(65/188)
الحصانة الشرعية ودورها في تشكيل الشَّخصيَّة الإسلاميَّة
كتبه
خباب بن مروان الحمد
Khabab00@hotmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
أمَّا بعد:
يعيش المسلمون في زمن انفتحت فيه الدنيا على مصراعيها ؛ فقد تعدَّت مقولة العيش في قرية واحدة مرحلتها ، وصرنا في حقيقة الأمر نعيش في عالم يجتمع في غرفة واحدة ، فالقنوات الفضائية دخلت البيوت ، والمواقع الإلكترونية استقطبتها أروقة الدور والعمل ، فصار المرء يتلقَّى آراء عديدة، وتوجهات متغايرة، تجعله يتابعها وهو في غرفته ليل نهار.
وفي خِضَمِّ هذه التحديات ، والاختلافات البينيَّة يجدر بالمرء الذي منَّ الله عليه بالإسلام ، أن تكون لديه رؤية ناضجة في كيفية التعامل مع هذه التحديات ، فإنَّ فيها الحق والباطل ، ومواجهتنا لهذه التحديات الثقافية تتطلَّبُ منَّا قوَّة عقدية، وركائز ثابتة، تأخذنا لبرِّ الأمان ، وشاطئ النجاة.
وليس من شكٍّ أنَّ الله ـ تعالى ـ قد منَّ علينا بنعمة عظيمة ، وهي:نعمة العقل ، والتي يُعرف من خلالها ـ في كثير من المسائل ـ الخير من الشر، والهدى من الضلالة ، والصواب من الخطأ ، بيد أنَّ الإنسان إذا استقلَّ بها وأعرض عن الوحي ، فسيرتكب ما تهواه النفس، ولذا نزلت الشريعة الإلهية على عباد اللَّه ، لتميِّز للناس ما يفيدهم ويضبط عقولهم ، فتتوازن الحياة ، وتنضبط المسيرة.
والعقل على شرف منزلته ، لن يستقلَّ بالهداية إلاَّ باتِّباعه لشريعة الإسلام ، وشريعة الإسلام لن تتبين مراداتها إلّا بواسطة العقل ، فكلا الأمرين يحتاج أحدهما الآخر، ولن يعارض العقل الصحيح النقل الصريح أبداً كما بيَّنه علماء الإسلام.
فصل
التعريف بـ:(الحصانة الشرعية):وأهميَّة هذا الموضوع
من أهمِّ القضايا العلميَّة في دين الإسلام معرفة حقائق الأشياء وتعريفاتها ؛ لتكون الصورة واضحة في الذهن ، جليَّة في الفكر (إذ المرء ما لم يحط علماً بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة)كما قال الإمام ابن تيميَّة "الفتاوى10/368".
ومن خلال تأمُّل فكري لاستخراج تعريف لهذا المفهوم :(الحصانة الشرعية) وتبيين المقصود منه ، أرى أنَّه: (البناء العقدي المتين من خلال الفهم الناضج لمنهاج الله كتاباً وسنَّة ، ووقاية الفكر والعقل عن كلِّ ما يخلُّ بهما من الآراء الفاسدة ، المخالفة لمنهج أهل السنَّة والجماعة في التلقي والاستدلال).
فالحصانة الشرعيَّة مشابهة لجهاز مناعة واقٍ من أن يتسرَّب إليه شيء من الخلل والعطب ، فيفسده ويخلُّ به. وهكذا المسلم ، فإنَّه محتاج لما يحوط عقيدته ويرعاها حقَّ رعايتها من أن تتلقَّى شيئاً من شبه أهل الضلال ، فيقع في قلبه شيء من الانخداع بها ، فيزيغ قلبه ـ عياذاً بالله من ذلك ـ فيهلك مع الهالكين.
*تتجلَّى أهميَّة الموضوع ـ فيما أرى ـ بأنَّه منذ خروج المرء من بطن أمِّه ، فليس في ذهنه رصيد معرفي، ولا خبرة عملية ، كما قال الله ـ تعالى ـ:(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلَّكم تشكرون) (النحل78) فالمرء المسلم ما دام أنَّه سيبدأ بالتلقي والاتصال مع بني الإنسان ، فسيجد اختلافات في الآراء ، وتباينات في المناهج، وكلٌّ يدَّعي الحق والصواب، فما موقفه إذن من هذه التضاربات الفكرية ؟وكيف يستطيع أن يميِّز بين الصواب والخطأ ؟ هناك خطوات لتحقيق ذلك ، وستَتَجلَّى في هذه الدراسة ـ بإذن الله ـ.
فصل
ضرورة تلقي العلم من منابعه الأصيلة
ليس من شك في أنَّ الإنسان المسلم إذا لم يتلقَّ العلم من منابعه الأصيلة ، وروافده الصحيحة ، أخذاً من الكتاب والسنة على هدي السلف الصالح ، فإنَّه سيخبط خبط عشواء ويتلقَّى العلم من جهات لا يعلم توجُّهاتها العقدية، ولا أصولها الشرعية ، ويقع في عدة مزالق يتباين حجم خطئها وضلالها ، ولهذا كان علماؤنا السابقون يوصون بتلقي العلم ممَّن صدقوا الله في تعلمهم وتعليمهم ، ولاحت قوة حججهم أمام خصومهم، وفي المقابل يحذِّرون طلابهم من أهل الزيغ والهوى ، لئلا يقعوا فيما وقع فيه أولئك المبتدعة ، فكان الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود ـ رضي اللَّه عنه ـ يقول:(لا يزال النَّاس بخير ما أخذوا العلم عن الأكابر ، وعن أمنائهم وعلمائهم؛ فإذا أخذوا من صغارهم وشرارهم هلكوا . قال ابن المبارك ـ رحمه اللَّه ـ في تفسير((الأصاغر)):(يعني أهل البدع)(أخرجه ابن المبارك في الزهد:صـ815 ، و عبدالرزاق في المصنَّف(20446و20483،بسند صحيح).
وهذا الإمام عبدالله بن المبارك ـ رحمه الله ـ يوصي طالب العلم قائلاً له:
أيها الطالب علماً ائت حمَّاد بن زيد
فاكتسب علماً وحلماً ثمَّ قيِّده بقيد
ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد
(ديوان ابن المبارك للدكتور:مجاهد مصطفى:صـ45، وانظر البداية والنهاية:10/79).(65/189)
وممَّن نبَّه على ذلك الإمام الغزالي ـ رحمه الله ـ حيث ألمح للمسلم الذي يريد أن يكون ذا عقليَّة واعية بأنَّه لا بد أن يعمل على حصانة عقليته من الانحرافات الفكرية ، وخصوصاً إن كان في منطقة يكثر بها أهل البدع والهوى ، فقال:(فإن كان في بلد شاع فيه الكلام وتناطق الناس بالبدع فينبغي أن يصان في أول بلوغه عنها بتلقين الحق ؛ فإنه لو أُلقي إليه الباطل لوجبت إزالته عن قلبه وربما عسر ذلك ، كما أنه لو كان هذا المسلم تاجراً وقد شاع في البلد معاملة الربا وجب عليه تعلم الحذر من الربا) إحياء علوم الدين للغزالي:(1/29)
وحين يفتش المراقب ضلال من ضلَّ وحادَ عن طريق الهدى وعلائم الحق ، فسيجد أنَّ من أسباب ذلك ضعف الحصانة الشرعية ، ممَّا يؤدِّي لولوج المشتبهات في فكره وعقله ، وقد نبَّه على ذلك الإمام ابن بطَّة العكبري فقال:(اعلموا إخواني أني فكرت في السبب الذي أخرج أقواماً من السنة والجماعة واضطرهم إلى البدعة والشناعة ، وفتح باب البلية على أفئدتهم وحجب نور الحق عن بصيرتهم فوجدت ذلك من وجهين :
أحدهما : البحث والتنقير وكثرة السؤال عما لا ينبغي ، ولا يضر العاقل جهله ، ولا ينفع المؤمن فهمه.
والآخر: مجالسة من لاتؤمن فتنته ، وتفسد القلوب صحبته)"الإبانة :1/390".
وقد يتساءل بعض المستشكلين عن علَّة الاهتمام والتَّشبُّث تجاه مصادر التلقي ؛ والسبب في ذلك ، لئلاَّ تختلط المناهج في الذهن ، وتتضارب التصورات ، فتكون النتيجة المنطبعة بعد ذلك في العقل الإسلامي منهجاً غوغائياً لا تلزمه ضوابط ، ولا تحكمه قيود .
فالمطلوب لمن أراد الهداية والتثبيت على سلَّم الشريعة ، ليدفع بها الأهواء ، ومكائد أهل الضلال ، أن يكون معتنياً بحماية عقله، بسياج الشريعة الإسلاميَّة وأصولها، والتي تكوِّن له ثوابت عقدية تحميه ـ بعون الله ـ من سريان الأفكار المضلِّلَة إلى منهجه ، من أهل الأهواء والعصرنة والعلمنة. أمَّا أن يظنَّ العبد بنفسه حين قرأ شيئاً في عقيدة أهل السنة والجماعة أنَّه صار مدركاً لها بالكليَّة ، أو مفكِّراً ألمعياً ، ثمَّ يطالع كتب أولي الأهواء والبدع، ويشاهد بعض البرامج الدينية أو الفكرية في بعض القنوات الفضائية ، بحجَّة الاستنارة وعدم التعصُّب الفكري، أو بغية العثور على فكرة ضالة ، فيبدأ مشاهداً ومطالعاً متوجساً من كلام المتحدث ، وما أن تمضي عدَّة شهور أو سنوات ، حتَّى يدمن ذاك الذي ظنَّ أنَّه قد أحاط علماً بأصول الإسلام ، على مشاهدة الفضائيات وملاحقة الصحف والمنتديات الثقافية ، فتبدأ الشبهات تقع في ذهنه ، لقلَّة علمه ، بل قد يأتي بعضهم لأهل العلم في مجالس خاصة أو عامة ، يحدثونهم سراً أو علانية ، بأنَّ في ذلك البرنامج الفلاني ، أو الصحيفة الفلانيَّة، ذكر الكاتب كذا ، وأقام الأدلة على حديثه ، فهل كلامه صواب ؟ وكيف نرد عليه؟! والحقُّ أنَّ هؤلاء أحسنهم ، وإلاَّ فقد ينخدع هؤلاء ببعض أهل الهوى ممَّن أوتوا فصاحة وبياناً بل علماً ، فتختلط المعايير لديهم، ويضطربون فكرياً، ثمَّ يلتفتون مرَّة أخرى إلى منهجهم الذي ساروا عليه سنوات فيدَّعون أهمِّية نقضه ونسفه ، ومعاودة النظر في كلام علمائه بحجَّة أنَّهم رجال وعلماء السلف رجال؛ لأنَّه لم يقم على الأصول العلمية الصحيحة!! وصدق عمر بن عبدالعزيز ـ رضي الله عنه ـ حين قال:(من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل)(تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة/صـ115).
فصل
الحذر من مخالفة منهج أهل السنَّة والجماعة
من يتابع مسيرة سلفنا الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ يجدهم يتحاشون الاستماع لأهل البدع والهوى ، أو محادثتهم ، أو مجالستهم ، وفي هذا يقول سفيان الثوري:(من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة ، وهو يعلم ، خرج من عصمة الله ، ووكل إلى نفسه ، وقال كذلك:من سمع بدعة فلا يحكها لجلسائه ، لا يلقها في قلوبهم .
علَّق الإمام الذهبي على مقولة الإمام سفيان الثوري بقوله:أكثر الأئمة على هذا التحذير يرون أن القلوب ضعيفة والشُّبه خطَّافة )"السير7/261" ، وقد أحسن من قال:
لا تستمع إلاَّ لقول صادق يغنيك عن خطل من الأقوال
فالأذن نافذة العلوم وخيرها أذنٌ وعت ذكراً تلاه التالي
بل إننا نجد أنَّ من منهج أهل العلم الراسخين تجاه المدارس الضالَّة ؛ التحذير منها ، بله محاولة انتزاعها من أيدي أصحابها، لئلاَّ تفسد عقول الناس بتلك الأفكار المضلِّلة ، ويذكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة ـ رحمه الله ـ شيئاً من هذا قائلاً:(وقد أمر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي ، وقال: أخذُها منهُ أفضلُ من أخذِ عكا ـ وقد كانت بأيدي الصليبيين ـ مع أن الآمدي لم يكن في وقته أكثر تبحراً في الفنون الكلامية ، والفلسفية منه ، وكان من أحسنهم إسلاما، وأمثلهم اعتقاداً)"مجموع الفتاوى 18/53"
وقد يقول قائل: أليس ذلك مصادرة للرأي ، وحجراً على الأفكار ؟(65/190)
وإجابة على ذلك ؛ أنَّ هذه المصادرة لرأي الآخر ليس كما يظنُّه بعض أهل الهوى أو المنهزمين ممَّن ينتسبون إلى الإسلام ؛ بسبب الخوف والجبن من الاستماع لأهل البدع والهوى ، بل لأنَّه حفظ لعقول المسلمين ، والاحتياط لدينهم من سماع كلام أهل الضلال والكفر ، استدلالاً بقوله تعالى:(وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإمَّا ينسينَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين)وقوله تعالى:(وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتَّى يخوضوا في حديث غيره)"النساء/140".
ومن الأدلَّة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :(وإنَّه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين ، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة وكلُّ بدعة ضلالة) أخرجه أحمد في مسنده (4/126)والترمذي برقم (2676) وقال: حديث حسن صحيح ، فإنَّه صلى الله عليه وسلم حذَّرنا من محدثات الأمور، ودعانا إلى اجتنابها .
ومن الأدلة كذلك ما رواه عمران بن حصين عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنَّه قال:(من سمع بالدجَّال فلينأ عنه ، من سمع بالدجَّال فلينأ عنه ، من سمع بالدجَّال فلينأ عنه، فإنَّ الرجل يأتيه وهو يحسب أنَّه مؤمن، فما يزال به بما معه من الشبه حتَّى يتَّبعه)أخرجه الإمام أحمد في المسند(4/431)بسند صحيح،وجوَّد إسناده الإمام ابن مفلح في الآداب الشرعية(1/220). بل إنَّ المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين أتاه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه ، غضب ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقال :(أوفيَّ شكٌّ ياابن الخطَّاب ؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقيَّة ، لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحق فتكذبوا به ، أو بباطل فتصدقوا به . والذي نفسي بيده ، لو أنَّ موسى كان حيَّاً ما وسعه إلاَّ أن يتبعني) أخرجه أحمد في مسنده (3/338)، وابن أبي شيبة في مصنَّفه(6/228) بسند حسَّنه الألباني.
كان ذلك منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ تربية لأصحابه على أن يكون الينبوع الذي يتلقون منه واحداً عذباً نقيَّاً:(يسقى بماء واحد)، ليفارقوا أهل الضلالة ويستقوا المنهج من غيرهم، لأنَّ مفارقتهم منهج لأهل السنة والجماعة ، وليست من إنشاءات بعض المتشدِّدين كما يزعمه بعضهم ، ويكفينا أنَّه ـ سبحانه وتعالى ـ يقول في محكم التنزيل لمن يطلب النظر في غير كتاب بدعوى عدم الحجر الفكري :(أولم يكفهم أنَّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم)!!
وأمَّا ما يدَّعيه بعضهم من أولي التوجهات الحديثة العصريَّة : بأنَّ ذلك التحفظ من باب الحجر على الأفكار ، والاسترقاق الفكري ، والإرهاب الثقافي تجاه الناس ، وأنَّه لا بأس بأن يستمع من شاء إلى من يشاء ، سواء أكان سنِّيَّ المنهج أو نقيضه، بلا توجيه أو رعاية أو تربية وعناية ؛ بزعم أنَّ الحق أبلج ناصع ، ومن خلال نصاعة الحق سيتبين للناس أنَّه حق ويأخذون به،لأنَّ الله يقول:(فأمَّا الزبد فيذهب جفاء وأمَّا ماينفع الناس فيمكث في الأرض) ويقولون : إنَّه ليس من إشكال أن يقلِّب المرء بصره في كلام الناس ، ويستمع لجدال المجادلين ، ثمَّ يرى من كان كلامه حقاً فيأخذ به.
فالجواب عن ذلك:بأنَّ هذا الطرح متولد من العقلية الغالية في تحكيم النصوص ، والتي تزايد في إعطاء العقل ما لا يقدر عليه ، ولم يُبْنَ على الأصول الشرعية، وإلَّا فإنَّ هدي رسول الهدى صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ممن بعده يقوم على تحصين الأفكار ، وصيانة العقول من الاستماع لكلِّ من هبَّ ودبَّ ، وعلى هذا قام منهج أهل السنَّة والجماعة ، ورحم الله عمر بن عبد العزيز، حين قال:(سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً،الأخذ بها تصديق لكتاب الله ،واستكمال لطاعته ، وقوَّة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ، ولا النظر في رأي من خالفها،فمن اقتدى بما سنُّوا فقد اهتدى ، ومن استبصر بها بصر ، ومن خالفها واتَّبع غير سبيل المؤمنين ولَّاه الله ماتولى وأصلاه جهنَّم وساءت مصيراً)أخرجه الآجري في الشريعةص48،والَّلالكائي شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعةبرقم(134)(1/94)،وعبدالغني المقدسي في الاقتصاد في الاعتقادص216)وحين جاء رجل للإمام الأوزاعي ـ رحمه الله ـ فقال:أنا أجالس أهل السنَّة ، وأجالس أهل البدع . قال الأوزاعي:(هذا رجل يريد أن يساوي بين الحقِّ والباطل)أخرجه ابن بطَّة في الإبانة(2/456) والَّلالكائي (252) في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة.(65/191)
وكم أعجبتني فتوى الشيخ العلاَّمة السيد محمد رشيد رضا ـ رحمه الله ـ حين سئل : ما هو حكم الله فيمن يطالع الكتب السماوية الأخرى مثل التوراة بقصد الإحاطة خبرًا بما جاء في غير شريعتنا , وهل كان النهي عن قراءتها عامًّا ، وإذا سلمنا ذلك تكون الشعوب غير الإسلامية متميزة على المسلمين بعدم منع أنفسهم إجالة النظر في القرآن ، فيستفيدون مما جاء فيه من الآيات البينات , ويحتجّون به علينا , ونحن لا نقدر أن نقابلهم بالمثل ؛ لأن كتبهم مغلقة في وجوهنا . أفيدونا بما علمكم الله ؟.
فأجاب فضيلته : بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد :
الأمور بمقاصدها , فمن يطالع كتب الملل بقصد الاستعانة على تأييد الحق وردّ شبهات المعترضين ونحوه وهو مستعد لذلك , فهو عابد لله تعالى بهذه المطالعة , وإذا احتيج إلى ذلك ؛ كان فرضًا لازمًا .
وما زال علماء الإسلام في القديم والحديث يطلعون على كتب الملل ومقالاتهم , ويردّون بما يستخرجونه منها من الدلائل الإلزامية , وناهيك بمثل ابن حزم وابن تيمية في الغابرين ، وبرحمة الله الهندي صاحب إظهار الحق في المتأخرين ، أرأيت لو لم يقرأ هذا الرجل كتب اليهود والنصارى ، هل كان يقدر على ما قدر عليه من إلزامهم وقهرهم في المناظرة , ومن تأليف كتابه الذي أحبط دعاتَهُم في الهند وغير الهند ، أرأيت لو لم يفعل ذلك هو ولا غيره أما كان يأثم هو وجميع أهل العلم , وهم يرون عوام المسلمين تأخذهم الشبهات من كل ناحية ولا يدفعونها عنهم ؟
نعم إنه ينبغي منع التلامذة والعوام من قراءة هذه الكتب لئلا تشوش عليهم عقائدهم وأحكام دينهم ، فيكونوا كالغراب الذي حاول أن يتعلم مشية الطاووس فنسي مشيته ولم يتعلم مشية الحجل ، والله أعلم .(1(
ولنفترض جدلاً أنَّ علماء أهل السنَّة والجماعة فتحوا المجال للنَّاس أجمعين ليطالعوا ما يشاؤون،ويشاهدوا مايريدون، فالظنُّ أنَّه سيخرج كلُّ واحد منهم بمنهج يدَّعي أنَّه الحق الذي لا مرية فيه ، وخاصة إذا استصحبنا أنَّ في القلوب ركيزة الهوى ، وتزيين السوء باسم المصلحة تارة والحق أخرى ووجهة النظر ثالثة والحرية رابعة ، وتكون النتيجة المحصِّلة لنا من هذه الآراء ؛ التمذهب بمذهبية الـ(حيص بيص!) في المعتقدات والأفهام ، والكل يقول أنا الذي ! دع عنك حبَّ الاستئثار بالرأي لدى البشر، وتعظيمهم لأقوالهم ، ومن ثمَّ إخراجهم للكتب والمؤلفات لنصرة رأيهم،والانتصار لفكرتهم (وكم كتاب صنع ليطعن حقَّا) كما قاله الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه:(نقض كتاب الشعر الجاهلي ص4)
والحقيقة أنَّنا إذا نظرنا فيمن يعظِّم الذي يظنُّ أنَّه عقلاني ، فسنجدهم قد صاروا إلى أقوال متباينة ، وأفكار غريبة، وقلَّ أن نراهم يوافقون الحق والصواب المدَّعى من قِبَلِهم ؛ لأنَّ المعيار بلا معيار لا يكون ، والعقول تختلف ، والآراء تتباين ، والأفكار تتضارب ، فتتكون لديهم رؤية مبعثرة غير متَّزنة ، تسفُّها الرياح العاتية ، وتتلاعب بها الأعاصير الجارفة ، وقد قيل:(للناس بعدد رؤوسهم آراء !) ولهذا فلم نرَ من كبارهم إلَّا الندم والحسرة على تلك الأيام التي خلت حين كانوا يضربون الأخماس في الأسداس في ماهية المنهج الصائب،حتَّى انتهوا بلا نهاية،وقالوا:
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وللَّه درُّ الإمام ابن قتيبة حيث قال عن هؤلاء المتَّبعين للمنهج "الأرأيتي" :(وقد كان يجب ـ مع ما يدَّعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر ـ أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحُسَّاب والمسَّاح ، والمهندسون ، لأن آلتهم لا تدلُّ إلاَّ على عدد واحد ، وإلا على شكل واحد ، وكما لا يختلف حذَّاق الأطبَّاء في الماء وفي نبض العروق ؛ لأنَّ الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمر واحد ؛ فما بالهم أكثر الناس اختلافاً ، لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين)(انظر:تأويل مختلف الحديث/صـ63) وصدق الله: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً).
وأمَّا ما ادَّعاه بعضهم من صحَّة الفكرة القائلة:بأن يقلِّب المرء ناظريه بين الأقوال المتضاربة ، ويرى الحق الذي يبدو له في بعضها فيختاره ، ثم يرى أنَّ هناك شخصاً تَعَقَّبَ ذلك الحق الذي اتَّبعه فجعله باطلاً ، ثمَّ أبدى ما لديه من حق ، فيأتي المرء ليختار الحق الذي اختاره ذلك الشخص المتعقب لكلام من قبله ، ثمَّ يأتي شخص ثالث فيبطل القولين ويصوِّب القول الذي اختاره بعناية وتحقيق، فيأتي هذا المرء المسافر بين عقول هؤلاء ليختار قول هذا الرجل ، لأنَّه قوي في المناظرة ، رابط الجأش في المجادلة ، وهكذا....فإنَّ هذا الرأي المطروح ليس صواباً ، لأنَّ دين الله لم يأت ليحاكمه العقل البشري، بل ليسمع له ويطيعه ، ولهذا فإنَّ المنهج العقلي وإنْ صوِّر لأصحابه في البداية بأنَّه منهج المنطقية والعقلانية ، إلَّا أنَّه في الحقيقة منهج الحيرة والضلالة ، لأنَّ هذا المنهج وإن كانت له قيود ، فقيوده متفلِّتة ، وقواعده متسيِّبة، فينتج من ذلك ثلاثة أمور:(65/192)
1ـ إمَّا أن يصاب أصحابه بتبلّد الإحساس فيختاروا قولاً ، يبقون عليه إلى أن يُقْبَضُوا مع تعصب مقيت ، وهوى متَّبع.
2ـ وإمَّا أن يصطدموا بما لا طاقة لعقولهم به فيردُّوا الشريعة جملة وتفصيلاً.
3ـ وإمّا أن يصاب أصحابه بالارتحال الفكري ، والتجوال بين عقول البشر ، ومناهج الفلاسفة أو المفكرين العصريين ، فيعانوا من الدُّوار مع القلق الفكري ، وتغلب عليهم الحيرة والاضطراب المنهجي ـ عياذاً بالله من ذلك ـ وقد ابتلي بعض من سار على هذا المنهج بذلك مثل:الفخر الرازي ، والشهرستاني، والجويني، والكرابيسي،والخونجي، وشمس الدين الخسروشاهي ، وابن واصل الحموي ، والآمدي ، وإبراهيم الجعبري ، وغيرهم ، وإن كان بعض هؤلاء قد منَّ الله عليهم بالرجوع لمنهج أهل السنة والجماعة قبل وفاتهم ـ ولله الحمد والمنَّة ـ.
وحين جاء رجل للإمام مالك يقال له أبو الجويرية ـ متَّهم بالإرجاء ـ فقال له:اسمع منِّي،فقال مالك:احذر أن أشهد عليك . فقال هذا الرجل:والله ما أريد إلَّا الحق ،فإن كان صواباً ، فقل به ، أو فتكلَّم . فقال مالك:فإن غلبتني . فقال الرجل:اِتَّبِعْني.فقال مالك:فإن غلبتك ، قال :اتَّبعتك .فقال مالك:فإن جاء رجل فكلَّمنا، فغلبنا؟قال:اتَّبعناه.فقال مالك:يا هذا ، إنَّ الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بدين واحد ، وأراك تتنقل!!)(سير أعلام النبلاء 8/99ـ106)(الفتوى الحموية الكبرى/ ص277)ولا يعني ذلك بحال ألاَّ يتطلب المسلم الحق ويبحث عنه ، فإنَّ هذا الأمر غير ذاك،والفارق بينهما أن من يريد تتبع الحق في أصول الإسلام وقضاياه الكلية يرجع إلى كتاب الله ، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم فيستقي منهما الحقَّ والصواب،على طريقة علماء أهل السنَّة والجماعة، ومنهجيَّتهم في الاستدلال.
فصل
حتى لا نقع في الانحرافات
صفة متَّبع الحق أنه يدور مع الأدلة الشرعية حيث تدور،فهمُّه التسليم لكلام الله ورسوله ؛ لأنه عابدٌ لله ، ولا يكون العبد مسلماً لله إلا إذا ابتعد عن هواه وسلَّم عقله ونفسه لحكم الله وأمره ، أمَّا من يريد تتبع الحق لأقوال من عرفوا بالزيغ والهوى،فإنَّه قلَّ أن يصل للمنهج الإسلامي الصحيح ، ومن دلائل معرفة هؤلاء أنَّهم يبعدون النجعة كثيراً عن الأدلة الشرعية،ولا يتحاكمون إلاَّ إلى عقولهم ومن ثمَّ يختارون من الشريعة ما يوافق هواهم ، بل لو قيل لبعضهم : إنَّ هذا القول خطأ والدليل عليه من كتاب الله كذا وكذا ، لضجُّوا وأكثروا وقالوا أنت رجل مماحك ؛ فما أشبههم بقوله تعالى:(وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) نسأل الله العافية والسلامة!
ومن هنا يلزم كلِّ متبع لمنهج أهل السنة أن يكون فكره مبنيَّاً على كتاب الله وسنة رسول الله بالفهم المنضبط على منهج أهل السنة والجماعة ، خشية الوقوع في الشبهات ووصولها إلى ذهنه، ومن ثمَّ صعوبة الانفكاك عنها، حيث ترسَّخت في العقل ، ولعلَّ هذا يفسِّر لنا ما ذكره الإمام أبو بكر بن العربي عن أبي حامد الغزالي ـ رحمهما الله ـ حيث إنَّه من المعلوم أنَّ الإمام الغزالي تنقل في عدة أطوار عقدية ومنهجية من اعتزالية فلسفيَّة، فكُلاَّبيَّة ، فصوفية ، فأشعريَّة ، ثمَّ أراد الانفكاك عنها والخروج من لوازمها ، لكنَّه لم يستطع أن يتقيأ كلَّ ما انغرس في فكره من تلك العقائد البدعية ، فقال عنه أبو بكر بن العربي:(شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثمَّ أراد أن يخرج منهم فما قدر)"درء تعارض العقل والنقل1/5" وكذا الإمام أبو الحسن الأشعري فقد كان معتزليَّاً ، ثم تبنَّى الفكر الأشعري ، وبعد هذه التنقلات الفكرية ترك أبو الحسن الأشعري ذلك كلَّه وأقبل على منهج أهل السنَّة والجماعة وألَّف كتابين جليلين فيه هما:(الإبانة عن أصول الديانة)وكتاب:(مقالات الإسلاميين واختلاف المصلِّين)ولكنَّه مع ذلك لم يخل من بعض الأخطاء بسبب التكوين العقدي المركَّب في عقله، وممَّن ألمح لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حيث قال:(لم يستطع التخلُّص من مذهب المعتزلة لأنَّه نشأ عليه مع قلَّة خبرته بمذهب أهل السنَّة وعدم تمكنه من علم الكتاب والسنة)(فتاوى ابن تيميَّة)
عرضت هذين النموذجين لأبيِّن دور البناء والتأصيل للتكوين العقدي في الخريطة الذهنية لدى الفرد المسلم ، وأنَّ الانفكاك عن كلِّ ما يثبت بالذهن من الأخطاء العقديَّة قد يكون صعباً ، إلاَّ من أراد الله له ذلك وتفلَّت فكره من كلِّ مخالفة شرعيَّة.
فصل
استدراك لابدَّ منه(65/193)
لا يعني التحذير من القراءة لكتب أهل الزيغ والهوى ، أو متابعة آرائهم وأفكارهم بأي حال ؛ ألاَّ يُنتَدَب أناس منَّ الله عليهم بالعمق العلمي في معرفة منهج أهل السنة ، ورصانة الدفاع عنه ، مع ما آتاهم الله من قوة وحجَّة في الكلام ، وجزالة في المعاني والتبيان، بالتصدِّي لأهل البدع والضلالات ، وكشف زيف شبههم ؛ فإنَّ أهل السنة محتاجون أشد الحاجة لأولي العلم الربانيين المتمكِّنين ، وخاصة في هذا الزمان ، الذي كثرت فيه الشبهات وتسلط فيه الجهال على منابر الإعلام ، وانتشر فيه الرويبضات الذين ينطقون في أمر العامة ، فإننَّا بحاجة ماسَّة لمن منَّ الله عليهم بذلك وتكونت لديهم الحصانة العقدية ، لأن يُنتدَبوا لجدال الزائغين ، ومناقشة المغرضين ، وقد كان في السابق من أهل العلم من ينتدب لذلك إذا رأى الشبهات قد كثرت ، بل قد يناظر ويجادل أمام العامة ، إذا خشي أن تتسرب الفكرة الضالة إلى عقولهم من أهل الضلال ، حماية لهم منهم ، ورداً لكيد الضُّلاَّل في نحورهم ، كما ناقش الإمام أحمدُ ابنَ أبي دؤاد ، وكما جادل الكنانيُّ بِشْرَ المريسي ، وابنُ تيميةَ علماءَ الأشاعرة ، وغيرهم كثير . وكانت هذه الحالة عند العلماء استثنائية ، من أصل عدم مناظرة هؤلاء ، أو الاستماع إليهم ، إلاَّ إن اضطروا إلى ذلك ، وخشوا أن تستفحل الفتنة أكثر فأكثر ؛ فإنَّ أهل السنَّة استحبُّوا أن ينتهض الربَّانيون لمجادلة الضلاَّل .
وممَّن نبه على ذلك من علماء الإسلام: الآجرِّي ـ رحمه الله ـ بقوله عن أهل الضلالة والبدع :(فإن قال قائل:فإن اضطر في الأمر وقتاً من الأوقات إلى مناظرتهم ، وإثبات الحجة عليهم ألا يناظرهم؟قيل:الاضطرار إنَّما يكون مع إمام له مذهب سوء ، فيمتحن الناس ، ويدعوهم إلى مذهبه ، كفعل من مضى ، في وقت الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس ، ودعوهم إلى مذهبهم السوء ، فلم يجد العلماء بدَّاً من الذبِّ عن الدين ، وأرادوا بذلك معرفة الحق من الباطل ، فناظروهم ضرورة لا اختياراً،فأثبت الله ـ عزَّ وجل ـ الحق مع الإمام أحمد بن حنبل ، ومن كان على طريقته ، وأذلَّ الله العظيم المعتزلة وفضحهم ، وعرفت العامة أنَّ الحقَّ ما كان عليه أحمد بن حنبل ومن تابعه إلى يوم القيامة)(الشريعة للآجرِّي/ص66) ، ولهذا فلا يُذْكَر أن أُفحِمَ أهل السنة في مناقشاتهم لأهل البدع ، أو مناظراتهم لهم ـ ولله الحمد والمنة ـ لأنَّ الله هاديهم ، ومنوِّر طريقهم ، وحقَّاً:
إذا تلاقى الفحول في لَجَبٍ فكيف حال البعوض في الوسط
أمَّا من أرادوا جرَّ أهل البدع والهوى لمناقشات لا يحسنون الجدل معهم فيها ، بل يلقون في أذهانهم شبهاً تلجلج في عقولهم أيَّاماً حتى يفرجها الله بإزالة تلك الإشكالات من أهل العلم الربانيين ، بعد أن يطوف عليهم هؤلاء المغمورون...إنَّ هؤلاء القوم لا يقال لهم ، إلاَّ لا تعرضوا أنفسكم للفتنة ، فتكونوا للناس فتنة ، حين لا يجدوا لديكم قوَّة في الحجَّة ، وعمقاً في المناظرة ، وكم أُتي أهل السنة والجماعة من أمثال هؤلاء !
وقد قيل:(كثيراً ما يكون الباطل أهلاً للهزيمة ، ولكنَّه لا يجد من هو أهل للانتصار عليه) وحين كان يتحدَّث الإمام ابن تيميَّة عن مناظرة أهل السنة لأهل البدع والهوى ، بيَّن ـ رحمه الله ـ أنَّ أهل السنة والجماعة لا يؤيِّدون أن يتصدى لمناظرة أهل البدع من كان قليل العلم ، فقال: (وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجَّة وجواب الشبهة ، فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضلُّ ، كما يُنهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قويَّاً من علوج الكفَّار ، فإنَّ ذلك يضرُّه ويضرُّ المسلمين بلا منفعة)"درء تعارض العقل والنقل7/173"وعلَّة ذلك أنَّه حين النقاش يظهر السنِّي أمام أهل الضلال والهوى بمظهر ضعف ، وعدم قوَّة في الاحتجاج والطرح ، فيسبِّب ذلك له ولبعض أهل السنَّة حيرة وفتنة في دينهم ، وقد تحدَّث ابن تيمية في موضع آخر حول هذه القضيَّة قائلاً:(وكثيراً ما يعارضهم من أهل الإسلام من لا يحسن التمييز بين الحقِّ والباطل ، ولا يقيم الحجَّة التي تدحض باطلهم ، ولا يبيِّن حجَّة الله التي أقامها برسله ، فيحصل بسبب ذلك فتنة)"مجموع الفتاوى35/190"
فصل
حلُّ إشكال قد يقع في البال
قد يقول بعض إنَّنا نعيش في زمن الانفتاح ، والقرية الكونية ؛ التي فرضت نفسها على المجتمعات ، وقد يصلح ما أكتبه لبعض المجتمعات المنغلقة على كينونتها الخاصَّة بها ، أو أزمنة سابقة ، وكثير من الناس يعيش في بلاد يكثر بها أهل الهوى والابتداع، فليس من بدٍّ إلا أن يستمع للأفكار حسنها وسيئها ، وقد يكون غير محصَّنٍ فكرياً وعقدياً ، كما تزعم أهميَّته ، فما قولك؟!(65/194)
فالجواب عن هذا الإيراد:أنَّ هذا الطرح فيه شيء صحيح و باطل ، فأمَّا الصحيح فإنَّ هناك مجتمعات لها خصوصيَّتها الفكرية والعقدية ، وهناك مجتمعات تكثر فيها المذاهب العقديَّة ، والآراء الفكرية المغايرة لمنهج أهل السنَّة والجماعة ، ولكن...هل نقف عند هذا الحد ، ولا ننتقي ونختار علماء أهل السنَّة الموجودين في كلَّ مكان من الأرض ، ممَّا يساعدنا على البناء العقدي المتين ؟
ثمَّ من الذي قال لهؤلاء احضروا لمن تشاؤون ، لقلَّة أهل السنَّة والجماعة الموجودين في أراضيكم ؟
أليس النَّبيُّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ أخبرنا بأنَّه سيأتي زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر؟! وذلك لأنَّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدون على الخير أعواناً وهؤلاء القابضون على الجمر لا يجدون على الحقِّ أعواناً.
ألم يخبرنا بأنَّه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه حتى نلقى ربنا ؟ وأوصانا بأن نصبر حتَّى نلقاه على الحوض غير مبدلين ولا مغيرين؟ كما قال القائل:
تزول الجبال الراسيات وقلبه على العهد لا يلوي ولا يتغيَّر
ثمَّ هناك فرق بين أن يجلس إنسان مسلم في مجلس فيتحدَّث متحدثٌ بكلام خاطئ ، ويكون المسلم الجالس في ذلك المجلس عَرَضَاً لا قصداً ، فإنَّ الأعمال بالنيَّات كما أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم والأمور بمقاصدها ، وقد رُفِعَ الحرج عن هذا وأمثاله حين حضر هذا المجلس ، ولكن ليس له إن علم ضلال قول ذلك المتحدِّث أن يبقى جالساً في المجلس ذاك ، بل يجب عليه مفارقته ، وخاصَّة إن كان قليل العلم ، وقد قال أبو قلابة ـ رحمه الله ـ:(لا تجالسوا أهل الأهواء ، ولا تجادلوهم ، فإنِّي لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ، أو يلبِّسوا ماتعرفون)(الإبانة2/437).
إنَّ فرضيَّات الواقع والتي يغلب عليها اللغة الانهزاميَّة ، والأفكار المضلِّلة ، تقتضي أن نكون أشدَّ إصراراً في مفاصلاتنا العقدية، وأصلب عوداً في التلمُّس الجاد لوجود أهل السنة المعينين لنا بالإبقاء على استنبات الفطرة التي ولدنا عليها، وأهميَّة معرفة مصادر التلقي لنتصورها ونعتقدها مستمسكين بها، ولدينا أهل العلم وحملته الربانيُّون، فلنسألهم ولنستوضح منهم ما أشكل من أصول ديننا.
الفصل الأخير
حلول وأصول في حماية العقل المسلم من شبهات المغرضين
وبعد هذه الأطروحة التي عرضت قضيَّة أحسب أنَّها من مهمَّات قضايا الفكر الإسلامي ، فلابد لسائل أن يقول: وكيف نحصِّن أنفسنا وفكرنا من الداخل ، خشية أن يضلَّنا ما هو زائغ عن المنهج القويم ، وما الأسس والأصول التي تكوِّن لدينا حصانة شرعيَّة ، نستطيع ـ بإذن الله ـ بعدها أن نردَّ الغلط إذا أوردت الشبهات ، وخصوصاً في ظلِّ ما يمارس الآن من الحرب الإعلاميَّة الغازية للأفكار والعقول المسلمة؟
لعلَّ الجواب يكمن في عدَّة نقاط أرى أنَّها ـ بإذنه تعالى ـ تساهم في بناء الحصانة الشرعية للعقليَّة الإسلامية ، وهي كالتالي:
1ـ التعلُّق باللَّه ـ عزَّ وجل ـ والاستعانة والاستعاذة به ، وسؤاله الهداية والثبات والممات على دين الإسلام من غير تبديل ولا تغيير ، ولنا في رسول الله أسوة وقدوة ، فقد كان يسأل ربَّه الهداية ، وكان كثيراًَ ما يسأله الثبات على هذا الدين ، وعدم تقلُّب قلبه عن منهج الإسلام ، ويستعيذ به من أن يضلَّ أو يُضلَّ ، كما كان ـ عليه السلام ـ يستعيذ من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، فالدعاء الملازم لذلك والانطراح على عتبة العبوديَّة ، وملازمة القرع لأبواب السماء بـ:(ربَّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنَّك أنت الوهاب) إذا اجتمعت هذه كلَّها ، فلاشكَّ أنَّ رحمته سبحانه سابقة لغضبه وعقابه ، ومحال أن يتعلق العبد بربِّه حقَّ التعلُّق ، ويعرض عنه الله ـ سبحانه وبحمده ـ وهو الكريم الوهاب.
2ـ الثِّقة بمنهج الله ووعده وحكمه وأوامره ، واليقين به ومراقبته ، والشعور بالمسؤوليَّة عن حفظ الدين من شبهات المغرضين ، وعدم خلطه بالباطل ، أو لبسه إياه ، ومن ثمَّ الصبر على مكائد المنفِّذين والمسوِّغين للشُّبهات، فإنَّه سبحانه وتعالى يقول:(وإن تصبروا وتتَّقوا لا يضرُّكم كيدهم شيئاً) وقد قال الإمام سفيان الثوري:(بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين)وممَّا يشهد لذلك قوله تعالى:(وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمَّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) السجدة(24)
3ـ تلقِّي العلم عن العلماء الربَّانيين ، وإرجاع المسائل المشكلة إليهم ليحلُّوها ويوضِّحوا ما أبهم على صاحبها، فلا يستعجل في قبول فكرةٍ أطلقها من لا يؤمن فكره ، ولا يبقي تلك الشُّبهة في صدره حتَّى تعظم ، بل ينبغي عليه أن يضبط نفسه بالرجوع للراسخين من أهل العلم ؛ فإن الله ـ تعالى ـ يقول:(فاسألوا أهل الذكر إن كنت لا تعلمون)وذلك لأنَّ هذا العلم دين يدين به العبد لربَّه ويلقاه به إذا مات عليه، ولهذا قال الإمام محمد بن سيرين ـ رحمه الله ـ:(إنَّ هذا العلم دين ؛ فانظروا عمَّن تأخذون دينكم)(أخرجه مسلم في مقدِّمة صحيحه(1/14))(65/195)
4ـ البناء الذاتي بمعرفة مصادر التَّلقي ، ومناهج الاستدلال الصحيحة ، وملء القلب بنور الوحي من الكتاب والسنَّة، مع ملازمة إجماع أهل السنَّة والجماعة ، فإنَّ هذه المصادر عاصمة من قاصمة الوقوع في الخطأ والانحراف والزلل ، وسبب أكيد لسدِّ باب الشبهات المظلمات ، وذلك ـ بعونه تعالى ـ مساعدٌ لحماية العقل المسلم من مضلاَّت الفتن.
قال أبو عثمان النيسابوري:(من أمرَّ السُّنَّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة ، ومن أمرَّ الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة لأنَّ الله تعالى يقول:(وإن تطيعوه تهتدوا)مجموع الفتاوى(14/241).
ومن ذلك إرجاع المجمل إلى المبيَّن ، والمطلق إلى المقيَّد ، والمؤوَّل إلى الظاهر، والجمع بين الأدلَّة التي ظاهرها التعارض ، بالرجوع لكتب أهل العلم ، واستقاء معاني الألفاظ من العلماء الربَّانيين ، وكذا برد المتشابه إلى المحكم ، وقد روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ:(هو الذي أنزل إليك الكتاب منه آيات محكمات هنَّ أمُّ الكتاب وأخر متشابهات فأمَّا الذين في قلوبهم زيغ فيتَّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنَّا به كلٌّ من عند ربِّنا وما يذَّكر إلاَّ أولو الألباب) ثم قال صلى الله عليه وسلم فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمَّى الله ؛ فاحذروهم) أخرجه البخاري برقم:(7454).
5ـ التعلَُّق بكتاب الله قراءة وفقهاً وتدبُّراً وعملاً ، ولو أقبل الخلق على كتاب الله والانتهاج بنهجه ، لأجارهم ـ سبحانه ـ من الفتن ، فالقرآن شفاء لما في الصدور ، ومن يعرض عنه فسيصيبه من العذاب بقدر ابتعاده عنه (وألَّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً * لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربِّه يسلكه عذاباً صعدا) ورضي الله عن ابن عبَّاس إذ قال:(من قرأ القرآن فاتَّبع ما فيه هداه الله من الضَّلالة في الدنيا ، ووقاه يوم القيامة الحساب) أخرجه عبد الرزاق في المصنَّف(6033) وصدق الله :(فمن اتَّبع هداي فلا يضلُّ ولا يشقى* ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشة ضنكاً) ويكفي أنَّ آثاراً كثيرة وردت عن السلف بأنَّه من ابتغى الهدى من غير كتاب الله ، فإنَّ الله سيضلُّه ، كما أخرج ابن أبي شيبة في المصنَّف(12/165) وصحَّحه الألباني في الصحيحة(713)أنَّه صلى الله عليه وسلم قال:(إنَّ هذا القرآن سبب طرفه بيد الله ، وطرفه بأيديكم ، فتمسَّكوا به ، فإنَّكم لن تضلُّوا ولن تهلكوا بعده أبداً) وأخبر صلى الله عليه وسلم بقوله:(تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي) أخرجه مالك وأحمد في مسنده.
كتاب الله عزَّ وجلَّ قولي وماصحَّت به الآثار ديني
فدع ما صدَّ من هذي وخذها تكن منها على عين اليقين
(البيتين السابقين في:نفح الطيب للمقَّري2/127)
6ـ إصلاح القلب ومجاهدته ، ومن حاول ذلك وجدَّ واجتهد في تحصيله ، فليبشر بالهداية واليقين ، فاللَّه ـ تعالى ـ يقول:(والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سبلنا وإنَّ الله لمع المحسنين).
7ـ معرفة مقاصد الشريعة ، ومرامي الدين الإسلامي ، لأنَّها تمنح المسلم قوَّة منهجيَّة كبيرة ، ولقاحاً ضدَّ الانحرافات.
8ـ تكثيف البرامج التوجيهيَّة ، وأخصُّ بالذكر وسائل الإعلام بشتَّى أصنافها ، ومحاولة زرع الثقة في قلوب المسلمين بالاعتزاز بدينهم وعقيدتهم ، وتمكين قواعد الإسلام في قلوبهم ، والرد على ما يضادها ، وحتماً سيولِّد ذلك قناعة بأولويَّة الأصول الإسلاميَّة في قلوب المسلمين ، وبناء الرسوخ العقدي في قلوبهم ، وذاك التحصين الذي نريد.
9ـ إنشاء مراكز الأبحاث والدراسات المعنيَّة برصد الانحرافات الفكريَّة ، والتعقيب عليها بتفنيد الشُّبه ، والجواب عن الشكوك و الإثارات التي تخرج من بعض المارقين من قيم الإسلام ومبادئه ، والجهاد الفكري ضدَّها، من منطلق قوله تعالى:(وجاهدهم به جهاداً كبيرا) وتفعيل هذه المراكز بقوَّة البحوث ، وضخِّ المال الداعم لها ، وتوظيف الباحثين المتمكِّنين فيها، وإعطاءها قدراً من الشهرة والانفتاح على الوسائل الإعلاميَّة.(65/196)
10ـ فسح المجال من وسائل الإعلام بشتَّى صورها وألوانها ؛ للمنتمين لمدرسة أهل السنَّة بالخروج الإعلامي ، وعرض رأيهم تجاه الآراء الأخرى ، وبخاصَّة من الأقوياء المتمكِّنين منهم ، وإنَّ ممَّا يؤسف له ، أن تجد بعضاً من وسائل الإعلام ، تستضيف رجلاً بأفكار منحرفة ، وتقابله بآخر من المنتسبين لمنهج أهل السنَّة لا يكون مستواه في الطرح الفكري بتلك القوَّة اللاَّزمة، ، ممَّا يؤثر سلباً تجاه الناظرين لتلك المحطَّات الإعلاميَّة لطرح هذا الرجل السُّنِّي ، كما أنَّه من اللازم حقيقة لبعض أهل العلم أن لا ينأى بنفسه عن تلك المواجهات بل يغلِّب جانب المصلحة العظمى والكبرى في نصرة أهل السنَّة وقضاياهم ، على عدم الخروج بسبب بعض السلبيات أو المفاسد الصغرى ، مع الإدراك والمعرفة بأنَّ كثيراً من المهيمنين على الوسائل الإعلاميَّة يأتوننا بمفكرين ومنتسبين للعلم ، ليفصِّلوا لنا إسلاماً على المزاج الغربي ، أو ما يسمُّونه بـ(الإسلام الليبرالي)! وما الدعوات السيئة التي تخرج منهم أو من بعض أذنابهم بما يسمى بـ (تطوير الخطاب الديني) إلاَّ ليصدوا المسلمين عن تمسكهم بدينهم الحق، وليستبدلوا به الانهزامية والتراخي ، والذي لن ينصر حقاً ولن يكسر باطلاً ، بل مقصوده الأساس تحريف المفاهيم لدى المسلمين ، وتحريف المفاهيم أشدُّ خطراً من الهزيمة العسكرية ، ومن هنا كانت مخطَّطات أعداء الإسلام (لأنَّ هزيمة الأمَّة في أفكارها تجرِّدها من الحصانة وتتركها فريسة لأي مرض أو وباء فيسهل بعد ذلك احتواؤها وتفكيك معتقديها)كما يقول الأستاذ المفكِّر: محمد قطب ـ حفظه الله ـ في واقعنا المعاصر:صـ356).
11ـ ملازمة الجلوس مع الصالحين ، والمنتمين لمنهج أهل السنَّة ، وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صحبة ضعاف الإيمان ، وأمرنا بصحبة المؤمنين فقال:(لا تصاحب إلاَّ مؤمناً )أخرجه الترمذي(4/600) برقم (2395) وأحمد في مسنده (3/38)و (4/143) وصحَّحه الحاكم في المستدرك (4/143) وابن حبَّان في صحيحه (2/314) وحسَّنه الترمذي و ابن مفلح في الآداب الشرعيَّة،وكذا الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم : (7341) فينبغي الحذر من الجلوس إلى أهل الزيغ والهوى والالتفات إليهم ، وخاصَّة إن كانت الخلفيَّة لذاك الجالس مهلهلة في الجانب العقدي ، وقد كان أهل السنَّة يوصون تلاميذهم بمجالسة الأخيار والصالحين ، والإعراض عن أهل الزيغ والفسق والهوى ، ورحم الله الإمام أبو الحسن البربهاري حين قال:(وعليك بالآثار ، وأهل الآثار ، وإياهم فاسأل ، ومعهم فاجلس ، ومنهم فاقتبس)(شرح السنة للبربهاري/ص102).
ويكفي أنَّ من فضائل ذلك أنَّ أصحاب الخير يدلُّون رفقائهم على سبل الهدى ، ولهذا فحين كان ابن القيم يورد على شيخ الإسلام ابن تيميَّة بعض كلام أهل الهوى إيراداً بعد إيراد ، أوصاه ابن تيميَّة قائلاً:(لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السِّفِنْجَة ، فيتشربها ، فلا ينضحَ إلاَّ بها ، ولكن اجعله كالزجاجة المُصمَتَة تمُرُّ الشبهات بظاهرها، ولا تستقرُّ فيها ، فيراها بصفائه ، ويدفعها بصلابته ، وإلاَّ فإذا أَشْرَبْت قلبك كلَّ شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات أو كما قال.) ـ ثمَّ قال ابن القيم ـ فما أعلم أني انتفعت بوصيَّة في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك) مفتاح دار السعادة(1/443)
12ـ الدراسة الواعية والناقدة للأفكار والملل والنحل المغايرة لمنهج أهل السنَّة ، مع الحذر من أهلها ، وتمكين العقلية الإسلاميَّة من أدوات الفهم والنظر والمعرفة لرصد الانحرافات الفكرية ، ومعالجتها على ضوء الشريعة ، وممَّا يبيِّن أهميَّة ذلك أنَّه تعالى فصَّل لنا وسائل وأساليب وحجج المجرمين ، وردَّ عليها داحضاً لها ، فمعرفة وفقه المداخل التي يدخل بها أهل الزيغ والهوى لإقناع من يريدون ضمَّه إليهم ، أصلٌ نبَّه عليه تعالى فقال:(وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)،ولهذا يقول حذيفة بن اليمان:(كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشرِّ مخافة أن يدركني) أخرجه البخاري في صحيحه برقم:(7084) ومسلم برقم:(1847) فمعرفة الشرِّ وأهله منهج أساس لأهل السنة والجماعة وكشف خُدَعه ، كما يقول قائلهم:
عرفت الشَّرَّ لا للشَّر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الخير من الشَّر يقع فيه(65/197)
13ـ إذا شعر المرء أو غلب على ظنِّه بأنَّه قد يفتن في دينه ؛ فلا ينبغي له قراءة كتب أهل الهوى والزيغ ، ولو قصد بذلك الردَّ عليهم ، ومناقشة شبههم ، لأنَّ درء المفاسد عن هذا المرء مقدَّمة على جلب المصالح في الذبِّ عن هذا الدين ، بل ينأى المسلم بنفسه عن الشبهات، ولا يجعلها متهافتة على قبولها ، ويجعل نفسه مطمئنَّة إلى الاستيقان بعظمة هذا الدِّين ، وثبات أصوله ، فيخلِّي قلبه ونفسه من متابعة الشبهات ، ولا يجعلها لاقطة لأي تشكيك في دين الإسلام ، ومن تأمَّل قوله تعالى:(فلمَّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) وقوله :(ولكنِّكم فتنتم أنفسكم وتربَّصتم وارتبتم) علم أنَّ بعض النفوس تتطاير على منافذ الشبهات والضلالات ـ عياذاً باللَّه ـ وحين بلغ عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ أنَّ رجلاً يقال له: صبيغ بن عسْل قدم المدينة وكان يسأل عن متشابه القرآن ، بعث إليه عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ وقد أعد له عراجين النخل، فلما دخل عليه وجلس قال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ. قال عمر: وأنا عبد الله عمر، وأومأ عليه، فجعل يضربه بتلك العراجين؛ فما زال يضربه حتى شجه، وجعل الدم يسيل عن وجهه، قال: حسبُك يا أمير المؤمنين! فقد والله ذهب الذي أجد في رأسي» أخرجه الآجرِّي في الشريعة/صـ75، واللالكائي بسنده في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4 / 703) وقد صحَّح ابن حجر إحدى روايات هذا الأثر في الإصابة(5/169) كما ذكره محقِّق كتاب اللالكائي.
14ـ التربية للنشء بما يرضي الله ، والتحاور معه بتبيين فساد شبهات أهل الزيغ والهوى ، مع قوَّة الإقناع، وأدب الحوار ، فالتنشئة الصحيحة على التحصين العقدي هي أول عمليَّة في التربية ؛ بتربيتهم على العقيدة الصحيحة ، وحماية ذواتهم من العبث الفكري ، وبناء الشخصية الإسلاميَّة التي لا تؤثِّر فيها تيَّارات التشكيك ، وإرسالهم إلى المربِّين الثقات لتربيتهم على أصول ديننا ، وقد قال أيوب السختياني:(إنَّ من سعادة الحدث والأعجمي ، أن يوفِّقهما الله لعالم من أهل السنَّة) شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة للالكائي(1/60) ليكون أهل التربية معينين لهم على تقوية عقيدتهم ، ودرء عبث غزاة الأفكار والعقول عنها ، مع التحذير الملازم لهم بخطر الأخذ عن غير أهل السنَّة، وإن استطعنا منعهم من ذلك فهو الأحسن ، إلاَّ أنَّ المنع لابد أن يكون بإقناع لهم ، وقد يكون منعهم متعذراً في هذا الزَّمن ، لأنَّهم قد يمنعوا فتأتيهم ردَّة فعل تجعلهم يصرُّون على ما سيطالعونه أو يسمعونه ، ولكن الأسلوب التربوي يرجِّح أن يناقش الأب أو المربِّي ذلك الشاب ويبيِّن له أوجه الخطأ التي وقع بها أهل الضلال ، فلا منع مطلق ، ولا إباحة مطلقة ، بل إباحة وفق ضوابط وتحذير ودعم تربوي.
وقد يقول قائل : إنَّ منهج جمع من السلف الصالح منع الناس من سماع البدع والشبهات ؛ وحقَّاً فإنَّ ذلك الأفضل ولا شك، ولكنَّ السلف الصالح في ذاك الزمن كانت قاعدته هي الإسلام وقيمه ومبادئه ، وكان الأمر إليهم وبيدهم ، وأمَّا الآن ليس لنا من قوَّة الإسلام ما كان ، وحقيقة فإنَّ النَّاس في هذا الزمن للفتنة أقرب منهم للإسلام ، وتربيتهم الآن تكون بقوَّة الكلمة الحقَّة التي تصنع المنهج، وتقنع المخاطب...
إنَّها حكمة في الأمور وتربية تستدعي التَّأمل والنظر في المآلات (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) فمن الضروري إذاً أن نبني جيلاً محصَّناً ـ بإذن الله ـ من لقاحات الشبهات ، وطُعمِ الشكوك ، ليكونوا على قوَّة في دينهم تجاه الهجمات الشرسة التي يواجهها أهل الإسلام من أعدائه.
ولعلِّي في هذا المقام أذكر قصَّة حدَّثتني بها إحدى القريبات الداعيات ، توضح كيف أنَّ العامل الثقافي له دوره الرئيس في تشكيل هويَّة النشء ، فقد كانت هذه القريبة مدرسة للمواد الشرعيَّة ، وفي إحدى الأيَّام دخلت على أحد صفوف المرحلة الابتدائيَّة الأولى لتدرِّس الطلاب كتاب التوحيد ، وحين بدأت بشرح عقيدة المسلمين بأنَّ الله عالٍ على عرشه ، انتفض أحد الطلاَّب وقال:كلا يا أستاذة ، فلا يجوز لنا أن نقول: إنَّ الله فوق السماء عالٍ على عرشه ، بل هو في كلِّ مكان ، ومن قال بأنَّ الله فوق السماء ، فقد كفر ! فأجابته المعلِّمة قائلة له : لا يجوز أن تقول ذلك لأنَّ اعتقاد المسلمين ؛ أنَّ الله عال على عرشه وهو ـ جلَّ وتعالى ـ فوق خلقه ، ومن خالف هذه العقيدة فإنَّه كافر ، وإياك أن تقول هذا الكلام مرَّة أخرى ، فأجابها ذلك الطالب قائلاً:كلا سأقول ذلك ، لأنَّ هذه عقيدتي وهكذا ربَّاني والدي وهو شيخ ، وأنا مقتنع بكلامه ، وبقيت هذه المعلمة تجادل ذلك الطالب ، وفي اليوم التالي جاءت المعلمة للفصل ، وحين قالت للطلاب: أخرجوا كتاب التوحيد ، رفض بعض الطلاَّب وقالوا : يا أستاذة:كيف تدرِّسيننا هذا الكتاب وفيه كفر، ووالد هذا الطالب شيخ وهو يقولُ بأنَّ كتابنا فيه كفر ، وفي زمن حديث الطلاب مع معلمتهم حول ذلك ، كان الطالب يشير لأصدقائه الطلاب بإشارات النصر ، ويوافقهم على حديثهم،ويؤيدهم على ألاَّ يخرجوا الكتاب من الدرج!(65/198)
شاهد ما أحببت التنبيه إليه ، أنَّ هذا الطالب تبيَّن أنَّه من فرقة الأحباش الضَّالَّة ، التي جمعت من الكفر والضلال الشيء الكثير، ولو تأمَّلنا كيف أنَّ أهل البدع يدرِّسون أبناءهم العقائد الضَّالة، ويحصِّنوهم من أي عقيدة واردة عليهم ، بل يدعوهم لمناقشة من يخالفهم ، فضلاً عن التحذير منهم ومن كتبهم ، ويعلمون أبناءهم حقَّ الرد والجرأة في الدعوة لملَّتهم ونحلتهم ؛ لرأينا من ذلك شيئاً عجباً ، فأين أهل السنَّة من دعوة أبنائهم بمثل ذلك ؟
وأين هم من ترسيخ العقيدة الصافية في عقول أبنائهم وتعليمهم كيف يثبتون عليها ويناضلون عنها ؟
إنَّ من المهمات التي يجدر التنبيه عليها ، ما للوالدين من كبير الأثر على تنشئة الولد تنشئة إسلاميَّة خالصة من كدر الشبهات والشهوات قدر المستطاع ، وتعميق الإسلام وأسسه العقدية في أنفسهم ، ووصيَّتهم بالثبات عليه، وممَّا يستدلُّ به لذلك ما قاله تعالى عن الأنبياء والمرسلين حين كانوا يوصون أبناءهم بالثبات على الإسلام، ومن ذلك:(ووصَّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيَّ إنَّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنَّ إلاَّ وأنتم مسلمون)(البقرة/132) وكل مولود يولد على فطرة الإسلام ، فإن كان الوالدان مسلمين حصَّنوه بترسيخ الإسلام ، وإن كانا كافرين فإنَّه لابدَّ أن يكون لهما دور كبير في تحريف فطرة ذلك المولود ، وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:(كلُّ مولود يولد على الفطرة ، وإنَّما أبواه يهوِّدانه أو يمجِّسانه ، أو ينصرانه) أخرجه البخاري ومسلم.
ومن جميل الكلام حول طريقة ترسيخ الوجود العقدي في النشء ؛ ما قاله الإمام الغزالي:(وليس الطريق في تقويته وإثباته أن يعلم صنعة الجدل والكلام ، بل يشتغل بتلاوة القرآن وتفسيره ، وقراءة الحديث ومعانيه ، ويشتغل بوظائف العبادات ، فلا يزال اعتقاده يزداد رسوخاً بما يقرع سمعه من أدلَّة القرآن وحججه ، وبما يَرِدُ عليه من شواهد الأحاديث وفوائدها ، وبما يسطع عليه من أنوار العبادات ووظائفها)(إحياء علوم الدين1/94ـ95)2
وختاماً:ممَّا يحسن التنبيه إليه:أنَّ المستمسك بهذا المنهج يجب أن يكون قوياً في طرحه لدى الناس بتعامل لطيف،مبيناً له بلا عنف، عارفاً للحق،راحماً للخلق، يريد لهم الهداية ، بلا جباية أو وصاية ، فالحق أبلج ، والباطل لجج ، وماذا بعد الحقِّ إلَّا الضلال!
نسأله تعالى أن يمنَّ علينا بهدايته ، وأن يثبتنا على دينه ، وأن يحفظنا من مضلاَّت الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً ، وعياذاً بالله أن نكون ممَّن قال فيهم ربُّهم:(ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهِّر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) المائدة (41) والله المستعان...
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين ، والحمد لله رب العالمين.
* جريدة المراجع:
ـ القرآن الكريم .
ـ صحيح البخاري.
ـ صحيح مسلم.
ـ جامع الترمذي.
ـ الموطأ للإمام مالك.
ـ المسند للإمام أحمد.
ـ المستدرك للحاكم.
ـ صحيح ابن حبَّان.
ـ المصنَّف لعبدالرزاق الصنعاني.
ـ المصنف لابن أبي شيبة.
ـ سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني.
ـ صحيح الجامع الصغير للألباني.
ـ الزهد لابن المبارك.
ـ تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة.
ـ سير أعلام النبلاء للذهبي.
ـ البداية والنهاية لابن كثير.
ـ مجموع الفتاوى لابن تيميَّة.
ـ إحياء علوم الدين للغزالي.
ـ الإبانة لابن بطَّة العكبري.
ـ الشريعة للآجرُّي.
ـ أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة للالكائي.
ـ الآداب الشرعيَّة لابن مفلح.
ـ الاقتصاد في الاعتقاد لعبد الغني المقدسي.
ـ شرح السنَّة للبربهاري.
ـ الفتوى الحمويَّة الكبرى لابن تيميَّة.
ـ درء تعارض العقل والنقل لابن تيميَّة.
ـ مفتاح دار السعادة لابن القيم.
ـ نفح الطيب للمقري.
ـ ديوان ابن المبارك.
ـ نقض كتاب الشعر الجاهلي لمحمد الخضر حسين.
ـ واقعنا المعاصر لمحمد قطب.
ـ موقع إسلام أون لاين على الشبكة العنكبوتيَّة (الإنت
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب السابع والعشرون ... 2
فرقة الأحباش ... 2(65/199)
(65/200)
الأحباش .. من هم !؟ ... 2(65/201)
(65/202)
فرقة الأحباش ... 6(65/203)
(65/204)
جماعة الأحباش (نسبة ومعتقدا ) ... 14(65/205)
(65/206)
الرد على الأحباش ... 15(65/207)
(65/208)
حكم الصلاة وراء فرقة الأحباش ... 16(65/209)
(65/210)
الهررية أو الأحباش... ... 17
معتقداتهم وأفكارهم والحكم عليهم ... 17(65/211)
(65/212)
كيفية التعامل مع الأحباش ... 18(65/213)
(65/214)
فئة الأحباش لا تمت إلى الإسلام بصلة ... 19(65/215)
(65/216)
بث ضلالات الأحباش بأي وسيلة ترويج للمنكر ... 19(65/217)
(65/218)
ضلالات الأحباش وانحرافهم عن الدين ... 20(65/219)
(65/220)
الأحباش : دعوة أم فتنة ؟ ... 22(65/221)
(65/222)
جماعة الأحباش..حقيقتهم وآراؤهم ... 25(65/223)
(65/224)
الحبشي: شذوذه وأخطاؤه ... 31(65/225)
(65/226)
الأحباش .. جماعة دينية أم سياسية ؟!! ... 112(65/227)
(65/228)
طاعون العصر انتشر ... ... 135(65/229)
(65/230)
الرد القوي على مالك الحبشي الغوي ... 140(65/231)
(65/232)
حديث الافتراق رواية ودراية ... 163(65/233)
(65/234)
الرد على الحبشي في كتابه الدليل الشرعي ... 174(65/235)
(65/236)
السويد .. حركة دعوية نشطة ... 195(65/237)
(65/238)
الباطل يحشد أجناده تحت شعار [حرب الوهابية] ... 196(65/239)
(65/240)
الأحباش في الأردن والدور المشبوه ... 221(65/241)
(65/242)
الشهال: هكذا بدأ العمل السلفي في لبنان ... 225(65/243)
(65/244)
الجماعة الإسلامية بلبنان انحرفت عن مسار الإخوان ... 233(65/245)
(65/246)
البيان الحقيقي في رد أقاويل الـ(صوفي) ... 247(65/247)
(65/248)
المقالات الدمشقية في الدفاع عن ابن تيمية ... 251
وكشف الضلالات الحبشية ... 251(65/249)
(65/250)
الحصانة الشرعية ... 387(65/251)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (28)
الحرب الصليبية على الإسلام
الباب الثامن والعشرون
الحرب الصليبية على الإسلام
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثامن والعشرون
الحرب الصليبية على الإسلام اليوم(66/1)
(66/2)
قادة الغرب يقولون دمّروا الإسلام أبيدوا أهله
للأستاذ جلال العالم
الطبعة التاسعة وفيها زيادات هامة
بسم الله الرحمن الرحيم
صرخة
…إلى كل مخلص في هذه الأمة:
…إلى القادة والزعماء في كل مكانٍ من العالم الإسلامي، والعرب منهم خاصة:
…أعداؤنا يقولون: يجب أن ندمّر الإسلام لأنه مصدر القوة الوحيد للمسلمين، لنسيطر عليهم ، الإسلام يخيفنا، ومن أجل إبادته نحشد كل قوانا، حتى لا يبتلعنا ..
…فماذا تفعلون أنتم أيها القادة والزعماء ؟!!..
…بالإسلام تكتسحون العالم - كما يقول علماء العالم وسياسيوه - فلماذا تترددون ..؟! خذوه لعزتكم، لا تقاوموه فيهلككم الله بعذابه، ولا بد أن ينتصر المؤمنون به … اقرأوا إن شئتم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
…"تكون نبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم تنقضي ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم تنقضى ثم يكون ملكاً عضوضاً (وراثياً) ما شاء الله له أن يكون ثم ينقضى ، ثم تكون جبرية (ديكتاتوريات) ما شاء الله لها أن تكون ثم تنقضى ، ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة تعم الأرض".
أيها السادة والقادة في دول العالم الإسلامي، والعرب منهم خاصة:
كونوا أعوان الإسلام لا أعداءه .. يرضى الله عنكم، ويرضي الناس عنكم، وتسعدوا .. وتلتف حولكم شعوبكم لتقودوها نحو أعظم ثورة عالمية عرفها التاريخ.
أيها السادة والقادة:
رسول ا صلى الله عليه وسلم كان يدعو قريشاً لتكون معه، كان يَعِد رجالاتها أن يرثوا بالإسلام الأرض، فأبى من أبى، وماتوا تحت أقدام جيوش العدل المنصورة التي انساحت في الأرض … وخلدهم التاريخ، لكن أين ... في أقذر مكان منه، يلعنهم الناس إلى يوم الدين، وعذاب جهنم أشد وأنكى …
ووعدنا رسول الله أن يعم ديننا الأرض، وسيعم بدون شك.
فلا تكونوا مع من سيكتبهم التاريخ من الملعونين أبد الدهر، بل كونوا مع المنصورين الخالدين.
والله غالب على أمره … ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
طرابلس في 15/8/1974
أنظروا كيف يحقدون !!..
إن المتتبع لتاريخ العلاقات ما بين الغرب وشعوب الإسلام، يلاحظ حقداً مريراً يملأ صدر الغرب حتى درجة الجنون، يصاحب هذا الحقد خوف رهيب من الإسلام إلى أبعد نقطة في النفسية الأوروبية.
هذا الحقد، وذلك الخوف، لا شأن لنا بهما إن كانا مجرد إحساس نفسي شخصي، أما إذا كانا من أهم العوامل التي تبلور مواقف الحضارة الغربية من الشعوب الإسلامية، سياسياً، واقتصادياً، وحتى هذه الساعة، فإن موقفنا يتغير بشكل حاسم.
سوف تشهد لنا أقوال قادتهم أن للغرب، والحضارة الغربية بكل فروعها القومية، وألوانها السياسية موقفاً تجاه الإسلام لا يتغير، إنها تحاول تدمير الإسلام، وإنهاء وجود شعوبه دون رحمة.
حاولوا تدمير الإسلام في الحروب الصليبية الرهيبة ففشلت جيوشهم التي هاجمت بلاد الإسلام بالملايين، فعادوا يخططون من جديد لينهضوا .. ثم ليعودوا إلينا، بجيوش حديثة، وفكر جديد .. وهدفهم تدمير الإسلام من جديد ..
كان جنديهم ينادى بأعلى صوته، حين كان يلبس بذة الحرب قادماً لاستعمار بلاد الإسلام:
أماه …
أتمى صلاتك .. لا تكبى ..
بل اضحكي وتأملي ..
أنا ذاهب إلى طرابلس …
فرحاً مسروراً ..
سأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة …
سأحارب الديانة الإسلامية …
سأقاتل بكل قوتي لحمو القرآن ….( )
* * *
وانتصرت جيوش الحقد هذه على أمة الإسلام التي قادها أسوأ قادةٍ عرفهم التاريخ … اضطهدوا أممهم حتى سحقوها ..
انتصرت جيوش الغرب بعد أن ذلل لها هؤلاء الحكام السبيل …
فماذا فعلت هذه الجيوش؟..
استباحت الأمة كلها، هدمت المساجد، أو حولتها إلى كنائس، ثم أحرقت مكتبات المسلمين .. ثم أحرقت الشعوب نفسها.
لنقرأ ما كتبه كتّابهم أنفسهم حول ما فعلوه أو يفعلونه بالمسلمين، ولن نستعرض هنا إلا بعض النماذج فقط .. من أنحاء مختلفة من عالمنا الإسلامي المستباح:
1-…في الأندلس :
تقول الدكتورة سيجريد هونكه:
في 2 يناير 1492 م رفع الكاردينال (دبيدر) الصليب على الحمراء، القلعة الملكية للأسرة الناصرية، فكان إعلاناً بانتهاء حكم المسلمين على أسبانيا.
وبانتهاء هذا الحكم ضاعت تلك الحضارة العظيمة التي بسطت سلطانها على أوربا طوال العصور الوسطى، وقد احترمت المسيحية المنتصرة اتفاقاتها مع المسلمين لفترة وجيزة، ثم باشرت عملية القضاء على المسلمين وحضارتهم وثقافتهم.
لقد حُرِّم الإسلام على المسلمين، وفرض عليهم تركه، كما حُرِّم عليهم استخدام اللغة العربية، والأسماء العربية، وارتداء اللباس العربي، ومن يخالف ذلك كان يحرق حيًّا بعد أن يعذّب أشد العذاب. ( )
وهكذا انتهى وجود الملايين من المسلمين في الأندلس فلم يبق في أسبانيا مسلم واحد يُظهر دينه.
لكن كيف كانوا يعذبون؟!!.. هل سمعت بدواوين التفتيش .. إن لم تكن قد سمعت فتعال أعرفك عليها.
بعد مرور أربعة قرون على سقوط الأندلس، أرسل نابليون حملته إلى أسبانيا وأصدر مرسوماً سنة 1808 م بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الأسبانية.
تحدث أحد الضباط الفرنسيين فقال:(66/3)
"أخذنا حملة لتفتيش أحد الأديرة التي سمعنا أن فيها ديوان تفتيش، وكادت جهودنا تذهب سدى ونحن نحاول العثور على قاعات التعذيب، إننا فحصنا الدير وممراته وأقبيته كلها. فلم نجد شيئاً يدل على وجود ديوان للتفتيش. فعزمنا على الخروج من الدير يائسين، كان الرهبان أثناء التفتيش يقسمون ويؤكدون أن ما شاع عن ديرهم ليس إلا تهماً باطلة، وأنشأ زعيمهم يؤكد لنا براءته وبراءة أتباعه بصوت خافت وهو خاشع الرأس، توشك عيناه أن تطفر بالدموع، فأعطيت الأوامر للجنود بالاستعداد لمغادرة الدير، لكن اللفتنانت "دي ليل" استمهلني قائلاً: أيسمح لي الكولونيل أن أخبره أن مهمتنا لم تنته حتى الآن؟!!. قلت له: فتشنا الدير كله، ولم نكتشف شيئاً مريباً. فماذا تريد يا لفتنانت؟!.. قال: إنني أرغب أن أفحص أرضية هذه الغرف فإن قلبي يحدثني بأن السر تحتها.
عند ذلك نظر الرهبان إلينا نظرات قلقة، فأذنت للضابط بالبحث، فأمر الجنود أن يرفعوا السجاجيد الفاخرة عن الأرض، ثم أمرهم أن يصبوا الماء بكثرة في أرض كل غرفة على حدة - وكنا نرقب الماء - فإذا بالأرض قد ابتلعته في إحدى الغرف. فصفق الضابط "دي ليل" من شدة فرحه، وقال ها هو الباب، انظروا، فنظرنا فإذا بالباب قد انكشف، كان قطعة من أرض الغرفة، يُفتح بطريقة ماكرة بواسطة حلقة صغيرة وضعت إلى جانب رجل مكتب رئيس الدير.
أخذ الجنود يكسرون الباب بقحوف البنادق، فاصفرت وجوه الرهبان، وعلتها الغبرة.
وفُتح الباب، فظهر لنا سلم يؤدي إلى باطن الأرض، فأسرعت إلى شمعة كبيرة يزيد طولها على متر، كانت تضئ أمام صورة أحد رؤساء محاكم التفتيش السابقين، ولما هممت بالنزول، وضع راهب يسوعى يده على كتفي متلطفاً، وقال لي: يابني: لا تحمل هذه الشمعة بيدك الملوثة بدم القتال، إنها شمعة مقدسة.
قلت له، يا هذا إنه لا يليق بيدي أن تتنجس بلمس شمعتكم الملطخة بدم الأبرياء، وسنرى من النجس فينا، ومن القاتل السفاك!؟!.
وهبطت على درج السلم يتبعني سائر الضباط والجنود، شاهرين سيوفهم حتى وصلنا إلى آخر الدرج، فإذا نحن في غرفة كبيرة مرعبة، وهي عندهم قاعة المحكمة، في وسطها عمود من الرخام، به حلقة حديدية ضخمة، وربطت بها سلاسل من أجل تقييد المحاكمين بها.
وأمام هذا العمود كانت المصطبة التي يجلس عليها رئيس ديوان التفتيش والقضاة لمحاكمة الأبرياء. ثم توجهنا إلى غرف التعذيب وتمزيق الأجسام البشرية التي امتدت على مسافات كبيرة تحت الأرض.
رأيت فيها ما يستفز نفسي، ويدعوني إلى القشعريرة والتقزز طوال حياتي.
رأينا غرفاً صغيرةً في حجم جسم الإنسان، بعضها عمودي وبعضها أفقي، فيبقى سجين الغرف العمودية واقفاً على رجليه مدة سجنه حتى يموت، ويبقى سجين الغرف الأفقية ممداً بها حتى الموت، وتبقى الجثث في السجن الضيق حتى تبلى، ويتساقط اللحم عن العظم، وتأكله الديدان، ولتصريف الروائح الكريهة المنبعثة من جثث الموتى فتحوا نافذة صغيرة إلى الفضاء الخارجي.
وقد عثرنا في هذه الغرف على هياكل بشرية ما زالت في أغلالها.
كان السجناء رجالاً ونساءً، تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة عشرة والسبعين، وقد استطعنا إنقاذ عدد من السجناء الأحياء، وتحطيم أغلالهم ، وهم في الرمق الأخير من الحياة.
كان بعضهم قد أصابه الجنون من كثرة ما صبوا عليه من عذاب، وكان السجناء جميعاً عرايا، حتى اضطر جنودنا إلى أن يخلعوا أرديتهم ويستروا بها بعض السجناء.
أخرجنا السجناء إلى النور تدريجياً حتى لا تذهب أبصارهم، كانوا يبكون فرحاً، وهم يقبّلون أيدي الجنود وأرجلهم الذين أنقذوهم من العذاب الرهيب، وأعادوهم إلى الحياة، كان مشهداً يبكي الصخور.
ثم انتقلنا إلى غرف أخرى، فرأينا فيها ما تقشعر لهوله الأبدان، عثرنا على آلات رهيبة للتعذيب، منها آلات لتكسير العظام، وسحق الجسم البشري، كانوا يبدؤون بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجيا، حتى يهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة، والدماء الممزوجة باللحم المفروم، هكذا كانوا يفعلون بالسجناء الأبرياء المساكين،
ثم عثرنا على صندوقٍ في حجم جسم رأس الإنسان تماماً، يوضع فيه رأس الذي يريدون تعذيبه بعد أن يربطوا يديه ورجليه بالسلاسل والأغلال حتى لا يستطيع الحركة، وفي أعلى الصندوق ثقب تتقاطر منه نقط الماء البارد على رأس المسكين بانتظام، في كل دقيقة نقطة، وقد جُنّ الكثيرون من هذا اللون من العذاب، ويبقى المعذب على حاله تلك حتى يموت.
وآلة أخرى للتعذيب على شكل تابوت تثبت فيه سكاكين حادة.
كانوا يلقون الشاب المعذب في هذا التابوت، ثم يطبقون بابه بسكاكينه وخناجره. فإذا أغلق مزق جسم المعذب المسكين، وقطعه إرباً إرباً.
كما عثرنا على آلات كالكلاليب تغرز في لسان المعذب ثم تشد ليخرج اللسان معها، ليقص قطعة قطعة، وكلاليب تغرس في أثداء النساء وتسحب بعنفٍ حتى تتقطع الأثداء أو تبتر بالسكاكين.
وعثرنا على سياط من الحديد الشائك يُضرب بها المعذبون وهم عراة حتى تتفتت عظامهم، وتتناثر لحومهم( ).(66/4)
هذا العذاب كان موجهاً ضد الطوائف المخالفة من المسيحيين فماذا كانوا يفعلون بالمسلمين؟؟ … أشد وأنكى لا شك.
* * *
2- دواوين التفتيش في البلاد الإسلامية :
ويبدو أن دواوين التفتيش هذه قد انتقلت إلى بقاع العالم الإسلامي، ليسلطها حكام مجرمون فجرة على شعوبهم. فقد ذكر لي شاهد عيان بعض أنواع التعذيب التي كانت تنفذ في أحد البلدان الإسلامية ضد مجموعة من العلماء المجاهدين فقال:
بعد يوم من التعذيب الشديد ساقنا الزبانية بالبسياط إلى زنزاناتنا، وأمرنا الجلادون أن نستعد ليوم آخر شديد.. صباح اليوم التالي أمرنا الجلادون أن نخرج فوراً، كنا نستجمع كل قوتنا في أقدامنا الواهنة هرباً من السياط التي كانت تنزل علينا من حرس كان عددهم أكبر منا.
وأخيراً أوقفونا في سهل صحراوي، تحت أشعة الشمس اللاهبة، حول كومةٍ من الفحم الجيري، كان يعمل الحرس جاهدين لإشعاله، وقرب النار مصلبة خشبية تستند إلى ثلاثة أرجل.
اشتعلت كومة الفحم الحجري حتى احمرت، فجأة سمعنا شتائم تأتي من بعيد، التفتنا فوجدنا خمسة من الحرس يقودون شاباً عرفه بعضنا، كان اسمه "جاويد خان إمامي" أحد علماء ذلك البلد.
امتلأ الأفق بنباح كلاب مجنونة، رأينا عشرة من الحرس يقودون كلبين، يبلغ ارتفاع كل واحد منهما متراً، علمنا بعد ذلك أنهما قد حرما من الطعام منذ يومين.
اقترب الحرس بالشاب جاويد من كومة النار الحمراء .. وعيونه مغمضة بحزام سميك.
كنا نتفرج .. أكثر من مائة سجين، ومعنا أكثر من مائة وخمسين من الحرس، معهم البنادق والرشاشات. فجأة اقترب من الشاب جاويد عشرة من الحراس، أجلسوه على الأرض، ووضعوا في حضنه مثلثاً خشبياً، ربطوه إليه ربطاً محكماً، بحيث يبقى قاعداً، لا يستطيع أن يتمدد، ثم حملوه جميعاً، وأجلسوه على الجمر الأحمر، فصرخ صرخة هائلة، ثم أغمى عليه.
سقط منا أكثر من نصفنا مغمى عليهم .. كانوا يصرخون متألمين .. وعمت رائحة شواء لحم جاويد المنطقة كلها، ومن حسن حظي أنني بكيت بكاء مراً. لكنني لم أصب بالإغماء .. لأرى بقية القصة التي هي أفظع من أولها.
حُمل الشاب، وفكت قيوده وهو غائب عن وعيه، وصلب على المصلبة الخشبية، وربط بها بإحكام، واقترب الجلادون بالكلبين الجائعين، وفكوا القيود عن أفواههما، وتركوهما يأكلان لحم ظهر جاويد المشوى. بدأت أشعر بالانهيار، وجننت عندما سمعت صرخة خافتة تصدر عن جاويد .. إنه لازال حياً والكلاب تأكل لحمه فقدت وعيي بعدها ..
لم أفق إلا وأنا أصرخ في زنزانتى كالمجنون .. دون أن أشعر .. جاويد .. جاويد.. أكلتك الكلاب يا جاويد .. جاويد … كان إخواني في الزنزانة قد ربطوني وأحاطوا رأسي وفمي بالأربطة حتى لا يسمع الجلادون صوتي فيكون مصيري كمصير جاويد، أو كمصير شاهان خاني الذي أصيب بالهستيريا مثلي، فأصبح يصرخ جاويد .. جاويد .. فأخذه الجلادون ووضعوا فوقه نصف برميل مملوء بالرمل، ثم سحبوه على الأسلاك الشائكة التي ربطوها صفاً أفقياً، فمات بعد أن تقطع لحمه ألف قطعة، وهو يصرخ: الله أكبر .. الله أكبر .. لابد أن ندوسكم أيها الظالمون.
وأخيراً أغمى عليّ.
فتحت عيوني .. فوجئت أنني في أحد المشافى ، وفوجئت أكثر من ذلك بسفير بلدي يقف فوق رأسي، قال لي: كيف حالك .. يبدو أنك ستشفى إن شاء الله. لو لم تكن غريباً عن هذه البلاد لما استطعت إخراجك .. فاجأني سائلاً: لكن بالله عليك، قل لي، من هو هذا جاويد الذي كنت تصرخ باسمه. أخبرته بكل شيء، فامتقع لونه حتى خشيت أن يغمى عليه.
لم نكمل حديثنا إلا والشرطة تسأل عني .. اقترب من سريري ضابط بوليس، وسلمني أمراً بمغادرة البلاد فوراً. ولم تنجح تدخلات السفير في ضرورة إبقائي حتى أشفى، حملوني ووضعوني في باخرة أوصلتني إلى ميناء بلدي، كنت بثياب المستشفى، ليس معي أي وثيقة تثبت شخصيتي، اتصلت بأهلي تليفونيا، فلما حضرا لم يعرفوني لأول وهلة، حملوني إلى أول مستشفى، بقيت فيه ثلاثة أشهر في بكاء مستمر، ثم شفاني الله …
وأنهى المسكين حديث قائلاً:
بقى أن تعرف أن مدير السجون يهودي، والمسؤول عن التعذيب خبير ألماني نازي، أطلقت تلك الحكومة في ذلك البلد الإسلامي يده يفعل في علماء المسلمين كيف يشاء.
* * *
3- ومن الحبشة أمثلة أخرى:
استولت الحبشة على أرتيريا المسلمة بتأييد من فرنسا وانكلترا .. فماذا فعلت فيها؟!!..
صادرت معظم أراضيها، وأسلمتها لإقطاعيين من الحبشة، كان الإقطاعي والكاهن مخولين بقتل أي مسلم دون الرجوع إلى السلطة، فكان الإقطاعي أو الكاهن يشنق فلاحيه أو يعذبهم في الوقت الذي يريد …
فُتحت للفلاحين المسلمين سجون جماعية رهيبة، يجلد فيها الفلاحون بسياطٍ تزن أكثر من عشر كيلوا غرامات، وبعد إنزال أفظع أنواع العذاب بهم كانوا يلقون في زنزانات بعد أن تربط أيديهم بأرجلهم، ويتركون هكذا لعشر سنين أو أكثر، عندما كانوا يخرجون من السجون كانوا لا يستطيعون الوقوف، لأن ظهورهم قد أخذت شكل القوس.(66/5)
كل ذلك كان قبل استلام هيلاسيلاسي السلطة في الحبشة، فلما أصبح إمبراطور الحبشة وضع خطة لإنهاء المسلمين خلال خمسة عشر عاماً، وتباهى بخطته هذه أمام الكونغرس الأمريكى.
سن تشريعات لإذلال المسلمين منها أن عليهم أن يركعوا لموظفى الدولة وإلا يقتلوا.
أمر أن تستباح دماؤهم لأقل سبب، فقد وجد شرطى قتيلاً قرب قرية مسلمة، فأرسلت الحكومة كتيبة كاملة قتلت أهل القرية كلهم وأحرقتهم مع قريتهم، ثم تبين أن القاتل هو صديق المقتول، الذي اعتدى على زوجته حاول أحد العلماء واسمه الشيخ عبد القادر أن يثور على هذه الإبادة فجمع الرجال، واختفى في الغابات، فجمعت الحكومة أطفالهم ونساءهم وشيوخهم في أكواخٍ من الحشيش والقصب، وسكبت عليهم البنزين وأحرقتهم جميعاً.
ومن قبضت عليه من الثوار كانت تعذبه عذاباً رهيباً قبل قتله، من ذلك إطفاء السجائر في عينيه وأذنيه، وهتك عرض بناته وزوجته وأخواته أمام عينيه، ودق خصيتيه بأعقاب البنادق .. وجره على الأسلاك الشائكة حتى يتفتت، وإلقاؤه جريحاً قبل أن يموت لتأكله الحيوانات الجارحة، بعد أن تربطه بالسلاسل حتى لا يقاوم.
أصدر هيلاسيلاسى أمراً بإغلاق مدارس المسلمين وأمر بفتح مدارس مسيحية وأجبر المسلمين على إدخال أبنائهم فيها ليصبحوا مسيحيين.
عين حُكاماً فجرة على مقاطعات أرتيريا منهم واحد عينه على مقاطعة جَمَة، ابتدأ عمله بأن أصدر أمراً أن لا يقطف الفلاحون ثمار أراضيهم إلا بعد موافقته، وكان لا يسمح بقطافها إلا بعد أن تتلف، وأخيراً صادر 90% من الأراضي، أخذ هو نصفها وأعطى الإمبراطور نصفها. ونهب جميع ممتلكات الفلاحين المسلمين..
أمرهم أن يبنوا كنيسة كبرى في الإقليم فبنوها .. ثم أمرهم أن يعمروا كنسية عند مدخل كل قرية أو بلدة ولم يكتف بذلك بل بنى دوراً للعاهرات حول المساجد ومعها الحانات التي كان يسكر فيها الجنود، ثم يدخلون إلى المساجد ليبولوا بها ويتغوطوا ، وليراقصوا العاهرات فيها وهم سكارى .
كما فرض على الفلاحين أن يبيعوا أبقارهم لشركة أنكودا اليهودية .
كافأه الإمبراطور على أعماله هذه بأن عينه وزيراً للداخلية .
كانت حكومة الإمبراطور تلاحق كل مثقف مسلم. لتزجه في السجن حتى الموت، أو تجبره على مغادرة البلاد حتى يبقى شعب أرتيريا المسلم مستعبداً جاهلاً. وغير ذلك كثير( ).
4- ومن بنغلاديش :
قتل الجيش الهندي الذي كان يقوده يهود عشرة آلاف عالمٍ مسلم بعد انتصاره على جيش باكستان عام 1971 وقتل مائة ألف من طلبة المعاهد الإسلامية ، وموظفي الدولة ، وسجن خمسين ألف من العلماء وأساتذة الجامعات وقتل ربع مليون مسلم هندي هاجروا من الهند إلى باكستان قبل الحرب وسلب الجيش الهندي ما قيمته ( 30 ) مليار روبية من باكستان الشرقية التي سقطت من أموال الناس والدولة (2) .
…ولن نتعرض هنا لأشكال التعذيب التي صبها الجيش الهندي على المسلمين العزل في ما دعي بعد ذلك ببنغلاديش .
***
والأمثلة من كل مكان من العالم الإسلامي، يكاد الصدر يتفجر ضيقاً من تذكرها ..
لكنها بداية الخلاص إن شاء الله .. إنها سياط اليقظة التي ستُذهب نوم القرون، وتُخرج من تحت الأرض سكان القبور.
وما ذلك على الله بعزيز.
نتساءل أخيراً:
هل مواقف الغرب وأتباعه التي رأيناها هي مواقف عاطفية استثنائية ؟!..
لا .. إنها مواقف مقررة مسبقاً في فكر الغرب وعقول قادته .. يمارسها الغربيون وأتباعهم عن تصميم واقتناع كامل، وبإرادة واعية تماماً … وعن عمدٍ ..
ولماذا ذلك كله … ؟!!…
هذا ما سنبينه بوضوح في هذه الدراسة التي سنبنيها على أقوال قادة الغرب فقط .. دون أن نُدخل فيها أي اجتهاد أو استنتاج لتسهل الحجة، ويظهر الحق، ويستنير طريق المضللين الذين يمارسون بأيديهم إبادة مقومات القوة في أممهم ليسهلوا على العدو الكبير المتربص التهامها.
وما أفظعها من مهمة يمارسها العملاء .. حين يدمرون أممهم، ثم يدفعونها في فم الغول الاستعماري البشع … ليلتهمها … فيارب متى ينتبهون … ؟!!..
* * *
موقف الغرب من الإسلام
الحروب الصليبية مستمرة:
يبنى الغرب علاقاته معنا على أساس أن الحروب الصليبية لا تزال مستمرة بيننا وبينه:
1-…فسياسة أمريكا معنا تخطط على هذا الأسس :
يقول أيوجين روستو رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية ومساعد وزير الخارجية الأمريكية، ومستشار الرئيس جونسون لشؤون الشرق الأوسط حتى عام 1967م يقول:
"يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية". لقد كان الصراع محتدماً ما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة، بصور مختلفة. ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب، وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي .
ويتابع :(66/6)
إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي، فلسفته، وعقيدته، ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي، بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها. إن روستو يحدد أن هدف الاستعمار في الشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية، وأن قيام إسرائيل، هو جزء من هذا المخطط، وأن ذلك ليس إلا استمراراً للحروب الصليبية. ( )
2- والحرب الصليبية الثامنة قادها اللنبى :
يقول باترسون سمث في كتابه "حياة المسيح الشعبية" باءت الحروب الصليبية بالفشل، لكن حادثاً خطيراً وقع بعد ذلك، حينما بعثت انكلترا بحملتها الصليبية الثامنة، ففازت هذه المرة، إن حملة اللنبى على القدس أثناء الحرب العالمية الأولى هي الحملة الصليبية الثامنة، والأخيرة. ( )
لذلك نشرت الصحف البريطانية صور اللنبى وكتبت تحتها عبارته المشهورة التي قالها عندما فتح القدس:
اليوم انتهت الحروب الصليبية.
ونشرت هذه الصحف خبراً آخر يبين أن هذا الموقف ليس موقف اللنبى وحده بل موقف السياسة الإنكليزية كلها، قالت الصحف :
هنأ لويد جورج وزير الخارجية البريطاني الجنرال اللنبى في البرلمان البريطاني، لإحرازه النصر في آخر حملة من الحروب الصليبية، التي سماها لويد جورج الحرب الصليبية الثامنة.
3- والفرنسيون أيضاً صليبيون:
فالجنرال غورو عندما تغلب على جيش ميسلون خارج دمشق توجه فوراً إلى قبر صلاح الدين الأيوبي عند الجامع الأموي، وركله بقدمه وقال له:
"ها قد عدنا يا صلاح الدين".( )
ويؤكد صليبية الفرنسيين ما قاله مسيو بيدو وزير خارجية فرنسا عندما زاره بعض البرلمانيين الفرنسيين وطلبوا منه وضع حد للمعركة الدائرة في مراكش أجابهم:
"إنها معركة بين الهلال والصليب".( )
4- وحزب الكتائب وشمعون يعتبرون أن حرب لبنان هي حرب صليبية :
صفحة من جريدة العمل في خدمة لبنان يشرف على سياستها بيير الجميل كما هو مكتوب في الصفحة .
5- وقالوا عام 1967م بعد سقوط القدس:
قال راندولف تشرشل:
لقد كان إخراج القدس من سيطرة الإسلام حلم المسيحيين واليهود على السواء، إن سرور المسيحيين لا يقل عن سرور اليهود. إن القدس قد خرجت من أيدي المسلمين، وقد أصدر الكنيست اليهودي ثلاثة قرارات بضمها إلى القدس اليهودية ولن تعود إلى المسلمين في أية مفاوضات مقبلة ما بين المسلمين واليهود. ( )
6- والصهاينة أيضاً:
عندما دخلت قوات إسرائيل القدس عام 1967 تجمهر الجنود حول حائط المبكى، وأخذوا يهتفون مع موشى دايان:
هذا يوم بيوم خيبر … يالثارات خيبر.
وتابعوا هتافهم:
حطوا المشمش عالتفاح، دين محمد ولى وراح ..
وهتفوا أيضاً:
محمد مات .. خلف بنات ..
كل ذلك دعا الشاعر محمد الفيتورى إلى تنظيم قصيدته الرائعة مخاطباً نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم
يا سيدي ..
عليك أفضل الصلاة والسلام ..
من أمة مُضاعة ..
تقذفها حضارة الخراب والظلام ..
يا سيدي … منذ ردمنا البحر بالسدود ..
وانتصبت ما بيننا وبينك الحدود ..
متنا ..
وداست فوقنا ماشية اليهود.. ( ).
6- واستغلت إسرائيل صليبية الغرب :
خرج أعوانها بمظاهرات قبل حرب الـ 1967 تحمل لافتات في باريس، سار تحت هذه اللافتات جان بول سارتر، كتبت على هذه اللافتات، وعلى جميع صناديق التبرعات لإسرائيل جملة واحدة من كلمتين، هما:
"قاتلوا المسلمين"
فالتهب الحماس الصليبي الغربي، وتبرع الفرنسيون بألف مليون فرنك خلال أربعة أيام فقط … كما طبعت إسرائيل بطاقات معايدات كتبت عليها "هزيمة الهلال". بيعت بالملايين … لتقوية الصهاينة الذين يواصلون رسالة الصليبية الأوروبية في المنطقة، وهي محاربة الإسلام وتدمير المسلمين ( ).
***
الجدَار الصلب
نتساءل هنا:
هل يشن الغرب حرباً صليبيةً على العالم الإسلامي استجابةً لظروف تاريخية التحم فيها الإسلام مع المسيحية، وانتزع من المسيحية أممها وعواصمها ؟؟
أم أن هناك عوامل أخرى تدفع الغرب إلى شن حروبه الصليبية ضد عالم الإسلام ؟ …
يبدو من تصريحات قادة الغرب أنهم يشنون الحرب على الإسلام لعوامل أخرى …
إنهم يرونه الجدار الصلب الذي يقف في وجه سيطرتهم على العالم واستغلالهم له :
1-…فهم يرونه الجدار الوحيد أمام الاستعمار :
يقول لورنس براون:
"إن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربى"( ).
ويقول غلادستون رئيس وزراء بريطانيا سابقاً :
ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربة السيطرة على الشرق . ( )
ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر:
إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن، ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم( ).
2-…ويرون أن الإسلام هو الجدار الذي يقف في وجه انتشار النفوذ الشيوعي :(66/7)
في افتتاحية عدد 22 أيار عام 1952من جريدة "كيزيل أوزباخستان" الجريدة اليومية للحزب الشيوعي الأورباخستاني ذكر المحرر ما يلي:
من المستحيل تثبيت الشيوعية قبل سحق الإسلام نهائياً. ( )
3-…ويرون أنه الجدار الذي يحول دون انتشار المسيحية وتمكن الاستعمار من العالم الإسلامي :
يقول أحد المبشرين :
إن القوة الكامنة في الإسلام هي التي وقفت سداً منيعاً في وجه انتشار المسيحية ، وهي التي أخضعت البلاد التي كانت خاضعة للنصرانية( ).
ويقول أشعياء بومان في مقالة نشرها في مجلة العالم الإسلامي التبشيرية:
لم يتفق قط أن شعباً مسيحياً دخل في الإسلام ثم عاد نصرانياً. ( )
4-…ويرون أن الإسلام هو الخطر الوحيد أمام استقرار الصهيونية وإسرائيل :
يقول بن غوريون، رئيس وزراء إسرائيل سابقاً :
إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمد جديد. ( )
وحدّث ضابط عربي كبير وقع أسيراً في أيدي اليهود عام 1948 أن قائد الجيش اليهودي دعاه إلى مكتبه قبيل إطلاق سراحه، وتلطف معه في الحديث.
سأله الضابط المصري : هل أستطيع أن أسأل لماذا لم تهاجموا قرية صور باهر ؟0
وصور باهر قرية قريبة من القدس.
أطرق القائد الإسرائيلي إطراقة طويلة ثم قال: أجيبك بصراحة، إننا لم نهاجم صور باهر لأن فيها قوة كبيرة من المتطوعين المسلمين المتعصبين.
دهش الضابط المصرى، وسأل فوراً: وماذا في ذلك، لقد هجمتم على مواقع أخرى فيها قوات أكثر .. وفي ظروف أصعب ؟!.
أجابه القائد الإٍسرائيلي: إن ما تقوله صحيح، لكننا وجدنا أن هؤلاء المتطوعين من المسلمين المتعصبين يختلفون عن غيرهم من المقاتلين النظاميين، يختلفون تماماً، فالقتال عندهم ليس وظيفة يمارسونها وفق الأوامر الصادرة إليهم، بل هو هواية يندفعون إليها بحماس وشغف جنوني، وهم في ذلك يشبهون جنودنا الذين يقاتلون عن عقيدة راسخة لحماية إسرائيل.
ولكن هناك فارقاً عظيماً بين جنودنا وهؤلاء المتطوعين المسلمين. إن جنودنا يقاتلون لتأسيس وطن يعيشون فيه، أما الجنود المتطوعون من المسلمين فهم يقاتلون ليموتوا، إنهم يطلبون الموت بشغف أقرب إلى الجنون، ويندفعون إليه كأنهم الشياطين، إن الهجوم على أمثال هؤلاء مخاطرة كبيرة، يشبه الهجوم على غابة مملوءة بالوحوش، ونحن لا نحب مثل هذه المغامرة المخيفة، ثم إن الهجوم عليهم قد يثير علينا المناطق الأخرى فيعملون مثل عملهم، فيفسدوا علينا كل شيء، ويتحقق لهم ما يريدون.
دهش الضابط المصرى لإجابة القائد الإسرئيلي، لكنه تابع سؤاله ليعرف منه السبب الحقيقي الذي يخيف اليهود من هؤلاء المتطوعين المسلمين.
قال له: قل لي برأيك الصريح، ما الذي أصاب هؤلاء حتى أحبوا الموت، وتحولوا إلى قوة ماردة تتحدى كل شيءٍ معقول؟!!.
أجابه الإسرائيلي بعفوية: إنه الدين الإسلامي يا سيادة الضابط. ثم تلعثم، وحاول أن يخفى إجابته، فقال:
إن هؤلاء لم تتح لهم الفرصة كما أتيحت لك، كي يدرسوا الأمور دراسة واعية تفتح عيونهم على حقائق الحياة، وتحررهم من الخرافة وشعوذات المتاجرين بالدين، إنهم لا يزالون ضحايا تعساء لوعد الإسلام لهم بالجنة التي تنتظرهم بعد الموت.
وتابع مسترسلاً: إن هؤلاء المتعصبين من المسلمين هم عقدة العقد في طريق السلام الذي يجب أن نتعاون عليه وهم الخطر الكبير على كل جهد يبذل لإقامة علاقات سليمة واعية بيننا وبينكم.
وتابع مستدركاً، وكأنه يستفز الضابط المصرى ضد هؤلاء المسلمين، تصور يا سيدي أن خطر هؤلاء ليس مقتصراً علينا وحدنا، بل هو خطر عليكم أنتم أيضاً. إذ أن أوضاع بلادكم لن تستقر حتى يزول هؤلاء، وتنقطع صرخاتهم المنادية بالجهاد والاستشهاد في سبيل الله، هذا المنطق الذي يخالف رقى القرن العشرين، قرن العلم وهيئة الأمم والرأي العام العالمي، وحقوق الإنسان.
واختتم القائد الإسرائيلي حديثه بقوله:
يا سيادة الضابط، أنا سعيد بلقائك، وسعيد بهذا الحديث الصريح معك، وأتمنى أن نلتقى لقاءً قادماً، لنتعاون في جو أخوى لا يعكره علينا المتعصبون من المسلمين المهووسين بالجهاد وحب الاستشهاد في سبيل الله. ( )
5-…ويرون أن بقاء اسرائيل مرهون بازالة المتمسكين بالإسلام :
يقول الكاتب الصهيوني (( إيرل بوغر )) في كتابه العهد والسيف الذي صدر عام 1965 ما نصه بالحرف :
(( ان المبدأ الذي قام عليه وجود اسرائيل منذ البداية هو أن العرب لا بد أن يبادروا ذات يوم إلى التعاون معها ، ولكي يصبح هذا التعاون ممكناً فيجب القضاء على جميع العناصر التي تغذي شعور العداء ضد اسرائيل في العالم العربي ، وهي عناصر رجعية تتمثل في رجال الدين والمشائخ (1) .
6- ويقول اسحاق رابين غداة فوز جيمي كارتر برئاسة الولايات المتحدة ، ونقلت قوله جميع وكالات الأنباء :
ان مشكلة الشعب اليهودي هي أن الدين الإسلامي ما زال في دور العدوان والتوسع ، وليس مستعدا لمواجهة الحول وان وقتا طويلا سيمضي قبل أن يترك الإسلام سيفه (2) .
***
العدو الوحيد
إنهم لا يرون الإسلام جداراً في وجه مطامعهم فقط، بل يعتقدون جازمين أنه الخطر الوحيد عليهم في بلادهم.
1-…يقول لورانس براون :(66/8)
كان قادتنا يخوفننا بشعوب مختلفة، لكننا بعد الاختبار لم نجد مبرراً لمثل تلك المخاوف.
كانوا يخوفنا بالخطر اليهودي، والخطر الياباني الأصفر، والخطر البلشفي.
لكنه تبين لنا أن اليهود هم أصدقاؤنا، والبلاشفة الشيوعيون حلفاؤنا، أما اليابانيون، فإن هناك دولاً ديمقراطية كبيرة تتكفل بمقاومتهم.
لكننا وجدنا أن الخطر الحقيقي علينا موجود في الإسلام، وفي قدرته على التوسع والاخضاع، وفي حيويته المدهشة. ( )
2-…ونكرر هنا قول غلادستون :
ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين، فلن تستطع أوربة السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان. ( )
3-…ويقول المستشرق غاردنر:
إن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوربة. ( )
4-…ويقول هانوتر وزير خارجية فرنسا سابقاً:
لا يوجد مكان على سطح الأرض إلا واجتاز الإسلام حدوده وانتشر فيه، فهو الدين الوحيد الذي يميل الناس إلى اعتناقه بشدة تفوق كل دين آخر. ( )
5- ويقول البر مشادر:
من يدري؟! ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الغرب مهددة بالمسلمين، يهبطون إليها من السماء، لغزو العالم مرة ثانية، وفي الوقت المناسب.
ويتابع: لست متنبئاً، لكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة .. ولن تقوى الذرة ولا الصواريخ على وقف تيارها.
إن المسلم قد استيقظ، وأخذ يصرخ، ها أنذا، إنني لم أمت، ولن أقبل بعد اليوم أن أكون أداة تسيرها العواصم الكبرى ومخابراتها. ( )
6- ويقول أشعيا بومان في مقال نشره في مجلة العالم الإسلامي التبشيرية:
إن شيئاً من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي من الإسلام، لهذا الخوف أسباب، منها أن الإسلام منذ ظهر في مكة لم يضعف عددياً، بل إن أتباعه يزدادون باستمرار، من أسباب الخوف أن هذا الدين من أركانه الجهاد. ( )
7- ويقول أنطوني ناتنج في كتابه "العرب"
منذ أن جمع صلى الله عليه وسلم أنصاره في مطلع القرن السابع الميلادي، وبدأ أول خطوات الانتشار الإسلامي، فإن على العالم الغربي أن يحسب حساب الإسلام كقوة دائمة، وصلبة، تواجهنا عبر المتوسط. ( )
8- وصرح سالازار في مؤتمر صحفي قائلاً:
إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يُحدثه المسلمون حين يغيرون نظام العالم.
فلما سأله أحد الصحفيين: لكن المسلمين مشغولون بخلافاتهم ونزاعاتهم ، أجابه: أخشى أن يخرج منهم من يوجه خلافهم إلينا. ( )
9- ويقول مسؤول في وزارة الخارجية الفرنسية عام 1952:
ليست الشيوعية خطراً على أوربة فيما يبدو لي، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً وعنيفاً هو الخطر الإسلامي، فالمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص بهم. ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، فهم جديرون أن يقيموا قواعد عالم جديد، دون حاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية في الحضارة الغربية، فإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع، انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الثمين، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الحضارة الغربية، ويقذفون برسالتنا إلى متاحف التاريخ.
وقد حاولنا نحن الفرنسيين خلال حكمنا الطويل للجزائر أن نتغلب على شخصية الشعب المسلمة، فكان الإخفاق الكامل نتيجة مجهوداتنا الكبيرة الضخمة.
إن العالم الإسلامي عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافاً تاماً، فهو حائر، وهو قلق، وهو كاره لانحطاطه وتخلفه، وراغب رغبةً يخالطها الكسل والفوضى في مستقبل أحسن، وحرية أوفر …
فلنعط هذا العالم الإسلامي ما يشاء، ولنقو في نفسه الرغبة في عدم الإنتاج الصناعي، والفني ، حتى لا ينهض، فإذا عجزنا عن تحقيق هذا الهدف، بإبقاء المسلم متخلفاً، وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه، فقد بؤنا بإخفاق خطير، وأصبح خطر العالم العربي،وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً ينتهي به الغرب،وتنتهي معه وظيفته الحضارية كقائد للعالم . ( )
10- ويقول مورو بيرجر في كتابه "العالم العربي المعاصر":
إن الخوف من العرب، واهتمامنا بالأمة العربية، ليس ناتجاً عن وجود البترول بغزارة عند العرب، بل بسبب الإسلام .
يجب محاربة الإسلام، للحيلولة دون وحدة العرب، التي تؤدي إلى قوة العرب، لأن قوة العرب تتصاحب دائماً مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره.
إن الإسلام يفزعنا عندما نراه ينتشر بيسر في القارة الأفريقية. ( )
11- ويقول هانوتو وزير خارجية فرنسا :
رغم انتصارنا على أمة الإسلام وقهرها، فإن الخطر لا يزال موجوداً من انتفاض المقهورين الذين أتعبتهم النكبات التي أنزلناها بهم لأن همتهم لم تخمد بعد… ( ) .
12- بعد استقلال الجزائر ألقى أحد كبار المستشرقين محاضرة في مدريد عنوانها: لماذا كنا نحاول البقاء في الجزائر.
أجاب على هذا السؤال بشرح مستفيض ملخصه :
إننا لم نكن نسخر النصف مليون جندي من أجل نبيذ الجزائر أو صحاريها .. أو زيتونها ..(66/9)
إننا كنا نعتبر أنفسنا سور أوربا الذي يقف في وجه زحف إسلامي محتمل يقوم به الجزائريون وإخوانهم من المسلمين عبر المتوسط، ليستعيدوا الأندلس التي فقدوها، وليدخلوا معنا في قلب فرنسا بمعركة بواتيه جديدة ينتصرون فيها، ويكتسحون أوربا الواهنة، ويكملون ما كانوا قد عزموا عليه
أثناء حلم الأمويين بتحويل المتوسط إلى بحيرة إسلامية خالصة.
من أجل ذلك كنا نحارب في الجزائر. ( )
13- في أول الشهر الحادي عشر من عام 1974 ذكرت إذاعة لندن مساء زيارة وزير خارجية فرنسا سوفانيارك لاسرائيل . واجتماعه بقياداتها ، بعد أن اجتمع في بيروت برئيس منظمة التحرير الفلسطينية. ما جرى في آخر اجتماع عقد بين القادة الاسرائيليين وسوفانيارك ، وانتقاداتهم للسياسة الفرنسية لأنها تقف إلى جانب العرب ضد اسرائيل ، وتؤيد الفلسطينيين ، وهاجموا سوفانيارك شخصيا لأنه اجتمع بياسر عرفات . عندها غضب وزير الخارجية الفرنسية وصرخ في وجوههم : إما أن تعترفوا بمنظمة التحرير ، أو أن يعلن العرب كلهم عليكم الجهاد ..
والعجب أن اذاعة لندن لم تعد إلى اذاعة هذا الخبر مرة أخرى ، كما أن جميع اذاعات العرب لم تذكره .
ففرنسا حين تتحرك إلى جانب العرب لا تتحرك إلا خوفاً من أن يثير عداء العالم الغربي للعرب روح الجهاد في المسلمين ، فيعلنوه ويشنوا حربا على الحضارة الغربية تؤدي إلى دمار الغرب ويقظة المسلمين وهذا وحده كاف أن يدفع فرنسا إلى مهادنتهم ودعوة الآخرين لمهادنتهم !!! .
14- قالت اذاعة لندن صباح 10/4/1976 بمناسبة افتتاح مهرجان العالم الإسلامي في لندن :
ان الشعور العام السائد في الغرب أن المسيحية اذا لم تغير موقفها من الإسلام بحيث تتعاون معه للقضاء على الشر في العالم ، لا أن تعتبر الإسلام مصدرا من مصادر الشر ، إن لم تفعل ذلك فان المستقبل لا يؤذن بخير بالنسبة للمسيحية والعالم .
* * *
دمروا الإسلام
كيف يعملون إذن :
ليس أمامهم إلا حل واحد هو تدمير الإسلام:
1-…"ها قد هبت النصرانية والموسوية لمقاتلة المحمدية. وهما تأملان أن تتمكنا من تدمير عدوتهما".( )
2-…يقول غاردنر:
إن الحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ القدس، إنها كانت لتدمير الإسلام. ( )
3-…ونشيد جيوش الاستعمار كان يقول:
أنا ذاهب لسحق الأمة الملعونة،
لأحارب الديانة الإسلامية،
ولأمحو القرآن بكل قوتى.
4-…وشعار "قاتلوا المسلمين" الذي وزعته إسرائيل في أوربا عند حرب الـ 67، لقى تجاوباً لا نظير له في دول الغرب كلها …
5-…يقول فيليب فونداسي:
إن من الضروري لفرنسا أن تقاوم الإسلام في هذا العالم وأن تنتهج سياسة عدائية للإسلام، وأن تحاول على الأقل إيقاف انتشاره. ( )
6- يقول المستشرق الفرنسي كيمون في كتابه "باثولوجيا الإسلام":
"إن الديانة المحمدية جذام تفشى بين الناس، وأخذ يفتك بهم فتكاً ذريعاً، بل هو مرض مريع، وشلل عام، وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل، ولا يوقظه من الخمول والكسل إلا ليدفعه إلى سفك الدماء، والإدمان على معاقرة الخمور، وارتكاب جميع القبائح. وما قبر محمد إلا عمود كهربائي يبعث الجنون في رؤوس المسلمين، فيأتون بمظاهر الصرع والذهول العقلي إلى ما لا نهاية، ويعتادون على عادات تنقلب إلى طباع أصيلة، ككراهة لحم الخنزير، والخمر والموسيقي.
إن الإسلام كله قائم على القسوة والفجور في اللذات.
ويتابع هذا المستشرق المجنون:
اعتقد أن من الواجب إبادة خُمس المسلمين، والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة، ووضع قبر محمد وجثته في متحف اللوفر. ( )
ويبدو أن قائد الجيوش الإنكليزية في حملة السودان قد طبق هذه الوصية، فهجم على قبر المهدى الذي سبق له أن حرر السودان وقتل القائد الإنكليزي غوردون، هجم القائد الإنكليزي على قبر المهدي، ونبشه، ثم قطع رأسه وأرسله إلى عاهر إنكليزي وطلب إليه أن يجعله مطفأة لسجائره. ( )
6-…صرَّح الكاردينال بور ، كاردينال برلين لمجلة تابلت الانكليزية الكاثوليكية يوم سقوط القدس عام 1967 بعد أن رعى صلاة المسيحيين مع اليهود في كنيس يهودي لأول مرة في تاريخ المسيحية قال : إن المسيحيين لا بد لهم من التعاون مع اليهود للقضاء على الإسلام وتخليص الأرض المقدسة . ( نشرة التعايش المشبوه - ص 4 )
8- قال لويس التاسع ملك فرنسا الذي أسر في دار ابن لقمان بالمنصورة ، في وثيقة محفوظة في دار الوثائق القومية في باريس :
إنه لا يمكن الانتصار على المسلمين من خلال حرب وانما يمكن الانتصار عليهم بواسطة السياسة باتباع ما يلي :
- إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين ، واذا حدثت فليعمل على توسيع شقتها ما أمكن حتى يكون هذا الخلاف عاملاً في اضعاف المسلمين .
-…عدم يمكين البلاد الإسلامية والعربية أن يقوم فيها حكم صالح .
-…إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية بالرشوة والفساد والنساء ، حتى تنفصل القاعدة عن القمة .
-…الحيلولة دون قيام جيش مؤمن بحق وطنه عليه ، يضحي في سبيل مبادئه .
-…العمل على الحيلولة دون قيام وحدة عربية في المنطقة .(66/10)
-…العمل على قيام دولة غربية في المنطقة العربية تمتد ما بين غزة جنوباً ، انطاكية شمالاً ، ثم تتجه شرقاً ، وتمتد حتى تصل إلى الغرب (1) .
* * *
خططهم لتدمير الإسلام
بعد فشل الحروب الصليبية الأولى التي استمرت قرنين كاملين في القضاء على الإسلام، قاموا بدراسة واعية لكيفية القضاء على الإسلام وأمته، وبدؤوا منذ قرنين يسعون بكل قوة للقضاء على الإسلام.
كانت خطواتهم كما يلي:
أولاً: القضاء على حكم الإسلامي :
بإنهاء الخلافة الإسلامية المتمثلة بالدولة العثمانية، التي كانت رغم بعد حكمها عن روح الإسلام، إلا أن الأعداء كانوا يخشون أن تتحول هذه الخلافة من خلافة شكلية إلى خلافة حقيقية تهددهم بالخطر.
كانت فرصتهم الذهبية التي مهدوا لها طوال قرن ونصف هي سقوط تركيا مع حليفتها ألمانيا خاسرة في الحرب العالمية الأولى.
دخلت الجيوش الإنكليزية واليونانية، والإيطالية، والفرنسية أراضي الدولة العثمانية، وسيطرت على جميع أراضيها، ومنها العاصمة استانبول.
ولما ابتدأت مفاوضات مؤتمر لوزان لعقد صلح بين المتحاربين اشترطت إنكلترا على تركيا أنها لن تنسحب من أراضيها إلا بعد تنفيذ الشروط التالية:
أ - إلغاء الخلافة الإسلامية، وطرد الخليفة من تركيا ومصادرة أمواله.
ب - أن تتعهد تركيا بإخماد كل حركة يقوم بها أنصار الخلافة.
ج- أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام.
د - أن تختار لها دستوراً مدنياً بدلاً من دستورها المستمد من أحكام الإسلام. ( )
فنفذ كمال أتاتورك الشروط السابقة، فانسحبت الدول المحتلة من تركيا.
ولما وقف كرزون وزير خارجية إنكلترا في مجلس العموم البريطاني يستعرض ما جرى مع تركيا، احتج بعض النواب الإنكليز بعنف على كرزون، واستغربوا كيف اعترفت إنكلترا باستقلال تركيا، التي يمكن أن تجمع حولها الدول الإسلامية مرة أخرى وتهجم على الغرب.
فأجاب كرزون: لقد قضينا على تركيا، التي لن تقوم لها قائمة بعد اليوم .. لأننا قضينا على قوتها المتمثلة في أمرين: الإسلام والخلافة.
فصفق النواب الإنكليز كلهم وسكتت المعارضة . (كيف هدمت الخلافة ص190)
ثانياً: القضاء على القرآن ومحوه:
لأنهم كما سبق أن قلنا يعتبرون القرآن هو المصدر الأساسي لقوة المسلمين، وبقاؤه بين أيديهم حياً يؤدي إلى عودتهم إلى قوتهم وحضارتهم.
1- يقول غلادستون: ما دام هذا القرآن موجوداً، فلن تستطيع أوربة السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان. ( )
2-…ويقول المبشر وليم جيفورد بالكراف:
متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه. ( )
3-…ويقول المبشر تاكلي:
يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضى عليه تماماً، يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداً، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً. ( )
4-…ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر بمناسبة مرور مائة عام على احتلالها: يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم .. ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم، حتى ننتصر عليهم. ( )
وقد أثار هذا المعنى حادثةً طريفةً جرت في فرنسا، وهي إنها من أجل القضاء على القرآن في نفوس شباب الجزائر قامت بتجربة عملية، قامت بانتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات، أدخلتهن الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية، وألبستهن الثياب الفرنسية، ولقنتهن الثقافة الفرنسية، وعلمتهن اللغة الفرنسية، فأصبحن كالفرنسيات تماماً.
وبعد أحد عشر عاماً من الجهود هيأت لهن حفلة تخرج رائعة دعى إليها الوزراء والمفكرون والصحفيون … ولما ابتدأت الحفلة، فوجيء الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري …
فثارت ثائرة الصحف الفرنسية وتساءلت: ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً !!! ؟؟
أجاب لاكوست، وزير المستعمرات الفرنسى: وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟!!.( )
ثالثاً: تدمير أخلاق المسلمين، وعقولهم، وصلتهم بالله، وإطلاق شهواتهم:
1-…يقول مرماديوك باكتول:
إن المسلمين يمكنهم أن ينشروا حضارتهم في العالم الآن بنفس السرعة التي نشروها بها سابقاً.
بشرط أن يرجعوا إلى الأخلاق التي كانوا عليها حين قاموا بدورهم الأول، لأن هذا العالم الخاوي لا يستطيع الصمود أمام روح حضارتهم. ( )
2-…يقول صموئيل زويمر رئيس جمعيات التبشير في مؤتمر القدس للمبشرين المنعقد عام 1935 م:(66/11)
إن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست في إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريماً ، إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله ، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، ولذلك تكونون بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية ، لقد هيأتم جميع العقول في الممالك الإسلامية لقبول السير في الطريق الذي سعيتم له ، ألا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، أخرجتم المسلم من الإسلام، ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي مطابقاً لما أراده له الاستعمار، لا يهتم بعظائم الأمور، ويحب الراحة، والكسل، ويسعى للحصول على الشهوات بأي أسلوب، حتى أصبحت الشهوات هدفه في الحياة، فهو إن تعلم فللحصول على الشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات .. إنه يجود بكل شيء للوصول إلى الشهوات، أيها المبشرون: إن مهمتكم تتم على أكمل الوجوه. ( )
3-…ويقول صموئيل زويمر نفسه في كتاب الغارة على العالم الإسلامي :
إن للتبشير بالنسبة للحضارة الغربية مزيتان، مزية هدم ، ومزية بناء
أما الهدم فنعني به انتزاع المسلم من دينه، ولو بدفعه إلى الإلحاد ..
وأما البناء فنعني به تنصير المسلم إن أمكن ليقف مع الحضارة الغربية ضد قومه. ( )
4-…ويقولون إن أهم الأساليب للوصول إلى تدمير أخلاق المسلم وشخصيته يمكن أن يتم بنشر التعليم العلماني.
أ- يقول المبشر تكلى:
يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين قد زعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية. ( )
ب- ويقول زويمر: مادام المسلمون ينفرون من المدارس المسيحية فلا بد أن ننشيء لهم المدارس العلمانية، ونسهل التحاقهم بها، هذه المدارس التي تساعدنا على القضاء على الروح الإسلامية عند الطلاب. ( )
ج- يقول جب: لقد فقد الإسلام سيطرته على حياة المسلمين الاجتماعية، وأخذت دائرة نفوذه تضيق شيئاً فشيئاً حتى انحصرت في طقوس محددة، وقد تم معظم هذا التطور تدريجياً عن غير وعي وانتباه، وقد مضى هذا التطور الآن إلى مدى بعيد، ولم يعد من الممكن الرجوع فيه، لكن نجاح هذا التطور يتوقف إلى حدٍ بعيدٍ على القادة والزعماء في العالم الإسلامي، وعلى الشباب منهم خاصة. كل ذلك كان نتيجة النشاط التعليمي والثقافي العلماني. ( )
رابعاً: القضاء على وحدة المسلمين:
1- يقول القس سيمون:
إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب الإسلامية، وتساعد التملص من السيطرة الأوربية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة، من أجل ذلك يجب أن نحوّل بالتبشير اتجاه المسلمين عن الوحدة الإسلامية. ( )
2-…ويقول المبشر لورنس براون:
إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية، أمكن أن يصبحوا لعنةً على العالم وخطراً، أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له، أما إذا بقوا متفرقين، فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير. ( )
ويكمل حديثه:
يجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين، ليبقوا بلا قوة ولا تأثير.
3- ويقول أرنولد توينبى في كتابه الإسلام والغرب والمستقبل: ( )
إن الوحدة الإسلامية نائمة، لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ.
4- وقد فرح غابرائيل هانوتو وزير خارجية فرنسا حينما انحل رباط تونس الشديد بالبلاد الإسلامية، وتفلتت روابطه مع مكة، ومع ماضيه الإسلامي، حين فرض عليه الفرنسيون فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية. ( )
5- من أخطر ما نذكره من أخبار حول هذه النقطة هو ما يلي:
في سنة 1907 عقد مؤتمر أوربى كبير ، ضم أضخم نخبة من المفكرين والسياسيين الأوربيين برئاسة وزير خارجية بريطانيا الذي قال في خطاب الافتتاح:
إن الحضارة الأوروبية مهددة بالانحلال والفناء، والواجب يقضى علينا أن نبحث في هذا المؤتمر عن وسيلة فعالة تحول دون انهيار حضارتنا.
واستمر المؤتمر شهراً من الدراسة والنقاش.
واستعرض المؤتمرون الأخطار الخارجية التي يمكن أن تقضى على الحضارة الغربية الآفلة، فوجدوا أن المسلمين هم أعظم خطر يهدد أوربة.
فقرر المؤتمرون وضع خطة تقضي ببذل جهودهم كلها لمنع إيجاد أي اتحاد أو اتفاق بين دول الشرق الأوسط، لأن الشرق الأوسط المسلم المتحد يشكل الخطر الوحيد على مستقبل أوربة.
وأخيراً قرروا إنشاء قومية غربية معادية للعرب والمسلمين شرقي قناة السويس، ليبقى العرب متفرقين.
وبذا أرست بريطانيا أسس التعاون والتحالف مع الصهيونية العالمية التي كانت تدعو إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين. ( )
خامساً: تشكيك المسلمين بدينهم:
في كتاب مؤتمر العاملين المسيحيين بين المسلمين يقول:
إن المسلمين يدّعون أن في الإسلام ما يلبى كل حاجة اجتماعية في البشر، فعلينا نحن المبشرين أن نقاوم الإسلام بالأسلحة الفكرية والروحية. ( )(66/12)
تنفيذاً لذلك وضعت كتب المستشرقين المتربصين بالإسلام، التي لا تجد فيها إلا الطعن بالإسلام، والتشكيك بمبادئه، والغمز بنبيهمحمد صلى الله عليه وسلم .
سادساً: إبقاء العرب ضعفاء:
يعتقد الغربيون أن العرب هم مفتاح الأمة الإسلامية يقول مورو بيرجر في كتابه "العالم العربي":
لقد ثبت تاريخياً أن قوة العرب تعني قوة الإسلام فليدمر العرب ليدمروا بتدميرهم الإسلام.
سابعاً: إنشاء ديكتاتوريات سياسية في العالم الإسلامي:
يقول المستشرق و. ك. سميث الأمريكي، والخبير بشؤون الباكستان:
إذا أعطى المسلمون الحرية في العالم الإسلامي، وعاشوا في ظل أنظمة ديمقراطية، فإن الإسلام ينتصر في هذه البلاد، وبالديكتاتوريات وحدها يمكن الحيلولة بين الشعوب الإسلامية ودينها.
وينصح رئيس تحرير مجلة تايم في كتابه "سفر آسيا" الحكومة الأمريكية أن تنشئ في البلاد الإسلامية ديكتاتوريات عسكرية للحيلولة دون عودة الإسلام إلى السيطرة على الأمة الإسلامية، وبالتالي الانتصار على الغرب وحضارته واستعماره. ( )
لكنهم لا ينسوا أن يعطوا هذه الشعوب فترات راحة حتى لا تتفجر.
يقول هانوتو وزير خارجية فرنسا:
إن الخطر لا يزال موجوداً في أفكار المقهورين الذين أتعبتهم النكبات التي أنزلناها بهم، لكنها لم تثبط من عزائهم. ( )
ثامناً: إبعاد المسلمين عن تحصيل القوة الصناعية ومحاولة إبقائهم مستهلكين لسلع الغرب:
يقول أحد المسؤولين في وزارة الخارجية الفرنسية عام 1952 إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً عنيفاً هو الخطر الإسلامي … (ويتابع):
فلنعط هذا العالم ما يشاء، ولنقو في نفسه عدم الرغبة في الإنتاج الصناعي والفني ، فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخطة، وتحرر العملاق من عقدة عجزه الفني والصناعي، أصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة، خطراً داهماً ينتهي به الغرب ، وينتهي معه دوره القيادي في العالم. ( )
تاسعاً: سعيهم المستمر لإبعاد القادة المسلمين الأقوياء عن استلام الحكم في دول العالم الإسلامي حتى لا ينهضوا بالإسلام:
1- يقول المستشرق البريطاني مونتجومري وات في جريدة التايمز اللندنية، في آذار من عام 1968:
إذا وجد القائد المناسب، الذي يتكلم الكلام المناسب عن الإسلام، فإن من الممكن لهذا الدين أن يظهر كإحدى القوى السياسية العظمى في العالم مرة أخرى.( )
2- ويقول جب:
إن الحركات الإسلامية تتطور عادة بصورة مذهلة، تدعو إلى الدهشة، فهي تنفجر انفجاراً مفاجئاً قبل أن يتبين المراقبون من أماراتها ما يدعوهم إلى الاسترابة في أمرها، فالحركات الإسلامية لا ينقصها إلا وجود الزعامة، لا ينقصها إلا ظهور صلاح الدين جديد. ( )
3-…وقد سبق أن ذكرنا قول بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل السابق:
" إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمد جديد".
4-…كما ذكرنا قول سالازار، ديكتاتور البرتغال السابق:
أخشى أن يظهر من بينهم رجل يوجه خلافاتهم إلينا.
عاشراً: إفساد المرأة، وإشاعة الانحراف الجنسي:
1-… تقول المبشرة آن ميليغان:
لقد استطعنا أن نجمع في صفوف كلية البنات في القاهرة بنات آباؤهن باشاوات وبكوات، ولا يوجد مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد من البنات المسلمات تحت النفوذ المسيحى، وبالتالي ليس هناك من طريق أقرب إلى تقويض حصن الإسلام من هذه المدرسة. ( )
ماذا يعنون بذلك ؟ إنهم يعنون أنهم بإخراج المرأة المسلمة من دينها يخرج الجيل الذي تربيه ويخرج معها زوجها وأخوها أيضاً وتصبح أداة تدمير قوية لجميع قيم المجتمع الإسلامي الذي يحاولون تدميره وإلغاء دوره الحضاري من العالم .
2- حكى قادم من الضفة الغربية أن السلطات الصهيونية تدعو الشباب العربي بحملات منظمة وهادئة إلى الاختلاط باليهوديات وخصوصاً على شاطئ البحر وتتعمد اليهوديات دعوة هؤلاء الشباب إلى الزنا بهن، وأن السلطات اليهودية تلاحق جميع الشباب الذين يرفضون هذه العروض، بحجة أنهم من المنتمين للحركات الفدائية ، كما أنها لا تُدخل إلى الضفة الغربية إلا الأفلام الجنسية الخليعة جداً، وكذلك تفتح على مقربة من المعامل الكبيرة التي يعمل فيها العمال العرب الفلسطينيون دوراً للدعارة مجانية تقريباً، كل ذلك من أجل تدمير أخلاق أولئك الشباب، لضمان عدم انضمامهم إلى حركات المقاومة في الأرض المحتلة.
* * *
هل هناك تغيير في موقف الغرب
تجاه الإسلام وأهله ؟! ..
ظهرت في السنوات الأربع ألأخيرة بعض المواقف في الغرب تتميز بروح الأعتدال ، وتدعو إلى التأمل . سنستعرض هذه المواقف ، ثم نحلل ما تعنيه ..
1-…أذاعت إذاعة صوت العرب الخبر التالي :
قررت الحكومة الفرنسية ما يلي :
أ …منح الديانة الإسلامية فترة إذاعية في إذاعتها .
ب …فتح مساجد في المشافي والسجون الفرنسية .
ت …منح العمال المسلمين إجازات بمناسبة الأعياد الإسلامية .
2-…أقيم في لندن في نيسان 1976 مهرجان اسمه مهرجان العالم الإسلامي .
حدد المدير العام للمهرجان بول كيلر أهداف المهرجان كما يلي :(66/13)
إن الإنسان في الغرب يعاني فراغاً ثقافياً وروحياً ، ومن هنا كان رحيله المستمر إلى الشرق على صورة موجات (( هيبية )) باحثاً عن ثقافة جديدة يواجه بها أزمته الروحية التي يعاني منها .
يقول مدير المهرجان :
أنا أعتقد أن العصر الذي نعيش فيه هو عصر الاتجاه إلى حضارة الشرق ، والإسلام بصورة خاصة لم يتجه إليه الغرب ، وهو أغنى حضارة بالقيم الروحية . فقلت لماذا لا نقيم هذا الاتصال الثقافي والحضاري مع الإسلام ، وخاصة وأن الدول الإسلامية بدأت تفرض نفسها على العالم بشتى الصور .. لذلك فكرنا بإقامة مهرجان العالم الإسلامي .
ويقول : يجب اقتلاع التعصب ضد الحضارة الإسلامية ، ونحن نتوقع أن يساهم المهرجان بهذه العملية .
ويقول : إن الغاية من المهرجان هي إيصال القيم الإسلامية إلى جماهير الشعب البريطاني ، واننا نتوقع أن يجري نقاش واسع حول القيم الإسلامية أثناء فترة المهرجان ، وهي فترة طويلة - ثلاثة أشهر - وهكذا تتهيأ الفرصة لشرح القيم الإسلامية بصورة وافية ، وان الفرصة التي ستتاح لعلماء المسلمين والمختصين لشرح الحضارة الإسلامية وإبرازها ، ومحاولة مد الجسور بين الشرق والغرب ستكون كبيرة .
وهذه هي المناسبة الحقيقية لا زالة الشبهات التي فرضت على الحضارة الإسلامية من مجموعة من المتعصبين المسيحيين واليهود ، وقصة تعدد الزوجات في الإسلام واحدة من تلك القصص التي تشرح للرأي العام البريطاني من قبل (1) .
3- في دراسة نشرها في عام 1976 المستشرق الصهيوني الانكليزي المشهور برنارد لويس تحت عنوان (( عودة الإسلام )) وبعد مقدمات تحليلية واسعة للحركات الإسلامية في العالم الإسلامي يقول :
مما تقدم تبرز نتائج عامة محددة : فالإسلام لا يزال الشكل الأكثر فعالية في الرأي العام في دول العالم الإسلامي ، وهو يشكل اللون الأساسي لجماهير ، وتزداد فعاليته كلما كانت أنظمة الحكم أكثر شعبية . أي قائمة على أساس اعطاء الحرية للشعوب ، ويمكن للمرء أن يدرك الفرق الواضح بين أنظمة الحكم الحالية ، وبين القيادات السياسية ذات الثقافة الغربية التي أبعدت عن الحكم . والتي حكمت حتى عشرات قليلة مضت من السنين .
وكلمات التصقت الحكومات أكثر بعامة الناس ، حتى ولو كانت يسارية ، فانها تصبح أكثر إسلامية . ولقد بنيت مساجد في ظل أحد أنظمة الحكم في منطقة المواجهة مع اسرائيل خلال ثلاث سنوات أكثر مما بني في السنوات الثلاثين التي سبقتها .
إن الإسلام قوي جدا ، إلا أنه لا يزال قوة غير موجهَّة في ميدان السياسة الداخلية .
وهو يبرز كعامل أساسي محتمل في السياسة الدولية ، وقد جرت محاولات كثيرة في سبيل سياسة تضامن إسلامي أو جامعة إسلامية للدول الإسلامية الا أنها أخفقت كلها في تحقيق تقدم نحو إقامة هذا التضامن . وان أحد الأسباب المهمة هو عجز الذين قاموا بهذه المحاولات في اقناع الشعوب الإسلامية بجدية ما يريدون .
ولا يزال المجال مفتوحا لبروز قيادات أكثر اقناعا وان هناك أدلة كافية في كل الدول الإسلامية قائمة فعلا تدل على الشوق العميق الذي تكنه الشعوب الإسلامية لمثل هذه القيادة ، والاستعداد العظيم للتجاوب معها .
إن غياب القيادة العصرية المثقفة ، القيادة التي تخدم الإسلام بما يقتضيه العصر من تنظيم وعلم . ان غياب هذه القيادة قد قيَّد حركة الإسلام كقوة منتصرة ، ومنع غيابُ القيادة العصرية المثقفة الحركات الإسلامية من أن تكون منافساً خطيرا على السلطة في العالم الإسلامي . لكن هذه الحركات يمكن أن تتحول إلى قوى سياسية محلية هائلة اذا تهيأ لها النوع الصحيح من القيادة (2) .
نقول ماذا تعني هذه المواقف ، وهذه الأقوال ؟! هل هي بداية تحوُّل غربي تجاه الإسلام .. أم أنها مكر من نوع جديد !!!
إنما - فيما نعتقد - طلاء لون به الغرب وجهه بعد أن برزت قوى العالم الإسلامي الاقتصادية والسياسية بشكل ضخم .
إن القوة الاقتصادية التي برزت لدول النفط قد أقضت مضاجع العالم الغربي ، فان كان تقرير البنك الدولي صادقاً ، وبأن السعودية وحدها سوف تملك عام 1980 نصف النقد المتداول في العالم ، فان هذا خطر واضح .
واذا أضفنا إلى ذلك الموقع الاستراتيجي العجيب للعالم الإسلامي ، اذ أن جميع مضائق العالم الاساسية فيه ومعظم السهول الخصبة الرخيصة فيه ، وجميع البحار الدافئة والتي تخترقها طرق العالم فيه ، وإن عدد سكانه يشكل ثلث سكان العالم .. وهم معظم المستهلكين لبضائع الغرب ، فرواج الصناعة الغربية كله قائم عليهم ، والمواد الأولية متوفرة فيه بشكل هائل ، كما أن لسكانه أثرا هائلا في جميع شعوب العالم فإننا بذلك ندرك مدى الشعور بالخطر الذي دفع الغرب إلى ما سبق أن فعله .
إذا كان برنارد لويس ذلك الصهيوني المستشرق قد اقتنع أن الإسلام في طريقه إلى العودة إلى العالم كقوة مهيمنة ،فكأنه يقول للغربيين انتبهوا..المسلمون قادمون ..دمروهم قبل أن يكسروا قمقمهم ..(66/14)
وما الدليل على ما نقول !؟! إن الدليل الواضح هو حرب الصومال التي تشبه إلى حد كبير حرب بنغلادش فالشيوعيون يقدمون الأسلحة والجنود للحبشة والغربيون - أمريكا - وانكلترا - وفرنسا - وألمانيا تمتنع عن تقديم الدعم للصومال ببيعها السلاح ... فهو تآمر مكشوف من كلا الطرفين الشيوعي والرأسمالي لانقاذ الحبشة المسيحية الصليبية . ولو كان ذلك على حساب الشعبين المسلمين الارتيري والصومالي .
