرية والإعلامية ، ويستحمرونهم به لحسابهم الخاص - وعقلاء الغرب أنفسهم بدءوا يرون بأعينهم ويلات الربا ، ويفكرون في منهج بديل .(68/248)
ولكن الأمة الإسلامية - في التيه - لم تكن تجرؤ حتى أن تحدث نفسها في سريرتها بأن الغرب يمكن أن يخطئ ! إنما المخطئ من يخالف الغرب ! وعلى المخالف أن يصحح موقفه ليتناسق مع " الأمر الواقع " أو " مع الرأي العام العالمي " أو مع " مقتضيات الحياة الحديثة " أو مع ما يكون من المسميات !
وقام " المفتي " يحلل الربا " البسيط " .. ربا " صندوق البريد " .. بحجة أن المحرم هو " الأضعاف المضاعفة " وليس أصل الربا ! وقام غيره يحلل ربا السندات التي تصدرها الدولة ، بحجة أن الدولة لا ينطبق عليها ما ينطبق على الأفراد !! وقام غيره وغيره وغيره .. وقام آخرون - في التيه - ينادون علانية بوجوب تنحية الشريعة من أجل التقدم الاقتصادي الذي تتحقق به " مصلحة " الشعوب !
وتغيرت الحياة الاجتماعية ..
تفككت روابط الأسرة ..
وأصبحت " الأسرة الكبيرة " عيبا يتندر به " المثقفون " !
ذلك أن " المثقفين " قرءوا فيما قرءوا عن حياة الغرب أن الأسرة الكبيرة التي تشمل الأجداد والأحفاد إلى جانب الآباء والأبناء كانت سمة من سمات المجتمع الزراعي - الذي يوصف دائما بأنه مجتمع متخلف - أما المجتمع الصناعي - الذي يوصف دائما بأنه المجتمع المتطور - فقد ذابت فيه الأسرة الكبيرة ، وصارت الأسرة تقتصر على الأب والأم والأولاد .. وحتى الأولاد فإلى سن معينة ثم ينفصلون عن آبائهم ، ويؤسسون لأنفسهم حياتهم الخاصة ، ولو لم يتزوجوا ويكوّنوا أسرة .. فهذا أمر آخر ! إنما المهم هو الاستقلال الاقتصادي الذي يصحبه الانفصال عن الأبوين !
يا له من تقدم !
وإذا كنا نحن بعواطفنا " الشرقية " لا نتحمل هذه الجرعة الكبيرة من التقدم الحضاري ، فلنقتصر على إخراج الأجداد والأحفاد من نطاق الأسرة .. ولتظل الأسرة هي الأب والأم والأولاد ، إلى أن يتزوجوا ويكوّنوا أسرهم الخاصة ، ولنترك الأسرة الكبيرة لسكان الريف ، بحكم أنهم مجتمع زراعي متخلف ، لا يرجى له أن يتحضر من قريب !
أما الروابط الأسرية الموروثة التي كان منبعها تعاليم الدين فقد آن لها أن تتغير ، لأن الدين لم يعد في هذا العصر مصدر التوجيه . لقد صارت العلاقات الاقتصادية هي محور الحياة " الحديثة " ( يقولها قائلها مفتخرا بأنه نال شيئا من " الحداثة " ولو بلمس اليد من بعيد ! ) وصارت هي التي تقرر للناس روابطهم (48) ، فإذا تعارضت معها تعاليم الدين ، فتعاليم الدين هي التي ينبغي أن تتنحى .. لأنها نزلت في جو آخر ، ولقوم آخرين .. ولم يعدلها مجال في عالمنا المتطور الحديث
وانفك رباط الناس بالبيت ..
لقد كان البيت المسلم هو " المجتمع " الصغير الذي ينشأ فيه الصغار ويرتبطون بالكبار ، يرتبطون رباط الأبناء بآبائهم ، ورباط القيم والأخلاق والتقاليد ، ورباط الألفة والمودة ، ورباط الاستقرار النفسي والعاطفي ، وكلها معانٍ - كانت - مستمدة من الدين ..
( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (49) .
( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ) (50) .
ولكن الأحوال تغيرت ..
أصبحت هناك - في الخارج - جواذب تجذب الناس إلى خارج البيت ..
هناك المقاهي .. يمكن أن يسهر فيها الناس إلى منتصف الليل ، يلعبون النرد ، أو يلعبون الورق ، أو يشربون " الشيشة " ، أو يثرثرون في شتى الأحاديث التي كان مكانها من قبل زيارات الناس بعضهم لبعض في البيوت ..
وتلك المقاهي هي على أي حال " للأتقياء " من الناس !
أما غير الأتقياء فلهم أماكن أخرى - كثيرة - يسهرون فيها خارج البيت ..
أمامهم البارات والحانات .. وقد سارع الغازي الصليبي بعد تنحية الشريعة إلى إعطاء تصاريح رسمية ببيع الخمر ، وإيجاد أماكن مرخص بها يجلس الناس فيها ليحتسوا الخمر علانية .. وكتب عليها أن تقدم " المشروبات الروحية " ! (51) لروادها ! وأمامهم المسارح والمراقص ودور اللهو ..
وأمامهم بيوت الدعارة الرسمية ، مفتوحة بإذن الدولة .. الدولة " المسلمة ! " وعليها حراسها يحمون القائمات ببيع الرذيلة فيها كما يقومون بحماية أي مرفق من مرافق المجتمع..(52).
وأصبح السهر خارج البيت سمة من سمات " المجتمع الجديد " الذي استحدثته الأمة في التيه ، يفكك روابط البيت التقليدية ، وينشئ أجيالا لا تستمتع بما كانت تستمتع به الأجيال السابقة من رعاية الأب ، ووحدة المشاعر ، وألفة النفوس ..
ثم جاء دور المرأة لتخرج كذلك من البيت !
جاءت قضية " تحرير المرأة " ..
ولقد كانت المرأة في حال ممعنة في السوء ..(68/249)
جاهلة لا تقرأ ولا تكتب ولا تتعلم .. مغلفة بالوهم والخرافة ، لا تفقه شيئا مما يدور في مجتمعها ولا في العالم كله من حولها . حديثها مع جاراتها هو عن الأضرحة والمشايخ ، والحسد و " العمل "، والعفاريت والجن ، وما أصاب الأولاد من أمراض ، وما وصف الشيخ من علاج بالأحجبة والتمائم .. والتي طلقها زوجها ليتزوج الأخرى التي سحرت له ، والتي اشتعلت غيرة من ضرتها .. والتي كادت لحماتها وكادت حماتها لها ..
ثم كانت مهينة مهضومة الحقوق سواء كانت فتاة في بيت والدها ، أو زوجة في بيت زوجها ، أو مطلقة محرومة من أولادها ..
وكانت نظرة الرجل إليها نظرة نظرة أقرب إلى الحيوانية ، فإن خرجت عن الحيوانية فهي في محيط الحمل والولادة والإرضاع وتدبير المنزل ولا زيادة ..
ولم يكن ذلك كله من تعاليم الإسلام .. بل كان خروجا على تعاليم الإسلام ، التي تقرر المساواة في الإنسانية وتوجب على الرجال معاملتهن بالمعروف :
(.. فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ .. )(53) .
( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (54) .
( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (55) .
( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (56) .
( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا ) (57).
( خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي ) (58).
( لا تنكح الثيب حتى تستأمر ، ولا تنكح البكر حتى تستأذن . وإذنها صمتها ) (59).
وقد كانت المرأة في عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم " شقيقة " الرجل كما بيّن عليه الصلاة والسلام في قوله : " إنما النساء شقائق الرجال " (60). فكانت شريكة في الإيمان ، وشريكة في الدعوة ، وشريكة في الجهاد ، وشريكة في بناء المجتمع الجديد على قيم الإسلام ومبادئه ، ولا تقوم هذه الشركة إلا بالممارسة الفعلية لتلك القيم والمبادئ .. كل ذلك في نظافة خلق ، وطهارة من الدنس ، وعفة عن الحرام ، والتزام بالحجاب ،والتزام بأمر الله ورسوله ، التي تحرّم الخلوة بالأجنبية ، وتحرّم الاختلاط بغير موجب ، وتحرّم السفر بغير محرم ، وتحرّم النظرة التي هي سهم من سهام إبليس ..
ولكن المجتمع الإسلامي كان قد وقع في ردة جاهلية بالنسبة للمرأة - إلا من رحم ربك - فعاد ينظر إلى المرأة النظرة الدون ، ويعيرها بأنها تحمل وتلد ولا زيادة ..
وكان الأمر في حاجة إلى العالم الرباني ، المجدد المجاهد ، الذي يرفع المجتمع إلى مستوى الإسلام الحق في قضية المرأة ، وكل قضايا الوجود .. ولكن الأمة - في التيه - تناولت علاجا آخر .. !
كان العلاج الذي تناولته هو " تحرير المرأة " على الطريقة الغربية ..
وما بنا أن نعيد هنا ما قلناه في كتب أخرى عن قضية تحرير المرأة ، والخطوات التي مرت بها حتى وصلت إلى صورتها الأخيرة (61) .. ولكنا نتكلم هنا عن صور التيه التي دخلت فيها الأمة حين بعدت عن الطريق ..
خرجت المرأة من بيتها ، وكان هذا هدفا من أهداف التوجيه الصليبي الصهيوني للبلاد الإسلامية ، مقصودا بذاته ، كما كان إغواء الرجل للسهر خارج البيت هدفا مقصودا كذلك . ولكن هذا وذاك كانا مجرد خطوة في طريق أطول وأبعد ..
حين هجرت المرأة البيت ، هجرت معه كل القيم والمفاهيم المتعلقة به ، حتى ما كان من أصل الدين الذي أمر به الله ورسوله ، والذي لا يجوز تغييره ، لأن تغييره يحدث الفساد في الأرض ..
كله تغير ..
ألقت المرأة حجابها وانسلخت منه ، وهو من أصل الدين الذي أمر به الله ورسوله
وتدرجت في تعرية جسمها حتى وصلت شبه عارية إلى شاطئ البحر .. وهي أمور حرمها الله ورسوله ..
وحين خرجت إلى الطريق ، وأعطت نفسها حق الكشف عما تريد كشفه من جسدها ، بدأت الفتنة .. وكان مستحيلا ألا تحدث .. وحتى لو فرضنا - جدلا - أنها في مبدأ الأمر - لم تخرج للفتنة ، فقد وجدت الفتنة طريقها إلى قلبها - وقلب الرجل كذلك - من أيسر سبيل ! فها هي ذي تظهر أمام الرجل ، وها هي ذي تبدي له من زينتها ما من شأنه أن يستثيره ، واستثير بالفعل ، وعلمت ذلك يقينا ، ورضيت عن نفسها وهي تفعل ذلك .. وبالتدريج أصبحت الإثارة هدفا ، تعمل على ترويجه بيوت الأزياء " بالمودات " المختلفة ، وبيوت الزينة بالعطور والمساحيق .. والصحافة النسوية وركن المرأة في الصحف العامة بالصور والأخبار والتوجيهات والتعليقات : " فستان يبرز مفاتن الصدر " ! و " فستان يبرز مفاتن الظهر " ! و " كيف تجذبين انتباه الرجل " و " كيف تكسبين عواطف الرجل " وكيف .. وكيف وكيف (62) ..(68/250)
وحين صارت الفتنة هدفا مقصودا لم يكن يُتَصَوّرُ أن يظل الأمر كله نظريا ولا شفويا .. ولا بد أن يقع المحظور ..
ووقع المحظور ..
وكان مخالفا بطبيعة الحال لكل أعراف المجتمع وتقاليده وموروثاته وقيمه ومبادئه وأخلاقه ..
وهنا قام الطبالون الزمارون بمهاجمة تقاليد المجتمع وموروثاته التي تحظر المحظور ! ونادت بضرورة إباحة ما حظره الدين !
وانحل المجتمع بالفعل ، وصار ينظر إلى المحظور على أنه مباح ، وينظر إلى الحظر بعين الاستنكار !
لم تعد القضية : كيف جرؤ الناس على إباحة المحظور .. وإنما أصبحت : لماذا يحظر الدين ما يجب أن يباح ؟!
ونشرت - عمدا - آراء فرويد وتعاليمه ، وتخصصت لها صحف ومجلات ، لتقول إن الحظر - سواء كان منبعه الدين أو المجتمع أو الأخلاق - يورث الكبت ، والعقد النفسية ، والاضطرابات العصبية .. ولا بد من إباحة المحظور لتستقر النفوس !!
وانفلت الأولاد والبنات - وهم في ظلمات التيه - يحسبون أنهم أحرزوا أعظم نجاح في التاريخ !
ما حال البيت .. ؟
وما حال المسجد ؟
البيت الذي هجرته سيدته لتخرج إلى الشارع ، سواء للعمل أو للفتنة ، أو للعمل والفتنة معا .. كيف يتوفر فيه السكن الذي جعله الله آية من آياته :
( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا .. ) (63).
وكيف تتوفر فيه العناية اللازمة للطفولة ، التي يتربى فيها الطفل على القيم والمبادئ والأفكار والعقائد التي يقوم المجتمع عليها ؟
لقد كان تدمير البيت هدفا مقصودا في المخطط الشرير الذي وضعه اليهود لإفساد حياة الأمميين من أجل استحمارهم في النهاية ، وقد وجدوا المجال مفتوحا أمامهم في أوربا فاستغلوه جيدا ، حين خرجت المرأة للعمل من أجل الحصول على لقمة الخبز ، ثم أشعلوا قضية " تحرير المرأة " لينفروها من البيت و يحببوا إليها هجره .. فتفككت الأسرة وانحل المجتمع .. وبقي المجتمع الإسلامي على كل ما فيه من اختلالات محافظا على روابط الأسرة وروابط " البيت " .. وكان هذا عقبة في طريق المخطط اليهودي العالمي لإفساد الأمميين جميعا في كل الأرض ، والمخطط الصليبي لإفساد المجتمع الإسلامي بخاصة ، ليسهل على الجميع السيطرة والتمكن ، وإزالة العدو الباقي لهم في الأرض ..
وتم المطلوب ..
لم يعد " البيت " بالمعنى الإسلامي موجودا في المجتمع .. لم يعد ذلك المحضن الذي يعلّم الأطفال الإسلام ، ويربيهم على تقاليده ، ويرسّخ فيهم قيمه وتصوراته .. وفرك الأعداء أيديهم سرورا بهدم الركن الركين الذي يمكن أن ينبعث منه الإسلام من جديد .. فلا خطر اليوم من الرجل ولا من المرأة ولا من الأطفال ..
وهُجِرَ المسجد ..
المسجد الذي كان دائما في حياة المسلمين مركز الإشعاع ..
كان رمزا لكل معاني الخير ..
فيه يذكر الله وتقام الصلوات .. وفيه يتعلم الناس العلم .. وفيه يتربون على القيم الإسلامية .. ومنه ينطلق الجهاد .. وفيه تبرم الأمور ..
كان البيت محضن الصغار ، والمسجد محضن الكبار .. والمؤسستان معاً تتعاونان على إقامة البناء على أسس راسخة .. وهدم " البيت " بالمعنى الإسلامي ، وهجر المسجد .. فهدمت المحاضن التي تربي الناس على الإسلام ..
وبقدر ما هجر المسجد امتلأت السينمات والمسارح ودور اللهو ودور الفساد ..
وهنا قيل للناس : لا بأس عليكم ! ما زلتم مسلمين ما دمتم تقولون لا إله إلا الله ، فأنتم مسلمون !
لم يقف التيه بالأمة عند هذا الحد ..
ففي عالم الفكر كان التيه واسعا إلى أقصى حد ..
لقد انفتح " المثقفون " على الفكر الغربي ، ثم ترجموه إلى العربية سواء نسبوه إلى أصحابه الأصليين - إن كانوا أمناء - أو نسبوه إلى أنفسهم وتفاخروا به كذبا وزورا إن كانوا غير أمناء . وكثيرٌ ما هم !
وقد كانت في الفكر الغربي قضايا تستحق الوقوف عندها بالفعل .. قضايا عن " الإنسان " ، وغاية وجوده ، وعلاقات الفرد بالفرد ، والفرد بالمجتمع ، والفرد بالدولة ، والإنسان والطبيعة .. والإنسان والله .
وكان أفسد ما في هذا الفكر حديثه عن الإنسان والله .. فقد كان الوضع فيه مقلوبا مائة في المائة .. تأليهٌ للإنسان وإنكار لألوهية الله .
ولا نخوض هنا في الأسباب التي أدت بأوربا إلى هذا الانحراف الحاد في هذه القضية بالذات ، فقد تحدثنا عنها في أماكن أخرى (64) .. ولكنا نذكر فقط أن الفكر " الإسلامي ! " قد تتبع الفكر الغربي في جميع انحرافاته ، ولم يمنعه شيء من أن يخوض كذلك انحرافات الغرب في قضية الإنسان والله (65) .. وكان ذلك في عدة مجالات ..
من بين تلك المجالات - وفي مقدمتها - قضية التشريع ..
لمن يكون حق التشريع ؟ لله أم للإنسان ؟(68/251)
كان من الواضح أن الإسلام يقرر أن حق التشريع لله وحده بلا شريك : ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ )(66) ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ )(67) ( وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)(68) في شئون الكون وشئون التشريع سواء ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )(69) ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ )(70) .
وكان من الواضح كذلك أن أوربا تقرر - قولا وعملا - أن الله لا شأن له بالتشريع ، وأن حق التشريع موكول للإنسان .
ودارت الأمة دورة في التيه فقال قائل منها : إن الإسلام لا علاقة له بنظام الحكم ! وإن صلى الله عليه وسلم لم يكن حاكما ، إنما كان قاضيا يقضي بين الناس ! وإن الخلافة لم تكن نظام حكم !
ودارت دورة أخرى في التيه فقال قائل منها : إن الشريعة التي نزلت قبل قرون طويلة لم تعد تصلح لأن تحكم حياة البشر اليوم في عالم متطور ، لا وجه للشبه بينه وبين العالم الذي نزلت فيه تلك الشريعة قبل ذلك المدى الطويل من القرون !
ودارت دورة أخرى فقال قائل منها : إن الإسلام نظام دكتاتوري .. يقوم على الإستبداد بالسلطة ، ويهمل " الأمة " التي هي - في الدولة " العصرية " - مصدر السلطات ..
وإذا كان الجدل قد ثار - بالعدوى من أوربا - حول حق الله في التشريع ، والتحليل والتحريم ، فقد ثار كذلك حول حق الله في تقرير القيم وتقرير المعايير ..
من الذي يقرر القيم التي تحكم حياة الإنسان ؟ الإنسان أم الله ؟
فأما الإسلام فقد قرر بوضوح أن الله هو الذي يقرر القيم كما يقرر الشرائع لأنه هو الخلق المدبر الرزاق :
( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ )(71).
(.. هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) (72)
وأما أوربا فقد تمردت على ألوهية الله ، وألّهت الإنسان بدلا منه ، وقالت إن الإنسان هو الذي يقرر قيمه لأنه أعلم بواقعه ، وأعلم بمصلحته !!
وكتب أحد كتابها كتابا سماه " الإنسان يقوم وحده Man Stands Alone " أي بعيدا عن وصاية الله ، وكتب آخر كتابا سماه " الإنسان يصنع نفسه Man Makes Himself " أي بعيدا عن تعاليم الله .
وقد كانت لأوربا ظروفها التي أدت بها إلى هذا الموقف المتمرد على الله ، وهي ظروف قد تفسر ولكنها لا تبرر ، فإنه لا شيء على الإطلاق يبرر الكفر بالله .
ولكن الأمة - في التيه - لم تدرك القضية على حقيقتها ، وظنت أنه من دلائل " التقدم " أن يصوغ الإنسان قيمه بنفسه ، ويحدد معاييره ! أليس الله قد وهب للإنسان عقلا يفكر به ؟ وها هو ذا الإنسان يشغّل عقله ليضع منهاج حياته ، مستعينا بثمار العلم وثمار التجربة .. وأي إنسان هو الذي يصنع ذلك ؟! إنه " ذلك " الإنسان ! القوي المتمكن المتفكر المتعمق ، الذي يسيطر على كل الأرض ، والذي نحبو نحن من خلفه حَبْواً ، بينما هو يكتسح الطريق !
لم تدرك الأمة أوجه الخلل في هذه القضية .
لم تدرك أولا مجالات العمل المطلوبة من العقل البشري ، الذي أنعم الله به على الإنسان ، وفضّله به على كثير ممن خلق ..
( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (73) .
إن المجال الأول والأعظم لهذا العقل هو الاهتداء إلى وحدانية الله سبحانه وتعالى ، ومن ثم عبادته وحده بلا شريك . فالإنسان عابد بفطرته .. ودَعْ عنك موجة الإلحاد المصطنعة التي روّج لها شياطين الأرض في هذا القرن الأخير خاصة ، والتي تلاشت من ذات نفسها حين انهارت الشيوعية حامية الإلحاد ، فعاد الناس - المهتدون منهم والضالون - يهرعون إلى مساجدهم وكنائسهم ومعابدهم كأن لم يكونوا قد ألحدوا قط !
الإنسان عابد بفطرته .. وإنما الفرق بين عابد وعابد أن احدهما يعبد الله الحق ، ويعبده وحده بلا شريك ، وآخر يعبد آلهة أخرى غير الله ، معه أو من دونه ، ويتصور الله على غير حقيقته ، أو يعبد هواه :
( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) (74) .
والمهمة العظمى للعقل الذي وهبه الله للإنسان أن يبحث في تلك القضية الأساسية ، التي يترتب عليها كل مصير الإنسان في الدنيا والآخرة : ( أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ) (75)
فأما في الآخرة فيترتب عليها الخلود في الجنة أو الخلود في النار ..
وأما في الدنيا فيترتب عليها إجابة أسئلة كثيرة : من المعبود الذي تجب له العبادة ؟ من المشرع الذي يحل ويحرم ؟ من المقرر الذي يقرر منهج الحياة ؟ ما مصدر التلقي في قضايا الحياة الكبرى ؟ فضلا عن الإجابة على أسئلة أخرى تخطر على الفطرة وتحتاج إلى إجابة ، وإن لم تتلق الإجابة الصحيحة تحيّر الإنسان وتشقيه : من أين ؟ وإلى أين ؟ ولماذا ؟ وكيف ؟ من أين جئنا ؟ إلى أين نذهب بعد الموت ؟ لأي شيء نعيش ؟ كيف ( على أي منهج ) نعيش ؟(68/252)
فإن لم تتلق الفطرة الإجابة الصحيحة على هذه الأسئلة فإنها تهيم في ضلالة كضلالة الشاعر " الجاهلي " المعاصر ، إيليا أبو ماضي :
جئت .. لا أعلم من أين ! ولكني أتيت !
ولقد أبصرت قدامي طريقا .. فمشيت !
وسأبقى ماشياً إن شئت هذا أم أبيت !
كيف جئت ؟ كيف أبصرت طريقي ؟ .. لست أدري !!
وهو يعبر في الحقيقة عن أزمة الجاهلية المعاصرة ، التي استبد بها القلق حين استبد بها الضلال .. حين لم تستطع أن تجد الإجابة الشافية على أسئلة الفطرة .. فهامت في الظلمات على الرغم من كل ما لديها من " العلم " !
( يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) (76) .
فإذا فرغ العقل البشري من مهمته الأولى - التي يترتب عليها منهج حياته في الدنيا ومصيره في الآخرة - فأمامه مهام كثيرة أخرى في مقدمتها التعرف على الكون المادي ، وعلى خواص المادة ، من أجل استغلال ذلك في عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني - وذلك ميدان العلوم سواء منها النظرية والتجريبية - والتعرف على الوحي الرباني لإدراك مراميه ، لإدارة الحياة بمقتضاه - وتلك هي العلوم الشرعية بما فيها الفقه والأصول وعلوم القرآن وعلوم الحديث - والتعرف على السنن الربانية التي تحكم الحياة البشرية ، من أجل إقامة الحياة متناسقة مع تلك السنن غير حائدة عن مقتضياتها - وذلك علم الاجتماع - والتعرف على التاريخ البشري الذي هو مقتضى تعامل البشر مع تلك السنن خلال ما مر من الزمان ، للاعتبار به في حاضر الأمر ومستقبله - وذلك علم التاريخ - ثم أي علم بعد ذلك ينفع الإنسان في حياته الدنيا وفي الآخرة ..
وذلك هو " التنوير " الحق ، النابع من الإيمان بعالم الغيب وعالم الشهادة ، والذي يعمل فيه العقل مهتديا بالهدي الرباني فلا يشطح ولا يضل ..
ولكن الأمة - في التيه - لم تدرك ذلك .. ولم تدرك أن " التنوير " على المنهج الغربي كانت له أسبابه المحلية البحتة في أوربا ، وكانت له نتائجه المغرقة في السوء ..
لقد كانت " عقلانية " الغرب رد فعل لحجر الكنيسة على العقل عشرة قرون متوالية على الأقل هي ما سموه في تاريخهم " القرون الوسطى المظلمة " وقد كانت مظلمة حقا ، ولكن لا بسبب " الدين " كما تصورت أوربا في أثناء هروبها من طاغوت الكنيسة ، وإنما بسبب " ذلك الدين " الذي اعتنقته أوربا محرفا لا تسيغه العقول ، فقررت الكنيسة أن تحجر على العقول لكي لا تكشف زيفه ومتناقضاته ، فقالت للناس آمنوا ولا تناقشوا .
فلما احتكت أوربا بالمسلمين ، ورأت أنهم " يفكرون " وأن لهم نتاجا فكريا يملأ مئات الكتب بل ألوفها ، هفت نفوسهم " للتفكير " فاتهمتهم الكنيسة بالزيغ والهرطقة ، فكان رد الفعل المتحدي لطغيان الكنيسة هو نبذ الدين كله ، وإعمال العقل بدلا من الدين ، وهدم ما أسموه " خرافة الميتافيزيقا " ، والاعتماد في كل شيء على مقولة العقل ، سواء كان مما يدخل في طوق العقل إدراكه أو لا يدخل ، وسواء كان مما يحل للبشر أن يختاروا فيه بعقولهم أو لا يحل !
وقد " تنورت " أوربا ولا شك في مجال العلوم - حين أخذت عن المسلمين المنهج التجريبي في البحث العلمي - ونبذت خرافات الكنيسة " العلمية " التي كانت تفرضها على الناس باسم الدين ! ولكنها ضلت ضلالا شديدا فيما أسمته " العلوم الإنسانية " - أي العلوم التي يؤخذ العلم فيها من الإنسان لا من مقولات الدين - فأوصلها ضلالها إلى الإيمان بحيوانية الإنسان وماديته ، وإلغاء القيم العليا ، وتطبيق قانون الغاب : القوي يأكل الضعيف أو يزيحه من الطريق ، بصرف النظر عن الحل والحرمة ، وبصرف النظر عن كون القوي صاحب حق أم صاحب باطل .. وثمرته ما يجري اليوم على الساحة الدولية من ظلم وحشي ، فضلا عن القلق والجنون والانتحار والخمر والمخدرات والجريمة داخل المجتمع الغربي " المتنور "!
ولقد كانت " الميتافيزيقا " عندهم ضلالا صارفا عن الحق ، وصارفا عن العمل في واقع الأرض ، لا لأنها في ذاتها " غيبيات " . فالغيب حقيقة . ولكن لأن الفكر الكنسي اللاهوتي صبغها بصبغته فأفسدها كما أفسد الدين كله . وكان التنوير الصحيح يقتضي الإيمان بعالم الغيب على بصيرة ، والإيمان بعالم الشهادة على بصيرة كذلك ، فتكتمل المعرفة ، ويتوازن " الإنسان " . أما " التنوير " الذي يجعل عالم الشهادة بديلا من عالم الغيب ، والعقل بديلا من الدين ، والعمل للدنيا بديلا من العمل للآخرة .. فلا يفترق كثيرا عن " الظلام " الأول ! فقد كانت جريمة الظلام الأول أنه اتخذ نصف الإنسان بديلا من نصفه الآخر ! فجعل عالم الغيب بديلاً عن عالم الشهادة ، وجعل الدين بديلا من العقل ، وجعل العمل للآخرة بديلا من العمل للدنيا ، فجاء الظلام الآخر - الذي يسمى " التنوير " - فأبرز النصف الذي كان مهملا من قبل ، وأهمل النصف الذي كان بارزا من قبل ، فارتكب نفس الجرم الذي عابه على غريمه من قبل ، ووقع الافتئات في الحالين على كيان " الإنسان " .(68/253)
ولقد كانت الحياة قد ركدت وأسنت في بلاد العالم الإسلامي ، بما غشّى العقيدة من أمراض وانحرافات ، وبما اعترى السلوك من تفلت متزايد من مقتضيات لا إله إلا الله .
وكان الأمر في حاجة إلى من يعيد الحيوية والنشاط للأمة لتستيقظ من غفوتها وتنطلق من جديد .. فكانت في حاجة إلى العالم الرباني ، المجدد المجاهد ، الذي يمسح آثار الفكر الإرجائي والفكر الصوفي ، والتفلت من التكاليف ، والكسل والتراخي ، ويعيد إلى عقيدة الإيمان بالغيب حيويتها وصفاءها وإيجابيتها بإزالة ما علق بها من خرافة وتواكل وسلبية وتعلق بالخوارق ، كما يعيد الصفاء والحيوية والإيجابية إلى التعامل مع عالم الشهادة بإزالة ما علق به من كسل وتراخٍ وقعود عن الأخذ بالأسباب ، فتعود للأمة انطلاقتها السوية المتكاملة المتوازنة التي صنعت بها من قبل ما صنعت من الأعاجيب ، من نشرٍ لعقيدة التوحيد في أرجاء الأرض ، وإنشاء حركة علمية فذة ، وحركة حضارية فريدة في التاريخ ..
ولكن الأمة - في التيه - جنحت إلى النموذج الغربي المختل ، دون أن تفطن إلى ما فيه من اختلال ، ودون أن تدرك في الوقت ذاته أن الذي وقع في أوربا في ذلك الخلل هو دينها المحرف وكنيستها التي طغت بذلك الدين ، وأنها لم تكن تملك دينا صحيحا ترجع إليه لتصحيح مسارها حين تنحرف عن الطريق .
وفي تلك المناسبة قالوا إن الحملة الفرنسية على مصر كانت مفتاح الخير لها وللمنطقة كلها من حولها ، وأنها كانت باعث " النهضة " التي بعثت " النور " و " الحركة " في الظلام الراكد الذي كان يلف العالم الإسلامي كله !
وأما أن الحملة الفرنسية أيقظت مصر من سباتها وحرّكتها فحق لا شك فيه .. وأما أنها " نوّرتها " فأمر أقل ما يقال فيه أنه يحتاج إلى مراجعة شديدة !
لو أن إنسانا نائما في الطريق دهمته سيارة فخلعت بعض أوصاله ، وكسّرت بعض عظامه ، ولوت عنقه بحيث لم يعد يستطيع أن يحرك رأسه إلا في اتجاه معين .. فماذا يقال عندئذ ؟!
إما أن السيارة أيقظته وحرّكته من مكانه فذلك أمر مؤكد !
وإما أنها نوّرته ورشّدته وهدته إلى الطريق السوي فأمر يفتقر إلى الدليل !
لقد كانت عناية الصليبية مركزة على نقطتين بعينهما في العالم الإسلامي : اسطنبول والقاهرة . اسطنبول مركز الخلافة ، أي مركز القوتين الحربية والسياسية ، والقاهرة مركز الإشعاع الروحي والثقافي للعالم الإسلامي ، المنبعث من الأزهر ، وما فيه من علوم دينية ، وعناية باللغة العربية ، لغة القرآن .
وكانت عناية الصليبية بهذين المركزين تهدف إلى تقويض أركان الإسلام فيهما أولا ، فيسهل تقويض أركان الإسلام في كل الأرض الإسلامية بعد ذلك . وبالنسبة لمصر كانت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون هي بداية التحرك الصليبي لمحاولة القضاء على الإسلام في مركز الإشعاع الروحي والثقافي (77) .
وكان من بين وسائل الحملة محاولة إحلال " قانون نابليون " بالتدريج محل الشريعة الإسلامية في صورة " أوامر " صادرة من " سر عسكر " نابليون بونابرت ، في منشورات متلاحقة .
وكان من الوسائل كما يقول الجبرتي - الذي أرخ تأريخا تفصيليا للحملة - " بغايا الحملة " .. أولئك الساقطات اللواتي يسرن حاسرات في الشوارع ، متهتكات متخلعات ، لإغراء النساء المسلمات " بالتحرر " (78) .
وكان من الوسائل كذلك إثارة النعرة الفرعونية عن طريق التنقيب عن آثار الفراعنة ، وإبرازها ، وبث الاهتمام بها .
وهذه الأخيرة يحسب بعض الناس أنها بريئة ! وأنها قضية " علمية " بحتة !
ولكن مستشرقا صريحا قال في كتاب " الشرق الأدنى مجتمعه وثقافته " (79) : إننا في كل بلد إسلامي دخلناه ، نبشنا الأرض لنستخرج حضارات ما قبل الإسلام . ولسنا نطمع بطبيعة الحال أن يرتد المسلم إلى عقائد ما قبل الإسلام ، ولكن يكفينا تذبذب ولائه بين الإسلام وبين تلك الحضارات !
فما الفرعونية ؟
إنها تشتمل - ولا شك - على تقدم علمي وفني وتكنولوجي بارز .. ولكن ما وزنها في النهاية ، وما وصفها في كتاب الله ؟
إنها جاهلية .. إحدى جاهليات التاريخ الوثنية الحائدة عن الطريق ، المجافية للهدي الرباني ، المستحقة لغضب الله :
( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ..) (80) .
إنها عبادة الفرعون ، وعبادة الأصنام من دون الله ..
وهي جاهلية تاب الله على أهل مصر منها حين دخلوا في النصرانية أول مرة ، ثم تاب عليهم التوبة الكبرى حين دخلوا في الإسلام ، لما جاءهم الإسلام .
فما إثارتها في حياتهم من جديد ، إلا - كما قال ذلك المستشرق - لذبذبة ولائهم بين الإسلام وبين " حضارة " ما قبل الإسلام ، لتسهيل انزلاقهم في النهاية بعيداً عن الإسلام !(68/254)
لقد كانت الحملة الفرنسية على مصر هي رأس عملية " التغريب " ، أو عملية " التخريب " المقصود لإبعاد مصر عن الإسلام ، بل عن العروبة كذلك ، فأين مواطن الخير المزعوم الذي انهمر على مصر انهمارا بواسطة الحملة الفرنسية ؟!
اليقظة من الغفوة ؟
نعم .. ولكن مع تقطيع أوصال الأمة بإبعادها التدريجي عن تراثها ودينها وأخلاقها وتقاليدها وذاتيتها ، ولىّ عنقها نحو الغرب ليتوغل الغزو الفكري في جنباتها ، وتغرق في تبعية للغرب لا يُعْلَمُ لها قرار ..
أما اليقظة السليمة الصحيحة فقد كانت وشيكة دون تدخل الحملة الصليبية ، فقد كانت حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي البشير الحقيقي بيقظة الأمة من غفوتها ، ومعاودة السير في الطريق ..
ولكن السيارة دهمت النائم فأيقظته .. نعم .. ولكنها قذفته بعيدا عن الطريق .
وحين بدأت العدوى تسري من الانحراف الغربي إلى الأمة الضاربة في التيه تغيرت " القيم " في حياتها ، فلم تعد هي القيم التي قررها الله - التي يلتزم بها بعض الناس ويتفلت منها بعض الناس - إنما حلت محلها القيم التي وضعها " الإنسان " .
فإذا كان الله قد جعل القيمة الكبرى هي " التقوى " : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (81) بالمعنى الشامل للتقوى ، الذي يشتمل على الفضائل الإنسانية كلها ، التي ترفع الإنسان في فكره ومشاعره وسلوكه إلى أعلى ما يستطيع أن يصل إليه ، فإن " الإنسان " الذي ألّه نفسه بدلا من الله ، قال إن القيمة الكبرى هي القوة ، وهي العمل من أجل التمكين في الحياة الدنيا بصرف النظر عن الآخرة ، وهي الاستمتاع بملذات الحياة الدنيا بصرف النظر عن المبادئ والأخلاق .. ولقد عاش الناس حتى رأوا مقدار الخلل الذي حدث في حياة البشرية من جراء نبذ القيم التي قررها الله ، واتباع القيم التي قررها الإنسان .
ولكن الأمة - في التيه - لم تستطع أن تدرك مدى الخلل في هذا المنهج ، وما يمكن أن يترتب عليه من آثار خطيرة في حياة الناس ، فوق أنها - في وهنها الذي كانت فيه ، والذي زاده الغزو الفكري والسياسي والعسكري والاقتصادي وهنا على وهن - لم تجد في نفسها القدرة ولا الجلد ولا العزيمة التي اكتسب الغرب عن طريقها تقدمه المادي ، إنما أخذت الفساد الخلقي وحده ، وعجزت عن اللحاق بالغرب في ميدان قوته ، ففقدت التقوى والقوة جميعا وصارت مسخا مشوها لا يقدر على شيء !
واضطربت كذلك المعايير ، حين صار مصدرها الهوى البشري بدلا من الوحي الرباني . فراح قوم يقولون إن العفة ليست معياراً للفضيلة ! وإن الاختلاط ، واتخاذ الأخدان ، وقيام علاقات لا يقرها الدين ليس معياراً للرذيلة ! وإن تعرية المرأة ما تشاء من جسدها ليس معياراً للانحلال الخلقي ! وإن الحديث عن الله سبحانه وتعالى أو عن رسول ا صلى الله عليه وسلم أو عن كتاب الله المنزل ، أو عن السنة النبوية المطهرة بغير التوقير الذي تعوده المسلمون ، ليس معيارا للكفر أو ضعف الإيمان ! فالمعايير كلها نسبية ، ولا وجود لمعايير ثابتة أو مطلقة .. وما كان ينظر إليه في وقت من الأوقات على أنه هو الفضيلة قد يبدو اليوم رذيلة ! وما كان ينظر إليه على أنه الواجب قد يكون اليوم أبعد شيء عن الواجب ! وما كان ينظر إليه على أنه خطأ قد يكون اليوم هو عين الصواب ..!
وسرت إلى الأمة في تيهها كذلك عدوى " التطور " الذي يلغي فكرة الثبات في كل شيء .. حتى الدين .. حتى القيم .. حتى الأخلاق !
أما قرأت دارون .. أو قرأت عنه ؟!
إن دارون يقول إن كل الكائنات قد تطورت ، وإن التطور هو قانون الحياة . وإن الإنسان لم يخلق منذ البدء على هيئته الإنسانية التي هو عليها الآن ، إنما تطور عن أحد القردة العليا ، وكان الشعر يغطي جسده كله ، وكان يمشي على أربع .. ثم تساقط عنه الشعر خلال ملايين من السنين ، وانتصب واقفا على قدميه ، فأتيح لمخه أن يكبر حين صار رأسه مرتكزا على الجذع وليس معلقا في الفضاء كبقية الحيوان ، فزاد ذكاؤه فتعلم وتكلم !!
وتخصصت صحف بعينها في نشر الفكر الدارويني ، وبث فكرة الخلق الذاتي الذي لا دخل للمشيئة الربانية فيه ، وأن " الطبيعة " هي التي تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق ! وليس لها في الوقت ذاته غاية محددة من وراء الخلق !!(68/255)
ولم تدرك الأمة - في التيه - أن " نظرية دارون " لم تكن تزيد في الحقيقة عن كونها فروضا علمية ، وإن أطلق عليها أنها نظرية .. وأنها حتى لو كانت نظرية فقد كانت - وما تزال- قيد الإثبات ، ولكنها لم تصل قط أن تكون حقائق علمية نهائية . وأن قضية الخلق الذاتي قضية لا برهان لها على الإطلاق ، لا عند دارون ولا عند غيره ممن ادعوها . وأن جوّ المعاندة الذي اتخذه العلماء في أوربا تجاه الكنيسة منذ حرّقت العلماء أحياء لقولهم بكروية الأرض ، هو الذي جعل دارون يكسو نظريته - أو بالأحرى فروضه العلمية - بهذا الرداء الإلحادي الذي ينكر أثر المشيئة الربانية في عملية الخلق (82) ، والذي ينسب الخلق لشيء غيبي خرافي اسمه " الطبيعة " مع أن هذا الرداء لم يكن من مستلزمات نظريته - على فرض صحتها ! - وأنه لولا هذا العناد مع الكنيسة فقد كان دارون قمينا أن ينسب الخلق والتطوير إلى الله ، فقد كتب رسالة إلى أحد أصدقائه ( نشرت فيما بعد ) قال فيها : لست أدري لماذا يتهمونني بالإلحاد مع أني أومن بوجود إله !!
ولم تدرك كذلك أن شياطين الأرض هم الذين نشروا هذه النظرية - أو هذه الفروض العلمية - على نطاق واسع في كل الأرض ، لهدف غير خاف بيّنوه صراحة في " برتوكولاتهم " حيث قالوا : " لقد رتبنا نجاح دارون ونيتشه وإن تأثير أفكارهما في عقائد الأمميين واضح لنا بكل تأكيد " (83) . فحين يُنْفَى الخلق عن الله ، وحين يكون الإنسان متطورا عن أصل حيواني ، وحين لا يكون لخلقه غاية ، فما مجال الدين ؟ وما مجال القيم ؟ وما مجال الأخلاق .. المبنية كلها على أساس أن الإنسان كائن متفرد عن عالم الحيوان ، وأن أشد ما يميزه عنه هو الوعي والإرادة والحرية ، وأن له طريقين لا طريقا واحدا كالحيوان ، وله القدرة على التمييز بين الطريقين والقدرة على اختيار أحد الطريقين :
( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)(84).
وسرت كذلك عدوى الانغلاق في حدود ما تدركه الحواس ، وحصر المعرفة في حدود المحسوس ، أو المعقول الذي يشهد له المحسوس التجريبي ، أي " العقلانية التجريبية " التي تنكر عالم الغيب ، وتهمل من عالم الشهادة ذاته ما يخرج من دائرة التجربة المحسوسة .. فقام من يفسر الجن والملائكة بأنها انعكاس روح الشر وروح الخير عند الإنسان ، ولا وجود لها في الحقيقة ، ويفسر معجزة انفلاق البحر بعصا موسى على أنها من أثر المد والجزر ، ويفسر الطير الأبابيل على أنها جراثيم الجدري .. وراح غيره ينكر القيامة والبعث والحساب والجزاء ، وراح ثالث ينكر الوحي والرسالة ، وراح غيره يقول : للقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ، وللتوراة والإنجيل أن يحدثانا عنهما كذلك ، ولكن هذا وذاك لا يثبت لهما وجودا تاريخيا !!
وفي التيه تنكرنا لتاريخنا وأمجادنا ، ونظرنا إليها - في أحسن الأحوال - على أنها أحداث زمان ولّى ولن يعود .. وفي بعض الأحيان على أنها أحداث هامشية لا وزن لها في خط سير التاريخ .. وفي بعض الأحيان على أنها أحداث مخزية يتنصل من الارتباط بها " المثقف " الحق .. والمتحرر الحق .. والمعاصر الحق .. وفي جميع الأحيان على أنها أحداث ساذجة ليس فيها الذخر الحي المتدفق ، الذي يوجد في أحداث الغرب وتورايخه !!
ولا شك أن الغرب كان هو البارز في صفحة الأحداث يومئذ ، وهو القوي المتمكن الفعال المؤثر ، والأمة الإسلامية في ضعفها وتخاذلها وانحسارها مهمشة مغلوبة على أمرها في الواقع الحي الموار ، ينطبق عليها قول الشاعر :
ويقضي الأمر حين تغيب تيمٌ ... ولا يستأذنون وهم شهود !
نعم ! ولكن ما علاقة هذا بالتاريخ الماضي وأمجاده ؟! أتتغير حقائق التاريخ الماضية الثابتة الموثقة بتأثير الحاضر السيئ ؟! أتمحّى أمجاد أمة بسبب انتكاس جيل من أجيالها ؟!
حقيقة إن التغني بأمجاد الماضي على سبيل التعويض النفسي عن الواقع المنحسر ظاهرة مرضية ، لا تفترق كثيرا عن تعاطي المخدر للهروب من الواقع السيئ الذي يعجز الإنسان عن تغييره ، فيهرب منه في سبحات الخيال ..
ولكن الأمر يمكن أن يكون ظاهرة صحية لو سار في اتجاه آخر .. ذلك أن أمجاد الماضي حقائق مشهودة وليست سبحات من الخيال ، فإذا استخدمت - تربويا - لحفز الهمم المتقاعسة ، وإحياء العزة المتهاوية ، فهي رصيد حيّ يصلح لعلاج حالة اليأس التي أصابت المسلمين من جراء الهزيمة العسكرية والهزيمة النفسية . ولكن دعاة الغزو الفكري وقفوا بالمرصاد لأي محاولة من هذا النوع ، كأنما يخشون أن تؤتي تلك المحاولات ثمارها ، فيعود المسلمون إلى ذوات أنفسهم التي هجروها في وهلة الانبهار ، ويبدءوا مسيرة جديدة على هدى ذلك الماضي المجيد الذي عاشوه عدة قرون .. والغريب في الأمر أن موقفهم ذلك لم يكن صادرا من عند أنفسهم ! فقد كانت كتابات المستشرقين تصدر النغمة أول مرة ، فيتلقفها دعاة الغزو الفكري ، ويرددونها بلا وعي - أو ربما بوعي ! - لتخذيل كل من يحاول إعادة الأمة إلى مجدها القديم !(68/256)
وبدلا من ذلك كان التوجيه إلى أمجاد أوربا ! انظروا إلى التقدم العلمي ! انظروا إلى التقدم الحضاري ! انظروا إلى الرقي الفكري ! انظروا إلى الديمقراطية ! انظروا إلى الحقوق السياسية ! انظروا إلى الكرامة التي يتمتع بها الإنسان !
وأما التقدم العلمي ، والتكنولوجي ، والمادي ، والكرامة التي يتمتع بها الإنسان في المجتمعات الغربية فقد كانت كلها حقيقة .. أما الوزن النهائي لهذه " الحضارة " فقد كان أمراً مختلفا كل الاختلاف !
ولكن الأمة - في التيه - لم تستطع أن ترى السلبيات في " الحضارة " الغربية . فالعين المبهورة لا ترى إلا الأضواء ، وتعجز عن رؤية السواد الذي يحجبه الضوء اللامع ! كما أن دعاة الغزو الفكري كانوا يوجهون تلك العيون المبهورة دائما إلى الأضواء ، ويزجرونها زجرا أن تنقب بين الأضواء لتكتشف اللطخ السود !
لقد كان السواد الأعظم الذي يلقى ظله على العالم الإسلامي - والذي ينبغي أن يكون المسلمون أول من يحس وطأته - هو الاستعمار ، وما يرتكب ذلك الاستعمار من فظائع ، وما يوقعه بالمسلمين من إذلال .
ولقد كان الاستعمار هو التكذيب الفعلي لكل دعاوي الغرب في رفعة قيمه وإنسانية حضارته وإيمانه الحقيقي بما يرفعه من شعارات .. وكان واقعه الأسود قمينا أن يوقظ المسلمين من وهلة انبهارهم إلى حقيقة تلك الحضارة الزائفة ، الموغلة في الأنانية ، المسفّة في وجدانها " الإنساني " إلى الحضيض ، وأن يعودوا إلى أمجاد تاريخهم المهجورة ، ليقارنوا بين حركة الفتح الإسلامي والاستعمار الصليبي ( الذي أخفيت صبغته الصليبية كما ألمحنا من قبل ) ليعرفوا الفارق بين الأمة الربانية ، والمنهج الرباني ، والأخلاق الربانية ، وبين مناهج الشياطين ، وإن كانت بشرتهم بيضاء ، وملابسهم نظيفة ، وألفاظهم منمقة ، وعلومهم فائقة !
وإذا كان الاستعمار - بكل ظلماته ومظالمه - لم يوقظ الأمة المبهورة من غفلتها ، ولم يخرجها من تيهها ، ولم يكشف لها سوءات تلك الحضارة الزائفة ، فلم تكن الأمة لتدرك - من باب أولى - أن " أخلاقيات " الغرب ليست أخلاقيات حقيقية نابعة من إيمان حقيقي بالقيم العليا التي يكثرون الحديث عنها في آدابهم ، إنما هي أخلاق نفعية ، تمارس بقدر ما تجلبه من النفع لأصحابها ، ولكنها تتذاوب إذا تعارضت مع " المصلحة " .. والمصلحة مرتبطة بالمنفعة ، وليست مرتبطة بصلاح البشرية ، أو إصلاح " الإنسان " !
وفي التيه اتخذنا قادة أوربا كأنهم قادتنا ! ومفكري أوربا كأنهم مفكرونا ! وأدباء أوربا كأنهم أدباؤنا ، فترنمنا بأسمائهم ، ورددنا كلماتهم ، واتخذنا شعاراتهم ، وحفظنا تواريخهم ، في الوقت الذي أغفلنا فيه ذكر قادتنا ومفكرينا وأدبائنا ، وجهلنا كل شيء عنهم ، حتى الصحابة رضوان الله عليهم ، حتى الوقائع الكبرى التي جرت للمسلمين الأوائل ، وكتب تاريخ هذه الأمة بحروف من النور الوهاج !
ونسينا حركتنا العلمية التاريخية ، فلم ندرك أن المسلمين هم الذين أنشئوا المنهج التجريبي في البحث العلمي ، وهم الذين اكتشفوا كروية الأرض وقاسوا أبعادها ، وهم الذين اكتشفوا الدورة الدموية ، وهم الذين رسموا الخرائط الأولى للعالم ، وهم الذين حددوا مواقع الكواكب ومنازلها ، وهم .. وهم .. وهم .. وخيل إلينا أن العلم كله بدأ في الغرب ، وبزغ من عبقرية الغرب ، وأنه لا عبقرية إلا في الغرب !
ونسينا سمات حضارتنا .. وأنها الحضارة التي تعاملت مع الإنسان كله : جسمه وعقله وروحه ، في شمول وترابط وتوازن ، الحضارة " الإنسانية " الحقيقية ، التي فتحت قلبها للبشر كلهم بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وحتى عقائدهم .. بينما حضارة الغرب حضارة للرجل الأبيض وحده في عنجهية كريهة لا تفيء قط إلى المفهوم الرباني :
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (85) .
" كلكم لآدم ، وآدم من تراب " (86) .
وفي التيه تحول الكتاب المنزل إلى " تراث " ..
تراث ورثناه من آبائنا وأجدادنا ، كانوا - هم - يلتزمون به . ولكن لا إلزام له علينا ! نحن أمة أخرى وجيل آخر ! لسنا نحن المخاطبين به ، ولا المطالبين بتنفيذ ما فيه . غاية تعلقنا به - إن تعلقنا - أن نطرب لمن يترنم به ، وتهتز أسماعنا لجرسه .. ولكنه ليس موضع التدبر ، ولا التفكر ، ولا موضع الاستمداد في شئون الحياة اليومية ، ولا الحياة الفكرية ، ولا الحياة الاجتماعية ، ولا الحياة الاقتصادية ، ولا الحياة السياسية .. فتلك كلها صار لها مصدر آخر .. هناك .. عند القوم الذين لا يتكلمون العربية .. ولا يؤمنون بالقرآن !
* * *
ولم ينج عالم الأدب من التيه ..
وهل الأدب إلا التعبير عن كوامن النفس وخطرات العقل وتجربة الإنسان في الحياة ؟ وحين تكون هذه كلها ساربة في التيه ، فكيف يكون التعبير عنها في صورة أدبية أو فنية .. إلا أن يكون أدب التيه ، وفن الضياع ؟!(68/257)
كان أول التيه أننا حملنا أدبنا العربي كله فوضعناه على الميزان الغربي ، فاتضح لنا - ويا للأسف - أنه ليس عندنا أدب !
شعرنا كله - أو جلّه - يندرج تحت بند واحد من بنود الشعر اليوناني ، الذي هو أصل الأصول في فن القول وفن الفكر وفن الحياة .. ذلك البند هو " الشعر الغنائي " "Ly r ical Poet r y " الذي كان الرعاة يتسلون بغنائه وهم يرعون أغنامهم ، فيبثون فيه أشواقهم وأحزانهم ، وذكرياتهم وهمومهم الذاتية .. ولكن ليس عندنا ملحمة ، وليس عندنا مسرحيّة شعرية .. وليس عندنا .. وليس عندنا .. والمأساة الكبرى أنه ليس لدينا في أدبنا مأساة !
المأساة اليونانية هي أدب الدنيا والدين . هي عصارة التجربة البشرية العميقة الواصلة إلى الأغوار .. أغوار النفس البشرية ، وأغوار السنن التي تحكم حياة الإنسان على الأرض .. وخلوّ أدبنا منها عار ما بعده عار !
والمأساة اليونانية في حقيقتها - مع كل " أغوارها " ودقتها وبراعتها في الأداء الفني - هي صراع البشر مع الآلهة !
الإنسان يريد أن يثبت وجوده .. يريد أن يبرز .. يريد أن يكون فاعلا مريدا .. يريد أن يبني ويصنع البطولات والأمجاد والخوارق ( يريد في الحقيقة أن يكون إلهاً ) والآلهة تغار من الإنسان ، فتسعى إلى وضع العقبات في طريقه ، وفي النهاية تحطمه حين يصر على عزيمته ويرفض الانصياع لكيد الآلهة .. وعندئذ تحدث المأساة !
أرأيت ؟!
وأدبنا ليس فيه مأساة .. لأننا أمة سطحية لا طاقة لها بالوصول إلى الأغوار .. تعيش على هامش الحياة ولا تغوص في أعماقها .. !
وقد كنت أَدْرُسُ الأدب الإنجليزي في الجامعة ، وكانت الأصول الإغريقية تدرس لنا باعتبارها المنابع التي كان يستقي منها الأدب الأوربي فترة من الزمن غير قصيرة ، وهي كذلك المعايير التي كان يستقي منها النقّاد نظرتهم إلى الأدب وتقويمهم له ، وكنت في الوقت ذاته أستمع إلى ما يلوكه " نقّادنا " عن الأدب العربي في جملته ، فأعجب في نفسي .. كيف يمسخ الناس إلى هذا الحد ؟!
ليس دفاعاً عن الأدب العربي .. ما كان فيه وما لم يكن .. فليست هذه هي القضية ! القضية هي نحن : كيف ذابت شخصيتنا إلى هذا الحد ، فلم نعد ننظر بعيوننا ، إنما نستعير عيون غيرنا لننظر بها إلى أنفسنا ؟!
ولم أكن أديبا ولا ناقدا ..
ولكن عنّت لي ملاحظة في أثناء دراستي للأدب الإنجليزي ، وهو نموذج للأدب الأوربي عامة ، مع وجود الفوارق الذاتية بطبيعة الحال بين شعب وشعب ، وأديب وأديب ..
إن فكرة الصراع بين البشر والإله ( أو الآلهة كما صورتها وثنية اليونان ) عميقة جدا في الأدب الغربي في جميع أطواره .
كانت واضحة جدا في الأساطير اليونانية ، وبخاصة أسطورة بروميثيوس سارق النار المقدسة ، التي تروي أن الإله زيوس - إله الآلهة - خلق الإنسان من قبضة من طين الأرض وسواه على النار المقدسة ( ترمز في الأسطورة إلى المعرفة ) ثم أهبطه إلى الأرض وحيدا في الظلام ( يرمز الظلام إلى الجهل ) فأشفق عليه كائن أسطوري يسمى بروميثيوس ( لعله يرمز إلى الشيطان والله أعلم ) فسرق له النار المقدسة من الإله ( يرمز إلى كون الإنسان بدأ يتعلم ) فغضب الإله على الاثنين معا ، " بروميثيوس " سارق النار المقدسة ، و" إيبيميثيوس " الإنسان الذي خلقه من طين الأرض ، فوكل ببروميثيوس نسراً أكل كبده طوال النهار ، وفي الليل تنبت له كبد جديدة فيأتي النسر في الصباح ليأكل كبده طوال النهار . هكذا في عذاب أبدي .. أما إيبيميثيوس الذي عجز الإله عن استرداد النار المقدسة منه ( يرمز ذلك إلى أن المعرفة لا يمكن سلبها من الإنسان إذا حصل عليها ) فقد أرسل إليه امرأة تسمى باندورا ( ترمز إلى حواء ) لتؤنسه في وحدته ، ولكنه أرسل معها صندوقا هدية ، فلما فتح الصندوق إذا هو مملوء بالشرور ! فقفزت الشرور من الصندوق وملأت أرجاء الأرض !!
هكذا تصور الأسطورة الإغريقية العلاقة بين الإنسان وبين الله ! فالعلم ليس نفحة ربانية أفاضها الله على الإنسان من فضله : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) (87) .. ( عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (88) .. ( خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (89) إنما هو مغتصب اغتصابا من الإله ! والإله - بدافع الغيرة ( نستغفر الله ) - لا يريد للإنسان أن يتعلم ، ولا أن ينتفع بعلمه ، فينتقم منه هذا الانتقام الفظيع !
تلك هي بذرة " المأساة " في حياة الإنسان كما تصورها الأسطورة الإغريقية ..
وتلك - رعاك الله - هي التي تنقص الأدب العربي والأمة العربية !
ولقد تتبعت أثر الأسطورة الإغريقية في الأدب الأوربي بعد أن نزعت أوربا سلطان الكنيسة من حياتها ، وعادت إلى الأصول الإغريقية تستمد منها مفاهيم حياتها منذ عصر النهضة ، فوجدت عجبا !
عادت أوربا - في الأدب على الأقل - إلى الوثنية الإغريقية في فترة الرومانسية فعبدت " الطبيعة " إلها جديدا بدلا من إله الكنيسة الذي استعبدت باسمه الناس .. فنشأ في النفس الأوربية صراع بين الإنسان وذلك الإله الجديد ! وتحدثوا في كتاباتهم عن " صراع الإنسان مع الطبيعة " وقالوا : " الإنسان يقهر الطبيعة " !(68/258)
ثم ألهت أوربا الإنسان بدلا من الله .. فعاد الصراع مع الإله الجديد ! إما صراعا نفسيا داخل الإنسان الفرد ، وإما صراعا اجتماعيا بين بعض البشر وبعض !
لا سلام ! لا بد من وجود الصراع ..
وهو ليس ذلك الصراع الذي أذن الله به وباركه ، صراع الخير ضد الشر الذي قال الله فيه : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) (90) ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (91) .
إنما هو الصراع بين الإنسان وبين الله !
وذلك يا رعاك الله - هو الذي ينقص الأدب العربي ليكون أدبا عالميا له أغوار !
ثم تخبطت أوربا في آدابها فتخبطنا معها .. فقط من أجل ألا يفوتنا التخبط معها !
ظهرت السريالية - بعد شطحات فرويد في " العقل الباطن " و " اللاشعور " - فقلنا لا بد أن يكون لدينا سريالية .. يا للعيب .. كيف لا " نَتَسَرْيَل " معهم ؟!
وظهر اللامعقول ، فقلنا لا بد أن يكون لدينا أدب لامعقول ! وأنشأ أحد أدبائنا " الكبار " مسرحية " لامعقولة " سماها " يا طالع الشجرة " كتب لها مقدمة قال فيها : كتبت هذه المسرحية على طريقة اللامعقول لكي لا يقال عنا إنه ليس لدينا أدب لامعقول !
يا عجبا ! لقد تخبطت أوربا في " نهضتها " فلجأت إلى " العقلانية " المسرفة انتقاما من حجر الكنيسة على العقل عشرة قرون كاملة ، فأدخلت العقل في كل شيء سواء كان للعقل فيه مجال أم لم يكن .. ثم وجدت - بعد لأى - أن العقل لم يحل لها كل مشاكلها بل أنشأ مشاكل جديدة حين أُقحم فيما لا طاقة له به .. فقفزت إلى " اللامعقول " فرارا من العقلانية المسرفة .. أما نحن فما بالنا ؟! لماذا نلجأ إلى اللامعقول ؟!
ثم ظهرت الحداثة .. فقلنا لا بد أن يكون لنا أدب حداثي .. يا للعار ! أيكون أدبنا بلا حداثة ؟! ونكون متخلفين ؟!
والجوهر الحقيقي للحداثة هو تحطيم " التراث " والانفلات منه ولو إلى لا شيء !
المهم أن نحطم التراث - الذي يمثل الأغلال - ونخرج إلى الحرية والانعتاق .. وأوربا حين تصنع ذلك فهي حرة تصنع في نفسها ما تشاء . وقد يكون لها عذرها ، فالتراث عندها هو الكنيسة وخرافاتها وطغيانها وجبروتها ، وتعطيل قوى الإنسان عن العمل المثمر في واقع الأرض . فتحطيم " ذلك " التراث والانفلات منه أمر " معقول " ..
أما المسلم حين يحطم تراثه الرباني ، فماذا يبقى له إلا الضرب في التيه ؟!
هكذا كان حجم التيه الذي دخلت فيه الأمة .. واسعا شاملا ، شمل كل جوانب الحياة .. وبعبارة أخرى شمل الانحراف كل مقتضيات لا إله إلا الله ، فإن مقتضيات لا إله إلا الله تشمل كل جوانب الحياة (92) ..
( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ .. ) (93) .
ولا نقول بطبيعة الحال إن كل الناس قد لفّتهم الدوامة ، وإنه لم يبق في الأمة من يدرك مقدار الخلل الذي أصابها حين دخلت في التيه ..
كلا ! إن هذا لم يحدث قط ، ولا يمكن أن يحدث :
" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خالفهم .. " (94)
ولكن الدوامة كانت من العنف بحيث قذفت المعارضين لها فأقصتهم عن مركز التوجيه ، وهمّشتهم على جوانبها ، وأبرزت أولئك الذين تشربوا السم كله فجعلتهم هم القادة الذين يقودون .. في جميع الميادين .. في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والأدب والفن .. وفي كل شيء .
وبدا لفترة من الوقت أن الأمة قد قطعت ما بينها وبين دينها ، وما بينها وبين تراثها ، وما بينها وبين تاريخها .. وأنها اتخذت طريق أوربا .. ولن تعود !
ولكن الحقيقة أن الأمة كانت تعيش بشخصية مزدوجة ..
فإذا استثنينا أولئك الذين انسلخوا تماما من دينهم وتراثهم وتاريخهم ، وأعلنوا انسلاخهم ، وتفاخروا به ليكونوا - في وهم أنفسهم - " مفكرين أحرارا " كمفكري أوربا الأحرار .. F r ee Thinke r s (95) .
وإذا استثنينا من الجانب الآخر الذين ثبتوا في مكانهم على وعي بدينهم وتراثهم وتاريخهم ، وتشبثوا به ، ولم يتزحزحوا عنه ، وإن غُلبوا على أمرهم فصمتوا ، أو ضاعت أصواتهم في هدير الدوامة المدوى ، الذي لا يكاد الإنسان يسمع فيه حتى نفسه !
إذا استثنينا هؤلاء وهؤلاء وهم قلة من الطرفين ، فإن مجموع الأمة - الذي لفه التيه - كان يعيش بشخصية مزدوجة : بقايا الدين في العواطف والوجدان وبعض ألوان السلوك ، والفكر الوافد بضغطه العنيف المتوالي يَحْرِفُ الأفكار والمشاعر والسلوك ، ويجعل الصورة أمام الأعين مهتزة على الدوام ، لا تتبين ملامحها للرائي ، ولا يستيقن تفصيلاتها ..
ولقد عاشت أوربا من قبل فترة مماثلة ، مع فارق الدين ، وفارق التصورات ، وفوارق السلوك ..(68/259)
فحين اهتز سلطان الكنيسة ولم تعد له تلك السيطرة التي كانت له على أرواح الناس من قبل ، وبدأت " النهضة " التي ارتدت في مفاهيمها إلى التراث الإغريقي ، أو الروماني الإغريقي G r eco صلى الله عليه وسلمoman ، كان الناس - في مجموعهم - يعيشون بشخصية مزدوجة : بقايا دين ، وبدايات انسلاخ من الدين ..
ولكن هذه الحالة لا يمكن أن تستمر ..
فرويدا رويدا لا بد أن تتغلب إحدى الشخصيتين على الأخرى حتى تمحوها ، أو في القليل تخفيها في ظلها ..
وحدث ذلك في أوربا بالفعل . وكما كان متوقعا من أحوال أوربا ظلت الشخصية المنسلخة من الدين تقوى وتقوى ، حتى محت الشخصية المتدينة تماما ، أو في القليل أخفتها في الظل ..
وكان المتوقع للأمة الإسلامية أن تمر بذات الظاهرة ، ظاهرة ازدواج الشخصية لفترة من الزمن ، ثم تتغلب إحدى الشخصيتين على الأخرى في النهاية .
وبالفعل خاضت الأمة التجربة ، وقطعت فيها شوطا غير قصير ..
ثم بدأت إحدى الشخصيتين تتوارى .. وبدأت الأخرى تظهر وتبرز . ولكن الأمر كان على غير ما توقع الكثيرون ! كان مخالفا تماما لما وقع في أوربا .. !
كانت الشخصية التي بدأت تبرز هي الشخصية العائدة إلى الإسلام !
الصحوة المباركة
جاءت الصحوة على غير توقع من كثير من الناس ، سواء منهم من كان يتمناها في قرارة نفسه ، ومن كان يرجو ألا تحدث أبد الدهر !
كانت الأمة قد أوغلت كثيرا في التيه ، وبعدت كثيراً عن خط الإسلام .
فأما الصليبيون والصهيونيون ، الذين كانوا يخططون منذ مائتي سنة على الأقل لإبعاد الأمة عن دينها فقد كانوا يظنون أنهم أفلحوا تماما في الفضاء الأخير عليها .. وكان لديهم ما يسوّغ هذا الظن مما يرون من أحوال الأمة ، وسرعة انسلاخها من كل ما يمت للدين بصلة ، حتى الشعائر التعبدية لم يعد يؤديها إلا سكان الريف ، والمتقدمون في السن من أهل المدينة ، أما الشباب ، الذي أقبل على " المدنية " و " التقدم " و " التحرر " فقد هجر المسجد - كما أسلفنا - وصار همه تتبع " الفنانين " و " الفنانات " وأغاني الميوعة والرخاوة ، وأفلام السينما ، فوق انشغاله " بالصداقات " البريئة وغير البريئة مما عجت به الساحة بعد " تحرير المرأة " ..
ولم تكن الطامة في انحراف السلوك وحده ، ولكن الأخطر من ذلك كان انحراف التصورات ، فانحراف السلوك وحده مع صحة التصور والاعتقاد يمكن أن يرجع صاحبه فيصحح سلوكه ، في لحظةٍ يستيقظ فيها ضميره ، فينتهي عن المعاصي ويستقيم . أما الذي فسد تصوره واعتقاده فلماذا يرجع ، وهو يرى ما هو فيه صوابا لا خطأ فيه ، ويرى - على العكس - أن الخطأ في العودة إلى الدين ؟
وأما أذيالهم من " المثقفين " الذين تشربوا سمومهم ، وفرحوا بها ، وراحوا يفاخرون بأنهم أصبحوا " كالخواجات " في كل شيء .. تصوراتهم واعتقاداتهم وأنماط سلوكهم .. فقد ظنوا - كما ظن سادتهم - أن لن تقوم للإسلام قائمة بعد ذلك أبدا ، وأنهم هم - طلائع التحول ورواده - قد دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه ، وأنهم هم القيادة الجديدة للمجتمع ، التي ستقود المجتمع كله إلى النور .. وتخرجه من الظلمات ..
وكان ظن هؤلاء وهؤلاء مبنيا أساسا على التجربة الأوربية ..
فتلك أمة كانت متدينة في يوم من الأيام ، وكان الدين حياتها وفكرها ومرجعها الذي ترجع إليه في أمورها .. ثم تحولت عنه ، ونسيته كأن لم يكن قط ، وأحالته إلى متحف التاريخ ، وَوُلِدَتْ ميلادا جديدا لا علاقة له بأوضاعها السالفة ..
وهذه أمة كانت متدينة كذلك في يوم من الأيام ، وكان الدين حياتها وفكرها ومرجعها .. ثم أخذت تتحول عنه بذات الوسائل وذات الأفكار التي جعلت أوربا تخرج من دينها ثم تنساه .. فما الذي يمنع أن تكون النتيجة هنا مثل النتيجة هناك ؟!
وهنا أخطئوا التقدير .. !
نقول ابتداء إن الله شاء للأمة الإسلامية غير ما شاء لأوربا .. والذي يكون بالفعل هو ما يشاؤه الله ، لا ما يشاؤه العبيد ..
ولكنا نقول كذلك إن قدر الله يجري من خلال سنن وأسباب ..
فما الذي اختلف في الأوضاع هنا عن الأوضاع هناك ، فجعل النتيجة هنا غير النتيجة هناك ؟!
أمور كثيرة في الحقيقة ، لم يدركها الصليبيون والصهيونيون وأذيالهم من " المثقفين " .. ولم تلتفت إليها الأمة ذاتها إلا بعد أن بدأت طلائعها تخرج من التيه
كان هناك أولا فارق الدينين .. وهو عظيم .
هنا دين الله الحق ، الذي حفظ الله كتابه وسنته ، ومهما انحرف الناس عنه في وقت من الأوقات ففي إمكانهم أن يعودوا إليه ، لأن المرجع موجود ، لم يحرف ولم يبدل ، ولم تمتد إليه يد بالتغيير ؛ وهناك دين لم تعرف أوربا أصله في واقعها القديم ولا في واقعها الحديث ، فالكتاب المنزل حُرف وبدل ، واستبدلت بعقيدة التوحيد المنزلة من الله على نبيه عيسى عليه السلام عقيدة أخرى ما أنزل الله بها من سلطان ، جعلت الواحد ثلاثة ، والثلاثة واحدا ، وأنشأت خليطا متناقضا لا تسيغه العقول ، فضلا عن فصل العقيدة عن الشريعة وتقديم الدين للناس عقيدة بغير تشريع .
وكان هناك ثانيا فارق الرجال الذين حملوا الدين وعلموه للناس .(68/260)
فهنا علماء وفقهاء ، ورجال صالحون أتقياء ، يدعون إلى دين الله بالقدوة والموعظة الحسنة والعلم والفقه ، فيتعلم الناس الدين على أيديهم ، ويقتدون بهم على بصيرة ، ويمارسون الدين على وعي بأن هؤلاء الرجال معلمون ومربون ، وليسوا وسطاء بين العبد ومولاه .. وهناك " رجال دين " .. كهنة يقومون بالوساطة بين العبد والرب ، ويحتكرون تفسير الدين ، فتظل العقول مغلقة عن حقيقة الدين ، لا تعرف إلا ما يقوله لها هؤلاء .. وهؤلاء لا يقولون ما يشفي الصدور ، ويحتفظون لأنفسهم بمكانة زائفة في نفوس أتباعهم على زعم أنهم هم الذين يعرفون " الأسرار " ، بينما الحقيقة أنهم لا يزيدون علما بها عن أي شخص آخر ، لأنها - بطبيعتها - غير قابلة للفهم ، وغير قابلة للتصديق !
وكان هناك ثالثا فارق الواقع التاريخي .. وهو فارق ضخم .
فلدى المسلمين واقع تاريخي طبق فيه الدين بتمامه ، فكان أروع ما عرفته البشرية في تاريخها كله .. ذلك عصر النبوة والخلافة الراشدة . ثم واقع تاريخي امتد بعده عدة قرون ، وقعت فيه انحرافات وتجاوزات ، ولكن بقي فيه من حقيقة الدين ما أنشأ حضارة رائعة ، وحركة علمية فائقة ، وتمكنا في الأرض في جميع المجالات : السياسية والحربية والعلمية والفكرية والخلقية والاقتصادية والاجتماعية ، ملأ سمع الدنيا وبصرها ، ووعاه التاريخ .. وعند أوربا في مقابل ذلك - باعترافهم - ظلمات القرون الوسطى المظلمة ، المرتبطة في حسهم بسيطرة رجال الدين وطغيانهم الروحي والمالي والسياسي والفكري والعلمي .. وفي جميع الميادين .
وهذه الأمور وحدها كافية لجعل النتيجة هنا غير النتيجة هناك .
فالدين الحق في يسره وبساطته ، ومخاطبته لكيان الإنسان كله : روحه وعقله وجسمه ، وشموله لكل جوانب الحياة ، غير الدين المحرف الزائف الذي يحاول اللاهوت تيسيره فلا يزيده إلا تعقدا وعسرا ، فضلا عن كونه يشغل جانبا واحدا من الحياة ويترك بقية الجوانب في خواء .
والعلماء الفقهاء ، المعلمون المربون ، غير الكهنة المغلفين بالأسرار المحجوبة عن الناس والواقع المشرق الطويل ، غير الواقع المظلم الذي استمر عشرة قرون
فحين يعود المسلمون إلى دينهم بعد فترة من انحرافهم عنه فلا عجب في ذلك ، بل العجب ألا يعودوا إليه !
ومع وضوح الفوارق بين حال المسلمين وحال أوربا ، تلك الفوارق التي ترشح لاختلاف النتيجة هنا وهناك ، فإن الصحوة كانت مفاجأة عنيفة لكثير من الناس !
ذلك أنهم نظروا فقط إلى عوامل الهدم المبثوثة - التي جربت أول مرة في أوربا فآتت ثمارها - فظنوا انها - في ذاتها - كفيلة بهدم أي دين في الوجود !
فنشر النظريات " العلمية " الزائفة ، التي تحارب الدين والأخلاق والتقاليد ، وإنشاء مجتمع لا يمارس فيه الدين في واقع الحياة ، ويطلق فيه العنان للشهوات لتستوعب طاقة الإنسان واهتماماته بحيث ينسى ربه وآخرته ، ووضع مناهج تعليمية لا يذكر فيها اسم الله ولا اسم رسول صلى الله عليه وسلم ، وبث توجيهات في وسائل الإعلام تزين للناس متاع الأرض وتشغلهم به عن الآخرة .. كل ذلك كان كفيلا - في نظر المخططين - بالقضاء على بذرة الدين في نفوس المسلمين ، وإخراجهم من تراثهم وتقاليدهم إلى غير رجعة !
ولكنهم لم يفطنوا إلى حقيقة بدت واضحة فيما بعد ، وهي أن البذور السامة التي ألقوها لتأكل جذور الدين لم تتعمق في التربة الإسلامية كما تعمقت من قبل في التربة الأوربية ، بسبب الفوارق الهائلة بين ما هنا وما هناك !
ولم تكن هذه وحدها هي الأسباب .. وإن كانت هذه وحدها - كما أسلفنا - كفيلة بجعل النتائج تختلف ما بين هنا وما هناك ..
كانت هناك أسباب أخرى صاحبت الناس في التيه ولكنهم لم ينتبهوا لها في حينها .. ثم انتبهوا !
إن النظم المستوردة ، وإن " الزعماء " الذين استوردوا النظم لم ينجحوا في حل مشكلة واحدة من مشاكل الأمة ، برغم كل الدعاية الكاذبة ، وبرغم الجهد كله الذي بذله الطبالون والزمارون .. !
حدث تقدم شكلي في بعض الأمور .. ولكنه لا يخفي الفشل الذريع في سائر الأمور..
خرجت جنود العدو ، ولكن نفوذه السياسي والاقتصادي لم يخرج ، وفي بعض الأحيان زاد !
تعلم الناس قشورا من العلم في المدارس والجامعات ، ولكن الهوة العلمية والتقنية بينهم وبين الغرب لم تنقص .. وفي بعض المجالات زادت عدة أضعاف !
تكونت جيوش " حديثة " ، ولكن سلاحها وذخيرتها في يد الغرب ، هو الذي يقرر النوعية والمقدار ، وهو لا يعطى إلا بالقدر الذي لا ينشئ قوة حقيقية ، إنما يستنزف أموال المسلمين ، ويحتفظ لنفسه بالتفوق الجبار !
وامتلأت دور العرض وامتلأت البيوت بالبضائع " الاستهلاكية " التي تستهلك أموال الناس في أدوات الترف ، أما الإنتاج الصناعي الذي يغني الاقتصاد ، ويغني الناس عن الاستيراد ، فبعيد جد بعيد ! بل زاد الاقتصاد تدهورا ، وهبطت العملات إلى القاع !(68/261)
وفسدت الأخلاق .. لا في مجال الجنس وحده كما يتبادر إلى الأذهان حين تذكر الأخلاق .. ولكن في مجال القيم والمعايير ، فصارت القيم المادية هي المسيطرة على وجدان الناس ، وصار النفاق والوصولية عملة معتمدة في المجتمع ، وصارت أمور الناس تقضى بالرشوة ، ولا تقضى إلا بالرشوة .. وصارت الخيانة هي الأصل ، والأمانة الاستثناء !
وأخيرا جاء العسكر ليحرقوا ما بقي في نفوس الناس من خير من أي نوع .. ويبذروا الشر بذرا في الأرض كالشياطين ..
وفوق ذلك كله ضاعت فلسطين ..
* * *
يحسب بعض الناس أن الصحوة لم تكن إلا رد فعل لهذا الفشل في جميع الميادين
فشل النظم المستوردة و " الزعماء " المزيفين الذين صُنعوا على عين الغرب ، ونُصِّبوا ليقوموا بالإفساد في بلاد الإسلام .
ولا ينكر أحد أن هذا الفشل كان من المحفزات للصحوة ..
ولكن الناس ينسون أن الجذور الحقيقية للصحوة كانت سابقة على استيراد النظم وفشل الزعماء .. فقد كانت الحركة التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب لتصحيح العقيدة هي الباعث الحقيقي ليقظة العالم الإسلامي ، على الرغم من كل الجهود التي بذلت لمحاولة كبتها والقضاء عليها .
ولقد بدا - لفترة من الوقت - أن الدعوة قد حُصِرَتْ وسُدَّت عليها المنافذ فلم تعد قادرة على الامتداد .. ولكنها لم تكن دعوة ذاتية للشيخ محمد بن عبد الوهاب في داخل الجزيرة العربية حتى يسدوا المنافذ عليها ويكتموها .. إنما هي هي الدعوة التي قال الله عنها : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ..) (96) .
دعوة تمتد بما أودع الله فيها من الحق ، وما أودع فيها من القوة ، وما أودع فيها من البيان ، يحملها قلبٌ مؤمن فتشتعل في قلبه ، فتمد إشعاعها في الآفاق ..
وحين يحاربونها فقد تسكن حركتها إلى حين .. ولكنها تعود فتؤتي أكلها بأمر الواحد القهار ..
جاءت الصحوة المباركة وهدفها أن تخرج الناس من التيه الذي غرقوا فيه ، وتردهم إلى الطريق الذي تاهوا عنه في وهلة الانبهار .
بل جاءت لتنفض ما كان قد تراكم من الغبش على طريق الدعوة قبل الهزيمة وقبل الانبهار .
جاءت لترد الدين صافياً كما نزل أول مرة ، بالرجوع إلى منابعه الصافية : كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، وسيرة السلف الصالح .
جاءت لترد الدين واقعا معيشيا ، لا مجرد وجدانات في داخل القلب ، ولا مجرد كلمات تنطق باللسان ..
جاءت لتربي جيلا جديدا على مقتضيات لا إله إلا الله ..
مهمة صعبة ، ومشوار طويل .. فثمت في الطريق عقبات وعقبات ..
إن العقبات القائمة في وجه الصحوة ليست هي الحرب الخارجية وحدها كما يرى كثير من الناس ..
حقيقة إنها حرب شرسة . فقد تجمع العالم كله اليوم لحرب الإسلام : الصليبية العالمية كلها ، والصهيونية العالمية كلها ، والشرك العالمي كله ، فضلا عن عملاء الصليبية الصهيونية في داخل البلاد ، الذين يحاربون الدعوة بالحديد والنار .. بالسجن والتعذيب .. بالتشويش الإعلامي .. بكل وسائل الكيد التي تخطر على البال .
ولكن هناك عقبات أخرى لا تقل تعويقا للصحوة .. بل قد تكون أشد تعويقاً لها من تلك الحرب .
هناك الركام الذي كان قد تراكم في طريق الدعوة قبل الغزو الصليبي الصهيوني ، من انحراف في العقيدة ، وانحراف في التصورات ، وانحراف في السلوك ، جعل الإسلام غريبا في أرضه ، كما أخبر الرسو صلى الله عليه وسلم : " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ " (97) .
وهناك ركام الغزو الفكري الذي ضلل الناس في مرحلة التيه ، وتوغل في جميع الاتجاهات .
وهناك ثقل " الأمر الواقع " في حس كثير من الناس ، وتصورهم أنه غير قابل للتغيير.
وهناك عدم الإدراك الكامل من جانب الصحوة لمهمتها على وجه التحديد ، ولترتيب الأولويات في مشوارها الطويل ..
وذلك فضلا عن تشرذم الجماعات القائمة بالدعوة ، وتفرقها وتخاصمها ، وغياب القيادة الكبيرة التي تجمّع الشمل وتقود المسيرة .
ولكن الصحوة - على الرغم من ذلك كله - قد قامت بجهد كبير ..
لقد وعي شباب الصحوة الخطوط العريضة على الأقل لحقيقة المشكلة والخطوط العريضة لحقيقة الحل ..
لم يكن ما حل بالعالم الإسلامي من جمود وضعف وتخلف وانحسار نتيجة للتمسك بالدين ، كما أوهموا الناس ، وكما صدقهم كثير من الناس في فترة التيه ! إنما كان السبب بعد الناس عن حقيقة الدين !
ولم يكن الحل هو نبذ الدين واتباع الغرب فيما ذهب إليه من مذاهب .. إنما كان الحل هو العودة إلى الدين !(68/262)
أصبحت هذه القضية - في صورتها العريضة على الأقل - واضحة تماما في حس الصحوة الإسلامية ، ومنها أخذت تتسرب إلى جمهور كبير من الناس ، فلم يعودوا يصدقون ما يقوله لهم دعاة الغزو الفكري ، ودعاة العلمانية ، ودعاة " التنوير " على منهج الغرب ، بل صاروا يصرفون سمعهم عنهم ، ويتجهون إلى النداء الإسلامي ، وصارت شكوى أولئك أن الكتاب الإسلامي هو أروج الكتب في التوزيع ، وأن الدروس الإسلامية والمحاضرات الإسلامية هي أكثف التجمعات في كل مكان !
وأدرك شباب الصحوة جيدا أن لا إله إلا الله التي تدخل الجنة ، وتغير الواقع المنحرف ، وتنشئ الواقع المنشود ، ليست هي مجرد الكلمة المنطوقة باللسان ! إنما هي الكلمة ، واليقين الذي يملأ القلب ، والعمل بمقتضى لا إله إلا الله .
وأدرك شباب الصحوة أن تربية الروح واجبة ، ولكن لا على طريقة السبحات الروحية المهومة ، التي تستهلك الوجدان الديني دون أن تتحول إلى عمل وجهاد لإزالة المنكر وإقامة المعروف في مكانه .
وأدركت المرأة المسلمة في كثير من بقاع العالم الإسلامي أن الحجاب جزء من دينها فالتزمت به ، على الرغم من كل الدعاية المضادة ، والدفع المضاد ، الذي يقوم به دعاة الغزو الفكري ، والمنحلون والمنحلات ، الغارقون في حمأة الطين .
وأدرك شباب الصحوة أن الثقافة المسمومة التي تقدم إليهم في وسائل الإعلام المختلفة ليست زاداً صالحا لإنشاء الأجيال المسلمة ، وأنه لا بد من ثقافة إسلامية أصيلة ، تستمد مناهجها من التصورات الإسلامية لا من تصورات الجاهلية المعاصرة .
وأن ما يسمى بالعلوم الاجتماعية بصفة عامة ، وعلى وجه الخصوص علم التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع ، ليست علوما موضوعية تؤخذ مقرراتها قضايا مسلمة ، كما حاول الغزو الفكري أن يوهم الناس ، إنما هي " وجهات نظر " في قضايا " الإنسان " و " الحياة الإنسانية " ملونة ابتداء بمواقف أصحابها من قضية الألوهية ، وتصورهم لطبيعة العلاقة بين الكون والحياة والإنسان وبين الله ، خالق الكون والحياة والإنسان . ومن ثم فإن ما يأتي من هذه العلوم من عند الغرب مشوب بالروح المتمردة على الله ، التي تسيطر على القوم هناك ، فلا تؤخذ قضايا مسلمة ، وإنما لا بد من بديل إسلامي في كل هذه العلوم .
وأدرك شباب الصحوة أن الاقتصاد الربوي حرام حرمة لا شبهة فيها ، مهما حاول المزورون أن يزوروا من الحجج والبراهين ، وأنه وصمة عار في جبين المسلمين حين يستخدمونه ، وأنه لا بد من السعي إلى إيجاد بديل إسلامي في مجال الاقتصاد ..
وأدرك شباب الصحوة قبل هذا كله أن الحكم بما أنزل الله قضية متصلة بأصل الاعتقاد ، وأننا لا نستطيع أن نكون مسلمين إذا رضينا بتشريع يحل ويحرم من دون الله .
وسرت هذه المقررات كلها إلى جماهير الناس بخطى ثابتة ، برغم الحديد والنار .. برغم التشريد والتعذيب .. برغم الضغط الإعلامي المصوب بكل عنف ضد هذه المقررات ..
ليس هنا مجال تفصيل القول فيما قامت به الصحوة وما لم تقم به .. إنما كان حديثنا هنا عن الظاهرة في ذاتها .. ظاهرة الصحوة ..
إنها - كما نقول دائما - هي العودة إلى النبض الطبيعي لهذه الأمة . لذلك لا نعجب لكون الأمة قد عادت إلى نبضها الطبيعي ، إنما كان العجب أنها حادت عنه في وقت من الأوقات .
إن الإسلام دين الفطرة .
( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (98) .
وأيًّا كانت الأسباب التي دعت الناس إلى الزيغ في الماضي (99) ، فقد جاءت الصحوة لتردهم إلى الطريق .
جاءت قدراً ربانياً قدّره الله ، ليوقظ الأمة من سباتها ، ويردها من تيهها ، لتتسلم مهمتها في الأرض مرة أخرى ، وقد آذنت شمس الحضارة الغربية بالغروب .
إنها حدث تاريخي ، وليست مجرد سطور متناثرة على صفحة التاريخ ..
ونحن نستبشر بالصحوة المباركة على الرغم من كل عثراتها ، ومن كل العقبات المرصودة لها في الطريق .. وعلى الرغم من معرفتنا بطول الطريق ، وأنها ما تزال بعد في أول الطريق !
إنها - بحول الله - أقوى من كل العثرات ، ومن كل العقبات ..
وهذه الحرب المرصودة لها في الطريق لم تكن لترصد ، ولم يكن العالم الصليبي الصهيوني ليتجمع هذا التجمع الشرس الذي رأينا نموذجا منه في البوسنة والهرسك ، لو لم تكن الصحوة شيئا حقيقيا ماثلا في عالم الواقع ، ومبشرا بالمزيد ..
إن الأعداء يعرفون حقيقة هذا الدين :
( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ..) (100) .
ويعرفون أنه إذا استيقظ في النفوس فهو قادر على مصارعة أعدائه مهما تكن قوتهم .. وقادر بعد ذلك على التمكن في الأرض بما أودع الله فيه من قوة الحق ، ورصيد الفطرة ، وعمق اليقين .
وهذا الذي نستبشر به ، ونتوقعه في الغد المأمول .
الغد المأمول
ليس الطريق إلى الغد المأمول مفروشا بالأزهار والورد .. بل هو مفروش بالأشواك والآلام والدماء .. دماء الشهداء الذين سيسقطون في الطريق ..(68/263)
إن العالم كله اليوم مصرّ على محاولة محو الإسلام من الأرض .
وليست هذه هي المرة الأولى التي يصرّ فيها الأعداء على هذه المحاولة ، منذ بعثة صلى الله عليه وسلم إلى اليوم ، فقد جاء في كتاب الله الذي أنزل من نيّف وأربعة عشر قرنا قوله تعالى :
( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (101).
( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(102).
والضمير في الآيتين يعود إلى ذات الأعداء الذين يريدون اليوم أن يطفئوا نور الله : اليهود والنصارى والمشركين ، وعملائهم من المنافقين :
( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) (103).
( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ) (104).
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (105).
ولكن ربما كان الفرق بين المحاولة الحاضرة والمحاولات السابقة أنه في المحاولات السابقة كان بعض الأعداء يهاجمون أجزاء من العالم الإسلامي في الوقت الواحد . أما في هذه المرة فالهجوم واقع من جميع الأعداء ، وعلى العالم الإسلامي كله في وقت واحد .
وثمت فارق آخر ، ربما كان هو السبب في الحقيقة في وجود الفارق الأول : هو أن العالم الإسلامي - في مجموعه - لم يكن في وقت من الأوقات أضعف منه الآن ..
وقد تبدو الهجمة الشرسة مستغربة مع ضعف العالم الإسلامي ، واستسلامه لما يراد به عسكريا وسياسيا واقتصاديا وفكريا ، وعجزه عن رد اللطمات المتلاحقة الموجهة إليه عن يمين وشمال .
ولكن ربما يزول العجب إذا عرفت الأسباب ..
وهناك سببان اثنان على الأقل لهذه الهجمة الشرسة التي يتكاتف على توجيهها كل أعداء الإسلام ، حتى الذين بين بعضهم وبعض عداوات حادة كالتي بين الصرب والكروات ، تمنع التقاءهم على أي شيء .. إلا محاربة الإسلام !
السبب الاول أن أعداء الإسلام الذين تآمروا ضده خلال القرنين الماضيين ، وخططوا وأحكموا التخطيط ، ونفذوا بدقة كل مخططاتهم ، كانوا قد ظنوا أن تخطيطهم سيقضي على الإسلام القضاء الأخير ، وأنهم سيرتاحون إلى الأبد من ذلك العدو الذي دوخهم خلال التاريخ . وكان القضاء على الدولة العثمانية بالذات ، وتفتيت تركة " الرجل المريض " إلى دويلات هزيلة ضعيفة فقيرة وفوق ذلك متعادية متنابزة ، أكبر نصر انتصروه على الإسلام في التاريخ كله ، ففركوا أيديهم سرورا بنجاحهم ، وجلسوا يقطفون الثمار ..
وفجأة برزت الصحوة !
ولك يكن إمكان حدوث اليقظة غائبا عن أذهانهم ، بل كان له مكانه الواضح في تخطيطهم ..
في عام 1907م ظهر تقرير لورد كامبل . وهو أحد اللوردات البريطانيين ، كانت بريطانيا ( العظمى يومئذ ! ) قد عهدت إليه بدراسة ما كان قد بدأ يقلق الدول الاستعمارية من بوادر اليقظة في المنطقة العربية من العالم الإسلامي . فقام بالمهمة ودرس الأمر ، وخرج بتقريره الموجه إلى الدول الإستعمارية كلها في الحقيقة ، وإلى بريطانيا وفرنسا بصفة خاصة ، بوصفهما المهيمنتين الرئيسيتين على القسم العربي من العالم الإسلامي ، فقال " هناك شعب واحد يسكن من الخليج إلى المحيط ، لغته واحدة ، ودينه واحد ، وأرضه متصلة ، وتاريخه مشترك . وهو الآن في قبضة أيدينا ، ولكنه أخذ يتململ ، فماذا يحدث لنا غدا إذا استيقظ العملاق ؟ " . ثم أجاب على السؤال بما يطمئن " أصحاب الشأن " فقال : " يجب أن نقطع اتصال هذا الشعب بإيجاد دولة دخيلة ، تكون صديقة لنا وعدوة لأهل المنطقة ، وتكون بمثابة الشوكة ، تخز العملاق كلما أراد أن ينهض !! " (106).
تلك هي إسرائيل .. مؤامرة صليبية صهيونية واضحة ضد الإسلام ..
ولكن " أصحاب الشأن " لم يكتفوا بذلك في مواجهة الصحوة المتوقعة التي عبر عنها " كامبل " بأن العملاق قد " أخذ يتململ " . فقد ربوا " زعامات " و" قيادات " تستوعب الغضبة إذا حدثت في نهاية الأمر على الرغم من كل الاحتياطات ، وتحولها إلى زَبَدٍ ، ينتشر على السطح ، ثم ينفثئ بعد فترة دون أن يخلف شيئا على السطح ! زعامات " سياسية " وقيادات " شعبية " تملأ الجو عجيجا ، ثم لا تمس في النهاية " مصالح " أصحاب الشأن ، بل قد تزيدها رسوخا ، والشعوب لاهية تصفق للقادة " الأبطال " وهو يُسْلِمُون بلادهم للدمار !
وهذا بجانب السينما والمسرح والإذاعة ( ولم يكن التليفزيون قد ظهر بعد ) والصحافة ومناهج التعليم .. وتحرير المرأة (107)!
ومع ذلك كله قامت الصحوة !
فماذا تتوقع من الذين كانوا قد خططوا ، وظنوا أن تخطيطهم قد قضى على الإسلام بغير رجعة ؟!
أما السبب الثاني - المتصل بالصحوة كذلك - فهو ما ألمحنا إليه من قبل ، من معرفتهم بحقيقة هذا الدين ، وبأن هذه الصحوة إن استقرت في القلوب فلا سبيل إلى وقفها حتى تأخذ مداها ..(68/264)
من هذين السببين معاً : الحنق من فشل مخططات قرنين من الزمان أو أكثر ، والفزع على " المصالح " التي تهددها الصحوة الإسلامية إذا استمرت في الامتداد ، نستطيع أن ندرك السعار المحموم الذي يجري في الأرض كلها لضرب الحركة الإسلامية .
ولو كانت هذه " المصالح " مشروعة ، أو معقولة ، فما كان لها أن تخشى من الإسلام من شيء ، والإسلام هو الذي أمَرَ بالعدل مع أهل الكتاب ، فوجه الله ورسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : (.. وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ(108) وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ..) (109).
ولكن " مصالحهم " التي يعلنونها أحيانا ويسرونها أحيانا هي ألا يكون إسلام في الأرض .. ودون ذلك تقف مشيئة الله .
(.. وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (110) .
إذا فهمنا سر الهجمة الشرسة ، وأدركنا الإصرار المحموم على ضرب الحركات الإسلامية لإبادتها ، فما الذي نتوقع من أمرها في الغد القريب أو الغد البعيد ؟
نتوقع كل الخير .. !
ولا نقول هذا من باب تصديق الأمانيّ ! إنما نقوله على ثقة بوعد الله ، وعلى ضوءٍ من السنن الربانية التي يجريها الله ويُجْري بها أمور البشر في الأرض .
فأما الغرب الصليبي الصهيوني وعملاؤه فإنهم يعملون بحماقة شديدة ضد " مصالحهم " !
إنهم بهذا السعار المحموم الذي يمارسونه في محاولة إبادة الحركات الإسلامية ، يربون الجيل الذي لن يقدروا عليه ! ويتم ذلك في غفلة منهم ، بتدبير رباني ، كأنما قدر الله يسوقهم سوقا لإخراج ذلك الجيل على أيديهم !
إن الانفجار يحدث دائما حين يستوي الموت والحياة عند الناس ، أو حينما يكون الموت أيسر على الناس من الحياة !
وكل الانفجارات التي حدثت في التاريخ سبقها سعار محموم لإبادة تيار متصاعد ، ظن الطغاة أنهم يستطيعون القضاء عليه بالقهر والتعذيب !
والذي يجري في الأرض كلها اليوم من محاولات لإبادة المسلمين ، سواء في البوسنة والهرسك ، أو كشمير ، أو فلسطين ، أو بورما ، أو طاجكستان ، أو داخل سجون التعذيب .. لن تكون نتيجته إلا إخراج أجيال أصلب عودا ، وأكثر عنادا ، أطول نفسا ، وأكثر وعيا بحقيقة المعركة التي تدور في الأرض بين دين الله وأعداء الله .
وتلك النتيجة هي - بيقين - ضد " مصالح " أصحاب الشأن !
ولو تعقلوا ما فعلوا ذلك .. ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ) (111).
إن الإسلام قادم ، من أيّ طريقيه جاء ، كما قلنا في كتاب " دروس من محنة البوسنة والهرسك " ، إما بتيار هادئ يعمل في رزانة وتؤدة ، ليصل على مهل إلى أهدافه ، وإما بتيار غاضب صاخب ، يلجأ إلى العنف ويستعجل الطريق !
ونحن - كما قلنا في ذلك الكتاب - نفضل ألف مرة التيار الهادئ ، الذي يعمل في رزانة وتؤدة ، ولو استغرق عمله بضعة أجيال ! ولكن ما حيلتنا في حماقات الغرب ، وحماقات إسرائيل ؟!
إذا كان هذا حال الأعداء .. فما حال الصحوة ؟
إذا راجعنا مسار الصحوة - كما ينبغي لنا أن نفعل - فسنجد - كما ألمحنا من قبل - أنها قامت بجهد كبير ، تبدو آثاره واضحة على الساحة . ولكنها تعجلت كثيرا في بعض الخطوات ، وأبطأت كثيرا في بعض المجالات ، وتركت بعض المجالات فلم تبذل فيها الجهد المطلوب ..
وليس هنا مجال التفصيل في ذلك كله (112) . ولكن لا بد من إشارات سريعة توضح ما نقول .
قامت الصحوة بجهد " إعلامي " كبير ، على الرغم من حرمانها المتعمد من معظم وسائل الإعلام !
والوعي الإسلامي القائم عند الجماهير اليوم ، مرده - بعد فضل الله - إلى الصحوة المباركة ، وإلى الجهد الدائب الذي بذلته خلال أكثر من نصف قرن في تعريف الناس بالإسلام .
وذلك جهد لا بد أن يذكر ..
فلو أننا راجعنا حال المسلمين في القرن الماضي ، ومدى الغربة التي لفّت الإسلام في طياتها ، حتى أصبح غريبا على أهله ، وأصبح ما يتمسكون به على أنه الإسلام كأنه دين آخر غير دين الله المنزل .. إذا راجعنا تلك الحال ، وقارناها بالحاضر الذي تمور به الساحة مورا ، أدركنا على الفور مدى الجهد الذي بذلته الدعوة في هذا المجال .
ولقد كان أبرز ما قامت به الصحوة في هذا المجال هو العمل لإزالة آثار الفكر الإرجائي والفكر الصوفي والتفلت من التكاليف ، أو في القليل تخفيف آثارها .. وقد كانت هذه الثلاثة من أشد ما أصاب الأمة الإسلامية بالضعف والخذلان .(68/265)
وكان من أبرز ما قامت به كذلك التركيز على معنى لا إله إلا الله ، وأنها ليست مجرد الكلمة المنطوقة باللسان ، وأن الإيمان ليس قولا معزولا عن العمل ، إنما هو - كما قال السلف - قول وعمل .. عمل بمقتضيات لا إله إلا الله في الواقع المشهود .. وقد كان حصر الإيمان في نطق لا إله إلا الله ، أثرا من أثار الفكر الإرجائي من ناحية ، والرغبة في التفلت من التكاليف من ناحية ، والتضليل الذي قامت به أجهزة الغزو الصليبي الصهيوني من جهة ثالثة ، لتخدير المسلمين عن حقيقة لا إله إلا الله ، وصرفهم عن أي محاولة جادة لترجمتها واقعا حيا متحركا كما هي حقيقتها التي نزلت بها من عند الله .
كذلك كان من آثار الصحوة إزالة الانبهار بما عند الغرب ، أو - في القليل - التقليل من آثاره على أرواح الناس .. وقد كان هذا الانبهار من أشد عوامل عبودية الناس للغرب المستعمر ، وتخذيلهم عن مجرد التفكير في مقاومته حتى داخل أفكارهم ومشاعرهم ، فضلا عن مقاومته في الواقع المحسوس .
ومن ميزات الصحوة هنا أنها لم تناد بإغلاق الأبواب على كل ما يجيء من عند الغرب ، ولم تدع إلى العزلة عن ركب الحياة الحيّ ، إنما نادت بضرورة الانتقاء - على بصيرة - مما عند الغرب ، وأخذ ما لا بد من أخذه ، وترك ما لا بد من تركه ، والاستفادة بما أخذ بتطويعه للمنهج الإسلامي ، وليس بتطويع الإسلام لمناهج الغرب ..
ويحسب للصحوة كذلك عملها الضخم في ميدان المرأة .. وقد كان ميدان المرأة من أكبر المجالات التي عمل فيها الغزو الفكري ، لإخراج المجتمع كله من الإسلام .. فالأم هي التي تبذر في أطفالها في سنيهم الأولى مبادئ العقيدة ومبادئ الفضيلة ومبادئ الأخلاق ، فإذا أفسدت الأم وهي بعد فتاة ، فنزعت حجابها ، وأهملت عبادتها ، وشُغِلَتْ عن ربها وآخرتها بالجري وراء " المودة " وأدوات الزينة والخروج من البيت ابتغاء الفتنة والتبرج ، فلن تربي أبناءها حين تصبح أُماًّ على شيء من العقيدة ولا الفضيلة ولا الأخلاق ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه . وقد بذل الغزو الصليبي الصهيوني جهدا جبارا في هذا المضمار ، بحيث يصبح من المتعذر على المرأة المسلمة الملتزمة المتحجبة أن تعيش في المجتمع السافر المتفسخ المتسيب الذي يعج بألوان الفساد .. لذلك ينظر دعاة الغزو الفكري اليوم في ذهول بالغ وحنق محموم إلى ظاهرة الحجاب ، التي لم تشمل فتيات الجامعة فحسب ، بل وصلت إلى " الفنانات " ، آخر من يتصور أن يعدن إلى الله !
كل ذلك يحسب - من بعد فضل الله ومَنِّه - لجهود الدعوة في أكثر من نصف قرن .
ولكن الدعوة تعجلت في أمور ، ظناً منها أنها أصبحت كفئاً لتلك الأمور ..
تعجلت في الصدام مع السلطة ، وتعجلت في طلب الوصول إلى الحكم .
إن الصدام بين السلطة والدعوة - في فترة الاستضعاف - لا يجوز أن يجيء من جانب الدعوة ، إنما هو يأتي دائما من جانب السلطة . وحين تضرب السلطة الدعوة الإسلامية وهي لا تصنع شيئا إلا أن تبيّن للناس حقيقة لا إله إلا الله ، فسيعرف الناس - بشهادة الواقع - مكان تلك السلطة من الإسلام ، وموقفها من دعوة لا إله إلا الله .
أما حين تجد الفرصة لاستدراج الحركات الإسلامية إلى معركة غير متكافئة ، فهي تنجح في تلبيس الأمر على " الجماهير " فتوهمها أنها لا تحارب الإسلام ، وإنما تحارب " التطرف " .. فيتأخر بذلك وعي الجماهير بالقضية ، وهو عنصر مهم في الحركة لا غنى عنه.
كذلك التعجل في طلب الوصول إلى الحكم .. إنه قائم على الانخداع بحماسة الجماهير .. والحماسة الوجدانية شيء ، وتجنيد الناس أنفسهم لقضية لا إله إلا الله شيء آخر مختلف .. شيء تصنعه التربية ولا تصنعه الخطب الحماسية ولا الكتب ولا المحاضرات !
والتربية هي الجانب الذي نقول إن الصحوة قد أبطأت فيه ، مع أنها هي العصب الحيّ للدعوة ، الذي يضمن - بعد فضل الله - ثبات القلوب على الحق ، واستقامتها على الطريق ، سواء في مرحلة الدعوة أو في مرحلة التمكين حين يمنّ الله بالتمكين .
إن الحماسة للإسلام جميلة .. ويحسب للصحوة بلا شك تغييرها الصورة العامة للمجتمع - وللشباب خاصة - من الصورة اللاهية العابثة ، المتفلتة المتسيبة ، اللاهثة وراء الغرب ، الغارقة في دنس التصورات ودنس السلوك ، إلى صورة فيها التزام وتعبد ، وانشغال عن اللهو وتوجه إلى الله ، وحماسة للدعوة .
ولكن هذه هي البداية في حين ظن كثير من الدعاة أنها الغاية ..
ما بين الحماسة الملتهبة للإسلام وبين تحقيق متطلبات الإسلام في النفس والواقع وتجنيد الناس أنفسهم له بوعي وبصيرة ، مسافة طويلة تغطيها التربية البطيئة الهادئة الهادفة المستنيرة ..(68/266)
ولا يمكن بطبيعة الحال أن تُرَبّي أمة بكاملها دفعة واحدة ، ولا يمكن - مهما كان جهد التربية - أن يتربى كل فرد في الأمة على النمط المطلوب . فإن هذا لم يحدث في أي مجتمع من مجتمعات التاريخ ، ولا حتى في المجتمع الذي أنشأ أعظم مرب في تاريخ البشرية ، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان في ذلك المجتمع منافقون ، ومُبَطِّئون ، ومثّاقلون ، وقوم ضعاف الإيمان ، وقوم خفاف الأحلام تستطيرهم الشاردة والواردة كما جاء وصفهم جميعا في كتاب الله :
( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (113).
( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ) (114) .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيل ٌ) (115)
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) (116).
( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً ) (117) .
نعم .. ولكن القاعدة التي رباها رسول ا صلى الله عليه وسلم على عينه خلال ثلاثة عشر عاما في مكة وعشر سنوات في المدينة كانت من القوة والصلابة ورسوخ الإيمان بحيث حملت هؤلاء جميعا وتحركت بهم لتحقيق الأهداف التي أخرج الله هذه الأمة من أجلها :
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (118) .
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(119) .
وبناء القاعدة الصلبة ينبغي أن يكون هو الشاغل الأول والأكبر للحركة الإسلامية قبل أن تتحرك في أي اتجاه .. وهذه القاعدة - بعد إنشائها بالمواصفات المطلوبة - ستكون هي القيادة التي تقود الأمة للخروج من التيه ..
إذا كان هذا هو حاضر الدعوة ، وحاضر العالم المتكتل اليوم في سعار محموم للقضاء على الإسلام .. فما المتوقع في الغد ؟
المتوقع - من خلال هذا الاضطهاد العالمي للإسلام - أن تنضج الدعوة !
وتلك سنة ربانية يجريها الله من خلال حماقات الطغاة في كل التاريخ :
( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) (120) .
ستتعلم الحركات الإسلامية من خلال الواقع أن الأعداء لا يحاربون جماعة بعينها ، لأسباب كامنة في تلك الجماعة ، إنما يحاربون الإسلام كله ، في أي صورة من صوره ، والمتوقع - من فضل الله - أن يقرب هذا الأمر بين الجماعات المتباعدة ، ويزيل بالتدريج ما بينها من خلافات ، حين تجد نفسها كلها في خندق واحد ، يحيط به الأعداء من كل جانب ..(68/267)
وستتعلم الحركات الإسلامية من خلال الواقع أن " معرفة " مقتضيات لا إله إلا الله شيء والقيام بتحقيقها في داخل النفس ثم في واقع المجتمع أمر آخر مختلف ، ومن ثم فإن تعريف الناس بمقتضيات لا إله إلا الله - على كل ضرورته وأهميته - لا يكفي وحده ! إنما المطلوب تحقيق هذه المقتضيات في النفس وفي الواقع ، وتلك مهمة التربية التي لا غنى عنها ، وأنه بغير هذه التربية - في القاعدة على الأقل - تظل الحركة شعارات بغير واقع ، فلا تستحق عند الله التمكين ، ولا تقنع الناس بإمكان التغيير !
وستتعلم الحركات الإسلامية من خلال الواقع أنه لا بد لها من وعي سياسي ، يمنع عنها الانخداع بكل مدّعٍ يدعي أنه تاب وأناب ، وأصبح قائدا للمسلمين ! أو يتظاهر بأنه واقف ضد أمريكا أو إسرائيل وهو على رأس العملاء المتآمرين ! ووعي حركي يمنع عنها الوقوع في المنزلقات التي يستدرجها إليها الأعداء ، ويضبط إيقاع حركتها مع مقتضيات الأحداث ..
وحين تنضج الحركة فكريا ، وأخلاقيا ، وحركيا ، فإنها ستكون أصلب من أن يؤثر فيها كيد الأعداء ، لأنها ستكون على الشرط الذي اشترطه الله :
( إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) (121) .
أما الأعداء فلهم شأن آخر ..
إنهم اليوم - في كل الأرض - طغاة متجبرون يكيدون للإسلام بكل ما يملكون من وسائل الكيد .. والقوة السياسية والعسكرية والإقتصادية والعلمية والتكنولوجية في أيديهم ..
وقد علمتنا وقائع التاريخ - التي هي تحقيق السنن الربانية في واقع الأرض - أن هذا كله بغير " قيم " لا يعيش ! وأن هذه الوسائل كلها تمكّن للباطل فترة من الوقت - بحسب سنة ربانية - ثم ينهار الباطل في النهاية :
( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (122).
وقد انهار الباطل في نصف الأرض ، وانهياره في بقية الأرض قاب قوسين ..
والبديل الذي يحمل القيم هو الإسلام .. والقيمة العظمى فيه هي الإيمان بالله على بصيرة ، وضبط الحياة بالضوابط الربانية ، وتحقيق المنهج الرباني الخيّر المبارك في واقع الحياة ..
ولكن لا بد من جهد يبذله البشر لتحقيق ذلك كله . فبغير جهد وجهاد لا يتحقق شيء في واقع الأرض ..
وفي الغد المأمول يقوم بهذا الجهد فريقان من البشر ، أحدهما تمثله الصحوة القائمة اليوم في العالم الإسلامي ، التي تزداد قوة ونضجا بما يقع عليها من المذابح والاضطهاد .. حسب سنة الله . والفريق الآخر الذي لا يحسب حسابه كثيرا اليوم ، وهو قدر من أقدار الله ، يجيء في وقته المقدور عند الله ، هو المسلمون من عالم الغرب ذاته ، الذي يتزايد عددهم باستمرار ، وهم من مثقفي الغرب النشيطين في حقل الدعوة ، والنساء منهم خاصة ، اللواتي يتحدين بواقعهن كل مفتريات الغرب عن ظلم الإسلام للمرأة ، ويعلنّ - بواقعهن - أن أعظم تكريم للمرأة هو الذي يقدمه الإسلام .
وفي الوقت المقدور عند الله تقع المعركة الفاصلة التي تتزايد اليوم إرهاصاتها .
( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً ) (123).
( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً ) (124).
" لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ، فيقتلهم المسلمون ، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر ، فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم ، يا عبد الله ! هذا يهودي خلفي ، فتعال فاقتله .. " (125).
وعندئذ يتغير التاريخ .. ويدخل الناس في دين الله أفواجا كما دخلوا أول مرة ـ ويقدر الله جولة أخرى ممكّنة للإسلام في الأرض . ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (126) .
=====================
1. سورة ال عمران : 110
2. سورة النور : 55
3. سورة المائدة : 26
4. سورة المائدة : 20 _ 26
5. سورة البقرة : 143
6. سورة البقرة : 208
7. سورة الأعراف : 16 - 17
8. سورة الأنعام : 153
9. سورة النور : 55
10. سورة يوسف : 108
11. احتفلت أسبانيا في عام (1992م) بمرور خمسمائة سنة على طرد المسلمين من الأندلس و بمناسبة هذه الذكرى بالذات اختيرت مدريد مكانا " للمفاوضات " بين العرب و اليهود في قضية فلسطين .. أي قضية طرد المسلمين من الأندلس الثانية ! ووافق العرب !
12. ومع ذلك ندرس نحن لأبنائنا أن هذه الرحلات كانت رحلات استكشافية "علمية" ! ونقول لأبنائنا إن "المتبربرين" لم يقدروا الروح العلمية التي دفعت ماجلان للقيام برحلته فقتلوه !!
13. انظر كتاب "الإسلام على مفترق الطرق" ترجمة عمر فروخ ص 58-59.
14. سورة البقرة : 120
15. سورة البقرة : 146
16. سورة البقرة : 146
17. إدارة الثقافة العامة بوزارة التعليم العالي بالقاهرة .
18. أثار هذه الكتاب بالذات حنق أكثر من واحد من المستشرقين ، لأنه يرد على الشبهات التي حاولوا جاهدين أن يصرفوا الناس بها عن التمسك بالإسلام ، ولأنه يكشف للناس عن مساوئ الحضارة الغربية التي ينادي بها أولئك المستشرقون بديلا من الإسلام.
19. سورة آل عمران : 165- 166
20. سورة آل عمران : 172- 174
21. سورة آل عمران : 159
22. سورة الأنفال : 59-60
23. سورة الملك : 15
24. سورة القصص : 77
25. أخرجه الشيخان .
26. انظر على سبيل المثال كتاب "واقعنا المعاصر" .
27. سورة آل عمران : 139.
28. هذه النقطة لم تأخذ حظها من الدراسة العلمية الواجبة لها ، وهي تأثير هزيمة الصليبيين أمام المسلمين في نهضة أوربا ، وقيام هذه النهضة على أسس مستمدة من الإسلام . والسبب أن الأوربيين نادرا ما يعترفون بذلك ، وأن المسلمين في هزيمتهم الحالية لا يصدقون أن الإسلام كان له ذلك الأثر في حياة أوربا ! وهي قضية جديرة بدراسة علمية موسعة .
29. سورة آل عمران : 139
30. يزعمون - بغير سند حقيقي - أن عيسى عليه السلام قال لحواريه بطرس : أنت بطرس ، وعلى هذه الصخرة تبنى كنيستي ، وما ربطته في الأرض لا يحل في السماء ، وما حللته في الأرض لا يربط في السماء !! وهو قول لايمكن أن يصدر عن نبي من أنبياء الله .(68/268)
31. سورة التوبة :31.
32. سورة الحجر : 9.
33. رواه أبو داود والترمذي.
34. يقول اليهود في تلمودهم " الأمميون هم الحمير الذين خلقهم الله ليركبهم شعب الله المختار ، وكلما نفق منهم حمار ركبنا حمارا آخر " فتلك نظرتهم إلى "الأمميين " أي كل الأمم غير اليهود ، والديمقراطية الرأسمالية هي إحدى وسائلهم التي يستخدمونها لتسخير الأمميين لمصالحهم . اقرأ إن شئت فصل " الديمقراطية " من كتاب " مذاهب فكرية معاصرة " .
35. مما يلفت النظر أن ما تسميه الديمقراطية " حقوقا " للشعب ، في الرقابة على أعمال الحاكم ، تسميه الشريعة " واجبا " مفروضا على الأمة.
36. تم استيراد الديمقراطية أولا ثم الاشتراكية والآن عود للديمقراطية بشرط ألا يليها المسلمون !.
37. كانت الثورة في منشئها إسلامية ، فجاء سعد زغلول فحولها إلى وطنية علمانية تحت شعار " الدين لله والوطن للجميع " ! انظر إن شئت قصة سعد زغلول في كتاب "واقعنا المعاصر" ص 311 - 324 .
38. ثار الشعب التركي أيضا - أو أثير - وكان نصيبه بعد ثورته على يد أتاتورك أقسى بكثير مما اشتكى منه أثناء حكم السلاطين!
39. قال اللورد أللنبي - قائد الجيش العربي الثائر - لولا معاونة الجيش العربي ما استطعنا أن نتغلب على تركيا !!
40. سورة إبراهيم : 24 - 25 .
41. كانت آخر محاولاتهم هي " السوق الأوربية المشتركة "
42. اقرأ - إن شئت - كتاب " لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة "
43. سورة النساء : 65.
44. سورة المائدة : 44
45. سورة الشورى : 21.
46. سورة البقرة : 143 .
47. سورة البقرة : 275 - 276.
48. قد يلاحظ أن هذه المقولة هي مقولة التفسير المادي للتاريخ ، ولكن التفسير المادي للتاريخ ليس خاصا بالفكر الشيوعي كما قد يظن البعض . إنما هو فكر أوربا كلها في عصرها الحديث بتأثير اليهود فيها .
49. سورة الروم : 21.
50. سورة الإسراء : 23 - 24.
51. هذه ترجمة لكلمة Spi r itual في الإنجليزية وهي لفظة مزدوجة المعنى ، فهي إما أن تعني الروحية أو الكحولية ، ولكن المغالطة واضحة في وصف الخمر بأنها روحية !!
52. ألغيت دور البغاء الرسمي فيما بعد ، لا تأثما ، ولا تحرجا من المهانة التي وقعت فيها الدولة " المسلمة " ولكن لأن الهاويات أغنين عن المحترفات !
53. سورة آل عمران : 195.
54. سورة النحل : 97.
55. سورة النساء : 124.
56. سورة النساء : 19.
57. سورة البقرة : 231.
58. أخرجه الترمذي بإسناد صحيح .
59. أخرجه الشيخان .
60. أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي .
61. (( انظر إن شئت كتاب " واقعنا المعاصر " وكتاب " معركة التقاليد " .
62. (( هذه كلها عناوين حقيقية كانت تنشر في الصف والمجلات .
63. سورة الروم : 21.
64. انظر إن شئت كتاب " رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر " .
65. من الكتب الجيدة في هذا الشأن كتاب الدكتور محمد البهى " الفكر الإسلامي الحديث ، وصلته بالاستعمار الغربي " طبع القاهرة .(68/269)
66. سورة الأعراف : 54.
67. سورة يوسف : 40.
68. سورة الرعد : 41.
69. سورة المائدة : 50.
70. سورة الشورى : 10.
71. سورة الأعراف : 54.
72. سورة فاطر : 3.
73. سورة الإسراء : 70
74. سورة الجاثية : 23 .
75. سورة النمل : 60 .
76. سورة الروم : 7 .
77. في نفس الوقت أو قبله بقليل كان هناك تحرك موجه إلى دولة الخلافة ، ومحاولات للتنصير والتغريب ، تراجع في كتب التاريخ التي تتناول فترة حكم السلطان مراد الثالث ، واتجاهه إلى " تحديث " دولة الخلافة .
78. انظر الجزء الثاني من كتاب " عجائب الآثار " للجبرتي ( طبع القاهرة ) صفحات 231،244- 245، 251، 272- 273، 302، 436- 437 .
79. انظر كتاب Nea r East : Cultu r e and Society ، جمع وإشراف T . Cuyle r ) ت : كويلر ) الترجمة العربية من منشورات " الألف كتاب " بالقاهرة
80. سورة الفجر : 6 - 13 .
81. سورة الحجرات : 13 .
82. )) قال دارون إن تفسير النشوء والارتقاء بتدخل المشيئة الإلهية هو بمثابة إدخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت !!
83. البروتوكول رقم (2) - انظر الترجمة العربية للبروتوكولات لمحمد خليفة التونسي - طبع الدار السعودية للنشر - ص 113
84. سورة الشمس : 7 - 10 .
85. سورة الحجرات : 13 .
86. أخرجه مسلم وأبو داود .
87. سورة البقرة : 31 .
88. سورة العلق : 5 .
89. سورة الرحمن : 3 - 4 .
90. سورة البقرة : 251 .
91. سورة الحج : 40 .
92. انظر إن شئت فصل " مقتضيات لا إله إلا الله في الرسالة المحمدية " من كتاب " لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة " .
93. سورة الأنعام : 162 - 163 .
94. أخرجه الشيخان .
95. F r ee Thinke r s في المعاجم الإنجليزية ليس معناها " المفكر الحر " وإنما معناها " الملحد " !
96. سورة إبراهيم : 24 - 25 .
97. أخرجه الشيخان .
98. سورة الروم : 30 .
99. ذكرت جملة من هذه الأسباب في كتاب " واقعنا المعاصر " فصل " خط الانحراف " وفصل " آثار الانحراف " .
100. سورة البقرة : 146 .
101. سورة الصف : 8.
102. سورة التوبة : 32.
103. سورة البقرة : 120.
104. سورة البقرة : 217.
105. سورة المجادلة : 14.
106. راجع تقرير لورد كامبل في منشورات الجامعة العربية بالقاهرة .
107. تحدثت عن هذا الأمر بشيء من التفصيل في كتاب " واقعنا المعاصر " ص 215- ص 263 .
108. ومنها الكتب المنزلة إليكم .
109. سورة الشورى : 15.
110. سورة التوبة : 32.
111. سورة الأنعام : 112.
112. أرجو أن يوفقني الله إلى كتابة بحث بعنوان " كيف ندعو الناس ".
113. سورة المنافقون : 1 .
114. سورة النساء : 72 - 73 .
115. سورة التوبة : 38 .
116. سورة النساء : 77 .
117. سورة النساء : 83 .
118. سورة آل عمران : 110 .
119. سورة البقرة : 143 .
120. سورة آل عمران : 139 - 142 .
121. سورة آل عمران : 120.
122. سورة الأنعام : 44- 45 .
123. سورة الإسراء : 7.
124. سورة الإسراء : 104
125. أخرجه مسلم .
126. سورة يوسف : 21.(68/270)
(68/271)
قادة الغرب يقولون دمّروا الإسلام أبيدوا أهله ... 2(68/272)
(68/273)
الحملة الصليبية المعاصرة رؤية إسلامية ... 37(68/274)
(68/275)
التاريخ يعيد نفسه ... 59(68/276)
(68/277)
الحروب الصليبية بين الماضي والحاضر ... 75(68/278)
(68/279)
وقفات تربوية مع الحرب الصليبية الجديدة ... 96(68/280)
(68/281)
الحرب الصليبية والتحولات الفكرية - 3 - ... 111(68/282)
(68/283)
دورنا في مواجهة الحرب الصليبية ] ... 116(68/284)
(68/285)
الحرب الصليبية على العراق-الحلقة الأولى ... 121(68/286)
(68/287)
الحرب الصليبية على العراق -الحلقة الثانية ... 125(68/288)
(68/289)
الحرب الصليبية على العراق - الحلقة الثالثة ... 137(68/290)
(68/291)
الحرب الصليبية على العراق - الحلقة الرابعة ... 148(68/292)
(68/293)
الحرب الصليبية على العراق - الحلقة الخامسة ... 165(68/294)
(68/295)
الحرب الصليبية على العراق - الحلقة السادسة ... 175(68/296)
(68/297)
الحرب الصليبية على العراق - الحلقة السابعة ... 193(68/298)
(68/299)
الحرب الصليبية على العراق -الحلقة الثامنة ... 203(68/300)
(68/301)
الحرب الصليبية على العراق -الحلقة التاسعة ... 214(68/302)
(68/303)
الحرب الصليبية على العراق -الحلقة العاشرة ... 232(68/304)
(68/305)
الحرب الصليبية على العراق -الحلقة الحادية عشرة ... 245(68/306)
(68/307)
الحرب الصليبية على العراق -الحلقة الثانية عشرة ... 275(68/308)
(68/309)
الحرب الصليبية على العراق -الحلقة الثالثة عشرة ... 308(68/310)
(68/311)
فتوى فضيلة الشيخ عبدالله الغنيمان ... 345
في مناصرة طالبان والقنوت لها وحكم الوقوف مع دول الكفر ... 346(68/312)
(68/313)
خطبة عيد ... 348(68/314)
(68/315)
لا لاعتذار البابا ... 352(68/316)
(68/317)
الأمريكان وتدنيس مقدسات الأديان ... 353(68/318)
(68/319)
من جرائم الصرب في مسلمي البوسنه…. ... 358
ومهزلة محاكمة مجرمي الحرب في لاهاي…. ... 358(68/320)
(68/321)
بل حرب دينية ... 363(68/322)
(68/323)
الحرب اللاأخلاقية ... 367(68/324)
(68/325)
من ينتصر لرسول الله ؟ ... 372(68/326)
(68/327)
ألا هل بلغت: اللهم فاشهد ... 377(68/328)
(68/329)
عندما يكون الرئيس الأمريكي ( متدينا ) !!! ... 384(68/330)
(68/331)
حتى أنت يا (( الدانمارك )) !! ... 395(68/332)
(68/333)
وهل تنتظرون من البابا غير هذا ؟ ... 397(68/334)
(68/335)
كيف تسهم المرأة في تنمية المجتمع وهي داخل بيتها؟ ... 398(68/336)
(68/337)
تحديات الدعوة ... 402(68/338)
(68/339)
واقع العراق وأثر النفاق في تأخير النصر وإلحاق الأذى بالمسلمين ... 406(68/340)
(68/341)
وإذا لم يعتذر البابا..فكان ماذا ؟. ... 424(68/342)
(68/343)
حتى لا تضيع الحقيقة ... 431(68/344)
(68/345)
أمة في خطر مداخلة عن مناهج التعليم في الوطن العربي ... 443(68/346)
(68/347)
تدنيس القران ... 450(68/348)
(68/349)
مات البابا وبقي الإسلام ... 465(68/350)
(68/351)
موتوا بغيظكم يا عُباد الصليب ... 476(68/352)
(68/353)
بوش يصر على أنها حرب صليبية ... 498(68/354)
(68/355)
حملة صليبية... وليست غزوة حضارية ... 500(68/356)
(68/357)
أمريكا ...وتعدد نوافذ الحرب ... 505(68/358)
(68/359)
فرسان مالطة..الحروب الصليبية لم تتوقف ... 509(68/360)
(68/361)
نظرة قانونيّة في حرية التعدّي على الأديان ... 512(68/362)
(68/363)
سياسة أمريكا في عهد "بوش" والخلفية الدينيّة المتطرّفة! ... 519(68/364)
(68/365)
بعد الحادي عشر من سبتمبر: هل دخل العالم عهد الاستعمار الجديد؟ ... 522(68/366)
(68/367)
موقف الغرب من الإسلام ... 527(68/368)
(68/369)
نائب زعيم المحاكم : مستعدون لحرب طويلة مع الغزاة ! ... 530(68/370)
(68/371)
نقد الفكر الليبرالي ( جديد ومزيد ). ... 533(68/372)
(68/373)
دافعْ عن رسول الله..!! ... 614(68/374)
(68/375)
الولاء والبراء بين العلم والحال في نازلة الزمان ... 615(68/376)
(68/377)
رمضان وأحوال الأمة ... 624(68/378)
(68/379)
من ينتصر في تنصير العراق؟! ... 631(68/380)
(68/381)
لن يصلوا إليه وفي الأمة عرق ينبض ... 637(68/382)
(68/383)
تصريحات البابا: ... 639
إعلان إفلاس وعجز المسيحية أمام حيوية الإسلام ... 639(68/384)
(68/385)
حتى أنت يا (( الدانمارك )) !! ... 642(68/386)
(68/387)
ألا هل بلغت: اللهم فاشهد ... 644(68/388)
(68/389)
من ينتصر لرسول الله ؟ ... 651(68/390)
(68/391)
هل سيدعو البابا إلى حرب صليبيّة؟ ... 656(68/392)
(68/393)
القضية ليست صدام حضارات! ... 658(68/394)
(68/395)
مكارثية أمريكية جديدة.. ضد الإسلام لا الشيوعية! ... 663(68/396)
(68/397)
الجامعة العربية سجل حافل بالفشل! ... 670(68/398)
(68/399)
بيت سيئ السمعة ... 676(68/400)
(68/401)
العودة يدعو إلى "غضبة إسلامية" ضد بابا الفاتيكان ... 680(68/402)
(68/403)
تزايد الضغوط على البابا للاعتذار وروما تشدد الأمن ... 682(68/404)
(68/405)
النيران الصديقة تثير هلع جنود الغزو .. ... 684
وثلاث سيناريوهات لعراق ما بعد الحرب ... 684(68/406)
(68/407)
الانعتاق من سلطة الغرب ... 696(68/408)
(68/409)
رداً على ما جاء في بيان المثقفين الأمريكان : ... 704
على أي أساس نُقتل ونُحارب؟! ... 704(68/410)
(68/411)
سارة .. والعدالة الأمريكيّة ... 758(68/412)
(68/413)
التداعيات السياسية للحملة الصليبية الخامسة ... 760(68/414)
(68/415)
جلاوي: أمريكا ليست أعظم من الله.. ... 764(68/416)
(68/417)
فقه الولاء والبراء في ضوء الحرب الصليبية ... 769(68/418)
(68/419)
حاكم المطيري: مشكلتناهي قابلية الاحتلال ... 785(68/420)
(68/421)
الوعي عندما يكون كارثياً! ... 793(68/422)
(68/423)
مفارقات بين صنميْن: "صدّام" و "أتاتورك" ... 796(68/424)
(68/425)
أوروبا تستأنف الحرب وقدوم الحملة الصليبية الخامسة ... 799(68/426)
(68/427)
الإسلام أم العقل المسلم؟ ... 803(68/428)
(68/429)
وثائق تاريخية عن فظائع الحروب الصليبية ... 806(68/430)
(68/431)
من سجلات الاحتلال تحرير مدينة دمياط الحملة الصليبية الخامسة ... 809(68/432)
(68/433)
جيوش الكنائس الصهيونية الصليبية الأمريكية تحط رحالها في العراق ... 814(68/434)
(68/435)
المسيحية والسيف وثائق تاريخية عن فظائع الحروب الصليبية ... 824(68/436)
(68/437)
البابا المنتظر يشن حرباً صليبية ... 827(68/438)
(68/439)
عندما يكشف بابا الفاتيكان عن عقليته الصليبية! ... 829(68/440)
(68/441)
مطالب تغيير المناهج .. دلالات التوقيت والهدف ... 838(68/442)
(68/443)
الفلوجة .. صمود مدينة ... 839(68/444)
(68/445)
سفارة بلا دولة! ... 840(68/446)
(68/447)
الخيارات العسكرية: الحالة الفلبينية ... 850(68/448)
(68/449)
صعود الإخوان في الانتخابات .. والذعر العلماني ! ... 883(68/450)
(68/451)
مسرحية السقوط .. ... 886(68/452)
(68/453)
هل يقود بابا الفاتيكان الحرب الصليبية الجديدة ؟ ... 891(68/454)
(68/455)
العوني هل هي دعوة لحرب صليبية يا بابا الفاتيكان! ... 898(68/456)
(68/457)
هل سيدعو البابا إلى حرب صليبية ؟ ... 899(68/458)
(68/459)
عندما يكشف بابا الفاتكان عن عقليته الصليبية ... 901(68/460)
(68/461)
الحملة الصليبية الأولى ... 909(68/462)
(68/463)
أوروبا تستأنف الحرب وقدوم الحملة الصليبية الخامسة ... 911(68/464)
(68/465)
أمريكا بين الماسونية المصدرة والصليبية المتبعة ... 916(68/466)
(68/467)
إشكالية الحملة الصليبية الرابعة ... 917(68/468)
(68/469)
الاستغلال الديني للقدس بين الصليبية والصهيونية ... 925(68/470)
(68/471)
فلسطين بين المشروع الصليبي والمشروع الصهيوني ... 930(68/472)
(68/473)
الصليبية العالمية وتاريخ الجهل والضلال ... 935(68/474)
(68/475)
حرب صليبية على الجبهة الثقافية ... 940(68/476)
(68/477)
حرب صليبية جديدة ... 942(68/478)
(68/479)
أمريكا بين الماسونية المصدرة والصليبية المتبعة ... 944(68/480)
(68/481)
رسالة الصيام الانتصار على الحملة الصهيوصليبية العالمية ... 946(68/482)
(68/483)
من الحروب الصليبية إلى التنصير ... 950(68/484)
(68/485)
صور من الحروب الصليبية ... 958(68/486)
(68/487)
الصليبية 'البوشينية' الجديدة في أوروبا: ألمانيا نموذجاً ... 965(68/488)
(68/489)
أوروبا علمانية وأمريكا صليبية!؟ ... 969(68/490)
(68/491)
الجنوب مدخل الصليبية إلى السودان ... 973(68/492)
(68/493)
هذه المرة .. من الفاتيكان ! ... 989(68/494)
(68/495)
حطاط حضارة..أم سلوك فردي؟! ... 991(68/496)
(68/497)
قرارات مجلس الأمن .. والعبث الأمريكي ... 997(68/498)
(68/499)
كيف ندعم الفلوجة؟.. شارك برأيك ... 998(68/500)
(69/1)
صورة الإعدام: مدخل لكشف العيوب الثقافية ... 1009(69/2)
(69/3)
ما بعد العراق 1/3 ... 1029(69/4)
(69/5)
علاقة المسلمين بالغرب،على مفترق طرق ... 1049(69/6)
(69/7)
أهزوجة الفلوجة.. والأمير..كان ! ... 1083(69/8)
(69/9)
التايمز : بوش أهان المسلمين وتجاهل الفلسطينيين ... 1086(69/10)
(69/11)
الحروب الصليبية ومناهج الاستشراق ... 1087(69/12)
(69/13)
الحرب الصليبية الثالثة أمريكية ... 1093(69/14)
(69/15)
الحرب الصليبية على العراق ... 1101(69/16)
(69/17)
صفحات مجهولة من تاريخ الحروب الصليبية ... 1103(69/18)
(69/19)
الفلبين والحملات الصليبية ... 1112(69/20)
(69/21)
المرأة وملامح الحرب الصليبية الجديدة على عالم الإسلام ... 1115(69/22)
(69/23)
حملة صليبية وليست غزوة حضارية ... 1125(69/24)
(69/25)
الغارة الصليبية على تشاد ... 1130(69/26)
(69/27)
بيان من علماء الصومال حول الغزو الصليبي الأثيوبي ... 1136(69/28)
(69/29)
مسلمات بيد الصليبيين.. الاغتصاب الممنهج ... 1141(69/30)
(69/31)
من سجلات خيانة الصليبيين ... 1146(69/32)
(69/33)
من سجل الحقد الصليبي - يوم أحرق نصارى مصر القاهرة ... 1148(69/34)
(69/35)
من سجل التاريخ عندما احتل الصليبيون عكا ملحمة الثلاث سنوات ... 1149(69/36)
(69/37)
استيلاء التتار والنصارى على دمشق ( الحقد الصليبي ) ... 1156(69/38)
(69/39)
استيلاء التتار والنصارى على دمشق ( الحقد الصليبي ) ... 1158(69/40)
(69/41)
حقد الصليب ... 1160(69/42)
(69/43)
بغداد على الصليب ... 1174(69/44)
(69/45)
فلسطين في أزمة الخلافة بين المشروعين الصهيوني والصليبي ... 1178(69/46)
(69/47)
نظرية الدكتور كمال الصليبي وتاريخ فلسطين القديم ... 1183(69/48)
(69/49)
أفي جهاد الصليبيين الغزاة شك؟ ... 1190(69/50)
(69/51)
الإرهاب الصليبي ... 1199(69/52)
(69/53)
أمير الشام عماد الدين رائد الجهاد الإسلامي ضد الصليبين ... 1206(69/54)
(69/55)
بمناسبة أعياد الميلاد : الوعيد الشديد لمن هنأ أو شارك في أعياد عباد الصليب ... 1214(69/56)
(69/57)
القول المصيب في حكم زواج المسلمة من عابد الصليب ... 1216(69/58)
(69/59)
التعصب الأوربي الصليبي ... 1223(69/60)
(69/61)
العاشق والصليب!! ... 1228(69/62)
(69/63)
قبل أن يرفع أبناؤنا الصليب ! ... 1234(69/64)
(69/65)
مستقبل الاحتلال الصليبي في العراق ... 1238(69/66)
(69/67)
الخبث الصليبي ... 1242(69/68)
(69/69)
ثورة اليونان ـ وحدة الصليب ... 1243(69/70)
(69/71)
الإرهاب الصليبي وفرية تحرير العراق! ... 1248(69/72)
(69/73)
وفاة الناصر صلاح الدين قاهر الصليبيين ... 1249(69/74)
(69/75)
دحر الصليب ونصر الهلال في الرد على كولن باول ... 1251(69/76)
(69/77)
التحالف اليهودي الصليبي ... 1257(69/78)
(69/79)
جهود العلماء والأدباء في استنقاذ القدس من الصليبيين ... 1262(69/80)
(69/81)
مستقبل الاحتلال الصليبي في العراق ... 1279(69/82)
(69/83)
لمثقفون والعلماء وممثلو الحركة الإسلامية بالمغرب يعلنون بطلان "فتوى" المثقفين الأمريكيين ... 1284(69/84)
(69/85)
دورة الزمان وصعود طالبان ... 1314(69/86)
(69/87)
كمشتكين بن دانشمند ... 1326(69/88)
(69/89)
تحالف ظالم، وتخاذل آثم! (1) ... 1333(69/90)
(69/91)
حوار أم تصادم ؟! ... 1340(69/92)
(69/93)
اقتلوهم! ... 1343(69/94)
(69/95)
ماذا يريدون من الإسلام؟ ... 1350(69/96)
(69/97)
التحذير من البلية بالالتحاق بالمدارس الأجنبية ... 1359(69/98)
(69/99)
الصحوة الإسلامية وتحديات الدور التربوي ... 1364(69/100)
(69/101)
رسالة إلى أهل العراق في هذه الأحداث العصيبة ... 1376(69/102)
(69/103)
حرب بلا دخان !! ... 1381(69/104)
(69/105)
الجولة القادمة ... 1385(69/106)
(69/107)
قراءة أولية في نتائج الانتخابات الفلسطينية؟! ... 1403(69/108)
(69/109)
حقيقة الموقف الكويتي من الأحداث !! ... 1409(69/110)
(69/111)
أفكار في مواجهة الحروب الصليبية ... 1415(69/112)
(69/113)
أمريكا: أنا ربكم الأعلى! (1) ... 1444(69/114)
(69/115)
خداع الأعداء و مواقف الأذكياء! ... 1449(69/116)
(69/117)
وفي التاريخ دروس وعبر ... 1458(69/118)
(69/119)
صدَّام ... عزيز قوم ذلَّ ... 1464(69/120)
(69/121)
خطأ أمريكا القاتل غزو العراق ... 1472(69/122)
(69/123)
(الآخر) يؤذينا.. ... 1482(69/124)
(69/125)
سجن أبو غريب . . الحدث والمواجهة ! ... 1484(69/126)
(69/127)
كيف تنصر نبيك ؟ ... 1492(69/128)
(69/129)
ثلاتُ وثائقٍ برتغالية عن خطةٍ للاستيلاءِ على العالم العربي في مطلعِ القرنِ السادس عشر ... 1526(69/130)
(69/131)
يا أمة محمد ... 1540(69/132)
(69/133)
سقوط ابن العلقمي على يد هولاكو ... 1588(69/134)
(69/135)
مائة فكرة في مواجهة الحروب الصليبية ... 1608(69/136)
(69/137)
( مع الواقع المرير) ... 1624(69/138)
(69/139)
أثر الدعاء في نصرة المجاهدين ... 1627(69/140)
(69/141)
احسموا أمركم قبل فوات الأوان يا سنة العرق! ... 1642(69/142)
(69/143)
أيهما أخطر؟! ... 1644(69/144)
(69/145)
شَهِدتُ مصرع خُبيب ... 1647(69/146)
(69/147)
أهمية دعوة الجاليات غير المسلمة ... 1650(69/148)
(69/149)
الذبّ على خير خلق الله ... 1655(69/150)
(69/151)
حتى لا نسقط في الفتنة ... 1659(69/152)
(69/153)
واصلوا جهادكم يا مسلمي الصومال! ... 1678(69/154)
(69/155)
رسالة إلى شعب العراق ... 1680(69/156)
(69/157)
البطل المسلم عيسى العوام ... 1684(69/158)
(69/159)
طاغوت العصر ... 1686(69/160)
(69/161)
تأملات في ظاهرة كتابة الأسماء المستعارة باللغة الإنجليزية ... 1692(69/162)
(69/163)
لكم الله أيها المجاهدون!(4) ... 1696(69/164)
(69/165)
حكم من أعان الأمريكان على حرب العراق المسلم ... 1702(69/166)
(69/167)
أحداث الاعتداء على مقام سيد البشرية r رؤية وتحليل ... 1708(69/168)
(69/169)
الارهاب بضاعة الغرب ... 1715(69/170)
(69/171)
هل يعيد التاريخ نفسه؟! ... 1731(69/172)
(69/173)
القدس والمسجد الأقصى ... 1736(69/174)
(69/175)
معالم على طريق النهضة ... 1741(69/176)
(69/177)
مجازر النصارى ضد المسلمين ... 1772(69/178)
(69/179)
هل ستكسب أمريكا هذه الحرب ... 1778(69/180)
(69/181)
أسباب سقوط الدولة العثمانية ... 1787(69/182)
(69/183)
تحالف ظالم، وتخاذل آثم! (2) ... 1809(69/184)
(69/185)
هلموا إلى قصعتنا الشهية!(2) ... 1815(69/186)
(69/187)
إنها بلادي أيها الرئيس ... 1819(69/188)
(69/189)
من منا ينطبق عليه الوصف الشيطاني ؟! ... 1824(69/190)
(69/191)
إنصراف القلوب عما يجري في فلسطين من الخطوب ... 1828(69/192)
(69/193)
الموقف من العدوان على الفلوجة ... 1834(69/194)
(69/195)
اللحظات الحاسمة ... 1839(69/196)
(69/197)
احذروا الطعم القاتل يا أهل السنة! ... 1865(69/198)
(69/199)
بعد سبّ النبي بطل سحرهم ، وانتهى كيدهم ... 1867(69/200)
(69/201)
مناصرة وبيان حول أحداث الصومال ) ... 1869(69/202)
(69/203)
"المتمسلمون" ... 1875(69/204)
(69/205)
جِيء بهم لفيفا ... 1884(69/206)
(69/207)
الإنجليزي الماكر.. الذي خدع ( طوال الشوارب ) .. ! ... 1887(69/208)
(69/209)
وانفجر قيح أوسلو ... 1890(69/210)
(69/211)
العلمانية إلى أين ؟ ... 1892(69/212)
(69/213)
المقاومة الإسلامية في العراق من يحصد ثمارها ؟ ... 1895(69/214)
(69/215)
معذرة العراق إنه زمن الهوان ... 1904(69/216)
(69/217)
قبل أن تضيع الفرصة ... 1911(69/218)
(69/219)
انظر إلى ما فعله القس الأمريكي " بات روبرتسون " بهذا الطفل المسلم ؟. ... 1919(69/220)
(69/221)
الحرب الإعلامية الصليبية على العراق ... 1925(69/222)
(69/223)
حوار مجلة البيان ... 1934
وعاتب الله صحابة محمد(69/224)
(69/225)
، وحذرهم من التقلب بعد نبيهم(69/226)
(69/227)
فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. ... 1939(69/228)
(69/229)
ثامنا: غرس الأخلاق الفاضلة في النفوس. ... 1953(69/230)
(69/231)
كيف احتل الإنجليز بلاد الهند المسلمة ؟! ... 1974(69/232)
(69/233)
لا يحصل الملك للعرب إلا بصبغة دينية! ... 1980(69/234)
(69/235)
قل كل يعمل على شاكلته (جيش صلى الله عليه وسلم في سمرقند) ... 1996(69/236)
(69/237)
القوة الرعناء ... 2003(69/238)
(69/239)
الطريق إلى التمكين ... 2005(69/240)
(69/241)
اجتماع الجيوش القرآنية على تجريم الولايات المتحدة الصليبية ... 2039(69/242)
(69/243)
في مايسمى " صدام الحضارات " ... 2075(69/244)
(69/245)
المورمون ... 2111(69/246)
(69/247)
هلمّ نخرج من ظلمات التيه ! ... 2125
مقدمة ... 2125
كيف دخلنا التيه ؟ ... 2130
ولكن أرواحهم لم تذل ! ... 2140
حجم التيه ... 2142
ولم يكن ذلك هو التيه الوحيد في المجال السياسي .. ... 2153
وتغيرت الحياة الاجتماعية .. ... 2160
وانفك رباط الناس بالبيت .. ... 2161
ففي عالم الفكر كان التيه واسعا إلى أقصى حد .. ... 2167
وفي التيه تحول الكتاب المنزل إلى " تراث " .. ... 2181
إن الإسلام دين الفطرة . ... 2195
الغد المأمول ... 2196(69/248)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (29)
الحرب على الإسلام
الباب التاسع والعشرون
الحرب على الإسلام
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثاسع والعشرون
الحرب على الإسلام(70/1)
(70/2)
الحرب الأمريكية على "الإرهاب" .. إلى أين ؟
علي حسين باكير / لبنان 7/8/1426
11/09/2005
في مثل هذا اليوم -و منذ أربع سنوات-تعرضت كل من نيويورك وواشنطن لضربات مدمرة فيما أصبح يعرف فيما بعد بهجمات الحادي عشر من سبتمبر.
و قد استنفرت الولايات المتّحدة كل قدراتها العسكرية و الاقتصاديّة و الاجتماعيّة و جيّشت حلفاءها و استدعتهم للبدء بحرب عالمية على ما يسمى بِ"الإرهاب".
اليوم و بعد أربع سنوات, ماذا حقّقت الولايات المتّحدة في حربها تلك؟ و هل أصبح العالم أكثر أمناً الآن كما تدّعي؟ و هل هناك خطّة واضحة في هذه الحرب؟ و إلى أين ستنتهي؟ و إلى ماذا ستوصلنا؟
ازدياد ما يسمى بالهجمات الإرهابية
لقد بدأت الحرب على ما يُسمّى بِ "الإرهاب" بقيام الولايات المتحدة باحتلال أفغانستان ثمّ تبعها احتلال العراق، و ادّعت الإدارة الأمريكية بذلك أنّها ستجعل العالم أكثر أمناً, لكن تشير الإحصاءات الصادرة عن أحدث تقرير لوزراة الخارجية الأمريكية أن الهجمات "الإرهابية" الكبيرة في العالم تضاعفت مرتين خلال عام 2004 مقارنة بعام 2003؛ وهو ما يفند مزاعم إدارة الرئيس جورج بوش بأنها تحقق انتصارات متتالية فيما أسمته "الحرب على الإرهاب". وذكرت نسخة "محظورة" وسرية من هذه الإحصاءات وزّعتها الخارجية على أعضاء الكونجرس وموظفيهم ومساعديهم- أن عدد الهجمات الإرهابية الدولية "الكبيرة" ارتفع إلى حوالي (650) هجوماً عام 2004 بعدما كانت نحو (175) فقط خلال عام 2003.
في حين كشف المركز القومي لمكافحة الإرهاب في بيان له الأربعاء 6-7-2005 أن الهجمات الإرهابية في عام 2004 خلّفت (6060) قتيلا و(16091) مصاباً إلى جانب (6282) احتجزوا كرهائن في شتى أنحاء العالم.
وكان نصيب الشرق الأوسط 37% من إجمالي الهجمات، وجنوب آسيا 33% منها .
وجاءت الزيادة في الهجمات الإرهابية التي وصلت إلى خمسة أمثال تقديراتها الأولى لعام 2004.
هل أصبحت أمريكا أكثر أمنا ً؟
و في أحدث تصريح عن وضع أمريكا في الحرب على الإرهاب قال نائب الرئيس الأمريكي في خطاب له في 25/07/2005: إن الولايات المتحدة -رغم الإجراءات الأمنية الاحترازية المكثفة- ما زالت بعيدة عن الأمان الكامل، وأشار إلى أن تنظيم القاعدة ما زال يبحث عن مجندين جدد لضرب الولايات المتحدة، وتوقع أن تستمر الحرب الأمريكية على الإرهاب "عقودًا" من الزمان.
هذا الكلام إن دلّ على شيء فهو يدل على أنّ الحرب على ما يُسمّى بِ "الإرهاب" تسير في الاتّجاه الخاطئ، و أنّ أمريكا لم تستفد شيئاً من وضع موضوع محاربة الإرهاب على سلّم أولوياتها. و حول هذا الموضوع تقول مارثا كرينشو في عرض لها لكتاب منشور في عام 2005 بمجلة "فورين آفيرز" الأمريكية في عددها الأخير (يوليو 2005)، كرد على تساؤلها: هل وضع "مكافحة الإرهاب" على قمة الأولويات الأمريكية سيصب في مصلحة الإدارة الأمريكية؟
"ليس من المنطق أو العقل وضع "الحرب العالمية على الإرهاب" على رأس الأولويات الأمريكية، لكون تلك الحرب في النهاية حرباً معقدة إلى أقصى درجة، يستحيل اجتثاثها بشكل تام ومطلق حتى ولو على يد أقوى دولة في العالم. ولذا فإن وضعها على رأس الأولويات الأمريكية سيصيب الإدارة الأمريكية بالعجز، وسيقلل من مصداقيتها أمام العالم؛ لأنها لن تخرج من تلك الحرب إلا بالهزيمة الأكيدة. وكما قالت "كرينشو" في نهاية مقالها: "لا يوجد حل سهل للإرهاب، والضربات الاستباقية ليست حلاً سحرياً؛ فقد يمكننا التقليل من حدة الإرهاب، ولكن لا يمكننا اجتثاثه؛ ولذا فلا بد من إبقاء الحرب العالمية على الإرهاب جزءاً من الدور الأمريكي في العالم، وليس كل الدور الأمريكي في هذا العالم".
فيما يعدّ أستاذ التاريخ الأمريكي "تيموثي نافتالي" Timothy Naftali في كتابه "البقعة العمياء.. التاريخ السري للمناهضة الأمريكية للإرهاب" أنّ إدراك أمريكا للإرهاب كان قاصراً، يعتمد على النظر إلى الأمور في إطار معين، وفي مساحة وقتية معينة قد عفا عليها الزمان. فـ"كلينتون" ومن قبله "بوش الأب" ظلا ينظران إلى القضية بعيون الثمانينيات؛ حين كان الإرهاب موجهاً إلى المصالح الأمريكية بالخارج؛ فعلى الرغم من معرفتهما جيداً بمدى خطورة تنظيم "القاعدة" حينذاك، فإنهما ظلا يسيران في ركب الثمانينيّات، متجاهلَيْن ما جد من ظروف وتطورات؛ ومن ثم لم يفعلا ما يكفي لرفع درجة التأهب القومي مما أفضى إلى كارثة سبتمبر 2001. و يضيف: "وإذا كانت إدارة "بوش الابن" الحالية قد بدأت تتفهم وتستوعب وتدرك ما عجزت عنه الإدارات الأمريكية السابقة؛ فإنه ينقصها في الوقت ذاته التفهم الصحيح والناضج لطبيعة الإرهاب والإرهابيين. فهم أُناس -كما يصفهم "نافتالي"- بارعون في استغلال الفرص، متفننون في إيجاد الطرق البديلة إذا ما أُغلق عليهم الطريق. ولذا فإن ما يُجمع حولهم من "جبال معلوماتية" كما تفعل الإدارة الأمريكية الحالية لا ولن يكفي لمواجهتهم؛ بل الأهم من ذلك هو إدارة تلك "الجبال المعلوماتية" بفعالية وذكاء".