هذا يدل بوضوح على أن الغرب لا زال كما كان .. وإن ما يقوم به من أعمال تنبئ عن مهادنة الإسلام ما هي الا محاولات للتغرير بالمسلمين ... فلننتبه بشدة .
فان الغرب لا زال حريصا على شرب دمائهم وابتلاع امكاناتهم . ان آخر ما قام به ضدهم هو قتل ألف مسلم في مسجد مدينة ريرداد باقليم أوجادين الصومالي ، حين فتح الأحباش نيران رشاشاتهم الروسية (1) على المصلين فأبادوا منهم ألفاً دفعة واحدة . ولم تتحرك لهذه الفعله الوحشية دولة من دول الغرب كله ... فهل في هذا ما يدل ... ؟!! إنه أكبر دليل ...
يجب أن نكسر ما يقيدنا .. ونعود إلى العالم سادة له ، نحرر من ظلم الجبارين .. والله غالب أمره .
أخيراً
يا ويح أعدائنا ما أقذرهم، إنهم يفرضون علينا أن نحقد عليهم حين يرقصون على أشلائنا بعد أن يمزقوها ويطحنوها ويطعموها للكلاب.
لقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم لقادة أعدائه حين فتح مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وهم الذين ذبحوا أهله وأصحابه …
وترك صلاح الدين الصليبيين في القدس بعد أن فتحها دون أن يذبحهم كما ذبحوا أهله وإخوانه.
لكننا نتساءل:
إن أحقاد هؤلاء وما فعلوه بأمة الإسلام من ذبح، هل ستمكننا من العطف عليهم مرة أخرى حين ننتصر ؟؟! ولابد أن ننتصر، لأن الله قدر هذا وانتهى، هل سنبادلهم حقداً بحقد، وذبحاً بذبح، ودماً بدم ؟؟!!
إن الله سمح لنا بذلك، لكنه قال ( فمن عفى وأصلح فأجره على الله(، إننا لا نستطيع إلا أن نقول لهم يومنا ذلك : اذهبوا أحراراً حيث شئتم في ظل عدل أمة الإسلام - الذي لا حد له - والحمد لله رب العالمين والصلاة على نبيه محمد وآله ومن سار على درب الجهاد الذي خطّه إلى يوم الدين .
3/1978
================(66/15)
(66/16)
الحملة الصليبية المعاصرة رؤية إسلامية
سيف الدين الأنصاري
لقد كانت المقالة الشهيرة "صدام الحضارات" لـ"صموئيل هانتغتون" التي نشرها سنة 1993 م، والتي تحولت فيما بعد إلى كتاب، إشارة واضحة إلى ما يمكن أن تكون عليه الأوضاع في المستقبل، خاصة أن المقالة كثفت من استدعاء الدلائل التي تبرز أن الحضارة الإسلامية هي أول المرشحين للتصادم مع الحضارة الغربية، وأن هذا التصادم يرجع أساسا إلى العامل الديني، والذي - حسب تعبير الكاتب - "يقسم الناس بشكل أكثر حدة وشمولاً". وخاصة - كذلك - أن "هانتغتون" ليس مجرد كاتب عادي، فهو البروفيسور هانتغتون، المقرب من دوائر صناعة القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي غالبا ما تستند في مشاريعها الاستراتيجية إلى الأطروحات الفكرية لمثل هؤلاء المنظرين. فكان من المفترض - إذن - أن يأخذ قادة الفكر والسياسة هذه الإشارة مأخذ الجد، وأن يتعاملوا معها على أساس أنها استشراف لمعالم الهدف المستقبلي، وتسريب لثوابت الرؤية الغربية اتجاه العالم الإسلامي.
لكن بينما كان الغرب يطرح فكرة حتمية الصدام بين حضارته والحضارة الإسلامية، ويجتهد في بلورة هذه الفكرة إلى رؤية استراتيجية يتحرك من خلالها إلى تحقيق مصالحه في بلادنا، كان مثقفو الأمة يعيشون حالة من الارتباك الفكري، جعلتهم يتعاملون مع الموضوع بروح هاربة من مواجهة الواقع، بحيث اجتهدوا فقط في إسقاط هذه الفكرة وإثبات أنها فرضية متهافتة، لا تعبر إلاّ عن مثالٍ للتفكير الأصولي الشاذ، ولذلك لم يسمحوا لها أن تعكر عليهم أجواء التلذذ بموائد الحوار وأماني السلام.
وازدادت آثار المشكلة سوءً عندما ساهم في هذا التغافل بعض مثقفي التيار الإسلامي، حيث بدأت - في سبيل إبراز الوجه الحضاري للدعوة - عملية "تزييف الوعي"، وهي العملية التي تمت عن طريق التشويش على مجموعة من الثوابت العقدية والمفاهيم المنهجية، والضغط عليها لتتلاءم مع الصورة الوردية للإسلام، فبدأنا نسمع عن "إخواننا النصارى" و"الملة الإبراهيمية لتقارب الأديان الثلاثة" و"خط اللاعنف مطلقا" و"التسامح بلا حدود" و"مذهب غاندي"، وغيرها من المفاهيم الانهزامية التي ساعدت على تكريس حالة الاسترخاء اتجاه العدو، في الوقت الذي كان فيه هذا العدو يستعد لصدام حضاري بالمعنى الكامل للكلمة.
وقد كانت الحرب على العراق - بما صاحبها من التدمير والتنكيل الذي تجاوز موضوع تحرير الكويت - علامة واضحة على طبيعة النية المبيتة، حيث ظهر بجلاء أن الهدف الحقيقي هو استعمار المنطقة، وزرع الوجود الغربي في قلب العالم الإسلامي. ويومها قال العقلاء إنها حرب صليبية جديدة، وإن هذه الخطوة - رغم فظاعتها - ما هي إلاّ إجراء تحضيري يستهدف التمهيد لحرب شاملة.
ثم جاءت الحرب على أفغانستان، وظهر بجلاء - كذلك - أن المحرك الأول للاعتداء هو الحقد النصراني على المسلمين والرغبة في الوصول إلى خيرات بلدانهم، وإلاّ لماذا تُستهدف دولة قائمة بحجة أن هناك بعض "الإرهابيين" في البلاد!! ولماذا بدأ الاعتداء قبل ظهور ولو نصف دليل على مسؤولية "القاعدة"؟ ولماذا هذا التحالف النصراني على التنكيل بالشعب الأفغاني المسلم؟ ثم لماذا تفرض عليه حكومة مرتدة عميلة لأمريكا؟!! كل هذه الأسئلة يجيب عنها القيصر "بوش الصغير" بالواضح: "إنها حرب صليبية شاملة".
نعم لقد استعمل بوش هذه العبارة عند بداية الحملة، وكان بالإمكان أن ترن في آذان المسلمين ليستيقظوا من سباتهم، وليراجعوا حساباتهم، إلاّ أن العكس هو الذي وقع، لقد أوّلها المنافقون، وتغافل عنها الأكثرون، إصرارا منهم على استبعاد فكرة الحرب الدينية وإحسانا للظن بالإدارة الأمريكية "المتحضرة". لكن "بوش" عاد مرة ثانية وأكد أنه يعي ما يقول، حيث جاء في حديثه إلى الجنود الكنديين "وقِفوا إلى جانبنا في هذه الحملة الصليبية الهامة"، حتى لقد قال "روبرت فيسك" في إحدى مقالاته: "يبدو أن الرئيس بوش يعتقد حقيقة أنه يقود حملة صليبية، فقد عاد ليستعمل العبارة قبل أيام رغم أنه حُذر من ذلك".
وها هي الأحداث تؤكد أن أفغانستان وجماعات الجهاد لم تكن إلاّ المحطة الأولى في هذه الحملة، وأن شعار مكافحة "الإرهاب" لم يكن إلاّ عنوانا مغلوطا يتم تحته الاجتهاد في طمس هوية الأمة الإسلامية، وقتل الشرفاء من أبنائها، واستغلال خيراتها، بل والتدخل السافر في كل شؤونها، فيما يبدو أنها محاولة جديدة للعودة إلى الاستعمار المباشر، بعد أن ظهر أن الاستعمار بالوكالة قد بدأ يفقد قدرته على الإمساك بزمام الأمور. وها هي جنود الصليب ترابط اليوم على أبواب جزيرة العرب، وتطوق قلب العالم الإسلامي، وقد أعدت نفسها لتنفيذ المشروع الصهيوني في المنطقة، في تناسق كامل بين المصالح السياسية والخلفية الدينية، تماما كما هي الحقيقة الثابتة للحروب الصليبية على امتداد التاريخ.
أولاً: الحملة المعاصرة والامتداد التاريخي(66/17)
يعتبر التاريخ أهمَ العوامل المؤثرة في تشكيل الوعي عند الإنسان، لأنه يعرّفه بالجذور العميقة للتفاعلات الحضارية، ويفتح أمامه آفاق الاستفادة من التجارب البشرية التي سبقته، خاصة عندما تكون عملية قراءة الأحداث خاضعة لمنهج علمي دقيق، بحيث يعمل على تمحيص الأخبار، ويحرص على استخراج السنن القدرية التي تحكم حركة الحياة، مما يُكسب المطلع على التاريخ خبرات عديدة تساعده على امتلاك رؤية جيدة للواقع، وتقترب به كثيرا نحو التقدير الصحيح للموقف.
وقد حرص القرآن الكريم على ترسيخ الاهتمام بدراسة التاريخ، وأمر مرارا بالنظر في أحداثه لاستفادة العبر والدروس التي يحتاجها المسلمون في مسيرة الحياة. إضافة إلى أنه عرض صفحات طويلة من التاريخ البشري، خاصة فيما يتعلق بالتفاعل بين حضارة الحق و"حضارة" الباطل، وقرر في هذا الموضوع خطوطا عريضة تصلح أن تكون بمثابة السجل الذي يمكّن المسلمين من معرفة العدو، والقواعد العلمية التي تساعد على استشفاف الدلالات الخفية لمواقفه، لكي لا نبقى ضحيةَ الإيحاءاتِ التي تحملها المواقف التكتيكية والتي غالبا ما تتحول تبعا للمصالح المتحركة.
ولكن - وللأسف - قليل هم الذين يهتمون بالتاريخ من المسلمين المعاصرين، وحتى من يفعل فإنه يعرف عن تاريخ العالم الغربي أكثر مما يعرف عن تاريخ أمته الإسلامية، مما أتاح للغرب فرصة تزييف التاريخ الإسلامي، حيث اجتهد في قلب الحقائق والتحكم في تفسير الأحداث، مستغلا في ذلك ضعف الذاكرة عند المتأخرين من المسلمين.
1 - لمحة تاريخية لاستعادة الذاكرة
لقد كانت الانتصارات التي حققتها الفتوحات الإسلامية - خاصة في بلاد الشام وشمال إفريقية - سببا أساسيا في تغلغل الحقد الدفين لدى الدول النصرانية اتجاه المسلمين، إذ رأى هؤلاء في هذه الفتوحات تقليصا لنفوذهم السياسي الذي كان يستعبد الشعوب، وتضررا لمصالحهم الاقتصادية التي كانوا يجنونها من الدول المستعمَرة، فناصبوا المسلمين العداء والحرب من أجل ذلك. وزاد من هذا العداء دخول الكنيسة على الخط، لأن مصالحها كانت مرتبطة بمصالح الأمراء الإقطاعيين، ولأن الدعوة الإسلامية ساعدت على تحرير العقل الأوروبي من الخرافات الكهنوتية، مما أدى إلى تراجع حاد في سلطان الكنيسة على الإنسان المسيحي، فردت هي بشن حملة فكرية سعت من خلالها إلى تشويه صورة الإسلام، ورسخت ذلك ببث الأفكار العدائية وجعْلها من صلب العقائد المسيحية، الأمر الذي ضاعف من مستوى كراهية النصارى للمسلمين، وجعل منهم مادة أولية للحروب الصليبية التي شُنت على العالم الإسلامي.
فبعد الهزائم المتكررة أمام حركة الفتح الإسلامي تنادت الدول النصرانية إلى التكتل لتوجيه ضربة قوية واستباقية إلى العالم الإسلامي، مستغلة في ذلك خصوصيةَ المرحلة التي كانت تمر بها الأمة (التمزق الداخلي)، ودخولَ عناصر همجية محاربة (القبائل الجرمانية والمجرية) في النصرانية، فتشكل من ذلك التكتل حلفا نصرانيا تدعمه كل الكنائس الغربية، وتوجهوا لغزو العالم الإسلامي.
ففي سنة 489 هـ (1095 م)جمع البابا "أوربان الثاني" في فرنسا جمعا غفيرا من رجال الدين، ودعا إلى الحرب الصليبية على العالم الإسلامي، وطلب من النصارى أن يحتلوا بيت المقدس. وقد تولى بطرس الناسك التنفيذ السريع لهذا الطلب، حيث سار بجموع المتطوعين - الذين كان أغلبهم يعاني من عقدة الحرمان والجوع - إلى أن وصلوا إلى بلاد المسلمين، وعندها صبّوا جام غضبهم عليها فأهلكوا الزرع والضرع، وأحرقوا الأخضر واليابس، وقتلوا ومثّلوا وانتهكوا الحرمات، إلى أن تدخلت دولة السلاجقة (الإسلامية) وصدت هذا الهجوم الهمجي، فأفشلت هذه الحملةَ ومنعتها من تحقيق أهدافها.
لكن تلتها حملة أخرى بعد أعوام، وقد كانت أكثر تنظيما من الأولى، مما مكنهم من تحقيق أهدافهم، حيث دخلوا أنطاكية سنة 491 هـ، ثم اتجهوا بعدها نحو القدس ودخلوها سنة 492 هـ (1099 م)، ثم حيفا سنة 494 هـ، وعكا سنة 497 هـ، وطرابلس وجبلة سنة 503 هـ، ثم أخذوا صيدا سنة 504. وقد كان لدولة العبيديين (الدولة المرتدة) الأثر الكبير في التمهيد لهذه الحملة، لأنهم هم الذين استعانوا بالصليبيين على دولة السلاجقة، وتحالفوا معهم على الإطاحة بها على أساس أن يتقاسموا حكم الشام بعدها.
ثم جاءت حملة ثالثة أرادت أن توطد أركان الاستعمار وأن تتوسع أكثر في العالم الإسلامي، لكن تصدت لها جماعات الجهاد ودولة آل زنكي المجاهدة، وكانت الحرب سجالا بين الطرفين، إلى أن انتهت في عهد صلاح الدين الأيوبي بالانتصار في معركة حطين سنة 583 هـ، وهو الانتصار الذي لم يتحقق إلاّ بعد القضاء على دولة العبيديين (الدولة المرتدة) في مصر، لأنها كانت بمثابة العدو الذي ينخر في الجسم الإسلامي من الداخل، ويقدم الخدمات الكبيرة للعدو الخارجي!!(66/18)
لكن الدول الصليبية كانت قد ذاقت لذة الغزو، فعادت إلى الحملات مرات أخرى، واستهدفت مناطق متعددة في العالم الإسلامي، وفي كل مرة كانت تلقى مقاومة شرسة - إما رسمية أو من طرف الجماعات المجاهدة - تتكبد فيها خسائر كبيرة، حتى لقد أُسِر في بعض الحملات لويس التاسع عشر ملك فرنسا على يد الظاهر بيبرس رحمه الله.
ثم غيَّر الصليبيون استراتيجياتهم لغزو العالم الإسلامي، فبدأت هذه المرة حركة الاكتشاف التي مهدت لما عرف بالاستعمار الأوروبي، وقد كان من أشهرها رحلة "فاسكودي جاما"، وهي الرحلة التي قالوا بعد نجاحها: "الآن طوقنا رقبة العالم الإسلامي، فلم يبق إلا جذْب الحبل فيخنق". وهو ما وقع بالفعل، فقد تدفقت حملة استعمارية تحمل الروح الصليبية بكل ما تعنيه الكلمة من التوافق بين المصالح السياسية والخلفية الدينية، حيث كانت هذه الحملة تتم بدعم لامحدود من قيادات الكنيسة، وعلى رأسهم الأب "نيقولا الخامس" الذي كان يحرص على تغذية الحرب بالمشاعر الدينية، حتى لقد قال الجنرال غورو وهو يقف على أرض الشام: "ها قد عدنا ثانية يا صلاح الدين".
وفي الماضي القريب اتخذت أمريكا من حادث الهجوم على الكويت ذريعة لشن حملة على العراق، وقد كانت حملة صليبية بالمعنى الكامل للكلمة، أولاً لأنها تجاوزت موضوع تحرير الكويت إلى الاستيطان في المنطقة بكل ما يعنيه ذلك من التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وثانياً لأنها حملت حقدا نصرانيا تجلى في الحرص على تدمير كل العراق، وقتل وتجويع وتجهيل كل الشعب العراقي، بل والعمل على تنصيره كما يقع في الشمال. وهذه هي ملامح الحروب الصليبية على امتداد التاريخ. ولازالت ذيول هذه الحرب تمتد إلى يومنا هذا، وربما كانت أهم الأسرار الكامنة وراء الحملة الصليبية المعاصرة.
2 - الحملة المعاصرة: الحلقة الجديدة
مباشرة بعد غزوتي ثلاثاء الفتح - وقبل أن يظهر أيُّ دليل على مسؤولية القاعدة - أعلنت أمريكا الحرب على أفغانستان، مخالفة بذلك كل ما يعرف بالأعراف الدولية، وضاربة بكل قيمها الديموقراطية عرض الحائط، حيث أعطت لنفسها الحق في كل شيء.. العدوان من غير دليل، والقصف الوحشي للأبرياء، والتدخل في الشؤون الخاصة للدول، وفرض الأنظمة التابعة لها على الشعوب.. إلخ، وكلها تجاوزات أسقطت عن أمريكا وحلفائها الأقنعة التي كانت تتجمل بها، فظهرت على حقيقتها أمام الجميع، خاصة أن بوش لم يتمالك نفسه فأعلن بعظمة لِسَانه أن الحرب صليبيةٌ شاملة.
ولأنها كذلك فقد تجاوزت حد الاعتداء على أفغانستان لتدخِل في دائرتها كل الجماعات المجاهدة على امتداد العالم، حتى تلك التي تقاوم الاحتلال الأجنبي، كالجماعات المجاهدة في فلسطين وفي الشيشان وفي كشمير، وفي غيرها من ديار المسلمين، حتى لقد ظهر بجلاء أن النية المبيتة عند العدو هي الإجهاز على كل عرق نابض بالحياة في هذه الأمة، لتصبح كالدجاج والنعاج، يُعتدى عليها فلا ترد، وتُغتصب أرضها فلا تدافع، وينتهك عرضها فلا تغضب، وتداس مقدساتها فلا تثور، ويُنصّب عليها العملاء فلا تتحرك، وإلاّ فهي أمة إرهابية.. وللغرب النصراني الحق في مكافحة الإرهاب!!
بل لقد امتدت هذه المكافحة للإرهاب إلى كل ما هو إسلامي، بدءً بمدارس العلوم الشرعية ومرورا بالجمعيات الخيرية، ولم تنته بعدُ بالعمل على تغيير المناهج التعليمية والتوطيد للنظم السياسية والاجتماعية الجاهلية، لأنها - كما يقول بوش - حرب صليبية شاملة، تستهدف القضاء على الهوية الإسلامية للأمة، لتصبح مسخا مشوها مفتقدا لكل مقوماته الحضارية، من تم يسهل على الغرب النصراني ابتلاعه، أو على الأقل دمجه في حظيرة الأمم التابعة.
وها هي أمريكا - بعد أن فشلت في تحقيق أهدافها الأساسية في أفغانستان - تتوجه إلى العراق، وتحشد لضرب أبناء الأمة الإسلامية هناك ما يُظهر مستوى الحقد ونوعية المقاصد المبيتة، وأنها أولاً التمكين للكيان الصهيوني في المنطقة، والوصول إلى خيرات البلاد العربية، في خطوة يظهر عليها بوضوح أنها تجمع بين المصالح السياسية والخلفية الدينية للحرب، تماما كما هي الحقيقة الثابتة للحروب الصليبية.
ثانياً: الحملة المعاصرة والحضور الديني
لقد استبعد البعض أن تكون الحرب التي تشنها أمريكا وحلفاؤها على الأمة الإسلامية حربا صليبية، لأن هذا التوصيف يوحي بالحمولة الدينية للحرب، وفكرة الحرب الدينية عند هؤلاء فكرة رجعية لا تليق إلاّ بقاموس "القرون الوسطى"، في حين أن الدول الغربية دول متحضرة، يجب أن تُنزه عن التلبس بالأفكار المتخلفة. وإذا كان "بوش" قد قال إنها حرب صليبية، فإن عقلانية الرؤية تفرض علينا أن نعتبرها مجرد فلتة لسان قابلة للتأويل!!(66/19)
هكذا يقول أصحاب الورع "المتأمرك"، وهي محاولة لخلط الأوراق الفكرية على المسلمين، تهدف إلى خلق حالة من الارتباك في التعامل مع الموقف، بحيث تؤدي إلى تجميد العدد الأكبر من الطاقات الإسلامية، ومن تم يتسنى لأمريكا الوصول إلى أهدافها بأقل الخسائر الممكنة. ولذلك أريد أن أركز - قبل الدخول في التفاصيل - على مسألة معينة، وهي أنه سواء كانت هذه الحرب حربا دينية صليبية أم لا فإن الواجب الشرعي يفرض على المسلمين أن يجاهدوا الاعتداء وأن يردوا على عدوان الكافرين حتى ولو كانوا من عالم الجن والشياطين، قال تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين}[البقرة: 191].
ولكن لا بأس بتوضيح المشهد الراهن ليكون المسلمون أكثر وعيا بالواقع القائم، لعل ذلك يساعد على تحريك العناصر الصادقة في هذه الأمة، ويدفع بها إلى أخذ موقعها في الصراع قبل فوات الأوان.
1 - ما معنى حرب دينية؟
عندما تكون محاربتنا للعدو الكافر مستندة في دوافعها إلى الدين الإسلامي فإنها بالنسبة إلينا حرب دينية، وهي التي نسميها في عرفنا الشرعي الجهاد، ولا يهمنا في تحديد هذا التوصيف لطبيعة حربنا للعدو هل العدو هو الآخر يخوض ضدنا حربا دينية أم لا، فذاك موضوع ثان، المهم في الحكم على طبيعة حربنا نحن هو طبيعة الدوافع ومدى ارتباطها بالدين الإسلامي.
فالحرب مع التتار مثلا كانت بالنسبة إلينا حربا دينية، رغم أن التتار همج لم يكونوا يحاربون من أجل دين معين، أي أنها من جهتهم لم تكن حربا دينية، لأنها كانت فقط من أجل النهب والسلب، ولكن من جهتنا نحن كانت حربا دينية، لأننا كنا نستند إلى ديننا الإسلامي في وجوب الدفاع عن النفس ووجوب الرد على العدوان.
وهكذا هي الحرب في الإسلام، دائما يجب أن تكون دينية، لأنها دائما يجب أن تستند إلى الدوافع التي حددها الدين. فإذا كان العدو هو الآخر مستندا في حربه لنا إلى دين معين فإن الحرب في هذه الحالة أصبحت دينية من الجهتين، وغالبا ما تكون هذه الحالة هي صورة الحروب التي قد نخوضها مع أصحاب الأديان السماوية المحرّفة (اليهود والنصارى)، أو مع أصحاب العقائد الأرضية الكفرية (الوثنية والشيوعية والعلمانية مثلا).
لكن إلى أي حد يمكن اعتبار الحرب التي تشنها أمريكا على المسلمين هي حرب دينية؟
للجواب عن هذا السؤال نحتاج - أولاً - إلى استحضار معنى الدين، وأنه قد يكون أرضيا كما يكون سماويا، وأنه أكبر من أن يختزل في الجانب العقدي وبعض الشعائر التعبدية، وإنما المعنى العام للدين هو أنه عبارة عن نظام للحياة يستند إلى تصور معين ، فإن كان هذا النظام يرجع إلى الوحي الإلهي - وبالضبط القرآن الكريم والسنة المحمدية - فهو الدين الحق، وإن كان لا يرجع إلى الوحي الإلهي فهو الدين الباطل، سواء كان سماويا محرفا أو كان أرضياً من وضع البشر للبشر.
وقد أعلنت أمريكا أنها تستند في حربها على الأمة الإسلامية إلى قيمها الأمريكية، بدءًا من العلمانية في السياسة وليس انتهاء بالإباحية في الاجتماع، وأنها تريد فرض هذه القيم على المسلمين تحت مسمى القيم الديموقراطية، لتصبح بديلا عن القيم الإسلامية. أي أن المسألة تتجاوز الحرب السياسية بمعنى الصراع على المصالح الخالية من الحضور الديني، فهناك قيم أمريكية يراد لها أن تفرض علينا في مقابل قيمنا الإسلامية، وهناك حرب إفرنجية - بكل ما تحمله من الإرث العقدي المتصهين والحاضر العلماني - يشنها العالم الغربي على الأمة الإسلامية، فالتحالف النصراني إذن يشن علينا حربا دينية بالمعنى الواضح للكلمة، مهما حاول البعض دس رأسه في الرمال للهروب من هذه الحقيقة.
وبما أن طلائع الأمة الإسلامية (الجماعات المجاهدة) تقابل هذه الحرب بجهاد إسلامي يجتهد في الدفع والمواجهة فإن الحرب تصبح دينية من الجهتين، أو على حد تعبير المستشرق "برنارد لويس" النصراني ذو الاتجاه الصهيوني، في إحدى مقالاته: "إن ما يحدث لا يمكن أن يكون غير وأقل من صدام حضارات"!!.
أما عندما تقول أمريكا وحلفاؤها أننا لسنا ضد الإسلام فإنهم يقصدون إسلاما أمريكيا، أي إسلاما هجينا يقبل الخضوع لأمريكا، بل ويعطيها الشرعية لأن تبسط سلطانها على العالم الإسلامي، إسلاما يجعل من المسلم جنديا أمريكيا مخلصا لوطنه مجتهدا في قتل المسلمين، إسلاما يقبل العلمانية في السياسة، ويقبل الإباحية في الاجتماع، ويقبل اللبرالية في الاقتصاد،.. يقبل كل شيء، يعني في الأخير إسلاما لأمريكا وليس إسلاما لله. أما الإسلام الذي يدعو إلى التوحيد، ويعمل على إزالة دولة إسرائيل، ويعمل على إخراج المستوطنات العسكرية من جزيرة العرب،.. أما هذا الإسلام فإن العالم الغربي يؤمن ويصرح بأنه معه في صراع حضاري.
2 - ثم هي حرب صليبية(66/20)
قد يكون من نافلة القول التأكيد على أنها حملة صليبية، خاصة بعد أن صرح قائدها بوش بذلك، ولكن لا بأس أن نشير إلى أننا لا نحتاج لكي نعتبر حربا ما أنها صليبية أن يصرح أصحابها بمكنونهم النفسي، لأننا لسنا أغبياء إلى هذه الدرجة، إذ يكفي أن ننظر إلى المشاركين فيها هل هم نصارى أم لا؟ ثم هل تغذي العقيدة النصرانية هذه الحرب أم لا؟ فإذا اجتمع هذان الأمران فهي حرب صليبية، ويجب على المسلمين أن يتعاملوا معها على هذا الأساس، مهما اجتهد أصحابها في إخفاء الهوية بمساحيق التجميل وأدوات التنكر.
ومن هنا فإن الحرب التي يشنها اليوم العالم الغربي بقيادة أمريكا على العالم الإسلامي هي - بالواضح - حرب صليبية، بمعنى أنها حرب جديدة للنصارى على المسلمين، تُستحضر فيها - بشكل أساسي - الخلفية الدينية للمواجهة، لأنه كما يقول "مايكل كورتب وزوجته" (وهما أستاذان في جامعة بول الأمريكية) في كتاب بعنوان "الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية": "توجد الجذور الدينية للمواقف الأمريكية اتجاه الحرب والسلام في الكتب المُقدسة المسيحية واليهودية،... حيث أن المسيحية كانت لها السيادة في تشكيل المواقف في الولايات المتحدة اتجاه الحرب". ثم يُعدد المؤلفان مواقف الأمريكان فيقولان: تنقسم الحروب إلى ثلاثة أنواع هي:
- الحرب المُقدسة: "..كان منهج الحرب المقدسة أو الحرب الصليبية هو أحد المظاهر المهمة للمواقف في الولايات المتحدة اتجاه الحروب، ومصطلح الحرب المقدسة يعني حربًا يشنها الصالحون نيابة عن الرب ضد الكفار والمهرطقين سياسيًا أو دينياً".
- الحرب العادلة: "..إن النموذج السائد للحرب والذي شكل مواقف الناس كان بطريقة أو بأخرى صورة من صور الحرب العادلة، ما دام إعلان الحرب يكون من جانب السلطة الصحيحة وما دامت أسبابها عادلة فيجوز للأفراد المشاركة فيها بنية حسنة، ويجوز إجبارهم على ذلك إذا استدعى الأمر... وعلى هذا النحو أصبحت الحرب أقرب ما تكون للحرب المقدسة".
- الحرب السَّلامية: "أي التي ترفض الحرب من وجهة نظر دينية باعتبارها أمرًا يتنافى مع تعاليم المسيح عليه السلام.. لكن عنوان الاتجاهات السّلامية هذه تقف لتؤيد الحرب وتنخرط في أعمال اجتماعية لمساعدة المُتضررين منها حين تقع" .
إذن رغم أن الدين يتراجع باستمرار في معظم المواقف الحياتية للعالم الغربي إلاّ أنه في حالة الحرب يكون أول الحاضرين، بحيث أنه هو الذي يتولى عملية تفسير الحالة وعملية تحديد الموقف المبدئي فيها، لأن الحرب هي لحظة الأزمة الكبرى في العقل الغربي، وخاصة عند المجتمع الأمريكي، لأنه مجتمع طارئ لم يتأسس إلاّ بفعل الحروب الأوروبية على سكان البلد الأصليين، ولذلك عندما تقع الحرب فإن الوجدان الأمريكي يستدعي - وبسرعة - المعاني الدينية لتكون هي الأساس الأول في تفسير الحرب.
وليست هناك حرب خاضتها أمريكا لم يكن الدين حاضرا فيها بقوة، حتى الحرب العالمية الأولى، بل حتى حرب الإبادة التي طالت السكان الأصليين للبلاد، فعلاقة الدين بالحرب في العقل والوجدان الأمريكي علاقة وطيدة ومتداخلة، وما هذا التناغم الأمريكي- الصهيوني في حرب الإبادة التي تشن على الشعب الفلسطيني إلاّ صورة من تجليات هذه العلاقة، خاصة عندما نعلم أن الدين في العقلية الأمريكية هو خليط مفبرك من العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل)، أي تحالف قذر بين اليهودية الصهيونية والمسيحية المتصهينة. بل لقد فُسرت حرب الخليج الثانية على أنها خطوة نحو الإعداد لحرب "هرمجدون"، وهي الحرب التي لها شأن كبير في العقل والوجدان النصراني.
وعندما قال "بوش" أنها حرب صليبية لم يكن مُخطئًا ولا ناسيا ولا نائما، وإنما كان يُعبر عن الضمير الأمريكي في أوقات الحروب، وعن حقيقة الوجدان الغربي اتجاه العالم الإسلامي. وحتى العبارات الأخرى التي أطلقها في حملته مثل "مواجهة الشر" و" الطيبين والأشرار" و"العادلة المطلقة"، هي في الواقع تعبيرات دينية ذات طابع صليبي، يُقصد بها المسيحية والمسيحيون في مواجهة الإسلام والمسلمين.
أما المحاولات التي استهدفت الترويج لمقولة أن الإسلام يختلف عن الإرهاب فلم تكن إلاّ لذر الرماد في العيون، ولم تكن إلاّ خدعة سياسية قصد بها إرباك الموقف الإسلامي، أولاً لتحييد البعض - مؤقتا - من ساحة المواجهة، وثانياً لإفساح المجال أمام الأنظمة العميلة في العالم الإسلامي لتساهم في الحرب على الإسلام والمسلمين تحت دعوى الحرب على الإرهاب. لأن العالم الغربي النصراني يعلم أن الإسلام هو الوحيد الذي يُمثل بالفعل تحديًا للحضارة الغربية اليهودية - المسيحية، وأن المسلمين المجاهدين هم العائق الأكبر - أو ربما الوحيد - في طريق بسط هذا الغرب سيطرته على العالم الإسلامي.
ثالثاً: النصارى والحملة: مشهد التداخل(66/21)
من المعلوم عندنا أن اليهود أشد عداوة للمسلمين من النصارى، قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}[المائدة:82]، ولعل هذا هو السبب في الحساسية العالية التي تجدها في إرثنا الثقافي اتجاههم، فنحن نبغض اليهود أكثر من بغضنا للنصارى، لكن إذا تأملنا التاريخ فإننا نجد أن جل حروبنا في الماضي كانت مع النصارى ولم تكن مع اليهود!! فاليهود لم يدخلوا حربا مع المسلمين طيلة أربعة عشر قرناً إلا مرة في زمن النبوة، ثم عند الاحتلال الأخير لفلسطين، بخلاف النصارى فإن الحرب معهم لم تكن تهدأ إلاّ قليلا!!
ومن المهم جدا أن نقف أمام هذا المعطى التاريخي الهام، لا لنبحث عن الأسباب الكامنة وراء قلة الحروب مع اليهود، فهي معروفة، ولكن لنتأمل في الدلالات التي تحملها كثرة الحروب مع النصارى، هذه الحروب التي لازالت مستمرة إلى الآن، والتي لا تعد دولة اليهود في فلسطين إلاّ واحدة من آثارها، لعل هذا التأمل يساعدنا على استعادة التوازن إلى نظرتنا العقدية اتجاه النصارى، وأنهم في الحقيقة ليسوا "إخواننا النصارى" كما يحلو للبعض أن يصفهم، وإنما هم أعداؤنا النصارى، الكفار الذين كانوا دائما أعداء، والذين كثيرا ما كانوا كأنهم الذراع التنفيذي للمشروع اليهودي، لأنهم ينطلقون من تحالف عقدي يضع الإسلام هو العدو الأول في حياته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[المائدة:51].
يجب أن لا تغطي كراهيتنا لليهود الدورَ الخبيث لأوليائهم النصارى، كلهم أعداء، وإذا كان اليهود هم الأشد عداوة للذين آمنوا، فإن النصارى هم الأكثر قتالا للذين أسلموا، إضافة إلى أن التطور العقدي للمسيحية لم يترك فرقا يذكر بين النصارى واليهود، فجلهم صار من أتباع الحركة الصهيونية، إلاّ ما استثناه الدليل.
1 - الحملات الصليبية والخلفية النصرانية.
لقد تبين لنا من خلال اللّمحة التاريخية أن الحملات الصليبية مرتبطة بشكل مباشر بالنصارى، فهم مادتها الأولية.. القادة نصارى، والجنود نصارى، والمجتمعات النصرانية مستعدة دائما لتزويد الجيوش الصليبية بالعناصر المطلوبة. إذن هناك تداخل كبير بين النصارى والحملات الصليبية، ومن الصعوبة بمكان التفريق بينهما، إلاّ في حالات استثنائية ضيقة لا تعبر عن حقيقة الواقع من جهة، ولا تصلح لتأسيس الموقف المبدئي اتجاه هؤلاء النصارى من جهة أخرى.
وحقيقة هذا التداخل معروفة غير خافية، وهذا التاريخ أمام الجميع، لقد كانوا دائما أعداء، وفي أكثر الأوقات محاربين، ويمكن مشاهدة هذه الحقيقة في الماضي البعيد كما يمكن مشاهدتها في الماضي القريب، فهي موجودة في الحملات على العالم الإسلامي في التاريخ القديم، وفي الحملات الاستعمارية في التاريخ الحديث، وفي الحملات على البلقان وعلى العراق وعلى أفغانستان في التاريخ المعاصر.. إلخ. ويكفي أن نستحضر أن دولة اليهود التي تعد أم المشاكل الإسلامية في الوقت الراهن هي - في حقيقة الأمر - إنتاج إنجليزي، توطد في الماضي بفعل التواطؤ الغربي، ولازال مستمرا بفعل الدعم الأمريكي اللامحدود. بل ويمكن ملاحظة مشهد التداخل بين النصرانية والصليبية في المواقف الرسمية كما يمكن ملاحظتها على المستوى الشعبي، فأثناء حرب الخليج الثانية ظهرت شعارات في بريطانيا تُكتب على جدران الأحياء التي يسكنها المسلمون، تقول: (سنقتل طِفلَيْن مسلمَيْن، مقابل كل جنديٍ بريطانيٍ يُقتَل في العراق)!! أما ما يعانيه المسلمون في بلاد الغرب هذه الأيام من الاضطهاد والتمييز والتضييق فلا يحتاج إلى تعليق.
وعموما العالم الغربي كلُّه مسكون بفكرة الحروب الصليبية، وهي عميقة في الجذور النفسية والفكرية للشخصية الغربية، وتكفي الإشارة إلى أنه لم توجد دولة مسيحية واحدة اعترضت على العدوان الأمريكي على أفغانستان، حتى العالم الشرقي الأرثوذكسي والذي تقوده روسيا وقف هو الآخر في صف أمريكا، لأن العدو هذه المرة هو "الإرهاب" الإسلامي الذي يريد التحرر من ربقة الاحتلال النصراني.
إن العقل الغربي المعاصر ما هو إلاّ امتداد للعقل الغربي في القرون الوسطى، وكما كان رجال الكنيسة يعملون على ترغيب الناس في الحرب من خلال وعدهم بأن احتلال القدس يساوي الذهاب إلى الجنة, فإن رجال الكنيسة "الغربية" يعملون اليوم على الترغيب في محاربة العالم الإسلامي لنصرة القيم الأمريكية، ولقتال الإرهابيين الذين يهددون "إله الحرية" ويقفون في وجه عولمة القيم الغربية، ولذلك فليبارك الرب الحرب الصليبية على كل المسلمين، لنبدأ بالمجاهدين، فـ "ليس الجهاد إلا "صاعقاً" لقنبلةٍ هيدروجينيةٍ من نوعٍ جديد، اسمها: الإسلام) !..(66/22)
وللتوضيح، فإن الخلفية النصرانية للحروب الصليبية لا تعني أن يكون هؤلاء النصارى متدينون بالمعنى العملي، كلا، فهم غالبا ما يكونون من أبعد الناس عن الارتباط بالتعاليم المسيحية، فلا هم مسيحيون و"لا هم يحزنون"، وإنما هم مجرد نصارى حاقدين على المسلمين وطامعين في خيراتهم، ولا بأس أن يكون بعضهم متدين بالمعنى الاعتقادي، أي يحمل في رأسه وقلبه مجموعة من الأفكار المشبعة بالروح التلمودية، والتي تدعو إلى إبادة كل ما هو إسلامي وإلى التعجيل بإقامة دولة إسرائيل الكبرى لأنها مفتاح الخروج الثاني للمسيح عليه السلام!!
فعقدة الحروب الصليبية إذن هي أساس المفاهيم التي ينظر من خلالها الغرب إلى العالم الإسلامي، وإذا وجد بعض النصارى الطيبين والعقلاء فهذا لا ينفي القاعدة العامة، لأنهم استثناء من الأصل، وغالبا ما يكونون أبعدَ الناس عن مواقع التأثير. ومن الخطأ الكبير أن نروج لهذه الحالات الاستثنائية على أنها الوجه الحقيقي للعالم الغربي.
2 - الحملة المعاصرة والمسيحية المتصهينة
باستثناء بعض الأفراد القلائل يمكن أن نجزم أن العالم الغربي لم يعرف قط المسيحية على حقيقتها، وإنما عرف صورة محرفة من صنع الكنيسة لا صلة لها بالأصل. وباعتراف مؤرخي الغرب ومفكريه فإن اليهودي "بولس" كان قد أدخل على العقيدة المسيحية تعديلات جوهرية صرفتها كليا عن حقيقتها الخالصة.
إذن لقد بدأ الاختراق اليهودي للمسيحية منذ زمن طويل، وهو السبب الأول في كل الانحرافات العقدية الموجودة عند النصارى. لكن الجديد في عالم الاختراقات اليهودية للمسيحية كان في القرن السادس عشر ميلادي، حين ظهر المذهب البروتستانتي الذي يؤمن بكل النبوءات التوراتية، ويسعى باجتهاد إلى تحقيق كل ما يعتقد أنه من المقدمات الضرورية لتحقق تلك النبوءات، وأهمها:
(…إقامة دولة إسرائيل المنصوص عليها في التوراة (من النيل إلى الفرات) وتجميع يهود العالم فيها.
(…وقوع معركة كبرى بين قوى الخير (النصارى واليهود) وقوى الشر (المسلمين) تسمى (هرمجدون).
(…هدم أو تدمير المسجد الأقصى ليتسنى بناء الهيكل اليهودي مكانه.
وقد كانت إقامة دولة إسرائيل - على يد النصارى الإنجليز - واحدة على الطريق إلى "هرمجدون". بل يبدو واضحا من خلال التناغم اليهودي النصراني أن العالم الغربي سائر بجد نحو تحقيق كل هذه الأحلام اليهودية، فأمريكا توفر كل شيء لإسرائيل مهما كان الثمن، حتى لقد قال بعض الأمريكيين: "لقد حيرني أمر الصهاينة المسيحيين منذ الثمانينات. إنهم يضعون عبادة إسرائيل فوق تعاليم المسيح".
ومن هنا أصبح الصراع الإسلامي النصراني أكثر حدة من الماضي، لأن الصليبية اليوم صارت تجمع أكثر من رمز أيديولوجي في مواجهة الإسلام. فهي هذه المرة تنطلق من وحدة الإرث المسيحي - اليهودي، لتشكل تحالفا قذرا يرى أن العدو الأول هو كل ما له علاقة بالإسلام والحركات الإسلامية. وبذلك صار الدين (بالمعنى الاعتقادي) يلعب دورا مركزيا في صياغة سياسة العالم الغربي اتجاه العالم الإسلامي، وخاصة منطقة الشرق الأوسط، لأنها بؤرة الصراع.
إنها حرب صليبية جديدة يتلاقى فيها مزيج من اليهودية الصهيونية مع المسيحية المستولدة من صلب اليهودية الغربية. ومن تم صار أهم ما يميز هذا التحالف الصهيوني هو وحدة المصير ووحدة الهدف، إضافة إلى التقاء المصالح السياسية والاقتصادية، حتى لقد قال "حاييم" رئيس دولة اليهود الأسبق: "إنّ الأصولية الإسلامية هي أكبر خطرٍ يواجه العالَم، وإنّ إسرائيل تحمي قِيَم الغرب من الصحوة الإسلامية"!!
رابعاً: الحملة الصليبية والعناوين المغلوطة
لقد كان الغرب الصليبيّ - ولازال - يعتبر أنّ الإسلام هو مصدر الخطر الأكبر، لأنه الدين الذي يستطيع أن يشكل تهديدا حقيقيا للحضارة الغربية المفلسة، والزاد الذي يمكّن العالم الإسلامي من الوقوف في وجه مخططات الغرب الاستعمارية، ولذلك ينظر العالم الغربي إلى الصحوة الإسلامية على أنها أكبر خطرٍ يهدّده في المرحلة الراهنة. لأنه يعلم أن هذه الصحوة إذا ما تم توجيهها بشكلٍ إيجابيٍ فستؤدي إلى استعادة المسلمين لدورهم الحضاري في العالم، خاصة أن الحضارة الغربية آيلة إلى الزوال بفعل تراكم عوامل الفساد الخلقي والقيمي، وهذا ما عبر عنه أحد المسؤولين الكبار في الخارجية الفرنسية بقوله: "إنّ العالَم الإسلاميّ عملاق مقيّد لم يكتشف نفسه اكتشافاً تاماً، فإن تحرر من قيود جهله وعجزه، فإنه سيشكّل خطراً داهماً يُنهي الحضارة الغربية، ويُنهي وظيفتها في قيادة العالَم) .
فكل المواقف والإجراءات العدوانية السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، التي يتّخذها الغرب الصليبي اتجاه العالَم الإسلاميّ تحركها - بالأساس - هذه النظرة التي تحمل في عمقها الإحساس بالخطر من هذا العملاق، خاصة بعد أن ظهرت عليه بوادر استعادة العافية بفعل محاولات الرجوع إلى الهوية الإسلامية، وبفعل تنامي الوعي بالدور الخبيث الذي تلعبه الدول الغربية في تكريس حالة العجز والتبعية.(66/23)
لكن الغرب الصليبي كان - ولازال - يجتهد في التستر على حروبه العدوانية بعناوين مغلوطة، يقصد بها إرباك الآخر من جهة، وإضفاء الشرعية على نفسه من جهة أخرى، وقد كان أهمها هذه المرة:
1 - محاربة الإرهاب الدولي
لقد أدى الإحساس المتزايد بـ"التهديد" الإسلامي للمصالح الغربية إلى جعْل الحركات الإسلامية على رأس قائمة الأعداء، وخاصة تلك التي تنتمي إلى ما بات يعرف بـ"السلفية الجهادية"، لأن الغرب وجد في الجماعات الممثلة لهذا التوجه حصانة عقدية ومنهجية تصعّب عليه وعلى أوليائه عملية الاحتواء، كما أن هذه الجماعات كانت قد أثبتت أنها الأكثر تعبيرا عن آمال الأمة والأكثر قدرة على التجاوب مع متطلبات المرحلة.
ولم تكن غزوة الثلاثاء إلاّ بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، وأبرزت الحرب الصليبية إلى السطح، وإلاّ فإن الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني وعملية القتل البطيء (الحصار) لغيره من أبناء الأمة الإسلامية كانت قائمة ولم تكن بحاجة إلى 11 سبتمبر، بل لم تكن تلك الغزوة إلاّ ردا طبيعيا على هذا العدوان. فإذا كان الرد بالمثل يسمى إرهاباً فإن أمريكا هي المسؤولة عن تأسيس الإرهاب والإرهاب المضاد.
عموما لا نريد أن ندخل في الجدل السفسطائي، فأمريكا وحلفاؤها النصارى هم أحرص الناس على عدم تحديد مفهوم دقيق للإرهاب، لأن هذا التحديد سيظهر أن الغرب النصراني هو الإرهابي الكبير عبر تاريخ البشرية. ويكفي أنّ أمريكا تعتبر الجماعات المجاهدة للمحتل الأجنبي - مثل حماس في فلسطين وطالبان في أفغانستان - جماعات إرهابية، وهو ما يعني على أن تعريف الإرهاب عند الغرب هو كل ما يفزعه، وأن الإنسان الإرهابي هو كل مسلم يمكن أن يتسبب في إفزاع إنسان صليبي.
لقد أصبحت "الحرب على الإرهاب" مقولة ممجوجة، خاصة بعدما تجاوزت الحملة المعاصرة الحرب مع مجاهدي القاعدة، وامتدت إلى الاعتداء على دولة طالبان الإسلامية، في هجمة مورست فيها كل أنواع الإرهاب الصليبي على الأمة الإسلامية هناك، بل لقد تجاوزت كل ما له علاقة بالجهاد لتصل إلى كل ما هو إسلامي، سواء كأشخاص ومنظمات أو كدين وثقافة، في محاولة واضحة لفرض القيم الأمريكية والهيمنة الغربية على المسلمين وعلى العالم الإسلامي.
فـ"الإرهاب" في العقل الغربي ليس إلا كلمة السر التي تفتح ملف كل ما هو إسلامي، لأن هناك إرثا ثقافيا مركوزا في الداخل الغربي هو الذي يفك رموز هذه الكلمة المشفرة، أي أن الإدراك الغربي يرى من منظور ثقافي (ديني) أن الإسلام هو الخطر الأكبر الذي كان - ولازال - يشكل له مصدر قلق وفزع، ومن تم فهو المعنى المتبادر لكلمة الإرهاب. وقد كان الإنتاج الفكري والإعلامي أقل تَحفظًا حين دعا - بوضوح - إلى وضع حد للوهم الذي يفرق بين الإسلام كدين وحضارة وبين الإرهاب.
ومن منظور التحليل النفسي فإن التصريحات التي أطلقها "بوش، وتشيني، وبلير" وغيرهم من تأكيد التفرقة بين الإسلام والإرهاب ما هي إلاّ جزء من حيل الدفاع لإخفاء الحقيقة المضمرة في عقولهم.. وهي أن المقصود بالحرب هو الإسلام، وأن "الحرب على الإرهاب" ليست إلاّ عنوانا مغلوطا يتم تحته الاجتهاد في طمس هوية الأمة، وقتل طلائعها المجاهدة، وشعار يراد به التسويق للحملة الصليبية في العالم، أولاً لإرباك الموقف الإسلامي في التعامل مع الوضع، وثانياً لتوفير الغطاء "الشرعي" لحشد الأنظمة ضمن حملة التحالف العدواني على هوية الأمة وعلى الشرفاء من أبنائها.
2 - قصة الأسلحة العراقية
هذا هو العنوان الثاني للحملة المعاصرة، والذي يتم تحته حشد إمبراطورية عسكرية صليبية في المنطقة العربية، أولاً لتطوق قلب العالم الإسلامي، وثانياً لتحضّر لغزو مكشوف للعراق وربما لكامل بلاد الشام والجزيرة العربية.
ولا نريد أن نخوض في الجواب عن السؤال الأول في الموضوع وهو: لماذا لا يجوز للعراق أن يمتلك أسلحة الدمار الشامل؟ ثم لماذا تحرم هذه الأسلحة على دولة عربية في حين أنها مباحة للدول الأخرى، وبالضبط لإسرائيل العدو التاريخي المزروع في قلب المنطقة العربية؟
طبعا من السخافة محاولة إقناعنا بشرعية هذه المعايير المزدوجة لأننا أمة تفكر بعقول الأحرار وليس بعقول العبيد، لكن الأكثر سخافة هو محاولة "شرعنة" الغزو الصليبي للعراق، حيث تم استصدار قرار دولي (يعني صليبي) يخول لبوش أن يقول: "إذا رفض الرئيس العراقي السماح بدخول المفتشين غير المشروط إلى كل موقع وكل وثيقة وكل شخص، فإن هذا سيكون إشارة واضحة إلى عدم الالتزام". وعدم الالتزام يعني مبرر الهجمة على العراق لقتل المسلمين والسطو على خيرات بلدانهم حسب القرار الصليبي 1441.
خامساً: معالم على طريق المواجهة
بعد هذا العرض السريع لحقيقة الحملة الصليبية المعاصرة نطرح السؤال التالي: ما العمل؟(66/24)
نعم ما العمل؟ لأن الوضع لا يحتاج إلى الاستغراق في الرصد السلبي للحدث، نحن الآن أمام حالة طوارئ حقيقية، تتطلب تفاعلا عمليا يتسم بكامل الجدية والمسؤولية، فالمسلمون يواجهون حرب إبادة على امتداد بقاع العالم، وهويتنا الإسلامية تخضع لضربات صليبية تستهدف الإجهاز على كل مفردات المنظومة القيميّة للأمة.
ما العمل؟ لأننا مطالبون بواجبات شرعية تعتبر هي التجسيد العملي لمفهوم التدين.. نحن مطالبون بالدفاع عن الديار والقيم الإسلامية التي يستهدفها الغرب النصراني في حملته المعاصرة، نحن مطالبون بالرد على العدوان الصليبي على أمتنا في فلسطين وفي العراق وفي أفغانستان، نحن مطالبون بنصرة المجاهدين لأن هذه النصرة هي دليل الولاء الإيماني الذي يجمعنا بهم.. باختصار نحن مطالبون بالمواجهة، فهي أخص الواجبات الشرعية للمرحلة الراهنة.
لكن حتى لا تكون هذه المواجهة مجرد تحرك عاطفي تطغى عليه الارتجالية في التخطيط والتنفيذ.. حتى لا يقع هذا يجب أن نجتهد في ضبطها وفق مشروع متكامل يستجمع كل ما هو متاح من شروط الفعالية والتأثير، والتي أرى أهمية أن تكون تحت ثلاثة معالم أساسية.
1 - التعاون بين فصائل الحركة الإسلامية
لم تكن الحملات الصليبية الماضية تفرق بين هذا مسلم مجاهد وهذا مسلم قاعد، بل لم تكن ترحم لا العلماء ولا حتى الزهاد المنعزلين، الكل بالنسبة للصليبين سواء إلاّ ما اقتضاه الاستثناء الضيق، ومعنى هذا الاستثناء هو التنازل عن المبادئ الإسلامية، والذي غالبا ما يصل إلى حد الارتداد عن الدين، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}[البقرة:217] .
والحملة الصليبية المعاصرة مثلها مثل أخواتها السابقات، لا ولن تفرق بين هذا خط الدعوة والتربية وهذا خط الدعوة والجهاد، كلاهما بالنسبة إليها شيء واحد، وأقل "التهم" الثابتة في حق الأول أنه هو المسؤول عن بقاء وامتداد التدين في المجتمعات الإسلامية، وهذه - في نظر الصليبيين - مشاركة عملية في تهيئ الأجواء المناسبة لترعرع "الإرهاب"!! كما أن الحملة الصليبية المعاصرة لن تفرق بين هذا آرائي "معتدل" وهذا سلفي "متشدد"، كلاهما بالنسبة إليها شيء واحد، أو على حد تعبير "التايمز" البريطانية: "لا يوجد فرق بين معتدلين ومتشدّدين، فكلّهم مسلمون" . وبالتالي كلهم مستهدفون، ومن غُضّ عنه الطرفُ في هذا الشوط فلينتظر دوره في الشوط الثاني، فإنما تأجل الاهتمام به لأجل التفرغ لخط الدفاع الأول (الجماعات المجاهدة).
يجب أن يكون الجميع واعيا بأن الحملة المعاصرة تهدف إلى الإجهاز على كل ما هو إسلامي.. فهي تهدف إلى تجفيف منابع التدين، وإلى سحق هوية الأمة، وإلى المزيد من الإفساد الاجتماعي، بل إلى إعادة الاستعمار المباشر للعالم الإسلامي. فهي حرب شاملة، لم تسلم منها لا مدارس العلوم الشرعية، ولا حتى الجمعيات الخيرية، فضلا عن غيرها.
ولذلك فإن الحركة الإسلامية بمختلف تعبيراتها الفكرية والحركية تعد معنية بهذه الحرب، بل إنها القضية المعاصرة التي يجب أن توضع على رأس اهتماماتها، فالوضع القائم شكل لجميع الفصائل تحديات كبيرة وعلى مستويات متعددة، مما يدعو كافة الجماعات الإسلامية إلى وقفة صادقة لتشخيص جدي للواقع الذي تحياه وللخط الذي تتحرك من خلاله، ولتنظر في مدى مناسبة هذا الواقع وهذا الخط للمعطيات القائمة ولطبيعة الأهداف التي تتطلع إليها الأمة. لأن أكبر مظاهر القصور الذي يمكن أن يصيب الحركة الإسلامية هو انصرافها عن واجبات المرحلة، وانشغالها عنها بقضايا جزئية أو هامشية لا هي تمثل جوهر الصراع القائم ولا حتى تصب في أحد قنواته.
وهذا ما يقودنا - باعتبار معطيات المرحلة - إلى ضرورة التعاون بين فصائل الحركة الإسلامية على مواجهة الحملة الصليبية المعاصرة، لأنه لا يمكن تحقيق الفعالية المطلوبة إلاّ به، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2]، وإذا كان البعض لازال "متورعا" في جهاد الأنظمة الطاغوتية، فإن جهاد الكافر الأصلي الصليبي لا يختلف فيه اثنان ولا تتناطح حوله عنزتان، بل حتى أعراف القانون الدولي تسمح بمجاهدته لأنه في موقع الاعتداء ونحن في موقع الدفاع، إذن فلتكن هذه هي نقطة الالتقاء التي يتعاون فيها الجميع.
ولست هنا بصدد التنظير الحركي لصيغة هذا التعاون، ولا للمجالات التي يمكن أن يقع فيها، ولا لطبيعة الأدوار التي يمكن أن يقوم بها كل فريق، ولا للإجراءات الاحتياطية المطلوبة في مثل هذا النوع من التفاعل.. لست بصدد هذا، فذاك موضوع آخر، أرى أن يترك لقيادة العمل الإسلامي في كل بلد، فهي أعلم بمعطياتها الذاتية والموضوعية. المهم عندي هنا هو أن نطرح موضوع التعاون حول نقطة الالتقاء هذه (دفع الصائل الصليبي) طرحا جديا، بحيث يصير حاضرا بقوة في البرامج الحركية للجميع، لأن هذا هو الواجب الشرعي في الوضع الراهن، وأنا شخصيا أعتبره المحك العملي لاختبار مدى التفعيل الصادق لشعار "نتعاون فيما اتفقنا عليه" .(66/25)
وإذا كنا لا نستطيع - في الوقت الراهن - أن نصل بهذا التعاون إلى مستوى الوحدة التنظيمية، فعلى الأقل الاجتهاد في تفعيل دور التنسيق، فقد ملّت القواعد المخلصة والجماهير العريضة من هذا التفكك الذي أصاب الجسم الإسلامي، وأصبح السؤال الصحيح الآن هو: ما هو حكم الله في حقنا، هل هو القعود مع القاعدين أم الجهاد مع المجاهدين؟ هذا هو سؤال المرحلة، بعيدا عن البكاء على الأطلال فإنه لا يغير الواقع، وبعيدا عن أدبيات التنويم المغناطيسي فإنه أسلوب قديم، فقد تغير الوضع بعد 11 سبتمبر، وأصبحت المواجهة كأنها مفروضة على الجميع.
2 - التكامل والتركيز في المشروع الجهادي
المشروع الجهادي - ولله الحمد - قائم، والجماعات المجاهدة موجودة على امتداد العالم الإسلامي. ومن فضل الله على أكثرها أنها تتميز بوحدة منهجية ساعدت على تشكيل قاعدة فكرية ينطلق منها الجميع، فرغم تباعد الديار وصعوبة التواصل فإن خط الطائفة المنصورة (خط الدعوة والجهاد) يعيش حالة من الانسجام والتقارب جعلت البعض يسمي جميع جماعات الحركة السنية المجاهدة "قاعدة".
ولكن حتى نستفيد أكثر من هذه الوحدة الفكرية في مشروعنا الجهادي نحتاج إلى تعميق التقارب في الرؤية الحركية، ليصبح العمل "نور على نور". وأرى لهذا الهدف ضرورة أمرين اثنين:
أ - التكامل: وأعني بالتكامل في المشروع الجهادي توزيع الأدوار بين الجماعة العالمية (قاعدة الجهاد) والجماعات "القطرية"، فلكل واحدة دورها الذي لا غنى للآخر عنه. "القاعدة" تجعل اهتمامها الأول هو العدو الخارجي، فتتصدى للعدو الصليبي الذي يستهدف الأمة في هويتها ومقدراتها، ويساعد على توطيد الحكم الطاغوتي للأنظمة العميلة في بلاد الإسلام. أما الجماعات "القُطرية" (طالبان مثلا) فتجعل اهتمامها الأول هو العدو الداخلي، لأن مشروع إقامة الدولة الإسلامية يحتاج إلى حسابات تفصيلية تراعى فيها المعطيات الجزئية لكل قطر على حدة، إضافة إلى أنه لابد في التصدي للعدو الصليبي من ملاحظة التعاون القائم بينه وبين الأنظمة العميلة له في بلاد المسلمين.
ب - التركيز: وأعني بالتركيز عدم تشتيت الجهود في جبهات متعددة في آن واحد، وهو ما يتطلب التحفظ الكبير في فتح معارك جديدة. بحيث يكون الاهتمام الأول منصبا على إنجاح المشاريع القائمة، دون أن يعني ذلك نوعا من الانحسار في الدائرة المغلقة، فالأمور مترابطة، وقيادات العمل الإسلامي مخولة بتقدير الموقف!!
3 - تفعيل دور الأمة الإسلامية
لأن الأمة هي خزان العناصر المجاهدة، وقد كانت دائما قادرة على تزويد الطليعة باحتياجاتها في ساحة الجهاد، وعلى سبيل المثال يبرز اليوم الشعب الفلسطيني - ما شاء الله - كنموذج حي على تفاعل الأمة مع المشروع الجهادي، وهي الصورة التي نحتاج إلى أن تصبح سمة عامة لباقي الشعوب الإسلامية، بحيث تنفض عنها غبار اللامبالاة لتستشعر أنها المعنية بما هو قائم، وأن الجماعات المجاهدة ما هي إلاّ طليعة تقدمت الصف، ومن تم فإنه لا مجال للاتكالية، خاصة في ظل الوضع الراهن، والذي - حسب التكييف الفقهي - يجعل المشاركة في الجهاد فرض عين على جميع المسلمين.
باختصار, إن التعاطف السلبي لا يرد الصائل الصليبي، وإنه لمن العار على أمة "حضارة الحق" والتي يبلغ عددها 1500.000000 مسلم أن تسمح للعدو بالجرأة على بيضتها، فضلا عن أن تظل مكتوفة الأيدي أمام العدوان.
إن كنت ذا حق فخذه بقوة الحق يأخذه الضعيف فيزهق
لغةُ السيوف تحل كلَّ قضية فدع الكلام لجاهل يتشدق
والحمد لله وهو ولي التوفيق•
===================(66/26)
(66/27)
التاريخ يعيد نفسه
أبو عبيد القرشي
قبل أكثر من سنة أعلن بوش الأبله الحرب الصليبية ..
نزل هذا الإعلان كالصاعقة على من اغتر بالغرب من بني جلدتنا. فإلى عهد قريب كان هؤلاء يتشدقون بألفاظ ظنوا سذاجة أن العدو صادق حين روجها في صفوفهم.. "حقوق الإنسان.. ديمقراطية.. ثقافة الحوار.." كلمات رنانة طنانة.. كلمات ابتدعها أبناء الحضارة الغربية لتطبيقها بين بعضهم البعض.. لا في إطار آخر.. خاصة إن كان في دائرة الإسلام.
حين سقط القناع وظهر الخداع.. خرجت ألفاظ أخرى للاستهلاك.. ألفاظ محلها الماضي السحيق.. "حرب صليبية.. رسول إرهابي.. تجفيف منابع الإسلام.. التكيف أو الاندثار.."، ألفاظ ظن السذج أن "عصر الأنوار" قد دفنها إلى الأبد.. فإذا بها تبعث من جديد.. بُعِثَت قولا.. وإلا فالعمل بمقتضاها لم يتوقف قط.. واستهداف الإسلام والمسلمين جاري منذ القدم.
كانت الصدمة مهولة.. كيف كان هؤلاء مخطئين في الغرب لهذه الدرجة.. كيف استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.. كيف استهزأوا بأهل القبلة ممن كان يحذر من حقيقة الغرب.. ألم ينعتوهم بالسذاجة والضحالة السياسية.. ألم يتهموهم بالسطحية والفكر المؤامراتي.. ألم يصفوا تحليلهم بفقه السجون.. فمن المحق اليوم ومن المخطئ؟
إن الحملات الصليبية لم تنقطع منذ مئات السنين كما قد يتبادر للأذهان، ولم تنطلق لتوها من جديد مع إعلان بوش الأبله كما قد يظن البعض. الحملة الجديدة استمرار للهجوم الأوروبي الشامل على أراضي المسلمين الذي يسمى زورا وبهتانا "الاستعمار"، وهو الاسم الذي استعمل بذكاء من طرف الغزاة الصليبيين لاستغفال المسلمين، متنصلين بذلك من أي شَبَه بالحملات الصليبية السيئة الذكر، ومبررين استخدام اسم "الاستعمار" بأن هجومهم استهدف شعوبا أخرى من غير المسلمين في إفريقيا وآسيا. مع العلم أن الحملات الصليبية الأولى كذلك استهدفت شعوبا أخرى نصرانية (البيزنطيين والأرمن ونصارى العرب) ووثنية، لكن هدفها الأساسي كان هو تدمير بلاد الإسلام.
لقد كان "الاستعمار" حملة صليبية شرسة قامت بها القوات الروسية والفرنسية والانجليزية والاسبانية والبرتغالية والايطالية والهولندية ضد بلاد المسلمين من كل حدب وصوب، لدرجة أنه لم ينج بلد إسلامي من الغزو إلا استثناءات قليلة. ولا أدل على صليبية "الاستعمار" من صراحة الجنرال غورو حين وصل إلى قبر صلاح الدين سنة 1918 - أيام الاحتلال الفرنسي لسوريا - وقال قولته المشهورة: "ها نحن عدنا يا صلاح الدين. والآن انتهت الحرب الصليبية."
ولولا تخفيف الله على المسلمين بأن اشتعلت الحرب العالمية الأولى والثانية بين هذه القوى حول الغنائم، ثم استعار المقاومة في بعض الأقطار المسلمة، لكانت البلاد الإسلامية إلى اليوم ترزح تحت حكم الصليب بشكل مباشر.
لقد حققت الحملة الصليبية/الاستعمار أهدافها كاملة، فقد قضت على الرابط الذي يوحد بين المسلمين وهو رابط الخلافة الإسلامية، وشتتت البلدان المسلمة شر مذر، ونَحَّت الشريعة الإسلامية من ميادين الحياة، وساهمت في تنشئة أجيال جديدة لا علاقة لها بالقرآن رسما أو حكما..
بعد هذا كله حسب الأعداء أن أمر الإسلام انتهى وولى دون رجعة.. لكن هيهات.. فما أن مر بعض الوقت حتى سعى العلماء والمصلحون لإعادة الأمة إلى مسارها بصبر وتضحيات لا مثيل لها. ورغم الطغيان الذي اقترفه عملاء الصليب ضد هؤلاء الأخيار، إلا أن الله سبحانه وتعالى بارك في جهودهم، فعادت الروح إلى هذه الأمة، وأصبح الرجوع إلى الله سمة بارزة، وصار الاحتكام إلى الشريعة الغراء مطلبا شعبيا مجمعا عليه. وكان آخر الفصول المقلقة للصليبيين بروز حركات الجهاد، وهو الأمر الذي دل دون مواربة أن الأمة في طريقها لاستعادة عافيتها كاملة، وأن النظام الذي دأب الصليب على إقامته لقرون عديدة، مهدد بالسقوط كقصر من الورق في سنين معدودة..
هنا جاءت صرخة بوش الأبله: إنها الحرب الصليبية من جديد.. وأمريكا هذه المرة هي التي ستقوم بالدور المنوط بعد فشل المناورات الخداعية الأوروبية.. إنه تبادل للأدوار وانتقال للقيادة حدث مرارا وتكرارا في الحملات الصليبية الأخرى.. ولا جديد إطلاقا في الأمر.
والمذهل أن أحدنا لو أخذ كتابا موجزا وجامعا حول تاريخ الحملات الصليبية لما رأى فرقا في الجملة بين ما حصل في السابق وما يحصل اليوم. وما دامت الدراسات الاستراتيجية تتعلق أساسا بالعلاقة بين الزمان والمكان، فلا بأس أن يتطرق هذا المقال إلى ما حدث في الماضي ومقارنته بما يجري في الحاضر ثم استخلاص خطوط عريضة للعمل.
1 - مقارنة بين أسباب الحملات الصليبية في الماضي والحاضر
الأسباب الدينية
إذا كانت الذريعة لانطلاق الحملة الصليبية الأولى (1095 م) هي التشدد الذي مارسه الحكام السلاجقة على المسيحيين الزائرين لبيت المقدس، فإن السبب الحقيقي كان هو إحساس الكنيسة بخطورة الموقف نتيجة انتشار الثقافة الإسلامية بعد اتساع نطاق الفتوحات..
قد يقول قائل: أين نحن وأين الفتوحات اليوم!!! وما وجه التشابه بين الأمس واليوم؟(66/28)
الحقيقة أن اليوم ورغم الضعف الشديد الذي يعانيه المسلمون على كافة الأصعدة، إلا أن عظم هذا الدين وقوة الحق التي يحملها تجعله يشع، مما يدفع بالملايين للإقبال عليه. إن الدين الإسلامي اليوم هو أسرع الأديان انتشارا في العالم بل وفي أمريكا نفسها ، إضافة إلى أن بلدانه الأصلية تعيش انفجارا سكانيا كبيرا وصحوة إسلامية معتبرة، مما جعل صناع القرار في دول الغرب والكيان الصهيوني يرون في هذا الأمر خطرا أكيدا. ونجد صدى هذه الهواجس في كتاب "موت الغرب" لبوكانان الذي استشرف سيادة الإسلام على العالم بحلول 2050 استنادا - فقط - على المعطيات الديموغرافية دون غيرها.
قد يعترض البعض على هذا الكلام بإبراز طبيعة الغرب غير المتدينة. لكن هذا الاعتراض يتهافت حين يتم الاطلاع على أحوال الغزاة الصليبيين في الحملات الأولى: ألم يكن رواد الحملة الصليبية الأولى من جحافل الرعاع وقطاع الطرق واللصوص، الذين ارتكبوا في سيرهم نحو المشرق كل الموبقات من سلب ونهب وقتل واعتداء على الأعراض، بل واغتصاب بعض الراهبات، إلى حد عرفت به هذه الحملة في التاريخ بحملة الرعاع؟ ألم تكن الحرب الصليبية الرابعة التي تمت الدعوة لها سنة 594 هـ/1199 م سوى أداة لأطماع سياسية للبابا وأطماع اقتصادية لإمارة البندقية؟ ألم تستهدف تلك الحملة إلا المسيحيين من هنغاريا والقسطنطينية لأسباب غير دينية في الأساس؟ هذه الأمثلة وغيرها تبين أن الحملات الصليبية كان يقوم بها في الغالب أناس غير متدينين وهو نفس الحال تماما اليوم.
بل إن سيطرة اليمين الديني على مقاليد الحكم في أمريكا تبين أن الحملة الصليبية الحالية مرشحة لكي تضاهي أكثر الحملات تطرفا. فبوش الأبله وضع محاربة الإسلام ومكافحة السُنَّة النبوية على سلم أولوياته، وجعل القضاء على الدعوة الإسلامية والعمل الخيري والتعليم الشرعي أسمى أمنياته، وهو بهذا يتفوق في السفاهة على سلفه الغابر، الذين لم يطمعوا أكثر من السيطرة على بيت المقدس وطرق التجارة المربحة.
الأسباب الاستراتيجية
لقد غيرت الفتوحات الإسلامية الأولى كل المعطيات الاستراتيجية للغرب، فقد فتح المسلمون الأراضي الممتدة بين شمال الهند إلى جنوب فرنسا، مما أقام طوقا خانقا على أوروبا المسيحية طيلة قرنين من الزمان. خلال هذه المدة جنحت فيها موازين القوى لصالح المسلمين بشكل غير مسبوق، خاصة وأنهم تمتعوا بتفوق اقتصادي هائل وازدهار كبير على المستوى الثقافي.
لكن بعد عام 750 م بدأت مظاهر الضعف والتفكك والانقسام السياسي تظهر جلية على الخلافة العباسية، فمالت كفة التوازن لصالح الأوروبيين الذين ظهرت قوتهم في البحر المتوسط وفي إسبانيا. حينها حقق الأوروبيون سلسلة من النجاحات والانتصارات البحرية في طليطلة وصقلية، بينما شن البيزنطيون عدة غارات ناجحة على شمال سوريا في أواخر القرن العاشر، وسيطروا على بعض المدن لفترة وجيزة.
يمكن القول إن الحملات الصليبية الأولى كانت تهدف إلى استرجاع مكاسب الماضي والانتقام من الفتوحات الإسلامية الكاسحة. لكننا اليوم نجد أن الدول "الإسلامية" كلها تعيش في تبعية مطلقة للغرب، فما السبب في إطلاق حملة صليبية أخرى؟
يظهر أن السبب هذه المرة هو الحفاظ على القوة وليس اكتسابها من الأول كما كان الأمر سابقا. ففي سنة 1980 أعلن الرئيس الأمريكي كارتر في رسالته السنوية إلى الكونغرس مجموعة من المبادئ التي ستمكن الولايات المتحدة من التحرك السريع في مواجهة الاتحاد السوفيتي. والأفكار التي طرحها كارتر، والتي كان لبريجنسكي اليد الطولى في إعدادها، هي التي تمت تسميتها فيما بعد بـ "مبدأ كارتر". ركزت هذه الرسالة على مناطق الشرق الأوسط والخليج العربي وجنوب آسيا، ودعت لإعادة الهيبة والنفوذ الأمريكيين فيها بعد الغزو السوفييتي لأفغانستان، والدفاع عن المصالح الأمريكية والرأسمالية في تلك البقعة من العالم، التي تعد من أكثر المناطق أهمية بالنسبة لسياسة الدول الكبرى بما تمثله من نفط ومال وموقع استراتيجي، ولا يمكن لمن يطمع في حكم العالم بتاتا الاستغناء عنها.
ويلخص مضيق هرمز الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الخليج، ففي سنة 1980 كانت تمر عبر هذا المضيق ناقلة نفط واحدة كل ثماني دقائق. وكان مجموع ما تحمله الناقلات يقدر بـ 19 مليون برميل من النفط يوميا أي 40 % من تجارة النفط العالمية، ومنها 12 % من النفط الذي تستهلكه الولايات المتحدة الأمريكية. أما اليوم فقد تضاعفت هذه الأرقام، وتضاعفت معها أهمية المنطقة في نظر الساسة الأمريكيين.
وزاد الطين بلة فشل سياسة أمريكا في بناء احتياطات نفطية ضخمة. فقد أصبحت الاحتياطات الأمريكية التي تبلغ 22 مليار برميل لا تساوي إلا 2 % فقط من الاحتياطات العالمية المؤكدة، والأدهى أنها تتناقص باطراد رغم امتلاك أمريكا لأحدث الأساليب والمعدات التكنولوجية وتوفرها على أعلى القدرات الاستثمارية. وهذا كذلك عامل معتبر في تحرك أمريكا السريع للسيطرة على منابع النفط عوض أن تستمر في الاعتماد على الاحتياطات الذاتية.(66/29)
إن الحملة الصليبية الحالية ما هي إلا امتداد لما كان يُعَدُّ للمنطقة منذ أواسط السبعينات. ويؤكد هذا الترابط أن بريجينسكي هو ذاته مُنَظِّر استيلاء أمريكا على آسيا الوسطى منذ بداية التسعينات، ونظرياته نالت اهتماما بالغا منذ أن برز الخطر الاستراتيجي لمجاهدي القاعدة وإمارة طالبان على التحالف الصليبي- الصهيوني، وزاد من رواج طرحه ما ادعاه بريجينسكي من أن وجود أمريكا في قلب اليابسة الأوراسية، على حدود الصين وروسيا وإيران، وعلى تُخُوم منطقة الخليج العربي، يمكنها من السيطرة على كل القوى المنافسة الحالية والمستقبلية. كما دعا أمريكا، التي استثمرت في حقول النفط والغاز لبحر قزوين وآسيا الوسطى حوالي 50 مليار دولار، أن تتخذ هذه الاستثمارات كمسمار جحا للاستيلاء على ما تختزنه تلك المنطقة من نفط يقدر ب200 مليار برميل من النفط، وغاز طبيغي يبلغ حوالي 600 تريليوم متر مكعب.
وغزو العراق هو تكملة لهذه الخطة الشاملة للاستحواذ الكامل والشامل على الخيرات الإسلامية، والتي ينوي طاغوت العصر عن طريقها ضرب آمال الأمة في النهوض بالضربة القاضية. فالعراق هو ثاني أكبر بلد نفطي في العالم، وتبلغ احتياطاته المؤكدة 115 مليار برميل أي نحو 11 % من الاحتياطات العالمية. وللتذكير فقط فإن البنك الدولي كان يصنف العراق في السبعينيات ضمن الدول ذات الدخل الفردي المتوسط العلوي، مع إمكانية التحول للشريحة المرتفعة، مما كان يؤهل العراق في ذلك الوقت لدخول نادي الكبار، والخروج عما تسطره الدول الصليبية للمنطقة من ذل وتبعية، لولا اتباع قادته لسياسات خرقاء - بإيعاز من أعداء الأمة - أكلت الأخضر واليابس. وبضرب العراق يتم إلغاء دوره نهائيا في الإزعاج (المتوقع) لمصالح أمريكا والكيان الصهيوني، ليتم إغلاق الجبهة الشرقية (النظرية) المقلقة للصهاينة بعد أن تم تكبيل الجبهة الغربية (الواقعية) في مصر بعملية كامب ديفيد، وبهذا يقفلون ما كان يسمى بـ(الصراع العربي الإسرائيلي).
لقد كانت التحركات العراقية هي ذاتها الذريعة التي اتخذتها أمريكا لتنسج نسيجا عنكبوتيا حول المنطقة. فقد تدرجت منذ الثمانينات بنيل "تسهيلات" عسكرية من دول المنطقة، ثم سرعت وتيرة وكثافة حضورها إثر حرب الخليج الثانية (1991) فحصلت على قواعد دائمة، لينتج عن هذا النسيج إقامة ما يزيد عن 63 موقعا عسكريا في 11 دولة "إسلامية" ( الخليج، دول "الطوق"، القرن الإفريقي، تسهيلات واسعة النطاق في شمال إفريقيا، حضور مكثف في وسط وجنوب آسيا حول وداخل أفغانستان)، وهو ما يعني أن مجال القيادة المركزية الأمريكية لما تسميه الشرق الأدنى يشمل 25 دولة تقع على المساحة الممتدة بين باكستان شرقا والمغرب غربا. وهذا التواجد الضخم يقصد منه إدخال المنطقة في مرحلة الخضوع الكامل للإرادة الأمريكية-الصهيونية، بعد كسر إرادة التحدي لدى الشعوب، وهو ما يعطي رسالة لشعوب المنطقة بأنها أصبحت تعيش عصر ما بعد الدكتاتورية وما بعد الديمقراطية.. عصر الحكومة العالمية الأمريكية الصهيونية .
الأسباب السياسية
إذا كانت الحملات الصليبية الماضية قد جاءت لرد الاعتبار لسلطة الكنيسة، فإن الأسباب السياسية المعاصرة هي كذلك تصب في نفس المنحى، لكن ربما بفارق صغير هو أن التهديد ليس لسلطة الكنيسة (التي لم تعد تحكم بشكل مباشر)، وإنما لنظام أقامته الدول الغربية بمباركة الصليب، وهو النظام الذي يهدف للإبقاء على عالم إسلامي ذليل وتابع يشرف عليه كيان يهودي يكون بمثابة الخنجر في خاصرته.
كما أن أمريكا - والغرب عموما - تسعى منذ مدة لتغيير العالم من حيث اقتصاده وفكره وعلاقاته الاجتماعية، وفقا لمنظور الغرب وتجربته الخاصة، بشكل يصب في مصلحتها دون غيرها من الامم والشعوب. وقد أشكل على أمريكا أن المجتمعات الإسلامية لا تتعامل مع الإسلام كدين فقط، ولكن كوسيلة للتفكير وعلاقات تواصل وفلسفة حياة، ومن ثم تبين لأمريكا أنه يستحيل استيعاب المنطقة الإسلامية في دوامة العولمة دون القضاء على الإسلام نهائيا.
إن وضع الكيان الصهيوني اليوم وهو يواجه أسوأ أزمة يمر بها منذ إنشاءه سنة 1948، وتصاعد نجم الحركات الإسلامية في كل الأقطار وما يتبع ذلك من تعزيز للهوية، وانتشار روح الجهاد هي العوامل السياسية وراء إطلاق ناقوس الخطر والإعلان عن حملة صليبية أخرى.(66/30)
وبما أن الوضع في الماضي لم يكن لصالح الصليب إلا في ظل أنظمة عربية وإسلامية هزيلة، فإن نفس الموقف هو السائد اليوم. ومقارنة سريعة تؤكد ذلك: فما الفرق بين أمير طرابلس وهو يتودد ويتوسل بين يدي رايموند الصليبي سنة 1099 م لعله يتركه يحكم مدينته، وبين ياسر عرفات وهو يقبل يدي مادلين ألبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية سنة 2000 لعلها تتركه يحكم مخفره.. ما الفرق بين تسليم افتخار الدولة بيت المقدس للصليبيين سنة 1099 م، وتسليم الملك حسين القدس للصهاينة سنة 1967.. ما الفرق بين أمير شيزر وأمير طرابلس وهما يعرضان ولاءهما وخدماتهما لأسيادهم الصليبيين سنة 1099 م، وبين أمراء الأردن والسعودية والكويت وقطر والبحرين الخ. وهم يسبحون برغبات الصليبيين الأمريكيين طيلة العقود الأخيرة.. ما الفرق بين الملك شاوار وهو يستنجد بالصليبيين لإنقاذ حكمه سنة 1164 م من المجاهد نور الدين زنكي، وبين حكام العرب وهم يستغيثون بالكفار ضد الشيخ أسامة.. لا فرق بتاتا.. إن هذه الملكيات والإمارات والسلطنات والجمهوريات العربية اليوم تُجَسِّد واقع ملوك الطوائف المر.. الواقع الذي أضر بالإسلام دوما ولم ينفعه، وشكل في الماضي كما في الحاضر عقبة كؤودا أمام كل محاولات تحرير الأرض والإنسان.
أما عن تسبب الحكم العسكري في أزمات الأمة فحدت ولا حرج، فبغداد عاصمة الخلافة الإسلامية إبان الحملة الصليبية الأولى كانت تعيش على إيقاع الانقلابات العسكرية المتتالية، إلى درجة أن 8 انقلابات حدثت فيها فقط خلال الـ3 سنوات التي سبقت سقوط بيت المقدس في يد الصليبيين سنة 1099 م، مما كان له بالغ الأثر على الاستقرار السياسي وأضعف قدرات الأمة.. حدث نفس الأمر طيلة نصف القرن الأخير، فقد توالت الانقلابات في جل الأقطار العربية مما أنهك طاقة الأمة بشكل صارخ. ومعلوم أن نصف الدول العربية ترزخ تحت وطأة حكم عسكري ظالم لا يعرف سوى القمع والتنكيل كأسلوب في الحكم ، مقابل الخنوع والاستكانة أمام العدو الخارجي. كما ان الملكيات ليست معفاة من التهمة، فهي كذلك تدخل تحت خانة الحكم العسكري ما دامت تحكم شعوبها أساسا بالحديد والنار.
وقد ترتب على هذا القمع الشامل نتيجة حتمية: بغض الشعوب للحكام. فالتحالف الصليبي- الصهيوني يدفع ملوك الطوائف المعاصرين إلى التضييق على الشعوب تحت حجج مختلفة، فتنتفض الشعوب كلما طفح الكيل، فتتدخل القوى الخارجية لصالح الأنظمة بعد ابتزازها ونيل أقصى التنازلات منها، لتستمر هذه الحلقة المفرغة إلى حين يستنفذ التحالف الصليبي-الصهيوني أغراضه كاملة.
وأمثلة الماضي تؤكد تشابها كاملا في استعمال هذا الأسلوب، فسقوط القدس في يد الصليبيين سنة 1099 م كان ضمنيا بسبب تمرد الأهالي ضد الحكم العسكري السلجوقي سنة 1076 م، فما كان من هذا الأخير إلا أن رد بقمع شديد تجاههم مما أدى إلى إفراغ مدينة القدس من الآلاف من سكانها، وتركها منذئذ كاللقمة السائغة بعدما لم يعد من يدافع عنها...
كذلك القمع العسكري المعاصر لأهالي العراق والشام ومصر وشمال إفريقيا - خزانات المقاومة الإسلامية عبر العصور - هو سبب أساسي في الهوان الحالي للشأن العربي، بعدما تعرت الأنظمة عن أدنى شرعية سياسية، دون حتى أن تنال رضا أمريكا التي تعتبر أن مهمتها انتهت الآن.
الأسباب الاقتصادية
فيما يخص الأسباب الاقتصادية نجد أن هناك اختلافا ملحوظا بين الأمس واليوم، فعند الحملة الصليبية الأولى كانت الدول الإسلامية منارات حضارية، وعلى سبيل المثال كانت بغداد - عاصمة الخلافة - تعد المدينة الأكثر تطورا في العالم، إذ كانت تزخر بالمستشفيات المجانية والحمامات العمومية وأنظمة البريد والصرف الصحي، بل وكانت تتوفر على أبناك ذات فروع في شتى البلدان ومنها الصين.. بينما كانت الدول الصليبية تعيش في بحر من الظلمات، ولذلك سعت إلى تغيير وضعها البئيس بتحويل طرق التجارة لصالحها بأي شكل من الأشكال، فكان أن حققت ذلك عن طريق الحملات الصليبية.
إنما اليوم نجد العكس.. فالدول الصليبية تعيش في رخاء لا مثيل له، في حين أن الدول "الإسلامية" تعيش حالا يرثى له، اللهم إلا في استثناءات قليلة تزداد قلة مع مرور السنين. فهل هناك أسباب اقتصادية للحملة الصليبية الحالية؟
إن الأمة الإسلامية تعيش وضعا استثنائيا لا مثيل له: فهي الأغنى والأفقر في ذات الوقت.. هي الأغنى بما أنعم الله عليها من ثروات.. والأفقر بسبب تبعية حكامها للتحالف الصليبي- الصهيوني، وتفريطهم في خيراتها بثمن بخس أحيانا، وبلا مقابل في أكثر الأحيان.(66/31)
لقد استمر هذا الوضع المثالي للأعداء برهة من الزمان، لكن الصحوة الإسلامية الجارفة، واشتعال روح الجهاد باتت تهدد هاته المكتسبات. وبما أن الأنظمة الدمى باتت على كف عفريت، واحتمال سقوطها أضحى كبيرا للغاية، فإن الصليبين يخشون أن تسقط معها امتيازاتهم الضخمة فيرتفع ثمن النفط، فيتبع ذلك غلاء شديد للأسعار وأزمات اقتصادية، وهو ما لا يريدون أن يحدث (آثار حظر النفط بعد حرب أكتوبر 1973 لبثت أحقابا في الذاكرة الغربية)، مما يدفعهم للتحرك والسيطرة المباشرة على مناطق المسلمين.
ليس هذا وحسب، فإن الاقتصاد الأمريكي يواجه اليوم أعظم أزمة اقتصادية منذ أزمة 1929، ولا أدل على ذلك من انهيار البورصة الأمريكية طيلة سنة 2002، وما نتج عنه من فقدان أزيد من 5 تريليون دولار، إضافة إلى تسببه في أزمة عالقة للقطاع السكني قد يترتب عليها مثل تلك الخسائر الضخمة وزيادة. وهذا يعني أن الاقتصاد الأمريكي يكمن على حافة الهاوية إذا لم يتم تداركه بإجراءات إنعاش راديكالية، وزاد الطين بلة فشل الخطة الاقتصادية لإدارة بوش الأبله (إقالة وزير الخزينة الأمريكي خير دليل)، فكان أن ظهر الحل السحري بالسعي لاحتلال منابع النفط وإبرام صفقات ضخمة جديدة للسلاح وإعادة الإعمار.
2 - خطوط عريضة لصد العدوان الصليبي
عنصر المفاجأة
خلال الحملات الصليبية الأولى كان هجوم العدو مباغتا للمسلمين، الذين فوجئوا دوما بهجوم الغزاة وكذلك بعددهم وعتادهم، ولذلك كان العدو يستفيد من هذا العنصر أيما استفادة فيحرز المكاسب تلو المكاسب.
لكن الشأن مختلف اليوم، فجل المعلومات المتعلقة بالحملة الصليبية معروفة مسبقا، ولا مجال لعنصر المفاجأة إطلاقا. في المقابل نجد أن المجاهدين هم الذين يحتكرون عنصر المفاجأة، ويحددون توقيت ومكان العمليات، فأحرزوا بذلك سبقا لا يقدر بثمن.
كما أن الإعلان الوقح عن الحملة الصليبية والأهداف التي يتوخون من وراءها كذلك صب في مصلحة المجاهدين، وذلك لأن صناع الرأي الإسلامي على اختلاف مشاربهم باتوا مدركين لحقائق الأمور، ولم يعد هناك ما يصرف عن اتباع خطوات عملية للدفاع عن الأمة، عوض الدخول كما كان يأمل الأعداء في متاهات جانبية.
التعبئة العامة
إن تعبئة المسلمين عامة وفي كل الأقطار من أولى الأولويات لمواجهة الخطر الداهم، وهو الأمر الذي لا يجب أن يقتصر على المجاهدين وحدهم، وإنما ينبغي أن يتعداه لكافة القوى والفعاليات الاسلامية لأن مصير الأمة الإسلامية هو الذي يرجح في الكفة هذه المرة، وليس مجرد قضية ثانوية إذا اهتم بها البعض حصلت الكفاية.
ودور العلماء والدعاة المخلصين عظيم في هذا الشأن، ولعل التاريخ يثبت لنا هذه الأهمية: لقد جوبهت الحملات الصليبية الأولى بلا مبالاة مطلقة من طرف الحكام في صورة مطابقة لما يحدث اليوم، لكن أحد العلماء الربانيين وهو أبو الفضل بن الخشاب عالم مدينة حلب وقاضيها، كان له الفضل في بث روح الجهاد ضد الصليبيين، وتحريض المؤمنين على القتال في سبيل الله، وعدم ترك هذه الفريضة في يد الجيوش النظامية التي ابتعدت عن الطريق القويم، ولم يعد يهمها سوى مصالح قادتها المادية. لم يكن الأمر سهلا آنذاك فقد أخذ الفساد في النخب الحاكمة مأخذه، لدرجة أن حاكم حلب رضوان رضخ لأمر القائد الصليبي Tanc r ed، وهَمَّ بإقامة صليب فوق مئذنة المسجد الجامع بحلب . فما كان من ابن الخشاب إلا أن قاد انتفاضة كسرت الصليب، بل وذهب أبعد من ذلك حين قرر زيارة بغداد سنة 1111 م ليحث القيادات هناك على الجهاد. وبعد أن حاول لقاء الخليفة دون جدوى، ذهب إلى أكبر مساجد بغداد ومنع الخطيب من الصعود لخطبة الجمعة وأخذ الكلمة مكانه، فحرض الحاضرين على الجهاد وذكرهم بواجبهم تجاه الأمة. لم يثمر هذا العمل سوى تطمينات رسمية لا تسمن ولا تغني من جوع، فأعاد ابن الخشاب الكَرَّةَ ثانية في الجمعة الموالية لكن في مسجد الخليفة هذه المرة، فنتج عن هذه الخطوة بداية تغيير في الخط السياسي السلبي الذي ساد الأوساط في بغداد خلال تلك الفترة.. لكن ذلك لم يكن كافيا نظرا للتعقيد الذي وصلت إليه الأمور.. مع ذلك لم يُقل ابن الخشاب ولم يستقل، بل سخر حياته في البحث عن سبل صد العدوان الصليبي، فكان يخرج مع سرايا المجاهدين ويشهد بعض انتصاراتهم، فما لبث أن اغتالته أيادي عملاء الصليبيين بعدما اشتد خطر مشروعه الجهادي.
ليست مثل هذه المواقف حكرا على الماضي، فذكرى الشيخ عبد الله عزام لا زالت قوية في الأذهان، كيف لا وهو الذي قام بمثل ما قام به ابن الخشاب وزيادة، وله الفضل بعد الله في إذكاء جذوة الجهاد في زماننا من جديد.
إنها النفسية التي ينبغي أن تسود علماء الإسلام ودعاته.. نفسية لا تعرف العجز والكسل ولا الذل والاستكانة.(66/32)
قد تختلف الأوضاع اليوم بأنه لا خير في أي نظام قائم، ولا مجال أصلا للانكار على الحكام يوم الجمعة لأنهم باختصار لا يصلون. لكن تعبئة المسلمين وحثهم على الجهاد والنصرة بالغالي والنفيس، ودعم المجهود الحربي الجهادي بشكل سري ومنظم من المتطلبات العاجلة للمرحلة.. في انتظار أوقات أفضل على المستوى الرسمي.
إيجاد الخزانات الاستراتيجية
من بين أسباب اندحار المسلمين في الحملات الصليبية الأولى أن الجند كانوا حديثي عهد بإسلام. فقد كان السلاطين يجلبون المقاتلين من قبائل التركمان ليحدثوا نظاما عسكريا احترافيا حتى لا يكون للأهالي دور في الجيش أو رأي في شأن الملك. لكن مع مرور الوقت حدث عكس ما كان يصبوا إليه الحكام إذ انقلب هؤلاء الجند التركمان عليهم واستقلوا بالحكم لأنفسهم. فكان لهذا الأمر الوقع السيئ على قضايا الأمة لأن هؤلاء الحكام الجدد وجيوشهم لم يكونوا يحملون الهم الإسلامي قط، بل كان المال هو أكبر همهم.
لكن حصل تحول جذري حين فقد الملك نور الدين زنكي أجزاء من مملكته لصالح أخيه، ففقد معها جزءا كبيرا من جيشه. وبما أنه لم تكن له القدرة المالية الكافية لجلب الجنود التركمان، فقد استعان عوضا عنهم بعنصر آخر: الأكراد.
كان الأكراد - خلافا للتركمان - قد أسلموا قديما، فكانوا يشعرون بما تشعر به الأمة ويتألمون مما تتألم منه، إضافة إلى أنهم كانوا أولو قوة وبأس في القتال. فحصل بدخولهم الميدان انقلاب في الموازين القائمة، تَوَّجَهُ صلاح الدين الأيوبي (الكردي) باستعداة القدس من أيدي الصليبيين.
لعل العبرة التي يمكن استنباطها من هذا التحول التاريخي هو ضرورة اهتمام الحركات المجاهدة بإيجاد وتهييء مثل هذه الخزانات الاستراتيجية، التي يكون أصحابها من أقوام ذوي إيمان أصيل وتاريخ عتيد في القتال وفنونه. فإن في ذلك سببا عظيما في استمرار الجهاد والنكاية في العدو.
مواجهة الحرب بالوكالة
إن الصليبيين توصلوا إلى أعلى درجات التمكن والسيطرة خلال الحملات الصليبية الأولى والثانية والثالثة، وتمكنوا من نسج تحالفات مع حكام المنطقة، وتفعيل الخلافات البينية للمسلمين لصالحهم، لدرجة لم يكن معها من الممكن المقاومة بفعالية. لكن هذه المناورات سقطت حين انتشرت الدعوة الإسلامية في صفوف الأمة وتم بناء عناصر القوة، فتمكن المسلمون من دحر الغزاة.
واليوم يمكن القول إن درجات الوعي الشرعي والسياسي بلغت حدا مقبولا، عرفت إثره الشعوب حقيقة الموقف الحالي، كما أن المجاهدين عرفوا كيف يستديرون على الأنظمة الخائنة ويؤججون الجهاد مباشرة على التحالف الصليبي الصهيوني. فالأمة لم تقعد مسلوبة الإرادة لتنتظر أحد هؤلاء الحكام الملاعين ليعلن الجهاد (وهو ما لن يحدث أبدا)، بل قامت طلائعها المجاهدة بالواجب منذ أكثر من عقدين وإلى حدود الساعة بكفاءة عالية.
ومع ذلك فإن التصدي للتحالف الصليبي الصهيوني يتطلب على المدى المتوسط والبعيد تسخير كل قدرات الأمة - التي ارتهنها الحكام لصالح نزواتهم ولمصلحة الأعداء - مما يعني ضرورة السعي لتغيير بعض هذه الأنظمة، التي تتوفر على مقومات استراتيجية تحسن - إذا ما حصل عليها المجاهدون - الوضع الاستراتيجي للمسلمين. ويمكن القول أن هذا بالذات كان هو نهج أبطال الإسلام في حروبهم ضد الصليبيين، فالاستراتيجية التي تبناها زنكي و ابنه نور الدين ثم صلاح الدين الأيوبي بدأت بالقضاء على فساد الوضع العقدي والسياسي في البلاد الإسلامية المحيطة بمستعمرات الصليبيين، قبل حسم المعركة معهم.
الدفاع الاستراتيجي
إن أكبر خطإ ارتكبه المسلمون في الحملة الصليبية الأولى كان هو عدم التصدي المستميت لجحافل الغزاة خلال المعارك الأولى سنة 1097 م، فمثلا نجد أن قلج أرسلان - قائد أول جيش مسلم يواجه الصليبيين في الأناضول - قد تفاجأ بطريقة حرب الصليبيين المغايرة تماما لما كان يمارسه الأتراك، فتركهم يمرون إلى الأراضي الأخرى، ظنا منه أنهم سيلقون حتفهم على أيادي جيوش مسلمة أخرى. لكن هذا التسويف والتلكؤ ألهب حماس الصليبيين وزادهم شهية لتحقيق ما يصبون إليه.
يختلف الوضع اليوم بأن المجاهدين والحمد لله صدوا هجوم أمريكا على أفغانستان بكفاءة، بل وانتقلوا إلى الهجوم المضاد مما أربك حسابات الصليبيين ودفعهم لتغيير بعض برامجهم. ويا ليت نفس الأمر يحدث خلال غزو العراق، وذلك أن منع أمريكا من تحقيق مآربها هناك سيكون ذا أثر بليغ على المخططات الموضوعة وعلى القائمين عليها، وسيفتح آفاقا واسعة أمام المجاهدين.
ملء الفراغ السياسي
إن الاندفاع الصليبي الصهيوني المسعور نحو احتلال قلب العالم الإسلامي قد يخلف زلازل سياسية في بعض أقطاره، مما قد يسفر عن سقوط أنظمتها المتهالكة. في هذا الإطار لا بد للفعاليات الإسلامية من السعي بكل قوة لملء هذا الفراغ السياسي، وأن تكون على استعاد للتحول من قوى شعبية كما هي الآن إلى قوى سياسية، فإن هذا من شأنه أن يقوي الموقف الإسلامي.(66/33)
والمقارنة مع الماضي تؤكد حصول ذات الشيء، فقد ظهرت قوى سياسية إسلامية ناشئة ملأت الفراغ السياسي، ولعل ظهور دولة المرابطين في الجناح الغربي للأمة الإسلامية من أمثلة هذا الإفراز، الذي كانت له نتائج سريعة على الميدان، خاصة على مسرح الحرب في الأندلس مما قوى الموقف الإسلامي هناك.
تعاضد الجهود
من المعلوم أن حالة التشرذم التي كان يعيشها المسلمون هي أهم سبب وراء انتصار الصليبيين في الماضي. فمنطق المدينة/الدولة الذي كان سائدا دق إسفينا عميقا في محاولات جمع الكلمة، لأن المصلحة الوحيدة المعتبرة هي مصلحة حكام تلك المدن/الدول. وإذا كان موقف الأنظمة الحاكمة اليوم هو نسخة مطابقة لأصل ما حدث في الماضي، فإن المطلوب من الحركات والفعاليات الإسلامية ألا تسقط في هذا المطب فتحكم على نفسها وأمتها بالإعدام، وذلك لأن الوعي بوحدة الموقف والمصير من أهم متطلبات المرحلة، وبدونه لن تذوق هذه الأمة طعم النصر.
3 - الخاتمة
التاريخ يعيد نفسه.. حكمة طالما تم ترديدها.. ربما دون استيعابها حق الاستيعاب. .لكن من يقرأ كتاب الله.. ويقرأ: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله..} يعلم أن سنن الماضي تعود وتتكرر لا محالة.. وها قد عادت..
إن الحملة الصليبية اليوم تكرار لما حدث في أيام خلت، وستحدث فيها بإذن الله سنة التدافع تماما كما حدث في الماضي.. وربما تكون الوتيرة أسرع.. فالأمة الإسلامية تعيش وعيا إسلاميا قل نظيره في القرنين الأخيرين.. وها هي قد ألقت بفلذات أكبادها يواجهون جحافل الكفر شرقا وغربا.. وآخرين مستعدين للحاق بهم على أحر من الجمر.
إنها مسألة وقت.. ووقت فقط.. قبل أن يدرك بوش الأبله جسامة الخطإ الذي اقترفه.. فقد أخرج البعبع الإسلامي من قمقمه.. وحان وقت الحساب.
المراجع:
•…ابن كثير، البداية والنهاية - تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي- دار هجر- القاهرة 1998.
•…ابن الأثير، الكامل في التاريخ - دار صادر - بيروت 1966.
•…د. زهير شكر، السياسة الأمريكية في الخليج العربي، الدراسات السياسية الاستراتيجية 1980.
•…د. محمد فراج أبو النور، "صدام الحضارات.. واستراتيجية الهيمنة الأمريكية،" جريدة البيان، العدد 599.
•…عبد العزيز كامل، "حرب الخليج الثالثة..وتداعياتها الخطيرة،" جريدة الشعب، 27/12/2002
•…د. حسن الباش، "حرب صليبية جديدة.. هل هي زلة لسان أم استراتيجية المنطق الغربي؟ "مجلة الإسلام عدد 81.
•…Te r ry Jones and Alan E r ei r a, C r usades, Penguin Books 1996.
•…Pat r ick J. Buchanan, The Death of the West, St Ma r tin P r ess 2002.
•…Dean Bake r , "Dange r ous Minds? The T r ack r eco r d of Economic and Financial Analysts," Cente r Fo r Economic and Policy r esea r ch, 2/12/2002
•…Stephen Zunes, "U.S. Policy towa r d Political Islam," Fo r eign Policy in Focus, Vol.6 Numbe r 24 June 2001.
================(66/34)
(66/35)
الحروب الصليبية بين الماضي والحاضر
أبو أيمن الهلالي
تعتبر الحركة الصليبية من الظواهر التاريخية الكبرى التي لم تتوقف إلى يومنا هذا، بحيث عرفت تجديدا في الخطط وابتكارا في الأساليب، وتنوعا في وسائل محاربة المسلمين.
كما لم يسجل في تاريخ البشرية جمعاء، وفي كافة مراحله حملة مثلها سوى الحركة الصهيونية، لأنها لم تقتصر على المسلمين فقط، بل نالت حتى من المسيحيين الذين كانوا يعيشون في سلام وأمان في الشرق الإسلامي، ويكفي المجازر التي وقعت في بغداد وسوريا وفلسطين والأندلس...مثالا حيا وصارخا على هذه الحقيقة/الحركة الصليبية، والتي دفعت ببعض العقلاء من الأوروبيين إلى الاعتراف بدموية ووحشية أجدادهم.
لكن رغم كل ما قامت به لإرغام الناس عامة والمسلمين خاصة على التنصر، فإنها فشلت بامتياز في القضاء على الإسلام، بل كانت لها آثار إيجابية تمثلت في تحريك مشاعر المسلمين، وتوعيتهم بحقيقة العدو، ودفعهم إلى خوض معركتهم المقدسة التي تسعى لإقبار هويتهم واجتثاث وجودهم والاستيلاء على خيراتهم وأراضيهم، وصدق ربنا إذ يقول في منزل تحكيمه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال: 30)، وقوله سبحانه وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:216).
أمام جهل البعض بدينه وتاريخه وواقعه، وعمالة الآخر-ولا سيما القيادات الفكرية والسياسية-، تم اختزال جوهر الصراع في المسألة الاقتصادية، والمصالح السياسية والأمنية، والرأي العام والديمقراطية وحقوق الإنسان...، بحيث تصدرت هذه القضايا/الاقتصاد... برامج الأحزاب العلمانية وبعض الإسلاميين، واعتبرت من أولوياتها، مع الإغفال التام للأساس العقدي والفكري الذي يحكمها، حتى شهد شاهد من أهلها/بوش- الذي يمثل رأس الصليبية العالمية-، وصرح أمام العالمين بأنه سيشن حربا صليبية على المسلمين بسبب صدمة غزوتي نيويورك وواشنطن، التي أخرجت مكنونه النفسي، وكشفت عن بنية وعيه وحقيقة نيته وعقيدته الصليبية، والتي تزامنت مع بداية الألفية المسيحية الثالثة.
هذا الوعي الذي عبر عنه بوش يرجع بالأساس إلى الوعي الغربي الصليبي المشترك، الوريث الشرعي لتراث يهودي مسيحي، الذي يجعل من الزمن مراحل تنتهي كل ألف سنة، ويستأنف دورته الجديدة مع الألفية الجديدة.
ويعتبر سلوك قائد الحملة الصليبية الاستعمارية البريطانية أوائل القرن الماضي في بلاد الشام، وتحريضه أن يطأ قدمه قبر قاهر الصليبيين صلاح الدين الأيوبي، مصرحا بانتهاء الحروب الصليبية ولاسيما بعد إسقاط الخلافة العثمانية، وإحكام السيطرة على بلاد المسلمين نموذجا لهذه العقيدة، وأيضا ما يقوم به كتاب أمريكا ومفكروها ومؤسساتها في هذه الألفية من عمل تطهيري جديد، يهدف إلى تدمير كل ما هو إسلامي.
إن العدو الصليبي حاول زعزعة ثقة الأمة بما تملك من مقدرات تاريخية وحضارية وثقافية وفكرية، وطاقات بشرية كمية (عددية) وكيفية (أدمغة)، وموقع جغرافي استراتيجي متميز، لكن كيف نستثمر هذه المعطيات في رحلة انبعاث حضاري جديد؟ وكيف نؤهل الأمة لتكون في مستوى التحديات/الصراع؟ وكيف نستفيد من تاريخنا/ذاكرتنا الذي يختزن في طياته الكثير من التجارب والحقائق؟ وكيف نجعله عنصر إلهام لنا في المواجهة والنهوض والتحرير؟ وكيف نتصدى لحرب اللغة والمفاهيم التي تجري في الخطاب قبل الواقع؟ أي كيف نحدد معاني المفاهيم ونفهم الحقائق ونتحرر من التحكم الثقافي الذي يستخدمه إعلام العدو، الذي يحول المجاهد إلى إرهابي والشهيد إلى انتحاري والعدو إلى صديق والظالم إلى مظلوم...؟ وكيف يتحرك العدو؟ وكيف انتصر أجدادنا؟ ولماذا انهزمنا؟ وما السبيل إلى التحرير؟
هذه الأسئلة وغيرها هو ما سنحاول الإجابة عنه من خلال المحاور التالية:
أولا - جذور الصراع:(66/36)
إن جذور صراعنا مع العدو الصليبي ترجع بالأساس إلى العلاقة التاريخية بين الإسلام والنصرانية، أي إلى موقف النصارى من الإسلام ونبي الرحمة محمد رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، وهذا ما كشفه ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم في قوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}(البقرة:120)، وقوله سبحانه وتعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(البقرة:109)، وقوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(البقرة:217).
وهذا ما جعل النصارى ينقسمون في عهد رسولنا العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام إلى فريقين بخصوص موقفهم من الإسلام:
أ - أهل الذمة:
الذين فضلوا مصالحة الرسول ( وعدم قتاله، ودفع الجزية، أي الخضوع لشريعتنا السمحة، مثل نصارى نجران...
لذا، فمثل هؤلاء ليس لدينا أي إشكال معهم في عصرنا الحالي الذي لا توجد فيه خلافة إسلامية، وهو ما نعبر عنه في خطابنا بالعقلاء المسالمين التواقين للحرية والعدل، الرافضين للظلم مثلنا، الذين يجب أن نبرهم ونقسط إليهم مصداقا لقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) ويدخل في هذا الإطار التصريحات الأخيرة للأب عطا الله حنا (الناطق الرسمي بلسان الكنيسة الأرثوذكسية في القدس)، حيث دعا إلى تشكيل لجنة إسلامية مسيحية تعمل على إفشال الحرب على العراق، والعمل على تحرير فلسطين من البحر إلى النهر إثر استقباله وفدا رسميا شعبيا في مدينة حيفا في فلسطين المحتلة عام 1948، كما أشاد بالعمليات الاستشهادية التي تطال عمق الكيان الصهيوني مؤكدا أن: "هؤلاء الاستشهاديين الفدائيين هم أبطال هذه الأمة، ونحن نفتخر بهم ونرفض قطعيا المحاولات المشبوهة في التشكيك بما يقومون به، ودعا المسيحيين العرب والفلسطينيين إلى الانخراط في المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني بكافة أشكالها وأساليبها، ذلكم لأنهم جزء من هذا الشعب الفلسطيني وهذه الأمة .
ب - المحاربون:
الذين قاتلوا الرسول (، أي لم يخضعوا لأحكام الإسلام، مثل نصارى مؤتة وتبوك...
لذا، فالحملات الصليبية التاريخية والجديدة بزعامة بوش تعتبر امتدادا طبيعيا لحركة النصارى المحاربين، وإن اختلفت الأسماء والعناوين والأساليب، لأنها تلتقي على ثابت عقدي وسياسي واحد هو محاربة الإسلام وأهله، وهذا هو الأساس الجوهري الذي يجب أن تفهم من خلاله مجموعة من القرارات والمواقف السياسية والاقتصادية والأمنية... التي يتخذها الغرب الصليبي اتجاه قضايانا المصيرية (فلسطين، الشيشان، أفغانستان، العراق، الفلبين، كشمير...).
وعليه فإن صراعنا مع الصليبية الجديدة صراع عقدي سياسي حضاري في جوهره، أي صراع وجود في بلادنا الإسلامية، حيث لا هدنة ولا تفاوض ولا حوار، أي المواجهة والقتال ودماء الشهداء هو سلوكنا السليم والصحيح اتجاههم، لتحرير بلادنا من دنسهم، وإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى مصداقا لقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة: 193).
ثانيا - السياق التاريخي لنشوء فكرة "الحركة الصليبية":
إن الأجواء الفكرية والنفسية التي كانت سائدة عند النصارى بخصوص نهاية العالم بعد الألفية الأولى من معاناة المسيح عليه السلام على الصليب، كانت المحرك الرئيسي لتحويل المشاعر المتعلقة بالعالم الآخر صوب بيت المقدس من أجل الخلاص، والأرضية الخصبة لنشوء الحركة الصليبية، حيث عرفت هذه المرحلة زيادة كبيرة في عدد الرحلات التي قام بها النصارى من غرب أوروبا إلى بيت المقدس.(66/37)
هذه المرحلة كانت مقدمة ضرورية للنصارى، وفرصة مناسبة للتفكير الجدي في السيطرة على الأرض التي شهدت قصة المسيح عليه السلام، بحيث بدأت الكنيسة في الدعاية ضد المسلمين، ونعتهم بالكفار المتوحشين ، وبالموازاة تعبئة النصارى للقيام بالحملة الصليبية لتخليص الأرض المقدسة، والتي توجت بالخطبة التاريخية التي ألقاها البابا أربان الثاني في 27/11/1095 في جنوب فرنسا (كليرمون)، والتي دعا فيها إلى القيام بحملة ضد المسلمين في فلسطين تحت راية الصليب.
هذه الخطبة كانت نتيجة للمجمع الديني الذي عقده البابا مع جمع من الأساقفة أثناء مناقشتهم لأحوال الكنيسة، كما قامت على إثرها عدة مستوطنات صليبية في فلسطين وبلاد الشام ما بين 1096 و1291 م، لكن استعمال اصطلاح "الحملة الصليبية" لم يحدث سوى في بداية القرن 13 م، لأنها في البداية كانت توصف ب"الرحلة إلى الأرض المقدسة" أو "الحرب المقدسة"...، وبعدها صار توسيع الحملات الصليبية ضد المسلمين في فلسطين والأندلس وعلى شواطئ البلطيق...، كما استعملت البابوية فكرة "الحرب العادلة" في القتال ضد مسلمي الأندلس، أما المؤرخون المسلمون (ابن الأثير، ابن كثير...) فكانوا يسمونها ب "حروب الفرنجة" أو "الإفرنج".
بعد نجاح الحملة الصليبية الأولى في إقامة مملكة بيت المقدس وعدة إمارات أخرى في البلاد العربية، أصبح همهم الأساس هو نشر قوات عسكرية ضخمة للدفاع عنها، ونشر المسيحية بين شعوب المنطقة.
ولما استرجع الإمام صلاح الدين الأيوبي مدينة بيت المقدس سنة 1187 م/583 هـ، ركز الصليبيون جهدهم في الدفاع عن ما تبقى من كيانهم في فلسطين، بحيث حاولوا غزو مصر في الحملة الخامسة (1218 م)، وكذلك في الحملة السابعة (1249 م) التي قادها لويس التاسع.
ولقد استمرت الحملات الصليبية قرنين من الزمان (489 - 610 هـ)، أي مند حملة البابا إلى سقوط عكا ونهاية - فيما بعد - الوجود الصليبي في فلسطين.
بعد ذلك، حاول البابا "نيقولا الرابع" تعبئة النصارى وتذكيرهم بسقوط مماليك الصليب (عكا، بيت المقدس...) في الشرق الإسلامي، لكن دون جدوى نظرا لعدم قدرتهم/ الإرهاق، والخسائر الفادحة التي تكبدوها خلال قرنين.
ثالثا - أوضاع المسلمين قبل الحروب الصليبية:
يمكن تلخيصها في الخطوط العامة التالية:
- الانقسام والتشرذم وهيمنة المصالح الشخصية الضيقة دفعت الحكام إلى تحويل كل مقدرات الأمة (البشرية والمادية) إلى عقار/حساب خاص.
- تخاذل الحكام وأنانيتهم وضيق أفقهم الذي ضيع البلاد وأذل العباد.
- ابتعاد العلماء الصادقين عن السياسة شجع الحكام على تدبير أمور الأمة وفق أهوائهم وغرائزهم، بعيدا عن همومها وقضاياها.
-ضعف الدولة العباسية "السنية" دفع بالعبيديين/الفاطميين "الشيعة" إلى الانقضاض على شمال إفريقيا، وتكوين الدولة الفاطمية، وتقتيل علماء أهل السنة، والاستعانة باليهود والصليبيين ضد المسلمين، ومحاولة إبرام اتفاق/التحالف مع العدو الصليبي على اقتسام الأرض والنفوذ على حساب الأتراك "السنة"، لكن فشلوا بسبب رفض العدو ، بل وصلت بهم الوقاحة/الخيانة إلى حد أن الأسر الحاكمة في شمال بلاد الشام كانت تتفرج علىالتقتيل الذي يتعرض له المسلمون "الأتراك" معبرين عن الفرح بهزيمتهم، فضلا عن تركهم لسقوط أنطاكية ولم يتدخلوا لإنقاذها.
- تعدد الكيانات السياسية الصغيرة وغياب الوحدة، بحيث كانت كل مدينة كبيرة في بلاد الشام مثلا تمثل إمارة مستقلة تحت حاكم.
- عجز الحكام وضعفهم بسبب الحروب التي خاضوها فيما بينهم على مدى قرن كامل.
- شيوع الشك والريبة وانعدام الثقة فيما بين الحكام.
رابعا - العوامل الرئيسية التي ساهمت في تحرير القدس/ الأمة:
ترجع هزيمة العدو الصليبي بعد توفيق الله سبحانه وتعالى إلى الأسباب التالية:
- إحساس الرأي العام/الأمة بخطورة الهجوم الصليبي بسبب همجيته، والتدمير والتقتيل والتشريد والقهر والإذلال الذي تعرضوا له.
- قيام العلماء بدورهم في التحريض والتعبئة، وتذكير الأمة بمكانة القدس الشريف "أولى القبلتين وثالث الحرمين" الدينية، وفضل الجهاد والشهادة، وتوعيتهم بحقيقة العدو وطبيعة أهدافه التوسعية.
- بدأ المجاهدون التحرك الجاد من أجل توحيد الجهود ضد العدو الصليبي، أي كان شعار المرحلة "فلنترك خلافاتنا جانبا ولنتحد جميعا حول جهاد عدونا المشترك/الصليبي، فكان بديلا عمليا/المجاهدين للجيش الإسلامي، حيث لم ينهجوا سياسة التوسل اتجاه حكامهم.
- ظهور عماد الدين زنكي كقائد عام للحركة الجهادية ضد الصليبيين، وخضوع الموصل سنة 521 هـ/1127 م، وأيضا البديل الصحيح لعجز الحكام وضعفهم، وفشلهم السياسي والعسكري، بسبب جديته وجهاده، لأن الرجل وضع كل إمكانياته في خدمة الهدف الإسلامي المرحلي المتمثل في جهاد الصليبيين.
- بعده، برز الإمام صلاح الدين الأيوبي الذي واصل الطريق/ المسيرة الجهادية، وقام بمجموعة من الخطوات كانت أهمها إزالة دولة الفاطميين، وتوحيد السلطة والقرار في مصر.(66/38)
- بعد ذلك، بدأ بترتيب أوضاع المجاهدين الداخلية في كل من مصر والشام لمدة ست سنوات (572 -577 هـ/ 1176-1281م)، وعدم توسيع دائرة الصراع مع الصليبيين، وبالموازاة تحقيق مجموعة من الانتصارات التي توجت بهزيمة العدو في حطين 582 هـ/1187 م.
بعد حطين، بدأت المدن والقلاع الصليبية تستسلم، فاتجه الإمام صلاح الدين صوب القدس الشريف، وتم فتحها بعد حصار قصير.
وعليه، فلقد أدرك العدو الصليبي - كما أدرك إمامنا صلاح الدين - أن مفتاح القدس يوجد في مصر، أي السيطرة عليها تعتبر مقدمة ضرورية لا يمكن تجاوزها.
خامسا - أساليب وآليات الحركة الصليبية الجديدة:
لم تتوقف الحركة الصليبية طيلة تاريخ المسلمين، أي منذ بعثة نبي الرحمة رسولنا العظيم عليه أفضل والصلاة، لكن أساليبها كانت متغيرة، تختلف من مرحلة إلى مرحلة حسب ميزان القوى وجدوائية الأسلوب في تحقيق هدفهم الثابت/تدمير المسلمين، مما دفعهم إلى التجديد الدائم في الأسلوب والابتكار في الآليات، وكذلك في الشعارات والعناوين والأهداف التضليلية.
يمكن إجمال أساليبها وآلياتها في النقاط التالية:
أ - الاستعمار العسكري:
الذي يعتبر امتدادا للحركة الصليبية، وقد تم التمهيد له بأبحاث ودراسات ميدانية حول الخصائص البشرية والمادية للبلدان المستهدفة تحت عنوان "الاكتشافات الجغرافية"، ليتم في نهاية المطاف السيطرة على ثرواتها والتحكم في خياراتها عن طريق العملاء، أي بعبارة أخرى ضرب كل البنى العقدية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، والتأسيس لبدائل تنسجم مع أهدافهم الاستعمارية.
ولضمان استمرار تطويعهم لإرادة الأمة الإسلامية، ومنع أي خطر مستقبلي على مشروعهم الصليبي التوسعي، تم وضع مجموعة من الألغام السياسية -كاتفاقية "سايكس بيكو" مثلا- لعرقلة كل حركة تبحث عن الحرية والاستقلال الحقيقي وليس الشكلي كما هو حاصل في كل البلاد الإسلامية، وتسهيل تحكمها من خلال:
- الدولة القطرية:
كانت ضمن المشروع الصليبي الاستيطاني، حيث تم في عام 1792 تكوين حلف صليبي مقدس من الصرب والبوشناق والمجر وبلغاريا ونصارى ألبانيا لقتال العثمانيين وإزالة الخلافة، وتقطيع فيما بعد العالم الإسلامي إلى دوليات صغيرة ، أي أن "سايكس بيكو" كان مخططا له منذ زمن بعيد.
و تتجلى خطورتها على المشروع الإسلامي التحرري في الأمور التالية:
•…أنها كيان غريب عن مرجعية الأمة ووجدانها، وذلك بتغييبها للذات الإسلامية كمركز ينظم كل أشكال الوعي بالوجود، حيث أصبحت من ملحقات العدو الصليبي.
•…أنها استهدفت هوية الأمة، وشرعية وجودها العقدي والسياسي والحضاري، لأن الهوية لا تصبح قضية عندما تكون منهجا في حياتنا اليومية، وإنما تطرح عندما تتعرض للتحقير والتهديد والإلغاء.
•…أنها تساهم في تجفيف ينابيع الأمة العقدية والسياسية والحضارية ومضامينها التحررية، حيث أصبح دور الإسلام هامشيا عبر اختزاله في أشكال طقوسية وفلكلورية فارغة.
•… أنها نقطة ضعف الشعوب الإسلامية التواقة إلى الحرية والاستقلال، لأنها أداة المستعمر الصليبي في تكبيل إرادة الشعوب عبر التجويع والقمع والتقتيل والاعتقال، وأيضا حماية وجوده ومصالحه.
•… أنها تساهم في إضعاف بنية الاجتماع السياسي من خلال تعدد المرجعيات العقدية والسياسية، وعامل انشطار المجتمع.
•… أنها العائق الكبير أمام توحد الأمة الإسلامية، وتعاون المسلمين وتضامنهم فيما بينهم.
•… أن همها الأساس هو الصراع على الحدود المصطنعة، والالتجاء في نهاية المطاف إلى العدو الصليبي لحل/عرقلة مشكلتها.
- إقامة الملحقات الثقافية:
التابعة للعدو كالمركز الثقافي البريطاني والفرنسي...، التي تنشر ثقافته، فهي بمثابة قاعدته الخلفية ومكتب للتنسيق بينه وبين العملاء والمرتزقة...
- زرع الحركات الانفصالية:
التابعة مباشرة للعدو الصليبي، والتي يتم دعمها بكل الأشكال لتكون ذريعته من أجل التدخل في البلد وتقسيمه، ويعتبر جنوب السودان مثالا حيا.
- زرع الكيان الصهيوني:
في قلب الأمة الإسلامية عبر وعد بلفور الذي جاء بعد المرحلة التمهيدية لاتفاقية "سايكس بيكو"، ليكون قاعدة للمشروع الصليبي التوسعي.
إن الكيان الصهيوني اتبع نفس سياسة العدو الصليبي عند احتلاله لفلسطين حتى في اللقب الديني، حيث كان الصليبيون يسمون أنفسهم ب"فرسان المسيح" و"الشعب المقدس"، والصهاينة ب"شعب الله المختار"، أي امتداد طبيعي له وإن اختلفت الأسماء/صليبي أو صهيوني، فهو ارتكز في مشروعه على أساسين:
- اغتصاب الأرض بالقوة.
- القضاء على أصحابها، سواء بالتقتيل أو التهجير...
ونفس السياسة مارسها العدو الصليبي في حملاته التاريخية ضد المسلمين، وتعتبر فلسطين والأندلس شاهدا حيا على جرائمه، وكذلك إبادة أمريكا لأصحاب الأرض الأصليين/الهنود الحمر، فضلا عن أن صاحب الفكرة هو نابليون، لأنه أول من دعى إلى قيام دولة صهيونية، وكان ذلك في أبريل 1799، والذي فشل بعد هزيمته في معارك عكا وأبي قير، وهذا يعني أن التعاون الصليبي- الصهيوني كان قبل ميلاد الحركة الصهيونية.
- تحريك الأقليات الدينية والعرقية:(66/39)
واتخاذها كوسائل ناجعة للتدخل في شؤون الدولة، والضغط عليها من أجل الانصياع التام لمخططاته، بل أصبح المسلم مواطن من الدرجة الأخيرة، أي بعد النصارى والعلمانيين والعملاء والمرتزقة...، كما لا يتمتع بأية حقوق، والسؤال هو: ماذا ينتظر؟.
ب - هيئة الأمم المتحدة:
المؤسسة الدولية لحل النزاعات، لكن الملفت للانتباه هو سيطرة الصليبيين المطلقة عليها، بحيث نجدهم ممثلين بأربع مقاعد دائمة في المجلس (أمريكا، فرنسا، بريطانيا، روسيا) ما عدا الصين، كما يتمتعون بحق "الفيتو"، مع العلم أنه رغم العدد الضخم لسكان العالم الإسلامي الذي يفوق المليار فإنه غير ممثل.
ج - الغزو الفكري المنظم:
التجأ العدو الصليبي لهذا السلاح لاستدامة حالة الاستعمار، واستكمال المشروع الصليبي، لأنه أدرك من خلال تجربته التاريخية مع المسلمين، أنه لا يمكن القضاء عليهم بأسلوب المواجهة والقتال مادام كتاب الله بين أيديهم، لأنه يحرضهم على البراءة من الكفار وجهادهم، وسبب هزيمتهم عندما كان يحكم.
وقد أخذ هذا الأسلوب أشكالا مختلفة من بينها:
- التوطين لمعتقدات وأفكار الغرب الصليبي كمنظومة الديمقراطية والمجتمع المدني...، ليصبح المسلمون مجرد هوامش وذيول للمتن الغربي.
- تشويه صورة الإسلام ورموزه بطريقة مباشرة وغير مباشرة.
- زرع العملاء/العلمانيين التابعين للغرب الصليبي وحمايتهم، بل والضغط على الحكام من أجل تكريمهم.
- التحريش بين المسلمين والتفريق بينهم على أساس "الإرهاب/الاستقامة" و"الاعتدال/الميوعة".
د - الأعمال التنصيرية:
القيام بالأعمال التبشيرية/التنصيرية في البلاد العربية والإسلامية مستغلة بذلك الفقر والجهل والمرض والحروب والكوارث لتحقيق عدة أهداف، من بينها:
- تنصير ما يمكن تنصيره، وإن تعذر الأمر إخراجه على الأقل من دينه.
- التجسس على العالم الإسلامي، وتقديم تقارير دورية للغرب الصليبي.
- ربط المسيحية/الصليبية (لأن المسيح عليه السلام بريء من أعمالهم الإجرامية) بالرحمة والإنسانية، من خلال إرسال إغاثات رمزية ومساعدات تافهة، والتغطية في نفس الوقت على الإجرام الصليبي في كل من فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان والفليبين والبلقان...، ويبقى مقتل أكثر من نصف مليون طفل في العراق أكبر شاهد على ذلك؟ ونفس الأمر بالنسبة لكل من فلسطين والشيشان وأفغانستان...
أما فيما يخص استراتيجيتها فتعتمد على مرحلتين:
الأولى- الحصول على شرعية الوجود:
تقوم بأعمال إغاثية وخيرية صرفة دون الإعلان عن نواياها الحقيقية، وبمؤسسات قليلة كي لا تطرح الشكوك، حتى تثبت أقدامها وتكتسب شرعية وجودها.
الثانية - الزيادة في عدد المؤسسات التنصيرية وتجنيد/هيكلة المستهدفين:
القيام علنيا بالأعمال التنصيرية من خلال الرفع من عدد المؤسسات التنصيرية العاملة، وتجنيد الفقراء واليتامى...
ولقد طبقت هذه الإستراتيجية في عدة مناطق من بلادنا الإسلامية، وتعتبر "البوسنة والهرسك" - التي تمثل نقطة تماس مباشر بين العالمين الإسلامي والغربي- نموذجا واضحا، حيث استهدفت المؤسسات التنصيرية "يتامى البوسنة"، وعلى سبيل المثال تقوم مؤسستاDon Sindikata وik r e بتنظيم رحلات لليتامى سنويا إلى إيطاليا وإسبانيا... في أواخر ديسمبر، حيث احتفالات رأس السنة الميلادية ومدتها 20يوما، والثانية ما بين يوليو وأغسطس ومدتها 40يوما، وتكون داخل عائلات نصرانية متدينة، فضلا عن الذهاب إلى الكنائس .
وهذا ما أدركه المجاهدون الذين يحملون هموم أمتهم، ويسعون بجد لتحريرها عبر كل الوسائل الشرعية والممكنة، مما دفع بالمجاهد اليمني مؤخرا إلى اغتيال ثلاثة مبشرين أطباء، كانوا يستغلون جهل الناس وفقرهم من أجل تنصيرهم أو إخراجهم من دينهم، مما يعبر عن وعي عميق بخلفية المنصرين وطبيعة أهدافهم، وحقيقة الأعمال التنصيرية، عكس ما يروج بعض الجهلة أو العملاء من كون هؤلاء الأطباء كانوا يقومون بأعمال إنسانية في قرى نائية.
هـ - العولمة:
التي تعني في جوهرها الترجمة الحقيقية لتوجه استراتيجي عام لسياسة العدو الصليبي/الأمريكي، لتدجين ما يمكن تدجينه، وضرب من يجب ضربه، لفتح الطريق وتأمينه للمشروع الصليبي، وتتخذ الأدوات السياسية والاقتصادية والأمنية... لتحقيق ذلك.
سادسا - شواهد حية من الواقع:
ونعني بها مجموعة من الأمثلة الدالة على حقيقة الحركة الصليبية الجديدة، وطبيعة أهدافها وسياستها، وموقفها الصريح من الإسلام، والتي منها:
- إعلان بوش بعد الغزوة المباركة/11 سبتمبر بأنه سيقود حملة صليبية ضد المسلمين، تقوم بعمل شبيه بمحاكم التفتيش لاعتقال أو قتل أي شخص تحوم حوله الشبهة، وتنصير الباقين سواء بالارتداد إلى النصرانية أو تبني "الإسلام الأمريكي" على حد قول الشهيد الحي سيد قطب رحمه الله، وهذا ما يتم تطبيقه حاليا في البلاد العربية والإسلامية من طرف أولياء الصليبي بوش من حكام/عملاء والطفيليات العلمانية وبعض اللقطاء الصليبيين... وآخرون محسوبون على التيار الإسلامي...(66/40)
أما اعتذاره الغبي/نفاقه فيكذبه إجرامه المتجلي في إغلاق المساجد والمدارس الإسلامية، والخوف والرعب الذي يزرعه عند الأبرياء، والاعتقال والاغتيال الذي يتعرض له المسلمون في العالم، والسطو/سرقة على المؤسسات الاقتصادية...
إن الحكومة الأمريكية الصليبية تهدف في نهاية المطاف إلى تدمير المسلمين، وشل قدرتهم ومحاصرتهم بالنشاط الكنسي.
- احتضان ولاية كولورادو الأمريكية في أواخر السبعينات من القرن الماضي أكبر مؤتمر كنسي عالمي، الذي خرج بخطة علنية تستوجب تنصير العالم الإسلامي، والقضاء على الإسلام، وشكل في نفس الوقت دافعا جديدا وقويا، ساهم في الرفع من وتيرة النشاط التبشيري/الصليبي، حيث عرفت البعثات التنصيرية الأمريكية نموا ملحوظا في أنشطتها.
- انفصال تيمور الشرقية عن الأرخبيل الأندونيسي، والذي كان نتيجة للضغط الغربي الصليبي على إندونيسيا، وأيضا التحريض المستمر للنصارى، فضلا عن المساعدة العسكرية والاقتصادية والسياسية التي عجلت بفصل هذا الجزء/تيمور الشرقية عن انتمائه العرقي والجغرافي، ونفس الأمر يطبق حاليا مع السودان، وأما حملتهم فلقد امتدت لتشمل البوسنة والهرسك والشيشان وكوسوفا وأفغانستان والفلبين...
- قرار الكونجرس الصليبي بضم القدس، واعتبارها عاصمة آل صهيون، فضلا عن مساعدة اللقيط الصهيوني ضد إخواننا المسلمين في فلسطين الجريحة.
- وصف القس جيمي سوجارت في شهر نوفمبر الماضي رسولنا العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام ب"الضال"، وطالب بطرد جميع طلاب الجامعات المسلمين الأجانب من أمريكا، ورحم الله الشيخ الداعية الجليل "أحمد ديدات" الذي لا طالما كشفه وفضحه في عقر داره وأمام أتباعه، وكذلك وصف بات روبتسون المسلمين بأنهم أسوأ من النازيين، والرسولل ( مجرد متطرف ذي عيون متوحشة تتحرك عبثا من الجنون.
- وصف القس الأمريكي البارز جيري فالويل راعي الكنيسة المعمدانية الجنوبية في أمريكا الرسول ( بـ "الإرهابي"، الذي يعتبر "كلينتون" من أتباعه.
- تهجم القس فرانكلين جراهام المستشار الروحي لبوش على الإسلام، ووصفه بالديانة القبيحة والسيئة.
- فصل التلميذات المحجبات في فرنسا من الدراسة.
- انحياز القوات الفرنسية إلى جانب النصارى في ساحل العاج إلى حد الاشتباك مع المعارضة في كوت ديفوار، لإيقاف تقدمها نحو المواقع الخاضعة للقوات الحكومية، لأن بعض حركات المعارضة يسيطر عليها المسلمون، كما تعرض بعضهم للمذابح على أيدي النصارى.
- اضطرار 15 إسلاميا من البوسنة (متزوجين ولهم أبناء) مؤخرا إلى اتخاذ قرار الرحيل عن قرية قريبة من مدينة بريتشكو بالشمال البوسني، بعد مضايقات تعرضوا لها من قبل القوات الدولية/الصليبية.
- إن أمريكا وإيطاليا هما الدولتان الأكثر بخلا في العالم فيما يتعلق بتقديم المساعدات من أجل محاربة المجاعة والفقر، لأنه حسب المعطيات المسجلة سنة 2000 فإن النسبة المائوية في الناتج الخام الإيطالي المخصصة للدول في طور النمو والمؤسسات الدولية لا تتجاوز 0,13، وأسوأ من إيطاليا لا نجد في الرتبة الأخيرة سوى أمريكا، التي لا تتجاوز مساعدتها 0,10 في المائة.
- بخصوص إفريقيا التي تعتبر منطقة استراتيجية وحيوية للمشروع الصليبي، حيث يعمل العدو الصليبي بكل ما يملك لتحوليها إلى ملحقة تابعة له، فتح بابا الفاتيكان حملته الصليبية في فبراير 1993 إثر زيارته الرسمية للسودان، التي تم التمهيد لها من خلال التهديد الأمريكي بإدراج السودان في قائمة الدول التي ترعى الإرهاب، بعد تقرير وزير الخارجية للشؤون الإفريقية "هيرمان كوهين".
لكن رغم الاستقبال الحار والتكريم المبالغ فيه فضلا عن المديح الذي تعرض له البابا، فإنه صرح في خطابه بكل قوة ووضوح عن طبيعة مهمته، ودوره المحوري في المشروع الصليبي بقوله: "إن رياح التغيير تهب على إفريقيا وتتطلب احترام حقوق الإنسان، لقد كانت لي رغبة ملحة للمجيء إلى السودان، وبصفتي خليفة القديس بطرس الذي جعله المسيح رأسا على كنيسته، فمن اللازم علي أن أشجع وأثبت الإيمان في إخوتي وأخواتي أينما كانوا، ولا سيما عندما يقتضي الإيمان شجاعة كبيرة وقوة للصمود، وعندما يكون الشعب ضعيفا وفقيرا ولا حاميا له يجب أن أرفع صوتي لأتكلم باسمه".
- ما يقع لإخواننا في "غوانتانامو" يعبر بشكل فاضح عن الوجه الإجرامي للعدو الصليبي، ويقدم لنا صورة واضحة عن طبيعة "المشروع الصليبي"، بل ويكفي وحده لتحريض المسلمين في كل أنحاء العالم، وتوحيدهم ضد العدو الصليبي، واتخاذ كافة الوسائل لتحريرهم، لأن ذلك من صميم التوحيد الذي نتشدق به، ويكفي مثال "أبو بكر ( مع بلال ( " حجة علينا، حيث قدم ثمنا باهظا مقابل تحريره، ومن يدري فاليوم هم وقد نكون نحن غدا، نسأل الله عز وجل أن يفك أسرهم بما شاء وكيفما شاء، وأن يدمر الأعداء وينصر المسلمين إنه سميع مجيب.
سابعا - بداية الوعي والرهان الصليبي:(66/41)
لقد ساهمت الحرب الشرسة التي يشنها العدو الصليبي بزعامة أمريكا على الأمة الإسلامية في إيقاظ وعيها بحقيقة الحرب الدائرة، وأبعادها العقدية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، أي أنها حرب حضارية تستهدف الأرض والإنسان، والقضاء على كل مسلم، ونهب خيرات البلاد الإسلامية، مما جعلها تستشعر جدية الخطر، ووحدة القضايا المصيرية وأيضا وجودها.
هذا الإحساس بالخطر المشترك دفعها إلى البحث عن هويتها الإسلامية التي افتقدتها منذ زمن بعيد، وإحياء لمجموعة من المفردات الإسلامية الغائبة عن واقعنا (التوحيد، الولاء والبراء، الجهاد...)، وكذلك إزالة حاجز الخوف الوهمي (لأن الله هو الرزاق والضار والنافع...) الذي كان مسيطرا عليه، وخرافة الدولة العظمى التي أسقطها المجاهدون بغزوتي نيويورك وواشنطن، والإدراك الجيد لضرورة المرحلة وأولويات العمل.
لكن يجب على العلماء والمفكرين والسياسيين أن يرابطوا على الجبهة العقدية والفكرية والنفسية، وأن يسعوا بكل ما في وسعهم لتحصين الأمة من خطرين راهن عليهما العدو الصليبي في الماضي القريب (الحرب الخليج الثانية، فلسطين...)، ويراهن عليهما الآن في حربه للمسلمين، وهما:
- أنه يراهن على نسيان الأمة السريع/ذاكرتها الضعيفة، وقلة صبرها وتحملها للمعارك والأعمال التي تتطلب نفسا طويلا، أي عدم قدرتها على مواصلة المعركة على المدى المتوسط والبعيد، كما وقع لها في الحرب الصليبية على العراق، وأيضا ما يقع في فلسطين والشيشان وأفغانستان...، وذلك لأنها عاطفية تتحمس وتنطفئ بسرعة، وتفتقد للقناعة العقائدية والسياسية.
- كما يراهن على المفاهيم العلمانية/المعتقدات الجديدة (حرية التدين، الحوار، التسامح، السلام...)، التي يتم توظيفها من أجل هدف استراتيجي يسمح له باختراق البلدان الإسلامية، وتدجين المسلمين، وتمزيق المجتمع، وتشتيت قوته، وتأمين مصالحه وتواجده...
إن هذا السلاح طبق مع الخلافة العثمانية، بل كان أداة فاعلة في الضغط عليها من أجل الخضوع لمصالحه، ويطبق الآن في البلاد الإسلامية تحت عناوين مختلفة (الديمقراطية، حقوق الإنسان، حقوق الأقليات...)، والمؤسف أن بعض المسلمين انطلت عليهم الخدعة، واستسلموا لها حتى لا ينعتوا بالتطرف والإرهاب.
ثامنا - مصر والقاعدة الخلفية لتحرير القدس/فلسطين:
إن مصر كانت تاريخيا بمثابة القاعدة الخلفية بالنسبة للمسلمين وأيضا للصليبيين، ومؤشر قوي على ميزان القوى والاتجاه المستقبلي للصراع، مما جعل العدو الصليبي يستهدفها دائما في حملاته وأيضا المسلمين.