معالم الإخفاق الأمريكي في الحرب على ما يُسمى بِ "الإرهاب"(70/3)
منذ 11 أيلول 2001 و حتى 11 أيلول 2005, لا يمكن لأحد أن يدّعي أن الأوضاع في العالم باتت أفضل ممّا كانت عليه سابقاً, فكلما ازدادت الحرب على الإرهاب, ازدادت مضاعفات و خطر الأخير و رقعة انتشاره و عدد مناصريه. لم توصلنا الحرب على الإرهاب إلى مكان واضح المعالم، و ذلك بسبب الفشل الأمريكي في معالجة أسباب هذه الظاهرة و عدم التفات كل من يهتم بهذا الشأن إلى الأسباب و الدوافع الحقيقية (سياسة أمريكية ظالمة, مساندة للصهيونية العالمية, احتلال للبلدان الإسلامية و نهب للثروات، و تحكّم بمقدّرات البلاد, دعم أنظمة طاغية و ديكتاتورية, كبت للحريات...و اللائحة طويلة). و أيّا كانت طريقة المعالجة, فإنّه ما لم تُؤخذ هذه الأسباب بعين الاعتبار فإنّ الحرب على الإرهاب ستصل إلى نهاية فاشلة و هو الذي يحصل الآن.
يقول الكاتب الأمريكي كلارنس لوزين في الذكرى الرابعة لأحداث 11 سبتمبر:" ليس هناك ما يدعونا للاحتفاء بهذه الذكرى, ولاتوجد أي انتصارات يمكن أن نعلن عنها أمام الجمهور، ولاتوجد صور جميلة تستحق أن نلتقطها لتخليد هذه الذكرى. إن الإدارة لم تدمر القاعدة ولم تلق القبض على زعيمها, أسامة بن لادن حتى الآن. بينما نجد أنها أعطت الشبكة الفرصة لتجنيد وتدريب أكبر عدد ممكن من أنصارها في العراق. إن شبكة القاعدة وأنصارها يفتحون حالياً المئات, إن لم يكن الآلاف من المشروعات على مستوى العالم. وإذا أردت أن تعرف حقيقة الأمر, فعليك أن تسأل سكان لندن عن وضع الحرب على الإرهاب".
لقد احتارت الدول في أمر الإرهاب و ضاعت المنظمات في تعريفه, , و يجب الاعتراف أنّ كل المؤتمرات و الاجتماعات و الاحتياطات و الإجراءات عجزت -حتى هذه اللحظة- عن مكافحة ما يسمّى "بالإرهاب", و على الرغم من الحملات العسكرية و الماليّة و الأمنيّة و حتى الثقافيّة و الفكريّة التي تشنّها دول العالم -و في مقدّمتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة و أتباعها على ما يسمى "بالإرهاب"- فانّ كل المحاولات باءت بالفشل، و ستفشل أيضاً لسبب بسيط جدًّا و هو أنّ الدول لا تستطيع محاربة الأفراد و الأفكار و الخواطر . و ننبّه إلى أنّ الحل الأمني (كما يسمّيه البعض) ليس حلاّ، و إنّما آلية لتكاثر و تفريخ المزيد من "الإرهابيين" و هو أسوأ الخيارات و أكثرها إخفاقاً، و هو جري وراء الأشباح و استنزاف للموارد و الطاقات، و تهديد للأمن و للاستقرار، و الواقع يؤكّد ذلك. و من هذا المنطلق نجد أنّ الحل يكمن في معالجة الأسباب الحقيقية لتلك الظاهرة و مناقشتها بشكل علني و صريح، و ألاّ نلتفّ عليها بالقول تارةّ: إنّ الدين هو السبب، وتارة: إنّ الفقر هو السبب، وتارة أخرى: إنّ التخلف و الجهل هو السبب، و ما إلى ذلك من هذه الأسباب التي أصبح من الواضح أنّها بعيدة كل البعد عن كنه و حقيقة الموضوع, و الكرة الآن في ملعب الغرب فإمّا أن يعترف بذلك، و إمّا أن يتحمّل مسؤولية ما يحصل كاملاً, و هذه الذكرى اليوم فرصة لإعادة الحسابات في هذا الموضوع، و إلا فإننا سنظل في هذه الحلقة المفرغة إلى ما لا نهاية
==============(70/4)
(70/5)
صراع الحضارات أكذوبة غربية
التحرير … … … … …26/2/1424
… … … … …28/04/2003
- ما يمر به الاسلام اليوم حلقة جديدة في سلسلة لن تتوقف
- المرأة تمتلك أخطر دور في بناء الأمة الإسلامية القوية
- الحرب على الإسلام لم تتوقف منذ ظهوره من أجل القضاء عليه
المفكر الإسلامي الدكتور مصطفى الشكعة يرى أن الإسلام والمسلمين يتعرضون حالياً لحملة هجوم شرسة لم يتعرضوا لها من قبل، فالغرب يشن عليهم حربًا بكل ألوان العدوان البارد والساخن، ويؤكد أن المسلمين يعيشون مرحلة زمنية تعيسة، ولكنهم لا بد أن يتمسكوا بدينهم ووحدتهم؛ لأن تلك سنة الله، فمنذ أن ظهر الإسلام علي الأرض وهو يمر بمراحل متعددة من الهجوم، لكن أبطاله استطاعوا أن ينتصروا على عدوهم في كل المرات.
وينادي الدكتور مصطفى الشكعة الأستاذ بجامعة عين شمس بضرورة تمسك المرأة المسلمة بالرسالة التي حددتها لها الشريعة الإسلامية؛ لأن دورها في بناء الأسرة والمجتمع الإسلامي مهم جداً ،وخاصة في ظل كفالة المبادئ الدينية لحقوقها، بعدما كانت كماً مهملا ضمن ممتلكات الرجل، ويحذر الدكتور الشكعة من خطورة الاستشراق فهو السم المدسوس في العسل.. تفاصيل عديدة حول القضايا الساخنة في هذا الحوار الذي أجراه موقع الإسلام اليوم.
صورة مشوهة
سؤال: ما تعليقكم على الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام هذه الأيام ؟
جواب: الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام ليست وليدة اليوم، ولكنها حلقة جديدة في سلسلة لن تتوقف، وتتغير حسب موازين القوى الدولية ووحدة العالم الإسلامي، فالغرب يشن حربه التي بدأت بتشويه صورة الإسلام والمسلمين في شتى وسائل الإعلام الغربي، فأصبح هناك عقيدة راسخة في عقول الشعوب المعادية للإسلام في أمريكا ودول أوروبا بأن الرجل المسلم شخص عدواني متخلف، قبيح المنظر بدائي، يمسك في إحدى يديه بكتاب الله وفي اليد الأخرى السلاح، يرتدي جلبابه الأبيض القصير.. أما الصورة الأخرى للمسلم فهو رجل يجمع حوله النساء والخمر والطرب والأموال ولا يفكر فكل ما يعنيه هو ملذات الدنيا المادية ويبدد في سبيل ذلك كل شيء..أما الصورة الأشد قسوة فهي تلك التي تصور هذا المسلم بالعداوة للإنسانية والشذوذ، بحيث يتم عرض صورته في هيئة شخص يعتدي على الأطفال الأبرياء ويمزق براءتهم.. هذه الصورة المشوهة هي القاعدة التي انطلقت منها كل الحروب ضد الإسلام وشعوبه، سواء كانت بالحرب الاقتصادية تارة أو بالسلاح تارة أخرى، وهو ما حدث في البوسنة والهرسك وأفغانستان وما حدث في السودان والصومال، ولم يزل في فلسطين مستمرا وكذلك كشمير وغيرها من المناطق الإسلامية، وما يتعرض له العراق الآن وإيران ولبنان، كل ذلك هو نفس سيناريو الهجوم، لكن كلما اشتدت الأزمات بالمسلمين لا بد أن يزداد تمسكهم بدينهم، وتقوى وحدتهم لأن العدو الذي يتربص بهم - دائما - يجد فرصته في فرقة الأمة لتحقيق أهدافه الاستعمارية.
محنة المسلمين
سؤال: ما هو تقييمك للوضع الحالي للأمة الإسلامية ؟
جواب: الأمة الإسلامية تعيش في محنة ما يطلق عليه الغرب بالأصولية أو ما يطلقون عليه "التطرف الإسلامي"، ولا بد أن نعرف أن أصولية الإسلام ذات معنى يختلف تماما عن الأصولية النصرانية، فالأصولية عندهم ترتبط بالكنيسة وحرق العلماء، بينما الأصولية الإسلامية ترتبط بكل معاني الإنسانية والحياة السلمية .
وقد طوع الغرب هذه المغالطة الكبرى بصورة سيئة، فأصبحت المادة العلمية التي يتلقاها الأطفال والشباب الذين يتلقون تعليمهم في مدارسهم يحصلون على مادة علمية تحتوي على مادة مشوهة وكريهة، فهم يعلمونهم كيف يكرهون الإسلام، أما المصيبة الكبرى فتكمن فيما تصدره بعض الهيئات الحكومية في بلاد المسلمين، وتحمل هجوما شرسا على الإسلام، فما أقبح أن تكون يد الهجوم على الإسلام من بلاد المسلمين ومن وسائل إعلام ليست غربية، كذلك بعض الكتب التي هاجم أصحابها الإسلام ثم أعلنوا توبتهم وبراءتهم منها، ثم نجد بعد ذلك قيام بعض الهيئات الحكومية في بلادنا الإسلامية تعيد طباعتها مما يخدم الأطماع الغربية، وتثير عددا كثيرا من علامات الاستفهام، أما المناهج التعليمية في العديد من المدارس بالدول الإسلامية فقد تعرضت لعملية تجهيل للقضايا الإسلامية وكل ما يربط التلاميذ بدينهم، حتى الحصص القليلة التي خصصتها وزارات التعليم للدين الإسلامي فكثيرا ما يتم إلغاؤها وتحويلها لتدريس مواد أخرى، لكن على النقيض تماما فبرامج أقسام اللغات الأجنبية في الجامعات وما شاكلها تقوم بتدريس روايات بعضها إباحي مائة بالمائة، والبعض الآخر فيه طعن في الإسلام، والأبشع من ذلك أن الروايات العربية التي يتم تدريسها في أقسام اللغة العربية كلها فاحشة، وكل ذلك من أساليب الهجوم على الإسلام .
الحرب على الإسلام
سؤال: ما تحليلك للحروب التي تعلن عنها الولايات المتحدة الأمريكية بدعوى مكافحة الإرهاب و إنقاذ الأمة العربية والإسلامية ؟(70/6)
جواب : الحروب الوهمية التي تعلن عنها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وتحشد العالم من أجل المشاركة فيها تحت مسميات الشرعية الدولية تارة، ومكافحة الإرهاب تارة أخرى، كل ذلك يدور في نفس فلك الحرب ضد الإسلام، فما حدث في البوسنة والهرسك من عمليات إبادة للمسلمين وما يدور على الأرض المحتلة في فلسطين كان أدعى لسرعة التدخل الدولي من أجل إنقاذ الضحايا، لكن ما حدث هو غض الطرف عن السفاحين حتى ينتهوا من تنفيذ جرائمهم ضد المسلمين، وبعد ذلك يتم التدخل بصورة تعد ورقة توت يحاول ما يسمى بالمجتمع الدولي أن يستر بها عورته، وعلى النقيض تماما يكون التصرف مع الدول الإسلامية، فحين بدأت أفغانستان والسودان وإيران في بناء قواعد لدول إسلامية حقيقية، تم اختلاق الحجج من أجل القضاء عليها كي تضمن دول محور الحرب على الإسلام استمرار نفوذها في العالم الإسلامي...
أما المهزلة التي يشهدها بلد مسلم كالعراق فهي مسألة لا علاقة لها بالقضاء على أسلحة الدمار الشامل، لأن هذا النوع من السلاح بدأت ولادته في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الكبرى، ولم يصل للدول الأخرى إلا بعد أن طورت الدول الكبرى هذه الأسلحة أو ابتكرت ما هو أخطر منها، والمسألة برمتها تدور في إطار تحقيق المصالح الخاصة لأمريكا وبريطانيا، كذلك تعطي الفرصة لتمكين الحكومة الدموية في إسرائيل من تحقيق مخططاتها تجاه الشعب الفلسطيني المجاهد، فأي عدالة دولية هذه التي ترى في امتلاك دولة ذات سيادة على أرضها لسلاح ما خطورة على العالم ؟
في حين لا ترى الخطورة نفسها في امتلاك دولة معتدية بل إنها ترفض نداء المجتمع الدولي بالتوقيع على اتفاقيات نزع هذا النوع من السلاح الخطر، المسألة واضحة ولا تحتاج لعناء في كشف أبعادها الاستعمارية.
الداء والدواء
سؤال: هل هناك تصور من وجهة نظرك للخروج من هذه المحنة ؟
جواب: لست يائساً من الوصول إلى طريق الخروج من هذه المحنة فالمسلم لا ييأس، لكن لا يمكن أن نصل إلى الدواء بدون معرفة الداء، والذي ينبع من البلاد الإسلامية نفسها، هذا الداء يكمن في الهجوم على الإسلام في بلاد المسلمين، وملاحقة كل من يتمسك به، وكذلك الفرقة والصراعات التي أصبحت تحكم معظم علاقات الدول الإسلامية، وغياب المشروعات الكبرى التي من شأنها توحيد كلمتهم وإثراء عملية التمسك بدينهم، كذلك اختفاء القدوة التي من خلالها انتشر الإسلام، فالتجار المسلمون في بداية الدعوة كانوا أمناء في تعاملاتهم، صادقين في علاقاتهم الاقتصادية، يقيمون الصلاة في أوقاتها، فأسلم الكثيرون ومن خلال هذه القدوة وعن طريقها يتربى الطفل وينشأ على الفضيلة، وبها يمكن تحصين المجتمعات الإسلامية من التيارات الفكرية و الثقافية الوافدة التي تدمر عقول الشباب وتهدم بناء المجتمع، هذا بالإضافة إلى استغلال الثروات الضخمة التي يتمتع بها العالم الإسلامي، سواء أكانت بشرية أو طبيعية أو صناعية، ورفع اليد الاستعمارية من السيطرة عليها، كما لابد أن نكون أشد حذرا من عمليات الاستشراق التي بدأت تحت رايتين، الأولى راية الكنيسة المعادية للإسلام، والراية الأخرى هي راية الاستعمار الذي يرى أن كل ما يملكه المسلمون حلال لهم، ولذلك يلجأون للتدليس وقلب الحقائق؛ حتى يتمكنوا من تحقيق أهدافهم .
هذه النقاط التي كانت سببا في داء الضعف الذي أصاب العالم الإسلامي لو تم القضاء عليها لتغيرت الصورة إلى النقيض، وعادت لنا قوتنا من جديد .
صدام الحضارات
سؤال: ماذا عن رأيكم فيما يعرف بتصادم الحضارات، وتأثير ذلك على الإسلام ؟
جواب: الحضارة في أي مكان بمعناها الراقي الرفيع هي ملك لكل الإنسانية وكذلك المعرفة، لذلك فإن الحصول على المعرفة والبحث عنها واقتنائها والسفر إليها هي أمر مطلوب من كل الحضارات، وصدام الحضارات ثم صراعها لا وجود له في الحضارة الإسلامية التي لا تصارع أحد من جانبها، وهنا نذكر بقول الإمام ابن رشد - الذي أهدر بعضنا قيمته العلمية والدينية - " أننا نقرأ ما يكتبه الآخرون فإن اتفق مع ديننا وعقيدتنا وآدابنا أخذناه وشكرناهم، وإن اصطدم مع معتقداتنا الدينية والحضارية انصرفنا عنه وشكرناهم أيضا" .. لذلك فالحضارات لا بد ألا تصطدم بعضها البعض على أي حال، بشرط أن تكون نافعة للبشر والعقل الإنساني وليس للتشكيك فيه وهدم المعتقدات الدينية السليمة، فالحضارات لا تصطدم وتتصارع لكنها تتفاعل من أجل الإنسانية، شريطة أن تكون بعيدة عن تغيير فطرة الخالق أو هدم العقائد السماوية .
طعنات مسمومة
سؤال : هل يرى فضيلتكم أن هناك أزمة حقيقية في العقل المسلم، وما تفسيرك للاتهامات التي ترد في هذا الشأن ؟
جواب : ما يدعيه البعض ويروج له من وجود أزمة في العقل المسلم مغالطة لا وجود لها، فمادة "يعقلون" و"أولي الألباب " في آيات القران الكريم لا تحصى فكيف يكون هناك أزمة في عقل المسلم.(70/7)
إن الأزمة موجودة في العقول المريضة التي تلصق بالإسلام الأزمات، فأعداء الإسلام يختلقون التعبيرات والمفاهيم الخاطئة عن الإسلام، ويطعنونه بها، والهدف من ذلك هو إحداث بلبلة في عقول المسلمين من أجل صرفها عن الاهتمام بواقعها والتفكير في مستقبلها، والشيء المؤسف أن الأعداء نجحوا إلى حد كبير في تحقيق أهدافهم، فهناك العديد من المسلمين لا يعلمون شيئا عن دينهم ولا مشاكل مجتمعاتهم الإسلامية .. فكيف نطلب منهم أن يعملوا عقولهم لحلها.
إن الأزمة الحقيقية هي محاولة تغييب العقل المسلم، ومحو طاقته الفكرية والإبداعية، وللقضاء على هذه الأزمة لا بد أن تتكاتف كل المؤسسات الإسلامية داخل مجتمعاتنا المسلمة، بحيث توضح روح الإسلام الحقيقية لكل من يشوب عقله أي نقص في جانب من جوانب الإسلام، وهذا يتطلب وضع خطة متكاملة للنهوض بالعمل الإسلامي داخل هذه المجتمعات.
صلاح المرأة المسلمة
سؤال: ما رأيك في دعوة المساواة بين الرجل والمرأة، والتي يروج لها البعض هذه الأيام ؟
جواب: المرأة قبل الإسلام كانت مخلوقاً مضطهداً من قبل الرجل في شتى المجتمعات، لكن مع ظهور نور الإسلام حصلت علي حقوقها كاملة، وتم فك القيود التي كانت تحيط بعنقها، وللمرأة دور أساس في بناء الأسرة التي تعد اللبنة الأولى للمجتمع، وصلاح المرأة المسلمة ينتج عنه صلاح المجتمع الإسلامي، فدورها لا يقل بأي حال عن دور الرجل، وما يجب عليها فقط أن تؤدي رسالتها بالصورة التي رسمها لها الإسلام وقواعده؛ حتى لا تتحول إلى مخلوق ثالث لا هي حافظت على كونها امرأة ولا استطاعت أن تصير رجلا.
ولا بد أن تعي ما يريده أعداء الإسلام من توجيه أسلحتهم لهذا الجانب المهم من البناء الإسلامي، فهم يرغبون في خروجها عن آداب دينها وإفسادها عن طريق شعارات المساواة وغيرها، ونجاحهم في ذلك يعني نجاحهم في إفساد اللبنة الأولى في بناء المجتمع المسلم بما يعني النجاح في إفساد كل المجتمع، كما يجب على الرجل منحها حقوقها كاملة كما كفلها لها الإسلام، ولا يعود بها إلى عصور الجاهلية
============(70/8)
(70/9)
من قال إن الحرب انتهت؟
سامي بن عبد العزيز الماجد 22/2/1424
24/04/2003
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد استيقن الآن المرتابون في سقوط نظام بغداد اللاهثون خلف سراب الأحلام أن نظام بغداد ولّى لن يعود، وأن الحربَ قد وضعت أوزارها ـ أعني الحرب بين حزب البعث وجيش التحالف.
ولكن عليهم ألا تبهتهم هذه الحقيقة المفاجئة فتنسيهم حقائقَ أخرى أهمَّ منها بكثير.
أما الحقيقة الأولى:
أن المحنة اليوم بعد سقوط نظام بغداد هي أشدُّ منها قبل سقوطه، وأن الفتنة اليوم أكبرُ منها بالأمس خلافاً لما يبدو للنظرة القريبة ، لأن هذا الاحتلال السريع يُدني العدو من غاياته، ويُغريه أكثر بالإصرار على تحقيق مخططاته، وسيزيد ـ ولا شك ـ من طغيانه وتسلُّطِه، ويجعله يمعن أكثر في احتقار الشعوب الإسلامية واستذلالها، فتزدادُ هيبتُه في قلوبها، وتحني له هامتها، وتضعف مقاومتها، ويهزمها اليأس.
ومن هنا كان هذا الاحتلال الذي لم تطل مقاومته فتنةً للغالب المستكبر، وللمغلوب المستضعف.
إن المحنة اليوم على المسلمين أشدُّ؛ لأن الحرب وإن سكنت في العراق، فها هو العدو يُوقد لها ناراً في بلد إسلاميٍ آخر، تبدو الحرب عليه في صورة أخرى مغايرة.
وإذا كان الواقع كذلك، فإن من الأمر العجَبِ أن تخفُتَ أصواتُنا في الدعاء على التحالف الصليبي، وأن يفتُر تأميننا عليه، وكأن المسألة قد حُسمتْ وانتهتْ في أول مراحلها. وكأن النصر في أول مراحل المعركة يضمن الانتصار في أواخرها.
وأعظم الخطر؛ أن يُحدِق بك الخطرُ من كل جانب وأنت لا تشعُر به، أو تظُن أنه قد ذهب عنك، فترجع إلى حياة اللهو واللعب، مطمئناً بضمانة السلامة، متوهِّماً زوال المحنة.
فينبغي أن نعي أن الحرب في مراحلها المختلفة: لا يلزم أن تقع في صور متشابهة يحويها أسلوب واحد.
إن صورة الحرب على كل بلد تتشكل بما يناسبه، فهي على بعض البلاد حربٌ عسكرية، وعلى بلد آخر حرب اقتصادية، وعلى آخر حرب سياسية نفسية.
ولذا فليس بالضرورة أن تكون المرحلة القادمة لحرب التحالف الصليبي على الإسلام كما وقعت في العراق، فواقع العراق فرض الحربَ العسكريةَ لأجل الإطاحة بنظامٍ مرد على العصيان، ثم الاستيلاء على حقول النفط.
أما المرحلة التالية فليس التحالف ـ فيما يبدوـ بحاجة إلى كل هذا، فيكفيه أن يلوِّح بالتهديد بالقوة على باقي الدول، و يمارس ضغوطاً سياسيةً واقتصادية؛ لفرض الهيمنة والوصاية عليها، ومن ثَمَّ القضاء على كل نظامٍ أو فكرٍ يعزز المدَّ الحركي للإسلام، أو نشاطٍ يهدد أمن إسرائيل.
وخطرُ هذه المرحلة يأتي في إحداث التغيير في المجتمعات الإسلامية بوصاية العدو من غير أن يشعر الناس بذلك، وهو التغيير بعد التخدير، وأن يُسوَّغ التغيير بحِيَلٍ وبواعث تنطلي على الناس، وقد يستحسنونها، فيطاوعون على التغيير وهم يظنون أن ذلك لا يمس جوهر الإسلام ولا ثوابته.
ولذا تستدعي هذه المرحلة مزيداً من الحيطة والحذر، والعمل، والمقاومة المنضبطة بالحكمة، ومراعاة المصلحة.
الحقيقة الثانية:
إذا كانت الحرب تختلف صورها وتتنوع أساليبها، فإن المقاومةَ هي الأخرى تختلف صورها تبعاً لاختلاف أساليب الحرب وصورها. فلكل حربٍ ما يناسبها من صور المقاومة.
إن المقاومة لا تعني بالضرورة المواجهةَ العسكرية لجيش العدو؛ لأنك أحياناً قد لا ترى العدو أمامك، وقد لا يكون لك قِبَلٌ به ولا طاقة.
فمعنى المقاومة إذن تخرج من مجرد المواجهة إلى الأخذ بجميع الأسباب التي تمنع العدو أن يصل إلى أطماعه في بلاد المسلمين، أو يفرض عليهم وصايته.
إن المقاومة تعني في أول ما تعنيه: حياطةَ الدين ومبادئه وقيمِه من كيد الأعداء أن يبدلوا منه شيئاً، أو يحرِّفوه، أو يُقصوه، أو يُحجِّموه.
كما تعني حفظَ البلد وثرواته من الاستعمار والنهب والاستيلاء، وهي تفرض على الأمة مزيداً من التواصي والتعاون على سدِّ كل ثغرةٍ قد يتسلل من خلالها العدوُ إلى التدخل في شئون البلاد الداخلية؛ لتغيير نُظُمِها التي لا تخلو من النظم الشرعية.
ومزيداً من التواصي على تربية المجتمع على عقيدة الإسلام وقيمه، وعلى بنائه فكرياً واقتصادياً وأمنياً؛ ليصبح قادراً على التمنع والمقاومة. والمجتمع الذي اعتاد حياة الترف واللعب والكسل والخنوع لا يقوى على مقاومة إغراء الشهوات والملذات، فكيف بمقاومة عدوٍ يملك أقوى عتاد!
إن المقاومة قد تُجدي ـ أحياناً ـ بالمواجهة في ساحة المعركة، ولكن في حين آخر وفي منطقة أخرى قد تكون المقاومةُ بتحامي المواجهة والمصادمة إلى صور أخرى هي أجدى من المواجهة نفسها، تُفوِّت على العدو فرصة التدخل والوصاية.
وكل ذلك مشروطٌ بألا يكون فيه مساومةٌ على الدين، ولا تضحيةٌ بقيمه، ونُظُمِه، ومبادئه.
وكما أن للحرب سبعين حيلةٌ، فللمقاومة سبعون مثلها.(70/10)
المهم أن نستشعر الخطرَ المحدِقَ بنا، وأن تجتمع كلمتنا وقوتنا، وأن نستنفرَ مجتمعاتِنا وجهودَنا لمقاومته، وأن نوظِّف هذه الكراهية التي نجدها من الناس على أمريكا في أعمالٍ إيجابية تعزز لمقاومة وتُنوِّع طرقها، وأن نُذكي نارَ هذه الكراهيةِ والبغضاء ضدها، كلما خبت زدناها سعيراً.
وفي سبيل مقاومة هذه الحملة الصليبية على بلاد المسلمين: فإن من مقتضيات المرحلة أن تختفي كل صور الاختلاف والعداوة وإن كانت حقاً لتبرز في الساحة عداوةُ التحالف الصليبي وحدها، فهو التحالف الذي يأتمِرُ بأمر اليهود، ولا يني في تحقيق رغبات إسرائيل عدو المسلمين جميعاً.
فليست أمريكا إلا عجلةٌ كبيرةٌ تديرها عجلةٌ صغيرةٌ تُسمى إسرائيل، فهي أكبر منتفع من هذه الحرب على بلاد المسلمين، وربما كان انتفاعها من هذه الحرب أكبر من انتفاع أمريكا نفسِها.
الحقيقة الثالثة:
لقد وضعت الحرب أوزارها...حربُ التحالفِ الصليبي على حزب البعث، ولكنَّ حربَهم على الإسلام لا تزال قائمةً يشُنّونها تحت شعار (مكافحة الإرهاب)، فهي حرب طويلة لا تنتهي بإسقاط رمزٍ أو دولةٍ، فالإسلام الذي يخشونه ليس حزباً محدود الأعضاء، ولا نظاماً يحصره بلد، حتى يكون بقاؤه مرهوناً ببقاء رمز أو دولة.
إن الحرب على الإسلام ستطول؛ لأن وجوده متجذِّر في القلوب، ممتد في أقطار الأرض، له سحره الأخّاذ، وتأثيره العجيب، تنتمي إليه شعوب كثيرة مختلفة الأعراق واللغات.
ولكن أيُّ إسلامٍ هذا الذي يعلنون الحرب عليه؟ هذا السؤال هو أحد الأسئلة المهمة التي لا ينبغي أن يغيب جوابُها عن الأذهانِ في هذه الأيام.
إنه ـ ولا شك ـ الإسلام الحركي العملي الذي يحكم الحياة ويصرِّفها، ويهيمن على نظمها، ويحيل العقائد المستكنّة في القلوب واقعاً ملموساً في الحياة... الإسلام الذي يستحيي عقيدة الولاء والبراء في القلوب؛ لتنطلق منها وشيجة الأخوة الإيمانية بين أتباعه، وتقيمَ بينهم رابطةً أقوى وأسمى من الرابطة القومية والوطنية والعرقية والإقليمية.
إنه الإسلام الذي يُعلِّمُ أهله أن إعداد القوة فريضة، وأنّ مقاومة الاستعمار جهادٌ مقدس، وأن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين نفاقٌ مخرجٌ من الملة، وصورة من أكبر صور الخيانة للأمة.
هذا هو الإسلام الذي يحذره الغرب، وتحاربه أمريكا اليوم.
أما التدين الشخصي الذي لا يحدث في الواقع تغييراً، ولا يجاوز حدودَ الشعائر التعبُّدية؛ كالصلاة والصوم والحج، فهم لا يحاربونه إن لم يكونوا يؤيدونه، ويودّون لو لم يفهم المسلمون من الإسلام إلا هذا التدين الشخصي، ونحن لا نشك بأنه تدينٌ واجبٌ مهمٌ، لكن لا يجوز أن نختصرَ الإسلام فيه.
والذين يقصرون الإسلام على هذه الشعائر التعبدية هم وحدهم الذين يتوهمون أن أمريكا لا تحارب الإسلام. وليس بمستغرَب عليهم هذا التوهم ما دام أنهم لم يخرجوا في فهم الإسلام وتطبيقه عن صورته المختزلة في بعض الطقوس، وهو الإسلام الذي لا تعارضه أمريكا إن لم تكن تؤيده؛ لأنه لا يهدد مصالحها، ولا يقاوم استعمارها.
ومع أن محاربتهم للإسلام نراه واقعاً ملموساً فيجب علينا أن نوقن إيقانَنا به أن الله ناصر دينه ومتم نوره، وأن الله يقيض لدينه أنصاراً يحوطونه ويدافعون عنه إذا تخلينا عن حمل رسالته والدفاع عنه، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) {التوبة:32}، (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً) {الطارق:15،16}
(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ){لأنفال: من الآية30}، ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ){محمد: من الآية38}.
الحقيقة الرابعة:
لم يعد خافياً على أحد أن من أهم الأهداف التي تسعى أمريكا لتحقيقها في حربها هذه ـ والتي توالت فصولها في تسارع شديد ـ هو حماية إسرائيل من كل ما يهددها، وضمان مصالحها في المنطقة.
يدفعها لهذا معتقداتٌ دينية واضحةٌ، تُضفي على حربها مسحةَ الدين ولَبوس الصليب.
ولا ينافي كونها صليبية أن يوجد في الغرب من يعارض هذه الحرب، إما لدوافع إنسانية أو لمصالح خاصة، كما يوجد من المسلمين من يتخلف عن الجهاد أو يعارضه في توقيته أو طريقته، فلا يسلبه هذا أن يسمى جهاداً.
فليس من شرط الحروب الدينية أن يُحشَر أهل الملة كلُّهم فيها، فما قامت الحملات الصليبية إلا من بعض النصارى، ومع ذلك فالغرب والشرق لا يختلفون في تسميتها حرباً صليبية.
ولا ينفي كونها صليبية أن يكون لها دوافع اقتصادية وإغراءات دنيوية، فاجتماع الدوافع الدينية والدنيوية لا يعود على أحدهما بالإلغاء، وكم اجتمعت الدوافع المختلفة في أمثلةٍ كثيرة.
ويظن بعض الأحبة أن الخلاف في هذا خلاف لفظيٌ لا يُغيّر من الواقع شيئاً، ولو كان كذلك لما سارع بعض المسؤولين في الإدارة الأمريكية إلى نفي أن تكون الحرب على الإرهاب حرباً صليبية بعد أن تفوَّه بها رئيسهم في بداية حربهم على الإسلام باسم مكافحة الإرهاب.(70/11)
إننا محتاجون أن نؤكد هذه الحقيقة حتى يستشعر الناس أن خطر هذه الحرب أول ما يَرِدُ يرِدُ على دينهم ويقصد عقيدتَهم، وبالأخص ما يستحيل واقعاً حركياً يغيِّر حياتهم.
وحتى يعلم الناس أن هذه الحرب القائمة على دوافع دينية لا يصح أن تقاوم إلا بدوافع دينية أيضاً، وأن التخلف عن مقاومة هذه الحرب بأي صورة من صور المقاومة يقع في دائرة التخلف عن الجهاد.
وهذه الحقيقةُ لا تدعو ولا تحرِّضُ على استعجال المواجهة، وإنما تحذر من التباطؤ والتثاقل في المقاومة (التي تسمى في الشريعةِ بجهاد الدفع).
الحقيقة الخامسة:
لم يعد يجدينا الآن اجترارُ الكلام في ذم نظام حزب البعث، ولا الاسترسالُ في تعدادِ جرائمه، فقد أصبح اليوم فعلاً ماضياً ونسياً منسياً.
لنترك هذا العمل الصغير للمتأمركين العرب مثقفين وكُتَّاباً الذين لم يُبدوا أي امتعاضٍ لاحتلال قوات التحالف أرضَ العراق، ولم تؤثر فيهم صور المأساة هناك.
لقد وجدناهم يتشاغلون عن إدانة جرائم الاحتلال وكشفِ أهدافه ونواياه، بل ويتغاضون عن كل ذلك عمداً، ويتحايلون عن ذلك بممارسة اجترارِ الكلام في نظام ولى وصار في خبر كان، ويسترسلون في استعادة الذاكرة لتعداد جرائمه التي كانوا -هم أنفسهم- لا يجرؤون أن يذكروها في حينها؛ لأن سيدتهم أمريكا تباركها.
فهم يُبدِئون الكلام ويعيدونه في استبداد نظام بغداد وطغيانه ربما تسويغاً للاحتلال وعملاً في تحسين صورته لدى قرائهم ومتابعيهم.
فالذي يجدي الآن ويتعين علينا هو التوجه إلى تعرية التحالف الصليبي، وفضحِ مخططاته، وكشف جرائمه؛ حتى يظهر للناس في صورته الحقيقة التي تشوهُ في كل عين ناظرة.
والإسهام في هذا لا يختص بالمثقفين ولا المفكرين ولا العلماء، إنه الإسهامُ السهل الذي لا يُعجز أحداً يستطيع أن يعمل.
فمثلاً: في استطاعة الشاب الصغير -الذي لا يحسن قراءة الأحداث ولا متابعتها- باستطاعته أن يتعرف على جرائم أمريكا وحلفائها من خلال آثار الدمار والقتل والنهب الذي خلفته حرب التحرير الموهوم.
ولن يعجَزَ مثل هذا الشاب ذي القدرات البسيطة أن يجمعَ صورها، ويجعلها وثائق لإدانة سياسة أمريكا، وتأليبِ الناس عليها، وتحريكِ كراهيتَهم لها كلما سكنت، وتذكيرهم بجرائمهم كلما نسوها؛ لعل ذلك أن يحرضهم على مزيدٍ من مقاومتها، ويدفعهم ـ أيضاً ـ إلى أن يتداعوا إلى إغاثة إخوانهم المكلومين هناك بكل سخاء.
هذا مثال واحد يدل على أن الإسهام في هذا المشروع الجليل لا يُعجز أحداً قادراً على العمل.
أسأل الله أن يجعل لنا ولإخواننا من كل هَمٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
==============(70/12)
(70/13)
الحرب الأمريكية على ساحة التعليم
د. محمد يحيى 1/9/1424
26/10/2003
بعد غزو العراق أعلنت أمريكا بوضوح أن أهم أهدافها من احتلال العراق هو تغيير نظام التعليم، وبالأصح المناهج والأفكار والمضامين لكي تصبح ديمقراطية ومضادة للدكتاتورية وحديثة.
وعندما بدأ الناس يسمعون بالتفاصيل تبين أن المقصود بصفة عامة هو تغريب تلك المناهج العراقية إلى حد أن الأمريكان تحدثوا عن ترجمة كتب الأفكار العامة التي تدرس في المدارس الأمريكية وفرضها على المدارس العراقية في شتى مراحلها. ومع التغريب جاء هدف العلمنة ونزع الإسلام بأشكاله من الكتب المدرسية العراقية بحجة محاربة الطائفية رغم أنه لا يوجد في العراق سوى الإسلام، وكان التركيز الأمريكي على التعليم مثيرًا للتساؤل؛ لأنه أتى في أولوية تفوق اهتمامهم بالبترول رغم الحديث الكثير على البترول باعتباره الهدف الأمريكي الأسمى من الغزو والاحتلال، والواقع أن الحرب الحقيقية على العراق كانت حربًا ضد العقول والضمائر، وضد الإسلام قبل كل شيء، ولهذا الهدف كانت الأولوية المعطاة لمسألة التعليم والفكر.
لقد عاملوا العراق بالضبط كما عاملوا اليابان وألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، فهناك غيّروا مناهج التعليم بالتحديد لمحو الهوية القومية والثقافية والتاريخية والحضارية، وخلف التبعية الفكرية والذهنية لأمريكا في تلك البلاد، وقد نجح هذا التدبير نجاحًا باهرًا بحيث أصبحت اليابان وألمانيا في الدول التابعة لأمريكا بذلة وخنوع، وتأمرك المجتمع في هاتين الدولتين مع الفارق هو أن المجتمع الألماني لم يكن بحاجة إلى تغريب؛ لأنه مجتمع غربي قح؛ بل هو أحد المجتمعات الثلاثية المؤسسة للحضارة الغربية أو الأوربية مع فرنسا وانجلترا، وقبلهما إيطاليا في عصر النهضة، أما اليابان كمجتمع شرقي؛ فكانت بالفعل قطعت خطوات على طريق التغريب قبل الحرب العالمية الثانية، ثم جاءت تلك الهزيمة لتسير البلاد على هذا الطريق لأبعد مداه وإن لم يكن كاملاً مئة في المئة.
مقاومة التغريب
أما في العراق وسائر البلاد العربية؛ فإن الأمركة والتغريب والعلمنة كانت ولازالت تلقى المقاومة الشديدة، بحيث أصبح من المطلوب ضربها الآن بالقوة الغاشمة الاحتلالية، ليس في العراق وحده، ولكن في كل البلاد التي يحكمها الأمريكان من خلال النخب. وكذلك فإذا كانت ألمانيا واليابان دولتين علمانيتين شبه كاملتين قبل الحرب العالمية الثانية؛ فإن الأمر لم يتضاعف بعد الحرب لأن العلمانية لم تتضاعف وكانت بالفعل جذورًا راسخة. أما في العراق والدول العربية؛ فإن الحال يختلف أيضًا على الرغم من سيطرة النخب المتغربة المعلمنة على مدى سنوات وعقود طويلة، لأن المجتمعات والبنى الفكرية والثقافية ظلت إسلامية وعربية، ومن هنا تصاعدت بشكل رئيس حدة الهجمة الأمريكية التغريبية العلمانية على الرغم من وجود تيار ديني متعصب صليبي يقود أمريكا، بل على العكس فإن وجود هذا التيار الصليبي الذي لا يؤمن بالعلمانية في تلك البلاد هو الذي دفعه إلى دعم وتحفيز وتصعيد العلمانية في العالم الإسلامي والعربي على سبيل الكيد للإسلام، وهذا هو الجديد في الهجمة العلمانية الجديدة المتصاعدة، ففي الماضي كانت الدول الأوروبية التي تفرض العلمانية على سبيل التحمس لمبدأ تؤمن هي به.
التيار الصليبي المتطرف
أما الآن فإن التيار الصليبي الحاكم صراحة وليس من وراء ستار أمريكا والصاعد وذا النفوذ في بريطانيا ودول أوروبية أخرى وبالذات في شرق أوروبا؛ يصعّد فرض العلمانية ومعها التغريب في العالم الإسلامي مدفوعًا بكل حقد الكيد للإسلام والرغبة في القضاء عليه..
هذه هي الخلفية التي يجب أن نقرأ عليها الرغبة الأمريكية المحمومة في تعديل بل تشويه مناهج التعليم في العراق قبل فعل أي شيء آخر في تلك البلاد.
إنها الحرب القديمة على الإسلام، لكنها الآن وفي ظل الحكم الصليبي السافر في أمريكا تأخذ شكلاً سافراً وحادًا وهستيريًا هي الأخرى، ومن الناحية الأخرى فإن حكاية الهجمة على النظام التعليمي بهدف تغريبه وعلمنته ليست جديدة ولنفس دوافع ضرب الإسلام لقد توصلت إليها الدول العربية في أواسط الثمانينيات تحت الشعار التونسي الشهير "تجفيف المنابع"، والذي عم جميع البلدان الأخرى، واتخذ شكل تأميم المساجد وفرض الخطب والدروس الدينية المعلمنة، وفرض الفتاوى وضرب الحركات الإسلامية بأبشع الوسائل وفرض القوانين الاستثنائية..
إن الهجمة التغريبية على نظام التعليم في العالم العربي ليست جديدة ولا مرتبطة بوصول الحكم الصليبي الحالي في أمريكا؛ فعلى مدى ما يقرب من العشرين عامًا سمعنا عن مراكز أمريكية لوضع المناهج في مدارس بلدان كبرى في العالم العربي، ومحيت الكتب الدينية أو كادت ومعها تدريس الدين، ووضعت مناهج علمانية سميت بـ"تدريس الأخلاق" كبديل عن الدين الإسلامي بالذات.
فضح العملاء(70/14)
وسمعنا من العلمانيين أصحاب أمريكا من يعلن بكل فخر أن التعليم هو مشروعه النهضوي للأمة، وكان في ذلك يعني كلمة واحدة هي فقط علمنة وتغريب الأمة، ومحصلة هذا الأمر كله هو أن الحرب على الإسلام أصبحت تدور الآن على ساحة التعليم باعتباره مجال صنع العقول والضمائر للأجيال القادمة، وقد انتقلت من ساحة السياسة إلى الساحة الاجتماعية، ولعل دخول الأمريكان بهذه الفجاجة والغباء وكذلك إلى ميدان كشف الأوراق؛ فضح العملاء، وأثبت للجميع أن كل الدعاوى التي كانت تردد حول تحديث التعليم والمشاريع القومية الكبرى فيه مجاراة العصر ليست سوى تغطية للفكر الأمريكي المفروض على الجميع في هذا المجال.
إنها ليست سوى أوراق توت خائبة يسعى البعض لوضعها، لكن سقطت مع سفور الخطة الأمريكية لحكم العراق وتغييره
============(70/15)
(70/16)
كتاب " حصار القاعدة " قراءة في الفكر السياسي الأمريكي .
عرض : محمد سليمان 2/5/1424
02/07/2003
*
* العنوان : حصار القاعدة
* المؤلف: برين ميتشيل جنكنز.
ط 1 ، عام 2002م
أدت أحداث 11 سبتمبر إلى زيادة كبيرة ونوعية ملحوظة في اهتمام مراكز الدراسات الأمريكية في موضوع الإسلام السياسي ، وبالأخص تنظيم القاعدة والجماعات الجهادية ؛ حيث خصصت مجموعة كبيرة من مراكز الدراسات الأمريكية أقساماً خاصة لدراسة ما تطلق عليه بالإرهاب ، وغالبا ما تجد أنّ الدراسات في هذه الأقسام تتناول تنظيم القاعدة بشكل رئيس.
هذا الاهتمام البحثي والسياسي بتنظيم القاعدة أنتج مئات الدراسات والتقارير والمقالات التي تدرس وتحلل التنظيمات الإسلامية ، وعدداً كبيراً من الباحثين المتخصصين في هذا الحقل المعرفي ، إلاّ أنّ ما يميز أغلب هذه الدراسات هو التحيز الكبير ضد الحركات الإسلامية ، وتجاهل الأسباب الموضوعية التي أدت الى أحداث 11 سبتمبر وغيرها من حوادث العنف ، ومحاولة تبرئة الولايات المتحدة وسياساتها من فرضية أنها ساهمت بشكل كبير في إنتاج حالة من الغضب العارم في العالم العربي كله ضدها ، خاصة موقفها من القضية الفلسطينية وتأييد الكيان الصهيوني، طبعاً باستثناء عدد محدود من الباحثين والذين قدموا رؤى أقرب إلى الموضوعية والحياد البحثي المفترض في مراكز دراسات كبرى كالتي تتواجد في الولايات المتحدة.
وتمتاز الدراسات والكتب التي تصدر عن مؤسسات بحثية معروفة في أمريكا بأنها لا تُلقى على الرف أو لا يستفاد منها، بل تساهم بشكل كبير في ترشيد صانع القرار هناك ، أو حتى النخب السياسية . ومن هذه المؤسسات البحثية الكبرى والمشهورة مؤسسة " راند " ، والتي نتناول اليوم أحد إصداراتها حول الإسلام السياسي وبالتحديد تنظيم القاعدة ، وهو كتاب " حصار القاعدة Counte r ing al Qaeda "
المقدمة:
يتناول المؤلف في المقدمة الأفكار الرئيسة في الكتاب ؛ إذ يعرض ما استطاعت الولايات المتحدة تحقيقه إلى الآن في حربها على الإرهاب ، وأبرز ما في ذلك القضاء على حكومة طالبان والمعسكرات التدريبية لتنظيم القاعدة . في ذات الوقت الذي تمكنت فيه من تجنب إظهار أنّ حربها ضد طالبان والقاعدة هي حرب ضد الإسلام ، الأمر الذي كان يروج له أسامة بن لادن ، كما استطاعت الولايات المتحدة توظيف الأحداث لبناء تحالف دولي متين ضد الإرهاب.
لكن على الرغم من الانجازات السابقة إلى أنّ الولايات المتحدة ما تزال تواجه خطر الإرهاب ، وما زال المجتمع الأمريكي يقع تحت ضغط التحذيرات من هجومات إرهابية محتملة. إن البيئة الأمنية التي تعمل من خلالها الولايات المتحدة قد تغيرت تماماً ، وهناك وظائف جديدة تبرز الحاجة إليها للتعامل مع الأشكال الجديدة للإرهاب.
إذ أنّ الانتصار الذي حققته الولايات المتحدة في الحرب الأفغانية بمثابة المرحلة الأولى من الصراع مع الإرهاب، والآن هناك المرحلة الثانية من الصراع والتي تمتاز بتعقيد أكبر، الأمر الذي يستدعي استمرار الجهود للقضاء على القاعدة، من بناء قاعدة معلوماتية استخبارية، بناء سيطرة اقتصادية واستخدام وسيلة العقوبات الاقتصادية ، ووسائل الحرب النفسية ، وبناء تنسيق عالمي أكبر...
فهم العدو.
يضع المؤلف عنوان " فهم العدو" للفصل الأول من كتابه ، والذي يحاول فيه دراسة قضايا رئيسة في تنظيم القاعدة : جذور التنظيم وتطوره ، العمليات والتخطيط والحركة ، تغير الإدراك حول الخطر الإرهابي ، ما بعد 11 سبتمبر، فرضيات واقعية..
1- جذور القاعدة وتطورها:
يرى الكاتب أن القاعدة كانت إنتاج الصراع الأفغاني بين المجاهدين والحكومات الداعمة وبين الاتحاد السوفيتي السابق ، والذي اعتبره المجاهدون صراعاً مقدساً ، وكانت المعسكرات في أفغانستان تجمع عدداً كبيراً من المتطوعين من مختلف دول العالم العربي والإسلامي ، وكان هذا الجهاد يحصل على دعم مالي كبير من مختلف مناطق العالم الإسلامي.
بالإضافة إلى قيام المجاهدين بالقتال جنباً إلى جنب، كانت هناك علاقات وطيدة تنمو بينهم، وبدأت هناك رؤية عالمية مشتركة لديهم حول كثير من القضايا التي تخص المسلمين، وقد أخذ المجاهدون دفعة كبيرة من الثقة بالنفس جرّاء الانتصار الذي استطاعوا تحقيقه ضد الاتحاد السوفيتي، وانهياره فيما بعد.
وبدلاً من الترحيب بهم لدى عودتهم إلى أوطانهم وبلدانهم كمنتصرين وأبطال حرب، رأت أنظمتهم فيهم خطراً يهدد سلامتها وأمنها، فاضطروا إلى بناء معسكرات جديدة في دول متعددة من العالم.(70/17)
ويرى المؤلف أن هناك عدة أسباب أدت إلى استمرار مبررات الجهاد وعدم انتهاؤه عند المحطة الأفغانية، وبالتالي ساهمت هذه الأسباب في تطور وبلورة فكر وقدرات القاعدة، ومن هذه الأسباب حرب الخليج الثانية والقوات الأمريكية في الخليج، الصراع بين الحركات الإسلامية وبين الأنظمة، الجمهوريات الإسلامية الجديدة في أسيا الوسطى، قضية كشمير، الفلبين ، الصراع في البوسنة، قوى العولمة التي شعر الكثيرون أنها تهدد ثقافاتهم المحلية، استمرار الحرب الأهلية في أفغانستان ، رغبة هؤلاء المتطوعين والمجاهدين باستمرار نشاطهم الجهادي بعد الانتصار الذي استطاعوا تحقيقه، وشعورهم بمكاسب اجتماعية ، وفوق ذلك وذلك ساهم في استمرار فكر الجهاد وبقاء مبرراته الملاذ الآمن الذي وفرته حكومة طالبان للمجاهدين ، وقدمت لهم التسهيلات لبناء معسكرات تدريب ، مما أدى إلى قدوم أعداد أخرى من المتطوعين والمجاهدين إلى أفغانستان.
لقد ساهم أسامة بن لادن في صوغ النظرية الجهادية لتنظيم القاعدة بالاتكاء على فكرة محورية في العالم الإسلامي وهي فكرة توحيد المسلمين تحت راية الخلافة ، والعمل على إقامة دولة الإسلام، وقدم تنظيم القاعدة رؤية أحادية الأبعاد للصراعات والنزاعات الداخلية في الدول العربية تقوم على أنها حرب بين الحركات الإسلامية التي تسعى إلى إقامة الخلافة وبين الأنظمة الفاسدة والتي لم تستطع البقاء لولا دعم الولايات المتحدة، وبالتالي تحقيق غاية هولاء الشباب وأهدافهم تكمن في مواجهة العدو العام والرئيس الذي يحول دون ذلك وهي الولايات المتحدة الأمريكية.
هذا التصور الفكري أوجد عدواً محل اتفاق بين المجاهدين يسهل توصيفه وتحديده، وانضم الآف آخرون للمجاهدين السابقين ، وهكذا بدأت معالم تنظيم القاعدة بالتشكل.
من جانب آخر تمكنت القاعدة في بلورة قوتها مستفيدة من حماية واحتضان حركة طالبان لها في أفغانستان، والدعم المعنوي الذي تلقته من باكستان، والقدرات التمويلية الكبيرة، وكل ذلك محفّز برؤية كبيرة وقوية تصور القاعدة على أنها الحامل الإسلامي الذي يستجيب للبنية النفسية للمسلمين المثخنة بهزائم الماضي والشعور بالإحباط والإذلال والاستياء والخوف . وساهمت التفجيرات التي قامت بها القاعدة في إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا في تعزيز حسابات القاعدة باعتبار أسامة بن لادن قائداً وبطلاً في نظر الكثير، وكانت الأمور تسير في هذا الاتجاه.
2- العمليات، التخطيط ، الحركة:
القاعدة ليست مجرد منظمة، إنها عمليات، ومصدرها الرئيس هو القدرة الإنسانية، والإمكانيات المستقبلية لعمل القاعدة وقدرتها يتوقف على قوتها في جمع وتجنيد المتطوعين والمرشحين لتنفيذ أهدافها.
ويحاول الباحث تتبع أحد روافد التعبئة والتجنيد الذي تقوم به القاعدة من خلال ما توافر لديه من معلومات حول تجنيد الذين قاموا بأحداث 11 سبتمبر، فهم من المهاجرين العرب في أوروبا وأمريكا، كانوا يبحثون عن الإيمان الحتمي المطلق، ويفتشون عن معانٍ عظيمة يصبغون بها حياتهم، ينتمون إلى مستويات مختلفة من التعليم والقدرات، كانوا يترددون على المساجد، ووجدوا مجموعات من المصلين تقدم لهم تفسيرات وتأويلات راديكالية للإيمان، وخطباً ملتهبة تحدد وتصف أعداءً معروفين.
وفي الوقت الذي تم فيه انتخابهم وتجنيدهم الأولي في الغرب، وفرت لهم أفغانستان معسكرات التدريب، وهي بمثابة الاختبار الشاق والامتحان الصعب، والذي يؤدي إلى أن يصبح المرشح عضواً في جماعة عالمية تمحو كل الولاءات وتبقي فقط الولاء لهذه الجماعة.
ثم يتطرق المؤلف إلى الأفكار التي يرى أن الأعضاء يكتسبونها ويحملونها في تنظيم القاعدة، حيث يرون أنّ الانجاز يرتبط بالأعمال البطولية التي تؤدي إلى إعادة الخلافة المثالية الإسلامية في الأرض. الأمر الذي يرى الكاتب أنه يتطلب تفسيراً عدوانيا للجهاد، بينما التعليمات التي يتلقاها هؤلاء الأعضاء واضحة: لا يوجد أبرياء في الحرب. والمتدرب الأقوى يتلقى تدريبا أعمق، ثم يعود المتدربون من أفغانستان إلى العالم وهم يشعرون بالمسؤولية والمهمة التي يجب أن يقوموا بها، وامتلاكهم القدرة على القيام بذلك.
3- تغير الإدراك حول الخطر الإرهابي:
لقد أدت أحداث 11 سبتمبر إلى تغير في إدراك الولايات المتحدة لخطورة ودرجة الإرهاب، وإلى إجراء مراجعة شاملة حول الفشل في قدرة الأجهزة الأمنية في الإمساك بالذين قاموا بالتفجيرات قبل القيام بها؛ فعلى الرغم من أنّ تنظيم القاعدة مراقب عن قرب من قبل الأجهزة الأمنية الأمريكية، وصل عشرون [إرهابيا] إلى الولايات المتحدة من القاعدة وتمكنوا من الدخول، والقيام بالاستعدادات اللازمة، والتدريبات المطلوبة، واستلام التحويلات المالية، والتنقل بحرية للقيام بعمليتهم، الأمر الذي دفع إلى السؤال حول مدى قوة الأجهزة الأمنية.(70/18)
كما أن التغير في الإدراك الأمريكي لخطورة الإرهاب المرتبط بقراءة عمليات 11 سبتمبر، يقوم على تطور خطورته وتناميها بشكل كبير، فحادث أرهابي في السبعينات ضد الولايات المتحدة أودى بحياة العشرات، وفي الثمانينات والتسعينات أدت العمليات الإرهابية إلى قتل المئات، اما أحداث أيلول فزادت الأعداد إلى الآلاف.
ويدرس المؤلف خطورة الإرهاب مستقبلاً من خلال احتمالية تمكن القاعدة من الحصول على أسلحة الدمار الشامل، خاصة أنّ ما تم الوصول إليه من المعلومات حول معسكرات التدريب في أفغانستان يثبت أنّ القاعدة كانت تفكر وتسعى للحصول على هذه الأسلحة من مصادر متعددة.
4- ما بعد 11 سبتمبر:
على الرغم من أنّ أسامة بن لادن كان يدرك تماماً أنّ الولايات المتحدة سوف تقوم برد فعل كبير وعنيف ضد أحداث 11 أيلول، إلاّ أنه كان يرى أنّ هذا سوف يؤدي في نفس الوقت إلى تجنيد الآف المتطوعين المتعاطفين مع قضايا وفكر القاعدة، وسيؤدي إلى سقوط الأنظمة العربية المؤيدة للولايات المتحدة، بحيث سينظر لها على أنها متحالفة مع الامبريالية الأمريكية.
ويرى الكاتب أنه وبعد مرور 9 شهور على الأحداث، فقد استطاعت الولايات المتحدة تدمير حكومة طالبان، إلاّ أنها لم تستطع القضاء على الحركة كلياً ، كما أنها تمكنت من إزالة معسكرات القاعدة، وقتل عدد من قياداتها، وأسر عدد آخر، إلاّ أنّ البعض ما يزال هارباً. وانقلبت باكستان بعد أن كانت تدعم طالبان في السابق على سياساتها، كذلك الأمر تعهدت وعدة دول من الشرق الأوسط بالمساهمة بشكل فعال في محاربة الإرهاب ، الأمر الذي أدى زيادة احتياط القاعة في مصادر الدعم المالي، وأصبحت عملياتها أكثر سرية.
* القاعدة لن تهدأ..
يرى المؤلف أن القاعدة لن تهدأ ، وأنها ستستمر في بناء قدرتها وترميم شبكتها العالمية، وقد أخذت خطوات عملية في إخفاء مفاتيح عملية من عناصرها، وإجراء احتياطات لحماية الدعم المالي وحماية قياداتها، وقد أثبتت بقاءها من خلال عدة عمليات في تونس وباكستان والسعودية، هذا غير الخلايا التي اكتشفت قبل أن تنفذ عمليات أخرى.
ويرى الكاتب أن مصدر قوة القاعدة يتمثل الآن في تصورها كقوة إسلامية قادرة على إحداث الدمار والخراب في أعدائها، كما أن أسامة بن لادن ما زال حراً -على الرغم من الشكوك حول صحته- وهناك قيادات فعالة هاربة، وعناصر ما زالت غير معروفة. إلاّ أنه لا يوجد معايير للتأكد من درجة وقدرة الشبكة، باستثناء ما تبين بعد 11 سبتمبر من أنها مكثفة، وتعمل في أكثر من 60 دولة. وقد تم القاء القبض على أكثر من الفي مشتبه، لكن أخرون اختفوا تحت الأرض!، وستبقى القاعدة تستفيد من العدد الكبير من المتطوعين والمرشحين، وتستفيد من قائمة الأهداف الكبيرة والمتعددة والتي يمكن أن تستهدفها وتدمرها.
ويبين الكاتب أن التنظيم يواجه مشكلات كبيرة بعد الضربات التي لحقت به، تجعل قيامه بعملية بمستوى أحداث سبتمبر أمراً مستبعداً، إلاّ أنها يمكن أن تقوم بعمليات أقل من حيث الدرجة والتخطيط.
5- فروض واقعية:
ينهي الكاتب الفصل الأول بعدة فروض عملية فيما يتعلق بفهم وإدراك خطر القاعدة:
- هناك رغبة شديدة بالانتقام من قبل القاعدة.
- تشكل القاعدة الخطر الأكبر الذي يهدد الأمن الأمريكي.
- على الرغم من الانجازات التي تحققت، إلاّ أنّ قدرة الأجهزة الأمريكية على منع تهديد القاعدة محدودة.
استراتيجية للوجه الثاني من الصراع في الحرب على الإرهاب:
قامت الولايات المتحدة بتنفيذ استحقاقات المرحلة الأولى من الحرب على الإرهاب، لكن يبقى السؤال: ماذا بعد؟..
الحملة على الإرهاب دخلت المرحلة الثانية والتي تحمل وجهاً أكثر تعقيداً، التحدي الأكبر هو: أنّ العمليات العسكرية تتحرك اتجاه خطر واحد محدد، لكن المهمات المعقدة القادمة تقوم على عمل عدة أقسام ووكالات ومكاتب، وقد يؤدي الأمر إلى فقدان التركيز الحالي الموجود في الاستراتيجية الأمريكية، لذلك على الاستراتيجية المطلوبة أن تركز على عناصر رئيسة في الحرب على الإرهاب، كما يلي :
1- تدمير القاعدة يجب أن يبقى الهدف الأساس للحملة على الإرهاب
يرى الكاتب أن القاعدة سوف تستخدم وسائل جديدة وتغير طرقها ورموزها المستخدمة، وأدواتها، وسوف تفرز قيادات جديدة، وتعمل على القيام بعمليات تدمير جديدة، من خلال إعادة الاتصالات، وتحريك المصادر الداعمة للعمليات الإرهابية. يقول: " مشروع القاعدة نفسه ليست إمكانية تدميره بالأمر السهل ، يمكن فقط إعطابها من خلال تدمير العمليات التي تزودها بالعناصر البشرية والمادية ، يجب العمل على إبقاء الهجومات الإرهابية المحتملة ضمن الحدود الدنيا " .
2- محاربة القاعدة يجب أن تبقى تخضع لعقلية موحدة منسقة:(70/19)
يدعو الكاتب إلى تبني سياسة الإدماج، وتوحيد جهود الولايات وحلفائها في محاربة الحركات [الإرهابية]، ويجب التعامل مع الأحداث التدميرية في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وفي الصراع بين الهند وباكستنان على كشمير، وإرادة الولايات المتحدة في التعامل مع أخطار أخرى من خلال النظر لها على أنها جزء من الأخطار المفاجئة والمستمرة المرتبطة بالقاعدة.
3- الحملة على الإرهاب يجب أن تأخذ وقتاً:
الحرب على الإرهاب على طول التاريخ كانت طويلة، وتأخذ وقتا قبل نجاحها. والقاعدة ذاتها ثمثل أكثر من عقد في التحضير والبناء لتنفيذ عملياتها الإرهابية، وتخطيطها لأحداث 11 سبتمبر أخذ ثلاث أو ربما أربع سنوات.
القتال ضد القاعدة في أفغانستان يجب أن يستمر ما دامت عمليات القاعدة موجودة، والبعض يجادل أن الولايات المتحدة لم تنه حربها ضد القاعدة تماما في أفغانستان، ويقول الباحث : إنه من الذين يرون أن الأفضلية في القضاء على القاعدة هناك قبل تتبعهم في الأماكن الأخرى ، وبالتالي البقاء الأمريكي في أفغانستان يحتاج إلى رؤية واستراتيجية جديدة في مواجهة القاعدة .
4- باكستان يجب أن تبقى في جانب التحالف في الحرب على الإرهاب؛في جهود تدمير بقايا القاعدة وطالبان .
ويرى الكاتب أن أبرز الأمور المطلوبة من باكستان، تتمثل في: الحد من نشاط الجماعات الإرهابية في كشمير، إغلاق المدارس الدينية التي تزود المتطرفين بالعناصر البشرية، وإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية، وزيادة مناخ الحرية لمحاربة التطرف الديني، في المقابل سوف تقدم الولايات المتحدة دعماً سياسياً واقتصادياً لها.
5- الوثائق والاعتقالات كشفت كثيراً من المعلومات عن شبكة القاعدة ، فلا بد من إيجاد تنسيق وتوحيد بين العمليات الاستخبارية واستحداث أقسام جديدة لذلك.
6- الوجه الثاني من الحرب على الإرهاب لا يمكن أن يحقق أهدافه، ويصل إلى النجاح، دون وجود تحالف دولي فعال، تشترك فيه العديد من دول العالم .
ويذكر الكاتب في هذا السياق دور كل من : إسرائيل ، والأنظمة العربية المعتدلة ، ووكالة المخابرات الأمريكية، والدول الصديقة.
كما أنّ ردع الإرهاب يختلف بشكل كلي عما سبق، فهناك خلايا منتشرة وليس عدوا واضحا محددا ، والقادة الإرهابيون المنتشرون لا يسيطرون سيطرة تامة على أتباعهم بل قد يجدون صعوبات كبيرة في ذلك.
7- يجب أن يكون واضحاً أن استخدام الإرهابيين لأسلحة الدمار الشامل، سيؤدي إلى رد فعل استثنائي.
8- استراتيجية الأمن الداخلي لا بد أن تطور حتى تصبح فعّالة وقوية.
9- يجب ألاّ تتناقض الحرب على الإرهاب في الداخل والخارج مع القيم الأمريكية.
ثم ينهي الكاتب ببعض الخلاصات والنتائج التي تم تقديمها في العرض السابق .
===============(70/20)
(70/21)
آثار وتداعيات تفجيرات سبتمبر
د. محمد مورو 24/7/1425
09/09/2004
بمناسبة مرور ثلاث سنواتٍ على حادث 11 سبتمبر 200، والذي كان من القوة والأثر والتداعيات بمثابة هزة أرضية، ينبغي أن نطرح عددًا من الأسئلة حول آثار هذا الحادث عالميًا وإقليميًا، وحول التحديات التي طرحتها تلك الآثار على أمتنا عمومًا، وعلى الحركة الإسلامية خصوصًا.
ينبغي في البدء أن نقر أن العالم بعد أحداث 11 سبتمبر ليس هو العالم بعد تلك الأحداث، ولكن في المقابل ينبغي ألا نقع في الأخطاء المنهجية التي وقع فيها البعض فنربط حوادث ليس لها علاقة مباشرة ومنهجية بذلك الحادث به، وبالتالي نقع في مجموعة من الأخطاء والأوهام وسوء التقدير.
يمكننا أن نقسم الآثار إلى ثلاثة أنواع: آثار لم تكن لها صلة مباشرة بالحادث، وآثار كان الحادث بمثابة قوة دفع لتحفيز عمل تلك الآثار، وآثار كان لها صلة مباشرة بالحادث. وبدهي أنه ليس هناك فواصل حديدية بين الأنواع الثلاثة من الآثار؛ فيمكن لإحداها أو بعضها أن تقع في نوعين من الثلاثة أو حتى الثلاثة أنواع، وعلى قدر الإمكان ولدواعي البحث والتحليل سنتعامل مع تلك الآثار، وفي الأغلب الأعم فإن كل الآثار قد تلقت نوعًا من التحفيز سلبًا أو إيجابًا بسبب الحادث، أو كان الحادث نوعًا من الكشف لعملها الذي كان مستترًا من قبل.
الحرب على الإسلام
في رأينا فإن الحرب العالمية على الإسلام والمسماة (الحرب على الإرهاب)، سواء على مستوى ضرب الجمعيات الخيرية الإسلامية أو محاصرة العمل الخيري أو الثقافي أو الاجتماعي أو إعلان عددٍ من الحركات الإسلامية بأنها حركات إرهابية، أو زيادة حالات الاضطهاد للأقليات الإسلامية في الدول الغربية، أو طلب تغيير مناهج التعليم الإسلامي، أو محاولة تزييف تفسير الإسلام، أو رصد ميزانياتٍ لنشر أفكار معينة حول ثقافة السلام والتسامح "المزعومة زورًا وبهتانًا"، أو إنشاء قنواتٍ تلفزيونية وإذاعية، وصحف، ومراكز أبحاث تضرب الثقافة الإسلامية، أو نشر ما يسمى بالثقافة العالمية "الأمريكية"، وغيرها من الأشكال والممارسات المريبة؛ كلها كانت جزءًا من استراتيجية غربية وأمريكية قفزت إلى السطح ليس بعد أحداث 11 سبتمبر، ولكن بعد سقوط المنظومة الاشتراكية، والتحدي السوفيتي السابق، على أساس أن الصراع مع الحضارة الإسلامية، ومحاولة القضاء على الإسلام، هو استراتيجية حضارية غربية لم تغب يومًا منذ حياة الرسول، وحتى اليوم، مرورًا بالحروب الصليبية في الشرق 1095 - 1294، وحروب الألف عام في المغرب العربي، ثم الاستعمار، فالصهيونية، فالاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق، وما بعده... هذه الحرب على الإسلام كانت تقوى أحيانًا وتضعف أحيانا، دون أن تغيب لأسباب معينة، كان منها التحدي السوفيتي، والاشتراكي لمدة معينة وبمجرد زوال هذا التحدي عاد التناقض الإسلامي الغربي ليكون في المواجهة.
وكذا فإن ما يسمى بمفاهيم الإمبراطورية الأمريكية، أو صعود اليمين الأمريكي لم يكن بسبب حادث 11 سبتمبر ولكن كان جزءًا من التطور للمجتمع الأمريكي، أو تحديدًا لتطور أهداف ومفاهيم المؤسسة الحاكمة في أمريكا، وهي تتشكل أساسًا من المجمع الصناعي العسكري، والرأسماليين، واللوبيات "جماعات الضغط"، وهكذا فإن المؤسسة الحاكمة في أمريكا كان لابد أن تتطور باتجاه مفاهيم الإمبراطورية مع ملاحظة أن تطور هذه المفاهيم والقوى كان قد ظهر قبل حادث 11 سبتمبر، وبالتحديد في نهاية القرن الماضي، ويمكننا أن نعتبر حادث 11 سبتمبر بمثابة الكاشف للحالة والمحفز لها، أو الذي أعطاها الفرصة لتظهر بسرعة وبقوة؛ فلو لم يقع حادث 11 سبتمبر مثلاً لكانت المؤسسة الأمريكية قد احتلت العراق أيضًا، وفعلت نفس الشيء، وكذلك أفغانستان ربما كانت ستبدأ بالعراق فإيران ثم أفغانستان مثلاً، ولكن جوهر المسألة ومضمونها النهائي واحدٌ في كل الأحوال.
زيف الديمقراطية
من جانب آخر فإن زيف الديمقراطية الغربية والأمريكية كان أمرًا معروفًا ومشهورًا لكل ذي بصيرة؛ فيكفي مثلاً أن الغرب وأمريكا دعموا إسرائيل منذ هرتزل وإلى الآن؛ أي: على مدى ما يزيد على المئة عام، ومارست إسرائيل والصهيونية خلالها كل أنواع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع، وكلها جرائم تتعارض مع مفاهيم الديمقراطية المزعومة، وأثبت تلك الممارسات الصهيونية، والدعم الغربي والأمريكي لها أن الديمقراطية الغربية مزيفة، أو على الأقل ديمقراطية عنصرية، ولكن حادث 11 سبتمبر، وما تبعه من تخلي الإدارات الأوروبية والأمريكية عن مفردات حقوق الإنسان، وما حدث في معسكر غوانتنامو مثلاً، وقلعة جانجي "أفغانستان"، وسجن أبي غريب "العراق"، وكل ممارسات المراقبة والاعتقال والمحاكمات التي انتقدتها حتى منظمات حقوق الإنسان كلها أثبتت وبما لا يدع مجالاً للشك أن الديمقراطية الغربية والأمريكية ديمقراطية مزيفة، وبدهي أن حادث 11 سبتمبر قد كان حادثًا كاشفاً لهذا الأمر وسببًا قوياً من أسبابه.
الذعر الأمريكي(70/22)
إلا أن حادث 11 سبتمبر قد ساهم بصورة مباشرة في عددٍ من المستجدات الدولية والإقليمية؛ فمن ناحية ثبت بعد الحادث أنه يمكن إنزال الضرر والألم بأقوى قوة استكبارية في التاريخ، وأن القوة والتكنولوجيا والاستخبارات والاستحكامات لن تكون حائلاً أمام المستضعفين لتحدي جبروت هذه القوى الجبارة، وكذلك ظهور الإحساس بالخوف، وعدم الأمان لدى قطاعات الشعوب الغربية والأمريكية، وهو أمرٌ مستجدٌ تمامًا، ويمكن أن يكون له آثار مباشرة على سلوك تلك المجتمعات وممارساتها، وطريقة حياتها، وكذلك فإن اتهام جماعة إسلامية معينة بأنها وراء الحادث كان له آثار سلبية بالطبع على مجمل الحركة الإسلامية، والعمل الإسلامي، والمجتمعات الإسلامية؛ بل والحكومات في الدول العربية والإسلامية، ولكنه كان له جانبٌ آخر هو أن رسالةً قد وصلت إلى كل العالم.. هذا العالم الذي يعاني أكثر من 90% منه من سيطرة ونهب الغرب الاستعماري والأمريكي، وكذلك قطاعات مهمشة أو في سبيلها للتهميش داخل المجتمعات الغربية وأمريكا ذاتها.. هذه الرسالة تقول إن الإسلام يفرز أناسًا قادرين على التحدي - خطأ أو صوابًا - ومن ثم يجعل هذا الكم من مستضعفي العالم "وهم 90%" والذين يحلمون بالعدل أو مواجهة الآلة الرأسمالية الظالمة يرون الإسلام بمثابة أيديولوجية صالحة لجميع الطبقات بمن فيهم الفقراء والمحرومين، ومن ثم فهذا في النهاية يصب في صالح الإسلام كفكرة وعقيدة وأيضاً كدين.
ومن آثار أحداث 11 سبتمبر أيضاً أن فكرة الحرب التقليدية قد انتهت؛ فلم تعد الحروب بين دول وجيوش، ولكن بين دول وجيوش من ناحية وبين مجتمعات وحركات من ناحيةٍ أخرى، وإذا كانت القوة وحدها هي التي تقرر نتيجة الحرب بين دول ودول أو جيوش وجيوش؛ فإن كثيرًا من العوامل تدخل في حساب نتيجة الصراع بين جيوش ودول من ناحية ومجتمعات من ناحية أخرى، وهو ولا شك تطور في صالح المستضعفين الذين بات من الممكن لهم الأمل في كسر أهداف الأشرار وعدم الانصياع لرغبات القوى الكبرى والدول الظالمة، وإمكانية تعطيل آلة النهب الرأسمالي الجبارة وحرمان المستكبرين من ثمار عدوانهم.
==============(70/23)
(70/24)
الحرب العالمية الرابعة
د. محمد مورو 19/5/1425
07/07/2004
اعتبر البروفيسور "إليوت كوهين" أن الحرب الباردة ضد الشيوعية كانت الحرب العالمية الثالثة، وأن أمريكا والغرب الرأسمالي قد حقق فيها انتصارًا ساحقًًا، وهو ما عبر عنه الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في كتابه المعنون "نصر بلا حرب" وحسب البروفيسور إليوت كوهين أيضًا؛ فإن أمريكا تعتبر نفسها الآن تخوض الحرب العالمية الرابعة ضد العالم الإسلامي تحت اسم مواجهة الإرهاب الإسلامي، وفي الحقيقة فإن الوجدان الغربي الصليبي كان ولا يزال قويًّا، وهذا الوجدان الصليبي العميق في تلافيف العقل الغربي وجد الآن من يستغله متمثلاً في عصابة اليمين الأمريكي الجديد التي ركبت إدارة جورج بوش الابن واستغلت أحداث 11 سبتمبر لنشر أفكارها وتنفيذها حول السيطرة على العالم، ومفاهيم الإمبراطورية الأمريكية الجديدة؛ وهي مفاهيم وأفكار سابقة بالطبع على أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث إن فكرة اعتبار العالم الإسلامي خطرًا على الحضارة الغربية فكرة سابقة على أحداث 11 سبتمبر، وهي فكرة تقليدية في الوجدان الغربي أولاً، وتصاعدت بقوة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي بمناسبة سقوط الخطر الشيوعي وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق والمنظومة الاشتراكية الدولية، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تنتقل من الحرب العالمية الثالثة إلى الحرب العالمية الرابعة.
الحرب على الإسلام
وقد عبر عن ذلك الرئيس الأمريكي الأسبق "ريتشارد نيكسون" في كتابه (الفرصة السانحة)؛ حيث اعتبر أن الإسلام سوف يصبح قوة جيوبوليتيكية خطيرة وأنه مع التزايد السكاني والإمكانيات المادية سوف يشكل المسلمون مخاطر كبيرة، وأن الغرب سوف يتحد مع الاتحاد السوفيتي ليواجه هذا الخطر - كان ذلك قبل تفكك الاتحاد السوفيتي-.