وعليه، فإنها تعتبر منطقة استراتيجية ومركزية في نصرة/تحرير قضايا الأمة عموما وفلسطين بشكل خاص، أي كل من يسيطر عليها يكون قريبا من استكمال حلقات مشروعه.
انطلاقا من هذه الحقيقة التاريخية، والوعي أيضا بموقعها الإقليمي والعالمي، قام العدو الصليبي/الأمريكي بتحييدها في البداية من معادلة الصراع عبر اتفاقية "كامب ديفيد" مع بنته المذللة/آل صهيون، والمساعدات/الرشاوى، ليتم في نهاية المطاف توظيفها لحساب الهيمنة الصليبية والصهيونية كما هو حاصل الآن.
كما يدخل في هذا الإطار احتضانها مؤخرا لحماس والسلطة وباقي الفصائل، وإشرافها المباشر على الحوار من خلال مدير مخابراتها (عمر سليمان)، مما يطرح أكثر من استفهام حول مدى إدراك حماس لخطورة ما يدور حولها، إذ كيف يجتمع رجل سياسي من حماس مع رئيس المخابرات؟
إن النظام المصري والسلطة الفلسطينية منسجمان مع خطهما السياسي، أما حماس والجهاد فلا ندري ماذا وقع لهما.
لذا، فإننا نحذر حماس والجهاد من عاقبة مثل تلك اللقاءات/الفخاخ المشبوهة، التي لن تخدم القضية الفلسطينية بأي من الأحوال، حيث لن تجدي الكلمات الرنانة والتصريحات العنترية التي نسمعها في الفضائيات.
ولإحكام قبضته على مصر طرحت مسألة الأقباط كورقة سياسية ناجحة في الضغط والترويض والتطويع، والتي اتخذت شكلين:
أ - أقباط المهجر:
الذين يعبرون بشكل واضح عن طبيعة مواقفهم وحقيقة أهدافهم، وخلفية العدو من تحريك ملفهم، من خلال جريدة صوت الأقباط التي تقول:" إنه علينا أن نعمل بكل جهدنا وطاقتنا وأموالنا وذكائنا، وأن نطرد الشر ونقاوم كل سهامه الشريرة، وأن نستأصل الاستعمار الإسلامي من جذوره في مصر"
ب - أقباط الداخل:
الذين يمهدون عمليا وبشكل تدريجي للمشروع الصليبي، ويمكن ملامسة ذلك في الحقائق التالية:
- تعيين قبطي "يوسف بطرس غالي" لأول مرة في وزارة الاقتصاد التي تعتبر من وزارات السيادة.
- تدشين أول قناة فضائية قبطية تسمى "سيفن سات"، أي امتلاك لأدوات الإعلام.
- تعديل مناهج التعليم عن طريق مركز ابن خلدون "التجسسي"، لتمكين المصري من معرفة تاريخ الأقباط المجهول، وهذا طبعا تحت عنوان: "نحو حساسية أكبر لهموم الأقباط".
- رد الأوقاف القبطية وتفويض أمرها لهم.
- أصبح القبطي مواطن رقم واحد في البلد الإسلامي مثل الصهيوني، يتمتع بامتيازات خاصة، حيث أصبحت الدولة العميلة تملك حساسية خاصة اتجاهه مخافة الغضب/الرشاوى الأمريكي.
تاسعا - تحرير الجزيرة العربية مقدمة ضرورية لتحرير الأمة:(66/42)
إن الجزيرة العربية تعتبر بمثابة العاصمة الدينية والروحية والعلمية للمسلمين، ورمز وحدتهم أيضا، حيث شهدت ميلاد رسولنا العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام، وإقامة الدولة الإسلامية تحت قيادته، والمكان الذي انطلق منه نور الإسلام ورحمته، وكذلك استقبالها لملايين الحجاج من كل بقاع الأرض في مؤتمرها السنوي/الحج، والعمرة في رمضان الكريم، فضلا عن تواجد خيرة العلماء، وامتلاكها لسلاح النفط...
نظرا لمكانتها الدينية وموقعها الاستراتيجي في المشروع الإسلامي، فلقد أدرك العدو الصليبي من خلال التاريخ (الحروب الصليبية) والواقع (صراعه مع المجاهدين) ارتباط الإسلام /دينا والجزيرة العربية/مكانا والمسلمين/عالميا، مما جعله يستهدفها في مشروعه الصليبي الجديد كما صرح بذلك: "لن يتوقف جهودنا وسعينا في تنصير المسلمين حتى يرتفع الصليب في سماء مكة، ويقام قداس الأحد في المدينة".
ولإحكام السيطرة عليها تم التركيز في عملهم الصليبي على اليمن (جنوب الجزيرة) باعتباره البوابة الرئيسية المطلة على المحيط الهندي، حيث اجتمعت فيه كل المصالح الدينية والسياسية والاقتصادية، والعمق الاجتماعي والاستراتيجي لها.
إزاء هذا الهدف، اتبع العدو الصليبي الإستراتيجية التالية في اليمن:
أ - التنصير:
وذلك باستغلال ثالوث "الجهل والفقر والمرض"، والمؤسف أن بعض الجهات النافذة تساعده في ذلك.
ب - الحرب:
وذلك باغتيال المجاهدين، والمؤسف أن النظام الرسمي متحالف معهم، وكذلك الصمت المطبق لبعض الحركات السياسية...
ج - الحوار:
أو الخداع الاستراتيجي والسلاح التمويهي للحركة الصليبية، وذلك بعقد المؤتمرات والندوات تدعو إلى حوار الأديان والتقارب، والتنديد بالإرهاب/الإسلام، لكن المؤسف نجد المؤسسات الدينية الرسمية متعاونة معهم، بل وصلت بهم الوقاحة إلى تقديم الإسلام كقربان للعدو الصليبي، من خلال تطويع المسلمين وتدجينهم لفتح المجال أوسع للزحف الصليبي.
وعليه، فإن ما قام به المجاهد اليمني باغتياله للأطباء الأمريكيين، يعتبر دفاعا شرعيا وسياسيا عن اليمن والجزيرة العربية، وينم عن وعي شرعي وسياسي واستراتيجي عميق، والذي يستوجب التكريم والتشجيع، وليس الإدانة والشجب كما فعل المرتزقة والعملاء وبعض الجهلة والسذج.
عاشرا - الحركة الجهادية وأمل الأمة في التحرير:
ما أشبه اليوم بالبارحة وكأن التاريخ يعيد نفسه، حيث نفس الأوضاع العسكرية والسياسية التي عاشها أجدادنا في الحروب الصليبية، من عجز الحكام (مع اختلاف في التوصيف الشرعي)، وتعدد الكيانات الصغيرة/الدولة القطرية، واختلاف المصالح والولاءات (وصلت إلى حد تشابه موقف الدولة الفاطمية "الشيعية" بموقف الدولة الإيرانية "الشيعية"، فالأولى حاولت الاتفاق مع عدو الأمس ضد المسلمين "السنة" من أجل اقتسام الأرض والنفوذ، والثانية/إيران تحالفت مع عدو اليوم/بوش ضد حركة طالبان "السنية"، وهذا ما تقوم به الآن ضد العراق من أجل مصالحها)، وكذلك استياء الناس من الحكام وبغضهم الشديد للعدو الصليبي، وبداية نهوض بعض العلماء بواجب التحريض والتعبئة، ومبادرة الحركات الجهادية...
إن الحركات الجهادية هي الامتداد الشرعي والسياسي للجيش الإسلامي الغائب، الذي يعتبر من أوجب الواجبات لأن الأمة تؤثم إن لم تقم بإفرازه، وأن مهمته هي الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن دين الأمة وكرامتها، وحمايتها من أي خطر قد تتعرض له في مشارق الأرض ومغاربها، وليس كما تفعل الجيوش النظامية التي تحمي العدو وتقمع الأمة، وأن القيادات الجهادية هي البديل الصحيح للحكام/المرتزقة، وأن العلماء الصادقين هم أهل الحل والعقد "المفتقد"، وأن الأمة هي الجيش الاحتياطي الذي يجب تجنيد كل القادرين فيها، والجهاد هو الإستراتيجية الصحيحة التي تنسجم مع المرحلة التي نعيشها، وأن عنوان المعركة/البرنامج المرحلي مواجهة الصليبيين وتحرير الأمة...، وهذا ليس عملا مبتدعا، بل ما يجب القيام به بدل التفرج والتباكي والتسول، أو الجدال الفارغ الذي يضر ويصب في مصلحة العدو.
وعليه، يجب إعادة صياغة بنية الأمة عقديا ونفسيا وفكريا وسياسيا واقتصاديا، على أساس أن الحرب من حقائق الحياة في هذا العصر وفي كل عصر، وإيجاد نظام إسلامي عالمي قادر على تعبئة الأمة وتجنيدها، والاستعداد الدائم للقتال والضرب بأيادي من حديد، ووضع كل الإمكانيات المادية والمعنوية من أجل الحركة الجهادية.
إن العدو يحاول أن يملأ الفراغ السياسي والعسكري خشية الحركة الجهادية، التي تنافسه وتشكل خطرا حقيقيا عليه، لأنها أكثر حيوية وأشد تصميما على مواجهة العدو الصليبي وتدميره بإذن الله تعالى، لذا فهو يسابق الزمن سواء في العراق أو أفغانستان...، كما فعل في الماضي القريب بالنسبة لفلسطين عندما كانت المؤشرات توحي بأن المنطقة مقبلة على فراغ سياسي وعسكري.(66/43)
وفي هذا الإطار يعتبر الإمام ابن لادن القائد العام والشرعي للمجاهدين خاصة والمسلمين عموما، شأنه شأن القائد عماد الدين زنكي والإمام صلاح الدين الأيوبي، لأنه وضع كل ما يملك في سبيل جهاد الصليبيين وتحرير أراضي المسلمين، بل وكان سابقا في الوعي بالحركة الصليبية عكس الغوغائيين، ويملك أيضا استشرافا مستقبليا، فضلا عن تجاوزه للحكام/المرتزقة الجبناء الذين باعوا الدين والأرض، والحركة الجهادية هي الممثل الحقيقي للأمة كما كانت زمن الحروب الصليبية الأولى، لأنها تعبر عن نبضه وهمومه والشعارات التي ترفع في المسيرات خير دليل، وكذلك حديث الناس فيما بينهم بخصوص الأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية، التي يستوجب دعمها والوقوف بجانبها ونصرتها بكل الوسائل، إنها معركة التوحيد والتحرير والكرامة والولاء والبراء، وكل من تخاذل سيدفع الثمن غاليا في الدنيا والآخرة، بل إنه يدفعه كل يوم تأخر فيه عن الالتحاق بالمسيرة الجهادية التحريرية.
وعليه، يعتبر المجاهدون في كل من الشيشان وفلسطين وأفغانستان والفلبين والجزائر واليمن وكشمير والبوسنة... النواة الصلبة للجيش الإسلامي القادم بإذن الله تعالى، الذي يستوجب على الأمة بأسرها الالتفاف حوله ومده بكل ما يحتاجه، أي أن تضع كل إمكانياتها المادية والبشرية رهن إشارته، لأنه ملك للأمة وللمشروع الإسلامي التحرري، وأن يقوم العلماء الصادقون بدورهم التحريضي والتربوي، وتفعيل المفاهيم الإسلامية (التوحيد، الولاء والبراء، والجهاد...) التي تحصن الأمة من التدجين والتطويع، وتحررها من العجز والضعف، وتدفعها لتتفاعل بكل قواها الكامنة، وتوحيدها لتكون أكثر فاعلية وحضور في خضم الأحداث/الصراع الجارية، لأنهم ورثة الأنبياء، وممثلو هذا الدين في الواقع، وفي المقابل شن الحرب على كل من يحاول التآمر على المجاهدين.
كما يجب على الوعاظ في عيد المسلمين/الجمعة أن يتناولوا قضايا الساعة، واحتياجات البلاد، ويتحدثوا عن مخططات الأعداء بأبعادها العقدية والسياسية والاجتماعية والحضارية، وأن يفضحوا الخونة والمرتزقة لأن خيانتهم عقدية وسياسية وحضارية، ويربطوا الأمة بالمجاهدين الأحرار.
إحدى عشر - الخاتمة:
حاولنا في هذا المقال أن نسلط بعض الأضواء على الحركة الصليبية في الماضي والحاضر، على أمل أن يكون ذلك حافزا للأمة، لكي تعود إلى دينها وتاريخها، وتتحرر من غسيل الدماغ والوجدان الذي تعرضت له من طرف العدو، فتتعرف على ممثليها الحقيقيين وأيضا على أعدائها، لتقرر في النهاية مواصلة المسيرة التي بدأها أجدادها، لتكون بحق امتدادا صحيحا لحركة الأنبياء وعلى رأسهم رسولنا العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام.
ولتتعرف على الأسباب التي شجعت العدو على غزونا، وكيف تمت مواجهته وهزيمته، فضلا عن عدائه العقدي لنا، وطبيعة مشروعه الاستيطاني.
إن الأمة تمر من منعطف تاريخي خطير، فهي وكما يعلم الجميع مستهدفة في دينها وعرضها وأرضها، ودلائل ذلك نعيشها في كل البلاد العربية والإسلامية، لذا فعليها أن تختار مصيرها، إما أن تنهض وتجاهد العدو وتنال إحدى الحسنيين "النصر أو الشهادة"، فتغسل العار الذي أصابها، وتكتب تاريخها من جديد كما فعل المجاهدون الأولون، فيكون مصدر عز وكرامة لأبنائنا، أو تتجرع الذل والاستعباد والخضوع للعدو الصليبي، فتضيف صفحة سوداء في تاريخها، تجعل أبنائنا وأحفادنا يدفعون ثمنا مضاعفا كما يقع لنا الآن بسبب تقاعس أجدادنا، فنكون مصدر خجل وحياء لهم، فلا نستحق ترحمهم علينا.
وبالمناسبة ندعو كل المخلصين الذين يتواجدون ضمن الأنظمة العربية العميلة سواء في مصر أو السعودية أو سوريا واليمن...، أن يساعدوا المجاهدين بكل ما يستطيعون، وأن يوظفوا مواقعهم (السياسية والاجتماعية والأمنية والعسكرية...) في خدمة قضايا الأمة، وذلك بمساعدة المجاهدين ونصرتهم، لأن تبرير تقاعسهم غير مقبول في هذه المرحلة العصيبة التي تمر منها الأمة.•
=================(66/44)
(66/45)
وقفات تربوية مع الحرب الصليبية الجديدة
أبو سعد العاملي
الحمد لله رب العالمين الذي جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس وشاهدة على باقي الأمم، وجعل فيها من يحمل راية الحق إلى يوم الدين، رغم كيد الكائدين، القائل {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}(البقرة: 217)، والصلاة والسلام على رسوله الأمي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقد كتب الله على هذه الأمة أن تكون شاهدة على الأمم وخاتمة للرسالات السماوية، ومن تبعات هذه المهمة العظمى أن تلقى العنت والتكذيب بل وتواجه بالكيد والمكر والمحاربة من قبل أعدائها، وفي مقدمتهم رأس الحربة "التحالف الصليبي اليهودي"، {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}(المائدة: 82).
ولقد عرفت هذه الأمة هجمات عديدة من قبل هؤلاء الأعداء، على مر العصور، أو مِنْ قِبَلِ مَن ألَّبه هؤلاء، فكانت الحرب بيننا وبينهم سجال، يوم لنا ويوم علينا، تكونت من حلقات وجولات عديدة، ما زالت رحاها تدور إلى اليوم، وقد استطاعت هذه الأمة أن تقاوم هذه المكائد كلها وتواصل سيرها في أداء رسالتها وترفع الحصار المضروب عليها لخنقها وتكبيلها عن أداء هذه الأمانة الكبرى، أمانة الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أجل هذا فقط تكالبت أحزاب الكفر والنفاق وتحالفت لضرب كيان هذه الأمة وزعزعة صرحها، {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[البروج: 8].
أولاً: معالم هذه الحرب الصليبية
1 - شاملة في شكلها
حيث أنها تشمل جميع المجالات بدون استثناء، ففي المجال السياسي، نصَّب الأعداء عملاءهم من الحكام المرتدين على مناصب الحكم في بلداننا، وذلك غداة انتهاء مدة احتلالهم لكل البلاد الإسلامية، فأرادوا أن يضمنوا استمرارية هذا الاحتلال بأقل الخسائر الممكنة، ولكونهم أدركوا أهمية الحكم ومدى تأثيره على باقي الميادين الحيوية. ولا زالوا يقفون إلى جانب هذه الأنظمة بالتأييد والتوجيه في كل حين.
أما اقتصادياً فلا يخفى على كل عاقل الحضور الكبير والواسع لمؤسسات العدو الاقتصادية في بلداننا، ومدى تأثيرها على مجريات اقتصادنا، خاصة وأنهم قد وجدوا أنظمة سياسية تفتح لهم الأبواب على مصراعيها وتسهل لهم كل الإجراءات القانونية للسيطرة على ثروات البلاد وخيراتها المادية والبشرية، هذا من الداخل، أما من الخارج فلا زالت صادرات العدو تستحوذ على أسواقنا وتلقى الرواج الكبير بالرغم من وجود بضائع محلية منافسة لها في الجودة والسعر، إلا أن الأنظمة الحاكمة تفرض قيوداً وشروطاً عديدة وتعجيزية على الشركات المحلية لتظل الشركات الصليبية واليهودية هي المسيطرة في الساحة، أحب من أحب وكره من كره.
أما ثقافياً فلا زلنا نرزح تحت الغزو الصليبي - يهودي، وذلك عبر تدفق القنوات الفضائية المتعددة، التي تلقى الرواج بين أبناء الأمة في السر والعلن، وما زالت برامجنا الدراسية والتربوية مستوحاة من هؤلاء الأعداء، فنشأت بذلك أجيال خنوعة فاقدة لتراثها ودينها وهويتها، تتخذ من هذا الغرب المثل الأعلى في كل شيء، بدءاً بطريقة اللباس وانتهاء بطريقة التفكير.
أما من الناحية العسكرية، فهناك ارتباط وثيق بالصليبيين وتبعية عمياء لمؤسساتهم العسكرية، حيث أن جيوشنا تبقى مكتوفة ومشلولة في خوض أي صراع حتى تحصل على الضوء الأخضر من الخبراء العسكريين الصليبيين أو اليهود، بل إن القرارات الحاسمة والمصيرية في حروبنا (ضد بعضنا البعض أو في تدخلات جيوشنا المكبلة في مواجهة الشعوب الغاضبة) تُتخذ وتُدبَّر بليل في غرف عمليات الأعداء، بالمزيد من القمع والاضطهاد لهذه الشعوب. كما أن أسلحتنا هي الأخرى تبقى سجينة في الثكنات، تكدّس لسنوات حتى يعتريها الصدأ، أو نحصل على فتاتهم وأحط الأنواع وأقلها كفاءة بأغلى الأسعار وأعلى التكاليف.
هذه هي بعض الميادين التي تظهر فيها سيطرة العدو علينا، وتبين بالتالي شمولية هذه الحرب الصليبية الجديدة.
2 - شرسة في مضمونها(66/46)
حينما تكون الأمة منصاعة للأعداء، مؤتمرة بأوامرهم ومنتهية عن نواهيهم، يكون هناك الرضا والود التامين من قبلهم {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(البقرة: 120)، ذلك ما كنا نلحظه في العقود السابقة، حيث كان يبدو لنا هذا العدو حميماً ووديعاً (شعوباً وحكومات)، وكان الكثير منا يعتبره قدوة ومثلاً أعلى في الأخلاق والتعامل، لكن وجهاً قبيحا وخبيثاً كان يتوارى وراء هذه الهالة المزيفة، وبمجرد أن بدأنا نعصي أوامره ونحاول أن نفكر بعقولنا ونحدد مصائرنا بأيدينا ونعود إلى ديننا، بدأ يظهر هذا الوجه الحقيقي، وبرزت مخالبه ليعيدنا إلى حظيرة عبوديته وتبعيته، نبقى دوماً في موقف المنتظر لرحمته وعفوه وكرمه، وحينما قررنا الكفر به وبقوانينه، وبدأنا العزم في الإعداد لمقاومته ومحاولة طرده من أراضينا ومحاولة استرجاع حقوقنا والدفاع عن ديننا، رأينا ردود فعله شرسة إلى أقصى حد، ولم يستطع أن يصبر على تضييع هذه المكاسب، فبادر إلى استعمال كل أساليب البطش والمكر والتنكيل المتوفرة لديه {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة: 8).
خاصة بعدما قامت إمارة الإسلام في أفغانستان، وتحدَّت معالم الكفر وتعاليمه، رأينا كيف ساهم الصليبيون واليهود في ضرب هذه الإمارة الفتية بكل قوة وهمجية، يقودهم فرعون العصر "أمريكا"، وكيف نكلوا بالمجاهدين وأنصارهم في عقر ديار هذه الإمارة وفي عقر ديار هؤلاء الأنصار، وبعدها سارعوا إلى ضرب حصار محكم ومتواصل على المجاهدين في كل مكان، ثم سجنوا من سقط في أيديهم بغير تهمة سوى الانتماء إلى معسكر الإيمان (الذي سموه بالإرهاب)، فلقي المؤمنون على أيدي هؤلاء الصليبيين وأحلافهم اليهود في فلسطين وفي كل بلاد الصليب أشد أنواع التعذيب والتنكيل، أمثال ما يلقاه المجاهدون في بلدانهم الأصلية على أيدي الأنظمة المرتدة. واختفت كل الشعارات الزائفة المتعلقة بما سمَّوه "بحقوق الإنسان"،كما خفتت أصوات كل المنظمات الحقوقية التي تدافع عن حقوق إنسانهم وغضت الطرف عما يعانيه مجاهدونا وأطفالنا ونسائنا وشيوخنا من تعذيب وتشريد وتقتيل وكأننا - في نظرهم - جراثيم ينبغي أن تزول من الوجود.
من يطّلع على حالة الحقد الدفين الذي يكنونه لنا، يدرك حقيقتهم، ويدرك بالتالي كم كنا مغبونين ومخدوعين في هؤلاء الكفار، {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ}.
ألم نر آلاف الأطنان من القنابل المحرمة (وفيها اليورانيوم المنضب) التي سقطت على بلاد الرافدين منذ عقد من الزمن - ولا تزال - ثم على الإمارة الإسلامية مؤخراً، ولا زالت الأرض والإنسان والنبات والحيوان يعانون من نتائج هذا القصف العشوائي المشين والبغيض؟!
ألم نر الدعم اللامحدود - سياسياً وعسكرياً واقتصادياً- الذي يقدمه هذا الغرب الصليبي الحاقد للكيان الصهيوني في فلسطين، ليدمّر كل ما له علاقة بالتواجد الإسلامي على هذه الأرض المباركة؟! ولا زالت هذه الجرائم تُرتكب هناك على مرأى ومسمع من العالم، بل وبمباركة من هذا العالم الصليبي البغيض {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً}.
3 - تجميع للأحزاب
من أهم سمات هذه الحرب أنها جمعت كل الأطراف المعادية للحق في جبهة واحدة، بالرغم من الاختلاف الظاهر بينهم في المناهج السياسية، إلا أنهم أبوا إلا أن يجمعوا كيدهم ويأتونا صفاً واحداً من كل حدب وصوب، ليرموننا عن قوس واحدة، وكأن التاريخ يعيد نفسه ليتكرر يوم الأحزاب بقيادة أمريكا، وقد استطاع المجاهدون بقيادة "تنظيم قاعدة الجهاد " أن يحفروا خنادق عديدة، ليحتموا من هجمات هذه الأحزاب، وسلموا من بطشهم وضرباتهم العشوائية، وهاهم اليوم يتواجدون في موقع المهاجم، وتنقلب الصورة، لنجد هذه الأحزاب في موقع المدافع، وفي موقع الخائف الوجل الذي يترقب الضربة في كل لحظة، ويترقب الموت في كل مكان.
إن الأحزاب قد اجتمعت على صعيد واحد، وتناست كل خلافاتها لتحاربنا كافة، وتحقق قول الله تعالى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: 36)، ولم يعد هناك ما يخفيه هؤلاء من إعلان العداء لنا وجمع للصفوف وتكاثف للجهود - سياسياً وعسكرياً -، وتحدوا كل أعرافهم وقوانينهم في احترام المواثيق والعهود مع المسلمين، وضحوا بالكثير من المصالح المادية الآنية مقابل القضاء على الخطر الإسلامي لكي يضمنوا المصالح الآجلة. لقد تحقق قول رسول الله (: "الكفر ملة واحدة"، فمهما تعددت ألوان هذا الكفر واختلفت وجهاته السياسية، فإنه في الأخير يبقى كياناً واحداً لونه الطاغي هو الكفر والباطل في مواجهة الإسلام والحق.
4 - خبيثة في أهدافها(66/47)
لم تعد أهداف هذا التحالف الصليبي اليهودي مجرد أهداف اقتصادية أو سياسية فحسب، هذا على الأقل ما كان يبدو لنا في العقود السابقة، وفيما عُرف بمرحلة الاحتلال لبلداننا الإسلامية، بل تعدّتها إلى أهداف أخرى خفية، بدأت تنجلي خلال هذه الحرب الأخيرة، موافقة لقول الله عز وجل {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة: 217)، وقوله سبحانه {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}(النساء: 89). وأكبر دليل على هذا هو مبادرتهم العاجلة وحرصهم المستميت على ضرب الإمارة الإسلامية وإبادة معالمها وأسسها وعزلها عن أنصارها، بالرغم من أن هذه الإمارة لم تبد أي نية في مهاجمتهم أو بدئهم بالحرب، وكانت جل أطوار هذه الحرب هجومية {ألا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (التوبة: 13).
فكما هو معلوم أن كل بلداننا محتلة - من إخمصها إلى قدميها - من قبل التحالف الصليبي اليهودي، وكل الأهداف المادية التي كانوا يحلمون بها قد نالوها وزيادة، ولكن لن يشبعوا ولن يوقفوا حملتهم الشرسة هذه إلا بتحقيق أكبر وأخبث الأهداف على الإطلاق {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}(البقرة 217).
ومن أجل تحقيق ذلك جندوا جيوشاً جرارة من العسكر والقساوسة والمثقفين، وأرسلوهم إلى بلداننا لتنخر فيها كما ينخر السوس في الخشب، تحت غطاءات ناعمة وخادعة، وكل هذا من أجل إخراج العباد من عبادة الله وحده إلى عبادة أوثانهم ومذاهبهم وأهوائهم.
5 - طويلة في أجلها
هي حرب طويلة في أجلها ومدتها {وَلاَ يَزَالوُنَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، وقد تعلمنا من تاريخ الصراع الدائر بيننا وبينهم أن أعداءنا لا يفترون عن قتالنا ومحاربة إطفاء نور الله في الأرض {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف: 8)، خاصة وأن طبيعة المعركة هي معركة وجود بين الحق والباطل، إذ لا يمكن أن يتعايشا جنباً إلى جنب.
كما أن لهذه الحرب حلقات متعددة، قد تهدأ لبعض الوقت لكنها لا تنقضي حتى يتم القضاء على الطرف المقابل بصفة نهائية. وبين هذه الحلقات فترات ترصُّد وإعداد لا تقل أهمية وحماسة من فترة الحرب نفسها. والعدو شأنه شأن إبليس، لا يفتر ولا يمل ولا ييئس في حربه لأصحاب الحق، وهو لا يخفي هذه النية ويعلنها صراحة ودون تلميح بأن الحرب ستكون طويلة الأمد حتى يتم القضاء نهائياً على الإرهاب وجذوره وروافده.
ونحن نعتقد أنه لن يغير من هذه الاستراتيجية قيد أنملة، حيث يحس بالخطر يداهمه من كل جانب وفي كل لحظة، ويعمل بالقاعدة المعروفة: "خير وسيلة للدفاع الهجوم"، ولكننا على يقين بأنه لن يستطيع فتح جبهات عديدة في نفس الوقت، ولن تكون لديه القدرة على تحمل تبعات هذه الحرب أطول مما يخطط ويحاول أن يوحي لنا.
ستكون حرباً طويلة الأمد على جميع الجبهات، ولا ينبغي التفكير في عكس هذا، حتى لا نتقاعس، بل يجب أن نعد للأمر عدته ونكون في مستوى الصراع، ولا ننخدع بشعارات العدو الزائفة، من قبيل التعايش أو ما يسمونه بحوار أو التقاء الحضارات.
6 - حرب كاشفة وفاضحة
قد يبدو للوهلة الأولى أن هذه الحرب شر مطلق لا خير فيها، وبأنها أضرار ولا نفع فيها، لكن الحقيقة غير ذلك، فكل أمر لابد أن تجد فيه الخير والشر {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216)، ومن أجل هذا فنحن مطالبون بالوقوف طويلاً وبكل تأنِّ ورويِّة أمام تأثيرات هذه الحرب، لنعرف كيف نحوِّل سلبياتها إلى إيجابيات ونتمكن بالتالي من كسب معاركها المتعددة بأقل الخسائر الممكنة وفي أقرب الآجال.
أولاً: أظهرت حقيقة العدو للأمة بعامة، وللعوام بخاصة، حيث كنا نرى نوعاً من التخدير لدى الكثير من أبناء الأمة اتجاه الصورة الحقيقية للعدو. سواء على مستوى الأخلاق والتعامل، حيث أنه كان قدوة للبعض في العديد من المجالات، وموضع احترام للبعض الآخر، ذلك أنه في السنوات الماضية، كان هناك نوع من التخفي والمداراة لدى العدو في حربه لنا، أما اليوم فقد كُشفت أوراقه وظهرت نواياه جلية لكل ذي عينين.(66/48)
ومن جانب آخر، كشفت لنا هذه الحرب العديد من الهفوات والثغرات في كيان هذا العدو، والكثير من الضعف الناتج عن المتناقضات المتواجدة في مؤسساته ومختلف شرائحه. وبأن هناك أماكن حساسة في كيانه لا يستطيع أن يحميها، وبنيات تحتية تبدو صلبة في الظاهر لكنها أوهن مما نتصور بكثير. ومهما ادعى هذا العدو عكس ذلك وحاول أن يواري سوءاته، فلن ينفعه ذلك في شيء، لأن شباب الأمة قد أفلحوا في إدراك حقيقته واطلعوا على مواطن ضعفه، وسلكوا طريق التحرر والجهاد، غير عابئين بهذا العدو، بل إنه يبدو لهم أوهن وأصغر وأضعف.
ثانياً: فضحت العدو الداخلي أمام الجميع، هذا العدو الذي يتمثل اليوم في هذه الأنظمة المرتدة التي تسلطت على رقاب العباد وسيطرت على خيرات البلاد، ومعها جيوشها من العسكر والمخابرات والمفكرين الخونة، وأعوانهم من أصحاب المصالح المادية، كلهم يقفون في صف الأعداء الصليبيين، ويعلنون عداءهم ومحاربتهم للفئات المجاهدة ولكل من ينصرهم في السر والعلن، ويتم هذا بطرق مباشرة، تحت غطاء محاربة الإرهاب والتطرف، وأحياناً بدون أي غطاء.
ثالثاً: كشفت فرقة النفاق، وأبرزت دورها الخبيث والخطير في دعم الأعداء، بصورة مباشرة وغير مباشرة، هذا الدور الذي تقوم به بعض التجمعات "الإسلامية" المشبوهة، وخاصة تلك التي تقف في مواجهة أصحاب الحق وتساند أصحاب الباطل، بحجة محاربة التطرف ومحاولة نشر الإسلام المسالم، وأقصد هنا - أساساً - رؤوس هذه التجمعات، وأستثني قواعدهم التي نأمل فيها الخير الكثير، فقد رأينا الكثير منهم يتعاطفون بل يتمنون أن يكونوا في صفوف المجاهدين وأن يساهموا بأموالهم وأوقاتهم وأيديهم في هذه الحرب الجديدة.
ويلي هؤلاء خطورة بعضُ علماء السلطان اللاهثين وراء فتات الأنظمة المرتدة من مناصب اجتماعية ملوثة أو سياسية ملغومة. ثم تأتي في الدرجة الأخيرة الفئات المتقاعسة التي لا تجيد سوى البكاء على الأطلال، وتقضي جل وقتها في الحنين إلى أمجاد الأمة بالأحلام والأماني، وتتمنى ظهور أو عودة صلاح الدين الجديد الذي سيخلص الأمة مما هي فيه من ذل وصغار واستعباد، ونحن نقول لهذه الفئات وننبهها إلى أن العيب والنقص فيها هي، فها هي جماعات الجهاد قائمة لمن أراد حقا الدفاع عن دينه وكرامة أمته، وها هو صلاح الدين العصر موجود بينها، إنه الإمام "أسامة بن لادن" - حفظه الله - بكل جدارة واستحقاق، فقد تجمعت فيه كل مواصفات القيادة والريادة، عسكرياً وسياسياً، فماذا ينتظر هؤلاء المتقاعسون يا ترى لكي ينضموا إلى قافلة الجهاد المباركة تحت إمرة هذا القائد الإمام الفذ؟!
كل هؤلاء المثبطين (حكاماً ورؤوس طوائف وأحزاب وعلماء سوء ومتقاعسين) أصبحوا اليوم في عزلة مشينة، وهاهي بضاعتهم قد كسدت حتى تعفنت. ولم يعد يثق فيهم أحد من أبناء الأمة، وصار هؤلاء الشباب يعتمدون - بعد الله تعالى - على العلماء العاملين بعلمهم، الصابرين المحتسبين، الذين يخشون الله وحده ويقفون إلى جانب المجاهدين.
وعلى ضوء ما سبق ذكره، يمكننا تسمية هذه الحرب بالفاضحة أو الكاشفة، فكما كشفت سورة براءة فئات المنافقين على عهد رسول الله (، فإن هذه الحرب قد كشفت فئات من المنافقين والمخذلين والمتقاعسين لم يكونوا لينكشفوا بغير هذه الحرب، فرب ضارة نافعة.
ثانياً: مكتسبات تربوية والدور المطلوب
نصل الآن إلى أهم نقطة في هذا الموضوع، وهي التي تتعلق بالجانب التربوي لأصحاب الحق ولأنصارهم، لنقف على أهم المكتسبات التربوية لهذه الحرب الصليبية الجديدة، ونختم بالدور المطلوب من شباب الأمة بخاصة وكل الفرقاء والشرائح الأخرى.
أولاً: كشفت حقيقة الطائفة المنصورة وأبرزت خصائصها، لتظهر جلية للأمة. وهذه الخصائص لا يمكن أن تبرز - بالشكل الواضح - إلا خلال المواجهة مع الأعداء، وفي زمن تيه هذه الأمة وتقاعسها وقعودها عن الجهاد. ومن أهمها:
1 - " قائمون بأمر الله: أي ملتزمون بشرعه وأمره، وذلك بالجهاد والقتال وإعلان الحق والتزامه والأمر والنهي به، والدفع عن أهله إذا دخل عليهم الصائل فهذا أوجب الفرائض بعد الإيمان.
2 - مُكذّبون من الغالبية: أي أنهم في غربة من الناس لما درس من أمور الدين، فإن مجيبهم قليل ومعارضهم كثير، كما جاء في كثير من أحاديث الغربة.
3 - مُخذَلون من العموم: أي غير منصورين فعلياً حتى ممن وافقهم في الرأي فإنه لا ينضم إليهم عملياً إلا القليل.
4 - ماضون ثابتون لا يضرهم التخذيل والتكذيب: أي أنهم أصحاب همة وثبات وعناد في الحق يدْعون فيُكذّبون إلا من القليل، ويعملون فيخذلون إلا من النادر، ومع ذلك فهم معلنون للحق ثابتون عليه.
5 - يقاتلون إلى قيام الساعة: وهذه من أخص خصائصهم، والنصوص طافحة في ذلك بشكل علني ثابت يصعب معه التمحك لنفي صفة القتال عنهم وجعلهم من أهل المناظرة أو العلم بلا قتال كما قال البعض.(66/49)
6 - قاهرون لعدوهم: إما أنهم قاهرون لهم بالنصر الحقيقي والظفر في نهاية الصراع - كما بشر بذلك الله سبحانه وتعالى ورسوله الله ( في كثير من الآيات والأحاديث - بالرغم من أنهم قد يُهزمون في بعض معاركهم ومواقعهم، وإما أنهم قاهرون لهم بعدم تراجعهم عن الحق رغم هزائمهم المؤقتة، فهم ثابتون ثباتاً يقهر العدو.
7 - منصورون من الله تعالى: بوعده سبحانه {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَاد} (غافر:51) فهم منصورون حقيقة في الدنيا أو منصورون بالمعنى بنجاتهم عند الله وقبول أعمالهم وحسن خاتمتهم.
8 - ظاهرون على الحق: أي منصورون، وهو من الظهور أي العلو والغلبة، وقد يكون من ثنايا المعنى ظاهرون من الظهور وهو الاستعلاء بالدعوة ورفع الراية علناً لا خفاء، والله أعلم.
9 - فقههم الله في الدين: وجاء إشارة إلى هذا في مقدمة بعض الروايات، ودليل فقههم هو القتال والجهاد كما قال تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69)، وقد فسرها بعض السلف كابن المبارك وأحمد رحمهما الله بأن الفقه والفتح في الفهم هو في علماء الثغور.
10 - رزقهم الغنيمة: كما في رواية سلمة بن نفيل - وهي في أحمد والنسائي- ذكر أن رزقهم في أيدي من أضل الله قلوبهم، وهذا دليل على صفة الرزق وأمر غير مباشر بالسعي له وهو الغنيمة.
11 - يقاتلون باستمرار ولا ينقطع وجودهم: إلى قتال الدجال ونزول عيسى بن مريم حيث يكون آخرهم مع الإمام المهدي عليه السلام وتحت قيادة نبي الله عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام" .
ثانياً: تفجير طاقات الأمة لمساندة هذه الطائفة على الأقل عاطفياً، وإن كنا نرى دعماً مالياً ولوجستياً بل وحتى عملياً عن طريق الانضمام إلى صفوف هذه الطائفة وتكثير سوادها.
فحينما يرى شباب الأمة نماذج فريدة من أمثال كوكبة الشهداء الماضين على درب الجهاد والاستشهاد، وأخص بالذكر هنا، شهداء غزوتي نيويورك وواشنطن، ومن سبقهم أو من لحق بهم في معارك الجهاد والاستشهاد، سواء على أرض أفغانستان أو الشيشان أو فلسطين أو غيرها من بلاد الإسلام، وبلاد الإسلام أصبحت اليوم كلها أرض لهذه الحرب الصليبية الجديدة، قلت: حينما يرون مثل هذه النماذج فإنهم يتسابقون للانضمام إلى صفوف المجاهدين، ليسطروا بدمائهم ملامح جديدة، ويقرِّبوا الأمة يوماً بعد يوم من النصر الموعود. فكَم من طاقات قد أهدرت - ولا تزال - في الباطل أو في سفاسف الأمور، وكم من جهد يُبذل في غير محله، وهاهي قوافل الشهداء الماضية وقوافل المجاهدين الآتية، تحت إشراف جماعات الحق والجهاد، وعلى رأسها تنظيم قاعدة الجهاد، تستقطب هذه الطاقات وتستوعبها ثم توظفها في مواجهة جموع الكفر وجنود الصليب لزعزعة أركانه وهدم كيانه.
ثالثاً: إحياء فريضة الجهاد وفهم سليم وشرعي لحقيقة الصراع بين الحق والباطل بكل أبعاده، والإعداد لتحمل تداعيات وتبعات هذا الصراع. بحيث أن مفهوم الجهاد كان قد انتابته شوائب كثيرة، وكان الناس يحصرونه في جانبه الدفاعي فقط، ناسخين لمفهوم جهاد الطلب، طلب العدو في عقر داره أو في عقر قواعده العسكرية بالتحديد.
أو إحياء التعامل بالمثل مع هذا العدو، سواء بالتهديد أو بالمباشرة الفعلية، سواء في استهداف ما يسمى بالمدنيين أو بهدم مؤسساته وبنياته التحتية، أو بحرق ونسف موارده المعيشية، وهي أساليب مهجورة، لها أصول شرعية في شرعنا الحنيف ، هجرها المسلمون وتوقفوا عن العمل بها بسبب ما دخل على ديننا من شوائب وهجمات صليبية يهودية منذ عقود من الزمن، حاولوا فيها طمس معالم هذه الفريضة المقدسة، وتغييبها من عقول المسلمين، لكي يتسنى لهم امتلاكنا والسيطرة علينا حينئذ.
رابعاً: كسر حواجز الخوف والتهيب لمواجهة مخططات الأعداء، وهي العقبة الكبرى التي ظلت لعقود من الزمن تكبل طاقات المسلمين، وتجعلهم يظلون في موقع الإنهزام وانتظار رحمة العدو.
فكانت هذه الحرب الصليبية الجديدة فرصة لتجاوز هذه العقبة بنجاح كبير، والتحرر من قيد الضعف والهزيمة، وذلك بفضل ضربات قاعدة الجهاد الأخيرة، التي عبَّدت الطريق لباقي المجاهدين في العالم، وبيّنت لهم أن هذا العدو الغاشم أضعف مما نتصور.(66/50)
فاستطاع جيل الجهاد والاستشهاد أن يحيي المفهوم الصحيح للجهاد في الإسلام، الموافق لما جاء به رسول الله (: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا"(الحديث)، أو كما جاء في كتاب الله تعالى: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: 23). فرأينا كيف انقلبت معادلة الصراع بيننا وبينهم، وصاروا يترقبون ضربات وهجمات المجاهدين في كل حين، فانقلبت حياتهم إلى جحيم لا يُطاق، وقذف الله في قلوبهم الرعب، مما أدى إلى إرباك حساباتهم وإضعاف استراتيجية هجومهم، وضيعوا جهودهم وأموالهم في إيجاد وسائل للدفاع بدلاً من تطوير وسائل الهجوم، فتحقق بفضل الله تعالى للمسلمين شيء مما كانوا يتمنونه، وهو إرعاب العدو وإرهابه في عقر داره، وتحويل ديار هذا الأخير إلى ساحة للمعركة بدلاً من أن تظل بلداننا هي وحدها أرض لها.
خامساً: تجسيد هذا التجاوب والتعاطف من قبل المسلمين عامة وشباب الإسلام خاصة، بإنشاء تنظيمات وتجمعات جهادية محلية ولو في معزل عن تنظيم قاعدة الجهاد أو حركة طالبان، اللذان يشكلان رأس الرمح في مواجهة هذه الحملة الصليبية القائمة.
فقد رأينا - بحمد الله تعالى - ظهور العديد من التجمعات الجهادية هنا وهناك، تأخذ زمام المبادرة في ضرب مصالح العدو الإستراتيجية المنتشرة في بلداننا - وما أكثرها -، ودخلت بذلك في الصراع مباشرة بتوسيع دائرة الحرب، وإشغال العدو أكثر ودفعه إلى بذل المزيد من الجهد وحشد المزيد من الإمكانيات المادية والبشرية لمواصلة هذه الحرب.
فكان من نتيجة هذه الثمرة المباركة، أن صارت أراضينا وأراضيه ساحات لهذه الحرب، مما دفع بالعدو إلى تشتيت قوته وعدم الاستطاعة على التركيز في هذه الحرب، وهذه بداية هزيمته بحول الله.
سادساً: أبرزت هذه الحرب الصليبية أن لا فرق بين الكفار الأصليين (الصليبيين واليهود) وبين الطواغيت المرتدين (الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين)، وبأن هؤلاء كالجسد الواحد، إذا ضربتَ واحداً منهم انتفض الآخر ليدافع عنه ويحميه. فالأنظمة المرتدة تحمي مصالح الأعداء في الداخل مقابل أن يحميهم الصليبيون واليهود من شعوبهم ويحافظوا على عروشهم وقروشهم، فالقاسم المشترك فيما بينهم هو المصالح ومحاولة الحفاظ عليها بالقوة، وعدوهما المشترك هو هذه الجماعات المجاهدة التي تعكِّر عليهم صفو أجوائهم وتدعو الشعوب المسلمة للانتفاضة وأخذ زمام أمورها بأيديها، وفق ما يمليه عليها دينها الحنيف.
فتحتم على هذه الجماعات إعداد برامج عملية جهادية لمواجهة أعداء الداخل والخارج، بحيث يكون هناك تكامل بين المشروع العالمي العامل على مواجهة العدو الخارجي والمشاريع القطرية القائمة لمواجهة أعداء الداخل، على أن يكون التركيز في المرحلة الراهنة على السند الرئيس لهذه الأنظمة المرتدة، وهو العدو الخارجي، وذلك بضرب مفاصله واستهداف مراكز الثقل في قوته، بقصد إرباكه ثم زعزعته لكي ينهار في نهاية المطاف أو على الأقل لينشغل بنفسه، وهو ما يجعل مهمة محاربة الأنظمة الطاغوتية أيسر وأسهل.
سابعاً: من أهم سمات هذه الحرب - كما سبق الإشارة إليه - هو أنها جمعت الأحزاب الكافرة والمنافقة لإنشاء تحالفات عديدة وموحدة، بقيادة أمريكا، لضرب الإسلام ومحاولة القضاء على قوته. وهو ما دفع بالمسلمين الصادقين، وخاصة فصائل المجاهدين إلى التفكير في التحالف والتعاون لمجابهة هذه الهجمة الصليبية، وتحقيق أمره تعالى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّة}. وقد تم ذلك أولاً على أرض أفغانستان، حيث اجتمع المجاهدون - من شتى بقاع الأرض - وشكلوا ما يُعرف بتنظيم القاعدة بقيادة الشيخ أسامة بن لادن، ثم توسع فيما بعد بانضمام العديد من المجاهدين الآخرين وفي مقدمتهم تنظيم الجهاد المصري بقيادة الشيخ أيمن ظواهري، فتشكل ما عُرف بتنظيم "قاعدة الجهاد"، وهو تنظيم أوسع وأكبر وأقوى.
وثانياً على مستوى الأمة ككل، بدأت الكثير من التنظيمات المجاهدة في توسيع دائرة التحالف والتنسيق فيما بينها، لمواجهة هذه الحملة الصليبية التي تتهدد وجودهم، فتحقق بالفعل هذا الأمر ورأينا - بحمد الله - تعاوناً وتنسيقاً كبيراً بين شتى جماعات الجهاد، بالرغم من شدة الحصار وضيق السبل وقلة النصير، والدليل على نجاح هذا الأمر هو هذه العمليات الجهادية المباركة المتواصلة، التي تُحدث أكبر الضرر في جسد العدو، ولا يستطيع أن يوقفها أو حتى تفاديها. ونحن نعلم أن سر قوة المسلمين تتجلى في توحيد جهودهم وجمع صفوفهم، فإن تعذَّر عليهم ذلك لظروف قاهرة، فلا أقل من تحقيق هذا التنسيق والتعاون، وتفادي الفرقة والاختلاف.
ثامناً: إحياء فريضة الاستشهاد والتسابق إلى الموت قصد الفوز بالشهادة، الذي أصبح منتشراً ويكتسح الساحة، هذا في الوقت الذي نرى فيه هجراناً لمتاع الدنيا وشهواتها.(66/51)
وهذا سلاح ذو حدين، حيث يمكِّن المسلمين من أخذ زمام المبادرة أكثر، فهو السلاح الذي لا يمكن للعدو أن يمتلكه أبداً {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 96)
تاسعاً: علمتنا هذه الحرب القائمة أن مسألة استنزاف العدو وتقويض أركانه أصبح أمراً ممكنا بل وفي المتناول، وبأنه هدف استراتيجي ينبغي التركيز عليه.
هذا ما ابتكره إخواننا في تنظيم قاعدة الجهاد كوسيلة جديدة وانتهجوها في هذه الحرب الصليبية بكل نجاح، ما دام أن الطرفين غير متكافئين على مستوى العدة والعتاد، فلابد من ابتكار أسلوب جديد، لا يقوى العدو على تفاديه أو مواجهته، ذلك هو أسلوب الاستنزاف المتواصل، ومحاولة تقويضه من الداخل، والتركيز على ضرب مفاصل قوته الاقتصادية والعسكرية، واستهداف قياداته ورؤوسه.
وها نحن نرى نتائج هذه الاستراتيجية الجديدة من الآن، حيث يتواجد العدو في مآزق سياسية واقتصادية خانقة، لم يكن ينتظرها ولا أعدَّ لها حلولاً. أما في السنوات وربما الشهور المقبلة فستكون الحالة أعقد وأدهى وأمر، مما سيسمح للمجاهدين بأخذ مواقع متقدمة في حلبة الصراع، وزمام المبادرة أكثر في إعادة قيادة هذه البشرية التائهة من جديد. هذا وعد من الله سيتحقق لا محالة، وليس مجرد حلم سياسي لتسلية النفوس.
الخاتمة
مما تقدم، يظهر لنا جلياً أن هذه الحرب الصليبية الجديدة تميزت بكثير من الإصرار والتركيز على إبادتنا، وكأنها فرصتهم الأخيرة لفعل ذلك، ذلك أنهم أحسوا- أكثر من أي وقت مضى - بأن هذه الجماعات المجاهدة (وعلى رأسها تنظيم قاعدة الجهاد)، قد تمكنت من فهم طبيعة كيان العدو، والاطلاع على حقيقته وبالتالي كشف مواطن ضعفه، بالرغم من ادعائه عكس ذلك. مما سيسهل على المجاهدين قيادة هذه الحرب في ظروف أسهل وربما بأقل الخسائر الممكنة، بينما يحس العدو أنه سيضطر إلى دفع المزيد من الجهد والأجر للدفاع عن كيانه والمحافظة عليه، بدلاً من التفكير في شن حرب هجومية - كما كان من قبل-. فأقصى ما يصبو إليه العدو هو تفادي ضربات المجاهدين، ومحاولة الإبقاء على الحالة السابقة بدلاً من تضييع كل شيء.
ولكن المجاهدين لهم كلمتهم ورأيهم المخالف، فقد قرروا هم كذلك الانتقال إلى موقع الهجوم، ولكنه هجوم من نوع آخر، لا يمكن للعدو أن يتفاداه باستمرار، مما سيؤدي إلى انقلاب الصورة التي كنا نعرف، والاقتراب أكثر وبخطى واثقة وأكيدة نحو وعد الله تعالى بالنصر والتمكين، على أنقاض هذا الكيان الغاصب، أما بخصوص أذياله وروافده التي تمثلها هذه الأنظمة المرتدة العفنة، فستذوب بأسرع مما نتصور وتنهار ثم تزول، بسبب انقطاع عناصر الحياة عنها.
نتيجة حتمية، لا ريب فيها، بنصوص قرآنية مجيدة {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}(المجادلة: 21).{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر: 51) {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور: 55).
والحمد لله وهو ولي التوفيق.
===============(66/52)
(66/53)
الحرب الصليبية والتحولات الفكرية - 3 -
سيف الدين الأنصاري
لازلنا مع التأثيرات التي تركتها الحرب الصليبية على الساحة الفكرية للمسلمين، فبعد إفلاس مذهب "الجبرية السياسية" نطرح اليوم..
ثالثاً: حتى "الصوفية الحركية" مرفوضة.
لعل البعض لا يعرف من الصوفية إلاّ أنها طريقة لتهذيب الروح والعمل على الارتقاء بها إلى المقامات العالية لتبلغ منازل "العارفين" ومكانة الربانيين، أي أنها بالنسبة إليه تيار إسلامي تبنّى معاني أخلاقية تعتمد أساسا على الاستغراق في الاعتبارات الروحية، مما يؤدي إلى ترسيخ العقيدة التوحيدية ويساعد على السلامة من الفتنة الدنيوية وبالتالي ضمان السعادة في الآخرة.
هذا الذي يعرفه البعض عن الصوفية، وهي صورة لا تستدعي بالنسبة إليه الرفض المطلق أو الإنكار البات، وحتى إذا أنكر عليها فإنه ينكر التجاوزات الشرعية التي تقع فيها الطرق الصوفية، ونعني بها تلك الوسائل التي يستعملها السالكون إلى الله في سبيل الحصول على النشوة الروحية، كالسماع والرقص والذكر الجماعي .. إلخ، لأنها بدع مرفوضة إسلامياً. الأمر الذي يجعلنا نقول في النهاية بضرورة التفريق عند الحكم على الأشخاص، فقد يكون الرجل منتسبا إلى الصوفية انطلاقا من فكرة خاصة مفادها أن التصوف يعني المبالغة في الاهتمام بالتربية الروحية، على أساس أنها من العوامل المساعدة على تأمين المسلم من الفتنة التي تهدده في أجواء الحياة المادية.
لكنْ ورغم ما يمكن إبداؤه من الملاحظات على صوفية الطقوس هذه إلاّ أنها كلها في كفة والفكر الصوفي في كفة أخرى، لأن الذي يجب أن لا ننساه هو أن الصوفية لم تبق بمعزل عن المؤثرات الخارجية التي تتناغم مع اتجاهها، فقد اتصلت - أثناء بحثها عن الحقيقة - بالفلسفة العاملة في هذا الحقل، لأنها هي الأخرى تائهة تبحث عن الحقيقة "الضائعة"، فترافقتا معا في الطريق، وأثناء السير وقع بينهما شيء اسمه التلاقح الفكري، والذي كان من نتائجه أن تسربت كثير من الآراء الفلسفية إلى الصوفية، بل وتوغلت إلى الحد الذي لم يعد بالإمكان إنكار التأثير الأفلاطوني والمسيحي وحتى البوذي في الإنتاج الفكري للصوفية.
أي أننا أصبحنا أمام الفكر الصوفي وليس الصوفية فقط، وهو ما زاد من تعقيد المشكلة، لأن المرض قد تفاقم لينتقل من مجرد تجربة سلوكية ساعية وراء الأذواق الوجدانية إلى فكر يطرح رؤيته الخاصة للحياة، لعل أخص ما اتسمت به هو القفز على عالم السنن (القوانين) التي تحكم الحياة، وعدم التفعيل الجدي لمبدأ الأخذ بالأسباب، فـ"القوم" رغم اختلافاتهم التي تتجاوز عدد ألوان الطيف إلاّ أن شيئا واحدا يجمعهم يتلخص في أنهم يحملون نزعة هروبية يحرص أصحابها على إهمال التكاليف الشرعية التي يمكن أن تجلب "المتاعب" عند ممارسة الدين في الواقع الحياتي وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمجال السياسي.
في التاريخ الحديث مثلا وعندما كانت جيوش الاستعمار تجتاح بلاد الإسلام وبالضبط عندما اقترب الجنود الفرنسيون من مدينة القيروان استعدَّ أهلها للدفاع عنها، لكنهم قبل الدخول في المواجهة جاءوا يسألون "سيد أحمد" (أحد زعماء الصوفية) أنْ يستشير لهم ضريح الشيخ! لأنهم كانوا "يعتقدون فيه". فدخل "سيد أحمد" الضريح، ثم خرج مهوِّلاً بما سينالهم من المصائب، وقال لهم بأنَّ الشيخ ينصحكم بالتسليم لأنَّ وقوع البلاد صار حتميا، فاتبع القوم قول الشيخ ولم يدافعوا عن "القيروان"، ومن ثم دخلها الفرنسيون آمنين بدون خسائر .
هذه الصورة المخزية تتكرر في يومنا هذا بالحرف تقريبا، فكتاب "البيان الأخير" - مثلاً - دق ناقوس الخطر، وخرج على الأمة محذراً من "هرمجدون" التي قد بدأ الصليبيون في تنفيذها، وقد استجمع الكاتب لتقرير هذا الفكرة كما هائلا من الأقوال والتأويلات التي تؤيد اجتهاده، والذي يستحق الاحترام على كل حال، لكن الملاحظ هو أنه مع كل التهويل والترويع الذي مارسه على القارئ فإنه لم يُشر - ولو من بعيد - إلى ضرورة الجهاد لمواجهة هذه الهجمة، ولا حتى إلى ضرورة الإعداد المادي للدفاع عن النفس في حال وقوعها، بل على العكس طرح في الأخير توجيهات عائمة، لا تجني منها الأمة الإسلامية إلاّ مزيدا من الإيغال والانغماس في دهاليز الأجواء الغيبية التي تُدخل المرء فيما يشبه الأمواج المتلاطمة من الحيرة، وبالتالي تراكم عناصر الأزمة، التي حاول الكاتب أن ينظّر لحلها من خلال المزيد من الانكفاء نحو الداخل، في صورة تركيزٍ على إصلاح الباطن بنوافل الصلاة والصيام، ربما اعتمادا على فكرةٍ ذات جذور صوفية تقول إن الوصول إلى الحقيقة الذي يتم عن طريق الكشف سيؤدي تلقائيا إلى امتلاك ناصية الكون وبالتالي حصول المراد في "الخارج"!!! (مصيبة)(66/54)
المهم، تأثيرات الصوفية في فكر المسلمين أشكال وألوان، ومنها على سبيل المثال الإفراط في الطمأنة المستندة إلى التفسير التفصيلي للمبشرات، والذي يوحي للمسلم بالإعفاء من المسؤولية أمام الواقع، مما يساعد على إشاعة جو الانتظار السلبي، وبالتالي تكون النتيجة هي ضعف أو انعدام الأداء الميداني اتكالا على الغيب. أضف إلى ذلك أن المبالغة في التفسير التفصيلي للمبشرات وإسقاطها على جزئيات الواقع غالبا ما يؤدي إلى التأثير على خطة الموقف العملي، وقد يكون التفسير والإسقاط خاطئاً فتكون النتيجة الهزيمة الساذجة.
ليس القصد هو الطعن في البشائر التي جاء بها الوحي الصحيح، أبداً، فهي بالنسبة إلينا حقائق لا تقبل التشكيك، ولكن القصد هو التحذير من الخطأ المنهجي الذي يقع أثناء التعاطي مع هذه المبشرات، إذ قد صارت عند البعض أداة للتخدير، حيث وصل في ارتباطه بالتفسيرات الاجتهادية لتلك المبشرات إلى درجة أنها أصبحت هي الإطار الذي تتحرك خطة الحرب من داخله، وبدا وكأن الإجراءات العملية قد أوكل القسط الكبير منها إلى شخصية "السفياني" أو إلى عالم ما "وراء السنن".
المبشرات حق، وهي من العوامل التي تفتح لنا نوافذ الأمل، وتمنحنا مزيدا من قوة الدافع نحو العمل، فنتعامل مع الهدف بإصرار يغذيه الاطمئنان إلى النصر الإلهي، وهو ما يمنع تسرب اليأس ويسد الباب أمام الإحباط، ولكن هذا كله شيء، والمبالغة في التعلق بالإسقاط الاجتهادي للمبشرات على الواقع شيء آخر، وإذا كان الصحابي الجليل قد كتم حديثا له علاقة بتبشير الموحدين بالجنة مخافة أن يتكلوا ولم يخبر المسلمين بهذه البشرى إلاّ تأثما، مع العلم أنها حقيقة قطعية، فما بال البعض يبالغ في ربط الناس بقوة باجتهادات يعلم الجميع أنها لا ترقى إلى درجة اليقين؟
على أيٍ، إذا كانت صوفية الأمس قد ساعدت على السلبية عن طريق الانعزال وترك الحياة العامة في سبيل تحقيق أذواق غامضة يصعب استجلابها إلاّ في أجواء الخلوة، فإن صوفية اليوم تساعد - وبامتياز - على ترسيخ عقلية ونفسية التواكل السياسي، إما عن طريق إدخال المسلمين في جو جنائزي يفقدهم التوازن الفكري والنفسي، وإما عن طريق الطمأنة الزائدة التي تفتح الباب أمام أجواء الاسترخاء، والنتيجة في كلتا الحالتين هي التواني في الجانب العملي وضعف الأداء الجهادي.
وقريبا من هذه الصوفية الكلاسيكية نجد هناك صوفية تقدمية، صوفية لا تلغي مبدأ الأخذ بالأسباب بشكل صريح، ولكنها تقفز على منطق التناسب في هذه الأسباب، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالأسباب "المتعبة" (الجهاد مثلا)، فهي تحاول أن تكون متفاعلة مع الواقع ولكن في حدود معينة، مما يدفعها إلى أن تتخذ من أسلوب الالتواء سبيلا لترك الأسباب المناسبة والاستعاضة عنها بأعمال يُزعم أنها قد تحقق الأهداف، أي أننا أمام "صوفية حركية".
فلكي نُفشل الهجمة الصليبية وندحر الاحتلال (ومنه القواعد العسكرية)، تقترح علينا هذه الصوفية مسألة الإكثار من مذكرات النصيحة لـ"ولاة الأمر"، أو المزيد من خطابات التعايش مع الآخر، وفي حال التصعيد فلا بأس بالوقفات الاحتجاجية!! لأن هذه الأعمال في رأي "الصوفية الحركية" أسباب كفيلة بإفشال الهجمة الصليبية أو ربما استئصال فكرة الاحتلال أصلاً!! وأنت ترى أن هذه الألاعيب ما هي إلاّ عملية قفز على منطق التناسب في عالم الأسباب، لأن الاحتلال لا يدحر إلاّ بالجهاد، بكل ما تحمله الكلمة من معاني الحرب الإسلامية المتعددة الجبهات، وفي مقدمتها الجبهة العسكرية، ولكن "الصوفية الحركية" تريد أن تمرر تخاذلها أمام المسلمين عن طريق "الحال الفكري"، فتصور تحركها خارج دائرة التأثير الفعلي على أنه من تجليات الحكمة في العمل، بالتالي نجد أنفسنا أمام رؤية حركية "حالية" لا تستمد صوابها من القوانين التي تضبط الحياة، بقدر ما هي حلول ناقصة تريد أن تتفاعل مع الواقع لكن في حدود ما لا يجلب المتاعب، وخاصة إذا كانت سياسية.
ولذلك لا داعي للاستغراب كثيرا إذا رأينا السلبية أو حتى سمعنا التخريف الفكري يأتي من بعض دعاة أهل السنة!! لأن "الصوفية الحركية" قد استطاعت التكيف مع الأجواء السنية، ولم يتطلب منها الأمر في كثير من الأحيان إلاّ بعض "الروتوش" السلفي الذي يظهرها بريئة من التأثر بالبدعة، بل ويضعها فوق الاتهام. وإلاّ كيف نفسر أنه بينما الحملة الصليبية المعاصرة في أوج هجمتها على ديار المسلمين نجد البعض منشغلاً بالبحث عن أفضل الشروح على متن "نخبة الفكر" أو بالجدال حول حكم التصوير، تماما كما كان يفعل الصوفية حين أغار الفرنجة على "المنصورة" في القرن السابع الهجري، حيث كانوا يجتمعون لقراءة "رسالة القشيري". إنه ليس بإمكاننا أمام هذه المواقف الهزيلة إلاّ أن نقول: لقد أصبحت فكرة العلم عند البعض والتربية عند البعض الآخر عبارة عن عملية إلهاء للمريد الحركي، القصد منها الدفع باتجاه تفجير الطاقة الإسلامية فيما وراء عالم الواقع، ليبقى الاحتلال المباشر وغير المباشر جاثما على صدر الأمة دون "مشاكل".(66/55)
ليست هذه دعوة إلى إهمال العلم والتربية أو التقليل من شأنهما، كلا، ولكنها دعوة إلى أخذ دين الله بصدق، من خلال التفاعل السنني مع الواقع، والاستجابة لمتطلبات الوضع الراهن، بتفعيل الأسباب المناسبة لنوع الأهداف المرجوة، فالغزو الصليبي الذي تخضع له بلاد المسلمين اليوم والمدعوم بتآمر الأنظمة الخائنة لا يرد بقراءة نخبة الفكر ولا حتى بحفظ ألفية السيوطي في الحديث، وإنما كما قال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}[النساء:84].
باختصار، يجب أن نعلم أن الصوفية ممارسة هروبية، يلجأ إليها "السالك" للتخلص من التكاليف الشرعية التي ترتبط بمشاكل الحياة العملية، وخاصة السياسية، ولذلك لا تصلح الصوفية بتاتا لمعالجة واقع المسلمين، وخاصة في الوضع الراهن، لأنها سوف تكرس الأزمة وتراكم عناصرها، وليس الصوفية الجامدة وحدها التي يجب أن تتجاوزها الأمة في هذه المرحلة، بل حتى الصوفية الحركية مرفوضة، والمطلوب الآن هو تحرك جاد ينطلق من تفكير سنني، يحمل روح التحدي والمواجهة ليفجر طاقات الأمة في اتجاه النهوض والتحرر عوض قتلها في أجواء القعود.¨
منقول من من مجلة الأنصار العدد 29
=================(66/56)
(66/57)
دورنا في مواجهة الحرب الصليبية ]
الحمد لله قاهر الجبابرة ومعز المؤمنين وناصرهم ، والصلاة والسلام على خير المجاهدين وقائدة الغر المحجلين المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :-
يسأل كثير من المسلمين هذه الأيام لا سيما بعد بدأ الحرب الصليبية الجديدة الشاملة على الإسلام والمسلمين ويقولون : ما هو دورنا وماذا نفعل لنصرة الإسلام والمسلمين ؟ .
وكنت أعتقد أن مثل تلك الأسئلة أصبح الجواب عنها لدى المسلمين بديهياً لكثرة تكرارها ، إلا أن هذا السؤال تردد كثيراً هذه الأيام ، ويتردد مع كل قضية وجرح جديد للأمة ، ولا أعرف ما هو سبب جهل الناس بدورهم في معركة الإسلام اليوم ؟! .
رغم أن كل قارئ لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم يتضح له دوره في هذه المعركة بمجرد قراءته لآيات الجهاد ونصوص السنة ، ولن أستعرض النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة التي توضح دور كل مسلم ، ولكني سأقف فقط مع نص واحد من نصوص المصطفى صلى الله عليه و سلم وضّح فيه الرسول صلى الله عليه و سلم دور كل مسلم بصيغة الأمر الواجبة التي لا تسقط بحال عن ذمة المكلف .
روى الإمام أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه والدارمي وغيرهم عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ) وفي رواية النسائي ( وأيديكم ) بدل أنفسكم ، قال الحاكم هذه حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه .
قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار 8/29 " قوله ( جاهدوا المشركين .. إلخ ) فيه دليل على وجوب المجاهدة للكفار بالأموال والأيدي والألسن ، وقد ثبت الأمر القرآني بالجهاد بالأنفس والأموال في مواضع ، وظاهر الأمر الوجوب " .
ولست بصدد تفصيل حكم الجهاد ومتى يتعين ومتى لا يتعين ، ولكنني أريد أن أبين هنا مهمة كل مسلم ووظيفته في مجاهدة الأعداء ، إذ أن الرسول صلى الله عليه و سلم ذكر في الحديث المتقدم أصول سبل الجهاد ضد العدو الكافر ، فذكر ثلاثة أصول من أربعة :
الأصل الأول :
الجهاد بالنفس أو اليد وهذا أعلى مراتب الجهاد وأكملها ، وقال ابن حجر رحمه الله " إن نصوص الكتاب والسنة إذا جاءت بذكر الجهاد مطلقاً ولم تقيده ولم تضفه إلى المال أو اللسان فإنها تنصرف إلى الجهاد بالسيف باتفاق السلف " والجهاد بالنفس هو أعلى مراتب الجهاد لذا فقد رتب الله عليه أكمل الأجر وعقد الصفقة ببيع الجنة للمؤمن مقابل نفسه أولاً كما جاء في سورة التوبة { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } فهي الآية الوحيدة من آيات الجهاد التي يقدم الله فيها النفس على المال وذلك لما كانت السلعة غالية اقتضى أن يكون الثمن غالياً مثلها أيضاً .
ويتفرع عن الجهاد بالنفس ، الواجب على المؤمنين الرباط و تدريب المجاهدين وإعدادهم والاستطلاع لهم في ميادين المعركة وغير ذلك من المجهودات البدنية التي تجب على المسلم القادر في هذه الأيام وجوباً عينياً كما أجمع العلماء على ذلك ، بأن أرض المسلمين إذا دهمها العدو فقد تعين الجهاد على كل مسلم قادر .
الأصل الثاني :
من أصول السبل التي ذكرها الرسول صلى الله عليه و سلم في الحديث المتقدم أيضاً قوله ( وأموالكم ) فالجهاد بالمال كثيراً ما يقرن في آيات الجهاد في القرآن ، ويأتي مقدماً على النفس لكنه ليس أعلى مرتبة من الجهاد بالنفس كلا ، ولكن لأن الجهاد بالمال هو النوع الذي تخاطب بها الأمة أجمع ، إذ أن الكفاية بالرجال تحصل عند نفور عدد من رجال الأمة ، ولكن المال لا تحصل كفاية المجاهدين به إلا إذا تكاتفت الأمة جميعها وضخت المال للمجاهدين الذي يعد عصب الجهاد ، فالشريحة المخاطبة بوجوب الجهاد بالمال هي أكبر من الشريحة المخاطبة بوجوب الجهاد بالنفس ، لذا قُدم الجهاد بالمال في آيات الجهاد لاعتبار سعة شريحة المخاطبين من رجال ونساء شباباً وشيوخاً صغاراً وكباراً والله أعلم .
والجهاد بالمال ليس بالضرورة أن يكون قدراً كبيراً من المال يدفعه المؤمن ، بل يدفع ما يبرئ به ذمته أمام الله تعالى ، لأن المقصد من الجهاد بالمال إذا تعين أن تسقط الواجب الذي في عنقك وتدفع القدر الذي تعتقد أن ذمتك ستبرأ عند الله تعالى بدفعه ولو كان يسيراً ، وكما قال الرسول صلى الله عليه و سلم عند أحمد النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( سبق درهم مائة ألف ) قالوا يا رسول الله وكيف ؟ قال ( رجل له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به ورجل له مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة ألف فتصدق بها ) فالله لا يقبل الصدقة بناءً على كميتها ولكن يقبلها على حسب كيفيتها ، كما روى أحمد وأبو داود عندما سئل الرسول صلى الله عليه و سلم أي الصدقة أفضل ؟ قال ( جهد المقل ) أي صدقة الرجل المحتاج لماله الذي لا يملك إلا القليل ، فاتق الله وقدم ما تجود به نفسك ، ليس لمرة واحدة فقط بل اجعل للجهاد من دخلك نصيبا بما أن الحرب قائمة والمجاهدون بحاجة للمال .(66/58)
ويتفرع عن الجهاد بالمال لمن لم يكن له دخل ولا مال ينفقه ، أن يجمع التبرعات من أهل اليسار ومن النساء والأطفال والخاصة والعامة ، ومن لم يستطع أن يجمع المال بإمكانه أن يحرض على الجهاد بالمال ويطلب من المسلمين ألا يشحوا بأموالهم إذا ما طلبت منهم .
ويتفرع عن الجهاد بالمال أيضاً أن يسعى كل قادر على إدارة الأموال بجمع رأس مال ويبني به مشروعاً يعود ريعه على المجاهدين بشكل دوري .
وهناك سبل أخرى كثيرة تتفرع عن الجهاد بالمال وقد اتضح المقصود من تلك الأمثلة .
الأصل الثالث :
من أصول السبل الرئيسية التي نص عليها الرسول صلى الله عليه و سلم في حديثه المتقدم الجهاد باللسان والجهاد باللسان شأنه عظيم وفي بعض الأحيان يكون أعظم من الجهاد بالأبدان أقول في بعض الأحيان وليس دائماً ، كما قال الرسول صلى الله عليه و سلم في الصحيحين ( أهجوا قريشاً فإنه أشد عليهم من رشق بالنبل ) فالجهاد باللسان أمره عظيم وهو المرحلة الأولى التي تتقدم مرحلة جهاد الأبدان والأموال ، فلا يحرّض الناس للجهاد بأبدانهم إلا باللسان ، ولا يحرّض الناس للجهاد بأموالهم إلا باللسان ، فاللسان أمره عظيم وهو النوع الوحيد المتيسر لجميع المكلفين فكل مكلف بإمكانه أن يجاهد بلسانه وبأي طريقة كانت .
ويتفرع عن الجهاد باللسان تجلية حقيقة هذه الحرب الصليبية والهجمة التي تشن على الإسلام وفضحها ، والذب عن المجاهدين والدفع عن أعراضهم ، وذلك يكون بين خاصة الرجل وأهله ، وبين عامة الناس في منتدياتهم وفي مساجدهم و أعمالهم و مدارسهم ، فكل مسلم واجب عليه أن يجاهد بلسانه على قدر طاقته ، والجهاد باللسان لا يشترط له شرط بل كل كلمة علمها المكلف ويرى أن فيها فضحاً للصليبيين أو ذباً عن المجاهدين وجب عليه القول بها وبيانها للناس والله أعلم .
ويتفرع عن الجهاد باللسان ، التأليف والنشر للمواد المحرضة على الجهاد بأنواعه ، من كتاب وشريط ونشرة وغيرها ، ومن عجز عن التأليف فعليه توزيعها باليد أو بالفاكس أو بالبريد ، ومن الجهاد باللسان أيضاً كتابة المقالات في الصحف والنشرات والدوريات ، والكتابة عبر شبكة الإنترنت والمراسلة عبر البريد الإلكتروني لآلاف الناس ، للمنافحة عن الإسلام في كل ميدان ، وطرق الجهاد باللسان كثيرة وقد مثلت لها بما يوضحها والله أعلم ..
الأصل الرابع :
من أصول جهاد العدو جهاد العدو بالقلب ، وهذا الأصل هو أول الأصول ترتيباً وأهمها ، ولكني أتيت به رابعاً لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يذكره في النص الذي تناولنا الحديث عنه ، إلا أن هذا الأصل هو ركن من أركان الإسلام ولا يقبل الله الإسلام من دونه ، والنصوص كثيرة جداً التي توضح معنى جهاد القلب للأعداء ، فأول معاني جهاد القلب بغض الكفار وما هم عليه ومن والاهم وعدم محبتهم والكفر بهم والكفر و بمعبوداتهم ، فمتى انتفى عن العبد جهاد القلب تجاه عدوه فإنه كافر بالله العظيم قال الله تعالى { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرته } وقال كما هي ملة إبراهيم عليه السلام { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } وقال { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك
بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم } والآيات الدالة على أن جهاد القلب للأعداء ركن من أركان الدين كثيرة لا يسع المقام لحصرها .
هذا توضيح بسيط للمهام المناطة في عنق كل مسلم مكلف في هذه الأيام في مقابلة الحرب الصليبية التي بدأت منذ قرون واشتدت وكشرت عن أنيابهما في يوم الأحد 19/7/1422هـ وذلك بقصفها للإمارة الإسلامية في أفغانستان نسأل الله أن يرد كيد المعتدين وينصر دينه وأولياءه ويعلي كلمته .
وأختم بتنبيه بسيط وهو ألا ينظر العبد إلى الحديث السابق وإلى ترتيب رسول الله صلى الله عليه و سلم للجهاد بالمال و النفس واللسان فيظن أن هذا الترتيب يدل على الأولوية ، فإن الواو التي جاءت بين هذه الأنواع لا تدل على الترتيب أو التعقيب إنما تدل على مجرد العطف ، فالتقديم والتأخير هنا لا يدل على الأولوية ، فترتيبها أن جهاد القلب هو الأعظم من ثم يليه جهاد النفس وبعدهما جهاد المال ثم اللسان ، وقد يأتي في حالات خاصة ولأشخاص محددين جهاد اللسان مقدماً على النفس أو المال على النفس وهكذا ، ولكن كحكم عام فإن الترتيب الذي ذكرته هو مقتضى نصوص الكتاب والسنة والله أعلم .
فليتق الله كل عبد وليعلم أن الله سبحانه وتعالى سائله عن جهاده ، فإن قصّر وعمل بالأدنى وهو اللسان وترك الأعلى وهو الجهاد بالبدن ، فإن هذا لا يبرئ ذمته ، واعلم أن الأدنى لا يسقط الأعلى بحال والله تعالى أعلم .
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين .
أخوكم / أبو مجاهد
================(66/59)
(66/60)
الحرب الصليبية على العراق-الحلقة الأولى
الحرب الصليبية على المسلمين في العراق تهم كل مسلم ، وليست أهميتها لدى المسلمين نابعة من أنها حرب ضد إخوان العقيدة والتوحيد فحسب ويجب على كل مسلم مناصرتهم بما يستطيع ، بل لأنها أيضاً سلسلة من حروب يعزم الصليبيون شنها على دول العالم الإسلامي بعد الفراغ من العراق لتركيع الجميع بقوة الحديد والنار ، فهذه الحرب لها ما بعدها فإذا لم يكن للمسلمين موضع قدم فيها فلن يكون لهم قيمة في الأحداث التي بعدها ، والسؤال الذي يتوارد على أذهان وألسنة المسلمين في كل مكان ، كيف نكسر هذه الحملة الصليبية في العراق ونعين شعب العراق عليها ؟ .
الإجابة على هذا السؤال من الناحية الشرعية قد أجاب عنه العلماء قديماً وحديثاً ، ولسنا بحاجة فيما نظن إلى إعادة الحديث عنه من الناحية الشرعية .
ولكننا في هذه السلسلة سنركز الحديث على الناحيتين العسكرية والسياسية ، وسبل ممارسة المسلمين عملياً لناحية العسكرية ونسأل الله العون والسداد .
وفي ظننا أن السؤال الذي قدمناه لا يمكن الجواب عنه بتفصيل حتى نجيب عن مجموعة أسئلة تتفرع عنه الجواب عنها يوضح الجواب عن السؤال المطروح على أذهان وألسنة المسلمين ، وسوف نعرض مجموعة الأسئلة و نحاول الجواب عنها ضمن هذه الحلقات بشكل مباشر أو غير مباشر حسب أهميتها .
وفي تقديرنا أن الأسئلة التي يتقدم الجواب عنها الجواب عن السؤال الرئيسي كتمهيد لفهم القضية من عدة جوانب هي كتالي :-
1- ما هي الدوافع الأمريكية لغزو العراق ؟
2- ما مدى تأثير عدم وجود مبرر سياسي لغزو العراق على الأداء الصليبي في الميدان ؟ .
3- ما هي الاستراتيجية الهجومية الأمريكية المفترضة لحروبها ؟ .
4- و لماذا تغيرت هذه الاستراتيجية في غزو العراق ؟ .
5- ما هو التوقع القادم للحرب ؟ وهل سيستمر هذا الأسلوب أم أنه سيتغير ؟ ولماذا سيتغير ؟ .
6- أي نوعي القصف أكثر فعالية بالنسبة لتقدم الغزاة القصف الاستراتيجي أم القصف التكتيكي ؟ وما هي الأساليب التي تحد أو عطل كلاً من نوعي القصف ؟ .
7- ما هي أعظم مخاطر القصف المروحي وكيف يمكن تجنه ؟ .
8- كم يحتاج المخزون الاستراتيجي للغزاة حتى ينفد ؟ .
9- هل يمكن أن تتقدم القوات البرية دون غطاء جوي تكتيكي أو استراتيجي ؟ .
10- ما هي أفضل الأساليب لتعطيل القصف التكتيكي لكشف القوات البرية ؟ .
11- إذا قرر الغزاة عدم استخدام الغطاء الجوي والتركيز على الحرب البرية ، هل 260 الف جندي أو 300 ألف جندي هل يكفون لاجتياح المدن العراقية والسيطرة عليها إضافة إلى حماية خطوط إمدادهم الممتدة لأكثر من خمسمائة كيلو متر على الأراضي العراقية ؟ أم أنهم بحاجة إلى ضعف هذا العدد لتأمين الدعم اللوجيستي إضافة لإدارة الحرب في جميع المدن تقريباً ؟ .
12- ما هي الحالات التي سيعلن الصليبيون تحت أي غطاء هزيمتهم بحصولها ؟ .
13- وهل هناك توقع لاستخدام الغزاة أسلحة غير تقليدية لحسم الحرب في حال فشلهم في حسمها بالطرق التقليدية ؟ .
14- ما هي الأساليب العسكرية التي يستخدمها العراقيون في الدفاع ؟ .
15- وأي الأساليب هو المرشح للصمود وهزيمة الغزاة ؟ .
16- في حال دخول القوات الصليبية إلى المدن وإلى بغداد خاصة فأي الأساليب ستستخدم ؟ وما هي الطريقة التي يحافظ بها العراقيون على قوتهم ؟ وما هو مصير صدام وحزبه في حال دخول القوات الغازية لبغداد ؟ .
17- هل هناك توقع لمشاركة دول أخرى مع العراق ضد الغزاة بشكل مباشر أو غير مباشر وما هي الدوافع لذلك ؟ .
18- هل هناك فائدة من الناحية العسكرية للشعب العراقي لو نفر الشباب المسلم إلى العراق لقتال الصليبيين هناك ؟ .
19- وماذا سيستفيد الشباب والأمة في دخول المعركة في العراق ؟ سوء كان النصر للعراق أم للغزاة ؟ .
20- لو أن دخول الشباب للمعركة في العراق له أثر فمتى يكون ؟ .
21- وهل يمكن الوصول إلى العراق ؟ .
22- ولو وصل الشباب إلى العراق ، فأي أساليب حرب العصابات أفضل لهم ، هل هو أسلوب حرب المدن أو أسلوب حرب العصابات في الجبال الشمالية ؟ .
23- ما هي أفضل الأساليب القتالية التي يحتاجها المقاتل داخل العراق للنكاية بالغزاة ؟ .
24- ما هي التشكيلات العسكرية المناسبة داخل المدن أو في الجبال الشمالية ؟ .
25- ما هو التسليح المناسب لهذه التشكيلات ؟ .
26- ما هي أهم التجهيزات التي يجب على المقاتل الاستعداد بها ؟ .
27- ما هي أهم المهارات الميدانية و البدنية التي يجب أن يتقنها المقاتل ؟ .
28- وأي الأساليب أفضل لترابط المجموعات هل هو الأسلوب المركزي أو اللامركزي ؟
29- وهل الأفضل استقلال كل مجموعة في التموين والتجهيز والقتال والمناورة أم الأفضل ترابطها وتنسيق عملها ؟ ولو كان الأفضل الترابط فكيف يكون الترابط والتنسيق ؟ .(66/61)
30- هل يقبل عسكرياً أن يدخل العدو بمثل هذا العدد في عمق الدول الإسلامية بين شعوب سبع دول هي العراق والسعودية والكويت وإيران وتركيا وسوريا والأدرن ، وتعداد سكان هذه الدول على الأقل يبلغ 120 مليون نسمة ، فعلى هذا العمق هل يمكن للعدو أن ينجز مهامه العسكرية بنجاح ؟ .
31-وهل يمكن للغزاة أن يستطيعوا منع مشاركة عشرات الآلاف من أبناء هذه الدول ، ويتمكنوا من إحكام غلق الحدود العراقية مع هذه الدولة والتي تبلغ على الأقل 4000كلم ؟ فكم هي حاجتهم العسكرية والاقتصادية لإحكام غلق هذه الحدود ؟ .
32- وما مدى استفادة المسلمين العسكرية من هذا العمق؟وما مدى الاستفادة من طول هذا الشريط الحدودي المتاخم للعراق ؟ .
33- قد يلجأ الغزاة في إغلاق الحدود ومنع تحرك الشعوب الإسلامية لمناصرة العراق ، قد يلجئون إلى الحكومات العميلة المحيطة بالعراق لمنع التحرك وعبور الحدود ، ولكن في هذه الحالة هل يمكن توسيع نطاق الحرب وضرب القوات الأمريكية أو العميلة التي تعمل على إغلاق الحدود ومنع مناصرة العراق وكسر الحملة الصليبية على أرض العراق ؟ .
34- ما مدى الأهمية العسكرية لضرب مؤخرات الجيش الصليبي على حدود الدول العميلة المحيطة بالعراق ؟ .
35- ما هو المستقبل السياسي والعسكري والديني للمنطقة في حال انتصار أي الطرفين في العراق ؟ وماذا نفعل لتجنب هذه الآثار السلبية ؟ .
هذه هي الأسئلة التي نتوقع أن الإجابة عنها تؤدي بالتأكيد إلى الإجابة عن السؤال الرئيسي ألا وهو ، كيف نكسر هذه الحملة الصليبية في العراق ونعين شعب العراق عليها ؟ .وسوف نتناول الإجابة على هذه الأسئلة على حلقات ، نبين فيها ما استطعنا أهم جوانب الصراع وتوقعات الحرب وأهم أساليب كسر هذه الحملة بإذن الله تعالى .
=================(66/62)
(66/63)
الحرب الصليبية على العراق -الحلقة الثانية
قبل البدء بالإجابة على الأسئلة الممهدة للإجابة على السؤال الرئيس الذي طرحناه في الحلقة الأولى ، نشير إلى أننا سنحاول في هذه الحلقات ألا نغرق في تحليل الموقف الميداني العسكري لسببين الأول : لعدم توفر معلومات دقيقة كافية عن التحرك الميداني للطرفين من مصدر ثالث ، والثاني : هو لأن تحليل الموقف الميداني لا يفيد كثيراً للقارئ البعيد عن الميدان ، وهو موقف متغير على مدار الساعة فالكلام عنه يحتاج إلى متابعة مستمرة على مدار الساعة ولن يستفيد منه إلا من هو داخل ميدان المعركة .
كما نشير إلى أمر آخر ألا وهو الرد على قول البعض أننا تأخرنا بالحديث عن هذا الموضوع وكان من المفترض أن نتحدث عنه قبل ذلك بفترة ، ونحن نقول ليس الأمر كذلك فالمعركة ستكون على مراحل ، المرحلة التي نرى أنها ستنهك الغزاة لم تأت بعد ، ولذا ينبغي أن نفكر عملياً بكفية الدخول في هذه المعركة لمساندة قوة الدفع العراقية التي أبدت حتى اليوم قدراً مذهلاً للأعداء أصابهم بالصدمة والرعب واختلاط الأوراق ،فمهمة الأمة اليوم هي مواصلة عملية الصدمة والرعب للعدو الغازي لبلاد المسلمين .وندخل إلى موضوع هذه الحلقة بالإجابة على أحد الأسئلة الممهدة للموضوع مما عرضناه في الحلقة الماضية وأول هذه الأسئلة هو :-
س1 : ما هي الدوافع الأمريكية لغزو العراق ؟ .
ج1 : الإجابة على هذا السؤال يحتاج إلى إطالة لأن الدوافع الأمريكية لغزو العراق هي أكبر من نزع أسلحة الدمار الشمال أو تغيير نظام صدام حسين ، فهذا الإعلان من قبل الصليبيين ما هو إلا تسطيح لدوافع غزوهم للعراق ، وستار يخفون خلفه الدوافع الحقيقية ، خاصة وأنهم لم يستطيعوا مع بقية دول العالم ولا عن طريق المفتشين أيضاً لم يستطيعوا إثبات شيء مما ادعوه ضد نظام صدام ، ولا يمكن أبداً أن يستسيغ المرء دفع كل هذه القوات وبهذا الإنفاق الضخم من أجل أهداف لم يستطيعوا إثباتها أو ربما ليس لها وجود على أرض الواقع .
فمن الواضح للعالم كله أن أمريكا لا تمتلك دليلاً تثبت به دافعها المعلن للحرب ضد العراق ، علماً أن دوافعها المعلنة يوجد أضعافها في دول أخرى خارج ما أسمته بالشرعية ، فلماذا لا يتخذ ضدها نفس الإجراءات أو حتى عشرها ؟ ، إذاً اتضح للجميع أنه و لابد أن يكون للصليبيين دوافع أخرى تدفعهم لتجشم هذه المخاطر والتكاليف الباهضة للسيطرة على العراق .
وبدلاً من الإطالة بذكر الدوافع المتعددة للصليبيين في جميع المجالات فإننا لن نأتي على جميع الدوافع ، فقد أشبع الباحثون بكافة تخصصاتهم هذا الموضوع بحثاً من جميع جوانبه قبل الحرب ، إضافة إلى أنه سيطول بنا المقام وسيخرجنا عن المراد ، فالمقصود الإشارة لا التفصيل .
وفي هذه العجالة سنتحدث عن أهم دافعين من الدوافع الحقيقية لهذه الحرب :
الأول : الدافع العقدي .
ونقصد من ذلك العقيدة الدينية المتطرفة التي دفعت إدارة البيت الأبيض المتطرفة لهذا الغزو ، فالجميع يعرف أن هناك توافقاً بروتستانتياً صهيونياً عقدياً ، فهناك وحدة بينهم في مختلف الأهداف وفي المصير .
يؤكد ذلك أن عقيدة البروتستانت هي خليط منسوج استقاه القساوسة من العهد القديم ( التوراة)المحرفة،والعهد الجديد ( الإنجيل ) المحرف ، فنتج عن هذا التزاوج الخبيث شر عقيدة عرفها التاريخ ، ويسيطر على عقول هؤلاء جميعاً الإعداد لحرب ( هرمجدون ) المقدسة ، ولن تحصل هذه الحرب حتى يتولى البروتستانت شن حرب صليبية مقدسة كمقدمة لهذه الحرب ، وهذا يدل على أن بوش عندما قال بعد ضربات سبتمبر المباركة أنه سيخوض حرب صليبية طويلة الأجل يدل ذلك أنه يقصد ما يقول وليست زلة لسان كما حاول البعض التعذير له ، بل إنه مصر على هذه الحرب التي ستمهد لحربهم المقدسة ، ولقطع الطريق على من ظن أنه لم يكن يعني ما يقول فقد قال بعدها بأيام عندما كان يخاطب الجنود الكنديين في معرض كلامه لهم " قفوا إلى جانبنا في هذه الحملة الصليبية الهامة " وعلق ( روبرت فيسك ) على عبارات بوش بقوله ( يبدو أن الرئيسي بوش يعتقد حقيقة أنه يقود حملة صليبية ، فقد عاد ليستعمل العبارة قبل أيام رغم أنه حُذر من ذلك ).
وحتى لا نذهب بعيداً عن حرب العراق لابد أن نبين على أن العقيدة التي دفعتهم لإعلان الحرب الصليبية وشن الهجوم على أفغانستان هي نفسها التي دفعتهم لشن الحرب على العراق ولو حاولوا الكذب بأنها ليست كذلك .(66/64)
ولسنا وحدنا ممن يشمئز من العبارات الصليبية التي يستخدمها قادة الشر في البيت الأبيض ، فقد تعدى الإشمئزاز والاستنكار ليصل إلى بني جنسهم ودينهم من الصحفيين والساسة ، وآخر ما صدر تنديد بهذه العقيدة التي دفعتهم لشن حرب على العراق اتهام الرئيس الألماني ( يوهانس راو ) يوم الاثنين 28/1/1424هـ في مقابلة له مع قناة ( إن تي فاو ) الإخبارية حيث اتهم الرئيس الأمريكي بالاستناد إلى منطلقات إنجيلية متطرفة في خطاباته المحرضة على العدوان ضد العراق وقال " إن ادعاءات الرئيس بوش بوجود دوافع إلهية حثته على قيادة هذه الحرب يظهر وقوعه أسير رؤية أحادية مبنية على ضلال مبين " وأضاف قوله " الرئيس الأمريكي ليس له ارتباط بأغلبية النصارى الذين عبر عنهم البابا يوحنا بولس الثاني مرات عديدة برفضه للحرب " وأشار راو إلى أن التغير في موقف الولايات المتحدة في أهدافها المعلنة للحرب فضح الرغبة الأمريكية المبيتة في الحرب ضد العراق ، وأكد أن المبررات التي أعلنتها الإدارة الأمريكية لشن العدوان كانت غير مقبولة .
هكذا يرى النصارى عقيدة بوش المتطرفة الضالة والتي دفعته إلى خوض هذه الحروب ولن تكون حرب العراق الأخيرة فلها ما بعدها .
ويرى البروتستانت أن هجرة اليهود جميعاً إلى فلسطين هي مقدمة لمعركة ( هرمجدون ) المقدسة ، إذا أن هجرتهم ستتيح بناء الهيكل على أنقاض الأقصى كمقدمة لخروج ملك اليهود ، وخروج ملك اليهود هو الإذن بعودة اليسوع ليتبعه النصارى ومعهم اليهود بعد أن يتنصروا اليهود لتقوم المعركة المقدسة ضد الأممين الذين سيبادون جميعاً .
وقد قال ( ستورم مينيستريز ) أحد المؤلفين البريطانيين في كتاب بعنوان ( نوستراداموس صدام حسين ، هرمجدون ) وبحث الكاتب في نصوص التواراة ليجيب على عدة أسئلة طرحها في مقدمة كتابه ومن ضمنها ( هل صدام حسين هو دجال آخر الزمان الذي نبأ به نوستراداموس ؟.
ثم أورد ما جاء في أسفارهم ( 8:19 ) في تفسير جبريل لرؤية النبي دانيال وقال " ها أنا أطلعك على ما سيحدث في آخر حقبة الغضب لأن الرؤيا ترتبط بميعاد الانتهاء ، أن الكبش ذو القرنين الذي رأيته هو ملك مادي وفارس ( إيران والعراق ) ، والتيس الأشعر هو ملك اليونان ( الغرب ) ، والقرن العظيم النابت بين عينيه ، هو الملك الأول وما إن انكسر حتى خلفه أربعة عوضاً عنه ، تقاسموا مملكته ، ولكن لم يُماثلوه في قوته ، وفي أواخر ملكهم عندما تبلغ المعاصي أقصى مداها ( عند اكتمال الظلم ) يقوم ملك فض حاذق وداهية جافي الوجه وفاهم الحيل ( بعض المفسّرين يرونه الرئيس العراقي ) فيعظم شأنه ، وإنما ليس بفضل قوته ، ويسبب دماراً رهيباً ( نتيجة استخدام أسلحة الدمار الشمال ) ، ويفلح في القضاء على الأقوياء ( أمريكا والغرب ) ويقهر شعب الله ( اليهود ) وبدهائه ومركره يُحقق مآربه ، ويتكبر في قلبه ، ويُهلك الكثيرين وهم في طمأنينة ، ويتمرد على رئيس الرؤساء ، لكنه يتحطم بغير يد الإنسان ( أي يموت موتاً طبيعياً )" .
فهذا التفسير الديني لنصوصهم والذي ينزل على هذه الحرب يفسر أحد أقوى الدوافع لهذه الحرب وإن زعم الأمريكيون أنها ذات دوافع إنسانية .
ويلخص الحضور العقدي في الحروب لدى الأمريكان ما يقوله مايكل كورتب وزوجته - وهما أستاذان في جامعة بول الأمريكية في كتاب ألفاه بعنوان ( الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ) فقالا " توجد الجذور الدينية للموقف الأمريكي تجاه الحرب والسلام في الكتب المقدسة المسيحية واليهودية ... حيث أن المسيحية كانت لها السيادة في تشكيل الموقف في الولايات المتحدة تجاه الحرب " ثم عددا أقسام الحروب الثلاثة من الناحية العقدية لدى الأمريكان فقالا :
الأول : الحرب المقدسة : كان منهج الحرب المقدسة أو الحرب الصليبية هو أحد المظاهر المهمة للموقف في الولايات المتحدة تجاه الحروب ، ومصطلح الحرب المقدسة يعني حرباً يشنها الصالحون نيابة عن الرب ضد الكفار والمهرطقين سياسياً أو دينياً .
الثاني : الحرب العادلة : إن النموذج السائد للحرب والذي شكل مواقف الناس كان بطريقة أو بأخرى صورة من صور الحرب العادلة ، ما دام إعلان الحرب يكون من جانب السلطة الصحيحة وما دامت أسبابها عادلة فيجوز للأفراد المشاركة فيها بنية حسنة ، ويجوز إجبارهم على ذلك إذا استدعى الأمر .. وعلى هذا النحو أصبحت الحرب أقرب ما تكون للحرب المقدسة .
الثالث : الحرب السلامية : أي التي ترفض الحرب من وجهة نظر دينية باعتبارها أمراً يتنافى مع تعاليم المسيح عليه السلام .. لكن عنوان الاتجاهات السلامية هذه تقف لتؤيد الحرب وتنخرط في أعمال اجتماعية لمساعدة المتضررين منها حين تقع ".
هذه هي أقسام الحرب في العقلية الصليبية المتطرفة التي تمثلها إدارة البيت الأبيض ولا شك أنهم يرون أن حربهم ضد العراق اليوم هي من القسم الأول وهذا ما أنكره عليهم الرئيس الألماني في كلامه السابق .(66/65)
ما ذكرناه سابقاً هو أحد الوجوه العقدية التي دفعت الصليبيين لشن الحرب وهناك وجوه أخرى منها أن اليهود يجدون في تلمودهم أن خراب دولتهم الثانية سيكون على أيادي جند أولي بأس شديد يخرجون من أرض بابل كما خرج ( بُختنصر ) الذي خرب دولتهم الأولى قبل آلاف السنين وساقهم أسرى ، وسلامة دولتهم تكمن في تدمير أرض بابل الملعونة ( العراق ) وقتل شعبها ليسلموا من الدمار .
ولم تكن هذه النبوءة التي في التلمود لتمر دون تفاعل من قبل البروتستانت الذين يستمدون معتقدهم من خرفات اليهود أيضاً ، ولذا فقد تفاعلوا مع هذه النبوءة للدفاع عن أرض اليهود بكافة الوسائل العسكرية والسياسية ، وحاولوا توظيف كل شيء في هذه الحرب للدفاع عن سلامة دولة اليهود وهذا أحد أهم الدوافع عندهم .
ولم يستبعدوا هذا الهاجس حتى من الأسماء لأسلحتهم ، فعندما أنتجوا قبل شهرين أضخم قنبلة تقليدية عرفها التاريخ ليستخدموها في العراق كما قال وزير الدفاع وصفوها بأنها أم القنابل وهي تزن 9450كجم ، ويعادل انفجارها قنبلة نووية صغيرة ، وقد تمت تجربتها قبل شهرين في ولاية ( فلوردا ) ، وقد أطلقوا عليها اسم ( مؤاب ) وهذا الاسم له دلالة عقدية يهودية صليبية مشتركة ، وهذا الاسم هو اسم لجبال شرقي الأردن سكنها بنو إسرائيل مع موسى عليه السلام قبل أن يدخل بهم يوشع عليه السلام إلى الأرض المقدسة - ونظن أنهم يقصدون زمن التيه الذي ضربه الله عليهم عندما عصوا رسولهم ولكنه لم يكن في الأردن - الشاهد من هذا أنهم يقولون أنهم عندما سكنوا مع موسى عليه السلام في جبال ( مؤاب ) أن موسى عليه السلام أعطاهم الوعد بدولة إسرائيل الكبرى التي تمتد من النيل إلى الفرات .
وإطلاق الأمريكان هذا الاسم على أضخم قنبلة صنعوها وعرفها التاريخ ، يدل أن دافعهم في هذه الحرب هو دافع عقدي متطرف، يؤكد لليهود أنهم ملتزمون بإقامة دولتهم التي ستكون كما وعدكم نبيكم في جبال ( مؤاب ) وسنحققه لكم بأم القنابل التي ستطهر أرض بابل الملعونة من كل شرير .
هذا جانب أخر من جوانب المزيج العقدي المتطرف الصهيوصليبي ، أما الجانب الثالث فهو القضاء دينياً على الأصولية الإسلامية في العالم الإسلامي ، والمقصود بالأصولية الإسلامية هو الإسلام الذي يخرج عن النموذج الأمريكي قال ( حاييم ) رئيس دولة اليهود الأسبق (إن الأصولية الإسلامية هي أكبر خطر يواجه العالم ، وإن إسرائيل تحمي قيم الغرب من الصحوة الإسلامية ) " .
وقال غراهام فولر - أحد كبار المستشارين السياسيين في مؤسسة راند للدراسات بواشنطن وكان نائب رئيس مجلس الاستخبارات القومي في وكالة المخابرات الأمريكية ( سي آي إيه ) - في مقال له بعنوان ( أزمة العلاقات الأمريكية السعودية ) بتاريخ 9/11/1422هـ قال " للمرة الأولى تهاجم الصحافة الأمريكية ( الحركة الوهابية ) باعتبارها حركة دينية غير متسامحة ، ومصدر الحركات الجهادية في العالم " .
وقد عني أعضاء الكونجرس الأمريكي كثيراً بمهاجمة الوهابية وكتابة التوصيات لضربها في عقر دارها في بلاد الحرمين ، وقد عقدت جلسة للكونجرس خصصت عن الخطر الوهابي بتاريخ 11ربيع الأول 1423هـ فتهجم الجميع وأوصوا بضربها كمذهب متطرف داعم للإرهاب في مختلف أنحاء العالم ، وقال ( جيمس ولسي ) أحد المتحدثين في الكونجرس بأن الوهابية وحدها ليست مسئولة عن فكر الجماعات المتطرفة ولكنها مثلت هي والأصولية الإسلامية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي تربة خصبة لنشأة الجماعات الإرهابية مثل القاعدة ، وشبّه ولسي الأصولية الإسلامية بالفلسفات المتطرفة التي سادت أوربا بعد الحرب العالمية الأولى التي قادت إلى ظهور النازية كحركة إرهابية .
ثم ختم أعضاء الكونجرس جلستهم بتقديم توصيات طالبوا فيها الولايات المتحدة بالضغط المباشر على المملكة العربية السعودية لإدخال الإصلاحات المطلوبة على المستويات الفكرية والتعليمية والسياسية ، فاستجابت دولتهم وهذه التوصيات تبعتها دراسات عملية هي محل تطبيق الآن تمثل حرب العراق أحد مراحلها .
وقد عبرت عن ذلك مستشارة الرئيس الأمريكي لشئون الأمن القومي(كوندوليزا رايس)في صحيفة (الفايننشال تايمز البريطانية ) يوم الاثنين 16/7/1423هـ عندما ذكرت " أن الولايات المتحدة تريد أن تكون قوة محررة تركرس نفسها لإحلال الديمقراطية ومسيرة الحرية في العالم الإسلامي " وقالت " إن النضال من أجل ما وصفته بالقيم الليبرالية الأمريكية يجب ألا يتوقف عند حدود الإسلام " وقالت " هناك عناصر إصلاحية في العالم الإسلامي نريد دعمها " .
معنى ذلك لابد من فرض القيم الصليبية والتقديم لهذه المرحلة بعناصر تؤصل الإسلام الأمريكي .
ويؤكد هذا المعنى تصريح وزير الدفاع الأمريكي (بول وولفويتز) يوم 25/3/1423هـ لصحيفة(واشنطن تايمز)حيث قال (إن من أكثر الدول التي يمكن أن تكون أمثلة للدول الإسلامية الحرة الديمقراطية هي : تركيا ، وأندونيسيا ، والمغرب " وقال " نروج لذلك النوع من النجاح كحل للإرهاب على المدى البعيد ، أما على المدى القريب فمن المهم اعتقال وأسر وقتل الإرهابيين " .(66/66)
ويتبين من هذه التصريحات أن مسخ الإسلام هو أحد الأهداف العقدية لهذه الحملة الصليبية ، فالدافع العقدي هو أعظم دافع يدفع الصليبيين لشن هذه الحروب ، ومحاولة التقليل من شأن هذا الدافع كما أنه تكذيب لحقيقة أمرهم إلا أنه أيضاً مناقضة لما وصفهم الله تعالى به ، فهم على كل حال لن يعدو وصف الله لهم قيد أنملة ، ولم يحذر الله منهم ويبين عداءهم لنا عبثاً ، فبعض ما نقلناه عنهم هو عين ما أخبر الله به عنهم قال تعالى ( يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ) فهذه الآية تبين أن ما نقلناه ونقله غيرنا من أقوالهم الصليبية الحاقدة ليس إلا بعض بغضائهم لنا ولديننا ، ويجب علينا أن نعتقد أن ما تخفي صدورهم أكبر بكثير مما بدا من أفواههم .
فكل مسلم صاحب عقل لا يمكن أبداً أن يستبعد الدوافع العقدية في حربهم لنا ، فمن اعتقد غير ذلك فهو ضال لا يعقل ، قال تعالى ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والأخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)وقال (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) ، فمن أصدق من الله قولاً وقد حكم أن قتالهم لنا قائم على دافع ردنا عن ديننا فقوله ( يزالون ) أي أنهم مستمرون بذلك إلى قيام الساعة ، ورضاهم عنا وكفهم عن قتالنا لن يحصل إلا أن نتبع ملتهم ، والنصوص من الكتاب والسنة المبينة لدوافعهم العقدية في قتالهم وعدائهم لنا كثيرة لا يسع المقام لذكرها .
فمما تقدم بينا ثلاث جوانب عقدية تدفع الصليبيين لهذه الحروب الحديثة على العالم الإسلام ، وهي حلقة من سلسلة حروب طويلة يرون أنهم بحاجة إلى شنها ليصلوا إلى مبتغاهم العقدي ، وهناك جوانب عقدية أخرى أقل أهمية من هذه الجوانب لا نطيل بذكرها .
الدافع الثاني لهذه الحرب : هو الهدف الاقتصادي :
إن أمريكا تعد أكبر بلد صناعي في العالم وهي بالتالي أكبر مستورد للنفط ، إلا أن إنتاجها النفطي لا يوفي بحاجتها أبداً ، وافتقارها الشديد للنفط يضطرها لخوض الحروب والتضحية بالكثير من مكتسباتها من أجل تأمين النفط الخام ، وقد أصبح تأمين النفط هاجساً حقيقياً يؤرق الإدارات الأمريكية المتتابعة منذ أكثر من خمسة عقود بشقيها الجمهوري والديموقراطي ، وقد مرت محاولات تأمين النفط لأمريكا من قبل الإدارات المتتابعة بمراحل في العمل والتخطيط ، واستقرت في نهاية الأمر على ضرورة ضمان السيطرة على منابع النفط بشكل كامل بطريق مباشر أو غير مباشر ، ووضعت خطط لأجل ذلك كان من أشهرها ما وضعه كسنجر قبل أكثر من ثلاثة عقود والتي حظيت بتطبيق الإدارات لها مع تعديلات تناسب التغير الحاصل في العالم .
ومما زاد من أهمية منابع النفط لأمريكا أنها دولة تبسط نفوذها على العالم عن طريق الاقتصاد أكثر من بسط نفوذها عن طريق التحرك العسكري ، فهي منظومة اقتصادية أكثر منها عسكرية ، علماً أن سيطرتها العسكرية وتقدمها الصناعي العسكري لا يمكن أن يحصل إلا بقوة اقتصادية هائلة تدعمه ، وبقدر ضعف اقتصادها يضعف نفوذها في العالم ، لذا فإنها أبدت استماتة كبيرة جداً في محاولة تأمين عصب الاقتصاد ، وعملت أمريكا على منافسة دول العالم الصناعية كلها للسيطرة على منابع النفط وأخذ المستعمرات السابقة من بين أيدي الأوروبيين .
ومما أزعج الأمريكيين كثيراً أن كمية الإنتاج النفطي في العالم وسعر البرميل خرج من سيطرتها وأمرها وأصبح تحت تصرف منظمة ( أوبك ) التي تضم الدول المصدرة للنفط ، وأصبح مؤشر سعر البرميل وكمية النفط خاضع لسياسة المنظمة المتمردة نوعاً ما على أمريكا لا سيما بقيادة ( شافيز ) الرئيس الفنزولي الحالي الذي حاولت أمريكا إقصاءه عن الحكم ولكن دون جدوى .
وكل يوم يمر على الأمريكان يشعرون بأنهم بحاجة ماسة لفعل أي شيء لضمان تحرير اقتصادهم من سياسات الدول الأخرى والسيطرة على منابع النفط بشكل كامل، وهم و إن كانوا الآن يملكون التصرف في المنابع النفطية في الخليج خاصة سوى العراق ، إلا أنهم لا يظمنون استمرار هذه السيطرة وعدم تمرد شعوب الخليج أو الحكومات عليهم ، فرأوا أنهم بحاجة ماسة للتعجيل بعمل عسكري يضمن لهم هذه السيطرة .(66/67)
وبعد استلام الرئيس بوش الابن لمقاليد الحكم بدأ الاقتصاد الأمريكي يدخل مرحلة الركود والتذبذب بعد أن حقق أعلى المستويات في آخر رئاسة كلنتون ، وجاءت القاصمة بالضربات المباركة ودُمر برجا التجارة ودمر الاقتصاد الأمريكي معهما ، وتحول الركود الاقتصادي إلى تدهور وانحدار وعبر عن هذه المرحلة ( مارشال لو ) المحلل الاقتصادي بقوله " إن رموز الاستثمار الأمريكي بدأت تهتز على وقع هبوط الدولار أمام العملات العالمية ، ويقول بأنه وصل إلى أدنى مستوى مقابل الفرنك واليورو والين ، ويقول بأن هذا الأمر يحمل مخاطراً حقيقية على الأمريكان في الاضطرابات التي أصلاً كانت تحتاج إلى قدوم الأموال إليها لسد العجز الدائم في الميزانية الأمريكية ، ويختم كلامه بقوله إننا لم نشهد مثل هذه الحالة في الماضي إطلاقاً ففي كل يوم تظهر أزمة في العالم جديدة تزيد من معاناة الدولار " .
وفي تقرير للبنك المركزي بعد ضربات سبتمبر بثمانية أشهر أفاد التقرير بأن الصناعة الأمريكية تعمل في الوقت الراهن بنسبة 75% من طاقتها الكلية وهو أقل معدل تعمل به منذ ثمانية عشر عاماً ، ولكن المراقبين يشككون في صحة هذه الأرقام مؤكدين أن المعدل أقل من ذلك بكثير .
وقال صمويل جيردانو المدير التنفيذي لمعهد الإفلاس الأمريكي قال " كان عام 2001م عام رواج لحالات الإفلاس ، أدت المستويات الفلكية لديون المستهلكين مقترنة بالانكماش الاقتصادي إلى مواجهة مزيد من الأسر لضغوط اقتصادية أكثر من أي وقت مضى " .
هكذا عبر الأمريكيون عن حالة الاقتصاد بعد الضربات المباركة ، وتحول الفائض الذي حققته إدارة كلنتون والبالغ قرابة سبعة ترليونات دولار إلى عجز في نهاية عام 2002م بلغ ما يقرب من 156مليار دولار .
شعرت أمريكا بعد ضربات سبتمبر وبعد تورطها في حرب أفغانستان وحرب ما أسمته بالإرهاب في كل العالم ، شعرت أن العبء الاقتصادي عليها ضخم جداً وأن اقتصادها بدأ يحتضر ، ولابد لها من عمل تنقذ به اقتصادها ، وقد أوضح هذا المستشار الاقتصادي للرئيس بوش عندما قال بأن الاقتصاد الأمريكي مقبل على الانهيار وأن انتعاشه مرهون بانخفاض أسعار النفط تحت عشرة دولارات للبرميل .
وقد قالت صحيفة الليبراسيون الفرنسية إن جورج بوش يسيل لعابه على سبعة ملايين برميل نفط عراقي يمكن إنتاجه يومياً لتقليل الاعتماد على النفط السعودي .. وقالت : إن بوش يدرك جيداً أن احتياطي العراق من البترول يصل إلى 115مليار برميل ، مما يضع العراق في المرتبة الثانية من حيث الاحتياطي البترولي العالمي بعد السعودية " .
ونشرت جريدة الحياة في عددها الصادر يوم 27/7/1423هـ مقالاً بعنوان ( النفط عامل رئيس في الحرب على العراق ) قالت فيه " لم يكن موضوع زيادة اعتماد الولايات المتحدة على نفط الخليج يحظى باهتمام كبير من قبل القائمين على السياسة الأمريكية حتى 11 أيلول ( سبتمبر 2001) ، غير أنه منذ ذلك الحين ، أصبح هناك تصميم واضح للإدارة الأمريكية على خفض اعتماد الولايات المتحدة على النفط المستورد من منطقة الشرق الأوسط وزيادة الواردات النفطية من روسيا وأمريكا اللاتينية ودول غرب أفريقيا وحوض بحر قزوين ، وإذا نجح الرئيس الأمريكي جورج بوش بتحقيق التغيير المستهدف للنظام العراقي ، سيُفتح المجال أمام شركات النفط الأمريكية للعمل في العراق والاستفادة من احتياطات نفطية ضخمة ، وسيصبح العراق مصدر نفط أكثر أماناً للولايات المتحدة ، وإذا ما تحقق هذا السيناريو فإن العراق سيستطيع زيادة طاقته الإنتاجية لتعود إلى المستويات التي وصلت إليها سابقاً وتجاوزت 3.5مليون برميل يومياً على أن تصل معدلات الإنتاج هذه إلى ما يقرب من ستة ملايين برميل يومياً بعد خمس سنوات ، وستؤدي هذه الزيادة إلى ظهور فائض في الإنتاج في سوق النفط الدولية ، وستضعف من قدرة ( أوبك ) للسيطرة على الأسعار ، وستشعر واشنطن عندها أنها في وضع تستطيع فيه الضغط على دول الخليج للقيام بالإصلاحات السياسية والاقتصادية الملطلوبة " .
فلم يكن أمام أمريكا إلا أن تركز على ضرب سوق النفط أو محاولة سرقة النفط من دولة أخرى ، فحاولت عن طريق المؤامرات إزاحة الرئيس الفنزولي الذي عمل كصمام أمان لأسعار النفط كونه رئيس منظمة أوبك ، ولم تفلح ، ففكرت بغزو العراق دون أي مبرر مقنع لا لأعضاء مجلس الأمن ولا للعالم ولا حتى للأمريكيين ، وسعت لشن حرب ظالمة ترى أنها ملزمة بشنها على العراق لاحتلال نفطه رغم أن هذه الحرب قد تكلفها 100مليار دولار من الناحية الاقتصادية سوى الخسائر البشرية والسياسية ، إلا أنها ترى أن احتلال نفط العراق بالنسبة لها يعد الركيزة الأهم لمنع انهيار اقتصادها إذا ما احتلت العراق ونصبت عليه حكومة عسكرية أمريكية تسرق النفط منه دون مقابل .(66/68)
ووقع اختيارها على العراق لأهداف عقدية قدمنا طرفاً منها ، زيادة على ذلك أنه هو البلد النفطي الوحيد الذي فرض على نفسه عزلة سياسية مع دول الجوار ، والأهم من ذلك أنه يعد البلد النفطي الثاني من حيث المخزون ، ويصل إنتاجه النفطي إلى أكثر من خمسة ملايين برميل يومياً ، واحتلال أقوى دولة عسكرياً في المنطقة بعد إسرائيل يعد استراتيجية عسكرية وسياسية لا مثيل لها .
هذا جانب واحد من جوانب الدافع الاقتصادي ولا نطيل بذكر بقية الجوانب الاقتصادية الأخرى فهي متشعبة سواء كانت إقليمية أو دولية ، ولكن الجانب الاقتصادي والتحكم في سعر البرميل هو أكبر العوامل التي ستتيح للأمريكيين فرض سياستهم على المنطقة التي تعتمد اعتماداً كلياً على النفط ومع فقدان قيمته فسوف تنصاع لأمريكا زيادة على انصياعها الكامل .
وفي تقديرنا أنه لو لم يكن لهذا الدافع الاقتصادي دافع عقدي قوي لما جعل أمريكا تتجه للعمل العسكري لحل أزمتها الاقتصادية التي ستفقدها الكثير من الجوانب الأخرى ، ولكن هناك دوافع عقدية حفزت الصليبيين على هذا العمل ضمن إطار الحملة الصليبية التي أعلنوا عنها ، ومهما تكن المخاطر التي تنذر بفشل حملتهم وانقلابها ضدهم حسب توقعات المحللين ، فإن هذا لن يثني الإدارة المتطرفة ، لأنهم يتحركون وفقاً لمعتقد يرون فيه أن الرب خولهم لتنفيذ ما يرضيه كما صرح بوش بذلك .
هذان هما أهم دافعان نرى أنهما دفعا الإدارة الصليبية المتطرفة لهذه الحرب الظالمة على العراق ، وهناك دوافع استراتيجية أخرى وتكتيكية سياسية كانت أو عسكرية أو حتى مائية،اجتمعت كلها لتجعل من غزو العراق أمراً ضرورياً لابد منه ولا يمكن تأجيله بحال .
هذا ما نرى أنه يجب تصوره في الإجابة على سؤال الدوافع الأمريكية لحرب العراق .
===============(66/69)
(66/70)
الحرب الصليبية على العراق - الحلقة الثالثة
أجبنا في الحلقة الماضية على السؤال المختص بالدوافع الأمريكية لغزو العراق ، وأكدنا على أن الدافع الأهم والأقوى هو الدافع العقدي ، وتناولنا منه ثلاثة جوانب فقط ، ولا زلنا نؤكد أن الدافع الأهم للغزو الصليبي للعراق هو الدافع العقدي ، ولو انفرد الدافع الاقتصادي أو السياسي لما استدعى ذلك خوض حرب دون أدنى مبرر ، ولأمكن الوصول إلى المصالح السياسية أو الاقتصادية دون الحاجة لخوض حرب ، كما هو الحال في جميع دول العالم التي تتبادل المصالح الاقتصادية والسياسية دون الحاجة لخوض حروب .
أما السؤال الثاني في قائمة أسئلة الحلقة الأولى فهو :
س2 : ما مدى تأثير عدم وجود مبرر سياسي لغزو العراق على الأداء الصليبي في الميدان ؟ .
ج2 : هذا السؤال مهم جداً لأن التأثير سيبقى ملازماً للصليبيين على عدة أصعدة ولفترات طويلة .
وللإيضاح نقول ، لقد حاولت أمريكا وبريطانيا وباستماتة منقطعة النظير إيجاد مبرر سياسي أو أخلاقي لغزو العراق ، ومع شدة محاولاتها وضغطها على الأمم المتحدة وعلى مجلس الأمن وعلى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ، إلا أنها فشلت في تحقيق ذلك المبرر المطلوب لغزو العراق .
إلا أنها تمكنت من استصدار قرار 1441 والقاضي بنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية وعودة المفتشين ، وبدأ تنفيذ القرار وأقر العالم كله بما فيهم بلكس والبردعي رئيسا لجنة التفتيش بأن العراق متفاعل مع هذه القرار وأنه لم يحاول أبداً إعاقة عمل المفتشين ، علماً أن من شروط التفتيش أن أي تعطيل لمدة نصف ساعة من قبل السلطات العراقية للمفتشين عن دخول أي موقع يعد خرقاً للقرار ، إلا أن العراق انصاع للقرار وتم التفتيش حتى قدم بلكس والبردعي تقريرهما الخجول وبينا أن العراق خال من أسلحة الدمار الشامل ، وكإرضاء لأمريكا طالبا بإعطاء وقت أطول لعمليات التفتيش ، إلا أن المحصلة أن المفتشين لم يثبتوا شيئاً ضد العراق مما يخدم أمريكا .
وقد حاولت أمريكا وبريطانيا إمداد المفتشين بمعلومات استخباراتية عن أماكن تخزين أسلحة الدمار الشامل في العراق إلا أن المعلومات كانت خائبة كالعادة ، وتم تزويد المفتشين بطائرات استطلاع أمريكية للكشف عن أماكن تخزين أسلحة الدمار الشامل ولكن دون جدوى ، وقد ذكر بلكس رئيس لجنة التفتيش أن أمريكا حاولت تزويده بوثائق مزورة تثبت أن العراق قد اشترى اليورانيوم من النيجر ، إلا أنه تم اكتشاف هذه الكذبة ، ثم جاء بعدها تقرير باول وزير الخارجية الأمريكي والذي زعم فيه أنه يمتلك معولمات استخباراتية تؤكد امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل ، إلا أن التقرير المسروق كان مثاراً للسخرية من هذا الوزير الحاذق ، وتلته محاولات بلير رئيس الوزراء البريطاني لإثبات شيء إلا انه فشل ، ونافح البريطانيون والأمريكان في كل محفل عن رأيهم بأن العراق يمتلك أسلحة الدمار ولكن فشلوا في كل ذلك .
ثم توجهوا إلى حجة أخرى وهو أن صدام دكتاتور ويهدد شعبه ومجرم حرب ومخالف لأربعة عشر قراراً من قرارات الأمم المتحدة الصادرة بحقه ، وأنه متعاون مع الإرهابيين ، وحاولوا التحول إلى هذه الدعوى ، وأبدوا قدراً من التعاطف الإنساني مع الشعب العراقي لينقذوه من صدام ، ولكن لا مجيب لهم ، ونسوا أن حصارهم للعراق لمدة 12 عاماً قد قتل من العراقيين أكثر من مليون وسبعمائة ألف ، سوى من أصيب بالسرطان والأمراض المزمنة من جراء استخدام اليورانيوم المنضب في حرب الخليج الثانية ، أضف عليهم من أصيبوا بنقص حاد في التغذية بسبب قلة الغذاء والدواء في العراق من آثار الحصار ، فيصل عدد المتضررين من هذا العدوان إلى ربع سكان العراق تقريباً ، ومعنى هذا أن دعواهم في إنقاذ شعب العراق من صدام لدافع إنساني ، يستلزم أن يكفوا هم عن قتل شعب العراق بالحصار وعلى أسوأ الأحوال فلن يقتل صدام من شعب العراق أكثر مما قتلوا .
أما دعواهم بأن صدام مخالف لقرارات الأمم المتحدة ،فيلزم من هذا أن كل مخالف لقرارات الأمم المتحدة يجب على أمريكا أن تشن حرباً عليه لينصاع لقرارات الأمم المتحدة ، وبالمقابل فإنهم لا يمكن أبداً أن يثبتوا أن اليهود انصاعوا لقرار واحد من قرارات الأمم المتحدة الصادرة ضدهم ، فهم ينقضون قراراً تلو قرار ولم تفكر أمريكا في انتقادهم أو اتخاذ قرار ضدهم ، بل على العكس من ذلك فهي تدعمهم وقد دافعت عنهم في مجلس الأمن ورفعت حق النقض الفيتو أكثر من أربع وعشرين مرة لإبطال القرارات التي تصدر ضد اليهود ، فما بال صدام يجب شن الحرب عليه لمخالفته لقرارات الأمم المتحدة ؟ واليهود يدافع عنهم بحق النقض ولم يطبقوا قراراً واحداً ؟ علماً أنهم قتلوا من الفلسطينيين وشردوا أكثر مما قتله صدام وشرده من العراقيين ، كما أنهم يمتلكون أسلحة الدمار الشامل ويعلنون بذلك ولا يستخفون .(66/71)
أمريكا تتناقض في دعواها ولم تستطع مع استماتتها أن تثبت شيئاً يدين صدام أو حكومته ، وفشلت كل المحاولات وفقدت المبرر لشن الحرب ، إلا أنها لم تكن تبحث عن المبرر لاتخاذ قرار الحرب ، فقرار الحرب اتخذته بسبب دوافع عقدية واقتصادية وسياسية عرضنا لبعضها في الحلقة الماضية .
فيقال إذا كانت أمريكا قد اتخذت قرار الحرب مسبقاً لدوافع أخرى،لماذا حرصت لجعل حربها تحت مظلة الأمم المتحدة ومجلس الأمن؟.
نقول إن فوائد خروج قرار الحرب من تحت مظلة مجلس الأمن ، يعود بالنفع على أمريكا من جميع الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية والإنسانية الإغاثية ، علماً أنه سيفقدها جزءً كبيراً من الكعكة العراقية ولكنها سترضى بثلثي الكعكة ليتقاسم بقيه الأعضاء الثلث الباقي مقابل دعمها من جميع الجوانب .
ومعنى ذلك أن قرار الحرب إذا كان أمريكياً منفرداً ، فإن تكاليف تدمير العراق وتكاليف تعميره ، ستكون كلها على كاهل أمريكا ، لأن الحرب ستكلف أمريكا من الناحية الاقتصادية الكثير ، وعلى سبيل المثال فإن أمريكا تنفق 18 مليون دولار لوقود آلياتها أثناء الحرب يومياً ، كما أنها تنفق 480ألف دولار يومياً لمياه الشرب لجنودها في الميدان ، وتنفق 30 مليون دولار يومياً لوجبات الطعام لجنودها ، وما يخص صيانة الناقلات وإيصال هذا التموين إلى ميدان المعركة يكلف قرابة 10 ملايين كل 48 ساعة من الكويت إلى الميدان لقطع أكثر من 450 كلم ، هذه تكلفة وقود الآليات وطعام الجنود ، فكيف لو أضفنا عليها تكاليف سلاح الجو فيما يختص بوقود الطائرات وصيانة الطائرات وتكاليف الذخائر والقنابل والصواريخ وقذائف سلاح البر وذخائر الأسلحة ، إضافة إلى سلاح البحر حاملات الطائرات وما يختص بها من تكاليف ، كل هذا يضاف عليه الخسائر اليومية في الميدان من آليات وطائرات تكلف مئات الملايين من الدولارات ، وحتى الآن فإن التقارير الأمريكية تفيد بأن ثلث الآليات في الميدان غير صالحة للاستخدام بسبب الأعطال وهي تعمل الآن في ظروف استثنائية ، كل هذا يكلف أمريكا الشيء الكثير ، فقد وضعت أمريكا له 100مليار دولار كتوقع لتكاليف الحرب ، ونحن نظن أن الاقتصاد الأمريكي غير قادر على دعم الحرب بهذا المبلغ ، فالعجز في الاقتصاد الأمريكي هائل جداً ، لأجل ذلك كانت أمريكا حريصة على أن يكون قرار الحرب خارجاً من تحت مظلة مجلس الأمن لتتقاسم الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تكاليف هذه الحرب ، بدلاً من وضعها كاملة على عاتق أمريكا .
ولن ينتهي أمر تكاليف الحرب عند الحرب وحدها التي لا يدري الأمريكان متى تنتهي ولا كيف تنتهي ، بل إن الأمر يتعدى إلى تعمير ما دمرته الحرب ، وبما أن القرار أمريكي فالتعمير أمريكي أيضاً ، إضافة إلى المعونات الإنسانية التي يفترض أن تقدم للعراق لو قدر الله سقوطها بأيديهم ، كل تكاليف ما قبل الحرب وأثناء الحرب وما بعد الحرب كلها ستكون على أمريكا منفردة ، عندما فقدت غطاء قرار مجلس الأمن لهذه الحرب .
ولأجل هذا السبب الاقتصادي أولاً سعت أمريكا لأن يكون قرار الحرب صادراً من مجلس الأمن ، وحينما عجزت عن هذا شنت الحرب بتكاليف مؤجلة ستدفعها من سرقتها للنفط العراقي لو حصلت السيطرة لها .
أما من الناحية العسكرية فأمريكا لم تكن بحاجة لدعم عسكري من الناحية التقنية أو الجوية ، ولكنها بحاجة إلى دعم عسكري بري من قبل أعضاء الأمم المتحدة ، فأمريكا منذ عقود لم تخض حروباً برية حقيقية في الميدان ، وكل اعتمادها في حروبها على قواتها الجوية ، فهي بحاجة أيضاً في هذه الحرب لأن تقدم قوات برية لدول أخرى لتتولى هي القصف الجوي بتكاليف دولية ، أما من الجانب الآخر فإن أمريكا على استعداد لتقديم كل شيء مقابل تجنب إدخال جنودها في ميدان المعركة ليس بسبب معرفتها بعدم كفاءة الجندي الأمريكي ، ولكن لمحاولة حفاظها على أرواح جنودها خشية معارضة الرأي العام الأمريكي لقرارات الحرب .(66/72)
أما من الناحية السياسية والإعلامية فأمريكا كانت بحاجة ماسة لوجود دعم سياسي وإعلامي من قبل دول العالم كلها لتحاصر بها الحكومة العراقية والشعب العراقي لتتمكن عن طريق الدعاية والضغط السياسي والإعلامي من الانتصار في الميدان ، كما هي عادتها في التركيز على التزييف الإعلامي والأكاذيب لتظهر قدراً من القوة والغلبة للعدو قبل أن تخوض حرباً معه ، فإذا كان قرار الحرب صادراً عن مجلس الأمن فسوف تردد أمريكا في كل دقيقة اسم الحرب تنفيذاً لقرار مجلس الأمن ونزع أسلحة الدمار حسبه ، وبهذا القرار تضغط على جميع أعضاء الأمم المتحدة بدعمها سياسياً وفتح الأجواء والحدود بل وعدم إبداء أي قدر من التعاطف أو الحيادية مع العراق ، كما حصل في أفغانستان عندما قال بوش ( من لم يكن معنا فهو ضدنا ) لأنه في حرب أفغانستان يستند إلى قرار من مجلس الأمن بشن الحرب ، فخاض الحرب مع جميع دول العالم وبمشاركة أكثر من 100 دولة كما قال وزير الدفاع الأمريكي ، وساق بوش بذلك دول العالم كلها لدفع تكاليف تعمير ما دمروا في أفغانستان إلا أن الإعانات القليلة المدفوعة سرقتها أمريكا كثمن لتكاليف الضربات الأمريكية على أفغانستان .
والفوائد التي كانت تسعى أمريكا للحصول عليها من قرار مجلس الأمن بشن الحرب على العراق ، لا تنتهي عند حد فهي كثيرة وعلى جميع الأصعدة ، وعندما فقدت هذا القرار اضطرت لشن الحرب مع بريطانيا فتولت تكاليف الحرب كاملة أما من الناحية السياسية فقد وصف العالم كله قرار الحرب بأنه خارج الشرعية الدولية - كما يسمونها - ومعنى هذا أن الحرب من الناحية السياسية لن تلاقي أي دعم سياسي من الدول المهمة التي كانت أمريكا تطمع بتأييدها ، ولم ينته الأمر عند هذا الحد حتى أبدت الدول الدائمة العضوية معارضتها للحرب والسعي لإيقافها ووصفها بأنها حرب ظالمة وخارج الشرعية ، فانعكس هذا على جميع شعوب دول العالم ، وللمرة الأولى التي تجمع شعوب العالم فيها على رفض حدث معين ، فقد شهدت دول العالم كلها مظاهرات خرج فيها عشرات الملايين من الناس من جميع الديانات لاستنكار هذه الحرب والمطالبة بإيقافها ولازالت المظاهرات مستمرة .
ولم يكن الرأي العام الأمريكي معزولاً عن هذه الاستنكارات رغم حرص حكومته على تغييبه عن حقيقة الأمر ، إلا أن الرأي العام الأمريكي أبرز الملايين منه في مظاهرات تندد بالحرب ، وتنادي الجنود الأمريكيين برفض قرار الحرب وإعلان العصيان وعدم المشاركة فيها ، ولم يكن الجندي الأمريكي في معزل عن كل هذه التفاعلات ، فتأكد أن هذه الحرب تفتقر لأي مبرر منطقي أو شرعية دولية فهي حرب ظالمة بكل المقاييس ، وقد أدت هذه القناعة لدى الجندي إلى انهيار روحه المعنوية ، وبالمقابل ارتفاع الروح المعنوية للشعب وللجندي العراقي ، وتغير الأداء في الميدان وخرج عن التوقعات كلها في قوة المقاومة العراقية ، وفي ضعف وبطئ التقدم البري وفي التخبط الصليبي على الميدان على مستوى القيادة ، وحتى اليوم لم تسقط مدينة عراقية رغم حصار بعضها أو دخولهم لضواحيها .
والتخبط في التخطيط بداية عائد لفقدان المبرر لشن هذه الحرب ، فخضعت الخطة في ميدان المعركة لقرار سياسي لا عسكري ، فصدر القرار السياسي بشن حرب خاطفة وسريعة لا تستغرق أكثر من أسبوع ، خشية ازدياد الاحتجاج العالمي ودخول أطراف أخرى مساندة ولو من الناحية السياسية لحكومة العراق ، ولأجل هذا القرار السياسي ، وضع العسكريون الخطة بشن حرب خاطفة ، ومن أكبر الأخطاء أن يُخضِع العسكريون خططهم العسكرية لقرارات سياسية ، والأصل أن تخضع الخطط العسكرية للمعطيات الميدانية على أرض الواقع ، ولكن فقدان المبرر في شن الحرب دفعهم لهذا الأداء المضطرب على الميدان ، ومحاولة الاستعجال لحسم الحرب وتحقيق أي شيء على أرض الواقع لوضع العالم أمام الأمر الواقع .
ولا زال الصليبيون يعانون من ازدياد تدني الروح المعنوية لدى قواتهم ، وهم يحاولون رفعها بشتى الوسائل ، سواء بتضخيم الإنجازات أو اختلاق الأكاذيب كسحق فرقة عراقية كاملة يتجاوز تعدادها 15 ألف جندي خلال معركة ست ساعات في ليلة واحدة ، أو بإعطاء الجنود عقاقير منشطة وأخرى لإزالة الخوف والرعب ،وأخيراً بدأ الاتجاه إلى رفع الوازع العقدي لدى الجندي الأمريكي في الميدان لعل هذا يعوض النقص الضخم لدى الجندي الأمريكي في بقية الدوافع ، فأمر الرئيس الأمريكي بتوزيع كتب دينية تحتوي على أدعية ونصوص إنجيلية توراتية محرفة تؤكد لهم أنهم مخولون من الرب لإزالة الشر من على الأرض ، وخطاب الرئيس الأمريكي يوم الخميس 2/2 أمام فرقة للمشاة في أمريكا قبل إرسالها لميدان المعركة يؤكد الحرص على رفع الروح المعنوية عن طريق إقناع الجنود أنهم يقاتلون بتخويل من الرب ، وعلى غير العادة افتتح الرئيس خطابه بصلاة صليبية فيها من الألفاظ والمعاني ما يدل على أنهم يعتقدون أنهم يخضون حرباً صليبية ، ولكن مشكلتهم تكمن في إقناع الجندي الأمريكي بهذه العقيدة وهم خليط من القوميات والمذاهب النصرانية ، والعلمانية المنكرة للدين .(66/73)
والمحصلة هي أن فقدان المبرر لشن الحرب ، أثّر على الخطط العسكرية في الميدان وأصابها بإخفاق عظيم ربما القادم سيكون أعظم ، كما أثر على أداء الجندي الأمريكي في الميدان الذي يستمد قوته من تماسك الرأي العام الأمريكي الذي يعارض هذه الحرب ، وكلما طال زمن الحرب كلما زاد التخبط السياسي والعسكري الميداني وضعف أداء الجندي في الميدان ، لا سيما بعد أن عرف أنه خدع بتقارير الاستخبارات الفاشلة التي أكدت له أكثر من مرة أن الجندي العراقي منهك ، وأن تجهيزه متهالك ، وأنه لا يمتلك القدرات القتالية ، ويفاجأ بخلاف ذلك تماماً ، وكلما طالت الحرب كلما قويت عوامل انهيار القوات الصليبية في الميدان ، التي تسعى بشتى الوسائل لتحقيق أي شيء .
ولكن المطلب الملح هو كيف يمكن للقوات العراقية إطالة زمن الحرب والصمود لأربعة أشهر فقط ومنع القوات الصليبية من دخول المدن الرئيسة ، وإذا حصل هذا فإن ارتفاع درجة الحرارة في صحاري بغداد والتي تصل تحت الشمس إلى 65درجة مئوية ، كافية بإذن الله تعالى لإهلاك الجندي الصليبي الذي لن يصمد أمام درجة الحرارة المرتفعة بألبسته الواقية للرصاص واللباس الواقي من الغازات وغيرها من الألبسة التي لايمكن تحملها إلا في درجات حرارة منخفضة ، فكيف يمكن تحملها قريباً من درجة الغليان ، وبعد شهر من الآن سيبدأ أثر الحر على أداء الجندي الصليبي ، وسيعطل الحر بعد أربعة أشهر الجندي والآليات وربما المعدات التي لم تجرب سابقاً في درجات حرارة مرتفعة كهذه .أما السؤال الثالث فهو :
س3 : ما هي الاستراتيجية الهجومية الأمريكية المفترضة لحروبها ؟ .
ج3 : أولاً لابد أن يُعلم أن القوات الجوية لا يمكن أن تبسط سيطرتها على الأرض دون الحاجة للقوات البرية هذه قاعدة لا تخترم ، فمهما كان تفوق القوات الجوية ، فإن هذا غير كاف لبسط السيطرة على الأرض ، و الاستراتيجية الأمريكية أو لنقل العسكرية بشكل عام هي أن أي قوات برية تريد السيطرة على الأرض لابد أن تسبق بنوعين من القصف ، أولاً القصف الاستراتيجي ويستخدم فيه القاذفات والصواريخ العابرة والطائرات المقاتلة ، وثانياً القصف التكتيكي أو العملياتي ويستخدم فيه المروحيات ومدفعية الميدان ، ومهمة القصف الاستراتيجي الجوي المكثف هو قصف المنشآت العسكرية الحيوية ، ومحاولة قطع اتصالات العدو وإمداداته وضرب القيادة العامة ومقار قيادات العمليات في مختلف القطاعات والإنهاك بشكل عام ومحاولة تشتيت الخصم وتمزيق تماسكه وإنهاك دفاعات العدو وخلخلة صفوفه المتقدمة وضرب مضاداته وأسلحة الإسناد لديه وغيرها من الأهداف المهمة ، ومدة إنجاز هذه المهمة مرتبطة بحجم قوات العدو وسعة انتشارها على الأرض وعمقها الاستراتيجي ، ولكنها قطعاً في العراق لن تنجز خلال شهر أو شهرين .
يلي هذا القصف الجوي الاستراتيجي القصف التكتيكي أو العملياتي ، وربما يتزامن مع القصف الاستراتيجي ، ولكنه غالباً ما يكون بعده وذلك بعد ضمان تدمير جميع المضادات الأرضية لضمان سلامة المروحيات والسيطرة الجوية ، ويستخدم في هذا النوع من القصف المروحيات وطائرات القتال على ارتفاع منخفض والمدفعية الميدانية الثابتة أو المتحركة بما فيها دبابات القتال الرئيسة ، وهذا القصف غالباً ما يكون قبل تقدم القوات البرية بمدة يسيرة جداً أو متزامن مع التقدم البري بهدف إخماد نيران العدو لضمان سلامة جنود المشاة ، وكل قطاع تم تمشيطه تكتيكياً يمكن للقوات البرية التقدم لاحتلاله وهكذا .
هذه هي الاستراتيجية العسكرية الأمريكية وغير الأمريكية في الحروب التي تهدف القوات منها للسيطرة على الأرض بتقديم سلاح البر، وهناك اختلافات تكتيكية لما سبق ذكره في كيفية الأداء أو التوقيت حسب المعطيات الميدانية وسلاح المهاجم ، إلا أننا لم نر هذه الاستراتيجية مطبقة في الغزو الصليبي للعراق ، وهذا يقودنا إلى لسؤال الرابع وهو :-
س4 : لماذا تغيرت هذه الاستراتيجية في غزو العراق ؟ .