ويقول إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني: "إن هناك قوى في أمريكا والغرب نجحت في نشر صورة سلبية عن الإسلام باعتباره خطرًا على الحضارة الغربية"، وقد كتب إدوارد سعيد هذا الكلام عام 1981 ومن ذلك أن هناك قوى تُهيئ الرأي العام الغربي منذ فترة طويلة لقبول الحرب العالمية الرابعة ضد الإسلام، وعند سقوط الاتحاد السوفيتي السابق بررت مارجريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية السابقة استمرار وتقوية حلف الناتو بوجود الخطر الإسلامي، وهو نفس ما عبّر عنه رئيس مجلس الوزراء الأوروبي الأسبق "جياتي ديميلكس" قائلاً لمراسل مجلة النيوزويك الأمريكية عندما سأله عن السبب في بقاء حلف الأطلنطي بعد نهاية المعسكر الشيوعي :"صحيح أن المواجهة مع المعسكر الشيوعي قد انتهت، ولكن هناك مواجهة أخرى لابد أن نستعد لها وهي مواجهة العالم العربي والإسلامي، وعلى أوروبا أن تحلّ مشكلاتها لتتفرغ لهذا العدو الخطير".
والحقيقة التي لا مراء فيها حتى بصرف النظر عن تصريحات هؤلاء الزعماء والقادة الغربيين وغيرهم وهي كثيرة جدًا بطريقة لا يكاد يعيها الإنسان وربما لا يصدقها من شدة تطرفها وصليبيتها وعنصريتها وغطرستها.
الحقيقة التي لا مراء فيها أن الصراع بين الإسلام والغرب امتد في الزمان وفي المكان من غزوة تبوك وحتى العدوان على العراق مرورًا بحروب الأندلس والحروب الصليبية والاستعمار والصهيونية...إلخ، وأن القرآن الكريم قد عبّر عن ذلك وهو الصدق المطلق (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) [سورة البقرة الآية 217].
الخوف من الإسلام والحرب على الإسلام لها أسبابها التاريخية والوجدانية والمصلحية في الوجدان الغربي وإذا كنا ندرك أن عصابة اليمين الأمريكي ودعاة الإمبراطورية الأمريكية الذين يحلمون بسيطرة أمريكا على العالم قد أعدوا الخطط لذلك من قبل عام 1997 على الأقل على يد ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وبول وولفوديتز وريتشارد بيرل وجيمس ولس وويليام كريستول وروبرت كاجان وغيرهم من الذين وقّعوا على ما يسمى "الإعلان الإمبراطوري الأمريكي" عام 1997؛ فإن هؤلاء أدركوا أن الطريق إلى تلك الإمبراطورية الأمريكية لن يكون سهلاً ولا متوقعًا إلا إذا تمت إزاحة العقبة الإسلامية المتمثلة في وجود مفاهيم وأفكار إسلامية حول المقاومة والكفاح والجهاد والدفاع عن المستضعفين وعدم قبول الخضوع وغيرها...، وأنه لابد من إزالة ذلك بالحرب والسلام وبالدعاية والإعلام معًا.
صناعة الحروب
وبالإضافة إلى ذلك فإن المؤسسة شديدة التأثير في السياسة الأمريكية، وهي المجمع الصناعي العسكري الرأسمالي من مصلحة اختراع الحروب لترويج صناعة السلاح، وكذا فإن التحدي النظري الإسلامي للرأسمالية كفكرة وأيديولوجية أمر أصبح معروفًا في أوساط المفكرين والمنظرين الغربيين؛ حيث من الممكن أن يتحول الإسلام إلى أيديولوجية للفقراء والمستضعفين، ومن الممكن أن يكون الإسلام جذرًا ثقافيًّا للثورة العالمية ضد الرأسمالية خاصة بعد إفلاس الشيوعية، وهي كلها اعتبارات ترشح الإسلام كهدف للحرب العالمية الرابعة وهو ما حدث بالفعل.(70/25)
وقد أحدثت هذه الحرب أشكالاً متنوعة، وما زالت تحمل في طياتها المزيد من الوسائل، وقد تخلت أمريكا والغرب عن أي أخلاق شكلية في إطار هذه الحرب لأنها من وجهة نظرهم حرب، وفي الحرب يسقطون كل الاعتبارات الأخلاقية ولم يعد غريبًا أن نسمع أنباء قتل الأسرى أو إطلاق الرصاص على العزل أو تعذيب المعتقلين.. المهم أن هذه الحرب اشتملت على الوسائل العسكرية المباشرة؛ متمثلة في المزيد من العدوان الصهيوني ومتمثلة من غزو واحتلال أفغانستان ثم غزو واحتلال العراق واستخدام كل وأحدث الوسائل العسكرية الفتاكة في هذا الصدد، كما اشتملت على محاولة ترويض الجمهور الإسلامي بالدعايات الغازية، ومحاولة تشويه المفاهيم الإسلامية بما يُسمى بتغيير مفاهيم معينة في القرآن الكريم -وهو أمر مستحيل- أو ما يسمى بتجديد الخطاب الديني، وهو تخريب وتزييف الخطاب الديني، وما يسمى بتغيير مناهج التعليم لدعم ما يسمى بثقافة (السلام) -الصحيح ثقافة (الاستسلام)-، وتقليص المدارس الدينية الشرعية وحصار المؤسسات التربوية والإعلامية الإسلامية وإنشاء قنوات فضائية وصحف تعمل على ترويج النموذج الأمريكي، والإساءة للمقاومة "العراقية والفلسطينية خصوصًا"؛ بل وصل الأمر إلى حد أن تطلب الإدارة الأمريكية إغلاق المساجد الصغيرة والزوايا بدعوى أنها بؤر لتفريخ التطرف، وأن يتم استخراج تصريح -به تعقيدات كبيرة- لإنشاء أي مسجد جديد، وكذا محاربة العمل الخيري الإسلامي واتهام الجمعيات الخيرية الإسلامية باعتبارها الساق التي تربط الأوراق والثمار والفروع بالجذور؛ اتُهِمت بالإرهاب، ويجب حلها ومصادرة أموالها والإساءة إلى سمعة القائمين عليها أو حتى اعتقالهم وسجنهم وتلفيق القضايا لهم .
وهي كلها أساليب في حرب عالمية رابعة شاملة ضد الإسلام والمسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله
==============(70/26)
(70/27)
حرب قذرة
المحرر الإعلامي 30/2/1426
09/04/2005
الحرب على الإرهاب صارت مشجباً تعلق عليه الكثير من الممارسات الإقصائية، وتمرر عبره الأهداف والمصالح السياسية لأمريكا أو لحلفائها في الشرق.
ولأن الحرب على الإرهاب، تحتمل في أحد مفاهيمها الحرب على الإسلام باسم الإرهاب، فقد استهدفت كثيراً من المبادئ الإسلامية، والشعوب، والجمعيات والمناشط والقيادات الشرعية.
وموقع ( الإسلام اليوم ) هو أحد المواقع الإسلامية التي تلتزم بالاعتدال الشرعي، ولكنها ترفض التصنيف الغربي، وتنحاز إلى جانب قضايا الأمة الإسلامية الجادة في فلسطين والعراق وغيرها، ولذا تنوعت التهم، وتواطأ عليها أطراف من الغرب والشرق.
فأحداث مدريد التي زج باسم المشرف العام فيها ثم تمخضت النتائج عن إقفال الملف في القضية في إيطاليا وتسليم المتهم إلى أسبانيا، والصمت المطبق عن تهم سابقة نقلتها الصحف الإيطالية عن مصدر في الشرطة وتداولتها وسائل غربية في أسبانيا وألمانيا وسائر دول أوربا ..
ثم أحداث الخليج والسعودية بالذات، والتي كان موقع الإسلام اليوم هو أول من حذر منها وأصدر بياناً بهذا الخصوص فبل حدوثها بفترة طويلة، وكانت مواكبته للأحداث نشطة وفاعلة، ومع هذا كانت الأحداث ( فرصة ) سانحة لبعض الانتهازيين من كتاب الأعمدة وغيرهم، وصار البعض يحتفل بالحدث رغم مرارته ليوظفه في سياق اتهام الإسلاميين أو الصحويين أو ما شاء من التسمية .. ضارباً عرض الحائط بالمواقف الواضحة، والجهود الكبيرة لعزل هذه الظاهرة وتحجيمها، ومتجاهلاً أن الدوائر المختلفة لم تسعفه بأي أدلة صادقة فيما يقول ويدعي، ولكنها كما قيل :
( شنشة أعرفها من أخزم ).
بل صارت التهم توزع على كل عمل أو جهة أو وزارة أو منشط إسلامي .. وهذا إنتاج جديد لمعركة أوسع وأخطر داخل المجتمع السعودي.
ويدعى بعض هؤلاء أن الذين يحاربون التطرف والغلو اليوم هم الذين يصنعونه غداً، وهذا استعداء سافر، ومجانبة لروح المسؤولية والموضوعية، وتجاهل للسياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي تجعل المجتمع يتشرب بعض الأفكار الغالية، إن لم يكن منتجاً لها وأن بعض هؤلاء المتحدثين هم الوجه الآخر للغلو والإقصاء والعدوانية.
وأخيراً نشهد في العراق محاولة الزج بأسماء الستة والعشرين من المشايخ الموقعين على البيان الشهير، باعتبارهم وراء المقاومة بل وراء ذهاب الشباب العربي إلى العراق.
والبيان كان واضحاً في تأييد حق الشعب العراقي في المقاومة، لكنه لم يشر من قريب ولا بعيد إلى تجنيد الشباب للسفر إلى العراق، ومواقف الموقعين على البيان واضحة إلى حد التكرار الممل في أن القضية يجب أن تظل عراقية، وأنه ليس من مصلحة الإسلام والأمة تهجير الشباب إلى هناك، وقد تكلم الموقعون وعلى رأسهم فضيلة المشرف العام د.سلمان العودة، وفضيلة الشيخ د.سفر الحوالي وغيرهم في مقالات عديدة نشرت هنا في ( موقع الإسلام اليوم ) ولا زالت، ونشرت في الصحافة المحلية والكويتية، وفي مقابلات كثيرة عبر قنوات العربية والجزيرة والمجد وإقرأ ودبي وغيرها .. تنادي الشباب بألا يندفعوا في هذا السبيل، وأن يبقوا حيث هم، ليصنعوا مستقبل بلادهم بالعلم الصحيح والمعرفة الناضجة والرؤية السليمة والمشاركة الفاعلة، وأن تكون خدمتهم لدينهم بتكوين الأسر المسلمة وتحقيق النمو الاقتصادي والحضور الإعلامي والتوجيه الدعوي، وهذا من حقهم، بل من واجبهم، وهي مواقف لا يبدو أن ثمت أي قدرٍ من الضعف في بيانها، ومواقع الحوارات في الإنترنت تشهد بالجدل حولها، ولكن أي غرابة في أن تلبس بعض الدوائر الأمنية في العراق وتلقن المعذبين ما يتوجب عليهم أن يقولوه أمام الشاشة.
أي غرابة أن يحدث هذا في بلدٍ محتل، وقد حدث شيء مثله في صحافة محلية تستطيع أن تستطلع الحقيقة بمجرد اتصال هاتفي أو رسالة لا تستغرق أكثر من ثوانٍ !
إن أحد محاور الحرب الأمريكية أن تصبح السفارات أوكاراً للتخطيط للحروب القذرة التي تعتمد على الترويج ونشر الكذب وتكراره حتى يصبح حقيقة لا تقبل الجدل، وترتب لإعداد ملفات فضائحية مالية وأخلاقية وشخصية وعائلية لكل من تعتقد أنه يقف في وجه طموحاتها الظالمة.
لقد بات يلقن شباب ذهبوا قبل صدور بيان الستة والعشرين أن البيان هو دافعهم، بل نسب إلى قوم قضوا نحبهم قبل صدوره أنهم تأثروا به.
وهكذا يكون التلفيق ..
بيد أن شمس الحقيقة لا تحجبها الغيوم !
ولعله مضى الزمن الذي يتكلم فيه قوم بما يروق لهم، ثم لا يجدون من يطالبهم بالحجة والبرهان، إن كانوا صادقين.
===============(70/28)
(70/29)
أسئلة عن حلقات التحفيظ
حوار : الاسلام اليوم 1/11/1425
13/12/2004
حلقات التحفيظ برأيكم ما الدور التربوي المنوط بها؟
- حلقات التحفيظ, وغيرها من المناشط؛ منوط بها دور هام , وهذا الدور مرتبط بكتاب الله عز وجل, الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, حيث نأمل في تنشئة جيل مسلم فريد, ولا يتصور جيل مسلم لم يترب على معاني القرآن, وتوجيهاته, وأهدافه الناصعة, التي تحفظ للناس أمنهم وسلامتهم, وتحقق معنى الخلافة الحقة لله عز وجل في الأرض.
فالجيل المنتظر هو جيل تربى على القرآن؛ تلاوة, وحفظاً, وخلقاً, ومنهجاً.
ولا يخفى على أحد الهجمة الأخلاقية على مجتمعات المسلمين, من أعدائهم؛ فكيف يتقي النشء ذلك إن لم يكن تحصن بهذا القرآن, والنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل, فأطفالنا وشبابنا إن لم يشغلوا بالقرآن تاهوا في بنيات الطريق.
- ونحن بحاجة إلى حفظ الصدور, وحفظ السطور؛ فوجود الحفظة عن ظهر قلب لهذا القرآن هو من المهام النبيلة التي تحفظ الدين.
وحلقات التحفيظ هي نوع من البرامج التي تعوّد الأبناء على معالي الأمور والارتباط بها وترك سفاسفها, وتغرس فيهم روح الاعتزاز بالقرآن والإسلام, وتعميق الانتماء لهذا الدين.
- وكم من عاق من الشباب بر والديه عند التحاقه بالحلق. وكم من حائد عن الطريق ناكب عنه؛ كانت الحلق هاديا له, ومصباحاً منيراً.
فالدور التربوي المنوط بهذه الحلق لهو من أعظم الأدوار, وإن لم يكن منه إلا حفظ القرآن والتعلق به, وعمارة المساجد بتلاوته, وبعث رسالة المسجد من جديد لكفى به دوراً عظيما.
حلقات التحفيظ تؤرق مضاجع الحاقدين, وتدكدك حصونهم؛ لذا بات أعداء الدين يكيدون لها, ولا يفترون عن ذلك, ولهم أساليب عديدة فما تعليقكم؟
ليست حلقات التحفيظ فقط بل المراكز الصيفية و مدارس التحفيظ, والمناشط الإسلامية, والجمعيات الخيرية والمؤسسات الإنسانية والخطب والمناهج والبرامج الإسلامية, وكل ما ينادي على نفسه بأنه إسلامي, بل هي الحرب على الإسلام الواعد الذي يبشر بالنور والسيادة لهذا العالم.
وأساليب المحاربة حديثة قديمة في نفس الوقت.
وبالنسبة للحلقات؛ فهناك من يحاول تفريغها من مضمونها الصحيح, الذي أنشئت له وتحويلها عن مسارها الحق , وعن أهدافها السامية التي من أجلها قامت, ويغذي الروافد الداخلية المحاربة لهذه الحلق بالدعم والإشادة والنشر لما يضادها, وتأجيج النزاع بين القائمين عليها وغيرهم, واستثمار هذا النزاع في استئصال مثل هذه المناشط الحيوية وكذلك حصارها ماديا وإعلامياً بمحاولة تشويه صورتها ونشر الإشاعات والكذب عنها.
والواجب أن نعي دورنا تجاه هذا كله , ولا نقتصر على المقالات, والخطب والتنظير فقط - وإن كان ذلك جزءاً من الحل - بل أن نكون قدوة حسنة في أخلاقنا, وعلاقاتنا وأن يكون لدينا القدوة الإعلامية والتواصلية, على أن نعبر عن أنفسنا وحقيقتنا ولا نسمح للآخرين بتشويهها, أو إشاعة قالة السوء فينا.
من الحجج التي خرج بها الأعداء في الآونة الأخيرة أن أصحاب الفكر الضال هم من الحفاظ لكتاب الله, ولسان فعالهم يتهم حلقات تحفيظ القرآن, فما ردكم, وكيف ترون حقيقة ذلك؟
سبق وأن بينت أن حلقات التحفيظ هي كغيرها من المناشط المستهدفة. ولئن كانت الحجة عندهم في أن الحلق تفرخ الفكر الضال؛ فلماذا تُخَص من بين مثيلاتها بذلك؟! فالتعليم العام والخاص بمناهجه, والمعاهد, والمراكز الصيفية والمجمعات التربوية حتى إذاعة القرآن الكريم كلها تصب في هذا المعنى , وهو خدمة القرآن والدعوة إليه !! لكنها - كما لا يخفى - الحرب على الإسلام!! بل المساجد, والمؤسسات المجتمعية كلها, والأسرة ذاتها, عرضة لمثل هذا الاتهام المغرض العاري عن الحجة.
ما هو دورنا تجاه كتاب الله .
للأمة كلها دور تجاه القرآن, وليس لهذا الدور أو الواجب حدود ؛ بل كل فرد من أفراد الأمة مسئول عنه, حسب استطاعته, وقدرته, وهو أمانة عظيمة, ولولا القرآن ما كان لأمة الإسلام هوية ولا مكانة.
فمن واجبنا تجاهه تعظيمه ووضعه في نفوسنا في مكانه الصحيح, وتعلمه وتعليمه, والدعوة إليه, وتلاوته, وترتيله, وتدبره, وحفظه, ومعاهدته والعمل بأوامره, والانتهاء عن نواهيه, والتخلق بأخلاقه, والتأدب بآدابه. وعلى المؤسسات والشركات دعم كل من ينشغل بالقرآن حفظاً وتلاوة وتفسيراً وعلى المسئولين أن يفعّلوا ذلك وأن يعلموا أنه ما قدست أمة أضاعت كتاب ربه من بين أيدها.
هل القرآن نزل للحفظ والبركة فقط دون فهم أو تدبر.
القرآن نزل للعمل به و تدبره وقراءته وحفظه وجعله واقعاً عملياً في حياتنا وهكذا كانت أحوال السلف كلها مع القرآن.
والواجب تربية النشء على فهمه, وربطه بالواقع, تطبيقاً أخلاقياً, وسلوكياً, وتعبدياً, وحياتياً.
فمن الخطأ الكبير أن يكون المسلمون اليوم- كباراً وصغاراً علماء ومتعلمين وعامة- غير قادرين على تنزيل القرآن على واقع حياتهم والاستهداء به, ففي ملماتهم ونوازلهم ومداواة جراحهم بعلاجاته الربانية.(70/30)
ويجب أن تكون الحلقات, ومدارس التحفيظ؛ جزءاً أساسياً من الحل, لا يقتصر على الحفظ, والترديد اللفظي, بل يتعداه إلى صناعة العقول, والأفهام, والأرواح؛ المستهدية بالقرآن , المستنيرة بنوره. والله الهادي.
==============(70/31)
(70/32)
التغيير.. بين قيرغيزستان والعالم العربي !
عاصم السيد 8/3/1426
17/04/2005
بعد أن تمكنت المعارضة في جورجيا من الإطاحة بالرئيس السابق إدوارد شيفرنادزة من السلطة، وبعد أن نجحت المعارضة الأوكرانية التي قادها الرئيس الحالي فيكتور يوتشنكو ليصبح ثالث رئيس لأوكرانيا منذ استقلالها، خاضت جمهورية قيرغيزستان تجربة مماثلة تمكنت فيها الثورة الشعبية في إطاحة نظام الحكم القائم إثر انتخابات شككت الأغلبية في نتائجها.
الدول المجاورة لقيرغيزستان والتي تستعد لإجراء انتخابات تشريعية أو رئاسية أصبحت في حالة قلق، فالثورات الثلاث في جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان أعقبت انتخابات وحدثت في توقيتات متقاربة. ولاشك أن موجة التحولات السياسية في آسيا الوسطى في العامين الأخيرين تؤكد أن ثورة المعلومات والقنوات الفضائية قد لعبت دوراً مؤثراً في توعية الشعوب ضد الممارسات السياسية السلبية، فمن الصعب تجاهل الأثر الهائل لانتقال صور التظاهرات السلمية التي نجحت في تغيير السلطة في أوكرانيا وجورجيا في أذهان بقية الشعوب التي تعاني المشكلات ذاتها وتتوق إلى تغيير أوضاع قائمة ابرز معالمها الفقر والكبت وغياب الحريات.
صناعة روسية
ورغم جاذبية نموذج التغيير الذي حدث في قرغيزستان , حيث استولت المعارضة على الحكم , في واحدة من ثورات الديموقراطية الملونة التي تهندسها الولايات المتحدة في العالم , بعدما نجحت في وجورجيا وأوكرانيا , وهي تشعلها الآن في روسيا البيضاء ،
إلا أن المراقبين يرون أن أمريكا كانت بعيدة عن الأحداث وأن الأمر افتعلته روسيا لأن أمريكا بدأت في الفترة القصيرة الماضية بمحاولة إيجاد جمعيات أهلية تدعو إلى الديمقراطية كما فعلت سابقاً في جورجيا و أوكرانيا، وذلك في بلد يغص بالفقر والفساد المالي والإداري، وفي ظل التوتر العرقي الناجم بسبب ما يعتقد أنه تحيز لصالح المواطنين من أصول قرغيزية على حساب باقي فئات الشعب ، وخشية روسيا من أن يكون هذا النجاح لطرف غير مرغوب به جعلها تتحرك لإجهاض أي محاولة لتحريك هذا الشعب لإحداث تغيير لا يخدم مصالح موسكو. والأطراف التي من الممكن أن يكون لها دور أو توجه في ذلك هي أميركا من جهة التي تسعى إلى دحر روسيا من مناطق نفوذها التقليدية في آسيا الوسطى و القوقاز،أو حزب التحرير الذي استطاع أن ينشأ قاعدة عريضة في منطقة وادي فرغانة و الذي باستطاعته تحريك أهالي قيرغيزيستان أيضاً لما في قلوبهم من حب للإسلام وشعورهم بأنه هو هويتهم وانتماؤهم الذي يعتزون به، .
و في إطار الحرب على الإسلام اتفقت جميع الأطراف على عدم انتظار تحرك الشعور الإسلامي خوفا من قيادته للمعارضة،. لذا لم يكن من مصلحة روسيا ولا أمريكا ولا الصين كذلك أن تطول الأحداث أكثر من اللازم، وهذا ما يفسر نجاح هذه الثورة بهذه السرعة الكبيرة.
إن ما يخيف موسكو هو أن تؤدي أحداث قيرغيزستان إلى انهيار نظام أوزبكستان، لأن من شأن ذلك أن يؤدي لاجتياح التيار الإسلامي لكل منطقة آسيا الوسطى، وهي الهواجس التي تجعل الكرملين في حالة تأهب قصوى .
الموقف الأمريكي لم يكن داعماً للثورة بشكل مباشر ومكثف، خاصة وأنها ثورة جماهيرية ذات مطالب ديمقراطية، قامت لتعترض على انتخابات مزورة وغير ديمقراطية، ولم يتعد الموقف الأمريكي المطالبة بإنهاء أعمال العنف المتصاعدة، والدعوة إلى حل الأزمة سلمياً
التنافس على القواعد العسكرية
و بسبب موقع قيرغيزستان الاستراتيجي لم تتأخر أمريكا مستغلة أحداث الحادي عشر من سبتمبر و ما أسمته الحرب على الإرهاب، فسارعت إلى إنشاء قاعدة عسكرية فيها في إطار حربها على أفغانستان .
و في ظل الزحف الأمريكي على مواقع الاتحاد السوفيتي سابقاً والفضاء الروسي حالياً لم تتأخر روسيا في أخذ التدابير من أجل الحفاظ على نفوذها في بلاد آسيا الوسطى بما فيها قيرغيستان ، حيث أقامت موسكو منذ خريف عام 2000 قاعدة عسكرية جوية في "كانت" قرب بيشكيك عاصمة قيرغيزستان، هدفها حماية جمهوريات آسيا الوسطى الأعضاء في اتفاقية الأمن الجماعي، وقد وقع الاتفاق في 1992 بين روسيا وخمس جمهوريات سوفياتية سابقة . من بينها قرغيزستان وطاجيكستان وكازاخستان.
عوامل التفجير
يرى المحللون أن هناك عوامل أساسية ساهمت في تفجير الوضع كله، أهمها العامل الداخلي والمتمثل في الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة للغاية التي عاشها الشعب القرغيزي مع فقدان الأمل في النظام الحاكم الذي انتهج سياسة فساد عام في كل أجهزته ومؤسساته مما أدى إلى احتقان شعبي كبير على السلطة التي يمثلها الرئيس وأسرته.
الوجود الأمريكي الذي بد أ منذ الحرب على افغانستان يمثل مصدر قلق لروسيا، مما جعل واشنطن ، تخشى أن تؤثر روسيا على أكاييف ليطلب في النهاية برحيل القوات الجوية الأمريكية المتواجدة في مطار "نماص قرب العاصمة بيشكيك
موقف أوروبا
تخشى أوروبا أن يمثل فوز المعارضة في قيرغيزستان بداية النهاية بالنسبة للأنظمة الاستبدادية المنحدرة من النظام السوفياتي السابق بدعم من موسكو بدعوى الحفاظ على الاستقرار ومحاربة الإسلام المتطرف.(70/33)
لكن في الحقيقة تتحمل الولايات المتحدة والحكومات الاوروبية المسؤولية عن سنوات الحكم الفاسد والذي قام بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مباشرة. فقد برزت قيرغيزستان باعتبارها البلد الوحيد في آسيا الوسطى الذي بدا مستعداً للتخلي عن ماضيه الشيوعي.
وقد تعهد رئيس قيرغيزيا السابق عسكر أكاييف بتطبيق الديمقراطية على الطريقة الغربية واتباع سياسة تحرير الاقتصاد، وجرى الترحيب ببلاده الصغيرة في البلدان الغربية كما لو أنها سويسرا آسيا الوسطى.
وكانت قيرغيزستان بالنسبة للحكومات الغربية والمنظمات الدولية نموذجاً للاقتداء من قبل البلدان الأخرى ، حيث تم إغراقها بالمساعدات الغربية وبأعداد لا تحصى من المنظمات غير الحكومية والمستشارين وكلها سعت لمساعدة قيرغيزستان على تحقيق أهدافها المعلنة للإصلاح حسب المفهوم الغربي .
بحلول نهاية عقد التسعينيات تراكمت على البلاد ديون خارجية ضخمة جراء برامجها الممولة خارجياً ولم يكن لديها سوى القليل لتقدمه من حيث التنمية الاقتصادية، فقد اختلس المسؤولون في الدولة أموال المساعدات الخارجية مما عجل بسقوط نظام الحكم القائم .
الدومينو الديمقراطي والبديل الإسلامي
يعرب الخبراء والمحللون السياسيون عن اعتقادهم بأن سلطة أكاييف التي عرف عنها بأنها كانت الأكثر ديمقراطية و الأقل طغياناً في آسيا الوسطى سقطت لأنها الأكثر ضعفاً في المنطقة و ذلك بموافقة السلطات في روسيا
وبالنسبة للأنظمة في كازاخستان واوزبكستان وتركمانستان فإن يومها قادم لا محالة، لكن ذلك سيكون مدوياً للغاية كما أنه قد يسفر على الأرجح عن قيام نظام إسلامي في أوزبكستان .
ضد التغيير المفروض خارجياً
لايخفى علينا أن المنطقة العربية أصبحت هدفاً أمريكياً للتغيير، حيث ترصد الولايات المتحدة والدول الأوروبية الأموال للإنفاق على شخصيات بعينها وجمعيات أهلية مشبوهة لكي تقوم بهذا التغيير وفق مفاهيم ومنطلقات غربية تتعارض مع قيمنا ومبادئنا الإسلامية .
إن الشعوب العربية كلها مع التغيير.. وهي لم تتوقف عن المطالبة بتحقيق إصلاح سياسي شامل وحقيقي، لأنها تؤمن إيماناً قاطعاً أن الإصلاح السياسي هو أساس أي إصلاح، وهو الطريق الوحيد لإنقاذ العرب من أزماتهم الطاحنة وعثراتهم الممتدة، ولكننا.. في الوقت ذاته نرفض وبشدة أن يتم هذا التغيير بتمويل مشبوه يتسرب ويتسلل إلينا من الخارج عن طريق العملاء والمشبوهين.
فالتغيير الذي ننشده هو التغيير الذي يحدث بالإرادة الشعبية، وليس بالإرادة الأجنبية... بالقيادات السياسية والحزبية الوطنية، وليس بالمشبوهين وعملاء الخارج. والذي ينطلق من ثوابت الأمة ومرجعيتها الروحية
وما ينبغي أن نتصدى له وبقوة هو استغلال المشبوهين وعملاء الخارج للأحداث العالمية والمحلية فيتقمصون دور رعاة الديمقراطية ورسل حقوق الإنسان.. بينما هم في واقع الأمر ليسوا سوى طابور خامس يبيع الوطن لأعداء الأمة مقابل حفنة دولارات مشبعة بالخيانة
==============(70/34)
(70/35)
الأخضرالإبراهيمي: أمريكا لا تعرف النفاق
حوار: عوض الغنام 5/7/1425
21/08/2004
- الإدارة الأمريكيّة قضت على الشرعيّة الدّوليّة .
- الأمريكان يُغفلون مطالب العراقيّين كما كان يفعل صدّام.
- عمليّات المقاومة العراقيّة مُدَبّرة ومُخَطّط لها .. الحرب الأهليّة مستبعدة.
الأخضر الإبراهيمي الدبلوماسيّ الجزائريّ ومبعوث الأمم المتحدة في العالم العربيّ والإسلاميّ، والذي ارتبط اسمه بمعظم الترتيبات الأمريكيّة للعالم العربيّ والإسلامي في لبنان وأفغانستان والعراق.
شغل الإبراهيمي منصب وزير الخارجيّة للجزائر ثم رحل إلى باريس , وانضمّ بعد ذلك إلى جمعية الأمم المتحدة ليكون مبعوثًا لها في العالم العربيً والإسلاميّ ..و تحت غطاء الأمم المتحدة ساهم الأخضر الإبراهيمي بأفغانستان في تشكيل حكومة أمريكيّة المحتوى أفغانيّة الظاهر..وأخيرًا تمّ تعينه مندوبًا للأمم المتحدة في العراق بعد احتلاله ..وليقوم بتشكيل حكومة عراقيّة مؤقتة موالية للاحتلال الأمريكيّ. ..التقينا بالأخضر الإبراهيمي أثناء زيارته القصيرة للقاهرة ..وسألناه عن مستقبل الشرعيّة الدّوليّة في ظلّ العبث الأمريكيّ المتضخّم ومستقبل العراق في ظلّ الحكومة المؤقّتة، وعمليّات المقاومة الشّرسة في الفلّوجة والنّجف ضد القوّات الأمريكيّة. أسئلة عديدة ومثيرة طرحناها خلال هذا الحوار القصير مع الأخضر الإبراهيمي مبعوث الأمم المتحدة في العراق... فإلى نص الحوار:
*الولايات المتحدة خاضت في بداية التسعينيّات حربًا ضدّ العِراق بعد غزوه الكويت، واليوم هي في العراق .. ما الفرق دوليًّا بين الحالتين؟
** أودّ أنْ أركّز على أمر معيّن، وهو أنّه عندما دخل العراقيّون إلى الكويت واحتلوها عام 1991م جمع الرئيس بوش (الأب) تحالفًا يقارب 31 دولة ضمت في حدود 400 ألف عسكري أمريكي ؛ إضافة إلى قوّات عربيّة ودوليّة لأنّ الحاصل آنذاك كان مخالفة خطيرة للقانون الدوليّ؛ وهو غزو دولة لدولة أخرى واحتلالها وضمّها، أمّا في الواقع العِراقي الراهن؛ فإنّه من أصل (191) دولة في العالم هناك دول تعدّ على الأصابع تشارك في احتلال العراق . ورغم ذلك فإنّ الرئيس بوش (الابن) يذهب إلى حدّ الزعم بأنّه يتحدّث باسم الأسرة الشرعيّة . هل هذا معقول؟! فقط 7 أو 8 دول تشارك في احتلال العراق من أصل 191 دولة يعني 3 و2 % من دول العالم تحارب في العراق، للولايات المتحدة هناك حوالي (220 ألف) عسكري، ولبريطانيا 45 ألفا ولاستراليا نحو الألفي جنديّ . فبئس الأسرة الشرعيّة إذا أصبحت (3 ) دول أنجلوساكسونيّة تقرر التدخل في بلد عربي
هذه الحرب تقاس على مستويات مختلفة ؛ فالبعض لا يحبّ صدام حسين وهو فرح بانهيار النظام عاجلاً، وشاهدت شبكات تلفزة عربيّة مقزّزة في حماستها للموضوع، والبعض الآخر يتطلّع إلى العلاقات الإقليمية، ودور الشيعة وإيران وتركيا .
لكنّ المستوى الأساسي أنّ هناك إدارة أمريكيّة تضمّ مجموعة طموحة وتقوم على وزير الدّفاع الأمريكيّ (دونالد رامسفيلد) ونائبه، ونائب نائبه (دوجلاس فايس) ومستشاره (ريتشارد بيرل) ، أي مجموعة صغيرة تأخذ بأمريكا نحو عمليّة إعادة صياغة للعلاقات الشرعيّة والضحايا أصبحوا كُثر . مجلس الأمن الدوليّ، الأمين العام للأمم المتحدة، وحتى الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة التي تسمح لنا شرعيّة الأمم المتحدة أنْ نلجأ إليها نواجه في كلّ مرّة مأزِقًا في مجلس الأمن ؛ فالأمريكيّون منعوا اللّجوء إلى الجمعيّة العامة، وحلف شمال الأطلسيّ هو في حالة (تفرقع) ..
وكذلك بالنسبة للاتحاد الأوروبيّ ؛ فكلّ المنظّمات التي تمثل نتيجة عمل دؤوب دام حوالي 50 عامًا لبناء تجمّعات للتّشاور، واتخاد القرارات المشتركة والأمن الجماعيّ، قضت عليها تلك المجموعة (الشّريرة) في الإدارة الأمريكيّة .
خطايا أمريكا في العِراق
* في نظركم ما هي اتجاهات الرياح الأمريكيّة المرتقبة في العِراق؟
** من المحاسن القليلة للإدارة الأمريكيّة أنّها ليست على مستوى عالٍ من النّفاق فما نسمعه من رامسفيلد وتشيني مثلاً يجب أنْ نصدّقه ؛ لأنّ الكلام المعلن هو الصّحيح. من هنا أدعو الجميع إلى الاستماع إلى المسؤولين الأمريكيّين، وعدم البحث بين السطور لكن المشكلة أنّ أهدافهم متحرّكة، ولديهم قائمة لا تعدّ، ولا تحصى من المطالب من كل أطراف المنطقة، وعندما يقولون: إنّهم يريدون إعادة تشكيل المنطقة فإنّهم لا يكذبون ؛ فالأهداف المتحرّكة قاعدة قديمة في العلاقات الشرعيّة، وهي التي تفسّر عدم قدرة الولايات المتحدة على بناء تحالف دوليّ . وباختصار لم يكن لدى العراقيّين مانع من سقوط النّظام (السابق) بل لديهم مانع أساسي بالتأكيد لبقاء الأمريكيّين في العِراق .(70/36)
وثمّة أخطاء أمريكيّة في إدارة عراق ما بعد الحرب، وأهمّها حلّ الشرطة والجيش ؛ فالجيش النظاميّ العراقيّ ليس جيشًا حزبيًّا ربّما يجب إبعاد العناصر المليشياويّة التابعة للنّظام، ومعاقبتها للأعمال المسيئة التي قامت بها . ولكنّ حلّ الجيش النظاميّ ومنع راتب التقاعد عن أشخاص ساهموا عندما كانوا في الجيش، هما من الأخطاء الكبيرة التي دفعت عددًا كبيرًا من الناس إلى التحول إلى المقاومة بل تحوّل بعضهم إلى قطَّاع طرق ليؤمّنوا لقمة العيش، ونحن انتقدنا سلطات الاحتلال على ذلك سرًا وعلنًا. لكن الآن عندما يقول الأمريكيّون أنّ العراق ليس هدفًا قائمًا في حدّ ذاته بل الخطوة الأولى لمشروع يهدف إلى إحراز الديمقراطيّة . وحلّ النزاع العربيّ ـ الإسرائيليّ والمحطّة الثانية في الحرب العالميّة على الإرهاب؛ فهذا يدلّ على أنّهم يستعملون العراق قاعدة لأمور تتجاوزه . فقد أتى الأمريكيّون إلى العراق بأفكار لا تتناسب وحاجات العراقيّين ومطالبهم كأن العراق مجرد حجّة لأمور أكبر وأهمّ، لكنّ 25 مليون عراقيًّا يستحقّون أنْ نستمع إليهم، ونرى ما حاجاتهم الحقيقيّة . والأمريكيّون يغفلون مطالب العراقيّين الآن كما كان يفعل صدّام .
ويجب الفصل بين أمرين هما (عراقيًّا) السّيادة والأمن من جهة، وبناء المؤسّسات من جهة أخرى، باعتبار أنهما يسيران بشكل متوازٍ . وإنْ بوتيرة مختلفة جدًا. كيف؟ يوضح قائلاً :"وتيرة السّيادة والأمن سريعة ووتيرة بناء المؤسّسات يجب أنْ تكون بطيئة ... لا شكّ أنّ هناك مأزقًا أمنيًّا وسياسيًّا سبب المأزِق الأمنيّ الأساسيّ هو حلّ مؤسسات أمنيّة ضامنة للسّلم الأهليّ، ووجود فئات فاعلة في المجتمع العراقيّ تعتبر نفسها مغبونة في المعادلة السياسيّة التي قد تنتج من الاحتلال . فتحارب وستستمر تحارب والأمريكيّين من دون أيّ شك غير مستعدين لها . رغم أن كثيرين توقّعوا أن هذه الحرب ستولد حروبًا كثيرة ، أمّا التّخبط السياسيّ فسببه هيمنة الإيديولوجيا على التفكير الأمريكيّ، عُرِف عن الأمريكيّين في المِنطقة أنّهم أكثر براجماتيّة من الأوروبيّين . والأمر المفاجئ في العراق هو أنّه في الوقت الذي أصبح الأوروبيّ أو الآسيويّ عمليًّا في تعامله مع الوضع العراقيّ ؛ أصبح الأمريكيّ إيديولوجيًّا . وهناك الآن ما يستدعي تحرير العراق لاستعماله لأهداف تتجاوزه .
* بعد حرب الخليج الثانية قال بوش الأب إنه سيعمل على إقامة نظام دولي جديد واليوم يطرح الابن نفس الفكرة .. ما الفرق؟
** النظام الذي كان يفكر به بوش والأمريكيّون الراشدون كان قائمًا على كثير من التفاعل والتشاور وقليل من الضغط ، ولكّن هذا الأمر لم يحصل خلال السنوات العشر الماضية .. واليوم يأتي بوش الابن لينفّذه بالقوّة ويقول "لماذا التشاور مع مجلس الأمن، والحديث مع الأطراف الأخرى؛ فنحن أكبر دولة تستطيع أنْ تبني نظامًا جديدًا بالقوة" . ما هو حاصل اليوم إنّه بكل عناصر القوّة للدول العُظمى التربويّة، والثقافيّة، والتكنولوجيّة، والعسكريّة، والماليّة، والاقتصاديّة ؛ فالولايات المتحدة الأمريكيّة هي الدولة الأولى في العالم باستثناء عنصر واحد هو العنصر العسكري؛ ففي هذا المجال أمريكا ليست الدولة الأولى فهي دولة في فئة بمفردها، ليست دولة لديها أرجحيّة كما في المجال الدبلوماسيّ والثقافيّ والتكنولوجي بل لديها شبه هيمنة في المجال العسكريّ . والسبب في ذلك أنّه بعد انتهاء الحرب الباردة انخفضت ميزانيّة الدفاع في كل دول العالم التي اعتبرت أنّها دخلت في مرحلة جديدة خالية من الحروب والمشاكل باستثناء الولايات المتحدة الأمريكيّة التي استمرّت في بناء قوّتها العسكريّة بشكل أنّه من كل دولارين ينفقان على المجال العسكري هناك دولار تنفقه الولايات المتحدة التي تشكل ميزانيتها العسكريّة حوالي 45 % من كل الميزانيات العسكريّة في العالم .
إذن هناك انعدام توازنات بمصادر القوة الأمريكيّة 50 % من البشرية 25 % من الاقتصاد العالميّ و 45 % من الإنفاق على المجال العسكريّ لذلك هناك رغبة عند الأمريكيّين بترجمة هذه الهيمنة في المجال العسكريّ إلى مجالات القوة الأخرى واضحة منذ فترة، وانفجرت ليست بسبب العراق كما يعتقد الكثيرون وإنما بمناسبة العراق .
مهانة الأوربيين
* هناك تباين إن لم يكن صراعًا في الموقف الأوروبيّ مع ما تقوم به الولايات المتحدة .. هل هو وليد الحرب على العراق؟(70/37)
** الخلافات بين أوربا وأمريكا مستعرة . وشخصيًا قمت بزيارة مؤخرًا إلى أوربا ،فلمست نفورًا وغضبًا وشعورًا فظيعًا بالمهانة حول أكثر من موضوع قبل الموضوع العراقي مثل حماية البيئة, وإقامة حواجز أمام الصادرات الأوروبيّة والآسيويّة إلى أمريكا، اتفاقية (سالت 2) التي وقّعها الأمريكيّون مع الروس عام 1972م وجاءت الإدارة الحاليّة لتقول: إنّنا وقّعنا على هذه الاتفاقية، ولكنّنا لا نريد أنْ نحترمها؛ فكل هذه الأمور كانت قنابل موقوتة في العلاقات الأوروبيّة الأمريكيّة ؛ فجاءت المسألة العراقيّة وفجّرتها؛ ولذلك فإنّ من يعتقد أنّ المواقف الأوروبيّة التي اتخذت في مجلس الأمن وليدة الساعة أو سببها غرام غير مسبوق بصدام حسين فإنّه لا يفهم أنّ المسألة بين أوروبا وأمريكا أعمق من ذلك بكثير .. وأحسست أنّ عددًا كبيرًا من المسؤولين الأوروبيين يشعرون بالمهانة الشخصيّة من مسلك الولايات المتحدة الأمريكيّة بسبب احتقارهم لهم .
مقاومة مدروسة
* وماذا عن مستقبل العراق في ظلّ المقاومة العراقيّة الشّرسة ضدّ قوّات الاحتلال الأمريكيّ والحكومة المؤقّتة؟
أنا أستبعد نشوب حرب أهليّة بين العراقيّين، وأعتقد أنّ ما جرى من مقاومة عنيفة لم يكن عشوائيًّا بل كان مرتبًا له سلفًا أي أنّ نظام صدام حسين كان يعرف فارق القوّة العسكريّة بين القوات الغازية وقواته النظاميّة؛ لذلك قام بتسليح العراقيّين وأنشأ مجموعات للمقاومة، لكن أخطاء الإدارة الأمريكيّة القاتلة من حلّ للجيش والشرطة أدّت إلى تعاظم وتفاقم المقاومة العراقيّة، بالإضافة إلى إغفال بعض القوى السياسية الفعالة في المجتمع العراقي وهم السنة من المشاركة في العمليّة السياسيّة وغضّ الطّرف عن تنامي قوة مليشيات جيش المهدي بغرض كسب الودّ الأمر الذي أدّى إلى أحداث النجف الأخيرة؛ لذلك الحلّ الوحيد هو التعجيل بسحب الإدارة الأمريكيّة لقوّاتها في العراق وإعطاء العراقيّين الفرصة كاملة لتقرير مصيرهم وإدارة شؤون بلادهم
==============(70/38)
(70/39)
جواسيس في بيوتنا!!
نايف ذوابه 10/4/1426
18/05/2005
بينما كانت تستعر الحرب في إقليم ناغورني كراباخ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، ويستحرّ القتل بآلاف المسلمين في الإقليم المذكور، كانت محطّات التلفاز العالميّة تسلّط الضوء على مجموعة حيتان على شاطئ من شواطئ البحار في منطقة ما من العالم تصارع الموت، لينشغل العالم عن الجريمة المروّعة التي ارتكبها الأرمن بحق المسلمين في الإقليم المذكور بتواطؤ من إعلام الغرب الذي أصم آذاننا بحقوق الإنسان والحيوان، وكأن المسألة حين تتعلّق بالمسلمين لا يستحقّ الأمر أن يستيقظ ضمير هذا العالم الآثم على ما يتهدّد وجود المسلمين، على وجه الكرة الأرضيّة!!
وفي مدينة (سربينتشا) البوسنيّة أُبيد أكثر من عشرة آلاف مسلم كانوا تحت حراسة الشرعية الدوليّة براً وجواً، بعيداً عن الضجيج الإعلامي والصخب السياسي، و اغتُصبت أكثر من ستين ألف امرأة مسلمة في إقليم البوسنة بينما حادثة اغتصاب واحدة في مجتمع من المجتمعات الغربية كافية لأن تقوم لها ولا تقعد منظمات حقوق المرأة، ومنظمات حقوق الإنسان، وأجهزة الصحافة والإعلام هناك!!
والتاريخ يعيد نفسه؛ فهناك تماثل واضح بين صفحاته؛ فالخصم هو الخصم والمكان هو المكان، والذرائع هي الذرائع، وكيف يمكن أن ينسى التاريخ المذبحة التي ارتكبها أحفاد هذا الغرب، وكان مسرحها المسجد الأقصى حين قتلت الجيوش الصليبية(492هـ) سبعين ألف مستأمن من المسلمين الأطفال والشيوخ والنساء حتى خاضت الخيول في دماء المستأمنين المسلمين، هؤلاء الذين رفض البابا يوحنا بولص الثاني أن يعتذر عما ارتكب بحقهم! ناهيك عن محاكم التفتيش في الأندلس التي استأصل بها أحفاد الغرب من مملكتي القشتالة والأرغون( فرديناند وإيزابيلا) حضارة أقوام دامت ثمانية قرون هي حضارة الإسلام يوم كانت الأندلس قبلة لطلاب العلم من سائر أنحاء الغرب، والتي يعترف الغرب نفسه بأنها وصمة عارٍ في جبينه وتاريخه؛ بينما سارع البابا إلى كنيس يهوديّ في روما، وقدّم اعتذارًا شفويًا وخطيًا عما ارتكبه أسلافه بحق اليهود في سابقة بابويّة هي الأولى في التاريخ البابويّ!!
إن الإعلام صناعة خطيرة، يجري من خلاله تضليل الرأي العام في العالم عما يجري من جرائم هنا وهناك، ويجري تعليب الأخبار كما تُعلّب المواد الغذائيّة، وتُضاف إليها النكهات التي توهم بصدقيّتها وواقعيّتها؛ فأشهر الوكالات العالمية للأنباء هي الأسوشيتد برس، واليونايتد برس، ورويتر، وفرانس برس، وهي وكالات أنباء غربيّة، ومن المفارقات العجيبة أن حدثاً يجري في بلد عربيّ، ينقله بلد عربيّ آخر مجاور له عن وكالة الأنباء الفرنسيّة، ويُذاع وتتناقله وكالات الأنباء والإذاعات، قبل أن يبادر البلد نفسه بإعلان بيان رسمي بالخبر!!
إنه الاستعمار الإعلامي، وحضارة الوجبات السريعة التي تعتمد على النكهات الخادعة والموادّ الملوّثة الفاسدة، التي تقدّس الكذب والعنف، والغاية فيها تبرر الوسيلة. استمع لتشرشل كيف يبرر الكذب والخيانة في مبدئهم وطريقة عيشهم: " الحقيقة ثمينة، وللمحافظة عليها لا بد أن نسيّجها بسياج من الأكاذيب"!!
واستزد من جورج أوريل لتتعلم كيف تستطيع أن تنشئ مصنعًا للأكاذيب، وأنت (جنتلمان) مهذب نظيف بعيد عن الشبهة: "إن الروايات عندما تُرَدّدُ نفسَ الشيء بشكل متواتر فإن الكذب يمرّ في التاريخ ويصبح حقيقة".
ولقد أدرك الغرب عامة واليهود خاصة خطورة الإعلام، في بناء الرأي العام الذي يريدونه، وتسريب الحقائق المضللة التي يريدونها، فأحكموا سيطرتهم على أجهزة الإعلام المقروءة كالصحف والمجلات، والمسموعة كالإذاعات، والمرئية كالتلفاز والفضائيّات التي جعلت العالم قرية صغيرة مفتوحة، تلاشت فيها الجدران والسُّقف، وأصبحت أمريكا تقود أوسع عمليّات تجسّس في العالم حيث تتنصّت على كل ما يدور في الكرة الأرضيّة عبر مركز تنصّت إلكترونيّ تابع لوكالة الأمن القومي (NSA) كما يتعاون جهاز الاستخبارات الأمريكي (C.I.A) مع جهاز الموساد الإسرائيلي في إطار عمليّة تجسّسية معقّدة فريدة تعتمد على تفخيخ أجهزة الكمبيوتر المختلفة عن طريق برنامج يُسمّى وعد (P r omise) يسمح باختراق بنوك المعلومات في العالم، وأصبح عليك جاسوس في بيتك هو حاسوبك الذي زرعت فيه الشركات العالمية برامج تجسّس، وأصبحت أجهزتنا مفخّخة، ونحن نظن أننا بمأمن وسلام!!(70/40)
إن التضليل الإعلامي والإرهاب السياسي جزء من الحرب الباردة التي لم تنته بانتهاء الاتحاد السوفييتي، وانتهاء الحرب الباردة على المبدأ الشيوعي، والدول التي كانت تتبناه؛ فانتهت حرب على تلك الجبهة، واستمرّت حرب باردة على جبهة أخرى، ولكن بشكل أكثر ضراوة وتحدّيًا، مع خصم أكثر خطورة، ومبدأ صعب الاختراق والترويض، حرب مقنعة شعارها الحرب على الإرهاب والعنف وحقيقتها الحرب على الإسلام في طول الأرض وعرضها، وهي الحرب الحقيقية والمعركة الحقيقية للغرب لتغيير العقول، وحقن الأفكار بالسموم، وعولمة القلوب لتطهيرها من كراهية الغرب وطريقته في العيش ابتداء من الديموقراطيّة والحريّات السياسيّة والشخصيّة، وانتهاء باستمراء الزنا والخنا، والسماح بالإجهاض لتسهيل أمر الزنا، وعدم استهجان زواج المثليّين، والمطالبة بحقوقهم وعدم اضطهادهم، وعدم التعرض لعبدة الشيطان!!
ومن التضليل السياسي الذي تمّت دبلجته وإخفاء معالمه لدى الرأي العام إلى درجة استعصاء كشفه إلا على السياسي الخبير، والضليع المطّلع، والمراقب الذكيّ تسويق عبد الناصر على أنه بطل قومي، وأمل الجماهير في الوحدة والحرية, والمناهض للاستعمار الأمريكي، وقد كان عبد الناصر يهاجم أمريكا بشراسة، ويحاربها ويحارب سياساتها في الظاهر بينما في حقيقة الأمر أن ناصر والضباط الأحرار قد جاءت بهم أمريكا، وكان ناصر برتبة رائد، وكان في مطلع الثلاثينيّات من العمر حين قامت ثورة يوليو1952!! وقد أشار السادات في كتابه "البحث عن الذات" عن صلة الضباط الأحرار بِ( كافري) السفير الأمريكي في القاهرة، واجتماعهم به في اليوم السابق للانقلاب، وقد تآمرت بريطانيا على ناصر في العدوان الثلاثي عام 1956 ومعها إسرائيل وفرنسا، ولم ينقذ ناصر من السقوط سوى الضغوط الأمريكية على إسرائيل بالانسحاب من سيناء، وعلى بريطانيا بإيقاف الهجوم تحت التهديد الأمريكي بإغراق الجنيه الإسترليني، والتسبب في انهيار الاقتصاد البريطاني، ولمّا عاد (إيدن) إلى خزينة الدولة لم يجد فيها سوى ثمانين مليون جنيه إسترليني، فأوقف إيدن الحرب تحت الضغط الأمريكي، واستقال من رئاسة الوزراء، وقبل أن يقدم استقالته في يناير 1957 حرص على أن يقدّم ما وصفه بوصيّته وشهادته الأخيرة في أعقاب كارثة السويس، فقال: "إذا أردنا أن نلعب دوراً مستقلاً في العالم، فعلينا أن نضمن استقلالنا المالي والاقتصادي"!!
وقد جرى تضليل الرأي العام العربي والعالمي، وأُوهم السياسيون البسطاء بأن ضربات حذاء خروشوف في هيئة الأمم المتحدة، وتهديداته هي التي أوقفت حرب السويس، وأخرجت إسرائيل من سيناء لإبعاد الشبهة عن عبد الناصر بالعمالة للأمريكان!!
أما ياسر عرفات الذي اغتالته إسرائيل بعدما استهلكته، وانتهى دوره (وهو الذي أخطأته ماكينة الاغتيال الإسرائيلية دائماً دون رفاقه؛ لأنه كان يتقن اللعب على الحبال، ويجيد التمثيل ويمتلك حاسة شمّ سياسية قويّة، وحدس قويّ للأخطار!)، فقد كانت أجهزة الإعلام الإسرائيلية تسوّقه، وتصمه بالمتطرف والإرهابي كجزء من التضليل السياسي واللعبة السياسيّة؛ إذ كيف سيقدم على ما أقدم عليه، وهو يتسربل بسرابيل الخيانة؟ فلا بد أن يوصف بذلك على عيون الرأي العام الفلسطيني حتى يظهر وطنيًّا ومناضلاً عنيدًا عن حقوق الشعب الفلسطيني!! وفي مقابلة مع إحدى الصحف الإسرائيليّة قالت ريموندا الطويل الإعلاميّة الفلسطينيّة ووالدة سها الطويل أرملة عرفات ردًا على مزاعم الصحيفة بعدم شعبيّة عرفات لدى الرأي العام الإسرائيلي وكراهيّته له: لماذا يكرهونه؟ لقد منحهم اعترافًا، وأقرّ بشرعية إسرائيل!! وطبعاً ما كان يجدي اعتراف العالم كله بإسرائيل لو لم يعترف بها عرفات رئيس السلطة الفلسطينية وممثل الشعب الفلسطيني صاحب الأرض وولي أمر الضحية!! ولقد صرح أحد أعضاء الوفد الفلسطيني في الوفد المفاوض في محادثات أوسلو في إحدى المرات حين تعقّدت المفاوضات، ووصلت إلى طريق مسدود في لحظة من لحظات الحقيقة: " إنّ ما نقدّمه من تنازلات هنا للإسرائيليين يُعدّ خيانة وطنيّة في نظر شعبنا".
وخلاصة القول: إن التضليل الإعلامي، وهو يصنع الرأي العام يقلب الحقائق، ويزور التاريخ، ويقلب المفاهيم، فيصوّر البطولة خيانة، والخيانة عملاً وطنياً، وتحت وطأة الظروف فإن الناس العاديين يهتفون للخيانة كما كانوا يهتفون للإخلاص والشهادة، وتصبح مسألة الحفاظ على حياة وأمن الإسرائيليين عملاً وطنيًا ليس أنبل ولا أقدس، ولا أرفع ولا أجلّ!! وهنا تصبح عملية كشف الحقائق والثبات على المبادئ في غاية الصعوبة والتعقيد.
ولعل هذه الأيام والظروف الصعبة التي تعيشها أمتنا تكون مرحلة عابرة، وسحابة صيف عما قريب تقشع، ولكن لا بد أن يتسلح خلالها المخلصون بإيمان صادق بثوابتهم، وإخلاص خالص لمبادئهم حتى يوفّقهم الله ويؤيّدهم، ويهيّئ لهم من يشدّ أزرهم؛ وليل الشتاء -على الرغم من طوله وحلكته- لا بد أن يعقبه النهار الذي سيكشف المستور، ويفضح الحقائق، ما لم يكن مدلهمًا غائمًا صاخبًا؛ وعندئذ ستطول رحلتنا مع الصبر الجميل!!
============(70/41)
(70/42)
كفى كلاما
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام وعلى رسولنا النبي الكريم
وبعد
فأن الشهيد المجاهد عبد العزيز الرنتيسي قد اعلنها بوضوح وبصدق ان بوش وشارون عدوين لله وللإسلام وللمسلمين وهاهو الشهيد الرنتيسي قد نال الشهادة
يامة الإسلام ياامة لا اله الا الله ا ياخير امة اخرجت للناس يامن يقول فيها ابن عمر ابن الخطاب خليفة رسول الله اننا امة اعزها الله بالاسلام وان عز الاسلام وقوته وذروة سنامه هو الجهاد في سبيل الله
واليوم هذا والله هو يوم الجهاد ووقت الجهاد ومكان الجهاد
اليوم الجهاد صار فرض عين على كل مسلم ومسلمة بعد ان استبيحت الامة من قبل اليهود والنصارى الامريكان وعاثوا في امتنا الفساد وكل شيئ في الامة صار حلالا مستباحا لامريكا واليهود دينها ومقدساتها وحرماتها
ماذابقي للامة اليوم بعد ان اذلها وهزمها وصار امرها الى اعداء الله الامريكان واليهود بعد ان صارت الامة تحت رحمة بوش وشارون يعيثان الفساد في بلاد الاسلام
ان حكام امتنا اليوم يقودون الحرب الصليبية اليهودية بالوكالة عن امريكا هاهي القوى الحية في الامة التي تدافع عن الامة وتواجه الامريكان هاهي تذبح وتقتل على ايدي الحكام هاهو دين الله يراد له ان يقوض ويهدم ويبعدعن حياة الامة
ان من يأبى الظلم و العدوان الامريكي ويقف في وجه الحرب الصليبية على الاسلام يكون
ارهابيا ودمه حلال ومستباح وفي بلاد الاسلام
يامة الاسلام ان اليهود والنصارى اليوم قد اجمعوا امرهم ووحدو كلمتهم في حرب الاسلام في قلب الامة في فلسطين وهم قد بدأو المعركة ان فلسطين اليوم هي معركة الامة هي الاسلام هي المقدسات هي الوعد الالهي بالنصر والتمكين لامة الاسلام على اليهود و النصارى
ان بوش وشارون اليوم قد قرروا وحسموامرهم في هذه الحرب التي هي عندهم مقدسة وقد قتلوا اليوم قادة الجهاد في فلسطين الذين يدافعون عن مقدسات الامة
انهم ماضون نحو هدم المسجد الاقصى واقامة هيكلهم المزعزم فهل ننتظر الى ان يهدم بوش المسجد الاقصى هل ننتظر الى ان نرى امريكا في ارض الحرمين هل ننتظر ان نرى مكة المكرمة فلوجة اخرى تحت الحصار الامريكي
ماذابعد ان بوش قتل احمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي والشهيد عبد العزيز الرنتيسي قد\ قالها بوضوح ولم يخاف بوش فقد قال ان بوش وشارون عدوي للاسلام والمسلمين وهاهما بوش وشارون قد ابتدأ المعركة
فيا امة الاسلام هاذاهو الجهاد قد صار اليوم واقعا وواجبا وفرض عين على كل مسلم ومسلمة في معركة الامة المقدسة اليوم في فلسطين
لامجال اليوم للادانة والشجب والاستنكار ف يوش اعلن الحرب الصليبية على الاسلام استباح بلاد الاسلام قتل اخوتنا المجاهدين والمرابطين في ارض الرباط في فلسطين وهو سوف يهدم المسجد الاقصى فهل ننتظر
ان اليوم هو يوم الجهاد في سبيل الله في كل مكان في البلاد الاسلامية على اليهود في والنصارى الامريكان في قتلهم وفي ضربهم وفي كل مصالحهم
وهذه هي والله معركة الاسلام فالله قد وعدنا بقتال اليهود في فلسطين انتم شرقي النهر وهم غربيه كما قا صلى الله عليه وسلم
وعدنا الله بدخول المسجد كما دخلناه اول مرة
هذه هي المعركة التي يتمنتاها كل مسلم قد بدأت في ان يجاهد في سبيل الله في ارض الرباط في فلسطين ومقاتلة اليهود ونيل احدى الحسنيين ا ما نيل الشهادة في سبيل الله او نصر الله في الصلاة في المسجد الاقصى ثالث الحرمين الشريفين والتي تعد الصلاة فيه الف صلاة في غيره فهذا والله خير كثير جهاد وشهادة ونصر وصلاة
فهذه هي المعركة قد بدأها اليهود والنصارى وهذه والله ريح الجنة حلو وبارد شرابها
واليهود والروم قد دنى عذابها
الله لاعيش الاعيش الاخرة فارحم الانصار والمهاجرة
و الحمد لله رب العالمين
=============(70/43)
(70/44)
رداً على ما جاء في بيان المثقفين الأمريكان :على أي أساس نُقتل ونُحارب؟!
سهيلة زين العابدين حمَّاد 7/3/1423
19/05/2002
لقد ركَّز معهد القيم بالولايات المتحدة الأمريكية في بيانه الذي وقَّع عليه ستون مثقفاً أمريكياً ،والذي أعطاها هذا العنوان " على أي أساس نُقَاتل؟" تبرير حرب الإدارة الأمريكية على ما أسمته إرهاباً أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م بأنَّها حرب أخلاقية تستهدف الحفاظ على المبادئ والقيم الخمسة التي يؤمن بها الموقعون على البيان ،طالبين من المسلمين رجالاً ونساءً أن ينضموا معهم في تأييد هذه الحرب وتبني القيم الأمريكية .
هذا ولمّا كان البيان قد كشف مدى تضليل الإعلام الغربي الذي تسيره الصهيونية العالمية للمثقفين الأمريكان ممن وقَّعوا على هذا البيان الذي حوى على كثير من المغالطات والمتناقضات رأيتُ من واجبي كمثقفة مسلمة وصاحبة فكر وحاملة أمانة القلم أن أفتح باب الحوار مع موقعي هذا البيان ،ومع أي مثقف أمريكي أو أوربي يريد أن يتحاور معي حول مبادئ الإسلام وقيمه وعلاقة الغرب به ،لأصحح له الرؤى ،وأوضح له معالم صورة الإسلام التي عكف الاستشراق الغربي على مدى ثمانية قرون ،والصحافة الصهيونية على مدى قرن من الزمان على تشويهها وتضييع معالمها .
وأتمنى أن يكون ردي على بيان مثقفي أمريكا بمثابة بيان مثقفي العرب والمسلمين في كل مكان ،فمن يجد في هذا الرد من مثقفي الأمة يمثل رأيه فإنَّني أدعوه أن يضم توقيعه إلى توقيعي .
والنقاط التي سوف نناقشها في هذا البيان هي :
أولاً :المرتكزات الأساسية التي تقوم عليها القيم التي نؤمن بها نحن المسلمين والمنبثقة من أسس العقيدة الإسلامية.
ثانياً : القيم الأمريكية والمبادئ الخمسة التي يدافعون عنها .
ثالثاً : أحداث سبتمبر ،وإعلان الغرب الحرب على كل ما هو إسلامي،والتي وصفها البيان الأمريكي بالحرب العادلة والحرب الأخلاقية،وأنَّها لصالحنا نحن المسلمين.
رابعاً : موقفنا من سياسة الإدارة الأمريكية تجاه إسرائيل ،وتجاه الدول الإسلامية بما فيها الدول العربية،وفي حربها على ما أسمته بالإرهاب.
خامساً : النظام الإسلامي في الحكم،ودعوة البيان إلى فصل الدين عن الدولة ،والحكم بالحكم العلماني الوضعي.
أولاً: المرتكزات الأساسية للقيم التي نؤمن بها والمنبثقة من العقيدة الإسلامية :
1- الإيمان بأنَّ الله هو الخالق الرازق المحيي والمميت ،وهو الحي الذي لا يموت،وهو الواحد (الأحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ) (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) فنحن هنا نختلف مع استناد مؤسسي الولايات المتحدة إلى دعوى دينية أساسية أنَّ جميع البشر خلقوا على صورة الله،فالإنسان خلق بنفحة من روح الله ،ولكنه لم يخلق على صورة الله.كما نؤمن بأنَّ الله هو القاهر فوق عباده ،وليس أية قوى بشرية ،فأية قوة بشرية مهما بلغت من قوة فلن تكون فوق قوة الله فتستبد معتقدة بأنَّها هي القوة الأوحد ( وهو القاهر فوق عباده ) ( فعَّال لما يُريد) فنحن نؤمن إيمانا كاملاً بأنَّ الحياة والموت والرزق ،وكل شئ بيد الله وحده ،ولا يستطيع أي كائن كان مهما بلغ من قوة وبطش أن ينزع الحياة والرزق منَّا بدون إرادة الله ،فالإسلام قد حرَّر الإنسان من عبودية الخلق الذي ظل عبداً لأسياده ألوف السنين ،ولم يذق طعم الحرية إلاَّ بالإسلام ،انظروا إلى أحوال شعوب الأرض قبل بزوغ فجر الإسلام كم عانت من اضطهاد وظلم واسترقاق البشر من حكام وإقطاعيين! فالعالم لم يعرف العدالة والحرية والمساواة إلاَّ من الإسلام، ولذا فنحن نحب خالقنا الذي حررنا من كل أنواع وصنوف العبودية للخلق، ولا نخشى ولا نخاف إلاَّ إيَّاه الذي جعل العزة للمؤمنين كما جعلها له ولرسوله ،إذ قال عزَّ وجل (( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)) (المنافقون :8)،فالمسلم الحق لا يرضى بالذل والخنوع والخضوع ،إنَّه يرفضُ الضيم،فعلاقة الإنسان في الإسلام بربه علاقة جد وثيقة قائمة على العبادة له طاعةً ومحبةً ومراقبته في كل قول وعمل خوفاً من عقابه ،وطمعاً في رحمته وثوابه،ورغبة برؤيته يوم القيامة والفوز بالجنة.(70/45)
2- الإنسان كائن مكلف وصاحب رسالة ،يقول تعالى : (( وإذْ قَال رَبُّكَ للمَلاَئِكِةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأْرْضِ خَلِيفَةً قَالُوُا أَتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِد فِيها وَيَسْفِكُ الدَّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّح بَحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَالاَ تَعْلَمُونَ )) ( البقرة 30)،ويقول تعالى : (( إنَّا عَرَضنَا الأَمانةَ عَلى السَّمَاوَاتِ والأْرْضِ والجِبَال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشَفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَها الإِنْسانُ إِنَّه كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)) ( الأحزاب :72). والإنسان لا يكون ظلوماً جهولاً إلاّ إذا كان ذا عقل ،فيعرف به أعباء هذه الأمانة ،ومع هذا يتعدى حدودها ؛إذ ظلم نفسه بتحمل أعباء يعرفها ويتعدى حدودها ،وجهول لأنَّه يتعدى تلك الحدود لجهله بها. وهنا يتضح لنا سبب اختيار الله للإنسان لمسؤولية الاستخلاف . فالعقل والتفكير مناط التكليف ؛ لذا اشترط التكليف بالعقل ،فإن انعدم العقل سقط التكليف ،لذا نجده سقط عن الصغير والمجنون والمعتوه ،فالإنسان مكلف بعمارة الأرض ،وبأمانة الاستخلاف لأنَّه ذو عقل ،ووجود عقل يعني وجود فكر ،ودور العقل في هذه القضية جد عظيم ،وهو موضع اعتبار الإسلام وتعظيمه ليكون في الدرجة الأولى من الأهمية والفعالية والعطاء ،ومن الوصول بالإنسان إلى مداخل الحق والخير ،وتمكينه من استيعاب الحقائق التي تملأ أرجاء هذا الكون المعمور ،وفي طليعتها حقيقة الإيمان بالله الذي يملأ وجوده الكون وما فيه لتكون له الهيمنة المطلقة التي تحيط بأرجاء الوجود من أطرافه ،ومن أقصاه إلى أقصاه ،وقد ورد ذكر العقل في القرآن الكريم ومشتقاته ثمان وأربعين مرة ؛إذ يدعو فيها أن يتفكر العقل في ملكوت الله ،وفي خلائقه المنتشرة ،وفي تركيبة هذا الكون الزاخر المعمور حتى يصل العقل إلى التصديق المطمئن بوجود الإله الخالق المهيمن الأعظم.
3- عبادة الله هي المهمة العليا لهذا الإنسان ،وقد بيَّن هذا قوله تعالى : (( ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنْسَ إلاَّ ليَعْبُدُون)). فالإنسان خلق لعبادة الله ،ولتحقيق أمانة الاستخلاف وعمارة الأرض ،فهذه الآية والآيتان السابقتان عن أمانة الاستخلاف تدحض العبثية الوجودية التي تقول بعبثية الخلق ،وأنَّ الإنسان مادام سيموت فلا هدف من حياته ،ولا قيمة لأي عمل يعمله.(70/46)
4- أنَّه مسيّر ومخيَّر ،ومميز أي لديه القدرة على التمييز بين الخير والشر ،فالنفس البشرية كما تعرف الله بالفطرة ،فهي تعرف الخير والشر بالفطرة .. مصداقاً لقوله تعالى : ((وَنفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فألْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاها )) ( الشمس : 8) ،ويقول تعالى : (( وّهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن))،وهنا يأتي الاختيار فمادام الإنسان قادراً على التمييز بين الخير والشر ،فهو حر الاختيار ؛إذ بيّن الله جلَّ شأنه له لخير والشر ،وطريق كل منهما ،وله أن يختار أيهما يسلك ثُمَّ يتحمَّل مسؤولية اختياره فيثاب ويجازى خيراً على الخير ،ويعاقب في الدنيا والآخرة إن سلك طريق الجريمة والشر ،وهنا يأتي دور المجتمع في معاقبة من أجرم في حق العباد وفي حق المجتمع.،فالإنسان في التصور الإسلامي مسيَّر ومخيَّر ،مُسيَّر في بعضِ جوانب حياته وفق طبيعته التي خلقه عليها ،فهو مسير بخضوعه لسنن الكون التي لا يستطيع الخروج عنها كقوانين الجاذبية ،والضغط الجوي ،وقوانين الجسم من الهضم والدورة الدموية ،وقوانين الحرارة ،وغيرها من السنن الكونية ،وهذا من رحمة الله بالإنسان ؛إذ لو لم يكن مسيراً في قوانين الجسم كيف يستطيع أن يُسيِّر أجهزة جسمه لتؤدي وظائفها وهو نائم؟،فالإنسان في بعض جوانب حياته مسيَّر ؛بخضوعه لسنن الكون ،ولكنه من جهة أخرى له قدرة وإرادة حرة تختار ما تريد من الأفعال والتصرفات ،ولكنها مسؤولة عن هذا الاختيار ،وهنا الفرق بين حرية الإرادة في التصور الإسلامي ،وحرية الإرادة في الوجودية الملحدة ،الفرق هو العقوبة على من يتجاوز حدود الاختيار فيظلم نفسه ،أو يظلم غيره ،وحدود الاختيار محددة في الحلال والحرام ،وعلى الإنسان أن يختار الحلال ،فإذا ارتكب محرماً عوقب على قدر جريمته فإن سرق أكثر من ثلاث مرات قطعت يده ، وإن شرب الخمر جلد ،وإن ارتكب فاحشة الزنا إن كان محصناً أي متزوجاً يُرجم حتى الموت ،وإن كان غير متزوج يجلد مائة جلدة ، ،ومن قتل يقتل ،بقول تعالى : (( يا أَيُّها الذين آمنوا كتبَ عليكمُ القِصَاصُ في القْتَلى)) ( البقرة : 178) .ومن ارتد عن الإسلام يستتاب ،فإن لم يُتب يقتل لقول صلى الله عليه وسلم (أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه ،فإن عاد ،وإلاَّ فاضربه عنقه ،صحيح أنَّه(( لا إكراه في الدين)) كما قال تعالى،فالإنسان حر في اختيار دينه وعقيدته ،ولكنه مادام قد اختار الإسلام ديناً وهو خاتمة الأديان السماوية نولا دين سماوي بعده فعليه الالتزام به ،ويتحمل مسؤولية هذا الاختيار ،وإلاَّ فإنَّ ارتكب معصية أو جريمة يحرمها الإسلام ؛يدَّعي هرباً من العقوبة أنّه ارتد عن الإسلام فراراً من العقوبة ،فيصبح المجتمع في فوضى بكثرة الجرائم إن لم تكن هناك عقوبة رادعة للمرتد،وتروْن أنه لا توجد عقوبة في اليهودية لمن تركها ،لأنَّه سيأتي دين سماوي بعدها هو المسيحية ،فمن ترك اليهودية واعتنق المسيحية فلا عقوبة عليه في الديانة اليهودية ،ولا توجد عقوبة في الديانة المسيحية لمن تركها لأنه سيأتي دين سماوي بعدها هو الإسلام،فمن ترك اليهودية أو المسيحية واعتنق الإسلام فلا عقوبة عليه،بل عليه الدخول في الدين الإسلامي لأنَّه خاتمة الأديان ،ولم يجبر الإسلام يهودياً ولا نصرانياً الدخول في الإسلام فالذين أسلموا منهم أسلم من تلقاء نفسه بعد اقتناع بأنه الدين السماوي الخاتم وأنَّه الدين الحق ،فالإسلام دخل في شرق ووسط وغرب أفريقيا ،وفي شرق وجنوب شرق آسيا عن طريق التجَّار ،إذ أسلم أهالي تلك البلاد عندما وجدوا في التجار المسلمين الصدق والأمانة وعدم الغش،والوفاء بالعهد،وغيرها من الأخلاق الحميدة ،وهي صفات أوجبها عليهم الإسلام ،فالإسلام دين الأخلاق ،فالرسو صلى الله عليه وسلم قال : ( إنَّما بُعثتُ لأتمم الأخلاق ) ،وقد وصفه الله عزَّ وجل في قوله تعالى ((وَإَنَّك لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم))فالمستشرقون الذين زعموا أنَّ الإسلام انتشر بحد السيف زعمهم باطل ،يدحضه الوقائع والحقائق التاريخية .ويؤكد هذا قوله تعالى لنبيه الكريم : (( ادْعُ إلى سَبيلِ رَبَّكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وَجَادِلهُمْ بالتي هي أحسنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِين)) (النحل: 125)،وقوله لرسوله الكريم أيضاً (( لو كُنْتَ فَظَّا غَلِيظَ القَلْبِ لا نفَضُّوا مِنً حَوْلِكَ))
فالإسلام هو خاتمة الأديان السماوية ،لذا كانت هناك عقوبة على المرتد عنه بعدما اختاره ديناً بلا إكراه، ألا تعلمون أنَّ الإدارة الأمريكية تتدخل في هذه الأمور الشرعية ،وتطالب بعض الدول الإسلامية بعدم تنفيذ عقوبة المرتد على المرتدين عن الإسلام تمهيداً لتنفيذ مخطط تنصير المسلمين ؟
كما حرَّم الإسلام الانتحار ،لأنَّ فيه اعتراضاً على قضاء الله وقدره ،وفيه قتل نفس التي حرَّم الله قتلها إلاَّ بالحق ،والإنسان مسؤول عن صيانة نفسه وحمايتها، يقول تعالى : (( ولاَ تَقْتُلُوا أَنْفَسَكُم إنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيما))(70/47)
هذه الجرائم الكبرى التي يعاقب عليها الإسلام حماية للأنفس والأعراض والأموال ،والمجتمعات الإباحية لا تعتبر الزنا جريمة لأنَّهم لا يؤمنون بالإنسانية المترفعة عن مستوى الحيوان.
ولقد ساوى الإسلام بين المرأة والرجل في الحدود والعقوبات ،كما ساوى بين جميع الناس في الحقوق المدنية ،وشؤون المسؤولية والجزاء والعقاب ،يقو صلى الله عليه وسلم ( لا تفلح أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي ) ،وقال ( إنَّما أهلك الذين من قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه ،وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد ،وأيم والله لو فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها) ،ويقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه في أول خطبة له بعد مبايعته بالخلافة : ( ألا إنَّ أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له ،وأضعفكم عندي من القوي حتى آخذ الحق منه .) وحرص على تكرار هذا المعنى نفسه أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه في أول خطبة له بعد توليه الخلافة : ( أيها الناس ! إنَّه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له ،ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه ) ،وجاء في رسالة عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري ،وهي الرسالة التي جمع فيها معظم أحكام الإسلام في القضاء : ( آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك ـ أي سو بين المتقاضين في جميع هذه الأمور ـ حتى لا يطمع شريف في حيفك ،ولا ييأس ضعيف من عدلك) . ويقول في وصيته للخليفة من بعده : ( اجعل النَّاس عندك سواء ،لا تبال على من وجب الحق ،ثُمَّ لا تأخذك في الله لومة لائم ،وإياك والمحاباة فيما ولاَّك الله ) .
5- إنَّ الإنسان مسؤول عن اختياره ليثاب إن أحسن ويعاقب ويجازى إن أخطأ،والرجل والمرأة متساويان في الجزاء والثواب ،كماهما متساويان في الإنسانية وفي تحمل أمانة الاستخلاف، وفي القصاص والحدود والعقوبات،يوضح هذا قوله تعالى : (( مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِّنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون) وهو هنا يرد القرآن الكريم على ما أثير من تساؤلات في أحد المجامع الكنسية بروما التي منها :
هل المرأة إنسان ذو روح خالدة ؟ وهل هي أهل لأن تتلقى الدين ،وهل تصح منها العبادة ؟ وهل يتاح لها أن تدخل الجنة في الآخرة ؟؟
ثُمّ قرَّر المجتمعون ( أنَّ المرأة مجرد حيوان نجس لا روح له ولا خلود ،ولكن يجبُ عليها العبادة والخدمة ،كما يجب تكميم فمها كالبعير وكالكلب العقور لمنعها من الضحك والكلام لأنَّها أحبولة الشيطان )
6- الإنسان في الإسلام مادة وروح معاً ،فهو قبضة من طين ونفخة من روح الله ،يقول تعالى : (( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذ سوَّيته ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين)) (سورة ص :71-72)
وقد وازن الإسلام بين الروح والجسد فلم يبخس للجسد حقاً ليوفي حقوق الروح،فيحرم المباح ،ولم يبخس للروح حقاً ليوفي حقوق الجسد، فيبيح المحرمات ،ويتضح هذا التوازن في قوله تعالى : (( وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)) ( القصص : 77) ،هذا التوازن عجزت عن تحقيقه سائر الأديان والفلسفات ،وهنا تتجلى معجزة الإسلام فالإنسان في التصور الإسلامي موحد من حيث طبيعته بين النواحي المادية والروحية والحاجات النفسية.فالإسلام لا يؤمن بحيوانية الإنسان أي ماديته "كالداروينية"التي نشأت عنها المذاهب المادية كالماركسية والفرويدية القائمة على التفسير الجنسي الحيواني للسلوك الإنساني ،وغير ذلك من المذاهب القائمة على مادية الإنسان وحيوانيته ،والتي شملت كل اتجاهات الفكر الغربي،كما لا يؤمن برهبانية الإنسان كالبوذية والهندوكية التي تمخَّضت عنها الفلسفة المثالية كفلسفة أفلاطون في العصور القديمة وفلسفة هيجل في القرن التاسع عشر،وإنَّما يؤمن الإسلام بأنَّ الإنسان مادة وروح لا يمكن فصل هذين العنصرين عن بعضهما البعض.
والإنسان مخلوق مكرَّم ((ولقد كرَّمنا بني آدم )) (المائدة : 33) ،ومن مظاهر هذا التكريم:(70/48)
- العلم : (( وعلَّم آدم الأسماء كلها ثُمَّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين)) (البقرة:31) ،وقال جلّ شأنه ((علَّم الإنسان مالم يعلم ))(العلق:5) ،كما علَّمه البيان (( الرحمن .علَّم القرآن .خلق الإنسان. علَّمه البيان)) (الرحمن :1-4)،وقد زوَّد الخالق جلَّ شأنه الإنسان بأهم أدوات التعلم وهي العقل والسمع والبصر والفؤاد ،وعلى الإنسان أن يُحسن استخدامها ،وإلاَّ فهو والأنعام سواء يقول تعالى : (( ولقدْ ذّرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرَاً مِنَ الجِنِّ والإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاّ يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُم أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُون بِها وَلَهُم أَذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِها أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمُ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُون))بل حثه على استخدام المنهج العلمي باستخدام أدوات البحث العلمي في قوله تعالى ((ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنَّ السمعَ والبصرَ والفؤاد كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عنْه مسؤولا)) ولقد تحدى القرآن الكريم العقائد الموروثة والأفكار الجاهلية بالمنهج العلمي فقال جلَّ شأنه (( قل هاتوا بُرهانكم إنْ كُنْتُم صادقين)) ( البقرة:170)وقوله تعالى : (( قُلْ هَلْ عِنْدَكُم مِنْ عِلِمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتبِعُونَ إلاَّ الظَّن وإنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تخْرُصُون)) ( الأنعام : 148) فالمنهج العلمي أول ما جاء به الإسلام وطبَّقه الحسن بن الهيثم في بحوثه وكشوفه العلمية قبل فرنيسس بيكون الذي نُسب إليه المنهج العلمي . ولأهمية العلم فلقد جعله الإسلام فريضة على كل مسلم ومسلمة ،ألا تعلمون أنَّ أول كلمة في القرآن نزلت هي كلمة "إقرأ"التي جاء فيها قوله تعالى ((إقرأ باسم ربِّك الذي خلق .خَلَقَ الإنْسَان مِنْ عَلَقْ. أقرأ ورَبُّكَ الأَكْرَم. الَّذي عَلَّم بِالقَلَمِ.عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم)) (العلق:1_5)،وألا تعلمون أنَّ الرسولمحمدا صلى الله عليه وسلم قد جعل فداء كل أسير من أسرى المشركين في غزوة بدر ،وهي أول معركة بين المسلمين ومشركي قريش هو تعليم عشرة من الصبيان في المدينة المنورة ؟ إنَّه دين حضاري وإنساني قائم على العلم واحترام أهل العلم وتكريمهم ،فقلد جعل العلماء ورثة الأنبياء ،وهم أكثر خشية لله لأنَّهم على علم بقدرته عارفون به ،يقول تعالى (( إنَّمَا يخشى اللهَ منْ عِبَادِه العُلَمَاءُ)) وبين أنَّ أهل العلم لا يتساوون مع الذين لا يعلمون ،يقول تعالى : (( قُلْ هَلْ يسْتَوِي الذينَ يَعْلَمُون وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون)) ( الزمر : 9)،بل يرفع الله أهل العلم درجات ،يقول تعالى : (( يَرْفَعُ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُم والَّذِينَ أُوتُوا العِلَم دَرَجَاتٍ))( المجادلة : 11) ،وقد حثَّ الإسلام على طلب العلم وجعله طريقاً إلى الجنة ،فلقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن طريق أبي هريرة رضي الله عنه ،أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له طريقاً إلى الجنة)،فهذا فضل العلم والعلماء في الإسلام ،والذي ينكرونه عليه متهمينه بأنَّه ضد العلم ،وأنَّه يدعو إلى التخلف والرجعية ،فليتبصروا ويتأملوا في هذه الآيات القرآنية ،وفي واقع الأمة الإسلامية عندما تمّسكت والتزمت بالإسلام أية حضارة شيّدتها ،وأي علم وصلت وارتفعت إليه؟فموقف الإسلام من العلم وتشجيعه عليه ،ورفع مكانة العلماء ،ومساواة البشر جميعاً في طلبه فجَّر في المسلمين طاقات الإبداع ،وأضاف مفهوماً جديداً إلى مفهوم العلم لم يكن يلقى اهتماماً عند اليونانيين ،وهو استخدام العلم في كشف أسرار العالم الطبيعي ،وقهر الإنسان للمادة ،والسيطرة عليها ، واستخدم المسلمون الرياضيات في حل المشكلات الواقعية التي تواجه الإنسان ،وبرعوا في استخدام الأرقام ووضع علم الحساب ،واكتشاف الصفر في كتابة الأرقام ،واخترعوا علم الجبر ،وتفوقوا في الهندسة التحليلية ،وابتكروا حساب المثلثات ،وكانت هذه أول مرة تستخدم فيها الرياضيات للتعبير عن قوانين العالم الطبيعي ،وفي علم الطبيعة ابتكر ابن الهيثم علم الضوء ،كما اكتشف ابن سيناء الجاذبية الأرضية قبل إسحاق نيوتن بسبعة قرون ،وللأسف الغرب نسب هذا الاكتشاف إلى إسحاق نيوتن ،وفي مجال الطب فلقد اكتشف ابن النفيس الدورة الدموية الصغرى ،كما عرف العرب التغذية عن طريق شق العلوم بالحقن ،وهم أول من عرف الخدمة السريرية ،والتعقيم وانتقال العدوى في بعض الأمراض ،وعرفوا الجراثيم وطرق وقايتهم من الأمراض شبيهة بطرق الوقاية المعروفة اليوم .وفي علم الصيدلة فلقد اجمع مؤرخو العلوم أنّ علماء العرب والمسلمين هم الذين وضعوا قواعد علم الصيدلة وفصلوها عن الطب ؛إذ كان الطب والصيدلة مهنة واحدة.ورجع تفوق للعلماء المسلمين في علم الصيدلة إلى تفوقهم في الكيمياء وعلم النبات. هذا ويعتبر جابر بن حيَّان هو مؤسس علم الكيمياء ،وحتى أصبح في أوربا في العصور الوسطى يطلق على علم الكيمياء " علم جابر"،أو "بصنعة جابر" وكتابه "الخالص" كان يدرس في أوربا لعدة قرون ،وممّا لاشك فيه فإن إنجازات(70/49)
العلماء المسلمين في علم الكيمياء كان لها أثر كبير في صناعة الأدوية ،وفي كثير من الصناعات منها صناعة الأسلحة.أمَّا إنجازات المسلمين في علمي الفلك والجغرافيا فقلد ساعد على تطور علوم لأرض والفضاء.
إنَّ إنجازات المسلمين في كل العلوم لا تعد ولا تحصى ،وما ذكرناه على سبيل المثال لا الحصر لنبين لكم أنّ الإسلام هو الذي دفع بالمسلمين إلى كل هذه الاكتشافات العلمية لأنّ هؤلاء العلماء أول شيء يتعلمونه هو العلوم الدينية من حفظ القرآن الكريم ،ودراسة تفسيره ،ومن حفظ الأحاديث النبوية ،ودراسة الأحكام الفقهية الشرعية ،ثُمَّ ينطلقون في دراساتهم للعلوم التي يرغبون في دراستها ،ومعهم الذخيرة النفيسة من العلم التي ترشدهم وتلهمهم وتؤهلهم لطرق كل العلوم ،والنبوغ فيها فأسهموا في إنشاء حضارة فريدة تميّزت على كل الحضارات ،وأصبح المسلمون يمثلون أكبر قوة في العالم ،فمثلاً : ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع وعلم العمران،وصاحب العديد من النظريات الاقتصادية التي سبق بها آدم سميث استقى نظرياته الاجتماعية والعمرانية والاقتصادية من القرآن الكريم ،ومن السنة الشريفة ،وقد كان عالماً فقيهاً ،وقاضياً تولى القضاء في مصر .فالعالم لم يعرف الحضارة العلمية إلاَّ عن طريق الإسلام الذي دفع بالمسلمين إلى ذلك ،فالعلوم الدينية تخرج العلماء والمفكرين والمخترعين لمن يدرسها حق دراستها ،ولا تُفرِّغ الإرهاب ،كما تزعم الحملة على الإرهاب التي وصفها بيانكم بأنَّها حرب أخلاقية!
والذي يُفرِّغ العنف والإرهاب أفلام العنف والإرهاب التي تنتجها سينما هوليود التي يسيطر عليها اليهود الصهاينة،فلمَ لا يوجه الانتقاد إلى تلك الأفلام التي تعرض في محطات التلفاز الأمريكية؟أيضاً لماذا لم يقدَّم الانتقاد للمناهج الدراسية الدينية في إسرائيل التي تدعو إلى إباحة أعراض ودماء وأموال غير اليهود من الأميين ،والتي تغرس في نفوس صغارها على التمايز على سائر الأمم ،وأنَّهم شعب الله المختار ، وأنَّ دولة إسرائيل الكبرى تمتد من النيل إلى الفرات ،بل حتى مناهج الحساب يُحرِّضون فيها على قتل الفلسطينيين ،فمن المسائل الحسابية التي تدرس للطلبة في إسرائيل مثلا : يوجد ثمانية فلسطينيون فكم فلسطينياً ينبغي أن تقتلهم ليبقى ثلاثة أحياء؟
- من مظاهر التكريم الإلهي للإنسان أنَّه خلقه سوي الخلقة ،يقول تعالى : (( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم))
- من هذا التكريم أنَّه سخَّر له ما في الكون ،يقول تعالى : (( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جمِيعاً مِّنه إَّن فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكْرُون)) . فهذا التصور الذي يحمله الإسلام للإنسان من تسخير الكون له وليس العكس .فإنَّ الطبيعة هي المسخَّرة للإنسان ،وليس هو المسخَّر لها ،فالقول بأنَّ الإنسان سخر للوجود أدَّى إلى استعباد الإنسان ،فأصبح الكون بالنسبة للإنسان سيداً معبوداً . وإقرار هذه الحقيقة أنّ الكون مسخر للإنسان فيه تحرر الإنسان من عبودية الخلق.فالمبدأ الأساسي الذي تقوم عليه العقيدة لإسلامية هو أنّ الله وحده هو المعبود ،وليس أحد سواه ،فلا الشمس ولا القمر ،ولا الليل ولا النهَّار ،ولا البحار ،ولا المال ولا الحيوان ولا النار ،ولا القوم ،ولا العشيرة ،ولا الوطن ،ولا الإنسان المعبود ،فليس في الكون شيء معبود ،بل الكل ،كل الكائنات الموجودة في هذا الكون عابد له يدين له بالتعظيم ،ويقر له بالألوهية والوحدانية والعبودية ،يقول تعالى : (( وَهُوَ اللهُ لاَ إِلَه إِلاَّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولى والآخِرِة ولَه الحُكُمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون)) ( القصص : 70). وهكذا كرَّم الله الإنسان ؛إذ حرَّره من عبودية الخلق ليكون عبداً للخالق جلَّ شأنه ،وهي عبودية تشريف وتكريم وإعزاز لأنَّه بهذه العبودية يرتفع ويسمو وتنبتُ في نفسه الطمأنينة ،ويتطهر جسده من أردان الرذائل والخبائث ،ويرتقي بآدميته إلى الفضائل والعفاف ،فلا يخشى إلاَّ الله ،ولا يذل نفسه إلاَّ لله ،ويجعل عمله خالصاً لله ،فيتحرر من الخديعة والكذب والنفاق والرياء ،ويراقب الله في أعماله وأقواله ،فلا يخون ،ولا يسرق ،ولا يزني ،ولا يقتل فيعيش سعيداً عزيزاً مكرماً مطمئن النفس قرير العين ،فيسلم من آفات وأمراض هذا الزمان ،وكل زمان ؛إذ يتخلص بإخلاص العبودية لله ممَّا تعاني منه البشرية أفراداً وجماعات من الويلات والنكبات التي تنصب على رأسها صباً كالقلق والخوف ،والهم ،والاكتئاب ، والانتحار ، والأنانية ،والجشع ، وسُعار الجنس ، والطلاق ، والاغتصاب ، والإرهاب ،وتفسخ الأسرة وتفككها ، وانحلال المجتمع ،كل هذه الأمراض والمفاسد تعاني منها البشرية الشاردة عن دين الله ،والتي تعلق العصيان على الله سبحانه وتعالى ،وذلك لتصورها المخبول القاصر أنَّها تستطيع أن تحظى بالسعادة والخير بانفرادها بالتشريع وانفصالها عن صراط الله في شرعه ودينه ،لهذا كانت الغاية العليا من خلق الإنسان عبادة الله جلَّ شأنه ، يقول تعالى : (( وما خلقتُ الجن والإنس إلاَّ ليعبدون))(70/50)
7- أنَّ الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء ،يمر بها الإنسان ليصل إلى الآخرة ،وأنَّ الحياة الآخرة هي الحياة الدائمة لا موت فيها ،ولقد وصف الحياة الدنيا : بأنّها حياة لهو ومملوءة بالزينة والزخرف والشهوات(( اعلموا أنَّما الحيَاةُ الدُّنَيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَال والأَوْلادِ)) (0الحديد :20) ،وأنَّها متاع مؤقت ،ومكان عبور لا يجوز اتخاذها غاية ،يقول تعالى : (( إذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمَاً )) ( طه : 104)،وأنَّها دار تعب وكدح وجد ،يقول تعالى : (( يَا أُيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحَاً فَمُلاَقِيه)) ( الانشقاق : 6)
8- الإيمان أنَّ الكون ميدان للنشاط الإنساني ؛إذ يستخدم فيه الإنسان طاقاته وإمكاناته ويسخره لمنفعته ،وأنَّ إرادة الله وراء ما يحدث في هذا الكون ،وأنّ الكون مسير ومدبر دائماً بقدرة الله ،يقول تعالى : (( ومِنْ آياتِهِ أنْ تَقُومَ السَّمَاءُ والأرْضُ بِأمْرِهِ)) ،وأنَّ الكون كله قانت لله : (( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاواتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهنَّ وَإِنْ مِّنْ شَيءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)) (الإسراء : 44)،وأنَّ كثيراً مما في هذا الكون سخر للإنسان ،يقول تعالى : (( هو الذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعَاً ثُمَّ اسْتَوى إِلى السَّمَاءِ)) ( البقرة: 29)
هذه أهم المرتكزات التي تمثل عقيدتنا الإسلامية ،والتي تنبثق منها قيمنا ومبادئنا ولعلكم تجدون فيها إجابة إلى كثير من التساؤلات منها البحث عن الحقيقة في مقصد الحياة ومصيرها .
ثانياً:القيم الأمريكية والمبادئ الخمسة التي تدافعون عنها:
في البداية فنحن نتفق معكم في أنَّ الاستهلاكية كطريقة حياة ،وتصور الحرية على أنَّها تعني عدم وجود قيود ،والتصور السائد أنَّ الفرد مستقل قائمٌ بذاته ،فليس له مسؤولية كبيرة نحو الآخرين والمجتمع ،وضعف العلاقة الزوجية والحياة الأسرية ،من القيم الأمريكية المضرة وغير الجميلة ،وأنَّ وسائل هائلة للتسلية والإعلام تعظِّم هذه القيم ،وتنشرها بدون توقف في جميع أنحاء العالم سواءً لقيت هذه القيم الترحيب أم لا ،ولكن الذي نضيفه بهذا الصدد ،وقد فاتكم الإشارة إليه ،أنّ هذه القيم الضارة ،وغيرها كالعلاقات غير الشرعية ،وما ينجم عنها من حمل غير شرعي تقوم بفرضه مؤتمرات المرأة العالمية التي تنظمها الأمم المتحدة ،وما يتمخض عنها من اتفاقات دولية كاتفاقية إزالة كافة أشكال التمييز بين الرجل والمرأة ،والتي يضغط على دول العالم الثالث ،الذي ندرج نحن ضمنه على التوقيع عليها وتنفيذها ،ومثل هذه الاتفاقية تلزم الدولة على جعل أنظمة العمل لديها تلزم المرأة العمل في المحاجر والمناجم ،وفي الأعمال الليلية ،ممَّا يعرض المرأة إلى الابتزاز الجنسي ،ويحرم أفراد أسرتها منها في وقت هي أمس الحاجة إليها ،وهذا يؤثر تأثيراً كبيراً على كيان الأسرة ،وقد يخلخله ويضعفه ،وقد يؤدي أيضاً إلى انهياره.
بل الأكثر من هذا فإنّ الممولين الأجانب للجمعيات الخيرية النسائية ذات التوجه العلماني ،وهم في أغلبهم يهود صهاينة يتسترون في جنسيات أمريكية وأوربية ،بل منهم من يتبع الحكومة الأمريكية مباشرة يدفعون بالقيادات النسائية في هذه الجمعيات المطالَبة بالخروج عن ثوابت الإسلام في العلاقات الأسرية كإلغاء قوامة الرجل ،وإلغاء العدة والاكتفاء بالكشف الطبي ،وإلغاء حد الزنا ،وعدم تطليق الزوج لزوجته عند اكتشافها غير بكر ،وغير ذلك من الأمور التي تشيع الفاحشة في المجتمعات ،وتدعو إلى الانفلات الجنسي.ومن هذه الهيئات الأمريكية الممولة : هيئة المعونة الأمريكية (A.I.D)،وأموال المعونة الأمريكية التي تأتي مرة باسم ( U.N.I )ومرة باسم (سيريا) ،ومرة باسم ((A.I.Dتتبع جميعها الحكومة الأمريكية مباشرة،وهناك مؤسسات أمريكية أخرى لا تندرج تحت اسم المعونة الأمريكية A.I.D))،ولكنها تتبع الحكومة الأمريكية مثل المنحة المحلية للديمقراطية في واشنطن التي تقول عنها مديرة قسم برامج الشرق الأوسط : " أنَّه تمَّ تكوينها بناءً على مبادرة من إحدى لجان الكونجرس ".(70/51)
وإن كان من مبادئكم الخمسة التي تدافعون عنها حرية الاعتقاد والحرية الدينية من الحقوق غير القابلة للانتقاص جميع البشر ،فمن باب أولى أن يعطى لهذا الإنسان الحرية في العمل الذي يمتهنه ويحترفه ،ولكن ما رأيكم في أنَّ منظمة العمل الدولية رفضت إقرار نظام العمل في مصر الذي رفضت فيه النساء العمل في المحاجر والمناجم ،وفي الأعمال الليلية مبينات أسباب رفضهن هذه الأعمال بأنَّها تعرضهن للتحرش الجنسي ،وأنَّ أسرهن في أمس الحاجة إليهن في تلك الأوقات،كما لو اطلعتم على وثيقة بكين تجدون فيها فرض القيم التي قلتم عنها أنَّها قيم ضارة ،بل الأكثر منها ضرراً تقرها هذه الوثيقة لتعمل بها دول العالم الثالث ،كما تجد منظمو مؤتمر السكان الذي عقد في القاهرة في التسعينيات من القرن الماضي حاولوا أن يوصوا بإقرار الإجهاض ،لولا أن تصدى لهذه التوصية علماء الدين في الأزهر ،وفي عالمنا الإسلامي.
لقد نظَّم الإسلام العلاقات الأسرية ،وجعل الزوجية تقوم على أركان ثلاث هي : السكن والمودة والرحمة ،يقول تعالى (( ومِنْ آيَاتِه أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُم أَزْوَاجَاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَل بَيْنَكُم مَوَدَةً وَرَحْمة إنَّ ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقوْمٍ يَتَفكَّرُون)) (الروم : 21)
وجعل للزوجة مثل ما للزوج من حقوق وما عليهما من واجبات تجاه الآخر ،يقول تعالى (( ولَهُنَّ مثل الذي عليهِنَّ بالمعروف))،وألزم الرجل بالنفقة على زوجه ولو كانت غنية ،ومقابل ذلك جعل له القوامة ،وهي تكليف عليه مسؤوليات وتبعات والتزامات ،ومن مسؤوليات القوامة تحقيق الأمن والأمان ،وتقديم النصح والإرشاد ،فهي لا تعني الاسترقاق والاستعباد ،كما فهمها البعض،وأثار بعض المستشرقين حولها الكثير من الشبهات ،فهي مبنية على والتفاهم على أمور البيت والأسرة،وليس منشؤها تفضيل عنصر الرجل على عنصر المرأة ،ثُمَّ أنَّ جميع الأديان والأعراف في جميع المجتمعات جعلت القوامة للرجل باستثناء مجتمع شاذ هو مجتمع التبت ،فلماذا كل هذا التحامل على القوامة في الإسلام ؟ ،يقول تعالى : (( الرِّجَال قَوَّامُون عَلى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهم )) (النساء : 34)
وأمر أن تكون العشرة الزوجية بالمعروف ،يقول تعالى : (( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيَئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً))( النساء: 19)،فإن استحالت الحياة الزوجية بين الزوجين يكون الطلاق بمعروف ،يقول تعالى : (( الطَّلاُقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحَسَان)) (البقرة 229)،والطلاق هو أبغض الحلال عند الله ،وقد شرِّع الطلاق في الإسلام لئلا يعيش الزوجان معاً بالإكراه،فتتحول حياتهما إلى شجار وخناق ،وينعكس ذلك على الأولاد ،ولئلاّ يدفع ذلك الزوج إلى خيانة زوجه ،ويرتكب الفواحش ،وقد يدفع ذلك بالزوجة إلى فعل ما حرَّمه الله .وتتضح هذه الحكمة أمامنا في المجتمعات الغربية التي تحرم الطلاق ؛إذ كثرت فيها الخيانات الزوجية ،فالزوجة تخون زوجها ،والزوج كذلك ،والنتيجة اختلاط الأنساب ،ووجود أطفال غير شرعيين ،وإباحة جنسية ،وانهيار الأخلاق والقيم والفضائل.
وهناك أيضاً حملات من بعض المستشرقين على الطلاق في الإسلام !
والروابط لأسرية والعائلية قوية في الإسلام ،فالإسلام يحث على الترابط الأسري ،وينهى عن قطع الأرحام ،وأوصى بالبر إلى الوالدين ،وقرنه بعبادته ،بل نهى عن التأفف منهما ،يقول تعالى : ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوُا إِلاَّ إِيَاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وّقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمَاً .وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً )) ( الإسراء : 23-24)،فهل يوجد سمو ورقة في المشاعر الإنسانية مثل هذه المشاعر؟
فلقد ألزم الأولاد بالبر بالوالدين والإحسان إليها ورعايتهما والإنفاق عليهما إن احتاجا إلى ذلك ،كما ألزم الأب بالإنفاق على أولاده وبناته ،إلى أن يعمل الأولاد بعدما يتمُّون تحصيلهم العلمي ،وينفق على البنات إلى أن يتزوجن،ولا يحق للأب إكراه ابنته على الزواج ،ولا يصح عقد الزواج إلاَّ بموافقة ورضا المتزوج بها ،بل يعد عقد الزواج باطلاً إذا أكرهت الفتاة على الزواج .
إنَّ النظام الأسري في الإسلام وضعه وشرَّعه الخالق ،ولا يرقى أي نظام إليه ،فلمَ يتدخل الآخر الغربي في نظامنا الأسري ؟ويريد أن يصدِّر إلينا قيمه الضارة وغير الجميلة كما وصفها بيانكم؟
في العقد الثاني من القرن العشرين أصدر " أسوالد اشبنغلر " كتاباً بعنوان " تدهور الحضارة الغربية" ،فإن كان حال الحضارة الغربية قبل ثمانين عاماً في طريها إلى الانهيار ،فما هي حالها الآن ؟(70/52)
ولماذا يحاول الغرب أن يفرض علينا انهيار حضارته،بكل ما فيها من قيم ضارة ،فنسير وفق ما يسير ،ونفكر مثل ما يفكر ،ونعتقد مثل ما يعتقد ،ونسلك ذات السلوك الذي يسلكه بفرض العولمة علينا ؟
نعود إلى ذات المبدأ ،وهو : "حرية الاعتقاد والحرية الدينية من الحقوق غبر القابلة للانتقاص لجميع البشر" هل تروْن أنّ هذا المبدأ ملتزمون به مع كل الأديان؟
نحن نرى أن هناك انتقاصاً من العالم الغربي لمعتقدي الديانة الإسلامية ، فدماؤنا تهدر ،وأعراضنا تنتهك ،وأراضينا تُغتصب، وأموالنا تصادر وتجمد ،وأسرانا لديكم يعاملون معاملة أدنى بكثير من الحيوانات ،ولا يحق لنا أن نقول "لا " لمغتصبينا ،بل لا يحق لنا أن ندافع عن أراضينا التي اغتصبت ،ولا عن أعراضنا التي انتهكت ،ولا عن دمائنا التي هدرت في مذابح دير ياسين وجنين والخليل ونابلس ،وبيت لحم ورام الله في فلسطين ، ومدرسة بحر البقر في مصر ،وفي مخيمات صبرا وشاتيلا ،وقانا في لبنان هذه المذابح التي قام بها اليهود الصهاينة،فلو قمنا بذلك أصبحنا إرهابيين ،لقد أصبح حق المقاومة المشروعة للدفاع عن الأرض المغتصبة في عرفكم إرهاباً في الوقت ذاته أعطيتم لأنفسكم حق إعلان الحرب على من أوهمتكم إدارتكم بأنهم هم الذين قاموا بتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر ،ووصفتم هذه الحرب بأنَّها حربٌ أخلاقية عادلة ،ولكن مقاومة الفلسطينيين للصهاينة الذين احتلوا أراضيهم ،وهدَّموا بيوتهم على سكانها ،وجرَّفوا أراضيهم ،وضربوهم بالصواريخ والقنابل ،وبالدبابات ،وكلها أسلحة أمريكية،وقتلوا النساء والأطفال والشيوخ ،وحاصروهم في بيوتهم ،ومنعوهم من التجول إلا ساعات قلائل بعد عدة أيام ليشتروا حاجاتهم الضرورية من الطعام،وحالوا دون إنقاذ الجرحى وإسعافهم ،بل حالوا دون دفن الشهداء ،وحرقوا المساجد والكنائس ،وقتلوا الرهبان وقارع أجراس كنيسة المهد مهد المسيح عليه السلام ،وحاصروا كنيسة المهد أربعين يوماً ،ودمروا فيها ما دمَّروا ،وحرقوا فيها ما حرقوا ،ومع هذا يوصف قائدهم من قبل الرئيس "جورج بوش " بأنَّه رجل سلام ،ولم تطبق أية عقوبة على إسرائيل ،مع أنَّها نقضت الاتفاقيات التي وقعتها معها السلطة الفلسطينية ،ورغم عدم امتثالها لقرارات الأمم المتحدة ،ورفضها دخول لجنة تقصي الحقائق في جنين التي تكونت بقرار من الأمم المتحدة ،وما كان من الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان إلاَّ أن يعلن حل اللجنة دون أن تطبق أية عقوبة على إسرائيل في حين أنَّ العراق فقد مليون طفل من جراء الحصار الاقتصادي الذي فرضته عليه الولايات المتحدة منذ أحد عشر عاماً بدعوى أنَّها تمتلك أسلحة الدمار الشامل ،وأنَّها لم تسمح للمفتشين الدوليين القيام بأعمالهم ،في حين نجد إسرائيل تملك سلاحاً نووياً ،وأسلحة الدمار الشامل ،وتضرب بالقوانين الدولية ،والاتفاقيات التي أبرمتها عرض الحائط،ولا تطبق عليها أية عقوبة ،بل يوصف شارون بأنّه رجل سلام ،ويوصف العراق بأنَّه محور شر !(70/53)
هل تروْن أنَّ المبدأ الأول الذي أعلنتموه في بيانكم ،وجميع القيم التي أعلنتموها تطبق على جميع الناس دون تمييز،أم أنَّ المسلمين بصورة خاصة مستثنون ،فهم محرومون منها ،بدليل أنَّ العقوبات الدولية مطبقة فقط على الدول العربية والإسلامية مثل العراق وليبيا والسودان ،والباكستان التي رفع عنها الحصار مقابل السماح للولايات المتحدة الأمريكية بجعل لها قواعد عسكرية في الباكستان ،وأن تتعاون الباكستان مع الولايات المتحدة في القضاء على طالبان ،في حين إسرائيل إلى الآن لم تطبق عليها أية عقوبة دولية ،وهي أكثر دول العالم انتهاكاً لحقوق الإنسان ،وأكبر دولة إرهابية ،وهي رأس الشر في العالم فهي محتلة أرضاً لاحق لها ولا في بوصة منها كما أعلن ذلك الحاخام " ديفيد وايس" الناطق الرسمي لحركة "ناطوري كارتا"،والذي صرَّح أنَّ قيام دولة إسرائيل غير شرعي لأنَّها ضد الله ،فالله حكم على اليهود بعدم إقامة دولة لهم عقاباً لهم على ما ارتكبوه من خطايا وذنوب ،وصرَّح أيضاً أنَّ أرض فلسطين بأكملها من حق الفلسطينيين ،وأنَّه لن يكون هناك سلام مع إسرائيل ،وأنَّ إسرائيل ينبغي أن تزول ليعم السلام في المنطقة ،وأنَّ اتفاقيات السلام لن تجدي مع إسرائيل لأنَّها دولة صهيونية ،والصهيونية قائمة على الدم ،وأنَّ ما تقوم به إسرائيل مع الفلسطينيين من قتل وتدمير وتخريب لأراضيهم وممتلكاتهم جرائم كبرى ،فهذه شهادة من حاخام يهودي ،وأدلتنا على وعروبة فلسطين والقدس ،وعدم شرعية قيام دولة إسرائيل ،وأنَّه لا حق لها ولا في شبر من الأراضي الفلسطينية أدلة كثيرة منها : أنَّ التوراة التي يزعمون أنَّ الله وعدهم فيها بفلسطين ،وأنَّها أرض الميعاد ،لقد حرَّفها اليهود ،فالتوراة المتداولة كتبها عزرا الوراق ،وكهنة اليهود على مدي 1100 عام ،وقد ثبت تحريفها بتناقضها عندما وضعها علماء الديان الغربيون تحت مجهر النقد التاريخي ،وأدلة تناقضها كثيرة لا حصر لها ،وقد بَّين الدكتور موريس بوكاي بعض هذه التناقضات عندما قارن بعض الأحداث في التوراة والإنجيل والقرآن ،ووجد أنَّ القرآن الكريم يخلو من المتناقضات فاعتنق الإسلام .
ولو فرضنا جدلاً أن هذا الوعد قد أُعطي لهم ،فقد كتب الله عليهم عدم إقامة دولة ،وهذا ورد في توراتهم ،وهو ما تستند عليه جماعة "ناطوري كارتا" بعدم شرعية قيام دولة إسرائيل ،وأنَّها دولة ضد الله ،ثُمَّ أين هم بنو إسرائيل ؟ فلقد أثبتت دراسات علم الإنسان
التي قام بها العالم الأنثربولوجي البريطاني "جيمس فنتون" عن يهود بني إسرائيل أنَّ95% من اليهود ليسوا من بني إسرائيل التوراة،وإنَّما هم أجانب أو مختلطون ،وقراءة منا في تأريخهم الأنثروبولوجي توضح لنا هذه الحقيقة ،،وتوضح لنا أنَّ ال 5% الباقية هي مختلطة بجنسيات أخرى بالتزاوج ! ثُمَّ أنَّ الحق التاريخي أسقطه القانون الدولي بالتقادم ،فلو فرضنا جدلاً أنَّ لليهود حقاً تاريخياً في فلسطين ،فلماذا لم يسقطه القانون الدولي ،وقد مضى على ما يدعونه من حق ألوف السنين ؟
ألا ترون أنَّ المجتمع الدولي يُبيح لليهود ما يُحرَّمه على غيرهم؟
هذا ونحن إذا قرأنا تأريخ اليهود نجد أنَّهم أمة بلا أرض ولا وطن ،ولذا سمُّوا بالعبرانيين ،وهم لم يؤسسوا ولا مدينة في فلسطين و في غيرها ،واسم أورشليم،وتعني مدينة السلام ،وشكيم"نابلس"،وسبسطية "السامرة ،وغزة "حبرون" وصهيون،اسم تل كنعاني بنيت عليه القدس ،وغيرها من الأسماء ليست أسماء عبرية ،وإنَّما هي أسماء كنعانية عربية ،وإن وردت في التوراة فلا يعني هذا أنَّها عبرية ،واللغة العبرية ذاتها مأخوذة من الآرامية ،وهي من اللغات العربية ،فحتى اللغة العبرية ليست في أصولها يهودية ،فتاريخ اليهود يقول إنَّهم أخذوا كل شئ حتى اللغة التي يتكلمون بها ،والحروف التي يكتبونها بها ،فهم لم يسهموا بشيء سوى السطو على ما ليس لهم ،ومنهم.
إنَّ الحق التاريخي الذي يدَّعونه باطل، ،ويؤيد بطلانه شهادة الحاخام " وايس "بأنَّ ليس من حق اليهود ولا في بوصة من أرض فلسطين ،وأنَّ أرض فلسطين بأكملها من حق الفلسطينيين.(70/54)
هذا ونؤكد لكم بأنَّه لو قامت السلطة الفلسطينية بمحاصرة كنيسة المهد ـ وهي لن تفعل ذلك لأنَّ ديننا يحترم الديانات السَّماوية ـ لقام العالم المسيحي بأسره بإعلان حرب صليبية ثانية على العالم الإسلامي ،ولكن اليهود متميزون ،ولو قاموا بهدم كنيسة المهد ،فلن يعمل العالم المسيحي أي شيء ،وأحداث كنيسة المهد تؤكد هذا القول ،لذا فأنا أدعوكم أن تراجعوا مع إدارتكم مبادئكم قبل أن تعلنوا أنَّها مطبقة على جميع الناس بلا تمييز،كما أود أن أذكركم بسكان أمريكا الأصليين " الهنود الحمر " هل حفظ مؤسسو الولايات المتحدة حقوقهم في الحرية والمساواة ،وفي العيش بأمان في بلادهم ،أم قضي عليهم وصِّوروا في أفلام "رعاة البقر" بأنَّهم متوحشون وقطَّاع طريق ،وقتلة ولصوص،تماماً كما يحاول الإعلام الصهيوني لديكم أن يُصوِّر الفلسطينيين بذلك ،وهاهم يصورون المجاهدين الفلسطينيين الذين لجأوا إلى كنيسة المهد ،وأُبعِدوا من بلادهم بناءً على طلب إسرائيل المدللة لدى الغرب بأسره يعاملون كإرهابيين ومجرمين شديدي الخطر ؟؟؟!
وهل مؤسسو الولايات المتحدة التزموا بمبدأ احترام حقوق جميع البشر في الحرية والمساواة عندما اختطفوا الرجال والنساء من الإخوة الأفارقة ،واستخدموهم كعبيد أرقاء وأذلوهم الإذلال كله حتى قامت في الجنوب ثورة الزنوج؟
فهنا نرجوكم للمرة الثانية أن تراجعوا هذه العبارة التي وردت في بيانكم " فمؤسسو الولايات المتحدة أكدوا أنَّ جميع الأفراد يستوون في الاحترام والحرمة ،وأنَّ هذا المعنى ثابت بعلم ضروري " .
لقد جاء من ضمن مبادئكم الخمسة قولكم "إنَّ القتل باسم الله مخالف للإيمان بالله ،وهو أعظم غدر لشمولية معنى الإيمان لدى البشر"
ونقول لكم: هناك فرق كبير بين قتل النفس بغير حق ،وبين قتال عدو يقاتلك وهو مغتصب لأرضك أو يريد اغتصابها منك ،وعليك أن تدافع عن نفسك ،فقتل النفس بغير حق محرم في كل الأديان ،وقد حرَّم الله قتل النفس بغير حق ،يقول تعالى : (( ولا تَقتلوا النفسَ التي حرَّم الله إلاَّ بالحق )) ( الأنعام :151)
وقتل المدنيين الأبرياء في أفغانستان والعراق والصومال والفلبين وفياتنام ،وأمريكا اللاتينية ،وشن حروب على تلك الدول بلا مبررات شرعية ،وإنَّما لفرض الهيمنة والسيطرة عليها،هو المخالف للإيمان بالله. ولكن في حالة الاعتداء على أراضي المسلمين وأوطانهم ومقدساتهم وجب على المسلمين الجهاد والقتال في سبيل الله دفاعاً عنها ،وباسم الله ،وعندئذ يكون القتال باسم الله مردداً "الله أكبر" من صميم الإيمان وليس مناهضاً للإيمان،يقول تعالى : (( وقاتلوا في سبيلِ اللهِ الذين يُقَاتِلونكم ولا تعتدوا إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المعْتَدِين)) (البقرة : 190)،وبيَّن الله عزَّ وجل أنَّ القتال فرض علينا وهو كره لنا ،ولكن لا بد من الدفاع عن ديننا وأنفسنا وممتلكاتنا وأعراضنا ،يقول تعالى : (( كُتبَ عليكمُ القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم )) ( البقرة :216)،كما نهانا عن عدم موالاة من قاتلنا وأخرجنا من ديارنا أو من يناصر على إخراجنا من ديارنا ،ووصف من يواليهم بالظالمين ،في حين جعل البر والإحسان إلى من لم يقاتلنا ويخرجنا من ديارنا أساس العلاقة بيننا وبينهم ،يقول تعالى : (( لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عنِ الذين لمْ يُقَاتِلوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّنْ دِيَارِكُمْ أنْ تَبرُّوهُم وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِم إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسُطِين.إِنَّما يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِّينَ قَاتَلُوكُم فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلى إِخْرَاجِكُمَ أَنْ تَوَلَّوهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون.)) 0الممتحنة :8)
وما يقوم به الفلسطينيون اليوم من مقاومة للاعتداء الصهيوني هو جهاد في سبيل الله دفاعاً عن المسجد الأقصى ،وعن أراضيهم ووطنهم المغتصب ،وليس إرهاباً كما تصفه الإدارة الأمريكية والدولة الصهيونية،وإنَّ كل فلسطيني يقتله اليهود كأنهم بقتله قتلوا الناس جميعاً فقد كتب الله هذا عليهم ـ إن كانوا من بني إسرائيل كما يدَّعون ـ يقول تعالى : ((كّتَبْنا على بني إسرائيل أنَّه من قَتَلَ نَفْسَاً بغير نفس أو فسادٍ في الأرضِ فَكَأنَّما قتل النَّاسَ جميعاً ومن أحياها فكَأَنَّما أحيا النَّاسَ جَمِيعاً))( المائدة : 32)
أمَّا الذين يجاهدون في سيبل الله ويقتلون ،فهم شهداء أحياء عند ربهم مثواهم الجنة خالدين فيها،يقول تعالى : (( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتَاً بَلْ أَحَيَاءٌ عِنْدَ رَبَّهِمْ يُرْزَقُون .فَرِحِينَ بِمَا أَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ )) ( آل عمران : 169_170) .(70/55)
إنَّ القتال في الإسلام يقوم على أسس أخلاقية عادلة ،فلا يأخذ العدو على غرة ،ونهى عن قتل النساء والأطفال والشيوخ والمدنيين ،فلقد روى رباح بن ربيعة أنَّه خرج مع رسول ا صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها ،فمر رسول ا صلى الله عليه وسلم وأصحابه بامرأة مقتولة فوقف أمامها ثمَّ قال : ( ما كانت هذه لتقاتل ! ثُمّ نظر في وجه أصحابه وقال لأحدهم (الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفاً ـ أي أجيراً ـ ولا امرأة) رواه مسلم.
ولقد أوصى رسول ا صلى الله عليه وسلم جيشه في غزوة مؤتة،وهو يتأهب للرحيل : ( ألا تقتلنَّ امرأة ولا صغيراً ضرعاً ـ أي ضعيفاً ـ ولا كبيراً فانياً ،ولا تحرقنَّ نخلاً ولا تقلعنَّ شجراً ولا تهدموا بيتاً ) ،وعن ابن عبَّاس رضي الله عنه : أنَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال : (لا تقتلوا أصحاب الصوامع)
وقد أوصى أبو بكر رضي الله عنه ـ أول خليفة للمسلمين ـ قائده أسامة بقوله : ( لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ،ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ،ولا شيخاً كبيراً ،ولا امرأة ، ولا تقهروا نخلاً ولا تحرقوه ،ولا تقطعوا شجرة مثمرة ،ولا تذبحوا شاة ،ولا بقرة ،ولا بعيراً إلاَّ لمأكلة)
كما حرَّم الإسلام الإجهاز على الجرحى والتمثيل بجثث القتلى،وعدم إصابة المدنيين ،كما حثَّ على الإحسان في معاملة الأسرى ،وجعل الإحسان إليهم علامة الإيمان ،يقول تعالى : (( ويُطْعِمون الطَّعام على حبِّهِ مِسْكِينَا وَيَتِيمَاً وَأَسِيرَاً .إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُم جَزاءاً وَلاَ شُكُوراً )) ( الإنسان: 8-9)،ولا يجوز قتلهم ،ولا جرحهم ،ولا تعذيبهم ،وحثَّ على إطلاقهم بالمن عليهم أو فدائهم بينما نجد لم تظهر اتفاقيات أو معاهدات دولية لتنظيم معاملة الأسرى إلاَّ في أواخر القرن الثامن عشر ،وبالتحديد في سنة 1875م،وقد استقي معظمها من الإسلام.
ويرتفع الإسلام بالمسلم إلى ذروة الإنسانية وأكرم آفاقها حين يأمره بأن يعمل على توفير الأمن للمشرك الخائف ،وحمايته ،وإيصاله إلى بلده ومأمنه ،وفي ذلك يقول جلَّ شأنه : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنْ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُون ) ( التوبة : 6)
وقد أعطى الإسلام المرأة حق إجارة لمحارب مثلها مثل الرجل تماماً ، وقصة إجارة أم هانئ رضي الله عنها لاثنين من المحاربين يوم فتح مكة تبيِّن ذلك،فعندما أراد أخوها سيدنا علي كرَّم الله وجهه قتلهما ،ذهبت إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم وشكت له ، فقال لها عليه الصلاة والسلام " ما كان له ذلك ،قد أجرنا من أجرت وأمنَّا من أمّنتِ"
هذه أحكام الإسلام في القتال، وهي أحكام ـ كما ترون ـ أخلاقية عادلة ،ولا توجد أية شريعة تضاهيها خلقاً وعدالة ،ومع هذا نجد هناك محاولات من الغرب إسقاط الجهاد وإلغاؤه ووصفه بالإرهاب ،وإلغاء حق المقاومة المشروع ليعم قانون الغاب ،فيعتدي القوي على الضعيف ،ولا يحق للضعيف الدفاع عن نفسه،لأنّه عندئذ سيصبح إرهابياً ،وبالتالي يعم العالم الظلم والغبن والقهر.
في حين يسكت العالم بأسره عن جرائم اليهود في فلسطين ،أتعلمون ما هي أخلاقيات الحرب لدى اليهود وفق التوراة الذي حرَّفوه وفق أهوائهم ،والتلمود الذي كتبه كهنتهم ،وقدسوه وعدَّوه جزءاً من التوراة؟
إنَّ فكرة الحروب عند اليهود فكرة أساسية تعبر عن علاقتهم بغيرهم من الأمم ،وهم يعتقدون أنَّهم أرقى الشعوب،وأنَّ هذه منحة ربَّانية ،أعطاهم الرب إيَّاها : ( أنتم أولاد الرب إلهكم ،لأنَّكم شعبٌ مقدس للرب إلهك،وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب على جميع الأرض ) "سفر التثنية :14"
ومن ثمَّ فإنَّ حروبهم تدميرية لم يحظرها دينهم الذي حرَّفوه عليهم ،بل أباحها ومجَّدها ،ولم يضع القيود عليها ،فإذا حاربوا استباحوا أعداءهم ،فقتلوا الرجال ،واستعبدوا النساء والأطفال وأحرقوا البيوت (فضرباً تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحُرِّمها،بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف .تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها ،وتُحرق بالنار المدينة ،وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك فتكون تلاً إلى الأبد لا تبنى بعد )"التثنية :إصحاح13: 16-17"
وجاء في الإصحاح العشرين من نفس السفر : ( حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح ،فإن أجابتك إلى الصلح ،وفّتحت لك ،فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبد لك ، وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً ،فحاصرها ،وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ،وأمَّا النساء والأطفال والبهائم ،وكل ما في المدينة غنيمة تغنمها لنفسك ،وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك )(70/56)
هذه أخلاقيات الحرب عند اليهود،وشتَّان بين أخلاق القتال عند المسلمين وعند اليهود! ومع هذا لم توصف اليهودية قط بالإرهاب ، واليهود بالإرهابيين ،ولم يحارب التوراة والتلمود،كما يحارب القرآن الكريم والسنة النبوية ،ولم يحارب القتال عند اليهود ،بينما يحارب الجهاد في الإسلام ،ويعمل على إسقاطه ،وتغييبه حتى تدخل الغرب في توصيات أحد المؤتمرات الإسلامية وحذف كلمة جهاد منها.
فالحرب على الجهاد في الإسلام تستهدف قتل روح الجهاد لدى المسلمين ،ليستسلموا لمن يريد السيطرة عليهم ،وعلى ثرواتهم دون أدنى مقاومة ،وليحقق اليهود الصهاينة مخططهم في تكوين دولة إسرائيل الكبرى التي تمتد من النيل إلى الفرات ومن لبنان إلى الجزيرة العربية ،تمهيداً لتحقيق سيطرتها على العالم ،كما جاء في بروتكولاتهم ؛ إذ جاء في البروتوكول الرابع عشر "حينما نمكن لأنفسنا سنكون سادة الأرض لن نبيح قيام أي دين غير ديننا، أي الدين المعترف بوحدانية الله الذي ارتبط باختياره إيانا كما ارتبط به مصير العالم، ولهذا السبب يجب علينا أن نحطم كل عقائد الإيمان، وإذ تكون النتيجة المؤقتة لهذا هي إننا ملحدون، فلن يدخل هذا في موضوعنا: ولكنه سيضرب مثلاً للأجيال القادمة التي ستصغي إلى تعاليمنا على دين موسى الذي وكل إلينا بعقيدته الصارمة ـ واجب إخضاع كل الأمم تحت أقدامنا"
وليتسنى لهم تقويض الأديان يسعون للسيطرة على المقدسات الدينية للإسلام والمسيحية. كما تبين لنا أن بروتوكولات صهيون هي امتداد لتعاليم التلمود والتوراة المحرفة، وكما جاء في بروتوكولات صهيون أنهم ليحكموا العالم لابد أن يعملوا على تقويض الأديان ومن هنا كانت بداية لمخططها التلمودي الماسوني الصهيوني لهدم الأديان.
عداء اليهود للمسيح والمسيحية:
ولنتأمل نظرة التلمود إلى المسيح عليه السلام، مما جاء في التلمود عن المسيح عليه السلام الآتي:
1ـ إن يسوع الناصري موجود في لجات العسكري بندرا بمباشرة الزنا .
ومما جاء فيه أيضاً "يسوع المسيح أرتد عن الدين اليهودي وعبد الأوثان وكل مسيحي يتهود فهو وثني عدو الله لليهودي"
ومع هذا فبنو إسرائيل الذين أرسل الله إليهم عيسى لم يؤمنوا به كما لم يؤمنوا بنبي قبله، وكادوا لعيسى وحاربوه وطاردوه ووشوا به وجاء في التلمود "قتل المسيحي من الأمور الواجب تنفيذها وان العهد مع المسيحي لا يكون عهداً صميماً يلتزم به اليهودي… إن الواجب أن يلمس اليهودي ثلاث مرات رؤساء المذهب النصراني وجميع الملوك الذين يظهرون العداوة ضد بني إسرائيل" وجاء في التلمود عن الكنائس "إن الكنائس النصرانية بمقام قاذورات وأن الواعظين فيعها أشبه بالكلاب النابحة."
ولهذا نجدهم لم يحترموا الكنائس ،فحاصروا كنيسة المهد،حيث ولد المسيح عليه السلام ،وقتلوا الراهب ،وقارع الأجراس بها ،وخمسة عشر شهيداً ،فإسرائيل لا تحترم المقدسات الدينية ؛لذا فهي ليست أهلاً أن تستولي على القدس ،بينما المسلمون يحترمون كل الأديان ،وكما رأينا كيف أنَّ الله جل شأنه بيَّن لنا في القرآن الكريم أنَّ لمعابد اليهود وكنائس وصوامع المسيحيين حرمة المساجد ،فالمسلمون هم أقدر على صيانة وحماية كل المقدسات ،وتاريخهم عبر العصور يشهد بذلك . ويكفي أنْ أذكر كيف أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى أهل بيت المقدس أماناً على معابدهم وكنائسهم وعقائدهم وأموالهم ،وممَّا جاء نصه في هذا العهد الآتي : ( بسم الله الرحمن الرحيم .هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان . أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها .إنَّه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقض منها ،ولا من خيرها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم ،ولا يسكن بإلياء معهم من اليهود )
هذا بعض ما جاء في عهد الأمان الذي أعطاه خليفة المسلمين الراشد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لأهل القدس.
ثالثاً : أحداث سبتمبر ،وإعلان الحرب على كل ما هو إسلامي:
أحداث سبتمبر التي ورد ذكرها في بيانكم عشر مرات،وتبريركم بأن الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية على ما أسمته بحرب الإرهاب ؛ بأنَّها حرب لابد منها ،وأنها حرب عادلة وأخلاقية ، مما حدا بأحد المثقفين العرب أن يصف بيانكم بأنَّه " بيان حرب"،ونحن نتفق معه في تسميته بهذه التسمية .
لقد سلَّمتم بأنَّ هذه الأحداث قد دبَّرها وخطط لها ونفذها تنظيم القاعدة ،رغم أنَّه إلى الآن لم توجد أدلة أكيدة تدينهم ،وأشرطة الفديو التي عُرضت لقائد التنظيم وبعض أعضائه أشرطة مزورة ،كما جاء في البيان الذي أعلنه الخبير الفني فؤاد علاَّم في القاهرة الذي أخضع تلك الأشرطة للتحليل المخبري الفني .(70/57)
هذا وكما يبدو فقد استخدمت وسائل التقنية الحديثة ،كاستخدام بصمات الصوت في عمل هذه الأشرطة ،وقد ألصقت تهمة هذه الأحداث بهذا التنظيم في الساعات الأولى من حدوث الحادث من قبل القيام بأية تحقيقات ،نحن هنا لا ندافع عن تنظيم القاعدة ،ولكن الذي نقوله إنَّ هذه الأحداث تفوق إمكانية التنظيم المتواضعة،بدليل أنَّه عندما هوجم من قبل الطائرات الأمريكية لم يبد أية مقاومة ،فلقد كانت الطائرات الأمريكية تصول وتجول في الأجواء الأفغانية ،مما ينفي عن القاعدة امتلاكها لأسلحة نووية وبيولوجية وكيماوية كما ذكرتكم في بيانكم ،فإن كانت تلك الأسلحة بحوزتهم لمَ لم يستخدموها في معركة حاسمة بالنسبة لهم ،وهي معركة وجود؟
إنَّ الإدارة الأمريكية أعطت لهذا التنظيم حجماً أكبر من حجمه بكثير.
ونتيجة لهذا الحادث قد تعرض الملايين من المسلمين الذين يعيشون في أمريكا وأوربا أبَّان الأحداث إلى غضب العامة ومضايقتهم ،بل بعضهم تعرَّض للقتل ،والبعض إلى تخريب ممتلكاته ،فقد عاشوا في رعب وخوف وقلق ،وبات معظمهم ملازمين منازلهم ،ولا يخرجون منها إلاَّ للضرورة ،ولا يستطيعون استخدام وسائل المواصلات العامة،إضافة إلى تعرض أي عربي يسافر إلى بلد أوربي أو أمريكي ،أو حتى آسيوي إلى الاعتقال والاستجواب ،أي أصبح جميع العرب ولا سيما السعوديين عرضة إلى الاعتقال والاستجواب!
إنَّ أحداث الحادي عشر من سبتمبر متورطة فيها المخابرات الأمريكية مع الموساد ،وألصقوها بتنظيم القاعدة لينفذوا المخطط الذي وضع قبل أحداث سبتمبر ،وبالتحديد عام 1993م ، أي منذ إعلان بريماكوف وزير خارجية روسيا ؛إذ كشف أحد المحللين السياسيين العرب أبعاد المخطط الأمريكي للسيطرة على أفغانستان ،فقال: لقد أعلن "بريماكوف وزير خارجية روسيا أنَّه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لابد من إنشاء تحالف استراتيجي بين روسيا والصين والهند للقضاء على تغلغل الولايات المتحدة في آسيا،وكلها دول نووية ،فرأت الإدارة الأمريكية أنَّه لابد من السيطرة على أفغانستان قلب هذا المثلث هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنَّ الثروة النفطية التي ظهرت في بحر قزوين وآسيا الوسطى وأفغانستان،وقد صرَّح وزير الطاقة الأفغاني في حكومة طالبان السيد " أحمد جان" بأنَّه توجد في أفغانستان إمكانات نفطية وغاز طبيعي ،فدعته شركة النفط الأمريكية " يونوكال"،لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية ،واهتمت به لإقناعه بإعطائها حق التنقيب ، ومد خط أنابيب البترول ،ولكن الملاَّ عمر رفض إعطاء هذا الحق لشركة أمريكية ،فرأت الإدارة الأمريكية إزالة حكم طالبان ،والإتيان بحكومة عميلة لها ،فتنقب الشركات الأمريكية عن البترول وتمد خط أنابيب البترول،والأمر الثالث فإن أأمن الطرق وأقصرها لخط أنابيب بترول بحر قزوين يمر بأفغانستان وينتهي بشواطئ باكستان .
لهذه الأسباب جميعها إضافة إلى محاربة الإسلام والقضاء عليه ،كانت أحداث سبتمبر ،وكان إعلان الإدارة لأمريكية الحرب ضد الإرهاب والبدء بأفغانستان ،وأيضاً لتكون لها قواعد عسكرية في المنطقة التي بها دولاً تملك سلاحاً نووياً وهي الصين والهند والباكستان ،وأيضاً لتكون قريبة من إيران وكوريا الشمالية اللتين اعتبرتهما الإدارة الأمريكية من قوى الشر الثلاثة في العالم،ولتقضي تماماً على البقية الباقية في العراق بضربها بالطائرات والصواريخ إلى أن تضمن عدم وجود مقاومة فتنزل بربع مليون جندي لينتشروا داخل العراق لتفتيته إلى دويلات صغيرة على أساس عرقي ومذهبي لتتناحر فيما بينها،وهذا ما ذكره السيد "جورج جلاوي" G.Gallaway عضو البرلمان البريطاني في حديث له لقناة الجزيرة ،ولتقوم أمريكا بحملتها على الإسلام والقضاء على حزب الله في لبنان بدعوى أنَّه إرهابي،والقضاء على الجمعيات الخيرية الإسلامية ،وتجفيف مصادرها بتجميد أموالها في البنوك معلنة حرباً شرسة على الإسلام تنفيذاً لمخطط وضع في الستينيات من القرن الماضي عندما أعلن بابا الفاتيكان في المجمع المسكوني الذي عقد عام 1965م باستقبال الألفية الثالثة بلا إسلام ،وقد أعلن نائب الرئيس الأمريكي في حفل الأكاديمية البحرية بولاية ماريلاند عام 1992أنهم أخيفوا في هذا القرن من ثلاث تيارات،وهي النازية والشيوعية والأصولية الإسلامية ،وتمكنوا من الخلاص من النازية والشيوعية ،ولم يبق أمامهم سوى الأصولية الإسلامية،فما أعلنه الرئيس الأمريكي أعقاب الأحداث قيام حرب صليبية على الإسلام لم تكن زلة لسان ،وإنَّما هي بالفعل حرباً صليبية ثانية على الإسلام ،وكل الشواهد والأحداث تثبتُ ذلك ،هذا من جهة أهداف الولايات المتحدة الأمريكية من افتعال تلك الأحداث .(70/58)
أمَّا من جهة الموساد والصهيونية العالمية ،فاليهود والصهاينة يخططون لتقويض الأديان ليسيطروا على العالم وفق ما جاء في بروتوكولاتهم ،وما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية من محاربة كل ما هو إسلامي ،حتى التدخل في المناهج الدينية في البلاد الإسلامية لإلغائها يحقق هذا الهدف الصهيوني ،وأيضاً ما حدث من اجتياح شارون لأراضي السلطة الفلسطينية في أواخر شهر مارس عقب قمة بيروت بحجة محاربة الإرهاب والقضاء عليه دليل كاف ،فما قام به أرائيل شارون في فلسطين من تنفيذ مخططه في تصفية جميع عناصر المقاومة في فلسطين بدعوى أنَّهم إرهابيون يجب القضاء عليهم ،ومحاصرة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات،ولا يُفك حصار الرئيس عرفات إلاَّ بأمر من الرئيس الأمريكي يؤكد أنَّ هناك مخططاً مرسوماً شارك فيه الصهاينة مع المخابرات الأمريكية،ولعلّ ما أثير مؤخراً في الولايات المتحدة حول علم الرئيس بوش بتعرض الولايات المتحدة الأمريكية لعمليات إرهابية يؤكد أنَّ هذه العملية مدبرة ،وممّا يؤكد ذلك أيضاً الآتي :
1- عدم مساءلة وزير الدفاع الأمريكي ورئيس المخابرات الأمريكية ،ورئيس الولايات المتحدة نفسه ؛إذ كيف يضرب مبنى وزارة الدفاع،وبعد ثلث ساعة من ضرب البرجين ،ولم تتخذ وزارة الدفاع أية إجراءات دفاعية تجاه الطائرة المتجهة إلى مبناها ،مع أنَّها منطقة محظور الطيران فيها ،ولم تتنبه أجهزة الرادار ،ولم تعلم بالعملية المخابرات الأمريكية ،معنى هذا أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية بكل ثقلها وهيمنتها وقوتها لا تملك القدرة على صد أي هجوم عليها ،فهي تقف على أرض هشة ! ألا يستدعي هذا مساءلة كل الأطراف المعنية ؟وإقالة وزير الدفاع الأمريكي ورئيس المخابرات الأمريكية ،بدلاً من أن يسند إلى الأخيرة التحقيق في هذه الأحداث ؟ هل فضيحة الرئيس الأمريكي جونسون في وتر جيت التي أدت إلى استقالته من الحكم أخطر على الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية من أحداث سبتمبر؟ وهل فضيحة الرئيس كلنتون مع مساعدته في البيت الأبيض " مونيكا" أخطر على أمن الولايات المتحدة الأمريكية من أحداث الحادي عشر من سبتمبر حتى يقدم الرئيس كلنتون للمساءلة بشأنها ،في حين لم يُساءل الرئيس الأمريكي "جورج بوش" عن القصور الذي حدث نتيجة هذه الأحداث ؟
نحن في بلادنا عندما حدث حريق في أحد مدارس البنات المتوسطة بمكة المكرمة ،ومات على إثره ثلاثة عشر طالبة أحيل الرئيس العام لتعليم البنات إلى التقاعد ،وألغيت الرئاسة العامة لتعليم البنات ،ودمج تعليم البنات مع وزارة المعارف المسؤولة عن تعليم البنات !
وفي مصر عندما حدث حريق في بعض عربات قطار الصعيد وتوفي حوالي ثلاثمائة وخمسين راكباً ،أُقيل على إثره وزير المواصلات !بينما يتعرض أكبر برجين تجاريين في العالم مع مبنى وزارة دفاع أكبر قوة في العالم إلى مثل ذاك الهجوم ،ولا يقال وزير الدفاع الأمريكي من منصبه ،وكذلك رئيس المخابرات الأمريكية الذي لم يُحقق معه ،وإنَّما يسند إليه التحقيق في الحادث ؟؟
هذه تساؤلات ينبغي أن نتوقف عندها .
2- ما كشفه أحد المواقع الفرنسية في الإنترنت عن تورط 120 إسرائيلياً في عملية تجسس على الولايات المتحدة الأمريكية متخفين في هيئة رسَّامين تشكيليين ،وتبيَّن تورط بعضهم في أحداث سبتمبر ،ولم تتخذ السلطات الأمريكية حيالهم أية إجراءات قانونية ضدهم ،واكتفت بإخراجهم سراً من البلاد .
3- عدم حضور أكثر من أربعة آلاف يهودي يعملون في المركزين التجاريين يوم الحادث ،يؤكد أنَّ الحادث مدبراً من قبل الموساد.
4- ما أعلنه أحد المسؤولين الأمريكان في محاضرة حضرها ألف أمريكي أثبت فيها أنَّ الحادث مدبراً ،وأنَّ العرب والمسلمين لا دخل لهم فيما حدث.
5- السعوديون الذين نسب لهم المشاركة في عمليات التفجير ،وأنهم هم الذين قادوا تلك الطائرات ثبت ما أعلنته المخابرات الإيرانية من أن بيانات شركات الطيران بأسماء ركاب للطائرات المختطفة لم يكن بها أسماء لركاب سعوديين ،ثم أضيفت فيما بعد إلى قوائم الركاب أسماءٌ لسعوديين الذين وُجّهتُ لهم الاتهامات،وتبيَّن أنَّ من هؤلاء من توفاه الله قبل الحادث بسنوات ،ومنهم من يعيش في السعودية أثناء الحادث ،وأنَّ هؤلاء قد فقدوا جوازات سفرهم ،وهذا يؤكد أنَّ جوازات سفرهم سرقت منهم لإلصاق العملية بهم ،والهدف من جعل تسعة عشر سعودي يقومون بهذه العملية ،هو الادعاء أنَّهم ينتمون إلى تنظيم القاعدة الذي يديره ويرأسه "أسامة بن لادن" الذي كان يحمل الجنسية السعودية ليقضوا على هذا التنظيم هذا أولاً ، وليتمكنوا من أفغانستان هذا ثانياً ،وليبرروا هجومهم السافر على الإسلام هذا ثالثاً ،وليبرروا أيضاً الهجمة الشرسة التي شنتها الصحافة الأمريكية الصهيونية على المملكة العربية السعودية ،هذا رابعاً ،وليعطوا لأنفسهم الحق في التدخل في المناهج الدينية التي تدرس في المملكة بدعوى أنَّها تفرغ الإرهاب ،هذا خامساً.(70/59)
6- تبين من تقارير خبراء الطيران ،أنَّ الطيران في منطقة ناطحات السحاب بصورة خاصة تحتاج إلى مهارة خاصة في الطيران ،لكثرة التعريجات والمنحيات التي ينبغي على الطائرة تلافيها ،إضافة إلى ما أكَّده زعيم عربي ،وهو طيَّار حربي سابق ،أنَّ ضرب البنتاجون على هذا المستوى المنخفض يحتاج إلى طيَّار حربي ماهر وتدريب خاص على المنطقة ذاتها أو ما يشابهها ،والتقارير التي أعلنتها الإدارة الأمريكية عن السعوديين والعرب الذين اتهموا بتورطهم في الأحداث تبين أنهم لم يبلغوا العشرين ربيعاً ،كما تبين مدى تواضع التدريبات التي تلقوها على الطيران ،وكذلك تواضع نوعية الطائرات التي تدربوا عليها ،بل ذكرت في بعض التقارير أنَّ الواحد منهم كان يتلقى تدريبه ،ثمَّ يقوم هو بتدريب زملائه.
7- وجود في الطائرات المختطفة طيَّارين أمريكيين ممن شاركوا في الحرب الفياتنامية،فلم لم يوجه إلى هؤلاء تهمة التفجيرات ؟ ثُمَّ لماذا وجد هؤلاء الطيارون الأربع في الطائرات المختطفة ؟ هل كان وجودهم بمحض الصدفة ؟
8- اختفاء الصناديق السوداء للطائرات المختطفة ،أو القول بتلفها ـبعدما أعلن عن العثور عن بعض ما في تلك الصناديق ـ في حين لم تتلف جوازات سفر السعوديين الذين اتهموا بالتفجيرات ،وكذلك لم تتلف الأوراق المكتوب فيها بعض الأدعية .
9- لقد صدر مؤخراً كتاب في فرنسا جاء فيه أنَّ البرجين قد فجرا "بالرمونت كنترول ،وأنَّ المتفجرات كانت موجودة في أسفل البرجين لأنَّه لو تفجَّرت من أعلى لما تفجر الجزء السفلي،وهذه النظرية يؤيدها ما حدث للبرج الذي اخترقته الطائرة الإيطالية في نابولي ،فالمبنى لم يدمر فيه ولا طابق ،وكان الدَّمار الذي لحق به ،هو مجرد تحطيم واجهات جزء من المبنى ،وتحطيم زجاج ،نوافذ ذلك الجزء.
10- عجز الإدارة الأمريكية عن تقديم أدلة وبراهين تثبت أنّ من العرب والمسلمين متورطين في هذه الأحداث ،أمَّا عن الأشرطة المرئية التي نسبتها إلى بن لادن وتنظيمه، فهي أشرطة مزيفة كما قرر الخبراء المختصون،وقولها بوجود أدلة سرية قول مردود ،لا توجد أدلة سرية في أية قضية من القضايا ،وخاصة كقضية دولية مثل هذه القضية التي ترتب عليها إشعال فتيل الحرب على دول وشعوب مستضعفة لا حول لها ولا قوة ،ولا ذنب لها في كل ما تخططه الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها إسرائيل للقضاء على الإسلام والسيطرة على مدخرات الشعوب العربية والإسلامية ،ومساعدة اليهود في تحقيق مخطط دولتهم التي تمتد من النيل إلى يتبع>>>1- ينفي القرآن الكريم هذه الفرية: يقول تعالى (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين )
الفرات ،ومن الأرز إلى النخيل.وأمَّا الذين يتساءلون كيف تدمر الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مركزين تجاريين لديها ،وتقتل الآلاف ،وتضرب مبنى وزارة دفاعها؟ ،نقول هنا إنها ضحت بالقليل من أجل الكثير ،فهي تريد بترول الخليج وبحر قزوين ،ومناطق نفوذ في آسيا الوسطى ،وإيجاد حكومات عميلة لها ولإسرائيل في فلسطين والعراق ،وغيرهما من الدول العربية المخطط ضربها ،وفي سبيل القضاء على الإسلام ،ألم يقل الحاخام اليهودي رابي ديفيد وايس الناطق الرسمي لحركة ناطوري كارتا في برنامج "بلا حدود " في قناة الجزيرة أنّ الصهاينة يفجرون المعابد اليهودية بأنفسهم ،وينسبون ذلك إلى العرب والفلسطينيين ليقولوا لليهود وللعالم أنَّ العرب إرهابيون يكرهونهم وأنهم يدمرون معابدهم.
ولعلَّ تفجير المعبد اليهودي في تونس من تدبير الموساد،وإلصاق هذه العملية بالعرب ،وأنَّها عملية إرهابية لصرف الأنظار عن حصار وضرب شارون لكنيسة المهد وقتل الرهبان،ولتأليب الرأي العام العالمي ضد الفلسطينيين والعرب بعدما أبدى تعاطفه معهم؟فهذا دأبهم ،وهذا ديدنهم.
نحن هنا ندعوكم أن تتأملوا في هذه الأسباب ،وأن تفكروا فيها بجدية ،وأنَّكم قبل أن تعلنوا أنَّ الحرب المعلنة على الدول الإسلامية لمقاومة الإرهاب ـ وكأن العالم كله يخلو من الإرهاب ،ولا يوجد إرهاب إلاَّ في دول الإسلام ـ بأنَّها حرب أخلاقية عادلة ولابد منها أن تطالبوا بمساءلة هؤلاء المسؤولين ،فأين هم حتى تتعرض أكبر قوة في العالم إلى مثل هذا الهجوم ،وكأنَّها دولة نائمة ضعيفة لا تملك أية وسيلة لحماية نفسها من أي هجوم تتعرض له ،وهجوم من قبل أفراد وليس دول،وكأنِّي بها حكومة طالبان التي لم تقاوم الصواريخ والطائرات الأمريكية !!!
ونود هنا أن نصحح لكم معلومة ،وهي أن تنظيم القاعدة لم يؤسس منذ عشرات السنين كما ذكرتم في بيانكم،وإنَّما لم يمض علية عقدين من الزمان ،وكانت الولايات المتحدة وراء تكوين هذا التنظيم ودعمه لأنَّه كان يخدم أهدافها في القضاء على الاتحاد السوفيتي ،وبعدما نفذّ مهمته،وأصبح يشكل خطراً على مصالحها ،أصبح تنظيماً إرهابياً ،بل أصبح العدو الأول للولايات المتحدة الأمريكية.
كما ندعوكم مراجعة ما جاء في بيانكم عن وصف حرب الولايات المتحدة الأمريكية على الإرهاب أنها حرب عادلة .(70/60)
فأين العدل في هذه الحرب ،وقد أعلنت على الشعب الفلسطيني الأعزل ،وهل مقاومة الاحتلال ،والجهاد في سبيل التحرر يعد إرهاباً ؟إن كان كذلك فهذا يعني أنَّ كفاح الشعوب ضد الاستعمار والاحتلال إرهاب أي أنَّ كفاح الشعب الأمريكي للتحرر من الاستعماريْن البريطاني والفرنسي إرهاب ،وكفاح الشعب الفرنسي ضد الاحتلال النازي إرهاب أيضاً،وبهذا المنطق الأمريكي يكون الأمريكان أنفسهم والفرنسيون في مقدمة الإرهابيين وبالتالي يعني أيضاً إباحة الاحتلال والاستعمار !!
وأين العدل في محاربة الإرهاب ،وهناك جماعات إرهابية مسيحية ،ويهودية في داخل الولايات المتحدة ،وفي بريطانيا ،وفي اليابان ،وفي إيطاليا،وفي أسبانيا ،وفي كثير من الدول الأوربية ،فلماذا الدول الإسلامية هي المستهدفة ؟ أليس هذا يؤكد أنَّ أحداث سبتمبر مفتعلة؟
وأين العدل في ترويع الملايين من الأفغان،وخروجهم من بلادهم في البرد القارص ليعيشوا في خيام كلاجئين وتقفل أمامهم كل الحدود،وقتل الألوف من المدنيين الأفغان من شيوخ وأطفال ونساء ،وهم لا يعلمون من هو بن لادن ،ومن هي أمريكا ؟ إنَّ 70% من الشعب الأفغاني أميون لا يقرأون ولا يكتبون ،وكفاهم معاناة من حروب على مدى 25 عاما ،وجاءت الحرب الأمريكية التي وصفتموها بالأخلاقية والعادلة لتقضي على البقية الباقية من هذا الشعب الفقير الذي بات لا يجد اللقمة التي يأكلها.