ج4 : تغير هذه الاستراتيجية في الغزو الصليبي للعراق نحن وجميع المراقبين العسكريين بما فيهم قادة سلاح البر الأمريكي ، نرى أنه خطأ فاحش وغباء عسكري منقطع النظير ، ولكن السؤال ما هو السبب أو الأسباب لهذا الغباء ؟ .
من الصعب تحديد جميع الأسباب بدقة ولكن بعد استقراء للحرب نقول :-
السبب الأول : لاشك أنها حكمة من الله تعالى أن يدخلوا الحرب بهذا الأسلوب الضعيف الذي دمر معنوياتهم ورفع معنويات العراقيين وزاد من حماسهم مما مكنهم من إلحاق خسائر جسيمة بالصليبيين ، أدى ذلك إلى خلاف حاد بين العسكريين أنفسهم وبين العسكريين والسياسيين مما اضطرهم لوقف الحرب وإعادة الخطة .(66/74)
السبب الثاني : اعتماد وزارة الدفاع على معلومات استخباراتية فاشلة أكدت لهم بأن حربهم لن تطول وأن المقاومة العراقية منهارة ولا تحتاج إلا إلى دفعة بسيطة لتتساقط كأحجار الدومنو خلف بعضها وبتتابع سريع ، وهذا الاعتماد على المعلومات المغلوطة دفعهم لشن حرب تركز على الإنجاز على الأرض ولو كان بسيطاً أكثر من حاجتها لأي شيء آخر ، لتتمكن إعلامياً من القول بأنها سيطرة على مئات الكيلو مترات المربعة ليبدأ دعم الشعب العراقي لهم .
السبب الثالث : وهذا السبب سبق أن ذكرناه ونعيده هنا ، وهو أن الخطة العسكرية في الميدان خضعت لقرار سياسي هو شن حرب سريعة وصاعقة لا تستغرق أكثر من أسبوع لمنع تضخم المضاعفات السياسية والاقتصادية على الساحة الدولية ووضع العالم أمام الأمر الواقع بعد احتلال العراق بسرعة ، فقرر العسكريون أن يضعوا خطة تخدم هذا القرار السياسي ، وبالتالي فإن القصف الاستراتيجي سيطيل مدة الحرب وهم بحاجة إلى السيطرة البرية حتى ولو لم يحصل تمهيد جوي لها ، فتم استبعاد التمهيد الاستراتيجي لتعجل الحسم على الأرض .
السبب الرابع : وهو أيضاً مما ذكرناه سابقاً ونعيده هنا ، وهو أن القوات الأمريكية بحاجة إلى استعجال السيطرة البرية والدخول إلى المدن كي تنجوا من مهلكة الصحراء العراقية والتي ستكون جحيماً عليها ولو دون قتال ، فارتفاع درجة الحرارة خاصة مع حلول شهر جمادى الآخرة أي أغسطس الشهر الثامن الميلادي ، والتي ستصل فيها درجة الحرارة في الصحراء تحت الشمس إلى أكثر من 65درجة مئوية ، مما يعني موت الجندي الصليبي بسبب الحرارة زيادة إلى تعطل جميع أجهزته الشخصية وعدم تمكنه من ارتداء ملابسه الحالية كواقي الرصاص واللباس الواقي من الغازات ، وستؤدي الحرارة إلى تعطيل أكثر المعدات أو ستقلل من ساعات تشغيلها في النهار إلى حد كبير قد يكون قاتلاً في حال تركيز العراقيين شن الهجمات من الضحى و حتى العصر كل يوم ، هذا الهاجس المرعب للقوات الأمريكية والذي جربته في حرب الخليج الثانية وكان قاتلاً رغم عدم دخول القوات البرية في وضع قتالي آنذاك ، هو الذي دفعهم لهذا التقدم في محاولة لدخول المدن والتحصن فيها من الحر القاتل ، فهم بين نارين إما جحيم الصحراء أو استعجال الدخول إلى المدن ليواجهوا حرب مدن مهلكة إن أحسن العراقيون التخطيط لها .
السبب الخامس : من الأسباب التي غيرت الاستراتيجية هو الخلاف بين قادة سلاح الجو وقادة سلاح البر الأمريكيين وهو أن الخطة لابد وأن تعتمد على التفوق التكنلوجي في الميدان ، فلا حاجة للدفع بسلاح المشاة بأعداد كبيرة داخل الميدان ، بما أن قوات المشاة تمتلك غطاء جوياً تكتيكياً واستراتيجياً هائلاً ، مع فقدان الخصم لهذا الغطاء بشكل كامل ، زيادة على الفارق الخرافي في حجم القدرة التكنلوجية لدى الجيشين على الأرض ، فأصر أصحاب نظرية التكنلوجيا ومنهم رمسفيلد على أن التكنلوجيا قادرة على إنجاز المهام في الميدان بنسبة تصل إلى 70% والباقي على رجل المشاة ، فقرروا خرق الاستراتيجية الهجومية واستبدالها بالتقدم البري غير المدروس لتحقق التكنلوجيا كل شيء على الأرض ، إلا أنها اصطدمت بعقبة كئود أرغمتها على تغيير الخطة ، إلا أن الخطة الجديدة تتحمل أعباء الإخفاق الأول ، ولا زال الوضع تحت المراقبة لننظر ماذا تصنع التكنولجيا أو رجل المشاة الصليبي في الميدان .
السبب السادس : إن شح المخزون الأمريكي للقصف الاستراتيجي دفعها لتغيير هذه الاستراتيجية ، فالقصف الاستراتيجي يحتاج إلى استخدام القذائف الذكية والصواريخ العابرة الموجهة بالأقمار ، ومخزون أمريكا من هذا النوع من القذائف والصواريخ مخزون محدود ، لا يمكن أن يصمد لمدة شهرين للتمهيد الجوي المكثف بالمعنى الصحيح على جميع العراق ، فإذا كانت حرب أفغانستان استنزفت هذا المخزون رغم عدم وجود أهداف استراتيجية حيوية لدى الإمارة الإسلامية ، فكيف سيكون الحال في العراق التي أنشأت ترسانة عسكرية ضخمة تقدر بـ 130 مليار دولار خلال عقدين ونصف ، فبعد دخول الصليبيين لجميع المدن الأفغانية صرح وزير الدفاع الأمريكي في معرض رده على سؤال للواشنطن بوست حول مدى استعداد القوات الأمريكية لشن حرب على العراق ، فأجاب بأن مخزون القذائف الذكية لدى الولايات المتحدة لا يساعد لشن الحرب قريباً ونحتاج إلى ستة أشهر لإعادة تصنيع القذائف الذكية لنكون مستعدين للحرب ، وهذا التصريح يدل على أن القوات الجوية الأمريكية شحيحة بهذا المخزون الذي تخشى أن ينفد وهي لا تدري متى ستنتهي الحرب ، ولا حجم التغير القادم فيها،فربما تكون مراحل الحرب المتوسطة أو الأخيرة أشد حاجة لهذا المخزون من بدايتها ، فحصل هذا التغير في الاستراتيجية للحفاظ على هذا المخزن ، ولكن السؤال هو كم يحتاج المخزون الاستراتيجي حتى ينفد ؟ .(66/75)
الإجابة على هذا السؤال بدقة لا يمكن أن تكون أبداً ، فهذا من الأسرار العسكرية الأمريكية ، ولكن بما أن العمليات الجوية في أفغانستان سببت هذا النقص الحاد في المخزون كما صرح وزير الدفاع ، فبالتأكيد أن القياس على كثافة القصف في أفغانستان والمدة المستغرقة للقصف تأتي بجواب معتبرة نوعاً ما على هذا السؤال ، حتى الآن لم تشهد العراق قصفاً مكثفاً كما شهدته أفغانستان خلال شهرين تقريباً وبناء على هذا يمكن معرفة متى ينفد المخزون أو يتأثر بالنقص الحاد ، ويقول رتشرد مايرز رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية واصفاً الضربات الجوية الاستراتيجية على العراق ( نحن كمن يلقي الذهب في الطين ) كإشارة على عدم جدوى هذه الضربات في العراق ، وهذا الذي دفعهم إلى فقدان أعصابهم لتحقيق أي شيء واستهداف المدنيين ووزارة الإعلام والهاتف والكهرباء والماء وغيرها من المرافق المدنية عندما عجزوا عن تحقيق شيء عسكري من القصف الاستراتيجي ، بعد أن تأكدوا أن كل استطلاعهم للأهداف الحيوية خلال عشر سنوات كان فاشلاً .
وربما يكون شحهم في القصف أيضاً عائد إلى التكلفة الباهضة لهذه القذائف والصواريخ والتي لاتجزم أمريكا بقدرة اقتصادها على تحملها .
هذه بعض الأسباب التي رأينا أنها كانت مؤثرة في تغيير الاستراتيجية الهجومية ، علماً أن هذا استقراء لحال الحرب ، وربما يكون قد فاتنا فيه أسباب أخرى ولكن هذه هي الأسباب التي نرى أن العراقيين لابد وأن يعتنوا بها عناية كبيرة ويحاولوا من الزيادة منها لدفع الخطة العسكرية الأمريكية إلى الحضيض بإذن الله تعالى .
=================(66/76)
(66/77)
الحرب الصليبية على العراق - الحلقة الرابعة
في الحلقة الماضية تناولنا تأثير عدم وجود مبرر صليبي لشن الحرب على العراق على الجندي في الميدان وعلى الخطة العسكرية ، كما ذكرنا أسباب تغير الاستراتيجية الهجومية والتي كان من المفترض أن تبدأ أمريكا الحرب بها .
وفي هذه الحلقة سنتناول الأسئلة التالية أولها :
س 5: ما هو التوقع القادم للحرب ؟ وهل سيستمر هذا الأسلوب أم أنه سيتغير ؟ ولماذا سيتغير ؟ .
ج 5 : أولاً يجب أن نؤكد على أن الغزاة اتخذوا أسلوباً قتالياً بناء على تقييم خاطئ لموقف الشعب العراقي من الحكومة ، وموقف الجيش من الحكومة أيضاً ، وأن الشعب والجيش سيقابلون الغزاة بالورود والأنغام ، كما أنهم قيموا القوة العراقية بشكل خاطئ تماماً ، بناء على هذا تم وضع الخطة العسكرية التي خضعت لقرار سياسي أفشلها في مرحلتها الأولى ، ومما زاد في فشلها أن الجيش العراقي لم يفاجأ مطلقاً بأسلوب الحرب ، فالخطط والتحليلات العسكرية الصليبية كانت معلنة ، كما أن الجيش العراقي درس بدقة الأساليب الصليبية في تجربتها الحديثة في أفغانستان ، تدخلت طبيعة الأرض العراقية من ضمن هذه المعطيات التي حددت بشكل كبير أسلوب الأداء العسكري العراقي ، يلخص هذا التدخل نصيحة صدام لقواته ( بأنهم لن يكرروا خطأ 91 ويقاتلوا في الصحراء ، بل إنهم سيخوضون الحرب في المدن ) ، هذا القرار حدد أسلوب القتال العراقي ، وحدد سعة انتشار القوات العراقية وتشكيلاتها أيضاً ، فما يحققه الأمريكان في الصحراء لم يكن ناتجاً عن هزائم للجيش العراقي ، بل إن الجيش العراقي أخلى الصحراء ولن يخوض حرباً فيها ، في وقت لا يمتلك أدنى غطاء جوي ، وعدوه يمتلك أعلى المقومات الجوية العسكرية في العالم ، ولا نقول بأن سقوط الصحراء بأيدي الغزاة لن يفيدهم ولن يضر العراقيين كلا ، حتماً هو سيفيد الغزاة خاصة في تأمين الإسناد اليومي والذي يأتي من الكويت والسعودية وهو يمتد من الكويت حتى شمال الكوت وشمال غربي النجف وكربلاء ويقدر بأكثر من 500كلم أفقي دون عوامل الأرض ، ومهمة العراقيين الآن هي كيفية قطع هذه الإمدادات وتهديدها بالكمائن بشكل مستمر .
نقول بأن الجيش العراقي أخرج من حساباته القتال في الصحراء ، وحدد له ثلاثة أساليب قتالية داخل نطاق المدن سنعرض لها بالتفصيل في حلقات قادمة ، الغزاة لم يكن يهمهم على ماذا يسيطرون وما مدى أهمية المواقع المسيطر عليها ، فتجد أن القادة الصليبيين في تصريحاتهم يفتخرون كل يوم بحجم تقدمهم في الصحراء التي أخرجها العراقيون من حساباتهم ، وحتى الآن وهذا هو اليوم السابع عشر من الغزو الصليبي للعراق ، حتى الآن لايوجد سيطرة على مدينة عراقية رئيسة ، واليوم وصل البريطانيون إلى نصف كلم على مشارف البصرة ولن يتمكنوا من دخولها الآن ، علماً أن الهدف الصليبي للغزو ليس دخول قواتهم للمدن في أعمال قتالية أو ضربها بعشوائية ، الهدف لهم هو السيطرة على المدن بما فيها بغداد وتنصيب حكومة عميلة أو أمريكية عسكرية ، ونرى أن هذا المطلب صعب جداً فهم ينشدون السيطرة الكاملة وتنصيب حكومة ، والسيطرة الكاملة لم تحصل لليهود في فلسطين على مر أكثر من خمسين سنة ، فالصلبيون لهم أهداف تحقيقها يحتاج إلى وقت طويل وتكاليف هائلة وخسائر فادحة ربما تقودهم إلى إنهاء غزوهم جراء الخسائر ، فهم أعلنوا أهدافاً في أفغانستان وحتى الآن لم يحققوها ، هل هم يسيطرون على المدن الأفغانية ؟ بل على كابل وحدها ؟ هل حكومتهم تمثل شيئاً في أفغانستان ؟ حكومتهم لا تسيطر على كابل وحدها ، بل إن كرزاي لم يتمكن من حماية نفسه فاحتاج للصليبيين ليحموه ، وسبق أن سرقت سيارته وسط كابل ، فالسيطرة وتنصيب حكومة ممكنة شيء ، ودخول المدن للقتال بتشكيلات متحصنة و إسقاط نظام شيء آخر ، لابد فهم الهدف الصليبي المعلن لمعرفة مدى قرب الصليبيين وبعدهم من تحقيقه .
الأيام الماضية حققت فيها القوات العراقية مفاجأة مذهلة للغزاة لا سيما في معارك الجنوب الأولى ، والتي خاضتها في مناطق تعتبر أصلاً ساقطة مقدماً ، فهي مناطق تقع في منطقة الحضر الجنوبية جنوب خط 33 درجة ، والتي لم يدخلها الجيش العراقي للإعداد بشكل يناسب الهجوم المتوقع منذ عشر سنوات تقريباً ، فإذا كان هذا حجم المقاومة في مناطق لا يسيطر عليها الجيش ، فكيف ستكون المقاومة في المناطق التي يسيطر عليها الجيش وخاصة المناطق المدنية التي استعد الجيش العراقي للقتال فيها ؟ .
إذاً الأمريكان دخلوا الحرب بكم من الحسابات الخاطئة ، والأهداف المعلنة التي نرى أنها بعيدة المنال ، ومن المتوقع أن يكون العراق فلسطين أخرى ، قوات غازية تحاول بسط سيطرتها على البلاد وشعب رافض يضرب العدو بكل ما يملك ، هذا إذا ما تمكن العدو من دخول المدن ، والعراقيون دخلوا الحرب بتوقع ودراسة دقيقة لأساليب الغزاة ولا زالت حساباتهم لها أثر كبير في أدائهم الإيجابي في الميدان .(66/78)
هذا التوصيف يؤكد أن الحرب لا يمكن أن تستمر بهذا الأسلوب ، خاصة وأن العراقيين يعلمون أنهم أحسنوا امتصاص الهجوم الرئيسي الأول ، وهم الآن بصدد امتصاص الهجوم الثاني على بغداد ، وفي حال تمكنهم من ذلك فهذا سيؤدي إلى تغيير أساليب الطرفين ، مما سيدفع العراقيين إلى التحول إلى الهجوم بعد تمكنهم من امتصاص الموجة الأولى ، أما الطرف الآخر فسوف نفصل في أساليبه لاحقاً .
إن أسلوب التحرك السريع للقوات الأمريكية من الجنوب إلى الوسط ، لم يكن أسلوباً يروق للبريطانيين ، فهم يرون أن التحرك لابد أن يكون بطيئاً لضمان سلامة الجنود وإحكام السيطرة على كل منطقة يتم التقدم إليها ، ولكن هذا الأسلوب لا يناسب الأمريكيين لأنه بطيء ، وهم بحاجة إلى الاستعجال للأسباب التي ذكرناها في الحلقة الماضية والتي غيروا من الاستراتيجية الهجومية لأجلها .
ولكن أسلوب التحرك السريع لا يدل على شيء في مناطق صحراوية أخلاها العراقيون مسبقاً ، وهي بدأت منذ اليوم الدخول في المناطق السكانية ولن تستطيع التحرك بشكل سريع ، بل إنها ستجبر على الأداء القتالي البطيء والطويل نظراً لطبيعة ميدان المدن والقرى والمناطق المأهولة بالسكان ، والتي يفترض أن يكون الجيش العراقي قد أعد لهذه المرحلة بشكل كبير ، ابتداءً من توزيع مضادات الطائرات التي لم تشارك بعد في المعركة فوق جميع المباني العالية في المدن والقرى لتعطيل القوة الجوية الإسنادية ، وتوزيع المضادات المتحركة في كل الأحياء ، وتوزيع المدفعية الميدانية بأشكال دفاعية متناسقة داخل المدن ، وتقسيم المجموعات القتالية بأساليب تتابعية تتمكن من استنزاف الكثافة النارية الصليبية ، وعرقلة تحرك الآليات على جميع الممرات والطرق لإجبار القوات الغازية للقتال الراجل ، هذا بعض ما يفترض أن الجيش العراقي أعد له ، وهذا سيحيل الأداء الأمريكي إلى أداء بطيء يستغرق وقتاً طويلاً لأنه لا يسمح للغزاة باحتلال مساحات أرضية كبيرة ، ويجب عليه أن يتحرك بالأمتار ويمشط المباني مبنى مبنى ، فإذا كان الهجوم على مكان واحد خارج العمران وهو مطار صدام الدولي استغرق منهم حتى الآن ثلاثة أيام تكبدوا فيه خسائر كبيرة ، كما أعلن عنها الطرف العراقي الذي نأمل أن يكون صادقاً في تطهيره للمطار وقتله للمئات منهم ، فقياساً على عملية المطار الذي يقع خارج المناطق السكانية سواء نجحت أو فشلت، فهذا يعني أن عملية دخول المباني إضافة إلى عرقلتها للتحرك السريع للقوات ، إلا أنها ستشكل عائقاً كبيراً جداً أمام الإسناد الجوي وستحد من تحركه وإسناده لقوات البر خشية استدراجه لكمائن مدمرة ، مما سيضع رجل المشاة الصليبي منفرداً وربما بدون آليات أمام الجندي العراقي .
أما الجندي العراقي فسيحصل له في هذه المرحلة - أي حرب المدن - ما كان يعد له بكل قدراته ، وسوف يدعم من موقفه في الميدان مساندة شعبه له وأنه يقاتل في أرضه وهي مناطق عرفها شارعاً شارعاً يجهلها الجندي الصليبي ، وهذا الواقع سيتيح للجندي العراقي أن يكثف من عمليات الكمائن والغارات والعمليات الاستشهادية والشراك الخداعية في كل مكان سيخليه العراقيون للصليبيين لأهداف مسبقة ، وستلعب العبوات الناسفة الضخمة ذات التفجير عن بعد دوراً مهماً في إرعاب العدو وإيقاع الخسائر في صفوفه ونسف آلياته المحصنة ، وستكون مهمة العراقيين في هذه المرحلة أن يصلوا إلى إيقاع أكبر قدر من الخسائر من قتلى وأسرى وجرحى في صفوف الغزاة ، فإن لم تظهر هذه الخسائر للإعلام فيكفي أنها ستدمر الروح المعنوية لجنود الغزاة مما سيمنعهم من التقدم ودخول المدن مرة أخرى ، ولو ظهرت هذه الخسائر للإعلام فإنها ستسبب هزيمة للغزاة على جميع الأصعدة وأهمها السياسية والاقتصادية والإعلامية ، وبعد كل هذه المجهودات الضخمة للغزاة فإن دخولهم في مثل هذه المرحلة بهذه الخسائر سيسبب لهم إرعاباً وصدمة حقيقية تفقدهم الرغبة بمواصلة القتال ، كما أن الدول المعادية لأمريكا أو المؤيدة للعراق ستفعّل هذه المرحلة من دورها وتزيد حماسها مع الموقف العراقي مما سيغير الموقف السياسي لأطراف كثيرة قريبة وبعيدة من الميدان .
ولو اصطدم الصليبيون بهذا الأسلوب بعدما اصطدموا بأسلوب المقاومة في الجنوب ، كيف يمكن أن يتعاملوا مع المعركة ؟ .
هذا هو السؤال الجوهري الذي يحاول المراقبون العسكريون أن يتوقعوه من خلال قراءة تاريخ الحرب الأمريكي ، ومتابعة التحركات الميدانية الحالية .(66/79)
ولكننا نقول بأن الصليبيين على حرص تام بألا يستدرجوا لمعركة حرب مدن تكلفهم الكثير ، فهم يبدون تخوفهم من دخول هذا النوع من الحروب ، فهم لم يخوضوا حرب مدن حقيقية منذ نكستهم في حرب مدينة هيون الفيتنامية عام 1387هـ 1968م ، ويشاهد الآن أنهم لم يدخلوا مدينة كبيرة في العراق حتى الآن خشية الوقوع في معارك حرب المدن ، فميدان حرب المدن ميدان صغير نسبياً ولا يمكن أن يستوعب التشكيلات الغازية بشكل كامل ، وميدان المدن أيضاً فيه تماس مباشر مع قوات الخصم يعطل الإسناد الجوي والميداني ، فيصبح الحمل في هذا الميدان على كاهل الجندي الذي هو في الحقيقة يحاول التقدم إلى حتفه بدخوله إلى منطقة لا يعرفها ولم يسبق له دخولها من قبل ، وفي المقابل يجهز خصمه كل المقومات للإيقاع به .
بما أن الأمريكان على حرص تام بتجنب حرب المدن فماذا يمكن أن يصنعوا لحسم الحرب ، إذا ما رفضوا الدخول في هذه المرحلة التي يرفض أصحاب الأرض إلا أن يجعلوها هي الفاصلة ؟ فهل نقول أننا سنصل إلى مرحلة رمادية وجمود على الميدان ؟ وما هو الأسلوب الذي ربما سيستخدم من قبل الصليبيين للحسم دون حرب مدن ؟ .
الجواب على هذا السؤال هو جزء من الجواب على السؤال الذي بدأنا به الحلقة ، وللإجابة على هذا وذاك لابد أن نحاول استقراء الخطط الصليبية لحسم المعركة ، إذا ما استبعدنا خيار حرب المدن بالنسبة لهم .
نحن نتوقع أن تمر الحرب بمراحل بما أن الغزاة تأكدوا أن أسلوب الاندفاع السريع في الميدان لا يحقق هدفاً من أهداف الحرب وأنه مجرد إثقال لكاهل القوات بحماية مساحات شاسعة من الصحاري وخطوط إمداد طويلة .
فالمرحلة الأولى : كانت بمحاولة دخولهم في حرب برية مستعجلة تتخذ من التقدم الصاعق والسريع أسلوباً لها لتحقيق سقوط المدن بما فيها بغداد بعد انضمام الشعب والجيش العراقي معها ، وإن كان هذا الأسلوب ربما ينفع لأجل قوة النيران والإسناد الجوي في كسر الدفاعات العراقية النظامية على ضواحي المدن ، إلا أنه لا يجدي نفعاً مع أساليب حرب العصابات و التشكيلات شبه النظامية ، فمن الغباء دخول عمق الأراضي العراقية بأكثر من 500 كلم دون إيجاد قوات خلفية لحماية خطوط الإمداد اللوجيستي ، وبسبب هذا الأسلوب في التقدم وقعت القوات سواء في تشكيلاتها القتالية الأولى أو وحدات الإمداد الخلفية في مطاحن عراقية كبدتها خسائر فادحة تسببت بإيقاف العمليات بشكل كامل بعد ستة أيام من بدايتها ، سوى القصف الجوي ، ليتم إعادة تشكيل القوات بعد تعديل الخطة من جديد ، لتبدأ المرحلة الثانية .
المرحلة الثانية: بعد المقاومة العنيفة التي أبداها العراقيون في الجنوب والتي كانت معتمدة على القوات شبه النظامية وعلى أبناء العشائر ، رأى الغزاة أن أسلوبهم الأول لن يحقق لهم نصراً وأنه سيكبدهم خسائر فادحة ، فإذا كانت كل قرية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها 15 ألف نسمة كأم قصر ستكلفهم خسائر فادحة كالتي حصلت في أم قصر فمعنى ذلك أن القوات الغازية ستفنى قبل أن تصل إلى بغداد لكثرة القرى والمدن التي ستجد نفسها مجبرة لدخولها لحماية تقدم قواتها .
و لهذا قررت تقديم قواتها إلى بغداد عبر الصحراء التي أخلتها القوات العراقية مسبقاً ، ومحاولة كسر الدفاعات العراقية أو حصار بغداد من جهتين جنوبية وغربية ، لمحاولة الدفع بأكبر عدد ممكن من القوات لإسقاط بغداد التي يأمل الغزاة أن يكون سقوطها سبباً لسقوط جميع المدن دون الحاجة لحرب في كل مدينة ، على اعتبار أن إدارة المدن وتوجيه دفاعاتها صادر من بغداد فإسقاط بغداد إسقاط لغيرها ، وبالطبع فإن الذي دفع الأمريكيين لاستعجال معركة بغداد هي الأسباب التي سبق ذكرها في الحلقة الماضية في محاولة هروبهم من حرب طويلة .
إذا أصبح المحور القتالي الرئيس للقوات الغازية هو محور بغداد لتحقيق سقوطها ، ولذا فقد حركوا إلى غرب بغداد منذ أسبوع لواء مكانيكياً يقارب عدد أفراده 4 آلاف جندي محمولاً على 80 دبابة قتالية رئيسة سوى العربات والمدرعات الأخرى ، وتركز هجوم هذا اللواء الميكانيكي على مطار صدام الدولي ، علماً أن مطار صدام الدولي الذي يبعد عن المدينة أكثر من 20 كلم ، وبينه وبين المدينة مناطق فضاء لا تناسب العراقيين للقتال فيها ، ولم يكن المطار محمياً من قبل العراقيين إلا بسريتين مشاة أي ما يقرب من 200 جندي بأسلحة خفيفة ربما أنهم وضعوا كوحدات مشاغلة أو إنذار ، كما عرضتهم شاشات الفضائيات قبل الهجوم بيوم ، بدأ هجوم الصليبيين بكثافة على هذا المطار صاحبه دعاية إعلامية أضخم من حجمه وحتى الآن لا نسمع إلا تصريحات متناقضة من قبل الطرفين بالسيطرة على المطار ، وإن كانت المصادر الصحفية المستقلة في الميدان ترجح قول الجانب العراقي .(66/80)
وعلى كل حال المطار ليس هو المعركة الفاصلة لبغداد فهو خارج خطوط الدفاع العراقية ، ولم يحاول الجيش العراقي حمايته بأكثر من سريتين ، ومن الخطأ أن ينجر الجيش العراقي للدفاع عن المطار الذي يفصله عن المباني مناطق مفتوحة تصل إلى عشرة كيلو مترات ، والعراقيون أعدوا أن تكون المعركة داخل المناطق السكانية .
المهم أن الغزاة لو أنهم كسروا بعنف في تقدمهم على المطار أو فيما بعد المطار ، وحصلت في صفوفهم خسائر تفوق 200 جندي كما يقول وزير الإعلام العراقي الصحاف ، فإن هذه نقطة تحول ستجبرهم على الانسحاب من محيط المدن لإعادة خطتهم والتي ستكون بطيئة وغير مندفعة كما كانت في السابق ، فالهجوم على بغداد هو آخر محاولة لهم في هذه المرحلة ، فإما أن يحققوا شيئاً أو يكسروا بخسائر فادحة لينتقلوا إلى المرحلة الثالثة .
المرحلة الثالثة : هذه المرحلة قد تكون بدأت على بعض المدن الجنوبية عن طريق القوات البريطانية ، ولكنها حتى الآن لم تصبح خطة عامة ليس لديهم سوى إحكامها ، ألا وهي مرحلة حصار المدن الرئيسة كل واحدة على انفراد ، ففي حال أصيبوا بضربة قوية في تقدماتهم الحالية ، أو تعرضت خطوط إمدادهم الخلفية لكمائن تسبب بانقطاعها تماماً ، فإنهم سينسحبون من محيط المدن ربما لأكثر من عشرين كلم للابتعاد عن مرمى المدافع الميدانية العراقية ثم التمركز على هذه المسافات في مناطق صحراوية مكشوفة ، ليشكلوا طوقاً لمحاصرة كل مدينة وقطع الإمدادات عنها والسماح بخروج المدنيين منها دون الدخول كما هو الحال في البصرة المحاصرة من ثلاث جهات ، ومحاولة ضرب جميع المرافق المدنية فيها وشل الحياة المدنية عن طريق القصف الميداني والجوي المركز، هذا الحصار يأخذ على أقل التقديرات عشرين يوماً حتى يؤدي إلى إنهاك القوات المدافعة وضمان تهجير المدنيين، بعدها ترسم خطة اقتحام كل مدينة على حدة بعد إنهاكها بالحصار لتعود في كيفيتها إلى المرحلة التي قبلها ، الحصار سيكون آمناً بالنسبة للغزاة لأنهم سيتمركزون في صحراء مفتوحة سيطرتهم الجوية ستشكل لهم حماية كاملة في منع تقدم القوات العراقية لقتالهم في الصحراء ، إلا أن ارتفاع درجة الحرارة والعواصف الرملية التي تتزامن مع حلول فصل الصيف سيصيب المعدات والجنود ومعنوياتهم بأضرار لم يحسبوا لها حساباً ، والقتال في الصحراء بالنسبة للقوات العراقية لفك الحصار على المدن يعد مهلكة لهم ، وانتظار القوات العراقية دخول الغزاة إلى المدن ربما يكون إنهاك لها ، وربما يضطر هذا الأسلوب القوات العراقية إلى استخدام أساليب غير نظامية في قتالها سنأتي على تفصيلها في موضعها .
المرحلة الرابعة : لو تم تنفيذ الحصار وحاولت القوات الغازية المحاصرة للمدن دخولها ، إلا أنها اصطدمت بمقاومة عنيفة شبيهة بالمقاومة الأولى ، فسوف تحاول الضغط البري للسيطرة ، فإذا رأت أن المرحلة تتجه لدخول مرحلة حرب المدن ، فإنها ستضطر للانسحاب من المدن إلى الصحراء بمسافات بعيدة تصل إلى أربعين وخمسين كلم ، لتفسح المجال أمام القصف الجوي الاستراتيجي وإبعاد خطوط التماس لتمهيد جوي عنيف ، لتكون أشبه بالبداية من الصفر ولمدة شهر إلى شهرين ، وقد سبق أن ذكرنا في الحلقة الماضية أن المخزون الجوي الاستراتيجي ، بالقذائف والصواريخ الموجهة بالأقمار ، لا يمكن أن يتحمل قصفاً مكثفاً لمدة شهر أو شهرين أو أنه سيصاب بنقص حاد ، إضافة إلى أن الاقتصاد الأمريكي لن يتحمل نفقات هذه القذائف والصواريخ باهضة الثمن ، من أجل ذلك سيضطرون إلى استخدام القصف التقليدي دون توجيه من الأقمار ، وهذا مما سيحدث دماراً هائلاً في المدن عن طريق هذا القصف العشوائي الذي يسقط أينما كان ليهلك المدنيين ، ولن يؤدي هذا القصف الأثر المطلوب إلا حينما يكون كثيفاً و بشكل هائل ، شبيهاً بالقصف الجوي في الحرب العالمية الثانية الذي يجعل المدن قاعاً صفصفاً ، هذه المرحلة سيتجه لها الغزاة إذا فشلوا في تحقيق شيء من مراحلهم السابقة ، وبعد هذا التدمير للمدن تعيد القوات البرية تقدمها لدخول المدن والضغط عليها بشدة لمحاولة الدخول ، فإن واجهت استماتة في الدفاع وتكبدت خسائر فوق المتوقعة ، فإنها ستتجه للمرحلة الخامسة .
المرحلة الخامسة : وهي تعد آخر ما في جعبة أمريكا من أساليب لحسم الحرب دون خسائر في صفوف مشاتها ، وهذه المرحلة لن تأتي إلا بعد مالا يقل عن ثمانية أشهر من تكبيدها الخسائر تلو الخسائر على الميدان ، وهي الفترة الأسرع التي تأخذها المراحل الأربع السابقة ، وبعد ثمانية أشهر فإن الوضع السياسي والاقتصادي العالمي سيتجه إلى تدهور شديد وتأزم في موقف أمريكا وبريطانيا ، مما سيضطر أمريكا أن تحاول حسم الحرب بأي طريقة يمكنها ولو كانت هذه الطريقة غير تقليدية ، فلن تفقد في هذه الخطوة سياسياً أكثر مما فقدته خلال ثمانية أشهر أو أكثر من استمرار الحرب والتي ستؤدي إلى مقتل أعداد كبيرة من المدنيين من آثار الحصار والقصف التقليدي العشوائي المكثف .(66/81)
هذه هي المراحل التي نتوقع أن تمر بها الحرب من الناحية الاستراتيجية كجواب على السؤال الخامس من قائمة الأسئلة ونصه هو : ما هو التوقع القادم للحرب ؟ وهل سيستمر هذا الأسلوب أم أنه سيتغير ؟ ولماذا سيتغير ؟ ، وسردنا في هذه العجالة التوقعات على اعتبارات استراتيجية متجاوزين للنواحي التكتيكية المتغيرة على ميدان المعركة حسب معطيات الطرفين ، وبين في ثنايا الجواب الماضي ، نظن أننا جاوبنا عن لماذا سيتغير الأسلوب الحربي للغزاة .
ومن نافلة القول طبعاً أن نقول ليس بالضرورة أن تعبر هذه المراحل المذكورة عن حقيقة تفكير العسكريين الأمريكيين تجاه الحرب ، فهذا مجرد استقراء للواقع بعد دراسة الماضي الحربي الأمريكي ومشاهدة حاضره السيئ والمليء بالإجرام ، وكل العالم شاهد كيف حاصروا البصرة وضربوا مخازن الأغذية العائدة للمدنيين ، وضربوا محطات تحلية المياه ومحطات الكهرباء والهاتف ، وحاصروا المدينة بكل خسة ، وخارج المدينة أحضروا صهاريج المياه وبعض الأغذية ليجبروا السكان بعدما دمروا حياتهم المدنية في داخل المدينة ، ليجبروهم على الهجرة القسرية من المدينة إلى خارجها بسبب بحثهم عن الماء ، ليقولوا للعالم بأننا حققنا نصراً ، فغير مستبعد أن تمر الحرب بهذه المراحل فلا يوجد لدى الصليبيين أي موانع أخلاقية ولا إنسانية فهم أخس مما يظهر الآن وليس بعد الكفر ذنب ، وعقيدتهم تأمرهم بهذا الإجرام ، ونحن نتوقع أن الحرب إذا دخلت في مراحل متقدمة من الإجرام الصليبي فإنهم سيركزون على التعتيم الإعلامي على الميدان بقصف مصدر البث العراقي ، واستهداف كل مراسلي وسائل الإعلام داخل العراق ، ومنع من يرافق الغزاة من المراسلين من الدخول معهم كما في حرب الخليج الثانية ، ليضمنوا تعتيماً إعلامياً ليمارسوا جرائمهم بعدما ضمنوا إطفاء الأنوار ليقتلوا المسلمين في الظلام ولا شاهد على ذلك .
كما أننا نقول أن لكل مرحلة من المراحل أساليب تكتيكية لتطبيقها ، فالدفع بالقوات لكسر دفاعات العراقيين ليس بالضرورة أن يكون بأسلوب هجوم المطار ، فهناك أساليب أخرى ومحاور أخرى يمكن أن تطرح لتنفيذ هذه المرحلة ، كما أن مرحلة الحصار ليست بالضرورة أن تكون بالصفة التي ذكرناها بل إنها يمكن أن تكون بصفات أخرى أو تكون بأكثر من صفة ، والمراد من كلامنا هذا أننا لم ندخل في تفاصيل كيفية تنفيذ المراحل إنما مثلنا للمرحلة بمثال يوضح المرحلة فقط .
هذه المراحل ليست سراً لا يعرفها الأمريكيون ، أو أن العراقيين لم يعدوا لها ، بل هي أطروحات عسكرية طرحها مستشارون عسكريون صليبيون ويهود على مدار الأشهر الماضية هنا وهناك استطعنا أن نلخصها بهذه العجالة ، ثم إننا حينما ندخل حرباً مع العدو لابد وأن نتوقع أسوأ خيارات العدو وأكثرها إجراماً ، لنحاول إعداد الخطط المناسبة على جميع الأصعدة لإفشال هذه الخيارات بكافة الوسائل ، ولأجل ألا نصدم بمدى الإجرام المتوقع حصوله .
أما السؤال السادس فهو :
س6 : أي نوعي القصف أكثر فعالية بالنسبة لتقدم الغزاة ، القصف الاستراتيجي أم القصف التكتيكي ؟ وما هي الأساليب التي تحد أو تعطل كلاً من نوعي القصف ؟ .
ج 6 : بعد إيضاحنا في الحلقة الماضية لمعنى القصف الاستراتيجي والقصف التكتيكي ، يمكن لنا أن نجيب بناء عليه على هذا السؤال ، فنقول إن نوعي القصف يعد ضرورياً لتقدم المشاة ، وعندما تجاوز الأمريكان القصف الاستراتيجي وقدموا مشاتهم للميدان ، فرغم أنهم يمتلكون القصف التكتيكي إلا أنهم تكبدوا خسائر فادحة ، وأجبروا على التوقف لأيام وتغيير الخطة وتجنب دخول المدن أو الاقتراب منها رغم سيادتهم الجوية وسيطرة سلاح الإسناد التكتيكي على الميدان أثناء تقدم المشاة ، فنقول إن كلاً من نوعي القصف ضروري لتقدم رجل المشاة في الميدان ، فالقصف الاستراتيجي قصف متقدم لمرحلة الاشتباك البري ، ولأنه قصف من مرتفعات بعيدة أو بالصواريخ عبر آلاف الكيلومترات والخطأ فيه وارد ليصيب القوات المتقدمة ، فهو بحاجة إلى أن يكون قبل بدء التقدم بفترة زمنية طويلة لضمان سلامة القوات من الأخطاء المحتملة ، أما القصف التكتيكي أو الإسناد الجوي العملياتي فهو متزامن للتقدم البري أو متقدم عنه بفترة بسيطة قبل حصول التماس بين القوة المهاجمة و المدافعة ، فرجل المشاة في حقيقة أمره بحاجة إلى النوعين من القصف كتمهيد لتقدمه ، إلا أن القصف التكتيكي فقدانه أخطر على رجل المشاة من القصف الاستراتيجي ، وهو بالتالي أكثر فائدة في حال توفره لرجل المشاة أو للآليات على الأرض من القصف الاستراتيجي .
أما الحد أو تعطيل كلاً من نوعي القصف ، فهذا وإن كان صعباً نوعاً ما إلا أن هناك أساليب للحد منه أو تعطيله حسب وضع السلاح المهاجم ، لأن العدو يحرص دائماً أن يجعل سلاح الجو بعيداً عن مرمى دفاعات المدافع ، كما أنه يحرص ألا يستدرج إلى مناطق تصيبه في مقتل ، فحذره يصعب من مهام المدافع في تعطيل سلاح الجو أو الحد منه .(66/82)
ولكن القصف الاستراتيجي يعتمد في تسديده على الأهداف بالاستطلاع المسبق للهدف، فإذا لم يكن هناك تحديد مسبق للهدف فلا يمكن قصفه بالأسلحة الموجهة بالأقمار التي تعتمد في قصفها على تحديد إحداثية الهدف ، أو عن طريق الشرائح الإلكترونية التي يزرعها عملاء العدو في بعض الأهداف ، فإذا تمكنت القوات المدافعة من تمويه أهدافها تمويهاً جيداً ولم تظهر تحركاتها بشكل مكثف يمكن لطائرات الاستطلاع أو الأقمار من رصدها ، وفرضت رقابة على أهدافها لمنع العملاء من زرع الطرفيات في الأهداف ، فهذا يعني أنها تمكنت من تحييد هذا السلاح ، كما هو الحال الآن في أفغانستان عندما طبق المجاهدون أسلوب العصابات وبدءوا بالتجمع والتحرك عبر تشكيلات صغيرة لا يمكن رصدها ولا إسقاط مواقعها بسبب التمويه الفائق للمواقع ، فإذا كان العدو الصليبي لم يتمكن من رصد مواقع المجاهدين في منطقة تعادل ميل مربع في تروا بورا ، فكيف سيتمكن من رصد مواقع القوات العراقية كلها في نصف مليون كلم مربع ، ونحن نشاهد الآن تخبط الصليبيين وعجزهم عن إسقاط مواقع فرقة المدينة العراقية وتعدادها يصل بمعداتها إلى 18 ألف جندي ، وكذلك فرقة حمورابي وأغلب القوات والمعدات العراقية لم يتمكنوا حتى الآن من إسقاط مواقعها ، فالتمويه الجيد والتحرك المتخفي أو السريع بشكل مستمر لا يمكن أن يتمكن معه العدو من تحديد الإحداثيات ليتمكن من استخدام القصف الاستراتيجي ضد هذه القوات، فهذا هو الأسلوب الأنجع لتحييد هذا السلاح، أما تعطيله فلا يمكن أن يكون إلا عن طريق ضربه بأسلحة الدفاع الجوي ، ولكنه يقصف من ارتفاعات بعيدة جداً خارج مديات ما يمتلكه العراق من أسلحة مضادة للطائرات ، لاسيما وأن الأسلحة المضادة الفعالة تستخدم الرادارات لتحديد الهدف قبل ضربه ، والرادارات تعجز عن كشف القاذفة الاستراتيجية الأمريكية ستيليث ( الشبح ) والتي يمكن أن تستخدم في حال وجود مضادات تصل إلى مديات القاذفات الاستراتيجية باستخدام الرادارات ، أما صواريخ ( توما هوك ) والتي تطلق من مئات الكيلو مترات فحتى الآن لا يوجد مضاد دقيق لها ، إلا بشكل عشوائي يمكن إسقاطها بالمضادات الأرضية .
ويحسن التنبيه هنا على أسلوبين جديدين استخدمهما العراق ، في تعطيل القذائف الموجهة بالأقمار ، أحدهما مؤكد النجاح والآخر لا نعلم حجم نجاحه إلا من خلال التذمر الصليبي إن صدقوا ، الأسلوب الأول : قيام الحكومة العراقية بحفر خنادق حول المدن ثم ملؤها بالنفط وإحراقه لتتصاعد بسبب الاحتراق سحب الدخان الأسود الكثيف التي تغطي سماء المدن وخاصة بغداد ، هذا الدخان الأسود تمكن من حجب الرؤيا عن طائرات الاستطلاع الأمريكية والأقمار الصناعية ، وبالتالي فإن القذائف الموجهة بالأقمار لا يمكن أن تتلقى الإشارات الدقيقة من الأقمار لتصل إلى الهدف المحدد عبر الأقمار بشكل دقيق لعدم وضوح الرؤيا لدى أجهزة التوجيه أو الاستشعار في نفس القذائف والصواريخ ، وهذا الأسلوب ظهر تأثيره وحاول الصليبيون تجاهل ذكره خشية أن يزيد العراق من استخدام هذا الأسلوب .
الأمر الثاني : وهو ما زعمه الصليبيون أن شركات روسية قامت ببيع أجهزة تشويش على الأقمار الصناعية للعراق ، تمكنت هذه الأجهزة من التشويش على الأقمار وإفقادها السيطرة على توجيه القذائف والصواريخ الموجهة بالأقمار ، ولو صدق الصليبيون فينبغي التركيز على تطوير مثل هذه الأجهزة التي ستعطل التفوق الجوي الأمريكي الموجه بالأقمار وستجعل سلاح الجوي الأمريكي كأي سلاح جو آخر يعتمد على القصف التقليدي ، ولا نظن أن الأمريكان يمكن أن يعلنوا تذمرهم من أجهزة كهذه لو وجدت خشية الاهتمام العالمي بها ، ولكن نعتقد أنهم يتهربون من ذكر السبب الحقيقي ، وهو سحب الدخان السوداء المتصاعدة من جراء إحراق النفط ، ونتمنى أن تكون هذه الأجهزة حقيقة لتعيد التفوق الأمريكي الجوي إلى الصفر .
أما تعطيل القاصفات التكتيكية أو الحد منها ، فأعظم سلاح في الإسناد الجوي لرجال المشاة بالنسبة للصليبيين هو مروحيات الأباتشي ، ومهمتها الرئيسه قنص مدرعات ودبابات وناقلات الخصم وشاحنات الإمداد عن طريق الصواريخ الموجهة ، كما يمكنها القيام باغتيال قيادات الخصم باستهداف السيارات بشكل دقيقة ، وهي مزودة بمدافع رشاشة وقاذفات قنابل ضد أفراد الخصم ، ولكن لا يمكن الاعتماد عليها منفردة حيث أن أقصى ارتفاع لها يبلغ ستة كلم تقريباً مما يجعلها في مديات المضادات بشكل دائم ، يليها مروحيات إيه سي 130 وهي ذات كثافة نارية كبيرة جداً ، وهناك مروحيات أخرى لأغراض متعددة ، ولكننا نقول أن هذا الطيران يفقد أهميته لأمور نذكر منها التالي : -(66/83)
أنه إذا دخل ضمن مديات المضادات الأرضية فمعنى ذلك أنه أصبح مشلولاً ولا يمكن أن يتابع تقدم رجال المشاة للتغطية عليهم، ولذلك على العراقيين أن يحتفظوا بأكبر قدر ممكن من الأسلحة المضادة للطائرات وذخائرها والصواريخ المضادة مهما كانت مدياتها ، كما عليهم أن يحسنوا خندقتها وتمويهها ، وأفضلها ما كان متحركاً وخاصة المدافع الرشاشة من نوع ( شلكا 57 مم ) فلطول مدى هذا السلاح الذي يصل إلى 7 كلم رأسي و 15 كلم أفقي فسوف يكون فعالاً في حال حصول المعارك الرئيسة لدخول الصليبيين إلى المدن ، فلن يتمكن من كشف رجال المشاة لنيران الدفاعات العراقية إلا ضرب الإسناد المروحي بمثل هذه الأسلحة .
الأمر الثاني الذي يعطل الإسناد المروحي في حال حصول تماس مع العدو ، بمعنى حصول اشتباك في صفوف الطرفين ، ففي هذه الحالة لن يتمكن سلاح الإسناد من المشاركة للحفاظ على سلامة قواته ، وعدم مقدرته لتحديد سلاح الخصم بدقة ، فوجود تماس مباشر مع وحدات العدو الصليبي والمحافظة على هذا التماس قريباً من المدن يمكن العراقيين من استنزاف العدو ، الذي أصبح خط إمداده طويلاً وخطراً ، وانتشار قواته على قطاعات كبيرة ينهكه كثيراً، فخط الإمداد وسعة الانتشار لقوات الغزاة، إضافة إلى وجود تماس مباشر قريب من المدن سيمكن القوات العراقية من إنهاك العدو الصليبي وتعطيل إسناده المروحي الذي سيجد نفسه أمام مهام كثيرة لا يمكن له إنجازها بالشكل المطلوب .
الأمر الثالث لتعطيل الإسناد المروحي حصول أحوال جوية سيئة أو عواصف رملية وهذا بيد الله تعالى ونسأل الله أن يرسلها في الأيام القادمة ، فعندما ضربت العراق عواصف رملية خلال ثلاثة أيام فقط تعطلت أغلب الأجهزة الأمريكية وتم تعطيل الإسناد الجوي بنوعيه ، وقد تعطلت في الميدان 170 مروحية من جميع الطرازات ، فالعواصف الرملية والأحوال الجوية السيئة لا تحجب الرؤيا عن المروحيات فحسب ، بل إنها تسبب بتعطيلها وإسقاطها ، وما يشابه العواصف الرملية في أثرها على حجب الرؤيا وتعطيل سلاح الإسناد الجوي ، مما يكون للإنسان تصرف به ، هي سحب الدخان الأسود المتصاعد من حرق النفط في الآبار التي حول المدن العراقية ، وقد ذكرنا تفاصيل ذلك في تعطيل السلاح الاستراتيجي .
وبشكل عام فإن المطلب المهم للوحدات العراقية الآن هو العمل على استمرارية إخراج القوات الجوية بكافة الأساليب من المعركة لا سيما الإسناد التكتيكي ، وأهم الأساليب هو المحافظة على وجود تماس مع القوات البرية قريباً من المدن ، مع الحذر من القيام بمهام تعرضية بقوات كبيرة على العدو دون وجود مضادات متحركة ترافقها ، أو الابتعاد بعيداً عن ميدانها والدخول في الصحراء ، فلا تحاول إبعاد ظهورها عن المدن ومحاولة مطاردة العدو في الصحراء مهما كان انهيار قوات العدو ، فمهمة العدو ستتمثل الآن وبعد عملية مطار صدام الدولي بمحاولة استجرار القوات العراقية إلى مناطق مفتوحة بأي أسلوب عن طريق هجوم بوحدات استطلاع مظلية من هنا وهناك ، لتدفع القوات العراقية للخروج من المناطق السكنية إلى مناطق مفتوحة لتعطي الفرصة للإسناد الجوي أن يفتك بالقوات على الأرض ، فعليهم أن يجعلوا المدن ميدان قتالهم مع تنويع أساليب القتال في المدن ، وسوف نعرض للأساليب في حلقات قادمة .
أما السؤال السابع وهو :
س 7 : ما هي أعظم مخاطر القصف المروحي وكيف يمكن تجنبه ؟ .
ج 7 : نظن أننا أجبنا على هذا السؤال في ثنايا إجابتنا على السؤال السابق وذكرنا حجم الخطر لسلاح الإسناد المروحي ، وكيف يمكن تعطيله أو الحد من أثره .
أما السؤال الثامن وهو :
س 8 : هل يمكن أن تتقدم القوات البرية دون غطاء جوي تكتيكي أو استراتيجي ؟ .
ج 8 : يمكن للقوات البرية أن تتقدم دون غطاء جوي استراتيجي أو تكتيكي ، ولكن إذا توفرت لها الحالات السابقة التي أجبنا عليها في السؤال السابق والتي تحدثنا فيها عن تحييد السلاح الاستراتيجي أو التكتيكي أو تعطيله ، هذا إذا كان العدو يمتلك لأي نوع من نوعي سلاح الجو .
أما إذا لم يكن العدو يمتلك ذلك فيمكن أن يكون زحف القوات البرية للطرفين بالاعتماد على الإسناد الميداني بمدافع الهاوتزر أو المدافع الميدانية أو المدافع المتحركة أو مدافع الدبابات ، وكلها تعمل عمل الإسناد الجوي التكتيكي طبعاً بكفاءة أقل وبمجهود أكبر ولكنها نافعة .(66/84)
ولكن في مثل حرب العراق لو تم تعطيل سلاحي الجو الصليبي التكتيكي والاستراتيجي ، فإن هذا سيتيح لأسلحة الإسناد الميدانية العراقية أن تفتك بالقوات المنتشرة في الصحراء حول كل مدينة ، وتقطع بالمدفعية خط إمدادها الطويل لتنهي التقدم وتجبر الغزاة على الانسحاب ، فكلما اقتربت القوات من المدن فإنها ستقع في مديات المدفعية الميدانية العراقية وهذا مما سيكبدها خسائر فادحة ، وكان بإمكان العراقيين تفعيل مدافعهم الميدانية لولا ترصد سلاح الجو الأمريكي لهذه المدفعية وتكثيف قصفها ، ولكن لن يدوم هذا الحال ، فقرب خطوط تماس الطرفين سيطلق العنان للمدفعية العراقية وللمضادات الأرضية أيضاً لتقول كلمتها ، ونعتقد أن الجيش العراقي لن يستعجل هذه المرحلة وسوف تنطق مدفعيته في الوقت المناسب ، هذا ما نظنه في العبقرية العراقية التي خاضت حروباً متواصلة لعقدين من الزمان .
أما السؤال التاسع فهو :
س 9 : ما هي أفضل الأساليب لتعطيل القصف التكتيكي لكشف القوات البرية ؟ .
ج 9 : بسبب تداخل هذا السؤال مع السؤال السادس فقد دمجنا الإجابتين وجعلنا للسؤالين إجابة واحدة متداخلة يمكن الرجوع إليها من الجواب السادس .
هذا ما تمكنا من الإجابة عليه في هذه الحلقة من أسئلة ، مع محاولة الاختصار وعدم الإطالة والإشارة إلى الأهم وترك بعض المهم واختصار ودمج الأسباب والعوامل في عبارات إجمالية ، لنتمكن من مواكبة الحدث بالإجابات التي تناسب التطورات ، والله أعلم
==================(66/85)
(66/86)
الحرب الصليبية على العراق - الحلقة الخامسة
تحدثنا في الحلقة الرابعة عن الاحتمالات التي ربما يلجأ إليها الصليبيون في عدوانهم على العراق ، كما ذكرنا أيضاً أي أنواع القصف الجوي أكثر فعالية وما هي أساليب تعطيلها أو الحد منها .
ومن خلال ذكرنا لأساليب تعطيل القصف الجوي أو الحد منه ، يرى البعض أن كثيراً من أساليب تعطيل القصف التكتيكي متاحة للعراقيين ، خاصة إذا ما تحولت الحرب إلى حرب مدن ودخلت في مناطق العمران السكاني التي ستعطل أغلب التفوق التكنلوجي الأمريكي على الميدان ، وذلك بحصول تماس قريب بين قوات الطرفين ، ومن قال بأن العراقيين سيتمكنون من تعطيل أو الحد من الإسناد التكتيكي أو العملياتي بالمروحيات ، سيقوده هذا القول إلى السؤال التالي : -
س 10 : إذا قرر الغزاة عدم استخدام الغطاء الجوي ، والتركيز على الحرب البرية ، هل 260 الف جندي أو 300 ألف جندي هل يكفون لاجتياح المدن العراقية والسيطرة عليها إضافة إلى حماية خطوط إمدادهم الممتدة لأكثر من خمسمائة كيلو متر على الأراضي العراقية ؟ أم أنهم بحاجة إلى ضعف هذا العدد لتأمين الدعم اللوجيستي إضافة لإدارة الحرب في جميع المدن تقريباً ؟ ج 10 : أولاً وقبل كل شيء حتى الآن لا يوجد لدينا تعداد دقيق يبين لنا كم عدد القوات الغازية التي تعمل داخل الأراضي العراقية سواء في المهام القتالية أو الإسناد أو الإمداد ، فليس هناك أرقام يعتمد عليها سوى ما ينشره الصليبيون لأهداف سياسية وإعلامية وعسكرية ، وعلى كل حال فإن الجواب على هذا السؤال لا يتأثر كثيراً بفقدان الرقم الحقيقي ، لأننا لن نتكلم عن مسائل تفصيلية ميدانية ، بل سنتكلم عن استراتيجيات عامة لدى الجيوش .
فنقول قد يضطر الغزاة رغماً عن أنوفهم إلى عدم إدخال مروحيات الإسناد العملياتي في حال اقترابهم من المناطق السكانية للحفاظ عليها من المضادات العراقية التي حتما ستكون لها بالمرصاد ، كما رأينا في عمليات المطار وعمليات جنوب بغداد ، وفي هذه الحالة سوف يكتفي رجال المشاة بالإسناد الميداني بدلاً من الإسناد الجوي بعد إدخال أكبر عدد ممكن من مدفعية الميدان المقطورة أو ذاتية الحركة أو مدافع دبابات القتال الرئيسة قريباً من خطوط القتال ، ولكن لن يكون هذا الإسناد الميداني دقيقاً كما هو حال الإسناد الجوي المروحي الدقيق ، ومعنى هذا أن الغزاة بحاجة إلى مجهودات ضخمة لإدارة هذا الإسناد وتوفير الإمدادات له ، ورغم كل هذا فلن يكون دقيقاً في إصاباته كالمروحيات التي تستكشف الآليات المخندقة وتصيبها أصابات مباشرة ودقيقة ، ففقدان الغزاة للإسناد الجوي سوف يقارب قوتي الدفاع العراقي والهجوم الصليبي في الأسلوب ، وبهذه الحالة سوف يتكبد بلا شك المهاجم الصليبي ضعف خسائر المدافع على الأقل ، كما هو معروف بأن المدافع المتخندق وصاحب الأرض لابد أن تكون خسائره أقل بكثير من المهاجم المكشوف الذي لا يعرف الأرض .
أما ما يخص هذا السؤال فنقول بأننا أجبنا في السؤال الماضي عن المخاطر التي تحيط بمشاركة الإسناد التكتيكي وهذه المخاطر سترغم الصليبيين على عدم إدخال الإسناد المروحي في المعارك القادمة في المدن ، كما رأينا في عمليات غرب وجنوب بغداد ، وهذا يعني أنهم سيفقدون عاملاً مهماً جداً من عوامل تقدمهم وإسنادهم ، مما سيزيد من المخاطر التي تهدد قوات الصليب وسيثقلها بمهام جديدة للإسناد الميداني لتعويض نقص الإسناد المروحي ، وهذا سيعيق تحركاتهم الخلفية للميدان لصعوبة نقل المدافع وذخائرها بشكل مستمر لدعم المعركة .(66/87)
أما عن كفاية التعداد الحالي للقوات الصليبية في تولي مهام القتال والإسناد والإمداد ،وحماية وإدارة المناطق السكانية التي دخلوها ، فنقول بأن التعداد الحالي لا يكفي أبداً حتى ولو كان التعداد ضعفي هذا التعداد الحالي ، يؤخذ في الاعتبار أن مساحة العراق هي نصف مليون كيلو متر مربع ، والانتشار العسكري للقوات النظامية هو أن السرية تنتشر في مساحة 50 كيلو متر مربع ، ومعنى هذا أنهم بحاجة من حيث التعداد إلى 900 ألف جندي لتولي مهام القتال والإسناد والإمداد والسيطرة التامة ، وجميع العسكريين والمحللين انتقدوا خطة رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي التي حشد فيها للحرب كما هو معلن من قبلهم حشدوا 240 ألف جندي 90 ألفاً منهم في المهام القتالية ، وقد أدهشت هذه الخطة جميع الخبراء والمحللين ، بل إنها لاقت رفضاً من قبل جنرالات الجيش الأمريكي ، إلا أن رامسفيلد بقوة ضغطه وتأكيده أن التكنلوجيا وانتفاضة الشعب والجيش العراقي ستحسم الحرب دون الحاجة إلى عدد أكبر ، وفشل هو ومن معه من المخططين في هذه التقديرات وتم كسر قواتهم في المرحلة الأولى ، وتزايد لوم العسكريين للوزير وحصلت اختلافات ربما هي التي أفرزت استقالة بيرل منذرة بمزيد من الخلاف،حتى قالت مجلة نيويورك ( أن وزير الدفاع رفض مراراً نصيحة من المخططين في وزارة الدفاع بأنه ستكون هناك حاجة لعدد أكبر من القوات المدرعة لخوض الحرب في العراق، وقالت بأن رامسفيلد أصر ست مرات على الأقل خلال فترة الإعداد للحرب على خفض العدد المقترح للقوات البرية بشكل كبير ونفذ رأيه ) .
علماً أن نفس الوزارة مع ما تمتلكه من تكنلوجيا خططت سابقاً لشن حرب الخليج الثانية ضد 130 ألف جندي عراقي على الأكثر في داخل الأراضي الكويتية ، و قررت أن تشن الهجوم بما يقرب من 700 ألف جندي من جميع دول التحالف ، ثم تخطط الإدارة نفسها لاقتحام الأراضي العراقية الأكبر مساحة ، لتواجه ما يزيد على مليوني مسلح على الأقل ، بأقل من نصف عدد قواتها في حرب الكويت ، وهذا من أحد أسباب فشل الخطة الأمريكية في مرحلتها الأولى ، إلا أنهم استدركوا ليزيدوا من هذا العدد في الخطة الجديدة بما يزيد على 120 ألف جندي إضافي يصل 3000 آلاف منهم يومياً إلى الكويت والسعودية لدخول العراق أو ليحلوا محل القوات المرابطة بالكويت والسعودية لتدخل المرابطة إلى العراق .
فالتعداد الحالي غير كاف لخوض الحرب بكافة مهامها مع السيطرة على البلاد وإدارتها مدنياً عن طريق حكومة عسكرية ، ولا ننسى أن نقول إن العدد المفترض الذي قلناه سابقاً أن الصليبيين بحاجته وهو يقارب المليون ، لا ننسى أن نقول بأن هناك عوامل لتخفيضه دون إحداث خلل في الأداء ، ولكن حتى الآن لا يتوفر شيء من هذه العوامل للصليبيين ، أولها الاعتماد في مهام القتال أو الإمداد أو السيطرة أو الحماية على منافقين محليين بأعداد كبيرة جداً كما هو الحال في أفغانستان ، وهناك بوادر ظهرت في الجنوب العراقي لهذا العامل نسأل الله ألا يكثر أمثالهم ، ويمكن استخدام التكنلوجيا لإعفاء بعض الوحدات من مهامها الميدانية ، وهناك عوامل أخرى تخفف من الحاجة إلى هذا التعداد ولكنها مكلفة بالنسبة لهم وتحتاج إلى وقت لتتوفر لا نرى ذكرها هنا فلن يستفيد من ذكرها إلا هم .
س 11 : ما هي الحالات التي سيعلن الصليبيون تحت أي غطاء هزيمتهم بحصولها ؟ .
ج 11 : إن ذكرنا لاحتمالات مراحل الحرب في الحلقة الماضية قد يسبب ضرراً معنوياً لبعض المسلمين ، ونحن نشعر بذلك إلا أنه لابد لنا من ذكر هذه المراحلة ، فإصابة المعنويات ببعض الأضرار قبل حصول المرحلة ، أفضل من انهيارها أثناء حصولها ، علماً أن المرء إذا أعد نفسه لأسوأ الاحتمالات فلن يكل ويتراجع ، إلا أن ينتصر أو يموت ، فرأينا أن نغلب هذا الجانب لنذكر المراحل التي لا نجزم طبعاً بحصولها ، إلا أنه ينبغي لنا أن نعد حلاً لكل مرحلة تواجهنا من هذه المراحل .
ذكرنا السابق لمراحل الحرب ، يلزمنا أن نجيب على هذا السؤال ليحصل لنا نوعاً من التوازن المعنوي غير المفرط لأي الاحتمالين ، لنبحث الأسباب التي ستجبر الصليبيين على الإقرار بالهزيمة تحت أي غطاء شاءوا .
فنقول هناك عوامل مؤثرة على الحرب ، وفي حال حصولها فإن الصليبيين سيرضخون للأمر الواقع بإعلان هزيمتهم من العراق تحت أي مبرر كان ، مثل الاستجابة لقرار مجلس الأمن بإيقاف الحرب ، أو لأهداف إنسانية للحفاظ على أرواح الشعب العراقي ، أو تحت أي غطاء يمكن لهم أن يخترعوه ، ولكن المحصلة ستكون الانسحاب من الحرب ولو تدريجياً ، هناك بالطبع عوامل كثيرة يمكن أن تؤدي لحصول هذا الأمر ، ولكن هذه العوامل منها ما هو واقعي وقريب ، ومنها ما هو بعيد أو غير واقعي ، وتجنباً للإطالة نقتصر على بعض ما يناسب ذكره من العوامل .(66/88)
أول العوامل : حصول أمر إلهي لا يعلمه إلا الله تعالى سواء على الجنود في ميدان المعركة أو على دولتهم ،تجبرهم على إيقاف الحرب ، ومن أكثر المسببات لحصول هذا الأمر التقرب إلى الله بصالح الأعمال ، واجتناب معصيته ، و التضرع إلى الله تعالى بالدعاء والإلحاح عليه بأن يهلكهم ( فإنه لا يرد القدر إلا الدعاء ) كما قال رسول الله (، فلله جنود السموات والأرض ولا يعلمها إلا هو يرسلها على من يشاء .
العامل الثاني : وهو العامل الذي بدت بوادره لدى جنود الصليب ، وهو انهزام الروح المعنوية لديهم ، من جراء ازدياد القتل والجرح والأسر فيهم ، وارتفاع درجة الحرارة وسوء الأحوال الجوية ، والعمليات الاستشهادية المفجعة ، مع فقدانهم للغطاء الجوي الذي أضفى عليهم نوعاً من الاطمئنان في الميدان ، وفقدان ثقتهم بقيادتهم العسكرية أنها تخطط بالطريقة الصحيحة التي تحفظ عليهم أرواحهم وتحقق الأهداف ، إضافة إلى ازدياد الرفض العالمي والشعبي الأمريكي لهذه الحرب ، مما سيدمر الروح المعنوية للجندي الذي كان معايشاً للرفض قبل دخوله الميدان ، انهزام الروح المعنوية للجنود وتدميرها وشكوكهم في قيادتهم سوف يقودهم إلى العصيان الجماعي أو إلى عدم تنفيذ المهام على الوجه المطلوب منهم ، وسيكون فرارهم من الميدان أسرع إليهم من طلقات القوات العراقية ، وكانت أول حالات العصيان الجماعي رفض وحدات من لواء مكانيكي قبل عشرة أيام مهاجمة الزبير بحجة أنه لا يوجد مقوم عسكري ولا غطاء مناسب لهذا التقدم ، يقول أحد جنود المشاة في البحرية الأمريكية لمراسل البي بي سي حول مدينة الناصرية قبل الهجوم عليها ( كان يكفي أن أتعرض للنيران من جميع الاتجاهات ، أريد أن أعود إلى الوطن ) وتحدث إليه ضابط بارز لم يذكر اسمه فقال ( بالطبع إنهم - أي مشاة البحرية - يشعرون بالأذى ، إنهم منهكون ، غير أنهم لم يصلوا حتى الآن إلى أقصى درجات الإيذاء ) هذا الشعور كان قبل عشرة أيام تقريباً أي مع الهجوم على الناصرية ، فكيف سيكون حالهم الآن .
وذكر ( ريك أتكنسون ) في مقابلة أجراها مع قائد القوات البرية في العراق الجنرال وليام والس أن الجنرال قال ( إن العدو الذي نقاتله مختلف عن العدو الذي تدربنا لقتاله ) وقال ( إن طرق التموين التي تمتد على مسافات طويلة علاوة على التكتيكات غير التقليدية التي يعتمدها العدو تجعل من المحتمل أن تطول الحرب أكثر مما كان مرتقباً ) وقال ( إن الهجمات التي نتعرض إليها غريبة واعتبر أنه من المقلق أن تكون الشراسة إلى هذا الحد ، وهناك معلومات لدينا أن العراقيين على استعداد للانطلاق في عمليات انتحارية ضد القوات الأمريكية ) .
هذه هي الروح المعنوية للجندي الصليبي داخل الميدان ، ولو أردنا أن ننقل من تصريحاتهم ما يدل على ذلك لنقلنا الشيء الكثير مما يثبت ذلك ، رغم محاولة الطرف الصليبي إخفاءه والتعتيم عليه بشكل كامل ، هذا الانهزام في الروح المعنوية بدت آثاره في الميدان على ضعف أداء الجندي الصليبي ، الذي لم يواجه بعد أصعب مراحل الحرب وهي اقتحام المدن ، وتزايد هذا الضعف المعنوي حتى اضطرت القيادة العسكرية الأمريكية لعلاجه بأساليب مختلفة كان من أكبرها وقعاً تغيير أحد قادة المارينز في اليوم الثاني لعملية مطار صدام الدولي ، فقد قررت القيادة تغيير قائد فرقة المارينز الأولى العقيد جون دووي ، والسبب كما قالت القيادة عائد إلى بطئه المبالغ فيه في التقدم نحو بغداد ، وإن كان السبب كما ذكرت القيادة الأمريكية ، فهذا يعني أن بطئ تحركه يرجع إلى ضعف في الروح المعنوية لدى أفراده الذين يخشون التقدم ، فمعدل الحركة والوثبات التي تسير بها الوحدات النظامية ثابتة ، وإذا لم تعطلها المقاومة فينبغي أن تسير بشكل روتيني له تفاصيله ، وإذا لم يكن هناك مقاومة فالتقصير في إنجاز الروتين عائد إلى عدم كفاءة الجندي أو نقص في معداته وأسلحته ، أو انهزام لروحه المعنوية وخوف يؤخره عن تنفيذ أعماله ، وقد صدرت شكاوى ضد هذا القرار من جنود الفرقة الأولى ، محتجين بأن قائدهم السابق كان يتخذ احتياطات كبيرة لحمايتهم وقال أحد الجنود نخشى أن التغيير سيتسبب في سقوط ضحايا أكثر ، وهذا يدل على أن الجنود والقيادة على نفس المستوى المعنوي المتدني والذي سيتدهور يوماً بعد يوم بإذن الله تعالى .(66/89)
العامل الثالث:تزايد الاختلافات بين الصليبيين سواء بين العسكريين والعسكريين أو السياسيين والسياسيين أو العسكريين والسياسيين ، حول شن الحرب أو أساليب الحرب ، وهذا له أثر كبير على الخطة الصليبية أولاً ، ثم على الساحة الدولية وعلى المستوى الشعبي الأمريكي والبريطاني الذي يلعب تأييده ورفضه للحرب دوراً لا يستهان به ، ومنذ اليوم الأول للحرب بدأ الاختلاف في أوساط الصليبيين الذين يشنون العدوان على العراق ، ازداد هذا الخلاف حتى وصل إلى الاستقالات ، والانتقادات الحادة العلنية لبعض الأطراف ، وبوادر تفكك الحلف الصليبي البريطاني الأمريكي ، دفع القيادة العسكرية للاستعجال بخطوات الحرب لتحقيق أي شيء قطعاً لمضاعفة هذا العامل ، حتى وصلوا إلى ضرب وزارة الإعلام العراقية التي تفضح أكاذيبهم ودعاياتهم على الميدان ، خاصة عندما أظهرت القتلى والأسرى والخسائر مما سيوقد جذوة الخلاف بينهم ، وتوصلوا هذا اليوم إلى مرحلة أخرى وذلك باستهدافهم عمداً بعض المراسلين الذين يتمتعون بحصانة في الحروب ، كما جرى مع مصور قناة الجزيرة عندما أطلقوا عليه النار وأوقفوه ثم أطلقوا سراحه وعاودوا إطلاق النار عليه بعد ذهابه كما روت الجزيرة ذلك ، هذه الحوادث سوف تتزايد في الأيام القادمة مع تزايد إظهار هذه القنوات من الخسائر والفشل ما يزيد من شدة الخلاف بين الصليبيين .
وفي نظرنا أن أكبر إشارة لفعالية هذا العامل على الحرب ، ما أعلنه رئيس أركان الجيش البريطاني الجنرال مايكل جاكسون قبل أسبوع في مؤتمر صحفي حينما قال ( أن بلاده ستسحب غالبية قواتها من الخليج إذا استمرت الحرب مدة أطول ، وأضاف قوله إن انخراطنا في الحرب لم يكن مبرمجاً للبقاء فترة طويلة هناك ، وقال إذا لم تتحقق تطورات إيجابية في القريب فإنه سيتم سحب 40 ألفاً من الجنود البريطانيين وسيتم الإبقاء على 5 آلاف جندي فقط ، كما قال أنهم سيحاولون استبدال الجنود الذين أصيبوا بالإرهاق ) ، هذا التصريح لم يأت من فراغ بل جاء بعد تزايد الخلافات والاعتراضات من قبل أعضاء الحكومة والمعارضة البريطانية في الخروج من هذه الحرب ، حتى ناشد وزير الخارجية البريطاني السابق روبن كوك الذي استقال من الحكومة الحالية كوزير لشئون الحكومة في مجلس العموم احتجاجاً على غزو العراق ، لتكون استقالته أعظم ضربة لحكومة بلير ، وقد ناشد كوك الحكومة إلى سحب القوات البريطانية من الحرب ، وقال لصحيفة صاندي ميرور ( إنه ضاق ذرعاً من هذه الحرب الدموية الظالمة ، وطالب بعودة قوات بلاده قبل مقتل المزيد منها ، وقال بأن الغزو الذي تقوده أمريكا يهدد بإذكاء الكراهية للغرب ، وقال منتقداً بوش لشنه الحرب على العراق بعد أن افترض أن الجيش العراقي سيستسلم بسرعة وأن النصر سيكون سريعاً ، وقال لا يمكن لأحد أن يبدأ حرباً على فرضية أن جيش العدو سيتعاون لكن هذا ما فعله بوش ، وحذر الجيش الأمريكي من حصار بغداد وقال إنه ليس هناك وحشية في الحرب أشد من الحصار ، فالناس تجوع وتنقطع المياه ومصادر الطاقة ويموت الأطفال ) .
أما على الجانب الأمريكي فهناك تزايد في الخلافات مع كل إخفاق في الميدان أو تزايد للخسائر ، وكان من أعظم الاستقالات استقالة بيرل أحد مستشاري وزير الدفاع وعضو المجلس الاستشاري لوزارة الدفاع ، وهو أحد مخططي العدوان على العراق ، فاستقالته جاءت مع شدة الانتقادات الموجهة لوزير الدفاع في إخفاقهم الكبير في الخطة .
وتزايد الاستقالات والخلافات السياسية والعسكرية تنذر بانفراط عقد الحلف الصليبي ، مما سينعكس على خلل في الميدان وانهيار للجندي الصليبي ولقيادته التي ستتخبط ، وبعد تجاوز الحرب للأيام الستة التي قال وزير الدفاع الأمريكي أنها المدة التي ستحسم فيها الحرب يزداد الموقف سوء بالنسبة لهم مما سيؤثر على الميدان بشكل كبير جداً .
العامل الرابع : وقوع خسائر فادحة فوق ما كانت تتوقعه الإدارة العسكرية الصليبية للحرب ، فالعسكريون عندما يضعون خطة ما لأي حرب فإنهم يقدرون الحد الأعلى للخسائر التي لا يمكن أن تتحمل الخطة المواصلة في ظلها ، ويضعون أيضاً الحد الأدنى للخسائر التي يجب ألا تزيد عليها ، ولو فرضنا أن الأمريكان وضعوا كحد أعلى لخسائرهم البشرية عشرة آلاف جندي ، فمعنى هذا أن العراقيين لو أوقعوا 50 جندياً يومياً فإنهم لن يصلوا إلى الحد الأعلى الذي سيغير مجريات الحرب ويربك الخطة ويوقف العمل بها إلا بعد ستة أشهر ، ويمكن أن يكون هذا العدد أكثر مما وضعه الأمريكان وربما يكون أقل وهذا العدد للحد الأعلى افتراض منا غير دقيق وهو للتمثيل فقط ، ولابد أن نعلم من خلال تحليل التصريحات الأمريكية كم هو الحد الأقصى بالنسبة لهم .(66/90)
إلا أن هناك حالة يمكن أن يحقق العراقيون فيها إرباك الخطة أو توقيفها دون الحاجة إلى الوصول للحد الأعلى من التوقعات ، وهي أن يدخلوا جنود الصليب في مجازر جماعية تصل إلى خمسمائة جندي دون أن ينجو منهم أحد ، مع تصويرهم بالعدد ونشر ذلك بشكل كبير جداً ، ولو صدق وزير الإعلام الصحاف بأن خسائر الصليبيين في المطار تصل إلى 300 جندي فإن إظهار هذا العدد على الشاشات كاف بإذن الله تعالى لتحقيق الهدف ، فإذا لم يستطيعوا إدخال مثل هذا العدد الكبير في كمين واحد ، يمكن لهم أن يدخلوا أقل من هذا العدد في كمائن متفرقة بأعداد أقل في يوم واحد ، ليعلم الصليبيون أن هذا العدد حصيلة يوم واحد ، ومعنى هذا أنهم بحاجة إلى ثلاثة عمليات أو أربع من هذا النوع ليصلوا إلى معطيات مروعة ، ولن ينتظروا بالطبع حتى يحصل هذا الأمر ، وإذا انتظروا فلن ينتظر الجندي الصليبي أو الشارع الأمريكي حتى تتكرر هذه المجزرة ، مما سيربك الخطة أو يوقفها وربما يوقف الحرب ، ولكن على العراقيين أن يبحثوا كيفية إدخال العدو في مثل هذه الكمائن داخل المناطق السكنية ، أو عن طريق إدخالهم إلى مراكز مهمة ملغمة بأطنان من المتفجرات تحصدهم بشكل مروع ، المهم أن هذا العامل يعتمد على ترويع العدو والتأكيد له أن خسائره ستكون فادحة أكثر مما يتوقعه ، فإذا تأكد أن الخسائر ستفوق توقعاته كماً أو كيفاً فإن هذا سيربك خططه أو يوقفها .
العامل الخامس : تحول الحرب إلى حرب مدن عنيفة ، يثبت العراقيون فيها أنهم رتبوا ونظموا قواتهم بشكل جيد لهذه المرحلة ، وأن الوقت لا يزيدهم إلا قوة في المقاومة والنكاية بالعدو، ودخول الحرب إلى هذه المرحلة له إيجابيات كثيرة جداً بالنسبة للقوات العراقية ، وله سلبيات كثيرة أيضاً بالنسبة للقوات الصليبية عرضنا لطرف منها ، بشرط أن يشارك المدنيون بدفع هذا الأسلوب مع القوات العراقية بنسبة من 30 إلى 50 % حسب المدن ، هذه المرحلة من الحرب تنذر بخسائر فادحة وإنهاك لم يكن متوقعاً للصليبيين ، خاصة بعد استبعاد التكنلوجيا الصليبية بعيداً عن الجندي الصليبي الذي سيواجه العراقيين في حرب مدن عنيفة ، هذا الأسلوب من حرب المدن يمكن أن يصبر الصليبيون عليه لمدة ستة أشهر كتقييم له ، فإذا لم يزده الوقت إلا قوة ولم تظهر عليه بوادر الضعف فمعنى ذلك أن رهانهم على إخماد هذا الأسلوب رهان فاشل مما سيضطرهم ربما إلى الاكتفاء بوضع حكومة عميلة لهم والتنصل من العراق لتواجه الحكومة مصيرها كما هو الحال في أفغانستان ، ونشير إلى أن أسلوب حرب العصابات أوقع في صفوف الصليبيين وعملائهم في أفغانستان خسائر أكبر بكثير من أسلوب الحرب النظامية ،وهو أيضاً أقل خسائر في صفوف المجاهدين والمدنيين من الأسلوب النظامي ، فعلى العراقيين وأنصار العراق أن يسعوا بكل جهودهم إلى المحافظة على هذا الأسلوب في حال العجز عن كسر الصليبيين بالطريقة النظامية ، لتصبح العراق جحيماً على الصليبيين كما هي فلسطين جحيماً على اليهود ، فدخول الصليبيين للمدن ليس نهاية المطاف بل هو بداية مرحلة أعنف من الماضية .
هذه في نظرنا العوامل التي سيعلن الصليبيون هزيمتهم تحت أي غطاء في حال حصولها ، وهناك عوامل أخرى لم نذكرها و نرى أن هذه العوامل هي أبرزها ، وبالإمكان أن يتحقق جزء يسير من كل عامل من هذه العوامل لتشكل مجتمعة عاملاً قوياً يؤدي إلى إيقاف الحرب وهزيمة الصليبيين .
س 12 : هل هناك توقع لاستخدام الغزاة أسلحة غير تقليدية لحسم الحرب في حال فشلهم في حسمها بالطرق التقليدية ؟ .
ج 12 : نظن أننا أجبنا على هذا السؤال في إجابتنا على السؤال الخامس في الحلقة الماضية ، وذكرنا أن المرحلة الخامسة للحرب ربما تكون في هذا الخيار ، وقد يظن بعض الناس أن استخدام السلاح النووي يلزم أن يكون كاستخدامه في هيروشيما ونجزاكي ، ولكن الصليبين لديهم قدرات نووية أخرى أصغر حجماً وأكثر تطوراً من تلك القنبلتين ، ولديهم القنابل النووية التكتيكية وهي قنابل محدودة التأثير شديدة التدمير نسبة إلى مثيلاتها التقليدية، والقنبلة النووية الصغيرة قليلة الوزن لا يعادلها في الانفجار إلا انفجار قنبلة ( مؤاب ) التقليدية ذات العشرة أطنان ، فالخيارات مفتوحة أمام الصليبيين لاستخدام أي سلاح سواء بالإعلان أو بدون إعلان .(66/91)
ولكننا نشير أن قرب تماس القوات العراقية مع القوات الصليبية يمنع من استخدام هذا السلاح ، وأيضاً فإن دخول الحرب إلى مرحلة حرب مدن ستشل قدرات العدو من استخدام جميع تلك الأسلحة ، بل إننا لن نسمع في حال حصول حرب مدن لن نسمع عن قصف القاذفات الاستراتيجية ولن نسمع عن قصف صواريخ ( توما هوك ) ، ولا حتى القنابل التقليدية من مختلف الأوزان ، وربما لن نسمع عن قصف مدفعية الميدان ، لأن حرب المدن تعطل كل تلك الخيارات التي أمام العدو الصليبي لأن جنوده متواجدون داخل المدن ولن يستخدم أي سلاح يمكن أن يضر بجنوده ، إضافة إلى ذلك أنه لن يستخدم هذه الأسلحة لعدم تمكنه من تحديد القوات العراقية التي تتخذ من حرب العصابات أسلوباً لها ، كما هو الحال الآن في أفغانستان فبعد تورا بورا لم يسمع أحد عن استخدام القاذفات الاستراتيجية أو الصواريخ الموجهة بالأقمار أو القصف الكثيف ، لعدم تمكن العدو من تحديد مواقع المجاهدين ، الذين يضربونه في الوقت وبالأسلوب الذي يروق لهم ثم يختفون لينهك العدو بالبحث عنهم دون مواجهتهم ، فهذه أحد الإيجابيات التي ستحصل للعراقيين في حال دخول الحرب إلى مرحلة حرب المدن ، بشرط أن يكونوا أهلاً لإدارتها والمضي فيها قدماً وبكل عنف ، ودخول الصليبيين في المدن لا يعني انتصارهم أو هزيمة العراقيين فجولة حرب المدن لم تأت بعد فإذا كان لها رجالاً فلن يقر للصليبيين قرار بإذن الله تعالى .
==================(66/92)
(66/93)
الحرب الصليبية على العراق - الحلقة السادسة
في هذه الحلقة نجيب على السؤال الخاص بأساليب العراقيين في مواجهة الحرب الصليبية ، ونص السؤال هو :
س 13 : ما هي الأساليب العسكرية التي يستخدمها العراقيون في الدفاع ؟ .
ج 13 : لا شك أن لكل حرب تكتيكاتها الخاصة بها التي تفرضها عليها معطيات الحرب الميدانية والإقليمية والدولية، سواء كانت هذه المعطيات على مستوى تسليح الطرفين أو طبيعة الأرض وميدان المعركة أو الواقع السياسي على كافة مستوياته أو الوضع الاقتصادي للطرفين أو الموقف الشعبي القريب من الميدان ، وغيرها من العوامل التي تفرض على المدافع والمهاجم على حد سواء نوعاً من التكتيك ربما الإلزامي لخوض الحرب،ولكن تطبيق هذه التكتيكات له أساليب مختلفة للمهاجم أو للمدافع.
ونحن لن نتكلم عن المهاجم الصليبي ، بل سنتكلم عن المدافع العراقي،حيث إن المدافع العراقي استخدم في دفاعه ثلاثة أساليب قتالية ، كما أعلن هو عن ذلك وشوهد من أدائه في الأيام الماضية ، الأسلوب الأول : الدفاع بالأسلوب النظامي ، والأسلوب الثاني : الدفاع بالأسلوب شبه النظامي ، والأسلوب الثالث : الدفاع بأسلوب العصابات .
أولاً : الدفاع بالأسلوب النظامي ونعني بذلك أن يدافع العراقيون عن طريق القوات المسلحة النظامية ، وهي قوات مسلحة دائمة التعبئة ، تحافظ على درجة استعدادها العالي عن طريق التنظيم والتدريب والاستعداد القتالي من أجل تنفيذ المهام المطلوبة في الحرب والسلم ، ولهذه القوات المسلحة تشكيلات محددة ، وكل جيش يستخدم أسلوباً في تفويج قواته وتشكيلها ، إلا أن كل تشكيلات الجيوش النظامية متقاربة والتفصيل فيها يخرجنا عن المطلوب ، ولكن نقول بأن أقل تشكيلات الجيش النظامي هي الجماعة وهي تتكون من 12 جندياً ، تليها الفصيل وهو يتكون من 3 جماعات ، ثم يليه السرية وهي تتكون من 3 فصائل، ثم تليها الكتيبة وهي تتكون من 3 سرايا ، ثم يليها اللواء وهو يتكون من 3 كتائب ، ثم يليه الفرقة وهي تتكون من 3 ألوية ، ثم يليها الفيلق ويتكون من 3 فرق ، ثم يليه الجيش ويتكون من 3 فيالق ، وهناك بعض الدول تشكل تفويجها مثلاً للفصيل من أربع جماعات وسريتها من أربع فصائل وهكذا تفويجها إلى نهاية التشكيل ، واللواء هو أدنى القطاعات الذي يمكن أن يعمل باستقلال عن الجيش ، ويمكن أن يبقى في ميدان القتال فترات طويلة دون الحاجة لغيره من القطاعات ، لأنه يعد وحدة متكاملة لجميع المهام ، طبعاً عندما نقول أن اللواء يتكون من ثلاث كتائب أو أربع فيكون تعداده يتراوح بين 1000إلى 3000 جندي ، ولكن هذا ليس هو تعداده الحقيقي في ميدان المعركة ، إذ أن اللواء يدعم بسرايا أخرى متخصصة كسرية هندسة الميدان وفصيل الدفاع الجوي ( م / ط ) وسرية مضادة للدروع ( م / د ) ، وسرايا التموين والاتصالات والشئون الطبية والإدارية وغيرها من السرايا أو الفصائل حسب المهمة المناطة بالكتيبة أو اللواء ، مع اختلاف بين نوعية الكتيبة أو اللواء فالمحمول جواً يختلف عن الميكانيكي وغير ذلك من التفاصيل الخاصة بالتفويج والنوعية ، ثم يلي التشكيلات نوعية وتناسق التسليح ، وبعده يليه التسلسل القيادي ، إلا أن أعلى سلطة ميدانية على الجيش هي ( هيئة أركان الحرب ) ، ويرأس هذه الهيئة رئيس أركان ، وهي تتشكل من مجموعة ضباط وشخصيات مؤهلة للعمل مع القائد العسكري في قيادة القطعة العسكرية التي تحت تصرفه في السلم والحرب ، ومهمتها إعانة القائد على إعداد القطعة وقيادتها وإدارتها ، كجمع المعلومات وإعداد الأوامر ونقلها والإشراف على تنفيذها وتنظيم عمل المصالح المختلفة في خدمة القطعة المقاتلة ، وتعمل هذه الهيئة عن طريق أجنحة كل جناح مخصص بإدارة مهمة واحدة من مهام القطعة المقاتلة .
هذا الأسلوب النظامي له تسلسل في القيادة والإدارة والتحرك ، وهو يعمل بشكل تكاملي ، فلا يمكن مثلاً لسرية في الكتيبة أن تؤدي كل المهام القتالية والإدارية دون الحاجة إلى بقية الكتيبة ، وهذا يقودنا إلى أن الخلل في شيء من هذا التسلسل يؤدي إلى خلل في أداء القطعة المقاتلة بشكل كامل ربما يؤدي إلى شللها حسب حجم الخلل ، إذا لم يمكن تداركه ، فمهمة الجيوش في القتال أولاً هو العمل على إحداث خلل في الجيوش المدافعة ، قبل أن يحصل اشتباك ميداني ، لأن إحداث الخلل الإداري أو قطع التموين أو الاتصالات ، يضعف من الأداء القتالي في الميدان ، وإذا لم يضعفه فلن يصمد في الميدان كثيراً إذا ما حصل خلل في الوحدات الأخرى غير القتالية ، وحينما تستهدف القيادة ويتم قطع الاتصالات بين القيادة وكافة القطاعات ، وبين قيادات القطاعات الأخرى وبين قيادات القطاعات وأفرادهم ، فإن هذا عامل يؤدي بالتأكيد على كسر صفوف الدفاع ، إذا لم تستطع تداركه وإعادة ترتيب صفوفها ، والتفصيل في هذا الأسلوب يطول ولا فائدة من الإطالة فيه .(66/94)
الأسلوب الثاني:الدفاع بالأسلوب شبه النظامي والقوات شبه النظامية قد تتشابه مع القوات المسلحة النظامية في التسلسل والتشكيل ، وهي عادة تتشكل من متطوعين محليين لديهم خبرة بالأرض والسكان ، ومهامها هو عمليات تدعيم القوات المسلحة أمنياً ، ولها مهام دفاعية محلية ، وتسليح القوات شبه النظامية هو تسليح شخصي ورشاشات خفيفة وهاونات خفيفة وأجهزة لا سلكية قصيرة المدى ، تشكيلاتها تتكون من جماعات وفصائل وسرايا وإذا كانت في مناطق آمنة قد تصل في تشكيلاتها إلى كتائب،وليس لها مهام استراتيجية ، فكل تدريبها على تنفيذ مهام تكتيكية ، وأعظم مهامها هو المحافظة على الأمن في المناطق الريفية ، وحراسة مراكز القيادة والطرق والأهداف المهمة كالمطارات وغيرها ، وتسلسلها القيادي ليس كتسلسل القوات النظامية ولكنها أكثر تفككاً منها ، فلا يعتمد عليها بخوض حرب بالأسلوب النظامي لعدم جاهزيتها التعبوية لهذا الأسلوب .
وقد اعتمد العراقيون في هذا الأسلوب على أبناء القبائل ( العشائر ) ، كل قبيلة في منطقتها تم تشكيلها بأسلوب شبه نظامي لتتولى الدفاع عن منطقتها ، وإذا كان الأسلوب شبه النظامي لم يجد كثيراً في مناطق جنوب العراق التي شكل فيها رجال الدين الرافضة رأس جسر لدخول القوات الصليبية وإخماد الأسلوب شبه النظامي ، فإن القبائل الشمالية لازالت فاعلة في هذا الأسلوب ، وحتى الآن لم يستطع الصليبيون وعملائهم من منافقي الأكراد من كسر الدفاعات شبه النظامية ، إلا أننا من الناحية العسكرية لا نعول كثيراً على الأسلوب شبه النظامي مع وجود قوة مهاجمة تفوقه بكثير ، فلن يستطع الصمود طويلاً أمام الضربات المتتالية ، لأن أقصى ما يمتلكه من تسليح هي بعض الأسلحة المتوسطة فقط ، والتي يستخدمها بأساليب تتناغم من الأسلوب النظامي ، وهذا لن يدوم طويلاً .
الأسلوب الثالث : الدفاع بأسلوب العصابات ، وهذا هو أكثر الأساليب فعالية في الوضع العراقي الآن ، وحرب العصابات هي حرب ثورية تجند سكان مدنين أو على الأقل جزء من السكان ضد القوى العسكرية المغتصبة ، و هي حرب بأبسط الأشكال وأرخص الأدوات من قبل طرف ضعيف وفقير ضد خصم قوي يتفوق في العدة والعتاد سواء كان هذا الخصم خارجياً أو داخلياً ، وتشن هذه الحرب من قبل قوات مقاتلة تستخدم أساليب حرب العصابات المتصفة تكتيكياً بالمفاجأة والسرعة والعمل العنيف والخداع ، وينطلق رجال العصابات في هجماتهم من داخل المناطق التي يسيطر عليها العدو ، وتسليح العصابات يتكون من الأسلحة الخفيفة و المتفجرات والألغام والقنابل اليدوية والصواريخ المضادة للآليات ، ولا يوجد على رجل العصابات قيود في تسليحه ، فهو يستخدم السلاح المتاح أمامه لإنهاك العدو دون الحاجة للظهور أمامه للمنازلة ، فأسلوب العصابات وإن كان استراتيجياً هو أسلوب دفاعي ، إلا أنه تكتيكياً أسلوب هجومي بحت ، فلا يوجد لرجل العصابات خطط تكتيكية للدفاع ، فهو ليس بحاجة لمثل هذه الخطط لأنه لا يدافع عن منطقة محددة ، فهو حر في التسليح والتحرك ، أما بالنسبة للتشكيل ، فرجل العصابات غير ملزم بتشكيل محدد ، فتشكيله يفرضه عليه طبيعة عمله ، إلا أن أحسن حالات العصابات يكون تشكيلها ، أن تتألف الجماعة من 12 مقاتلاً و سوف نعرض لاحقاً لتفصيل تسليحها ، فهذه الجماعة هي نواة العصابات وعصب العصابات في نفس الوقت ، وسرية العصابات هي أكبر تشكيل من العصابات يتواجد في قطاع واحد ، وأربعة سرايا من العصابات تتكون منها كتيبة عصابات ، و كتيبة العصابات هي أكبر تشكيل في العصابات وتوجد في كل منطقة عمليات كتيبة عصابات .
ولحرب العصابات أربعة ميادين ، الميدان الأول : حرب العصابات في الجبال ، والثاني : حرب العصابات في الأدغال ، والثالث : حرب العصابات في المدن ، والرابع : حرب العصابات في الصحراء .
جميع تشكيلات وتسليح وطبيعة التحرك والتنظيم لرجال العصابات في هذه الميادين متشابهة ما عدى حرب المدن فلها تشكيلاتها وتنظيمها وتسليحها الخاص وهو ما سوف نفصله لاحقاً بإذن الله تعالى ، إلا أننا نقول أن ميدان المدن هو أكثر هذه الميادين حاجة للمهارات البدنية والعسكرية ، لصغر الميدان ولقرب العدو من رجل العصابات والذي يحتاج إلى ذكاء قبل حاجته للمهارة العسكرية .
وننبه هنا على أن أسوأ ميدان بالنسبة لرجل العصابات هو ميدان الصحراء ، فالصحراء بالنسبة لرجل العصابات مهلكة ، لأن العدو يستخدم في حربه ضد رجل العصابات القوات البرية والقوات الجوية ، فميدان الصحراء هو ميدان مفتوح للطيران وميدان متاح للآليات أن تحاصر وتلتف وتهاجم دون أية عوائق .(66/95)
أما ميدان الجبال فهو ميدان يعد أحسن حالاً من ميدان الصحراء ، فالجبال الوعرة وإن كانت نوعاً ما مكشوفة للطيران إلا أنها تعتبر حصناً لرجال العصابات من تقدم آليات العدو عليهم ، فآليات العدو لا يمكن أن تدخل مناطق الجبال الوعرة لعدم قدرتها على التحرك في الجبال إضافة إلى أن الممرات الجبلية تعتبر مصائد مناسبة لهذه الآليات التي تسير مضطرة لوعورة الممرات بتشكيلات تضعف من قدرتها على القتال ، فيصبح ميدان الجبال هو ميدان رجل المشاة ليقابل رجل العصابات الذي عرف الأرض وأعد العدة للإقاع بخصمه فيها متى ما سنحت الفرصة له .
أما ميدان الأدغال فهو وإن كان ميداناً متاحاً للآليات إلى حد بعيد ، إلا أنه الميدان الذي يعطل الطيران ، فالرؤيا من الجو لهذا الميدان تعتبر رؤيا عديمة لكثافة الأشجار ، ولا يمكن للطيران أن يصنع شيئاً ضد رجال العصابات في هذا الميدان ، إلا عن طريق الأرض المحروقة التي تأكل الأخضر واليابس ، كما فعل الأمريكان في فيتنام ، وكثافة الأشجار في ميدان الأدغال تتيح لرجل العصابات تنفيذ الكمائن القريبة أكيدة المفعول .
أما ميدان المدن فهو الميدان الذي تتعطل معه قدرات العدو الجوية والآلية ، فيضطر العدو إلى إقحام رجال المشاة في الميدان أو رجال القوات الخاصة ، وهو أكثر الميادين إرهاقاً للجيوش ، فهو إرهاق ذهني ونفسي وبدني ، ولكن إذا أحسن رجال العصابات استخدام الميدان بالأسلوب الفعال ، وكلما كانت المدينة أكبر مساحة وأكثر سكاناً ، أصبحت أفضل لرجل العصابات ، فيعجز العدو عن ملاحقة رجل العصابات للكثافة السكانية ، وبإمكان رجل العصابات أن ينخرط بالأعمال المدنية دون أن يظهر عليه الانتماء لرجال العصابات ، فهو في النهار موظف عادي ، وفي الليل مقاتل شرس ، هذا الميدان هو أفضل الميادين لقتل العدو إذا كانت هناك معطيات ميدانية وشعبية وتسليحية لرجال العصابات الذي يفترض فيهم الكفاءة العالية البدنية والعسكرية .
والشاهد على هذا الأسلوب القاتل للقوات النظامية مهما يكن تسليحها وقوة انتشارها ، وقلة المعطيات لرجل العصابات ، ما يحصل الآن في فلسطين ، فرغم صغر حجم قطاع غزة والضفة الغربية ، ورغم سعة انتشار القوات الصهيونية وتطويقها لهذه المناطق الصغيرة ، إلا أنهم عجزوا عن إيقاف العمليات اليومية والتي تقتل منهم الكثير .
وبالمقارنة بين المعطيات الفلسطينية والمعطيات العراقية الميدانية والشعبية والتسليحية ، إضافة إلى الفارق بين قوات العدو الصهيوني في فلسطين ، وقوات العدو الصليبي في العراق ، نجد أن هناك فرصة عظيمة جداً للمسلمين بأن يجعلوا العراق جحيماً على الصليبيين ليخرجوا منها أذلة وهم صاغرون ولو بعد حين .
ويمكن أن يتوفر لدى رجل العصابات أرض تجمع هذه الميادين كلها ، فهناك بعض الأراضي فيها الغابات كثيفة ، و المدن المحاطة بالجبال أو بالغابات ، وهناك بعض الأراضي فيها المدن الكبيرة والغابات الكثيفة والجبال الوعرة فيمكن لرجل العصابات أن يحاول أن ينتقي الميدان الذي يخدمه ،فإذا كان عدوه يتمتع بقوة جوية هائلة يرجح ميدان الغابات والأدغال على غيره لعطل القوة الجوية ، وإذا كان عدوه يتمتع بقوة ميكانيكية هائلة فعليه أن يختار ميدان الجبال الوعرة ، وإذا كان عدوه يتمتع بقوة متناسقة جوية وآلية فعليه بميدان المدن ليعطل كل هذه الإمكانيات .
ولكن المهم في أسلوب حرب العصابات أن يلتزم رجال العصابات بمرحلية هذه الحرب ، ولحرب العصابات ثلاث مراحل لابد من إعطاء كل مرحلة حقها في الاستراتيجية والتكتيك ، فلا يمكن أبداً تحديد نهاية هذه المراحل بحدود زمنية ، والذي يحدد نهاية المرحلة والدخول في الأخرى هو الانتهاء منها على الوجه الأكمل ، وتتميز كل مرحلة عن المراحل الأخرى بسمات عسكرية وسياسية واقتصادية وإعلامية تخضع للمناورة والتغير بحسب المرحلة ، إلا أن الأساس العقدي لا يخضع للمناورة في أي مرحلة من هذه المراحل ، لأنه هو الدفاع لحرب العصابات في مراحلها الثلاث ، وهذه المراحل هي :
المرحلة الأولى : مرحلة الاستنزاف ، وهذه المرحلة هي أطول مراحل حرب العصابات ، لأنها المرحلة التي يركز رجال العصابات فيها على ضربات صغيرة وسريعة وكثيرة في كافة الاتجاهات أو على أكبر رقعة يمكن نشر العمليات عليها للإغال في استنزاف العدو واستنفاره في كل مكان ، وهي لابد أن تخضع لسياسة ( اضرب واهرب ) أو ( القتل بألف جرح ) أي إنهاك العدو بضربات صغيرة على مدى طويل حتى يسقط من الإعياء .
وفي هذه المرحلة لابد أن تكون قواعد رجال العصابات قواعد متنقلة وغير ثابتة وخفيفة التجهيز حتى لا تعيق التنقل والمناورة .
ولابد لرجال العصابات أن يستخدموا الضربات العسكرية فقط لتحطيم هيبة النظام وترويج الدعايات ضده وتشجيع الناس على المقاومة لمعاونة رجال العصابات ، ولابد من نشر تفاصيل المعارك على أكبر قطاع ممكن بين الناس لاجتذاب تأييد الناس وعونهم .(66/96)
ولابد في هذه المرحلة من مراعات هذه التكتيكات لتؤدي المرحلة هدفها بأكبر قدر من الخسائر في صفوف العدو وأقل قدر من الخسائر في صفوف رجال العصابات ، ونذكر هنا بعض سمات هذه المرحلة خشية الإطالة :
(1) إنهاك العدو بضربات مستمرة وطويلة ( وخزات الإبر ) .
(2) العمل على مؤخرة العدو .
(3) إقامة القواعد الآمنة غير الدائمة .
(4) توسيع مناطق الحرب باستمرار لإجبار العدو على التبعثر وجعله ضعيفاً في كل مكان ، لوضع العدو أمام معضلة كبيرة تتمثل بالتبعثر لحماية كل الأهداف ، الأمر الذي يضعفه في كل مكان أو التجمع للحصول على القوة الأمر الذي يفقده السيطرة على مناطق شاسعة تسقط بيد العصابات وتزيدها قوة .
(5) عدم التمسك بالأرض والمواقع القتالية .
(6) الحفاظ على القوة الذاتية وتنميتها وتحطيم قوة العدو مادياً ومعنوياً .
(7) تأمين التنسيق بين عمل العصابات وعمل القوات النظامية التي تشن حرب الحركة إذا وجدت .
(8) الاستمرار في الضرب في الزمان والمكان لخلق حالة انعدام الأمن .
(9) التلاحم مع السكان .
(10) امتلاك زمام المبادرة وذلك بشن الهجمات في الزمان والمكان والكيفية التي تناسب رجال العصابات ، وعدم الانجرار لاستفزاز العدو وخوض المعركة في الزمان والمكان الذي يريده العدو .
(11) لابد أن تتسم الهجمات بالمباغتة والعنف ، فالمفاجأة والسرعة والحسم ، أمور مهمة في تكتيك العصابات.
(12) التحدي والإصرار على هزيمة الخصم في الميدان لا يناسب هذه المرحلة بالنسبة لرجل العصابات ، ما يناسب هذه المرحلة هو الضرب والانسحاب ، فالاندفاع والتهور لا يخدمان رجال العصابات في هذه المرحلة ، ولابد أن يتعلم الجميع كيف يفر .
(13) التركيز على الكمائن بكافة أشكالها وباستخدام كل الأساليب ، وضرب العدو أثناء الحركة فهو أضعف ما يكون إذا كان متحركاً .
(14) المرونة في التجمع والتحرك .
(15) الاعتماد على المناطق الوعرة التي تؤمن الحماية .
(16) ضرورة رفع مستوى الاستخبارات لتأمين رجال العصابات ، مع الاعتماد في هذا المجال على تعاون السكان .
(17) الاعتماد على سلاح الفكر والتوعية السياسية لتعديل موازين القوى .
(18)لابد من الحذر من حصار العدو والانسحاب فوراً مهما كلف الأمر عند الشعور بالحصار .
(19) هجمات رجال العصابات في هذه المرحلة تكون بالأسلوب الصامت الحذر ، ومحاولة تشتيت انتباه العدو بإثارة ضجة في جهة والهجوم في جهة معاكسة أخرى .
(20) يجب إتقان التخفي في الحركة والإمداد ومهارة الدخول بين السكان .
(21) لابد من الابتعاد عن الروتين أو التكرار في التحرك أو الهجوم ، ولابد من الحرص على مغايرة الأساليب .
(22) يجب أن يكون هناك اكتفاء ذاتي من قبل رجال العصابات من حيث المعيشة ، فعليهم ببذل مجهوداتهم الذاتية للكسب لتكون لهم غطاء فيفترقون للكسب ويجتمعون للقتال .
هذه هي بعض سمات المرحلة الأولى من مراحل حرب العصابات ، وكما قلنا سابقاً أنها أطول وأهم مراحل العصابات ، ولا يمكن التحول منها إلى المرحلة الثانية إلا بعد ضمان اكتمالها بشكل تام .
المرحلة الثانية : مرحلة التوازن ، وهي المرحلة التي يحاول رجال العصابات فيها أن يعيدوا تشكيلاتهم العسكرية بأسلوب شبه نظامي ، بعد أن يتمكنوا في المرحلة الأولى من تحقيق موطئ قدم وأرض محررة ، وبعد التأكد من حاجتهم وقدرتهم على الانتقال للمرحلة الثانية ، يكون الانتقال وتغيير التشكيلات وزيادة في التسليح ليصلوا إلى الأسلحة الثقيلة ووضع خطوط قتال بتشكيلات شبه نظامية ، حتى يتوصلوا في آخر هذه المرحلة إلى تشكيلات نظامية ، فيتمكنوا من التوسع للانتقال إلى المرحلة الثالثة .
المرحلة الثالثة : مرحلة الحسم ، وهذه المرحلة هي المرحلة الأخيرة في حرب العصابات ، وهي مرحلة يبدأ فيها رجال العصابات من إعادة تشكيل قواتهم إلى قوات نظامية بعد أن يتم تشكيل هيكلية حكومتهم ، يرافق ذلك حملة إعلامية وسياسية لبداية هذه المرحلة ، لتصل إلى حشد القوات النظامية من الطرفين وشن حرب نظامية يتم فيها القضاء المبرم على قوات العدو بالأسلوب النظامي بعد أن أنهكته الحرب في المرحلتين الأولى والثانية .(66/97)
هذه هي بشكل مختصر حرب العصابات وهذه هي مراحلها وتشكيلاتها وميادينها وأهم مبادئها ، ولا نقصد من هذا العرض الاستيعاب، ولكن لنذكر أن الحرب مع القوات الغازية الصليبية في العراق لم تدخل بعد لمواجهة هذه المرحلة ، وأن هذه المرحلة طويلة جداً ولابد للأمة الإسلامية أن تهب لتشارك في هذه الحرب لدفعها إلى الأمام لتكون العراق فيتناماً أخرى للأمريكان ، وقد هزم الفيتناميون على مر 12 عاماً هزموا الجيش الأمريكي بعد أن كبدوه ما يقرب من 67 ألف قتيل قبل أن يعلن هزيمته رسمياً، وكان قادة الفيتناميين يفتخرون ويرددون الطرفة القائلة بأنهم خاضوا الحرب ولم يستطع الجيش الأمريكي أن يدمر لهم دبابة واحدة، في إشارة إلى أن الجيش الأمريكي أعلن هزيمته وخرج من الحرب في المرحلة الأولى من مراحل حرب العصابات ، قبل أن يملك الفيتناميون الأسلحة الثقيلة ، وبالفعل لم تدمر دبابة واحدة للفيتناميين لأنهم لم يصلوا إلى مرحلة امتلاك السلاح الثقيل ، فإذا كانت المرحلة الأولى في فيتنام كبدت الجيش الأمريكي هذه الخسائر فكيف لو أن الجيش الأمريكي أصر ولم ينسحب حتى دخل في المرحلة الثانية والثالثة ؟ .
وبنفس الأسلوب تعامل الأفغان مع الاتحاد السوفييتي وخاضوا حرب عصابات ضده على مر 10 سنوات تكبد أكبر جيش في العالم آنذاك خسائر فادحة في المرحلة الأولى من الحرب ، وأعلن الجيش الأحمر انسحابه وهزيمته في أفغانستان قبل أن تنتقل الحرب إلى مرحلتها الثانية على جميع قطاعات أفغانستان ، حيث كان هناك قطاعات مثل جلال آباد وخوست وقندهار وغيرها تحولت أثناء وجود السوفييت إلى المرحلة الثانية ، إلا أن التحول بشكل كامل لم يحصل إلا بعد انسحاب السوفييت ، لتنتقل الحرب إلى المرحلة الثانية ضد حكومة نجيب الشيوعية لمدة سنتين ونصف تقريباً ، ثم حصل الانهيار في الحكومة الشيوعية ليكون الحسم خلال شهرين فقط .
وحتى لا نبتعد كثيراً عن السؤال الذي جرنا لهذه التفاصيل ، نقول بأن العراقيين استخدموا الأساليب الثلاثة حتى الآن وهذا هو اليوم العشرون من الحرب ، فهم لا زالوا يقاومون في بغداد إلى أقصى شمال العراق مدينة نينوى ، يقاومون بالأسلوب النظامي عن طريق الحرس الجمهوري والجيش العراقي ، وهم أيضاً أعدو قبل الحرب جميع أبناء القبائل عسكرياً وتم تسليحهم وتشكيلهم بتشكيلات شبه نظامية ذاتية وتم تزويدهم بكامل حاجتهم من الأسلحة والذخائر ليشكلوا خطاً أولاً للدفاع عن مدنهم ، ونظن أن جيش القدس والمتطوعون دخلوا ضمن هذه التشكيلات شبه النظامية ، كما أنهم جهزوا وحدات قتالية مستقلة لشن ضربات بأسلوب حرب العصابات في مرحلتها الأولى على مؤخرات قوات الغزاة الصليبية ، وفي داخل المدن الجنوبية التي دخلوها ، وشارك في هذا فدائيو صدام والحزبيون والمتطوعون أيضاً ، ولكن نظن أن هذا الأسلوب لم يعط الدعم والاهتمام الذي يستحقه ، وهم الآن بحاجة إلى دعم هذا الأسلوب بكل إمكانياتهم ، وبعد أن عرفنا أن العراقيين استخدموا كافة الأساليب العسكرية ، يبرز سؤال هو :
س 14 : أي الأساليب هو المرشح للصمود وهزيمة الغزاة ؟ .
ج 14 : من خلال سياقنا السابق على جواب السؤال الماضي ، يتضح أننا نرشح وبكل قوة أسلوب حرب العصابات الطويل المدى لتحقيق هزيمة الغزاة ، وهذه هي نصيحة الشيخ أسامة بن لادن للعراقيين عندما قال لهم استجروا عدوكم إلى حرب شوارع طويلة المدى ، لأن الأسلوب النظامي لا يمكن أن يصمد طويلاً بفارق التسليح المشاهد في العراق ، مع خيانة جميع دول الجوار وتعاونها مع الغزاة بشكل كامل سوى سوريا ، وهو أيضاً أسلوب يحتاج إلى جهود ضخمة في عمليات الإمداد والتموين والتي يزداد تهديدها بالنفاد والانقطاع بسبب حصار العقد الماضي والتفوق الجوي الصليبي ، وإذا لم يتمكن العراقيون خلال أسبوع بالأسلوب النظامي من توجيه ضربة صاعقة ومرعبة للغزاة توقف تقدمهم وتضطرهم للتراجع ، أو يتحقق عامل من عوامل الهزيمة الصليبية التي أشرنا لها في الحلقة الماضية ، و إلا فإنهم مضطرون للتحول لحرب العصابات .
أما الأسلوب شبه النظامي فهو مكون بشكل رئيس من العشائر العراقية والتي بدت متحمسة في أول الأمر وتظهر أنواع التحدي ، وبعد القصف والحصار واستهداف جميع مقومات الحياة في المدن ، ضعف هذا الحماس وانقلب إلى الحياد وتسليم الأسلحة وطلب السلامة بحجة الحفاظ على حياة الناس ، أما الرافضة فكانوا يصفقون مع القوي منذ البداية فعندما كان صدام قوياً صفقوا معه ، ولما رأوا كفة الصليبيين ترجح في الجنوب أصبحوا لهم جند محضرون ، ولا زال الصليبيون في مؤتمراتهم يشيدون برجال الدين الرافضة في النجف وكربلاء والبصرة الذين ساعدوهم في السيطرة على المدن وتهدئة الناس .(66/98)
أما أسلوب حرب العصابات فهو الأسلوب المرشح للصمود، لأنه هو الأسلوب الوحيد الذي يشكل معضلة حقيقية للجيوش، وهو الأسلوب الذي تتضائل أمامه جميع فوارق التسليح والعتاد لدى الغزاة ، فليس أمام العراقيين وجميع المسلمين إلا أن يركزوا على العمل على هذا الأسلوب لتحقيق هزيمة الصليبيين بإذن الله تعالى ، وهو الأسلوب الذي يخرج المدنيين من أضرار الحرب بشكل كبير ، ولكن هناك سؤال يقول :
س 15 : في حال دخول القوات الصليبية إلى المدن وإلى بغداد خاصة فأي الأساليب ستستخدم ؟ وما هي الطريقة التي يحافظ بها العراقيون على قوتهم ؟ وما هو مصير صدام وحزبه في حال دخول القوات الغازية لبغداد ؟ .
ج 15 : أجبنا على الشق الأول من السؤال في الجواب السابق ، ونكرر أن أفضل الأساليب التي تحقق هزيمة الصليبيين هي حرب العصابات على كافة الأراضي العراقية بكل الوسائل المتاحة .
أما الطريقة التي يحافظ بها العراقيون على قواتهم ، فالقوة العراقية تنقسم إلى قسمين قوة مادية أي في العتاد والتسليح ، وقوة بشرية في عدد المقاتلين على كافة القطاعات ، فإن كان السؤال كيف يمكنهم المحافظة على القسم الأول وهو القوة المادية ، فنظن أن هذا لا يمكن بشكل كبير ، نعم يمكن الحفاظ على القوة المادية بإعداد المخازن السرية ، وتخزين الأسلحة الخفيفة وذخائرها ، وقاذفات الصواريخ المضادة للدبابات ، والقنابل اليدوية ، والمتفجرات والصواعق والفتائل ، والألغام ، وغيرهما من الأسلحة والمعدات التي يحتاجها رجل العصابات لتنفيذ مهامه القتالية ، ولكن يبقى أن تخزين هذه الأسلحة لن يستوعب أسلحة وعتاد القوات العراقية كاملة ولا حتى نصفها ، وستخرج الأسلحة الثقيلة والمتوسطة من صلاحيتها للتخزين ، وإذا تمكن العراقيون من توزيع وتخزين كافة ما يحتاجونه لمدة سنة على الأقل لحرب عصابات قادمة فسوف ينجحون بإذن الله تعالى من الاستمرار بمثل هذه الحرب ، تماماً كما فعلت الإمارة الإسلامية عندما وزعت الأسلحة الثقيلة والعتاد على القبائل وقامت بتخزين الأسلحة الخفيفة والذخائر والمتفجرات بمخازن متفرقة في كافة الأودية والجبال على مجموعات قليلة إذا وقعت بأيدي الغزاة لا يقع إلا جزء يسير منها ، ففي نظرنا أن القوات العراقية لايمكن أن تحافظ على قوتها المادية كاملة ولكن بإمكانها أن تحافظ على ما تحتاجه للمرحلة القادمة بأسلوب المخازن السرية المتفرقة .
أما القسم الثاني من القوة العراقية وهي القوة البشرية فلا يمكن أبداً من الناحية العملية على الأقل أن يتم تفعيل كل هذه القوات النظامية في حرب عصابات في مرحلتها الأولى ، فالقوات العراقية تعدادها بمئات الآلاف ، بل الحرس الجمهوري وحده تعداده بمئات الآلاف ، وفيه من الكفاءات والقدرات القتالية ما يمكن أن يخدم كثيراً في المرحلة الأولى من مراحل حرب العصابات ، فحرب العصابات في بلد مثل العراق لا تحتاج إلى تعداد كبير جداً لأن ميدانها سيكون في أغلب الأراضي العراقية داخل المدن ، ولن تكون الجبال ميداناً إلا في الجبال الشمالية للعراق ، وكل مدينة لو قسمت إلى أربع أو خمس قطاعات وتولت سرية عصابات هذا القطاع فمعنى ذلك أن كل مدينة ستعمل بها كتيبة واحدة بكفاءة عالية كفيلة بإذن الله تعالى أن تحقق الأهداف ، فبغداد الآن يتولى حمايتها فيلق ميكانيكي وفرقة واحدة ، وهذا العدد كبير جداً فلو كان تفويج الفرقة العراقية الميكانيكية يصل إلى 18 ألف على الأقل فهذا يعني أن بغداد يتولى حمايتها ما يقرب من مائة آلف جندي عراقي على الأقل ، بينما في حرب العصابات بغداد تحتاج من الناحية النظرية إلى كتيبة واحدة فقط من كتائب العصابات ربما يصل تعدادها إلى 400 مقاتل فقط ، بحكم أن الكتيبة في تشكيل العصابات لا تحتاج إلى تدعيم كبير يضاعف من تعدادها ، ولأسلوب حرب المدن تشكيلاته الخاصة سوف نأتي عليه بإذن الله تعالى ، ولكن نحن هنا ذكرنا هذا التقسيم النظري ، لنبين الفارق العددي في الأسلوب النظامي وأسلوب حرب العصابات .
ومما تقدم يتبين لنا أن التحول من الحرب النظامية إلى حرب العصابات سوف يخفف كثيراً من التسليح ومهام الإمداد والحماية وغيرها ، كما أنه سوف يغني عن الحاجة للكثرة العددية ، ونقول لو خرج لنا من الألوف المؤلفة التي تمثل الجيش العراقي والقوات شبه النظامية والعصابات ، لو خرج لنا أربعة آلاف من المقاتلين الأكفاء في جميع الأراضي العراقية ليبدءوا حرب عصابات في الشهور الأولى من المرحلة الأولى للعصابات ، لكان هذا أكبر مؤشر بإذن الله تعالى على هزيمة الغزاة ولو بعد حين .
ولكن السؤال كيف يتمكن العراقيون من التحول من الحرب النظامية إلى حرب العصابات بشكل قياسي ؟ .(66/99)
لن يتمكن الجيش من حل تشكيلاته والتحول إلى تشكيلات عصابات بكافة قطاعاتها في زمن قياسي خاصة إذا لم يمارس هذا الأسلوب من قبل ، وتحول الطالبان خلال شهرين من الأسلوب النظامي إلى العصابات عائد إلى خبرتهم في حرب العصابات وممارستهم لها سنوات طويلة ، فإذا لم يكن الجيش العراقي قد أعد قبل الحرب بستة أشهر على الأقل لهذا التحول ، فإنه سيحتاج ربما إلى ستة أشهر بعد دخول الغزاة إلى بغداد ليتمكن من إعادة تشكيل وحداته بأسلوب حرب العصابات وتأمين الأسلحة والذخائر والمعدات والمعلومات التي تتيح له البدء بهذا الأسلوب .
أما الشق الأخير من السؤال وهو عن مصير صدام وحزبه في حال دخول القوات الغازية لبغداد ؟ .
فنقول بأن دخول القوات الغازية لأي مدينة تعني فقدان الحكومة للسيطرة على المدينة بشكل كامل ، ربما تتمكن الحكومة من السيطرة على الأمن في بعض القطاعات ، ولكن لن تتمكن من السيطرة بشكل كامل وممارسة مهامها كحكومة ولا حتى كنقابة عمالية ، فالقوات الغازية إذا دخلت وتمركزت وفرضت تواجدها في المدينة بقوة فهذا يعني انتهاء سلطة الحكومة ، نعم قد لا تستطيع القوات الغازية فرض سيطرتها كما هو الحال الآن في جنوب العراق ، ولكن أيضاً لن تستطيع الحكومة فرض سيطرتها أيضاً ، وسيدخل البلد في مرحلة الفوضى وسلطة قطاع الطرق وأهل السلطة والسطوة تحت شريعة الغاب ، كما هو الحال في أفغانستان ، فلا سلطة للحكومة ولا سلطة للغزاة .
وهذا الكلام يؤكد لنا أنه لايمكن أبداً أن يتمكن العراقيون من تطبيق أسلوب حرب العصابات بعد دخول القوات الصليبية إلى بغداد ويتمكنوا من المحافظة على سلطتهم أو هيكليتهم كحكومة ، فالسؤال عن مصير صدام وحزبه ليس مهماً ، بقدر ما يهم السؤال هل سيكون له ولحزبه سيطرة على البلاد في حال دخول القوات الصليبية إلى المدن ، وأجبنا بأن أسلوب العصابات يتعارض مع المحافظة على السلطة ، خاصة في ميدان المدن ولا سيما في بغداد مركز السلطة العراقية .
ويقودنا هذا الكلام إلى شيء مهم ألا وهو أن العراقيين إذا أرادوا أن يدخلوا في أسلوب حرب العصابات فلابد أن يدخلوها مع الترتيب المسبق بعدم الاستناد إلى الحكومة لأنها سوف تزول مع دخولهم لهذه المرحلة ، ولابد ألا يستندوا أيضاً إلى أي سلطة كانوا يتمتعون بها مسبقاً ، ومعنى هذا أنهم بحاجة إلى قيادات ميدانية شابة جديدة ، بوجوه غير معروفة مسبقاً قادرة على الحركة مع مجموعات العصابات بين التجمعات السكانية وممارسة الحياة بشكل طبيعي بين الناس ، وقيادة قوات العصابات من الميدان ، وهذا المطلب يخرج كل الوجوه المعروفة من دائرة الصلاحية في هذه المرحلة الأولى ، ولن يكون للوجوه المعروفة صلاحية إلا بالمرحلة الثانية والثالثة من حرب العصابات ، إذا حالفها الحظ بالبقاء .
س 16 : هل هناك توقع لمشاركة دول أخرى مع العراق ضد الغزاة بشكل مباشر أو غير مباشر وما هي الدوافع لذلك ؟ .
ج 16 : مشاركة الدول الأخرى المعادية لأمريكا مع العراق ضد الغزاة بشكل مباشر أو غير مباشر، يحددها مدة الحرب غالباً، فحينما تطول الحرب تستقر أوضاع القتال على موقف جامد لمدة طويلة ، وفي هذه الحالة تتمكن الدول الأخرى من تحديد الموقف تجاه الحرب ، أما مع التسارع الكبير لأحداث الحرب وخاصة في الميدان ، فلن يكون هناك مواقف ، لأن القرارات السياسية تحتاج إلى طول نظر وتحتاج إلى وضع هادئ ليمكن معه من اتخاذ القرار ، ولكننا نقول كما شاركت دول في هذا العدوان الصليبي مع أمريكا بشكل مباشر و غير مباشر ، فسوف تشارك دول أخرى مع العراق بشكل مباشر وغير مباشر ، ولكننا نقول بأن الشكل المباشر لن يكون على الأقل في الأسابيع القادمة أو الأشهر القادمة ، لأن العدو الصليبي عدو قد طوق أعناق دول العالم كلها تقريباً بحبل الاقتصاد ، ولا يوجد دولة على استعداد بأن تشنق اقتصادياً جراء هذا التدخل ، ولكن يبقى التدخل غير المباشر هو التدخل الأكثر ترشيحاً ، لاسيما عن طريق التدخل الشعبي لكثير من الدول ، ولن يؤثر تغير أسلوب الدفاع العراقي من أسلوب نظامي إلى أسلوب عصابات بالنسبة لنية تدخل الدول ، فربما يكون أسلوب العصابات أكثر استنزافاً للقوات الغازية من الأسلوب النظامي ، وهو بالتالي سيكون العامل الأكثر دفعاً للدول المعادية لأمريكا بأن تتدخل بدعم هذه الحرب لاستنزاف الغزاة داخل العراق ، ونعتقد أن دوافع هذا التدخل مع العراقيين لن تكون قوية من قبل دول المنطقة وبقية دول العالم ، إلا بعد أن تبدأ أمريكا بالخطوة الثانية ، وهي تصدير النفط العراقي وتقويض منظمة أوبك وإغراق السوق بالنفط لتحقيق ضرب الأسعار وتفكك منظمة أوبك ، وتهديد الأنظمة المجاورة بمصير نظام صدام ، وتهجير الفلسطينيين إلى بغداد ، هذه الأعمال وعشرات من القرارات التي نتصور أن يتخذها الأمريكان قبل أن تهدأ العاصفة ، سيكون دافعاً قوياً لأن تشارك أطراف أخرى في هذه الحرب ، ودعم حرب العصابات العراقية في حال فشل الأسلوب النظامي في الدفاع عن العراق .(66/100)
نداء لجميع المراسلين في العراق : ذكرنا في الحلقة الرابعة في اليوم السابع عشر للحرب على العراق أن الصليبيين سوف يستهدفون الصحفيين للدخول في مراحل أكثر دموية فقلنا : ونحن نتوقع أن الحرب إذا دخلت في مراحل متقدمة من الإجرام الصليبي فإنهم سيركزون على التعتيم الإعلامي على الميدان بقصف مصدر البث العراقي ، واستهداف كل مراسلي وسائل الإعلام داخل العراق ، ومنع من يرافق الغزاة من المراسلين من الدخول معهم كما في حرب الخليج الثانية ، ليضمنوا تعتيماً إعلامياً ليمارسوا جرائمهم بعدما ضمنوا إطفاء الأنوار ليقتلوا المسلمين في الظلام ولا شاهد على ذلك .
كما ذكرنا في الحلقة الخامسة في اليوم الثامن عشر أن القوات الصليبية حريصة على التعتيم الإعلامي لمنع مضاعفة الانتقادات ضدها والاستقالات في صفوفها فقلنا : وتوصلوا هذا اليوم إلى مرحلة أخرى وذلك باستهدافهم عمداً بعض المراسلين الذين يتمتعون بحصانة في الحروب ، كما جرى مع مصور قناة الجزيرة عندما أطلقوا عليه النار وأوقفوه ثم أطلقوا سراحه وعاودوا إطلاق النار عليه بعد ذهابه كما روت الجزيرة ذلك ، هذه الحوادث سوف تتزايد في الأيام القادمة مع تزايد إظهار هذه القنوات من الخسائر والفشل ما يزيد من شدة الخلاف بين الصليبيين .
ونحن هنا ننبه بعد قصف القوات الصليبية في هذا اليوم العشرين لفندق فلسطين في بغداد الذي يسكنه الصحفيون وقتل مراسل رويترز وإصابة ثلاثة آخرين ، وقبله بساعات تم قصف مقر الجزيرة وقتل فيه أحد المراسلين وجرح آخر ، ودمر بعده الصليبيون مقر قناة أبو ظبي ، هذه الحوادث ليست حوادث عرضية قطعاً وليست أخطأ بالتأكيد لأن إحداثيات مواقع القنوات ومواقع الصحفيين تم تسليمها للصليبيين قبل الحرب واتفاقيت جنيف التي يدندنون حولها في كل حادثة عليهم ، تقضي بعدم استهداف الصحفيين وضمان سلامتهم ، فكيف تقصف مواقع الصحفيين ثلاث مرات في يوم واحد رغم علمهم بالإحداثيات بدقة ؟ .
هذا السؤال يخفي وراءه نية مبيتة لدى الصليبيين بإقامة مجازر مروعة تفوق المتوقع ، فإذا كان في نظرهم أن مقتل بضعة صحفيين سيحقق لهم خروج الإعلام من بغداد، بعد أن ضمنوا خروج وزارة الإعلام العراقية من الساحة بعد استهدافها مرات متكررة ، فهذا يعني أنهم على استعداد لتحمل جريمة قتل الصحفيين ، أهون عليهم بكثير من تحمل تصوير الصحفيين للجرائم التي سترتكب في حق المدنيين في بغداد ، لأنهم ربما يرون أن معركة بغداد الفاصلة تحتاج إلى حصار لمدة عشرة أيام على الأقل سيقتل فيها آلاف من المدنيين بالتجويع والعطش والأمراض ليضغطوا على العاصمة لتستسلم دون الحاجة للقتال ، وفي نظرنا أن هذا الأسلوب هو أكثر الأساليب مرشحة لدخولها .
ولكننا نقول بأنه يجب على الإعلام الذي يقول بأنه مستقل ويبحث عن الحقيقة ، بأن يضحي كما يطالب من العراقيين دوماً أن يصمدوا ، فعلى الإعلاميين أن يصمدوا ، فبقاؤهم في بغداد سيحد من المجاز وسيحرج الصليبيين كثيراً ، وسيوقف الكثير من الإجرام الصليبي ضد المدنيين ، فعليهم أن يضحوا فما هم إلا من أفراد الأمة ، فما يصيب أمتهم في بغداد يجب أن يشاركوهم بدمائهم ، وعليهم أن يحسنوا نياتهم ويحتسبوا بقاءهم في بغداد لحماية المسلمين من جرائم الإبادة الصليبية بكميراتهم الفاضحة لزيف الصليبيين وإجرامهم ، فهذا هو دورهم الحقيقي وهو حماية دماء المسلمين ، والوقوف ضد الحملة الصليبية ، وليس دور الإعلامي هو الخداع والكذب وترويج الكفر والفجور والنفاق والفسوق لتحقيق الكسب المادي فقط ، ولكن الإعلامي صاحب رسالة يهدف منها حماية دين المسلمين ودمائهم وأعراضهم والدفاع عنهم في كل ميدان ، فيا أيها المراسلون كونوا عوناً لأمتكم على عدوها وأدوا رسالتكم بإخلاص ، وافضحوا العدو وبصروا الأمة بحقيقة الأمر ، واشحذوا الهمم لدفع الأمة لكسر هذه الحملة الصليبية ، فإن كان الموت فلستم أول من يموت من أجل أهداف سامية نبيلة،وليس العيب أن يموت المرء في سبيل أهداف عظيمة ، ولكن العيب أن يعيش لأجل أهداف خسيسة لا ترضي الله ولا رسوله .
=================(66/101)
(66/102)
الحرب الصليبية على العراق - الحلقة السابعة
أولاً وقبل كل شيء إن ما حصل في بغداد اليوم الأربعاء 8/2 من دخول للقوات الصليبية إلى قلبها دون قتال ، لم يكن ليفاجئ من يزن الأحداث بالميزان العسكري ، لأن دخولهم للمدن كان متوقعاً سواء عاجلاً أو آجلاً ، فالمعطيات على الميدان لا ترشح صمود الدفاع العراقي بالأسلوب النظامي .
نعم لا ننكر بأن المفاجأة كانت بالنسبة لنا في سهولة دخولهم لبغداد ، وخلوها من أي شكل من أشكال المقاومة ، وما عجزنا عن فهمه حتى الآن أين ذهبت عشرات الآلاف من القوات النظامية خلال ليلة واحدة ؟ فكنا نتوقع قدراً من المقاومة على الأقل شبيهة بأم قصر ، ولكن لا نعلم ما هي الأسباب ، وإن كنا على قناعة أن المقاومة في بغداد لو حصلت بالأسلوب النظامي فإنها حتماً ستنهار ولو بعد حين ، ويبدو أن هذا ما اقتنع به القادة العراقيون بأن الأسلوب النظامي وإن قاوم لأسابيع فإنه سينهار لعدم توفر مقومات الصمود ، ووزير الدفاع العراقي سلطان هاشم قال في اليوم السادس من الحرب أن بغداد ستحاصر ولكنها لن تسقط ، فقناعتهم بالحصار كافية لتؤدي إلى قناعتهم بعدم استطاعة الصمود بالأسلوب النظامي ، وهذا ما أشرنا إليه في الحلقة الماضية قبل سقوط بغداد .
ولتوقعنا المسبق بأن أسلوب الدفاع النظامي وشبه النظامي سينهار ولن يتمكن من الصمود ، فقد كان توجيهنا من خلال هذه الحلقات منذ بدايتها ، أن نركز على أسلوب حرب العصابات ، فهو السلاح الأقوى في أيدي المسلمين ، وهذا هو أسلوب مواصلة الصراع مع العدو الصليبي الذي جرد الأمة من كل معاني القوة ، ولا يمكن أبداً في السنين القادمة أن يسمح لها بأن تمتلك شيئاً من مقومات القوة بأي شكل من الأشكال ، ولذلك فأفضل أساليب صراع الضعيف ضد القوي هو أسلوب حرب العصابات ، فأسلوب حرب العصابات دحر الأمريكان في فيتنام ، ودحر السوفييت في أفغانستان ، وهو الأسلوب الذي أزال الاستعمار الصليبي المباشر عن أغلب بلاد المسلمين تقريباً ، ولا أشهر من الجزائر ، ولا زلنا نتابع إيقاف هذا الأسلوب لهجرة اليهود إلى فلسطين ، حيث أحدث هجرة معاكسة يهودية منها ، وتجارب حرب العصابات الناجحة في دحر الغزاة كثيرة لا نطيل بذكرها ، إلا أنها تبقى دليلاً على أن أنفع أساليب الضعيف مادياً ضد القوي هي أساليب حرب العصابات .
وندخل في هذه الحلقة إلى السؤال السابع عشر من قائمة الأسئلة لهذه الحلقات وهو :
س 17 : هل هناك فائدة من الناحية العسكرية للشعب العراقي لو نفر الشباب المسلم إلى العراق لقتال الصليبيين هناك ؟ .
ج 17 : قد يستغرب البعض من طرحنا لهذا السؤال الآن ، حيث سيقول لقد سقطت بغداد ودخل الصليبيون إليها دون مقاومة ، فهذا السؤال قد انتهى وقته .
ومع احترامنا لمن هذا قوله ، إلا أننا نقول نحن نختلف كل الاختلاف مع هذا الطرح ، فمعركتنا مع الصليبيين لم ولن تنته بسقوط بغداد أو العراق بأكملها ، معركتنا مع الصليبيين مستمرة ، ونحن كأمة إسلامية لابد لنا دوماً أن نسعى لمنازلة الصليبيين في كل مكان .
أما من الجانب الآخر فنحن منذ البداية لم نكن نعول على الأسلوب النظامي في كسر الحملة الصليبية على العراق ، بل التعويل كله على الله سبحانه وتعالى ثم على أسلوب حرب العصابات ، فهذا السؤال في نظرنا أن هذا وقته ، فمرحلة استنزاف الصليبيين في العراق لن تكون إلا إذا وضعوا رحالهم في العراق .
وقد يقول قائل ما فائدة قتالهم في العراق ؟ نقول إن قتالهم في العراق بأسلوب حرب العصابات واستنزافهم وإنهاكهم هو أفضل الأساليب للدفاع عن الأمة ، فالعراق ستكون قاعدة أمريكية ضخمة لم يعرف التاريخ لها مثيلاً ، فكل قواعدهم في المنطقة وخاصة الخليج ، ربما تحول إلى العراق ، لتكون العراق هي منطلق حملاتهم الصليبية القادمة على الدول الإسلامية الأخرى ، وهي منطلق غزوهم النصراني لعقائد الأمة بما يسمونه زوراً (التبشير ) ، وستكون العراق منطلق غزوهم الثقافي والفكري والاقتصادي والسياسي للمنطقة ، إضافة إلى أنها ستكون السند العسكري الأقوى لليهود في المنطقة ، وربما ستكون في القريب العاجل المهجر الجديد للفلسطينيين الذين ملتهم مهاجرهم القديمة لبنان والأردن وسوريا ، فالعراق ستكون قاعدة لكل شر صليبي ضد هذه الأمة ، فهي البلد التي يصفونها منذ اليوم أنهم حرروها بدماء شبابهم ، فمن الغباء أن يظن البعض أن العراق انتهى دورها برحيل حكومة صدام ، وأن الصليبيين دخلوها لينصبوا حكومة جديدة ويخرجوا .
العراق تعد إلى مرحلة هي أشد سوء على الأمة الإسلامية من سابقها ، إن وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت عندما سألتها إحدى الصحفيات في إحدى القنوات الأمريكية عام 1416هـ عندما قالت لها ، هل ترون أن هدفكم من حصار العراق الذي راح ضحيته حتى الآن ما يقرب من 700 ألف نسمة ، هل ترون أنه يستحق هذا الثمن ، فأجابت بقولها نعم يستحق هذا الثمن .(66/103)
إن دخول العراق ليس هو آخر ما بجعبة جند الصليب ، إن دخول العراق له ما بعده وسندخل في مرحلة هي أشد سوء إذا لم نعمل على كسر هذه الحملة الصليبية وإقلاقها حتى تخرج من أرض المسلمين كافة ، ولابد من العمل على جعل العراق ميدان استنزاف للصليبيين ، بل ومقبرة لهم ، فإذا لم يتم إيقافهم في العراق ، فهناك دول مجاورة للعراق على قائمة التغيير ، فميدان العراق مناسب ليكون هو المقبرة لإيقاف هذه الحملة الصليبية .
ونعود للجواب على سؤالنا فنقول : إن كثيراً من الناس عندما يسأل عن نفير الشباب المسلم للجهاد في هذه البقعة أو تلك ، أول استفساره يقع عن فائدة النفير في تغيير الحدث نفسه، وفائدة الأرض التي سيذهب إليها ، فليس الأمر يقف عند هذا الحد ، فالجواب على هذا السؤال من خلال الحدث ولأجل الحدث فقط لا ينفع الأمة شيئاً ، نحن أمة نحتاج إلى أن نسأل عن فائدة الأمة بأسرها من نفير الشباب قبل أن نسأل عن فائدة العراق وشعب العراق علماً أنه واجب علينا دفع الصائل عنهم دون جدال .
ولكن أول ما في الأمر هو فائدة العبد نفسه من العمل ، قبل أن يسأل عن فائدة غيره أو فائدة الأمة ، قال تعالى ( و من جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ) فلابد أن يسأل المرء أولاً ما فائدتي الشخصية في النفير إلى الجهاد ، لأن نفيره إلى الجهاد جاء بسبب حاجته إلى الجنة وحاجته للنجاة من النار ، فالجهاد في المقام الأول عائد نفعه على الفقير إلى رحمة الله تعالى وفضله ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) ، وقال ( إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير ) فلابد للمرء أن يسأل ماذا سيستفيد من فضل الله تعالى لو أنه نفر للجهاد ؟ بغض النظر هل سيرجع إلى أهله أو أنه سيقضي شهيداً بفضل الله ورحمته أو ما بين ذلك من جرح وأسر ، إذا نبع هذا السؤال عن قناعة بأن الجهاد يعود نفعه في المقام الأول على فاعله ، فهذا الذي سيجعل أبناء الأمة يتدافعون على أبواب الجهاد ، كما تدافع الصحابة صغاراً وشيوخاً ومن أهل الأعذار أيضاً على باب الجهاد .