إنّ الدين الإسلامي المتهم بالإرهاب من قبل الصحافة الغربية التي تسيرها الصهيونية العالمية ،ومن قبل أحد موقعي هذا البيان ، يُحرِّم في حالة الحرب قتل المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ وهدم البيوت وقطع الأشجار ،ويحرَّم قتل أصحاب الصوامع ، كما سبق الإسلام القانون الدولي كثيراً في أحكام الحروب ،كعدم مباغتة العدو وأخذه على غرة فلقد ثبت أنَّ الرسو صلى الله عليه وسلم لم يقاتل قوماً قبل أن يدعوهم إلى الإسلام ،أو دفع الجزية ،فإن امتنعوا قاتلهم ،وكذلك عدم قتال المدنيين من النساء والشيوخ والأطفال من أهالي المحاربين لهم ،وعدم تدمير منازلهم وحرق نخيلهم ،وقد سبق الإشارة إلى ما أوصى به الرسو صلى الله عليه وسلم جيشه في غزوة مؤتة ،وكيف حرَّم الإسلام الإجهاز على الجرحى والتمثيل بجثث القتلى،وعدم إصابة المدنيين ،كما حثَّ على الإحسان في معاملة الأسرى ،وجعل الإحسان إليهم علامة الإيمان ،فكيف تكون الحال في السلم؟
لقد أمرنا أن تكون مناظراتنا مع أهل الكتاب بالتي هي أحسن ،يقول تعالى : (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاَّ بالتي هي أحسن ))
ونهانا عن سب عقائد المخالفين لديننا ،يقول تعالى : ( ولاَ تَسُّبُّوا الَّذين يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُّبُّوا اللهَ عَدْوَاً بِغيْرِ عِلم )
وجعل لأماكن عبادات اليهود والمسيحيين حرمة كحرمة المساجد يجب حمايتها والدفاع عنها،وليس ضربها بالطائرات والصواريخ كما فعلت أمريكا بضربها المساجد في أفغانستان يقول تعالى : ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدَّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللهِ كثيراً)
وقد حفظ الإسلام لأهل الذمة حقوق المواطنة والجنسية ،والذميون أولئك الذين كانوا من سكان البلاد التي فتحها المسلمون ،وفضَّلوا البقاء فيها فدخلوا في ذمة المسلمين ،وقد حفظ الإسلام لهم حريتهم في ممارسة عباداتهم وعقائدهم ،ولهم أن يتمتعوا بكل الحقوق في العلم والعمل والتجارة والكسب والتنقل مثلهم مثل المسلمين تماماً.
وأوجب الإسلام حماية الذِّمي ،فدمه وماله مصونان ،وحريته وكرامته محترمتان ،وقد أكَّد الرسو صلى الله عليه وسلم على هذا في أحاديث منها : ( من آذى ذمياً فأنا خصمه يوم القيامة ،ومن خاصمته خصمته.)
كما أنَّ الخليفة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه كان يسأل عمال أوَّل من يسألهم عن أحوال أهل الذمة ،وكيف أنَّه أمر بضرب ابن والي مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه لأنَّه أساء إلى ذمي ،ثُمَّ قال قولته الخالدة ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟)
فهذه أخلاق الإسلام وقيمه في تعامله مع أهل الكتاب في السلم والحرب الذي يُتهم بالإرهاب والعنف .
فأين العدل في ضرب القوات الأمريكية المساجد في أفغانستان ،وانتهاك حرمات بيوت الله ،وقتل المصلين بها ؟(70/61)
أين العدل في معاملة الأسرى ،فالمتهم الأمريكي يحاكم محاكمة عادلة في الولايات المتحدة الأمريكية بذات التهمة المتهم فيها الأسرى المسلمون في جوانتنامو ،الذين يعاملون معاملة أدنى من معاملة الحيوانات،بل الحيوانات المفترسة مكرَّمة لديكم أكثر منهم ،ويجعلونهم منكسي الرؤوس إذلالاً لهم ،ولم تطبق قوانين معاملة الأسرى عليهم ،نحن لسنا مع تنظيم القاعدة ،ولكن هؤلاء الأسرى بشر ومسلمون ،ومنهم أولاد لأسر عربية ومسلمة ،فهم مسلمون في النهاية ،كما نحن بصدد عدالة الحروب وأخلاقياتها ،فالرسو صلى الله عليه وسلم الذي وصفه السيد صموئيل هنتنتجتون ـ وهو أحد موقعي بيانكم ـ بالقسوة والعنف لقد أحسن معاملة أسرى بدر ،وهم من كفار قريش الذين اضطهدوا الرسو صلى الله عليه وسلم والمسلمين ،وعذَّبوهم ،وحاصروا الرسول عليه الصلاة والسلام وبني هاشم رجالهم ونساءهم وأطفالهم ثلاثة سنوات، وأخرجوهم من ديارهم وأجبروهم على الهجرة إلى الحبشة ،وحرَّضوا القبائل على الرسول ثم هاجر الرسول والمسلمون من مكة إلى المدينة بعدما تآمروا على قتل الرسول عليه الصلاة والسلام تاركين أموالهم وممتلكاتهم،وجعل فداء الأسرى أن يقوم كل أسير ممن يعرف الكتابة تعليم عشرة من فتيان المدينة الكتابة ،فلم يعذبهم ،ولم يضطهدهم ،مع أنَّهم وثنيون لا يؤمنون بالله .
وأين العدل والأخلاق عندما قتلت القوات الأمريكية مع القوات البريطانية في5 نوفمبر م العام المنصرم في قلعة "جانجي " في مزار شريف في أفغانستان 450أسيراً مكبلين من خلف ظهورهم ،وهؤلاء قد سلَّموا أنفسهم للأمم المتحدة وليس للولايات المتحدة وقد نقلت صورهم القناة الثانية الفرنسية ،وشهد هذه المذبحة بعض مراسلي الصحف منهم مراسل"سندي تايميز الذي وصفها بأنها كانت على قدر كبير من الوحشية ،وقد اعتبر هذه المذبحة السيد رمزي كلارك وزير العدل الأسبق الأمريكي بأنّها جريمة حرب،وذكر أنَّه لم يحقق في هذه الجريمة لأنّ الكل يخشى أن يوصف بالإرهاب إن دافع عن حقوق هؤلاء الأسرى؟
وأين العدل والأخلاق عندما قتلت الإدارة لأمريكية في حربها لأفغانستان في الفترة من 7أكتوبر إلى3 ديسمبر عام 2001م (3767 )قتيلاً من الأطفال والنساء والشيوخ والعزل من المدنيين ،هذا ما ذكره البروفسور الأمريكي "مارك دبليو هيرالود من جامعة نيوهامسشير "،إضافة إلى تدمير آلاف القرى ،وهدم المنازل ،وخروج الملايين من بلادهم بحثاً عن الأمان؟
لقد قلتم في بيانكم إنَّ المبرر الأخلاقي للحرب هو صيانة الأبرياء من الضرر الأكيد،وهنا نسأل ما ذنب الملايين من الأبرياء الذين سيذهبون ضحية لهذه الحرب التي لا يعلم مداها إلاَّ الله ،والتي كما يبدو من بيانكم أنَّها ستشمل الدول الإسلامية التي يوجد بها تنظيم القاعدة ؟
إنَّ الولايات المتحدة في حروبها السابقة قد قتلت أكثر من سبعة ملايين من البشر ، منهم ثلاثة مليون ونصف في كوريا الشمالية ، ومليون في الفلبين،وبقال أنها حرب مع أسبانيا ،ولكنَّها كانت مع الفلبينيين ،ومليون في فيتنام ومليون ونصف في العراق أكثرهم من الأطفال في سن الخامسة،،وأنَّ الولايات المتحدة كان لها أكثر من75 تدخلاً عسكريا في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية منذ عام 1945إلى الآن ، هذا ما صرَّح به وزير العدل الأمريكي الأسبق السيد رمزي كلارك الذي أمضي 25 عاماً وهو يتنقل بين دول العالم التي كانت ضحية حروب أو حصار الولايات المتحدة الأمريكية ،وذلك في حديث له في قناة الجزيرة،وقال أيضاً :" لقد أعلنت الإدارة الأمريكية أنَّ القتلى في بنما أقل من مائة بينما كانوا 2500 ،كذلك القتلى في جراندا كان العدد أكبر مما ذكرتهم ،فما تقوم به الإدارة الأمريكية هو أعمال انتقامية ضد السكان ،وأصبح الآن لا يوجد بلد في العالم يشعر بالأمان، لأنّ الإدارة الأمريكية لا تحترم القوانين. "
فيا ترى كم من ملايين البشر سيكونون ضحية هذه الحرب من بني الإسلام ،وذلك في سبيل القضاء على عدو مبهم غير معروف؟وكم من المليارات من الدولارات التي سوف تخسرها الشعوب الإسلامية من الدمار الذي سوف تلحقه بها هذه الحروب ؟وكم من ملايين البشر الذين سوف يصابون بأمراض خطيرة كالسرطان من جراء ما ستحدثه هذه الحروب من تلوث بيئي نتيجة آلاف الأطنان من المتفجرات التي سوف تقذف في أراضيها ؟ وكم من ملايين البشر الذين سوف يصابون بأمراض نفسية من جراء ما ستخلفه هذه الحروب من مآسٍ ؟وكم من المليارات من الدولارات التي سيدفعها الشعب الأمريكي من قوت يومه في هذه الحرب، ولن تنجح في القضاء على هذا العدو المبهم ،فهي الآن لم تتمكن من زعيم التنظيم ،ومن رئيس طالبان ،كما سبق وأن فشلت في القضاء على صدام حسين ،وهي الآن تبرر ضربها للعراق لإسقاط نظام صدام ،مع أنَّ هذا الأمر يعد شأناً داخلياً ،ويخالف القوانين الدولية ،ولكن الإدارة الأمريكية هي وإسرائيل سواء يعتقدان أنَّهما فوق القانون.(70/62)
وبعد كل هذا هل تعتقدون أنَّ حرب الإرهاب التي أعلنتها الإدارة الأمريكية ،والتي تستهدف إعلان الحرب على الإسلام والدول الإسلامية هي حربٌ لصالحنا نحن المسلمين؟وأنَّها حرب عادلة ،وحرب أخلاقية ،وأنَّ مبرراتها ذات جدوى ومقنعة لذوي الفكر والرأي أمثالكم؟
ألا تعلمون أنَّ مائتين من أساتذة القانون الأمريكان من جامعة " ييل "قدَّموا مذكرة تعبر عن عدم رضاهم عما تقوم به الإدارة الأمريكية في حربها على الإرهاب ،مبينين أن في ذلك مخالفة للقوانين الدولية، في حين أنّكم تصفونها بأنها حرب أخلاقية عادلة؟
وهل تعتقدون أنَّ المثقفين المسلمين إلى هذه الدرجة من السذاجة والبلاهة والغباء حتى يقتنعوا من أنَّ الحرب الأمريكية على الإسلام والمسلمين لتحقيق مصالحها بدعوى محاربة الإرهاب لصالحنا،وكل هذه الحقائق مكشوفة أمامهم ؟؟
للأسف أنَّكم ضحية إعلام مضلل تسيره وتسيطر عليه الصهيونية العالمية ،لأنّ هذا يخدم مصالحها ،يقول السيد رمزي كلارك في حديثه لقناة الجزيرة حول هذا الموضوع : " إنَّ الشعب الأمريكي ضحية تلاعب وسائل الإعلام الأمريكية ،إنَّ المجتمع الأمريكي مجتمع مادي ،ويخشى كل واحد أن يفقد وظيفته ،فنخاف ونصدق ما تقوله الحكومة لنا من أنَّها ضد الشر والإرهاب ،والإعلام يدفع إلى الجنس والعنف ،والشعب الأمريكي لا يدرك ما هو حاصل ،وكثر هم الذين لا يريدوا أن يعرفوا لأنَّهم لو عرفوا فسوف يتألمون ،يقال إنَّنا دولة ديمقراطية ،ولكن الحقيقة ليست كذلك، فالفرد يشعر بالعجز والتحجيم بسبب تركز القوة الاقتصادية في يد فئة معينة".
رابعاً: موقفنا من سياسة الإدارة الأمريكية تجاه إسرائيل ،وتجاه الدول الإسلامية ما فيها الدول العربية ،وفي حربها على ما أسمته بالإرهاب:
" لقد جاء في بيانكم لا تشرع الحرب في مواجهة الخطر أو القليل المشكوك فيه ،ولا في مواجهة الخطر الذي يمكن إزالته بطريقة المفاوضة أو الدعوة إلى العقل أو الشفاعة أو غيرها من الطرق السلمية ،لكن عندما يكون الخطر على حياة الأبرياء خطراً حقيقياً يقينياً فحينئذ يكون اللجوء إلى استخدام القوة مبرراً أخلاقياً لا سيما عندما يكون الدافع للمعتدي هو العداوة المتصلبة حيث لا يستهدف الحوار ،ولا الامتثال لأمر ما ،وإنَّما يهدف الدمَّار"
وهذه حال الشعب الفلسطيني مع إسرائيل ففي اليوم التالي الذي أعلنت فيه قمة بيروت اعتماد المبادرة السعودية للسلام ،ردَّت إسرائيل باجتياح أراضي السلطة الفلسطينية ومحاصرة الشعب الفلسطيني ورئيسه ،وقتل الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ وهدم البيوت على سكانها ،ويعتبر الشعب الفلسطيني بأكمله من المدنيين ،فهو شعب أعزل لا يملك سلاحاً ،والذي يهرَّب له السلاح من إخوانهم العرب من الدول المجاورة يتعرضون للسجن ويحاكمون ،ويحكم عليهم بالسجن سنين طويلة ،ولكنكم للأسف الشديد في الوقت الذي تبيحون لدولتكم حربها ضد ما أسمته إرهاباً تُحرَّمون على الشعب الفلسطيني حق الدفاع عن نفسه ،وتصفون جهاده ومقاومته بالإرهاب ،وتمارس الإدارة الأمريكية ضغوطها على الحكومات العربية لتدين العمليات الاستشهادية في فلسطين ،وهي تكاد الوسيلة الوحيدة التي يمتلكها الشعب الفلسطيني في مقاومته ،فهو لا يمتلك ولا دبابة واحدة أمام مئات الدبابات التي يجتاح بها أراضيه عدوه المغتصب أرضه ،ولا يمتلك طائرة مروحية واحدة أمام ألوف المروحيات التي يمتلكها عدوه ،والتي يقذف منها مئات القذائف،وهو لا يملك السلاح الذي يصدها به ،ولا يملك صاروخاً واحداً ،وإسرائيل،تملك ألوف الصواريخ ،وهي تحارب الفلسطينيين بأسلحة أمريكية،فلم يجد أطفالهم وسيلة للمقاومة إلاّ الحجارة ،ولم يجد شبابهم من النساء والرجال سوى جعل أجسادهم قنابل بشرية تفجر نفسها في العدو ،وقد أجمع علماء الإسلام وفقهاؤه أنَّ هذه العمليات هي أعلى مراتب الاستشهاد.(70/63)
إنَّ اليهود في إسرائيل جميعهم مغتصبي أراضي وديار الفلسطينيين ،وقد جاءوا من شتى بقاع العالم وهم يعلمون بأنَّ لا أرض لهم ولا دار ،وأنهم سيأخذون الأراضي والديار من فلسطينين يقتلون أو يطردون ويبعدون من أراضيهم وبيوتهم،فاليهودي أتى إلى فلسطين وهو يعلم بأنَّه لص ،جاء إلى فلسطين ليسرق بيت وأرض الفلسطيني ، وأيضاً جاء وهو يعلم أنَّه سوف يجند في الجيش الإسرائيلي ،وأنَّه سيكون في أية لحظة جندياً في هذا الجيش ،فلا يوجد مدنيون يهود في فلسطين كلهم عسكريون نساءً ورجالاً في ملابس مدنية وفي أية لحظة سوف يدعون للقتال ،سيخلعون الملابس المدنية ويرتدون الملابس العسكرية ،أقربها العشرون ألف احتياطي الذين دعاهم شارون للقتال عند اجتياحه الأخير لأراضي السلطة الفلسطينية ، هؤلاء الجنود قبل الاستدعاء كانوا يرتدون الملابس المدنية ،وبعدها بساعات تحولوا إلى عسكريين بارتدائهم الملابس العسكرية ،فهم لصوص يجوز قتلهم ،إنَّ أي واحد منكم لو داهم بيته لصاً ليسرقه ،ويستولي على بيته هل يقاتل هذا اللص ،أم يستسلم له ،ويقول له خذ داري وأرضي فانعم بها ،أما أنا فأعيش مشرداً ذليلاً ،لأنَّني لا أستطيع قتالك، فقتلي لك يعد إرهاباً ،وهذه جريمة كبرى في نظر الإدارة الأمريكية يعاقبني المجتمع الدولي عليها بأمر من تلك الإدارة !!
هل هذا منطق ؟
إنَّه منطق الغاب ،وهو الذي تريد إدارتكم أن تفرضه على العالم باعتبارها القوة الأوحد،وفاتها أنَّ الله عزَّ وجل ،وهو الأقوى منها ،وقادر في أقل من طرفة عين أن يذهب بكل قوتها،كما فعل بكل الطغاة المتجبرين.
إنَّ الإدارة الأمريكية تُدعم بالأموال والسلاح حروب إسرائيل ضد الفلسطينيين وقتلهم من قيمة الضرائب التي يدفعها الشعب الأمريكي ليقدم له العلاج والتعليم ،وكل الخدمات التي يحتاجها والذي يوجد 35 مليون منه تحت خط الفقر،وتدفع أمواله لإسرائيل لتقتل بها الفلسطينيين الأبرياء!
إنَّ الإدارة الأمريكية في تدخلاتها العسكرية دائما تناصر الطغاة والديكتاتوريين على شعوبهم المستضعفة،وقد كشف عن هذه الحقائق السيد رمزي كلارك ،وزير العدل الأمريكي الأسبق في حديثة للجزيرة؛إذ قال "في عام 1953م أعدنا الشاه إلى الحكم ،وكانت مأساة عظيمة للشعب الإيراني ،،وفي الكونغو وجنوب وسط أفريقيا جعلنا موبوتو في الحكم الذي حرم الشعب من ثرواته 37 عاماً،،وفي شيلي أسهمنا في قتل سليفادور ،وأمسكنا الحكم للجنرال "بنشي" السلطة حكم البلاد بقبضة من حديد وأسميناه معجزة ،لأنَّه كان يخدم مصالحنا الاقتصادية،وفي الفلبين أعدنا ماركوس الدكتاتوري للحكم "
وهاهي الآن تناصر إسرائيل ،وتصف شارون الذي أحدث مذابح " صبرا وشاتيلا،في الثمانينات من القرن الماضي ،ومذابح نابلس والخليل وبيت لحم ورام الله وجنين في الأيام الماضية بأنَّه رجل سلام ؟؟
إنَّ انحياز الإدارة الأمريكية الدائم تجاه إسرائيل،هي والدول الأوربية واستخدامها حق الفيتو لصالح إسرائيل يعرقل عملية السلام في المنطقة ،ولن يجعل أمام الشعوب العربية في نهاية الأمر سوى استخدام القوة ،وحينئذ وفق ما جاء في بيانكم "سيكون استخدام القوة مبرراً أخلاقياً لاسيما عندما يكون الدافع للمعتدي هو العداوة المتصلبة حيث لا يستهدف الحوار ولا الامتثال لأمر ما ،وإنَّما يهدف إلى الدمار " وهاهي إسرائيل ترفض قيام دولة فلسطينية بعدما صفَّت المقاومة الفلسطينية وقتلت عناصرها النشطة ،ولم تستجب لاتفاقيات مدريد وأسلو التي وقعتها ،وكذلك لم تستجب لرغبة الإدارة الأمريكية في إقامة دولة فلسطينية !
فهل يا ترى ستوقع الولايات المتحدة عقوبة على إسرائيل لخرقها هذه الاتفاقيات ،ورفضها الإذعان لرغبة الإدارة الأمريكية ،كما تفعل مع أي دولة عربية أو إسلامية ؟
أشك في ذلك ،فالذي أراه أنَّ إسرائيل هي التي باتت القوة العظمى في العالم ،فلم تعمل للولايات المتحدة ،ولا للمنظمات الدولية ،و لا للاتحاد الأوربي أي حساب!!
ويرجع هذه في رأيي إلى الأسباب التالية :
1- سيطرة التراث اليهودي على العقلية المسيحية ،وعلى المسيحيين أن يتحرروا من سيطرة التراث اليهودي عليهم، هذه الحقيقة يدركها مفكرو الغرب وعلماؤه ومؤرخيه، وقد حلل المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي الشخصية اليهودية ومدى سيطرة الفكر اليهودي على الإنسان المسيحي، ويوضح هذا في كتابه "مشكلة اليهودية العالمية" فيقول: "وهم يعتبرون غيرهم أقل منهم منزلة، وأنهم الشعب المختار، أما شعوب العالم فهي في مركز منحط يطلقون علي أفرادها كلمة "الأمميين" وهم بتعبير الشاعر البريطاني كبلينج Kippling سلالات دنيا لا شريعة لها" ثم يقول:(70/64)
"وتقبلت الكنيسة المسيحية دون مناقشة تفسير اليهود لتاريخهم كما ورد في التوراة، بما تضمه بين طياتها من المطاعن ضد الشعوب التي احتكوا بها كالفينيقيين، والفلسطينيين، والآرمويين ، والموابين، والمعموريين، والدمشقيين، وانفرد اليهود في هذا الميدان بإقدامهم على رفع سجل تاريخهم إلى منزلة التقديس، ونجاحهم نجاحاً لا يبارى في إيهام مئات الملايين من البشر على مدى الأحقاب، أو يناقشه مناقشة علمية عقاب الله في الدنيا والآخرة، ومن الناحية الأخرى لا يوجد لأعداء اليهود القدامى من ينهض للدفاع عن قضيتهم إلا أصوات العلماء والباحثين الخافتة، وتعتبر المذاهب المسيحية على اختلافها التاريخ اليهودي تاريخاً مقدساً للمسيح، ومهما يكن نصيب الفرد المسيحي من الاستفادة الفكرية، ومقدار تحرره الذهني، فيصعب عليه بمكان أن يتخلص من التراث اليهودي في المسيحية، لأنه كامن في شعوره الباطني، ويوجه مسار تفكيره، وبالتالي فإذا كانت الكشوف الأثرية تهدم ادعاءات اليهود، وتلقي أضواء صادقة على المجتمعات الأخرى، فما برحت جمهرة المسيحيين تأخذ التاريخ اليهودي كما ورد في التوراة قضية مسلماً بها"
2-سيطرة اللوبي الصهيوني على اقتصاد وإعلام الدول الغربية ،ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وتغلغله في المنظمات والمؤسسات الحكومية والدولية،وبات المستقبل السياسي لأية شخصية أمريكية مرهوناً بمدى دعمها لإسرائيل ،بل بات من يريد أن يضحي بمستقبله السياسي ،بل وبعمره فليؤيد الفلسطينيين أو يبدي تعاطفاً معهم ،وإلاَّ ما تفسيركم لقتل الرئيس جون كنيدي في الستينيات ؟
وما تفسيركم أيضاً لإعلان السيد كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة حل لجنة تقصي الحقائق في جنين المكونة بموجب قرار من الأمم المتحدة لأنَّ شارون رفض التعاون مع هذه اللجنة ،دون أن يتخذ أي قرار ضد إسرائيل ،وأنا أدعوكم أن تقرأوا كتاب " اليهودي العالمي " للمليونير الأمريكي " هنري فورد " لتروا بأنفسكم مدى تغلغل اللوبي الصهيوني في بلادكم،ومدى سيطرته على القرار السياسي فيها ،وتوجيه دفته حيث يريد،ولتروا بأنفسكم دناءة الوسائل التي يستخدمها الصهاينة في سبيل تحقيق أهدافهم ،من تلك الوسائل ،القتل والاغتيال لكل من يرونه يشكل خطراً عليهم حتى العلماء المسلمين الذين لديهم اكتشافات أو بحوث علمية تهدد مصالحهم ،ولا سيما إن كانت في الذرة . ولعلكم تذكرون حادث اغتيال الوزير اللبناني السابق بعدما أعلن أنَّ لديه أدلة تدين شارون في مذابح صبرا وشاتيلا ،وأنَّه سوف يقدِّم تلك الأدلة للمحكمة في بلجيكا حيث رفعت قضية لمحاكمته ،فالصهاينة هم أكبر كيان إرهابي في العالم ،وإن كنتم جادون حقاً في مكافحة الإرهاب فابدأوا بمكافحة الصهيونية ،ونحن عندئذ سنكون معكم .
3- الاعتقاد أنَّ إسرائيل تحمي مصالح الغرب الأمريكي والأوربي في منطقة الشرق الأوسط،وهذا اعتقاد خاطئ ،فإسرائيل هي التي تستخدم الولايات المتحدة ،والدول الأوربية لخدمة مصالحها هي،ومصالح الغرب الأمريكي والأوربي مع الشعوب العربية والمسلمة ،وليس مع اسرائيل.
إنَّ مبادئ الحرية والعدل والمساواة التي تنادون بها لن تكون على أرض الواقع مالم تتحرروا من سيطرة الصهيونية ،والتراث الفكري اليهودي ،والمطامع في خيرات الآخرين ،والعداء للإسلام ومحاربته تحت مسميات أخرى كالإرهاب.
خامساً:النظام الإسلامي في الحكم ،ودعوة البيان إلى فصل الدين عن الدولة ،والحكم بالحكم العلماني الوضعي :
قلتم في بيانكم أنَّكم دولة علمانية ،وأشرتم إلى مقولة "إبراهام لنكولن"الرئيس العاشر للولايات المتحدة الأمريكية في خطاب التنصيب الثاني عام 1865م " لله شؤونه الخاصة "ولعلكم تهدفون من هذه الإشارة إلى إبعاد الدين الإسلامي عن الحكم .
هذا وإن كان أحد مؤسسي الولايات المتحدة اختار النظام العلماني ليكون نظام الحكم في دولته ،فنحن لا نتدخل في اختياره ،وإن كنا ندرك أنَّ وجود النظام العلماني ،هو الذي أحدث هذا الخلل في ميزان العدل في العالم ،وهو الذي قلب الموازين،فينصر الظالم على المظلوم ،وجعل الغاصب المحتل مرتكب المذابح البشرية في صبرا وشاتيلا ،وفي نابلس وجنين رجل سلام ،ووصف الذين يدافعون عن أراضيهم المغتصبة ويقاومون المحتل بحجارة صغيرة ،وبتفجير أنفسهم في عدوهم لعدم امتلاكهم سلاحاً يقاتلون به بالإرهابيين،ويُعاملون كإرهابيين.(70/65)
وكلنا يدرك أنَّ النظام العلماني جاء في الغرب المسيحي كردة فعل لتسلط الكنيسة ورجالها ،وهذه مسألة خاصة بالديانة المسيحية لا تنطبق على الإسلام ،زيادة إلى أنَّ الديانة المسيحية ديانة عبادية ،تقتصر تشريعاتها على تنظيم علاقة الإنسان بربه ،وليست بشمولية الإسلام،باعتبار الإسلام هو خاتمة الأديان السماوية ،فجاء تشريعاته كاملة ومتكاملة شاملة جميع شؤون الحياتين الدنيوية والأخروية للأفراد والجماعات ،والشعوب والحكومات ،كما نظَّم علاقة الأفراد والجماعات بمن لا يدين بدينهم ،ولم يترك هذا التشريع صغيرة ولا كبيرة في حياة الأفراد والجماعات إلاَّ ونظَّمها ،فلقد نظَّم علاقة الفرد بوالديه وبزوجه وبأولاده ذكور وإناث ،وبأقاربه وبجيرانه ،وبخدمه ،وبحكَّامه ،وبمن من لا يدين بدينهم لذا جاء قوله تعالى في آخر آية نزلت في القرآن الكريم (( اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً))
والمسلمون لا يستطيعون أن يتخلوا عن الإسلام كنظام حياة في جميع شؤونهم الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والعلمية والتعليمية والإعلامية والثقافية والفكرية ،إنَّ لسان الإنسان المسلم لا ينقطع عن ذكر الله منذ لحظة يقظته في الصباح إلى لحظة منامه ،في مأكله ومشربه ،في حله وترحاله ،بل حتى عندما يعطس يذكر الله ،فديننا علمنا ماذا نقول في كل خطوة نخطوها ،فكيف نستطيع أن نتخلى عن تنظيمه لمور حياتنا ،صحيح أنَّ الغرب قد صدَّر إلينا العلمانية والماركسية والاشتراكية والوجودية،وغيرها من المذاهب والفلسفات الفكرية القائمة على الإلحاد ،وإنكار وجود الله،كما صدَّر لنا الهامبرجر والجينز وأصبح من المسلمين من يؤمن بهذه المذاهب،ولكنه في النهاية كمسلم لا يخلو كلامه من ذكر الله .
ثُمَّ ما يضير الغرب تطبيق النظام الإسلامي في الحكم ؟
الغرب يوجه انتقاداً إلى الحكومات الإسلامية بأنها حكومات غير ديمقراطية ،ألا تعرفوا بأن الإسلام هو أول من نادي بالديمقراطية ،وطَّبقها في الحكم ؟
سأوضِّحُ لكم هذا من خلال توضيح الأسس التي يقوم عليها الحكم في الإسلام :
1- الحرية : ولقد حرَّر الإسلام الإنسانية من كل ألوان العبودية للخلق عندما أعلن أنَّ الله هو المعبود الوحيد ولا معبود سواه ،ولعل مقولة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لابن والي مصر عندما ضرب القبطي : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) كانت بمثابة ميثاق لأسس الحرية الإنسانية وتخليصها من كل أصناف العبودية للخلق ،وقد احترم لإسلام الحرية الدينية ،وحرية الملكية ،وحرية اختيار الحاكم ،وحرية مراقبته وإبداء الرأي .
2-الشورى :وهي من الدعائم الأساسية التي يرتكز عليها نظام الحكم في الإسلام ،وقد أوجب الشورى على أولي الأمر ،وذلك في الوحي المكي والمدني ،ففي القرآن الكريم سورة سميت باسم "سورة الشورى" ،وهي سورة مكية يقول تعالى فيها : (( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم وممَّا رزقناهم ينفقون )) ( آية 38) ففي هذه الآية قرن الله نظام الشورى بالصلاة ولصدقة ليدل على أنَّ الشورى بين ولاة الأمر من أسس الإسلام ،وأنَّ الاستبداد ليس من شأن المؤمنين.وفي الوحي المدني ركَّزَّ جلَّ شأنه على مبدأ الشورى وألزم رسوله الكريم بالالتزام به ،وفي هذا إشارة إلى أنَّه مهما بلغ قدر الحاكم وعلمه ومكانته فهو ملزم بالشورى مادام نبي الله قد ألزم بالشورى وهو يوحى إليه فيقول تعالى مخاطباً رسوله : (( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ))( آل عمران : 159)وقد ثبت أنَّ الرسو صلى الله عليه وسلم كان دائم التشاور مع أصحابه ،وكثيراً ما نزل عند رأيهم ،من ذلك : استشارته لهم في اختيار المكان الذي ينزل فيه المسلمون يوم بدر ،وأخذه برأي الحباب بن المنذر ،واستشارته لهم فيما يعمل بشأن الأسرى في الغزوة ذاتها ،فوافق على رأي أبي بكر رضي الله عنه الذي أشار عليه بالفداء ،ونزوله على رأي الشباب بالخروج في يوم أحد ،كما أخذ رأي زوجه أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها في موقف الصحابة رضوان الله عليهم من صلح الحديبية ،وفي هذا تأكيد على أنّ الشورى من حق المرأة كما هي من حق الرجل ،والخطاب القرآني في الآيتين الكريمتين جاء في صيغة العموم شاملاً الذكور والإناث معاً ،كما هو معتاد في مجمل الأحكام والتشريعات،وأكد عليه أخذ الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطّاب رضي الله عنه برأي المرأة عندما جمع المسلمين ليأخذ رأيهم في تحديد المهور ،فحاجته امرأة قرشية بالآية القرآنية رقم 20 في سورة النساء (( وإنْ أَردتمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَأَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارَاً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئَاً أَتَأخذُونَهُ بُهْتَانَاً وإِثْمَاً مُّبِينَا)) فاعتلى المنبر معلناً على الملأ قولته الشهيرة : ( أخطأ عمر وأصابت امرأة )(70/66)
3-البيعة:وهي من الأسس الأولية في نظام الحكم في الإسلام يقول تعالى : (( إنَّ الذين يُبَايعونك إنَّما يُبَايِعُون اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهم فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ على نَفْسِهِ وَمنْ أَوْفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله فَسَيُؤتِيهِ أَجْرَاً عَظِيمَاً)) ( الفتح : 10)،كما أعطى للمرأة حق البيعة وخصَّها بالبيعة تأكيداً على إعطائها هذا الحق الأساسي ، يقول تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّنَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المؤُمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شّيْئَاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِيِنَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسَتَغْفَرَ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) ( الممتحنة: 12)،وهنا نرى أنَّ الإسلام أعطى للمرأة حقوقاً سياسية قبل جميع الأنظمة السياسية ،فلقد ساوى بين المرأة والرجل في هذا الحق السياسي الخطير الذي يعد من أهم ركائز نظامه السياسي ،وقد طبَّق هذا الرسو صلى الله عليه وسلم وقد بايعته الأنصاريات في العقبة ،كما بايعنه عندما قدم المدينة المنورة.
4- العدل: هو هدف وغاية الحكم الإسلامي ، يقول تعالى : (( إنَّ اللهَ يأمركم أنْ تُؤدَّوا الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِها وإذا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنَ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إَنَّ اللهَ نِعمَاً يَعِظَكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعَاً بَصِيراً )) ( النساء : 58)،ويقول تعالى : (( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم بِالقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِين )) ( المائدة : 42)،وأمثلة تطبيق العدل في الإسلام كثيرة لا حصر لها منها: كان رسول ا صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر يمشي بين الصفوف لتعديلها ،وفي يده قدح ،فمرّض برجل خارج عن الصف فطعنه بالقدح في بطنه ليعتدل فقال الرجل ،وهو سواد بن زمعة ،لقد أوجعتني يا رسول الله وقد بعثك الله بالحق والعدل فاستخلص لي حقي منك ،فقال له صلى الله عليه وسلم : هذا بطني فاقتص منه :فاعتنقه الرجل ،وقبَّل بطنه ،فقال له الرسو صلى الله عليه وسلم ما الذي دفعك إلى هذا يا سواد ؟ فقال : أحببت أن يكون آخر عهدي بالدنيا هو ملامسة جلدي لجلدك ،فدعا له رسول الله.والناس سواء في تطبيق العدل على اختلاف ألوانهم ودياناتهم من ذلك : حدث أنَّ ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه فاتح مصر وواليها من قبل الخليفة عمر بن الخطّاب قد نازع شاباً من دهماء المصريين الأقباط المسيحيين في ميدان سباق ،فأقبلت فرس المصري فحسبها محمد بن عمرو فرسه وصاح : "فرسي ورب الكعبة" ،ثُمَّ اقتربت وعرفها صاحبها فغضب محمد بن عمرو ووثب على الرجل يضربه بالسوط ويقول له : خذها وأنا ابن الأكرمين ،وبلغ ذلك أباه فخشي أن يشكوه المصري فحبسه زمناً ..ومازال محبوساً حتى أفلت وقدم إلى الخليفة لإبلاغه شكواه...
قال أنس بن مالك راوي القصة : فوالله ما زاد عمر على أن قال له أجلس ...ومضت فترة إذا به في خلالها قد استقدم عمراً وابنه من مصر فقدما ومثلا في مجلس القصاص ،فنادى عمر رضي الله عنه :" أين المصري ؟ …دونك الدرة فاضرب بها ابن الأكرمين"
فضربه حتى أثخنه ،ونحن نشتهي أن يضربه .فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه ،وعمر رضي الله عنه يقول : اضرب ابن الأكرمين ! ..ثُمَّ قال : " أجلها على صلعة عمرو ! فوالله ما ضربك ابنه إلاَّ بفضل سلطانه …قال عمرو رضي الله عنه فزعاً : يا أمير المؤمنين قد استوفيت واشتفيت ، وقال المصري معتذراً : يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني ..فقال عمر رضي الله عنه :"أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى يكون أنت الذي تدعه .والتفت إلى عمرو مغضباً قائلاً له تلك القولة الخالدة :" أيا عمرو ! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً )
وهناك قصة سيدنا علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه مع اليهودي الذي وجد درعه عنده الذي فقده وهو متجهاً إلى صفين ،ولما انقضت الحرب ورجع إلى الكوفة وجده في يد يهودي ،فقال نصير إلى القاضي ،فتقدم علي رضي الله عنه فجلس إلى جنب القاضي شريح ،وقال : " لولا أنَّ خصمي يهودي لاستويت معه في المجلس ،ولكني سمعتُ رسول الله صلى عليه وسلم يقول : "أصغروهم من حيث أصغرهم الله "فقال شُريح قل يا أمير المؤمنين ،فقال :" نعم هذه الدرع التي في يد هذا اليهودي درعي لم أبع ولم أهب ،فقال شُريح : إيش تقول يا يهودي ؟ قال: "درعي وفي يدي ،فقال شريح: ألك بينة يا أمير المؤمنين ؟ قال : "نعم ،قنبر والحسن يشهدان أنَّ الدرع درعي ،فقال شُريح: شهادة الابن لا تجوز للأب ،فقال علي رضي الله عنه : " رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ سمعتُ رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول :"الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ،فقال اليهودي : " أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه ،وقاضيه قضى عليه ،أشهد أنَّ هذا هو الحق ،وأشهد أن لا لإله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمداً رسول الله ،وأنَّ الدرع درعك)(70/67)
ومن أعظم فضائل الإسلام أنّه أوجب العدل مع الأعداء ،وقال تعالى : (( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِين للهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمِنَّكُم شَنْآن قَوِمٍ على أَلاَّ تِعْدِلُوا اعدْلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقْوى وّاتَّقُوُا اللهَ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون)) ( المائدة : 8).
5-المساواة : كان التمايز بين الناس ولا يزال سائداً في بعض جهات العالم،فاليهود زعموا أنَّهم وحدهم شعب الله المختار ،وفرَّقوا في تشريعاتهم بين اليهود وغيرهم ،فحرَّموا الربا بشدة بينهم ،وأباحوه مع غيرهم ،كما أباحوا دماء وأعراض غير اليهود ،وبعض الأديان تقر نظام الطبقات كالديانة البراهمية التي تقسم الأمة إلى أربع طوائف ،وفي فرنسا قبل الثورة الفرنسية كان يوجد عدم مساواة في توزيع المناصب العمومية ،وعدم وجود رقابة عليها،والثورة الفرنسية إن نادت بمبدأ المساواة فهي أخذته من الإسلام وجميع حركات الإصلاح الديني التي شهدتها أوربا كانت من تأثرها بالإسلام الذي عرفته عن طريق الأندلس والحروب الصليبية وصقلية.ولكن النزعة العنصرية لا تزال موجودة في أوربا وأمريكا ،فألمانيا النازية قبل الحرب العالمية الثانية أسرفت في الدعوة إلى العنصرية فقسمت الجنس البشري إلى طبقات ،وجعلت الجنس الآري في مقدمتها ،وأمريكا التي تزعم أنها دولة قامت على الديمقراطية قد اضطهدت الهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا ،كما اضطهدت الزنوج الذين اختطفوا من بلادهم ليكونوا عبيداً وأرقاء للبيض حتى قامت ثورة الزنوج احتجاجاً على التمييز العنصري.
ونحن إذا نظرنا إلى ما شرَّعه الإسلام من مبدأ المساواة،رأينا أنَّه لم يصل أي تشريع سماوي أو وضعي في مبلغ الحرص على مبدأ المساواة إلى ما وصل إليه الإسلام ،فقد قرر الإسلام مساواة الناس أمام القانون ،ومساواتهم في الحقوق العامة المدنية والسياسية والاجتماعية ،فلا فضل لعربي على عجمي ،ولا أبيض على أسود ،ولا لغني على فقير ،ولا لوجيه على صعلوك ،وبذلك قضى الإسلام على نظام الطوائف ،وأساليب التفرقة بين الطبقات في الحقوق والواجبات ،ولذلك جعل الخالق جلّ شأنه " التقوى" أساس التفاضل: ((يا أيها النَّاس إنَّا خلَقْناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم )) ( الحجرات: 13)
وقد ساوى الإسلام بين المرأة والرجل في الإنسانية رداً على ما أثارته المجامع الكنسية من تساؤلات هل المرأة إنسان ،فقال تعالى : ((هو الذي خَلَقَكُم مِّنْ نفسٍ واحِدة وجعل منها زَوْجَها )) (الأعراف :189)،وجعلها شقيقة الرجل ،كما قال رسول ا صلى الله عليه وسلم ( إنَّما النساء شقائق الرجال )وكرَّمها كأم وزوجة ،وأخت وابنة ،وجعل الإحسان إلى بنتين أو ثلاث ،أو أختين أو ثلاث الجنة ،بل جعل من كانت له ابنة لم يهنها ولم يئدها ولم يؤثر ولده عليها دخل الجنَّة ،وألزم الرجل بالنفقة على المرأة ولو كانت غنية ،كما ساوى بينها وبين الرجل في والعبادات والحدود والعقوبات،وفي الجزاء والثواب ،وساوى بينها وبين الرجل في حق التعلم والعمل ،إذ لم يُحرِّم عليها العمل لأنَّها قد تحتاج إليه ،ولم يوجبه ،وفي نفس الوقت لم يستحسنه ويحبذه ،وذلك لأنَّه سيكون على حساب زوجيتها وأمومتها ،وتربية أولادها، واعترف بأهليتها الحقوقية المالية الكاملة مثلها مثل الرجل تماماً ،ولا يحق للزوج التدخل في تصرفاتها المالية،كما حافظ على شخصيتها ،فلا تفقد اسمها واسم عائلتها بالزواج ؛إذ تظل منتسبة لأبيها ،وأزال عنها تهمة الخطيئة الأزلية التي ألحقتها بها الأديان والتشريعات القديمة في قوله تعالى : (( وعصى آدم ربَّه فغوى))،كما ساوى بينها وبين الرجل في كثير من الحقوق السياسية كحق البيعة والشورى والولاية ،وإجارة المحارب ،والمشاركة في القتال أن دعت الحاجة ،والمشاركة أيضاً في الغنائم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وعمارة الكون ،وإن كانت المرأة المسلمة لم تحصل على بعض حقوقها ،فهذا يرجع إلى تحكم العادات والأعراف والتقاليد ،وليس إلى الإسلام.
وقد أكَّد رسول الله صلى الله علي وسلم على مبدأ المساواة بأقواله وأفعاله الكثيرة فمن أقواله ( الناس سواسية كأسنان المشط)،وقال في حجة الوداع : ( أيها الناس : إنَّ ربكم واحد ،وأباكم واحد ،ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ،ولا لأسود على أحمر ،ولا لأحمر على أسود إلاَّ بالتقوى)،فهنا ألغى التفاخر بالأنساب والتعاظم بالأباء والأجداد ،فأبوهم جميعاً واحد هو آدم عليه السلام ،وألغى التفرقة العنصرية والتمايز بالألوان ،فلم يفرق في الحقوق والمعاملات بين أبيض وأسود ،ولا بين حر ومولى ،فقد ولى بلالاً على المدينة،وفيها كبار الصحابة ،وبلال رضي الله عنه مملوك أسود سابق أشتراه أبو بكر رضي الله عنه وأعتقه ،كما أنّ صلى الله عليه وسلم ولى "باذان" الفارسي لى اليمن ،ولمَّا مات ولى ابنه مكانه .
ولقد سار على نهجه الخلفاء الراشدون من بعده ،وقد سبق وأن ذكرنا أمثلة لذلك.(70/68)
وهكذا نجد كيف وضع الإسلام حقوق الإنسان وطبَّقها واحترمها ،قبل أن ينادي بها فلاسفة الغرب الذين وضعوا ميثاق حقوق الإنسان بأربعة عشر قرناً ،والتي أصبحت هذه الحقوق تنهك من قبل القوى العظمى التي تَتخذها ذريعة للتدخل في شؤون الدول الصغرى والضعيفة لبسط السيطرة والنفوذ عليها ،وليس لحماية حقوق الإنسان.
6-الحرص على العمران وعدم الفساد: ولقد نهى الله المسلمين إذا تولوا الحكم عن الفساد في الأرض ،يقول تعالى : (( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم .أولئك الذين لعنهم الله فأصَّمهم وأعمى أبْصارهم )) ( محمد : 22-23)هذا والمتتبع لغزوات الرسول صلى الله عيه وسلم ،ثُمَّ للفتوحات الإسلامية لم يجد فيها تدميراً أو تخريباً للبلاد المفتوحة ،كما رأينا من قبل في جيوش الأمم الأخرى كاجتياح الجماعات الجرمانية في أوربا ،والقوط في الأندلس ،والتتار في المشرق الإسلامي،ولعل هذا من أهم أسباب إسلام أهالي البلاد المفتوحة.فالإسلام دين بناء وحضارة ،وليس دين هدم وتخريب وتدمير خلاف ما نراه اليوم مما يحدثه اليهود الصهاينة في الأراضي الفلسطينية من قتل وتدمير وحرق وتخريب وتجريف الأراضي ،واقتلاع لأشجار الزيتون في الأراضي الفلسطينية وجنوب لبنان .
7-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : وهذا من الأسس والركائز الأساسية في الحكم ،يقول تعالى : (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )) ( آل عمران : 104)والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حق للرجل والمرأة معاً ، يقول تعالى : (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهَوْن عن المنكر)) ولقد أوصى صلى الله عليه وسلم بذلك عدة وصايا منها قوله : ( الدين نصيحة ) فسأله الصحابة لمن : قال ( لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)
وقد سار الخلفاء الراشدون على هذا المنهج من ذلك قول أبي بكر في أول خطبة ألقاها يوم توليه الخلافة ؛إذ قال : ( قد وليت ولستُ بخيركم ،فإن رأيتموني على حق فأعينوني ،وإن رأيتموني على باطل فسددوني ،أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم ،فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم )،ويقول عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ( أيها الناس فمن رأى فيَّ اعوجاجاً فليقوِّمه )وتقدم إليه رجل وقال : ( لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوَّمناه بسيوفنا )،فرد عليه عمر رضي الله عنه قائلاً ( الحمد لله أن كان في أمة عمر من يقوِّم اعوجاج عمر بالسيف)
هذه هي الديمقراطية في الإسلام ،وهذه الحرية في إبداء الرأي ،وفي مراقبة الحاكم ومحاسبته إن أخطأ.
وهذه هي الركائز الأساسية لنظام الحكم في الإسلام ،فهي قائمة على العدل والشورى والبيعة والمساواة والدعوة إلى احترام العمران والنهي عن الفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وهو كما يتضح من أسسه نظام واضح يجمع بين الدين وأمور الحياة الدنيا فالدين الإسلامي دين ودولة.
وكما تبيَّن لكم أنَّ الأقليات التي تعيش في كنف الإسلام ،وبين رعايا الدول الإسلامية لا يخشى على كافة حقوقها المدنية والقانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ،وأكبر دليل عهد الأمان الذي أعطاه عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لأهل بيت المقدس ،كذلك ولو ذهبنا إلى مصر نجد أنَّ العرب المسلمين أعطوا الحرية الدينية للقبط ،يؤيد ذلك ما فعله عمرو بن العاص رضي الله عنه بعد استيلائه على حصن بابلبيون ،إذ كتب بيده عهداً للقبط بحماية كنيستهم ،ولعن كل من يجرؤ من المسلمين على إخراجهم منها ،وكتب أماناً للبطريق بنيامين ،وردَّه إلى كرسيه بعد أن تغيب عنه زهاء ثلاث عشرة سنة ،وأمر عمرو رضي الله عنه باستقبال بنيامين عندما قدم الإسكندرية أحسن استقبال ،وألقى على مسامعه خطاباً بليغاً ضمنه الاقتراحات التي رآها ضرورية لحفظ كيان الكنيسة ،فتقبلها عمرو رضي الله عنه ، ومنحه السلطة التامة على القبط والسلطان المطلق لإدارة شؤون الكنيسة .
ولم يفرق العرب في مصر بين الملكانية واليعاقبة من المصريين ،الذين كانوا متساوين أمام القانون ،والذين أظلهم العرب بعدلهم وحموهم بحسن تدبيرهم ،وقد ترك العرب للمصرين ،وأخذوا على عاتقهم حمايتهم ،وأمنوهم على أنفسهم ونسائهم وعيالهم ،فشعروا براحة كبيرة لم يعهدوها منذ زمن طويل ،بل كانوا يعانون من ظلم البيزنطيين الذين كانوا يضطهدون الياعقبة لأنهم يختلفون معهم في المذهب ،يوضح هذا قول المستشرق البريطاني سير توماس أرنولد في كتابه " الدعوة إلى الإسلام " : ( يرجع النجاح السريع الذي أحرزه غزاة العرب قبل كل شيء إلى ما لقوه من ترحيب الأهالي المسيحيين الذين كرهوا الحكم البيزنطي ،لما عرف به من الإدارة الظالمة ،وما أضمروه من حقد مرير على علماء اللاهوت ،فإنَّ الياعقبة الذين كانوا يكونون السواد الأعظم من السكان المسيحيين عوملوا معاملة مجحفة من أتباع المذهب الأرثوذكسي التابعين للبلاط ،الذين ألقوا في قلوبهم بذور السخط والحنق الذيْن لم ينسهما أعقابهم حتى اليوم )(70/69)
كما أنَّ السلطان محمد الفاتح أعطى ـ حين دخل القسطنطينية فاتحاً ـ لبطريرك المدينة السلطان الداخلي على رعيته من النصارى ،بحيث لا تتدخل الدولة في عقائدهم ولا عباداتهم.
كما يروي لنا التاريخ أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية طلب إلى أمير التتار إطلاق سراح الأسرى ،فأجابه الأمير التتاري إلى إطلاق سراح أسرى المسلمين وحدهم دون المسيحيين واليهود فأبى شيخ الإسلام رحمه الله ذلك وقال : " لا بد من إطلاق سراح الذميين من أهل الكتاب ، فإنَّهم أهل ذمتنا ،لهم ذمة الله ورسوله ،فأطلق الأمير سراحهم جميعاً .
وأيضاً اعتراف الحاخام اليهودي " ديفيد وايس " الناطق الرسمي لحركة "ناطوري كارتا "إنَّ الدول الإسلامية أحسنت استضافة اليهود،وأود أن أشير هنا إلى أنَّ اليهود وصلوا إلى منصب الوزارة في الدولة المرينية في المغرب ،فاليهود في المغرب كان لهم دور كبير في الحياة السياسية في الدولة المرينية ،فكان خليفة بن ميمون ابن زمامة حاجباً للسلطان في عهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق ،وتولت أسرة بني وقَّاصة اليهودية قهرمة القصر السلطاني في عهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق ،وفي عهد آخر سلاطين بني مرين ،السلطان عبد الحق بن أبي سعيد المريني تولى منصب الوزارة اثنان من اليهود هما هارون وشاويل ،وقد أدى تحكم اليهود في الدولة عن طريق هذين الوزيرين إلى مقتل السلطان عبد الحق المريني وسقوط الدولة المرينية،وهذا يبن مدى غدر اليهود بمن يحسن إليهم .
وتصريح البابا "شنودة" أنَّه يفضل العيش في كنف الحكومة المسلمة في مصر على أن يكون تحت رعاية دولة مسيحية في مصر ،وذلك لأنَّ هناك مخطط لتجزئة مصر وتفتيتها إلى دولة نوبية في الجنوب ،ودولة مسيحية في صعيد مصر ،ودولة إسلامية في شمال الدلتا ،وهو مخطط كبير لتفتيت العالم الإسلامي ،وقد وضع هذا المخطط المستشرق اليهودي البريطاني الأمريكي " برنارد لويس "
فما الذي يضير من تطبيق الحكم الإسلامي الذي يحفظ حقوق كافة البشر؟
هذا النظام الذي وضعه الخالق ،وهو أعلم بما يصلح لهم ،فهو أدرى بشؤون خلقه،وبما يصلح لهم،يقول تعالى : (( إنَّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)) (النساء : 105)
الخاتمة :
وكما تروْن فنحن أمة تدعو إلى الخير والبر والإحسان والتسامح ،وديننا دين سماوي حضاري يدعو إلى الحرية والعدل والمساواة ،وينبذ التمييز العنصري ،ويحترم الحرية الدينية للآخرين ،ونحن أمة تحترم الأديان السماوية وأنبياءها وكتبها ،ولم ينل مسلم من أي نبي من الأنبياء فأيماننا لا يكمل إلاَّ بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ، في حين نجد كثيراً من المستشرقين يهود ومسيحيين قد نالوا من نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ووصفوه بما لا يليق ،وقالوا عنه أنَّه كاهن وساحر،ومجنون ،وقاطع طريق ،وغير ذلك من الصفات ، بينما نحن ننزه أنبياء الله ورسله بمن فيهم النبي موسى عليه السلام ،والنبي عيسى عليه السلام مما وصفهم به اليهود في التوراة المحرفة بما لا يليق بهم .
ونحن أمة ليست لها مطامع في أراض الغير ،ولا في خيراتهم ،وتريد أن تعيش حرة كريمة وذات سيادة على أراضيها ،ولا سلطان للغير عليها ،وتريد أن تبني نفسها وتنمي مجتمعها وتسهم في بناء الحضارة الإنسانية على قيم سامية تسمو بالنفس الإنسانية ،وترتقي بها إلى مراتب عليا من السلوك الإنساني القائم على احترام آدمية الإنسان وإنسانيته وحريته وكافة حقوقه مع مراعاة الجانب الروحي في النفس الإنسانية ،وتحقيق أمانة الاستخلاف في عمارة الأرض ،والغاية العليا من خلق الله للإنسان وهو عبادته ،وتريد أن تقيم علاقاتها بالأمم الأخرى على الأسس القويمة التي وضعها الإسلام ،ولكن لازال هناك من تلك الأمم الأخرى من يطمع في أراضينا وما فيها من خيرات ،ويريد أن يبسط نفوذه علينا تارة بالقوة العسكرية ،وتارة أخرى بالتهديد ،وبالضغوط الدولية ،وتارة ثالثة بإثارة الخلافات فيما بيننا اتباعاً لسياسة فرِّق تسد ،ونحن هنا نستساءل :(70/70)
لماذا نُحارب ؟ لماذا نُقتل ؟ لماذا أصبح قانون الغاب هو السائد في العالم في القرن الحادي والعشرين ،وكأنَّنا في بدء الخليقة ؟ لماذا أصبح القوي يأكل الضعيف ويذله ويمتهنه ،ويفرض هيمنته عليه بالقوة العسكرية أو بالتهديد بها ؟ لماذا أصبح المجتمع الدولي ينصر الظالم على المظلوم ؟ ينصر الغاصب المحتل على المسلوب أرضه وكرامته ؟ لماذا أصبح الضعيف محروماً من حق الدفاع عن نفسه ،عن بلده عن أرضه ووطنه ،وإن فعل بات مجرماً إرهابياً يُقتل أو يُحاكم ويُسجن أو يُبعد ويُطرد من بلده ؟ لماذا كل هذه الحرب على الإسلام ،وهو دين سماوي منزل من رب الكون وخالقه ،وهو دين شامل وكامل يهدف خير البشرية ،وأنزل للناس كافة رحمة للعالمين،وفيه حل لكل ما تعانيه البشرية من تيه وشتات وخوف وقلق وطمع وجشع،وقتل وسفك دماء،واغتصاب للأعراض ،وانتهاك للحرمات،وتدمير للعمران،وتشريد للنساء والشيوخ والأطفال ،ومن سيطرة المادة على كل ألوان الحياة ،والمبدأ الميكافلي " الغاية تبرر الوسيلة"؟
لماذا أصبح الإنسان المسلم منا الملتزم بالإسلام خلقاً وعملاً يعد إرهابيا ؟ولكي ينفي عن نفسه تهمة الإرهاب يعلن أنه ليبرالي ،أو علماني أو شيوعي ..الخ،المهم ألاَّ يكون إسلامياً؟
لماذا باتت كل الأبواب في عالمنا الإسلامي تفتح للعلمانيين وتغلق أمام الإسلاميين؟
وأخيراً لمَ لا يدعنا الآخر نعيش في أمن وأمان واطمئنان نعبد الله الواحد الأحد ونحكم في بلادنا بما أنزل الله و نعمر هذا الكون ،ونبني ونشيد لنؤدي رسالتنا في هذه الحياة ؟
ليتكم تجيبون عن هذه التساؤلات
==============(70/71)
(70/72)
(الفوضى الخلاّقة) في نُسختها الطائفيّة!
د.مسفر بن علي القحطاني * 22/9/1427
15/10/2006
برز مصطلح الفوضى الخلاّقة في الآونة الأخيرة على ساحة التحليلات الإستراتيجية للأزمة الراهنة في لبنان وفلسطين وحتى العراق، وهذا المصطلح الفلسفي ليس وليد الحالة السياسية المعاصرة، بل قديم المرجعية والتأصيل، فقد جعله (أفلاطون) من أنظمة الحكم الفاسدة للمدينة الفاضلة؛ إذ إن الحرية المطلقة هي "الفوضى" ذاتها، والفوضى عند اليونان هي "العماء" الشامل. ولذلك سمّى (أفلاطون) المدينة التي تقوم على "الحرية" بهذا المعنى بـ"حكم الدهماء". وهو النوع نفسه الذي حذّر منه الفقيه المالكي (ابن رشد الحفيد) منبّهاً إلى أن الاجتماع في مثل هذه المدن (مدينة الحرية) إنما هو اجتماع بالعَرَض؛ لأن سكان هذه المدينة لم يكونوا ليقصدوا باجتماعهم غرضاً واحداً يجمعهم، وإنما بحسب اختلاف المشارب والأهواء توطنوا تحت ذريعة الحرية لكل فرد؛ فهو حكم الدهماء الفاشل في نواميس المجتمعات.
هذه المصطلح الفلسفي يعود مرة أخرى إلى الساحة السياسية، وضمن تقويم الوضع الأمثل لدول المنطقة العربية، ويحمل في طياته أجندة مجهولة ومستقبلاً مخيفاً؛ لكنه الأكثر تفاؤلاً وقبولاً لدى صنّاع القرار العالمي، فوزيرة الخارجية الأمريكية (كوندوليزا رايس) قبل زيارتها للمنطقة العربية في أواخر يوليو 2006م أدلت بحديث إلى صحيفة (الواشنطن بوست)، و أبدت تأييدها الكامل للتحوّل الديموقراطي في المنطقة العربية، حتى وإن أدّى ذلك إلى تغيير واستبدال الأنظمة الحليفة والموالية! ووجهت انتقادات عنيفة إلى سياسة القبول بالأمر الواقع بدعوى الحفاظ على الاستقرار. وعندما قيل لها إن الأوضاع التي تسيطر على المنطقة العربية لا تترك مجالاً آخر سوى للاختيار بين الفوضى أو صعود الإسلاميين للسلطة، قالت (رايس): إن الوضع الحالي "ليس مستقراً"، وإن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديموقراطي في البداية هي من نوع "الفوضى الخلاقة" التي ربما تنتج في النهاية - حسب الزعم الأمريكي- وضعاً أفضل مما تعيشه المنطقة حالياً.(70/73)
لقد حوّل المحافظون الجدد في أمريكا مبادئ الثورة الفرنسية القائمة على (الحرية والعدالة والمساواة) إلى حرية فوضوية تختفي منها العدالة، وتتفرد فيها المصلحة الأمريكية!، والرئيس الأمريكي (جورج بوش) كعادته لا يستطيع أن يخفي ميوله الأيديولوجية وطموحه السياسي، فها هو يؤكد للعالم إستراتيجيته نحو "الفوضى الخلاقة" في أحد مؤتمراته الصحفية، والتي نشرتها (النيويورك تايمز) بقوله:"إذا أردتم الاطلاع على مفهومي للسياسة الخارجية فاقرؤوا كتاب (ناتان شارنسكي)، فإنه سيساعدكم على فهم الكثير من القرارات التي اتُخذت والتي قد تُتخذ". و(ناتان شارانسكي) يهودي مهاجر من روسيا إلى إسرائيل أصبح وزيراً لفترة واحدة في عهد (شارون)، وقد قابله الرئيس الأمريكي (جورج بوش) في مكتبه بالبيت الأبيض، وأبدى بالغ إعجابه بكتاب (قضية الديمقراطية)، والتي شرح فيه (شارنسكي) نظرية "الفوضى الخلاقة" التي يدعو فيها أمريكا إلى استخدام الطائفية كوسيلة للقضاء على محاور الشر وتحقيق الديمقراطية في المنطقة العربية. و (شارانسكي) له رؤى صداميّة وعنصرية؛ فهو يعد الإسلام حركة إرهابية لا تهدد إسرائيل فقط وإنما تهدّد العالم الغربي بأكمله، ويرى أن استئصال الإرهاب لا يتم باستخدام القوة وتجفيف المنابع فقط، وإنما بمعالجة الأسباب العميقة للإرهاب التي تنبع من سياسات الأنظمة العربية الاستبدادية والفاسدة وثقافة الكراهية التي تنشرها، ويتفق (شارانسكي) بهذا الطرح مع الأطروحة الشهيرة لـ(هانتنغتون) التي تنص على أن الإسلام عدو حضاري للغرب. ويدعّم سياسة المحافظين الجدد في إستراتيجيتهم نحو "الفوضى الخلاقة" (اليوت كوهين) في كتابه (القيادة العليا، الجيش ورجال الدولة والزعامة في زمن الحرب)، ويرى كوهين أن الحملة على الإرهاب هي الحرب العالمية الرابعة على أساس أن الحرب الباردة هي الثالثة، ويؤكد بأن على الولايات المتحدة أن تنتصر في الحرب على الإسلام الأصولي من خلال فوضى الطائفية و القضاء على الراديكالية. والإستراتيجية الأمريكية ليست بالجديدة على هذه السياسة، فقد انتهجت "الفوضى الخلاقة" في أكثر من مكان في العالم ولمرات عديدة؛ ففوضى الاحتواء المزدوج في التعامل مع الثورة الخمينية أثمر عن قيام الحرب العراقية الإيرانية! وعقب انهيار جدار برلين وسقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي اعتمدت الولايات المتحدة إستراتيجية الفوضى البنّاءة في التعامل مع الجمهوريات المستقلة، وتُعدّ رومانيا نموذجاً مثالياً لتفجير الفوضى في بلدان أخرى؟!، وبالرجوع إلى المظاهرات التي عمت جورجيا وأوكرانيا كان العنصر الحاسم في نجاح المظاهرات هو التهديد بالقوة من قبل الولايات المتحدة، وذلك بعد تحوّل السياسة الخارجية الأميركية من الاحتواء المزدوج أيام الحرب الباردة إلى إستراتيجية أمركة العالم بالقوة، والعمل على تغيير الأنظمة والجغرافيا عن طريق "الفوضى الخلاقة"، ولا مانع من اعتماد الاحتلال المباشر إذا لزم الأمر في ظل غياب إستراتيجيات الردع للإرهاب أو الفاشية الإسلامية على حدّ زعم الرئيس (بوش).
وخلال زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية (كوندوليزا رايس) لمصر قبل عدة أشهر دعت إلى تغييرات ديموقراطية في الشرق الأوسط، وقالت في محاضرة ألقتها في الجامعة الأمريكية بالقاهرة: "إن الولايات المتحدة سعت على مدى ستين عاماً إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة على حساب الديمقراطية، ولكنها ستتبنى الآن نهجاً يدعم "التطلعات الديموقراطية لكل الشعوب". وهذا المعنى مشكل من حيث تطبيقه على أرض الواقع ؛ لأن التطلعات الديمقراطية أصبحت رهان كل القوى الطائفية والسياسية في المنطقة، بمعنى أن دعم هذه التطلعات الديمقراطية سيعيد تشكيل المنطقة سياسياً وجغرافياً إلى (شرق أوسط جديد) بدأ التسويق له والتسابق الأعمى نحوه.
السؤال المهم الذي ينبغي أن يُطرح على القوى المؤثرة في المنطقة العربية: ما هو الدور الأمثل لمواجهة هذا التغيير الذي ينذر بـ(سايكس بيكو) جديدة قد تؤدي تلك الفوضى الديمقراطية إلى هيمنة قوى عظمى خارجية على سياسات واقتصاديات وثروات دول المنطقة؟!(70/74)
هذا السؤال أخشى أن يكون جوابه نعياً معجّلاً لواقعنا العربي، لكن الاحتياط له واجب في المرحلة الراهنة والقادمة. وفي ظل هذه الظروف العصيبة خرجت أصوات إصلاحية بدأت تعلو بعد مقاومة حزب الله للعدو الصهيوني، وتطالب بتغيير الحكومات العربية نظراً لموقفها الصامت من المحنة اللبنانية والفلسطينية، ولم يستبعد بعض المحللين السياسيين أن تعود الثورات والانقلابات إلى السطح من جديد! وأعتقد أن تلك المطالبات الإصلاحية الجذرية بلغتها القوية والحادّة قد لا تصب في مصلحة الوطن ولا مشاريع الإصلاح المنشود، فالتغيرات الراهنة لو حدثت في المنطقة فلن تخدم سوى مصلحة القوى الخارجية المستبدة، بل هي خطوة مقصودة لإثارة النعرات الطائفية والمطالبات الحقوقية ولن تجني تلك المطالبات سوى المزيد من الذل والضعف والتقسيم، والخيار الأولى والأحكم في هذه الفترة هو بالمحافظة على وحدة تلك الدول، وقطع الطريق على كل محاولات بث الفتنة الطائفية، وتأجيل الخلافات الداخلية، والنظر إلى مستقبل الأحداث بعين مخلصة متجردة من الحظوظ والمصالح الآنية، فتجربة دول الاتحاد السوفيتي السابقة وأوروبا الشرقية مازالت في ذاكرتنا لم تمح و مجريات الأحداث مدروسة ومخططه في غاية الدقة! فهل نعتبر ونعي قبل أن نؤكل كما أُكل الثور الأبيض و الأسود!!
* كاتب وأكاديمي سعودي
============(70/75)
(70/76)
صياغة القوة
د. عبد الكريم بكار 2/7/1427
27/07/2006
لاشك أن الوعي المسلم يمر بمرحلة عصيبة في هذه الأيام دون أن يرى سبيلاً عمليًا للخروج من الأزمة. في فلسطين شعب بأكمله يعاني من الجوع والذي والقهر والقتل اليومي وصعوبة الحركة وكسب الرزق.. ويتعرض لبنان للتدمير الشامل حيث يتم حرق كل شيء وتهجير الناس، وتعريضهم أيضًا للجوع في بلد تعوّد كثير من العرب أن يأكلوا من خضاره وفاكهته! هبَّ المسلمون كما يفعلون في كل مرة: مظاهرات في كل مكان، وهتافات واحتجاجات واتهامات، وفضائيات تعجّ بكلام المحللين السياسيين... والنتيجة: جمع شيء من المال لمواساة بعض المنكوبين. لكن اليهود حاصروا الشعبين، ومنعوا دخول أي شيء. وقد اجتمعت أموال جيدة لدى جامعة الدول العربية، وهي عاجزة عن إدخالها إلى المحتاجين إليها داخل فلسطين!! وضع صعْب للغاية، ومعظم الناس عاجزون عن فهمه واستيعابه، وعاجزون عن عمل شيء يشفي الصدور، ويخفف من الكروب. لعلي هنا أضع بعض العلامات في محيط هذه الحالة المأساوية، وذلك عبر النقاط الآتية:
1) هناك حقيقة قديمة وراسخة، نقول: حين يصطدم طرفان، فإن كل واحد منهما يستخدم أعظم ما لديه من قوة ونفوذ في سبيل تحقيق الغلبة، وفي ظل تحالف الغرب مع اليهود وسكوت قسم من العالم على ما يجري يجد القسم الثالث -وهم العرب والمسلمون- أنفسهم عاجزين عن عمل أي شيء. هذه الحقيقة يجب أن تكون واضحة تمام الوضوح، فالرادع الأخلاقي اليوم في أضعف حالاته، واليهود يخافون من أن يسجل أعداؤهم أي نصر حقيقي عليهم؛ لأن هذا يعني تصدع المجتمع اليهودي، وربما انهياره، لأن معظم أبناء ذلك المجتمع من جنسيات أخرى، وباستطاعتهم العودة إلى أوطانهم الأصلية في أي وقت، ولهذا فإن قادة اليهود في فلسطين يتبعون مع أعدائهم سياسة: "اسحق الذبابة بالمطرقة"، وهذا ما يفعلونه اليوم في فلسطين ولبنان.
2) الأزمات لا توجد مشكلات جديدة، بمقدار ما تعبِّر عن مشكلات قديمة، أي نتيجة مشكلات متراكمة، كما أنها تجلو للناظرين ما كان خافيًا عليهم من أمرهم، حين تأتي موجة شديدة من الحر، فإن بعض مرضى القلب يموتون؛ لأنهم لا يتحملون تلك الموجة، وليس لأنها أوجدت لديهم مشكلة جديدة، وهكذا نحن اليوم. حين نشرت بعض الصحف في الدنمارك وغيرها رسومًا تسيء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هبّ العالم الإسلامي عن بكرة أبيه، وأظهر من نبل المشاعر ومن الولاء شيئًا مشرفًا وباهرًا، وحدثت مقاطعة واسعة للدنمارك، والآن هدأت العاصفة -وهذا طبيعي- ولم يبق منها إلا الأعمال التي تم تأسيسها من أجل المستقبل أو من أجل مواجهة أزمة جديدة حين نتعرض لأزمة خطيرة نتساءل: أنحن فقراء أم أغنياء؟ أنحن مترابطون أم متفرقون؟ أنحن أقوياء أم ضعفاء؟ أنحن أعزة أم أذلة؟.... وتأتي أجوبة لا حصر لها، وكثير منها متناقض. والجواب هو: أننا فقراء وأغنياء في آن واحد، كما أننا أقوياء وضعفاء أيضًا... وهنا تخطر في بالي المقولة الذائعة في بعض الأوساط الشعبية، عن المزارع والفلاح، وحالهما في الفقر والغنى، يقول الناس: الفلاح يعيش فقيرًا، ويموت غنيًا. وهم يشيرون بذلك إلى أن الفلاح يمتلك أرضًا، قد تساوي الملايين، لكنه يعيش على الكفاف بسبب أن الأرض لا تعطي من الإنتاج ما يتناسب مع قيمتها المرتفعة. هل ذلك الفلاح فقير؟ نعم لأنه -حسب الظاهر- مرتبك في تدبير قوت يومه. هل هو غني؟ نعم لأنه يملك أرضًا تساوي الكثير. هل يصحّ إعطاؤه من الزكاة؟ قد يقول الفقيه: مادام لا يملك النصاب، فإنه يصح إعطاؤه منها. والأرض التي في حوزته هي بمثابة المصنع، أو عتاد المهنيين... هذا هو وضعنا تمامًا، وهذا هو وضع الكثير من دول العالم النامي. وعلى مدار التاريخ كانت الدول التي تعاني من التخلف تملك الإمكانات والثروات والمواد الخام، لكنها تجد نفسها عاجزة عن استغلالها على النحو الأمثل.
3) هل نستطيع بعد هذا أن نقول: إن المشكلة التي تعاني منها أمة الإسلام لا تتمثل في أنها لا تملك المعطيات، بل تتمثل في أنها لا تملك إدارة المعطيات التي في حوزتها؟ وهل نستطيع القول: إن زماننا لا يعبأ كثيرًا بالقوة الكامنة، ولا يُعدّ ذلك شيئًا خطيرًا، وإنما يهتم بما تملكه الأمم من أدوات وأساليب تستخدمها في إخراج تلك القوة من مكمنها لتصبح شيئًا ملموسًا، وذلك لأن التقدم الحضاري يتمثل أساسًا ليس في إيجاد ما ليس موجودًا، وإنما في الاستفادة من الموجود عن طريق التصنيع والتطوير والتوجيه والتركيز... وإن قارة إفريقية تقدم ألف دليل على صحة ما نقول، كما تقدم دول محدودة الثروات والإمكانات مثل اليابان وسنغافورة واليهود في فلسطين ألفًا آخر من الأدلة على ذلك. إذن نحن في حاجة إلى أن نكفّ وقبل كل شيء عند التحدث عن الإمكانات الهائلة التي لا نعرف كيف نستفيد منها، ونتّجه عوضًا عن ذلك إلى الحديث عن كيفية الاستفادة من تلك الإمكانات في خدمة وجودنا وقضايانا وحل مشكلاتنا، وإذا لم نفعل ذلك، نستشعر بالمزيد من خيبة الأمل والمزيد من مرارة الذل والإنكسار.(70/77)
شيء مهم أن نعتقد أنّ من سنن الله -تعالى- في الخلق أنّ هناك أشياء لا تُحصى تحتاج إلى صياغة، وإلى إعادة صياغة، وأشياء كثيرة أيضًا لا تُحصى تحتاج إلى تأهيل وإلى إعادة تأهيل. كل مادة خام تتحدّانا كي نخرجها في شكل ينتفع به الناس. القطن يتحدّى من يحوِّله إلى خيوط، فإذا صار خيوطًا، أخذت الخيوط تتحدّى من يحوِّلها إلى قماش، فإذا قبلنا التحدّي، ونسجناها، وصارت قماشًا، صار القماش يتحدّى الخياطين ليحوّلوه إلى ثياب تدفع عنا الحر والبرد، وتحسِّن مظهرنا، كما تستر عوراتنا، هكذا كلما نجحنا في تحدٍّ، وجدنا تحدّيًا آخر ينتظرنا، ومع كل نجاح نرتقي، ونتقدم، ونتخلص من عبء المواد الخام التي تشكّل مصدر استفزاز لأولي الألباب. هل تريد أن تعرف الفارق بين الأمم القوية والأمم الضعيفة؟ إذا كنت تريد ذلك، فانظر إلى ما يصدّرونه ويستوردونه: الأمم القوية تستورد المواد الخام، وتصنّعها، ثم تصدّرها في شكل سلع ومنتجات باهظة الثمن، يشترون المواد الخام بالقنطار، ويبيعونها في شكل حبوب ومعلبات صغيرة وقطع دقيقة ومتقنة... أما الدول الضعيفة والآخذة في النمو، فإنها على العكس من ذلك؛ إنها تصدّر المواد الخام، وتستورد السلع والآلات والتجهيزات... أي أنها تستورد ما صدَّرته بسبب عجزها عن تصنيعه.