روى البيهقي في سننه قال كان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج وكان له أربعة بنون شباب يغزون مع رسول الله ( إذا غزا ، فلما أراد رسول الله ( أن يتوجه إلى أحد ، قال له بنوه : إن الله عز وجل قد جعل لك رخصة فلو قعدت فنحن نكفيك فقد وضع الله عنك الجهاد ، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله (فقال يا رسول الله إن بني هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك ، والله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة فقال له رسول الله ( ( أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد وقال لبنيه وما عليكم أن تدعوه لعل الله يرزقه الشهادة ) فخرج مع رسول الله ( فقتل يوم أحد ، وروى البغوي أن النبي ( قال بعد مقتله ( لقد رأيته في الجنة).
هذا الاعتقاد هو الذي جعل هذا الشيخ الأعرج يتدافع مع أبنائه على باب الجهاد ، فلم يقل له النبي أنت شيخ أعرج ولن تفيدنا بشيء ، أو أن هناك أبواب للجنة أخرى اذهب إلى بيتك وحاول دخول الجنة منها ، كل هذا لم يقله صلى الله عليه وسلم ، فلما سمع تبريره وأنه بحاجة الجهاد ليطأ بعرجته الجنة فحسب ، قال صلى الله عليه وسلم ( وما عليكم أن تدعوه لعل الله يرزقه الشهادة ) ، الشهادة مطلب يسعى المؤمنون إليها ، هؤلاء الذين وصفهم الله بأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، يبتغون الشهادة ، لو أن عمرا بيننا اليوم لوجد من الناس من يقول له لا تذهب إلى المحرقة ، الحرب محسومة أنت لن تنفع بعرجتك شيئاً ، أنت شيخ كبير ولن تقاوم آلة قريش وشبابها ، نعم من جاهد فإنما يجاهد لنفسه ، كل من رأى باب الجهاد مفتوحاً فلا يسأل ما حاجة فلان بجهادي أو ما فائدة البلاد أو الحدث بجهادي ، ينبغي أن يسأل ماذا سأستفيد أنا لو جاهدت وقتلت أو بقيت في أرض الجهاد .
أما السؤال الآخر الذي ينبغي أن يطرح ، وهو الذي أشرنا إليه سابقاً ، وهو الذي يدل على أن الهم أبعد من الحدث نفسه ، لا يدل إلا على أن الهم هو إحياء الأمة ، السؤال هو ماذا ستستفيد الأمة من جهاد فلان أو فلان ، فلو قدرنا أن ساحة العراق استوعبت آلافاً من شباب الأمة وقتل نصفهم ، فمن قتل فقد مضى إلى خير بإذن الله تعالى ، ومن جرح فجرحه نجاته بإذن الله يوم القيامة ، ومن أسر فالأسر ملازم للجهاد ، ولا جهاد بلا جرح ولا أسر ، ومن أراد جهاداً بلا جرح ولا أسر ولا هزيمة ، فليقبع في بيته ، وليقل يوم القيامة لله عز وجل إذا سئل عن قعوده ، بأني أردت جهاداً يكون لي النصر فيه دون جرح أو أسر فلم أجد فقعدت وخذلت عن الجهاد ، وحرضت على القعود .(66/104)
فنقول لو أن الآلاف من الشباب نفروا فقتل النصف وجرح البعض وأسر آخرون ، فسوف يبقى للأمة رجالاً يعتمد عليهم ، هم ذخر الأمة في المحن ، فميادين الجهاد تربي الرجال ، فمن سيبقى وسيخرج من تلك الميادين هو مكسب للأمة ، نعم مكسب حقيقي نفرح به ، إن تحقيق هذا المكسب يدفعنا إلى دفع الأمة لهذا الميدان ليخرج لنا رجال المحن والشدائد ، رجال يقودون الأمة إلى النصر ، لقد تخرج أصحاب رسول الله من مدرسة بدر ، فخاضوا أحد وجربوا الهزيمة بعد النصر ، فجاءتهم شدائد الأحزاب ، فتوطنت النفوس على النصر والهزيمة والشدة ، فكانوا فيما بعدها أهلاً للحروب ، وكان الكثير منهم حينما يصاب بالشدائد ، يقول والذي نصرنا يوم بدر لأفعلن كذا وكذا ، أو يقول والذي هزم الأحزاب لأفعلن كذا وكذا ، فبقيت هذه الأحداث في نفوسهم لتقدمهم إلى العز والتمكين ، فالشدائد هي التي تصنع الرجال ، وأمة بلا رجال لا تستحق أن تسوّد ، فالذين يرفضون دخول شباب الأمة إلى ميادين الوغى ، هم في الحقيقة يرفضون أن يصنع رجال للأمة ، يرفضون أن يصنع رجال للشدائد للدفاع عن الأمة ، فالسؤال الذي يأتي بعد فائدة الشاب من نفيره إلى الجهاد ، هو ما هي فائدة الأمة بأن يكون لها رجال تصنعهم ساحات الوغى كما صنعت أصحاب رسول الله (، على عين رسول ا صلى الله عليه وسلم ، يخرج معهم في كل ميدان ولكل شدة ليربيهم ليكونوا هم من يسقط امبراطوريات كسرى وفارس وجميع طغاة الكفر في عصرهم ، فإن كنا نظن بالشباب عن ساحات الوغى ، فنحن نؤخر نهوض هذه الأمة .
أما عن فائدة الشعب العراقي من الناحية العسكرية في نفير الشباب إلى هناك ، فهذا يحدده مقدرة الشاب العسكرية والبدنية على خوض الحرب ، فالعراق بحاجة إلى شباب أشداء ، لديهم الحد المعقول من الإعداد العسكري ليكونوا هم طليعة أهل العراق للبدء بحرب الاستنزاف ضد العدو الصليبي في العراق ، والحد المعقول عسكرياً سيأتي تفصيله في حلقات قادمة بإذن الله تعالى .
ولكننا نقول إن عامل دخول الشباب المسلم من خارج العراق إلى العراق لقتال الصليبيين في حرب عصابات هناك واستنزافهم وإيقاف زحفهم على بقية بلاد المسلمين ، إنه يعد عاملاً له أثر معنوي كبير في تحريض المسلمين للبدء بهذه الحرب ورفض هذا الغزو الصليبي الخبيث ، فأقل أحوال دخولهم أن يكون عاملاً معنوياً ، فضلاً عن كونه عاملاً عسكرياً لا يستهان به إذ أن العراق الآن بحاجة إلى دفعة قوية في طريق حرب الاستنزاف ، وهذا ما سيكون بإذن الله تعالى .
س 18 : ما ذا سيستفيد الشباب والأمة في دخول المعركة في العراق ؟ سواء كان النصر للعراق أم للغزاة ؟ .
ج 18 : نظن أننا في الجواب السابق عرجنا على فائدة الأمة والشباب وشعب العراق ، في دخول الشباب لمعركة العراق ، وإن كنا لم نعط الحديث حقه في فائدة الأمة من حصولها على جيل مجاهد جرب الحرب وكسب الخبرات العسكرية وارتفعت روحه المعنوية بنزال عدو طالما أرعب الأمة ، فسيخرج الشباب حتماً من هذه الحرب وهم يعدون ثروات للأمة تمشي على الأرض .
أما الجواب على الشق الثاني من السؤال ، فإننا نقول إن دخول الشباب في العراق لم يكن في الأصل معلقاً بالنصر للحكومة العراقية أو للغزاة ، لأن الأسلوب الذي سيكون ناجعاً على أرض العراق ، هو أسلوب حرب العصابات ، وهو في كل الأحوال ليس بحاجة إلى حكومة ترعاه ، ولن يوقفه سيطرة الغزاة على كامل أرض العراق ، فالسيطرة تكون لهذا أو لذاك فهذا لا يغير شيئاً من أصل حاجتنا لحرب عصابات على أرض العراق ، نعم اختلاف السيطرة يغير من التكتيكات حسب الحال ولكن لا يغير شيئاً في الاستراتيجية .
س 19 : لو أن دخول الشباب للمعركة في العراق له أثر فمتى يكون ؟ .
ج 19 : بالطبع يفترض أن يكون الترتيب لدخول العراق سابقاً بكثير لقرار الدخول ، وعلى كل حال فنحن نرى أن الحرب ليست معلقة بهجوم أمريكي على العاصمة أو ضربات على هذه المنطقة أو تلك ، الحرب هي حرب طويلة ولها ما بعدها ، فمن الغباء أن نتفاعل مع الحرب إلى حين سقوط بغداد ، الحرب الفعلية تبدأ بعد بغداد ، ولهذا نحن نرى أن دخول الشباب لأرض العراق والمشاركة في المعركة هو أمر ضروري وهو لصالح الأمة بأكملها ، أما السؤال متى يكون هذا الدخول ، فنحن نقول يفترض أن يكون الدخول قبل ضرب بغداد ، وأثناء سقوط بغداد ، وبعد سقوط بغداد ، بما أن المشاركة في الحرب هو ضرورة محلة ، فالدخول مناسب في أي وقت ، أما مسألة التحديد الدقيق لتوقيت الدخول لكل مجموعة فهو معلق بأمور الطريق والمنفذ ثم المكان في داخل العراق وغيرها من التفصيلات التي ربما تتضح الحاجة إليها في عرضنا لبعض الأجوبة في الحلقات القادمة ، المهم أن نقول ونكرر ، بأن دخول الشباب له أثر إيجابي على أنفسهم أولاً ثم على الأمة ثم على المسلمين في العراقيين ، والتحديد الدقيق خاضع لطبيعة المجموعة فهناك مجموعات دخولها يفترض أنه حصل قبل الحرب ، وأخرى يفترض أن يكون أثناء الحرب ، والبقية تأتي بعد سقوط بغداد ، فلكل مجموعة طبيعة ، ولكل مجموعة مهمة ، تحدد التوقيت المناسب لها .(66/105)
س 20 : وهل يمكن الوصول إلى العراق ؟ .
ج 20 : نعم يمكن الوصول إلى أي مكان في العراق لمن عزم على الوصول ، ولا يوجد مستحيل ، العراق لها حدود طويلة مع جيرانها تعادل 3700كلم تقريباً ، تحدها تركيا وسوريا والأردن والسعودية والكويت وإيران ، لا نتصور أبداً أن يتعذر الدخول عن طريق كل هذه الدول إلى العراق ، وهناك طرق مسلوكة حتى الآن للدخول إلى العراق لا نرى أبداً أن تذكر حفاظاً عليها ، ولا يمكن للصليبيين وأعوانهم مهما فعلوا أن يغلقوا كل المنافذ ، فأثناء تكالب مائة دولة على أفغانستان لم يتمكنوا من إغلاق حدودها حتى الآن ، ولن يستطيعوا بإذن الله تعالى أن يفعلوا ذلك ، لا في أفغانستان ولا في العراق أيضاً .
علماً أن الغزاة إذا سيطروا على بغداد وبدأت عملية تنصيب حكومة عسكرية صليبية ، أو حكومة عراقية عميلة ، فإن هذا الإجراء سيفتح الحدود العراقية من جميع الدول المجاورة ، وستشهد العراق تدفقاً بشرياً هائلاً من جميع المنظمات والجهات الحكومية والتجارية الرسمية وغير الرسمية ، وهذا الأمر سيتيح الدخول لكل من أراد بكل سهولة .
ونحن نقول باختصار هنا أن الدخول إلى العراق يحتاج إلى التنبيه على أمور هي :
أولاً : وجود مندوب في الطرف العراقي يستقبل من أراد العبور ، ومن ثم يوجهه إلى الأماكن الآمنة التي سبق إعدادها ، وهذا المطلب يعد أهم المطالب ، ويلزم منه الاستطلاع الجيد داخل العراق للوصول إلى أفضل الأماكن أمناً ليتم نقل من دخل إليه ، ثم توجيهه بعد ذلك حسب اعتبارات عسكرية .
ثانياً : ترتيب أمر المعبر الحدودي ، فإذا كان المعبر رسمياً أو غير رسمي - أي تهريب - لابد من التأكد منه وذلك بمعرفة عدم ممانعة الدولة التي سيعبر منها إلى العراق ، ولا نعني بأن من أراد أن يعبر لابد بأن يأخذ الإذن الرسمي من تلك الدولة ، ولكن لابد من التأكد أن الدولة تقبل أن يدخل شخص بهذه الصفة وهذه الجنسية إلى العراق إن كان العبور رسمياً ، أما إذا كان غير رسمي فلا أهم من التحرك عن طريق التهريب الأقل خطراً ، ولا يمكن معرفة الطريق الأقل خطراً إلا بالاستطلاع والدراسة ، وعلى كل حدود يوجد من المهربين لا يحصيهم إلا الله تعالى ، فالاستفادة منهم أمر مطلوب ولو لأول مرة ، بعد الاستطلاع الجيد للمعبر يتم من خلاله تحديد النوعية المناسبة من الشباب الذين يناسبون للعبور ، فمثلاً الجنسية أو اللياقة البدنية أو حتى اللون والهيئة ، فلابد من وجود النوعية التي تناسب المعبر ، وعلى كل من أراد أن يعبر أن يعد نفسه لجميع الافتراضات التي تواجهه في الطريق ، وغالباً لا يكون هذا الإعداد إلا عن طريق مسئول التهريب .
ثالثاً : الحفاظ على سرية المعبر والعاملين عليه ، ولا يمكن أن يتم الحفاظ عليه حتى يمنع عبور الشباب الذين لم يتم التأكد منهم أمنياً ، لأن أجهزة المخابرات في كل دولة تسعى جاهدة لاختراق الشباب ومعرفة طرق التهريب لتتمكن من الإيقاع بالشباب ، لذلك لا يرسل عبر المعبر إلا من تم التأكد منه بشكل كامل بأنه مأمون من الناحية الأمنية ، وكل من وصل إلى المعابر دون تزكية مؤكدة فلا يناسب إدخاله مهما كان حاله حفاظاً على غيره من الشباب .
إضافة إلى ذلك حتى الشباب الذين يريدون العبور لابد أن يكون حرص القائمين على التهريب بالغاً في إخفاء اسم مكان التهريب أو موقعه أو أي معلومات عنه ، كما يجب على الشباب عدم الحرص على معرفة مثل هذه المعلومات التي تضر ولا تنفع ، فلو قبض على أحد فإنه ربما لا يصبر على عدم الاعتراف من أين وكيف دخل ومن ساعده على ذلك ، لذلك لابد من الحرص على إخفاء موقع المكان أو اسمه لكل من أراد أن يدخل منه إلى العراق .
كما يجب على العاملين على التهريب تغيير أسلوب التهريب وطرقه بين الفترة والأخرى حتى ولو لم يشعروا بخطر أمني ، حيث إنه بالإمكان تغيير الأسلوب الأول إلى أسلوب آخر ثم العودة إليه بعد فترة .
هذه في ظننا بعض الأمور التي يجب مراعاتها للوصول إلى العراق .
س 21 : ولو وصل الشباب إلى العراق ، فأي أساليب حرب العصابات أفضل لهم ، هل هو أسلوب حرب المدن أو أسلوب حرب العصابات في الجبال الشمالية ؟ .
ج 21 : نحن فصلنا في الحلقة السادسة ، بأن حرب العصابات لها ميادين أربعة ، وذكرنا إيجابيات كل ميدان على الآخر ، وفي نظرنا أن الجواب على هذا السؤال خاضع لأشياء كثيرة نذكر منها .
أولاً : معرفة الأسلوب الصليبي الجديد في تعامله مع ميدان الجبال وميدان المدن ، إلا أننا نظن أن تعامله مع ميدان المدن سيكون أصعب عليه بالتأكيد ، لأن الجبال الشمالية للعراق جبال وعرة ولكنها ليست ذات أشجار كثيفة ، ومعنى هذا أنها ستكون مكشوفة للطيران ، ونعلم أن تفوق الأمريكان في الطيران أكبر من تفوقهم في أي شيء آخر .(66/106)
ثانياً : كفاءة الشاب العسكرية والبدنية والعقلية ، فحرب المدن تحتاج إلى كفاءة عسكرية وبدنية وعقلية أكثر بكثير من حرب الجبال ، لقرب العدو ولأن الخطأ في المدن هو الخطأ الأول والأخير ، لذلك يفضل أن يكون الشباب ذوي الكفاءة العسكرية والبدنية العالية ميدانهم داخل المدن ، وغيرهم يكون ميدانهم في الجبال الأقل ضغطاً من غيرها .
ثالثاً : طبيعة التغيرات التي ستحصل على الوضع هناك ، فبعد الاستطلاع يمكن أن يحدد القائمون على العمل هناك أي المناطق التي يجب تكثيف العمل فيها ، وأيها أكثر مناسبة للعمل .
رابعاً: التأييد الشعبي له أثر كبير في تركيز العمل ، فمناطق النفاق الجنوبية ربما لن تكون مناسبة كالمناطق الوسطى والشمالية .
خامساً : منطقة العبور أيضاً تتدخل في فرض خيار على من دخل ، فربما يكون عبور الشخص من المناطق الشمالية ومواصلة مسيره إلى الوسط أو الجنوب يكتنفه كثير من المخاطر إذا ما فقدت طرق التهريب داخل العراق ، وبهذا فإن الشاب مجبر للقتال في المنطقة التي وصل إليها .
هذه بعض العوامل التي لها تأثير في تحديد مناطق القتال ، وإن كنا نكرر بأن مناطق المدن هي أكثر نكاية بالعدو الصليبي من غيرها لسهولة الاقتراب منهم وضربهم ، وفي الوقت نفسه فإن المدن ستحد من استخدامهم لكثير من التكنلوجيا العسكرية والمعدات المتطورة ، ليدخلوا في حرب شوارع أحسن أسلحتهم فيها ستكون البنادق الخفيفة
===================(66/107)
(66/108)
الحرب الصليبية على العراق -الحلقة الثامنة
لقد انشغل كافة المسلمين هذه الأيام بمحاولة تحليل ما جرى في العراق ، وخاصة دخول القوات الصليبية إلى بغداد دون مقاومة تذكر ، ومع احترامنا لمن انشغل بتحليل ما جرى ، إلا أننا نقول أن هذه ليست قضيتنا الأولى ، فينبغي للمسلم أن يتفاعل مع الحدث ومع الأمر الواقع ، أما الوقوف طويلاً عند الماضي فلن يفيد شيئاً ، نعم الوقوف عند الماضي لاستخلاص العبر وأخذ الدروس ومعاجلة الأخطاء لتجنبها لاحقاً شيء مطلوب ، ولكن الوقوف عند الماضي بما يقعد عن العمل ويفتح المجال للعدو بأن يفعل ما شاء فهذا غير مطلوب وهو نوع من الخور والضعف .
نحن أمة لا تعرف الخور ولا الضعف ، نحن أمة نتبع منهج رسول الله ( عندما كان في أحلك ظروفه وأسوأ أحواله ضعفاً وكفار قريش يكيلون له الشتائم والسباب وينالون منه ويأتي أحدهم ليخنقه والآخر ليضع على ظهره سلى الجزور ، لم يكن هذا أبداً ليؤثر على رسول الله (، بل قال لهم في فور قوتهم وتسلطهم عليه قال لهم ( يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح ) ، نعم هكذا ربى رسول الله ( أمته ، ربانا ألا نذل ولا نستكين ، ربانا على العزة والشموخ في زمن الانكسار ، نحن أمة لا يهمها الصدمات ولا تثنيها المصائب عما تريد ، إننا نريد العزة مهما كان ثمنها ، كل مصاب على طريق العزة فهو في سبيل الله ولن يزيدنا إلا إصراراً ، إن من أصيب بالضعف والخور لما حققه الصليبيون في بغداد ، إما أن يكون داخلاً تحت قوله تعالى ( ومن الناس من يقول أمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كانا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ) ، أو يكون رجلاً يعمل لمبادئ وضعية دنيوية يدافع عن حزب أو حكومة فلما ولت الحكومة واندثر الحزب أصيب بالإحباط ، ولكن المسلم ينبغي ألا تزيده الشدائد إلا قوة وإصراراً على نصرة هذا الدين ، ولو أن أهل الدين انتصروا ولم تلحق بهم الهزائم لما تميز الخبيث من الطيب ، فهناك قوم من أهل النفاق إذا رأوا النصر قالوا ( إنا كنا معكم ) ، ولكن لابد من الهزائم والشدائد ليميز الله الخبيث من الطيب ، ويظهر من في قلبه مرض ، وكان الله قادراً على نصر محمد ( وعدم تعريضه للشدائد ، ولكن كيف سيميز الخبثاء ، كيف سيعرف الناس من هو المنافق إلا بهزيمة كأحد ، وكيف سيعرف الناس أهل الدغل إلا بشدة كالأحزاب ، ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب .. ) ، وها نحن اليوم نواجه شدة تلو شدة ومحنة تلو محنة فتصفى الصفوف ويظهر من يريد الدنيا ممن يريد الآخرة ، ولا تزيد هذه المحن أهل الجهاد إلا ثباتاً وإصراراً على المبدأ أو الموت دونه ، وكلما جاءت شدة أو فتنة بالأمة سقط لها رعاع من الناس ، فهم يصفقون قليلاً عند بوادر النصر ، ثم ما يلبث التصفيق أن ينقلب شتماً ولعناً وسباباً ، وكأننا أمام أغيلمة لا تفهم السنن ولا تعرف الأدلة الشرعية وما أصاب المرسلين ومن تبعهم بإحسان .
أيها الأخوة إن الوقوف عن العمل وتحليل ما جرى في بغداد لن يزيدنا إلا وهناً فالعدو يحرص هذه الأيام أن يبث الشيء الكثير من التحليلات التي لا تزيدنا إلا حيرة وضعفاً ، ولكننا نقول سواء اختفى صدام وقواته ليعاودوا حرب المدن بعد فترة استرخاء للقوات الأمريكية ، أو كان صدام قد فر هو وقواته وهزموا ، أو أن قوة صدام التي سمع عنها العالم منذ عقود لم تكن إلا كذبة كبرى أتقنتها الاستخبارات العراقية بكل كفاءة ، أو أن هناك مؤامرة بينه وبين الأمريكان والروس كما قيل ، سواء كان السبب هذا أو هذا أو ذاك ، كل هذه الأسباب المحصلة منها واحدة أن العراق اليوم أصبحت تحت الاحتلال الصليبي ويجب علينا أن نجاهد لإخراجهم ، فمن رجح أي احتمال من هذه الاحتمالات لا يجب عليه إلا أن يعمل لدفع هذا العدو الصائل ، أما من يقول بأن القوات العراقية اختفت وستعود ، فنحن لا نقول بكذب هذا القول ولا نتكلف من العلم مالا نعرفه ، ولكن هذا القول سيدفع أصحابه إلى أن يعقدوا الآمال على مجهول لا دليل من الحس عليه ، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى قعودهم عن الجهاد ودفع المجاهدين إلى الأمام .(66/109)
الحاصل الآن أن الصليبيين احتلوا العراق ، وبعيداً عن السؤال عن القوات العراقية وكيف اختفت وهل ستعود ، نقول بأننا ملزمون بخلع هذا الاحتلال من أرض العراق من جذوره مهما كلف الثمن، فالثمن الذي سندفعه في دفع الصليبيين في العراق، على أسوأ احتمالاته هو أفضل في ظننا من تركه حتى ينفذ خططه العقدية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية ، ليفسد الأمة بأكملها ، فمهما تكن خسائرنا في العراق لدفع العدو الصليبي عنها ، يجب أن نقدم على دفعه حتى لا نخسر أكثر من هذا بعد سنين أو عقود، فيوم تركنا فلسطين بحجة عدم تكبد خسائر أكبر على الدول المجاورة لها، تزايدت الخسارة مع مرور الوقت لتشمل كل من حول فلسطين ، وليتنا تحملنا سلبيات دفع العدو بداية احتلاله ، أهون علينا من تحمل ما يجري اليوم بعد أن ضرب اليهود جذورهم في أرض فلسطين ، وما نقوله في احتلال اليهود في فلسطين ، فسنقوله في احتلال إخوانهم النصارى للعراق ولاحول ولا قوة إلا بالله .
وبعد هذه المقدمة ندلف إلى أسئلتنا لنصل إلى السؤال الثاني والعشرين وهو :
س 22 : ما هي أفضل الأساليب القتالية التي يحتاجها المقاتل داخل العراق للنكاية بالغزاة ؟ .
ج 22 : اتفقنا في الإجابات السابقة على أن أفضل طرق لمواجهة العدو الصليبي في العراق ، في ظل هذه المعطيات العسكرية والسياسية والاقتصادية ، والفارق بين الطرفين ، قلنا بأن أفضل طرق المواجهة ستكون حرب العصابات سواء بميدان المدن أو ميدان الجبال .
وسواء كان المقاتل في المدن أو في الجبال فإنه يحتاج إلى معرفة الأساليب القتالية التي يحتاجها على أرض العراق ليتمكن قبل النزول إلى هناك أن يتصور طبيعة هذه الأساليب .
فنقول إن التكتيكات والأساليب الهجومية العسكرية التي سيقوم بها المدافع عن العراق سواء كان هذا المدافع مع وحدات صغيرة أو كبيرة نسبياً أو خلايا قتالية ، فإن مسمياتها واستراتيجيتها لن تتغير ، وإنما سيتغير حجمها ونوعية التسليح فيها كل عملية بحسب معطياتها ، فالعمليات الاستشهادية وعمليات القنص وعمليات زرع الألغام والشراك الخداعية وعمليات التفجير عن بعد ، وعمليات النسف والتخريب ، وقطع خطوط الإمداد ، والعمل على مؤخرات العدو وضرب الوحدات المتعاونة معه ، والإغارة على قواعد العدو وأهمها القواعد الجوية الخلفية ، والتركيز على الكمائن بأنواعها ، وتسميم الأطعمة والشراب ، وعمليات الخطف أو الاغتيال ، ومهام الاستطلاع الدقيق ، كل هذه الأساليب ينبغي أن يضعها المدافع في الحسبان ، فهي أساليب مهمة لكل مدافع ، ولكل هذه الأنواع استراتيجيات ثابتة ، ولا يتغير فيها إلا التكتيكات التي تفرض التغير فيها طبيعة الأرض ووضع المهاجم والمدافع والتوقيت وبقية الأمور التي تعرف بالاستطلاع ، وسواء كبرت هذه العمليات أو صغرت فيبقى أنها عمليات لابد من تنفيذها بدقة لدفع المرحلة الأولى من مراحل حرب العصابات وإدامة إقلاق المحتل ، لأن قلقه عامل مساعد في دفع هذه المرحلة .
أما التفصيل في استراتيجيات هذه الأساليب فيحتاج إلى إطالة لا تناسب هذه السلسلة ، ومن المفترض أن تفرد كدروس خاصة نسأل الله أن ييسرها ، إلا أننا وللتمثيل فقط ليفهم المقصد سوف نعرض باختصار ودون شرح بعضاً من هذه الاستراتيجيات في حرب المدن التي نرى أنها هي الأهم للعراق في الإجابة على الأسئلة القادمة بإذن الله تعالى .
س 23 : ما هي التشكيلات العسكرية المناسبة داخل المدن أو في الجبال الشمالية ؟ .
ج 23 : لا شك أنه لم يبق بعد سقوط حكومة العراق إلا العمل على أسلوب واحد ، ألا وهو أسلوب حرب العصابات ، وهذا ما كنا نركز عليه كثيراً ، فهو الأسلوب الذي قلنا عنه قبل سقوط بغداد أنه الأسلوب المرشح للصمود ، ومعنى هذا أن الإجابة على هذا السؤال عن التشكيلات العسكرية المناسبة ، لا يقصد منها في العراق إلا تشكيلات العصابات في مرحلتها الأولى ، لذا لن نعرج على التشكيلات النظامية أو شبه النظامية ، فليست الآن مطروحة لعدم مناسبة الواقع في العراق لمثل هذا الطرح .
نحن أشرنا في حلقة ماضية أن العصابات في تشكيلاتهم قد يصلون إلى تشكيلات الفيالق أو الجيوش ولكن في مراحل متقدمة أو بالتحديد في مرحلة التوازن والحسم ، ولكن الكلام هنا عن تشكيل العصابات في المرحلة الأولى ، وما هو المناسب في الجبال وداخل المدن أيضاً ؟ .(66/110)
فنقول إن التشكيلات المناسبة للشباب في هذه المرحلة هي المجموعات الصغيرة لعدة أسباب منها : أن الهدف في هذه المرحلة هو الاستنزاف وتنفيذ عمليات الاستنزاف لا يحتاج إلى أعداد كبيرة من المقاتلين فبالإمكان تنفيذ العمليات عن طريق مجموعات صغيرة، وأيضاً فإن المجموعات الصغيرة قادرة على التأقلم مع الأوضاع والمستجدات ، ولديها القدرة على المبادرة بالعمل كلما أتيحت لها الفرصة ، ثم إن غالبية المقاتلين لا يمتلكون الخبرات القتالية العالية في أول التجارب ، لذلك لابد أن يبدءوا عن طريق مجموعات صغيرة تتوسع شيئاً فشيئاً حسب الحاجة ، ومع انعدام التجربة والخبرة في هذه الأساليب فمن الخطأ القفز على المرحلة لتشكيل مجموعات كبيرة يصعب إدارتها وتحريكها والعمل بها دون التعرض لمخاطر ربما تؤدي بالجميع، هذه بعض الأسباب التي لابد أن تؤخذ بالاعتبار في التشكيلات .
يأتي بعد ذلك أسباب أخرى تؤثر على التشكيلات وهي منطقة العمل و هل هي الجبال أو المدن ، ولكن نقول بشكل عام بأن العصابات عبارة عن تنظيم قتالي ليس مقيداً بتشكيلة محددة تناسبه في كل المناطق والأحوال ، العصابات بشكل عام كما أسلفنا تتكون من الجماعات ثم الفصائل ثم السرايا إلى آخر التقسيمات العسكرية ، والثورة الصينية وصلت تشكيلاتها إلى مستوى الفيلق والجيش ، وهذه التشكيلات لا تكون إلا إذا دخلت العصابات في مرحلة القتال بالتشكيلات الكبرى ، وهذا يعني أن تشكيلات العصابات مرنة وتخضع إلى المعطيات العسكرية على أرض الواقع، فهي ليست تشكيلات تكاملية كالجيوش النظامية، بمعنى أن جماعة العصابات ليس بالضرورة أن تتكون من 30 فرداً أو أن مهامها القتالية ستصاب بالفشل ، ففي الجيوش النظامية لو أن الجماعة فقدت فرد الطبوغرافيا فيها لما أمكنها مواصلة عملها وهكذا ، كل فرد من أفراد الجماعة في الجيش النظامي له تخصص يتقنه فغيره يعتمد عليه وهو يعتمد على غيره في تكميل عمله ، ولكن تشكيلات العصابات ليست بحاجة إلى التكامل لأن جميع الأفراد يتقنون جميع الأعمال ويمكن للفرد أن يقوم بجميع الأدوار إذا فقد غيره ولكن لا يمكن أبداً أن تتأثر الأعمال القتالية بفقد شخص بعينة بعكس التشكيلة النظامية .
وفي العراق نظن أننا بحاجة إلى معرفة تشكيلات العصابات على الأقل من الناحية النظرية في الجبال وفي المدن ، ونقصد بالناحية النظرية أي المفترض أن تكون ، ولو أن المعطيات على أرض الواقع عطلت شيئاً من المفترض فإن هذا لن يؤثر في أصل العمل بإذن الله تعالى .
أولاً : قوات العصابات في ميدان الجبال والأدغال :
هذه القوات هي عبارة عن وحدات فرعية صغرى ليس لها قواعد ثابتة داخل دولة الصراع ، وهي قوات دائمة الحركة ولا تمكث في مكان واحد لمدة أكثر من 24 ساعة ، وهذا ما يجعل أفرادها يحملون كل ما يحتاجونه على ظهورهم ، ويفترض أن تتركز ميادين عمل هذه الوحدات في الأراضي التي لا تسيطر عليها القوات الحكومية سيطرة كاملة ، وهي عادة ما تكون أرضي صعبة ، كالمناطق الجبلية أو الغابات أو مناطق المستنقعات وما أشبه ذلك ، هذه القوات دائمة الحركة ثم تقوم بضرب العدو وتتحرك مرة أخرى وهكذا ، ومن المهم أن يتمتع أفراد هذه الوحدات بلياقة بدنية عالية ومستوى صحي جيد يمكنهم من العيش في العراء لفترات طويلة .
وهذا الوحدات تستخدم تشكيلات لا تناسب العمل في المدن ، ولكنها تعمل في المناطق الأقل كثافة سكانية مثل الريف أو المناطق الجبلية أو الغابات ، ولا يحاولوا العمل في المدن بهذه التشكيلات فالمدن لها تشكيلات وأساليب أخرى مختلفة سنأتي عليها بإذن الله تعالى .
وحدات العصابات لا يمكن ثباتها على تكتيكات بعينها إلى الأبد ، ولكنها تستخدم هذه التكتيكات لفترة محدودة تمثل المرحلة الأولى من مراحل حرب العصابات ، ثم تتحول إلى الشكل النظامي حتى تستطيع قطف ثمرة جهودها وأعمالها ، فتتمكن من حسم الصراع لصالحها ، ويكون الحسم في آخر مراحل العصابات ، ولكن يجب تدريب قادة وكوادر العصابات على أساليب قتال وتشكيلات وأعمال القوات النظامية حتى إذا حانت المرحلة يتم التحول إلى الأسلوب النظامي بيسر وسهولة وكل سرعة .(66/111)
أما عن تشكيل جماعة العصابات فقد أسلفنا أنها من حيث المسميات تتشابه تماماً مع مسميات التشكيلات النظامية ، فهي تبدأ بجماعة ثم فصيل ثم سرية ثم كتيبة ثم لواء ثم فرقة ثم فيلق ثم جيش ،إلا أنها من حيث التشكيل الداخلي تختلف عن الجيش النظامي ، فجماعة العصابات تكون مدعمة بكافة التخصصات لأنها وحدة مستقلة مكلفة بإنجاز كافة المهام القتالية دون الاعتماد على غيرها من الوحدات ، لذلك تكون تشكيلات العصابات في تسليحها مكتفية ذاتياً لإدارة جميع المهام القتالية ، وعلى ذلك فإن عدد أفراد الجماعة إذا كان 12 فرداً في التشكيل النظامي فإنه يصل إلى 30 فرداً في جماعة العصابات يشملون جميع التخصصات ليحصل الاكتفاء لجميع المهام القتالية ، ويكون توزيع تخصصات 30 فرداً ممن يشكلون جماعة العصابات على هذا النحو ( القائد ونائبه ، 2 حملة رشاش متوسط ، 2 حملة قاذف صاروخي ( م/د ) ، 2 حملة قاذف صاروخي (م/ط) ، 2متخصصان في الطبوغرافيا والاستطلاع ، 2 حملة هاون كماندوز مثل (60مم ) ، 2 متخصصان في الإسعاف الطبي ، 2 متخصصان في المتفجرات والألغام ، 6 حملة بنادق ، 2 حملة قناصة ، شخص واحد للاتصالات ، 5 أفراد للتجهيز والإمداد والتموين ) هذا هو تسليح و تشكيل العصابات في الجبال ، وعلى هذا النحو يكون ما بعد الجماعة من تشكيل ، فالفصيل يتكون من أربع جماعات، والسرية تتكون من أربع فصائل، والكتيبة تتكون من أربع سرايا .. وهكذا .
أما من الناحية الإدارية فقد قلنا سابقاً بأن فرد العصابات يحمل كل ما يحتاجه على ظهره ، فتكون الجماعة تحمل كل ما تحتاج معها أثناء تحركها ولمدة محدودة مدروسة، وما زاد على ذلك يتم إنشاء مخازن للأطعمة والذخائر في مناطق عملها في أماكن متفرقة تقوم بالتزود منها كلما نفد زادها، ويقوم أفراد الإمداد بشكل مستمر على تعبئة هذه المخازن بكل ما تحتاجه الجماعة، مع ضمان سلامة المخازن وتغيير أماكنها لو لوز الأمر ، والتركيز على تخزين كافة الأسلحة والمعدات العسكرية التي تحتاجها الجماعة ، إضافة إلى ضمان سلامة المواد المخزنة من الرطوبة وذلك بمعرفة أساليب التخزين الصحيح وهذه المهام من المفترض أن يتقنها رجال التجهيز والتموين .
هذا هو بشكل عام تشكيل جماعة العصابات وتسليحها ، ولا نحتاج إلى التنبيه أن هذا هو التشكيل المثالي للجماعة ، ومعنى هذا أننا لو فقدنا هذا التشكيل أو بعض أنواع الأسلحة فلا يعني ذلك أن العمل سيكون مصيره إلى الفشل كلا ، ولكن لو عدمت صواريخ ( م/ط ) أو عدمت أسلحة القنص أو غيرها فإنه بالإمكان إجراء تعديلات على تكتيكات هذه الجماعة بحيث تنتقي الأهداف التي لا تحتاج فيها إلى ما ينقصها من سلاح ، كما أنها لو فقدت فرد الاتصالات فلا يعني هذا أنها تتوقف عن العمل ، فهذا التشكيل السابق الذكر ليس تخصصاً تكاملياً كما هو الحال في الجيوش النظامية ، إنما هو للتنظيم فقط وتبادل الأدوار ، ومن المفترض أن يكون رجل العصابات مدرب على جميع هذه الأعمال فبإمكان رجل الاتصالات أن يكون رجل طبوغرافيا كما أنه يمكن أن يتولى عمل ( م/ط ) أو القيادة ، فالفارق بين رجل العصابات وجندي الجيش النظامي هو الأهلية والكفاءة ، فرجل العصابات مدرب على جميع أنواع الأسلحة وجميع الفنون العسكرية هذا ما يفترض فيه ، فلو أن الجماعة في العصابات قتل نصفها فبإمكانها تأدية مهامها دون الشعور بالنقص المعطل للأعمال ، وربما تفقد جماعة العصابات القدرة من حيث التسليح أو من حيث الأفراد على التشكل بهذه التشكيلة ، فعليها أن تتشكل بأية تشكيلة تناسب واقعها وميدانها وقدراتها وتسليحها وتعدادها ، فلو تيسر سلاح ثقيل لرجال العصابات لتنفيذ مهمة قتالية أو عملية بعينة فهل يتوقفون عن استخدامه وإدخاله ضمن الخطة بحجة عدم وجود قدرة تشكيلية على استيعابه ؟ كلا ولكن عليهم أن يستعدوا لاستخدام كافة أشكال الأسلحة فيما يناسب الحال ، فالتشكيل في حرب العصابات تشكيل مرن وغير مقيد بقيود ، لأنه تشكيل هجومي وهو صاحب المبادرة ، ولكن ماذكرناه آنفاً هو التشكيل المثالي فقط .
ثانياً : قوات العصابات ميدان المدن :(66/112)
سبق أن ذكرنا أن ميدان المدن يختلف من حيث التشكيل والتسليح والتكتيك عن ميدان الجبال والأدغال ، فالعمل في ميدان المدن يطلق عليه ( العمل السري أو الخلايا ) ، وهو عمل يحتاج إلى مجموعات صغيرة منفصلة تشكل خلايا عنقودية لا يمكن إيقاف عمل خلية على إثر توقيف أية خلية ، عدد كل مجموعة يفترض أن يكون 4 أشخاص ، ولا مانع من زيادة العدد ولكن في حالة الكثرة فإن الخلية معرضة للكشف ، وأفضل الخلايا ما تشكلت من أبناء المدينة نفسها لتعمل داخل الحي التي تعرف فيه ، وإذا تعذر ذلك لأي دواع أمنية فيمكن الانتقال ، أو يتعذر بأن يكون الشخص من الأنصار القادمين من الخارج ، ولكن لابد من التأكد أن أفراد كل خلية منخروطون في أعمال مدنية كغطاء لمهامهم الأصلية ، فهم في النهار موظفون ، وفي الليل لهم عملياتهم الخاصة ، وننبه على أن دفع المجموعات للعمل في المدن دون تدريب أو إعداد لازم من تجهيز للوثائق والسواتر الأمنية اللازمة خطر عظيم .
أعظم الأخطاء التي تتكرر لدى الجماعات الإسلامية هو العمل في المدن بالتشكيل الهرمي أو التسلسلي ، فتقوم المجموعة بالعمل داخل المدن وتعمل على تجهيز كل شيء فيما يخص العملية والقيام بها ، وتنفيذ جميع المهام لذلك وهذا مضر للأفراد وللعمل ولتعاطف المسلمين مع العمل لأن أخطأ هذا العمل تسبب ضرراً على أوسع نطاق مما يشمل بعض شرائح الشعب المتعاطفة مع العمل أو المتعاونة معه .
المهم في تشكيل المدن أن تتشكل كل خلية على حدة وبانفصال تام من الناحية المعلوماتية والتنظيمية عن بقية الخلايا ، حتى لا تقع الثانية بوقوع الأولى ، وتنظيم كل خلية في داخلها لابد أن تتكون من أربع مجموعات رئيسة هي كتالي :
أولاً : مجموعة القيادة :
وتتكون هذه المجموعة من شخصين إلى أربعة أشخاص ، مهمتها الإشراف على العمليات ووضع الخطة والربط بين المجموعات الثلاث الباقية ، وحسن دراسة العمليات ومعرفة اختيار الأهداف ، وإصدار الأوامر ببدء وإيقاف العمليات داخل الخلية ، وهي تتلقى وبكل سرية المعلومات من المجموعات الأخرى ،وبكل سرية تدفعها إلى ما بعدها،وأسلوب تلقي المعلومات وتوجيه الأوامر من القيادة للمجموعات الأخرى بشكل سري دون تعارف المجموعات وتداخلها مع بعضها له طرق مختلفة تحتاج إلى إطالة لشرحها .
ثانياً : مجموعة الاستطلاع أو المعلومات :
تتكون هذه المجموعة من أربعة أفراد ، هؤلاء مهامهم الاستطلاع بشكل عام للبحث عن أهداف تحدد القيادة لهم سماتها ، أو الاستطلاع الخاص ضد هدف بعينه ، ويفترض أن تكون هذه المجموعة مدربة على جمع المعلومات بأساليب سرية دون التعرض لكشفها ، وتبدأ هذه المجموعة بالعمل على جمع المعلومات العامة أو الخاصة لهدف بعينه بعد أن يأتي أمر من القيادة بجمع المعلومات دون الحاجة إلى مقابلة القيادة لتلقي هذا الأمر ، فيمكن نقل هذا الأمر بأشكال كثيرة لا تحتاج إلى لقاء القيادة أو حتى معرفة القيادة بعينها .
وبعد تنفيذ عملية الاستطلاع والتي تأخذ مدة طويلة في الغالب يتم رفع تقرير المعلومات إلى القيادة ، وتعكف القيادة على دراسته ووضع الخطة له ، فربما تكون الخطة تحتاج إلى إمكانيات أكبر من طاقة الخلية أو أنها تحتاج إلى وقت طويل لتنفيذها فيتم صرف النظر عن هذه العملية ، وتحتفظ القيادة بالمعلومات وتغيير التوجيه لمجموعة المعلومات لهدف آخر ، أو يتم وضع خطة مناسبة لتدمير الهدف بناء على المعلومات المتكاملة التي وردت عنه ، وعندما يكون في المعلومات نقص يعاد التكليف لمجموعة الاستطلاع بإتمام النقص .
وبعد وضع الخطة المناسبة تتمكن القيادة من معرفة الأسلحة والمعدات والذخائر والأجهزة والأوراق والسيارات وكل شيء يحتاجه تنفيذ العملية ، ويتم من قبل القيادة تحديد هذه التجهيزات بدقة ، وتحديد المكان الذي يفترض أن تصل إليه هذه التجهيزات استعداداً للتنفيذ ، و بعد التحديد الدقيق للتجهيزات يتم دفع هذه المعلومات إلى :
ثالثاً : مجموعة التجهيز :
وتتكون هذه المجموعة من اثنين إلى أربعة أفراد ، ومهمة هذه المجموعة تلقي أمر التجهيز المحدد بدقة من القيادة ووضعه في مكان تحدده القيادة أيضاً ، دون معرفة هذه المجموعة شيئاً عن طبيعة الهدف أو مكان وجوده بدقة أو توقيت العملية ، أو المجموعة التي قبلها أو التي تليها ، وبعد التجهيز تعيد هذه المجموعة الإشارة للقيادة بإتمام عملية التجهيز ، وتفاصيل المكان وأدلة الحصول على التجهيز بكل آمان ، تأخذ القيادة هذه المعلومات وتدفعها إلى :
رابعاً : مجموعة التنفيذ :
وتتكون هذه المجموعة من العدد المناسب للعملية ، ولا يحد هذه المجموعة عدد بعينه ، بل إن نوع العملية والخطة هي التي تحدد تعداد هذه المجموعة ، وهذه المجموعة لابد أن تكون نوعية خاصة في القدرات العسكرية والنفسية والعقلية وقبل كل شيء القوة الإيمانية ، فإذا وجدت القيادة ضعفاً في الكفاءة لدى أي من أفراد هذه المجموعة يمكن رفع الكفاءة عن طريق التدريب العسكري المكثف .(66/113)
هذا عرض موجز لتشكيلات العصابات داخل المدن ، أما التسليح فالذي يحدده الهدف والاستطلاع الدقيق ، ولكن لابد من الإشارة إلى أن كل هذه المعلومات لابد أن تنقل بين كل مجموعة ومجموعة عن طريق القيادة بأسلوب آمن ودون الحاجة لمقابلة القيادة أو معرفة مكانها ، وعلى القيادة التأكد من عدم معرفة كل مجموعة في الخلية للمجموعة الأخرى ، فهي حلقة الوصل بين كل هذه المجموعات ، وعليها أيضاً أن تقوم هي باختيار أعضاء الخلية وفقاً لكفاءاتهم ، وعلى أفراد الخلية جميعاً أن يعيشوا حياة عادية تماماً يمارسون أعمالهم اليومية دون لفت الأنظار إليهم ، وينفذون مهام الخلية في أوقات الفراغ ، وعلى القيادة أن تراعي أن كلما قل عدد أفراد الخلية زادت فرص نجاح مشاريعها بإذن الله تعالى ، على القيادة أن تتأكد من أمن الأفراد جميعاً وعليها أن تتأكد من سرية نقل المعلومات بين جميع المجموعات ، وهناك أمور كثيرة تحتاج إلى أن تؤخذ في الاعتبار من قبل الأفراد أو القيادة سردها يخرجنا عن المقصود .
أما الجواب عن السؤال الرابع والعشرين وهو :
س 24: ما هو التسليح المناسب لهذه التشكيلات ؟ .
ج 24 : فنظن أننا أجبنا على هذا السؤال في معرض جوابنا على السؤال السابق ، وضمنا الجواب عن التشكيلات الجواب عن التسليح أيضاً لتداخل التشكيل مع التسليح ، ولا حاجة لإعادته هنا والله أعلم .
================(66/114)
(66/115)
الحرب الصليبية على العراق -الحلقة التاسعة
تحدثنا في الحلقة الماضية عن أفضل أساليب القتال التي يلزم المقاتل أن يتقنها إلى حد كبير كي يتمكن من النكاية في الغزاة على أرض العراق ، ثم فصلنا بعض الشيء في تشكيلات وتسليح العصابات في الجبال والأدغال والمدن .
وقبل أن نشرع في الإجابة على ما بقي من أسئلة ننبه على مسألة متعلقة بحلقة الأمس من حيث تشكيل العصابات في المدن ، فنحن لم نذكر من تشكيلات المدن إلا العمل السري فقط ، علماً أنه بالإمكان العمل في المدن على تشكيلات العصابات في الجبال والأدغال تماماً ، ولكن في مراحل متقدمة حينما يكون هناك مدن لا يسيطر عليها العدو سيطرة كاملة أو أنها مدن قديمة فيها مناطق ضيقة لا تتمكن وحدات العدو من الدخول إليها بشكل سريع ، فيمكن العمل فيها على أسلوب قتال الشوارع ، ونحن لم نتحدث بالتفصيل إلا عن ما نرى أنه يناسب العراق في ظل هذه الأوضاع .
ونبدأ هذه الحلقة بسؤال له أهميته وهو السؤال الخامس والعشرون :
س 25: ما هي أهم التجهيزات التي يجب على المقاتل الاستعداد بها ؟ .
ج 25 : إن التجهيزات العسكرية للمقاتل مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنوعية المهام المناطة به ، وبميدان عمله ، فبإمكاننا أن نقول إن تجهيزات المقاتل في ميدان المدن أقل بكثير من تجهيزات المقاتل في ميدان الجبال والأدغال ، والسبب في ذلك أن ميدان المدن يعتمد على العمل السري وبالتالي فإن المقاتل لن يحتاج إلى إظهار نفسه أمام الآخرين بما يحمله من تجهيزات أو لباس ، فهو يجهز لكل عملية ما يناسبها من تجهيزات قبل تنفيذها بفترة هو يقدرها ، ولكن يبقى أن رجل العصابات سواء في المدن أو في الجبال والأدغال هو بحاجة إلى ضمان قرب جميع التجهيزات التي يحتاجها في جميع المهام العسكرية أثناء القتال ، فإذا لم يتمكن من حملها على ظهره ، فهو بحاجة إلى تأمينها في مكان آمن يمكنه الحصول عليها بسرعة حين الحاجة إليها ، ولن نطيل في شرح التجهيزات التي يحتاجها رجل العصابات بالتفصيل ، ولكن سننبه على بعض التجهيزات وعلى رجل العصابات أن يقدر حاجته ومهامه ويعرف ماذا يحتاج بدقة ، والتجهيزات التي سنذكرها لاحقاً يحسن بكل مجاهد أن يحصل عليها ، لأن رجل العصابات يعد جيشاً يمشي على الأرض ، فهو بحاجة إلى جميع التجهيزات لينفذ جميع المهام دون الاعتماد على غيره من الأفراد أو الوحدات ، فربما يضطر رجل العصابات إلى الذهاب إلى الهدف منفرداً أو الانسحاب من العملية منفرداً أو تنفيذ عملية بمفرده ، فيجب عليه ألا يكون كالجندي في الجيش النظامي الذي يعمل بأسلوب التكامل مع غيره تجهيزاً وقتالاً ، بل يجب عليه أن يرى أنه هو القائد والملاح والرامي ورجل الاتصالات أو الاستطلاع ، وهو من سيناط به جميع المهام القتالية فينبغي عليه تجهيز كل ما يحتاجه ، والتدرب على جميع المهام القتالية والأسلحة المناسبة للجماعة .
رجل العصابات هو في المقام الأول رجل الأعمال القتالية متعددة الأشكال وعلى هذا لابد أن يجهز كل ما يحتاجه لأعمال القتال مثل :-
مصحف صغير هو أنسه يقوي به قلبه للقتال ، رشاش خفيف ( كلاشن ) ، جعبة ذات جودة عالية لا تعيق أداء المهام القتالية لحمل الذخيرة والقنابل ، أربع مخازن للرشاش الخفيف ، ذخيرة لاربع مخازن 120 طلقة ، ويمكن حمل طلقات احتياطية إذا كانت المهام القتالية ربما تستهلك كمية من الذخيرة ، منظار ليلي يستخدم للكلاشن ، مسدس شخصي بمخزنين للدفاع عن النفس في حال التخلي عن الرشاش الخفيف أو تعطله أو نفاد ذخيرته ، بدلتان عسكريتان يناسب لونهما طبيعة المنطقة للتخفي ، وإذا تعذر ذلك فأي لباس لا يعيق الحركة والقتال مما يستخدم في المنطقة ، حذاء عسكري أو حذاء رياضي ذا جودة عالية مع زوجين من الجوارب ، خوذة واقية للرصاص والشظايا ، حربة للقتال القريب أو للاغتيالات ، أي نوع من القيود سهلة الاستخدام لتنفيذ عمليات الخطف بسهولة ، أربع قنابل يدوية على الأقل لتمشيط الغرف أو لعمليات الكمائن القريبة ، حبل للتسلق والنزول من المباني أو المرتفعات الجبلية وهذا الحبل مجهز لهذه الأعمال ويعرف باسم ( هرنز ) وله حلقات تساعد على النزول بأمان .
أما تجهيزات الملاحة والاتصالات فهي على النحو التالي :(66/116)
خريطة عسكرية حديثة للمنطقة والمناطق التي حولها ، وإذا عدمت الخريطة العسكرية يمكن الاستغناء عنها بالخريطة المدنية الحديثة ذات مقياس الرسم الصغير الذي يصل إلى ( 250.000سم ) ، مسطرة لقياس المسافات من على الخريطة ، منقلة دائرية لإخراج الاتجاهات بها من الخريطة ، بوصلة مجهزة للاستخدام الليلي ، ويغني عن هذا كله أي نوع من الأجهزة التي تعمل بالأقمار الصناعية بنظام الـ ( جي بي إس ) مثل ماجلان أو قارمن وغيرها ، ولكن لا يعني الحصول على هذا الجهاز الاستغناء عن الخريطة والبوصلة فالجهاز معرض للأعطال والكشف فينبغي أن يكون هناك بديل له لو تعطل أو تم رصد مكانه، جهاز اتصالات لا سلكي يدوي من أي نوع للارتباط مع بقية المجموعات أو الأفراد ، بطاريات صغيرة لجهاز الاتصالات وجهاز الـ ( جي بي إس ) ، كشاف للإضاءة الليلية وهناك أنواع من الكشافات تعمل بالطاقة الشمسية ولا تحتاج إلى بطاريات .
أما التجهيزات الأخرى فتختلف باختلاف طبيعة المهمة والمنطقة ولكن نذكر أهمها ونترك ما يختلف باختلاف الحال :
علبة للماء ( مطارة ) لا تقل سعتها عن لتر ، كمية كافية من الطعام تحددها المهمة العسكرية ، فراش عسكري صغير سهل الحمل ، لباس بلاستيكي واقي من الأمطار لحماية المقاتل ومتاعه وسلاحه من الماء ، معول صغير للحفر ، منشار خشبي صغير، منشار حديدي صغير ، سكين متوسطة الحجم مع مسن لها ، كبريت أو مشعل بالاحتكاك أو ما يقوم مقامه مما لا يتأثر بالماء ولا ينفد بعد مدة ، حبل متوسط الحجم والطول ، مفك للبراغي ذو اتجاهين ومفك للصواميل متغير الأحجام ، قاطعة للأسلاك الشائكة والحواجز الحديدية ، تجهيزات طبية شخصية كالقطن والشاش والمقص والمنظفات والأربطة الطبية والمراهم الطاردة للبعوض فهي الناقلة لأكثر الأمراض ، وسواك أو ما يقوم مقامه ، منظار للتقريب صغير الحجم ، حقيبة قوية محمولة على الظهر لحمل كل هذه التجهيزات .
وهناك تجهيزات ليست خاصة بكل فرد ، فيكفي الجماعة الواحدة أن توفر العدد الكافي منها لمهامها القتالية حسب ما تراه مناسباً .
مناظير ليلية مناسبة ، كميرا فيديو لتصوير الاستطلاع والعمليات ودراسة المناطق ، حقيبة طبية مجهزة لعلاج كافة الحالات التي تحصل في الميدان من النزيف والكسور والحروق وضربات الشمس أو نزلات البرد والصعق الكهربائي ولدغات الهوام ، والمسكنات والمضادات بكافة أشكالها ، والإسهال والملاريا وغيرها من الأمراض التي يسببها التلوث ، كما أن على قيادة الجماعة تجهيز الأسلحة غير الشخصية كالرشاشات المتوسطة،والقناصات ، وقاذفات الصواريخ ( م/ د )، وصواريخ ( م/ط )، وكميات مناسبة من المتفجرات والألغام والصواعق والمفجرات العسكرية والفتائل الصاعقة والبطيئة ، والأحزمة الناسفة للعمليات الاستشهادية ، والسموم القاتلة باللمس أو بالشم أو بالأكل ، والأحبار السرية ، والدوائر الإلكترونية للتفجير عن بعد أو بالتوقيت أو بالضوء أو بالاهتزاز أو بالصوت ، وأجهزة الصعق الكهربائي أو غازات التنويم لعمليات الخطف ، والكواتم المناسبة لبعض المسدسات المتوفرة لدى الجماعة للاغتيالات الصامتة ، ومصادر الطاقة الكهربائية بالأشعة الشمسية ، وكل ما يمكن أن تحتاجه جماعة العصابات من ذخائر وأسلحة ومخازن .
ويبقى أن التجهيزات متعلقة بالمهام المناطة بالجماعة وطبيعة المنطقة ، وطبيعة العدو ، فعلى قيادة الجماعة تجهيز كل ما يمكن أن تحتاجه الجماعة سواء للمهام القتالية المختلفة أو للمسير أو للاستقرار والدفاع .
ولا يعني أن عدم توفر شيء من التجهيزات المذكورة سابقاً أن العمل لن يقوم ، ولكن المطلوب من المجاهد أن يبذل وسعه للحصول على هذه التجهيزات تمهيداً للقاء العدو ، وإذا كان مستطيعاً أن يعد هذه التجهيزات وغيرها مما يحتاجه وقصر في ذلك فهو مخالف لما أمره الله به من الإعداد بالمستطاع ، وإذا لم يستطع فلا يقف عن الجهاد فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
هذا هي أهم التجهيزات التي نرى أنه يلزم المقاتل الاستعداد بها قبل المعركة ، وليس بالضرورة أن يحمل المقاتل كل هذه التجهيزات على ظهره أينما ذهب ، ولكن المطلوب أن تكون كل هذه التجهيزات قريبة من المقاتل وفي متناوله ، ولا يحمل منها إلا ما يحتاجه في مهمته فقط ، فمهام القتال تحتاج إلى تجهيزات القتال ، ومهام الاستطلاع تحتاج إلى الكميرا وأدوات الملاحة ، ومهام الاغتيلات لا تحتاج إلا حمل السم فقط ، وهكذا فلكل مهمة تجهيزاتها الخاصة التي يحتاجها المقاتل ، ولا ينبغي للمقاتل أن يهمل هذه التجهيزات وعليه أن يسعى لتوفيرها قبل القتال ، حتى لا تكون له عائقاً عن أخذ زمام المبادرة في الميدان والانتقال من مهمة قتالية إلى أخرى دون تأخير .
س 26: ما هي أهم المهارات الميدانية و القتالية و البدنية التي يجب أن يتقنها المقاتل ؟ .(66/117)
ج 26: من الصعب أن نأتي في هذه الحلقات على المهارات الميدانية والبدنية التي يجب على المقاتل أن يتقنها ، فالمهارات الميدانية و القتالية هي صلب العمل القتالي ، وقد أفردت كتب خاصة لمثل هذه المهارات لكثرتها وتشعبها ، ولكن سنحاول أن نذكر أمثلة يسيرة للمهارات القتالية لتتضح المهمة ، وسوف نذكر بعضاً من مهارات القتال في المدن فهي أهم بالنسبة لنا من غيرها ، كما أننا سنكتفي بذكر المستوى البدني الذي ينبغي للمقاتل أن يتمتع به ، دون سرد للبرنامج الرياضي .
هناك نوعان من المهارات ، مهارات ميدانية ، ومهارات قتالية .
المهارات الميدانية هي القدرة على التعايش في الميدان وإحسان الحركة والتمركز فيه باستخدام كافة أشكال التمويه المناسبة للميدان ، ومحاولة تفعيل جميع القوة النارية للجماعة أثناء الحركة أو الدفاع ، ولكل ميدان فنه ومهاراته الأساسية التي تقلل الخسائر في صفوفنا وتحقق المفاجأة للعدو ، وتساعد على تحقيق النصر ، فالمناطق الصحراوية مثلاً لها مناخها وطبيعتها التي تحتاج إلى نوع خاص من التعايش والتمويه ، كما تحتاج إلى أسلوب خاص في التحرك والتمركز والدفاع ، تختلف تماماً عن مناطق الجبال والأدغال أو المدن ، فبعض أساليب التعايش تكتسب من سكان المنطقة ، وعلى المجاهد أن يتدرب على هذه الأنواع من المهارات في المناطق التي يحتاج إلى القتال فيها ، بهدف الاستعداد حتى لا يفاجأ أثناء المعركة بمصاعب في الحصول على الماء أو الطعام أو التخفي أو التحرك تمنعه من أداء المهام القتالية مما يؤثر على أدائه وربما يؤدي إلى هزيمته ، والتدرب على مهارات الميدان في أي منطقة لا يستغرق كثيراً من الوقت فلا يحتاج للمجتهد أكثر من عشرة أيام تقريباً .
أما المهارات القتالية فالجبال لها أسلوبها التكتيكي الذي يختلف عن الغابات و عن المدن ، فالهجوم والالتفاف والتطويق والاقتحام بالمواجهة والدفاع عن الموقع والكمين ، هذه الأعمال في الجبال تختلف عن غيرها من الميادين ، كل هذه المهام موحدة المسميات والاستراتيجيات ، ولكنها مختلفة التكتيك حسب الميدان ، ولن نطيل بتعريف كل مهمة أو سرد استراتيجياتها فليس هذا موضعه ، ولكننا للتمثيل سنذكر بعض الأمثلة للمهارات القتالية الفردية في المدن فنقول :-
إن نجاح المهام القتالية في أي ميدان يتوقف بشكل رئيس على حسن الأداء الفردي للمجموعة والذي يفترض أن يكون إتقاناً لجميع المهارات القتالية الفردية ، وإتقاناً للأسلحة والمعدات المستخدمة في القتال ، وعلى سبيل المثال :-
فإن المقاتل في المدن يحتاج إلى معرفة .
1- كيفية القتال داخل المناطق المبنية .
2- كيفية التحرك داخل المناطق المبنية .
3- كيفية تطهير المباني والغرف .
4- كيفية استخدام القنابل اليدوية في المناطق المبنية والغرف .
5- كيفية اختيار مواقع الرماية لأي سلاح يستخدمه .
6- كيفية التحرك والتمويه والإخفاء واتخاذ السواتر .
هذه بعض المهام القتالية في المدن و تتفرع عنها تمارين كثيرة يحتاج المجاهد أن يتدرب عليها ، قبل خوض المعركة ، وليست هذه التمارين معضلة لا يتمكن المرء من التدرب عليها إلا من خلال دورة مكثفة ، فبالإمكان الوصول إلى حد معقول من هذه المهارات بما يناسب المعركة بإذن الله تعالى ، دون الحاجة إلى دورة مكثفة ، ونحاول أن نذكر أمثلة للتمارين على كل مهمة من المهام التي سردناها آنفاً ليتضح المقصود على الأقل ، علماً أننا لن نفصل في كل تمرين ، ولكن سنحاول السرد لإيضاح المقصود دون شرح .
1- كيفية القتال داخل المناطق المبنية .
يتطور العمل القتالي في المدن من مرحلة لأخرى وفق نظرية العصابات ، ففي مرحلته الأولى يعتمد على الخفة والسرعة فالهدف يكون خفيفا سهلا بسيطا ضعيف التأمين والعمل القتالي عليه يكون سريعا وبخطة غير معقدة ، وتتنوع العمليات في هذه المرحلة من الاغتيالات والغارات والكمائن السريعة والتسلل وزرع الألغام وتسميم الأطعمة والمياه وإرسال الطرود المفخخة والرسائل السامة وتفجير المنشآت بالمعدات المفخخة ، تتسم هذه المرحلة بصفة أساسية وهي عدم التمركز أو التحصن في نقطة داخل المدينة أو حتى ترتيب عملية بهدف السيطرة على أحد الأحياء فهذه الفكرة برمتها مرفوضة تماما في المرحلة الأولى والتي يكون للعدو فيها تفوق عسكري يمكنه من القضاء على أي جسم ظاهر ، وفلسفة العمل أن يكون المجاهدون كالغاز والهواء أي موجود ولكنه غير مرئي ، فإذا فقد المجاهدون هذه الخاصية أصابتهم ابتلاءات تهدد العمل بالفشل .(66/118)
أما العمل القتالي في المرحلة الثانية من مراحل العصابات فسيكون تطورا للعمل في المرحلة السابقة بمعنى أن المجاهدين قد تعرفوا على عدوهم واستوعبوا تكتيكاته وردود أفعاله التي أصبحت شبه عاجزة عن مواجهتهم ، كما أنهم اكتسبوا خبرات قتالية وأمنية جعلتهم محترفين ، هذه الكفاءات تمكنهم من اختيار أهداف أكبر في الحجم والأهمية وعليه فخطط عملياتهم ستتسم بالتعقيد والفاعلية لأن العمليات ستكون أكبر والنتائج أقوى ، وهنا توجد سمة جديدة للمرحلة وهي أن النهار للنظام الحاكم والليل لقوات المجاهدين ، وبمكن في هذه المرحلة وجود بعض الأحياء التي تسمح لها مواصفاتها الخاصة من ناحية الطبيعة الأرضية و وعورتها وتركيبتها السكانية بأن تكون شبه مسيطر عليها من المجاهدين .
أما المرحلة الثالثة من الحرب وهي التي تبدأ فيها قوات العصابات بالنزول من المناطق الوعرة وبدأ احتلال المدن ، في هذه المرحلة يمر القتال داخل المناطق المبنية في حال الهجوم من الخارج بثلاث مراحل : الأولى مرحلة العزل : وهي مرحلة حصار وعزل للقرية أو المدينة المستهدفة ، وذلك بالسيطرة على الطرق والاقتراب من القرية ومحاولة عزلها عن أية قوة تدعمها أو عومل تؤدي لصمودها ، وبعد العزل بمدة كافية يحتمل معها إنهاك المدافع ، تبدأ المرحلة الثانية وهي مرحلة الهجوم : والهدف في هذه المرحلة تدمير دفاعات المدافع وإقامة مواقع على مشارف القرية أو المدينة ، ويمكن تنفيذ تدمير العدو بالهجوم بطريقتين طريقة المحاور المتلاقية أو المحاور المتوازية ، وبعد تدمير المدافع والتأكد من عدم وجود دفاعات نظامية ، تدخل المرحلة الثالثة وهي مرحلة التطهير : وهي عملية تمشيط الشوارع والمباني بطرق سنذكرها في موضعها ، ولابد أن يعرف المجاهد بأن التحرك الجماعي أثناء القتال في المدن يكون عن طريق الوثبات وذلك بأن تتمركز مجموعة أو شخص للتغطية أثناء تحرك مجموعة أو فرد ، ومن ثم يتخذ الفرد أو المجموعة المتحركة ساتراً وتبدأ التغطية على مجموعة التغطية السابقة ، وهكذا يكون الأمر بالتناوب ، و لابد للمجاهد أن يتقن الرماية من أي كتف سواء كان الأيمن أو الأيسر لأن زاوية المبنى هي التي تفرض عليه الرماية بأي كتف ، كما يجب عليه أن يراعي عدم ظهوره أثناء الرماية أو ظهور ظله .
2- كيفية التحرك داخل المناطق المبنية :(66/119)
لتقليل التعرض لنيران العدو أثناء التحرك في المناطق المبنية على المجاهد ألا يظهر بنفسه كهدف ، وعليه أن يقوم بكل ما يستطيعه من عمليات الإخفاء واتخاذ السواتر ، وعليه تجنب المرور في الأماكن المفتوحة كالشوارع والحدائق والأزقة عديمة المنافذ ، وإذا أجبر على المرور فعليه بالمرور تحت غطاء ناري أو دخاني أو بشكل متعرج أو زاحفاً ، وعليه أن يختار بالنظر المجرد الموقع التالي الذي يوفر له الساتر المناسب قبل أن يتحرك من موقعه إليه ، وعليه أن يخفي تحركاته بكافة الوسائل ، ولابد أن يكون تحركه من موقع لآخر بكل سرعة وحذر ، وإذا كان يتوقع تعرضه للنيران عند التحرك من موقع لآخر فعليه أن يغطي تحركه باستخدام نيران سلاحه الشخصي ضد المواقع المتوقع وجود أحد ينتظر ظهوره ، وعليه إذا أراد تسور الجدران أن يقوم باستطلاع الجانب الآخر الذي سينتقل إليه ، ويجب عليه قبل ذلك أن يحدد أسهل منطقة لتسور الجدار عن طريقها ، كما يجب عليه أن يتجه بسرعة نحو الجدار ، وعليه إذا تسور أن يخفض جسمه ويلصقه بالجدار أثناء القفز والنزول بسرعة إلى الطرف الآخر ، وعلى المجاهد إذا أراد مراقبة أحد الشوارع إلا يُظهر جسمه أو رأسه كله من زاوية الشارع أو زاوية الباب ، بل عليه الانبطاح ولبس الخوذة وإظهار جزء يسير من رأسه مما يمكنه من استطلاع الشارع ، كما يمكنه استخدام المرآة من الاستطلاع بعكس صورة الشارع دون الحاجة لإظهار شيء من رأسه ، من أكثر المخاطر التي يتعرض لها المجاهد في المدن المرور أمام النوافذ التي عادة ما تكون هي نقاط تمركز أفراد العدو ، والنوافذ على نوعين نوافذ للدور الأرضي ، و نوافذ الأقبية ، وعلى المجاهد أن يكون حذراً من هذه النوافذ ، وعليه أن يحسن العبور من أمام هذه النوافذ فنوافذ الدور الأرضي عبورها يلزم منه الانحناء تحت مستوى النافذة والالتصاق بالجدار والعبور بسرعة وهدوء ، والأقبية يلزم المجاهد لعبورها أن يقفز فوق مستوى النافذة للعبور دون أن يعرض ساقيه للخطر بمرورها أمام النافذة ، فإذا كانت النافذة ذات سعة يصعب القفز فوقها والعبور ، فعليه أن يتخذ ساتراً يحول بينه وبينها للعبور ، وعلى المجاهد أن يتنبه ويبتعد عن استخدام الأبواب كمداخل ومخارج للعبور ، فغالباً ما يكون العدو قد وضع هذه الأبواب تحت نيرانه أو يكون استخدم الشراك الخداعية والألغام لقتل كل من أراد العبور منها ، فعلى المجاهد استخدام النوافذ للدخول أو الخروج ، أو يقوم بفتح فتحات جديدة خاصة به ، أو يحاول دخول المباني بالتسلق فوقها أو الخروج منها بالنزول من أعلاها ، وعليه ألا يعبر في مناطق مكشوفة دون غطاء ناري أو دخاني أو من خلال سواتر ، وإذا اضطر لذلك فعليه ألا يعبر بشكل مستقيم ويجب عليه التحرك وبكل سرعة بشكل متعرج ، أثناء التحرك داخل المبنى يجب عليه أن يتجنب الالتصاق بالأبواب والنوافذ لتجنب طلقات العدو من الداخل أو الخارج والذي عادة ما يركز عليها ، يجب وضع خطة للتحرك بأمان أثناء إخلاء الجرحى من كل مبنى إلى مناطق آمنة ، على الأفراد أن يتركوا و بينهم مسافة من 3-5 أمتار أثناء التحرك داخل المدن .
3-كيفية تطهير المباني والغرف .
على المجاهد أن يختار نقطة دخوله قبل التحرك إلى المبنى ، و عليه تجنب الدخول من النوافذ والأبواب ، و عليه أن يستخدم الدخان أو قوة النيران للتغطية على تقدمه إلى المبنى ، و عليه أن يفتح فتحات للدخول إلى المبنى باستخدام المتفجرات أو الصواريخ أو قذائف الدبابات لتجنب استخدام النوافذ والأبواب ، كما يجب عليه أن يستخدم القنابل اليدوية للدخول إلى أي فناء في المبنى ، ولابد أن يكون دخوله بعد انفجار القنبلة اليدوية مباشرة حتى لا يعطي العدو الفرصة كي يلتقط أنفاسه ، و لابد من إيجاد حماية من أحد الزملاء أثناء الدخول لتطهير الغرفة ، أفضل أسلوب لتطهير المباني هو التطهير من أعلى إلى أسفل ، ويتم الصعود إلى أعلى المباني بأي أسلوب ، سواء بالتسلق بالحبال أو عبر أنابيب المياه أو السلالم أو الأشجار أو من خلال أسطح المباني المجاورة أو بأي أسلوب آخر ، ولابد للمقاتل أن يتقن التسلق بالحبال ذات الخطاف ، فعليه أن يتدرب على صناعة الخطاف وربطه بالحبل ورميه على سطح المبنى والتسلق من خلاله ، ويستحسن وضع عقد على الحبل بينها متر تقريباً لتساعد على التسلق ، كما يجب على المقاتل التدرب على النزول بالحبال من أعلى المبنى عن طريق حبال التسلق الخاصة ( الهرنز ) فهذه الحبال تمكن من النزول من أعلى المبنى وتمشيط الغرف المطلة على الخارج بكل سهولة .
4-كيفية استخدام القنابل اليدوية في المناطق المبنية والغرف .(66/120)
يجب على المجاهد أن يتقن استخدام القنابل اليدوية لأنها تستخدم بشكل مكثف في قتال المدن ، فيلزم المجاهد أن يستخدم القنبلة في تطهير كل غرفة أو فتحة أو درج ، فعليه أن يعرف طرق إلقاء القنبلة على كافة الأوضاع ، وأن يتقن عن طريق التدرب كيف يصوب ويرمي القنبلة بدقة على المكان المطلوب ، كما يجب عليه أن يتدرب على توقيت صاعق القنبلة ومتى يرميها لمنع إعطاء العدو الفرصة بأن يعيدها عليه قبل الانفجار ، ويجب عليه أن يعرف طرق سحب مسمار أمان القنبلة إذا كان يحمل سلاحاً باليد الأخرى وإذا كان منبطحاً وعلى جميع الأوضاع ، وعليه أن يعرف كيف يحتفظ بذراع الأمان بعد رمي القنبلة خشية أخذ البصمات أو معرفة نوع القنبلة والتوصل إلى معلومات تفيد العدو ، وعلى المجاهد أن يعرف مدى تأثير شظايا القنبلة وقوة تدميرها ليتمكن من أخذ الحيطة والسواتر أثناء تطهير المباني .
5- كيف يختار مواقع الرماية لأي سلاح يستخدمه .
كما أن نجاح العمليات داخل المباني متوقف على إتقان الفرد للمهارات القتالية ، إلا أن هذه المهارات لن تؤدي غرضها سواء في الدفاع أو الهجوم أو الانسحاب أو التحرك للفرد أو للجماعة ، لن تؤدي غرضها حتى يحسن المقاتل توجيه نيرانه على العدو وإسكاته ، فالقوة النارية لدى المقاتل في المدن هي رأس ماله و من الخطأ أن يفرط فيها أو يرميها دون فائدة ، وعليه أن يعرف كيف يرمي ؟ ومتى يرمي ؟ وأين يرمي ؟ ولماذا يرمي ؟ وبماذا يرمي ؟ ومن أين يرمي ؟ ، هذه هي مطالب ملحة على المجاهد لابد أن يكون لديه من الذكاء والبديهة والحزم والشجاعة ، ما يمكنه من التفاعل مع هذه المطالب بكل سرعة أثناء القتال ، ومن ضمن هذه المطالب من أين يرمي ؟ فعليه أن يبحث دائماً عن الموقع الملائم للرماية بحيث لا يتعرض لنيران العدو، ويستفيد هو من نيرانه بشكل كامل ويحاول تجنب الزوايا الميتة التي يستفيد منها العدو في تحركه ، فيختار زوايا المباني أو الرماية من خلف الجدران أو من أطراف النوافذ أو من فوق الأسطح ، أو من فتحات صغيرة يعدها الرامي ، أو من وراء سواتر رملية مجهزة أو من داخل فتحات شبكة المياة في وسط الشوارع أو من داخل أحواض الزراعة فوق الأرصفة ، وعليه أن في حال استخدام الأسلحة المضادة للدروع أن يبتعد عن الحائط الخلفي حتى لا يرتد اللهب عليه ، وعليه أن يختار المواقع المطلة على الشوارع الرئيسة ، ويجب أن يعرف أن الدبابات في حال اقترابها من المبنى فإنها لا تستطيع أن ترفع المدفع بزاوية تفوق 45درجة لتصوب القذيفة إلى سطح المبنى وهذا ما يتيح للرامي أن يستخدم أسطح المنازل المطلة على الشوارع الرئيسة لضرب الآليات ، ولابد من تنبيه المجاهد أن زجاج النوافذ تشكل خطراً عليه فيجب عليه قبل أن يتخذ النوافذ مكاناً للرماية أن يزيل جميع الزجاج لمنع إصابته بها في حال حصول انفجار قريب منه ، وعليه أيضاً أن يغطي النافذة بشبك حديدي صغير الفتحات لمنع دخول القنابل اليدوية عليه والتي يمكن أن يرميها أفراد العدو من خارج المبنى .
6- كيفية التحرك والتمويه والإخفاء واتخاذ السواتر .
للتمكن من إنهاك العدو وتحقيق الأمن للأفراد يجب استخدام التمويه والإخفاء والسواتر بمهارة ، أول خطوات التمويه لابد من دراسة المنطقة بعناية ، ليتم التركيز على جعل المعدات والأسلحة والأفراد والآليات بنفس المظاهر الطبيعية للمنطقة ، لا تحاول إحداث فتحات في المباني للرماية إذا لم يكن هناك تدمير وشقوق في المباني من جراء الحرب ، لا تحاول المبالغة في التمويه فهو غالباً ما يكشف المكان ، لا تستخدم المواد المضيئة واللامعة في موقعك فيعرضك للكشف أو للقصف العشوائي ، الظلام ساتر طبيعي ممتاز للتخفي والحركة ، ظل الجدران والمباني مناسب لإخفاء الآليات والمعدات لأن البعيد لايمكن أن يميز من تحت الظل إلا بعد الاقتراب ، حاول إخفاء لمعان جسمك أو معداتك أو أسلحتك باستخدام الفحم أو الطين أو الفلين المحروق ، ضع الأقمشة المبللة تحت فوهة السلاح من أين نوع أثناء الرماية لمنع إثارة الغبار ، حاول الرماية من داخل الغرف في الليل ، وإذا كانت المباني المجاورة والغرف الأخرى في المبنى مضاءة الأنوار فحاول الرماية والأنوار مضاءة لإخفاء لهب البندقية ، ويجب عليك إخفاء فوهة البندقية أثناء الرماية حتى لا يظهر وميضها مع الإطلاق ليكشف مكانك ، لابد من إخفاء جميع آثار المجاهدين في أي موقع نزلوا فيه أو عبروا منه كالمخلفات والأوراق وآثار النار وآثار المشي وكل الآثار التي توصل إلى معلومات عن تعداد المجموعة أو نوعيتها أو نوع تسليحها أو أي شيء عنهم ، من المناسب افتعال أهداف وهمية للعدو لاستنزافه وتشتيت انتباهه وإفقاده الثقة باستطلاعه .(66/121)
هذا عرض موجز لبعض المهام القتالية داخل المدن ، ليتضح المقصود من كلامنا حول المهارات القتالية التي يجب أن يتقنها المقاتل ، علماً أننا لم نذكر ماسبق بهدف الحصر والاستيعاب ، ولكن نبهنا على أهم المهارات وإن كان هناك الشيء الكثير الذي لم ننبه عليه ، وتفصيل هذه المهارات لايناسب ذكرها هنا وهو يحتاج إلى مصنف خاص بهذه المهارات القتالية ، وسبق أن ذكرنا أن مهارات القتال في المدن تختلف عن مهارات القتال في الجبال والأدغال ، مع العلم أن أكثر وأصعب المهارات القتالية هي مهارات المدن ، والأخطار المحيطة بالمجاهد في المدن هي أضعاف الأخطار في الجبال والأدغال ، وفي هذه الإجابة نظن أننا نبهنا على عدد من المهارات في المدن يتضح من خلالها حجم المشقة في هذا الميدان .
أما الجواب عن الشق الثاني في السؤال والخاص بالمهارات البدنية للمقاتل
فنقول : إن أعمال القتال لابد لها من لياقة عالية جداً وهذه اللياقة تتمثل بقوة العضلة وقوة التحمل والسرعة و اللياقة الهوائية واللياقة اللاهوائية ، والرشاقة ، والمرونة .
ومن السهل أن يصل المجاهد لهذا المستوى المناسب خلال شهرين من التمرين ، عن طريق برنامج يومي يستوعب جميع التمارين الرياضية التي يحتاجها جسم المجاهد ليؤدي مهامه القتالية على أحسن وجه ، وعلى كل حال فإن لياقة المجاهد وتمكنه من الجري لمسافات طويلة وتحمله لبذل مجهود بدني لفترات طويلة ، هي العامل الرئيس في حسن أدائه في الميدان ، فقد يكون المجاهد متقناً للسلاح ، ولكن بسبب انعدام اللياقة فإنه لن يتمكن من اختيار المكان المناسب للرماية ولن يتمكن من قفز الأسوار أو تسلق المباني لتمشيطها كل ذلك بسبب انعدام اللياقة البدنية ، والمجاهد الذي يتمتع بلياقة عالية يمكنه إتمام كل أعماله على أحسن وجه حتى ولو لم يكن استخدامه للسلاح يصل إلى درجة الإتقان ، لأنه قادر على المناورة واتخاذ أحسن المواقع للرماية وقادر على تأدية مهامه بكل سرعة وخفة ، ولن يشوش الإرهاق البدني على تفكيره وسرعة المبادرة ، فنعرف من هذا أن اللياقة البدنية ركيزة مهمة للمجاهد وخاصة في ميدان المدن .
ولكن يجب أن يكون التدريب مناسباً للسن وقدرة الفرد ، ويجب أن يكون التمرين محدداً بعدد من أيام الأسبوع تصل إلى 5 أيام بالأسبوع للأغلبية ، وللمتقدمين تصل إلى مرتين أو ثلاث مرات يومياً ، لابد من مراعاة مبدأ التدرج في البرنامج ، فترة التمرين تبدأ بالإحماء ثم التمرين ثم تنتهي بالتبريد و هذا التسلسل يساعد العضلة على أداء وظيفتها والاستفادة من التمرين على أكمل وجه دون حدوث مضاعفات لا تحمد ، يجب علينا أن نعلم أن البرنامج الضعيف لا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة ، كما أن شدة التدريب التي تخرج عن الحد المناسب للشخص تؤدي إلى نتائج عكسية غير مرغوب بها ، وقد يكون عدم التدريب في هذه الحالة أفضل من التدريب بهذا الأسلوب .
ولا يمكن لنا الإطالة في جواب السؤال أكثر من ذلك حتى نذكر البرنامج الرياضي الذي يصل المجاهد فيه خلال شهر ونصف أو شهرين لمستويات مناسبة تعينه على القتال على أكمل وجه ، عبر برنامج يومي متسلسل لا يرهق البدن ولا يحدث مضاعفات للعضالات أو تمزقات .
ولكن في هذه العجالة نقول إن المستوى البدني الذي يجب أن يتمتع به المجاهد هو أن يكون قادراً على الهرولة لمسافة 10كم دون توقف خلال مدة لا تزيد عن 70 دقيقة على أسوأ الأحوال ، ويكون قادراً على تنفيذ تمرين اختراق الضاحية والجري بمسافة 3 كلم بمدة لا تزيد عن 13.5دقيقة ، ويكون قادراً على العدو لمسافة 100م بمدة تتراوح ما بين 12-15 ثانية ، ويكون قادراً على المسير دون توقف طويل لمدة لا تقل عن 10 ساعات ، وقادراً على المسير بحمولة تصل إلى 20كجم لمدة لا تقل عن 4 ساعات ، ويكون قادراً على عمل تمرين الضغط وهو ما يسمى ( بوش أب ) لأكثر من سبعين مرة دفعة واحدة ودون توقف ، وقادراً على عمل تمرين البطن مائة عده دفعة واحدة دون توقف ، وقادراً على تطبيق زحفة التمساح لمسافة خمسين متر خلال سبعين ثانية على الأكثر ، ولاختبار قوة التحمل عليه بتنفيذ تمرين مشابه لطريقة ( فارتليك ) مع اختلاف بسيط ، هذا التمرين يجمع بين المشي والمشي السريع والهرولة والجري والعدو ، يبدأ المجاهد بالمشي العادي لمدة دقيقتين ثم ينتقل إلى المشي السريع لمدة دقيقتين ثم يبدأ بالهرولة لمدة دقيقتين ثم ينتقل للجري لمدة دقيقتين ثم يبدأ بالعدو السريع لمسافة 100متر ، ثم يعود للمشي وهكذا يواصل تكرار هذا التمرين دون توقف حتى يصل إلى عشر مرات .(66/122)
يختلف المشي العادي عن المشي السريع عن الهرولة عن الجري عن العدو ، فالمشي العادي معروف لدى الجميع ، والمشي السريع هو أن تسير بسرعة مع المحافظة على عدم رفع إحدى القدمين عن الأرض لمدة طويلة تقارب مدة المشي العادي ، أما الهرولة فهي قطع الكيلو متر الواحد بمدة لا تقل عن 5.5دقيقة ، أما الجري فهي قطع الكيلو متر الواحد بمدة لا تزيد عن 4.5 دقيقة ، أما العدو السريع فيحسب بالمائة متر بحيث يتراوح قطع المائة متر من 12 حتى 15 ثانية وهو العدو بما يقرب من 80% من المجهود البدني .
هذا المستوى يمكن للمجاهد أن يصله خلال شهر واحد لمن جد واجتهد ، بشرط أن يراعي التدرج ولا ينهك العضلات خشية حدوث تمزقات ، وعلى سبيل المثال فإن المجاهد لو بدأ أول الشهر بالهرولة لمدة 15 دقيقة وزاد يومياً دقيقتين فمعنى هذا أنه خلال شهر سيصل إلى الهرولة لمدة ساعة دون توقف ( الشهر يحتوي على عشرين يوماً رياضياً ، إذا كان البرنامج 5 أيام في الأسبوع ) ، وكذلك لو أنه بدأ بالضغط في أول الشهر بعشر عدات وزاد كل يوم ثلاث عدات فمعنى هذا أنه سيصل إلى سبعين عدة خلال شهر واحد ، فالتدرج والاستمرار له أثر كبير في اكتساب اللياقة ، ولابد أثناء البرنامج الرياضي أن يكون هناك تمارين سويدية تساعد على استطالة العضلات واسترخائها وإحمائها وتقويتها ، ويحاول المجاهد أن يركز على كافة أنواع التمارين السويدية ويبتعد عن المعدات والأجهزة ليتمكن من مواصلة برنامجه الرياضي في أي مكان ، ولأن المعدات والأجهزة لها أثر سلبي على الجسم على المدى البعيد ، وأفضل التمارين التمارين السويدية سهلة التطبيق وتعتمد على الجسم وقوته ومضاعفاتها أقل بكثير من غيرها ، وشرح البرنامج الرياضي الذي يشمل كل أنواع الرياضات يحتاج إلى إطالة في بسطه لن نستطيع استيعابه في هذه الحلقات ، ولكن ما تم ذكره هو المستوى الذي يجب أن يصل إليه المجاهد قبل خوض المعركة
لقد أطلنا نوعاً ما في الإجابة على السؤالين الماضيين نظراً لأهميتهما ، إلا أننا لم نعطهما حقهما من التفصيل والشرح ، ولكن نقول بأن كل ما ورد في الإجابة الماضية يمكن للمجاهد أن يتدرب عليه حتى ولو لم يتوفر له معسكر يمارس فيه مثل هذه التمارين ، فالرياضية متاحة لكل شخص ، ومهارات القتال التي ذكرناها يمكن للمجاهد التدرب عليها دون إطلاق نار إذا لم يتمكن من ذلك ، فأغلب هذه المهارات القتالية المذكورة يمكن إدخالها في البرنامج الرياضي .
س 27 : أي الأساليب أفضل لترابط المجموعات هل هو الأسلوب المركزي أو اللامركزي ؟
ج 27 : ذكرنا في إجابات سابقة أن العمل في العراق يمكن أن يكون على أسلوبين أسلوب حرب العصابات في الجبال وأسلوب حرب العصابات في المدن ( العمل السري ) .
وهذا السؤال تختلف الإجابة عليه باختلاف الأسلوب المطبق ، فمثلاً أسلوب حرب العصابات في المدن لا تناسبه المركزية أبداً، وكما أشرنا في الحلقة الماضية أن الخلية لا يناسبها زيادة العدد وكلما كان العدد أقل كلما كانت المشاريع أنجح ، فالخليلة أساس تنظيمها هو قطع الخطوط على العدو بتتبع القيادات أو تتبع بقية الأفراد على مستوى الخلية فكيف على مستوى الخلايا الأخرى ، لذلك فإن المركزية في عمل الخلايا غير مناسبة أبداً ، ويمكن أن يكون هناك قيادة عامة ولكن بشرط أن تكون بعيدة عن الميدان وآمنة تتمكن من الاتصال بجميع الخلايا والتنسيق عن بعد بين أعمالها وتوجيهها ، ولكن بشرط ألا تعلم القيادة تعداد كل خلية ولا من يقودها ولا أماكن تواجدها حتى لا تتعرض الخلايا للضرب لو تم اختراق القيادة العامة أو وقع أفرادها بأيدي العدو ، فتكتفي كل خلية بتعيين منسق يرتبط بهذه القيادة العامة يمكنه إطلاع القيادة على أهم أعمال الخلية وتلقي التوجيهات بناء على ذلك لضمان عدم التصادم مع أعمال بقية الخلايا ، ويشترط أن يكون هذا المنسق غير معروف لبقية أفراد الخلية مهما تكن الظروف .
أما العمل في المدن بأسلوب العصابات خارج نطاق العمل السري ، في مرحلة متقدمة حينما يكون هناك مناطق لا يسيطر العدو عليها وتحتاج إلى قتال شوارع بشكل دائم فإننا ذكرنا في أول هذه الحلقة أن ما يقال في تشكيل وتسليح وترابط أسلوب العصابات في الجبال والأدغال يقال فيها أيضاً ، فلا يوجد اختلاف كبير إلا في المهارات القتالية والأساليب التكتيكية وبعض التسليح .(66/123)
والإجابة على هذا السؤال بالنسبة لأسلوب العصابات في الجبال والأدغال وحرب الشوارع ، نقول بأن حرب العصابات تمر بمراحل ، فبداية المرحلة الأولى تكون فيها العصابات ضعيفة ولم تفرض نفسها على أرض الواقع ، وبالمقابل فإن العدو خلال بداية المرحلة الأولى يضرب بكل عنف لمحاولة وأد العصابات في مهدها ، وفي هذه المرحلة فإن المركزية في العمل تؤدي إلى تعثر العمل أولاً ، ثم إنها تؤدي إلى سهولة ضربها بضرب أية مجموعة ، ولكن من الأفضل أن تبدأ الجماعات بأسلوب غير مركزي ، وبعد فرض نفسها على الواقع ، تقوم بإعادة تشكيل القطاعات وترتبط الجماعات ببعضها لتصل في بعض القطاعات إلى فصائل وسرايا حسب الاستطاعة ، تنطلق كلها من مجلس قيادة موحد لتتمكن من عبور هذه المرحلة إلى المرحلة التي تليها بكل قوة وتنظيم ، وإذا لم تصل العصابات إلى المركزية في المرحلة الأولى فإنها لن تتمكن من الانتقال إلى المرحلة الثانية وستبقى مكانها تراوح لعدم الاستفادة من كافة جهود جميع المجموعات عن طريق قيادة مركزية توظف كل الجهود لتنتقل بالجميع إلى المرحلة الثانية من مراحل حرب العصابات .
س 28 : وهل الأفضل استقلال كل مجموعة في التموين والتجهيز والقتال والمناورة أم الأفضل ترابطها وتنسيق عملها ؟ ولو كان الأفضل الترابط فكيف يكون الترابط والتنسيق ؟ .
ج 28 : بما أننا ذكرنا في الجواب السابق عدم مناسبة الترابط لحرب العصابات في المدن ( العمل السري ) ، وذكرنا أيضاً عدم قابليته للتطبيق وخطورته نوعا ما على أسلوب حرب العصابات في الجبال أو الأدغال أو حرب الشوارع في أول المرحلة الأولى ، فإننا نكرر هنا أيضاً أن الترابط لابد منه بعد بداية المرحلة الأولى من حرب العصابات ، فعدم الترابط كان مطلوباً خشية ضرب المجموعات أثناء ضعفها في بداية المرحلة الأولى ، وبعد قوتها وثباتها وممارستها للحرب لابد وأن تتجه إلى الترابط، وليس أمر الترابط معلقاً بالتكتيك العسكري فقط ، بل هو مطلب شرعي لابد أن يكون لتحقيق النصر فالاعتصام بحبل الله وعدم الفرقة وعدم التنازع والاختلاف من عوامل النصر ، وعدم الترابط حتماً سيحدث تنازعاً واختلافاً وفشلاً ، لأن الانفصال الإداري يتحول تدريجياً إلى انفصال قتالي ، ثم تخرج لنا قيادات ذات قرارات منفصلة تخالف قرار المرحلة مما يجر البلاء على الجميع ، فالترابط لابد منه كمطلب شرعي أولاً وعسكري ثانياً ، ولا يفهم من كلامنا السابق أننا نرفض الترابط والمركزية في القيادة ، ولكن تم تأخير هذا الترابط والمركزية إلى فترة قصيرة ليشتد فيها عود المجموعات لتتمكن من الدخول إلى مرحلة الترابط دون إحداث خلل في الترتيب العام ، وربما تكون المجموعات ليست بحاجة لمثل هذا التأخير في الترابط والمركزية لأنها تبدأ قوية كما هو الحال في بداية حرب الشيشان الثانية ، ولكن جاء ذكرنا لهذا التفصيل لأهميته .
أما السؤال عن الأفضل لكل مجموعة في التموين والتجهيز والقتال والمناورة هل هو الترابط أو الاستقلال ؟
فنقول بعد فرض المجموعات نفسها على أرض الواقع وتثبيت جذورها في الأرض ، الواجب عليها شرعاً عدم الاستقلال ، وعسكرياً أيضاً يجب عليها الترابط وعدم الاستقلال ، فالجهاد هو عبادة جماعية ، وهو من الناحية العسكرية أعمال قتالية جماعية الهدف منها هزيمة العدو وحسم المعركة لصالح المجاهدين ، ولا يمكن أبداً هزيمة العدو وحسم المعركة إلا بالترابط والاندماج سوياً ، بالتموين والتجهيز والقتال والمناورة وغيرها من الأعمال القتالية ، لابد أن يكون العمل موجهاً من قيادة مركزية واحدة ، ليؤتي العمل ثماره ، ومن أكثر الأخطاء شناعة أن تعمل جماعات متفرقة في قطاع واحد ليس بينها ترابط أبداً ، فيحدث من هذا عدم تحقيق أية جماعة من الجماعات لأي هدف من أهدافها العسكرية ، لأن أعمال كل جماعة تؤثر سلباً على الجماعة الأخرى العاملة في نفس القطاع إذا لم تكن الجماعة الأخرى مستعدة لردة فعل العدو على مثل هذه الأعمال والمبادرات ، فالعمل حتى يسير إلى الأمام لابد من الترابط وعدم الاستقلال ، ربما يستساغ أن تستقل كل جماعة بالتموين والتجهيز وإعداد المخازن لترفع عن كاهل القيادة عبء التموين والتجهيز وإعداد المخازن كنوع دفع للعمل ، بشرط أن تطلع القيادة على تفاصيل هذه المبادرة ، وإذا كانت هذه المبادرة ستدفع الجماعة إلى الاستقلال ببعض الأعمال القتالية دون التنسيق مع القيادة ، فالاستقلال بالتجهيز والتموين وإعداد المخازن يصبح محذوراً شرعياً قبل أن يكون محذوراً عسكرياً ، لأننا شاهدنا أن الانشقاق والفرقة تبدأ أولاً بالاستقلال بالتموين والتجهيز ثم تتطور إلى إيجاد قيادة وعمل مستقل لا يزيد الأمة إلا وهناً ، فيجب أن نكون حذرين ونزيل أي سبب من أسباب الفرقة والخلاف .
أما الشق الثاني من السؤال عن كيفية الترابط والتنسيق ؟ .(66/124)
فالجواب على هذا السؤال لا يكون قبل دراسة الواقع ، فربما يكون الترابط والتنسيق عن طريق مجلس للقيادة يحوي مجلس الشورى ، وربما تكون الأوضاع لا تساعد على ذلك فيكون الترابط والتنسيق عن طريق الرسل والرسائل الشفوية ، وربما تكون الأوضاع تسمح بالاتصالات السلكية واللاسلكية أو الرسائل المكتوبة أو الأشرطة الصوتية أو الأفلام المرئية أو أي أسلوب من أساليب التنسيق والترابط ، ولكل وضع ما يناسبه من أساليب الترابط والتنسيق ، ولا يوجد استراتيجية عامة يمكن أن ينبه عليها إلا أن نقول بأن الترابط والتنسيق لن يكون أبداً إلا بأن تتنازل الجماعات العاملة في الميدان عن كثير من آرائها لتصل إلى قيادة موحدة يسمع لها الجميع ويطيعون يمكنها توجيه العمل وتنسيقه ليصل الجميع إلى نصر مؤزر كما وعد الله سبحانه وتعالى وهو القوي العزيز .
=================(66/125)
(66/126)
الحرب الصليبية على العراق -الحلقة العاشرة
كان حديثنا في الحلقة الماضية عن التجهيزات التي يحتاجها المجاهد في أرض المعركة ، وتناولنا في نفس الحلقة شيئاً من الحديث حول المهارات الميدانية والقتالية والبدنية ، وقلنا أن هذه المهارات من الضروري للمجاهد إتقانها أو الوصول إلى مرحلة قريبة من الإتقان قبل دخول المعركة ، ونكرر أن مسألة إتقان هذه المهارات العسكرية ليست متعلقة فقط بالدخول إلى المعركة ، فهي تكليف شرعي من الله سبحانه وتعالى الذي قال ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) ، فمسألة الإعداد بالمستطاع هي تكليف شرعي منفصل عن قرب دخول المعركة أو بعده ، ولابد للعبد أن يسقط هذا الوجوب بالإعداد بالمستطاع أو أنه مرتكب للمحذور ، ومن استطاع أن يعد شيئاً ودخل المعركة قبل إعداده فهو مقصر في فعل المأمور ، هذا إذا كان قرار دخوله للمعركة بيده وليس بيد العدو إذا داهمه ، فلا يقل أحد إذا داهم العدو بلاد المسلمين بأني لم أعد من القوة ما استطعت ولن أدفع العدو حتى أعد ما استطعت ولو بعد سنين ، فهذا كلام غير مقبول شرعاً فالفرض الواجب على الفور إجماعاً هو دفع العدو الصائل بالإمكان ، ولا يعني طلب الإعداد بالاستطاعة أن نتكلف مالا نستطيع ، كأن يقول قائل نحن لن نقيم الجهاد حتى نمتلك طائرات مقاتلة أو صواريخ اعتراض أو صواريخ عابرة نضاهي بها العدو ونكافأه ، نعم هذا الأمر مشروع ، إلا أنه في مثل حالنا اليوم تكليف بما هو فوق المستطاع ، والله كلفنا بالمستطاع ، فمن استطاع شيئاً وقصر في اتخاذه فهو مقصر ، أما من لم يستطيع أن يعد إلا باليسير فقد فعل المأمور بإذن الله تعالى ، ولذا فإن كثيراً من شباب الأمة اليوم يريد الجهاد ويتمنى أن يلحق بساحاته ، إلا أنه لم يعد ما استطاع ، ولو عدنا إلى الحلقة التاسعة من هذه السلسلة لوجدنا أن كثيراً ممن يريدون الجهاد على استطاعة أن يعدوا كل ما جاء فيها بل وأضعافها ، إلا أنهم حتى الآن لم يفعلوا شيئاً يبرئ ذممهم أمام الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وننبه أن قصرنا في الحديث في تفسير الآية السابقة على القوة العسكرية ليس تخصيصاً للقوة في الآية بالقوة العسكرية فقط ، ولكنه حديث عن أهم أنواع القوة التي خصصها الرسول بقوله ( ألا إن القوة الرمي ) بعد قراءته للآية كما جاء في مسلم من حديث عقبة ( ، وأول أسئلة اليوم هو :
س 29: هل يقبل عسكريا أن يدخل العدو بمثل هذا العدد في عمق الدول الإسلامية بين شعوب سبع دول هي العراق والسعودية والكويت وإيران وتركيا وسوريا والأردن ، وتعداد سكان هذه الدول على الأقل 120مليون نسمة من السنة ، فعلى هذا العمق هل يمكن للعدو أن ينجز مهامه العسكرية بنجاح ؟ .
ج 29 : من المفترض أن يكون الجواب من الناحية العسكرية لا ، ولكن من حيث الواقع الجواب نعم ، ليس لأن العدو قوي كلا ، ولكن لأننا غثاء كغثاء السيل وأصاب قلوبنا الوهن ، والرقم الذي جاء في السؤال لا يساوي شيئاً على أرض الواقع ، فهذا الرقم مختزل بعدد قليل من الخونة الذين يعتلون سدة الحكومات في المنطقة ، فهم قد جردوا هذا العدد من كل معاني القوة وخلعوا أنيابه وقلموا مخالبه ، وفرضوا عليه إجازة مفتوحة وضعوه فيها على هامش الأحداث ، وليس هذا غريباً فقد قال النبي ( ( ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا) .
فحينما يسأل سائل عن إمكانية دخول العدو وسط المسلمين ليصنع ما شاء بالمسلمين من غير أن يجد من يوقفه فهذا غير مقبول عقلاً ، أما من الناحية العسكرية فلا يمكن للعدو أبداً أن يقرر أن يخوض حرباً على هذا العمق دون أن يوجد قواعد له تسهل هذه المهمة ، ولو لم يجد العدو هذه القواعد لما خاض الحرب ، فلو سأل سائل هل يمكن أن يدخل العدو إلى بلد من بلدان المسلمين بالإنزال الجوي ثم يخوض حرباً ينتصر فيها ؟ ، لقلنا بأن هذا مستحيل عسكرياً ، إلا أن يتمركز بقواعد قوية على حدود هذه الدولة ليخوض الحرب ، ولو عدمت هذه القواعد هل يمكن للعدو أن يخوض الحرب ؟ ، لقنا بأنه لن يستطيع أن يخوض حرب سيطرة ، نعم يستطيع خوض حرب جوية وضربات بالصواريخ ، أو هجمات خاطفة ، ولكن لا يمكن أن يخوض حرب سيطرة حتى يجد من الأراضي المجاورة ما يمكنه من خوض هذه الحرب .(66/127)
فنقول إن أية قوة عسكرية لا يمكن أبداً أن تقدم وحداتها القتالية دون تأمين خطوط الدعم اللوجيستي لها ، والدعم اللوجيستي هو كافة الإمدادات التي تحتاجها القوات في الميدان من دعم عسكري ودعم في التموين ودعم طبي وإداري وغيره ، ونلاحظ أن الدعم اللوجيستي بالنسبة للقوات الأمريكية يمثل ثلاثة إلى واحد ، أي أن كل جندي في الميدان يحتاج إلى ثلاثة جنود للقيام بمهام الدعم اللوجيستي له ، فإذا كان الصليبيون قد أدخلوا للمعركة 100 ألف جندي كما يزعمون فهم بحاجة إلى 300 ألف آخرين لدعم هذا العدد داخل الميدان ، فمن خلال معرفة استراتيجيتهم في الدعم اللوجيستي يتبين أن العدد الذي زعموا أنه داخل العراق عدد مبالغ فيه ، أو أن استراتيجيتهم في الدعم لم تطبق وهذا سيكون له أثر كبير لو استمرت الحرب لشهر فقط .
ولكن نقول إذا كان العدد 50 ألف جندي صليبي في الميدان فمعنى هذا أنهم بحاجة إلى 150 ألف جندي للقيام بالدعم اللوجيستي لهذا العدد ، وهل يمكن أن يؤدي هذا العدد مهامه بالدعم اللوجيستي من داخل العراق ؟ ، من المضحك أن نقول نعم ، ولكن من الغباء أيضاً أن نظن أن هذا العدد يمكن أن يقوم بالدعم من الأراضي الكويتية فقط فهي الوحيدة التي أعلنت وبصراحة أنها مع هذا الغزو للعراق وقد فتحت حدودها للغزاة ، فهل الكويت يمكن أن تستقبل كل هذا العدد أو حتى ربعه لينطلق الدعم من الأراضي الكويتية عبر منفذ حدودي يعادل 240 كلم فقط ؟ بالطبع لا لم تكن الكويت كذلك ، بل كان الدعم اللوجيستي قادماً من الأردن والسعودية والكويت وتركيا وقطر والبحرين وغيرها من الدول ، ولا نريد الإطالة للتدليل على ذلك بذكر بعض الوقائع العسكرية والسياسية ، لأننا نظن أن هذا أوضح من أن يبين فالكل متفق على ذلك ، من هذا يتبين أنه لا يمكن أن يقبل عسكرياً أن تخوض دولة حرباً ضد دولة أخرى دون أن تحتاج إلى أراضي الدول المجاورة لخوض هذه الحرب .
أما الجواب من الناحية الأخرى حينما نتحدث عن الشعوب وعن هذا التعداد الإسلامي المحيط والمعايش لميدان المعركة ، فنقول إن من الذل حقاً أن يحيط هذا العدد بالعدو ولا يملكون إلا أن يتفرجوا على إخوانهم العراقيين وهم يقتلون كما تفرجوا ويتفرجون على إخوانهم الفلسطينيين ، وإن كان هذا من شيء فإنه أول ما يكون بسبب ترك الجهاد الذي لا عز لنا إلا به كما صحت بذلك الأحاديث .
نعم لا ننكر أن العدو يتفوق بأسلحة تقتل آلافاً من الناس دفعة واحدة ، ولكن هذه الأسلحة لا يمكن أن يكون لها مفعول حينما يكون هم الأمة هو قتل أفراد هذا العدو، فالأمة لن تحارب العدو بجيش يمتلك الأسلحة فهي لا تمتلك الجيش الذي يمثلها، إن الجيوش التي في الأمة لا تمثل الأمة إنما تمثل الحكام فقط ، فهي تحمي عرش الحاكم ولو قتلت الشعب بأكمله ، وبإحصائية بسيطة يمكن أن نكتشف أن كل جيش من جيوش الدول الإسلامية قد قتل من شعبه وجرح واعتقل أكثر مما قتلهم من العدو بألف ضعف ، والحروب العربية خاضتها الجيوش العربية ضد بعضها بنسبة تصل إلى 96% ولم يصب العدو من هذه الحروب إلا 4% فقط .
هذا الأمر يجعلنا نخاطب الأمة بمعزل عن حكوماتها وجيوشها التي لا تمثلها وهي خنجر في خاصرتها ، ودمية بيد الأعداء ، ولكن من هو السبب لوصول الشعوب إلى هذه الحال ؟ لاشك أنه الوهن وهو حب الدنيا وكراهية القتال كما قال من لا ينطق عن الهوى محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
ولسنا في هذه الحلقة سنحلل الأسباب المتراكمة منذ قرن من الزمان لهذا الذل ، ولكن ما نريد أن نصل إليه أننا لا نطالب الحكومات ولا الجيوش بشيء ضد العدو ، ولا نعقد عليها آمالاً لتدافع عن الأمة ، ولكن نطالبها فقط أن تكف عن حرب المسلمين ويخلوا بينهم وبين عدوهم فقط ، ثم نطالب الشعوب ألا تعتمد على هذه الحكومات وهذه الجيوش التي ما عرف عنها إلا حرب الإسلام والشعوب الإسلامية ، فمطالبة الحكومات بالوقوف أمام العدو عسكرياً ، أو إعانة إخواننا في هذا المكان أو ذاك ، أو إعلان موقف حتى سياسي ضد العدو ، كل هذا سذاجة لا يقبلها عقل عرف أن الأعداء هم من بني جلدتنا ، وأن مصاب الأمة من حكوماتها وجيوشها .(66/128)
وكما أننا نطالب الأمة بألا تعتمد على الحكومات بشيء ، فإننا نطالبها بأن تهب لدفع العدو الصائل بنفسها ، ودفع العدو الصائل بالنسبة للأمة لن يكون إلا عن طريق حرب العصابات ، فإذا كنا نقول بأن العدو الصليبي دخل العراق ويحيط به 120مليون نسمة على الأقل ، فهل تعرف الأمة ما يعني هذا الرقم لحرب العصابات ، هذا الرقم لن يكون قوة ضاربة في حرب عصابات فحسب ، بل إنه وقود حرب استنزاف لن يتمكن الصليبيون بكل ما ملكوا أن يقفوا أمامها ، بالطبع فإن أحداً لا يتصور أن نقول أن هذا العدد لابد أن يشارك كله في حرب عصابات ، ولكن نقول بأننا نحتاج إلى عشر عشر عشر معشار هذا العدد ، ليصبح نصيبنا 12 ألف مجاهد ، ولا يغلب اثنا عشر ألف من قلة ، وإذا لم تتمكن المنطقة من إخراج هذا العدد فلا خير فيها وهي أمة لا تستحق السيادة ، والذل والموت سنة من الله تقع عليها إذا تركت الجهاد ، فهذا العدد هو رقم صعب بالنسبة للعدو لو وجد من يقاتله بأسلوب حرب العصابات التي قدمنا في الحلقات الماضية طرفاً منها ، فمهما تكن قوة العدو وتفوقه التسليحي فإنه لن يستطيع أن يقاتل رجالاً بأسلوب العصابات ، لأنه سيكتشف أنه يقاتل أشباحاً أو هواء لا طعم له ولا رائحة ولكنه موجود .
فنقول لو أن شعوب المنطقة عملت بأسلوب عسكري يناسب قوتها لأمكنها أن ترقى بنفسها ، أما إذا كانت الشعوب تنتظر يسوعها المخلص ، أو تنتظر حاكماً يتحول إلى رجل ليعلن أنه سيحارب العدو في سبيل الله ، أو تنتظر أن تخرج لنا بين عشية وضحاها قوة ضاربة تهزم العدو ، أو أن يسمح لنا العدو عن طريق عملائه الحكام أن نعد أنفسنا لحربه بما يقارب قوته ، فنظن أن هذا تخدير للأمة وتهميش لها ، ولكن لكل داء دواء حتى في العلوم العسكرية ، فدواء العدو الصليبي الذي يمتلك القوة و التكنلوجيا ، أن يجرد من كل هذه القوة بإدخاله في ميادين قتال لا يمكنه من استخدام أسلحته ليجد نفسه هزم بأسلوب حرب غير متوازية ، كما هو حال الاتحاد السوفيتي ، الذي كان يمتلك السلاح النووي والسلاح الكيماوي ، ويمتلك أعتى أسلحة الجو في وقته ، ولكن المشكلة أنه لم يستطع أن يمتلك القدرة على تحديد المجاهدين لضربهم بهذه الأسلحة ، فتم إنهاكه عندما أجبر على الحرب التقليدية وعلم أنه خاسر وأن أسلحته لن تفيده شيئاً أمام عدو لا يظهر ، وهذا الذي دفع اليهود أن يعطوا الفلسطينيين الحكم الذاتي ، فليس قصدهم سياسياً عندما وافقوا على إعطاء الفلسطينيين حكماً ذاتياً ، ولكن الهدف في المقام الأول عسكري ، فمن الصعب بمكان أن يقاتل اليهود الفلسطينيين وهم مختلطون معهم في كل مدنهم ، فالاختلاط والتخفي بينهم يعطل كل الأسلحة اليهودية ، ولكنهم قرروا أن يضحوا بمناطق للحكم الذاتي ، ليتمكنوا من حشد جميع الفلسطينيين فيها ليتمكنوا من حصارهم وضربهم بالطائرات والمدفعية واستخدام كافة أنواع الأسلحة ضدهم ، ويوم أن رضي الفلسطينيون بالتمايز عن مناطق العدو فقد خسروا كثيراً وهو ما نشاهده في جنين وطول كرم وغزة وغيرها من المناطق الفلسطينية التي تتعرض للحصار والقصف ، ولو كان الفلسطينيون بين اليهود وفي مدنهم لما أمكن حصارهم ولا قصفهم ، كما كانوا قبل الحكم الذاتي .
إذاً لابد أن نوصل العدو الصليبي إلى هذه المرحلة وهي أن نقاتله من حيث لا يشعر ، العدو الصليبي في العراق لا يمكن له أن ينفصل عن الناس لأن مهمته هي السيطرة على العراق وإدارة شئونها ، وهذا يقتضي منه أن يختلط بالمسلمين ، واختلاطه بهم لن يمكنه من استخدام كل أساليبه العسكرية ضد من أراد قتاله ، فهو حجم نفسه ، لأن مهمته التي فرضها على نفسه ألزمته بأن يكون في تماس دائم مع المسلمين ، وبهذا فإن حرب العصابات ستنهكه كثيراً ولن يتمكن خلالها أن يدافع عن نفسه بآلته العسكرية بشكل كامل .(66/129)
نعم سيقتل منا عدداً ربما يكون كبيراً أو بأسلوب بشع ، ولكن هذا هو ثمن العزة ، سيؤسر منا عدد ولكن هذه هي ضريبة رفع ذل لسنين مضت ، سيجرح منا آخرون ولكن يبقى أن جروحنا التي نزفت قديماً ستتوقف عن النزيف كلما زادت جراحنا في الميدان ، ونزيف جروحنا في الميدان ستقل إذا زاد نزيف جروح العدو ، وعندما تزيد جراح العدو ستندمل جراحنا في كل مكان ، ومن أبى أن نجرح العدو فهو يرضى بأن يستمر نزيف جراحنا ، يقول تعالى ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون ) قال المفسرون دعاكم لما يحييكم هو الجهاد أو الحرب كما ذكر القرطبي ، فالجهاد هو حياة الأمة ، فمن سيقتل في الجهاد سيكون دمه سدّاً أمام إراقة دماء مئات الآلاف من أبناء الأمة بعده ، فالجهاد هو حياة الأمة ، وحينما نجاهد فإن قتلانا أقل بكثير من قتلى الأمة إذا تركت الجهاد ، والتاريخ شاهد على ذلك ولا نطيل بسرد الوقائع ، ولكن نقول بأن الأمة عندما تركت الجهاد اجتاح التتار العراق فقتلوا مليون مسلم ، وعندما رفع العلماء راية الجهاد مع الملك المظفر قطز وباعوا أنفسهم لله ، قاتلوا فلم يقتل منهم ألف وانتصروا على التتار الذين جروا أذيال الهزيمة ، ولو أن طائفة من أهل العراق باعت نفسها لله وقاتلوا التتار بصدق كصدق أهل مصر لنصرهم الله تعالى ، ولو قتل منهم الكثير فلن يصل القتل فيهم على أسوأ الأحوال إلى ما وصل إليه عندما تخاذلوا عن الجهاد ورضوا بالسلامة واجتاحهم التتار ، فالجهاد حياة الأمة ، وحينما تترك الأمة الجهاد فسوف يصيبها في كل قطر ما أصاب إخواننا في فلسطين وفي كشمير و أفغانستان والشيشان و العراق وفي غيرها من ديار الإسلام ، وسيقول كل قطر إذا داهمه العدو أكلت يوم أكل الثور الأبيض .
فخلاصة القول بأن دخول العدو إلى هذا العمق وشن العدوان على المسلمين لايمكن من الناحية العسكرية إلا عندما وجد من الخونة من يعينه على مستوى الحكومات والجيوش ، أما من ناحية الشعوب فإنه لن يستطيع إذا ما نهضت الشعوب وثارت ثورة رجل واحد لقتال العدو بأسلوب حرب العصابات واستنزفته وقعدت له كل مرصد لتقتله حتى يفر هارباً من بلاد المسلمين .
س 30 : وهل يمكن للغزاة أن يستطيعوا منع مشاركة عشرات الآلاف من أبناء الدول المجاورة ، ويتمكنوا من إحكام غلق الحدود العراقية مع هذه الدولة والتي تبلغ 4000كلم تقريباً ؟ فكم هي حاجتهم العسكرية والاقتصادية لإحكام غلق هذه الحدود ؟ .
ج 30 : لا شك أن الحرب التي ننشدها مع العدو الصليبي على أرض العراق هي حرب العصابات لاستنزافه ، وحرب العصابات حتى نستنزف بها العدو الصليبي لابد أن نضخ لها أعداداً من أبناء الأمة ليشعلوا العراق ناراً وجحيماً عليهم ، فنحن بحاجة إلى الآلاف من أبناء الأمة لدحر العدو الغازي ، فالتدفق البشري الدائم له أثر كبير على حسم المعركة بأسلوب حرب العصابات ، فالأمريكان أرسلوا لغزو فيتنام 500 ألف جندي ، ولكن نصف مليون جندي أمريكي لم يصنعوا شيئاً مع استمرار تدفق الفيتناميين لأرض المعركة الذين قتل منهم مئات الآلاف ، رغم الفارق الخرافي بين القوة الأمريكية والفيتنامية ، ولم يكن الفيتناميون يمتلكون أفضل من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة ، ولكن عامل التدفق البشري لتموين الحرب أدى إلى عجز الأمريكيين عن مواصلة المعركة لأنها استنزاف هائل لم يكن في حسبانهم أن يصابوا بمثله ، فرغم عنفهم وبشاعتهم في القتل والحرق إلا أنهم فقدوا كل الأساليب العسكرية لحسم الصراع لصالحهم ، فقد وصلوا إلى مرحلة تيقنوا معها أنهم يقاتلون الأشباح ، فلم يكن للفيتناميين لون ولا طعم ولا رائحة ، ويتدفقون إلى أرض المعركة تباعاً حتى انهار الأمريكيون ، ونحن اليوم بحاجة إلى هذا النوع من التدفق البشري من جميع الدول الإسلامية وبخاصة الدول المجاورة للعراق ، لنشن حرب عصابات نستنزف بها العدو بشكل كبير جداً ، لندحره ليجر أذيال الهزيمة ، فإذا دحر الغزاة من العراق ، فهم سيدحرون في كل دول المسلمين بإذن الله تعالى .
ومشاركة الآلاف من أبناء الأمة ليست بالمعجزة التي لا يمكن أن تتحقق على أرض العراق ، وهي يسيرة بإذن الله تعالى إذا حمل ثلة من أبناء العراق هم دفع هذا العدو الصائل وكانوا طليعة وقاعدة للأمة لتدفع بشبابها إلى هذه المعركة التي ستكون حاسمة ضد الغزاة ، ولا يمكن للعدو الصليبي أن يتمكن من منع شباب الأمة من دخول العراق لقتاله بسهولة ، فلو أراد ذلك فمعنى هذا أنه يحتاج إلى جيش كامل لغلق الحدود فقط .(66/130)
فإذا كانت الحدود العراقية مع الدول المجاروة تبلغ 4 آلاف كلم تقريباً ، فلو أراد أن يحمي هذا الشريط الحدودي الطويل بعمق 30 كلم فستكون المساحة 120.000كيلو متر مربع وهذه المساحة تعادل ربع مساحة العراق تقريباً ، فهل سيتمكن من غلق هذه الحدود ؟ الجواب بالطبع لا لن يتمكن وخاصة في المناطق الوعرة كالمناطق الشمالية والشمالية الشرقية ، فحاجتهم العسكرية البشرية لإحكام غلق هذه الحدود مع تزايد الضغط عليهم بالإمكان أن تصل إلى أكثر من 200 ألف جندي حسب استراتيجية انتشار الوحدات العسكرية المعمول بها ، يمكن أن يقللوا هذا العدد باستخدام التكنلوجيا كرادارات المراقبة أو الاستشعار أو الدوريات المروحية ، ولكن كل هذه الأساليب رغم وجود حلول عسكرية للتغلب عليها إلا أنها مكلفة لهم من الناحية الاقتصادية ، وبقاؤها لمدة سنة يمثل استنزافاً ضخماً لهم ، فالمحصلة في نهاية الأمر أنهم لن يتمكنوا من إغلاق هذا الشريط الحدودي بإحكام إلا أن يتحول هو إلى هدف رئيس يجب العمل عليه .
س 31 : وما مدى استفادة المسلمين العسكرية من هذا العمق ؟ وما مدى الاستفادة من طول هذا الشريط الحدودي المتاخم للعراق ؟ .
ج 31 : إن الاستفادة العسكرية من هذا العمق استفادة عظيمة جداً من جميع النواحي سواء العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية أو الشرعية أو التعبوية ، فالبوسنة مثلاً كانت تقع في قلب أوروبا وجميع الدول المحيطة بها دول نصرانية كحال الصرب ، فكان التدفق العددي للمسلمين للدفاع عنها صعب جداً ، وبسبب عزلتها عن قلب العالم الإسلامي أثر ذلك عليها على جميع المجالات في مواصلة الصراع .
أما مدى الاستفادة من طول هذا الشريط ، فأوضحنا في الإجابة السابقة أنه يمثل كابوساً على الغزاة ، فهم بحاجة إلى قوة عسكرية هائلة وقوة اقتصادية ليتمكنوا من ضمان أمن هذا الشريط ، ولو استطاع المسلمون أن يوسعوا الجبهة على الصليبيين لتبدأ الهجمات على مراكزهم الحدودية ، فإن هذا الأمر سيحول المعركة من داخل العراق إلى حدود العراق ، وهذا الأمر سيتيح تزايد نشاط المجاهدين داخل العراق ، وبالإمكان أن يخفف الضغط على المجاهدين في الداخل بضرب المراكز الحدودية بأي أسلوب من أساليب العمليات ، فالشريط الحدودي الطويل سيكون حملاً ثقيلاً على الغزاة إذا أحسنا توظيفه ، ولكن هذا المأزق الذي سيقع به الصليبيون سيجبرهم على اتخاذ إجراء مماثل للإجراء المتخذ من الهند وبقية الدول ضد باكستان في تحميلها المسئولية عن كل فرد يدخل من المجاهدين الكشميريين من باكستان إلى الهند ، فستقول أمريكا إن أية دولة يدخل منها المسلمون إلى العراق ستتحمل المسئولية كاملة وقد تعاقب إذا لم تحكم غلق الحدود ، ومن هنا سينشأ السؤال الثاني والثلاثون وهو :
س 32 : قد يلجأ الغزاة في إغلاق الحدود ومنع تحرك الشعوب الإسلامية لمناصرة العراق ، قد يلجئون إلى الحكومات العميلة المحيطة بالعراق لمنع التحرك وعبور الحدود ، ولكن في هذه الحالة هل يمكن توسيع نطاق الحرب وضرب القوات الأمريكية أو العميلة التي تعمل على إغلاق الحدود ومنع مناصرة العراق وكسر الحملة الصليبية على أرض العراق ؟ .
ج 32 : أولاً هذا الاحتمال هو الاحتمال الأكثر وقوعاً ، فكما فتحت الدول العميلة المحيطة بالعراق أراضيها وبحارها وأجوائها للعدو ليغزوا العراق ويقتل المسلمين ويحتلها ، فهي حتماً ستكمل المشوار وستغلق حدودها أمام المسلمين لمنع دخولهم إلى العراق بأي شكل من الأشكال ، ليطمئن المحتلون ويستوطنوا في العراق ليبدءوا منها إكمال حملتهم الصليبية على دول أخرى ، حتى يصلوا إلى الدول العميلة نفسها ، فهذا الاحتمال ليس ضرباً من الخيال ، بل هو احتمال وارد جداً ، فالعدو الصليبي لن يتمكن من إغلاق الحدود ، ولن يحاول أن ينجر إلى معركة استنزاف لغلق الحدود ، لذا فإنه سيجبر دول العملاء راغمة أن تطور من قدراتها لحماية حدودها من الناحية التكنلوجية و البشرية ، كما أجبر الدول المحيطة بفلسطين على ذلك ، فالمجاهد حينما يتوجه إلى فلسطين تقتله الجيوش العربية الحامية لليهود ، فيموت قبل أن يصل إلى فلسطين ، وسيتكرر هذا الحال مع العراق أيضاً .
ولكن هل تبقى هذه معضلة ليس لها حل أمام الشعوب الإسلامية ، فبحجة عدم قتال الجيوش العربية أصبحت الشعوب مكتوفة الأيدي تشاهد هذا الحصار ولا يمكنها أن تصنع شيئاً لإخواننا في فلسطين ، حصار الدول العربية للشعب الفلسطيني لم تقل الدول العربية العميلة إنه جاء بناء على عمالة لليهود أو ردة عن الدين ، لا ولكنهم قالوا بأنه جاء بناء على اتفاقية سلام موقعة مع اليهود نلتزم فيها لليهود بمنع التسلل من و إلى فلسطين ، وهذه الاتفاقيات الخبيثة ، أقنعت الشعوب الإسلامية لتكتفي بالفرجة على حصار المسلمين في فلسطين ، وغداً سوف نسمع اتفاقيات جديدة كاتفاقية وادي عربة واتفاقية كامب ديفد التي حاصرت الفلسطينيين ، سنسمع غداً باتفاقيات عربية أخرى بأسماء أخرى تلتزم فيها دول المنطقة المحيطة بالعراق بحماية المحتل الصليبي داخل العراق وإبقاء العراقيين تحت الاحتلال والحصار .(66/131)
والسؤال هو هل ستبقى هذه الاتفاقيات المحتملة سواء كانت علنية أو سرية ، هل ستبقى حاجزاً منيعاً أمام الأمة لدحر هذا العدو الصليبي في العراق ، كما كانت اتفاقيات مماثلة سداً منيعاً أمام المسلمين لغياث الأقصى وفلسطين ؟ .
هذا السؤال يحتاج الجواب عنه إلى وقفة جادة من الأمة بجميع فئاتها ، ليعلنوا الحرب على الصليبيين ومن يحمي الصليبيين ، فإن رضا الأمة وإقرارها بمثل هذه الاتفاقيات يعطي للعدو الحصانة عندما يحتل بلاداً تلو بلاد يضمن أن الشعوب الإسلامية لن تصنع شيئاً وسوف تكتفي بالفرجة حتى يأتيها الدور .
فأول خطوات كسر هذا الحاجز ، ما الحكم الشرعي في الجندي الذي يحمى الصليبيين في أرض العراق ويمنع أبناء الأمة من الدخول لقتالهم ودفعهم عن أرض العراق ؟ ما حكم قتاله إذا منع الأمة من مناصرة إخوانهم في العراق ؟ ما حكم من قتل الجندي وما حكم من يقتله الجندي إذا أراد الجهاد في العراق ؟ وما حكم الحكومة العراقية التي سينصبها الصليبيون عاجلاً أو آجلاً ؟ وهل وجود حكومة عراقية يعطي للصليبيين الشرعية في احتلالهم للعراق ؟ وما حكم الجنود العراقيين الذين سيدافعون عن هذه الحكومة المنصبة من قبل الصليبيين ؟ وما حكم قتل الرافضة الذين يشكلون الآن درعاً للصليبيين ويعينونهم على قتال المسلمين ، كما هو الحال في البصرة والنجف وكربلاء وغيرها من مدن الجنوب ؟ .
إن تأصيل هذه الأحكام الشرعية للأمة الإسلامية اليوم هو أول خطوات دحر العدو الصليبي ، الذي سيحاول جاهداً في الأيام القادمة أن يتقي بالعراقيين والحكومات العميلة حول العراق ضربات المجاهدين والأمة الإسلامية ، فسيتركز حرصه في الأيام القادمة لتعجيل تنصيب حكومة عراقية ، وإعادة الجيش العراقي الذي ستكون أعظم مهامه قتال المجاهدين ، وإبرام صفاقات الخيانة بين الحكومة العراقية العميلة وحكومات المنطقة في احترام الحدود ومنع التدخل في شئون العراق الداخلية ، فتأصيل هذه المسائل الشرعية بين أبناء الأمة هو من أول مهمات العلماء وطلبة العلم لدفع هذا العدو الصائل عن بلاد المسلمين وعن العراق خاصة ، ونحن بدورنا نوجه هذه الأسئلة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد من العلماء وطلبة العلم أجيبوا ولا تخافون في الله لومة لائم ، نحن لا نريد أن يختلف اثنان من أبناء الأمة في حكم قتال العدو الصليبي داخل العراق ، ولا في حكم الحكومة العراقية العميلة التي ستنصب ، ولا في حكم قتال جيشها العميل ، ولا في حكم قتل من حمى الصليبيين من قوات الدول المجاورة ، ولا في ردة من ظاهر الصليبيين ورضي أن يكون حامياً لحدود العراق من تدفق المسلمين للجهاد ، لابد أن تؤصل هذه الأحكام وتنشر بكل قوة بين المسلمين في داخل العراق و خارجها ، حتى لا يخرج علينا أبواق الحكومات ليعلنوا أن حكومة العراق الجديدة خلافة راشدة وأن جندها هم جند ولي الأمر ، وأن المواثيق والعهود المبنية على الردة والمظاهرة مواثيق شرعية يجب الالتزام بها، وأن من بذل نفسه من جيوش العملاء وحمى الصليبيين في العراق ومات فهو شهيد، هذه الأقوال وغيرها كثير هي أقوال متوقعة ستصدر من أحبار ورهبان الحكومات ، وكما قالوا في فلسطين فسوف يقال هنا بعشرات الأضعاف ، فلابد من التنبه لهذا الأمر وسد الباب على هؤلاء الخونة والعملاء والصليبيين وتوعية المسلمين بحقيقة الأمر .
هذه الخطوة ستكون كخطوة أولى التي ستفتح الباب أمام أبناء الأمة لتتهافت على العراق لكسر كل الحواجز لضرب العدو الصليبي وطرده ، ولو أدى هذا إلى سحق جنود العملاء ممن يبذلون دماءهم في سبيل الصليب وحماية أبنائه الغزاة .
س 33 : ما مدى الأهمية العسكرية لضرب مؤخرة الجيش الصليبي على حدود الدول العميلة المحيطة بالعراق ؟ .
ج 33 : إن لضرب مؤخرة الجيوش الصليبية على الحدود مع العراق أو داخل الحدود العراقية ، يعد من أفضل الأعمال المربكة لجميع المشاريع الصليبية ، فكما قلنا بأن المؤخرات هي للدعم اللوجيستي، والدعم اللوجيستي يعتبر ثلاثة أرباع أعمال الجيش ، فالجندي المقاتل يحتاج إلى ثلاثة جنود لدعمه ، وهذا يعني أن ثلاثة أرباع أعمال الجيش تتركز في المؤخرة، ومن السهل تهديد المؤخرة لأنها ليست وحدات قتالية بل هي وحدات دعم ، وضربها وقطع الدعم بأي شكل من الأشكال يربك وحدات القتال كثيراً ، التي ربما تضطر إلى تحويل جهودها من القتال في الميدان المتقدم إلى العودة إلى المؤخرات أو إلى خطوط الإمداد لحمايتها ، فضرب خطوط الإمداد وهي عادة ما تكون في المؤخرة أمر مهم جداً ، فتهديد تدفق الدعم يفتح عليهم جبهة جديدة تحتاج إلى قوة منفردة لحمياتها .
فالمهم في هذه الحرب هو توسيع دائرة القتال مع العدو الأمريكي على أوسع نطاق وتشتيت جهوده بكل الأساليب ونشره على أكبر رقعة ، هذا الأمر سيتيح استنزافه بشكل كبير جداً لن يتمكن معه من الصمود كثيراً وسينهار بإذن الله تعالى .
===============(66/132)
(66/133)
الحرب الصليبية على العراق -الحلقة الحادية عشرة
السؤال الأخير من قائمة أسئلة هذه الحلقات والتي عرضناها في الحلقة الأولى ، الجواب عن طرف منه سيكون موضوع هذه الحلقة بإذن الله تعالى ، والسؤال الخامس والثلاثون هو :
س 35 : ما هو المستقبل الديني والعسكري و السياسي والاقتصادي للمنطقة في حال انتصار أي الطرفين في العراق ؟ وماذا نفعل لتجنب هذه الآثار السلبية ؟ .
ج 35 : هذا السؤال يحتاج إلى كلام طويل ، والإجابة عليه هو حديث المحللين في هذه الأيام ، فكل المحللين من علماء شرعيين أو عسكريين أو سياسيين أو اقتصاديين ، يحاولون بشتى الوسائل أن يستنتجوا من الماضي ومن الأحداث الحاصلة معالم المستقبل ، ولا نعني بالحديث عن المستقل أن يكون على طريقة الكهان ، بل إننا نقصد الحديث عن المستقبل المبني على حقائق حالية أو تاريخية ، فهو جزء من التخطيط السليم ودليل على صحة القرار المتخذ بناءً على هذه المعطيات ، وقد لا تكون المعطيات صحيحة بشكل كامل ولكن يبقى أن استيعاب فهم المعطيات المطروحة على أرض الواقع هو أحد أهم مطالب اتخاذ القرار .
قلنا أن الحديث عن المستقبل هو شغل المحللين الشاغل بكافة تخصصاتهم ، وكنا في بداية الأحداث وضعنا السؤال عن المستقبل في حال انتصار أي الطرفين ، لذا فإننا سنتحدث عن المستقبل الذي أثر فيه انهيار الحكومة العراقية ، ولو كانت الحكومة العراقية باقية حتى الآن لتحدثنا عن آثار بقاء الحكومة العراقية أو انتصارها .
ولكننا نقول إن الله ذو حكمة بالغة ، لأن انهيار البعث العربي يعد انهياراً للشعارات القومية الكفرية التي اجتاحت الأمة الإسلامية ، فبعد الشيوعية والقومية العربية والعلمانية والحداثة ينهار البعث العربي العراقي ، لتحل محله الراية الإسلامية التي بقيت صامدة على مر التاريخ لتكون هي البديل للأمة بعدما تيقنت فشل النداءات غير الإسلامية مهما كانت مبادؤها ، فزوال حكومة البعث في العراق ، هو إذان بارتفاع الراية الإسلامية على أنقاضه ، ومن حكمة الله تعالى لو أن البعث انتصر فإن انتصاره سيكون سبباً في انتشار عقيدته ورواجها بين أبناء المسلمين ، ومن الصعب بمكان أن يرفض أبناء الأمة أفكار حزب حقق انتصاراً كبيراً ، إضافة إلى أن الحزب بدأ بتبني التزاوج مع الإسلام حيث تغيرت عباراته من بعثية صرفة ترفض النداءات الإسلامية إلى شعارات ( بعث إسلامية ) ، وهذا من شأنه أن يحدث في حال انتصار البعث شرخاً عظيماً في مفوهم الإسلام الحقيقي لدى الأمة الإسلامية ، فكانت حكمة من الله تعالى أن سد عن الأمة هذا الباب ، وانتصار البعث عسكرياً هو بالتأكيد أقل خطراً من الزحف الصليبي ، ولكنه يشكل خطراً يهدد الأمة في عقيدتها سيصعب على الأمة فيما بعد أن تعلن الحرب ضده ، إلا إذا بدأ بتهديد بقية بلاد المسلمين عسكرياً .
ولحكمة الله تعالى فإن سقوط سلطة البعث العراقي ، فتح أمام الأمة الباب لتسد هذا الفراغ وترفع الراية الإسلامية لتحرر بلاد المسلمين من الاحتلال الصليبي الغاشم ، فما هذه الأحداث إلا مخاض للأمة لتتولد عنها عزة الأمة وكرامتها بالجهاد في سبيل الله تعالى لدحر هذا العدوان الصليبي ، فقد تيقنت الأمة بعد هذا العدوان على العراق بأن الخطر الصليبي عليها لا يقل شراً عن الخطر الصهيوني ، وأنهما وجهان لعملة واحدة ، فأكد هذا العدوان ما كنا ننادي به منذ عقدين من الزمان بضرورة الجهاد ضد الصليبيين فهم الخطر الأكبر على هذه الأمة .
وفي هذه الحلقة لن نتكلم عن تفاصيل المستقبل الديني والعسكري والسياسي والاقتصادي للمنطقة ، ولكننا ورغبة في الاختصار سنحاول أن نشير إلى معالم رئيسة لهذه المجالات ، لنؤكد مقولة الشيخ أسامة بن لادن حفظه الله حينما قال في خطابه الأخير بأن المنطقة مقبلة على اتفاقية مشابهة لاتفاقية ( سايكس بيكو ) لتقسيم المنطقة وهي اتفقاية ( بوش بلير ) ، وأن حرب العراق ما هي إلا إحدى مراحل التغيير التي تراد للمنطقة من جميع جوانبها .
وبالطبع لسنا بحاجة إلى أن نؤكد للمرة الألف بأن العدوان ( الصهيوصليبي ) على الأمة تم التخطيط له منذ عقود وهو قيد التطبيق على كافة مستوياته منذ عام 93هـ ، وهذا العدوان في تطبيقه أو تنفيذ برامجه لم يكن بحاجة إلى مبررات ، فالمبررات التي يريد الصليبيون التغطية بها على حقيقة أهدافهم ، ويروج لها الإعلام الصليبي والعربي كنزع أسلحة الدمار الشامل ، وحرب الإرهاب ، وعدم تهديد الجيران ، والسلام في الشرق الأوسط ، كلها مبررات لا يصدقها إلا مغفل ، وكل من اعتقد أن العدوان ( الصهيوصليبي ) لم يبدأ إلى بعد ضربات سبتمبر فهو لا يفقه من الواقع شيئاً ، ومن ظن أن الضربات هي التي سببت هذا العدوان أو بررت له فهو سابح في بحر أوهام لجي .(66/134)
ونعود للسؤال فنقول إن التوقعات التي نظنها لمستقبل المنطقة على جميع المجالات هي في جملتها توقعات ضد الإسلام والمسلمين في المنطقة ، ليس هذا من باب التشاؤم ، ولكنه ناتج عن قراءة بسيطة في واقع الأحداث اليوم ، لأن الأمة وللأسف بعد أن رضيت بالركون إلى الدنيا وتركت الجهاد ، أصبح العدو هو الذي يدير شئونها في كافة مجالاتها سواء كانت الإدارة مباشرة أو بالوكالة ، فذكرنا للواقع المؤلم للأمة ليس من باب التثبيط أو التشاؤم ، ولكنه من باب حض الأمة على رفض هذه المذلة التي لا يرضاها كفار العرب لعروبتهم ، فضلاً أن يرضاها من أنعم الله عليه بالإسلام ، ولا يكون الرفض لهذه المذلة إلا برفع راية الجهاد ، فلن تضرب شجرة هذا الدين جذورها في أرضنا ، حتى تسقيها الأمة من دماء أبنائها كما سقاها الأولون فقامت لهم، ولن يقوم لنا ما قام للأولين ، إلا بأن نبذل ما بذله الأولون .
ولنتمكن من عرض توقعاتنا لمستقبل المنطقة يمكن أن نفصل الإجابة لنبدأ بأول ما ورد في السؤال وهو :
المستقبل الديني المتوقع للمنطقة :
لقد عرضنا في الحلقة الثانية من هذه الحلقات الدوافع الأمريكية لحربها على العراق ، وذكرنا بأن الدافع الأول والأهم هو الدافع العقدي ، وقسمنا هذا الدافع إلى ثلاثة أقسام ، قسم شكلته العقيدة البروتستانتية المتطرفة التي تعتقد أنها تقاتل باسم الرب لنشر الخير ودحر الشر تمهيداً لمعركة هرمجدون ، وقسم ثاني شكله التزاوج بين العقيدتين البروتستانتية والصهيونية لتنجب مولود السفاح الخبيث الذي تبنى قيام دولة إسرائيل الكبرى وتهجير اليهود إليها تمهيداً لعودة اليسوع المخلص ، وقسم ثالث تشكل من رغبتهم في الحفاظ على مصالحهم وأهمها أمن إسرائل الكبرى ودحر ما أسموه بالشر وهو الأصولية الإسلامية في المنطقة العربية ، هذه هي الأقسام الثلاثة التي ذكرناها في الحلقة الثانية تحت الدافع العقدي لشن هذه الحرب على العراق .
ولن يكون حديثنا في هذه الحلقة عن المستقبل الديني للمنطقة تكراراً لما جاء في الحلقة الثانية ، ولكننا سنحاول أن نسلط الضوء على القرارات المتخذة بناء على هذه الدوافع ، وكل التطورات الحاصلة والقرارات المتخذة في هذا المجال مبنية على الأصول الثلاثة التي ذكرناها قبل قليل .
مستقبل الخطر الصليبي : -
إن الكنيسة الصليبية على كافة مذاهبها البروتستانتية والكاثوليكية والأرثذوكسية ، لم تكن غائبة عن الأحداث ، فكما كانت الحملات الصليبية على المسلمين تحشد من الكنيسة وتدعم من الكنيسة وتنطلق من الكنيسة ، فهي اليوم كذلك إلا أنها من وراء الكواليس حتى لا تشوه وجهها ( التبشيري ) الذي يزعم رفض الحروب والدمار تحت أي مبرر .
إننا ومهما طال بنا الزمن فلن ننسى إطلاق الكنيسة قديماً للحروب الصليبية على الإسلام ، ولن ننسى محاكم التفتيش في الأندلس ، ولن ننسى موقف الكنيسة الأرثذوكسية بدعم حرب الاتحاد السوفيتي على أفغانستان ، وإن كان السوفييت في ذاك الوقت لا يعترفون بالأديان ، إلا أن الكنيسة لعبت دوراً في التقارب معهم على دماء المسلمين ، وجاءت الإبادة الصربية لمسلمي البوسنة فلعبت الكنيسة الأرذوكسية من مقرها في ليونان دوراً كبيراً في هذه الجرائم البشعة ، وجندت 70 ألف متطوع للمشاركة في الإبادة الجماعية للمسلمين ، وكذلك فعلت في حرب الشيشان الأولى وتفعل في حرب الشيشان الثانية .
ولم تكن الكنيسة البروتستانتية أقل شراً من الأرثذوكسية فهي التي دفعت عصابة البيت الأسود إلى شن حرب صليبية على الإسلام منذ عام 1393هـ وحتى يومنا هذا ، ساندتها الكنيسة الكاثوليكية من الفتيكان في شن هذه الحروب وإشعال العالم بحروب تفسح المجال أمام بعثات التنصير ( التبشير ) لتنطلق في أرجاء المعمورة ، ولن ننسى يوم أن سمع بابا الفتيكان بوش الحقير يعلنها حرباً صليبية تبدأ بأفغانستان فهب ذلك العجوز قاتله الله ، ليقوم بزيارات مكوكية لجميع الدول المجاورة لأفغانستان ليحشد التأييد لهذه الحرب الصليبية ، ومن أجلها قدم التنازلات للكنيسة الأرثذوكسية التي طالبت بالاعتذار منه للحروب التي شنتها الكنيسة الكاثوليكية ضد الأرثذوكس ، وقدم التنازلات واعتذر ليدخل الدول الواقعة تحت رعاية الكنيسة الأرثذوكسية ، فقام بالزيارات قبل العدوان على أفغانستان بتاريخ 6/7/1422هـ وزار جميع دول آسيا الوسطى ودول بحر قزوين لحشد الدعم للحرب ، وكان الرئيس الكزاخستاني نزار بييف معارضاً للمشاركة في الحرب ، إلا أنه تعهد أثناء زيارة البابا أنه على استعداد للمشاركة مع الولايات المتحدة مطلقاً و بكل ما تريده وقال ( إن الكلمات لا تفي دعماً للولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب ، بل إننا سنبرهن ذلك بالعمل ونحن على استعداد لتقديم أي عمل تريده الولايات المتحدة ) ، هذه المواقف جاءت بجهود الكنيسة ، وبالتأكيد أن هناك مواقفاً أخرى اتخذت من جراء جهود الكنائس الثلاث لدعم هذه الحرب ، ولذا فإننا نلاحظ الحضور الكبير للكنيسة بعد كل حرب وفي خلفية كل قضية ، وما هذا إلا مكافأة لجهودها في دعم هذه الحرب الصليبية .(66/135)
وفي حرب العراق أرسلت إدارة الشر الأمريكية وكيل وزارة الخارجية الأمريكية لشئون الحد من التسلح والأمم(جون بولتون) في الأسبوع الماضي إلى الفاتيكان لبحث الجهود الإنسانية بعد الحرب والوضع في الشرق الأوسط بصفة عامة ، وقد اجتمع مع الأسقف ( جان لويس توران ) وزير خارجية الفاتيكان ، وبحثا ما يمكن أن تقدمه الفاتيكان لدعم الجهود الإنسانية، وبالطبع فإن أصغر دولة في العالم والتي لا يزيد عدد سكانها عن 650 فرداً ومساحتها لا تتعدى 440 كيلو متر مربع ، ومزيانيتها الضئيلة التي تعاني عجزاً منذ عام 1405هـ ، لا يمكن أن تقدم شيئاً مادياً للصليبيين على العراق ، ولكن الفاتيكان يمكن أن يقدم شيئاً مهماً ، فالكنيسة الكاثوليكية يتبعها ما يزيد على 900 مليون نصراني ، وهذا مكمن تأثير الفاتيكان وحاجة أمريكا لها في دعم حربها الصليبية ، وقد أخذت الكنيسة دورها في دفع هذه الحرب من الناحية المعنوية والروحية .
وذكرت وكالة الأنباء الألمانية أن بعثات تبشيرية تتهيأ للذهاب إلى العراق ، على رأسها جماعة ( فرانكلين جراهام ) الذي يعتبر واحداً من أكثر رجال الدين النصارى تأثيراً في الولايات المتحدة ، وتعرف جمعيته باسم ( سامارتن بيرس ) ، وصرح جراهام بأن جماعته التنصيرية على اتصال بهيئات المعونة و الإغاثية الأمريكية الموجودة في عمان بالأردن لتسهيل مهامها وعملها في العراق ، ومن هذه الجمعيات ( كاريتس جوردن ) والتي تعمل في العاصمة الأردنية ، ولا يخفي جراهام أبداً حقده على الإسلام ، وسبق أن صرح في بداية الحرب على أفغانستان أنه يرى الإسلام بأنه يمثل ( ديناً في منتهى الشر ) ، وقال بعد ضربات سبتمبر بساعات قبل أن يتضح له أي دليل (من فجّر هذه المباني ليسوا لوثريين ولا منهجيين إصلاحيين ، وإنما هم مسلمون ) ، وسبق أن قدم جروج بوش الشكر لوالد فرانكلين وهو القس بيلي جراهام على تبنيه القيم المسيحية الخالصة قبل عشر سنوات تقريباً ، وبعد هذا الشكر حظي بيلي وابنه فرانكلين بصلات وطيدة مع إدراة بوش ، وفرانكلين هو الذي تلا الابتهالات الصليبية عندما نصب بوش رئيساً للولايات المتحدة ، تأكيداً لإكرامه وقربه من إدارة الشر في البيت الأسود ، ولهذا القرب من إدارة الشر فقد منح جراهام امتيازات التنصير في العراق ، وهو اليوم يتأهب لمد أنشطته التنصيرية إلى العراق ، وأفاد بأنه أرسل العديد من الممثلين الكنيسيين المسلحين بالأناجيل والأغذية لمساندة العراقيين في معاناتهم الحالية .
ولم يقتصر الأمر على جماعة جراهام الصليبية في نشر الشر في بلاد العراق ، بل تعدى الأمر إلى منظمات صليبية أخرى مثل الكنيسة ( المعمدانية الجنوبية ) التي تعتبر أكبر كنيسة بروتستانتية أمريكية، والتي ساندت الغزو الصليبي على العراق بكل قوة، وأعلنت هذه الكنيسة أنها على استعداد للعمل في العراق ، وقال المتحدث باسم الكنيسة ( المعمدانية الجنوبية ) ( بعيداً عن تقديم العون المادي للشعب العراقي فإن القضية الأساسية هي الوصول إلى الحرية الحقيقية مع يسوع المسيح ) .
وبدأت الجماعات التنصيرية في اتخاذ الخطوات العملية التنصيرية في العراق كما هو الحال في أفغانستان اليوم ، إلا أن الأشوريين النصارى في العراق والذين يناهز عددهم 400 ألف نسمة يعدون كرأس جسر لهذه المنظمات التنصيرية للنزول في العراق ونشر شرها وإضلال العباد ، وأعلنت أنها ستتخذ من الأردن وشمال العراق مراكزاً لها .(66/136)
ومن المعلوم لدى جميع الدارسين لأساليب التنصير في العالم الإسلام ، أن الكنيسة تقسم حملتها التنصيرية إلى مرحلتين ، الأولى : تركز فيها على إخراج الناس من الإسلام ، وفسخهم من الأخلاق وإلغاء الشعور بأي انتماء للدين ، ونشر الدعارة والفساد بجميع أشكاله ، وبعد هذه المرحلة يعيش المسلم مرحلة بهيمية وخواء روحي ، لتبدأ المرحلة الثانية : التي تتمكن فيها المنظمات التنصيرية أن تؤثر عليه بجهود أسهل من التأثير على مسلم ملتزم بدينه ، وتأكيداً لهذه المرحلية الخبيثة يقول رئيس المبشرين القس ( زويمر ) عام 1354هـ 1935م في مؤتمر القدس لجميع القساوسة الذين حضروا ( إن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ، ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية ، فإن في هذا هداية لهم وتكريماً ، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليه الأمم في حياتها ، وبهذا تكونوا أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية ) وأضاف ( أخرجوا أبناء المسلمين من الإسلام ولا تدخلوهم المسيحية فإن هذا تشريفاً لهم ، بل اجعلوهم إن عملوا عملوا للشهوة ، وإن جمعوا المال فلها ، وإن صرفوه فللشهوة ، فإذا أصبحوا بلا دين ولا مبادئ ولا أخلاق بإمكانكم أن تسيطروا عليهم وتقودوهم إلى حيث شئتم ) وقال كما في كتاب(الإسلام في وجه التغريب ) ( إن الغاية التي نرمي إليها إخراج المسلمين من الإسلام ليكون أحدهم إما ملحداً أو مضطرباً في دينه ، وعندها لا يكون مسلماً له عقيدة يدين بها ، وعندها لا يكون للمسلم من الإسلام إلا الاسم .. ) وكان يقول ( أتمنى ألا أموت حتى أرى لنا مقراً في مكة والمدينة ، وإذا لم يؤذن لنا بدخولهما فلا أقل من أن أرى لنا مقراً في جدة ) وهو الذي قال ( لن تقف جهودنا في تنصير المسلمين حتى يرتفع الصليب في سماء مكة ، ويقام قداس الأحد في المدينة ) وفي عام 1398هـ 1978م تم إنشاء مركز القس زويمر لتنصير مسلمي العالم في ولاية كلورادو الأمريكية ، ولا زال هذا المركز يعد من أقوى المراكز نشاطاً وانتشاراً في العالم الإسلامي ، وحتماً فسيكون له في العراق صولة وجولة فما أقربها من مكة والمدينة ليتحقق حلم القس زويمر .
ومما سبق يتبين أن التنصير لايمكن أن ينطلق في بلد إسلامي حتى يطلق حملات سابقة له لإشاعة الفاحشة والفساد كتمهيد لمسيرته الضالة ، وأعظم أساليبهم هو الجنس وإفساد المرأة وفرض المناهج الدراسية المنحرفة التي تعادي أو تتجاهل الإسلام على أقل أحوالها ، ونشر المخدرات ، كما هو الحال اليوم في أفغانستان حيث تضاعف إنتاج المخدرات آلاف الأضعاف بعد دخول الصليبيين لها ، وأذنوا ببيع الخمور علناً في المدن ، وتم فتح ملاهي الرقص ومن آخر تلك الملاهي الملهى الإيرلندي للمشروبات الكحولية في كابل ، كما أقرت مناهج دراسية علمانية رأسمالية خبيثة ، وبدأت أمريكا الحرص على إبراز دور المرأة البغي الأفغانية لتكون مثالاً تقتدي به الفتاة الأفغانية ، وبدأ الترويج للفاسدات الأفغانية عبر منظمات إنسانية وسياسية وتعليمية أفغانية بهدف الحصول على أكبر قدر من الفساد في أقل زمن ممكن ، لتبدأ المرحلة الثانية من مراحل التنصير الخبيث .
ولذا فلن تكون العراق أحسن حالاً من أفغانستان ، فالفساد والإفساد سياسة أمريكية تدعمها الحكومة بكل قوة ، تقف الكنيسة وراءها دعماً وإسناداً ، وقبل أسبوع منحت الوكالة الأمريكية للتنمية ( يوسيد ) عقداً بقيمة 9مليون و 700 ألف دولار لمنظمة أمريكية خيرية للعمل على توفير الاستقرار الاجتماعي والسياسي في العراق بعد انتهاء الحرب ، فنعجب أن أمريكا لا تتمتع بالاستقرار الاجتماعي وهي أكثر دول العالم إجراماً وفساداً ، ورغم ذلك تزعم أنها ستمنح الآخرين الاستقرار الاجتماعي .
ودعماً لخطى الإفساد في العراق فإن منظمة ( أر تي أي ) الخيرية ستقوم بمساعدة العراقيين في تعريفهم بكيفية التعاون مع حكومة الاحتلال ، وتحسين الوضع الاجتماعي والمدني في العراق ، كما ستقوم المنظمة بتزويد الشعب العراقي وخصوصاً النساء بفرص للمساهمة في صنع القرارات العامة ، وقالت المنظمة بأنها ستنطلق من أربعة محاور أولها إنشاء نظام تعليمي في العراق يكفل الحرية للجميع ، وتقدير الاحتياجات الأساسية للعراق وتعزيز الصحة العامة ومكافحة الأمراض .(66/137)
وإذا كانت تركيا العلمانية رفضت طلباً لفتح بيت دعارة لخدمة القوات الأمريكية في جنوب شرق تركيا في محافظة ماردين ، بحسب ما ذكرت وكالة الأناضول للأنباء قبل بدء العدوان على العراق ، وكان الطلب المقدم لفتح بيت الدعارة لخدمة القوات الأمريكية التي تخطط لإقامة قاعدة للدعم اللوجيستي في ماردين ، ولم يكن الطلب خاصاً بالقاعدة بل هو عام لجميع الناس بالقرب من القاعدة ، فإذا كانت القوات الأمريكية أرادت فتح بيوت دعارة عامة في ماردين قبل أن تنشئ قاعدة بها ، فكيف سيكون الحال إذا نزلت في العراق وأصبحت هي الحاكم فيها ، وماذا سيكون دور عصابات الجنس والجريمة المنظمة والتي ستدفعها الكنائس للنزول في أرض العراق وإفسادها بكافة السبل ، لتمهد الطريق لها للبدء بالتنصير .
والذي سيدفع عصابات الجنس والجريمة المنظمة ليست الكنيسة وحدها ، بل إن الحكومة الأمريكية ستكون الراعية الأولى لذلك ، فهو أحد أهدافها الرئيسة للسيطرة على بلاد المسلمين ، ورأينا كيف شاركت عصابات الجريمة الأمريكية وتورط مسئولون أمريكيون في عملية نهب العراق ، والقوات الأمريكية لم تحم إلا وزارة البترول فقط فهذا ما جاءت من أجله وهو الذي يحتاج إلى حماية .
والأعظم من ذلك ما ذكرت صحيفة ( الأوبزيرفر ) البريطانية يوم الأحد الماضي أن واشنطن تعاقدت مع شركة (دينكوربس) الأمريكية ، التي أعلنت على موقعها في الإنترنت أنها بحاجة إلى موظفين بمهارات وبخبرات سابقة للمشاركة في إعادة تأسيس جهاز شرطة لحفظ الأمن وإدارة السجون في العراق والإشراف عليها ، وذكرت الصحيفة بأن هذه الشركة تورطت في فضائح أخلاقية مشينة ارتكبها موظفو الشركة الذين وظفتهم الأمم المتحدة كقوة شرطة دولية لحفظ الأمن في البوسنة ، وكانت ( كاثرين بولكوفاك ) وهي شرطية أمريكية تم استخدامها من قبل الشركة من فرعها في لندن للعمل ضمن قوة البوليس الدولية التابعة للأمم المتحدة في البوسنة ، اكتشفت تورط بعض موظفي الشركة العاملين ضمن قوة الأمم المتحدة في البوسنة في المتاجرة بالفتيات بيعاً وشراء وتصديراً ومن بينهن طفلات قاصرات ، وتقول الشرطية ( كاثرين ) عندما بدأت بجمع شهادات ضحايا المتاجرة بالجنس صار واضحاً لدي أن عدداً كبيراً من ضباط الأمم المتحدة من مختلف الجنسيات ومن بينهم بريطانيون متورطون في الأمر ، وشركة (دينكوربس ) هي الشركة التي يتبعها كل هؤلاء الضباط والجنود الذين ظهرت أعمالهم المشينة ، وكانت الأمم المتحدة متعاقدة مع هذه الشركة بتزويدها بأكثر من 2000شرطي ، وكشفت الشرطية الأمريكية عن أفلام فيديو كان قد صورها بعض الموظفين لعمليات اغتصاب مسلمات في البوسنة ، وكشفت الشرطية أن بعض الأمريكيين كانوا يتقاضون ما مقداره 1000 دولار ثمناً للفتاة الواحدة ، وقد كشفت التحقيقات الفردية بأن الشركة على علم وتواطؤ بهذه الأعمال الإجرامية التي يستحيل جهلها بها لضخامة حجمها ، واليوم جاءت هذه الشركة إلى العراق وماذا يمكن أن تصنع في العراق ؟ ، وما هي أساليبها الإجرامية الجديدة ؟ فمن المفترض على كل عراقي أن يأخذ بثأر أخواته البوسنويات من أفراد هذه الشركة ومنشأتها ، فضلاً عن رفضها وحربها منعاً لفسادها .
إن الهدف الكنسي لنشر الإضلال العقدي ( التنصير ) بين المسلمين عبر بوابة العراق ، ليس بالأمر الذي يمكن تجاهله من قبل جميع الكنائس أو الدول الصليبية على حد سواء ، فهذه فرصة لن تعوض بالنسبة لهم ، وستمنع جميع المنظمات الإسلامية من الدخول أو أنها ستضايق ، و لن يهنأ لهم بال حتى يستغلوا فرصة العراق الاستغلال الكامل وبكل الطرق ، وأول دروب التنصير نشر الإجرام والجنس والفساد كما دعاهم لذلك زويمر لعنه الله .
مستقبل الخطر اليهودي : -
أما الضلال اليهودي فليس ببعيد عن أرض العرق ، ولن يفوّت هذه الفرصة الذهبية التي فتحت أمامه ، فكيف إذا كانت أرض العراق داخلة ضمن حدود ما يسمونه بإسرائيل الكبرى ، وكيف إذا كان تلمودهم ينص على ضرورة دخولهم أرض العراق وتدميرها والسيطرة عليها ، منعاً لظهور ( بختنصر ) الجديد الذي سيسبي اليهود ويدمر دولتهم .(66/138)
وقد أعلنت وكالة قدس برس أن حاخامات اليهود أفتوا بعد انهيار حكومة صدام بأن العراق جزء من (أرض إسرائيل الكبرى)، وناشدوا اليهود بالصلاة شكراً لله على تدمير مملكة بابل المجرمة ، وقال الحاخام ( نحميا هوري ) أحد مصدري الفتوى ( إن على الجنود اليهود في القوات الأمريكية والبريطانية في العراق تلاوة هذه الصلاة عندما يقيمون أية خيمة أو بناء عسكري آخر على شواطئ نهر الفرات ، لأن كل قطعة أرض غرب نهر الفرات هي جزء من أرض إسرائيل الكبرى ، ولذا يجب تلاوة هذه الصلاة التي تبين تخليص هذه الأرض وتحريرها ) ، ولهذا السبب تم إطلاق اسم تحرير العراق على هذا العدوان، فتحرير أرض إسرائيل الكبرى هو الهاجس الذي يقلق الإدارتين الأمريكية والصهيونية ، ولم يكن تحرير الشعب العراقي هو الهاجس ، فالشعب العراقي قتل بالقصف ، ودمر بلده بالنهب ولا زال يعاني الإجرام والفوضى ، وتنهب ثرواته ولا يسمح له بالتصرف في مصيره ولا ببلاده ، فكيف يقال بأن هذه حرب تحرير للشعب ، إنها حرب تحرير حقاً ولكن لأرض إسرائيل الكبرى كما نصت الفتوى على ذلك .
والصلاة التي حثت عليها الفتوى لكل من يشاهد ( بابل ) أو يبني بها تقول ( مبارك أنت ربنا ملك العالم ، لأنك دمرت بابل المجرمة ) هذا الدعاء يبين حقيقة الحرب بأنها تدمير لبابل وتحرير لأرض إسرائيل الكبرى .
والاهتمام بتحرير أرض إسرائيل الكبرى لم يكن على مستوى الحاخامات فقط ، بل هو على أعلى المستويات السياسية لليهود، فقد أرسل شارون الأسبوع الماضي كما قالت صحيفة ( معاريف ) رسالة لليهود في العراق تمنى لهم الاحتفال بعيد الفصح اليهودي العام القادم في القدس فقال ( آمل أن تتمكنوا من الاحتفال بعيد الفصح المقبل في أورشليم ) واستشهد شارون بالعبارة اليهودية التقليدية التي تقول ( العام المقبل في أورشليم ) والتي يختم بها اليهود عشاء عيد الفصح الذي يحتفلون فيه بذكرى هجرتهم من مصر ، ويقدر عدد يهود العراق حالياً بـ 40 شخصاً فقط ، بعد أن كان عددهم يقدر بمائة ألف كما يزعمون عام 1367هـ 1948م ، إلا أن شارون اهتم بهذا العدد ليس لأجلهم فقط ولكن لأجل أرض العراق ، وقالت صحيفة ( معاريف ) اليهودية بأن مراسلين إيطاليين التقيا بالجالية اليهودية في بغداد ونقلا لهم رسالة من شارون بمناسبة عيد الفصح حيث ردت الجالية اليهودية على رسالته بقولهم ( نحن وصلنا إلى جيل متقدم وعاصمة إسرائيل ستبقى لنا حلماً ) .
ولم يترك اليهود المشاركة البدنية في هذا العدوان من منطلق ديني ، فهم قد شاركوا بكافة أنواع الدعم العسكري والاستخباراتي واللوجيستي للأمريكيين ، إلا أنهم عجزوا عن الامتناع عن المشاركة بأنفسهم ضمن الجيش الأمريكي رغم طلب أمريكا لهم بعدم التدخل ، وقد أعلنت القناة العاشرة في التلفزيون اليهودي أن 2000 جندي يهودي كانوا من بين العسكريين الأمريكيين الذي قصفوا المدن العراقية ، ونقلت القناة يوم السبت 12/4 مظاهر الفرح والسرور التي أبداها الجنود اليهود وقالوا بأنهم سعداء لأنهم يحيون هذا العيد في القصر الجمهوري ببغداد .
ويبقى الهاجس الأمني لليهود هو الدافع الديني الأول الذي يفرض عليهم تحركهم على كافة المستويات، قالت صحيفة (هأرتس) بأن الرئيس بوش وكبار المسئولين في واشنطن ولندن أوضحوا خلال الشهور الماضية أن الحكومة الجديدة في العراق لن تشكل تهديداً لدول الجوار بما في ذلك إسرائيل ، وهذه المنحة يعدها اليهود ثاني أكبر منحة يمنحها الصليبيون لهم بعد أن أعلنوا تحرير وتدمير أرض بابل المجرمة التي نادوا بالصلاة لأجل هذه المنحة .
مستقبل حرب الغرب للأصولية الإسلامية :-
أما على مستوى المحاولات ( الصهيوصليبية ) المستميتة لوأد ما أطلقوا عليه الإسلام الأصولي أو الإرهاب الإسلامي في المنطقة ، فحدث عنه ولا حرج ، وقد ذكرنا في الحلقة الثانية من هذه السلسلة أن أحد أوجه الدافع العقدي لشن هذا العدوان على العراق هو هذا الدافع ، ولن نعيد ما جاء في تلك الحلقة فليرجع إليها ، إلا أننا نقول بأن هذا الهدف لن يكون ضعيف الحضور أبداً على الساحة العراقية بل إنه سيطرح بقوة أكثر مما سبق .
قال ( حاييم ) رئيس دولة اليهود الأسبق ( إن الأصولية الإسلامية هي أكبر خطر يواجه العالم ، وإن إسرائيل تحمي قيم الغرب من الصحوة الإسلامية ) ، هذه هي الاستراتيجية ( الصهيوصليبية ) في العالم الإسلامي ، والجميع يتفاعل مع هذا الطرح بكل ما تعني الكلمة من تفاعل ، ومن يرصد تصريحات قادة اليهود والصليب يشاهد المبالغة في طرح هذا الخطر ، ورجوعاً ملحوظاً منهم لكتبهم للتوجه لدفع هذا الخطر الإسلامي .(66/139)
وفي تصريح لشبكة ( سي بي إس ) أعرب السناتور الديمقراطي ( جوزف ليبرمان ) وهو أحد المرشحين للرئاسة الأمريكية عام 2004م الأسبوع الماضي عن قلقه من احتمال قيام نظام إسلامي في العراق ، وقال ( لا نود أن نرى الأمور تتجه إلى قيام نظام ديني في العراق ) ، ولم يكن هذا الصليبي منفرداً بالتحذير من التيار الإسلامي المتزايد في العراق ، بل إن الصليبيين على المستوى السياسي والعسكري والإعلامي كلهم ينادون بأن أهم مطلب لتشكيل الحكومة العراقية ألا تأخذ الطابع الديني ، ومنع فتح المجال فيها للإسلاميين لبسط نفوذهم ، وأعرب المحللون عن خوفهم من تأخير تنصيب حكومة عراقية منتخبة ، لأن التأخير سيعزز من نمو التيار الإسلامي الأصولي الذي يرفض التواجد الأجنبي برمته تحت أي مبرر كان ، ويسعى الأمريكيون للتأكد من إغلاق هذا الباب على الإسلاميين ، ويقصدون بالإسلاميين السنة في العراق فقط ، لأن العميد ( فينس بروكس ) المتحدث باسم الجيش الأمريكي من قطر قدم شكر حكومته قبل سقوط بغداد بيومين إلى علماء الدين الشيعة لتعاونهم مع القوات الأمريكية والبريطانية للدخول إلى مدن الجنوب ، فليس المقصود بالخطر الإسلامي إلا السنة ، لأن الرافضة قد تعايشوا مع الصليبيين وقدموا مساعداتهم وينادون بإقامة حكم علماني في العراق .
ولم تنبع حرب الصليبيين للإسلاميين من فراغ ، بل هي عقيدة أخبر الله عنها بقوله ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) وقال ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) وقال ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) وقال ( كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون ) وقال ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ) ، هذا العداء نابع من معتقد أكد الله لنا بآيات كثيرة وجوده في قلوب اليهود والنصارى ضدنا ، فمهما زعموا عدم وجوده فهم كاذبون ، حتى على المستوى العسكري والسياسي تجد أن هذا العداء متأصل بسبب خلفيات عقدية خبيثة .
وكثير من الكتاب الذين يزعمون الحياد والموضوعية لا يمكن أبداً أن يتمالكوا أنفسهم في مقالاتهم دون ظهور شيء مما في صدورهم من العداء ( كتومس فريدمان ) ، و (هنغتون ) وغيرهما ، وخذ على سبيل المثال ( برنارد لويس ) الذي ألف أكثر من مائة مؤلف ما بين كتاب وموسوعة وبحث أكاديمي خلال مسيرته الثقافية والتعليمية ، وهو من بعد أحداث سبتمبر تحول إلى مروج للدعاية التي تخدم أهداف إدارة الشر في البيت الأسود في حشد الرأي العام ضد الإسلام والمسلمين ، والتسويغ للحملة الصليبية التي تقودها أمريكا ضد المسلمين، وهذا الكاتب هو الذي ألهم (هنغتون) موضوع صراع الحضارات فقد أخذ(هنغتون) الأطروحة من مقال ( برنارد لويس ) ( جذور السخط الإسلامي ) والتي نشرتها مجلة ( الأتلانتيك مونثلي ) في ربيع الثاني من عام 1411هـ 1990م ، وكانت هذه المقالة هي بداية مقالة ( هنغتون ) التي نشرها في مجلة ( الفورين أفيرز ) الأمريكية والتي حولها فيما بعد إلى كتاب سماه ( صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي ).
وفي المقال المذكور ( لبرنارد لويس ) فقد تهجم على الدين الإسلامي واعتبر لويس الإسلام أنه ( نفخ روح الكراهية والعنف بين أتباعه ، ومن سوء حظنا فإن جزءً من العالم الإسلامي لا يزل يرزح تحت وطأة هذا الميراث ، ومن سوء حظنا كذلك أن غالبية هذه الكراهية والعنف موجهة ضدنا في الغرب وضد ميراثنا اليهودي المسيحي، وضد حاضرنا الراهن وضد امتدادهما العالمي ) .(66/140)
وهذه هي صيغة الطرح الثقافي الغربي من جميع المثقفين استناداً إلى عقائدهم الخبيثة التي أخبر الله عنها ، وهذا الطرح شكل حشداً نفسياً لدى العالم الغربي ، عرفه الخبراء الاستراتيجيون بالخطر الإسلامي على الحضارة الغربية ، حتى نتج عنه دعوة لشن حرب صليبية طويلة الأجل وافقها العالم الصليبي دون تحفظ ورعتها الكنيسة ، فأخذ النظامي العالمي الجديد طابع التعاليم الصليبية فظهرت المصطلحات الصليبية مثل ( حرب بين الخير والشر ، ومحور الشر ، والعدالة المطلقة ، وحرب بين الحضارة والبربرية ، وتفويض الرب لشن هذه الحرب ، وحرب صليبية طويلة الأجل ) ، ومصطلحات دينية استخدمها كافة قادة الصليب على اختلاف مستوياتهم ، كل هذا يؤكد عزمهم على محاولة اجتثاث الأصولية الإسلامية ، ودعماً مطلقاً لإسرائيل التي تعتبر نفسها الخط الأول في مواجهة هذا الخطر كما صرح الرئيس اليهودي السابق ، وهناك كثير من المثقفين الذي يحشدون العالم الصليبي لهذه الحرب بكافة أشكالها ، بشكل واضح ودون تخفي ، مثل ( دانيال بايس ) القريب من الإدارة الأمريكية ، وهو صاحب الأفكار اليمينية المتطرفة ، والداعي للشفافية في حروب أمريكا ضد الإسلام لكسب تأييد العالم المتحضر بكافة طبقاته ، ومن الكتاب أيضاً الذين اشتهرت كتاباتهم اليمينية المتطرفة دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الحالي ، والذي طرح بحثاً ينادي فيه بالتمهيد لمعركة هرمجدون ، بمحرقة نووية يموت فيها ثلث العالم ، وشبه رامسفيلد المنظمات التوليتارية بالإسلام الراديكالي الأقرب فكرياً إلى حركات مثل الشيوعية والفاشية منه إلى الديانة التقليدية ، فلم يعد هناك مواربة ولا حياء من إعلان شيء مما في صدورهم وما تخفي صدورهم أكبر .
مستقبل حرب الإسلام من بني جلدته :-
وبمقابل هذه الدعوة ( الصهيوصليبية ) الخبيثة التي تنادي في كل محفل ، وفي كل مناسبة ، وفي كل كتاب تنادي باجتثاث الإسلام من جذوره ، وتغريب الأمة الإسلامية وعلمنتها على جميع المجالات ، الدينية والتعليمية و الإعلامية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية ، بالمقابل نجد أن الأمة الإسلامية إلا ما رحم ربك بكافة شرائحها أول ما تحارب وتخذل ، علماء الحق ، وأسود الوغى ، ودعاة الهدى ، فمن صدع بالحق فسهام أبناء الإسلام تقتله قبل سهام الصليب ، ومن بذل نفسه في ميادين النزال نالت منه ألسنة كثير من المسلمين قبل أن تنال منه سيوف الكفر ، ومن دعا للهدى كسرت أجنحته من بني جلدته قبل أن يشتد عوده ، حرب من الداخل على أشدها ، تفوق الحرب من الخارج ، ولو أن أهل الحق في الأمة سلموا من بني الجلدة لعظمت نكايتهم في العدو .
هذا العداء لأهل الحق على المستوى الشعبي ، فكيف به على المستوى الرسمي ؟ إنه لا يقل أبداً عن عداء اليهود والنصارى ولا مثقال ذره ، بل إنه يزيد في كثير من الأحيان بمئات المراحل على عداء الأمة من اليهود والنصارى ، وما نكاية الحكومات بأبناء الأمة بخافية على كل ذي عقل ، ولهذه الحكومات سدنة وأحبار ورهبان ، يسحرون أعين المسلمين ليخيل لهم بأن حبال السلطان تسعى ، ولن يحلفوا إلا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ، ولكن لكل طاغية موسى ولكل سحر ثعبان تأكله ، ولهذا فقد فرض فراعنة الأمة قيودهم على أبنائها ، بألا يقولوا الحق ولا يسمعوا الحق ولا يعملوا بالحق ، وساروا على قاعدة أبيهم فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ، وكل مصلح صادق ناصح للأمة ، فلا يقول فرعون عنه إلا إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد .
وكلما زاد النفوذ ( الصهيوصليبي ) في المنطقة ، فإنه يزيد معه السعار الرسمي من قبل الحكومات ضد ما هو إسلامي وخارج رغباتهم ، فهل كان أحد يصدق أن يأتي على الأمة زمان يكون أكثر المعتقلين في السجون هم أهل الجهاد والدين ؟ ، أكان أحد يصدق أن يكون الجهاد جريمة تضرب الحكومات على ممارسها بيد من حديد ؟ ، هل كان أحد يتصور أن يصل الحد بالحكومات إلى تسليم أبنائها للصليبيين ؟ ، إن إحصائية بسيطة لمن هم في سجون الدول الإسلامية ، يتبين أن العدو الأول لهذه الحكومات هو الجهاد والمجاهدين ، وأن كل صادع بالحق لا يخاف في الله لومة لائم ، يفرض عليه الحصار أو يعتقل أو يشرد أو يسلم للصليبيين ، لقد كان هذا منهجاً قديماً متبعاً ، وما أفعال عبد الناصر وغيره من الحكام في زمانه بأبناء الأمة بخافية على أحد ، وهلك جمال وجاء في الأمة ألف شر غير جمال ، واليوم زاد شر جمال العصر بكافة أشكالهم ومسمياتهم عندما رأوا الصليب زمجر عليهم ، سارعوا لخطب وده وأحسنهم حالاً من يقول ( نخشى أن تصيبنا دائرة ) وبعضهم حاله كما أخبر الله عنهم بقوله ( ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون ) فيا حسرة على هذه الأمة التي تولى فيها شرها وأكفرها .(66/141)
وهذه الحكومات تعهدت للحلف ( الصهيوصليبي ) بأن تعمل بكل جهودها على دعم الحملة الصليبية بما تستطيع ومالا تستطيع ، ورأينا هذا في أفغانستان وفي العراق ، وسنراه في غيرهما من الدول حتى يأتي الدور على الجميع ، وتعهدت هذه الحكومات أن تطبق التعليمات الأمريكية في تغريب الأمة بحذافيرها لمسخ الإسلام وتغريبه ، وتفريغه من جوهره ، وقطعت هذه الحكومات على نفسها العهد والوعد والميثاق ألا يظهر في الأمة صوت صدق ونصح إلا أخمدته ، وأن تجبر أحبارها ورهبانها ألا يقولوا إلا الباطل لإضلال الأمة وتمكين الصليب منها ، وشعر الأحبار والرهبان بهذا التوجه فسارعوا من غير أمر بقول الباطل والتزلف إلى الطاغوت ، والبكاء على ما أصاب راعية العدالة والحق زعموا ، من ثلة متعجلة مارقة من الدين دمرت مبانيها وقتلت أبرياءها ، وتوالت دعوات التسامح والتقريب والتفاهم مع قتلة الأمة من الصليبيين ، ونعجب أنه كلما زاد قتلهم لنا زادت معه دعوة البعض لعقد حوارات التقريب والتسامح والتعايش ، بدلاً من زيادة التحريض بقتلهم وقتالهم رداً على أفعالهم في الأمة التي لن يوقفها إلا الجهاد والنكاية بهم ، كما صحت بذلك النصوص .
وفي الأيام القادمة لن تتسامح الدول مع أي رمز مهما كان خادماً لها ، إذا ما قرر التحليق خارج سربها وتعدى الخطوط الحمراء التي ستكون أكثر وضوحاً في الأيام القادمة ، وسيكون مصيره كمصير مفتى روسيا ( طلعت تاج الدين ) الذي دعا مع بداية العدوان على العراق بتاريخ 1/2 دعا للجهاد ضد أمريكا ، فأعلن المجلس الإسلامي للإفتاء في روسيا حرمانه من العمل الرسمي في المنظمات الإسلامية الروسية ، وحرمانه من إمامة الصلاة بالمسلمين بشكل رسمي ، وعدم شرعية الفتوى التي كان قد أصدرها ضد أمريكا ، كما جرد المجلس تاج الدين من منصبه الذي كان يشغله كمفت لروسيا ، وذكرت وكالة ( إنتر فاكس ) الروسية يوم 12/2 أن اللجنة القانونية التابعة لمجلس مفتي روسيا قالت في بيان لها ( إن الدعوة العاطفية للجهاد التي تصدر عن مسئول ديني في مكانة طلعت تاج الدين لا يمكن اعتبارها خطأ جزئياً ، بل كبيرة عظمى كان من الممكن أن تجلب المآسي لملايين البشر وتدخل روسيا في حرب عالمية ثالثة ) ، نعم هذا هو العقاب المرتقب لكل من خرج على النص المكتوب له ، ورغم خدمة تاج الدين للحكومة الروسية وتخديره لـ 22 مليون مسلم في روسيا ، ومساندته للحملة الروسية ضد إخواننا في الشيشان التي قال عنها بأنها حرب ضد عصابات الإجرام وليست حرباً ضد الإسلام ،وشد من موقف الحكومة الروسية لفرض وحدة أراضيها بالقوة ، وهو الذي يقف بكل قوة خلف أحمد قادريوف مفتي الشيشان الذي ارتد عن دينه وناصر حملة الروس على الشيشان ليعين رئيساً للحكومة الشيشانية الموالية للروس ، وتاج الدين هو مهندس التقارب بين الإسلام والنصرانية في روسيا ، وكان يحضر باستمرار لقاءات الكنيسة الروسية ضمن برامج تقارب الأديان في الدولة ، فمهما تكن مواقف الشخص مع الدولة ومساندته لها ، إلا أنها لن تتسامح معه أبداً إذا قال مالا تريد ، ولن تكون الدول الإسلامية أحسن من روسيا ، ولن يكون رهبانها أعز عليها من تاج الدين على موسكو ، والأيام القادمة ستشهد بطشاً بكل من قال مالا يريده السلطان ، وقد شاهدنا المسارعة فيما يريده السلطان دون أمر منه ، لأن لبيبهم بالإشارة يفهم ، وربما تطرح الأمم المتحدة في الأيام القادمة قراراً جديداً في المنطقة بعد قرار النفط مقابلة الغذاء الخاص بالعراق ، ليكون الفتوى مقابل الغذاء !!! ، وسيجد القرار من يلتزم به حرفياً ولا حول ولا قوة إلا بالله .
مستقبل الخطر العلماني :-
لاشك أن من أكبر الأخطار التي تهدد هيمنة الإسلام وحكم الشريعة في الأمة هي العلمانية الأمريكية التي ستفرض على المنطقة فرضاً وبالقوة ، وهذه العلمانية دعا إليها أهل الصليب لتطبق في العالم الإسلامي أجمع ، وبعد احتلال العراق ، فسيكون قرب تطبيقها في العالم الإسلامي أقرب وقوعاً إلا أن يشاء الله ، لينتقل العالم الإسلامي من الدكتاتورية إلى الديمقراطية التي تعني البهيمية في كل مجالات الحياة .(66/142)
وخيار تطبيق العلمانية على العالم الإسلامي ليس خياراً ثانوياً للحلف ( الصهيوصليبي ) ، بل هو خيار رئيس ، قال رئيس الوزراء اليهودي السابق ( إيهود باراك) (إن الأمريكيين سيديرون العراق فترة طويلة ، قبل قيام أية ديمقراطية فيها) وقال (بول وولفويتز ) ، مساعد وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد والرجل الثاني في البنتاجون في الأسبوع الماضي ( أنه إذا لم يستطع العراق الجديد أن يكون منارة للديمقراطية في العالم العربي، فيمكنه على الأقل أن يعطي دروساً لدول أخرى في المنطقة ) ، ولم تكن هذه الدعوى جديدة فقد طرحت بكل وضوح قبل شهرين من العدوان على العراق ، حيث قدمت أمريكا عن طريق وزير الخارجية الأمريكي ( كولن باول ) ما أسمته بمشروع الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية وهذا المشروع هو مشروع عصرنة المجتماعات العربية كما يقول باول، وهو فرض الديمقراطية والتعليم والثقافة والسياسة الأمريكية على المنطقة، وقد تناقلت وسائل الإعلام نص المشروع .
ونقول إن من أخبث إفرازات العلمانية هي الديمقراطية التي تلغي سلطة الشريعة على المجتمع وتضاده شكلاً ومضموناً قال تعلى ( إن الحكم إلا لله ) ، والديمقراطية تقول إن الحكم إلا للأغلبية من الشعب .
والديمقراطية ( Democ r acy ) هي مشتقة من لفظتين يونانيتين أولها لفظة ( Demos ) ومعناها الشعب ، والثانية لفظة (K r atos) ومعناها سلطة ، وتعني هذه الكلمة أن السلطة للشعب وليست لله ، بل يكون الاحتكام إلى الشعب عند حصول النزاع والاختلاف ، فالشعب سلطة عليا لا تعلو سيادته سيادة ، ولا إرادته إرادة بما في ذلك إرادة الله تعالى ، التي لا اعتبار لها في هذه الديانة ، وليست لها أية قيمة في نظر الديمقراطية والديمقراطيين ، قال تعالى ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) وقال (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)، وفساد وضرر هذه الديمقراطية على الدين ضرر لا يماثله ضرر ، ولكن حينما تعلم أن الديمقراطية هي إحدى ثمارات العلمانية الخبيثة فإنك ستشعر بحجم الانحلال والفساد والإفساد الذي يوشك أن يحل بالمنطقة .
فالعلمانية ليست هي الديمقراطية وحدها ، بال العلمانية فصل الدين عن الدولة ،وهي صاحبة المقولة (دع مالقيصر لقيصر ومالله لله ) ، ومن دعواتها الرأسمالية البغيضة ، و تحرير المرأة ، والمساواة بين الرجل والمرأة ، والمساواة بين الأديان ، وعدم التمييز بين الناس على أسس دينية أو عقدية ، وهي صاحبة دعوة الحرية المطلقة فحرية في الاعتقاد والعبادات وحرية في السلوك والأقوال والأفعال وحرية في العلوم ، وحرية في كل شيء ليتحول الإنسان من عبد لله إلى حيوان خسيس ، نشاهده اليوم يعيش في أمريكا وأوربا ، إنسان منحل لا تقيده ولا تحده حدود ، لا يخدم إلا شهوته ولا تحركه إلا شهوته ، انتهازي كريه لا يهمه إلا مصالحه ولو على حساب دماء الملايين من البشر ، ومعالم العلمانية ودعوتها لا مجال لسردها فلا يستوعبها الإيجاز ، ولكن أشرنا هنا إشارات لمعالمها ، وإن هذا الكفر العظيم هو الذي يدعى إليه في المنطقة ليكون بديلاً عن الإسلام فمن يقف في وجه هذا الكفر ؟ وكيف نوقف زحفه على بلاد الإسلام ؟
مستقبل خطر أهل البدع :-
إن الحلف ( الصهيوصليبي ) وضع باعتباره أن العلمانية سترفض من قبل شريحة كبيرة من المسلمين ، ففكر في بديل مقبول بين المسلمين لا يضره ولا يؤثر عليه في أرض الواقع ولا يحاربه ، ففسح المجال لما أسماه بالجماعات ( الروحية ) التي تهتم بالروح ولا علاقة لها بالعمل أبداً ، ويمثل هذه الجماعات في العالم الإسلامي ( دراويش ) المتصوفة ، فالطرق الصوفية المنتشرة في العالم الإسلامي غالبها طرق كفرية ، تؤمن بوحدة الوجود والاتحاد والحلول ، وتشرك مع الله غيره في توحيد العبادة من دعاء وطواف وصلاة واستغاثة واستعانة وذبح ونذر وغير ذلك ، وتتلقى التشريع بعد رسو صلى الله عليه وسلم من المنامات ، ووحي القلوب ، والوجدان ، والإلهام إلى غير ذلك من الخرافات التي لا نهاية لها ، المهم أن هذه الجماعات لا تعرف العمل ، وتعادي الجهاد ، ولا تعادي الكافر وعلى استعداد للتعايش معه ومودته ، وبعضها يتعبد بموالاة الكافر ، هذه الجماعات لا تحرم أتباعها من الشهوات فهي تقترف المحرمات كما يقترفها الكافر ، فهم سواء في السلوك ، إلا أن هذه الطرق تقترف الجرائم تعبداً لله بزعمها ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ) ، فتأتي بشبه عقلية لا حد لها لتقترف الفجور ،فنتج عن هذا تشابه عقدي سلوكي بين الصليبي وهذه الطرق ، لذا فإن التحالف ( الصهيوصليبي ) إن أذن بشيء من الدين بين الناس فسوف يأذن بهذه الطرق الصوفية الكفرية .
مستقبل خطر المدرسة العقلانية :-(66/143)
ما سبق ذكره كان من ناحية الدعم ( الصهيوصليبي ) للجماعات التي تتخذ الطابع التعبدي ، ولن يكفي المسلمين الجوانب التعبدية دون الجوانب الفكرية والمنهجية ، لذا فهم حريصون على صنع فكر على أعينهم لا يعارض نهجهم ، كما فعل الاستعمار البريطاني فهو صاحب أول تجربة في العالم الإسلامي وهو مؤسس النبتة الفكرية الخبيثة التي تزعم باسم الإسلام أن الإسلام لا يعادي الكفر والإسلام أمر بالتقارب مع الكافر والتعايش معه ولا حول ولا قوة إلا بالله .
قال محمود الطحان في كتابه ( مفهوم التجديد ) (.. والظاهر أن أساطين الكفر أيقنوا بعد التجارب الطويلة أن هدم الإسلام من الخارج والوقوف أمام تياره طريق غير ناجح ، فسلكوا لهدمه طريقاً آخر من الداخل ، يدعو لإصلاح الإسلام وتجديد أفكاره وأحكامه ، والاستخفاف بتراثه ، وبكل قديم فيه ، وهي طريقة خادعة تجذب بعض الخاوين من الثقافة الإسلامية والعلوم الشرعية ) .
أما موقف الاستعمار البريطاني من هذه النابتة الخبيثة فهو مبني على رؤية قديمة ترجع إلى زمن الحملة الصليبية الثانية عندما كتب ( لويس التاسع ) ملك فرنسا بعدما هزم جيشه في مصر وسجن في سجن المنصورة ، فقال في مذكراته بعد طول تأمل يحدد الموقف من العالم الإسلامي فقال ( إنه لا سبيل إلى السيطرة على المسلمين عن طريق الحرب والقوة وذلك بسبب عامل الجهاد في سبيل الله .. وأن المعركة مع المسلمين يجب أن تبدأ أولاً من تزييف عقيدتهم الراسخة التي تحمل طابع الجهاد والمقاومة .. ولا بد من التفرقة بين العقيدة و الشريعة ) هذا أصل مفهومهم للصراع مع المسلمين بعد الهزائم المتلاحقة التي منيت بها جيوشهم على أيدي الأيوبيين .
ونفذوا الوصية فأسس هذا الفكر المشئوم في الأمة جمال الدين الأفغاني وهو يعتبر من أبرز المؤسسين لهذا التيار العقلاني في منتصف عام 1215هـ 1800م ، ومن أقواله في كتاب ( تاريخ الإمام محمد عبده ) أنه ألقى محاضرة في الآستانة قال فيها(ولا حياة لجسم إلا بروح ، وروح هذا الجسم إما النبوة أو الحكمة )،وله من الضلالات ما لله به عليم ، ولكن من أبرز هذا الفكر الذي دعمه البريطانيون لأجله هو رفض الجهاد ضد المستعمر ودعوة التعايش معه وأن الاستعمار أنفع للأمة وأغنى لها من عدمه، لذا فإن الاستعمار نعمة لابد أن نشكرها ،ولو فقدنا الاستعمار لتضررت معيشة المسلمين .
ومن أبرز طلاب هذا الخبيث محمد عبده ويعتبر هو المؤسس الحقيقي والأب الفكري والروحي لجيل العصرانيين بعد جمال الدين الأفغاني ، ويلحظ من أرائه أنه يميل كما في التفسير لما يتناسب مع المعارف الغربية السائدة في عصره وهو صاحب المقولة الشهيرة ( ما أدري أين يضع بعض العلماء عقولهم عندما يغترون ببعض الظواهر ، وببعض الروايات الغريبة التي يردها العقل ) ويقول عن منهجه في التفسير في كتابه الإسلام والنصرانية ( الأصل الأول للإسلام النظر العقلي لتحصيل العلم ، وهو وسيلة الإيمان .. والأصل الثاني للإسلام تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض ) وقال ( اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل )،ويوضح منهجه في الحديث كما في تفسيره لجزء عم (وعلى أي حال علينا أن نفوض الأمر في الحديث ولا نحكمه في عقيدتنا ، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل) وله ضلالات لا حصر لها ، ويقول رشيد رضا في ( تاريخ الأستاذ الإمام ) ( وقد اهتم بالتقريب بين الأديان إذ أنشأ جمعية سياسية دينية سرية هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة ( الإسلام والنصرانية واليهودية ) وذلك في بيروت بعد أن توقفت العروة الوثقى ، واشترك معه في تأسيسها : ميرزا باقر ، وعارف أبو تراب ، والقس إسحق تيلر ، وبعض الإنجليز اليهود وكان محمد عبده صاحب الرأي الأول فيها ) ، وقال عنه الشيخ مصطفى صبري في كتابه ( موقف العقل والعلم والعالم ... ) ( أما النهضة المنسوبة إلى الشيخ محمد عبده فخلاصتها أنه زعزع الأزهر عن جموده على الدين ، فقرب كثيراً من الأزهريين إلى اللادينيين خطوات ، ولم يقرب اللادينيين إلى الدين خطوة ، وهو الذي أدخل الماسونية في الأزهر بواسطة شيخه جمال الدين ، كما أنه هو الذي شجع قاسم أمين على ترويج السفور في مصر ) .(66/144)
ولهذا كان موقف العدو الصليبي من هذه النبتة الخبيثة غاية في التحمس لها ورعايتها ، قال كرومر الحاكم العسكري البريطاني لمصر مشيداً بمحمد عبده ( كان لمعرفته العميقة بالشريعة الإسلامية والآراء المتحررة المستنيرة أثرها في جعل مشورته ، والتعاون معه عظيم الجدوى ) ويقول كرومر عن أتباع محمد عبده ( وفكرتهم الأساسية تقوم على إصلاح النظم الإسلامية المختلفة دون إخلال بالقواعد الأساسية للعقيدة الإسلامية .. ويتضمن برنامجهم التعاون مع الأوربيين لا معارضتهم ، في إدخال الحضارة الغربية إلى بلادهم ، ثم يشير إلى أنه تشجيعاً لهذا الحزب ، وعلى سبيل التجربة ، فقد اختار أحد رجاله وهو سعد زغلول وزيراً للمعارف ) ، أما ( ولفرد بلنت)وهو جاسوس بريطاني ، فصلته بمحمد عبده قديمة ، ترجع إلى صلته بأستاذه جمال الدين ، وكذا صلته بالثورة العربية ثم سكن بجوار محمد عبده بعد عودته من المنفى ، يصف بلنت الدعوة الإصلاحية بأنها ( الإصلاح الديني الحر ) ويصف مدرستهم بأنها ( تلك المدرسة الواسعة التقنية ) ويقول عن الأفغاني ( إن الفضل في نشر الإصلاح الديني الحر بين العلماء في القاهرة .. يعود إلى رجل عبقري غريب يدعى السيد جمال الدين الأفغاني) وثناء المستعمر الصليبي على رموز هذه المدرسة ومنهجها لا يكاد يصدق أبداً ، ودعمهم لها دعم سخي لأبعد الحدود ، فقد اعتبروا هذه المدرسة وهذا الفكر الخبيث ملحقاً في المندوبية البريطانية ، وحاولوا الترويج له بكل السبل .
ونخشى أن يظن أحد من المسلمين أن فكر المدرسة العقلانية قد اندثر بموت المؤسس والأب الروحي لها ، أو أن الصليبي قد غفل عن دعمها والترويج لها ، كل ذلك لم يحصل ، فالمدرسة العقلانية لا زالت موجودة في ديار المسلمين ، نعم حصلت تعديلات على منهجها وخفضت من مستوى الصراحة ، وزادت من التلبيس على الأمة بالتمسح بأقوال السلف التي لم يكن الأفغاني أو عبده يعتدون بها ، وابتعدت عن الإشادة بالمعتزلة ونشر أقوالهم ، ولكن بقي تقديم العقل على النص هو الأصل ، وتحريف الدين حسب المراد هو السمة الفارقة لهم ، والمستعمر الصليبي لا زال يثني ويبرز في إعلامه الأصلي أو إعلامه العربي المأجور رموز هذه المدرسة ويتيح لهم جميع الإمكانيات لنشر فكرهم ومذهبهم العقلاني تحت شعار ( إن الدين يسر )،وستشهد المنطقة في الأيام القادمة دعماً لهذه المدرسة التي يفترض أنها تكون المرحلة الأولى إلى العلمنة لأنها خليط من الإسلام والعلمانية فهي ( مخنث ) لا إلى الإسلام ولا إلى العلمانية صراحة ، فهدف التحالف ( الصهيوصليبي ) اليوم دعم هذه المدرسة والإشادة برموزها وفسح المجال واسعاً أمامها على جميع الأصعدة لتكون أولاً سداً أمام المنهج الحق القائم في علاقته مع الكافر على العداوة والبغضاء والجهاد في سبيل الله ، وهذا المنهج يطلق عليه الغرب ( الأصولية الإسلامية أو الإسلام الراديكالي أو الوهابية أو الإرهاب ) فهذا المنهج يحتاج إلى سد منيع من نفس بني الجلدة لإيقافه ، يقول القس زويمر في كتابه ( الغارة على العالم الإسلامي ) ( تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ، ومن بين صفوفهم ، لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها ) ، فهذه المدرسة العقلانية لابد أن تكون هي السد أمام الإرهاب ، عملاً بنصيحة ملك فرنسا ( لويس التاسع ) عندما قال ( بأن المعركة مع المسلمين يجب أن تبدأ أولاً من تزييف عقيدتهم الراسخة التي تحمل طابع الجهاد والمقاومة) ولن يكون التزييف إلا عن طريق هذه المدرسة ، ثم بعد ذلك تبدأ المرحلة الثانية وهي الدخول إلى العلمنة بعد أن هدم الولاء والبراء ورفض الجهاد ، كما هو الحال في تركيا ومصر وغيرها التي سارت على نفس المخطط .
ولهذا نقول لقد اصطنع كرومر ورجال الاستعمار والماسونية غطاء من الدعم والمكانة المرموقة لمؤسس هذه المدرسة لتتسرب مبادئها إلى المجتمعات الإسلامية ، ولا زال هذا الدعم متواصلاً ومكثفاً من قبل أبناء كرومر الذين وجدوا حثالة من أبناء الأفغاني ، على أتم الاستعداد لمواصلة مشوار والدهم بشرط توفير الدعم المطلق لهم لتنفيذ ما يريدون .
مستقبل الخطر الرافضي :-(66/145)
إن خطر الرافضة على المنطقة لا يقل عن خطر اليهود والنصارى ، فلم يعرف تاريخ العالم الإسلامي إلا أن الرافضة كانوا عوناً للنصارى أو المشركين في حربهم على بلاد الإسلام ، وعداوة الرافضة المزعومة لليهود أو النصارى هي عداوة لا تعدو أن تكون شعارات فقط ، لتكون سبباً في تصدير الثورة الخمينية ، ولمعرفة حقيقة خطرهم على المسلمين هناك مصنفات متخصصة في هذه الديانة منقولة من كتبهم ، ولن نطيل بشرح ما سبق ذكره أو التدليل له من كتبهم ، ولكن نكتفي في هذه الحلقة بإيراد مقتطفات من الخطة السرية الخمسينية لتصدير الثورة ، والتي نشرتها مجلة البيان في عددها 123 ذو القعدة 1418هـ تحت عنوان ( الخطة السرية الخمسينية لتصدير الثورة الخمينية ) وكانت موجهة في رسالة سرية للغاية من شورى الثورة الثقافية الإيرانية إلى المحافظين في الولايات الإيرانية ، وقد وقعت الرسالة بيد رابطة أهل السنة في إيران التي نشرتها البيان نقلاً عنها ، وننصح بالرجوع لنص الخطة في المجلة ودراستها ومقارنة واقع الرافضة بها ، فلو لم تكن الخطة صدرت منهم حقاً ، لكانت هذه الخطة تعبر بدقة عن واقعهم اليوم ، ونحن نورد من الخطة ما يهمنا وهو قولهم :
قالوا ( إذا لم نكن قادرين على تصدير ثورتنا إلى البلاد الإسلامية المجاورة ، فلا شك أن ثقافة تلك البلاد الممزوجة بثقافة الغرب سوف تهاجمنا وتنتصر علينا ، وقد قامت الآن بفضل الله وتضحية أمة الإمام الباسلة دولة الإثني عشرية في إيران بعد قرون عديدة ، ولذلك فنحن وبناءاً على إرشادات الزعماء الشيعة المبجلين نحمل واجباً خطيراً وثقيلاً وهو تصدير الثورة ؛ وعلينا أن نعترف أن حكومتنا فضلاً عن مهمتها في حفظ استقلال البلاد وحقوق الشعب ، فهي حكومة مذهبية ويجب أن نجعل تصدير الثورة على رأس الأولويات ) .
وقالوا ( ولهذا فإننا خلال ثلاث جلسات وبآراء شبه إجماعية من المشاركين وأعضاء اللجان وضعنا خطة خمسينية تشمل خمس مراحل ، ومدة كل مرحلة عشر سنوات ، لنقوم بتصدير الثورة الإسلامية إلى جميع الدول المجاورة ونوحد الإسلام أولاً ، لأن الخطر الذي يواجهنا من الحكام الوهابيين وذوي الأصول السنية ، أكبر بكثير من الخطر الذي يواجهنا من الشرق والغرب ؛ لأن هؤلاء (الوهابيين وأهل السنة) يناهضون حركتنا وهم الأعداء الأصليون لولاية الفقيه والأئمة المعصومين ، حتى إنهم يعدون اعتماد المذهب الشيعي كمذهب رسمي دستوراً للبلد أمراً مخالفاً للشرع والعرف ، وهم بذلك قد شقوا الإسلام إلى فرعين متضادين ) .
وقالوا ( نحن نعلم أن تثبيت أركان كل دولة والحفاظ على كل أمة أو شعب ينبني على أسس ثلاثة:
الأول: القوة التي تملكها السلطة الحاكمة.
الثاني: العلم والمعرفة عند العلماء والباحثين.
الثالث: الاقتصاد المتمركز في أيدي أصحاب رؤوس الأموال.
إذا استطعنا أن نزلزل كيان تلك الحكومات بإيجاد الخلاف بين الحكام والعلماء ، ونشتت أصحاب رؤوس الأموال في تلك البلاد ونجذبها إلى بلادنا ، أو إلى بلاد أخرى في العالم نكون بلا ريب قد حققنا نجاحاً باهراً وملفتاً للنظر ؛ لأننا أفقدناهم تلك الأركان الثلاثة) .
وقالوا ( ولإجراء هذه الخطة الخمسينية يجب علينا بادئ ذي بدء أن نحسن علاقاتنا مع دول الجوار ويجب أن يكون هناك احترام متبادل وعلاقة وثيقة وصداقة بيننا وبينهم حتى إننا سوف نحسن علاقاتنا مع العراق بعد الحرب وسقوط صدام حسين ، ذلك أن إسقاط ألف صديق أهون من إسقاط عدو واحد .
وفي حال وجود علاقات ثقافية وسياسية واقتصادية بيننا وبينهم ، فسوف يهاجر بلا ريب عدد من الإيرانيين إلى هذه الدول ؛ ويمكننا من خلالهم إرسال عدد من العملاء كمهاجرين ظاهراً ويكونون في الحقيقة من العاملين في النظام ، وسوف تحدد وظائفهم حين الخدمة والإرسال ) .
وقالوا ( إن الفرق الوهابية والشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية كانت تعتبرنا من المرتدين ، وقد قام أتباع هذه المذاهب بالقتل العام للشيعة مراراً وتكراراً ، فنحن ورثة ملايين الشهداء الذين قُتِلوا بيد الشياطين المتأسلمين (السنة) وجرت دماؤهم منذ وفاة الرسول في مجرى التاريخ إلى يومنا هذا ) .
وقالوا كنصيحة للمهاجرين الإيرانيين لدول الجوار كي يتم تغلغلهم في المجتمعات قبل ثورتهم ( يجب حث الناس (الشيعة) على احترام القانون وطاعة منفذي القانون وموظفي الدولة، والحصول على تراخيص رسمية للاحتفالات المذهبية وبكل تواضع وبناء المساجد والحسينيات ؛ لأن هذه التراخيص الرسمية سوف تطرح مستقبلاً على اعتبار أنها وثائق رسمية )(66/146)
وقالوا بعد التغلغل في المجتمعات بكافة الطرق ( في هذه المرحلة حيث تكون ترسّخت صداقة عملائنا لأصحاب رؤوس الأموال والموظفين الكبار ، ومنهم عدد كبير في السلك العسكري والقوى التنفيذية ، وهم يعملون بكل هدوء ودأب ، ولا يتدخلون في الأنشطة الدينية ، فسوف يطمئن لهم الحكام أكثر من ذي قبل ، وفي هذه المرحلة حيث تنشأ خلافات وفرقة وكدر بين أهل الدين والحكام فإنه يتوجب على بعض مشايخنا المشهورين من أهل تلك البلاد أن يعلنوا ولاءهم ودفاعهم عن حكام هذه البلاد وخاصة في المواسم المذهبية ، ويبرزوا التشيع كمذهب لا خطر منه عليهم ، وإذا أمكنهم أن يعلنوا ذلك للناس عبر وسائل الإعلام فعليهم ألاّ يترددوا ليلفتوا نظر الحكام ويحوزوا على رضاهم فيقلدوهم الوظائف الحكومية دون خوف منهم أو وجل ، وفي هذه المرحلة ومع حدوث تحولات في الموانئ والجزر والمدن الأخرى في بلادنا، إضافة إلى الأرصدة البنكية التي سوف نستحدثها سيكون هناك مخططات لضرب الاقتصاد في دول الجوار ، ولا شك في أن أصحاب رؤوس الأموال وفي سبيل الربح والأمن والثبات الاقتصادي سوف يرسلون جميع أرصدتهم إلى بلدنا ؛ وعندما نجعل الآخرين أحراراً في جميع الأعمال التجارية والأرصدة البنكية في بلادنا فإن بلادهم سوف ترحب بمواطنينا وتمنحهم التسهيلات الاقتصادية ) .
وقالوا ( في المرحلة الرابعة سيكون قد تهيأ أمامنا دول ، بين علمائها وحكامها مشاحنات ، والتجار فيها على وشك الإفلاس والفرار ، والناس مضطربون ومستعدون لبيع ممتلكاتهم بنصف قيمتها ليتمكنوا من السفر إلى أماكن آمنة ؛ وفي وسط هذه المعمعة فإن عملاءنا ومهاجرينا سيعتبرون وحدهم حماة السلطة والحكم ، وإذا عمل هؤلاء العملاء بيقظة فسيمكنهم أن يتبوؤوا كبرى الوظائف المدنية والعسكرية ويضيِّقوا المسافة بينهم وبين المؤسسات الحاكمة والحكام)
وقالوا ( في العشرية الخامسة فإن الجو سيكون قد أصبح مهيأ للثورة ؛ لأننا أخذنا منهم العناصر الثلاثة التي اشتملت على: الأمن ، والهدوء ، والراحة ؛ والهيئة الحاكمة ستبدو كسفينة وسط الطوفان مشرفة على الغرق تقبل كل اقتراح للنجاة بأرواحها ، و في هذه الفترة سنقترح عبر شخصيات معتمدة ومشهورة تشكيل مجلس شعبي لتهدئة الأوضاع، وسنساعد الحكام في المراقبة على الدوائر وضبط البلد ؛ ولا ريب أنهم سيقبلون ذلك ، وسيحوز مرشحونا وبأكثرية مطلقة على معظم كراسي المجلس ؛ وهذا الأمر سوف يسبب فرار التجار والعلماء حتى الخَدَمة المخلصين ، وبذلك سوف نستطيع تصدير ثورتنا الإسلامية إلى بلاد كثيرة دون حرب أو إراقة للدماء ) هذا بعض ما جاء في خطتهم الخمسينية ، وما يريدونه لدول المنطقة بأجمعها ، حرب بأسلوب مشابه للأسلوب اليهودي الذي طبق في أوروبا قبل أربعة قرون تقريباً .
وقد شاهدنا في العراق كيف سارع علماء الرافضة بفتح الأبواب للصليبيين وتعاونوا معهم ، للسيطرة على العراق ، ففي بداية الأمر أصدورا فتوى بوجوب قتال العدو الصائل على بلاد المسلمين ، ولم تكن هذه الفتوى إلا للاستهلاك المحلي ، وللإمساك بالعصا من المنتصف ، فلم تطبق هذه الفتوى على أرض الواقع ، وفيلق بدر الرافضي العراقي الموجود في إيران لم يدخل العراق ولم يطلق طلقة واحدة عملاً بهذه الفتوى ، وبعد أن رأى الرافضة أن الكفة تميل للصليبيين سارعوا فيهم وفتحوا لهم الأبواب وتعاونوا معهم للسيطرة على أغلب مدن الجنوب ، فكرروا دور جدهم ابن العلقمي الذي فتح بغداد للتتار ، ولم تملك الإدارة الأمريكية إلا أن تشكر علماء الرافضة على جهودهم في مساعدتها لدخول المدن والسيطرة عليها ، جاء ذلك الشكر في مؤتمر صحفي على لسان العميد ( فنس بروكس ) المتحدث باسم الجيش الأمريكي من مقر القيادة الصليبية الوسطى في الدوحة ، ولا زال الرافضة في العراق يساندون العدو الصليبي ويشون بأهل السنة للقبض عليهم أو قتلهم ، وما اعتقال الصليبيين قبل أربعة أيام لشيخهم الفرطوسي رئيس مكتب الصدر الذي أطلق سراحه بعد يومين من اعتقاله ، إلا دعاية لنفي التعاون الصليبي الرافضي على أعلى المستويات .
ويسعى الرافضة بكل جهدهم وبسلوك أي سبيل لينالوا شيئاً من السلطة في العراق ، فهم اليوم يرفعون شعارات تقول نريد حكومة تمثل الأغلبية ، وبزعمهم أنهم هم الأغلبية ، والقصة هي أن أمريكا قبل حملتها العسكرية الأخيرة على العراق ، أرادت أن تستفيد من الرافضة بأي شكل ، فأصدرت إحصائيات تقول بأن الرافضة في العراق يمثلون الأغلبية وتتراوح نسبتهم ما بين 68 إلى 70% ، إلا أن هذه الأغلبية مضطهدة من قبل نظام سني يعد من الأقليات في العراق ، وهذه الدعاية كانت أمريكا تروج لها أملاً في ثورة الرافضة ليسقطوا صدام ، وثاروا على صدام عام 1411هـ في بعض مدن الجنوب إلا أنهم صدموا من رد صدام ، وصدموا من تنكر أمريكا لهم التي وعدتهم بالدعم المطلق ، وأعادت أمريكا لترويج دعاية الأغلبية لحشد التأييد منهم لشن الحرب الأخيرة .(66/147)
وصدّق الرافضة هذه الدعاية ويطالبون الآن بحكومة تمثل الأغلبية ، ورغم أنه لا يوجد إحصاء رسمي عراقي يفرق بين السنة والرافضة ، إلا أننا من خلال الاستقراء والتتبع نقول ، بأن سكان العراق حسب آخر إحصاء عراقي هو 26 مليون ، تعداد الأكراد منهم هو 6مليون و 500 ألف والأكراد كلهم سنة فتكون نسبتهم 25% من إجمالي السكان باعتراف الجميع بهذه النسبة ، والتركمان وغالبيتهم سنة تعداد السنة منهم مليون ومئتي ألف نسمة نسبتهم 4.5% من إجمالي السكان ، الديانات الأخرى كالنصارى واليهود والصابئة والمجوس تعدادهم 780ألفاً أي أن نسبتهم 3% ، فيبقى العرب سنة ورافضة وتعدادهم 17 مليون و 550 ألفاً ، ونسبتهم تساوي 67.5% ، فلو قلنا بأن العرب كلهم رافضة لم تساوي النسبة ما زعموا ، فكيف إذا كانت هذه النسبة أكثر من نصفها من السنة ، فبغداد البالغ عدد سكانها أكثر من ستة ملايين ونصف ، فيها ما يقرب من ثلاثة ملايين ونصف المليون سني ، والموصل كل العرب الذين فيها سنة ويبلغ تعدادهم مليونين ونصف ، والأنبار للسنة العرب وتعدادهم أكثر من مليون نسمة ، وتكريت كلها سنة عدد سكانها مليوني نسمة ، وإذا كان مجموع السنة في البصرة والحلة والمسيب والزبير والناصرية وديالي وغيرها يقدر بمليون على أقل الأحوال فمعنى ذلك أن تعداد السنة العرب يساوي 10 ملايين نسمة تقريباً ، ويبقى للرافضة 7 مليون 550 ألفاً ، وتكون نسبة السنة العرب من إجمالي سكان العراق 38.5% ونسبة الرافضة العرب والعجم من إجمالي سكان العراق 29% ، هذه هي أقرب الأرقام للحقيقة بعيداً عن الدعايات الصليبية والرافضية وتضخيم النسب لأهداف سياسية ، فإذا كان الرافضة ينادون بحكومة تمثل الأغلبية فيفترض أن تكون الحكومة سنية لأن الأغلبية في العراق سنية ونسبتها تساوي 68% من عرب وعجم .
المشكلة أن هذه النسبة من السنة مغيبة عن أرض الواقع ومهضومة الحقوق فلا يوجد دولة سنية ترعاهم وتطالب بحقوقهم ، ولن يتمكن السنة من فرض حقوقهم الشرعية واسترجاعها إلا برفع راية الجهاد ضد أعداء الأمة والدين .
وخلاصة الأمر أن خطر الرافضة على هذه الأمة يعادل خطر اليهود والنصارى ، ولهم مخططات متشابهة ضد الأمة ، ولابد من أن تحذر الأمة منهم ولا تنخدع بهم ، فهم يعملون بالتقيا على مستوى الفرد والجماعة والدولة ، فالتقيا أصل من أصول دينهم ومن لا تقية له لا دين له كما هو أصل دينهم ، فالحذر الحذر فخطرهم ليس على العراق وحدها بل هو على جميع المنطقة ، فإذا بسط الرافضة نفوذهم في العراق أو نالوا شبه حكم ذاتي في جنوب العراق ، فقد اقتربوا أكثر من فرض أنفسهم ، فهم تعداد لا يستهان به في السعودية وفي الكويت وفي البحرين ، فهذا التعداد إذا كان منسق الجهود ومدعوم المبادرات عبر دول ترعاه هي إيران وسوريا ولبنان ، فهذا يعني أنهم قد وصلوا إلى مراحل متقدمة في خطتهم الخمسينية التي عرضنا بعض مقتطفاتها في هذه الحلقة ، فعلى المسلمين الحذر ، فالرافضة لا يمانعون من وضع أيديهم بأيدي العدو الصليبي أو اليهودي ضد أهل السنة ، فخطر السنة وكفرهم عند الرافضة أشد من اليهود والنصارى ، والمتتبع للتاريخ يعرف كيف وضع الرافضة أيديهم بأيدي أعداء الأمة لطعنها في ظهرها ، ويكفي أن الرافضة هم الذين انتهكوا حرمة بيت الله وسرقوا الحجر الأسود لمدة عشرين عاماً قبل أن يعاد ، والمطلع على عقائدهم لا يكاد يصدق من هول الحقد والشر الذي تخفيه صدورهم ، فحذراً منهم أيها المسلمون ، ونحذر أيضاً من دعاة التقريب مع الرافضة فلن يزيد هذا التقريب الأمة إلا شراً ، فالتقريب مع الرافضة أشد خطراً من التقارب مع اليهود ، فاليهود عداؤهم معروف والرافضة يتقون ويتمسحون بالإسلام ، ويخدعون أبناء الأمة ، فكيف يا دعاة التقريب نتقارب مع من يجمعون على أن القرآن مخلوق ومحرف ومنقوص ومزيد ، كيف نتقارب مع من يجمعون على نسبة البدء لله أي الجهل بالشيء قبل وقوعه أو تقديره ، كيف نتقارب مع من يجمعون على سب وتكفير أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم وسب زوجاته ورمي عائشة رضي الله عنها بالزنى ، كيف نتقارب مع من يصرفون كل أنواع العبادات لغير الله فيصرفونها لقبور أئمتهم من ذبح ونذر واستغاثة وطواف وسجود واستعانة ودعاء إلى غير ذلك ، إذا كنتم تدعون إلى التقارب مع من هذه عقائدهم ، فالتقارب مع النصارى ربما يكون أخف شراً ، أم أن اسم الاسلام خدعكم ، فليس كل من زعم الإسلام مسلماً إذا كانت أفعاله تناقض الإسلام جملة وتفصيلاً .
لقد أطلنا هذه الحلقة على غير المعتاد ، ولكن الإطالة جاءت لترابط الموضوع عن المستقبل الديني المتوقع للمنطقة ، وقد تركنا معالم كثيرة للمستقبل الديني خشية الإطالة أكثر من هذا ، وفي الحلقة القادمة بإذن الله تعالى ، نجيب عن بقية السؤال الأخير فنتحدث عن المستقبل العسكري والسياسي والاقتصادي المتوقع للمنطقة .
==================(66/148)
(66/149)
الحرب الصليبية على العراق -الحلقة الثانية عشرة
أجبنا في الحلقة الماضية على جزء من السؤال الأخيرة من قائمة أسئلة هذه الحلقات ، وانحصرت أجابتنا على هذا السؤال في الحلقة الماضية على جزء واحد منه ، وهو المستقبل الديني المتوقع للمنطقة ، وفي هذه الحلقة نكمل الإجابة على بقية السؤال الأخير ، ونعيد السؤال وهو :-
س 35 : ما هو المستقبل الديني والعسكري و السياسي والاقتصادي للمنطقة في حال انتصار أي الطرفين في العراق ؟ وماذا نفعل لتجنب هذه الآثار السلبية ؟ .
ج 35 : ذكرنا في الحلقة الماضية أننا سنجيب في هذه الحلقة بشكل إجمالي عن المستقبل العسكري والسياسي والاقتصادي المتوقع للمنطقة ، إلا أن التطورات الصورية التي حصلت على الموقف الأمريكي العسكري في المنطقة ، ونعني بها إعلان انسحابهم من السعودية ، دفعنا إلى أن نعيد إلى الأذهان ، أصل المشروع العسكري الأمريكي في المنطقة وتاريخه ، والأسباب التي حملت أمريكا على إقامة قواعد لها في الخليج ، ولن نحاول الإطالة بتفصيل أصل المشروع العسكري الأمريكي ، ولكننا سنحاول وضع خطوط رئيسة لذلك ، يفهم من خلالها التطورات العسكرية الأمريكية في المنطقة السابقة واللاحقة .
الإعلان الذي لا أثر له :
إن التطور الصوري ، الذي دفعنا لشرح أصل التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة ، هو ما أعلنته الحكومة الأمريكية يوم الثلاثاء 27/2/1424هـ ( أنها ستقوم بتصفية وجودها وعملياتها العسكرية في المملكة العربية السعودية ) ، وقال وزير الدفاع الأمريكي أثناء زيارته للمنطقة في نفس اليوم تعليلاً لهذا القرار ( عندما لا تكون هناك مراقبة جنوبية فمن البديهي ألا نحتاج لأفراد هنا ، وأكد أنه لم يبق إلا بعض العسكريين الأمريكيين للمشاركة في مهام التدريب في المملكة العربية السعودية ) ويقصد بالمراقبة الجنوبية ، مراقبة حظر الطيران الذي فرضته أمريكا بعد حرب الخليج الثانية 1411هـ ، على جنوب العراق، وهي منطقة جنوب خط 33درجة .
ومما يظهر كذب الوزير في تصريحه السابق ما أعلنه البنتاغون أنه سوف يبقي من جنوده في السعودية 10 آلاف جندي أمريكي لأغراض التدريب ، وهو العدد الذي وصفه وزير الدفاع ببعض الجنود ، ولكن إذا كانت أمريكا والسعودية تزعمان سابقاً أن القوات الأمريكية في السعودية تقدر بخمسة آلاف ضابط وجندي ، كيف يمكنها سحب كافة قواتها والإبقاء على عشرة آلاف ؟! فما هذا التناقض ؟ ، فإذا كانوا لم يصدقوا من قبل في إعلان تعداد القوات الحقيقية ، فهل سيصدقون في إعلان القوات التي سترحل أو التي ستبقى ، وعلى كل حال فإن هذا ستظهره الأيام .
ونقلت شبكة الـ ( سي إن إن ) عن مصدر عسكري في البنتاغون في نفس اليوم ( أن التواجد الأمريكي العسكري في قاعدة الأمير سلطان الجوية بالسعودية يتوقع أن ينتهي هذا الصيف ، اعتماداً على الوضع الأمني في العراق ) وأضافت الشبكة أن مصادر عسكرية أمريكية ( أكدت لها يوم الاثنين أن الإدارة المركزية للقوات الأمريكية قررت نقل مركز عمليات القوات الجوية من المملكة العربية السعودية إلى دولة قطر ) ، فإذا كان سحب القوات الأمريكية من السعودية بسبب سقوط صدام ، فلماذا لا تسحب القوات من الكويت ؟ وما الحاجة لنقلها إلى قطر ؟.
ونحن لن نعلق على مغزى هذا القرار وأسبابه ونتائجه وأهدافه ومصداقيته ، وإن كان من المفترض أن يفرد بالحديث ، إلا أننا نرى أن الأهم من هذا هو أن نصحح المفهوم الخاطئ لدى الكثير من أبناء الأمة ، والذي حاولت الإدارة الأمريكية ترسيخه بهذا الإعلان ، وهو أن الوجود الأمريكي كان لأجل حماية دول المنطقة من خطر العراق ، وعندما زال خطر العراق فلا داعي للبقاء كما قال وزير الدفاع الأمريكي ، وفي الحقيقة أن الذي يظن أن التواجد العسكري الأمريكي هو لحماية الدول وشعوب الدول أو أمنهم في المنطقة ، أنه جاهل لا يعي ما يحصل حوله ، والذي يظن أن التواجد الأمريكي العسكري في المنطقة يحترم الحكومات القائمة الحالية ويضعها كشريك فهو جاهل أيضاً ، إن الحكومات في المنطقة تتخذها أمريكا كمنفذة لسياساتها ، ولو تمردت وقالت لا ، فإنها ستضطر إلى تغييرها ، وسنأتي بما يثبت ذلك من كلام الأمريكيين أنفسهم .
الأهداف التي من أجلها تواجدت أمريكا في المنطقة :(66/150)
إن التواجد الأمريكي في المنطقة لم يكن ردة فعل لقضية محددة كضربات سبتمبر أو لتسلط رئيس غاشم ، إن التواجد الأمريكي في المنطقة هو استراتيجية لا يمكن لأمريكا أبداً أن تتنازل عنها ، وهي على استعداد أن تقاتل دول المنطقة بأكملها من أجل البقاء في المنطقة ، كما أنها على استعداد أيضاً لقتال حلفائها من دول أوروبا لتحقيق أهدافها في المنطقة ، إن المنطقة هي شريان العالم للحياة ، ومن يسيطر على هذا الشريان فسوف ينتعش ويسود ، ومن ثم فإنه سيسيطر على العالم ويخنقه بلا رحمة حسب قناعتهم ، هذا هو ملخص أهمية المنطقة بالنسبة لأمريكا ، فمن السذاجة والسخف أن يظن أن القوات نزلت بسبب صدام ، وسترحل بزوال صدام ، كما أنه من السذاجة أيضاً أن يظن ولو بقدر بسيط جداً أن لهذا الإعلان نعني به - إعلان إخلاء السعودية من القوات الأمريكية - حقيقة على أرض الواقع ، التحرك والانتقال من دولة إلى أخرى في المنطقة لا يعدو أن يكون مجرد تحرك عسكري تكتيكي ، ولكن الاستراتيجية ثابتة ، وهي ضمان السيطرة على منابع النفط ، والسيطرة على الممرات وضمان سلامة وصول النفط ، وضمان أمن إسرائيل ، وضمان عدم وصول الإسلاميين إلى أية سلطة في المنطقة، أو تحركهم بما يهدد سيادة أية دولة في المنطقة ، هذه هي الاستراتيجية العسكرية الأمريكية الثابتة في المنطقة ، و هذا هو المظهر الواضح للصورة ، وكل ما يحصل في خلفيات الصورة فهو لا يمثل أكثر من تغيير في الديكور لإعطاء الصورة مسحة جمالية خداعة ، تروج على شعوب المنطقة ، والمغفلين .
وحتى نوضح الاستراتيجية التي أشرنا إليها قبل قليل لابد من الإطالة في تجلية الصورة ، ولكن سنحاول الاكتفاء بإشارات يسيرة دون التفصيل ، رغبة في الاختصار فنقول :
إن أهمية منطقة قلب العالم الإسلامي ، ولا نقول الشرق الأوسط فهو مسمى مستحدث لإدخال الورم السرطاني اليهودي ضمن منظومة دول المنطقة ، فتعبير الخليج لا يدخل إسرائيل ، وتعبير الدول العربية لا يدخل إسرائيل ، فتم إنشاء مصطلح الشرق الأوسط ليشمل إسرائيل وتكون طبيعية ضمن دول المنطقة .
نقول إن أهمية المنطقة بالنسبة للعالم عامة وللأمريكيين خاصة ، لم تقتصر على أنها منطقة التهديدات المحتملة من قبل المعسكر الشرقي فحسب ، بل جاءت الأهمية لأن المنطقة تشكل مسرحاً أساسياً لجميع دول العالم على الصعيد الاستراتيجي ، فمن حضي بها فقد حضي بنصيب الأسد على هذا المسرح .
ودول الصليب لم تعرف أهمية المنطقة بعد اكتشاف النفط ، بل عرفت أهميتها قبل ذلك ، فهي تعتبر قلب الممرات الحيوية في العالم ، ورابطة القارات ، ومنذ أربعة قرون فقد حاول الصليبيون السيطرة على المنطقة ، لما لها من أهمية دينية وجغرافية ، وحاول البرتغال وحاولت فرنسا وجاءت بعدهما بريطانيا ، وتفردت بالنفوذ بعد السيطرة الكاملة لها على سائر المستعمرات فأصبحت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس ، وكانت المنطقة بالنسبة لها هدفاً استراتيجياً لا يمكن التنازل عنه قبل اكتشاف النفط .
وبعد الحرب العالمية الثانية 1366هـ 1947م ، بدأت القوة البريطانية تنحسر وتضعف ، مما تسبب باستقلال أكثر مستعمراتها ، ومع تخلي بريطانيا عن أغلب مستعمراتها ، إلا أنها عضت بنواجذها وأنيابها على منطقة الخليج الغنية ، ومع ضعف القوة البريطانية برزت مكانها حليفتها الجديدة الولايات المتحدة ، وحاولت منازعتها على نفوذها وخاصة في المنطقة التي زادت أهميتها بعد ظهور النفط ، ويقول الرئيس الأمريكي الأسبق نكسون في مذكراته ( أن أول تواجد عسكري أمريكي مكثف في المنطقة كان في منتصف عام 1367هـ 1948م عبر ( مبدأ ترومان ) الذي أمر في ذلك الوقت بتشكيل القوة الخاصة السادسة التي كانت سابقاً تدير الأسطول السادس الأمريكي ، وبدأت الطائرات الأمريكية على الفور باستخدام القواعد الليبية والتركية والسعودية ضمن قانون الإعارة والتأجير الذي سعى الرئيس روزفلت إلى إدخال المملكة العربية السعودية فيه كدليل على حسن النوايا تجاهها ) .
أهمية المنطقة بالنسبة للأمريكان قديماً :
ويكفي أن تعرف أهمية المنطقة بالنسبة للأمريكان من بعض تصريحات قادتهم قديماً حيث يقول ( جيمس رورستال ) وزير الدفاع الأمريكي عام 1364هـ 1945م كما نقلت عنه مجلة الفكر الاستراتيجي العربي قوله ( خلال السنوات الخمس والعشرين المقبلة ستواجه الولايات المتحدة احتياطيات نفطية منخفضة انخفاضاً حاداً ، ونظراً لأن النفط ومشتقاته هي أسس القدرة على خوض حرب حديثة ، فإنني أعتبر هذه المشكلة واحدة من أهم المشاكل الحكومية ، والتي لا يعنيني أية شركة أو شركات أمريكية سوف تستثمر الاحتياطيات العربية ، لكنني أشعر بأقصى قدر من اليقين أنها يجب أن تكون أمريكية ) .(66/151)
ومما زاد من أهمية المنطقة بالنسبة لأمريكا ، دخولها الحرب العالمية إلى جانب الحلفاء عام 1360هـ 1941م ، وقد زادت بالأخص بالنسبة لها أهمية الأراضي السعودية ، قال وزير الخارجية الأمريكي السابق ( هل ) ( لقد زادت حاجة وزارتي البحرية والحربية الأمريكية للنفط السعودي ، إضافة إلى حاجة الجو الأمريكي للأراضي السعودية).
ولذلك رأت هيئة الأركان الأمريكية عام 1362هـ 1943م أن إمدادات النفط الخام من النفط الأمريكي غير كافية لإمداد القوات المسلحة الأمريكية ، وهذا يعني ضرورة وجود مصادر أخرى ، شريطة أن تكون قريبة من موقع الأسطول الأمريكي ، ولهذا الهدف تم إنشاء مصفاة رأس تنورة عام 1364هـ 1945م ، وهذا هو الدافع لبناء أول قاعدة عسكرية في الظهران وذلك عام 1362هـ 1943م التي انتهى تشييدها عام 1365هـ 1946هـ ، ثم جددت السعودية الاتفاقية لهذه القاعدة لمدة خمس سنوات أخرى عام 1370هـ 1951م،ولهذا وصف تحليل لوزارة الخارجية الأمريكية عام 1364هـ1945م ( المملكة العربية السعودية بأنها مصدر وافر للقوة الاستراتيجية وإحدى أكبر الجوائز المادية في التاريخ العالمي ) .
هذا الوصف الذي أطلق على السعودية ، ليس لتقدمها الحضاري أو لقوتها العسكرية ، بل جاءت هذه الأهمية لموقعها على مياه الخليج والبحر الأحمر ، ولأنها - وهو الأهم - تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم ، ويقدر مخزونها بـ ( 165 مليار برميل ) ، وهذه الأهمية هي التي دفعت الرئيس الأمريكي ( روزفلت ) عام 1362هـ 1943م إلى أن يطبق قانون الإعارة مباشرة مع السعودية بدلاً من وساطة بريطانيا الراعي الأول ، وأعلن حينها ( أن حماية النظام السعودي هي مسئولية أمريكية ) ولم يأت هذا الإعلان إلا بعد معرفة الحاجة الماسة إليها وإلى دول المنطقة لما تنعم به من ثروة نفطية ، علماً أنهم اعترفوا بالسعودية في شهر محرم لعام 1350هـ 1931م .
والمنطقة كلها ليست السعودية وحدها ، بل إن السعودية هي أكبر دول المنطقة مخزوناً بل أكبر دول العالم مخزوناً ، فدول الخليج تنتج 62% من مجمل الإنتاج العالمي ، ويوجد في منطقة الخليج 370 مليار برميل على الأقل من الاحتياطي النفطي ، وهو يعادل ثلثي احتياطي العالم ، وهذا هو الذي دفع الرئيس الأمريكي السابق نيكسون ليقول في مذكراته ( أصبحت الآن مسألة من يسيطر على ما في الخيلج العربي والشرق الأوسط ، تشكل مفتاحاً بيد من يسيطر على ما في العالم ) وقال ( إن منطقة الخليج كانت ذات يوم تنعم إلى حد كبير بخيال رومانتيكي أصبحت الآن تمسك مصير العالم بذراعيها أو برمالها بتعبير أدق ) .
ويقول الرئيس كارتر ( لو أن الله أبعد النفط العربي قليلاً نحو الغرب لكانت مشكلتنا أسهل ) ، فهم يعانون حقاً مشكلة كبيرة، فمصيرهم معلق بتلك المنطقة ، وضمان أمن مصيرهم يكتنفه مخاطر جمة هم يرون أن تغلبهم عليها في هذا العقد ، لا يضمن تغلبهم عليها في العقد الذي بعده ؟ لذا فإنهم فكروا بحلول جذرية أو طويلة الأجل لا تنتهي بزوال صدام .
مما سبق يتضح لنا أن التصريح بإنهاء التواجد العسكري الأمريكي بسبب زوال صدام، ما هو إلا إعلان ساذج لاستغفال الأمة، لا يصدقه إلا السذج ، التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة ، يعد بالنسبة لهم تأميناً لأعظم مصالحهم الاستراتيجية والتي بزوالها سيزولون حتماً ، وليست أهمية المنطقة محط أنظار الأمريكيين قديماً فقط ، بل هي محط أنظار قوى العالم كلها ، قبل أمريكا ، بما فيهم حلفاء أمريكا الأوروبيون وحلفهم ( الناتو ) .
أهمية المنطقة بالنسبة للأوروبيين قديماً : -
ففي آواخر السبعينات الهجرية مطلع الستينات الميلادية ، قدم الرئيس الفرنسي الجنرال الشهير ( شارل ديغول ) دعوته لتأسيس ( مجلس إداري ) يقوم بمعالجة الأوضاع خارج المنطقة الأوروبية ، إلا أن الرئيس الأمريكي ( إزنهاور ) رفض هذا الاقتراح في حينه ، ويقول الداعون إلى تأسيس هذا المجلس أن الوضع الجديد في المنطقة ( البترولية ) يدعو إلى إقامة الاحتياطات اللازمة لاتخاذ القرارات السريعة دون اللجوء إلى المشاورات السياسية المطولة ، وتزايد بين أروقة حلف الناتو الإلحاح على تشكيل هذا المجلس ، بعد بروز النفط كسلعة حيوية بالنسبة للغرب لا يمكن أن يستغنوا عنها ، ووصل الإلحاح قمته بعد حرب رمضان مع اليهود عام 1393هـ 1973م ، واتخذ حلف الناتو قراراً مبدأياً في مطلع عام 1394هـ 1974م ، أثناء اجتماع وزراء خارجية الحلف في كندا ، وكان القرار الموافقة على توسيع رقعة اهتمامات الحلف خارج منطقة معاهدة شمال الأطلسي ، وبعد غزو السوفييت لأفغانستان عام 1399هـ 1979م ، صرح الحلف بأن الخطر الأساسي على الغرب لا يقع في أوروبا ، بل يقع في المناطق النفطية الحيوية وخطوط المواصلات إليها .(66/152)
بدأ بعد هذا القرار النقاش داخل حلف الناتو حول إنشاء قوات ( التدخل السريع ) ، ولم يكن أمام الحلف إلا ( قيادة القوات الحليفة المتحركة في أوروبا ) والتي تساهم في قيادتها سبع دول من أعضاء الحلف هي ( بلجيكا وكندا وألمانيا الغربية وإيطاليا و لوكسمبورغ وبريطانيا والولايات المتحدة ) وحجم هذه القوات هو لواء مشترك معزز ، وقد تم إنشاء هذه القوة عام 1380هـ 1961م لدعم قوات الناتو في الجناحين الجنوبي والشمالي داخل منطقة الحلف ، وكان من أول الداعين لتفعيل دور هذه القوة الجنرال البلجيكي ( روبرت كلوز ) الذي دعا إلى إعادة تنظيم هذه القوات وتقويتها وإعطائها مهام على الصعيد العالمي بما في ذلك حماية مصادر النفط .
وكانت خيارات الحلف انحصرت بعد حرب رمضان مع اليهود عام 1393هـ وبعد أزمة النفط التي تلتها ، في خيارات واضحة ومحددة ، أهمها خياران .
الأول : الدعوة إلى توسيع رقعة حلف الناتو جغرافياً بحيث تشمل كل المنطقة العربية، وقد تم رفض هذا الخيار لأسباب عديدة، أهمها أن معاهدة الحلف تعتبر معاهدة ( دفاعية ) ، ولا تتيح العمل الهجومي خارج حدود الحلف ، وهي جميع مناطق دول الحلف في أوروبا وشمال أمريكا ، بما في ذلك شمال المحيط الأطلسي والمنطقة الواقعة شمال مدار السرطان .
ولكن في ظننا أن هذا الاعتراض قد زال الآن ، لأن الحلف قد غير معاهدته في القمة التي تلت انتصار الحلف على صربيا في أول عام 1420هـ 1999م ، فوسعوا المعاهدة لتشمل التدخل في أي مكان في العالم، دون الحاجة إلى الرجوع لمجلس الأمن ، إلا أن الدعوة إلى توسيع اهتمامات الحلف لتشمل حماية النفط ، لن يقف أمامها في هذه الأيام معاهدة الحلف بل سيقف أمامها أمريكا التي تسيطر على الحلف ، ولن تسمح لغيرها منازعتها على مناطق نفوذها .
الثاني : إنشاء ( قوات تدخل ) غربية مشتركة ، لتتسلم الدور العالمي ، تنفصل هذه القوات عن قيادة حلف الناتو للتغلب على المصاعب السياسية ، ويمكن إدخال دول أخرى كاستراليا واليابان وغيرها ضمن هذه القوة ، وهذا الخيار هو الذي لاقى قبولاً بين الأعضاء ، وبدأت الطروحات تتوالى للبدء في تنفيذه من أجل حماية المصالح الغربية في المنطقة أو بالمعنى الأصح ( احتلال المنطقة من جديد ) ، وبدأ الحلف بما فيهم أمريكا وضع الخطط لمثل هذا الاحتلال.
أمريكا تقطع الطريق على أوروبا وتعلن استعمار الخليج بإعلان مبادئها الأساسية فيه : -
إلا أن أمريكا لم تكن لتدع غيرها ولو كانوا حلفائها بأن ينالوا شيئاً على حساب حصتها ، فأثناء طرح تشكيل قوة تدخل لحماية المنطقة بين أروقة ( الناتو ) ، أعلن ( جوزيف سيسكو ) مساعد وزير الخارجية الأمريكي عام 1393هـ 1974م ، ليقطع الطريق على الحلف بقوله ( بأن منطقة الخليج هي منطقة للولايات المتحدة فيها مصالحها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية الهامة جداً جداً ) .
وفي الوقت نفسه صرح ( جيمس نويس ) نائب وزير الدفاع الأمريكي ، وحدد مصالح أمريكا وأهدافها في المنطقة فقال إن أمريكا بحاجة إلى :
1- احتواء القوة العسكرية السوفيتية ضمن حدودها الحالية .
2- استمرار الوصول إلى نفط الخليج .
3- استمرار حرية السفن والطائرات الأمريكية في التحرك من المنطقة وإليها .
ويشرح ( جوزيف سيسكو ) مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق ، مبدأ تأمين النفط لدى الأمريكيين بأنه يتكون من ثلاثة عناصر أساسية .
أولها : استمرار القدرة على تحصيل الواردات النفطية .
ثانيها : وبأسعار معقولة .
ثالثها : وبكميات كافية ، للوفاء بالاحتياجات الأمريكية المتنامية ، واحتياجات أصدقاؤهم الأوروبيين والآسيويين.
ومبدأ تأمين النفط هو أكبر المهام العسكرية التي وضعت الولايات المتحدة جهودها العسكرية في المنطقة لخدمته ، وهي عازمة على التحرك في أي اتجاه أو صنع أي شيء مقابل هذا المطلب ، فعندما يسخر بعقولنا وزير الدفاع الأمريكي أو أحد من عملائه ويعلنوا بأن الحاجة انتهت من تواجد القوات الأمريكية بسبب زوال صدام ، فإننا لن نقبل بما أن الحفاظ على هذا المبدأ قائم وهو الركيزة الرئيسة للوجود العسكري الأمريكي في المنطقة رغماً عن الجميع .
استعداد أمريكا ضرب الدول المصدرة للنفط إذا خرجت عن تعاليمها النفطية :-(66/153)
وحتى لو ضمنت الدول المنتجة للنفط تدفق النفط لأمريكا ، فهل سيرضي ذلك أمريكا ؟ ، كلا لن يرضيها فإنها تريد أسعاراً تناسبها وكميات كافية هي تحددها ولا أحد سواها ، فلا يمكن فصل أمن المنابع ، عن تدفق النفط بالسعر المناسب والكمية الكافية ، فتخفيض الإنتاج من قبل المنتج يؤدي إلى زيادة السعر ، مما يؤدي إلى الإضرار بالاقتصاد الأمريكي ، وهو مشابه تماماً لعملية احتلال عدو خارجي لمنابع النفط وإيقاف التصدير عن أمريكا ، فأمن النفط وسعره وكميته هم أمريكي لا يمكن المساومة عليه بحال حتى مع المصدرين أنفسهم ، يقول ( هنري كيسنجر ) وزير الخارجية الأمريكي في مطلع 1395هـ 1975م (بالرغم من أن أية خطوة عسكرية أمريكية في الخليج ستكون شديدة الخطورة ، فإنني لا أستطيع القول بأنه لن تطرأ ظروف على المنطقة ، تؤدي إلى استعمالنا لقواتنا العسكرية ، إن استعمال القوة العسكرية في حال الخلاف حول سعر النفط هو شيء ، لكن قيام محاولة حقيقية لخنق العالم الصناعي هو شيء آخر ) وهذا يعني أن أمريكا على استعداد لضرب منتجي النفط أنفسهم في حال اتباعهم لسياسات حيال السعر أو الكمية التي قد تؤدي إلى اختناق الدول الصناعية ، فالمحافظة على هذا المبدأ يقتضي شن حروب متواصلة لضمان هذه الركائز الثلاث ، فمن السخف تعليق الوجود الأمريكي بصدام ، رغم وضوح الأهداف الأمريكية والدوافع لهذا التواجد العسكري .
ولا يستغرب تصريح ( كيسنجر ) السابق الذي أقر فيه استخدام القوة ضد المنتجين أنفسهم ، فقد جاء الأمر بأصرح من ذلك بعد أزمة النفط التي خنقت أمريكا عام 1393هـ حيث وضعت وزارة الدفاع البنتاغون و مجلس الأمن القومي في الولايات المتحدة خطة أطلق عليها اسم ( الظهران الخيار الرابع ) ، وهذه الخطة ترمي إلى احتلال حقول النفط السعودية في حال نشوب حرب ينجم عنها حظر عربي للنفط مرة أخرى ، وقد تركزت هذه الخطة على غزو حقل الغوار النفطي وهو يعد أكبر احتياطي نفطي في العالم ، وتم وضع الخطة التي تتولى الهجوم فيها تسع كتائب مشاه محمولة جواً ، تنطلق من ولاية ( نورث كارولينا ) الأمريكية ، وبحماية جوية إلى الخليج عن طريق القاعدة الإسرائلية ( حتسريم ) - واليوم لا تحتاج هذه الكتائب أن تنطلق من أمريكا ، بل إنها ستنطلق من العراق أو الكويت أو قطر - ، وتستولي هذه الكتائب على حقول النفط في الظهران بعد إجلاء الرعايا الأمريكيين ، ثم تزحف باتجاه حقل الغوار والسفانية في الصحراء ، بعد الاستيلاء على أرصفة الموانئ ومستودعات التخزين في رأس تنورة ، وتبدأ بالتمركز في المنطقة وزيادة القوات بإرسال كتيبة مشاه مدعمة للسيطرة على المنطقة ، وقد ذكرت الخطة بأن تنفيذ هذه المهمة أسهل بكثير من أي خطة أصغر منها حجماً في فيتنام أو كوبا ، وذلك لقلة الكثافة السكانية في المنطقة ، ولوجود الحقول النفطية في صحراء قاحلة ليس فيها أشجار أو جبال تعيق من التقدم فيها أو حمايتها .
وجاء في مقدمة هذه الخطة كمبرر لها مقولة ( ليس أمامنا إلا الانهيار الاقتصادي ، أو الاستيلاء على السعودية في حال ظهور أية بوادر للخنق الاقتصادي ) ، وربما يعد هذا الدافع هو الذي دفعهم للعدوان على العراق دون مبرر يذكر ، وإذا لم يف العراق باحتياجاتهم ولم يتمكنوا من ضمان السعر المطلوب والكمية الكافية ، فربما يلتفتون إلى دولة أخرى قد تكون قطر أو السعودية أو الكويت التي ظهرت أصوات أمريكية رسمية بضرورة ضم الأخيرة إلى العراق ، والتحرك العسكري الأمريكي الأخير دون تنسيق ظاهر مع حكومات المنطقة يثير الشكوك تجاه ذلك .
وليست خطة غزو حقول النفط السعودية واحتلالها والسيطرة عليها ، خطة قديمة تم التخلي عنها ، بل إنها لا زالت خياراً يطور ويخطط له بكل السبل ، وفي جلسة للكونجرس بعد الذكرى الأولى لضربات سبتمبر ، أعيد طرح مشورع احتلال السعودية وتقسيمها إلى ثلاث كانتونات ، تكون المنطقة الشرقية فيها دولة نفطية ديمقراطية مستقلة تحت السيادة والحماية الأمريكية ، وطرحت مشاريع كثيرة تنادي بمثل هذه الحلول الجذرية ، كما عبروا عنها ، ونظن أن العدوان على العراق هو أحد مراحل هذه الخطة الجذرية .
هذا هو الدافع للتواجد العسكري الأمريكي من الناحية الاقتصادية ، وليس الدافع الوحيد فالدوافع الاقتصادية كثيرة لا نطيل بسردها .
الدافع السياسي الأكبر للتواجد العسكري الأمريكي في المنطقة :-(66/154)
إلا أنه الدوافع من الناحية السياسية يبقى على رأس الهرم فيها تحقيق حلم ( إسرائيل الكبرى ) ، و هو أهم الركائز العقدية والسياسية للتواجد الأمريكي في المنطقة ، وقد ذكرنا شواهد على ذلك في الحلقة الماضية ، وفي الحلقة الثانية أيضاً ، ونورد هنا لتأكيد ذلك مقولة واحدة للرئيس الأمريكي السابق ( نيكسون ) في كتابه نصر بلا حرب حيث قال ( نرى أن صراع العرب ضد اليهود يتطور إلى نزاع بين الأصوليين الإسلاميين من جانب ، وإسرائيل والدول العربية المعتدلة من جانب آخر ، ومالم تتغلب هذه الأمم على خلافاتها وتعترف بأنها تواجه خطراً شديداً يهددها فربما سيظل الشرق الأوسط هو المنطقة الأكثر احتمالاً للانفجار في العالم ) .
ويتفرع عن تحقيق حلم ( إسرائيل الكبرى ) وأمنها ، ضمان عدم وصول الإسلاميين إلى أية سلطة في المنطقة ، أو تحركهم بما يؤثر على سياساتهم ، فهذا مطلب أمريكي استراتيجي ملح ، فبرغم التطاحن بين الصليبيين وفي طفرة الحرب الباردة ، بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا عام 1405هـ 1985م ، إلا أن هذا لم يكن كافياً لنسيان حربهم للإسلام ، فقد صرح الرئيس الأمريكي السابق ( نيكسون ) ، بعد تولي ( جورباتشوف ) لرئاسة الاتحاد السوفيتي ، كما نشرت مجلة الشئون الخارجية قال ( يجب على روسيا وأمريكا أن تعقدا تحالفاً حاسماً لضرب الأصولية الإسلامية ) ، وفي كتابه نصر بلا حرب يؤكد ( نيكسون ) (بأن واجب الولايات المتحدة ورسالتها في الحياة هي زعامة العالم الحر ، الذي يجب بدوره أن يتزعم العالم ، وأن الوسيلة الوحيدة لهذه الزعامة هي القوة ، وأن العدو الأكبر في العالم الثالث هو الأصولية الإسلامية) .
مبدأ نيكسون :-
كما أن تأمين بقاء حكومات المنطقة لابد أن يكون على رأس الأولويات من الوجود العسكري الأمريكي ، وكان هذا هو مفهوم ( مبدأ نيكسون) الذي جاء بعد هزيمتهم في فيتنام، وفشل تدخلهم المباشر لنصرة حلفائهم هناك ، فأفرز هذا الوضع (مبدأ نيكسون ) الذي أكد على ( أن الدول المهددة من قبل الخطر الخارجي عليها أن تقدم القوة البشرية والقدرة العسكرية للحفاظ على أمنها ، في حين أن أمريكا تقوم بتقديم الدعم العسكري لها بما ينسجم مع التزاماتها ومتطلباتها الأمنية ) ، وهذا هو المبدأ الذي برر لإدارتي ( نيكسون ، وفورد ) تزويد دول الخليج بكميات من الأسلحة والمعدات الخاصة ، كما حصل مع نظام شاه إيران الذي كان يعد ليكون شرطي المنطقة .
ويشرح ( نيكسون ) الرئيس الأمريكي السابق مبدأه في مذكراته فيقول ( وبدلاً من تبدل الوجود البريطاني بوجود أمريكي مباشر ، عمدت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاعتماد على قوى محلية وهي إيران والعربية السعودية بالدرجة الأولى ، لتوفير أمناً للخليج ، وذلك عندما قمنا بتقديم المساعدات والعون العسكري ، وقد سارت سياسة العمودين بشكل معقول إلى أن انهار أحدهما وهو إيران عام 1399هـ 1979م ) .
ثم لخص ( نيكسون ) نظرته بأن يحل العراق محل إيران لدعم التوازن في المنطقة ، والتأكيد على الحاجة إلى وجود عسكري مباشر ، وقال ( وبما أن النفط ضرورة وليست حاجة كمالية للغرب ، فإن على الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا واليابان أن يجعلوا تقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية لحكومات المنطقة أفضلية ، ويولوا هذا الأمر أولوية في اهتماماتهم ، وذلك لصد أي عدوان عليها داخلياً كان أو خارجياً ، وينبغي علينا أن نكون على استعداد وراغبين في اتخاذ أي إجراءات بما في ذلك الوجود العسكري القوي وحتى العمل العسكري ، ومن شأنها أن تحمي مصالحنا وينبغي علينا أن نكون على استعداد بتأييد أقوالنا بالأفعال ، وقال إن إعلان مبدأ العظمة بأن الولايات المتحدة ستقاوم أي تهديد للمنطقة بالرد العسكري لن يعدو أكثر من كونه مدفعاً فارغاً مالم يكن لدينا قوات في موقعها لكي تجعل تعهدنا محطاً للثقة به ، وإنه لمن الضرورة بمكان أن يكون للولايات المتحدة وسائل أساسية بحيث تساعدنا على عرض قواتنا بشكل مقنع في المنطقة وأن ترد بشكل سريع على أية تهديدات مفاجئة ، وقال : يجب أن نؤكد وبشكل واضح لا غموض فيه لزعماء العربية السعودية وعمان والكويت والدول الرئيسة الأخرى في المنطقة بأنه في حال تهديدها من قبل القوات الثورية سواءً كانت تهديداً من الداخل أو الخارج ، فإن الولايات المتحدة ستقف إلى جانبهم بكل حزم وهكذا لن يعانوا المصير الذي لقيه الشاه ) وهذا هو ملخص ما عرف بمبدأ نيكسون .
مبدأ كارتر :-
وبعد سقوط نظام الشاه والغزو السوفيتي لأفغانستان ، برز طرح جديد للرئيس الأمريكي ( كارتر ) آنذاك وهو ما عرف فيما بعد ( بمبدأ كارتر ) والذي قال فيه ( تعتبر الولايات المتحدة أية محاولة سوفيتية تستهدف السيطرة على منطقة الخليج ، اعتداء على مصالحها الحيوية ، وستقوم بالرد على مثل هذا العدوان ، بشتى الوسائل لديها بما في ذلك القوة المسلحة ) .(66/155)
وهذا المبدأ هو الذي أبرز لدى أمريكا ضرورة إيجاد قوة تتمتع ( بالتدخل السريع ) في المنطقة ، وركز الطرح الأمريكي الذي تبنى تطوير ( مبدأ كارتر ) على أن الأهداف الأساسية من تواجد أو استعمال القوة العسكرية هو ( الردع ) فقط لأي تدخل خارجي ، دون إعلان لأي أهداف أخرى ، علماً أن المعضلة التي رفض الأمريكيون طرحها كمشكلة للتداول هي كيفية ( تأمين النفط ) من الأخطار الداخلية ، أي من المنتجين أو شعوب الدول المنتجة ، فهي الخطر الحقيقي والأقرب التي أصيبت به أمريكا من جراء إيقاف تصدير النفط لها بعد حرب رمضان ، لأن قوة الردع النووية لا تناسب ردع خطر شعوب الدول المصدرة ، وتقوية الأنظمة لضمان مصالحها قد ينقلب ضدها ، وإحلال الديمقراطية وتداول السلطة لا يضمن لها الاستقرار لأن الإسلاميين سيصلون من خلالها ، وابتعاد أمريكا عن الحكومات المصدرة لا يساهم في تأمين النفط ، سواء من حيث السعر المناسب أو الكمية الكافية ، هذه المعضلة هي التي طرحت مبدأ قوات ( التدخل السريع ) في المنطقة .
حتى أن ( نيكسون ) نفسه تخلى عن ما عرف ( بمبدأ نيكسون ) فيما بعد ، ليتحول إلى مناصر ( لمبدأ كارتر ) ، عندما اتضح صعوبة اعتمادهم على أحد في المنطقة ، فيقول مؤكداً لذلك في كتابه نصر بلا حرب ( إن الولايات المتحدة هي الآن الدولة الوحيدة التي يمكنها حماية المصالح الغربية في الخليج الفارسي ، وليس هناك أية دولة من دول الخليج الموالية للغرب قوية بالقدر الكافي للقيام بذلك ، كما لا تتوافر لأي من حلفائنا الأوروبيين القوة أو الرغبة في أن يقوم بذلك ، وينبغي لنا أن نعمل على الجبهة العسكرية لتسحين قدرتنا على إبراز القوة الأمريكية في الخليج ، وقد حققنا تقدماً هاماً في هذا المجال ، فقد أنشأ الرئيس كارتر قوة الانتشار السريع ، وعزز الرئيس ريغان وضعها بتحويلها إلى قيادة مركزية ، واعتمد الكونجرس مليارات الدولارات لقواتها ، وقال يستحيل على الولايات المتحدة أن تتدخل في الخليج الفارسي بدون أن تتوفر لها إمكانية الحصول على قواعد جوية في المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى الأصغر ، إننا في حاجة إلى وضع قوات جوية في قواعد هناك حتى يمكن أن نحمي قواتنا البرية عند قيامها بإنشاء رأس جسر وبدون تفوق جوي ستصبح أي عملية إنزال أمريكية في الخليج الفارسي تكراراً لعملية الإنزال البريطانية في غاليبولي أثناء الحرب العالمية الأولى ) .
أول تاريخ لطرح فكرة قوات التدخل السريع وتطوراتها :-
وليس ( مبدأ كارتر ) هو صاحب فكرة قوة ( التدخل السريع ) ، ولكنه هو المبدأ الذي دفع إلى إحياء فكرة قوة ( التدخل السريع ) القديمة ، و يعود تاريخ طرحها ، إلى أواخر السبعينات الهجرية أوائل الستينات الميلادية ، عندما طرح ( روبرت ما كنمارا ) وزير الدفاع الأمريكي آنذاك ، مبدأ ( الرد المرن ) بدلاً من مبدأ ( الرد الشامل ) النووي ، الذي ساد في عهد (إيزنهاور ودالس ) ، فقال ( بأن نظرية الرد الشامل لم تعد تفي بالغرض المطلوب ، في حال نشوب أزمة أقل حدية من الأزمات النووية والمواجهات الشاملة مع الاتحاد السوفيتي ، ويرتكز مبدأ ( الرد المرن ) على توسيع القدرات القتالية التقليدية - أي غير النووية - لمجابهة الحركات التمردية ، أو الحروب الشعبية أو الأزمات المحلية المحدودة ، وطرح إنشاء قوات ضاربة تقليدية متحركة تستطيع التدخل في المناطق النائية وبسرعة وفعالية ) ، إلا أن اقتراحه هذا رفض من قبل الكونجرس الأمريكي في وقته .
وبعد أزمة الطاقة عام 1393هـ 1973م أثارت هذه الأزمة النقاش حول هذا الطرح ، الذي كان بمثابة العلاج لخطر فقدان السيطرة الأمريكية على مصادر النفط .
وحاول ( كيسنجر ) عندما كان وزيراً للخارجية الأمريكية عام 1394هـ 1974م بحث إمكانية قيام قوة أوروبية أمريكية لحماية مصادر النفط ، إلا أن حلف (الناتو ) رفض ذلك لأسباب سبق ذكرها ، وبعد استلام الرئيس ( كارتر ) السلطة عام 1396هـ 1976م بعث فكرة ( قوات التدخل ) من جديد ، عن طريق مبدئه .
ويرجع أول نقاش مخصص لمهام وتشكيل وتنظيم قوات (التدخل السريع ) في الكونجرس إلى شهر ربيع الثاني لعام 1401هـ 1981م ، ويأتي هذا النقاش المخصص بعد أن مرت قوات ( التدخل السريع ) بمراحل عديدة منذ أن قررت إدارة الرئيس السابق ( كارتر ) إنشاء هذه القوة عام 1397هـ ثم قامت بالخطوة الأولى عام 1399هـ ، حتى تبلورت الفكرة بشكل كامل من جميع جوانبها ، ودفعت أحداث المنطقة كسقوط الشاه والغزو السوفيتي إلى المسارعة باتخاذ الخطوات العملية لتفعيل هذه القوة ، وقد دفعت هذه التطورات وزير الدفاع الأمريكي ( كاسبر واينبرغر ) آنذاك أن يقول أمام لجنة الدفاع والشئون الخارجية التابعة للكونجرس في شهر ربيع الثاني لعام 1401هـ ( بأن الحاجة باتت ملحة لاحتفاظ الولايات المتحدة لوجود دائم لقواتها في مناطق النفط وحول طرق مواصلاته ) .(66/156)
وقد وضعت أمريكا حلولاً أخرى تكون بديلة أو مساندة لهذه القوة ، وكان من أفضلها إيجاد قوات حليفة في المنطقة تقوم بدور الحارس على المصالح الأمريكية ، إلا أن أمريكا لا يمكنها أولاً أن تتكل على وكيلها ، ثم إن تكاليف إنشاء هذه القوات يحتاج إلى مبالغ ضخمة ليتم إنشاؤها من الصفر ، لا سيما أن الخشية من قيام نظام جديد يعقب أو يطيح بالوكيل ، يهدر جميع التجهيزات العسكرية الأمريكية في ليلة واحدة وربما تستخدم ضدها فيما بعد .
وكان من ضمن الحلول طرح صيغة للتعاون الأمني المحلي على مبدأ ( نيكسون ) ، تقدم ( هارولد براون ) باقتراح إمكانية قيام حلف عسكري محلي سماه ( ميتو ) على طراز ( ناتو ) ، عرضه على دول المنطقة التي لم تتجاوب مع هذا العرض .
فلم يكن من أمريكا إلا أن تمضي قدماً وبكل قوة نحو إنشاء قوات ( التدخل السريع ) ، وهو الرد الأمريكي العملي والعملياتي الأفضل بالنسبة لهم للمعطيات الاستراتيجية التي تواجهها المنطقة .
علماً أن اعتمادهم على قوات ( التدخل السريع ) لا تعني أن خيارات البدائل قد سقطت أو أهملت ، فهم قد استخدموا البدائل ، بحسب الحاجة لها ، وعلى قدر محدود ، فالتعاون الأمني والدفاعي المشترك لم يتم باسم ( ميتو ) ولكنه تم إلى حد ما باسم ( مجلس التعاون الخليجي ) ، والقوات الحليفة حصلت مع شاه إيران والسادات وأخيراً مع صدام قبل أن يتمرد عليهم ، فالحلول الأخرى سوف تستخدم ولكن بقدر محدود ، مع التأكيد على أن قوة ( التدخل السريع ) هي المرتكز لتنفيذ جميع المتطلبات الأمريكية في المنطقة .
تعداد القواعد الأمريكية في العالم :-
ولم يكن طرح إنشاء قوات ( التدخل السريع ) بالنسبة لأمريكا ، طرحاً عاماً للتدخل في جميع العالم ، ولكن الطرح لهذه القوات هي أن تخصص فقط للمنطقة ، وتكون على أهبة الاستعداد للنزول في المنطقة أو التمركز فيها ، فقد بلغت القواعد الأمريكية قبل طرح مشروع ( التدخل السريع ) ، وتحديداً في عام 1396هـ 1976م ، حوالي 300 قاعدة ومنشأة عسكرية في العالم، تتوزع هذه القواعد على 30 دولة لتأمين مصالحها ، ويقدر عدد العسكريين في تلك القواعد والمنشآت في العالم بحوالي 463 ألف جندي ، قبل أن تنحسر حيث كانت تبلغ 504 آلاف جندي في عام 1395هـ ، وصرح وزير الدفاع الأمريكي ( باول ) في أول شهر ربيع الأول لعام 1411هـ أن الولايات المتحدة أغلقت 150 قاعدة في أوروبا نهائياً ونقلتها إلى الخليج بعد أن ظلت هناك 45 سنة ، وإذا كانت أمريكا أغلقت 150 قاعدة في أوروبا بعد حرب الخليج الثانية ، لتنقلها إلى قواعدها الجديدة السرية في الخليج على الأراضي الكويتية والقطرية والسعودية والعمانية والبحرينية والإماراتية ، فكم ستغلق من القواعد حتى تنقلها إلى العراق ؟ التي ترى أنها حررتها بدماء أبنائها ، وهي التي لن تراعي أحداً بالتواجد العلني لها في العراق .
القواعد الأمريكية في المنطقة وأساليب عملها ، وأساليب قوات التدخل السريع :-
وبعد إنشاء قوات ( التدخل السريع ) يعتبر التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة حالياً أضخم تواجد عسكري مباشر منذ عام 1400هـ 1980م ، وهو يشكل طوقاً حصارياً للمنطقة من جميع جوانبها البرية والبحرية ، فهي تتمركز بأكبر من عشرين قاعدة في تركيا وحدها ، ولها قواعد في ليونان والحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ، مروراً بمصر والقرن الأفريقي وأهمها كينيا ، وحتى بحر العرب والبحر الأحمر ومياه الخليج ، ولها قواعد و تسهيلات في عمان والكويت وقطر والسعودية والبحرين والإمارات والعراق والأردن ، وأهمها فلسطين برعاية الصهاينة ، وتنتشر القوات البحرية الأمريكية بشكل عام في كافة المياه المحيطة بالمنطقة ، امتداداً من مضيق جبل طارق غرباً وحتى شبه القارة الهندية شرقاً ، ويشكل الأسطولان السادس والسابع أساس القوات الأمريكية المعدة للعمل في هذا الجزء من العالم ، والأسطول السادس هو بصورة تقليدية وتاريخية القوة العسكرية الأمريكية المخصصة للتماس المباشر مع مسرح عمليات المنطقة ، والأسطول الخامس هو القوة المخصصة للعمل في البحر الأبيض المتوسط ، وهي تمتد في الواقع من اليابان وجنوب شرقي آسيا وحتى شرق المحيط الهندي ، فله علاقة بشرقي المنطقة أي منابع النفط الواقعة في الخليج ، وقاعدة تمركز هذا الأسطول في ميناء ( يوكوسوكا ) في اليابان .(66/157)
وتعد القواعد الأمريكية في سلطنة عمان من أخطر القواعد على المنطقة من الناحية الاقتصادية ، فهي التي تسيطر على مضيق هرمز ، وهو المضيق الذي يمر عبره 95% من نفط الخليج خارجاً إلى العالم ، وتحكّم أمريكا في هذا المضيق ولو لم تشن حرباً ، فبإمكانها خنق دول الخليج اقتصادياً ، وهي الدول التي تعتمد على النفط بنسبة تفوق 98% ، ولسوء تدبير هذه الدول ، فإنها لم تحاول زيادة نسبة اعتمادها الاقتصادي على غير النفط , كما أنها لم تحاول إيجاد حلول أخرى تغنيها عن الاعتماد على مضيق هرمز ، وقد نلتمس لها العذر بأنها أصلاً لا تملك من أمرها شيئاً ، والذي يوجه استراتيجياتها العسكرية والاقتصادية والسياسية والدفاعية والأمنية هي أمريكا ولا غير أمريكا .
ومهام العمل العسكري الأمريكي في قواعدها في المنطقة هي :
أولاً : تعزيز القوات الأمريكية المتمركزة مسبقاً في مسرح العمليات ، وتحويلها من قوات إثبات وجود ، إلى قوات قتالية .
ثانياً : تأمين قواعد وتسهيلات جديدة للقوات الأمريكية العاملة في المنطقة ، أو التي يمكن أن تحرك إلى المنطقة في الحالات الطارئة .
ثالثاً : تحقيق مبدأ الوجود العسكري الدائم في جميع دول المنطقة لتضع كل دولة على حدة أمام الأمر الواقع ، وسياسة الأمر الواقع حولت سياسة دول المنطقة من الرفض الجماعي للتواجد العسكري الدائم على أراضيها ، إلى المطالبة بتواجدها لتحقق سبقاً على بقية دول المنطقة ، وبدأ يبرز تساؤل لدى قيادات الدول ، وهو إذا لم أقبل أنا بالتواجد ، فسوف تقبل دول المنطقة الأخرى وتنال الامتيازات ، فبدأت دول المنطقة بالتنافس على تقديم التسهيلات للقوات الأمريكية ، وهذا ما سبب الأزمة الأخيرة بين السعودية وقطر .
رابعاً : إنشاء مخازن للمعدات والأسلحة الأمريكية لتسهل من عملية الانتشار السريع في المنطقة ، ففي حال تخزين الآليات والمعدات الثقيلة والعرابات العسكرية وجميع الاحتياجات للقوات في دول المنطقة ، فإن هذا مما سيقلل الكلفة والوقت والمجهود في حال الانتشار لحدوث أي طارئ ، حتى ولو كان ضد الدول المصدرة نفسها ، لذا فإن إنشاء هذه المخازن تم عبر وضع استراتيجيته من الأمريكيين بحذر في جميع دول المنطقة ، بحيث لا تقع هذه المخازن في أيدي دول أو جماعات معادية في حال الانقلاب على الأمريكان ، فعملت على تخزين المعدات والعربات التي تحتاج إلى العنصر الأمريكي لتشغيلها وصيانتها ، وتم إنشاء هذه المخازن في مناطق بعيدة يمكن للقوات الأمريكية عزلها و السيطرة عليها حتى ولو رفضت الدولة المضيفة ذلك ، أو كانت هي المستهدفة .
خامساً : تطوير القدرات الاحتياطية المركزية الموجودة في الأراضي الأمريكية نفسها ، والمخصصة للعمل بصورة سريعة وطارئة. سادساً : إبقاء السيطرة الدائمة على كل دولة عن طريق القواعد التي فيها ، فالقواعد العسكرية في كل دولة مناط بها ضمان السيطرة على الدولة المضيفة ، وجمع المعلومات الكافية عنها ، وعدم إعطائها الفرصة للاستغناء عن أمريكا أو تشكيل قوة حقيقية تهدد الوجود الأمريكي أو إسرائيل .
ما سبق ذكره هي بعض أهم المهام المناطة بالقواعد العسكرية في المنطقة ، ولكن ما هي الأساليب التي يمكن من خلالها تفعيل هذه القواعد التابعة لقوات ( التدخل السريع ) ، لتكون كرأس جسر لأي عمل عسكري لهذه القوة ؟ نقول إن هناك أسليب متعددة من الناحية العملياتية التكتيكية لتحقيق هذا الغرض ، ولكن نقتصر على الأساليب الاستراتيجية فنذكر : -
أولها : التدخل بواسطة القوات الأمامية الموجودة في المنطقة أو على مقربة منها .
ثانيها : التدخل بواسطة القوات المتحركة من أمريكا إلى المنطقة .
ثالثها : التدخل بواسطة وحدات ( مركزية عملياتية ) موجودة في مناطق داخل وخارج الولايات المتحدة خاضعة للقيادة الأمريكية المركزية .
رابعها : التدخل بواسطة القوات الاستراتيجية المركزية مثل الطائرات الاستراتيجية أو الصواريخ بعيدة المدى.
ونلاحظ أن هذه الأساليب كلها استخدمت في العدوان الأخير على العراق ، وهذا يعني أن أمريكا كانت قد رمت ما في جعبتها على مستوى الحرب التقليدية ، فلو أنها فشلت فإنها لن تتوانى في الدخول في حرب غير تقليدية .(66/158)
وتعد قوات ( التدخل السريع ) للمنطقة هي رأس الحربة للقوة العسكرية الأمريكية ،وصلب تكوين قوات ( التدخل السريع )، هو الفيلق 18 المحمول جواً ، والذي يتكون من الفرقة 82 المحمولة جواً والتي يبلغ قوامها 15.200جندي ، والفرقة 101 المحمولة جواً ويبلغ قوامها 18.900جندي ، وتتألف هاتان الفرقتان من وحدات للمشاة ذات التسليح الخفيف ، دون المدرعات أو المدفعية الثقيلة أو دبابات القتال الرئيسة ، ويمكن نقل الفرقة 82 من أمريكا إلى المنطقة في مدة لا تتجاوز أسبوعين على الأكثر ، عبر طائرات الشحن الضخمة ( سي 5 غلاكسي ) التي تبلغ حمولتها 100 ألف كلغ من العتاد على الأقل ، وطائرات ( سي 141 ستار ليغتر ) الثقيلة التي تبلغ حمولتها 32 ألف كلغ على الأقل ، وطائرات ( كي سي 135 ) وهي طائرات صهريج تستطيع تموين طائرات النقل بالوقود خلال الطيران مما يقلل من ضرورة الاعتماد على قواعد ثابتة ، علماً أن هناك مشروعاً أمريكياً لقوات الانتشار السريع لاستخدام الطائرات المدنية لنقل القوات في حال الاضطرار .
كان ما سبق ذكره هو تعداد لفرقتين من قوات ( التدخل السريع ) فقط ، ولكن ليس هذا هو تعداد قوات ( التدخل السريع ) في المنطقة ، فتعدادها عند بداية إنشاء المشروع في عهد ( كارتر ) كان يتراوح من 100 ألف إلى 110 آلاف جندي ، وهو ما يمثل ما أسماه رئيس أركان الجيش الأمريكي آنذاك ( برنارد روجرز ) ( الفيلق المستقل ) ، ثم صرح الجنرال ( كيلي ) قائد قوات التدخل للمرة الأولى في أول القرن الهجري الحالي أن حجم القوات سيصل إلى 200 ألف جندي من مختلف فروع القوات ، حتى استقر في نهاية الأمر على 200 ألف جندي ، بالإضافة إلى 100 ألف جندي احتياطي من مختلف التشكيلات العسكرية عام 1410هـ، خصصت لدعمه أكثر من 200 طائرة من مختلف الأنواع،وربما يكون تعداد وتسليح قوات (التدخل السريع ) قد زاد بعد بداية الحملة الصليبية الجديدة قبل سنتين من الآن .
كل هذه المشاريع ، والتجهيزات ، والخطوات القديمة ، والخطط الماكرة ، والأعداد الكبيرة ، والتسليح والعتاد ، الذي دفع إلى المنطقة ، لم يكن كافياً لإقناع البعض أن المنطقة مستعمرة أمريكية ، و يظن بعض السذج أن الضربات الجهادية لأمريكا هي التي تسببت بهذا الحشد ، وهي خطط بدأت شرارتها الأولى قبل أن يولد الشيخ ابن لادن بأكثر من عشرين سنة تقريباً ، ثم يأتي بعض السذج ويقول التسلط الأمريكي على المنطقة لم يحصل إلا بسبب ضربات سبتمبر !! ، وكأنه يخاطب أطفالاً لا يعرفون التاريخ ، والأكثر منه سذاجة ذاك المنطق الذي يظن أن هذه الحشود جاءت من أجل صدام وأنها سترحل برحيل صدام ، ونحن نقول إن قدومهم إلى المنطقة قديم قدم قوتهم ، وقد جاء هذا الاحتلال منذ خمسة عقود ليكون قدوماً دائماً ، ولن يخرجهم من المنطقة إلا الجهاد ، ومنع سرقتهم لنفطنا وتهديد مصالحهم ، لقد جاءوا كقوات احتلال لا يمكن أن تخرج إلا جثثاً هامدة ، فهم عازمون على البقاء أبداً ، يقول وزير الدفاع الأمريكي ( باول ) في أول شهر ربيع الأول لعام 1411هـ عندما سئل عن مدة بقاء القوات في السعودية قال ( لسنا على استعداد أن نأتي كل 10 سنوات لحل مشكلات المنطقة ؟ وأضاف أن ذلك مرهون باستقرار المنطقة ) وحتى الآن لم تستقر المنطقة ولن تستقر بما أنهم فيها .
ويأتي هذا التصريح من وزير الدفاع الأمريكي بعد أسبوعين من تصريح وزير الخارجية الأمريكي ( بيكر ) الذي أفاد بأن بقاء القوات الأمريكية في المنطقة والتي فاقت وقت تصريحه 350 ألف جندي ، أنه مرهون باستقرار المنطقة ، علماً أن مصطلح ( استقرار المنطقة ) اصطلاح مطاطي يمكن أن يسبغ أو ينزع من أية منطقة حسب الخطة الأمريكية .
لا زال خداعهم لشعوب المنطقة مستمراً بسرعة إزالة التواجد الأمريكي من المنطقة :-
وبنفس تلك التصريحات التي خدع بها المغفلون قبل ثلاثين عاماً عن تمركز القوات الأمريكية ورحيلها السريع من المنطقة ، تردد نفس التصريحات من نفس الأشخاص أيضاً وتصدق ، فخروج آلاف من الجنود من قاعدة في وسط السعودية إلى قاعدة أخرى في شمالها أو شرقها بشكل سري ، يعده المغفلون تغيراً في الاستراتيجية الأمريكية ، أو انحساراً لنفوذها أو هيمنتها على المنطقة ، أو دليلاً لحسن نواياها وحبها للسلام ، ويمكن أن يحصل خروج كامل للقوات الأمريكية من السعودية أو من أية دولة في المنطقة، في حالين في حال قيام جهاد يرهبهم ، أو في حال حاجتهم لإجلاء رعاياهم لشن هجوم عسكري من دول مجاورة كالعراق ضد السعودية ، كما حصل للعراق عندما شن الهجوم عليها من السعودية ، والأيام دول .(66/159)
نعود ونقول إن خداعنا استمر لقرون مضت ، والأغرب من ذلك أنه خداع يمارس من نفس الأشخاص القدامى وبنفس العبارات ، مثل ( كيسنجر ) وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ، الذي حث يوم الجمعة الماضية 16/2/1424هـ في مقابلة له مع صحيفة ( ماروك إيبدو ) المغربية ، ( حث الدول العربية إلى التحرك بسرعة للمشاركة في عملية إعادة إعمار العراق ) ، نعم إعمار العراق بعد أن دمرها الغزو الصليبي ، فهم يدمرون ويقتلون وعلى الحكومات العربية التي سمحت للتدمير والقتل أن ينطلق من أراضيها ، عليها أن تجبي الأموال من شعوبها لتعمير ما دمره الصليبيون وعلاج من جرحوه ، وكفالة من يتموها ورملوه ، يأتي كيسنجر وبكل صفاقة ويقول ( على الدول العربية أن تتحرك بسرعة لإعادة إعمار العراق !! ، مؤكداً أنه ليس من مصلحتها البقاء على هامش التجربة ) ، نعم الدخول في صلب التجربة هو بتعمير ما دمره الصليبيون !! ، وقال ( إن بناء العراق ليس شأناً أمريكيا فقط !! ) ، وأضاف قوله وهو الشاهد من نقلنا لكلامه ( إن الولايات المتحدة لا تستطيع البقاء لأكثر من سنتين في العراق ) ، ونحن نقول ولكن ما هو السبب لاستعجال خروجها ؟ ، فقال ( خشية ازدياد العداء الشعبي العربي لها ) ، ونقول عذر أقبح من ذنب ، فعندما شنت الحرب وقتلت الآلاف لم تخش ازدياد العداء ، وعلى كل حال فإن تصريحه ببقائهم لسنتين سيتمدد إلى عشرين سنة ومن سيحاسبهم لو مددوا ، إذا لم يحاسبهم المجاهدون ؟ .
وعلى نفس السياق يصرح وزير الدفاع الأمريكي ( دونالد رامسفيلد ) أثناء زيارته لإيرلندا يوم السبت الماضي 24/2/1424هـ ( أن الولايات المتحدة تخطط للبقاء في العراق وأفغانستان حتى تشكيل حكومة ديمقراطية واسعة التمثيل ) ، ولكن المشكلة من يحدد أن هذه الحكومة أو تلك بلغت المستوى الديمقراطي ، والتمثيل الموسع الذي ينشده الأمريكيون ؟ الإحالة على شرط مجهول يفيد باستحالة حصول المشروط .
وقال الوزير في لقاء له مع قناة ( الجزيرة ) الفضائية ( أن الولايات المتحدة لا تنوي الاحتفاظ بقواعد عسكرية على المدى الطويل في العراق ) ، ولكن لو قرروا البقاء على المدى الطويل فهل ستمانع دول المنطقة التي تتسابق على تثبيت القواعد الأمريكية عندها لمدة أطول ؟ .
ويفيد مخططون بوزارة الدفاع الأمريكية ( البنتاغون ) أن هناك على الأرجح حاجة لبقاء قوة قوامها 125 ألف جندي تساعد في إرساء الاستقرار في العراق لمدة سنة على الأقل ، حتى يتم تشكيل حكومة عراقية جديدة تبدأ مهامها وتوفر الأمن ، ونلاحظ أن هذا العدد يعادل 63% تقريباً من قوات ( التدخل السريع ) المحددة للمنطقة ، فتمركزها في العراق يغني عن انتشارها في كل دول المنطقة ، وربما هذا هو أحد أسباب الاستغناء عن قاعدة سلطان ، ولكن إذا انتهت السنة ولم تشكل الحكومة المنشودة التي تبدأ مهامها وتوفر الأمن ماذا سيكون القرار ؟ .
يجيب الأميرال المتقاعد ( أرثر تشبروفسكي ) مدير مكتب تحويل القوة في وزارة الدفاع الأمريكية ، على هذا التساؤل فيقول ، ( إن الولايات المتحدة ترى في نهاية الحرب على العراق فرصة لإعادة انتشارها العسكري في أنحاء العالم ، تقود إلى تغيير كبير في القواعد الأمريكية في أوروبا وآسيا ، - وكأنه يرمي إلى نقل تلك القواعد إلى العراق - ، وهي القواعد - أي في آسيا و أوروبا - التي تشكل السمة الرئيسة للقوات العسكرية الأمريكية خارج الولايات المتحدة ، وقال عند الخروج من حرب مثل تلك التي خضناها في العراق فمن السذاجة افتراض أن تعود الأمور كلها إلى الوضع السابق ) .
وقال عضو جمهوري بارز بمجلس الشيوخ يوم الأحد 25/2 ( أن الأمر قد يستغرق خمس سنوات على الأقل قبل أن تقوم حكومة جديدة وتباشر عملها في العراق ) .
وقال السناتور ( ريتشارد لوجار ) رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ وهو جمهوري في مقابلة مع شبكة ( سي إن إن) ( أعتقد أن علينا أن نفكر في فترة من الوقت لا تقل عن خمس سنوات ) .
وقال السناتور الجمهوري ( بات روبرتس ) رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ ( إن الولايات المتحدة سيكون مطلوباً منها الإبقاء على وجود لها في المنطقة ) ، وقال : لمحطة فوكس نيوز التلفزيونية ( جئنا لنبقى ) وأضاف : ( أتذكر عندما أشار الرئيس ( بيل كلينتون ) إلى أننا سنكون في البلقان لنحو عام ، والآن مرت عشر سنوات ونحن هناك وما زلنا في حاجة للبقاء هناك ) .