الفرد المسلم هو القوة الهائلة الأساسية التي تحتاج إلى إعادة صياغة، أي يحتاج إلى تحويل من قوة كامنة إلى قوة ملموسة وفاعلة ومؤثرة، إعادة صياغة الفرد تستلزم الكثير من العمل، لكن يمكن أن نذكر بعض الملامح الأساسية في هذا الشأن:
1- الإنسان الحر هو الإنسان القوي؛ لأن الحرية تسمح له بأن يبرع وينطلق ويتعلم، ويعبر، ويتحمل المسؤولية، ومع أن معظم المسلمين في الأرض يعانون من قدر من القهر والإذلال والكبت -على درجات مختلفة- إلا أن كلمة (الحرية) تخيفنا أكثر مما تخيفنا كلمات (الظلم) و(العسف) و (الإكراه) و(الاستبداد) لماذا هذه الوضعية؟ لا أريد أن أدخل في متاهات صغيرة وفي تحليلات جزئية؛ لكن ربما كان ذلك؛ لأن كثيرين من أهل الغيرة يخشون من أن تؤدي الحرية إلى الفوضى وانتشار الإلحاد والفساد والعري وكل أشكال الانحلال. وهذا اعتراف صريح أو اهتمام بأن البيوت والمدارس لا تربي، وبأن الضمير والوازع الشخصي لدى الشباب، هو ما بين ضعيف ومعدوم، وأن ما نراه من الانضباط في الشوارع والأماكن العامة لا يعدو أن يكون الوجه الجيد من العملية، أما الوجه الرديء، فهو قابع في البيوت، حيث لا خوف من نقد الناس ولا من عقاب الله -تعالى- وإذا كان هذا صحيحًا، فهذا يعني أننا نعاني من نوع من السرطان القاتل الذي يدفع بصاحبه إلى مرحلة (اللاعودة) من غير أن يشعر بأي ألم!! لا أحد يسعد بأن يفهم الناس الحرية على أنها الفوضى، أو الخروج على الأخلاق والقيم والفضائل والثوابت، إنما المراد بأن يكون الأصل في سلوكات الناس وتصرّفاتهم وعلاقاتهم وتعبيراتهم ومواقفهم واختياراتهم هو الجواز، كما قالت القاعدة الفقهية الشهيرة: "الأصل في الأشياء الإباحة"، فإذا منع مانع شرعي واضح ومتفق عليه، أو كان تصرف الناس يضر بمصلحة وطنية عليا وواضحة، فإن على الدولة والمجتمع أن يتعاونا على منع ذلك التصرف. لا شك أن اعتماد هذا التوجُّه يستلزم الكثير من التطبيقات الجديدة والتغييرات المهمة، ولا شك أن بعض الناس سوف يستغلون مناخ الحرية استغلالاً سيئاً، لكن الأضرار ستظل أقل بكثير من شعور الناس بالاختناق وبالقيود الثقيلة، التي تجرّدهم من روح المبادرة وتحمّل المسؤولية، وتضعف لديهم الرقابة الشخصية، وتحوّلهم إلى أناس خائفين حذرين، يتجرّعون الهموم، كما يصبحون عبارة عن كائنات استهلاكية بامتياز! والنتيجة طبعاً مجتمعات ضعيفة وأمة مستخذية! إنك فعلاً لا تستطيع أن تبني مجتمعاً أقوى من مجموع أفراده، تماماً كما أنك لا تستطيع أن تبني من لبنات هشّة جداراً صلباً. لنعد إلى التربية في البيوت من أجل تأسيس شخصية (الطفل الحر) من خلال اعتماد أسلوب الرفق واللطف والحوار في التربية، ومن خلال معاملة الطفل على أنه كائن محترم، والعمل على أن يكون رجلاً كريماً ومسؤولاً وعزيزاً وصادقاً وأبياً.. في المستقبل.
2- لا يمكن للفرد أن يكون قوياً أو بداية مشروع لأمة قوية وعزيزة إذا كان جاهلاً. نعم من لديه علم قد يكون قوياً، وقد يكون ضعيفاً، لكن الجاهل لا يكون إلا ضعيفاً. نحن في هذه المسألة نعاني من مشكلة ذات رؤوس ثلاثة هي:
أ- إعراض معظم الناشئة عن القراءة، ونفورهم من الكتاب، وانصرافهم عن كل ما يشكّل اهتماماً معرفياً.
ب- ضعف أكثر المؤسسات التعليمية في كل المراحل؛ ولا سيما الجامعية.
ج- عدم وجود التنوّع الكافي في المعاهد والكليات العليا بما يلي حاجات الشباب الراغب في إكمال دراسته، وبما يتلاءم مع رغباتهم وظروفهم.(70/78)
وهذه المشكلة جعلت الارتقاء بنوعية الوظائف والمهن التي يشغلها الجيل الجديد أمراً صعباً، مع أن من الصعب اليوم الارتقاء بأمة من الأمم من غير جعل نسبة عالية من الوظائف على صلة بالمعارف المتقدمة والتقنية الدقيقة. الفرد القوي فرد حرّ ملتزم ومتعلم ومتدرب، وإذا استطعنا أن نحدث اختراقاً على هذين الصعيدين، فإن لنا أن نتفاءل بولادة أمة قوية وعزيزة.
المواهب الفطرية والقدرات الخلْقية التي زوَّد بها البارئ -عز وجل- بني البشر تكاد تكون ثابتة على مدى التاريخ. وقد ظل الناس في كل زمان ومكان يحاولون الاستفادة من تلك القدرات وتوظيفها وصقلها... لكن يبدو أن محاولاتهم كانت دائمًا تحقق نوعًا من النجاح النسبي والمحدود. وربما أمكننا القول: إن الناس كانوا يستفيدون من قدراتهم الكامنة على مقدار حاجتهم وعلى مقدار تطور وعيهم ومعارفهم؛ ولذا فإن استغلالنا اليوم لطاقاتنا يُعدّ -في الجملة وعلى نحو عام- ممتازًا إذا ما قسناه إلى ما كان السابقون يفعلونه، وهذا لا يحتاج إلى برهان. السؤال الذي أطرحه، وأحاول الإجابة عنه هو:
ما أكثر الأشياء تأثيرًا في تحويل القوى والقدرات الكامنة لتصبح مكونات قوية وظاهرة في أسلوب حياة جديدة؟
الجواب فيما أظن يكمن في شيئين: المكان الذي يعيش فيه الإنسان، والمهنة أو الوظيفة التي يكسب منها رزقه. وقبل أن أشرع في شرح هذين الأمرين أود أن أقول: إننا هنا لا نتكلم عن حالات فردية أو شاذة، وإنما نتكلم عن ظواهر ومعطيات ووضعيات عامة فقد نجد في البيئة المثقفة والراقية عناصر في منتهى السوء، كما أننا قد نجد في أماكن العمل المعقدة أشخاصًا غير مؤهلين، أو يفكرون بطريقة رديئة، أو يعملون على نحو تخريبي...
مكان العيش:
نعني بمكان العيش هنا تلك السلسلة من الدوائر التي ينفتح بعضها على بعض، وتؤثر على نحو ما في صياغة روح الإنسان ومشاعره وأفكاره وأخلاقه وعاداته... والتي تتمثل في الأسرة والحي والقرية والمدينة والدولة والإقليم. إن أضيق الدوائر هي الأقوى تأثيرًا، وهي الأسرة ثم الأوسع، فالأوسع. لكن ينبغي أن يُقال أيضًا: إن المرء يتأثر في بعض جوانب حياته بالمدرسة والجامعة التي يدرس فيها، وذلك على مستوى طرق التفكير وفهم الحياة والتطلع إلى المستقبل. إن للأسرة الدور الأكبر في رسم الخطوط العميقة في شخصية الطفل، لكن قيامها بذلك الدور على نحو يجعل منه شخصًا متميزًا، يحتاج منها إلى أن توفر جوًا تربويًا يختلف كثيرًا عن الأجواء السائدة لدى معظم الأسر الإسلامية اليوم. وأودّ في هذا السياق أن أبدي الملحوظات الآتية:
1- إن أول ما تحتاجه الأسرة المسلمة من أجل تنشئة جيل جديد هو الاعتقاد بأن التربية الناجحة لا تتحقق من غير اكتساب معرفة تربوية جيدة، فقد أُصبْنا في الأزمنة الغابرة بأفدح الأضرار حين اعتقدنا أن تربية الإنسان تتم على نحو تلقائي وفطري كما تتم تربية الحيوان في البراري، ولذلك فإن معظم الآباء والأمهات يبذلون الكثير من المال والجهد من أجل تهيئة أنفسهم لاستقبال المواليد الجدد، ويملك الكثيرون منهم العزيمة لإنجاب عشرة من الولد دون أن يخطر في بالهم شراء كتاب في التربية، أو سماع محاضرة أو شريط (كاسيت)، أو سؤال خبير من أجل معرفة الطرق والأساليب التربوية الصحيحة، ومعرفة نوعية القيم والمفاهيم التي ينبغي زرعها في نفوس الأطفال وعقولهم! لهذا فإن نشر الثقافة التربوية الجيدة يشكل أولوية كبرى على صعيد صياغة قوة الأمة.(70/79)
2- ينظر كثيرون منا إلى التربية على أنها عملية تعليمية، فهم يعتقدون أنهم إذا وضّحوا للطفل الخطأ من الصواب، فإن سلوكه سوف يتغير؛ لأن مشكلته كانت الجهل بذلك، وهذا غير صحيح؛ فالتربية في جوهرها عبارة عن تفاعل الصغار مع المعطيات الراسخة في بيئتهم، وليست عملية تلقين يقوم بها الكبار، أو عملية استفادة معرفية ينجزها الصغار. الأطفال يتفاعلون مع اتجاهاتنا ومشاعرنا وسلوكاتنا، ومع أسلوبنا في الحياة. ولعلي أقرّب المسألة عن طريق هذا المثال: لو كان أمامي نبتتان محتاجتان إلى الماء، وقمْت بسقي إحداهما دون أن أتكلم، أما الثانية فناشدتها أن ترتوي، وأن تكبر وتنمو، وحدثتها عن فوائد الماء وضرورة الانتعاش... ما النتيجة المتوقعة لذلك؟ النتيجة معروفة، وهي نمو الأولى وذبول الثانية. وذلك لأن الأشجار لا تتفاعل مع النصائح كيلا تيبس وتموت، وإنما تتفاعل مع الماء العذب. هكذا الأطفال يحتاجون إلى بيئة يتشربون مفاهيمها وقيمها وعاداتها الكريمة والعظيمة، ولا يغني عنها فصاحة الفصحاء ولا علم العلماء. ماذا يعني هذا الكلام؟ إنه لا يعني سوى شيء واحد هو: أن التربية الجيدة تحتاج إلى بيئة جيدة، والبيئة الجيدة تتطلب مربين جيدين. وأعتقد أن علينا إيقاف التداعيات والإحالات المترتبة على سوء أوضاعنا السلوكية عن طريق عقد العزم على شيء جوهري وعظيم، هو أن نجتهد ونحن نربي أبناءنا في تهذيب أنفسنا وإصلاح أوضاعنا الأسرية. إن الذي نحتاجه ليس الالتزام بآداب الشريعة الغراء والوقوف عند حدود الله -تعالى- فحسب، وإنما توفير البيئة الأسرية المدرسية التي تساعد الصغار على اكتشاف أنفسهم واستثمار نقاط التفوق لديهم،كما تولّد في نفوسهم روح الأمل والمبادرة وخُلُق التضحية والعطاء والمثابرة.
إن الطريق إلى إخراج الأمة من حالة (الوهن) التي أشار إليها حديث (القصعة) صار واضحًا، لكن نحتاج من أجل المسير فيه إلى الإخلاص والصدق والعزيمة، وإلى شيء من المعرفة بمتطلبات العيش في زمان كزماننا.
المكان الذي يعيش فيه الإنسان هو أسرته أولاً، والمدرسة والجامعة التي يدرس فيها ثانيًا؛ إذ إنه يقضي في المؤسسات التعليمية جزءًا مهمًا من حياته، وقد كنت أشرت في المقال السابق إلى أهمية الأسرة في صياغة الإنسان، وأتحدث اليوم -بحول الله- عن المؤسسة التعليمية على نحو موجز عبر النقاط الآتية:
1- من المهم ألاّ نفصل بين العمل التربوي الذي تقوم به الأسر في البيوت وبين العمل التعليمي والتربوي الذي يقوم به المعلمون في المدارس، مادام الجميع يعمل على إيصال رسالة واحدة، ويستهدف صياغة جيل جديد وفق مواصفات موحدة. إن مدارسنا لن تعمل على نحو جيد إذا لم تتلق الدعم من الأسر، من خلال سلوكها التربوي. وفي هذا السياق أود أن أشير إلى أن القضاء على الازدواجية في شخصيات الناشئة، يتطلب العمل الجاد والمستمر على صعيد تكوين (المجتمع العلمي). المجتمع العلمي ليس هو المجتمع الذي يبني المدارس والجامعات؛ إذ إن كل المجتمعات اليوم تفعل ذلك، إنما المجتمع العلمي هو الذي يحاول جعل سلوكاته في حركته اليومية قريبة مما يلقنه لصغاره في المدارس، فإذا كان يعلِّمهم الحرص على الصدق والعدل والنظام والنظافة والجدية... فإنه يحاول من خلال النظم والقوانين التي يسنّها، ومن خلال العادات والتقاليد التي يتمسك بها- يحاول تمثّل تلك القيم وتجسيدها في سلوكاته وعلاقاته. كما أن الناس في المجتمع العلمي يتجاوبون مع ما يلقّنونه لأطفالهم في المدارس فيما يتعلق بالرذائل والمعاصي والسلبيات، حيث الحرص على تجنب الكذب والظلم والفوضى والكسل والتسويف وخلف الوعد... وأعتقد أن هذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه مجتمعاتنا اليوم.(70/80)
2- يتحدث المصلحون ومفكرو النهضة اليوم عما يمكن أن نسميه (المجال القائد) أي المجال الأكثر جدارة بالتركيز وباستثمار الإمكانات المتاحة فيه بسبب محوريته، وقدرته على قيادة باقي المجالات على طريق التقدم والازدهار، ويرى كثير من الباحثين في المجال الحضاري أن قطاع (التعليم) بكل مراحله هو أولى القطاعات بأن يكون نقطة الانطلاق، ومحل التركيز والاهتمام. وهذه الرؤية صحيحة؛ لأن هذا الكمّ الضخم من المعرفة المنظمة قد أتاح للتعليم مكانة فريدة على صعيد التغيير والإصلاح، بل إن كل مجالات الحياة من السياسة والاقتصاد إلى الصناعة والاختراع، إلى العلاقات الدولية... إن كل هذه المجالات لا يمكن اليوم إدخال تحسينات مهمة عليها من غير أشخاص متعلمين تعليمًا ممتازًا، يقومون بتحديد نظمها، وبعث الروح فيها، قد ثبت اليوم بما لا يدع مجالاً للشك أن التقدم المادي بكل أشكاله سيقف في نهاية المطاف عند حدود لا يتعداها، ثم يصير إلى التراجع، تمامًا، كما هو شأن أجسامنا. أما التقدم العقلي والروحي والفكري والخلقي، فلا حدود له يتوقف عندها، وليس هناك قيود تحدّد إيقاعه، وهذا ما ينبغي أن يعمل عليه التعليم في مراحله المختلفة. إن هناك من الدراسات ما يشير إلى أن البشرية لم تستخدم من طاقاتها الذهنية التي زوّدها الخالق -جل وعز- بها سوى 1% ! ولا شك أن بعض الشعوب لم تستخدم من تلك الطاقات سوى واحد في الألف أو واحد في العشرة آلاف!
3- لدينا إجماع بأننا لا نعلِّم بالطريقة التي ينبغي أن نعلم بها، وأسباب ذلك متنوعة تنوعًا كبيرًا، ولا أريد الخوض في هذا الأمر الآن، لكن أود أن نركِّز على بعض الإجراءات الأساسية والكبرى التي تساعد على تطوير المناخ العام للتعليم.
من هذه الإجراءات تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في التعليم، وتقديم الإغراءات له، مثل تقديم قطع كبيرة من الأرض من أجل تشييد المدارس والجامعات -مجانًا، ومثل تقديم قروض لا ربوية، وتقديم المشورة الفنية... لكن لابد مع هذا من أن تقوم الحكومات والجهات المانحة من وضع معايير صارمة وواضحة للجودة، مع ممارسة الرقابة المستمرة، وإلاّ تحوّلت هذه المهنة الإنسانية العظيمة إلى مجال يجذب الجشعين والمزوِّرين وكل أشكال الطفيلبين، كما هو حاصل الآن في كثير من البلدان؛ مع الأسف الشديد! لماذا لا نقوم بوضع معايير ومواصفات لأداء الجامعات والثانويات والمعاهد في المرحلة الأولى، وعلى أساسها يعرف الناس أن الجامعة التي يدرس فيها أبناؤهم هي الثالثة على مستوى البلد أو الأولى أو العاشرة... وقُلْ مثل هذا في الثانويات والمعاهد. إن مثل هذا التصنيف سيوجد حافزًا قويًا للرقي، وسيحمي الأهالي والطلاب من ألوان الخداع التي تمارسها بعض المؤسسات التعليمية. كما نجحنا في تصنيف الفنادق والنوادي الرياضية، فإن من الممكن أن ننجح في هذا. وقد سبقتنا أمم كثيرة إلى هذا، وقد أثبت نجاعته، وإذا كنا سنكِل تطبيق مثل هذا العمل لبعض الموظفين الوالغين في الرشوة والمال الحرام، فلنستعِن ببعض المنظمات والهيئات والمؤسسات العالمية ذات الخبرة العريقة، ومع ما في هذا من اتهام الذات إلاّ أنه يظل أفضل من الانتقال من مستنقع إلى مستنقع آخر!
4- لا تصبح المؤسسات التعليمية مكانًا جيدًا لصياغة القوة وتحرير الطاقات الكامنة من غير تعزيز التدريب وورش العمل وتحسين مستوى التفاعل بين الأساتذة والطلاب. والحقيقة أن المؤسسات التعليمية التي تقدم تدريبًا تعليميًا لدينا ضئيلة جدًا، والتي تقدم تدريبًا ممتازًا شبه معدومة، وهذا يعود أحيانًا إلى التكاليف الباهظة للتدريب، وأحيانًا إلى الفهم الخاطئ للأسلوب الأنجع في التكوين العلمي. حين يشرح طبيب حالة أحد المرضى لخمسين من طلابه، فإن لك أن تقول: إن الذين يستفيدون من ذلك الشرح هم في حدود العشرة، أما الباقون، فهم أشبه بالمتفرجين! وحين يتخرج طالب الإعلام، وقد قرأ الكثير عن النظريات الإعلامية لكن لم يمارس الكتابة الصحفية، ولم يتدرب في أي مؤسسة إعلامية، فإنه يكون الشبه بمن قرأ عشرين كتابًا في الإعلام، وهو في بيت أهله، لكن له ميزة الشهادة التي يحملها، وإن كانت موشّاه بالكثير من اليأس والإحباط! إذا كنا غير قادرين على الإبداع، فسيكون من فضائلها الاعتقاد بأن لدى الآخرين شيئًا يمكن أن نتعلمه، فهل نفعل ذلك(70/81)
إذا تأملنا في واقعنا وجدنا أننا نملك عددًا جيدًا من الأشخاص المتفوقين على المستوى الفردي، وذلك لأن التربية في الأسر وفي المدارس تركز على النجاح الفردي، وليس على النجاح الجماعي، وهذا يشكل معضلة كبرى في زماننا؛ لأن النظم المعيشية التي ترسِّخها العولمة، تساعد على وجود الكثير من الضعفاء والكثير من المظلومين والمهمّشين، أي يكثر لدينا أولئك الذين لا تهتم بهم أي جهة حكومية، ولا يعرف الأفراد الغيورون كيف يساعدونهم، ومن هنا فإن صياغة القوة التي أفاء الله -تعالى- بها على هذه الأمة تتطلب ما يشبه الثورة الكبرى في إنشاء الأطر والجمعيات والمؤسسات والاتحادات والمنظمات الطوعية و(اللاربحية) التي تهتم بالارتقاء بمختلف جوانب الحياة، كما تهتم بمساعدة الناس الذين نسيهم الناس، وبالأمور التي لم يرتقِ وعي الأفراد إلى إدراكها والعمل من أجلها؛ ولعلي أشير في هذه المسألة المهمة إلى النقاط التالية:
1- من المهم أن ندرك أن الخلاص الفردي بين أمواج البشر الغارقين في الهموم والأزمات، وأن العيش في جزيرة معزولة في وسط محيط من البائسين والمحرومين -هو أمر غير ممكن في زماننا وفي كل زمان؛ فالهناء والازدهار والأمان والاستقرار إما أن تكون جماعية أو لا تكون، ولهذا نجد أن القرآن الكريم يشدّد حين يعرض لذكر النعيم الأخروي على معنى الحياة الجماعية في الجنة، على ما هو واضح ملموس، وإن الذين يحلمون بالتفرّد بالرخاء والسرور على حساب وجود أعداد كبيرة من الضعفاء والمجتهدين- هم من مرضى القلوب والنفوس، ومن ذوي الاضطراب العقلي؛ لأن ما يحلمون به غير ممكن التحقق، ومن المؤسف القول: إن الصيرورة إلى هذه الوضعية تكاد تكون حتمية بالنسبة إلى الجماهير العريضة، ما دامت الأطر التي تساعدهم على التخلص من التمحور حول الذات، غير موجودة، وفي بعض المجالات غير كافية. ومن المؤسف مرة أخرى أن الخوف لا يزال يسيطر على الكثيرين تجاه تنسيق أي جهد جماعي، في أي مجال وعلى أي صعيد، وكأن أبناء الأمة عبارة عن لصوص أو مجرمين، لا يكون اجتماعهم إلا شريرًا ومؤذيًا ومع أن بعض الناس هم كذلك إلاّ أن هؤلاء هم الشذوذ الذي يؤكد القاعدة، أما معظم المسلمين فإنهم توّاقون إلى بذل الجهد في سبيل الإصلاح وتحقيق النفع العام، ونشر الخير، وإعانة الضعفاء.
2- إننا في حاجة إلى ما يحمي أنفسنا من أنفسنا؛ إذ إن الفراغ الذي يشعر به كثير من الشباب، هو مصدر أساسي لحدوث الكثير من الانحرافات والجرائم، فالطاقة الغائضة التي لا تُوظّف بطريقة صحيحة تتحوّل إلى طاقة مدمرة لصاحبها، وتصبح سببًا أساسيًا للشعور بالتفاهة، كما أن العطالة والبطالة تولد الشعور باحتقار الذات.. ولهذا فإن حاجتنا إلى المؤسسات الخيرية لا تكمن في سد الخلات الاجتماعية فحسب، وإنما تكمن قبل ذلك في حماية المنتمين إليها من داء الأنانية، وفي مساعدتهم على تحقيق ذواتهم، وتلبية حاجاتهم إلى السمو الروحي والخلقي.
3- إن علينا أن نفرِّق بين ما يستحق لقب (مجتمع) وبين ما هو عبارة عن حشد أجساد، وُجد بسبب الضرورة من غير قيم ولا مبادئ ولا مقاصد... والمعوّل عليه في هذا التفريق هو حجم الشريحة التي تهتم بالشأن العام، وتقتطع من وقتها وجهدها ومالها ورفاهيتها جزءًا، تستخدمه في تخفيف لأواء العيش عن الآخرين، وفي الارتقاء بهم، ومن هنا ورد الكثير من النصوص المحفِّزة على فعل الخير وعلى البذل والعطاء والتضحية، وقد مثّلت ظاهرة (الوقف الإسلامي) على مدار التاريخ معيار تفاعل الأمة مع تلك النصوص، كما أن تفاعل أي مجتمع إسلامي مع الإرشاد الرباني لعمل الخير كان يشكل معيارًا لخيرية ذلك المجتمع واستقامته، ومن هنا فإنه ورد في بعض الآثار أنه ما من صحابي إلا وقد وقف شيئًا في سبيل الله: هذه امرأة وقفت شيئًا من حليها لتلبسه بعض المسلمات الفقيرات في المناسبات، وهذا رجل يقف ثوبًا، أو يقف فأسًا أو سُلمًا أو دارًا أو أرضًا.. إن مجتمع الصحابة -رضوان الله عليهم- هو أكرم مجتمع إسلامي، وهو في الوقت نفسه أكثر المجتمعات الإسلامية اهتمامًا بالصدقة والتطوّع والوقف ومساعدة الضعفاء وهو بالتالي أجدرها باسم (مجتمع).(70/82)
4- المرحلة التي تسبق ولادة المجتمع الجدير بلقب (إسلامي) هي المرحلة التي يولد فيها ذلك العدد الضخم من المؤسسات ذات النفع العام، وأهم تلك المؤسسات على الإطلاق تلك المؤسسات التي تساعد الإنسان المسلم على الارتقاء بروحه وفكره وثقافته، وهي مؤسسات محدودة جدًا في معظم المجتمعات الإسلامية، ونحن في الحقيقة نتشوف إلى رؤية مؤسسات قوية تهتم بإنعاش الجانب الروحي والخلقي في حياتنا؛ لأن هذا الجانب هو أكثر جوانب الحياة تضررًا من عمليات العولمة، كما أننا نطمح إلى رؤية المشروعات الوطنية العملاقة التي تحفز الناس على القراءة والبحث وتكوين النظرة العلمية للحياة والأحياء. ونحن كذلك في حاجة إلى إقامة المؤسسات التي تساعد الأسر الإسلامية على حل مشكلاتها التربوية المتصاعدة. ولست أريد أن أعدد هنا ما نحن في حاجة إليه من المنظمات والجمعيات الخيرية، لكن أود أن أؤكد على أن المسلمين في أمس الحاجة إلى أن يكونوا في وضعية، يكون انتماء الواحد منهم إلى ثلاث أو أربع مؤسسات ومنظمات خيرية هو القاعدة، وهو الأصل والمألوف، كما يكون وجود أفراد غير منتمين إلى أي منها هو الشيء الشاذ والغريب وغير المفهوم... وهذا يتطلب من الدول أن تحفز الناس، وتساعدهم على المساهمة في الارتقاء بالشأن العام، مع الاحتفاظ بحقها في الإشراف والرقابة والتنظيم، ولن ترى مثل هذه الأمنية النور إذا لم يكن لدينا عدد من الرواد الذين يعملون في الظروف الصعبة، ويفتحون الأبواب المغلقة، ويرسمون للناس ملامح الوضعية التي يجب أن يصيروا إليها، وأعتقد أن كثيرين منا يستطيعون أن يكونوا من أولئك الرهط العظيم والمنقِذ، لكن بشرط امتلاك شيء من التفتح الذهني والكفِّ عن احتقار الذات. والله الموفق.
================(70/83)
(70/84)
حرب على الإرهاب أم حرب على الإسلام ؟
فؤاد بن عبد العزيز الشلهوب
الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى يوم الدين .
منذ أن بعث اللهمحمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ودين الإسلام يتعرض للحرب بشتى صوره؛ الحرب العسكري في ميادين القتال كغزوة بدر وأحد والخندق. أو الحرب النفسي ممثلاً في الطعن في دين الإسلام، أو الطعن في صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم
وتوالت تلك الهجمات المقيتة على الإسلام وأهله، من عهد الخلفاء الراشدين، مروراً بالدولة الأموية، والعباسية، والعثمانية، حتى يومنا الحاضر؛ و لا ننسى تلك الهجمات الحاقدة على الدعوة المباركة: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والتي لا زلنا نسمع ( فحيحها) بين حين وآخر .
ولم يكن ثمة جرم ارتكبه المسلمون إلا أنهم سعوا بكل ما أوتوا من قوة لتعبيد الناس لربهم، ونشر دعوة التوحيد، ولعمر الله إن كان السعي في إدخال الناس في دين الله، وتحقيق التوحيد جرماً؛ فما أعظمه وما أحسنه من جرم! .
والعجب يأخذك أن ترى هذا الدين ينتشر بين الناس قاطبة عربهم وعجمهم ليس بقوة السلاح، ولا بكثرة المال، بل لأنه دين الله الذي ارتضاه للناس، قال تعالى : )هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(الصف 9 ). ولما شكا أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم في مكة تسلط المشركين عليهم قال لهم رسول ا صلى الله عليه وسلم : ( ... والله ليتمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه.. ) الحديث [ رواه البخاري : 6544] . فالله مظهر دينه ومعلي كلمته لا محالة، وهانحن نرى كثيراً من المبشرات تلوح في الأفق؛ لما نرى إقبال الناس في أوربا وفي أمريكا وفي روسيا في بلاد العالم أجمع على هذا الدين؛ هذا الدين الذي يلبي حاجات الناس، ويشبع أرواحهم بعد أن ذاقت من ويلات الراسمالية المادية، أو الاشتراكية الملحدة الهرمة، فتلفتوا يميناً وشمالاً فلم يروا كالإسلام ديناً في سماحته، وشموليته، وعظمته، وموازنته بين حاجات الروح وحاجات الجسد، فأقبلوا على الإسلام أفواجاً أفواجا. ولما رأى الغرب والشرق إقبال الناس على الدين عملوا جاهدين على طمس نور الإسلام والتشكيك فيه، والتأثير على أهله عن طريق الغزو الحربي تارة، وعن طريق الغزو الفكري-وهو أعظم- تارة أخرى. وحال المستشرقين قديماً وحديثاً ينبئك عن ذلك، والحملات التغريبية بأقلام عربية إسلامية لا تزال تنخر في جسد الأمة الإسلامية ليلاً ونهاراً .
ثم لما حدث ما حدث في يوم 11 سبتمبر وما تبعه من أحداث في بلدان كثيرة من أعمال تخريبية وتفجيرات طالت أنفساً معصومة، وأنفساً بريئة، وأطفالاً وشيوخاً ونساءً، ولم تسلم هذه البلاد المباركة من نار تلك الأعمال الإرهابية؛ بل اكتوت كثيراً من نارها، فيتمت الأطفال، ورملت النساء، وأتلفت الأموال بغير حق .
أقول: بعد تلك الأحداث وجد الحاقدون على الإسلام بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم، أن هذه الأحداث فرصة لا تعوض للنيل من الإسلام وأهله، فشنوا الحرب على الإسلام باسم الحرب على الإرهاب!، فطالبوا بحذف أو تحجيم المناهج الدينية لأنها تنمي في أنفس الناشئة حب القتل والتعطش إلى الدماء، ونادوا بحل جميع المؤسسات الخيرية لأنها تدعم الإرهاب، وصوتوا على إلغاء مدارس تحفيظ القرآن الكريم لأنها تفرخ الإرهاب. ولعمر الله إن المناهج الدينية التي يطالبون بحذفها أو تحجيمها، قد درسها العلماء والأمراء والعامة الخاصة، فلم تؤثر في معتقداتهم وأفكارهم، ولم تجعلهم يقتلون الناس بغير حق، فكيف تُلغى مناهج تربى عليها أمة من الناس لأجل حفنة قليلة من الناس!؟ نحن علمنا ديننا أن المسلم معصوم الدم والمال والعرض، وعلمنا أن المعاهد والمستأمن معصوم بنص كلام رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وتعلمنا أن في أعناقنا بيعة لولاة أمرنا لا ننزعها، وأن نطيعهم في غير معصية الله، وأن نقول الحق لا نخشى في الله لومة لائم . وعلمنا أن نحب في الله ونوالي في الله ونبغض في الله ونعادي في الله، ولا يعني الولاء والبراء أن نزهق الأنفس المعصومة أو المستأمنة أو المعاهدة . فما بال أقوام شرقوا وغصوا بإيماننا بديننا، ودفاعنا عن ثوابتنا ؟
وهنا يبرز سؤال : هل هذا مما يطالب أولئك القوم بإلغائه أو تحجيمه ؟! .
فكيف تحل المؤسسات الخيرية في الداخل والخارج وهي تقوم بإعانة المنكوبين، والفقراء، ونشر الإسلام في حين المؤسسات التنصيرية تعمل جاهدة لإخراج المسلمين من دينهم، ولو فرضنا حدوث تجاوزات من بعض تلك المؤسسات الخيرية، فالعدل هو محاسبة المخطئ، لا أن تحل المؤسسات الخيرية من أصلها.
أما حلقات تحفيظ القرآن ومدارس تحفيظ القرآن الكريم، فيكفيها شرفاً أنها تعتني بكتاب الله، ولكن أعداء الدين يعلمون أن هذا الأمة ما دامت متمسكة بكتاب الله حفظاً وعملاً به في شؤون حياتها ودينها، فإنهم لن ينالوا منها .(70/85)
خاتمة القول: كلنا ينبذ الإرهاب ويمقته، ولكن ينبغي أن تحرر المفاهيم والمصطلحات، وأن توضع النقاط على الحروف، ولا يكون الحرب على الإرهاب عباءة يتدثر بها الحاقدون على الإسلام -لا كثرهم الله -، أو ذريعة وسلماً للطعن في عقائدنا وديننا. فالله ناصر رسله وأوليائه وحزبه المؤمنين . وصلى الله وسلم و بارك على نبينا محمد وعلى آله وسلم ، والحمد لله رب العالمين .
============(70/86)
(70/87)
وقفات مع الحدث الجلل
محمد بن عبيد الهاجري
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، الحمد لله الذي جعلنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام خير أمة أخرجت الناس تخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له امتن علينا بأن بعث إلينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أفضل الرسل ، وأخشى الناس وأتقاهم لربه ، أدى الرسالة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده ، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
لما علم المسلمون بهذا الحدث الجلل ( سخرية إحدى صحف الدنمارك بنبينا عليه الصلاة والسلام ) التهبت مشاعرهم بحب الرسول عليه الصلاة والسلام والايمان به ، وترسخت هذه العقيدة في قلوبهم ، فدين الله وكتابه ورسوله أعظم من كل شيء ومقدم على كل شيء " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين " وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" نعم لقد ترسخت عقيدة الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين ، والتبرء من الكفار ومعاداتهم في قلوب المسلمين ، كيف لا والمسلمون يرددون في كل يوم أكثر من عشرين مرة " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم - وهم اليهود - ولا الضالين - وهم النصارى " ولذا فيجب استغلال هذا الموقف وانتهاز الفرصة مع هذه المشاعر والعاطفة الجياشة عند المسلمين بالتأكيد على عقيدة الولاء والبراء وترسيخها في قلوب المؤمنين .
هذه هي الوقفة الأولى من هذا الحدث العظيم
الوقفة الثانية :
إن في الاستهزاء والسخرية بنبينا أفضل البشرية عليه الصلاة والسلام إهانة للمسلمين ، وما فعلوه أيضا من قبل إذ أهانوا المصحف ومزقوه وعذبوا السجناء والأسرى بغير تهمة ولا دعوى ، كل ذلك إهانة للمسلمين وأي إهانة ؟!
ولنعلم يقينا أنهم ينطلقون من منطلق عقدي ديني ، ليس الأمر مصالح سياسية أو مالية أو شخصية فقط ، بل هي حرب صليبية على الاسلام والمسلمين كما نطقت بذلك ألسنتهم ، بل وشهد عليهم بذلك الواقع.
نعم ؛ إن المسلمين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه الآن من الاستخفاف بدينهم وكتابهم ورسولهم إلا لأجل أنهم ضيعوا دينه وتركوا تحكيم كتابه وسنة نبيه ، واستبدلوها بالقوانين الوضعية ، ولذلك تفرقوا بعدما كانوا أمة واحدة تهابهم الأعداء ، أصبحوا دويلات ضعيفة ، وقد ورد في سنن أبي داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال عليه الصلاة والسلام " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"
فلقد بين الحديث أن الناس إذا انشغلوا بالدنيا وتعاملوا بالربا وتركوا الجهاد في سبيل الله سلط الله عليهم ذلا لا ينزع عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم ، وهذا توصيف دقيق من النبي عليه الصلاة والسلام لحال المسلمين اليوم ، فلقد انشغلوا بالدنيا وتعاملوا بالربا وتركوا الجهاد في سبيل الله ، بل شوه إعلامهم صورة الجهاد في سبيل الله حتى أضحى من يتحدث عن الجهاد يتهم بالإرهاب ويوصم به ، مع أنك لو تصفحت كتاب الله لوجدت أن الله ذكر كلمة الجهاد أكثر من مائة مرة بل أكثر من ذلك .
الوقفة الثالثة : الكفر ملة واحدة
حيث تداعت الأمم والدول على إعانة دولة الدنمارك الكافرة لتشد من أزرها وتقف في صفها ، وتصريحاتهم قد امتلأت بها وسائل الأعلام ، وهذا إن دل فإنما يدل على أنهم على عقيدة واحدة ، وهي عقيدة اليهود والنصارى " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " عقيدتهم "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا "
نعم إنهم وجوه عديدة لعملة واحدة هي الحرب على الاسلام والمسلمين، وهم يتخذون في ذلك وسائل عديدة :
،،، جيوش جرارة تغزو بلاد المسلمين ، تدك بيوتهم ، تسرق أموالهم ، تقتل أطفالهم ، تغتصب نساءهم ، وما فلسطين وأفغانستان والعراق عنا ببعيد .
،،، إعلام حاقد فاسد يقلب الحقائق ويكذب زورا ليظهر أن حضارتهم هي حضارة الحرية وأنهم دعاة السلام ، وغيرهم من المسلمين دعاة للباطل والظلام .
،،، جانب آخر يغزون به جيل هذه الأمة من شباب وشابات ، حيث أغروهم بالفساد والشهوة والجنس من خلال إعلام مسموع ومقري ومرئي ، فما هذه القنوات الفاضحة والمواقع الاباحية والمجلات الخليعة إلا وسيلة من وسائل حربهم على الاسلام والمسلمين ، وما انتشار الزنا والربا والغناء والفساد في مجتمعات المسلمين إلا نتاج عملهم الدؤوب على إفساد المسلمين .
الوقفة الرابعة :(70/88)
انظر لليهود والنصارى كيف تآزروا وتعاونوا على باطلهم ، والمسلمون فيما يصيبهم من المصائب كل يغني على ليلاه ، إلا من رحم الله .
الوقفة الخامسة :
انقلاب الموازين عند هذه الحضارة الغربية حضارة اليهود والنصارى ، حيث يعتدون على المسلمين في بلادهم فيغزونها ، وفي أموالهم فيسرقونها ، وفي أعراضهم فينتهكونها ، وفي دينهم فيمزقون مصحفهم ويسبون نبيهم ، وهم في ذلك يدعون أنهم يحاربون الإرهاب ، وأنهم دعاة السلام وحقوق الانسان ، ومن يقف أمام سلامهم هذا فيدافع عن دينه وعرضه فهو الإرهابي
بحق ؟!! ولا يقل جرما عنه من يفضح كذبهم ويبين باطلهم وزيف إعلامهم !!
إن كلمة الإرهاب هم أول من روج لانتشارها ، حتى يبرروا بها غزوهم للعالم ، عفوا ! حتى يستروا بها جشعهم وطمعهم بل حقدهم وحسدهم " قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون " قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون .
لقد أرادوا الحرب على الإسلام فقالوا الحرب على الإرهاب ، نعم لقد أرادوا الحرب على الجهاد فقالوا الحرب على الإرهاب ، والسبب واضح فكلمة الجهاد محبوبة للمسلمين فاستبدلوها بالإرهاب تعمية على المسلمين وهذا ضمن خططهم الإعلامية الخبيثة ، هذا وإن من المؤسف له أن استخدمها بعض من هم من جلدتنا على نفس منوالهم ، ولو أردنا أن نتفحص هذه الكلمة وندقق النظر فيها لوجدنا أن الله يقول في كتابه " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " فذكر الله "ترهبون" مما يدل على أن إرهاب الأعداء مقصود شرعي ، فتبين أن كلمة الإرهاب كلمة ممدوحة إذا كانت موجهة للأعداء على خلاف ما روجت له حضارة اليهود والنصارى .
الوقفة السادسة :
إن من يطعن في صحابة رسول ا صلى الله عليه وسلم أو يسبهم أو يطعن في أزواجه كما يحدث في هذه الأيام خاصة من شهر الله المحرم مما تفعله الرافضة ، هو في حقيقة أمره يطعن في نبينا عليه الصلاة والسلام وفي دينه ، أرأيت لو أن أحدا طعن في زوجتك أو سبها أوكأنما طعن فيك وسبك ، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه "
الوقفة السابعة :
ليس المطلوب فقط من المسلمين سحب السفراءأو طردهم ، أو مقاطعة منتجات الدنمارك ، أو قطع العلاقات الاقتصادية او السياسية معهم ، نعم إن ذلك أمر مطلوب ومهم ؛ لكن الأمر أكبر من ذلك لو كان للمسلمين من ينتصر لرسولهم عليه الصلاة والسلام بالقوة والجهاد في سبيله ، كما ورد في البخاري من حديث جابر رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام " من لكعب بن الأشرف ؟ فإنه قد آذى الله ورسوله " فانتدب له محمد بن مسلمة فقتله .
إن مما يطلب من المسلمين اليوم حكومات وشعوبا الرجوع إلى دين الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وتطبيق أحكامهما في جميع نواحي الحياة ، وعلى عموم المسلمين المطالبة بذلك .
ومما ينبغي ان يهتم به المسلمون أيضا تعلم دينهم وتعليمه ، ومعرفة سنة نبيهم والالتزام بها ، ومن ذلك معرفة نبينا عليه الصلاة والسلام وماله علينا من حقوق وواجبات .
ومما لابد أن يعلمه كل مسلم أن من استهزأ بالله او آياته أو كتابه أو دينه أو نبيه كفر بالله إن كان مسلما ، وإن كان كافرا له مع المسلمين عهد انتقض عهده ووجب قتله .
وأيضا ورد في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا على رعل وذكوان وعصية لما اشتد أذاهم على المسلمين ، فلا أقل من أن يرفع المسلم يديه داعيا ربه أن يهلك من سخر من ربنا أو ديننا أو كتابنا أو رسولنا .
ومما يطلب من المسلمين أيضا خاصة من أصحاب الأموال والمؤسسات والشركات أن يتكاتفوا ويتعاونوا على الاستغناء عن غير المسلمين في ما نحتاجه من لوازم الحياة ، وقد ظهرت بوادر ذلك لكنها نسبة ضئيلة جدا تحتاج لمثابرة وعزيمة واجتهاد .
وتجدر الإشارة إلى أنه ينبغي للمسلم أن يعتاد على اقتناء ما هو من صنع المسلمين ويفضله على غيره ما استطاع إلى ذلك سبيلا .
الوقفة الأخيرة :
يجب توجيه هذا الشعور الغاضب عند المسلمين ودفعه ضد كل من يسب ديننا أو يصد عنه من هذه الدول الكافرة ، ألا ترى إلى هذه الحضارة الغربية بزعامة الدول القوية : أمريكا ومن لف لفها أنهم يعملون ليل نهار على الصد عن دين الله والطعن فيه وفي كتابه ورسوله مما هو من مثل سخرية الدنمارك ، بل هو أكثر من ذلك وأعظم ؟!!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين ،اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين ،سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
كتبه / محمد بن عبيد الهاجري
شهر الله المحرم 1427 هـ
=============(70/89)
(70/90)
الحرب على الإسلام
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4673)
محمد أحمد حسين
القدس
3/2/1427
المسجد الأقصى
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، الناظر إلى ما يجري في دنيا المسلمين يرى مخطّطًا واضحًا يستهدِف الإسلام والمسلمين، في الحرب القديمة الجديدة على الإسلام وأهله، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]. وقد اتَّخذت هذه الحرب على الإسلام وأهله وسائل وأساليب متعددة؛ شملت النواحي العسكرية والاقتصادية والثقافية، واستغلت وسائل الإعلام المختلفة وسخرتها لخدمة هذه الحرب الحاقدة التي تستهدف المسلمين عقيدة ووجودا، وتشوّه رموز العقيدة الإسلامية ومقدساتها، من خلال الإساءة إلى النبي ، في رسومات نشرتها تلك الصحيفة الدنماركية وتابعتها صحف غربية أخرى، بنشر تلك الرسومات تضامنا مع تلك الصحيفة، في تكريس هذا العدوان المنافي لأبسط قواعد حق الإنسان في احترام معتقده لدى الآخر. ودافع من دافع عن هذه الحملة المشينة من ساسة الغرب باحترام حرية الصحافة وحرية التعبير في بلدانهم التي تعيش نظام الديمقراطية، هذا النظام الذي تصوره زعيمة العالم الحر بزعمهم من خلال الحروب والاحتلال، كما حصل في غزو العراق وقبلها بلاد الأفغان، وربما يستمر مسلسل الغزو والحرب ليطال سوريا ولبنان وإيران، بعد محاصرة هذا الشعب الصابر ومعاقبته على خياره في الانتخابات التي تتغنى بها دول الاستعمار دويلات الحروب وتجارها. فإلى متى تنطلي على هذه الأمة الكريمة أحابيل أهل الكفر ودسائسهم ومخططاتهم، والله يقول: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2]، والرسولل يقول: ((لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)).؟!
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إنها الحرب المستمرة على هذا الدين برموزه ومنهاجه ودستوره الخالد وثقافته وفكره وحضارته، وإن الأحزاب الذين اجتمعوا للقضاء على هذا الدين في حاضرة دولته في المدينة المنورة منذ بدايات نشأة دولة الإسلام ومجتمع المسلمين الذي لم يمض على قيامه أكثر من خمس سنوات في دار الهجرة هم الأحزاب الذين اجتاحوا حاضرة الخلافة الإسلامية بغداد بأشخاص المغول والتتار، وبنفس الهدف والمخطط الذي استهدف هذا الدين ودولته منذ أيامه الأولى، ألم تطرح حضارة المسلمين وعلومهم في مياه دجلة؟! أين ذهبت علوم وكتب دار الحكمة؟! إن مدادها قد صبغ مياه دجلة كما صبغ دم أبناء المسلمين مياه أرض العراق. فما أشبه اليوم بالبارحة! أين متاحف العراق ومكتباته وحضارته وعلماؤه في ظل غزو التحالف الجديد لديار الرافدين؟! إنها لم تكن أوفر حظًا من علوم دار الحكمة يوم غزاها المغول الأوائل الذين لم يدمروا نصبا لمؤسّسها المنصور العباسي، فدمره الغزاة الجدد من جيوش الأحزاب التي حشدت وما زالت تحشد لحرب أهل هذه الديار الذين فرقتهم العصبيات الجاهلية، ولم يأخذوا حذرهم كما أمرهم الله في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. ولله در القائل: "ولن تكونوا خير أمة أخرجت للناس إلا إذا تغيرت حياتنا من الأساس، وإلا إذا تحررت نفوسنا تغيرت تبدلت وأصبحت مثل النجوم في الدجى نبراس، ولن تكون خير أمة أخرجت للناس إلا إذا تغير المقياس، وأصبح الدين عندنا والحب والقرآن منبع الإحساس".
جاء في الحديث الشريف عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ما خيِّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى فينتقم لله بها.
-------------------------
الخطبة الثانية(70/91)
وبعد: أيها المسلمون، لم يرق لأعدائكم ومن والاهم ما رأوه من موقف صلب شجاع عبرت عنه شعوب أمتكم الإسلامية يوم هبت تدافع عن نبيّها ، وما زالت أمام استهداف مكانة النبي عليه الصلاة والسلام من قبل من أعماهم الحقد على نبي الإسلام ودعوته. هذا الموقف العظيم المدافع عن عقيدة الأمة ومقدساتها ورموزها، وقد توحّد أبناء الأمة سنةً وشيعة في الذود عن عقيدتهم ونبيهم عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم، ودعت الأمة لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع تكرار هذه الإساءات لنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، فكانت المقاطعة الاقتصادية لمنتوجات البلد الذي صدرت منه الإساءة، وكانت الدعوة لسحب السفراء من البلاد التي تسيء أو شاركت في الإساءة للمسلمين ونبيهم ودينهم، وكذلك الدعوة إلى سن القوانين الدولية التي تحظر الإساءة للأديان والأنبياء والعقيدة. وفي مواجهة هذا الموقف الصارم لشعوب الأمة الإسلامية تسلّلت يد الغدر والفتنة إلى مقام ومسجد الإمام علي الهادي لنسف قبته وإلحاق الأذى بمسجده بهدف واضح ومكشوف، وهو بعث فتنة مذهبيّة بين أبناء المسلمين من الشيعة والسنة، وتقسيم أبناء الأمة إلى طوائف متنازعة متخاصمة، وفي ذلك ما فيه من تشتيت جهود المسلمين وتفريق صفهم.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن محبة آل بيت النبي هي محلّ إجماع المسلمين كافة، وإن رعاية مساجد الله هي من واجب المسلمين كذلك، قال الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ [التوبة:18]. فأيّ جريمة نكراء تلك التي تستهدف بيوت الله وتسعى إلى خرابها والله يقول: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114]؟!
جدير بأبناء الأمة أن ينتبهوا لما يحاك ضدهم من مؤامرات ومخططات، ويوجّهوا جهودهم لكشف هذه المؤامرات وردّ كيد المدبّرين لها إلى نحورهم. وهنا نناشد أبناء المسلمين سنة وشيعة أن يبتعدوا عن كل ما يفرق صفّهم ووحدتهم، ويعملوا بقول الله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]. ونقول لإخواننا في العراق: إن المحتلّ لا يريد لكم الخير، بل يريدكم ضعفاء مستكينين، فاحرصوا على وحدة صفكم وكرامة أرضكم التي كانت وما زالت عصية على الغزاة والمحتلين. احرصوا على حقن دمائكم، فكل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، واعملوا على وأد الفتنة في مهدها، واقطعوا الطريق على دعاة الفتنة والفرقة الذين يقودونكم إلى الضعف والهوان، وإلى تحقيق مآرب الاحتلال والاستعمار.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن ما يجري في ديارنا المباركة في ظل الضجة المفتعلة على نتيجة الانتخابات الفلسطينية لهو مؤشر خطير على نوايا الاحتلال وأفعاله ضد الأرض والإنسان، فإجراءات عزل الأغوار وإغلاقها ومنع أبناء شعبنا من الوصول إليها يكشف ويدلل على إمعان الاحتلال في السيطرة على مزيد من الأرض الفلسطينية لصالح الاستيطان الذي يتفشى في أرضنا وينتشر فيها انتشار النار في الهشيم. هذا الاستيطان الذي يحاصر شعبنا ويعزلهم في معازل ضيقة، ضمن السجن الكبير الذي يستوعب الأرض الفلسطينية، كما يستمر الاحتلال من خلال عدوانه في استهداف أبناء شعبنا بالاغتيالات والإعدامات بدم بارد، ويطارد أبناء شعبنا بالاعتقال والسجون، ويسرع وتيرة بناء جدار الفصل العنصري في البر والبحر، ويغلق المعابر، وكل ذلك يجري تحت مظلة الأمن التي أصبحت تستوعب كل جوانب النشاط الإنساني لحياتنا فوق هذه الأرض الطاهرة أرض الرباط إلى يوم الدين.
يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن هذه الأحوال تستدعي من جميع أبناء هذا الشعب وقواه الفاعلة أن يرتفعوا إلى مستوى المسؤولية لتوحيد الصف ووقف كل مظاهر الفوضى والفلتان الأمني؛ لحماية هذا الشعب الصابر المرابط الذي يقدم التضحيات الجسام وما زال يقدم دفاعا عن حقه في الحياة، وذودا عن مقدرات الأمة ومقدساتها في هذه الديار الإسلامية التي تشرفت بإسراء ومعراج نبينا عليه الصلاة والسلام إليها ومنها، وأصبحت أمانة الأجيال المسلمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولله در القائل:
كونوا بني قومي جميعا إذا اعترَى…خطب ولا تتفرّقوا آحادًا
تأبى الرماح إذا اجتمعت تكسّرًا…وإذا افترقن تكسرت آحادًا
===============(70/92)
(70/93)
العمل الخيري يستغيث
ثامر سباعنه - فلسطين
الزمان: ما بعد 11 أيلول
المكان: العالم الإسلامي
الموضوع: أمريكا تعلن الحرب على الإرهاب ؟؟؟؟
تحركت أمريكا الجريحه باحثة عن الانتقام فلم تجد إلا أبناء الإسلام لتوجه لهم جل حقدها وغضبها، ( وان كان التحرك مخطط له مسبقا ) فأعلنت الحرب على الإرهاب ليكون غطاءا على الحرب على الإسلام، بل لتكون حملة صليبيه جديده كما أعلنها علانية زعيم الحملة.
تحركت الجيوش والطائرات والسفن الحربية من كل مكان تقصد ارض الإسلام، وتحمل في صدرها حقدا دفينا نحو كل مسلم.
دمروا البيوت والمساجد، واحرقوا الزرع، اغتصبوا النساء المسلمات وشردوا الأطفال، مثلوا بالجثث بل حتى الأسرى لم يراعوا بهم القوانين الانسانيه قبل القوانين الدولية، وعندما لم يفلحوا بإرهاب أبناء الإسلام شددوا حملتهم نحو عقيدة المسلم ومنهجه، فضيقوا على رجال الدين ( المشايخ ) وقتلوا منهم الكثير، وراقبوا المساجد وأغلقوا ودمروا جزءا منها، وحاربوا ودنسوا القرآن الكريم. حسبنا الله ونعم الوكيل......
لم تفلح حربهم بل ذادت من غضب المسلمين - شعوبا لا حكاما - في كل بقاع الأرض. فأعلنت أمريكا ومن لف لفيفها الحرب على لقمة الخبز وعلى احد أركان الإسلام، أعلنت حربها على الزكاة و العمل الخيري، فطاردت الجمعيات الخيرية، وراقبت البنوك ورجال الخير، وحاسبت الدول على المساعدات وعلى زكاة أباء الإسلام.
فبات اليتيم إرهابيا يحسب له ألف حساب ؟؟؟؟؟
و دورات تحفيظ وتدريس القرآن الكريم هي دورات لتعليم الإرهاب ؟؟؟
وأصبحت الجمعيات الخيرية التي تتابع أحوال الفقراء جمعيات داعمه للإرهاب ؟؟؟؟
و طورد رجال الخير الذين يقدمون زكاة أموالهم بحجة تجفيف منابع الإرهاب ؟؟؟
ليس هذا وحسب بل كلما أغلقوا جمعيه خيريه اسلاميه وضعوا بدلا منها جمعية خيريه تبشيرية مسيحية ؟؟؟ ليظهروا مدى طيبة وحنان الصليبيين الجدد على امة الإسلام. ولكن قبل أن تأخذ من جمعياتهم التبشيرية لقمة الخبز عليك أن توقع انك ضد الإرهاب ولن تقدم العون للارهابين،
ولن تصلك المساعدة إلا بعد أن يتأكدوا أنهم سيستطيعون غزو فكرنا وتشتيت أبناءنا عن الإسلام، وإبعاد بناتنا عن الأخلاق والحياء، أي لن تأكل خبزك إلا إذا غمسته بالعار والذل والمهانة
أي حال وصل إليه حال المسلمين... أي حال أوصلنا إليه قادة وحكام ومسئولي امتنا.
فلسطين السليبة تئن من الجراح والعراق الحزين يرقب الأمل، المسلمين في كل بقعة من بقاع الأرض يبحثون عن نصير..
أبناء الإسلام............ أيتام بلادي يستغيثون بكم، ومراكز تحفيظ القرآن الكريم تدعوكم لنصرتها.... إسلامنا وقرآننا يقول : (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ))
==============(70/94)
(70/95)
نهاية صدام وقفات ودروس وعبر
ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، قاصم الجبابرة والمتكبرين، ومذل الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف رسله و خاتم أنبيائه محمد السيف البتار والسراج الوهاج وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فلقد تناقلت وسائل الإعلام صباح هذا اليوم، يوم عيد الأضحى، خبر قتل صدام حسين شنقا على إثر محاكمة أقامتها حكومة الاحتلال العراقية (العميلة) في ظل قوات الاحتلال الأمريكية والسيطرة الصفوية .
وللناس من هذا الحدث مواقف شتى ؛ تبعاً للزوايا التي ينظرون من خلالها إلى هذه القضية،وبالنظر إلى اعتبارات دون أخرى، مما قد يعطى تصوراً منقوصاً، وحكماً غير موفق على هذه القضية .
والذي أراه أنه يجب التأكيد على عدة أمور،وأخذها بعين الاعتبار قبل الانتهاء إلى أي موقف، أو الوصول إلى أي نتيجة، فأقول وبالله التوفيق :
أولاً : المسلم في نظره لما يحدث حوله من أحداث،وما يترتب عليها من نتائج،وفي حكمه على من يكون طرفاً فيها، إنما يقيس بمقاييس الشريعة،ويزن بميزان الدليل من الكتاب والسنة،مع استقصاء الحقائق الميدانية والمعطيات الواقعية، وإن اعتبار أي ميزان غير ميزان الشرع المبني على التصور الكامل للمسألة كفيل بأن تطيش بصاحبه الأحلام،وينتهي إلى نتائج مضللة خادعة.
ثانياً : عرفنا صدام حسين قديماً، حين كان يحتفي به الناس، ويعدونه زعيماً عربياً ومثالاً يسيرون وراءه ، عرفناه يعلن الحرب على الإسلام، فيقتل علماءه ويضيق على دعاته ويحاول طمس معالمه في بلاد الرافدين ؛ لصالح دعايات القومية العربية والبعثية الاشتراكية، حتى خلا البلد من العلماء إلا النزر اليسير،وغيب الشعب العراقي عن حكم الإسلام طوال عقود. والرجل لم يعلن براءته من حزب البعث في يوم من الأيام إلى أن قتل، ولكن من العدل أن نشير إلى وقوفه بحزم أمام المد الصفوي الفارسي و كيف خاض من أجل ذلك حرباً ضروساً ، مما زاد من حنق الرافضة وأخر تنفيذ مخططهم عدة سنوات.
ولكنه ـ بطريقته في الحكم، وسياساته الطائشة ، وسيره وراء غايات حزبية وشخصية ـ قاد بلده إلى الدمار،وانتهى بشعبه إلى الفقر،رغم أن العراق مليء بأعظم الثروات كالنفط والزراعة وغيرها، حتى انتهى الأمر بالعراق إلى أن يصبح بلداً محتلاً في ظل الاحتلالين الصهيوني الأمريكي، والصفوي المجوسي .
أما فيما يتعلق بحاله ومواقفه الشخصية في آخر حياته فلن نتحدث عنها إذ لا نعلم بم ختم له، وقد قدم على ربه ، فأمره إليه سبحانه وتعالى (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36) .
ثالثاً : المحاكمة التي خضع لها صدام حسين محاكمة غير عادلة، فهي محاكمة صورية ، نهايتها معلومة من بدايتها ، يقوم عليها خصوم الرجل وأعداؤه ؛ لذا فلم يكن ينتظر منها أن تسعى إلى إحقاق حق أو إبطال باطل، فهي محكمة متهمة، قام عليها متهمون، و أحاطت بها ملابسات عديدة،وأديرت بطريقة غير عادلة،وذلك بشهادة الغربيين أنفسهم فضلاً عن غيرهم من عقلاء العالم ومنصفيه .
رابعاً : انتشاء الاحتلال وأعوانه بقتل صدام إنما هو مظهر لمدى عجزهم، وقلة حيلتهم وتخبطهم في تحقيق غاياتهم. فليس في الأمر ما يدعو إلى الفرح، فالرجل من حين القبض عليه إلى حين إعدامه لم يكن يمثل شيئا ذا قيمة،ولم يكن يملك أي قرار مؤثر على الساحة العراقية منذ اعتقاله.
خامساً : مقاومة الاحتلال في العراق هي مقاومة إسلامية سنية ، لم ترتبط يوماً بصدام ، ولا بحزب البعث ، ولا بغير ذلك من الدعوات الجاهلية ؛ بل إن أهل السنة اليوم في العراق هم من يدفع الثمن باهظا بسبب سياسات صدام الجائرة وحكمه الظالم ، لذا لن يكون للحدث أي تأثير على المقاومة ،وسوف تستمر بإذن الله في جهاد الاحتلال ومناوئته ، حتى يعود العراق عربياً إسلامياً، وترفع فيه راية الإسلام عالية خفاقة وإن بدا في ظاهر الأمر خلاف ذلك (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60)، ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف: من الآية21)
سادساً : هذا الحدث يظهر جرأة الرافضة، ومدى استئثارهم بحكم العراق والتصرف في شئونه ؛ نتيجة تحالفهم مع الأمريكان،وسواء كان قتل صدام باتفاق مع الأمريكيين،أو بقرار رافضي صفوي فإنه دليل على عظم الخطر وفداحة الخطب.
سابعاً : اختيار حكومة الاحتلال الرافضية ـ في العراق ـ لتوقيت تنفيذ حكم الإعدام في صدام ـ سواء في الزمان أو المكان ، يدل على مدى ما يضمره الرافضة الصفويون من عداء وحنق لأهل السنة في العراق،وفي أرجاء العالم الإسلامي كله . فهم يسعون ـ في محاولات مستميتة ـ لربط صدام بالسنة، وتحميلهم أخطاءه،وإظهار إعدامه على أنه انتصار للرافضة على أهل السنة، فقد اختاروا يوم الأضحى المبارك يوماً لتنفيذ الحكم، وهي لفتة مهمة تستحق التأمل،وتطرح تساؤلات واستفهامات ، عن السر في هذا الاختيار من حكومة الاحتلال في بغداد.(70/96)
ثامناً : لا يلزم أن نقف من الحدث أحد الموقفين،إما موقف الفرح وإما موقف الحزن، فكلا طرفاه ظالم لنفسه ، وأمر صدام إلى الله لكن ما سبق من تاريخه لا يخفى والله اعلم بتوبته وما ختم له به، وإن حزنا فنحزن لا لمقتل صدام ولكن لما بلغه شأن الرافضة من تسلط وتشفي من أهل السنة.
تاسعاً : دروس من الحدث :
• نهاية الظالم مهما علا شانه وبلغ الذروة في التسلط (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)(ابراهيم: من الآية42) وقال تعالى(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(الشعراء: من الآية227)
• على كل أولياء أمور المسلمين أن يعودوا إلى الله تعالى ويحكموا بشرعه ويسعوا لإعلاء كلمته قال تعالى (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج:41) وعليهم أن لا يرتهنوا لأعدائه فحينها سيكونون أدوات ترمى ويتخلى عنها حين ينتهي دورها (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (هود:113). والتاريخ المعاصر مليء بالشواهد والدلائل، وما قضية صدام إلا حلقة في المسلسل الطويل.
• أن من ربط أمره بالله ونصر دينه فإنه منصور بإذن الله سواء تغلب على أعدائه أم قتل شهيدا والانتصار هو انتصار المبادئ لا بقاء الأشخاص أو القيادات، وتأمل سورة البروج، وتذكر قوله تعالى( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51).
• على أهل السنة في العراق أن يروا في الحدث واقع حال الرافضة ومدى ما بلغوه من أمر العراق ولذا فيجب عليهم أن يقفوا صفا واحدا ضد الاحتلال الأمريكي والاحتلال الصفوي ، فالاحتلالان يتفقان حينا ويختلفان أحيانا والمستهدف دوما هم أهل السنة حيث لايختلفون على ذلك، بل إن على أهل السنة في العالم كله وبالأخص في الخليج أن يدركوا أهداف الرافضة الصفويين في المنطقة كلها وأن يتخذوا الوسائل العملية الجادة لمواجهة هذا الخطر قبل فوات الأوان، وفي أحداث العراق عبرة للمعتبرين، وموعظة لأولي الألباب .
ومن أولى الواجبات لمواجهة هذا المد الفارسي المجوسي هو الوقوف مع إخواننا المرابطين في العراق، ودعم أهل السنة بكل وسائل الدعم الحسية والمعنوية فلا تزال الفرصة مواتية فأهل السنة صابرون مصابرون والمجاهدون مرابطون صامدون ويكبدون الأعداء الخسائر المتوالية مع ضعف إمكاناتهم وقلة حيلتهم، فإن تخلينا عنهم فلا نأمن عقوبة الله، لأن هذا ظلم عظيم وخذلان ظاهر وعقوبته عاجلة، كما جرت بذلك سنن الله في الكون.وقال سبحانه (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59) وقال تعالى(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر:43).
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتب/ ناصر بن سليمان العمر
البلد الأمين 10، ذوالحجة،1427هـ
=============(70/97)
(70/98)
بيان أمير المؤمنين بخصوص ما يتعرض له الشعب الفلسطيني المسلم
إلى شعبنا المسلم في فلسطين
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل
أصبحت الحرب على الإسلام والمسلمين حرباً صليبية يهودية مكشوفة ، فقد صار اليهود والأمريكان جيشاً واحداً في حربهم ضدنا ، ويقومون بمهمة واحدة يتعاونون علانية فيما بينهم لتنفيذها.
فبعد أن أعلنت أمريكا حربها على الإسلام في أفغانستان وقامت بذلك تحت اسم حرب (الإرهاب) ، ونظراً لعدم وقوف المسلمين في العالم في وجهها وقوفاً قوياً ، بل ولأن بعض الدول الإسلامية ساندتها وأعانتها في ذلك فإن اليهود اليوم يقومون بنفس الأمر ضد شعبنا المسلم في فلسطين بكل جرأة ومن غير رادع أو خوف ، فقتلوا النساء باسم حرب الإرهاب ، ويتموا الأطفال باسم الإرهاب ، وأسروا الشيوخ باسم الإرهاب ، وسجنوا الشباب باسم الإرهاب ، وهدموا البيوت باسم الإرهاب ، وارتكبوا المجازر الجماعية باسم الإرهاب ، وهو الشيء نفسه الذي فعلته - ولا تزال تفعله - أمريكا في أفغانستان
وكل ذلك يحدث بأسلحة أمريكية ، وبأموال أمريكية ، ووفقا لقرارات وسياسات أمريكية ، فدولة اليهود في حقيقتها جزء من الدولة الأمريكية الكبرى ، ولهذا فإن أمريكا لا ترضى أن تصاب دولة اليهود بأي أذى ، فكيف يصدق الناس بعد هذا كله أن أمريكا تريد أن تحارب الإرهاب وتقضي عليه وهي تمارسه بنفسها بصورة فظيعة أو عن طريق دولة اليهود التي ترتكب أشياء بشعة في حق الضعفاء العزل
أليس اليهود هم الذين جاءوا إلى فلسطين واحتلوها وطردوا منها أهلها وأخذوا أمولهم وانتهكوا أعراضهم وخرَّبوا ديارهم ، فكيف يكون إرهابياً من يقاتلهم ليبقى على أرضه ، ويدافع عن عرضه ، ويحافظ على دينه ، وإذا كان يهود يخافون القتل - وهم أحرص الناس على حياة - فلماذا جاءوا إليه ، هل يريد الأمريكان منا أن نرى المحتلين يعيشون آمنين مطمئنين وأصحاب الأرض المالكون لها مشردون مطاردون ومع ذلك لا نحارب ولا نقاتل من أجل طرد من اغتصب حقنا ، وهل وصل الاستخفاف الأمريكي واليهودي بعقولنا إلى هذا الحد ؟
أما شعبنا في فلسطين فنقول له اصبر ، وتوكل على الله ، ولا تعتمد على غيره ولا تنتظر الفتح والنصر من أحد سواه ، واعلموا أن ما زرعته أمريكا وحلفاؤها من مشاكل في بلادنا لن يشغلنا عن أمر فلسطين وبيت المقدس إن شاء الله فأمة الإسلام أمة واحدة يتألم بعضها لآلام بعض ، فنحن نسمع استغاثات نسائنا وصرخات بناتنا الصابرات المجاهدات في فلسطين بعد أن رأين من قساوة اليهود وطغيانهم ما يندى له الجبين ، فبإذن الله تعالى لن تذهب تلك الصرخات سدى ولن يغيب عنا استنجادهن حتى نثأر للإسلام والمسلمين من هؤلاء المجرمين الذين يسعون في الأرض فساداً ، وسيكون عدونا من الأمريكان واليهود هم الخاسرين في نهاية المعركة ، فإننا على يقين أن الله لن يتخلى عن عباده المؤمنين وأن النصر آت بإذنه تعالى ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
والسلام
خادم الإسلام والمسلمين
الملا محمد عمر "مجاهد"
الجمعة 29 محرم الحرام 1423هـ
==============(70/99)
(70/100)
الدلائل الجليّة على مشروعية العمليّات الاستشهاديّة
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتنَّ إلا و أنتم مسلمون ( [ آل عمران : 102 ] .
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بثَّ منهما رجالاً كثيراً و نساء ، و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ( [ النساء : 1 ] .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ( و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ( [ الأحزاب :70،71 ] .
أمّا بعد :
فيوماً بعد يوم تُمتهن كرامة الأمة ، و تهون دماء أبنائها و ديارهم و أعراضهم على الأعداء ، و تتداعى علينا الأمم من كلّ حدب و صوب ، تصوّب سهامها إلى نحورنا ، و تلِغ في دمائنا ، و نحن حيارى بلا خيار ، و سكارى بلا قرار .
يستصرخنا القدس و أهله ، تتحشرج في نفوسهم الحسرة ، و تعتلج في حناجرهم الكلمات ، فيغصون بالدموع ، و يبكون الأمس و اليوم و الغد المجهول .
حتّام يا قُدساه جرحُكِ يَنزفُ *** و إلامَ يَرشُف من دماكِ الأسقُفُ ؟
خمسون عاماً قد مضينَ و نيّفُ *** و العُرب صرعى و المدافع تقصفُ
و إنّ الله تعالى كتب الجهاد على هذه الأمّة ، و جعله فريضةً قائمة على التعيين أو الكفاية ، ماضيةً إلى يوم القيامة مع كلّ برّ و فاجر لتكون كلمة الله هي العليا و كلمة الذين كفروا السفلى .
و من أعظم ما ابتليت به الأمّة في عصرنا الحاضر ، غياب فريضتين جليلتين تردّت الأمّة بفقدهما في دَرَكات الذل و الهوان ، و تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها ، و هما تنصيب الإمام العادل خليفة المسلمين ، و النفرة للجهاد في سبيل الله تعالى ، لفتح البلاد و قلُوب العباد ، و الإثخان في أهل الكفر و الإلحاد و العناد .
و ما تَعَيَّن الجهاد في مِصرٍ من الأمصار الإسلاميّة إلا هَبَّ المسلمون لنصرة أهله ، و نفروا خفافاً و ثقالاً ، يدفعون عن إخوانهم صولة العدوّ ، و يشاركونهم شَرف الذود عن حُرُمات المسلمين ، و الإثخان في العتاة المجرمين ، فمنهم من قضى نحبَه و منهم من ينتظر مرابطاً على الثغور في فلسطين و أفغانستان و الشيشان و الفلبين و الصومال و البوسنة و غيرها .
و الأصل في المسلم - و إن لم ينل شَرَف المشاركة الميدانيّة في الرباط في سبيل الله بعد - أن لا يكفّ عن تحديث نفسه بالجهاد ، و تهيئة نفسه له إعداداً و استعداداً ، و التطلّع إلى الشهادة في سبيل الله ، فقد روى أبو داوود بإسناد صحيح عن أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ » . و من واظب على ذلك ، فلن يدّخر وسعاً في السعي إلى نيل مناه ، و ربّما دَفعه حبّ الشهادة و التطلّع إليها ، إلى أن يجود بنفسه في عمليّة يغلب على ظنّه أن تُقِلّه إلى مراتب الشهادة في سبيل الله ، ليلقى ربّه محباً للقائه ، روى الشيخان و الترمذي و النسائي و أحمد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِىِّ r قَالَ : « مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ » ، و حاشاه تعالى أن يُخلف وعده ، أو يكره لقاء عبدٍ جاد بنفسه في سبيله تعالى .
فليتحين من فاتته المشاركة فيما مضى الفرصة للمشاركة فيما هو آت ، فإن الجهاد ماضٍ و لا بُدّ ، و على الرغم ممّا تمخّض عنه في السابق من خيراتٍ حِسان - رُغم قلّة النصير ، و كثرة النكير - فإنّ جراحات المسلمين لا تزال نازفة في شرق العالم الإسلاميّ و غَربه ، و لا يكاد يلتئم جُرحٌ حتى يُثلَم ثغر جديد هنا أو هناك ، فيهب لسدّه شبابٌ باعوا نفوسهم لله ، و ذاقوا حلاوة التضحية و الجهاد ، فغبّروا أقدامهم في سبيله ، و عفّروا جباههم بتراب الرباط في ميادينه و على ثغوره ، غير آبهين أو مبالين بصَلَف الطغاة ، و ملاحقة البغاة ، و خُذلان بعض الدعاة .
بل تراهم رهباناً في الليل ، فرساناً في النهار ، يقارعون الباطل ، و يصرخون في وجه أهله ( هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ) [من سورة التوبة الآية 52] .(70/101)
و إذا لهث القاعدون حول حطام الدنيا ، و تزاحموا بالأكتاف و الأقدام على أبواب الرزق و أسبابه في ديار الكفر ، رأيت أهل الثغور أكثر اطمئناناً و إيماناً و تسليماً ، يستحْلُون مرارة الرباط ، و يحتملون شظف العيش ، و لا يلتمسون من الدنيا و حطامها إلا قُدّرَ لهم تحت ظلال الرماح ، يحدو ركبهم خير البشر ، و أمير الظَفَر صلى الله عليه و سلّم ، الذي قال فيما رواه البخاري معلّقاً و أحمد بإسناد صحيح عَنِ عبد الله ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنه عليه الصلاة و السلام : « جُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى ، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي » . فطوبى لمن بايعه على ذلك أو بايع من بايع عليه ، ثبت في الصحيحين و سنن النسائي و الترمذي و مسند الإمام أحمد أن يَزِيدَ بْنِ أَبِى عُبَيْدٍ سأل سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه : عَلَى أَيِّ شَيءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلميَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ؟ قَالَ : عَلَى الْمَوْتِ .
فيا حُسنَها من بَيعةٍ ، و يا طِيبَها من مِيتة ، ترى مَن ارتضوها يمني نفسه و يؤمّل صاحبه في النصر و التمكين ، و يشدّ على يديه مبايعاً على الصبر و الثبات ، فلا يهولهم جَلل المُصاب ، و لا يسوؤهم الوصف بالعنف و الإرهاب ، و لا يزعزع عزائمهم ، أو يفت في عضُدهم ، سفك الدماء و تطاير الأشلاء ، ما دام ذلك في سبيل الله ، ابتغاءَ مَرضاته ، و رَجاء رِضاه .
و لستُ أُبالي حينَ أُقْتَل مُسلماً *** على أيّ جنبٍ كان في الله مَصرَعي
و ذلك في ذات الإله و إن يشأ *** يبارك على أوصال شِلوٍ مُمَزّعِ
و إذا كان الحقّ تعالى قد ( اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) [ التوبة : 111 ] فلا فرق عند من باع نفسه لربّه ، بين رصاصة يستقبلها في صدرِ مقبلٍ غير مدبر ، و بينَ حزامٍ ينسف به الأعداء و إن قطع النياط و مزّق الأشلاء ، ما دام طعم الشهادة واحداً .