ويجيب على تساؤلنا السابق ( بول وولفيتز ) مساعد وزير الدفاع الأمريكي والرجل الثاني في البنتاغون أنه يرى إمكانية إنشاء قواعد عسكرية في العراق الذي سيصبح بلداً خليجياً صديقاً جديداً لأمريكا ، وأوضح قائلاً ( الحقيقة الأساسية هي أن إزاحة هذا النظام ستمنح الولايات المتحدة حرية أكثر للحركة في الخليج ، وأن بصمات أرجلنا ستكون أكثر خفة بدون التهديد العراقي ) .(66/160)
ويؤكد هذا التوجه ما نشرته صحيفة ( نيو يورك تايمز ) الأمريكية عن مسئولين بوزارة الدفاع ( أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتزم الاحتفاظ بتواجد دائم لقواتها في أربع قواعد عسكرية في العراق لخدمة مصالحها ، في الوقت الذي ستخفض فيه من تواجد قواتها في السعودية وهذه القواعد الأربع هي :-
الأولى : في مطار صدام الدولي .
والثانية : في تليل قرب الناصرية .
والثالثة : في مكان معزول في صحراء غرب العراق تسمى ( إتش 1 ) ، بمحاذاة خط أنابيب النفط بين بغداد والأردن .
والرابعة : في باشور شمال العراق .
وتتمركز القوات الأمريكية حالياً في هذه القواعد ، وفي غيرها من مئات القوات في كل المدن العراقية وما حولها ، وفيما بعد ربما ينحسر التواجد الأمريكي في العراق ليبلغ 125 ألفاً ليتركز في هذه القواعد الأربع .
وبعد هذا نقول هل سقوط نظام صدام يعني استقرار المنطقة ؟ أو عدم حاجة أمريكا لقواعد عسكرية في المنطقة ؟ أو انتهائها من استخدام الخيارات العسكرية في المنطقة ؟ .
العارف بتاريخ التدخل الأمريكي في المنطقة ، و المتابع للتصريحات الأمريكية لا يتردد بالنفي جواباً على هذه الأسئلة ، فالتهديد لسوريا ولإيران وللسودان وليبيا ولغيرها من دول المنطقة يتزايد يوماً بعد يوم ، ناهيك عن الخطر الذي عده ( نيكسون ) الأكبر في المنطقة وهو الأصولية الإسلامية كما نقلنا تصريحه سابقاً ، ويؤكد استمرارية التواجد الأمريكي في الأيام القادمة ربما بشكل أكبر من السابق التصريحات الأمريكية المتتالية على أعلى وأدنى المستويات السياسية والعسكرية ، ومنها تصريح نائب الرئيس الأمريكي ( ديك تشيني ) في الأسبوع الماضي ، أمام جمعية رؤساء تحرير الصحف ، ( أن مبادرات عسكرية أخرى ستعقب الحرب على العراق ، مذكراً بأن الرئيس جورج بوش كان قد تحدث عن حرب طويلة الأمد ضد الإرهاب - يقصد تصريحه المشهور بأنها حرب صليبية طويلة الأمد - ومشدداً على عقيدة الإدارة بتوجيه ضربات استباقية تستهدف الإرهابيين قبل أن يتمكنوا من تنفيذ هجماتهم ) ، وقال ( إن للولايات المتحدة واجباً أخلاقياً لمواجهة الإرهابيين ) ، وبالطبع فإن بؤرة الإرهاب التي ينادي الأمريكيون الآن باستئصالها من المنطقة ، هي الوهابية في بلاد الحرمين ، والدور على الإرهاب الوهابي قادم لا محالة ، وهو هدف استراتيجي أمريكي ، ربما أول إرهاصاته إبعاد القوات الأمريكية عن المناطق السكانية المعروفة لهم مسبقاً في بلاد الحرمين خشية الانتقام منهم .
ويؤكد مواصلة إدارة الشر لحربها الصليبية ، إرسالها بعد سقوط بغداد بثلاثة أيام كما أعلن مسئولون في وزارة الدفاع الأمريكية لوكالة الأنباء الفرنسية ، إرسال القوات الجوية لأعداد كبيرة من القنابل التي تزن كل منها 9.5 طن والمعروفة باسم ( مؤاب ) ، وهي أكبر القنابل الأمريكية التقليدية على الإطلاق ، ويعادل تدميرها تدمير قنبلة نووية صغيرة ، ولم تعلن الوكالة سبب إرسالها إلى المنطقة رغم سقوط النظام العراقي .
ويهدد جف هون وزير الدفاع البريطاني بعد سقوط النظام العراقي بيومين بضربات ( استباقية ) وشيكة ، إلى من وصفها بالدول ( المارقة ) التي ترعى الإرهاب الدولي ، أو تملتلك أو تسعى لا متلاك أسلحة الدمار الشامل .
ورعاية الإرهاب وامتلاك أسلحة الدمار أو السعي لامتلاكها ، هو وصف يمكن أن يدخل تحته كل دول المنطقة ، كما دخلت العراق تحته وحتى الآن لم تستطع أمريكا وبريطانيا ، إثبات وجود أية مواد كيماوية في العراق بعد دخولها لكافة الأراضي العراقية وتنقيبها لكل بيت .
تكتلات عسكرية جديدة لوقف الغزو الأمريكي لمصالح العالم :-
فغزو أمريكا للعراق كما ظهر لحفاء أمريكا أنه تم من دون مبرر ، ولكننا نؤكد أن غزوهم للعراق هو تحرك تكتيكي تمهيداً لتحرك استراتيجي أوسع في المنطقة ، يميل إلى الحلول الجذرية الاستئصالية ضد شعوب وحكومات المنطقة ، وإذا نجحت تجربتهم في العراق ، فستكون دافعاً إلى خطوات أخرى أوسع وأكثر خطورة ، ومن الواجب علينا شرعاً وعقلاً واستراتيجياً أن نفشل تجربتهم في العراق برفع راية الجهاد لكف خطورة تحركاتهم ، علماً أن خطورة التحركات العسكرية الأمريكية لا تهدد المنطقة وحدها ، ولا تهدد المسلمين بشكل أخص فحسب ، فهي حملة صليبية بالدرجة الأولى ، ولكنها أيضاً حملة استعمارية مستفردة بالعالم ، وإذا لم يواجهها العالم بقوة فإنها ستلحق الدمار به , وربما تتسبب بنشوب حرب نووية ، نشاهد بوادرها بين أمريكا وكوريا الشمالية ، والتي ربما تدخل الصين وروسيا فيها كأطراف أخرى ، وربما تدخل الهند كعدو للصين من طرف آخر لتساند أمريكا ، وهذا الموقف العسكري الأمريكي الذي يدعو للقلق حرك جميع حلفاء أمريكا ضدها ، إلا أنه وللأسف لم يحرك المسلمين بعد ، بل إنهم خدعوا وأمنوا بنقل مئات من الجنود الأمريكيين لأسباب تكتيكية داخل المنطقة ، من دولة إلى دولة .(66/161)
أما على مستوى تحرك أعداء وحلفاء أمريكا على حد سواء ، فقد أنشئوا حلفين لمناهضة هذا التحرك العسكري الأمريكي ، الحلف الأول من أعدائها التقليديين هو باسم ( الدفاع المشترك ) بين سبع دول سوفيتية سابقة ، والحلف الثاني من حلفائها الأوروبيين هو باسم ( الاتحاد العسكري ) بين أربع دول أوروبية ، كلها لمواجهة التحرك العسكري الاستعمار الأمريكي الذي قرر أن يستأثر بكل المصالح في العالم ، ويدفع لحلفائه الفتات ، وقد اتضح أنه ينوي دفع الفتات للحلفاء من عزم أمريكا على مقاطعة ألمانيا اقتصادياً وعزل فرنسا وتهميش دورها العسكري والسياسي ، بعد معارضتهما للعدوان على العراق بهدف تقاسم المصالح .
هذان الحلفان مرشحان إلى أن يتوسعا ليصبحا مشكلة حقيقية للتوسع الأمريكي ، لأنهما سيعملان بأسلوبين أسلوب علني واضح الأهداف والبرامج ، وأسلوب سري يعيق المشاريع العسكرية الأمريكية ويعقدها في الخفاء ، ونستطيع أن نشبهها بالحرب الباردة التي كانت بين المعسكرين الغربي والشرقي ، والآن ستكون حرب باردة ولكن بين عدة تكتلات ، سيستفيد منها المسلمون حتماً بإذن الله تعالى ، إذا تحركوا بحزم وقوة تجاه الجهاد .
الدفاع المشترك بين سبع دول سوفيتية أعلنت عنه روسيا وست دول من الجمهوريات السوفيتية السابقة قبل أسبوع من الآن ، وهذه الجمهوريات الست هي أرمينيا وروسيا البيضاء ( بلا روسيا ) و طاجكستان وكازخستان وأوزبكستان وقرغيزستان ، وقد شكلت هذه الدول قوات للانتشار السريع في منطقة آسيا الوسطى ، وصرح الرئيس الروسي ( بوتين ) أن قمة زعماء الدول الأعضاء في معاهدة الدفاع المشترك التي تضم سبع دول ستشكل قيادة موحدة للأركان العامة .
وأصدر قادة دول الدفاع المشترك في ختام قمتهم التي عقدت في دوشنبيه ، بياناً سياسياً أكدوا فيه استعدادهم لتعزيز التعاون الإقليمي والدولي ، وطرحوا فيه تقييمهم للوضع في العالم ، ثم وقعوا عدة وثائق بشأن استحداث هيئة أركان موحدة لقوات هذه الدول ، وتحديد حصص كل واحدة منها في ميزانية منظمة لمعاهدة الدفاع الجماعي .
وأكد بوتين على أن الرؤساء اتفقوا نهائياً على عدد من آليات التعاون العسكري والسياسي بين دولهم في إطار المنظمة المذكورة التي ستضمن أمن ووحدة وسلامة أرضي هذه الدول وسيادتها .
ومن المحتمل أن يتوسع هذا الحلف المشترك ليضم بقية الجمهوريات السوفيتية السابقة ليشمل الصين أيضاً وربما يمتد إلى كوريا الشمالية وغيرها من الدول المستهدفة من قبل التحركات العسكرية الأمريكية .
وبعد هذا الإعلان بيوم واحد فقط ، أعلنت أربع دول أوروبية تشكيل منظومة دفاع تسمى ( الاتحاد العسكري ) ، وهذه الدول هي فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولوكسمبورغ ، وهذا الحلف أيضاً قابل للزيادة ، بسبب ما تعانيه دول أوروبا من تسلط أمريكي واستئثار بجميع المصالح ، وهذا ما كشفه العدوان الأخير على العراق ، زيادة على هذا سعي أمريكا إلى معاقبة الدول المعارضة وعلى رأسها فرنسا وألمانيا ، مما دفع هاتين الدولتين إلى كسر العزلة وتشكيل هذا الحلف الذي ربما يتطور ليصبح منظومة دفاعية مشتركة خارج منطقة حلف الناتو وخارج إدارتها ، ليتحقق طرح ( ديغول ) القديم لدول أوروبا لتشكيل حلف خارج قيادة الناتو يدافع عن مصالح أوروبا خارج منطقة الحلف ، وإن كانت هذه الدول ضمن حلف الناتو إلا أنها لن تقبل إدخال أمريكا معها في هذا الحلف ، ولن تعمل داخل منطقة الحلف ، وسوف يتركز تحركها خارج منطقة الحلف وخاصة في المنطقة العربية لمزاحمة أمريكا على تقاسم المصالح .
وفي محاولة للتغطية على أهداف هذا الحلف القائم على منافسة النفوذ الأمريكي ، أشار رئيس الوزراء البلجيكي ( غي فير هوفستاد ) ( أن القمة الأوروبية المصغرة التي تعقد اليوم في بروكسل وتضم فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولوكسمبورغ ، ليست موجهة ضد الولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي ( الناتو ) ) .
وألمح الإعلان الفرنسي لهذا الحلف أن المبادرة جاءت لسد الفجوة التكنولوجية العسكرية التي بين هذه الدول وأمريكا ، وهي مبادرة للاعتماد على الذات .
ويرى المراقبون أن هذا الحلف جاء بعد أن ظهرت الانقسامات داخل أوروبا وحلف ( الناتو ) ، والخلاف مع الولايات المتحدة خاصة على حرب العراق ، فرأى المؤسسون لهذا الحلف ضرورة تعزيز الموقف السياسي بالقوة العسكرية في ظل المصير المجهول الذي ينتظر الأمم المتحدة ، والذي يغلب عليه أنه الموت ، وتأتي هذه المنظومة لمواجهة التفوق العسكري الأمريكي الهائل الذي ظهر في حرب العراق وأفغانستان ويوغسلافيا ، وأن على أوروبا أن تنهض بالدفاع الأوروبي والروسي لمواجهة تفوق القوة الأمريكية الذي فرض سياستها على العالم عبر تلك القوة .(66/162)
وعلى نفس السياق أكد التقرير الفرنسي ما ذكرته المفوضية الأوروبية في تقرير سابق لها ، ذكرت فيه أن دول الاتحاد الأوروبي الخمس عشرة ستخصص في سنة 2003م نحو 160 مليار دولار فقط للنهوض بدفاعاتها ، مقابل نحو 400 مليار دولار خصصتها أمريكا بالفعل لتحقيق نفس الغرض ، وقدرت فرنسا والمفوضية الأوروبية القدرات العسكرية الحقيقية لدول أوروبا بأنها لا تزيد على 10% فقط من إجمالي القدرات العسكرية الأمريكية التقليدية .
هذا هو التكتل الجديد القابل للزيادة والتطور الذي تم إنشاؤه ، لمواجهة التحرك العسكري الأمريكي في المنطقة ، فإذا كانت هذه الدول ترى أن التحرك العسكري الأمريكي خطر عليها ، وهي دول صليبية و ضمن حلفها أصلاً ، فكيف تأمن الشعوب الإسلامية التي ما أنشئت هذه القوة الضاربة الأمريكية إلا لحربها وتركيعها و خلع أنيابها ومخالبها وفرض عملاء عليها ليحققوا سياستها بقوة الحديد والنار ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
الخيار العسكري هو الوحيد لنا ، وكلمة أخيرة براءة للذمة :-
هذه هي الخطوط الرئيسة للتواجد العسكري الأمريكي ، التي أحببنا أن نوضحها في هذه الحلقة ، ففهمها ومعرفة أبعادها ، يمكّننا من معرفة ، المستقبل على الساحة العسكرية في المنطقة ، وقد عرضنا استراتيجيات التواجد والتحرك العسكري الأمريكي في المنطقة ، لنستغني به عن عرض التواجد والتحرك التكتيكي العسكري الأمريكي في المنطقة ، فقضية خروجهم من قاعدة واحدة في السعودية ، وبقاؤهم في عشرات القواعد ، لا يعد تغيراً استراتيجياً ، بل هو تغير تكتيكي له أهداف قريبة أو بعيدة تحتاج إلى تتبع واستقراء لمعرفة نواياهم من وراء ذلك .
إن عرضنا للاستراتيجية الأمريكية وقوات ( التدخل السريع ) ، يؤكد لكل مسلم أن خيار العدو هو خيار عسكري بالدرجة الأولى ، ولا يمكن أن يواجه هذا الخيار العسكري إلا بخيار مثله ، ومهما كانت ضخامة التحرك العسكري وقوته ، فإن الله أقوى ، وأيضاً فهناك أساليب عسكرية متاحة لتعطيل أو الحد من هذه الآلة العسكرية الهائلة .
ونحن نخشى أن يكون عرضنا للمكر الصليبي القديم ضد هذه المنطقة ، وعرضنا لحجم القوات الأمريكية الموجودة في المنطقة ، نخشى أن يهز بعض النفوس الضعيفة ، والقلوب التي فقدت اليقين بنصر الله والتوكل عليه ، لذا نرى أن نختم هذه الحلقة ببعض النصوص التي نرى أنها تبرئ ذممنا أمام الله تعالى ، خشية أن نكون ممن ثبط وبث الإحباط من حيث لا يريد ، فتحق علينا عقوبة المخذلين نسأل الله العافية ، فنكون ممن دخل تحت قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحي ويميت والله بما تعملون بصير ) أو قوله ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين ) ، نعوذ بالله من الضلال والتخذيل من حيث نعلم أو لا نعلم .
ولكن ليعلم كل مسلم أن هذه الجموع التي تجمعت لا تهز النفوس التي ملأها الإيمان والتوكل واليقين بنصر الله تعالى ، ولا يمكن أن تهزمها بحال إذا أعدت ما استطاعتها من العدة ولو كانت لا تساوي عند عددهم وعدتهم شيئاً ، يقول الله مادحاً لأهل اليقين بنصر الله تعالى ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) فهم كلما رأوا كيداً من عدوهم وقوة وحشداً ، لم يزدهم ذلك إلا إيماناً و إصراراً على نزاله قال تعالى ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) ، هؤلاء هم أهل اليقين والإيمان ، لا يهمهم القتل ، ويحدوهم النصر قال تعالى ( قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون ) ، نعم إنهم في عبادة وفوز إن انتصروا أو قتلوا ، فرحماك ربنا رحماك .(66/163)
أما أهل النفاق والدغل فيقول الله ذاماً من هزت نفسه الجموع والكيد والأسلحة والقوات ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا ، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون ، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ، وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ، وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ) فهذا نوع من أعذار المنافقين هو في ظاهره الحمية والخوف على الأعراض ، ومن أعذارهم قوله تعالى ( وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون ) وهذا نوع آخر من أعذارهم ربما يسمى بالنظرة الواقعية ، ولهم أعذار أخرى كقوله تعالى ( فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ) فهذا النوع من الأعذار ربما يسمى الثقافة العلمية للطبيعة !! ، ومنهم من يسوق الأعذار التي يزعم بها أنه محافظ على دينه وعبادته كما قال الجد بن قيس عندما دعاه النبي ( لقتال الروم فقال له ( هل لك في جلاد بني الأصفر ؟ ) فرد عليه الجد بقوله : لقد عرفت قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن ، فأعرض عنه الرسو صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله راداً عليه قوله ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) هذه بعض أعذار المنافقين والتي تردد بأشكال مختلفة إلى يومنا هذا .
ولهم أعذار لا حد لها أبداً ، قديماً وحديثاً ، ولكن أصولها واحدة وإن اختلفت مخارجها ، وعلى كل من سمع أعذار من يصد عن الجهاد أو يتخلف عنه بعد الاستطاعة ، فما عليه إلا أن يعرضها على آيات الله تعالى ، ليجد التطابق في الأصول بين أعذار الأولين والمتأخرين ، فالذين قالوا لو نعلم قتالاً في القديم ، هم الذين يقولون اليوم بأن هذا ليس بجهاد ، وأمريكا هي التي تحرك المجاهدين أو تفسح المجال لهم ليعطوها المبرر لتنفيذ خططها ، وهكذا يمكن لكل عبد أن يقارن بين أقوال المثبطين المخذلين اليوم ، وأقوال المنافقين قديماً ، نسأل الله أن يعافينا من ذلك ، ويجعلنا من أهل الإيمان الذين لا يزيدهم كيد العدو إلا يقيناً ، ولا تجبّره إلا إصراراً على قتاله لينال النصر أو الشهادة ، فهم مستيقنون بقول الله تعالى ( ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا ) وقوله ( لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ) فمهما عظمت قوات (التدخل السريع ) وتطورت ، فلن تعدو وصف الله تعالى لها ، إذا ما قابلت رجالاً آمنوا بالله تعالى واستيقنوا نصره .
ونختم هذه الحلقة بذكر نصوص مبشرة بأن النصر لهذا الدين مهما طال ليل الظالمين ، فيوشك الليل أن ينجلي بفجر ترفع فيه راية لا إله إلا الله يعز بها أهل الدين ويذل بها أهل الكفر والشقاق والنفاق .
يقول تعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) ويقول (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) ويقول ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) ويقول ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) ويقول ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) ويقول ( قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ) ويقول ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ) والنصوص من القرآن كثيرة والتي تؤكد أن الله ناصر لمن نصره ورفع راية الجهاد لإعلاء كلمته ، وهذا وعد من الله تعالى ولا يخلف الله وعده، فمن حقق الشروط تحقق له المشروط، ولا نعني بالشروط الفلسفة المادية التي يسوقها أهل النفاق والتخذيل ، ولكن الشروط ما جاءت في الكتاب والسنة من مادية وروحية .(66/164)
أما النصوص من السنة فيقول رسول الله ( كما عند مسلم وغيره ( لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ، قاهرين لعدوهم ، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك ) ويقول كما عند أحمد ( ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ، ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز ، أو بذل ذليل ، عزاً يُعز الله به الإسلام ، وذلاً يُذل الله به الكفر ) ويقول كما عند أحمد وغيره عندما سئل عليه الصلاة والسلام أي المدينتين تفتح أولاً قسطنطينية أو رومية ؟ فقال رسول الله ( ( مدينة هرقل تفتح أولاً يعني قسطنطينية ) ففتح روما عاصمة الصليب حاصل لا محالة ، كما أن قتل اليهود وإراقة دمائهم حاصل في فلسطين لا محالة قال عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم ( لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر أو الشجر ، فيقول الحجر أوالشجر : يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فقتله ، إلا الغرقد فإنه من شجر يهود ) والنصوص من السنة التي تؤكد نصر الله لأهل هذا الدين ، على جيوش الكفر مهما بلغت في العدد والعدة ، أكثر من أن نحصرها في هذه الحلقة ، ولكننا أشرنا إليها هنا إشارة ، حتى تبرأ ذممنا أمام الله تعالى ، خشية أن نقع في تخذيل الأمة وتثبيطها من حيث لا نشعر بعد أن عرضنا كيد الكافرين وقواتهم وتسليحها وأعدادها وتخطيطهم للمنطقة ، فنخشى أن يبعث هذا الأمر اليأس في بعض النفوس الضعيفة ، فأردنا من إيراد بعض نصوص الكتاب والسنة ، أن نين معالم أهل الإيمان والصدق إذا سمعوا بمثل هذا الكيد ، وأساليب المنافقين الذين يتسللون لواذا إذا ما تلاقى الزحفان وتراءت الفئتان ، إتباعا لهدي سيدهم إبليس الذي قال الله عنه ( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه ) ، فأوضحنا سبيل أهل الهدى ، ودهاليز أهل النفاق في مثل هذه المواطن ، وذكرنا ما بشرنا الله به ورسوله ( من أن أمر الكفار في سفال مهما استعلى شرهم وطال بغيهم ، والعاقبة للمتقين فإن صدقنا الله حق لنا النصر بإذنه تعالى .
================(66/165)
(66/166)
الحرب الصليبية على العراق -الحلقة الثالثة عشرة
لقد استغرق منا الحديث عن المستقبل العسكري المتوقع للمنطقة كامل الحلقة السابقة ، والحديث عن المستقبل العسكري هو جزء من جواب السؤال الأخير ، ولم نطل في الإجابة على الجانب العسكري ، إلا عندما اضطررنا لذكر جذور التدخل العسكري الأمريكي واستراتيجيته في المنطقة ، لنتمكن على ضوئه من فهم التحركات الأمريكية العسكرية والسياسية في المنطقة ، ففهم استراتيجية وأهداف ووسائل التدخل العسكري الأمريكي يتيح لنا كثيراً فهم ما بعده من تحركات حالية أو لاحقة .
وفي هذه الحلقة سنحاول الحديث عن التوقعات السياسية للمنطقة ، لنكمل بذلك الإجابة على السؤال الأخيرة في سلسلة هذه الحلقات ، ونعيد طرح السؤال الأخير ، وهو :-
س 35 : ما هو المستقبل الديني والعسكري و السياسي والاقتصادي للمنطقة في حال انتصار أي الطرفين في العراق ؟ وماذا نفعل لتجنب هذه الآثار السلبية ؟ .
توصيف الواقع السياسي العالمي اليوم :
ج 35 : إن الإجابة على المستقبل السياسي للمنطقة يحتاج إلى إطالة حتى نأتي على تشعبات الموضوع ، لأن السلاح السياسي اليوم هو يعد رأس الحربة في تحركات العدو العسكرية والاقتصادية والدينية والفكرية والثقافية ، لذا فإن الإطار السياسي هو إطار يضم جميع الأطر الأخرى ولكن بأسلوب آخر ، ونستطيع أن نقول أن هناك عموم وخصوص بين جميع المجالات وبين السياسة ، فبالإمكان أن نقول بأن كل عمل عسكري يعد سياسياً من وجه ، ولا يمكن أن نقول بأن كل عمل سياسي يعد عسكرياً ، وهكذا فالسياسة تكون بالأفعال وبالأقوال وبالإيماء ، فهي مفهوم واسع ، وكلما كانت الجماعة أو الدولة حاذقة سياسياً فبإمكانها تحقيق أهدافها في المجالات الأخرى بالأسلوب السياسي ، ولن ندخل في تعريف السياسة في العلم الحديث ، وتعريفها لدى المسلمين في مفهومها الشرعي ، فهذا يخرجنا عن صلب موضوعنا ، ولكن ما نرغب أن نقوله هو أن السياسة متشعبة جداً ومتداخلة مع جميع المجالات بشكل أو بآخر ، ولكن السمة الرئيسة اليوم للسياسة الدولية هي الخداع والكذب والمراوغة وتزوير الحقائق أو إنكارها ، فهذه سمات تميز السياسة الدولية اليوم وتميز العلاقة بين الدول ، فلا عهود ولا مواثيق تحترم فالمصلحة هي فوق كل شيء ، وصدق المواثيق والعهود في بعض المعاملات السياسية اليوم ، ليس عائداً لرغبة هذه الدولة أو تلك بالصدق ، ولكنه عائد لحاجة هذه الدولة أو تلك إلى الوفاء والصدق لما لها من مصالح مع الطرف أو الأطراف الأخرى .
يتلخص لنا من ذلك أن النظام العالمي الجديد قام على أصول سياسية نستطيع أن نسميهاً ( بيت العنكبوت ) ، فهي وإن كانت مترابطة كبيت العنكبوت بشكل كبير جداً ، إلا أنها من أوهن البيوت وتكفي ريح خفيفة لتفك ترابط هذا النسيج ، ونشاهد أن العلاقات السياسية المتينة والمضروبة منذ عقود بين بعض الدول ، لا تحتاج إلا إلى تصريح من جملة واحدة يطلقه مسئول ثمل ليهدم كل شيء ، ولا يوجد دولة ملزمة بالوفاء بالعهود والمواثيق إلا إذا كانت محتاجة إلى غيرها سواء كان غيرها دولة أو جماعة أو تكتل أو منظمة دولية ، وهذا يعني أن الدولة القوية التي لا تحتاج إلى أحد فلا يوجد من يلزمها بالوفاء في مواثيقها والصدق بعودها ، ومعنى هذا أن سياستها هي كحبال سحرة فرعون يخيل للناس أنها تسعى وهي ليست كذلك .
إذاً من كلامنا السابق نفهم بأن الدولة المتمكنة والمستغنية عن بقية الدول والمنظمات هي التي تفرض سياساتها على الآخرين ، وأنها لايمكن أن تصدق إلا إذا احتاجت للآخرين وخافت على اقتصادها أو على سياستها أو على وطنها أو على أي مصلحة لها ، هكذا أصبحت السياسة العالمية بشكل عام ، وهناك شواهد كثيرة تتكرر كل يوم ، وعلى هذا فإن الضعيف عليه أن يتبع القوي أو يسعى ليكون قوة تحترم ، وهذه هي شريعة الغاب التي يتحكم فيها القوي بمقدرات الضعيف ، فنصل إلى توصيف مفاده أننا في غابة قانونها يقول إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب .
وحتى لا نطيل بتكرار ما تحدثنا عنه في الحلقة الماضية ، نقول بأن العقيدة العسكرية أو العمل العسكري هو المقدمة الأولى لفرض السياسة ، وهناك مقولة تقول بأن السياسة والعسكرية وجهان لعملة ، فذكرنا في الحلقة الماضية للاستراتيجية العسكرية الأمريكية في المنطقة ، هو ذكر لبعض الأصول السياسية الأمريكية في المنطقة أيضاً .(66/167)
فهذا باختصار هو النظام العالمي الجديد ، شريعة الغاب ، تحكمه عولمة سياسية واقتصادية تخنقه، أقوياء يسيطرون على ضعفاء ، نظام يزيد القوي جشعاً واستكباراً ، ويزيد الضعيف ضعفاً وفقراً وحاجة ، تتسلط الحكومات والشعوب القوية على مقدرات العالم وعلى الشعوب الضعيفة ، هذا وصف عام لا يمكن أبداً أن ينفك عن السياسة العالمية الحديثة ، وبخاصة عن السياسة الأمريكية المتغطرسة ، هكذا ينبغي أن نفهم السياسة الأمريكية في المنطقة وفي العالم ، وكل الدعايات العالمية التي تردد عن العدل والاحترام وغيرها ، إنما هي أقنعة زائفة لتغطية الوجه القبيح للسياسة الأمريكية ، فهناك دعايات تنادي بالشراكة الدولية ، ودعايات تنادي بعصر الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ودعايات تنادي بعولمة سياسية يحترم فيها الجميع بعضهم بعضاً ، ودعايات كثيرة لا حقيقة لها ، الهدف منها التغطية على السياسة الأمريكية الخبيثة ، فمن صدّقها فهو أجهل وأغبى رجل على ظهر الأرض ، إذ لا يمكن أن يصدّق عاقل أن يحرس الذئب الغنم .
توصيف الواقع السياسي للمنطقة :
وحتى لا نخرج عن الموضوع فسوف نحاول في هذه الحلقة أن نذكر ملامح السياسة الأمريكية المستقبلية في المنطقة ، ولن نحاول الدخول في ذكر الملامح السياسية العالمية خشية الإطالة ، فنقول :
إن المنطقة لم تكن يوماً من الأيام في حالة استقرار سياسي ، أو ركود سياسي يعود عليها بالنفع ، فابتداءً من زرع السرطان اليهودي في المنطقة ، مروراً بظهور الحركات القومية العربية التي في المنطقة التي تنادي بأطروحات أثبتت فشلها في الغرب والشرق لتكرر الفشل في المنطقة ، إلى يومنا هذا عندما جاء النظام العالمي الجديد الذي جرد المنطقة من كل إرادة سياسية ، حتى أصبحت دول المنطقة وكأنها تنتظر المبعوث الأمريكي ورحلاته المكوكية ليعطيها جدول الأعمال السياسية لفترة ستة أشهر قادمة ، فأصبحت المنطقة تسير راغمة تباعاً لأمريكا ، وأسباب هذه التبعية أولاً بعدها عن الله و تبديلها لشرع الله تعالى ورفضها تطبيق أحكام الإسلام ، وهناك أسباب كثيرة أخرى لعلنا نأتي عليها في ثنايا الحلقة .
نخرج من كلامنا هذا أنه لايوجد إرادة سياسية عربية مهما كان حجمها تجاه أية قضية مهمة ، فالإرادة السياسية في المنطقة هي إرادة القوي المتسلط ، بعد إرادة الله تعالى ومشيئته ، والدول العربية تبع لا تملك لنفسها شيئاً فضلاً عن نفعها لغيرها ، وصدق وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم وهو كذوب عندما سئل في بداية الانتفاضة الفلسطينية بعد اجتماع العرب لهذا الشأن وقيل له : هل لديكم أساليب ضغط على أمريكا أو إسرائيل لإيقاف هذه المجازر الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ؟ فقال : ( نحن لا نملك أية وسيلة ضغط نحن لا نملك إلا التوسل والاستجداء لأمريكا وإسرائيل هذا ما نملكه !! )، وصدق الكاذب فالعرب بالفعل ليس لديهم وسائل ضغط ، بل لديهم وسائل توسل واستجداء ، نعم الحكومات العربية تمتلك كل مقومات القوة وبعضها لها في السلطة أكثر من قرن، وفي نهاية الأمر ليس لديها وسائل ضغط، بل إنها لا تملك إلا الاستجداء والتوسل ، هذه نهاية الأمر، وهذه هي نهاية تسليم الشعوب القيادة لهذه الحكومات الخائنة ، فأي خيانة أعظم من هذه ؟، إن أعظم أسلحة فتاكة يمكن أن تواجه الدول العربية بها عدوها - إن جاز لنا التعبير بأنه عدوها - هو الشجب والاستنكار والرفض ، ولا يوجد أية وسائل أو سبل لفرض هذا الاستنكار أو الشجب أو الرفض عملياً .
وخلاصة الأمر أنه يجب على الدول العربية عدم خداع شعوبها ، فيجب عليها أن تلغي جامعة الدول العربية ، ومجلس التعاون، وتلغي منصب وزير الخارجية وتلغي وزارته بأكملها ، وتلغي كل ما يمت بالسياسة الخارجية بصلة ، وتعين فقط مندوباً للرئيس يتلقى جدول الأعمال السياسية لهذا الشهر من وزير الخارجية الأمريكي ، هذا هو مختصر الأمر ، فلا يوجد فائدة من هذه الوزارات ولا من هؤلاء الوزراء ، فبما أنهم لا يملكون شيئاً لدولهم فضلاً عن المنطقة ، فلا عبرة بهم فوجودهم ووجود هذه المنظمات مجرد تبذير للأموال دون فائدة ، هذا ملخص النظرة الواقعية للسياسة العربية الخارجية .
أما السياسة العربية الداخلية فهي كمثيلتها الخارجية ، إلا أن أمريكا أعطت الدول العربية هامشاً من الحرية لتصريف أمورها الداخلية كما ترى بشرط ألا تتعدى الخطوط الحمراء المرسومة لها ، إلا أن الأيام القادمة سيكون هناك إعادة رسم للخطوط الحمراء وللحريات التي يجب أن تلتزم بها الدول العربية وهذا ما سنطرحه في هذه الحلقة .
الجهات الثلاث التي ستلعب دورها في المنطقة :
إن مستقبل المنطقة السياسي بشقيه الداخلي والخارجي ، يبقى هو الشغل الشاغل لكثير من المحللين لمعرفة معالمه وأشكاله القادمة ، ونحن سنحاول أن نتعرف على ذلك بذكر عدة محاور يتضح لنا منها معالم المستقبل السياسي للمنطقة الداخلي والخارجي ، ودعنا نبدأ بهذا الطرح .
المنطقة الآن لها ثلاث جهات ستلعب فيها دوراً مهماً في سياستها الداخلية والخارجية ، الجهات الثلاث هي :
أولاً : أمريكا وإسرائيل .
ثانياً : دول المنطقة .(66/168)
ثالثاً : شعوب المنطقة .
ونبدأ بالجهة الأولى ونقول : ماذا تريد أمريكا وإسرائيل في المنطقة ؟ .
إن إسرائيل لها نفوذ كبير على المستوى الرسمي في أمريكا ، فبالإمكان أن نقول بأن أمريكا هي إسرائيل الكبرى ، أو نقول بأن إسرائيل هي أمريكا الصغرى ، إذاً الدولتان شيء واحد ، فما تحققه أمريكا تريده إسرائيل وما تحققه إسرائيل تريده أمريكا ، ولا يوجد بين الدولتين خلاف جوهري تجاه أية قضية ، كل الخلاف إن وجد فهو في مسائل جزئية فرعية لا تلبث إلا يسيراً فتحل ، المهم أن اليهود يفرضون أنفسهم بكل قوة على الإدارات الأمريكية المتعاقبة ، وربما يكون الرئيس القادم لأمريكا يهودياً ، بعد أن كان نائب الرئيس للمرشح السابق فهو سيترشح للرئاسة القادمة ، فبعد أن كان اليهود في الإدارة الأمريكية يلعبون من وراء الكواليس ، بدءوا يحتلون مناصب الدفاع والخارجية ومستشار الأمن القومي وباقي الوزارات في الدولة ، وبدءوا يشكلون كتلة قوية في مجلس الشيوخ ، حتى وصولوا الآن إلى منصب نائب الرئيس وربما الرئيس في الانتخابات القادمة ، إذاً ليس هناك فرق بين الدولتين ولا بين الإرادتين ولا بين الإدارتين أيضاً ، فهما شيء واحد ، ورغم وضوح هذا فإنك تجد بعض الدول العربية تتبجح بمقاطعة إسرائيل وعدم توقيع اتفاقية سلام معها ، وعدم فتح سفارات لها في المنطقة ، وفي نفس الوقت يوجد اتفاقيات حماية لها من أمريكا ، ويوجد سفارة أمريكية فيها ، ويوجد فيها لأمريكا كل شيء ، فإذا وجدت السفارة الأمريكية فلا معنى لمقاطقة إسرائيل ، وإذا وجد التطبيع مع أمريكا فلا معنى من مقاطعة إسرائيل ، فالدولاتان شيء واحد .
يقول شارون ضمن حديثه لصحيفة إسرائيلية عن المنطقة بعد سقوط صدام يوضح فيه ما قلنا ( دعوا أمريكا تنفذ ما نحلم به ، وإنه يجب على إسرائيل أن تحافظ على مستوى منخفض من تدخلها فيما يتعلق بتداعيات الحرب الكلامية بين الولايات المتحدة وسوريا في الفترة القادمة ) ورحب شارون في هذا الإطار من قيام الولايات المتحدة بإغلاق أنبوب النفط من العراق إلى سوريا واصفاً هذه الخطوة بأنها تأتي في مرحلة أولى لتشديد الحصار على سوريا لتلتزم بالمطالب الأمريكية .
ويقول شارون لصحيفة ( هآرتس ) ( إن الخطوة في العراق أحدثت صدمة في الشرق الأوسط ، وهي توفر فرصة لتغيرات كبيرة ، توجد هنا فرصة لبناء علاقات مغايرة مع الدول العربية ومع الفلسطينيين ، ومن المحظور أن نفوّت هذه الفرصة ، وأنا عازم على دراسة الأمور بكامل الجدية ) وأضاف ( بأن احتمال التوصل إلى تسوية في المستقبل المنظور يعتمد أولاً وقبل كل شيء على العرب ، وأنه يتطلب فيادة أخرى وكفاحاً ضد ما يسميه بـ( الإرهاب ) وسلسلة من الإصلاحات في تلك الدول، وهو يتطلب إيقاف التحريض بصورة مطلقة وتفكيك كل المنظمات التي حسب اعتقاده ( إرهابية ) ، ولكن إذا برزت قيادة مدركة لهذه الأمور وجدية فإن إمكانية التوصل للتسوية قائمة ومتاحة ) وقال ( إن إسرائيل ستكون على استعداد لاتخاذ خطوات بعيدة المدى في بعض الأمور ، قائلاً إن هذه الخطوات ستكون مؤلمة للغاية ولكنها لم ولن تتخلى عن أي شيء يتعلق بأمنها ) .
هذا هو التناغم والانسجام اليهودي الأمريكي سواء السياسي أو العسكري ، فليس هناك فرق بين الدولتين ، ويقول الكاتب اليهودي الأمريكي توماس فريدمان في مقال له في صحيفة ( نيويورك تايمز ) يوم الاثنين 11/3/ 1424هـ تحت عنوان (الآباء والأبناء ) قال فيه ( إن على بوش أن يبلغ القادة العرب أنه حان الوقت لالتزام الصمت ، أي مساعدتهم في استبعاد ياسر عرفات واتخاذ خطوات لقبول الدولة اليهودية ) وأضاف في نفس المقال ( بأن شارون يلف بوش حول إصبعه الصغير ) .
ويقول المعلق السياسي لصحيفة ( معاريف ) اليهودية ، يوسيف حريف في تصوره للوضع بعد إسقاط نظام صدام قال :(السؤال الأكثر أهمية في الشارع الإسرائيلي ليس نتيجة الحرب ، ولا مصير الأمم المتحدة بعد ضرب الولايات المتحدة لقراراتها عرض الحائط بخصوص الحرب على العراق ، لكن السؤال الهام بالنسبة لنا هو ماذا سيحدث في الشرق الأوسط وما هو مصير العملية السياسية مع الفلسطينيين ؟ .
وأضاف قائلاً : الحرب على العراق وإسقاط صدام حسين يمهد إلى إنشاء عراق جديد أكثر ديمقراطية ، لكن العائد الكبير سيعود على إسرائيل حيث سيختفي جانب من جوانب الخوف على الوجود الإسرائيلي المتمثل في تهور الرئيس العراقي وتهديداته المستمرة بقصف إسرائيل ) .(66/169)
وقال المعلق السياسي لصحيفة ( يدعوت أحرنوت ) اليهودية ( بجآل سارنا ) إذ يرى أن إسقاط نظام صدام حسين هو بداية التغيير الكبير في منطقة الشرق الأوسط ، وأضاف ( بأن إسقاط نظام صدام سيؤدي بالتبعية إلى إسقاط جميع الأنظمة العربية ، وخلق الشرق الأوسط الجديد الذي يريده الرئيس الأمريكي جورج بوش على غرار أفغانستان مثلاً ، وفي هذه الأثناء يتحول الشرق الأوسط الجديد بمحض إرادته وبطريقة غير متوقعة بعض الشيء ، فبدلاً من أن تسير كل الدول العربية الديكتاتورية على المفهوم الشهير لمعاداة إسرائيل ، سينقلب الحال حيث تصبح إسرائيل دولة صديقة مثلها مثل أية دولة عربية في المنطقة باختصار ستصبح إسرائيل أشبه بدولة عربية وسط المنطقة ) .
هذا هو الوجه الحقيقي للتلاحم العقدي والسياسي والعسكري اليهودي الأمريكي ، ولن نطيل بنقل وقائع وتصريحات أكثر تبين ذلك ، ونحسب أننا ذكرنا في الحلقات الماضية تأكيدات متنوعة لهذا التلاحم ، فلسنا بحاجة لإعادتها هنا ، المهم أن نؤكد على أن أهم خطوة سياسية في المنطقة هي التمهيد لدولة إسرائيل الكبرى ، وفرضها في المنطقة بأي شكل من الأشكال .
بعض أساليب أمريكا السياسية لفرض ما تريد على المنطقة :
وسوف تستخدم أمريكا كافة الأساليب والطرق لتحقيق هذا الأمر ، ومن آخر التصريحات الأمريكية التي تبين حرص هذه الحكومة على تنفيذ أي شيء لمصلحة اليهود ، أعلن وزير الخارجية الأمريكي ( كولن باول ) ( بأن هناك بعداً جديداً في أجندة الرئيس جورج بوش فيما يخص منطقة الشرق الأوسط ، وأوضح في مؤتمر صحفي بالقاهرة عندما زارها مؤخراً قال بأن البعد يتعلق بتغيير المنطقة بحلول عام 2013م ) ، ولكن ما هو هذا البعد ؟ التصريحات الأمريكية التي جاءت موضحة له تصريحات سطحية للغاية .
ولكن الأعظم من ذلك رغم قوة دول المنطقة من حيث الموارد الاقتصادية ، إلا أنه بدلاً من استخدام هذا السلاح لصالحها ، إلا أن العدو الأمريكي سيطر على هذا السلاح واستخدمه ضدها ، فالبعد الجديد الذي أعلن عنه وزير الخارجية بتغيير المنطقة عام 2013م هو عبارة عن خطاب ألقاه الرئيس بوش في جامعة كولومبيا بولاية كارولينا الجنوبية يوم الجمعة 8/3/1424هـ يقضي بإقامة منطقة للتبادل الحر بين الولايات المتحدة وبلدان الشرق الأوسط خلال السنوات العشر المقبلة ) وقالت مصادر البيت الأبيض إن بوش سيربط عرضه للتجارة الحرة بـ ( مصير القضية الفلسطينية ) ، وبإصلاحات حكومية مثل مكافحة الفساد والإرهاب وحماية حقوق الملكية وتطوير أساليب التجارة الحرة ، وأضافت المصادر أن هذه الدعوة ( قد تحبط بعض حلفاء واشنطن من العرب الذي يقاومون منذ فترة طويلة التغيير السياسي والاقتصادي ، وكانوا يأملون بمكافآت فورية بشكل أكبر بعد دعم حرب العراق ) ، وهذا بالطبع ليس طرحاً جديداً أو بعداً جديداً كما زعم وزير الخارجية باول ، بل هو طرح يهودي قديم ، رأت أمريكا أن الفرصة الآن مواتية لفرضه بالقوة العسكرية أو بالتضييق الاقتصادي ، وهذه الدعوة هي في أصلها دعوة لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ( شمعون بيريز ) حيث طرح إقامة كتلة اقتصادية شرق أوسطية حرة ، في محاولة لإلغاء الوجود العربي وإذابته في مفهوم شرق أوسطي جديد يضم إسرائيل وتتفوق فيه على الجميع بقوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية ) .
ملخص ما يسمى بخريطة الطريق :
وتقول مستشارة الأمن القومي الأمريكي ( كونوليزا رايس ) ( إن الرئيس بوش سيضغط على أطراف الصراع لبدء تنفيذ خطة السلام في الشرق الأوسط ، إلا أنه لن يتفاوض بشأن خطة خارطة الطريق ، وأشارت رايس إلى أن خارطة الطريق هي ببساطة نهج لتنفيذ رؤية للرئيس طرحها في 24يونيو الماضي ، ولا نريد أن نهدر الوقت في التفاوض بشأن خارطة الطريق ) .
ونحن نقول بأن خريطة الطريق لن تعطي حقاً للفلسطينيين ، ولكنها ستحقق كل شيء لليهود ، فالخطة وإن كانت تقرر إقامة دولة فلسطينية صورية عام 2005م دون أن تحدد ما هي هذه الدولة وما هو حجمها ولا حدودها ولا صلاحياتها ، إلا أنه بعد تحقيق كل شيء لليهود توضع العراقيل أمام قيام هذه الدولة الفلسطينية في آخر لحظة كما حدث للاتفاقيات السابقة التي قررت قيام دولة فلسطينية عام 2000م ، فالخريطة لم تأت بشيء جديد .(66/170)
ونرى أنه من الأفضل لنا أن نلخص أهم مراحل خريطة الطريق المطروحة ، لأن فهمها يعطينا فهماً لأبعاد التحرك السياسي الأمريكي في المنطقة ، لأن هذه الخريطة ستطبق على جميع دول المنطقة إذا ما نجحت في فلسطين ، وخريطة الطريق هذه عبارة عن ورقة سياسية جديدة ستلعب بها أمريكا في المنطقة لدفع الاستيطان الإسرائيلي وبسط سيطرته إلى الأمام ، فالمستفيد الأول منها هم اليهود وحدهم ، فأول هذه الخطة مكاسب لليهود ، وآخرها مكسب صوري للفلسطينيين ، ولكن إذا تحقق مكسب اليهود ، فلا يوجد من يلزمهم بالمواصلة وتحقيق المكسب الفلسطيني الصوري ، وهذه الخطة هي تعبر عن رؤية للرئيس الأمريكي بوش ، لحل الصراع في فلسطين ، وقد وردت أول الفكرة في خطابه في 24 يونيو في العام الماضي الموافق لشهر 3/1423هـ ، وهي صورة أخرى للمبادرة السعودية فنتيجة الخطة والمبادرة واحدة ، وتنقسم هذه الخطة إلى ثلاث مراحل لتطبيقها تنتهي في موعد أقصاه منتصف عام 1426هـ 2005م .
المرحلة الأولى : من منتصف عام 1423هـ - 2002م وحتى منتصف عام 1424هـ 2003م يطلب من السلطة الفلسطينية الوقف الفوري للانتفاضة والمقاومة في جميع أنحاء فلسطين ، ووقف ما يسمى بالتحريض ضد الاحتلال ، وتهيئة الأجواء للانتخابات دستورية لتعيين حكومة فلسطينية جديدة برئاسة رئيس وزراء دون عرفات - الذي سيكون رئيساً فخرياً فقط - وتحسين الظروف الإنسانية للفلسطينيين ، والكف عن المس بالمدنيين اليهود وأملاكهم ، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي احتلها منذ رمضان 1421هـ مع بداية الانتفاضة الأخيرة مرهون بقدر التقدم في التعاون الأمني الفلسطيني اليهودي ، علماً أن وصف التقدم في التعاون لا يحدده إلا اليهود .
المرحلة الثانية : ما بين منتصف 1424هـ 2003م وآخر 1424هـ 2003م ، ستشهد هذه الفترة عقد مؤتمر دولي للبدء بمفاوضات حول احتمال إقامة دولة فلسطينية في حدود مؤقتة حتى نهاية عام 2003م ، وكذلك استئناف العلاقات بين العرب والكيان الصهيوني التي كانت قبل الانتفاضة .
المرحلة الثالثة : من أول عام 1425هـ حتى منتصف 1426هـ 2004م 2005م سيعقد مؤتمر دولي ثالث للتفاوض بين السلطة الفلسطينية والاحتلال حول الاتفاق الدائم والنهائي الذي يفترض أن ينجز عام 1426هـ ويتعلق بالحدود والقدس والمستوطنات ، والتطبيع العربي ، ومن ثم تنشأ علاقات طبيعية بين العرب والصهاينة .
وأهم ما في الخطة هي المرحلة الأولى وبالأخص وأد الانتفاضة وتحقيق الأمن لليهود ، فالخطة اعتنت اعتناء بالغاً بالمطالب الأمنية الصهيونية ، ولم تعر الأمن الفلسطيني ولا الاقتصاد الفلسطيني أية أهمية .
إذاً الجهة الأولى التي ستلعب دوراً في المنطقة هي أمريكا وإسرائيل وما ذكرناه نزر يسير من الأطروحات الأمريكية في هذا الشأن ، و الأطروحات الأمريكية ترتكز على فرض إسرائيل في المنطقة بكافة الأشكال والسبل ، والتمهيد لإقامة إسرائيل الكبرى ، فنزع أسلحة سوريا وليبيا وتركيع السودان وغزو العراق وتهديد البقية الباقية كل هذا لأن أمريكا تخشى أن يصل إلى سلطة هذه الدول من يشكل خطراً ضد إسرائيل ، وأمريكا ملزمة بحماية أمن إسرائيل داخلياً وخارجية ، وكذلك فرض الاقتصاد الإسرائيلي في المنطقة وإضعاف الجميع لضمان تفوق إسرائيلي عسكري واقتصادي أمر بالغ الأهمية بالنسبة لأمريكا، لأنها تعتبر إسرائيل رأس حربة لها في المنطقة وقوتها هي قوة لأمريكا وسيطرتها سيطرة لأمريكا ، إضافة إلى أن قيامها هو الإذن بعودة يسوع النصارى .
وليست قضية أمن إسرائيل وفرضها في المنطقة حلم أمريكي جديد ، بل هو حلم متوارث منذ أن انتقلت الرعاية لليهود من بريطانيا إلى أمريكا ، فالحلم هو حلم صليبي لفرض إسرائيل وهو أقدم من قيام إسرائيل نفسها ، يقول : ( جون فلبي ) في مذكراته أيام في العراق ترجمة جعفر خياط يقول في حديثه لحاييم وايزمن الرئيس الإسرائيلي : ( أريدك أن تعرف أن عندي ترتيباً خاصاً لا يمكن أن أدبره بلا شك إلا بعد أن تضع الحرب أوزارها ، فإني أريد أن أجعل من ابن سعود سيد الشرق الأوسط ورئيس الرؤساء بشرط أن يجري تسوية معكم ) .
وبعد سقوط نظام صدام حسين ظهر هذا التوجه بحجم كبير جداً ، شعرت دول المنطقة أن أمنها وسياستها واقتصادها وسلامة عروشها مرتبطة بالتطبيع مع اليهود ، من أجل ذلك سارعت قطر لتكون أول المبادرين لتنال الرضا الأمريكي وتدخل ضمن إطار الدول المصنفة بالحليفة والتي يجب أن تنال الرعاية الأمريكية ، حيث أعلن وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني يوم الاثنين 11/3/1424هـ في مقابلة مع محطة ( سي إن إن ) بأن بلاده تفكر في إبرام معاهدة سلام مع ( إسرائيل) ، وأكد أنه إذا كان هذا الأمر سيخدم البلاد ومصالحها فيمكن بحث معاهدة السلام ، إلا أن وزير الخارجية قال بأن بلاده الآن تتمتع في الوقت الحاضر بروابط تجارية مع إسرائيل وهي العلاقات التي أغضبت دولاً عربية كثيرة ، وقد التقى يوم أمس الأربعاء وزير الخارجية القطري ووزير الخارجية الإسرائيلي ( شالوم ) في إطار المباحثات بين البلدين في شأن هذه الاتفاقية .(66/171)
كيف تبرم قطر معاهدة سلام مع اليهود ؟ هل قطر تشكل خطراً على اليهود حتى تبرم معاهدة سلام ؟ ، ولو فكرت قطر أن تضر اليهود بشيء فهل ستستطيع من حيث القدرات ؟ وهل ستستطيع وأمريكا تسيطر عليها بالكامل ؟ فيتضح أن المعاهدة ليست معاهدة سلام فلا قطر تضر اليهود ولا اليهود يخافون من قطر ، فالقضية هي سباق نحو كسب ود أمريكا ، وسوف ينفرط عقد الدول العربية للهرولة بهذا الاتجاه لكسب ود أمريكا لتنال الرعاية الأمريكية على حساب الشعب الفلسطيني وعلى حساب مقدسات المسلمين .
ولكن هل التمهيد لقيام إسرائيل الكبرى أو فرض دولة صهيون على المنطقة هل هو العمل السياسي الوحيد للأمريكيين في المنطقة ، وإذا تم التطبيع مع إسرائيل والاعتراف بها هل سينتهي الأمر أم أن هناك برامج سياسية أخرى تسعى أمريكا لتحقيقها حتى لو حققت خيار أمن إسرائيل وفرضها وقيام دولة إسرائيل الكبرى ؟ .
نلاحظ أن هذا المطلب الأساسي بشأن إسرائيل الكبرى ، لا يمكن أن يكون دون مقدمات كثيرة في المنطقة ، وهذه المقدمات لن تبقي في المنطقة شيئاً من الإسلام أو حتى العروبة ، أو أية مصالح أخرى .
ملخص ما يسمى بمبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية :
الذي يلخص البرامج الأمريكية السياسية الأخرى في المنطقة ( مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط) التي طرحها وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في 4/10/1423هـ 12/12/2002م ، وهذه المبادرة هي لفرض الديمقراطية الأمريكية ، والسياسة الأمريكية ، والتعليم الأمريكي ، والثقافة الأمريكية ، والأخلاق الأمريكية ، وحتى الإسلام الأمريكي ، والاقتصاد الأمريكي ، على كافة الدول سوى إسرائيل ، فهو مشروع شامل لتغيير المنطقة بشكل جذري ولو أدى هذا التغيير إلى تغيير رؤساء الدول ، وسننقل ما يؤكد ذلك لاحقاً .
ولكن لابد لنا أن نعرج على شيء من هذه المبادرة لنتعرف على ملامحها ، فهي بحق أخطر مبادرة شاملة تطرح منذ ثلاثة عقود في المنطقة ، ويجب على جميع المسلمين بكافة تخصصاتهم أن يقفوا أمام هذه المبادرة بكل قوة ، حتى بقوة السلاح ، فهذه المبادرة خطيرة للغاية وسوف تستعبد شعوب المنطقة وتلغي بقايا الإسلام من واقع الحياة بالكلية ، فهي مبادرة الفساد والإفساد ، مبادرة الكفر والزندقة ، ونستغرب أن المبادرة طرحت وبدأ تنفيذها ولم نجد أحداً من علماء المسلمين تكلم عنها ، ولم نسمع من استنكرها ، ولم نسمع من سلط الأضواء عليها ، أين أنتم أيها المسلمون عن هذه المبادرة ؟ هل ذهبت غيرتكم ؟ أي حميتكم لدينكم ؟ الإسلام ينتقص فأين أنتم ؟ باول يلخص مطالبه في أول تصريح له بعد أن عرض هذه المبادرة ويقول ( إن على السعودية أن تقرر الطريقة التي تتبعها نحو عصرنة مجتمعها ) ، وخص السعودية هو بالذكر ، لأنها تعتبر مرتكز العالم الإسلامي وقبلته ، فإذا حصل التغيير فيها بشكل جذري فمعنى ذلك أنه لم يبق دولة في العالم الإسلام تحتفظ بشيء مهم .
وحتى نتعرف على مبادرة الفساد والإفساد نطرح سؤال يقول : ما هي ( مباردة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط وبناء الأمل للسنين القادمة ) ؟ .
وخشية الإطالة في التعريف بهذه المبادرة بالتفصيل ، فإننا سنأخذ مقتطفات من المؤتمر الذي عقده وزير الخارجية الأمريكي لإعلان هذا المشروع ، لقد أعلن باول هذا المشروع ، وقال بأنه مشروع يهدف إلى تعزيز الديمقراطية والتعليم ودور المجتمع المدني في العالم العربي ، وقد أعلن ذلك في خطاب ألقاه في مؤسسة التراث بواشنطن يوم الخميس 4/10/1423هـ 12/12/2002م ، وقال بأن هذا المشروع يسعى لتشجيع المشاركة الشعبية في العملية السياسية ومساعدة المؤسسات التعليمية والتربوية في سائر أرجاء الشرق الأوسط ومكافحة الأمية ، وقال بأن المبادرة تهدف إلى مؤازرة حقوق المرأة ، ومساعدة القطاعين العام والخاص في العالم العربي على تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والاستثمار ، فضلاً عن دفع عجلة التفاهم والشراكة بين شعب الولايات المتحدة والشعوب العربية ، وقد نشر نص المبادرة على موقع وزارة الخارجية على الإنترنت ، من أراد الرجوع إليه لمعرفة التفاصيل ، ولكن نأخذ منه هذه المقتطفات لتوضح طبيعته .
قال في بداية خطابه ( اعتراف منا بأهمية منطقة الشرق الأوسط ، فقد كرسنا دمنا لمساعدة شعوب وحكومات الشرق الأوسط على مدى نصف قرن من الزمن وأكثر ) .
وقال ( لقد شددت سياستنا الشرق أوسطية كحكومة على كسب الحرب ضد الإرهاب ، وتجريد العراق من الأسلحة ، وإنها النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين ) .
وقال ( يسرني أن أصدقاءنا في الشرق الأوسط سارعوا لمواجهة تحدي الإرهاب بأن منحوا حقوق إنشاء قواعد لعملية (الحرية المستديمة ) في أفغانستان ، ومبادلتهم المعلومات الاستخباراتية ، وتلك المتعلقة بتنفيذ القانون ، واعتقالهم إرهابيين مشتبهاً بهم ، وفرضهم قيوداً على التمويل الإرهابي ) .(66/172)
وقال ( لدينا أيضاً اهتمام قومي عميق وثابت بإنهاء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني ، ونحن نعمل مع أصدقائنا في المنطقة ومع المجتمع الدولي لتحقيق سلام دائم ، يقوم على رؤيا الرئيس بوش لدولتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام وأمن .. إن هدفنا النهائي هو تسوية عادلة وشاملة عربية إسرائيلية ، تكون فيها جميع شعوب المنطقة مقبولة كجيران تعيش في سلام وأمن ) .
وقال ( لقد قدمت دول الشرق الأوسط على مدى التاريخ مساهمات لا تقدر بثمن للعلوم والفنون ، ولكن اليوم توجد شعوب كثيرة هناك تفتقر إلى ذات الحرية السياسية والاقتصادية وفاعلية المرأة والتعليم الحديث وكل ذلك يحتاج إليه لكي تزدهر في القرن الـ21 ) .
ثم قال ( وقد جسد الرئيس بوش تطلعات الشعوب في كل مكان عندما قال في خطابه في وست بوينت : إنه عندما يتعلق الأمر بالحقوق والحاجات المشتركة للرجال والنساء ، ليس هناك تصادم حضارات ، فمتطلبات الحرية تنطبق كليا على أفريقيا وأمريكا اللاتينية وكامل العالم الإسلامي .. ثم قال : إذا أعطيت الشعوب خياراً بين الطغيان والحرية ، فإنها تختار الحرية ، علينا فقط أن ننظر إلى شوارع كابل ، المزدحمة بأشخاص يحتفلون بانتهاء حكم طالبان في العام الماضي ) وهذا يدل أن الطغيان هو الإسلام والحرية المنشودة هو رفض الإسلام .
وقال ( هناك بصيص أمل في الشرق الأوسط أيضاً ، فدول أمثال البحرين وقطر ، والمغرب قامت بإصلاحات سياسية جزئية ، والمنظمات المدنية ناشطة بصورة متزايدة في كثير من الدول العربية ، تعمل في قضايا تتعلق بالخبز والزبد ، مثل تأمين بطاقات هوية للنساء توجد حاجة ماسة إليها - في إشارة للسعودية - ) .
ثم قال ( ومع ذلك ، فما زالت تحكم كثيراً من الشرق أوسطيين أنظمة سياسية مغلقة وكثير من الحكومات تكافح مؤسسات المجتمع المدني باعتبارها تهديداً ، بدلاً من أن ترحب بها كأساس لمجتمع حر ، ديناميكي مبشر بالأمل ، ناهيك عن أن لغة الكراهية والاستبعاد والتحريض على العنف لا تزال هي اللغة السائدة هناك ÷ .
وقال ( هناك موضوع دائم يبرز من خلال هذه التحديات ، ألا وهو تهميش المرأة في كثير من دول الشرق الأوسط ، فأكثر من نصف نساء العالم العربي أميات وهن يعانين أكثر من جراء البطالة والافتقار إلى فرص اقتصادية ، وإلى أن تطلق دول الشرق الأوسط العنان لقدرات نسائهن ، لن تبني مستقبلاً من الأمل ، إن أي معالجة للشرق الأوسط تتجاهل تخلفه السياسي والاقتصادي والتعليمي ستكون مبنية على رمال ) .
وقال ( قد حان الوقت لوضع أساس متين من الأمل ، إنني أعلن اليوم مبادرة تضع الولايات المتحدة بثبات في جانب تغيير وإصلاح مستقبل حديث للشرق الأوسط ، وقد طلب مني الرئيس بوش أن أتولى رئاسة جهد جديد للحكومة الأمريكية لدى شعوب وحكومات الشرق الأوسط في جهودها لمواجهة هذه التحديات الإنسانية الملحة ، ويسرني أن أعلن النتائج الأولية لعملنا وهي مجموعة مبتكرة من البرامج وإطار التعاون المستقبلي نسميها ( مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط ) ، وهذا يعبر عن التزامنا بتعزيز حقوق الإنسان والتسامح والتعليم ، والمبادرة هي دليل قوي على التزامنا بكرامة الإنسان في الشرق الأوسط ) .
وقال ( إننا سنخصص بصورة أولية مبلغ 29 مليون دولار لجعل هذه المبادرة تنطلق بقوة ، وسنعمل مع الكونجرس للحصول على تمويل جوهري إضافي للعام القادم ، وهذه الأموال ستكون زيادة على الأكثر من مبلغ الألف مليون دولار ) .
وقال ( تستند مبادرتنا إلى ثلاث ركائز :
أولاً : سنشترك مع مجموعات من القطاعين الخاص والعام لسد فجوة الوظائف بإصلاح اقتصادي واستثمار للأعمال وتنمية القطاع الخاص .
ثانياً : سنشترك مع قادة المجتمع لسد فجوة الحرية بمشاريع لتقوية المجتمع المدني وتوسيع المشاركة السياسية ورفع أصوات النساء .
ثالثاً : سنعمل مع المربين لسد فجوة المعرفة بمدارس أفضل ومزيد من الفرص للتعليم العالي ) .
وقال ( تتطلب الاقتصاديات المنفتحة أنظمة سياسية منفتحة ، وعليه فإن الركيزة الثانية لمبادرتنا من الشراكة ستدعم المواطنيين عبر المنطقة الذي يطالبون بأصواتهم السياسية ) .
وقال ( بدأنا المشروع الاختباري الأول في هذا المجال الشهر الماضي ، عندما أحضرنا وفداً من 55 امرأة ، من زعيمات السياسة العربية إلى الولايات المتحدة لمشاهدة انتخاباتنا النصفية ، وقد عقدت اجتماعاً عظيماً جداً مع هذه المجموعة الرائعة ، وكان التزامها وطاقتها مصدر إلهام لي ، وقد وجهت إلي أسئلة صعبة ، وناقشنا القضايا كما يفعل الناس في مجتمعات حرة ، وقد تحدث أولئك النسوة إلى ببلاغة عن قلقهن بالنسبة إلى المستقبل وأحلامهن بعالم حديث يمكن لأطفالهن أن يعيشوا بسلام ، وحدثنني عن آمالهن بأن يرين نهاية للنزاعات التي تشل منطقتهن ، وتحدثن إلي كيف أنهن يردن أن يتحكمن بحياتهن ومصائرهن ، وطلبن أن يعرفن المزيد عن الديمقراطية الأمريكية وكيف يجعلن أصواتهن أكثر فعالية ) .(66/173)
وقال ( سوف تشدد برامجنا على تعليم الفتيات ، فعندما تتحسن نسبة التعليم بين الفتيات تتحسن كذلك جميع مؤشرات التنمية المهمة الأخرى في أي بلد ، ولقد أصاب شاعر النيل حافظ إبراهيم عندما قال ( الأم مدرسة إذا أعددتها … أعددت شعباً طيب الأعراق ) ، وسنوفر منحاً دراسية لإبقاء الفتيات في المدارس وتوسيع التعليم للفتيات والنساء ، وبصورة أوسع ، سنعمل مع الأبوين والمربين لتعزيز الإشراف المحلي وإشراف الأبوين على الأنظمة المدرسية ) والقاعدة تقول فاقد الشيء لا يعطيه فالشعب الأمريكي غير متربي على الأخلاق وهو أكثر الشعوب إجراماً ونسبة أولاد السفاح عندهم يصلون إلى سبعين بالمائة ، والغريب أنهم سيساعدون المنطقة على حسن التربية !!! .
وقال ( إننا بمبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط ، نعترف بأن الأمل المبني على فرصة اقتصادية ، وسياسية ، وتعليمية ، هو حاسم لنجاح جميع جهودنا ، وأن نجاح هذه الجهود الأخرى هو بدوره ضروري لإيجاد أمل ، إننا عبر مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط ، نضيف أملاً إلى أجندة الولايات المتحدة والشرق الأوسط ، وإننا سنستخدم طاقتنا وقدراتنا ، ومثاليتنا لجلب الأمل إلى جميع عباد الله الذين يعتبرون الشرق الأوسط وطناً لهم ) .
ولن نعلق على هذه المقتطفات فهي تعلق على نفسها ، وخطرها ظاهر ولا يحتاج إلى تعليق ، ولكن كل ما فيها من عبارات ضخمة كالحرية والديمقراطية والنمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل وغيرها قد تخدع المغفلين ، فهذه المفاهيم لن تطبق في المنطقة على الإطلاق بل إنها ستطبع بما ينفع المحتل ، ويهدم الدين فقط ، فمثلاً الديمقراطية الأمريكية التي ستفرض على المنطقة ليست هي التداول الحر للسلطة بمشاركة الجميع ، كما هي في طرحها النظري ، ولكنها ديمقراطية بالأسلوب الدكتاتوري الأمريكي تناسب المنطقة ، لأن شعوب المنطقة لو أتيح لها اختيار السلطة بشكل حر ، فلن تختار غير الإسلاميين كما حصل في الجزائر ، وهذا ما يرفضه الأمريكان ، فحينما تزعم أمريكا أن ديمقراطيتها تقوم على تنفيذ المطالب الشعبية ، فهي كاذبة ، لأن غالبية الشعب الأفغاني والعراقي ينادي اليوم بخروج القوات الأمريكية ، وقبل ذلك كل شعوب العالم بما فيها الشعب الأمريكي رافض للغزو الأمريكي للعراق غير المبرر ، فأين الديمقراطية ؟ إنها ديمقراطية أمريكية تناسب أهدافها الاستعمارية ، وفي مثال بسيط عرضته صحيفة ( الغارديان ) البريطانية في افتتاحيتها تحت عنوان ( الخلفاء الجدد ) قالت : ( يا للسخرية والعار ، لأنه بعد سنوات من الاحتجاج على عرقلة صدام حسين عمليات التفتيش ، فإن الولايات المتحدة تعارض بنفسها الآن عملية التفتيش ) ، جاء هذا الكلام من الصحيفة بعد أن رفضت أمريكا عودة المفتشين إلى العراق بعد سقوط نظام صدام للتأكد من وجود أسلحة دمار شامل كما زعمت أمريكا ، فبالأمس تشن أمريكا حربها عام 1418هـ على العراق بسبب طرد المفتشين لأنه خرق لقرار مجلس الأمن ، واليوم أمريكا نفسها تخرق قرار مجلس الأمن وتمنع المفتشين دون حياء ، وبالأمس تفرض أمريكا على مجلس الأمن إصدار قرار الحضر على العراق بكافة أشكاله ، واليوم ترفع الحضر بنفسها دون الرجوع لمجلس الأمن ، فهذا تلاعب وسخرية بالعالم ، ولكن كما قلنا في مقدمة حديثنا بأن السمة الرئيسة اليوم للسياسة الدولية هي الخداع والكذب والمراوغة وتزوير الحقائق أو إنكارها ، فلا عهود ولا مواثيق تحترم فالمصلحة هي فوق كل شيء ، ولا يمكن لأمريكا أن تنادي بشيء أو تطبقه مما ينفع المنطقة أو يقوي دولها في أي مجال .
وعلى هذا يمكن معرفة وجه السياسة الأمريكية التي تسعى لتطبيقها في المنطقة عبر مشروع الشراكة ، ويمكن معرفة الثقافة الأمريكية المطلوبة ، ويمكن معرفة الحرية الأمريكية أيضاً ، إذا أمريكا ليست تفكر بمشروع واحد تجاه المنطقة وهو مشروع إسرائيل وأمنها وفرضها وإقامتها ، ولكنها تفكر بمسخ المنطقة من جميع جوانبها ، بالأسلوب الذي تريده ، ولو اضطرها الأمر إلى تغيير القيادات في المنطقة وهي ستفعل .
عزم أمريكا على تغيير قيادات المنطقة أو نظام الحكم :
يقول ( جيمس وولسي ) الرئيس السابق لجهاز الـ( سي آي إيه ) في عهد كلنتون ، على مبارك وآل سعود أن يشعروا بالقلق ، وكان هذا الكلام في معرض حديث له عن أن هذه الحرب التي حصلت في العراق هي تعتبر المعركة الأولى في الحرب العالمية الرابعة الهادفة لتغيير الشرق الأوسط ، وكان كلامه هذا ضمن حديث أدلى به يوم الخميس 1/2/1424هـ أمام طلاب جامعيين في لوس أنجلوس حيث قال : ( بأن الولايات المتحدة الآن تخوض حرباً عالمية رابعة ، وأن نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط لابد أن يجعل دولاً مثل مصر والسعودية تشعر بالقلق ، وحذر وولسي في خطابه هذا ، الرئيس المصري حسني مبارك والأسرة المالكة السعودية من أن الديمقراطية وفق الأسلوب الأمريكي آتية في الطريق ) .(66/174)
وقال وولسي ( نريدكم أن تشعروا بالقلق ، وأن تدركوا الآن للمرة الرابعة خلال مائة عام أن الولايات المتحدة وحلفاءها ماضون قدماً ، وأننا نقف في صف أكثر من تخشونهم ، يا عائلة مبارك والأسرة المالكة السعودية ، ونحن نقف في صف شعبكم) طبعاً وقوفهم في صف الشعوب هراء وهو للاستهلاك الإعلامي أين الوقوف في صف الشعب العراقي ؟ .
وأضاف ( في الوقت الذي نمضي فيه قدماً باتجاه شرق أوسط جديد خلال السنوات وأعتقد خلال العقود القادمة ، فسوف نجعل الكثيرين في غاية القلق ، ويجب أن يكون رد فعلنا هو هذا جيد ) .
ووصف في حديثه أمام طلبة في جامعة كاليفورنيا كما ذكرت شبكة ( سي إن إن ) الإخبارية : وصف هذه الحرب بأنها حرب عالمية رابعة ستدوم لبعض الوقت ، وسوف تدوم لوقت أطول من الحربين العالميتين الأولى والثانية ، آمل ألا تصل إلى مدة الحرب الباردة التي استمرت أكثر من أربعة عقود كاملة ، وهي حرب تستهدف ثلاثة أعداء أولهم الحكام الدينيين ، و ( الفاشستيين ) في العراق وسوريا ، والمتطرفين الإسلاميين مثل تنظيم أسامة بن لادن ) .
وأشارت مجلة ( فورين بوليسي إن فوكس ) ضمن تقرير خاص عن السياسة الأمريكية الخارجية إلى أن نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفويتز صاغوا مبادرة للسياسة الخارجية ، اعتمدت على نصائح يقدمها باستمرار المفكرون اليمينيون ، وقد اختطفت وزارة الدفاع الأمريكية العمل السياسي من وزارة الخارجية الأمريكية ، وأصبحت السياسة الخارجية الأمريكية تدار من البنتاغون ، وذكرت صحيفة فرنسية أن هناك حرب خفية بين وزارة الدفاع ووزارة الخارجية الأمريكية ، وفي الأسبوع الماضي قال وزير الخارجية الأمريكي ( باول ) أمام أعضاء مجلس الشيوخ ، استنكاراً على إدارة العسكريين من البنتاغون لسياسة الولايات المتحدة الخارجية قال بعبارة عسكرية يفهم مرادها العسكريون ( إذا واصلتم مطاردتنا ، فعليكم أن تستعدوا للقتال ، كما يتعين عليكم أن تعلموا أنني سأشن الهجوم المضاد ) وقال أحد كبار المسئولين في وزارة الخارجية ( إذا كنت ستتعامل مع البنتاغون على المستوى العملي ، فإن حياتك ستكون عسيرة ، إنهم أيديولوجيون لدرجة غير عادية ، وقد جعلتهم الحرب في العراق يشعرون بقدر من الفخر والحماس ، جعلهم يفرزون كثيراً من التستوسترون ، لكن هذا لا يعني أن المعنويات عندنا منهارة ، بل على العكس من ذلك ، فإننا ندخل حالياً فترة ستكون فيها الدبلوماسية هي سيدة الموقف في منطقة الشرق الأوسط وغيره ) .
مما سبق يتبين أولاً أن سياسة التغيير الأمريكية ستفرض على المنطقة بجميع أشكال التغيير ودون استثناء ، ولكن بالأسلوب الأمريكي الذي يناسب المنطقة ، فحرية الأديان والحرية العامة والديمقراطية ، ليست مطلقة بل هي بقدر تضمن فيه أمريكا عدم وصول الإسلاميين للسلطة ، وتضمن عدم إتاحة الحرية الدينية للعقيدة الإسلامية الحقيقية ، فهناك نظام سياسي في جميع المجالات معد للمنطقة بما يتناسب مع تحقيق الأهداف الأمريكية وهو استعمار ودكتاتورية وربما شيوعية ولكن بثوب جديد ، أطلق عليه اسم الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية ، أي أن هناك شراكة في القيم والمفاهيم والأنظمة ، إلا أنها لا تعني الشراكة بالطبع بل تعني الاحتلال والتسلط فحسب .
التخبط السياسي الأمريكي الذي يرتدي ثياب الغطرسة :
ويتبين لنا مما سبق أيضاً أن هناك تخبط في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة ، فحتى الآن لا يوجد قرار أمريكي مجمع عليه ، يعطي من خلاله التفويض لجهة معينة تتعامل مع المنطقة فيما بعد حرب العراق ، فوزير الدفاع الأمريكي يزور المنطقة ويطلق الاتهامات هنا وهناك ، ويهدد باتخاذ قرارات المقاطعة والحصار وهي قرارات رئاسية عبر الخارجية ، وليست من صلاحيات وزير الدفاع ، ثم يعين وزير الدفاع الحكومة المدنية في العراق دون الرجوع للخارجية وهذا حسب نظام الحرب أن الخارجية تتولى إدارة المناطق التي تحت سيطرة قوات الاحتلال ، ثم حصل تغيير في الإدارة في العراق ، وقبلها حصل التخبط في شأن إدارة أفغانستان ، ونستطيع أن نقول بأن التخبط الأمريكي الظاهر على عدم تحديد صلاحيات وزارة الخارجية والدفاع ، سيقود المنطقة إلى اضطراب عظيم ، مماثل للذي يحصل في العراق وأفغانستان وهو نموذج حي وقريب ، فلا سلطة تسيطر على المنطقة والقوات الأمريكية عاجزة عن استيعاب الحدث فضلاً عن إدارة الأمور ، ولو تم تحديد الصلاحيات لكل وزارة فإن التاريخ يشهد بأن أمريكا ما دخلت في قضية وأوصلتها إلى حل ، بل إنها لا تزيد القضايا إلا تعقيداً واضطراباً ، فقضية البلقان والكوريتين وأفغانستان والعراق وقبلها الصومال والسودان وغيرها من القضايا كلها شاهدة على فشل السياسة الأمريكية ، فهي سياسة احتلال ونهب للثروات وتسلط وسيطرة بالقوة وغطرسة فقط لا غير .(66/175)
يؤكد ذلك ما قاله وزير الدفاع اليوناني ( يانوس بابا نطونيو ) الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي في مقابلة تلفزيونية أجرته معه قناة ( ميغا ) الخاصة الليونانية يوم الاثنين 11/3/1423هـ قال : ( إن الخطر الأول بعد الحرب على العراق يمكن أن يكون ( موجة الغطرسة الأمريكية الجديدة ) وقال : إن الخطر يتمثل في أن يؤدي الانتصار الأمريكي في العراق إلى موجة غطرسة جديدة مع تدخلات أحادية جديدة ضد سلسلة من الدول ، وقال بأن هذا هو الخطر الأول إذا لم تكن هناك رقابة دولية على هذه التدخلات فقد يقود الأمر العالم إلى الفوضى وشريعة الغاب ) .
وأكد ( بطرس غالي ) الأمين العام للأمم المتحدة السابق هذا الأمر بقوله ( إن الحرب التي شنتها الولايات المتحدة ضد العراق تخرج عن نطاق الشرعية الدولية وتمثل هدية للأصوليين ، وحذر من منطق الحرب الاستباقية التي تضمنتها عقيدة بوش قائلاً : إنها يمكن أن تتسبب في إشعال عشرات الحروب خلال السنوات المقبلة ، واستبعد غالي تشكيل نظام دولي جديد إثر انتهاء الحرب على العراق ، قائلاً : إن حدوث ذلك يتطلب إجماعاً دولياً وما يحدث حالياً ليس مبنياً على إجماع ، وأعرب غالي عن تشاؤمه إزاء الوحدة العربية في السنوات القليلة المقبلة مؤكداً أن تحقيق ذلك شرطه وجود جيل جديد يؤمن بالوحدة العربية ، أما الجيل الحالي فهو غير مقتنع بأهمية الوحدة ، وقال بأن الدول الكبرى لم تعد في حاجة إلى الأمم المتحدة ، إذ أن لديها جهازاً دبلوماسياً قوياً وشركات كبرى مسيطرة ، لكن العالم الثالث في أشد الحاجة إلى المنظمة باعتبارها منبراً تستطيع من خلاله التعبير عن أحلامها وآمالها ).
ويقول كيسنجر في كتاب له طبع بعد أحداث سبتمبر مباشرة : ( إن الولايات المتحدة أصبحت قوة عسكرية وحيدة في العالم مع القدرات الاقتصادية المتنامية للولايات المتحدة لابد أن يتحول ذلك إلى واقع عملي تكون فيه أمريكا هي المسيطرة الأولى على مصير العالم كله ، وأن تتحول إلى ما يمكن تسميته بالإمبراطورية الأمريكية العظمى ، في هذا الكتاب حدد كيسنجر ملامح الخطة الأمريكية للهيمنة على العالم ، وقال لابد من البدء بالسيطرة على وسط آسيا وضمان بترول بحر قزوين للشركات الأمريكية ، مؤكداً أن ذلك لابد أن يتم بتواجد عسكري أمريكي في أفغانستان لتكون القوة العسكرية الأمريكية على حدود الصين وعلى حدود روسيا وإيران وهي الدول الكبرى في آسيا لضمان السيطرة على الجناح الشرقي للخليج العربي ، حيث يوجد مخزون البترول الرئيس في العالم ، في نفس الوقت طالب كيسنجر في هذا الكتاب بالقضاء على النفوذ الإسلامي الممتد من سنغافورة شمالاً حتى اليمن جنوباً ، وأن تغير الولايات المتحدة الأمريكية من تحالفاتها الحالية بأن تستبدل تحالفها مع دولة باكستان المسلمة بدول علمانية مثل الهند وتركيا لأنها تتفق مع الأهداف الأمريكية في إضعاف الدول الإسلامية ) .
يتبين من هذا أن الغطرسة الأمريكية ليست فقط تجاه المنطقة ، بل إنها غطرسة تهدد العالم كله حتى حلفاءها ، بل إنها قررت التحرك ضد أي قضية في العالم بمفردها ، وترغم الآخرين على السير وراءها دون الرجوع لمنظماتها العالمية التي صنعتها ، وسوف ننقل ما يشير إلى رفضها لدور الأمم المتحدة ، فهي من الآن فصاعداً سوف تتحرك باتجاه القضايا العالمية بمبادرة انفرادية متغطرسة ، والويل لمن لم يتابعها في تحركاتها هذه ، ومن النماذج على ذلك الرفض الفرنسي الألماني لغزو العراق ، كيف واجهته أمريكا بعد حرب العراق ؟ .
الحصار السياسي الأمريكي على جميع دول العالم لضمان التفوق المطلق :(66/176)
إن أمريكا الآن تسعى جاهدة لمحاصرة ما أطلق عليها وزير الدفاع ( بأوروبا العجوز ) ، وعلى رأسها فرنسا وألمانيا ، وتتركز هذه المحاصرة على دعم الديمقراطيات الأوروبية الجديدة ، وسعت أمريكا لاعتماد إدخال سبع دول من أوروبا الشرقية إلى حلف الناتو في الأسبوع الماضي ، وهي الدول التي وافقتها على غزو العراق كمكافئة لها ، كل ذلك من أجل كسب أكبر قدر ممكن من التأييد داخل الحلف للسياسة الأمريكية في المنطقة ، فأمريكا تحاول أن تشكل تكتلاً جديداً ، مؤيداً لها على الإطلاق في أوروبا ، على رأس هذا التكتل بريطانيا لتقوده لمواجهة بقية دول أوروبا الرافضة للتفرد الأمريكي ، وسوف تستغل أمريكا ضعف اقتصاديات هذه الدول الشيوعية السابقة لتنال الدعم والتبادل التجاري كي تقف في صفها ، لتقسم أوروبا إلى قسمين أوروبا العجوز وهي الرافضة للتفرد الأمريكي ، وأوروبا الحديثة وهي المؤيدة للتفرد الأمريكي ، وهذا التقسيم سيؤدي إلى تفريق دول أوروبا وإضعافها وإشغالها في نفسها مما سيسبب ضعفها الاقتصادي الذي سيعيد للاقتصاد الأمريكي شيئاً من عافيته ، وقد قابلت دول أوروبا العجوز هذا التقسيم الأمريكي لأوروبا ، بإنشاء تكتل عسكري جديد ذكرنا تفاصيله في الحلقة الماضية تقوده فرنسا وألمانيا وبلجيكا ، وهذه الغطرسة الأمريكية دفعت روسيا والدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي إلى إنشاء تكتل آخر لمواجهة التوسع الأمريكي في منطقة نفوذها ، فهذه السياسة الأمريكية المتغطرسة أعادة تقسيم التحالفات العالمية ، وربما تشهد السنوات القادمة حرباً باردة جديدة أو حرباً عالمية مع هذه التكتلات .
وفي إطار حملة الغطرسة الأمريكية على العالم حذر وزير الخارجية الأمريكي باول ( فرنسا من أنها ستواجه عواقب معارضتها للحرب الأمريكية في العراق ، مشيراً إلى أن واشنطن ستنظر في كافة جوانب علاقتها مع باريس ، وقال : بأنها ستتحمل نتائج معارضتها الحرب على العراق ) ، وأكد البيت الأبيض أيضاً بعد تصريح باول بساعات ( أن الحكومة الفرنسية ستواجه (عواقب ) نتيجة موقفها ، وأكد أن معارضة فرنسا الشرسة للولايات المتحدة للحرب على العراق قبل أسابيع من الحرب لن تبقى دون عقاب ) .
هذه هي بعض ملامح السياسة الأمريكية في العالم وتجاه المنطقة خاصة ، وهذه الملامح لم تظهر بعد حرب العراق ولا بعد سبتمبر ، بل إنها ظهرت إبان الحرب الباردة ، وتزايدت وبرزت ملامحها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، وهي منذ ذلك اليوم في ازدياد متسارع تواكب تسارع التطور العسكري الأمريكي ، وقد أوضحنا في الحلقة الماضية الاستراتيجية العسكرية الأمريكية، وفهمها يساعد على فهم ملامح السياسة الأمريكية جيداً ومراحل تطورها .
نموذج العراق رسالة تهديد لبقية دول المنطقة :
ولكننا نعود ونقول بأن المنطقة بعدما زال منها نظام صدام واحتلت أمريكا العراق ، فقد دخلت في مرحلة جديدة ، لن تتجنب آثارها السيئة إلا إذا عملت بكل قوة على ضرب الوجود الأمريكي في العراق ، واستنزفته بحرب عصابات شرسة ، فخطرها في حال تمكنها من العراق خطر عام شامل على جميع المنطقة وعلى كافة الاتجاهات ، فبعبارة أدق لقد دخلت المنطقة في مرحلة انقلاب كبير ، وقد وضعت الأنظمة العربية العميلة أمام ضغوطات وتحديات عديدة لم تكن تحسب لها حساباً ، لأن التحديات الجديدة ستكون بمثابة تغييرات جذرية في المنطقة ، كانت الدول العربية تساعد العدو الصليبي لضمان بقائها ، ولكنها لم تشعر أنها ستكون ضمن الخطة في فترة من الفترات ، وهاهو الدور اليوم على النظام السوري وهاهي المنطقة تستعد لتودع بشار الأسد ، فهو بين أمرين إما أن يودع المنطقة ، أو يقرر أن يعمل كسفير للولايات المتحدة في سوريا ، فرؤساء الدول جميعاً اليوم بين أمرين إما أن يخلع بأية طريقة ، أو يقرر أن يعمل كسفير لأمريكا في دولته كما هو حال الرئيس القطري وغيره ، ومشروع ( خريطة الطريق ) التي وضعتها اللجنة الرباعية ( الأمم المتحدة ، والاتحاد الأوروبي ، والولايات المتحدة ، وروسيا ) ، ما هي إلا نموذج جديد من المرحلة الأمريكية الجديدة ، حيث ستطبق في فلسطين وبعدها سوف يعمم النموذج على بقية دول المنطقة ، وكلما زادت الضغوط الأمريكية نحو التغيير الجذري في المنطقة ، فسوف تزيد ضغوط الدول العربية على شعوبها لتطبيق النموذج الأمريكي المنشود الذي لم يعد يرفضه سوى الشعوب الإسلامية فقط .
فمن الواضح أن السياسة الأمريكية اليوم تحاول جاهدة أن تجني ثمرة تفوقها العسكري والاقتصادي بأسرع وقت وبأكبر قدر ممكن ، حتى تصبح هي كل شيء في العالم وتتحكم في ثرواته ومصيره .(66/177)
ونحن نؤكد أن حرب العراق لم ولن تكون هي نهاية المطاف ، نعم أمريكا تأمل أن تكون نهاية المطاف ، إذا قررت دول العالم أن تخضع لها بعد حرب العراق ، وإذا وجدت معارضة من دول العالم فإنها سوف تحاول التضحية بكبش فداء آخر ، فأمريكا أبلغت دولاً عربية وأوروبية بعد سقوط صدام ، أن العراق يحتاج إلى أن يخضع للحكم العسكري الأمريكي فترة من الزمان ، لتحقيق ستة أهداف أساسية وحيوية ، تمثل هذه الأهداف الستة رسالة للجميع وتحذيراً لهم من مواجهة نفس المصير ، فمن مصلحة كل دولة في المنطقة أن تحقق بنفسها هذه الأهداف الستة قبل أن تضطر أمريكا لتطبيقها بنفسها وهذه الأهداف هي :
الأول : منع نشوب حرب أهلية ، وذلك بعدم سحب القوات الأمريكية من العراق لفترة طويلة ( وهذا يعني الاحتلال المباشر إلى أجل غير مسمى ) .
الثاني : إلغاء الطابع البعثي عن الدولة والمجتمع عن طريق الحكم العسكري الأمريكي للعراق ( وهذا يعني إلغاء كل طابع لأي مجتمع حتى ولو كان الطابع دينياً ) .
الثالث : إعادة بناء الجيش على أسس جديدة ، وتوحيد جميع الجيوش التي أنشأها صدام تحت جيش واحد لا أنياب له ولا مخالب ، ( وهذا يعني ضرورة عدم سعي دول المنطقة تأسيس أية قوة دون الموافقة الأمريكية ) .
الرابع : التأكد من إزالة أسلحة الدمار الشامل ، ( وهذا واضح في أن أمريكا لا تريد غير إسرائيل في المنطقة تمتلك مثل هذه الأسلحة ، فكل الحديث عن أسلحة الدمار الشامل ولم تشر ولا إشارة في يوم ما لأسلحة إسرائيل المخالفة لقررات مجلس الأمن ) .
الخامس : المحافظة على الثروة النفطية لجميع العراقيين ، ( والمحافظة على النفط لصالح الشعوب لا تحسنه إلا أمريكا ، ولابد من تسليم أمريكا الثروة النفطية للمنطقة لتتمكن هي من المحافظة عليها لصالح الشعوب ، ومعنى ذلك أن السياسة النفطية في المنطقة حق لأمريكا لا غيرها ) .
سادساً : منع أية دولة أو قوة خارجية من التدخل في شئون العراق بشكل أو بآخر أو العمل على زعزعة استقراره أو محاولة تحقيق مكاسب خاصة بها ، ( وهذا يعني فرض الوصاية والاحتلال بكل وضوح ) .
ثم شرحت أمريكا بعد ذلك بقية الملامح لما تريده في المنطقة وهي رسالة للجميع ، فمن ضمن هذه الملامح شددت الإدارة الأمريكية على أنها لن تعطي الأولوية لتطبيق الديمقراطية في العراق خلافاً لما يشاع ، وأنه ليست من مصلحة العراقيين الانتقال بسرعة إلى مرحلة الحكم المدني الديمقراطي ، وأكدت أن الأمريكيين وحدهم قادرون على المساعدة على إحداث انقلاب جذري في تركيبة الحكم العراقي وتوجهاته للابتعاد كلياً عن مرحلة صدام حسين ، وأن الأمم المتحدة غير قادرة على القيام بهذه المهمة بل إن دور الأمم المتحدة سيكون دوراً مساعداً مكملاً للدور الأمريكي العسكري والسياسي والمدني في هذا البلد وخصوصاً في المجالات الإنسانية و الإعمارية ، يأتي هذا الكلام بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش في زيارته لبلفاست خلال الشهر الماضي أن الأمم المتحدة سيكون لها ( دور حيوي ) في العراق ، فهذا التوضيح من الإدارة الأمريكية ينفي الدور الحيوي للأمم المتحدة ، ويؤكد أنه سيكون دوراً مساعداً ، ولكن لا غرابة من هذا التناقض فهذا معنى السياسة العالمية اليوم كذب وتلاعب بالألفاظ دون خجل .
فهذه الأهداف الستة ليست إلا جزء من رسالة لدول المنطقة جميعاً ، ولا تعبر هذه الأهداف الستة عن كل مراد أمريكا في العراق أو في المنطقة ، بل هذا جزء يسير مما تريده ، يخفي وراءه مالا يعلمه إلا الله ، فإذا كانت هذه الأهداف حقيقية ، فلماذا تمنع الأمم المتحدة من التدخل في شئون العراق وهي الجهة المخولة لذلك في قانونهم وشريعتهم ، فهذه الأهداف الستة هي مطالب الأمم المتحدة ، ولكن أمريكا ترى أنه لابد من ضمان عدم تدخل الأمم المتحدة أو أية دولة أخرى لتحقيق هذه الأهداف ، وهي التي نادت حتى بح صوتها قبل غزو العراق نادت الأمم المتحدة للتدخل لتحقيق هذه الأهداف ، وبعد سقوط صدام تمنع الأمم المتحدة من تحقيق هذه الأهداف أو الإشراف على تطبيقها ، كما منعت المفتشين من الدخول الآن ، ورفعت الحظر عن العراق من جانبها دون الرجوع للأمم المتحدة ، فالسياسة الأمريكية لا حد لها ولا قيد ، فما كان محرماً بالأمس فهو واجب اليوم وهكذا سخرية بالجميع بما أنهم ضعفاء .
ولكن السؤال هو : هل ما حصل في العراق هو نهاية ما في جعبة أمريكا للمنطقة ، وهذه المطالب هي نهاية مطالبها ؟(66/178)
يجيب على هذا التساؤل ريتشارد بيرل مستشار وزارة الدفاع الأمريكية ، وهو أحد المخططين الرئيسيين للحرب الأمريكية ضد العراق ، حيث صرح لصحيفة ( ليزيكو ) الفرنسية : ( بأن واشنطن تستهدف دولاً أخرى في حربها العالمية ضد الإرهاب ، وقال : من ناحية أخرى فإن مجلس الأمن غير مناسب للتعامل مع مثل هذه المخاطر وطالب بإعادة تشكيله ، كما طالب أيضاً بمناقشة دور فرنسا في حلف شمال الأطلنطي ، وقال : بأن التدخلات العسكرية في أفغانستان والعراق هي جزء من جهود مكافحة الإرهاب ، ولن نتوقف عند هذا الحد ، وسنواصل حربنا ضد دول تستضيف إرهابيين وتطور أسلحة دمار شامل ، وقال : إن مجلس الأمن غير مناسب للتعامل مع مثل هذه المخاطر وطالب بإعادة تشكيله ، وتساءل عن إمكانية بقاء فرنسا عضواً في حلف شمال الأطلسي من دون أن تكون مشاركة في هيكله العسكري ، وقال : إنه حان الوقت الآن لإعادة النظر في ميثاق الأمم المتحدة ، وقال بأن هذه المهمة ستكون بالغة التعقيد ) .
وكتب معهد المبادرة الأمريكية معهد هدسون ( بأن الاستراتيجية الأمريكية تجاه دور الولايات المتحدة في العالم يلخصها مشروع القرن الأمريكي الجديد الذي يقوم على ضرورة ضمان التفوق الأمريكي المتفرد على بقية دول العالم في القرن الحادي والعشرين ، وينص على أنه من أجل تحقيق ذلك ، فلابد من تبني سياسة هجومية غير اعتذارية وانفرادية غير مترددة تعتمد على القوة العسكرية بالدرجة الأولى ) .
وصرح الرئيس الأمريكي يوم 7/3 في حديث لشبكة ( إن بي سي ) الأمريكية : ( أن عملية الصدمة والترويع عنت الكثير لأناس كثيرين ، كل ما كان يجب علينا أن نفعله هو أن نزيد من استعمال القوة والناس عندها ستنهار ) .
وقال بول وولفوتيز نائب وزير الدفاع الأمريكي في مقابلة له مع صحيفة لوس أنجلوس تايمز الامريكية قال : ( بأن الانتصار العسكري الأمريكي في العراق يعد درساً لكل الأنظمة العربية التي تهدد مصالح الولايات المتحدة ، يضيف أن ما يتطلع إليه من ( عراق ديمقراطي ) يجب أن ينظر إليه كنموذج يحتذى في عالم عربي غير ديمقراطي ) .
هذه التصريحات تؤكد أن أمريكا لديها خطة طويلة في السيطرة على المنطقة وعلى العالم بأكمله ، ولم تكن هذه الخطة وليدة سنة أو سنتين أو خمس ، بل إنها خطة قديمة عرضنا لأصولها في الحلقة الماضية عند الحديث عن المستقبل العسكري للمنطقة ، ولكننا نلاحظ أن أمريكا بعد أن دخلت بغداد وأسقطت نظام صدام حسين ، نلاحظ أنها ستواصل أهدافها تجاه المنطقة والعالم بأسره ، حيث بدأت بممارسة سياستها الجديدة على سورياً ، وذلك باتهامها تهماً لا دليل عليها كما كان الحال مع العراق ، فقد صرح الناطق باسم البيت الأبيض ( فلايشر ) ( بأن سوريا دولة إرهابية وأنها تأوي الإرهابيين ، وأنها دولة مارقة ) .
وأعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش ( أن واشنطن تعتقد بأن لدى سوريا أسلحة كيميائية ) ، وذلك حسبما ذكرت شبكة (سي إن إن ) الأمريكية ، وتأتي تصريحات بوش في الوقت الذي كشفت فيه صحيفة ( أوبزيرفر ) البريطانية أن جهات رفيعة المستوى في الإدارة الأمريكية تقول إن أمريكا تنوي اتخاذا إجراءات في المرحلة القادمة ضد سوريا .
ولم يستبعد رئيس أركان الجيوش الأمريكية الجنرال ( ريتشارد مايرز ) يوم الخميس 7/3 شن حرب ضد سوريا ، ولكنه قال ( إن الحديث عن هذه الحرب سابق لأوانه حالياً محذراً في الوقت نفسه دمشق من إيواء مسئولين عراقيين سابقين هاربين وإرسال مقاتلين لمواجهة القوات الأمريكية والبريطانية في العراق ) .
وعلى نفس السياق هدد مساعد وزير الخارجية الأمريكي ، ريتشارد أرميتاج سوريا ( بعقوبات وإجراءات سياسية أخرى في حال واصلت تقديم الدعم لحزب الله وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية ) .
ودعا جون بولتون وكيل وزارة الخارجية الأمريكية لشئون الحد من التسليح والأمن الدولي ، سوريا وغيرها من الدول في الشرق الأوسط للبحث عن إمكانيات جديدة للسلام في المنطقة ، وقال بولتون في مؤتمر صحفي ( فيما يتعلق بقضية انتشار أسلحة الدمار الشامل في فترة ما بعد الحرب فنحن نأمل أن تتعظ عدة أنظمة بعبرة العراق ، وهي أن السعي لامتلاك أسلحة للدمار الشامل ليس في مصلحتها الوطنية ، وخص بولتون بالذكر سوريا وإيران وكوريا الشمالية في تصريحاته رداً على سؤال بخصوص فترة ما بعد الحرب في العراق ) .
وتابع بولتون وهو من أبرز المتشددين في الإدارة الأمريكية فقال : ( إنها فرصة رائعة لسوريا كي تتخلى عن مساعيها لامتلاك أسلحة للدمار الشامل ، وأن تبحث كما هو الحال بالنسبة للحكومات الأخرى في المنطقة عن إمكانيات جديدة في عملية السلام في الشرق الأوسط ، وقال بولتون : إن الأولوية بالنسبة للولايات المتحدة هي القضاء سلميا على هذه البرامج ، وأن هذا هو المبدأ الذي تهتدي به واشنطن في مواقفها من كوريا الشمالية وإيران ) .
ملخص ملامح السياسة الأمريكية مما سبق ذكره :
هذه هي بعض ملامح السياسة الأمريكية في المنطقة نلخصها بالتالي :(66/179)
أولاً : الالتزام بفرض إسرائيل على المنطقة وأخذ الاعتراف لها بالقوة ، والالتزام بإقامة إسرائيل الكبرى وضمان تفوقها العسكري والاقتصادي ، ومن وسائلها خريطة الطريق .
ثانياً : فرض مشروع الشراكة الأمريكية الشرق أوسطي على المنطقة بالقوة ، وهو مشروع شامل يدخل في جميع المجالات السياسية والتعليمية والثقافية والفكرية والدينية والأخلاقية والاقتصادية ، وهو واضح وصريح في ذلك ، وللاستزادة يرجع إلى نص المشروع المنشور في موقع وزارة الخارجية الأمريكية .
ثالثاً : وضع دول المنطقة أمام الأمر الواقع وأمام تحديات تهدد بتغيرات جذرية ستصل إلى إزالة العروش ، فحكام المنطقة بين أمرين إما التنحي أو تغيير مسمى الوظيفة من رئيس دولة ، إلى قائم بالأعمال الأمريكية بمرتبة رئيس .
رابعاً : التفرد بالمنطقة عن طريق القوة العسكرية وفرض السيطرة عليها بقوة السلاح والاقتصاد ، والالتفاف على جميع دول العالم بسلاحي العسكرية والاقتصاد لفرض السياسة الأمريكية ، وضمان تبعية جميع الدول بما فيهم الحلفاء لما تريده أمريكا .
خامساً : إزالة نفوذ التكتلات السياسية والعسكرية والاقتصادية في العالم لتبقى أمريكا متفردة بكل شيء ، فحرب العراق أثبتت إزالة نفوذ الأمم المتحدة بجميع ملحقاتها العسكرية والقانونية والاقتصادية ، وبعدها التفت أمريكا على حلف شمال الأطلسي الذي بقي جامداً في أحداث العراق بسبب جمود أوروبا العجوز ، وسوف يكون هناك إعادة لميثاق الأمم المتحدة ولمجلس الأمن وللأعضاء الدائمين أيضاً ، كما سيكون هناك إعادة لهيكلة وتنظيم حلف شمال الأطلسي ، ويمكن أن يكون هناك إنشاء أحلاف وتكتلات جديدة مساعدة لأمريكا في بسط سيطرتها على العالم .
هذه بعض معالم السياسة الأمريكية في المنطقة وعلى العالم ، ولكل معلم من هذه المعالم تفاصيل يطول بنا المقام لذكر شيء منها إلا أنها تبقى ملامح رئيسة لابد من أخذها بعين الاعتبار لمعرفة الوضع السياسي القادم للمنطقة .
أمريكا تهرب من مشاكلها الداخلية بزعزعة أمن العالم :
وفي نهاية الحديث عن دور أمريكا وإسرائيل في المنطقة لابد أن نؤكد بأن المنطقة والعالم سيواجهان قلاقل سياسية ستنعكس عليهما من القلاقل السياسية التي تواجهها أمريكا داخلياً ، فمن عادة الإدارات الأمريكية جميعها الهروب من مشاكلها الداخلية بافتعال مشاكل خارجية وإشغال الرأي العام والعالم بها ، فعلى الصعيد الأمريكي فهناك مشاكل سياسية كبيرة جداً ابتداءً من النزاع بين الصقور والحمائم ، والنزاع بين الحزبين ، وقانون الطوارئ المفروض ضمناً منذ أحداث سبتمبر ، والأحاكم العرفية التي ألغت القانون الأمريكي واستحدثت قوانين جديدة خارجة من البيت الأبيض ، إلى النزاع بين وزارتي الخارجية والدفاع ومن يدير السياسة الخارجية الأمريكية ، وكم كبير من القضايا السياسية المحتدمة في أمريكا بين طرفين أوعدة أطراف شعبية كانت أو حكومية ، حتى الضعف أو الانهيار الاقتصادي الأمريكي ، سينعكس على العالم بالتأكيد ، ومن آخر المشاكل السياسية في أمريكا تجدد مطالبة ولاية نيويورك بالانفصال عن الولايات المتحدة ، وهذه الدعوة ليست جديدة بل هي دعوة قديمة جداً ، وليست هذه هي الولاية الوحيدة التي تطالب بالانفصال بل هناك أكثر من سبع ولايات تطالب بنفس المطلب ، ويقول بتر فالون الابن عضو مجلس مدينة نيويورك في تبرير طلب انفصال الولاية : ( القضية بسيطة للغاية وأن المدينة تدفع ضرائب قيمتها 3.5 مليارات دولار لولاية نيويورك ولا تحصل في المقابل على خدمات بهذا المبلغ ) ويضيف فالون ( نريد استرداد أموالنا ، في الماضي كانت فكرة الانفصال مجرد فكرة رومانسية حالمة أما الآن فقد تكون طوق النجاة الوحيد بالنسبة للمدينة ) وكما قلنا فإن هذه المطالبة ليست جديدة ، فقد طالب الروائي نورمان ميللر باستقلال المدينة عام 1388هـ 1969م خلال حملته الانتخابية للفوز برئاسة بلدية المدينة ، كما ترجع الفكرة إلى القرن التاسع عشر حين اقترح رئيس بلدية يدافع عن الرق انفصال نيويورك خلال الحرب الأهلية الأمريكية .(66/180)
ولا يمكن لأمريكا أن تسكت هذه الأصوات في الداخل وتنهي هذه المطالبات إلا بافتعال قضايا خارج حدودها تشغل بها الرأي العام وتشغل العالم أيضاً عن التركيز على مشاكلها الاقتصادية والسياسية ، وفشلها السياسي ومشاكلها السياسية نشاهد أنها تنعكس على العالم وعلى المنطقة خاصة بشكل مباشر ، فهذا عامل مهمة لمعرفة مؤشر المشاكل الجديدة في العالم ، فكلما زادت الفضائح داخل الإدارة الأمريكية أو الكونجرس ، وزاد الصراع في أمريكا ، زادت معه قضايا العالم الساخنة ، وإدارة بوش على وجه التحديد ، هي أعظم الإدارات إخفاقاً على على مستوى الداخل الأمريكي ، لذلك أصبحت هي أكثر الإدارات حروباً وغطرسة في العالم ، فالإدارات الأمريكية ترى أنها لن توحد الداخل وتنسيه مشاكله إلا بافتعال عدو خارجي جديد يضمن الوحدة الوطنية ، ويضمن وصف الوضع بأنه وضع حرب لا يسمح فيه لأحد بانتقاد الإدارة أو أي نوع من الفرقة الداخلية ، وهكذا تستطيع الإدارات الأمريكية أن تضرب المسكنات للمجتمع الأمريكي ، بافتعال مشاكل في العالم ، ولكن سوف يأتي اليوم الذي يصبح المسكن فيه عديم الفائدة أو منتهي الصلاحية ليسبب التسمم الذي يؤدي إلى الوفاة ، وهذا نأمل أنه قريب بإذن الله تعالى .
الملامح السياسية لدول المنطقة :
بعد هذا التلخيص لهذه الملامح ، نعود لنتحدث عن بقية الجهات التي سيكون لها دوراً في المنطقة ، وقد ذكرنا في بداية هذه الحلقة بأن المنطقة فيها ثلاث جهات ستلعب دوراً مهماً في سياستها الداخلية والخارجية ، الجهات الثلاث هي :
أولاً : أمريكا وإسرائيل .
ثانياً : دول المنطقة .
ثالثاً : شعوب المنطقة .
وما سبق من حديث إنما هو عن الجهة الأولى ، فقد أوضحنا المعالم الرئيسة للسياسة الأمريكية في المنطقة وفي العالم.
أما ما يخص الجهة الثانية وهي دول المنطقة فقد أسلفنا أيضاً أن قيادتها بين أمرين إما أن تترك السلطة أو تقبل بأن تكون كسفير للولايات المتحدة في البلاد ، هذا باختصار .
علماً أن هاجس إزاحة الأنظمة عن السلطة سوف يتملك قلوب حكام المنطقة ، فهؤلاء الحكام على استعداد لبيع كل شيء حتى الآباء والأبناء والأخوة مقابل البقاء في السلطة ، فانظر ماذا فعل فيصل في أخيه سعود ، وانظر ماذا فعل أبناء سعود وبعض إخوانه بفيصل عندما اغتالوه ، وانظر كيف فعل ملك الأردن حسين بأبيه ، وماذا فعل قابوس بوالده أيضاً ، وأخيراً نفي أمير قطر لوالده وتولي السلطة ، والقائمة طويلة ولم ولن تنتهي ، والجامع لكل هذه الأعمال حب السلطة والرياسة والملك ، فإذا كانت هذه الشهوة ، دفعتهم لارتكاب أبشع الجرائم في حق أقرب الناس إليهم ، فهل ستمنعهم من ارتكاب أضعافها ضد الأبعدين من أبناء الشعب ، وبمراجعة بسيطة لسجل القتل والسجن والتنكيل والتعذيب لكل دول المنطقة ، نجد أن أكبر المسحوقين في هذه الدول هي الحركات أو المنظمات ذات المطالب السياسية أو الإصلاحية ، فعدو هذه الحكومات الأول هي هذه الشخصيات ، فإذا كانت من قديم عهدها تستهدف هؤلاء فكيف سيكون الحال الآن بعد أن أصبحت أمريكا اليوم هي من يضغط للقيام بمثل هذه الأعمال ، أمريكا تتبجح وتنادي بحقوق الإنسان ، وتنادي بالحرية الدينية والسياسية ، تنادي بشعارات طويلة عريضة ، ولكن عند اختبار أي شعار من هذه الشعارات على واقع الدول العربية تجد أنه سقط سقوطاً لا قيام بعده ، فأمريكا هي التي تدعم هذه الأنظمة وهي التي تدفعها لاتخاذ إجراءات أشد وأبشع ضد شعوبها لضمان سيطرتها على المنطقة .
أمريكا تتبجح اليوم بأنها تمكنت من القضاء على الدكتاتورية العراقية التي سحقت الشعب العراقي ، وفي نفس الوقت تشيد بالحكومة الأردنية وهي من دكتاتوريات المنطقة ، وهي أكثر سحقاً للشعب الأردني والفلسطيني من نظام صدام للشعب العراقي ، وتستمر إشادتها بالنظام السعودي والمصري والمغربي والتونسي وغيرها من الأنظمة الحليفة لها ، وكل هذه الأنظمة أنظمة دكتاتورية تسحق شعوبها وتملأ سجونها ، ولا تسمح بأية حرية سياسية على الإطلاق ، فأين الديمقراطية المزعومة ؟ إذا أمريكا لها مكيالان عفواً لها مكاييل كثيرة ، كل قضية لها مكيال خاص بها ، فالقضايا السياسية لها مكاييل خاصة بكل دولة ، والقضايا الاقتصادية ، والعسكرية والتسليحية ، وهكذا .(66/181)
وخلاصة القول أن الدول العربية اليوم تحتاج إلى الشفافية ولكن ليس مع شعوبها ، بل مع أمريكا ، فتحتاج إلى أن تعترف بأنها ما هي إلا خادمة لأمريكا ، تقوم على رعاية مصالحها ، وإزالة كل الأخطار التي تهددها ، وضمان استمرار تدفق النفط ، ولو قصرت هذه الدول بشيء من ذلك ، فهي معرضة للانقلاب كما حصل مع نظام صدام ، فهو النظام المدعوم من أمريكا عندما وصل السلطة عبر الانقلاب ، وهو النظام المدعوم من أمريكا والمنطقة في حرب إيران ، وبعد أن بدأ يقوى وخشيت أمريكا من ضرره ، زينت له غزو الكويت ودفعته لذلك ، وظن هو أنها ستبقى مكتوفة الأيدي كما ألمحت له بذلك السفيرة الأمريكية في بغداد قبل غزو الكويت بأسبوع تقريباً ، وتجرأ وأقدم على الغزو بعد صدور الضوء الأخضر من أمريكا ، فأكل الغبي الطعم ، و أمريكا لا عهد لها ولا ميثاق فانقلبت عليه وجرعته السم ، فاضطر لمواجهتها لمدة عقد من الزمان ، إلا أنه انهار في نهاية المطاف ، فالدول العربية ستمر بنفس مرحلة نظام صدام ، وما عليها إلا أن تسير نحو ما تريد لها أمريكا ، فهي مسيرة لا مخيرة .
إذا كانت أمريكا نزعت الخيارات السياسية من الدول العربية على المستوى الخارجي ، فإنها أعطت قدراً من الخيارات لا بأس به على المستوى الداخلي ، فأعطت هامشاً يتيح للدول العربي أن تستعرض نفوذها وحنكتها السياسية على شعوبها لتبرهن لأمريكا أنها وضعت الرجل المناسب في المكان المناسب ، فهذا الهامش متاح لهذه الدول قبل مرحلة احتلال العراق ، وفي الأيام القادمة يبدو أن هذا الهامش بدأ يضيق وسيضيق أكثر ، خاصة بعد طرح مشروع ( مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية) الذي يتدخل في كل الشئون الداخلية ، فعلى الحكومات العربية أن تتعايش مع الوضع الجديد وتقبل به كما قبلت بغيره من قبل ، أو عليها أن ترضى بالرحيل غير مأسوف عليها من قبل أمريكا لتبحث عن البديل .
فالأيام القادمة ستشهد عن طريق مشروع الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية ، تغيراً في السياسة الداخلية للدول العربية ، وهذا التغير سيشمل جميع المجالات بلا استثناء ، وسيشمل نظام الحكم أيضاً وأسلوب تداول السلطة واتخاذ القرار ، فما هو موقف الدول العربية ؟ وكيف ستتعامل مع هذا الوضع الجديد ؟ .
أما عن موقف الدول العربية فماذا عساه أن يكون ؟ وماذا يمكن أن تصنع لنفسها ؟ لا يمكن أن تصنع شيئاً ولا يمكن أن تقوم بأي شيء ذي بال يدفع عنها بلاء أو يجلب لها نفعاً ، ما عليها إلا التسليم أو المفاوضة حول بعض هوامش الأوامر الأمريكية في مشروع الشراكة ، ولكنها ستتعامل مع هذا الوضع الجديد بمزيد من التعسف والعنجهية مع شعوبها لفرض مشروع الشراكة على كافة المجالات ، فمشروع الشراكة هو مشروع مرفوض لدى شعوب المنطقة ديناً وأخلاقاً وطبيعة وتقليداً ، مشروع لا يمكن أن تقبله إلا البهائم ، فرفض الشعوب لهذا الأمر سيدفع الحكومات العربية لأن تستأسد عليها لتفرض عليها هذا المشروع ، أو بمعنى أصح لتفرض عليها أن تكون بهائم لأمريكا ، فالتحرك الحكومي العربي القادم لن يكون ضد العدو الخارجي ، بل سيكون ضد العدو الحقيقي الداخلي ضد الشعوب بشكل أخص ، هذا هو الهامش المتاح للدول العربية وهو فرض المطالب الأمريكية على الشعوب بقوة الحديد والنار ، ومن يعجز عن ذلك فسوف تحاول أمريكا تكرار تجربة العراق على دولته لتفرض هي ما تريد على المنطقة وبنفسها بعد أن ضمنت أن شعوب المنطقة شعوب منزوعة الأسلحة بل منزوعة من كل أسباب القوة ، وقال كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الاسبق في عام 1394هـ بعد أزمة البترول ( لابد أن يأتي اليوم الذي يدفع فيه العرب ثمن هذا الموقف ، لأن بترولهم كله سيكون تحت سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية ) ، وبالفعل أصبح تحت السيطرة الأمريكية ، وأصبحت الدول كلها تحت السيطرة الأمريكية ، بسب عمالة هذه الحكومات الخائنة .
ملامح خيارات شعوب المنطقة :
أما الجهة الثالثة وهي شعوب المنطقة ، فهي الرقم الصعب بالنسبة للغزاة وبالنسبة لحكومات المنطقة ، فشعوب المنطقة اليوم بدأت تعرف أنها تشكل رقماً على رقعة الأحداث في العالم ، بدأت تتأكد من ذلك يوماً بعد يوم ، بدأت تعرف أنها تمتلك سلاحاً جباراً يرعب الجميع ويجبر الجميع على الاستجابة لمطالبها ، هذا السلاح هو الحرب غير المتوازية ، هذا السلاح هو حرب العصابات ، والعمليات الاستشهادية، هذا الأسلوب لا يصلح معه التسليح الأمريكي ولا يصلح معه سلاحها النووي ، ولا يمكن للحكومات العربية أن تحد منه ، إنه سلاح قوي وجبار قوته من قوة الإيمان والاعتصام بحبل الله والتوكل عليه .
فماذا يمكن أن تصنع هذه الجهة ؟ ، قبل معرفة ماذا يمكن أن تصنع لابد أن نعرف كيف ينظر إليها الأعداء .(66/182)
يقول الرئيس الروسي ( فلاديمير بوتين ) خلال الاحتفالات السنوية بالانتصار في الحرب العالمية الثانية والتي جرت في الساحة الحمراء ( إن الوحدة التي مكنت العالم من التغلب على النازية لا تزال مهمة الآن في المواجهة العالمية للخطر الذي تمثله الجماعات الإسلامية المسلحة ، وأضاف : الوحدة هي التي مكنتنا من هزيمة الفاشية ، إن هذه التجربة الفريدة يجب أن تكون درساً في هذه الأوقات التي ظهر فيها تهديد دولي جديد ولمواجهة خطر الإرهاب العالمي الذي يجب أن تتوحد جهود كافة الدول المتحضرة لمكافحته ) .
قال كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبف في ( المجلة الأمريكية للشئون الخارجية ) عام 1388هـ في شدة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي ( إن الخطر القادم على الحضارة الغربية في القرن الحادي والعشرين ليست الشيوعية ، ولكن هذا الخطر يتمثل في الإسلام بما فيها الجمهوريات الإسلامية التي تمثل جزءً من الاتحاد السوفيتي الحالي ) .
فكيسنجر رغم حدة الحرب الباردة بين المعسكرين يعرف أن الخطر الأعظم هو خطر الإسلام ، وليست هذه المعرفة خاصة بكيسنجر أو بوتين بل هي معرفة عامة وقديمة يعرفها جميع قادة العدو بكافة أشكالهم ، وقد نقلنا في الحلقات الماضية وخاصة الحلقة الثانية و الحلقة الحادية عشرة تصريحات كثيرة تؤكد ذلك ، ولن نطيل بإعادة نقل تلك التصريحات التي تؤكد على أن خوف الأعداء في المنطقة ليس من حكومات المنطقة ، بل هو من شعوب المنطقة وبالأخص من الحركة الإسلامية الجهادية .
فهذا خوف قديم جداً جداً وليس بجديد ، وليس هذا الخوف نابعاً عن تضخيم له أهدافه ، فهو خوف حقيقي ، لأن الحركة الإسلامية هي حركة عقدية فكرية تعبوية ، لا يمكن أن يتمكنوا من القضاء عليها بالقضاء على مجموعات أو رموز أو شخصيات ، بل هي حركة مستمرة بما أن الشعوب تحمل العقيدة والفكر الإسلامي الصحيح ، فالاستعمار يواجهه الجهاد الإسلامي منذ القدم وقبله الحروب الصليبية ، فلماذا لم ينته الجهاد بانتهاء رموز تلك الحقبة ؟ .
الإمام شامل بطل القوقاز ضد القيصرية الروسية عندما وقع في الأسر الروسي ، توافد عليه شعب القوقاز ليزوروه في أسره ، فكانوا يحدثونه عن رغبتهم بالهجرة من القوقاز بسبب الاضطهاد وحروب الإبادة ، فكان يقول لهم ( لا لا تهاجروا فسوف يخرج منكم شامل آخر يقودكم إلى الحرية ) ، وبالفعل فقد مر أكثر من قرن وخرج اليوم لهم ( شامل ) آخر ليذيق الروس الويلات والجحيم ، لماذا وكيف خرج ؟ خرج لأن العقيدة الإسلامية والفكر الإسلامي الصحيح باق في الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، لذا فسوف تستمر حركة الجهاد الإسلامي في الأمة من الناحية العقلية للأسباب التي ذكرنا ، ومن الناحية النقلية لقوله ( ( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على أمر الله لا يظرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) متفق عليه ، ولقوله ( الجهاد ماض إلى يوم القيامة ) ، فاستمرار فعالية شعوب المنطقة وتأثيرها في المنطقة هو كائن عقلاً وشرعاً ولا يمكن أن يزال بحال ، وعندما تأكد الأعداء من هذه الحقيقة توجهوا إلى نزع فتيل تفجير هذه القوة الكامنة وذلك بمسخ الأمة في عقيدتها ودينها وأخلاقها وفي كل مجالات حياتها ، ومشروع الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية واحد من برامج مسخ الأمة .
ولذا فعلى شعوب المنطقة أن تعمل بخطين متوازيين ، خط الجهاد المسلح ضد أعداء الله تعالى في المنطقة وخاصة في العراق وعدم إعطائهم الفرصة على التقاط أنفاسهم ليهجموا على دولة أخرى ، والخط الآخر ترسيخ عقيدة وأخلاق الأمة على الواقع العملي ، بعيداً عن التنظير المثالي الذي لم ولن يظهر بتلك المثالية وبهذه السرعة وفي هذا الزمان ، لينقل الأمة من تحت الحضيض إلى أمة يضاهي وقاعها واقع الصحابة ، فلابد أن نكون أبناء الواقع ونبدأ بالتدريج حتى نصل إلى ما وصل إليه الأولون ، سواء على خط الجهاد أو على خط الإصلاح ، إلا أننا نؤكد أنه لابد من التوازي بين الخطين وليس التقاطع ، وبعيداً عن فكر التصوف الجديد ، الذي يقول لا عمل حتى تبلغ منزلة اليقين ، فنبغي على الأمة أن تبدأ بالجهاد بكل قوة ، وتبدأ بالإصلاح أيضاً وبكل قوة ، ولا تعارض بينهما ، وما عرفت الأمة عن المصلحين إلا أنهم هم المجاهدون والعكس .
المهم أن شعوب المنطقة لابد وأن تحتل مكانها في تصريف سياسة المنطقة اليوم ، ولن تحتل مكانها إلا بالفدائية والبذل قبل كل شيء ، ولن ننال ما نال الأولون إلا بأن نبذل مثل ما بذلوا ونترك من اللذائذ والنعم مثلما تركوا ، وإن الله لا يضيع عمل المحسنين .
==================(66/183)
(66/184)
فتوى فضيلة الشيخ عبدالله الغنيمان
في مناصرة طالبان والقنوت لها وحكم الوقوف مع دول الكفر
فضيلة الشيخ/ عبد الله بن محمد الغنيمان ......................حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
تعلمون حفظكم الله ما يجري على أرض أفغانستان وتحزب الأحزاب من كل أصقاع الأرض على قتالهم ، ومما يزيد الأمر أن الدول المجاورة قد قطعت أسباب النصرة عنها وحيث قد ارتفعت أصوات من أهل الإسلام وبعض أهل العلم بالوقوف ضد حكومة طالبان وشعب أفغانستان مع أمريكا وحزبها .
1 ـ فما ترون حفظكم الله في حكم مناصرة حكومة طالبان وشعبها ؟ .
2 ـ ما حكم من وقف مع الأحزاب ــ أمريكا وبريطانيا ومن معهم ــ ضد طالبان وشعبها ؟
3 ـ هل هذه نازلة في المسلمين يشرع فيها القنوت لهم والدعاء على عدوهم ؟
والله يحفظكم ويرعاكم .
الجواب :
قبل الجواب على هذه الأسئلة اقدم نصيحة للأمة الإسلامية عموما فأقول :
أولا :
عند النظر لما جرى ويجري من الحرب الأمريكية وحلفائهم يتبين أنهم لم يحددوا الهدف الذي يسمونها الإرهاب ، وهم لم يثبتوا أن الهجوم الذي وقع في أمريكا من فعل الأفغان أو بتعاونهم كما هو معلوم للعالم كله ، وعلى ذلك يتبين أن مفهوم الإرهاب عندهم هو الإسلام ، فعليه : هي حرب صليبية ، وقد صرح بذلك عدد من كبار قادتهم كالرئيس الأمريكي وهذا أمر ليس جديدا ، بل هو يجري في دمائهم وقد أخبرنا ربنا تبارك وتعالى بذلك فقال ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) وقال تعالى ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم أن استطاعوا ) ولهذا ما يفعله اليهود في فلسطين من قتل الأطفال والنساء والصغير والكبير وإهلاك الحرث والنسل .. لم يكن إرهابا في نظر الأمريكيين ، بل يقع برعايتهم وحمايتهم ، لأن القتل على المسلمين .
وإذا أخذ أحدهم حجرا يدافع به عن نفسه صار إرهابيا .
ثانيا :
يظهر من مقاصدهم من هذه الحرب إذلال الدول الإسلامية وإرغامها على الخضوع لأمريكا وحماية دولة اليهود من أي خطر يمكن أن يهددها .
ثالثا :
من الواضح أنهم لن يكتفوا بالقضاء على دولة طالبان ، بل سيتتبعون دول الإسلام ومنظماته ، ولا سيما من له أثر في الدعوة أو التمسك بتعاليم الإسلام ، وقد صرح رئيسهم بذلك ، فهم يخططون له ويسعون إليه بما يمكنهم .
رابعا :
يجب على قادة المسلمين من ملوك ورؤساء أن يعتبروا بما جرى ، فيحملهم ذلك على الاتفاق والعمل على حماية بلادهم وشعوبهم ، وأن يتمسكوا بدينهم ويستغنوا بما منحهم الله من ثروات بلادهم فيحافظوا عليها ويمنعوها عدوهم الذي يحاربهم بها ، وأن يعملوا بكل ما يستطيعون من الاستغناء عن عدوهم ويستغلوا هذه الثروات المعدنية والبشرية حتى تحصل لهم القوة والعزة ويمتثلوا أمر ربهم تعالى ، لقوله ( واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) وقوله تعالى ( يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ) .
خامسا : يجب على المسلمين عموما أن يقفوا صفا واحدا ضد عدوهم وأن يحذروا كيده فإنه يسعى للإيقاع بينهم وضرب بعضهم ببعض حتى يضعفوا ويصبحوا في قبضة عدوهم ويحرصوا على الانضباط ووحدة الكلمة والصف وتقارب القلوب فإن ذلك من أسباب النصر بإذن الله تعالى .
أما الجواب على الأسئلة فنقول :
يجب مناصرة المسلمين من الأفغان وغيرهم على الكفار في دفاعهم عن دينهم وبلادهم وأعراضهم قال الله تعالى ( وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ) وقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ) فيجب نصرهم حسب الإمكان .
وأما الوقوف مع دول الكفر على المسلمين ومعاونتهم عليهم فإنه يجعل فاعل ذلك منهم ، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) والآيات في هذا كثيرة .
وأما القنوت فهو أقل ما يفعله المسلم في مثل هذه النازلة ، وقد سن رسول ا صلى الله عليه وسلم القنوت في النوازل كما قنت لما قتل القراء الذين أرسلهم إلى رعل وذكوان وبعد وقعة أحد ، وغير ذلك ، فالواجب على المسلم الاتجاه إلى ربه بالدعاء دائما في الوتر وغيره بل في جميع أوقاته و أحواله .
أسأل الله تعالى أن يلطف بالمسلمين وأن يجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن .
وصلى الله على نبيا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه رئيس قسم الدراسات العليا سابقا
في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة
عبدالله بن محمد الغنيمان
الثلاثاء 29 / رجب / 1422 هـ
==============(66/185)
(66/186)
خطبة عيد
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمدلله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أيها إخوة!..
احمدوا الله على نعمه، واشكروا على فضله ومنحه، وبادروا بالإحسان قبل أن يحل بكم الموت، وتعجلوا التوبة قبل الفوت، واجعلوا الطاعة عادة، وتحللوا من تبعات المعصية، إن الحياة قصيرة، والأيام تجري، ونحن فيها نجري، ولا ندري متى يحل الأجل: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}.
قد خرجنا للتوّ من رمضان، شهر التطهير والتنقية والتصفية من كدر الذنوب، ونحن على درجات متفاوتة، بحسب جدنا واجتهادنا، فلنحذر من معاودة الكدر، وإفساد ما بنيناه وشيدناه في رمضان، فما مثل من تردى وتغير بعد الطاعة والإحسان، إلا كمثل من بنى بيتا حسنا، فأقامه وشيده ورفعه، فلما تم وكمل كرّ عليه بالمعول فهدمه، فساواه بالتراب، أو تركه خرابا لا يصلح لسكنى الإنسان، فالمعاصي معاول تهدم الإيمان الذي في القلوب، فاحذروا أشد الحذر، وقد ضرب الله مثلا في كتابه فقال:
{أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون}.
رجل كان يعمل بالطاعة عمره كله، حتى إذا لم يبق منه إلا اليسير، استجاب لداعي المعصية فغرق فيها، فأفسد طاعته عمره، ولم يجد فرصة للعودة وبناء الإيمان من جديد، فقد انتهت مدته في الحياة، فما مثله إلا مثل رجل بنى لنفسه جنة، فأحسنها وزينها، وأفنى عمره فيها، حتى إذا كبر وضعف، ولم يكن له من الذرية إلا الضعفاء، أصاب جنته إعصار فيه نار فاحترقت، فكيف له أن يعيدها كما كانت، فهي عبرة، أن الأعمال بالخواتيم.
هذا يوم العيد، يوم فرح الفائزين، الذين بذلوا جهدهم في رمضان، صياما، وقياما، وصدقة، وقرآنا، وإحسانا، فاليوم يفرحون، يذوقون لذة العمل والجد والبذل والصبر والمثابرة، وهو حزن على من فرط وتكاسل وضيع فرصة قد لا تعود إليه مرة أخرى:
- {وأنذرهم يوم الحسرة إذا قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون}.
أيها الإخوة!..
إن الله تعالى قد استرعاكم على أهليكم وأولادكم، فالرجل راع في أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته، كما قال رسول ا صلى الله عليه وسلم ، والله يقول:
- {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}.
فهي نار، والملائكة التي عليها وصفهم أنهم غلاظ شداد، فمن منا يحب أن تمسه، أو تمس زوجته، أو بناته، أو أبنائه، وأخواته؟.
إن الذي لا يحول دون أهله والمعاصي، كمن يراهم يسعون إلى النار ولا يحول بينهم وبينها مع قدرته.
فاتقوا الله في نسائكم، لا تفتحوا لهن أبواب المعاصي كيفما كان، تبرجا وسفورا، أو اختلاطا بالرجال الأجانب بدعوى العمل والرزق، فما جعل الله لكم القوامة عليهن إلا لوقايتهن من النار، بحفظهن وصيانتهن من كل ما يهتك دينهن وخلقهن، فهن أمانة، صلاحهن بأيديكم، وفسادهن مما كسبت أيديكم، فهن مؤمنات غافلات، لا يدركن طرق الشر، فكونوا لهن حجابا من النار، يكن لكم حجابا من النار.
أيها الأزواج!..
اتقوا الله في زوجاتكم، أحسنوا إلى هؤلاء الضعيفات المؤمنات، واتبعوا وصية رسول ا صلى الله عليه وسلم في مداراتهن والصبر عليهن، واعتدلوا في معاملتهن، فلا إفراط في المحبة والعاطفة، فيستغنين ويتكبرن، ولا تفريط وجفاء، فيجف حبهن، وتنعدم مودتهن.
ويا أيها الزوجات!..
اتقين الله في أزواجكم، راعيهن حقهم عليكم، واعلمن أن الله تعالى قد جعل للرجال عليكن درجة، وجعل القوامة إليهم، وهو أعلم وأحكم، وما على العباد إلا الامتثال، فلا تطلبن الندية، فما أفلحت من رفضت فطرتها، وركبت مركبا لم يصنع لها.
ويا أيها النساء!..
اتقين الله، وكن لبنة في بناء الأمة، بالصلاح والستر والحشمة، والعلم النافع، والعمل الصالح، ولا تكن معول هدم لكيان المسلمين، بركوب الفتن، من تبرج وسفور واختلاط، فهذه الأمة واحدة، وعلى الجميع أن يحفظها بحفظ حدود الله، فلتعلم المرأة أنها فتنة الرجال، فعليها أن تجتنب كل أسباب هذه الفتنة، بالتشبه بأخلاق أمهات المؤمنين زوجات صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهن.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمدلله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أيها الإخوة!..
الكل من موقعه واجب عليه أن ينصر الإسلام، ويحفظ حوزته، أيا كان عمله، فإن الإسلام لم يمر به أيام كأيامه هذه، فالكافر قد حمل حملة سافرة على حماه، يريد محوه، واتخذ لحربه شعارات مثل: محاربة الإرهاب، والتطرف، والأصولية، والسلفية، والوهابية.. وغير ذلك.(66/187)
وما غرضه إلا القرآن والإسلام نفسه، فهو يعلم حقيقة الإسلام، أكثر من بعض المسلمين والإسلاميين، يعلم أن من أصوله وقواعده: تقسيم الناس إلى مؤمنين وكافرين، وأن ذلك يترتب عليه أصولا لا غنى للإسلام عنها مثل: الولاء والبراء، والجهاد، واعتقاد صحة الإسلام وعلوه، وبطلان ما سواه من الأديان..
وكل هذه الأصول لا ترضي الكافر، ولا يهدأ له بال مع وجود دين كهذا، إلا بحربه وإبطاله، فعلى الجميع الحذر واليقظة والفطنة، فكل مسلم مستهدف، فإن الأعوام الأخيرة أظهرت حقيقة العداء للإسلام، من:
- خلال حربهم وعدوانهم الصريح على بلدان المسلمين واحتلاله.
- وتصريحات زعمائهم ضد الإسلام، فهذا يعلن أن حربه حرب صليبية، وآخر يتهم المسلمين بأنهم يعبدون وثنا، وثالث يتهم القرآن و صلى الله عليه وسلم أنه إرهابي!!.
فنحن بين خيارين لا ثالث لهما:
- إما أن نتمسك بديننا الإسلام كما أنزله الله تعالى، فلا نحرف ولا نبدل فيه بأهوائنا، ونتحمل في سبيله كل فرية وعدوان..
- وإما أن نقبل بإسلام يشكله لنا الغرب، لكن لن يكون هو الإسلام الذي أنزله الله إلينا ورضيه لنا دينا..
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه الآيات والذكر الحكيم، وصلى الله وسلم على محمد وأله وصحبه.
أبو سارة
=============(66/188)
(66/189)
لا لاعتذار البابا
علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف
لم تكن مصادفة أن يعلن رئيس دولة الصليب أن الحرب في العراق حرب صليبية، ثم يُهان المصحف في سجونه في العراق وجوانتنامو، ثم يُساء إلى الإسلام ونبي الإسلام في رسوم كاريكاتيرية في أكثر من صحيفة غربية، ثم يُتهم الإسلام بالفاشية، وأخيراً يُساء إلى نبي الإسلام -عليه أفضل الصلاة والسلام- على لسان أكبر زعيم للنصارى -بابا الفاتيكان- ، لم يكن ذلك كله مصادفة ولا مستغرباً عنهم {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}، ولم يكن مُستغرباً أن يغضب المسلمون لنبيهم صلى الله عليه وسلم بل هذا هو الواجب عليهم، لكن المستغرب هو هذه الضجة الإعلامية التي انخدع بها الكثيرون وصاروا يُطالبونه بالاعتذار، مما كان سبباً في إعلاء شأنه، ولو أنهم تركوه لحقارته لما عبأ به أحد، فما كان منه إلا أن اتهمهم مرة بالغباء وأنهم لم يفقهوا قوله! ومرة بأسفه على الألم الذي سببته تعليقاته، وها نحن المسلمين صباح مساء نذمهم ونذم دينهم المحرَّف ونصمهم بالضلال يومياً في صلاتنا وخارجها ولم يُلقوا لنا بالاً ولم يطلبوا منا أن نعتذر، ولو أن أكبر علماء المسلمين قال إنَّ النصارى كفار وإنَّ دينهم محرَّف وليس هو الدين الذي أتى به عيسى عليه الصلاة و السلام، أتراهم سيأبهون به ويطالبونه بالاعتذار؟! أجزم أن عقلاءهم أعقل من عقلانينا الذين طاروا في العجة-كما تقول العامة- ولن يطالبوه بالاعتذار لأن ذلك يُعلي من شأنه، ثم ماذا لو قال لنا البابا أنا على استعداد أن أعتذر عن إساءتي لكم لكن بشرط أن تعتذروا أنتم أيضاًً عن إساءتكم لنا بوصمنا بالكفر والضلال في كتابكم وعلى ألسنة علمائكم؛ أكنَّا فاعلون؟!
ومرة أخرى أقول إن غضب المسلمين أمرٌ واجب عليهم وغير مستغرب لكن المستغرب أن يطالِب بذلك من يستنكرون اليوم عليه وغداً يجلسون معه على طاولة الحوار لتقريب الأديان هؤلاء هم الذين جرءوه
- جرَّأه الذين لا يكفرونهم ويزعمون أنهم أهل كتاب مؤمنون والله كفرهم من فوق سبع سماوات {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ }.
- جرَّأه من عدَّ النصارى إخواناً لنا في الإنسانية في حين يتهم باباهم نبينا -عليه أفضل الصلاة والسلام- باللاإنسانية.
- جرَّأه من أبلى بلاءً سيئاً في رفع المقاطعة عن دولة الدانمرك التي سبقته في الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس ببعيد أن يأتي من يقبل اعتذاره الأخير كما قبل البعض اعتذار الصحيفة الآثمة صاحبة الكاريكاتير.
- جرَّأه الذين ما زالوا يدعون إلى التسامح والتعايش والحوار مع الآخر والآخر هذا يشتمهم ويشتم نبيهم - صلى الله عليه وسلم -.
هذا وغيره هو الذي جرَّأ هذا الكافر وأمثاله على الإساءة للإسلام ونبي الإسلام r.
وإن من المزالق الخطيرة التي وقع فيها بعض الذين طالبوا البابا بالاعتذار ونُشرت في وسائل الإعلام قبول بعضهم اعتذاره الممجوج ونسي هؤلاء -وربما جهلوا- أنه لو اعتذر بأصرح عبارة ممكن أن يعتذر منها مخطيء لما قُبل اعتذاره لأن هذا حق للنبي r ليس لأحدٍ غيره، أرأيت لو أنَّ رجلاً شتم جارك ثم جاء ليعتذر إليك هل من حقك أن تقبل عذره أم تقول له هذا جاري دونك فاعتذر منه؟ فحق رسول الله صلى الله عليه وسلمأجلُّ وأعظم.
ومن هذه المزالق دعوى بعضهم أن الجهاد في الإسلام للدفاع عن النفس ليدفع تهمة انتشار الإسلام بالسيف ونسي أن التاريخ الإسلامي مليءٌ بالفتوحات الإسلامية.
فهؤلاء وأؤلئك هم الذين جرَّؤه و سيجرِّؤن غيره على الإساءة للإسلام ونبي الإسلام.
ولهؤلاء أقول: إنْ كان الدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يتطلب منكم كل ذلك فلا حاجة إليه، والله حافظٌ دينه وكافٍ نبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}.
==================(66/190)
(66/191)
الأمريكان وتدنيس مقدسات الأديان
محمد حسن يوسف
يشاء الله أنه لا يكاد يمر يوم إلا وتظهر فضائح جديدة لقطب الحضارة الإنسانية الأوحد في هذا العصر!!! فقد نقلت مجلة " نيوزويك " الأمريكية[1] عن محققين يتابعون ما يجري في معتقل جوانتانامو أن عسكريين أمريكيين يشاركون في عمليات الاستجواب للمعتقلين المسلمين قد وضعوا مصاحف في المراحيض لاستفزاز المعتقلين، وأنهم القوا في حالة واحدة على الأقل مصحفا داخل المرحاض.