إني بذلت الروح دون كرامتي *** و سلكتُ دَربَ الموتِ أبغي مَفْخَرا
و غَرَستُ في كفّ المنيّة مُهجتي *** و رَوَيْتُ بالدم ما غَرَستُ فأزهرا
هذا فداء القدس أن يُجدي الفِدا *** و لتُربِ كابولٍ أقدّمُه قِرى
روى النسائي و ابن ماجة و أحمد و الدارمي و الترمذي بإسنادٍ صحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ » .
غير أنّ من بايعوا الشهيد على هذه الطريق و خَلفوه عليه ، يعزّ عليهم فراقه ، فيبكيه رفاقه ، و يسوؤهم أن لا تُوارى بين ظهرانيهم رُفاته ، و يسوؤنا أكثَر سماع من يشكك في مشروعيّة عَمَله ، و يصدّ الناس عن بلوغ هدفه ، بدعوى أن فعلته انتحاريّة ، و أن ميتته ميتةٌ جاهليّة .
و كفى بهذا التشكيك حافزاً لنا على البحث في مشروعية العمليّات الاستشهاديّة ، من باب إحقاق الحق و نُصرة المظلوم ، و إنزال من جاد بنفسه ، و ضحّى بدمه ، و بذل روحه رخيصةً في سبيل ربّه منزلته التي وُعِدها ، و ذلك من خلال المقاصد التالية :
المقصد الأوّل
في تعريف العمليّات الاستشهاديّة
اصطلاح العمليّات الاستشهاديّة اصطلاح مركب من :
العمليّات ؛ و هي جمع عمليّة : لفظ مشتق من العمل , يصدق على كل ما يُفعل ، و هو من الألفاظ المحدثة , و يُطلَق على جملة أعمال تُحدث أثراً خاصاً , فيقال : عمليةٌ جراحية ، أو عمليّة حربية [ انظر : المعجم الوسيط مادة : عمل ].
و العمليّة بهذه الصيغة مصدر صناعي دال على معنى خاص لم يكن ليدل عليه لولا زيادة الياء و التاء المربوطة في آخره ، و الفرق بين العمل و العملية كالفَرق بين الإنسان و الإنسانية ، و الحزب و الحزبية ، و الحجة و الحجية , و الحكم و الحاكمية ، و الإله و الإلهيّة ، و ما إلى ذلك .
و الاستشهاد : طلب الشهادة ، و هي القتل في سبيل الله .
روى مسلمٌ و أحمد عَنْ أَبِى مُوسَى الأشعري رضي الله عنه قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمعَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً أَىُّ ذَلِكَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي الْعُلْيَا فَهُوَ في سَبِيلِ اللَّهِ » .
و عليه فإنّ العمليات الاستشهادية : أعمالٌ مخوصة يقوم بها المجاهد في سبيل الله ، مع التيقّن أو غلبة الظن أنّها تُثْخِن في العدو و يَبلُغ القائم بها مراتب الشهداء بالقتل في سبيل الله .(70/102)
وهي بصورها العصريّة نمط من أنماط المقاومة الحديثة ، عُرفت بعد اكتشاف المتفجّرات في العصر الحديث ، و اشتهرت بعد أن أصبحت من وسائل ما يُعرف بحروب العصابات ، و سُبِق المسلمون إلى استعمالها ، حيث عُرِفت في الحرب الأهليّة الأمريكيّة و حَرب أمريكا في فيتنام و اليابان ، و أنحاء أخرى من العالم قبل أن يستعملها المسلمون الذين لجؤوا إليها لقلّة البدائل و الوسائل المتاحة في أيديهم ، و عدَم تمكنّهم من الصمود و الوقوف في وجوه الأعداء بإمكانيّاتهم المحدودة ، مؤثرين بالإقدام عليها ميتة العزة و الكرامة في سبيل الله ، على العيش في ذل و هوان ، و كأنّهم يتمثّلون قول الأوّل :
لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ *** و لتَسقني بالعز كأس الحنظلِ
و في المقاصد التالية إن شاء الله تقريرٌ لمشروعيّة هذه العمليّات و فضل القيام بها ، و ما يُحتسب عند الله تعالى من ثواب الشهداء و منازلهم للقائمين بها ابتغاء ما عنده ، قياساً على ما جاء في مسألة المقتحم المغرر بنفسه في صف العدو في كتاب الله تعالى و سنّة نبيّه صلّى الله عليه و سلّم .
المقصد الثاني
الأدلّة على مشروعيّة و فضل الاقتحام على العدو و التغرير بالنفس في ذلك من الكتاب و السنّة و نماذج من سيَر السلف الصالح في إقراره
يدلّ على ما ذهبنا إليه من مشروعيّة و فضل خوض العمليّات الاستشهاديّة ما جاء في قصّة أصحاب الأخدود التي رواهها مسلم و الترمذي و أحمد عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه ، و فيها قَول الغلام للملك : « إِنَّكَ لَسْتَ بقاتلي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ . قال : وَمَا هُوَ قال : تَجْمَعُ النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِى عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِى ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ . ثُمَّ ارْمِنِى فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِى . فَجَمَعَ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قال : بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ . ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِى صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِى صُدْغِهِ فِى مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ : النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ » .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله [ في مجموع الفتاوى : 28 /540 ] بعد ذكر قصّّّة الغلام هذه : ( و فيها أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل لمصلحة ظهور الدين و لهذا أحب الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم فى صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه إذا كان فى ذلك مصلحة للمسلمين ) .
قال الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله [ في شرح رياض الصالحين : 1 / 165 ] : ( إن الإنسان يجوز أن يغرر بنفسه في مصلحة عامَّة للمسلمين ، فإن هذا الغلام دلَّ الملك على أمر يقتله به ويهلك به نفسه ، وهو أن يأخذ سهماً من كنانته... الخ ) .
فانظر - رحمك الله - كيف أقدَم الغلام المؤمن على ما من شأنه أن يقتله يقيناً رجاء مصلحةٍ راجحةٍ و هي إسلام قومه ، الذين دخلوا بسببه في دين الله أفواجاً ، و هذا من شرع من قَبلَنا الذي لا ناسخ و لا معارض له في نصوص الكتاب و السنّة ، و الله أعلم .
و قد حَمَل عددٌ من الصحابة الكرام فمن بَعدَهم قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) [ البقرة : 207 ] على من حَمَلَ على العدو الكثير لوحده وغرر بنفسه في ذلك ، كما قال عمر بن الخطاب و أبو أيوب الأنصاري وأبو هريرة رضي الله عنهم فيما رواه أبو داود والترمذي و ابن حبان و صححه و الحاكم ، [ انظر : تفسير القرطبي 2 / 361 ] .
و روى ابن أبي شيبة في مصنّفه و البيهقي في سننه أنّ هشام بن عامر الأنصاري رضي الله عنه حمل بنفسه بين الصفين على العدو الكثير فأنكر عليه بعض الناس و قالوا : ألقى بنفسه إلى التهلكة ، فرد عليهم عمر بن الخطاب و أبو هريرة رضي الله عنهما بقوله تعالى ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ) [ البقرة : 207 ] .
و روى القرطبي [ في تفسيره : 2 / 21 ] أنّ هذه الآية نزلت فيمن يقتحم القتال ، ثم ذكر قصّة أبي أيّوب رضي الله عنه .(70/103)
و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمأُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ في سَبْعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا رَهِقُوهُ قَالَ : « مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رفيقي في الْجَنَّةِ » . فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضاً فَقَالَ : « مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رفيقي في الْجَنَّةِ » . فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلملِصَاحِبَيْهِ : « مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا » .
و معنى قول أنس : رَهِقوه أي غشيه المشركون و قرُبوا منه ، و قوله صلى الله عليه و سلّم : ( مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا ) أي ما أنصفت قريش الأنصار ، لكون القرشيَّيْن لم يخرجا للقتال , بل خرج الأنصار واحداً تلو الآخر , و روي : ( ما أَنَصَفَنَا ) بفتح الفاء ، و المراد على هذا : الذين فروا من القتال فإنهم لم ينصفوا لفرارهم . [ انظر شرح صحيح مسلم للنووي : 7/430 و ما بعدها ].
و في الصحيحين قصّة حملِ سلمة ابن الأكوع و الأخرم الأسدي و أبو قتادة لوحدهم على عيينة بن حصن و من معه ، و ثناء الرسول صلى الله عليه و سلم عليهم بقوله : « كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ » .
قال ابن النحاس [ في مشارع الأشواق : 1 / 540 ] : و في الحديث الصحيح الثابت : أدل دليل على جواز حمل الواحد على الجمع الكثير من العدو وحده ، و إن غلب على ظنه أنه يقتل إذا كان مخلصا في طلب الشهادة كما فعل سلمة بن الأخرم الأسدي ، ولم يعب النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينه الصحابة عن مثل فعله ، بل في الحديث دليل على استحباب هذا الفعل و فضله فإن النبي عليه الصلاة والسلام مدح أبا قتادة و سلمة على فعلهما كما تقدم ، مع أن كلاً منهما قد حمل على العدو وحده و لم يتأنّ إلى أن يلحق به المسلمون .اهـ .
و روى أحمد في المسند عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ قُلْتُ لِلْبَرَاءِ بن عازب رضي الله عنه : الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَهُوَ مِمَّنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ ؟ قَالَ : لاَ لأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ رَسُولَهُ r فَقَالَ : ( فَقَاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ) [ النساء : 84 ] إِنَّمَا ذَاكَ في النَّفَقَةِ .
و روى هذا الأثر ابن حزم [ في المحلى : 7/294 ] عن أبي إسحاق السبيعي قال : سمعت رجلاً سأل البراء بن عازب : أرأيت لو أن رجلاً حمل على الكتيبة ، وهم ألف ، ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال البراء : لا ، ولكن التهلكة أن يصيب الرجل الذنب فيلقي بيده ، ويقول : لا توبة لي .
قال ابن حزم : و لم ينكر أبو أيوب الأنصاري ، و لا أبو موسى الأشعري أن يحمل الرجل وحده على العسكر الجرار ، و يثبت حتى يقتل .
و في الباب أيضاً ما رواه أبو داوود و الترمذي بإسناد صحيح عَنْ أَسْلَمَ أَبِى عِمْرَانَ التُّجِيبِىِّ قَالَ كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيماً مِنَ الرُّومِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا سُبْحَانَ اللَّهِ يُلْقِى بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِىُّ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الإِسْلاَمَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمإِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الإِسْلاَمَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَلَوْ أَقَمْنَا في أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ r يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا ( وَأَنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) [ البقرة : 195 ] فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الإِقَامَةَ عَلَى الأَمْوَالِ وَإِصْلاَحَهَا وَتَرَكْنَا الْغَزْوَ فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصاً فِى سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ . قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .(70/104)
و في مصنف ابن أبي شيبة أنّ معاذ بن عفراء رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، مايضحك الرب من عبده ؟ قال : غمسه يده في العدو حاسراً . قال : فألقى درعاً كانت عليه ، فقاتل حتى قتل . [ و في إسناد هذا الحديث مقال رغم تصحيح ابن حزم له في المحلى : 7/294 ، و روي بأسانيد أُخر في تاريخ الطبري : 2/33 ، و سيرة ابن هشام : 3/175 ] .
و في سير السلف الصالح من لدُن الصحابة الكرام فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين صورٌ رائعة ، و نماذج فريدة ، و أدلةٌ ساطعة على العمل الاستشهاديّ و مشروعيّته ، و من ذلك :
ما جاء في قصّة تحصن بني حنيفة يوم اليمامة في بستان لمسيلمة كان يُعرف بحديقة الموت , فلمّا استعصى على المسلمين فتحه ، قال البراء بن مالك رضي الله عنه ( و هو ممّن إذا أقسم على الله أبَرّه ، كما في سنن الترمذي بإسناد صحيح ) لأصحابه : ضعوني في الجَحَفَة - أو قال : في ترسٍ ، و هما بمعنىً - و ألقوني إليهم فألقوه عليهم فقاتلهم حتى فتح الباب للمسلمين [رواه البيهقي في سننه الكبرى: 9/44 ، و القرطبي في تفسيره : 2 / 364 ، و انظره في أسد الغابة و تاريخ الطبري مفصّلاً ].
و روى الطبري [ في تفسيره : 2/363 ] أنّ خيل المسلمين نفرت من فيلة الفرس لما لقيهم المسلمون في وقعة الجسر , فعمد رجل من المسلمين فصنع فيلا من طين و آنس به فرسه حتى ألفه , فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل , فحمل على الفيل الذي كان يقدم فيلة العدو فقيل له : إنه قاتلك . فقال : لا ضير أن أُقتل ويفتح للمسلمين .
و هذا الفعل ليس له في لغة الإعلام المعاصر تسمية يعرف بها إلا أن يكون عمليّة استشهادية يسميها العلمانيون فدائيّة أو انتحاريّة .
قلتُ : وجهُ الاستدلال بما رُوي و الاستئناس بما قيل في مسألة حمل المجاهد المقتحم على العدو العظيم لوحده أو الانغماس في الصف و تغرير النفس و تعريضها للهلاك بغلبة الظن أو التيقّن عدم الفارق بينها و بين العمليّات الاستشهاديّة في العصر المحاضر ، حيث ينغمس المجاهد بين الكفار ، أو يقبل عليهم مقتحماً مغرراً بنفسه لينكي بهم و يوقع فيهم القتل والإصابة و يشرّد بهم من خلفهم .
و لا أزعم في هذه العجالة إجماعاً على مشروعية الاقتحام و التغرير بالنفس للإنكاء بالعدو و ما يقاس عليها من عمليات الاستشهاديين ، بل المسألة خلافيّة ، و سيأتي عرض الإمام القرطبي لقول المخالف فيها ، و ذهابه مذهب الجمهور في القول بمشروعيتها و جواز الإقدام عليها ، إن شاء الله .
المقصد الثالث
حكاية الإجماع على مشروعيّة تقحّم المهالك في الجهاد
نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله [ في الفتح : 12 / 316 ] عن المهلب قوله : ( و قد أجمعوا على جواز تقحّم المهالك في الجهاد ) .
و روى ابن النحاس [ في مشارع الأشواق : 1 / 588 ] مثل ذلك عن المهلب .
و حكى الإمام النووي رحمه الله [ في شرح مسلم : 12 / 187 ] الاتفاق على التغرير بالنفس في الجهاد .
قلت : و في الإجماع المحكي إن ثبت إحقاق الحقّ إن شاء الله .
المقصد الرابع
في ذكر طائفة من أقوال السلف و الأئمة المتقدمين في هذا الباب
لم يَرَ جمهور أهل العلم المتقدمين بأساً في جواز الاقتحام و لو أدى إلى مهلكة ، بل حكي استحباب ذلك عن أئمة المذاهب الأربعة ، كما في كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة المتقدّم عند ذكر قصّة الغلام .
و لبيان ذلك أقتطف ما تيسّر من كتب المذاهب المعتمدة فأقول :
جاء في كتاب المبسوط للإمام السرخسي ( و هو من الحنفية ) : ( لو حمل الواحد على جمع عظيم من المشركين فإن كان يعلم أنه يصيب بعضهم أو يُنكي فيهم نكاية فلا بأس بذلك ، و إن كان يعلم أنه لا ينكى فيهم فلا ينبغي له أن يفعل ذلك ) . [ المبسوط ، للسرخسي : 10/76 ] .
و ذَكَر الجصّاص في تفسيره ن محمد بن الحسن الشيباني صاحبَ أبي حنيفة ذكر في السير الكبير أن رجلا لو حمل على ألف رجل و هو وحده ، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية ، فإن كان لا يطمع في نجاة و لا نكاية فإني أكره له ذلك ، لأنه عرض نفسه للتلف بلا منفعة للمسلمين ، و إنما ينبغي للرجل أن يفعل هذا إذا كان يطمع في نجاة أو منفعة للمسلمين ، فإن كان لا يطمع في نجاة و لا نكاية و لكنه يجرِّيء المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل ، فيقتلون و ينكون في العدو فلا بأس بذلك إن شاء الله ، لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو و لا يطمع في النجاة لم أر بأسا أن يحمل عليهم ، فكذلك إذا طمع أن يُُُنْكِِِِيَ غيره فيهم بحملته عليهم فلا بأس بذلك ، و أرجو أن يكون فيه مأجورا ، و إنما يكره له ذلك إذا كان لا منفعة فيه على وجه من الوجوه ، و إن كان لا يطمع في نجاة و لا نكاية و لكنه مما يرهب العدو فلا بأس بذلك لأن هذا أفضل النكاية و فيه منفعة للمسلمين [ أحكام القرآن للجصاص : 1 / 327 ].
و وافقه الجصاص فقال [ في أحكام القرآن ، له : 1 / 328 و ما بعدها ]:(70/105)
والذي قال محمد من هذه الوجوه صحيح لا يجوز غيره ، و على هذه المعاني يحمل تأويل من تأوّل في حديث أبي أيوب أنه ألقى بيده إلى التهلكة ، بحمله على العدو إذ لم يكن عندهم في ذلك منفعة ، و إذا كان كذلك فلا ينبغي أن يتلف نفسه ، بدون منفعة عائدة على الدين و لا على المسلمين ، فأما إذا كان في تلف نفسه منفعة عائدة على الدين فهذا مقام شريف مدح الله به أصحاب صلى الله عليه وسلم في قوله : ( إنَّ اللَّهِ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) [ التوبة : 111 ] ، و قال : (و لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) [ آل عمران : 169 ] ، و قال : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ) [ البقرة : 207 ] ، في نظائر ذلك من الآي التي مدح الله فيها من بذل نفسه لله .اهـ.
و ممّن انتصر لذلك الإمام الشافعي رحمه الله حيث قال [ في كتاب الأم : 4/169 ] : ( لا أرى ضيقاً على الرجل أن يحمل على الجماعة حاسراً ، أو يبادر الرجل و إن كان الأغلب أنه مقتول , لأنه قد بودر بين يدي رسول ا صلى الله عليه وسلم ، و حَمَل رجل من الأنصار حاسراً على جماعة من المشركين يوم بدر بعد إعلام صلى الله عليه وسلم بما في ذلك من الخير فقُتِل ) .
و في كلام الشافعي إشارة إلى ما رواه مسلم في صحيحه و أحمد في مسنده من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ المتقدّم .
و قال الإمام النووي رحمه الله [ في باب ثبوت الجنة للشهيد من شرح مسلم : 13 / 46 ] بعد ذِكر قصّة صاحب التَمرات : فيه جواز الانغماس في الكفار والتعرض للشهادة وهو جائز بلا كراهة عند جماهير العلماء . اهـ .
و في كتاب الفروع لابن مفلح الحنبلي [ 6 / 189 ] : ( قال و لو حمل على العدو و هو يعلم أنه لا ينجو لم يُعِن على قتل نفسه و قيل : له - أي للإمام أحمد - يحمل الرجل على مائة ؟ قال : إذا كان مع فرسان ، و ذكر شيخنا أنّه يستحب انغماسه لمنفعة للمسلمين و إلا نهى عنه و هو من التهلكة ) .
قال أبو عبداللّه القرطبي [ في تفسيره : 2 / 363 و ما بعدها ] : اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده ، فقال القاسم بن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبد الملك من علمائنا : لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم ، إذا كان فيه قوة ، وكان للّه بنيّة خالصة ، فإن لم تكن له قوة فذلك من التهلكة ، و قيل : إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل ؛ لأن مقصوده واحد منهم . اهـ .
ثمّ نقل [ في تفسيره أيضاً : 2 / 364 ] قول بعض المالكيّة : إن حمل على المائة أو جملة العسكر و نحوه و علم أو غلب على ظنه أنه يقتل ، و لكن سينكي نكاية أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز ، و نقل أيضا عن محمد بن الحسن الشيباني قوله : لو حمل رجل واحد على الألف من المشركين وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو ، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه ؛ لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين ، فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه ؛ لأن فيه نفعاً للمسلمين على بعض الوجوه ، فإن كان قصده إرهاب العدو ليعلم العدو صلابة المسلمين في الدين ، فلا يبعد جوازه إذا كان فيه نفع للمسلمين ، فَتَلَفُ النفس لإعزاز دين اللّه وتوهين الكفر ؛ هو المقام الشريف الذي مدح اللّه به المؤمنين في قوله : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ) [ المائدة : 111 ] ، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح اللّه بها من بذل نفسه ، وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) .
إلى أن قال [ في تفسيره : 2/364 ] : ( و الصحيح عندي جواز الاقتحام على العساكر لمن لا طاقة له بهم , لأنّ فيه أربعة وجوه :
الأول: طلب الشهادة .
الثاني: وجود النكاية .
الثالث : تجرئة المسلمين عليهم .
الرابع : ضعف نفوسهم ليروا أنّ هذا صنع واحد فما ظنك بالجمع ) .
و ذكر هذه الوجوه الأربعة أيضاً ابن العربي [ 1/166 ] .
و أختم بقول شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله : ( و أما قوله : أريد أن أقتل نفسي في الله فهذا كلام مجمل ؛ فإنه إذا فعل ما أمره الله به فأفضي ذلك إلى قتل نفسه فهذا محسن في ذلك ، مثل من يحمل على الصف وحده حملاً فيه منفعة للمسلمين و قد اعتقد أنه يقتل فهذا حسن ... ومثل ما كان بعض الصحابة ينغمس في العدو بحضرة النبي صلى الله عليه و سلّم ، و قد روى الخلال بإسناده عن عمر بن الخطاب أن رجلاً حمل على العدو وحده فقال الناس : ألقى بيده إلى التهلكة فقال عمر لا و لكنه ممن قال الله فيه : ( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) [ البقرة : 207 ] ) [ مجموع الفتاوى 25 / 279 ] .
المقصد الخامس(70/106)
أقوال بعض أهل العلم المعاصرين في حكم العمليّّّات الاستشهاديّة
و من أهل العلم المعاصرين من له في المسألة قولان كعلامّة نجد الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله ، و ما أحد قوليه بأولى من الآخر إذ إنّّّه يبني حكمه على مراعاة المصالح و المفاسد ، فقد سُئل [ في اللقاء الشهري العشرين ] عن شابّ مجاهد فَجَّرَ نفسه في فلسطين فقَتَل و أصاب عَشرات اليهود ، هل هذا الفعل يعتبر منه انتحاراً أم جهاداً ؟ فأجاب بقوله : ( هذا الشاب الذي وضع على نفسه اللباس الذي يقتل ، أول من يقتل نفسه ، فلا شك أنه هو الذي تسبب في قتل نفسه ، و لا تجوز مثل هذه الحال إلا إذا كان في ذلك مصلحة كبيرة للإسلام ، فلو كانت هناك مصلحة كبيرة ونفع عظيم للإسلام ، كان ذلك جائزاً ) .
فانظر - رحمك الله - كيف راعى المصالح في حُكمه ، و بنى على تحقيق مصلحة كبيرةٍ و نفع عظيم للإسلام قوله ( كان ذلك جائزاً ) ، و اضبط بهذا الضابط سائر كلامه و فتاواه و إن كان ظاهرها التعارض ، ليسهُل عليك الجَمع ، و يزول عنك اللبس ، فإن الجواب بحسب السؤال ، و الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره .
و مثل هذا الكلام يقال عن موقف محدّث الديار الشاميّة العلامّة الألباني ، الذي تعرّض رحمه الله إلى تطاول السفهاء و المتعالمين فنسبوا إليه زوراً و بهتاناً أنّه حكم على من يُقتل في عمليّة تفجير استشهاديّة يقوم بها في صفوف العدو بالانتحار ، و الشيخ بريء من ذلك براءةَ الذئب من دم يوسف ، و من فتاواه النيّرة في هذا الباب ما هو مثبت بصوته [ في الشريط الرابع و الثلاثين بعد المائة من سلسلة الهدى والنور ] حيث سُئل رحمه الله سؤالاً قال صاحبه : هناك قوات تسمى بالكوماندوز ، يكون فيها قوات للعدو تضايق المسلمين ، فيضعون - أي المسلمون - فرقة انتحارية تضع القنابل و يدخلون على دبابات العدو، و يكون هناك قتل... فهل يعد هذا انتحاراً ؟
فأجاب بقوله : ( لا يعد هذا انتحاراً ؛ لأنّ الانتحار هو: أن يقتل المسلم نفسه خلاصاً من هذه الحياة التعيسة ... أما هذه الصورة التي أنت تسأل عنها ... فهذا جهاد في سبيل اللّه... إلا أن هناك ملاحظة يجب الانتباه لها ، وهي أن هذا العمل لا ينبغي أن يكون فردياً شخصياً ، إنما يكون بأمر قائد الجيش ... فإذا كان قائد الجيش يستغني عن هذا الفدائي ، ويرى أن في خسارته ربح كبير من جهة أخرى ، وهو إفناء عدد كبير من المشركين و الكفار، فالرأي رأيه و تجب طاعته ، حتى و لو لم يَرضَ هذا الإنسان فعليه الطاعة ... ) .
إلى أن قال رحمه الله : الانتحار من أكبر المحرمات في الإسلام ؛ لأنّه لا يفعله إلا غضبان على ربه ولم يرض بقضاء اللّه ... أما هذا فليس انتحاراً ، كما كان يفعله الصحابة يهجم الرجل على جماعة من الكفار بسيفه ، و يُعمِل فيهم السيف حتى يأتيه الموت و هو صابر ، لأنه يعلم أن مآله إلى الجنة ... فشتان بين من يقتل نفسه بهذه الطريقة الجهادية و بين من يتخلص من حياته بالانتحار ، أو يركب رأسه ويجتهد بنفسه ، فهذا يدخل في باب إلقاء النفس في التهلكة ) .
و هذا تفصيل و تفريق دقيق بين العمليّات الانتحاريّة ، و تلك الجهاديّة الاستشهادية من وُفّق لفهمه ، صان لسانه من الافتئات على علماء الأمّة ، و من أشكل عليه ، أو توهّم الإشكال فيه وَقَع في أعراضهم ، و ربّما ظنّ أو حسِبَ نَفسه مدافعاً منافحاً عنهم ، و كان من الذين يحسبون أنّهم يُحسنون صُنعاً .
و يلزم من كلام الشيخ ناصر رحمه الله أنّه لا بدّ في العمليّات الاستشهاديّة من التفريق بين من يجتهد من العوام من تلقاء نفسه ، و بين من يقوم بعمليّة استشهاديّّّة رُتّب لها ، و أمر بها الأمير ، لأنّ طاعة الأمير واجبةٌ ، بل هي من طاعة الله تعالى ، و يغلب على الظنّ أن العمليّات الفرديّة غير المنظمة لا تجدي نفعاً ، بل تجر المسلمين إلى مفاسد عظيمة في الغالب ، لذلك جرى التفريق بين الحالتين .
قلت ُ : جاء اشتراط إذن الأمير عند من أوجَبه في الاقتحام قياساً على اشتراط ذلك في المبارزة ، و لست أذهبُ إليه لتخلّف علّة الاشتراط في عمليّات الاقتحام ، و قد أجاد ابن قدامة المقدسي رحمه الله التفريق بين المسألتين فقال بعد أن قرر وجوب إذن الأمير للمبارز : ( و لنا أن الإمام أعلم بفرسانه و فرسان العدو و متى برز الإنسان إلى من لا يطيقه كان معرضاً نفسه للهلاك فيَكسِر قلوب المسلمين ، فينبغي أن يفوض ذلك إلى الإمام ليختار للمبارزة من يرضاه لها ، فيكون أقرب إلى الظفر ، و جبر قلوب المسلمين ، و كسر قلوب المشركين . فإن قيل : قد أبحتم له أن ينغمس في الكفار و هو سبب لقتله ، قلنا : إذا كان مبارزاً تعلقت قلوب الجيش به ، و ارتقبوا ظفره ، فإن ظفر جَبَرَ قلوبهم ، و سرَّهم ، و كسر قلوب الكفار ، و إن قُتِل كان بالعكس ، و المنغمس يطلب الشهادة لا يُتَرقَّبُ منه ظفر و لا مقاومة فافترقا ) [ المغني ، لابن قدامة : 9 / 176 ] .(70/107)
و يا لَرَوعة قول الشافعي في كتاب السير [ كما في مختصر المزني نقلاً عن الأم ، له ] في مسألة اشتراط الإمام و إذنه في الغزو : وَإِنْ غَزَتْ طَائِفَةٌ بِغَيْرِ أَمْرِ الإمَامِ كَرِهْتُهُ لِمَا فِي إذْنِ الإمام مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِغَزْوِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ وَيَأْتِيهِ الْخَبَرُ عَنْهُمْ فَيُعِينُهُمْ حَيْثُ يُخَافُ هَلَاكُهُمْ فَيُقْتَلُونَ ضِيعَةً . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا أَعْلَمُ ذَلِكَ يُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الْجَنَّةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الأنصار : إنْ قُتِلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا ؟ قَالَ فَلَكَ الْجَنَّةُ قَالَ فَانْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ فَقَتَلُوهُ وَأَلْقَى رَجُلٌ مِنْ الأنصار دِرْعًا كَانَ عَلَيْهِ حِينَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلمالْجَنَّةَ ثُمَّ انْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ فَقَتَلُوهُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : فَإِذَا حَلَّ لِلْمُنْفَرِدِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى مَا الأغلب أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ كَانَ هَذَا أَكْثَرَ مِمَّا فِي الانْفِرَادِ مِنْ الرَّجُلِ وَالرِّجَالِ بِغَيْرِ إذْنِ الإمام . وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ وَرَجُلًا مِنْ الأنصار سَرِيَّةً وَحْدَهُمَا وَبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ سَرِيَّةً وَحْدَهُ فَإِذَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمأَنْ يَتَسَرَّى وَاحِدٌ لِيُصِيبَ غِرَّةً وَيَسْلَمَ بِالْحِيلَةِ أَوْ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ مَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةٌ .
و قال أيضاً : وَإِذَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ بِلَادَ الْحَرْبِ فَسَرَتْ سَرِيَّةٌ كَثِيرَةٌ أَوْ قَلِيلَةٌ بِإِذْنِ الإمام أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ فَسَوَاءٌ وَلَكِنِّي أَسْتَحِبُّ أَنْ لَا يَخْرُجُوا إلا بِإِذْنِ الإمام ... وأمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ فَلَا أَعْلَمُهُ يَحْرُمُ ) . و استدلّ رحمه الله لذلك بالحديث المتقدّم ، و أضاف إليه ( أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأنصار تَخَلَّفَ عَنْ أَصْحَابِهِ بِبِئْرِ مَعُونَةَ فَرَأَى الطَّيْرَ عُكُوفًا عَلَى مُقْتَلَةِ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ سَأَتَقَدَّمُ إلَى هَؤُلَاءِ الْعَدُوِّ فَيَقْتُلُونِي وَلَا أَتَخَلَّفُ عَنْ مَشْهَدٍ قُتِلَ فِيهِ أَصْحَابُنَا فَفَعَلَ فَقُتِلَ فَرَجَعَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ r فَقَالَ فِيهِ قَوْلًا حَسَنًا وَ يُقَالُ : فَقَالَ لِعَمْرٍو فَهَلَّا تَقَدَّمْت فَقَاتَلْت حَتَّى تُقْتَلَ ؟ } فَإِذَا حَلَّ الرَّجُلُ الْمُنْفَرِدُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْجَمَاعَةِ , الأغلب عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَنْ رَآهُ أَنَّهَا سَتَقْتُلُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمقَدْ رَآهُ حَيْثُ لَا يَرَى وَلَا يَأْمَنُ كَانَ هَذَا أَكْثَرَ مِمَّا فِي انْفِرَادِ الرَّجُلِ وَالرِّجَالُ بِغَيْرِ إذْنِ الإمام [ الأم ، للشافعي : 4 / 242 ] .
و من المقرر في مواضعه من كتب الفقه و السياسة الشرعيّة اشتراط الأمير - عند من اشترطه - في جهاد الطلب ، أمّا جهاد الدَفع فلا يحتاج إلى إذن الأمير و لا إلى وجوده أصلاً ، و يغلب على الظن أن الجهاد القائم في بلاد المسلمين اليوم هو من قبيل جهاد الدفع ، و الله المستعان ، فتَنَبّه !!
و مع ذلك نحسب أنّ إخواننا في بيت المقدس و أكناف بيت المقدس على علم بهذا و ليسوا سراة لا أمير لهم ، و الله حسيبنا و حسيبهم .
المقصد السادس
دلالة القواعد الفقهيّة و الأصوليّة على مشروعيّة العمليّات الاستشهاديّة
استقرّت القاعدة الفقهيّة ، على أنّ الأعمال بالنيّة ، لما رواه البخاري في الصحيح و مسلم في المقدمة و أبو داوود و ابن ماجة في سننهما عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلميَقُولُ : « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى » .
قال الحافظ ابن حَجَر في الفتح [8/185 و ما بعدها ] مُنيطاً الحُكمَ بقَصد صاحبهِ : أما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو ، فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته ، و ظنه أنه يرهب العدو بذلك ، أو يجرِّئ المسلمين عليهم ، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن ، ومتى كان مجرد تهوّر فممنوع ، ولا سيما إن ترتّب على ذلك وهن في المسلمين ، واللّه أعلم .اهـ.(70/108)
قلتُ : و إذا كانت النفس البشريّة مُلكاً لبارئها و خالقها ، و العبدَ مؤتَمَناً عَليها ، مسؤولاً عنها ، فليس له أن يتعدّى عليها فيؤذيها أو يزهقها بغير حقّ ، فإن أداء الأمانة في أسمى صُوَرها ، يكون بِبَذلِها لصاحبها و مالكها ، فمن جاد بنفسه طواعيةً في سبيل الله فقد أدّى ما عليه و أمره إلى الله .
و من التجنّي و مجاوزة الحق ؛ أن نحكم بالانتحار على من يريد الشهادة و يبذل نفسه في سبيل الله ، تحكّماً منّا في نيّته ، و حكماً على سريرته و ما في قلبه بغير علم ، مع علمنا أنّه لو أراد الانتحار لسلك إليه طرقاً أخرى و ما أكثرها و أيسرها .
كما يُستدلّ على مشروعيّة العمل الاستشهادي بقاعدة ( ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب ) المقرّرة عند الأصوليين ، ففي زمن الخَوَر و الضعف و الدَعة ، بل الصدّ عن الجهاد و التآمر على أهله ، و قطع السبل المفضية إليه ، مع الإقرار بوجوبه و تعيّنه ، لا يجد المجاهدون سبيلاً لمقارعة العدو و كسر شوكته ، سوى الاقتحام بأنفسهم في صفوفه ، رجاء ردّه على أعقابه ، و احتساب الشهادة لمن يقضي في تلك العمليات من المسلمين ، إذ لا بديل عن ذلك ، و لا سبيل للجهاد سوى هذا السبيل ، في ظل الظروف الراهنة ، فيُشرع العمل بهذه الصورة استناداً إلى القاعدة المتقدّمة الذِكر .
جاء في أضواء البيان للشيخ محمد الأمين بن المختار الشنقيطي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى : ( مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) [ الحشر : 5] : إنّ الإذن بالقتال إذن بكل ما يتطلبه , بناء على قاعدة : الأمر بالشيء أمر به و بما لا يتم إلا به . اهـ.
و هاهنا شبهة يحسن الردّ عليها ، و هي أنّ بعض المعاصرين أفتى بأن المقدم على الاقتحام في عمل استشهادي ، منتحر قاتل لنفسه ، مستحقّ للوعيد يوم القيامة .
و نذكّر من هذا مذهبه بقول علماء الأصول : ( لا قياس مع الفارق ) ، فكيف يُقاس من طلب الشهادة بتفجير نفسه إيماناً و احتساباً في العملية الاستشهادية ، و يٌقبل على الله بنفس مطمئنّة فرحة مستبشرة متطلعة للشهادة والجنة و ما عند الله في الآخرة ، و نصرة الدين و النكاية بالعدو و الجهاد في سبيله في الدنيا بمن قتل نفسه جزعاً و قنوطاً أو تسخطا على القدر و اعتراضا على المقدور أو استعجالا للموت أو تخلصا من الآلام و العذاب أو يأسا من الشفاء ، بنفس خائفة يائسة ساخطة لا يستوون ، فقد قال تعالى : ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون ) ، و قال تعالى : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) .
و أما من قاس العمليّة الاستشهاديّة على الانتحار ، و ألحقها به في الحكم ؛ بدعوى أنّ من يفجّر نفسه بين عناصر العدو يشبه المنتحر من جهة مباشرته قتل نفسه بيده أو بما يحمله من متفجّرات ، لا بيد عدوّه أو سلاحه ، فقد أبعَد النجعةَ و أفسدَ القياسَ ، لأنّه لم يعِ مراد الأصوليين من تعريف للقياس بقولهم : هو إلحاق فَرعٍ بأصلٍ في الحُكم لعلّةٍ جامعة بينهما ، و بالتالي لم يُفرّق بين العلّة و الصفة ، فظنّ أنّ كلا الأمرين انتحار ، لأنّ فيه مباشرة للقتل ، و غاب عليه أنّ العلّة التي دَفَعت المنتحر إلى إزهاق روحه ، هي التخلّص من الحياة اعتراضاً على القَدَر ، و سخطاً على ما لحقه من قضاء الله و قَدَره ، و هذا خلاف ما تقدّم بيانه من دوافع المجاهد لبذل روحه في سبيل الله .
و إذا سلّمنا جَدَلاً أو تنزُّلاً بأنّ العلّة في الانتحار هي مباشرة المنتحر قتل نفسه ، فما ظنّكم بمن يعترض سبيل سيارة أو قطار كما هو الشائع عند المنتحرين في الغرب اليوم ، ألا يُعدُّ منتحراً رغم أنّه لم يحمل أداة القتل بيده ، و لم يباشر قتل نفسه بِسُمٍّ تَحَسَّاهُ ، أو حَدِيدَةٍ تَوَجَّأَ بِهَا فِي بَطْنِهِ ، و ما تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ؟
المقصد السابع
مراعاة المصالح و المفاسد في الحكم على العمليّات الاستشهاديّة
إنَّ الحُكمَ على أفعال العباد تراعى فيه المصالح و المفاسد ، فلا يشرع منها ما يغلب على الظن أو يٌتَيَقَّن أنّه يؤدي إلى مفسدة ، تماماً كما هو الحال في باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر .
قال أبو حامد الغزّالي - رحمه اللّه - [ في الإحياء 7 / 26 من الطبعة المنشورة مع شرحها و هو الإتحاف ] : ( لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار و يقاتل ، و إن علم أنه يقتل ، و كما أنه يجوز أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز -أيضاً- ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار ، كالأعمى يطرح نفسه على الصف ، أو العاجز ، فذلك حرام ، وداخل تحت عموم آية التهلكة ، وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه لا يُقْتل حتى يَقْتل ، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته ، واعتقادهم في سائر المسلمين قلةَ المبالاة ، وحبَّهم للشهادة في سبيل اللّه ، فتُكسَرُ بذلك شوكتهم ) .(70/109)
قلتُ : نَظَراً لحساسية الوضع و دقّته ، و اختلاف النظرة بين الناس في ما يترتب عليه من المصالح و المفاسد فإنّ من الفقه في الدين و التبصّر في الواقع الرجوع إلى أهل الخبرة و الدراية في هذا الباب من عسكريين و إعلاميين و ساسة ، و قد ألفيناهم شبه شبه مجمعين على أن هذه العمليات لا تحرر أرضاً ، و لا تردُّ عدُوّاً ، و لا تعيد حقاً مغتصباً ، و لكنّها تثخن في العدو فتكفأ قَدره ، و تحط قَدره ، و تشيع البلبلة و التخويل في صفوفه ، و تزعزع أركانه و لو بقَدَر ، و هذه بعض محاسنها .
و مع ما قد يترتب عليها من زيادة صَلَف العدو و تجبّره و فتكه و انتقامه ، فإن الواقع أثبت عِظَم المنفعة و رجوح المصلحة على المفسدة و الحمد لله .
و من منظار المصالح و المفاسد أيضأ ، نرى أنّ الحرص على الشهادة يعوّض نقص العدة و العدد , و يؤثر في العدو أبلغ الأثر المادي و المعنوي ، و من أمثلة ذلك ما نشهده في بيت المقدس و أكناف بيت المقدس ، و ما شهدناه في جنوب السودان من عمليات الدبابين التي ترجمت واقعياً أنّ حبّ المسلم للشهادة يفوق تمسّك الكافر بالحياة .
و يترتّب على هذه العمليّات إرهاب العدو و إرعابه ، و هذا مقصدٌ شرعي ، قال تعالى : ( سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ) و قال سبحانه : ( فإما تثقفنّهم في الحرب فشرِّد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ) [ الأنفال : 57 ] .
و روى البخاري و غيره عن جابر بن عبد الله أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم قال : « نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ » ، و لا أبلغ في إيقاع الرعب في صفوف العدو من الإقدام على الموت بطمأنينةِ من باع نفسه لله .
و كفى مثالاً على جدوى العمليّات الاستشهاديّة و بالغِ أثَرِها في العصر الحديث ، أنّها أرغمت أنوف القادةِ الروس على إنهاء حربهم الأولى على الشيشان قبل عِدّة سنوات ، و أتت بهم صاغرين إلى التفاوض مع المجاهدين . و قد تمخّضت المفاوضات يومئذٍ عن هدنة السنوات الخمس ، التي ردّت الروس على أدبارهم ، و قَلَبتهم على أعقابهم ، لا يلوون على شيء ، و لا يتطلّعون إلى أكثر من حقن دماء من تبقّى من جهودهم ، بعد أن دبّ الرُّعب في صفوفهم ، و فرّق الذعر رأيهم ، و أطاش رَميَهم .
و لا يمنع من ذلك ما يراه الناظر بعينٍ واحدة ، من همجيّة الرد ، و عنجهيّة العدو ، فإنّ هذه سنّة الله في عباده ، و لنا العزاء في قوله تعالى : ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ و تِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) [ آل عمران : 140 ] و قوله سبحانه : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [ آل عمران : 173 ] ، و قوله جلّ شأنه : ( إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ) [ النساء : 104 ] .
و نحن نعذر من لم يرَ في العمليّات الاستشهاديّة جدوى ، و لم يُعلّق عليها أملاً و إن كان صغيراً ، لأن الثمرة اليانعة التي رآها المجاهدون عَياناً في عمليّاتهم ، قد تكون خافيّةً على غيرهم ، و خاصّة أولئك الذين قعدوا مع القاعدين ، لأنّ ( الخفاء و الظهور من الأمور النسبيّة ، فربّما ظهر لِبَعض الناس ما حفي على غَيرِه ، و يَظهَر للإنسان الواحد في حالٍ ما خَفيَ عليه في حالٍ أخرى ، و أيضاً فالمقدّمات و إن كانت خفيّةً فقد فقد يُسلّمها بعض الناس ، و يُجادل فيما هو أجلى منها ، و قَد تفرَح النفس بما علِمته من البحث و النظر ما لا تَفرَح بما عَلِمَته من الأمور الظاهرة ) [ شرح العقيدة الطحاوية ، لابن أبي العزّ الحَنَفي ، ص : 112 ] .
المقصد الثامن
في ما يتعلّق بقتل المدنيين في هذه العمليّات
لا حجّة لمن يُنكر العمليّات الاستشهاديّة بدعوى أنّها تستهدف ( أو يقع من ضحاياها بعض ) المدنيين ، و النساء و الأطفال و الشيوخ غير المحاربين ، فقد روى الشيخان و أبو داوود و الترمذي و ابن ماجة و أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ - رضى الله عنهم - قال : مَرَّ بي صلى الله عليه وسلم بِالأَبْوَاءِ - أَوْ بِوَدَّانَ - وَ سُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَ ذَرَارِيِّهِمْ قَالَ : « هُمْ مِنْهُمْ » . وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : « لاَ حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه و سلم » .
و من هذا الحديث الشريف أخذ العلماء جواز التبييت في الحرب . قال الإمام أحمد : لا بأس بالبيات وهل غزو الروم إلا البيات ، و قال : لا نعلم أحداً كره البيات . [ انظر : المغني مع الشرح الكبير : 10 / 503 ].
هذا مع ما في التبييت من مخاطرة بغير المحاربين نساءً و أطفالاً و شيوخاً ، فالنص يقطع دابر الخلاف في المسألة ، و يجعلهم سواء .(70/110)
و روى الترمذي عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ صلى الله عليه وسلم نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ . و معلوم أن الرمي بالمنجنيق يقع على كلّ من في الحصن ، و بثبوته يبطل التفريق بين المحاربين و بين ذويهم ، و الله أعلم .
بل يزاد على ذلك أن العبرة في التعامل مع العدو ليست بتقسيمهم إلى فسطاطين لا ثالث لهما ، بل يُلحق بالمحاربِ المساندُ بالرأي و المال ، لِفعل النبيّ صلى الله عليه و سلّم مع بني قريظة ، حيث قَتَل مقاتِلَتهم ( و هم القادرون على حمل السلاح من الرجال ) و لم يكن يسأل القُرَظيّ : أحاربتَ أم لا ؟
ثمّ إن دماء الكافرين لا يحصنها إلا عقد الذمّة أو الأمان ، فهل لدى اليهود في فلسطين شيء من ذلك ؟
المقصد التاسع و الأخير
في تلخيص ما تقدّم
خلاصة البحث في هذا الموضوع يمكن إيجازها في النقاط التالية :
• إن الجهاد ماض إلى قيام الساعة دَفعاً و طلباً مع كلّ برٍّ و فاجر ، و ليس لأحد أن يسقطه أو يوقفه إلا من عُذر شرعي .
• عامّة ما عرفه المسلمون في العصر الحديث من صور الجهاد ( في أفغانستان و البوسنة و الشيشان و فلسطين و الفلبين و غيرها ) هو من قبيل جهاد الدَفع لا الطَلَب ، و لا يشترط على من تعيّن عليه للخروج إليه وجود الأمير و لا إذن ولي الأمر الخاص و لا العام .
• ما يُعرف اليوم باسم العمليّات الاستشهاديّة مسألة معاصرةٌ مُحدثة تراعى في الحكم عليها المصالح و المفاسد ، التي تختلف زماناً و مكاناً ، كما يسوغ الاختلاف في تقريرها بين أهل العلم و الخبرة ، فتتباين آراؤهم تَبعاً لذلك ، و يعذر الجميع لاجتهادهم ، و يُدعى لعمومهم بالخير ، و لا يُتّخذون عرضاً .
• في أحداث السيرة النبويّة و السنن الفعليّة و القوليّة و فعل السلف الصالح و أقوال الأئمّة ما يدل عن طريق القياس ( لتوافق العلّة ) على مشروعيّة العمليّات الاستشهاديّة بصوَرها المعاصرة ، و خاصّة تلك الواقعة في دِيار الجهاد المتعيّن كفلسطين .
• إذا كان القياس إلحاقَ فَرعٍ بأصلٍ في الحُكم لعلّة جامعةٍ بينهما ، و اتّحدت العلّة بين العمليّات الاستشهاديّة و الحمل على العدوّ و الاقتحام عليه و الغرر بالنفس في ذلك طلباً للشهادة ، فإنّ الحكم واحدٌ في ذلك كلّه ، و إن اختلفت المسمّيات .
• لا وجه لتشبيه العمليّات الاستشهاديّة بالانتحار أو تسميتها بذلك ؛ لاختلاف النيّة و الباعث و الأثر ، و لا ينزّل حكم الانتحار على القائمين بهذه العمليّات ، و لا يجوز لغيرهم الحكم على نيّاتهم ، بل تُحمَل على أحسن المحامل ، و لا يُنسَب إلى ساكتٍ قَول .
• إذا جاز ورود المهالك في الجهاد ، و صحّ انعقاد الإجماع عليه ، فإن من أجلى صُوَره في زماننا العمليّات الاستشهاديّة القائمة على تفجير النفس بين الأعداء ، أو الاقتحام عليهم ، أو دفعهم إلى المهالك ( بتغيير مسارات مراكبهم عنوة و نحو ذلك ) صِرنا ضرورةً إلى القول بمشروعيّة ذلك كلّه ، إذ لا مندوحة للخروج على الإجماع القطعي الثبوت ، إذا انعَقَد .
• إن ما أخَذه بعض العُلماء المعاصرين على العمليّات الاستشهاديّة و منفذيها ، و أثّر في فتاواهم و أحكامهم حقٌّ كلّه أو جلّه ، يجب الوقوف عليه بتدبّر ، كمراعاة المصالح و المفاسد ، و البعد عن الطيش و العمل الفردي غير المدروس ، و نزع يد الطاعة من أمير الجهاد ، و ليُعلَم أنّ الفتاوى التي لا تجوّز هذه العمليّات منوطة بعلل ( كغلبة المفسدة على المصلحة ) تزول بزَوالها ، و لا تعني التحريم المُطلق بحال ، و أنّ قست ألفاظها ، و احتد أصحابها في طرحها .
• لا حجّة لمن يُنكر العمليّات الاستشهاديّة بدعوى أنّها تستهدف ( أو يقع من ضحاياها بعض ) المدنيين ، و النساء و الأطفال و الشيوخ غير المحاربين ، في زمن يساهم فيه الجميع في الحرب على الإسلام و أهله بآرائهم و أموالهم ( تبرعاتٍ و ضرائب ) و أصواتهم .
• العمليات الاستشهاديّة وسيلة شرعيّة من وسائل الجهاد ، يُلجأ إليها في وقت الحاجة ، و بمقدارها ، و ليست الأصلَ المتعيّن ، و لا السبيل الأوحد لمجاهدة الكفار و المنافقين و التغليظ عليهم ، بل الواجب على الأمّة الاستعداد و الإعداد بكل صوره المتاحة ( و أعدّوا لهم ما استطعتم من قوّةٍ و من رباط الخيل ترهبون به عدوَّ الله و عدوَّكم ) .
هذا و الله نسأل أن يمكن لعباده دينهم الذي ارتضى لهم ، يعبدونه لا يُشركون به شيئاً ، و يجودون في سبيله بالنفس و النفيس ، و أن يقرّ أعيننا بالنصر و التمكين ، و يرزقنا في المسجد الأقصى صلاةً ، و على ثغوره رباطاً ، و في أكنافه جهاداً ( و ما النصر إلا من عند الله ) .
و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين .
و كتب
أحمد بن عبد الكريم نجيب
( الملقّب بالشريف )
دَبْلِن ( إيرلندا ) في غرّة صفر الخير عام 1423 للهجرة
الموافق للخامس عَشَر من أبريل ( نيسان ) عام 2002 للميلاد
=============(70/111)
(70/112)
على مفترق الطرق
منير عرفه
moni r r r r r r r @yahoo.com
) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (
سورة فصلت آية 53
إهداء
الى الحائرين فى هذه الحياة
إليكم طوق النجاة
بداية
اعلم - يرحمني الله وإياك - أننا لا نعيش فى الحياة إلا مرة واحدة . ولابد أن نسلك في حياتنا طريقا، حتى لو لم تختر أنت فلسوف يُختار لك . والحياة مليئة بالمذاهب والطوائف والفرق والأديان ، منها ما هو صالح ومنها ما هو فاسد ... وأنت أمامها جميعا لا بد أن تختار من بينها .
ولو أردت أن تدرس كل طائفة على حدة لطال بك البحث ولضاع عمرك كله ولما وصلت إلى مأربك .
لذا أردتُ من هذا البحث أن آخذك فى رحلة نتعرف فيها على أصول هذه الأديان والمذاهب لنصل معًا إلى طريق الهداية ..
الحلقة الأولى
بين الكفر والإيمان
الحلقة الأولى
بين الكفر والإيمان
إذا نظرنا بنظرة عامة إلى العالم ، فإن الناس جميعا ينقسمون إلى نوعين إما مؤمن وإما كافر . وتحت هذين النوعين الكبيرين أقسام وأقسام ...
أما الكافر ...
فهو إنسان ترك الأديان و أنكرها واتبع هواه وفقط . وقال أن الأديان والإيمان ألفها الرهبان والقساوسة والمشايخ ليستعبدوا الناس ويتبعونهم ولتكون لهم الرياسة على الخلق واستغلال ذلك. وأن الله لم يخلق الإنسان بل الإنسان هو الذى خلق الله بذهنه .
وهذا الذى قالوه ما هو إلا ضرب من الأوهام من قاله فقد أغلق قلبه وعقله وعاند الحقائق . إذ أنه أراد أن يريح نفسه ويتبع هواه ويُنكِر ما لا يُنكَر ويجحد ما لا يجحد .
* فمَنْ ذا الذى يجحد الكون وما فيه من آيات باهرات تكشفها الحقائق وتجليها يوما بعد يوم . كلها تتضافر على أن لهذا الكون واجد أوجده من العدم .
* فمن من أصحاب العقول يمكن أن يفسر دقة نظام الكون وما فيه من شمس وكواكب ومجرات عظيمة كل قد وجد فى مكانه بحكمة ودقة عظيمة ؟!
* ومن من أصحاب العقول يمكن أن يفسر دقة نسب الأشياء الموجودة فى الكون ؟ فإذا سألت أهل العلم والدراية فإنهم يقولون أن الهواء الجوى يتكون من عناصر مختلفة وهى الأكسجين بنسبة 21% والنيتروجين بنسبة 78% وثانى أكسيد الكربون بنسبة 0.03 % والهيدروجين والأرجون وغيرها بنسبة 0.97 % ونسبة متغيرة من بخار الماء.
وكلها نسب ثابتة مع أنها تنقص فى جانب وتزيد من جانب آخر إلا أنها تظل نسب ثابتة ..
والنبات يأخذ الشمس وثانى أكسيد الكربون فى عملية معروفة بعملية البناء الضوئى ويخرج منها غذاء الكائنات جميعا وكذلك ينتج غاز الأكسجين . ولولا هذه العملية البسيطة التى تتم فى النبات لهلكت الحياة على ظهر الأرض إذ لولاها لنفذ الأكسجين و لانتهى الغذاء .
* ولو نظرت الى وجهك فى المرآة لرأيت عينين جميلتين كلاهما دقيق الصنع تتعجب من هذه النافذة البسيطة التى لا تريد أن تبيعها بجواهر العالم حتى لو كنت أفقر الناس. وترى شفتين تحتهما أسنان لمضغ الطعام ولسانا تتكلم به وترى فى وجهك أذنين تتعجب من صنعهما وأنف تُعتبر مدخل الهواء إليك . وكلها فى مكان واحد وتسقى بغذاء واحد ، فمن ذا الذى لا يتعجب من دقة الصنعة فيه ؟ ولو بدلت الأسنان مكان الرموش لما قامت بوظيفتها ولكانت سيئة المنظر.
ففى الكون وفى النفس آيات وآيات لا ينكرها إلا جاهل .
ثم إذا كان للعين وظيفة وللأذن وظيفة وللأيدى وظيفة وللأسنان وظيفة ، فما وظيفة هذا الإنسان مجتمعًا ؟!
كل هذا وغيره يبين مدى حماقة من يقول أن هذا الكون ليس له واجد وأن هذه الكون وُجد بالصدفة وتضطرنا إلى أن الحقيقة أن لهذا الكون واجد ومنشئ وصاحب .
* وبذلك قد أسقطنا من حساباتنا طائفة كبيرة منكرة لوجود الواجد .
ولم يصبح أمامنا إلا أن ننظر إلى أصحاب الديانات المختلفة العظيمة التى هى مبثوثة فى العالم . ولا شك أن منها الصحيح ومنها الفاسد وتلك هى الحلقة الثانية التى سندخلها معا ..
الحلقة الثانية
بين أهل أى عبادة ..
الحلقة الثانية
بين أهل أى عبادة
فإذا دخلنا هذه الحلقة وجدنا أناسًا يعبدون الشمس وأناسًا يعبدون الشيطان وآخرون يعبدون الله ... وهكذا .
فإذا أردت أن تختار من بين هؤلاء جميعًا فتسأل نفسك سؤالا بعيدًا عن أى إنسان من الذى يمكن فى هؤلاء جميعًا أن يوجد هذا النظام الدقيق والذى يستطيع أن يخلق الكون بهذه الدقة ويخلق الإنسان والحيوان والنبات ..
* عُبَّاد البقر :
فنقول هل يمكن لبقرة تُذبح أن تصنع هذا ؟!
وقد يبدو السؤال عجيبًا لو لم تعرف أن بلادًا بأكملها تعبد البقر مثل الهند . وإذا أردت أن تعرف هل البقر آلهة قم فاذبح بقرة أو اذهب الى أى مجزر قريبًا منك وسوف ترى الآلهة تُذبح ولا تستطيع أن تمنع نفسها . أى عقل يمكن أن يقول ذلك ؟!
وهل البقرة التى ذبحناها لو تركناها أياما عدة ، ألا تترك رائحة نتنة ينفر منها الجميع فأين عقلك يا أخي الإنسان ؟!
وإليك بعض النصوص التى تتكلم عن نفسها من أناس يعبدون البقر:
أمى البقرة(70/113)
جاء فى كتاب مقارنة الأديان (أديان الكبرى) ، د. أحمد شلبى ط. لجنة التأليف والترجمة والنشر 1964 ص 32 : يقول غاندى فى القرن العشرين فى مجال نشر بمجلة Bhana jo r nal عدد نوفمبر سنة 1964م تحت عنوان أمى البقرة : ( إن حماية البقرة التى فرضتها الهندوسية هى هدية الهند إلى العالم وهى إحساس برباط الأخوة بين الإنسان وبين الحيوان ، والفكر الهندى يعتقد أن البقرة أم الإنسان ، وهى كذلك فى الحقيقة ، إن البقرة خير رفيق للمواطن الهندى ، وهى خير حماية للهند ...
عندما أرى بقرة لا أعدنى أرى حيوانا ، لأنى أعبد البقرة وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع ..
وأمى البقرة تفضل أمى الحقيقية من عدة وجوه ، فالأم الحقيقية ترضعنا مدة عام أو عامين وتتطلب منا خدمات طول العمر نظير هذا ، ولكن أمنا البقرة تمنحنا اللبن دائما ، ولا تتطلب منا شيئًا مقابل ذلك سوى الطعام العادى .
وعندما تمرض الأم الحقيقية تكلفنا نفقات باهظة ، ولكن أمنا البقرة تمرض فلا نخسر لها شيئًا ذا بال ، وعندما تموت الأم الحقيقية تتكلف جنازتها مبالغ طويلة ، وعندما تموت أمنا البقرة تعود علينا بالنفع كما كانت تفعل وهى حية، لأننا ننتفع بكل جزء من جسمها حتى العظم والجلد والقرون.
أنا لا أقول هذا لأقلل من قيمة الأم ولكن لأبين السبب الذى دعانى لعبادة البقرة . إن ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة ولإجلال وأنا أعد نفسى واحدا من هؤلاء الملايين )
انتهى كلام غاندى .. وهو من مشاهير العالم فى العصر الحديث يعبد بقرة ويفضلها على أمه . أفما كان أولى بهذا الرجل العاقل أن يعبد مَنْ خلق البقر جميعا والغنم جميعا والإبل والحمير والخيول وغيرها والذى خلق الإنسان والنبات وكل فى هذا الكون .
* وإذا كانت العملية تتوقف على المنفعة فإن النبات أنفع إذ أن النبات يقوم بعملية البناء الضوئى كما قدمنا فيأخذ الشمس وثانى أكسيد الكربون ويصنع لنفسه وللكل الغذاء النافع .
صلاة الى البقرة
وجاء فى كتاب مقارنة الأديان (أديان الكبرى ) ، د. أحمد شلبى ط. لجنة التأليف والترجمة والنشر 1964 ص 30-32 : وجاء فى العدد ذاته تحت عنوان ( صلاة الى البقرة ) وهو نص من " ساماويدا": ( أيتها البقرة المقدسة ، لك التمجيد والدعاء ، فى كل مظهر تظهرين به ، أنثى تدرين اللبن فى الفجر وعند الغسق ، أو عجلا صغيرا ، أو ثورا كبيرا ، فلنعد لك مكانا واسعا نظيفا يليق بك، وماء نقيا تشربينه ، لعلك تنعمين هنا بالسعادة. )
فإذا تركنا عباد البقر نجد.
..........
* عُبَّاد الشمس :
وسترى أناسًا يعبدون الشمس ويتخذونها إلها ، فهل يمكن أن تكون الشمس إلها بعدما ثبت أن الشمس نجم كبير موجود فى مجرة واحدة
يدور حولها عدة كواكب كالأرض وعطارد والمريخ ..... وغيرها
إن الشمس كرملة فى صحراء بالنسبة إلى الكون الهائل .
* عُبَّاد الأحجار والأصنام :
وسترى أناسًا الذين يعبدون الحجارة والأصنام والتماثيل ! هل يمكن أن تمنع الحجارة نفسها من أن تتكسر إذا حاول أحدٌ تحطيمها ؟!
وقد حطم الأفغان منذ عدة سنوات أصنامًا كان يعبدها عابدوها فغضبوا لذلك ونددوا بمن حطمها ، ولم يسألوا أنفسهم سؤالا إذا كانت هذه آلهة فلماذا لم تحفظ نفسها وتدمر أعدائها .
إن الإنسان معه عقل يفكر به هو مصباحه الى الهداية فكيف يطفئ هذا المصباح ثم يتخبط فى ظلام دامس .
* عُبَّاد الشيطان :
أما الذين يعبدون الشيطان فكان الأولى بهم أن يعبدوا الملائكة إذ أن الشيطان لم يرد إلا هلاكهم وهو رمز لكل شئ قبيح أو ما كان الأجدر بهم أن يعبدوا رموز الخير والبر والإحسان ؟!
........
إن الذى يبقى من بين هذه المعبودات جميعا هو الله وحده الذى خلق الإنسان وعلمه وخلق الطير وخلق الشمس وخلق الشيطان وخلق الأحجار .. هو وحده يستحق أن يكون سيدًا وخالقًا لهذا الكون .
ولم يقل أحد أن الله هو الحق وأن المستحق بالعبادة إلا ثلاثة أديان كبرى فى العالم [ اليهودية - النصرانية - الإسلام ]
وبذلك نكون قد استبعدنا كل الأديان الأخرى ما عدا هذه الثلاثة العظيمة التى هى مبثوثة فى العالم . ولا شك أن منها الصحيح ومنها الفاسد وتلك هى الحلقة التالية التى سندخلها معا ...
الحلقة الثالثة
بين الأديان الكبرى فى العالم
اليهودية - النصرانية - الإسلام
الحلقة الثالثة
بين الأديان الكبرى فى العالم [ اليهودية - النصرانية - الإسلام ]
وصلنا إلى الحلقة التى تعبد الله وتدين له بالعبادة وهى تقر جميعا أن الله هو الذى خلق الكون بما فيه من شمس وانس وكائنات والكل صنعته .
* ولن نفاضل بين أى من هذه الديانات فى فروعها فالفروع كثيرة ومتشعبة وإذن لطال بنا البحث ولخرج عما أردناه إنما سننظر الى أصلها الأصيل وصلبها القويم ألا وهو نظرتها الى الإله من خلال مصادرها المعتمدة عندهم .(70/114)
* وقبل أن أخوض معك فى هؤلاء يجب أن نتفق على أمور نرجع إليها ونسترشد بها ألا وهى : أن الله له صفات الكمال والجلال إذ لا يعقل أن خالق الكون بهذه الدقة والنظام لا يمكن إلا أن يكون عالمًا خبيرًا بدقائق الأمور حكيمًا فى كل شيئ وقادر على كل شيئ وإليه ترجع القوة المطلقة وهو إله واحد يرجع إليه الأمور كلها وإلا لتشتت الخلق من الذى خلق ما نرى وخلقنا ، ولتشتت الناس من يعبدون ومن الإله الأولى إذن هو إله واحد قادر على كل شيئ بيده كل شيئ وإليه يرجع كل شيئ ومن عدله أن جعل هناك جزاء وحساب بعد الممات يحسن فيها الى أهل الخير ويعاقب فيها أهل الضلال .
فإذا فحصنا هذه الأديان الثلاثة ورأينا نصوصها المعتمدة عند أهلها فإننا نرى ما يلى :
أما اليهودية
فندع النصوص هى التى تتكلم ..
* جاء فى سفر التكوين - الإصحاح الثانى والثلاثون 24 : 30 ما نصه : ( فبقى يعقوب وحده ، وصارعه إنسان - حتى طلوع الفجر ، ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حتى فخذ يعقوب فى مصارعته معه . وقال أطلقنى لأنه قد طلع الفجر ، فقال : لا أطلقك إن لم تباركنى فقال له : ما اسمك ؟ قال يعقوب - قال : لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت ، وسأل يعقوب وقال : أخبرنى باسمك ، فقال : لماذا تسأل عن اسمى وباركه هناك ، فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل قائلا: لأنى نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسى )
فالنص السابق يقضى أن الرب قد ظهر ليعقوب فى صورة إنسان صارعه حتى الفجر ولم يتمكن الرب من هزيمة إلا بعد أن كسر حق فخذه فأى إله عاجز بهذه الصورة .
* وجاء فى سفر التكوين الإصحاح 5 - 7 ما يلى : " ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر فى الأرض. وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم . فحزن الرب أنه عمل الإنسان فى الأرض . وتأسف فى قلبه . فقال الرب : أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذى خلقته. الإنسان مع بهائم ودبابات (الأرض) وطيور السماء لأنى حزنت أنى عملتهم "
فهذا النص السابق يقضى بأن الله يفعل الشئ ثم يندم عليه ويأسف فى قلبه على عمله .
* وجاء فى سفر صموئيل الثانى - الإصحاح الحادى عشر (1-27) : ما يلى : " فصعد داود مساء الى سطح قصره، فرأى امرأة جميلة تستحم ، فاستدعاها الى قصره واضطجع معها، وكانت هذه المرأة زوجة لجندى من جنود الجيش الذى يحاصر "ربة" واسم هذا الجندى "أوريا" فحملت المرأة وأرسلت بذلك الى داود فأرسل داود الى "يؤاب" قائد الجيش يطلب منه أن يرسل إليه "أوريا" فجاء الرجل إلى "داود" فطلب منه أن يذهب الى بيته ويعود إليه فى الغد، ولكن الرجل لم يذهب الى بيته وأمضى ليلته نائما على باب قصر "داود" وعلم داود بذلك ، فلما كان الغد سأله "داود" عن سبب عدم مبيته فى بيته فأجاب الرجل بأنه لم يرض لنفسه أن يبيت مع زوجته بينما جيش بنى إسرائيل يحاصر "ربة" ويسقط منه القتلى والجرحى فأعطاه "داود" رسالة وطلب منه أن يسلمها الى "يؤاب قائد الجيش" وفى هذه الرسالة يأمر "داود" قائد جيشه بأن يعرض "أوريا" لنيران العدو حتى يموت، وقد تم ذلك ، فلما علمت المرأة بوفاة زوجها بكته وندبته، ثم لما انتهت مدة المناحة ضمها داود الى بيته وأصبحت زوجها له .
ويضيف سفر صموئيل الثانى - الإصحاح الثانى عشر 24 : أن هذه المرأة هى أم سليمان عليه السلام
فهذا النص يقضى بأن نبى الله داود الذى أرسله ليكون نموذجا للخلق وهداية لهم رجلا ماكرًا زانيًا خائنًا للناس مغتصبا لأعراضهم لا يقبل أن يفعل ذلك إلا أخس الرجال فضلا عن النماذج المختارة لتعلم الناس وترشدهم.
أما النصرانية
فهى ديانة تحولت من عبادة الله الواحد الأحد الذى لم يلد ولم يولد الى الإشراك بالله حيث أصبح الإله عندهم عبارة عن شركة من [الأب - الابن - الروح القدس ] واتخذوا المسيح إلها يدعونه ويقولون فى أدعيتهم "إلهنا المسيح" فإذا سألتهم عن ذلك يقولون أن الله تجسد فى المسيح ليخلص البشرية من ذنوبها ويختمون حياة الإله بموته مصلوبا. وأخذ اليهود يجرونه ويسحبونه ويصفعونه على وجهه وهو يصرخ مستغيثا قائلا : " إلهي إلهي لماذا شبقتنى" أى لماذا تركتنى .
فإذا كان المسيح هو الله فبمن كان يستغيث وهو يصرخ ؟!
فالله الخالق الذى نؤمن به لا يمكن أن يكون هو ذلك المصلوب ولا ذلك المصفوع ولا ذلك المستغيث بمن هو أعلى منه ..
ثم إن الله واحد أحد ليس ابن أصغر ولا أب شيخ كبير إنما هو إله متفرد ومنزه عن كل نقص .
وهم يقولون أن الله تجسد فى صورة إنسان ليخلص البشر من ذنوبهم. وهذا أعجب من سابقه فلماذا لا يكفرها بدون أن ينزل إلى البشر ويقتلونه .. ثم إن أى ذنب فعلته البشرية لا يساوى أن يقتلوا الإله .
ثم إن النصوص التى أوردناها فى حق اليهودية هى نفسها مسحوبة على النصرانية لأن الكتب المقدسة التى نقلنا عنها هذه النصوص هى مصادر ومراجع معتمدة لدى النصارى .. ويضاف إليها ما سبق .
أما الإسلام(70/115)
فهو يصف الله بأنه واحد أحد ، متفرد عن خلقه ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له شريك فى الملك . ومن صفاته أنه حكيم عليم خبير ، قوى قادر ، رحيم بعباده ، من غير حاجة إليهم ، عزيز لا يغلب ، وهو الأول والآخر .. ونرى أن كل الصفات التى يمكن أن تتصورها فى الإله المدبر الخالق لك والخالق لجميع الموجودات تجدها فى الإله الذى يعبده المسلمون .
ثم إن اليهودية والنصرانية دعوة إلى بنى إسرائيل وفقط .. أما الإسلام فجاء للبشر جميعا .
وندع النصوص هى التى تتكلم ..
* " الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين . اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" 1
* " قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد" 2
* " قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من يشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير "3
" وقالوا اتخذ الرحمن ولدا . لقد جئتم شيئًا إدا . تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر له الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا . وما ينبغى للرحمن ولدا . إن كل من فى السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا . لقد أحصاهم وعدهم عدا . وكلهم آتيه يوم القيامة فردا " 4
* أما الأنبياء فى الإسلام فهم عباد للإله العظيم ونماذج أرسلها الله للبشر ليعلموهم الطريق إلى الله وليس لهم من الأمر شئ .
بل جاء فى القرآن الكريم الكتاب المقدس عند المسلمين يوجه الخطاب لمحمد رسول الله : "ليس لك من الأمر شئ أو يتوب عليهم أو ويعذبهم فإنهم ظالمون " 5
وقال تعالى فى القرآن الكريم : " قل لا يعلم من فى السماوات والأرض الغيب إلا الله " 6
* ونهى نبى الإسلام أن يؤتى بأى بادرة من بوادر الشرك بالله مثل الحلف بغير الله حتى لا يؤدى ذلك الى التعظيم الهائل الى شئ. فقا صلى الله عليه وسلم : " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت "7 . وقا صلى الله عليه وسلم : "من حلف بغير الله فقد أشرك " 8
* ونهى أن يسأل المسلم غير الله ويستعين بغير الله وأن يوقن أن الأمور كلها بيد الله ليس بيد أحد غيره فقال لابن عباس وهو من أطفال المسلمين يومئذ : " يا غلام إنى أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة كلها لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لن ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف "9
* بل نهى الإسلام عن عمل العمل من أجل السمعة أو الشهرة بل أوصى بأن تكون الأعمال خالصة وموجهة لرضى الله وحده .
إنه توحيد خالص لله خالق الكل ورازق الكل ومدبر أمر الجميع والقادر على تحويل حالك من حال إلى حال .
والله فى الإسلام موصوف بالكمال والجلال والمهابة والقوة ومع هذه القدرة فهو الرحمن الرحيم اللطيف الصبور .
وبذلك نكون قد استبعدنا كل الأديان الأخرى ما عدا الإسلام.
وسندخل هذه الحلقة معًا لنتعرف على بعض معالم هذا الدين الذى بقى معنا .
الحلقة الرابعة
الإسلام
الحلقة الرابعة
الإسلام
فى الإسلام ثلاثة أصول كبرى يتفق عليها المسلمون جميعا ، ومن خالفها فإنه لا يكون على دين الإسلام ولو ادعاه .
( الله جل جلاله - محمد رسول الله - القرآن كتاب الله )
وقد اخترناها الثلاثة لأن أصل الديانة إذا ثبتت فإن ما بعدها تبع لها وإذا لم تثبت فما بنى على باطل فهو باطل .
وإليك تلك الدعائم الثلاثة :
أما عن الله :
فقد تكلمنا عنه نبذة وجيزة تبين تصور المسلمين لله فإنهم يعتقدون فى الله ثلاثة أمور :
* الأمر الأول : أنه خالق ، واجد ، رازق ، ومالك الكل .
* الأمر الثانى : أنه هو وحده المستحق بأن يعبد ويطاع .
* الأمر الثالث : أنه له صفات الكمال والجلال .
أما عن القرآن الكريم :
وهو كتاب المسلمين المقدس ، وهو كتاب اتفقت كلمة المسلمين
جميعا عليه وأنه كتاب الله المنزل ، وهو محفوظ ، لا يزيد فيه أحد ولا ينقص فيه أحد ، توارثه المسلمون جيلا بعد جيل دون أدنى تغيير فيه . يشهد على ذلك المسلمون قاطبة .
وقد اتفقت كلمة المستشرقين ، وعلماء الغرب المحققين ، على أن القرآن الكريم محفوظ فى السطور والصدور ، وأنه لم تحذف منه كلمة ، ولم تزد عليه كلمة .
r فقد جاء عن (السير وليم ميور) فى كتابه "حياة محمد " وقد عُرف وليم هذا بتحامله على الإسلام ، وعلى النبى صلى الله عليه وسلم :
" لم يمض على وفاة محمد ربع قرن حتى نشأت منازعات عنيفة ، وقامت طوائف ، وقد ذهب عثمان ضحية هذه الفتن ، ولا تزال هذه الخلافات قائمة ، ولكن القرآن ظل كتاب هذه الطوائف الوحيد، إذ أن اعتماد هذه الطوائف جميعا على هذا الكتاب تلاوة ، برهان ساطع على أن الكتاب الذى بين أيدينا اليوم ، هو الصحيفة التى أمر الخليفة المظلوم بجمعها وكتابتها، فلعله هو والكتاب الوحيد فى الدنيا الذى بقى نصه محفوظا من التحريف طيلة ألف ومائتى سنة " 10
r وجاء عن (وهيرى) فى تفسيره للقرآن قال :
" إن القرآن أبعد الصحف القديمة بالإطلاق عن الخلط والإلحاق وأكثرها صحة و أصالة " ج1 ص 349
r وجاء عن ( يامر ) مترجم القرآن المعروف إلى اللغة الإنجليزية:(70/116)