لقد قالوها من قبل! إنها حرب صليبية جديدة على الإسلام!! حرب تباح فيها جميع المحظورات!! والمسلمون ما زالوا نائمين!! وهل يبقى شيء بعد وضع المصحف في المرحاض، ونزع أوراقه ورقة ورقة، وشد " السيفون " عليه؟!!! وإمعانا في المهانة، قام الجنود الأمريكيون بالتبول على صفحات المصحف الشريف وتدنيسه بأقدامهم لانتزاع الاعترافات من المعتقلين!!![2]
لقد وصلت المذلة بالمسلمين إلى الحد الذي يهان فيه أقدس مقدساتهم، ولا يفعلون شيئا!! لقد نزع الله المهابة من قلوب أعدائنا منا، وقذف في قلوبنا نحن الوهن. لقد تشبعت قلوبنا بحب الدنيا، لدرجة أن يتم تدنيس القرآن جهارا نهارا، ولا يتحرك المسلمون!!! تراجع أمر الدين في حياتنا، وأصبح اللهث وراء لقمة العيش هو الأساس الذي نتحرك من أجله!!
ولكن القصة لم تقف عند هذا الحد! ففور نشر القصة على صفحات مجلة نيوزويك، قامت الاحتجاجات والمظاهرات الصاخبة في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وكانت أشد هذه المظاهرات في باكستان وأفغانستان التي تئن من وطأة المستعمر الأمريكي!
وإزاء رد الفعل هذا، والذي لم يكن متوقعا، اضطرت كونداليزا رايس، وزيرة خارجية الولايات المتحدة، إلى التصريح بأن ازدراء القرآن الكريم شيء بغيض، وذلك في محاولة منها لتهدئة مشاعر المسلمين في شتى بقاع الأرض.
وفي هذه الأثناء، فاجأ الجنود الأمريكان في العراق العالم باقتحام بعض المساجد وتدنيس المصاحف برسم صلبان عليها. وقد بثت قناة الجزيرة شريطا يستنكر فيه الأهالي القاطنون بالقرب من أحد المساجد العراقية اقتحام بيت الله. وقد أشهر العراقيون المصاحف التي لطخها الأمريكان بصورة الصلبان.[3]
ثم تراجعت مجلة نيوزويك تحت ضغط الحكومة الأمريكية عن تقريرها حول تدنيس القرآن في معتقل جوانتانامو في كوبا، بعدما أثار موجة احتجاجات واسعة في العالم الإسلامي.[4] فتحت عنوان: " كيف اندلعت النار "[5]، راحت المجلة تحكي قصة الانتهاكات " المزعومة " التي حدثت للقرآن الكريم في معتقل جوانتانامو!!
ولكن بالرغم من نفي مجلة نيوزويك لهذا الحدث، وتأكيد البيت الأبيض أن الواقعة لم تحدث، أكد مواطن أفغاني أمضى في معتقل جوانتانامو ثلاث سنوات أن المحققين في المعتقل كانوا يقومون باستمرار بتدنيس القرآن الكريم، مما دفع السجناء إلى الإضراب عن الطعام، مطالبين الولايات المتحدة بالاعتذار. وقال إن تدنيس القرآن كان يجري بشكل روتيني خاصة في الأيام الأولى للاعتقال. وأوضح أن المحققين كانوا يلقون نسخا من المصحف على الأرض ويدوسونها، ويقولون للمعتقل الذي يخضع للتحقيق إنه لا أحد يستطيع منعهم من ذلك!!! وأضاف أن المعتقلين احتجوا بأن أضربوا عن الطعام، ولم ينهوا إضرابهم إلا بعد أن قدم مسئولون أمريكيون كبار اعتذارا عما فعله المحققون.[6]
إن القصة بهذا السياق لا تخرج عن أحد ثلاثة احتمالات، أحلاهم مرّ كما يقولون:
الاحتمال الأول: أن القصة قد حدثت بالفعل وفقا لما روته مجلة نيوزويك أولا في عددها الصادر في 10/5/2005، وهو ما يغني عن أي كلام يمكن أن يقال عن راعية الديمقراطية والأخلاق في العالم!!!
الاحتمال الثاني: أن تكون القصة حدثت بالفعل وفقا لما روته مجلة نيوزويك أيضا، ولكن أرادت الحكومة الأمريكية امتصاص غضب العالم الإسلامي، لما رأت أن الشارع الإسلامي ما زال ينبض بالحركة، فأجبرت مجلة نيوزويك على نشر تكذيب لها في عددها الصادر في 24/5/2005. وهو ما يدلك على الممارسات الديمقراطية الحقيقية التي تقوم بها الحكومة الأمريكية، والتي تريد أن تنقلها لشعوبنا، من تكميم أفواه الصحافة وعدم نشر الحقيقة إلا من وجهة نظرهم هم!!! ثم يطالبوننا بهذه الديمقراطية!!!
الاحتمال الثالث: أن القصة ليس لها أساس من الصحة، كما اعترفت بذلك مجلة نيوزويك في عدد 24/5/2005. وهو ما يدلك على الأساس القوي الذي تقوم عليه صحافة العالم " المتحرر " من جميع الأخلاق والقيم!!!
جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرّم الله. قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: والغيرة بفتح الغين, وهي في حقنا: الأنفة, وأما في حق الله تعالى فقد فسرها هنا ... بقوله صلى الله عليه وسلم ( وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرّم عليه )، أي: غيرته منعه وتحريمه.
فإذا كان الله عز وجل يغار إذا ارتكب أحد المؤمنين محرما، فكيف ستكون غيرته سبحانه مع من دنسوا كتابه؟!(66/192)
ويدلنا التاريخ كيف كانت غيرة الله مع من فكروا في هدم بيته. والقصة وردت مطولة في تفسير القرطبي لسورة الفيل، وأحاول هنا أن اجتزأها: وذلك أن ( أبرهة ) بنى القليس بصنعاء, وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض, وكان نصرانيا, ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك, ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليها حج العرب. فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي, غضب رجل منهم, فخرج حتى أتى الكنيسة, فأحدث فيها.
فغضب عند ذلك أبرهة, وحلف ليسيرن إلى البيت الذي تحج إليه العرب بمكة حتى يهدمه. ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت, ثم سار وخرج معه بالفيل. وسمعت بذلك العرب, فأعظموه وفظعوا به, ورأوا جهاده حقا عليهم, حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام. فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم, فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة, وجهاده عن بيت الله الحرام, وما يريد من هدمه وإخرابه; فأجابه من أجابه إلى ذلك. ثم عرض له فقاتله, فانتصر عليهم أبرهة. ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك, يريد ما خرج له, حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له أهلها أيضا, ومن معهم من قبائل العرب; فقاتلوه فهزمهم أبرهة.
فلما نزل أبرهة بالقرب من مكة, بعث رجلا من الحبشة حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم, وأصاب فيها ماتتي بعير لعبد المطلب بن هاشم, وهو يومئذ كبير قريش وسيدها. فهمت قريش ومن كان بالحرم بقتاله; ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به, فتركوا ذلك.
ثم إن عبد المطلب انطلق إليه, ومعه بعض بنيه, حتى أتى العسكر. وكان عبد المطلب أوسم الناس, وأعظمهم وأجملهم, فلما رآه أبرهة أجله, وأعظمه عن أن يجلسه تحته; فنزل أبرهة عن سريره, فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه. ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان, فقال: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك, قال أبرهة لترجمانه: قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك, ثم قد زهدت فيك حين كلمتني, أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك, وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك, قد جئت لهدمه؟ لا تكلمني فيه. قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل, وإن للبيت ربا سيمنعه. قال أبرهة: ما كان ليمتنع مني. قال عبد المطلب: أنت وذاك. فرد عليه إبله. وانصرف عبد المطلب إلى قريش, فأخبرهم الخبر, وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في جبالها وشعابها, تخوفا عليهم معرة الجيش.
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة, وهيأ فيله, وعبأ جيشه. وكان أبرهة ينوي هدم البيت, ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجهوا الفيل إلى مكة, برك الفيل. وضربوا الفيل ليقوم فأبى, فضربوه في رأسه ليقوم فأبى. فوجهوه راجعا إلى اليمن, فقام يهرول ووجهوه إلى الشام, ففعل مثل ذلك, ووجهوه إلى المشرق, ففعل مثل ذلك, ووجهوه إلى مكة، فبرك.
وعند ذلك أرسل الله عليهم طيرا من البحر في جماعات عظام, مع كل طائر منها ثلاثة أحجار: حجر في منقاره, وحجران في رجليه, أمثال الحمص والعدس, لا تصيب منهم أحدا إلا هلك; وليس كلهم أصابت. وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي جاءوا منها, ويسألون عمن يدلهم على الطريق إلى اليمن.
فخرجوا يتساقطون بكل طريق, ويهلكون بكل مهلك على كل سهل, وأصيب أبرهة في جسده, وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة, كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تقطر قيحا ودما. حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر. فما مات حتى أنصدع صدره عن قلبه; فيما يزعمون. وكان أصحاب الفيل ستين ألفا, لم يرجع منهم إلا أميرهم, رجع ومعه شرذمة لطيفة. وقيل هلكوا عن آخرهم!!!
اللهم انتقم لدينك وكتابك وعبادك المسلمين! اللهم انصر المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها! اللهم اقصم أعدائك أعداء الدين! اللهم آمين! آمين!!
11 من ربيع الثاني عام 1426 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 19 من مايو عام 2005 ).
-----------------------------
[1] مجلة نيوزويك، النسخة العربية، في تقرير لها نُشر في عددها الصادر في 10/5/2005.
[2] جريدة الأسبوع، العدد 425، 16/5/2005. ص: 14.
[3] جريدة آفاق عربية، العدد 709، 19/5/2005. الصفحة الأولى.
[4] جريدة المصري اليوم، العدد 341، 18/5/2005. ص:12.
[5] مجلة نيوزويك، النسخة العربية، 24/5/2005. ص ص: 14-16. وهي قصة واهية للغاية لا تكاد تصدق!!!
[6] جريدة الأهرام، العدد 43262، 18/5/2005. ص:4. وجريدة الأخبار، العدد 16558، 18/5/2005، ص: 7.
==============(66/193)
(66/194)
من جرائم الصرب في مسلمي البوسنه….
ومهزلة محاكمة مجرمي الحرب في لاهاي….
بسم الله الرحمن الرحيم
بعض المسلمين يتساءلون و يقولون ما هي حقيقة محاكمة مجرمي حرب البوسنه ؟
وهل هي محاكمة حقيقيه ؟ وما مصلحة النصارى الأوروبيين من محاكمة اخوانهم الكروات والصرب؟
فأقول مستعينا بالله ان الصرب وبلا ادنى شك ارتكبوا مجازر جماعية بحق إخواننا المسلمين البوسنويين ، فأنشأ الصرب معسكرات الاعتقال في كل منطقه بل في كل قرية كبيرة يزج فيها المسلمون العزل من السلاح وعوائلهم فيفرق بينهم عند بوابة سجن الاعتقال وتؤخذ المسلمة الحرة سبية عند الجنود الصرب ورجالهم خدم للصرب عليهم لعنة الله ، وتقوم فكرة المعسكر على ان يتولى اقامته رجل من قادة الصرب الميدانيين وغالبا يكونون من قوات المجرم الهالك اراكان الصربي ذلك القائد القذر لمجموعة النمور وهي ميليشيا غير نظاميه في الجيش الصربي مهمتها التنكيل بالمسلمين وقتلهم شر قتله وتولى معسكرات الاعتقال الرهيبه ، يحشر الأسرى المسلمون في مناطق صغيره وغرف رثه لا تصلح لسكن البهائم ومن يمرض منهم لا يعالج بل يقوموا بقتله امام المسلمين ولاغرو فالدم دم مسلم وعندهم في المعسكر الواحد قرابة الألف او الألفين واذا جرح الكلاب الصرب في المعارك فإنهم يأتوا للمسلمين الأسرى ويأخذوا منهم الدم بالقوه ، واذا احتاجوا للكليه او للكبد فيقوموا بأخذها من المسلم وهو حي ثم يترك ينزف حتى يموت ، واذا احتاج طلاب كلية الطب الى اجراء تجارب حيه فإنهم يرسلون الى معسكرات الاعتقال ويقوم الصرب بتزويدهم من المسلمين وما قصة المسلمه التي ابكت الحجر قبل البشر والتي كانت حامل في الشهر الثامن فأخذت من معسكر الاعتقال وبقر بطنها واخرج الجنين وذبح ثم وضع طلاب كلية الطب في بلغراد جنين قط مكان جنينها ليروا هل ستنجب قط ام لا وهذا امهانا واذلالا للمسلمين ولاحول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
واما عن برنامج معسكرات الاعتقال فإن الصرب يأخذوا المسلمين الى الجبهات ومن ثم يقوموا بحفر الخنادق للصرب وتقطيع الأشجار والحطب وترميم الطرق وجميع الأعمال الشاقة من الفجر وحتى الغروب ثم يرجعوا بهم الى جحيم المعسكر حيث تنتظرهم حفلة قتل والتي يقتل فيها كل ليله رجل او رجلين او اكثر ، واما عن المسلمات فيقوموا بغسل ملابس الأنجاس الجنود الصرب وطهي الطعام لهم وتطبيب جرحاهم واذا اتى الليل ورجع الجنود الصرب من الجبهة فيقوم الكلاب الصرب بإغتصاب المسلمات حتى حبلت من الاغتصابات اكثر من خمسن الف مسلمه( وللمعلوميه كل هذه الحقائق موثقه بالشهود في مركز جرائم الحرب التابع للمسلمين في سراييفو) والقصص كثيرة وحافلة بالأهوال التي يشيب منها الأطفال .
نورد هنا مقتطفات من رسالة أرسلتها إحدى المسلمات الى المجاهدين قبل عملية بدر البوسنه وفيها :
(....الى اخواني المجاهدين ، اكتب لكم هذه الرسالة بمداد دمعات عيوني وألم يعتصر قلبي وذكرى شنيعة لا تفارق مخيلتي ….اكتب لكم هذه الرسالة بعد ان نجاني الله من الم الأسر عند اعدائه الصرب ….اكتب لكم هذه الرسالة والآلاف من المسلمات يرزحن تحت نير الجلاد الصربي….لا اعلم من أين ابدأ الحديث يا حماة الإسلام …ولكني سأبدأ … أسرت مع من اسر من قريتنا حين دخلها الصرب من كل مكان فكانوا يقتلون الرجال ويضربون الأطفال ويسبون النساء …كانت ليله من أعظم الليالي التي مرت علينا كان الجنود الصرب يقوموا بأبشع أنواع الضرب والحقد والألفاظ القذرة التي تدل على نياتهم القبيحة قبح أفعالهم حتى وصلنا الى مكان رهيب ممتلئ بالجنود الصرب وكل يهدد ويتوعد ونحن المسلمات النساء الصغيرات قد غصت بنا الحافلات وادخلونا داخل هذا المعسكر والذي كان معسكرا كبيرا للاعتقال ….
وأما عن المعاملة فلا تسل واما عن البرنامج فيبدأ مع طلوع الفجر حيث يقوموا بإيقاظنا من النوم وحمل نصفنا على الشاحنات الى الجبهة حيث نقوم بحفر الخنادق للصرب وتقطيع الأشجار والحطب وجلب الماء من الأماكن البعيد وحين يخيم الليل بظلامه يقوموا بإرجاعنا الى المعسكر …وليت الأمر يقف على ذلك …..حيث اذا رجعنا قام الضباط الصرب بإنتقاء لمسلمات وأخذهن الى حفلة له ورفاقه بها الخمر ويقوم الكلاب الصرب بإغتصابنا وبكل وحشيه حتى يتناوب على الفتاة المسلمة أكثر من رجل وهم يسبون الإسلام والمسلمين……
عذرا أخواني المجاهدين لا أستطيع ان أكمل لكم المأساة وقد سمعت انكم ستقومون بمعركة كبيرة على الصرب…فأناشدكم الله وسألتكم بالله ان تأخذوا بحقنا من هؤلاء الصرب المجرمين وان تنتقموا لنا منهم وان تريهموهم عزة المسلم وأخذه بالثأر لعرضه و…,….و…)
هذا مقطع من رسالة أرسلتها إحدى المسلمات فبالله عليكم كيف كان وضع المسلمات الأخريات فالله المستعان .(66/195)
ومن قصص هؤلاء الصليبيين انهم دخلوا في بداية الحرب على مدينة سراييفوا وقاموا بإحتجاز المسلمات من سن 15 الى سن 25 سنه في داخل ملعب رياضي مغلق ، دخل أربعة من الضباط الصرب والصالة تعج ببكاء المسلمات من المصير الذي ينتظرهن ؟ والصالة قد امتلأت من المسلمات ومن الجنود الصرب عليهم لعنة الله ، فصاح احد الضباط الصرب بصوت عالي مرتفع …..سنجتث الإسلام من هذه البلاد ارحلوا فليس لكم مكان هنا …هذه بلاد نصرانيه وستبقى للأبد كذلك …ثم قام بأخذ احدى المسلمات من المدرج وكان معها طفل رضيع بعمر شهرين او أكثر اخرجها من المدرج والمسلمات ينظرن بأسى فقام هذ العلج بتعرية المسلمة أمام المئات من الأسرى المسلمات وأمام الجنود الصرب ومن ثم قام بإغتصابها بكل وحشيه وقام الضابط الآخر كذلك بإغتصابها بكل وحشيه فبكى الطفل الرضيع طالبا من أمه الحليب فقام الضابط الصربي بغمس أصابع يده في جمجمة الطفل وقام بقطع رأس الطفل ورماه بكل قوه على الأرض فانتثر المخ والأم تشاهد والنساء الأسرى يشاهدن ولا يملكن سوى البكاء ….
وليت الأمر توقف على ذلك بل قاموا بقطع اثداء هذه الأم المسكينة بسكين حادة وفقأ اعينها الاثنتين بالسكين وتركوها تزف حتى فارقت الحياة …فالتفت هذا المجرم الصربي الى المسلمات وقال لهن كلكن سنفعل بكم هكذا….( وهذه الواقعة استطاع ان يصورها احد البوسنويين بكاميرا فيديو وهي موجودة في مركز جرائم الحرب في سراييفو)..
ومن قصصهم ايضا انهم دخلوا ذات يوم الى بيت من بيوت المسلمين فوجدوا الأم تحضر الطعام للأب والابن فقام الصرب بقتل الأب والابن ومن ثم تقطيعهم وأمروا الأم المسكينة ان تبدل الطعام بلحم زوجه وابنها ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم….
ومن قصصهم انهم ذات يوم في قرية من قرى زافيدوفيتش دخلوا على بيت من بيوت المسلمين فوجدوا ام وابنتها فقال لها الربي اما ان اقتل ابنتك او اقوم بإغتصابك …. فسكتت من هول المصيبة فقام العلج الكافر بإغتصابها وقتل طفلتها .. ومن فضل الله سقط هذا الصربي اسيرا بيد المجاهدين العرب بعد هذا الحادثة بعام كامل وتعرفت الأم المكلومة عليه فأخذ بحقها اسد الله …
ومن قصصهم انهم ذات يوم دخلوا قرية سيمزوفاتس قرب سراييفو وذهبوا الى امام المسجد وامروه ان يبصق على المصحف فأبى وحاولوا معه فأبى فقاموا بقتله وقتل كامل أسرته ودفنوهم تحت المسجد وحرقوا المسجد ووضعوه زريبة للخنازير …..
لعل ما ذكرناه يكفي لبيان الحقد الدفين الذي في قلوب الصرب المجرمين على الإسلام وأهله…مع العلم ان البوسنويين جلهم في بعد عن الله وعن تعاليم الإسلام ولكنها حرب صليبيه تريد اجتثاث حتى الأسماء المسلمة من البلاد ….
وعلى ضوء ذلك خرج بعض المنصفين الأوروبيين وطالبوا ان يحاكم هؤلاء الصرب المجرمين وبضغط ايضا من الحكومات المسلمة والا تمر جرائم هؤلاء المجرمين بلا محاكمه ….
اجتمع مجلس الأمن الدولي وقرر إنشاء محاكمة لمجرمي الحرب في العالم على ان تكون في البداية لمحاكمة مجرمي الحرب في البوسنه والهرسك .. ولكنهم طالبوا ببعض القادة البوسنويين المسلمين لما لهم من اثر في المعارك ضد اعداء الله ولما لهم ايضا من روح إسلامية وجهاديه فأدرجوا أسماء بعض القادة المسلمين …
تم القبض على بعض مجرمي الحرب الصرب والكروات فكانت المهزله بأم عينها…. احدهم وهو من القادة الصرب وقف أمام المحكمة وأمام القضاة والشهود البوسنويين اللذين نجوا من معسكر الاعتقال الذي كان يريده وبدأت فضائح القائد الصربي وجرائمه توثق مباشرة من الشهود والوثائق والأدلة الثابتة والتي منها ما ذكرنا سابقا مما يحدث للمعتقلين في المعتقلات … وبعد دراسات وتشاور أصدرت المحكمة حكمها بسجن هذا القائد الصربي سبع سنوات قابلة للعفو عند نصف المدة ؟؟؟؟؟
وقائد آخر من الكروات كان يدير معسكرا للاعتقال فحكم عليه بأربع سنوات …
وقائد صربي آخر حكم عليه بست سنوات وثبت عليه قتله وتعذيبه لعدد كبير من المسلمين المعتقلين حكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات ؟؟؟؟؟؟؟؟؟
اذا فالمسألة كلها مجرد تمثيل وضحك على ذقون الشعوب المسلمة وامتصاص لغضب المسلمين ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
من قصص الشهداء العرب في البوسنه والهرسك
ابو عبدالله الشرقي(مشعل القحطاني) 1
حمد القطري
===============(66/196)
(66/197)
بل حرب دينية
د. نهى قاطرجي
لا يؤمن كثير من المسلمين بنظرية المؤامرة على الإسلام ويصفون هذه النظرية بالشماعة التي يعلق المسلم عليها ضعفه وانهزامه أمام العدو القوي، ويعتقد هذا الفريق بالمقابل أن العدوان الذي يطال كثير من الدول الإسلامية هو من قبيل الأعمال السياسية والمصالح الاقتصادية، ولكن هذه النظرية لا تقوى على الصمود في وجه البحث العلمي الحقيقي الذي يؤكد أن هذا العداء هو بالدرجة الأولى عداء ديني .
من هنا ، ولكي نبرر سبب هذا اليقين ، لا بد من دعم الكلام بالدلائل التاريخية وبيان أسباب هذا العداء ونتائجه .
نقول أولاً أن هذا العداء بدأ منذ زمن الرسو صلى الله عليه وسلم ، وقد أوضحت العديد من الآيات القرآنية الكريمة أهدافه، ومنها قوله تعالى : " لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" .
كما أوضحته أيضاً الوقائع التاريخية ، التي امتدت على مر الأزمان ، ومن بينها الحروب الصليبية، التي لم تنته مع انتهاء الخلافة العثمانية وتقسيم الدول الإسلامية إلى دول ضعيفة، وإنما استمرت أيضاً بالاستعمار الغربي من قبل الدول التي ساهمت في الحرب الصلييية للدول العربية، كما ساهمت في انتزاع فلسطين من يد أهلها وتسليمها للصهيونية إرواء للحقد الدفين ضد المسلمين من جهة، وإلهاء لهم بالحروب الداخلية من جهة أخرى .
ونقول ثانياً أن العوامل التي تؤكد على أن الحرب التي تشن ضد المسلمين في كل انحاء العالم هي حرب دينية متعددة ، منها :
1- الخوف من الدين الذي عانى منه الغربيون في القرون الوسطى ، وانتهى بهم إلى تحجيم سلطان الكنيسة، عبر اعتناق مبدأ " فصل الدين عن الدولة " ، مما أدى إلى وجود جيل خاو لا يؤمن بأي شيء غير المادة واشباع الشهوات، جيل يرفع لواء العداوة ضد الذين، وذلك خوفاً من أن يعيد بسط سلطته من جديد.
من هنا فإذا كان الغرب قد أبدى عداوته للدين بشكل عام ، فهو أشد عداوة للإسلام، لأن الإسلام يختلف عن غيره بأنه دين ودنيا، فهو لا يدعو فقط إلى إقامة العبادات، بل إنه ينظم شؤون العباد في كافة المضامير السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو إذا نجح في الانتشار داخل الدول الغربية فإن قوانين وتشريعات هذه الدول العلمانية ستتعرض للاهتزاز.
2- الاعلان الواضح في بعض الأحيان والخفي في البعض الآخر من قبل كثير من زعماء الغرب ومفكريهم عن حقيقة هذه الحرب ، من هؤلاء رؤساء بعض الدول التي تدعي العلمانية ، مثل أمريكا الذي أعلن فيها رئيسا جمهوريتها جورج بوش الأب والابن أن ما يجري في العراق هي حرب صليبية ... وما ورد لم يكن من قبيل زلة اللسان كما حاول بوش الابن التستر وراءه .
ومن أنواع هذا الاعلان أيضاً ما ذكره الصهيوني ابن غوربون ، حيث قال : " نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا القوميات ولا الملكيات في المنطقة، إنما نخشى الإسلام هذا المارد الذي نام طويلاً وبدأ يتململ في المنطقة، إني أخشى أن يظهر محمد جديد في المنطقة " .
ومن الجدير بالذكر أن هذا الاعلان هو اعلان مقصود في كثير من الأحيان، إذ إنه بعد زوال الاتحاد السوفييتي ، احتاج الغرب إلى عدو جديد يبرر سعيه الحثيث للتسلح ، فوجد في الإسلام ذلك العدو الإرهابي الذي " يغذي مشروعية آلة الحرب الشاملة المكلفة" .
هذا وقد نشر موقع محيط الاخباري في هذا المجال تقريراً عن الأرباح التي حققتها شركات الأسلحة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث حققت قفزة هائلة في أرباحها للربع الأول في عام 2004م. نتيجة زيادة مبيعاتها بصورة كبيرة بفضل الحرب التي تشنها الولايات المتحدة على العراق منذ مارس من العام الماضي ، وأعلنت شركة لوكهيد مارتن أم أرباحها خلال الربع الأول من العام الحالي تجاوزت التوقعات ارتفعت بنسبة 46 في المائة عن الفترة نفسها من العام الماضي لتصل إلى 291 مليون دولار .
3- تكتل العالم الغربي ضد المسلمين في العالم بأسره، وابداء تعاطفهم الصريح مع دولة يهود الغاصبة، ودعمها مادياً واقتصادياً وسياسياً ، وما عمليات الفيتو التي تتم في أروقة الأمم المتحدة ضد إدانة اسرائيل إلا نموذجاً عن هذا التحيز ، قال " يوخين هيبلر" في كتابه " الإسلام العدو " ناقلاً كلام ورد على لسان أحد الصحفيين المصريين إبان حرب الخليج قوله : " إننا نشهد في الوقت الراهن ازدواجية المعايير الغربية ، فقد أوضح الهجوم على المنشآت النووية ( المفترضة ) لدى العراق أنه لا خلاف بين الغرب إذا تعلق الأمر بتنفيذ قرار للأمم المتحدة ضد بلد إسلامي، وإنما يكون الخلاف حول الحد الأقصى الذي يمكن أن تصل إليه القوة العسكرية فقط، أما في حالة ترحيل وابعاد اسرائيل للفلسطينيين ، تصبح قرارات الأمم المتحدة لا قيمة لها، مجرد حبر على ورق، كذلك الأمر في البوسنة، أي أن الحالات الثلاث تتفق في تصوير مشهد واحد واضح : المسلمون ضحايا الغرب ، مما يدعم بلا شك موقف الإسلام المتشدد، ويضعف موقف المعتدلين السياسيين " .(66/198)
4- الاحساس بالتهديد الناتج عن انتشار الإسلام في كثير من البلاد الغربية ، والناتج في قسم منه عن وفود المهاجرين من الدول الإسلامية ، مما جعلهم يخشون أن يتحول كثير من الغربيين إلى الإسلام ، كما يخشون من الحروب والمنازعات والفتن التي يمكن أن تحدث في بلادهم وتزعزع بالتالي استقراراها .
من هنا جاءت التشديدات القانونية على قبول المهاجرين، وعلى عمل الجمعيات والمؤسسات الإسلامية ، إضافة إلى سن القوانين التي تمنع ظهور الرموز الإسلامية ، ومن بينها حجاب المرأة والتي أصدرت فرنسا مؤخراً قانوناً خاصاً يمنع ارتداءه في المدارس .
5- السعي الحثيث إلى تغيير كثير من مناهج التعليم في الدول الإسلامية ، وذلك من أجل تغيير عقلية الشباب المسلم، وإبعادهم عن دينهم وإلهاءهم بملذات الدنيا، وهذه الدعوة التي بدأت منذ مطلع القرن والمستمرة إلى اليوم ، والتي يقودها للأسف، أبناء من بني جلدتنا ، يسعون إلى استبدال تعاليم الإسلام بتشريعات وضعية ، كما يعملون أيضاً على التشكيك بصلاحية هذا الدين وقدرته على محاربة العدو، وذلك بهدف إنشاء جيل متزعزع العقيدة ، منهزم ، تابع ، مسحوق ....
هذا ما يسعى إليه من وراء تغيير مناهج التعليم ، ولكن صدق الله تعالى القائل: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون "، فالله سبحانه وتعالى أخرج من بين أصلابهم من يعبد الله عز وجل، كما أخرج من الجامعات العلمانية التي أنشئت من أجل هدم الإسلام، شباب صادق ملتزم مستعد للتضحية بكل شيء من أجل عقيدته ودينه، يقول الدكتور الشهيد عبد الله عزام واصفاً حال هؤلاء الشباب : " لقد أصبحت الجامعات كبلاط فرعون يربى فيه موسى عليه الصلاة والسلام ليهدم بيده عرش فرعون ويسحب البساط من تحت رجليه " .
من هنا فإننا نؤكد بناء على ما ورد أن هذه الحرب ليست حرباً سياسية ولا حرباً اقتصادية ... بل هي حرب دينية بالدرجة الأولى ، وهذه الحرب وإن كانت حرباً غير معلنة في فترة من الفترات بسبب سياسة العدو القائمة على بذر الشقاقات والخلافات بين أبناء الدين الواحد، فإنها اليوم أصبحت أكثر وضوحاً بالنسبة لكثير من المسلمين من جهة ، كما أصبحت أكثر وضوحاً بالنسبة للأعداء أنفسهم الذين باتوا يعلنونها حرباً دينية بكل جرأة وبكل جهر وفخر .
==============(66/199)
(66/200)
الحرب اللاأخلاقية
د. نهى قاطرجي
إن مما يمكن لكل متتبع لأخبار الحرب الدائرة على أرض العراق أن يدرك أن السمة الغالبة لهذه الحرب هي كونها حرب لاأخلاقية ، شعارها القتل والدمار والإرهاب والإذلال والسرقة والنهب ، وسائلها العدوان والكذب والخداع والتضليل ، هدفها إبادة أمة وشعب ووطن ، أسبابها الغيرة والحسد .
إن مما يصح إطلاقه على هذه الحرب الدائرة على أرض العراق أنها حرب الكذب والخداع ، ذلك الكذب الذي يعدّ سياسة قديمة ومعتمدة منذ فترة طويلة في أروقة البيت الأبيض ، فلقد استخدمت أمريكا هذا السلاح في فيتنام عندما ادعت أن حكومة فيتنام شنت هجوما على سفينة حربية أميركية ، وقد ثبت فيما بعد كذب هذه الادعاء الذي فضحه مؤرخو الحرب الفيتنامية فيما بعد، حيث كشفوا " أن «كابتن» السفينة الحربية الاميركية تلقى أوامر بدخول المياه الاقليمية الفيتنامية" ، واستخدمته أيضاً في أفغانستان إثر أحداث 11 أيلول حيث ادعت الولايات المتحدة الحرب أن حربها هي من أجل القضاء على الإرهاب .
أما في حرب العراق فلقد عجزت أمريكا عن ايجاد كذبة كبيرة تتستر وراءها وتقنع الدول الكبرى بها ، فعمدت بدلاً عن ذلك إلى ستر عورتها ببضعة أكاذيب لا يمكن أن يصدقها الطفل الصغير ، فكيف بتلك الدول والشعوب العديدة التي ما عادت لتنخدع بتلك الدولة العظيمة وتصدق بأنها بالفعل حامية للحريات والحقوق ، وناصرة المظلومين .
لو حاولنا استعراض مظاهر هذا الكذب لوجدناها متعددة :
1- الكذب في ذكر الأهداف التي أطلقتها أمريكا قبل بدء المعركة حينما ادّعت أنها تبغي القضاء على أسلحة الدمار الشامل ، لذا حاولت من أجل تغطية كذبها هذا الزام المفتشين الدوليين بالكذب ولمّا لم تنجح في مهمتها ادّعت عدم تصديقهم ومنعتهم من اتمام عملهم .
ولقد تبيّن بعد دخول القوات الأمريكية إلى العراق خلو هذا البلد من تلك الأسلحة مما يدل على أن استخدام حجة «أسلحة الدمار الشامل» كانت كذبة كبرى.
ومن الأكاذيب التي بثتها من أجل تبرير عدوانها على العراق ، إدعاءها أن هذا البلد يحمي الارهاب ، وأن له علاقة بتنظيم القاعدة ، "وهنا رأى العالم السيدة "كوندوليزا رايس " ووزير الدفاع" دونالد رامسفيلد " يتباريان في ابتكار «وقائع» بأن اسامة بن لادن «شوهد» في بغداد قبل احداث سبتمبر " .
أما "ريتشارد بيرل " الصهيوني الذي كان يترأس لجنة السياسات الدفاعية فى البنتاجون ، فقد ساق " كذبة كبرى لتبرير الحرب ضد العراق نقلتها عنه وكالة الأنباء الفرنسية فى 8 سبتمبر الماضى في حوار أدلى به لصحيفة إيطالية ، قال فيه «إن محمد عطا الذى يعتقد بأنه قاد هجمات الحادى عشر من سبتمبر اجتمع مع صدام حسين فى بغداد قبل 11 سبتمبر ، ولدينا أدلة على ذلك» .
2- الكذب في رفع شعاري الحرية والديمقراطية التي تدعي أمريكا تطيبقها لهما ، بينما هي في الحقيقة التي تقف في وجههما ، وذلك برفضها الالتزام بكل المعاهدات الدولية وإخلالها بكل القوانين التي ناضل من أجلها الإنسان وعلى رأسها قوانين الأمم المتحدة ومجلس الأمن .
لقد بات شعاري الحرية والديمقراطية مطيّة يمتطيها الغربيون من أجل إذلال المسلمين وإزهاق أرواحهم واستلاب ثرواتهم واستنزاف خيراتهم ، إذ إن هذه المفاهيم التي تتسع لتشمل كل ما يوفر الكرامة لكل مواطن في بلده ، ولكل انسان في مجتمعه، لا يمكن أن تتحقق في ظل سلب الشعوب حريتها في التفكير ومورادها في الرزق ، وحقها في الحكم.
3- الكذب في نقل أخبار المعارك حيث عملت على التضخيم في تصوير انتصاراتها على حساب هزيمة الطرف الآخر ، فعمدت إلى تزوير الحقائق أو سترها او تصوير جزء منها وتضخيمها والإيحاء بنقيضها ، مع أن الجميع بات يعلم أنه ما كان لهذه الدولة أن تتنصر لولا استخدامها أسلحة الدمار الشامل ، ولولا الخيانة والجبن الذي أصاب بعض شرائح الأمة .
هذا وقد استعانت أمريكا في سبيل هذه المهمة بوسائل الإعلام المؤيدة والمعارضة ، فألزمت تلك الوسائل المؤيدة بتغطية الأحداث التي تريدها وتوصيل الرسائل التي تحقق أهدافاً محددة ، أما الوسائل المعارضة فقد شنت عليها حرباً شعواء عندما دمرت مراكزها ، وقتلت مراسليها ، وشككت بصحة مصادرها .
إن سمة الكذب الذي تحدثنا عنها ليست السمة الوحيدة التي اتصفت فيها هذه الحرب فهناك إضافة إليها مساوئ أخلاقية أخرى بدت واضحة وجلية في هذه الحرب الوسخة ، يذكر منها :
1- العداوة والبغضاء التي ظهرت واضحة عبر لسان بوش نفسه ، الذي أظهر بشكل واضح وصريح كرهه للإسلام والمسلمين وإن كان يحاول الادعاء بعكس ذلك بقوله : «إنهم يكرهوننا ويكرهون إسرائيل ويهددون اصدقاءنا جيرانهم فى المنطقة» .(66/201)
هذا وقد ظهرت هذه العداوة والبغضاء واضحة في مواقف عديدة ، إحداها اعتراف بوش الصريح أن حربه على الإرهاب ، كما يزعم ، هي حرب صليبية ، وإذا كان بوش قد اعتذر عن زلّة اللسان التي وقع فيها فإن هذه الزلة ، على افتراض أنها كذلك ، تعدّ في علم النفس الحديث تعبيراً عن مكنونات الصدر ، وصدق الله عز وجل عندما قال : ( ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء في أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ) آل عمران ، 118 .
وهناك أيضاً موقف آخر ظهر فيه هذا الكره الدفين الذي يكنّه بوش للعرب والمسلمين ، بدا ذلك في خطاب ألقاه امام الكونجرس في 29/1/2002 والذي تضمن تفصيلات خطيره عن الخطط المستقبلية للسياسة الأمريكة في العالمين العربي والإسلامي ، وكان مما جاء فيه : " وعلى الرغم من أن الحرب في افغانستان توشك على نهايتها فإن أمامنا طريقاً طويلاً ينبغي أن نسيره في العديد من الدول العربية والإسلامية ولن نتوقف إلى أن يصبح كل عربي ومسلم مجرداً من السلاح وحليق الوجه وغير متدين ومسالماً ومحباً لأمريكا ، ولا يغطي وجه امرأه نقاب " .
وقال أيضاً : " من الآن فصاعداً يحق للعالم تناول الخمر والتدخين وممارسة الجنس السوي أو الشذوذ الجنسي ، بما في ذلك سفاح القربى واللواط والخيانة الزوجية !! والسلب والقتل ومشاهدة الأفلام والأشرطة الخلاعية داخل فنادقهم أو في غرف نومهم !! وبالنسبة لشركاتنا التي تنتج مثل هذه المنتجات فسيحق لها الوصول من دون أي عقبات للدول المتخلفة التي منعت تلك الحريات عن شعوبها " .
وقال أخيراً : " إنني آمل أن أكون قد حافظت على إرث آل بوش حياً بمحاربة العرب والمسلمين طيلة عشر سنوات لضمان استمرار الفوضى في بلادهم !! ولن يجبرنا ملك او أمير عربي نفطي على تحسين كفاية وقود سياراتنا المتطورة وهذا لن يحدث وأنا رئيس للولايات المتحدة،وعلى العكس سيضطرون لزيادة الانتاج وتخفيض الأسعار " .
2- الكِبر الذي يجعل صاحبه يحتقر ويستصغر كل من عداه ، فيعتبر نفسه أفضل من غيره ويفرض على الآخرين أفكاره ومبادئه ، يتفرد في التصرف ويتدخل فيما ليس من شأنه ، يترفع عن قبول النصيحة ويسعى إلى الزام الاخرين بالانقياد له، يتطاول على حقوق غيره ويسرق ممتلكاته وأمواله .
كل هذه الصفات التي يتميز بها المتكبر نجدها واضحة في تصرفات أمريكا اليوم، فهي تسعى إلى التفرد في حكم العالم ، وتلغي أي وجود لأي شعب أو دولة أو حضارة ، فالعالم بأسره اليوم ينبغي أن يكون موحِّد المعالم وفق نظام العولمة الأمريكية العلمانية الكافرة التي لا تؤمن بدين ولا خلق ولا قيمة .
لذلك ، قسّمت أمريكا العالم وفق هذه المبدأ إلى قسمين لطالما عبرت عنهما بقولها : " من لم يكن معنا فهو ضدنا " .
إن العالم بأسره اليوم وخاصة الشعوب الفقيرة يجب أن تقدم ولاءها لمن يعتبر نفسه إلهاً ، فتعطيه بالحسنى أو بالقوة أموالها وثرواتها وممتلكاتها ، وتجعل لهذه الدولة العظيمة الحق في تقرير مصيرها وتتخلى من أجلها عن قناعاتها وثقافاتها وحضارتها .
لقد كان لإصابة أمريكا بجنون العظمة أثره في اعتقادها بعدم وجود قوة فوق قوتها ، ناسية بذلك قدرة الله عز وجل الذي قال : ( لقد خلقنا الإنسان في كبد أيحسب ان لم يقدر عليه احد ) سورة البلد ، 4-10 ، والقائل أيضاً : ( يد الله فوق أيديهم ) الفتح ، 10.
3- الظلم والعدوان ، الذي حرّمه الله عز وجل على نفسه وجعله بين الناس محرماً ، فقد عانى الشعب العراقي طوال خمسة وثلاثين عاماً من حالة الظلم والكبت وهاهو يعود إلى سلسلة جديدة من الظلم ، والله اعلم إلى متى ستنتهي ، وإذا كان النظام السابق قد كمّ أفواه الناس ، وسجن بعضهم لفترات طويلة ، وقتل الأعداد الكثيرة منهم ، وألزمهم الدخول مع عداوات لجيرانهم وإخوانهم في الدين ، فإن عدواناً أكبر سينتظر هذا الشعب اليوم مع وجود تلك القوة التي لن تكتفي بسلبه ممتلكاته وأرزاقه ، بل تسلبه أيضاً هويته وحضارته وعقيدته ، وهذا العدوان " أشد ضرراً وأسوا نتيجة ، فإن الإنسان قد يتساهل في ماله وحقه ولا يتساهل في عقيدته وأدبه وذوقه" .
وقد اتسم هذا العدوان بصفة أخلاقية سيئة للغاية وهي صفة الوقاحة التي بدأت في الظهور حتى قبل الحرب ، فالحكومة العراقية المرتقبة بدأت بالتشكيل قبل الحرب، والحاكم الذي عيَّنته أمريكا على العراق هو حاكم صهيوني ، والحرب التي خاضها الأمريكيون سيدفعون ثمنها العراقيون الذين قتلوا وشردوا ودمرت بيوتهم ، وحركة إعمار العراق ستقوم بها "شركات أمريكية " وضعت مسبقاً وقبل الحرب مشاريع لإعادة البناء على حساب العراق ، وبرامج التعليم تغيّر لتوافق المناهج الأمريكية ، أما العملة الوطنية فستصبح الدولار .(66/202)
كل هذه الصفات الأخلاقية السيئة التي يتسم بها الأمركيون الذين يخوضون الحرب الشعواء ضد المسلمين يطغى عليها صفة وحيدة لا يعلم الأمريكيون أنفسهم أنهم يتصفون بها ، وهي الغباء الذي يجعلهم يتصورون أنهم يمكن أن يخرجوا الإيمان من قلوب المسلمين ويبدلوا عزّهم بدينهم ذلاً وهواناً ، او يتخيلوا أن المسلمين يمكن أن يدَعوهم بسلام ، ويسكتون بالتالي عن اغتصاب الأعداء لأراضيهم واعتدائهم على كراماتهم وإهدارهم لثرواتهم .
لقد بلغ بهم الغباء حداً جعلهم يتحدَّون فيه الله عز وجل وينصبون أنفسهم حكاماً منفردين على العالم ، فقال قائدهم : " لقد حان الوقت لنعيد تشكيل العلم على صورتنا ! وبفضل إلهنا سنقوم نحن شعوب العالم من الجنس الأبيض المتحضر بفرض معتقداتنا الرزينة والودودة والتحررية على عالم جائع لأموالنا ورسالتنا ".
وقد تناسى هؤلاء الأغبياء أن الله عز وجل يمدّ لهم مدّا ، وان الله عز وجل لينصرن دينه ولو بعد حين ، ونقول لهم ولكل من يعتبر نفسه إلهاً لا إله إلا الله .
===============(66/203)
(66/204)
من ينتصر لرسول الله ؟
يا أمة الإسلام داهمني الأسى *** فعجزت عن نطقٍ وعن إعرابِ
كيف أُصور المأساة التي وقعت ..والفاجعة التي حدثت ..وجرت فصولها أياماً عديدة ..دون أن يكون لها صدى في إعلامنا ..ودون أن يغلي الدم في عروقنا..قتلوا الشيوخ فسكتنا..وذبحوا الأطفال فصمتنا.. وهتكوا الأعراض فأُلجمنا..ولم يبق إلا سب نبينا..فلا ..وألف لا ..ومِنْ مَنْ ؟!! من دولة حقيرة يقال لها الدنمارك..فيا لله..حتى الأراذل والأصاغر رفعوا رؤوسهم علينا..وتجرؤوا على نبينا صلى الله عليه وسلم!!
أبناءَ أمتنا الكرامُ إلى متى *** يقضي على عَزْمِ الأبي سُباَتُ؟
أبناءَ أمتنا الكرَامُ إلىَ مَتى *** تَمتَدُّ فيكم هذه السَّكَراتُ ؟!
الأمرُ أمرُ الكفر أعلن حربَه *** فمتى تَهُزُّ الغافلين عِظَاتُ؟
كفرٌ وإسلامٌ وليلُ حضارةٍ *** غربيَّةٍ، تَشْقَى بها الظُّلُماتُ
أين الجيوشُ اليَعْرُبيَّة هل قَضَتْ *** نَحْباً فلا جندٌ ولا أَدَواتُ؟!
الأمر أكبرُ يا رجالُ وإِنَّما *** ذهبتْ بوعي الأُمَّةِ الصَّدَماتُ
لقد شاهدت وشاهد المسلمون في العالم ما تناقلته بعض وكالاتِ الأنباء من قيام إحدى الصحف الدنمركية ، لتصوير رسول الله صلى الله عليه وسلمفي أشكال مختلفة ، ففي أحد الرسوم يظهر مرتدياً عمامة تشبه قنبلة ملفوفة حول رأسه !!. وأخرى يظهر النبي محمد كإرهابي يلوح بسيفه ومعه سيدات يرتدين البرقع ، ولا تختلف الصور الثمان الأخرى كثيراً عن ذلك.
أمة الإسلام ..هكذا يفعل النصارى الحاقدون مع نبينا صلى الله عليه وسلم .وبعضنا ينادي بألا نقول للكافر ..يا كافر ..بل نقول له الآخر ..احتراماً لمشاعره ..ومراعاة لنفسيته !! فهل احترم هؤلاء نبينا ؟!! وهل قدروا مشاعر أمة المليار مسلم!! وهل راعوا نفسيات المسلمين !!
وهكذا يفعل النصارى الحاقدون مع رسولنا r.. وبعضنا ينادي ألا نبغضهم ..ولا نظهر العداوة لهم !! وربنا يقول لنا : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَق )) (الممتحنة:1).
وهكذا يفعل عباد الصليب بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم .وبعضنا يطالب بحذف الولاء والبراء من مناهجنا الدراسية..وننزعه من قلوبنا..لأننا في عصر الصفح والتسامح بين الأديان !!
فيا دعاة التسامح .. لماذا لمَّا طالبت الجالية الإسلاميةُ هناك تلك الصحيفة بالاعتذار ..والاعتذار فقط !! رفضوا الاعتذار..حتى رئيس الوزراء رفض محاسبة رئيس التحرير في تلك الصحفية بحجة حرية الصحافة !!
وهكذا يصنع عباد الصليب..جهارا نهارا..بنبينا r.. دون أن تكون هناك مقاطعات دولية، احتجاجاً على تلك التصرفات الرعناء !!
إن هذه الأفعال التي حصلت من الدنمارك ..وتؤيدها جارتها النرويج، وتسكت عنها الدولة الغربية.. برهان ساطع..ودليل قاطع..على أنها حرب صليبية بين الإسلام والنصرانية !! يقول الله تعالى: (( وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ )) (البقرة:217).
فهل يفهم أولئك الذين يخطبون وُدَّ الغرب هذه القضية أم لا يزالون في غيهم يعمهون !!
أمة الإسلام ..إنْ تخاذل رجالنا عن نصرة محمد صلى الله عليه وسلم .فلقد سطر التاريخ صورا رائعة ..ومواقف باهرة ..لنساءٍ نافحن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .فهذه أم عمارة رضي الله عنها في غزوة أحد الشهيرة..كانت تقاتل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .يميناً وشمالا..و تذود عنه سيوف الأعداء ..ونبال الألداء ..حتى أصيبت بعدة جراح ..فأين رجال الأمة ..الذين هم أولى بالدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .والقتال دونه ..والذب عن مكانته ..فيا لله ..نساء تقاتل عن رسول الله ..ورجال يتخاذلون عن نصرته ولو بخطاب يعبر عن غضبة عمرية ..نساء تُكْلم في سبيل نصرة رسول الله ..ورجال يُستجدون من أجل التوقف عن الاستيراد لبضائعهم ولكن دون جدوى !!
فعذراً يا رسول الله ..إنْ تخاذلنا عن الدفاع عنك .. فإن بعضنا مشغول بالأسهم المالية !!
عذراً يا رسول الله..فإن المال أحب إلى قلوب بعضنا منك !!
عذراً يا رسول الله..فإن الأجبان الدنمركية ..أحب إلى بعضنا من الذب عنك !!
عذراً يا رسول الله ..فإن مصالحنا الدنيوية مقدمة عند بعضنا عليك !!
عذراً يا رسول الله ..فإننا نغضب أشد الغضب إذا اغتصبت أموالنا ..ولا يغضب بعضنا لك وأنت يُساءُ إليك علناً بلا حياء ولا خوف ولا وجل .
أيها المسلمون: إنْ تخاذلنا عن نصرة نبينا صلى الله عليه وسلم .فإن الله ناصر نبيه..معلٍ ذكره..رافعٌ شأنه..معذب الذين يؤذنه في الدنيا والآخرة.. في الصحيح عن صلى الله عليه وسلم : قال : " يقول الله تعالى : (( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )) .
فكيف بمن عادى الأنبياء ؟ يقول الله جل الله : : (( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) (التوبة : 61) .(66/205)
وقال الله سبحانه: (( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً )) (الأحزاب : 57) .
ويقول الله جل جلاله: (( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ )) (الحجر : 94 و 95).
يقول ابن تيمية رحمه الله : " إنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه ، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمُكِّن الناس أن يقيموا عليه الحد ، ونظير هذا ما حَدَّثَنَا به أعدادٌ من المسلمين العُدُول ، أهل الفقه والخبرة، عمَّا جربوه مراتٍ متعددةٍ في حَصْارِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لمَّا حاصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نَحاصِرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة ، ويكون فيهم ملحمة عظيمة ، قالوا : حتى إن كنا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه ، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه " انتهى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
يا رجال الأعمال..ويا تجارنا الكرام ..أبو بكر نصر الإسلام في وقت الردة..والإمام أحمد نصر الإسلام في وقت المحنة..وأنتم جاء دوركم.. وحان وقتكم..في نصرة نبيكم صلى الله عليه وسلم .لابد أن تكون لكم مواقف حازمة ،ومآثر رائعة غيرة لنبيكم صلى الله عليه وسلم،
يا رجال الأعمال..أوقفوا كل التعاملات التجارية مع الدنمارك، حتى يتم الاعتذار علنياً ورسمياً من تلك الصحيفة، وتذكروا أن المال زائل ، لكن المآثر باقية مشكورة في الدنيا والآخرة، وأعظمها حب رسول ا صلى الله عليه وسلم والانتصار له ، ولكم أسوة في الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ، في موقفه الحازم من أبيه ، عندما آذى رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وكيف أنه أجبر أباه على الاعتذار من رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وإلا منعه من دخول المدينة ، في الحادثة التي سجلها القرآن الكريم : ( يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) (المنافقون : 8) .
وثبت أنَّ المنافق عبد الله بن أُبيِّ بن سلول تكلم على رسول ا صلى الله عليه وسلم بكلام قبيح ، حيث قال : " والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ..فعلم ولده عبد الله بذلك فقال لوالده: والله لا تفلت حتى تقر أنك أنت الذليل ورسول ا صلى الله عليه وسلم العزيز!!
الله أكبر ..هكذا يغضب الرجال لرسول الله !! وهكذا ينتصر الأبطال لنبي الله !!
لم يأذن لوالده بدخول المدينة حتى يقر بأنه هو الذليل ورسول الله هو العزيز وقد فعل ..
لم يجامل والده !!
لم يداهن من أجل قرابته !!!
لم يتنازل عن الدفاع عن رسول الله من أجل مصالحه، فهو والده ومن يصرف عليه !!
إنه الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب ..يصنع الأعاجيب .
فهل يستجيب رجال الأعمال ..لهذا الواجب في الغيرة لنبيهم صلى الله عليه وسلم ؟
وهل يكفُّون عن التعامل التجاري مع الدنمارك حتى يتم تقديم الاعتذار الرسمي ، واشتراط عدم تكرار هذه الجريمة .
وأنتم أيها المسلمون ..أتعجزون عن مقاطعة منتجاتهم ..غيرة لنبيكم صلى الله عليه وسلم؟! حتى يعلم أولئك الأوغاد أن لرسول ا صلى الله عليه وسلم أنصاراً؛ لا يرضون أن يدنس جنابه ..أو أن يمس بسوء عرضه..ودون ذلك حزُّ الرؤوس
فإن أبي ، ووالدتي ، وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
فيا أمة الإسلام .. من ينتصر لرسول الله ؟!! من ينتصر لرسول الله؟!! من ينتصر ل صلى الله عليه وسلم الذي ضحى بكل ما يملك من أجل أن يصلنا هذا الدين ؟!!فكم أوذي من أجلنا ؟ كم بُصق على وجهه الشريف من أجلنا ؟!! كم طرد من أرضه من أجلنا ؟!! أنعجز بعد هذا الجهد ..وذاك النصب ..أن نقاطع منتجات الدنمرك ؟!! أو نكتب إلى سفارتهم خطابا نعبر فيه عن غضبنا عما حصل من تلك الصحيفة !!
نعم أيها المسلمون ..آن لنا واللهِ أن نقفَ وقفةً جادةً ..ونفجرَ غضبَنا عليهم بالأفعالِ التي لا يمكنُ تجاهُلُها ..تعالوا لنطعنَهم في شريانِهم الرئيسي، وفي سِرِّ قوتهِم ..تعالوا نطعنُهم في اقتصادِهم ..دون أن نخسرَ شيئاً..ونكونُ بذلك قد حطمنا جزءاً من كبريائهم..ولا يقلْ قائلٌ كم سيكونُ حجمُ مقاطعتي ..فإن المطلوبَ منك أن تبرأَ ذمتَك أمام اللهِ تعالى ..يقولُ النبي صلى الله عليه وسلم )) جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم )) رواه أحمد وغيره .(66/206)
وشكرا لأولئك الشباب الذين تواصوا من خلال رسائل الجوال بمقاطعة بضائع الأعداء..ولأولئك الذين جمعوا المنتجات الدنمركية لمعرفتها ومقاطعتها..ولأولئك الذين وضعوا المواقع على شبكة الإنترنت للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم .فمزيداً من التواصي على الحق والبر والتقوى .
اللهم عليك بالنصارى الحاقدين ، واليهود المفسدين ..اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، ..اكفناهم بما تشاء يا سميع الدعاء .
محبكم في الله
محمد بن عبدالله الهبدان
المشرف العام على شبكة نور الإسلام
www.islamlight.net
================(66/207)
(66/208)
ألا هل بلغت: اللهم فاشهد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ولا عدوان إلا على الظالمين . أما بعد :
فنظراً لما تمر به الأمة الإسلامية من مرحلة حرجة في تاريخها ، إذ تكالب عليها الأعداء من كل جانب ، وتداعت عليها الأمم من كل حدب وصوب ، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، وحيث نفذت أمريكا تهديدها وبدأت الحرب على المسلمين ؛ ابتداءً من أفغانستان ولا يعرف إلى أين تنتهي ؛ فقد صرح الرئيس الأمريكي في خطاب الحرب أن المعركة لن تقتصر على أفغانستان بل ستتعداها إلى غيرها ؛ فكثرت الأسئلة ، وتوالت الاستفسارات حول ما يجب على المسلم في مثل هذه الظروف ، حيث اختلط الحق بالباطل ، وكثر اللبس ، واهتزت الثوابت لدى كثير من المسلمين ، وأصبح المسلم في حيرة من أمره ، وبخاصة بعد أن تولت كثير من وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة وزر هذا التخبط ،وتكلم في هذه المسائل أناس ليس لهم من العلم الشرعي نصيب ، فانطلقوا يرجفون في الأمة ، ويشككونها في دينها وعقيدتها ، ويظاهرون عليها أعداءها ، كما فعله أسلافهم من المنافقين من قبل" فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين " .
ونظراً لما أخذه الله على أهل العلم من وجوب البيان والنصح وحرمة الكتمان ؛ حيث قال تعالى : " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ".
وحرصاً على حماية الأمة والشباب ـ بصفة خاصة ـ من الانزلاق وراء هذه الفتن ، دون أن يدركوا أبعادها وآثارها ، وبياناً للحق وصدعاً به ؛ لذلك كله فإني ألخص الإجابة على ما وردني من أسئلة بما يلي ، فأقول :
أولاً :
يجب أن نعلم أن هذه الأحداث ابتلاء من الله وامتحان للأمة جماعات وأفراداً ؛ كما قال سبحانه : " ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون " ، وقال سبحانه : " الم ** أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " .
والابتلاء والامتحان شامل لابتلاء القلوب والأجسام ،وهو ابتلاء حسي ومعنوي ، فليكن المسلم متيقظاً حذراً ، وأن ينتبه إلى مواقفه وأقواله واعتقاده ونياته فيما يتعلق بهذه الأحداث العظيمة ؛ حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها فيخسر أولاه وأخره .
قال سبحانه : " ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين " .
ثانياً:
يجب أن ندرك أن المعركة في حقيقتها معركة بين الحق والباطل ، بين الإسلام والكفر ، بين الخير والشر ؛ كما أعلنها زعيم التحالف الغربي نفسه فصرح بأن الحرب حرب صليبية ، فلم يدع لنا أي مجال لأن نحملها على غير ذلك ، وأيده على هذه الحقيقة عدد من مساعديه ، بل وحلفائه ؛ كرئيس الوزراء الإيطالي ، ورئيسة وزراء بريطانيا سابقاً ( تاتشر ) ، وما صدر منهم بعد ذلك من تفسير لا يغير من الحقيقة شيئاً ؛ حيث إن برامجهم ومواقفهم تؤكد صحة ما أعلنوه ، وبخاصة بعد إعلان الحرب وتصريح الرئيس الأمريكي أن المعركة لن تقتصر على بلد معين ؛ بل ستتعداه إلى غيره ، مما يدل على ما يضمره القوم من شر وسوء طوية ومعركة مبيتة سلفاً " وما تخفي صدورهم أكبر " .
ثالثاً :
وجوب البراءة من المشركين واليهود والنصارى ، وإعلان مفارقتهم ، وحرمة الولاء لهم أو توليهم التزاماً بقوله تعالى : "يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم " .
وقوله سبحانه :" لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه " وقال سبحانه :" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء" .
وثبت في حديث جر ير بن عبد الله البجلي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يبايع ، فقلت : يا رسول الله ابسط يدك حتى أبايعك ، واشترطْ عليّ فأنت أعلم، قال :" أبايعك على أن تعبد الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتناصح المسلمين ، وتفارق المشركين " .
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسير آية الممتحنة :" ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة كما نهى عنها في أولها ، فكيف توالونهم وتتخذون منهم أصدقاء وأخلاء " .
وقال الشيخ حمد بن عتيق ـ رحمه الله ـ :" فأما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب ذلك ، وأكد إيجابه ، وحرم موالاتهم وشدد فيها ، حتى إنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم ؛ بعد وجوب التوحيد ، وتحريم ضده " .
والأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف في هذا الباب أشهر من أن تحصر أو تذكر ، فليحذر المسلم أشد الحذر من موالاة أعداء الله ، أو أن يقع في قلبه محبة لهم فيضل عن سواء السبيل وينتفي عنه الإيمان" لا تجد قوما ًيؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " .(66/209)
رابعاً :
حرمة مظاهرة المشركين واليهود والنصارى ، وإعانتهم على المسلمين ، وأن من فعل ذلك عالماً بالحكم طائعاً مختاراً غير متأول فقد برأت منه ذمة الله ، حيث إن المظاهرة والمناصرة أعظم أنواع التولي والموالاة ، قال الإمام الطبري ـ رحمه الله ـ في قوله تعالى " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين "
( معنى ذلك : لا تتخذوا ـ أيها المؤمنون ـ الكفار ظهوراً وأنصاراً ، توالونهم على دينهم ، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين ، وتدلونهم على عوراتهم ، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شي ء ، يعني فقد برئ من الله ، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ) أ . هـ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : " وإذا كان السلف قد سموا مانعي الزكاة مرتدين ؛ مع كونهم يصلون ويصومون ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين ، فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلاً للمسلمين " .
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ " إن الأدلة على كفر المسلم إذا أشرك بالله ، أو صار مع المشركين على المسلمين ، ـ ولو لم يشرك ـ أكثر من أن تحصر من كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم المعتمدين " .
وقال في نواقض الإسلام العشرة : " الناقض الثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين ، والدليل قوله تعالى :" ومن يتولهم منكم فإنه منهم " .
وقال أحد علماء نجد كما في الدرر 9 / 291 :" فمن أعان المشركين على المسلمين ، وأمد المشركين من ماله بما يستعينون به على حرب المسلمين اختياراً منه فقد كفر " .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ : " أما الكفار الحربيون فلا تجوز مساعدتهم بشي ء ، بل مساعدتهم على المسلمين من نواقض الإسلام لقوله عز وجل :" ومن يتولهم منكم فإنه منهم " .
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حدود الموالاة المكفرة فأجابت :" موالاة الكفار التي يكفر بها من والاهم هي محبتهم ونصرتهم على المسلمين ؛ لا مجرد التعامل معهم بالعدل " .
وقال الشيخ صالح الفوزان ـ وفقه الله ـ :" ومن مظاهر موالاة الكفار : إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين ، ومدحهم والذب عنهم ،وهذا من نواقض الإسلام وأسباب الردة والعياذ بالله من ذلك " .
وقال الشيخ عبد الرحمن البراك ـ حفطه الله ـ : " فإنه مما لا شك فيه أن إعلان أمريكا الحرب على حكومة طالبان في أفغانستان ظلم وعدوان وحرب صليبية على الإسلام كما ذكر ذلك عن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ، وأنّ تخلي الدول في العالم عن نصرتهم في هذا الموقف الحرج مصيبة عظيمة ، فكيف بمناصرة الكفار عليهم ، فإن ذلك من تولي الكافرين ؛ قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )) وعد العلماء مظاهرة الكفار على المسلمين من نواقض الإسلام لهذه الآية ، فالواجب على المسلمين نصرة إخوانهم المظلومين على الكافرين الظالمين
خامساً :
وجوب الوقوف مع المسلمين المستهدفين بهذه الحرب الصليبية ، في أي بقعة من الأرض كل حسب استطاعته ، وعدم جواز التخلي عن أي مسلم يستهدف ظلماً وعدواناً ، والحرب على أفغانستان وحكومة طالبان ظلم وعدوان صريح، حيث لم تستطع أمريكا أن تقدم دليلاً مقنعاً على دور المسلمين في ما حدث في أمريكا ، وقد صرح بهذه الحقيقة أمير قطر بعد بدء الحرب وكذلك صرح قبله عدد من المسئولين العرب على أن أمريكا ليس لديها دليل ثابت على اتهاماتها ، بل قال أحد كبار المحامين البريطانيين : إن أدلة أمريكا على من اتهمتهم بالأحداث لا يمكن أن يقبل بها أي قاض أمريكي فضلاً عن غيره . ولذلك لا بد من نصرة إخواننا هناك وفي كل مكان .
قال سبحانه : "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " .
وقا صلى الله عليه وسلم :" انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " .
وقا صلى الله عليه وسلم :" المسلم أخو المسلم : لايظلمه ولا يخذله " كما في حديث أبي هريرة ، وفي حديث ابن عمر :" لا يظلمه ولا يسلمه " .
كما أن الوقوف مع هؤلاء المسلمين من أعظم ما يدفع الله به البلاء عن الأمة ، والمسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ، كما بين المصطفى صلى الله عليه وسلم ، والتخلي عنهم من أعظم أسباب غضب الله وحلول عقابه ، ومن خذل مسلما في مقام يستطيع فيه نصرته خذله الله .
سادساً:
الحذر من نقل المعركة إلى داخل بلاد المسلمين ، وإحداث الفوضى والاضطراب فيها ، فإن ذلك يسر الأعداء ، ويمكّنهم من تنفيذ مخططاتهم بضرب الأمة وتفريق صفوفها ، وإغراقها في مشكلات لا حصر لها ، وباب التأويل في هذا الأمر واسع ، فيجب إغلاقه وسدّ منافذ الشر ؛ لما يترتب على ذلك من مفاسد لا تحصى ، والضابط في ذلك هو مراعاة قاعدة تحقيق المصالح ودرء المفاسد ، فهي قاعدة عظيمة لا يجوز إغفالها ، وبخاصة في هذه الفتن التي تعصف بالأمة .(66/210)
كما أنصح الشباب بالبعد عن الحماس غير المنضبط ، والاستعجال غير المدروس لما له من آثار في العاجل والآجل ، وأن تكون تصرفات المسلم محكومة بأدلة الكتاب والسنة وقواعد الشريعة، قال سبحانه :" فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً " .
وقا صلى الله عليه وسلم : " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً : كتاب الله وسنتي " .
سابعاً :
يحب أن نحسن الظن بالله ، وأن نعلم أنه مالك الملك ، لا يعجزه شيء ، وأنه لن يقع شيء إلا بقضائه وقدره ، وهو لا يقضي إلا الخير ، فلا بد من التفاؤل ؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تفاؤلاً عند الأزمات الكبرى كما في الأحزاب وغيرها مع الأخذ بالأسباب المشروعة ، والبعد عن الإرجاف والخوف وتضخيم دور الأعداء ، " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ** فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ** إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ** ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً يريد الله ألاّ يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم " ، "وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " ، وأن نتذكر قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها ، وقوله :" لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم " .
وقوله :" فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً " ، وقوله :" لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم " .
وقوله :" ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ** ألم يجعل كيدهم في تضليل ** وأرسل عليهم طيراً أبابيل ** ترميهم بحجارة من سجيل ** فجعلهم كعصف مأكول " .
ولا بد من تقوية الإيمان ، وألا نخشى إلا الله ، وأن نتوكل عليه ، ونفوض أمرنا إليه ، " ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً " .
ثامناً :
أن نعلم أن ما أصابنا بسبب ذنوبنا ومعاصينا ، قال سبحانه :" وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير "، وقد نقل عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ :" ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة ".
فلا بد من التوبة والإنابة والرجوع إلى الله ، والتضرع إليه ، والخروج من المظالم ، والربا ، مع وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحكيم شريعة الله في كل صغيرة وكبيرة ؛ في أنفسنا وبيوتنا وما ولينا ؛ لعل الله أن يكشف ما بنا من سوء ، "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون " .
ولا بد من الاستغفار القلبي والعملي "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " .
وينبغي التسلح بسلاح الدعاء ، فإن الله يجيب دعوة الداع إذا دعاه وبخاصة المضطر " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون " .
" أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء " .
" ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين " .
نسأل الله أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء وأن يرفع البلاء عن المستضعفين ، وأن يرد كيد الأعداء في نحورهم ، إنه سميع مجيب .
"اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزم اليهود والنصارى ومن حالفهم، وانصر المسلمين عليهم " .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
وكتب
ناصر بن سليمان العمر
الرياض ـ الأربعاء 23/ 7/ 1422 هـ
=============(66/211)
(66/212)
عندما يكون الرئيس الأمريكي ( متدينا ) !!!
قال ( جورج ووكر بوش ) ذات يوم :
( سوف أعلنها حربا صليبية ) (c r usades ) !!
ثم تراجع !
فعاد وقال : ( سنسمي حملتنا على أفغانستان " العدالة المطلقة " ) ( the catego r ical justices ) !!
ثم تراجع لاعتراض كثيرين على هذا المسمى على اعتبار أن ( العدالة المطلقة ) لله وحده ـ سبحانه وتعالى ـ !
ثم عاد ليقول : ( سيكون اسم حملتنا على الإرهاب " حملة النسر النبيل " ) ( the chival r ous eagle ) !!
أتعرفون ما معنى " حملة النسر النبيل " ؟!!
ابحثوا في كتب التاريخ ، وتحديدا تاريخ الحملات الصليبية على العالم الإسلامي . ستجدون أن إحدى الحملات الصليبية التي جاءت من أوربا لتغزو العالم العربي في ذلك الوقت كان اسمها " حملة النسر النبيل " !!!!
ثم تراجع عن هذا الاسم بعد أن اكتشف أمره !!!
يقول الدكتور . ( محمد عباس ) في كتابه الشهير ( بل هي حرب على الإسلام ) :
( . . الأكاذيب الكبرى .. يتبعها ناس كثيرون .. عبارة شهيرة لهتلر تنطبق بامتياز علي ما يشهده العالم عما يقال عن إقامة تحالف دولي ضد ما يسمي " الإرهاب الإسلامي " مما يدل علي وقوع العقل الغربي في أسر عقلية عنصرية تلفيقية متطرفة ، تتحدث عن تفوقها الحضاري وعن قيادة " حرب صليبية " طويلة المدى تعتمد علي إجراءات علنية وأخري سرية .. ضد الإرهاب تحت عنوان " النسر النبيل " وتنتهي " بانتصار الخير علي الشر " لتحقيق " العدالة الأبدية المطلقة " . ـ انتهى كلامه ـ .
وفي أحد تصريحاته التي ألقاها أثناء حربه على أفغانستان . أطلق عبارة غريبة وخطيرة في نفس الوقت !
قال : " سوف ندخنهم " ـ يقصد المجاهدين ـ !!! .
أتعلمون ماذا يعني بوش بعبارة " سوف ندخنهم " ؟!! .
إليكم الجواب :
يقول الدكتور . عباس :
( . . يا إلهي .. لكم قاموا بلي عنق الحقيقة ـ بل بكسره ـ لكي يدافعوا عن أمريكا .. دافعوا حتى عما لا يجوز الدفاع عنه .. كمثل تصريح الدجال بوش بأنها حرب صليبية ..
كلمة أخرى مجرمة تجاهلوها بمنتهى الخسة .. وهي كلمة بوش عما سيفعله بالأفغان :
"سوف ندخنهم " : " we will smoke them" !! .
ولم يشرح لنا كاتب ولا صحيفة معنى الكلمة ، ولم يزد ما قالته قناة الجزيرة من أنه ربما يقصد استعمال الغازات السامة .. ولست أظن أنهم - كتابنا وصحفنا - جهلة إلى هذا الحد .. بل إنها الخسة والعداء للإسلام .. لقد تجنبوا محاولة تفسير الجملة لأنها تحمل الوجه الوحشي المجرم للحضارة الغربية وكيف تعاملت مع المسلمين .. فكلمة التدخين هذه كلمة واسعة الاستعمال في صيد الحيوانات خاصة الثعالب .. ولكن الفرنسيين استعملوها في الجزائر مع المسلمين .. مع مدنيين وبشر .. كالمدنيين والبشر ضحايا مركز التجارة العالمي .. كان الفرنسيون يطاردون الجزائريين العزل بالرصاص في شعاب الجبال وهم يفرون أمامهم ويلجئون إلى الكهوف .. فيقوم الرجل الأبيض المسيحي المتحضر بإشعال النار في فوهات الكهوف فيموت اللاجئون إليها بالدخان .. وهذا معنى تعبير بوش : " سوف ندخنهم " !! .
إنني لا ألقي الكلام على عواهنه يا قراء .. ولا أقوله استنتاجا .. بل إنه هو ما كتبوه هم عن أنفسهم .. ولتقرءوا معي شهادة الكونت " دي هاريسون " في كتابه صيد البشر يصف عمل إحدى الكتائب التي شارك فيها :
" صحيح أننا كنا نعود بملء برميل صغير من الآذان المقطوعة ، مثنى مثنى من أجساد الأسرى ، أصدقاء كانوا أم أعداء ، وكانت هناك ضروب من القسوة لم يسمع بها أحد من قبل ، إعدامات أمر بها من أمر ببرودة ، ونفذها الجلادون ببرودة بعيارات نارية أو بضربات سيف تنال من أولئك المساكين ، الذين كان أعظم ذنب اقترفوه أحيانا أنهم أرشدونا إلى مستودعات فارغة ، وقد أحرقنا القرى التي مررنا بها " ..
وفى 19 يونيو سنة 1845 التجأت قبيلة ( ولد رياح ) بعد أن طردتها كتائب ( بوجو ) المحرقة من قراها إلى مغارة ، فعمد الكولونيل ( بيليسيه ) إلى إشعال النار في فوهة المغارة طوال النهار والليل ، و إليكم رواية شاهد عيان :
" من ذا الذي يستطيع وصف هذه اللوحة ؟؟ أن ترى في منتصف الليل وفى ضوء القمر كتيبة من الجيوش الفرنسية تضرم نار جهنم كلما خبت ، وأن تسمع الأنين الخافت لرجال ونساء وأطفال وحيوانات ، وتمزق الصخور المتكلسة التي تتشقق وتنهار ، وفى الصباح ، عندما عمدوا إلى تنظيف مدخل المغائر كانت ثمة جثث الأبقار والحمير والخراف وبين البهائم كان يتكدس تحتها رجال ونساء وأطفال وقد شاهدت جثة رجل يضع ركبته في الأرض ويده تمسك متشنجة بقرن بقرة أمامه ، كانت امرأة تحتضن طفلها بين ذراعيها ، لقد اختنق هذا الرجل عندما كان يحاول حماية أسرته من غضب هذا الحيوان ، وقد عدوا 760 جثة !! .
" .. أرسل الحاكم العام ( بوجو ) إلى الكولونيل ( بيليسيه ) الأمر الآتي : إذا انسحب هؤلاء الجراء إلى مغاراتهم فعليك أن تقلد ( كافينباك ) دخّنهم إلى الحد الأقصى مثل الثعالب ".. و ( كافينباك ) هذا هو الذي سيصبح الحاكم العام للجزائر بعد ذلك .. وكانت هذا هو معنى تعبير بوش الدجال : سوف ندخنهم . . ) !!! . المصدر السابق(66/213)
يزعم بوش أن اسم حربه على العراق هو ( حرية العراق ) !
ولكنه قال في تصريحات أخرى أن مسمى الحرب على العراق هو : ( عودة المسيح ) !!
يقول الدكتور . محمد عباس :
( . . هناك رأي مختلف وغريب تماماً يذهب إلى أن ما حدث أكبر من ذلك بكثير فهو أقرب إلى الانقلاب العسكري في السلطة الأمريكية بعد وجود خلافات شديدة بين أجنحة السلطة الأمريكية إثر خلافات عديدة بين التيار الأصولي المسيحي الذي يؤمن بـ ( عودة المسيح ) في نهاية العالم بعد المعركة الفاصلة بين الخير والشر والقضاء علي الأشرار ( العرب والمسلمين ) في موقعة " هرمجيدون " في القدس خاصة أن عملية السلام وصلت إلى نهايتها ، واصبح الاستعداد للقضاء علي الفلسطينيين مسألة وقت فقط . . ) ـ المصدر السابق ـ .
مما لا شك فيه أن بوش لا يهذي ! . .
ولا شك أنه من السذاجة القول بعد هذا بأن كل هذه المسميات التي يطلقها ( بوش ) على حملاته العسكرية هي ( زلات لسان ) أو أنها مجرد صدف عابرة !! .
هذا الرجل يتصرف من منطلق ديني بحت !! . .
وليس هو فحسب بل إن رفيق دربه وحليفه الذي لا يفارقه في الحروب ( توني بلير ) هذا الآخر متخرج من نفس المدرسة ( الدينية الراديكالية ) التي تخرج منها ( أستاذه بوش ) ـ على حد وصف بلير نفسه ـ !!
في هذا التقرير ( الوثائقي ) الذي كتبه الأستاذ . ( مصطفى بكري ) سنتعرف ـ بإذن الله ـ على الأسباب والدوافع الحقيقية وراء شن حرب غير مبرره على العراق !! .
بوش يخوض حربا دينية تحت شعار " عودة المسيح " !!
هذه حرب صليبية مجنونة ، يقودها رجال يؤمنون بأن " إسرائيل " مشروع إلهي لابد أن يسيطر ويتحكم ، وأن علوٌها محطة تاريخية لازمة لعودة المسيح ، وأن هذه الحرب لابد أن تجتاح العالم الإسلامي بأسره . بالأمس كانت أفغانستان ، واليوم العراق ، وقبل ذلك فلسطين ، فلسطين التي تذبح صباح مساء ، فلسطين التي يتآمر ضدها الجميع .
إن خطة العدوان على العراق هي خطة إسرائيلية وضعها الصهيوني الأمريكي ( ريتشارد بيرل ) الذي يترأس مجلس السياسات الدفاعية بالبنتاجون ويعمل مستشارا لوزير الدفاع ( دونالد رامسفيلد ) . لقد أعد هذه الخطة بمشاركة عناصر هامة من اللوبي اليهودي الصهيوني وجرى إقناع الرئيس بوش بتبنيها ، باعتبارها بداية تحقيق الحلم الإلهي الكبير بقيام دولة إسرائيل الكبرى التي ستمهد لعودة المسيح ونشر المسيحية في أنحاء العالم الإسلامي بعد القضاء على الإسلام .
اقرءوا ما نشرته مجلة ( النيوز ويك ) في عدد 10 مارس الماضي عندما قالت : " إن أنصار بوش من الإنجيليين يأملون أن تكون الحرب القادمة على العراق فاتحة لنشر المسيحية في بغداد " .. !!
نعم إن أمريكا تتحرك الآن وفي يدها الصليب الذي تحمٌله دعاوى وتفسيرات زائفة ، وهل هناك أخطر من شهادة القس الأمريكي " فريتس ريتسش " الذي كتب مقالا في الـ ( واشنطن بوست ) عن " الرب والإنسان في المكتب البيضاوي " !! .
لقد قال " فريتس " : " لم يحدث في التاريخ أن كانت أمريكا مسيحية سياسيا وبشكل علني مثل ما هي اليوم ، وأن تقديم بوش تبريرات دينية لحربه على العراق لهو أمر مقلق بل ومرعب لكثيرين " !! .
وأهم ما يقلق القس " فريتس " في ذلك هو أن هذه الظاهرة تقلب العلاقة التقليدية بين الكنيسة والدولة في التاريخ الأمريكي رأسا على عقب ، وتجعل رجل الدين في خدمة رجل الدولة ، بكل ما يعنيه ذلك من استغلال المسيحية في تبرير الغزو والاستعمار وإشعال الحروب مع ديانات أخرى وخصوصا الإسلام . هذا كلام خطير يعكس الحقيقة ويكشف أن مجموعة الهوس الديني داخل البيت الأبيض قررت أن تشن حربا دينية مرتبطة بمخطط استراتيجي هدفه القضاء على الأمة وعقيدتها والسيطرة على كل مناحي الحياة على أرضها .
ومجموعة الهوس الديني التي تسمي نفسها ( اليمين المسيحي الصهيوني ) وجدت على حد تعبير القس فريتس قائدا على منوال شخصية داود الإنجيلية يوحد مطامحهم السياسية مع رؤاهم الدينية ، وهذا القائد هو بوش الذي يؤمن بالفعل بأنه ( مبعوث العناية الإلهية ) !! .
وهذه الحرب تستهدف المسلمين وأيضا المسيحيين في الشرق على السواء ، كلنا مستهدفون وتعالوا نقرأ التفاصيل المرعبة .. كان للكنيسة فضل كبير في علاج بوش " الابن " من إدمان ( الخمور والكوكايين ) !! ، وبعد ذلك أصبح إنسانا مختلفا عن ذي قبل ، يذهب إلي الكنيسة يوميا ويتتلمذ على أيدي كبار القساوسة المتشددين خاصة القس المتطرف ( بيلي جراهام ) الذي يؤمن بالمسيحية الصهيونية .
تأثر بوش كثيرا بأفكار القس جراهام وأصبح واحدا من مريديه المقربين ،، وكان يبدو مقتنعا بما يردده جراهام من أن المسلمين هم الذين يشكلون الخطر الأكبر على عودة المسيح إلي الأرض ، وأن هؤلاء المسلمين لا يتبعون ملة دينية وإنما يتبعون رجلا اسمه محمد صلى الله عليه وسلم .. الخ وكان يقول له دائما إن المسيحية تعرضت للكثير من التغيير والتبديل على يد المسيحيين الذين أرادوا تحويلها لمنافع شخصية لهم .(66/214)
وقد آمن بوش بهذه الأفكار وراح يرددها أمام زوجته والمقربين منه وكان يقول لها : " المسلمون ليسوا أصحاب ديانة والمسيحيون أصحاب ديانة تعرضت للتغيير والرب غاضب على هذا العالم الذي غير دينه " . كانت رؤية بوش للإسلام انه ( دجل ديني ) ! ، وأن المتخلفين والمتعصبين هم الذين يحركون الناس نحو هذا الإسلام وقد دفعت هذه القناعة بوش إلي الاقتناع الكامل بمقولات القس ( جراهام ) وابنه ( فرانكلين ) .. الذي اصبح فيما بعد من أعز أصدقاء بوش ، وكذلك رفيقه في كل خطواته الدينية والسياسية . وقد استطاع القس جراهام إقناع بوش بالانضمام إلى طائفة " الميسوديت " المعبرة عن التحالف ( الصهيوني المسيحي ) .
وقد سار بوش مع هذه الطائفة حتى صار أحد أعمدتها الأساسية ، بل إن نجاح بوش في حياته السياسية بعد ذلك توقف على هذه الطائفة التي تشكل خليطا من الصهيونية والمسيحية . وتشير المعلومات إلى أن بوش تدرج في المراتب الدينية لهذه الطائفة حتى وصل إلي مرتبة عالية يطلق عليها " المعلم " ، من يحصل على هذه المرتبة لابد وأن يكون قد درس باستفاضة متناهية مبادئ " الميسوديت " وبدأ يطبقها ويدعو إليها عمليا . وقد نجح بوش في اجتذاب مئات الشباب للانضمام إلى " الميسوديت " ، وكذلك برع في قدرته على إقناع الآخرين بهذه الأفكار .
وقد تسببت هذه التطورات الفكرية التي طرأت على ( بوش الابن ) في قلق ( بوش الأب ) على المستقبل السياسي لنجله خاصة بعد تلك النزعة الدينية الغالبة التي قلبت حياته رأسا على عقب . في البداية كان بوش الابن رافضا للطريق السياسي بحجة أن الرب يريده للعبادة والتدين ونشر المذهب الديني الصحيح في العالم كله ، وأن السياسة ستأخذه من هذا الطريق ، ولكن بعد حوارات عدة اقتنع بأهمية السياسة لنشر الدين . في البداية كان بوش يريد أن يكون داعية " للميسوديت " في البلدان ( الإسلامية والعربية ) !! إلا أن ( جراهام ) و ( فرانكلين ) أقنعاه بأن المهمة الأولى هي تطهير المسيحية والرجوع إلي أصولها الأولى ، بينما كان بوش يخالفهم ويرى أهمية القضاء على المسلمين أولا قبل التفكير في إصلاح أحوال المسيحيين . وأيا كانت الخلافات في هذا الشأن ، إلا أن بوش كان ينفي دائما في جلساته مسألة الوجود الديني للإسلام وكان يقر بأن المسيحية الحقة ستنتصر في النهاية .
وكان بوش دائم التردد على إسرائيل لأن " الميسوديت " تعتبر أن ارض إسرائيل هي البقعة المباركة في هذا العالم !! ، وأن المسيحية الحقة جاءت لتقيم التحالف الروحي لإنقاذ العالم من خلال الاعتماد على التوراة التي تمثل قيمة دينية عليا وأن العالم لابد وأن يبعث على أساس من التوراة والإنجيل الحق ، ولهذا فإن بوش عندما يقرأ كل يوم في كتابه المقدس فهو لا يقرأ الإنجيل المتداول بين المسيحيين ، وإنما يقرأ الكتاب المقدس " للميسوديت " الذي يجمع بين التوراة والإنجيل في مزيج مشترك ، حتى إن صلواته التي يؤديها كل يوم وبانتظام تعبر عن فكر " الميسوديت " والتحالف ( الصهيوني _ المسيحي ) ، ولا تعبر عن المسيحية المعروفة في الشرق أو الفاتيكان !! .
والمتتبع لنشاط طائفة " الميسوديت " يرى أن أعدادها في تزايد مستمر بين الطوائف المسيحية وأن هذه الزيادة تعود أساسا إلي نشاط الجماعات الصهيونية اليهودية المنتشرة في الولايات المتحدة والدول الأوربية ، حيث أن هؤلاء هم بالأساس أصحاب هذه الفكرة في إقامة التحالف المسيحي الصهيوني ضد الإسلام !! .
وتردد المعلومات أن ( توني بلير ) رئيس الوزراء البريطاني انضم إلي طائفة " الميسوديت " منذ ثلاثة أعوام وأنه أصبح منتظما في قراءة الكتاب المقدس " للميسوديت " وأداء كل طقوس العبادة التي تقرها هذه الطائفة !! .
وقد كان لانضمام بلير إلي الطائفة الفضل في وجود لغة مشتركة بينه وبين بوش ، حيث يعتبر بلير أن بوش أستاذه في الطائفة !! .
الميسوديت وضرب العراق :
قد يتساءل البعض وما هي العلاقة بين " الميسوديت " وضرب العراق ؟!
والإجابة تقول : إن جميع أبناء هذه الطائفة يؤمنون بفكرة هدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل على أنقاضه ! ، ويعتبرون أن ذلك هو الذي سيمهد لعودة المسيح الذي سيظهر بعد إنشاء هذا الهيكل المقدس على حد قولهم . يرى أصحاب المذهب أن الإسرائيليين الذين يعيشون فيما يسمونه بالأراضي الإسرائيلية المباركة هم الجنود المخلصون الذين سيتحملون أن يكونوا في طليعة الصفوف التي تقاتل إلى جانب المسيح حتى يتم القضاء على كل المسلمين أولا ثم القضاء على المسيحيين غير المخلصين ثانيا .(66/215)
ويرى أتباع هذا المذهب أن الوقت قد حان لظهور المسيح منذ عام ( 2000 ) وبنهاية القرن الماضي ، وأن المسيح لن يستطيع أن يخرج إلي النور طالما ظل المسجد الأقصى قائما ، فالهيكل المقدس لابد أن يتم بناؤه علي أنقاض هذا المسجد ، وقد تبرع الكثيرون وفي المقدمة منهم بوش وبلير من أجل صنع ( أعمدة ) هذا الهيكل وتزيينه ، وكذلك الانتهاء من رسوماته وتصميمه ، وقد وافق ( شارون ) على أن يكون التصميم الأمريكي الذي وافق عليه بوش لإقامة الهيكل هو المعتمد لدى حكومته . ويرى بوش الذي يبدو على يمين المتشددين من أبناء التيار المسيحي الصهيوني أن ظهور المسيح لن يتم فقط بهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل بل لابد من تهيئة الشرق الأوسط بأسره لاستقباله في عودته الجديدة من خلال نشر المسيحية وإقامة دعائمها في أكثر من دولة في هذه المنطقة !! .
ويرى بوش وفقا لمعتقداته أن الخطر الأكبر على ظهور المسيح سيكون من خلال ( العراقيين ) حيث إنهم الأكثر تأهيلا لقتال إسرائيل ، وأن أي ضعف ديني أو سياسي لإسرائيل سيؤدي إلي تأخير ظهور المسيح ، وأن كل يوم يمضي دون ظهور المسيح ستلعن فيه طائفة " الميسوديت " وأن هذه اللعنة ستجعلهم يعذبون يوم القيامة . ويرى تيار بوش أن الدول العربية هي التي تشكل الخطر الأكبر علي إسرائيل وأنها هي التي عمل على إضعافها سياسيا وعسكريا ودينيا .
ويقول أنصار التيار إن العراق احتلت جزءا كبيرا في كتب " الميسوديت " ، وأن المسيح مثل الذهب النقي الخالص ، وأن هذا ( الذهب ) يجب أن يحيط به عند ظهوره لهذا العالم وبكميات ضخمة ، وأن تكون له مناطق ، وممرات يسير فيها ذهبا نقيا خالصا وأن هذا الذهب لابد أن يأتي من إحدى الدول القريبة من أورشليم !! .
وتعتقد هذه الطائفة أن الذهب وضع في هذه الدولة لأنه يجب أن يكون هناك اقتتال عنيف علي هذا الذهب ، وأن هذا الذهب لن يتم الحصول عليه إلا بصعوبة بالغة وبعد فترات طويلة من الاقتتال العنيف مع أصحاب هذا الذهب.
وترى كتبهم أيضا أن هذا الذهب الذي هو ذو مواصفات معينة لن يوجد في أي دولة مسيحية ولكن سيوجد في دولة يدين أهلها بالإسلام !! ، وأن خصائص هذه الدولة تنطبق علي العراق !!!! ، وأن جبل الذهب مازال موجودا داخل العراق حتى وإن لم يتم اكتشافه بعد !!! .
إن هذا الكلام ليس مجرد خيال ولكنه ادعاءات يؤمن بها بوش وغيره من طائفة " الميسوديت " ولذلك فإن بوش ، وفق المعلومات ، دائما ما كان يوجه قادة البنتاجون بأن تهتم ( الأقمار الصناعية الأمريكية ) بتصوير الجبال العراقية وتكبير هذه الصور !! .
ووفقا للمعلومات فإن أكثر ما تم تصويره في داخل العراق في الأشهر الأخيرة هو الجبال العراقية ، بل إن بعض الطائرات الأمريكية بدون طيار ترصد هذه الجبال ، ويتم تحليل هذه الصور بواسطة علماء متخصصين في الجيولوجيا والطبيعة بل وإن هؤلاء العلماء سيتم نقلهم للإقامة الدائمة في العراق إذا ما تمكنت أمريكا من الانتصار علي العراق . وستكون مهمة هؤلاء البحث عن جبل الذهب العراقي والذي في حال اكتشافهم له سيتم نثره في داخل الهيكل الذي سيمهد بقوة لظهور المسيح !! .
وتقول كتب التيار التجديدي " للميسوديت " : " إن العراقيين إذا نجحوا أولا في السيطرة علي الذهب وما يرتبط به من جبل الذهب فإنهم قد يسيطرون علي كل المنطقة وأنهم سيدفعون في اتجاه الحرب مع إسرائيل وأن العراقيين سينتصرون علي إسرائيل في هذه الحرب بل وسيزيلون هذه الدولة من الوجود وانهم سيطورون المسجد الأقصى بدلا من هدمه ، وعندما يصل بهم الأمر إلي هذا الحد فإن ذلك يعني عدم ظهور المسيح وتأخيره إلي مئات الأعوام الأخرى حتى يتحقق الانتصار من جديد للعالم المسيحي اليهودي المشترك " !!! .
ويرى بوش أن العالم الآن مهيأ للانقضاض علي العراق قبل أن تستفحل قوته من جديد ، ولذلك فإن أحد الأغراض المهمة لهذا التيار التجديدي التي يعتقدون أنها لا تزال مخبأة في داخل الأراضي العراقية . من هنا فإن السيطرة الأمريكية علي العراق كما تقول كتب التيار التجديدي كما يزعم منع سيطرة العراقيين على جبال الذهب تتناول خططا مستقبلية للسيطرة على العالم ، وأن يكونوا هم رفقاء المسيح في حياته الجديدة وأن السيطرة الأمريكية لابد أن تكون دائمة لضمان السيطرة النهائية على تطورات الأوضاع في هذه المنطقة !! .(66/216)
وتعود أفكار هذا التيار إلى " أوزالد شامبرز " وهو قسيس مسيحي عاش في أوائل القرن الماضي ، وهو أول من دعى إلي إقامة تحالف بين المسيحيين واليهود ضد المسلمين ، وأنه يؤيد الحق اليهودي في القدس وأن القدس لا ينبغي أن تكون في يوم من الأيام تحت سيطرة المسلمين . وقد كتب " شامبرز " كتابا في أوائل القرن الماضي يعد هو بحق الملهم الروحي لبوش ، وبوش كان قد أعلن قبل ذلك لوسائل الإعلام الأمريكية انه لابد له من قراءة كتاب " شامبرز " عن العالم ونهايته يوميا . ويمثل " شامبرز " المعلم الأهم في تشكيل أفكار بوش عن الشرق الأوسط والمسلمين ، حيث يرى ضرورة أن ينتبه البشر إلي أن حقيقة الخلود تبدأ وتنتهي في هذه المنطقة المحيطة بالقدس . ويرى أن القدس هي أفضل بقعة في العالم وأن حساب الآخرة لابد وأن يبدأ من خلالها وحذر من أن نهاية العالم ستكون في الـ ( 50 ) عاما الأولى من القرن الحالي وأنه في خلال الخمسين عاما الأولى سيقوى المسلمون وينتشرون انتشار السرطان في الأجساد وسيعملون كما يقول على محاصرة المسيح في القدس والقضاء عليه وعلى كل المسيحيين في العالم .
ونبه " شامبرز " إلى أهمية أن يحكم المسيحيون أمرهم بالتعاون مع اليهود في خلال الأعوام العشرة الأولى من هذا القرن وأن يحققوا انتصارا كبيرا على المسلمين . وكان " شامبرز " هو أول من نبه في كتبه إلي خطورة البابليين " أي العراقيين " واعتبر أن البابليين سيكونون مرشحين لقيادة هذا العالم وانتزاع السيطرة من قوى عظمى مسيحية ، ولذلك فهناك اعتقاد لدى البعض منهم بأن أمريكا إذا ( لم تنتصر ) على العراق وتبيدها في هذه الحرب ، فإن العراق سيصبح في غضون سنوات قليلة قوة عظمى يحسب لها ألف حساب مما سينقل مركز الثقل الدولي إلى منطقة الشرق الأوسط ، وان التاريخ سيعيد كرته من جديد ويكتب للمسلمين السيطرة على العالم !! .
هذه هي الأفكار التي يؤمن بها بوش ، وكان بوش بعد فوزه في انتخابات الرئاسة الأمريكية قد ذهب إلى قيادات " الميسوديت " حيث قاموا بأداء الصلوات بعد أن أصبحوا الآن يحكمون العالم من خلال حكم بوش للولايات المتحدة . ولم يخف بوش هذه النزعة وطلب من ( فرانكلين ) نجل أستاذه ( جراهام ) أن يصلي به في حفل تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة .
وهكذا راح بوش بعد فترة قليلة من رئاسته للولايات المتحدة يعد الخطة للسيطرة واحتلال العراق ويرفض أي حل سلمي عكس سابقه ( بيل كلينتون ) .. كان ذلك طبيعيا لأن الحرب أهدافها دينية واستراتيجية وقد بدأت اليوم بالعراق وغدا سوريا وإيران وليبيا والسودان ثم في مرحلة لاحقة السعودية ومصر .
بقي القول أخيرا تذكروا ، إحفروا في ذاكرتكم : " إذا سقطت بغداد فهدم الأقصى سيكون قاب قوسين أو أدنى .. فليصح النائمون وليتحرك الغافلون !!! .
ـ إنتهى كلام مصطفى بكري ـ
أتمنى أن أكون قد وفقت في تبيان الدوافع والأسباب الحقيقية وراء هذه الهجمات الـ ( أنجلوصهيونية ) على علمنا الإسلامي !!
والله من وراء القصد
( سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك )
أبو ليث النجدي
شبكة أنا المسلم
==============(66/217)
(66/218)
حتى أنت يا (( الدانمارك )) !!
الدكتور رياض بن محمد المسيميري
الدانمارك دولة نصرانية صليبية كبقية دول أوربا وأمريكا الشمالية تدين بعقيدة التثليث الباطلة الفاشلة ، الفاسدة الكاسدة !
ومن الطبيعي أن تظل كغيرها عدوة لكل ما يمت للإسلام بصلة وإن تسابق المسلمون إلى اقتناء منتجاتها من الأجبان والأبقار !
هذه (الدانمارك) ظلت منذ عدة أشهر تسخر عبر صحفها ووسائل إعلامها من رسولنا الكريم ، ونبينا العظيم صلى الله عليه وسلم
لا لشيء إلا لأن بعض أبناء شعبها بدأوا يفكرون جدياً بالتخلي عن نصرانيتهم واعتناق الإسلام كغيرهم من شعوب العالم الذين أبهرتهم أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها من تداعيات لا تخفى على أحد !!
فهي تريد بخبث ثني شعبها عن اختيار الدين الحقّ عبر حركة تشويه متعمد لشخص الرسول الكريم ورمز الإسلام الخالد عليه الصلاة والسلام !!
إنّ ما تقوم به الدانمارك وتؤيدها عليه النرويج وتسكت عنه بقية دول العالم النصراني يؤكد أنّ الحرب القائمة بين الإسلام والنصرانية في أفغانستان ، والشيشان ، والعراق حرب دينية عقدية وإن تبرقعت بغطاء مكافحة الأرهاب, أو تلفعت بمرط محاربة الدكتاتوريات في العالم !
وأنه لا مُسالم أو منصف بين النصارى بل كلهم ذوو عداوات تاريخية مستحكمة ضاربة الجذور !!
ويخطئ من يظن أنّ في الأوروبيين النصارى من هو نزيه أو محايد فضلاً عن أن يكون صديقاً للمسلمين أو العرب !!
فما حقيقة الأمر إلا مصالح وسياسات تتغير بتغير الزمان والظروف وتتقلب بتقلب الأحوال الاجتماعية والدولية .
لقد روجَّ الإعلام العربي يوماً ما بأنّ فرنسا إبّان حكم (ديقول) وحتى نهاية عصر (ديستان) صديقةٌ حميمةٌ للعرب؛ فإذا بفرنسا ترفع راية التمييز العنصري ضد المسلمين وتطرد من أراضيها المغتربين العرب الذين بنوا بسواعدهم كثيراً من مرافق باريس الحيوية, حتى حرَّمت على بناتهم الحجاب الإسلامي, وطردت المحجبات من مدارسها وجامعاتها !!
إذاً فالملة النصرانية, والحكومات الصليبية, كلّها عدوانية التوجه, خبيثة النوايا تجاه كلّ ما هو إسلامي مهما أظهروا من حميمية في العلاقات أو لباقة في السياسات تجاه أمتنا المسلمة .
وعلى الجميع أن يدركوا أنّ زمن الوفاق بين العالم الإسلامي والعالم النصراني قد ولّى إلى غير رجعة, وأنّ شهور العسل قد انقضت منذ كشر الغرب عن أنيابه, وأعلن أنّ عدوه الرئيس هو الإسلام بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانهياره !
ومنذ صرَّح (( بوش )) بأنها حرب صليبية جديدة وأن (الربّ !!) قد أمره بغزو الطلبة في أفغانستان, واحتلال العراق واستباحة شعبه!
أنّها حرب مفروضة علينا شئنا أم أبينا ما دمنا مسلمين (( وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ )) (البقرة : 217) .
وعداوة ضرورية لا بد منها ما دمنا موحّدين ((وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ )) (البقرة : 120) .
أفهمتم الآن لم سخرت الدانمارك من نبينا العظيم بأبي هو وأمي r؟!
================(66/219)
(66/220)
وهل تنتظرون من البابا غير هذا ؟
الدكتور رياض بن محمد المسيميري
أثارت تصريحات بابا الفاتيكان ضد الإسلام مؤخراً امتعاض بعض الرموز الدينية والسياسية في بعض البلاد الإسلامية ، وكأن البابا ومن وراءه من الرهبان وعبد الصلبان يصرحون تصريحات معادية لأول مرة ، أو يظهرون أحقادهم وكراهتهم للمسلمين بعفوية دون سابق بغض وكيد !
إن علينا أن نفهم أبعاد اللعبة ، ونعترف بحقيقة الصراع بيننا كمسلمين وبين النصارى كأعداء تاريخيين ، وأنه (( قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر )) .
وأنه مهما حاولنا نحن المسلمين إظهار أنفسنا أمام النصارى كمحبي للسلام ، وأنصار عدالة ، وأطراف حوار ، وشركاء حضارات ، فإننا سنظل في نظرهم مصدر خوف وقلق لأمتهم ، ومكمن خطر لمستقبلهم !
ومن الحماقة بمكان أن يذهب بنا الخيال بعيداً فنظن أنه بالإمكان أن نتعايش مع النصارى في سلام ووئام للأبد ، متناسين ما بين الأمتين - الإسلامية والنصرانية - من الخلافات العقدية والفكرية والصراعات التاريخية ، التي لا يمكن إلغاؤها بأحلام نرجسية تحلو لأرباب الدنيا ، وعشاق الذلة والخنوع !!
لقد حوربت مناهجنا الدراسية ، واتهمت بإثارة الكراهة وتأجيج العداوة ، ودق طبول الحرب ضد الآخرين ، وشارك في هذه الحرب الضروس أغبياء المسلمين من صحافيين وأدعياء ثقافة، فإذا بهم يتلقون صفعة على وجوههم وقفاهم من بابا الفاتيكان بتصريحاته النكراء التي أظهرت المؤجج الحقيقي للكراهة ، والمسعر الرئيس لأوار الحرب .
وبذلك تتفق تصريحات الزعامتين الدينية ممثلة بالبابا ، والسياسية ممثلة ببوش على بغض المسلمين وعدائهم ، وأن حربهم ضد شعوبنا هي حرب صليبية ، وأن تدثرت بدعاوى محاربة الإرهاب زوراً وبهتاناً .
إن علينا كمسلمين أن نعيد النظر في نظرتنا للأمم النصرانية وغيرها من الكفرة المحادين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن ندرك جيداً أنهم يتمنون الفتك بنا ، والخلاص منا متى سنحت لهم الفرص .
وأن حالة الوفاق النسبي بيننا وبينهم هي أشبه ما يكون بالهدوء الذي يسبق العاصفة ، فهاهي أرض العراق مستباحة بعساكر الصليب دون ذنب أو جريرة سوى أنهم مسلمون ، وهاهي فلسطين مغتصبة جريحة على أيدي يهود دون ذنب أو خطيئة سوى أنهم موحدون ، وهاهي أفغانستان والشيشان تنزفان وتئنان تحت مطارق الكفرة والملاحدة لا لشيء ! سوى أنهم مؤمنون !
ألا إن الدور سيأتي على بقية الأرض الإسلامية ما لم يستيقظ المسلمون ، ويعدون للأمر عدته ، ويأخذون بأسباب النصر والتمكين ، وعلى رأسها العودة الصادقة إلى الله ، وتحكيم شريعته ، وإعداد الأمة المجاهدة في سبيل الله .
==============(66/221)
(66/222)
كيف تسهم المرأة في تنمية المجتمع وهي داخل بيتها؟
تحقيق/ هناء محمد
جعل الله الإنسان خليفته في أرضه - رجلا كان أم امرأة - وهذه الخلافة تتطلب أن يعمل كل منهما لعمارة هذه الأرض، ويشارك في تنمية مجتمعه ووطنه، ويعتقد كثير من الناس أنه لكي تشارك المرأة في التنمية عليها أن تخرج إلى العمل وتزاحم الرجال حتى تصبح امرأة لها شخصيتها وكيانها، وتستطيع أن يكون لها دور في مجتمعها، وهذا فهم خاطئ؛ إذ يمكن للمرأة أن تؤدي دورها الكبير من داخل بيتها.
فكيف يمكن للمرأة المسلمة القيام بهذا الدور؟
هذا التحقيق فيه بعض الإجابة .
يقول الأستاذ الدكتور سيد دسوقي - رئيس قسم هندسة الطيران بجامعة القاهرة - الفرد المسلم - ذكرا كان أو أنثي - إنسان نافع يطالبه دينه أن يعمر الأرض بالخير، والنساء شقائق الرجال في هذه الدنيا، وإعمارهن الأرض من حولهن أمر واجب بالعقل والنقل.
وهذا الإعمار يحتاج إلى آلاف التخصصات العامة والدقيقة، منها ما يناسب الرجل ومنها ما يناسب المرأة.
ولا يختلف إنسان على أن من أعظم الأعمال الإنسانية القيام بتربية النشء في فترات الحضانة التربوية، وغياب المرأة في هذا الشأن يؤدي إلى كوارث في بناء الشخصية يصعب إزالتها مع الأيام إلا برحمة من الله تعالى.
والحقيقة أن نمط التنمية في المدينة المصرية هذه الأيام خنق دور المرأة التنموي، فهي محبوسة في شقة لا تستطيع فيها أن تقوم بما كانت تقوم به في قريتها في الريف المصري، هذا النمط الجديد يناسب بعض الأعمال الحديثة التي يحتاج إلى دربة خاصة، فيمكن للمرأة في هذه الشقة الصغيرة، وفي فراغها الكبير أن تقوم بأعمال التجميع الإلكتروني، أو التريكو، أو التفصيل، وربما صناعات البرامج الحسابية، وتستطيع أيضا أن تقوم ببعض الصناعات الغذائية الصغيرة مثل صناعة الجبن والمخللات.
ويضيف الدكتور سيد دسوقي قائلا: إن نوع التنمية الحالي في المدينة يحتاج إلى تصميم منظومة للأعمال التي يمكن أن تؤديها المرأة في بيتها، ولا تضطرها للخروج المهين في المركبات العامة، حيث تضيع يومها في الانتقال من البيت إلى عمل وهمي، ثم إلى بيتها مرة أخرى.
ويحتاج ذلك كله إلى أن يبذل جهدا في تصميم مناهج خاصة للمرأة تجعلها أكثر قدرة على أداء رسالتها الإنتاجية، وحتى تكون هناك تنمية إسلامية بديلة ينبغي أن تعمل الجماعات الإصلاحية على تدريب النساء على حرف منزلية يزيد بها الإنتاج القومي، كما يزيد بها دخل الأسر.
الإسلام قدم مشروعا حضاريا
ويقول الدكتور عبد الحميد الغزالي - رئيس قسم الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية - لاشك أن الإسلام قدم مشروعا حضاريا متكاملا يهدف كغاية نهائية إلى عبادة الخالق تبارك وتعالى عبادة بالمعني الواسع، والذي يشمل عملية إعمار الأرض أو التنمية الاقتصادية تنمية جادة وشاملة ومستمرة، ويقوم هذا المشروع بواسطة الإنسان، ومن أجل تحقيق حياة طيبة كريمة للإنسان، أو كما يسميه الفقهاء تحقيق حد الكفاية أو حد الغنى لكل فرد يعيش في ظل النظام الإسلامي.
ويضيف: لا شك أيضا أن دور المرأة في هذا المشروع الحضاري يعد أكثر من أساس، ومن هنا كان تكريم الإسلام للمرأة تكريما حقيقيا لا يمكن أن يتوافر في أي مشروع حضاري آخر، فالمرأة بالقطع وفقا لهذا المشروع ليست نصف المجتمع، وإنما هي أصل، بل كل المجتمع فعليها تقع تبعة أساسية في قيام المجتمع الإسلامي واستمراره في الوجود، وهي تبعة تربية وتنشئة الأجيال، فهي التي تخرج بفكرها ويديها أفرادا هم أهم عنصر من عناصر الإنتاج، وهو عنصر الأيدي العاملة.
الأساس والمشاركة
ويؤكد الدكتور عبد الحميد الغزالي - أستاذ الاقتصاد - أنه كلما كانت عملية التربية تسير وفق المنهج الإسلامي، كان عنصر العمل عنصرا إيجابيا حقا، هذا من حيث الأساس، أما من حيث المشاركة، فالمرأة يتمثل دورها في جانبين: جانب الاستهلاك وجانب الإنتاج.
فبالنسبة لجانب الاستهلاك فإذا ما تحلت المرأة المسلمة بأخلاقيات وضوابط النهج الإسلامي في الاستهلاك استطاعت كربة بيت أن ترشد الاستهلاك دون تقتير وتنظمه دون إسراف، على أساس من القوام الإسلامي.
ويضيف أن تقديم متطلبات أفراد الأسرة بشكل متوازن يحفظ لهم قدرتهم على العمل وتوازنهم النفسي، مما يسهم مساهمة مباشرة في زيادة إنتاجهم.
عمل المرأة
ويقول الدكتور الغزالي: المرأة يمكن لها أن تخرج للعمل شريطة ألا يتعارض مع وظيفتها الأساسية وهي إعداد النشء، وتربية الأجيال، وفي أنشطة إنتاجية تتفق وطبيعتها كالتدريس والتمريض وغيرها، ولاشك أن في هذا الجانب إسهاما إيجابيا في عملية التنمية الاقتصادية.
وعلى ذلك يمكننا القول إن دور المرأة أساس ليس في التنمية فقط من حيث ترشيد الاستهلاك، أو من حيث كونها مساهمة إيجابية بما يتفق وطبيعتها - وإنما من حيث وجود المجتمع المسلم السوي ذاته من خلال إقامة بيت مسلم يسير وفقا لشرع الله (عز وجل).
من قال إن المرأة في منزلها لا تعمل؟(66/223)
أما الدكتور حامد الموصلي - الأستاذ بكلية الهندسة جامعة عين شمس، وصاحب فكرة مشروع الصناعات الصغيرة - فيقول: إن هناك مغالطة كبري، وهي أن دائرة عمل المرأة قاصرة على المنشآت والمؤسسات التي يضمها القطاع المنظم، وأن المرأة لكي تعمل وتكتسب صفة "المرأة العاملة" عليها أن تخرج من المنزل.
ثم يطرح سؤالا يقول فيه: من قال إن المرأة التي تبقي بالمنزل لا تعمل؟ ويجيب بإحصائية وهي أن ساعات عمل المرأة في فرنسا في الستينيات بلغت 45 مليار ساعة في السنة في حين لم تتعد عدد ساعات العمل للقوي العاملة من الجنسين خارج المنزل 44 مليار ساعة.
ونخلص من هذا إلى أن ربة البيت تعمل أكثر من نظيرتها التي تعمل خارج المنزل وهي أيضا (امرأة عاملة).
وتشير إحدى الدراسات التي أجريت في أمريكا في السبعينيات إلى أن ما يحققه العمل المنزلي للمرأة من عائد يمثل حوالي ثلث الناتج القومي إذا قيم بأسعار السوق، وأن متوسط قيمة الإنتاج المنزلي الذي تقوم به الزوجة الأمريكية يمثل حوالي 60% من الدخل القومي للأسرة (الزوج والزوجة معا) من عملهما خارج المنزل، وأن الخسارة في قيمة الإنتاج المنزلي الناجمة عن خروج المرأة للعمل تساوي تقريبا الزيادة النقدية التي تحققها المرأة نتيجة لالتحاقها بالقوي العاملة بالقطاع المنظم.
ويقول الدكتور حامد: ليس هذا موقفا ضد عمل المرأة خارج المنزل فنحن مدعوون جميعا رجالا ونساء للعمل كل لما يسر له، ووفقا لما تمليه مصلحة الجماعة والأمة من ناحية، والظروف الخاصة بكل أسرة من ناحية أخري، والمطلوب ألا ينظر لخروج المرأة للعمل خارج المنزل، كما لو كان إنجازا في حد ذاته، أو هروبا من مسئوليات أجسم، وعمل أهم وأشق في بيتها. المرفوض هو أن تتحول الدعوة لخروج المرأة للعمل خارج المنزل إلى حرب صليبية تشن ضد دور المرأة في المنزل كأم وكزوجة.
ويعرف الدكتور حامد الموصلي معنى التنمية فيقول إن معناها السائد في الفكر الاقتصادي هو تحقيق أعلى معدل نمو ممكن، أما إذا نظرنا للتنمية باعتبارها تحقيق الذات بالمعنى الحضاري والارتقاء بالجماعة والأمة، فسوف يأتي إلى جانب الهدف الاقتصادي أهداف أخرى حضارية واجتماعية، وسوف ينظر إلى دور المرأة في التنمية من منظور مركب، فالمرأة حاملة للتراث الحضاري أكثر من الرجل، ودورها في التنشئة الحضارية للأجيال الجديدة أهم من دور الرجل، فدور المرأة في نقل المضامين الحضارية من جيل لجيل دور أساس لا يسعنا أن نغفل عنه، وخاصة أن المرأة تقوم بدورها هذا في إطار الأسرة - اللبنة الاجتماعية الأساسية للمجتمع، والوحدة الاجتماعية القادرة أكثر من غيرها على الصمود طويلا في وجه كافة أشكال القمع الاجتماعي والحضاري الذي يتعرض له الإنسان.
( الشبكة الإسلامية ـ الأسرة السعيدة )
===============(66/224)
(66/225)
تحديات الدعوة
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
من الإحساس بأهمية النظر في مستقبل الدعوة الإسلامية: جاءت هذه الكلمة.
والدعوة في أغلب مراحلها مهددة..
حتى في الزمان الذي يغلب فيه الأمن والفرصة: التهديد كامن بالقوة!!.
لأن القاعدين بكل صراط، يوعدون ويصدون. يبغونها عوجا: موجودون، متربصون..
هكذا هي سنة الحياة، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولا تحويلا.
ونحن في الزمان ذي التركيبة العجيبة، والغريبة؟!!
اجتمع فيه أمران، هما متناقضان، وهذا موضع العجب؛ إذ المتناقضين لا يجتمعان، ولا يرتفعان!!
فهل هذا خرق للعادة: كرامة، أم معجزة، أم ماذا؟!!
اجتمع في الزمان أمران:
الأول: التضييق على الدعوة الإسلامية، بوسائل:
- فكرية، مضمونها: محاولة تغيير الصورة، والمفهوم من الداخل.
- وعملية، بإغلاق المؤسسات الخيرية المنتشرة في العالم، وباحتلال بلاد المسلمين.
الثاني: اتساع باب الدعوة اتساعا لا مثيل له، بتنوع وتجدد الوسائل: إنترنت، جوال، فضائيات. وظهور وطغيان ما يسمى بحرية الرأي، واحترام الرأي الآخر، وإيمان كثير من المستبدين به، وتلبسهم بلبوسه، تجاوبا مع مقتضيات العصر، لا اعترافا بخطورة وضرر الاستبداد.
فإن كان التضييق أغلق أبوابا: فإن الانفتاح وسّع أبوابا كانت - في الأصل - مغلقة، ففتحها على مصاريعها، وكسر مزاليجها.
فإن قلت: قد ضيق على الدعوة.. صدقت.
وإن قلت: قد اتسع باب الدعوة.. صدقت.
ومن مثل هذا التركيب العجيب، الغريب: ظهرت الآراء المتناقضة أيضا ..!!
فالباب المفتوح بلغ من اتساعه: أن صار يلج منه ويخرج، حتى ذلك الذي كان محرما وممنوعا ذلك، إما لمخالفة للسنة، أو لسفاهة في الرأي، أو لمجاهرة بمنكر. ليتكلم ويبديء ويعيد في مسائل الدين، مع غيره، كغيره، سواء بسواء ؟؟!!.
قابل ذلك تغير نوعي في مواقف بعض الدعاة تبدت في: إعادة النظر في مسائل بدت محسومة، مختومة، وتغير الاجتهاد والفتوى.
والتعليل: أن العلماء ما زالوا يغيرون فتاواهم، كلما بدا لهم الحق في غير ما كانوا عليه. فهذا الشافعي له القول القديم يوم كان في العراق، والجديد يوم صار في مصر. وليس من بعدهم بأحسن منهم.
ومن التغير المهم الذي طرأ:
استبدال حالة الاسترخاء والكمون بحالة المصابرة.. بل والانتقال إلى موقع قريب من الضد والنقيض، والحديث بمنطقِ ومصطلحاتِ وتبني طائفةٍ من أفكار من كان خصما، وربما عدوا مارقا بالأمس ؟!!.
وهذا، وإن كان بداعي بإعادة النظر والبحث، وعدم التعصب للرأي، إلا أنه ا أورث اضطرابا، وريبة عند كثير من المراقبين..!!؛ إذ رأوا فيه استباحة لأصول، وأسس، وهكذا كان رأيهم.
وهكذا، فإن كل التيارات وكافة الفئات: استفادت كل الاستفادة من مناخ الحرية والانفتاح، وحققت مكاسب ما كانت لتحلم بها، إلا هذه الفئة، فئة إعادة النظر، ليس لأنها أعادت النظر، بل لأنها بالغت في هذه العملية.. هكذا يرى المعارضون لهذه الفكرة.
نتج عن هذا: أن الناس بعد أن كانوا يتقربون إلى الحق، صار الحق يتقرب إليهم!!.
وكم من فرق بينهما.. فالمتقرب راغب، والراغب مستعد للتخلي عن أشياء من لذاته وضرورياته لينال رضى المرغوب.. فالحق إذا صار يتقرب، فهذا يعني فقدان شيء، قل أو كثر منه..؟!!.
وفرق بين التدرج في عرض الحق، وتقريبه إلى الناس: فالتدرج عرض بعض الحق، وتأخير بعضه إلى حين، لضرورة. أما التقريب فتغيير صورته، ليتلاءم مع أحوال الناس، بل وأهوائهم. يقول الله تعالى:
{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون * وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}.
* * *
ومن التغيرات الملحوظة: انتقال الخطاب اللاديني من جهة الرفض الواضح للدين، إلى الدخول في نصوصه ومحاولة إنتاجه من جديد، متلائما مطواعا..!!.
وهكذا قصدوا إلانة الحديد، وهي موجة قديمة متجددة، تتبع سنة اليهود في كتبهم الكتاب بأيديهم، ليقولوا من ثم: هذا من عند الله. وليّ الألسنة بالكتاب، لتحسبوه من الكتاب، وما هو من الكتاب. والقول هو من عند الله، وما هو من عند الله.
وهذا نوع تحدٍ كبير لأهل العلم خصوصا.. فمن يفوز بإقناع الناس: أن ما يقوله هو الدين الصحيح؟.
فهنا عملية إعادة صياغة لمفاهيم جديدة للدين، في قضايا أصلية، محورية: الولاء والبراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحرية، والمرأة، والجهاد، واتباع السلف؛ لتنسجم مع دائرة العصر وعقاربها.(66/226)
ومن الصعب فهم كيف يمكن حصول هذا الانسجام في ظل متناقضين، لا يجتمعان، ولا يرتفعان؛ أحدهما: هو المحرك للدائرة وعقاربها، وهو لا يرى عدوا عنده أعدى من الإسلام، ولا يزال هذا منطق كبرائهم، ورؤسائهم, وكل نشاطهم في هذا الاتجاه:
- بالطعن في الإسلام، كما في تصريح البابا الأخير.
- والاستهزاء بنبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه، كما في الرسوم في الصحف الدنمركية.
- وإعلان حرب صليبية ضد الإسلام، واحتلال البلاد الإسلامية.
وأما الآخر: فيراد له أن يدخل هذه الدائرة، ليسير وفق عقاربها هذه، متلائما مطواعا.!!.
كيف يمكن أن يبقى في صورته، محتفظا بهويته، حينئذ.. ؟!!.
لكنه الإسلام الذي يبشر به من لا يرى عدوا أعدى عنده من الإسلام..
ويبشر به أيضا من رمى بنفسه في الدائرة، فدارت به، حتى أحبها، فولاؤه لها، ومحاداته لبني جلدته.!!
* * *
الناس اليوم في أمر مريج..؟!!
مع شدة إقبالهم على الدين، ومحبتهم الكبيرة له، فالأحداث الجسام التي حصلت في الأعوام الأربعة الأخيرة، خصوصا احتلال بلاد المسلمين، وقتلهم بعشرات الألوف: أيقظت المسلمين، فكثر فيهم السائل والمستفتي، والراغب في التفقه، والمقبل على التدين، والمتقرب إلى الله تعالى، فزاد عدد المرتادين المساجد، كما زاد عدد المسلمين، في حين أن المؤشرات كانت تتجه إلى الضد.
وهكذا هم المسلمون، أشد استفاقة في المحن منهم في المنح.. وهذه هي فائدة البلايا والفتن.
وإسلام الناس واستسلامهم، مؤشر على أن التمسك بالعزيمة والأصل، أولى من تتبع الرخص والاستثناءات، فهي فرصة طالما تمناها من يحب للناس الهداية، ففي النفوس ظمأ إلى الحق، بعد القلق، والحيرة، والاضطراب. وما أكثر هذا في الناس اليوم، بسبب الحياة المادية.
فخير لها أن تأخذ بالحق كما هو، وتدعى وتساق إليها سوقا، لا أن يقدم لها في طبق مصنوع بالهوى.
================(66/227)
(66/228)
واقع العراق وأثر النفاق في تأخير النصر وإلحاق الأذى بالمسلمين
د محمد الدسوقى بن على
في هذا المنعطف الخطير من تاريخ الأمة الإسلامية وفي هذا الوقت العصيب الذي تداعت عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها.. يستشعر المتأمل في واقع المسلمين عامة والمتابع لمجريات الأحداث على الساحة العراقية بخاصة، لماذا يتأخر النصر عن المسلمين؟ ويدرك - وربما أكثر من أي وقت مضى- أن أعظم معوق لإحراز النصر لأمة الإسلام هم المنافقون، وكيف أضحوا غصّة في حلوق المجاهدين الشرفاء، وشوكة في طريق المدافعين والمناضلين والساعين لتحرير أرضهم وديارهم، وكيف صاروا هم أخطر أثراً وأشد ضرراً على الإسلام وعلى أمة الإسلام من أعداء الإسلام، وأضحى مكر عدو الله وعدو المؤمنين لا يساوي بجانب مكرهم شيئاً .. كما يلحظ كيف يتزلفون ويذلون أنفسهم ويفصّلون منها نعالاً وأحذية في أرجل أهل الكفر، ينفذون مخططاتهم ويقومون بما يعجز الأعداء عن القيام به بل ويكفونهم في كثير من الأحيان مئونة الاقتتال، يستجلبون عطفهم ورضاهم ويطلبون منهم العون لقتل ذويهم وبني قومهم ويوالون ويعادون عليهم ويحبون ويكرهون لأجلهم، ولا نبالغ إذا قلنا أنهم في سبيل جلب رضاهم يساهمون في تخريب بلادهم وإهلاك حرثهم ونسلهم، ناهيك عن دورهم المشبوه في حجب نور الله وإقامة دينه والتمكين في مقابل ذلك لأعداء الإسلام.
يلمس المتابع لما يجري على أرض الرافدين وكل غيور على عروبته حريص على دينه، حجم الضرر الناتج عن أولئك الذين أصبحوا دمىً تحركهم أمريكا كيف تشاء، وكيف يسارعون في أهل الكفر يتكلمون بلسانهم ويتقدمونهم ويفدونهم بأنفسهم ويسهلون لهم مهمتهم في تكريس الاحتلال وفي قتل المسلمين وتعذيبهم وكشف عوراتهم واغتصاب نسائهم حتى صاروا حقراء حتى عند من قدموا ذلك لهم وفعلوه لأجلهم.. كما يلحظ كيف أضحوا عقبة كأداء في تحقيق موعود الله بالتمكين وسبباً مباشراً وحقيقياً في تأخير ما أوجبه الله وأحقه على نفسه في قوله: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين)، وما وعد به عباده المؤمنين في قوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً).
ولقد أوضح لنا القرآن أن أبرز علامات المنافقين وأخص ما يميزهم عن غيرهم هو ولاؤهم للكافرين وأعداء الدين، وذلك في مواضع عديدة نذكر منها قوله جل جلاله في سورة النساء الآية الثامنة والثلاثين والتاسعة والثلاثين بعد المائة: (بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً. الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين)، كذا بمجيء صفتهم بطريقة الموصول ليفيد علة استحقاقهم العذاب الأليم، وأنهم اتخذوا الكافرين أولياء وآثروا صحبتهم في مضادة المؤمنين والتربص بهم، لا لقناعتهم بما هم عليه من كفر وإنما ليَقوُوا بهم من ضعف ويَعزوا بهم من ذل، ظناً منهم أن أعداءهم هم الأعزاء الأقوياء وأنهم بذلك يدفعون عن أنفسهم وعمن يوالونهم من أهل الكفر شر أهل الإيمان المتوقع منهم، وهنا يأتي الاستفهام المنبئ عن التوبيخ والإنكار (أيبتغون عندهم العزة) "إيماء- على حد ما ذكر الطاهر بن عاشور- إلى أن المنافقين لم تكن موالاتهم للمشركين لأجل المماثلة في الدين والعقيدة"، وإلا لهان الخطب في اتضاح أمرهم وانكشاف طويتهم، بل اتخذوهم ليلتمسوا منهم ما لا يملكونه مما أخبر الله عنه في قوله: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.. المنافقون/ 8)، وفي ذلك نهاية التجهيل والذم لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ثم أتي جواب الله على هؤلاء بأسلوب التأكيد في قوله: (فإن العزة لله جميعاً)، إذ "لا عزة إلا به لأن الاعتزاز بغيره باطل، كما قيل: من اعتز بغير الله هان.. وهذا الكلام يفيد التحذير من مخالطتهم بطريق الكناية"أ.هـ(66/229)
وتأتي هذه البشارة التهكمية- المنبئة بالسخرية والاستهزاء والمناسبة لتهتكهم بأهل الإيمان- عقب نداءين محببين للمؤمنين أحدهما يأمر بالعدل الذي يعم الأحوال كلها، إذ العدل في الحكم وأداء الشهادة على وجهها على ما جاء في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم)، هو قوام صلاح المجتمع الإسلامي، والانحراف عنه إلى الجور مفض إلى فساد متسلسل، وما ذلك إلا لأن العدل يقتضي عدم محاباة الظالمين، تماماً كما يقتضي عدم مجاراتهم أو الركون إليهم ولو كانوا من أهلنا أو من أهل ملتنا أو حتى من أقرب الناس إلينا (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون .. التوبة/ 23)، (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون .. الممتحنة/9)، فما بالك بمن لم يكتف بمحاباة وتولي الكافرين حتى شاركهم في بغيهم على المسلمين فجمع في نفاقه واقتراف ما نهى الله عنه بين ظلم نفسه والركون إلى أهل الكفر ومقاتلة أهل الإيمان، والنداء الثاني: يأمر بما هو جامع لمعاني القيام بالقسط والشهادة لله (يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل)، وما ذلك إلا ليداوموا على ما أمر الله ويحذروا مآرب ما يخل به.
وجاء عقب تلك البشارة التهكمية سالفة الذكر وفي معرض إقامة الحجة، نداء ثالث لأهل الإيمان يصب في نفس الإطار ويحذر من موالاة الكافرين بعد أن شرح دخائلهم وطريقة استحواذهم على المنافقين بقصد أذى المسلمين، (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً)، وهذه آية جامعة للتحذير من موالاة أهل الكفر على اختلاف مللهم وبما فيهم أهل الكتاب، ومن موالاة المنافقين الذين تظاهروا بالإيمان ولم يوالوا أهله بل ناصبوهم العداء وراحوا يطيعون فيهم اليهود والنصارى، فهي تشهير بالنفاق وتحذير من الاستشعار بشعاره والتدثر بدثاره، وتسجيل على المنافقين أن لا يقولوا: كنا نجهل أن الله لا يحب موالاة الكافرين، لذا كان التذييل الذي مراده أنكم إذا استمررتم على ذلك جعلتم لله حجة واضحة على فساد إيمانكم.
وهنا يأتي الحسم لمصير هؤلاء الذين استهانوا بتحذير الله ولم يبالوا به: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً. إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله) فلم يشُبْه بتردد ولا تربص بانتظار من ينتصر من الفريقين فإن كان للمؤمنين (فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)، أي وصولاً إليهم بهزيمة أو غلبة.
وفي سياق مماثل للنظم الوارد بسورة النساء، وفي ثنايا التصريح في سورة المائدة بكفر النصارى الذين قالوا: (إن الله هو المسيح ابن مريم) والذين قالوا: (إن الله ثالث ثلاثة)، وبلعن اليهود الذين (عصوا وكانوا يعتدون) والذين هم (أشد الناس عداوة للذين آمنوا)، والتنويه بكذب مقولة هؤلاء وأولئك (نحن أبناء الله وأحباؤه) .. يستمر حديث القرآن وتحذيره من مؤازرة أهل الكتاب أو التعاون معهم أو إحسان الظن بهم فضلاً عن مناصرتهم في قتال المسلمين وفتح المجالات أمامهم لتحقيق مآربهم، وذلك حتى لا يشكك أحد في مشروعية قتال هؤلاء أو أولئك عندما ينحاز الجميع لحرب المسلمين، أو يتهاون تحت أي مبرر في شأن التحذير والنهي عن موالاتهم .. يتواصل حديث القرآن عن ضعاف النفوس- فيما يشبه أن يكون درساً قاسياً في أيامنا لجميع مرضى القلوب من المسلمين حكاماً ومحكومين- وعما يظهرونه من خوف وهلع لبشر أمثالهم تكون نتيجته في نهاية المطاف الندم لكن بعد فوات الأوان حيث لا ينفع الندم، وما يبدونه تجاه من (لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة) من ود ووفاق يطمّع فيهم أعداء الإسلام إلى حد أن يجعل منهم أداة طيعة يضربون بها أهل الإيمان، ومن حب ووئام عادة ما يكون على حساب مبادئ الإسلام، ومن تفان وإخلاص دائما ما يكون ثمنه دماء المؤمنين وأشلاء ضحاياهم واحتلال بلادهم، إذ في ذلك ضرر وأي ضرر.(66/230)
وحتى لا يعمى الأمر أو يختلط لدى أصحاب القلوب المريضة من المنافقين، وحتى تتميز لديهم بالدليل القاطع صفات أهل الإيمان الذين لا يجوز التعدي عليهم ولا تسليمهم ولا خذلانهم ولا معاداتهم ولا مناصرة عدوهم، عن صفات أهل النفاق الواضح أمر نفاقهم بمسارعتهم في أهل الكفر، والبين أمر موالاتهم لعدو الله وعدوهم.. أفصح القرآن عمن تجب موالاتهم ومناصرتهم والوقوف بجانبهم ومؤازرتهم وعدم تسليمهم أو خذلانهم فقال في محكم آياته بأسلوب القصر موجهاً خطابه لمن بقي منهم على الإيمان وجهل حقيقة أمره: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.. المائدة/ 55)، فموقع هذه الجملة- على ما أفاده أهل التفسير- موقع التعليل للنهي عن معاونة أعداء الله أو اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين، إذ الأصل أن تكون ولاية أهل الإيمان لله ورسوله مقررة عندهم بموجب ما أظهروه من إسلام، وبالتالي يكون ولاؤهم للمسلمين، لأن من كان الله وليه لا يكون أعداء الله أولياءه، وتفيد هذه الجملة تأكيد النهي عن ولاية اليهود والنصارى.. فهي جملة خبر مستعمل في معنى الأمر، والقصر المستفاد فيها من (إنما) قصر حقيقي، وإجراء صفتي (يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) وكذا جملة (وهم راكعون) للثناء عليهم، ومعنى أن يكونوا أولياء للذين آمنوا أن يناصرونهم ويعاضدونهم ويكونون منهم ومعهم ضد عدوهم كالبيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، فهو في معنى قوله تعالى: (والمؤمنون بعضهم أولياء بعض).
ويجئ هذا الأسلوب القصري على غرار ما جاء في سورة المائدة عقب نداءين محببين لأهل الإيمان، أولهما: أتي بعد تهيئة النفوس لقبول النهي عن موالاة أهل الكتاب الذين بدت محاولاتهم في تضليل المسلمين والنيل منهم، فيشبه من تولاهم في استحقاق العذاب بواحد منهم (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، كذا في صورة الشرط والجواب، وقد استحق هذا الذي أضحى واحداً منهم أن يكون كذلك، لأنه كما ذكر القرطبي "خالف الله ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم، فصار منهم أي من أصحابهم"، فإنه ومن كان على شاكلته على حد قول الآلوسي: " بالموالاة يكونون كفاراً مجاهرين"، "وهذا- كما في تفسير الرازي- تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين"، يقول ابن عطية: "من تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقدهم ولا إخلالٍ بالإيمان، فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم"، ويدخل فيما ذكره أهل التأويل- بالطبع ومن باب أولى- ما يحدث في أيامنا من مشاركة لهم في حربهم لمسلمي الفلوجة والموصل وأفغانستان وكل من كان على دينهم من أهل الإيمان، ومن إدلائهم على عورات المسلمين، ومن فتح أيٍّ من مجالات بلدان المسلمين برية كانت أو بحرية أو جوية أمامهم، ومن وضْعِ الحواجز ومنع المتناصرين من حربهم، ومن إنفاذ مخططاتهم في إهلاك حرث المسلمين ونسلهم، ومن إضفاء شرعية على الحكومات الموالية لهم .. إلى غير ذلك مما تقع فيه الأنظمة العربية والإسلامية وبمساندة أحيانا من علماء سلطاتهم، فإن هذا كله لا يتأتى إلا من ضعاف إيمان ومرضى قلوب (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) والدائرة المخشية هنا هي خشية انقضاض المسلمين على المنافقين، والأرجح أنها خشية "أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين فتكون لهم- على حد ما ذكر ابن كثير- أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك"، وما ذكره الحافظ هو ما يشهد له في أيامنا سطوة الباطل وهيمنة أهل الكفر كما أنه المتناسب مع واقع المسلمين الآن ومع ضعفهم.
وتفيد كلمة المفسرين أن قول (نخشى أن تصيبنا دائرة) صدر عن عبد الله بن أبي بن سلول وذلك حين عزم r على قتال بني قينقاع الذين كانوا أحلافاً لابن سلول ولعبادة بن الصامت فلما رأى الأخير منزع رسول الله جاء فقال: (يا رسول الله إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم ولا أولي إلا الله ورسوله)، وكان عبد الله ابن أبي حاضراً فقال: (أما أنا فلا أبرأ من حلفهم فإني لا بد لي منهم إني رجل أخاف الدوائر)، وما قالاه وفعلاه إنما يمثل الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق في كل عصر فليس العبرة بخصوص السبب بل بعموم اللفظ، والتاريخ دائماً وأبداً ما يعيد نفسه، ويؤكد موقف ابن سلول، أن المنافق لا دين له ولا عهد وأن تأرجحه بين الإيمان والكفر إنما هو لأجل الدنيا فهي ذاته ودائرته التي يعيش لها ويميل معها حيث مالت ويدور معها حيث دارت.(66/231)
وقد اقتضى تحذير أهل الغفلة والنفاق من أعدائهم الذين يبغون صرفهم عن دين الله، ألا يخرجهم من دائرة الإيمان وأن ينبههم سبحانه من خلال نداء ثان على أن صلاحهم في ملازمة الدين والذب عنه، وأن الله لا يناله نفع من ذلك وإنما يعود نفعه عليهم، وأنهم لو ارتد منهم فريق أو نفر لن يضر الله شيئاً وسيكون لهذا الدين أتباع وأنصار وإن صد عنه من صد (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم).
كما دعا اعتراض هذا النداء بين ما قبله وبين جملة (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا)، مناسبة الإنذار في قوله (ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، في إشارة إلى أن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء طريق وذريعة مؤدية إلى الارتداد، لأن استمرار فريق على موالاة اليهود والنصارى يخشى منه أن ينسل عن الإيمان فريق، فأنبأ المترددين ضعفاء الإيمان إن هم اختاروا طريق الموالا ة المنهي عنها، بأن الإسلام غني عنهم .. وأتى بجملة (فسوف يأتي الله بقوم.. إلخ)، لبيان أن وعد الله آت لا محالة، ولإظهار الاستغناء عن المنافقين الذين في قلوبهم مرض وقلة الاكتراث بهم، وتطمين المؤمنين بأن الله يعوضهم بالمرتدين خيراً منهم، وطمأنتهم- فيما يشبه المحصلة من ذلك- بأن(من يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون.. المائدة/ 56)، واستغنى هنا عن جواب الشرط وهو الإيذان بوعد الله وبأن هذا الدين لن يعدم أتباعاً بررة مخلصين، بذكر ما يتضمنه للإشعار بأن للشرط جوابان.
ويتوالى النداء عقب التحذير من موالاة أهل الكفر وضرورة التمسك بموالاة الله ورسوله وكل ما هو منهما بسبب: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء).. ليكون بمثابة التأكيد لمضمون الكلام الذي قبله والتحذير من عدم امتثال ما نهى عنه ولتكون الحجة ألزم فلا يبق بعدها عذر لمعتذر، وفي ذكر الشرط استنهاض للهمة في الانتهاء، وإلهاب لنفوس المؤمنين ليظهروا أنهم مؤمنون لأن شأن المؤمن دائماً الامتثال.
هذا بعض ما جاء في شأن النفاق والمنافقين في مسألة اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، إنما أردنا من خلاله معالجة هذا المرض المفضي إلى تأخير النصر وإلحاق الأذى بالمسلمين، والذي يفتك بالقلوب ويعصّيها حتى يجعلها أقسى على ذوي القربى من الحجارة، وإلا فآيات سورتي التوبة والمنافقون في كشف المزيد من حيلهم ماثلة للعيان، وهي في نهيهم عن اتخاذ الكافرين أولياء أكثر من تعد ونذكر منها قوله عزمن قائل: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء.. آل عمران/28)، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. ها أنتم هؤلاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ .. آل عمران/118، 119)، وقوله: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً .. النساء/ 89)، وقوله: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم.. المجادلة/ 22)، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا اعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل. إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون .. الممتحنة/ 1، 2).(66/232)
والسؤال المطروح الذي يفرض نفسه على كل من يحمل السلاح في وجه الأهل وأبناء الوطن الواحد مع أعداء الإنسانية ومدعي- كذباً وزوراً وبهتاناً- حقوق الإنسان وتحرير العراق ورافعي شعارات الحرية والديمقراطية في الوقت الذي يقتلون ويهلكون ويدمرون كل شيء .. ما يكون النفاق إن لم يكن ما ذكره القرآن من المسارعة في نجدة ونصرة هؤلاء اليهود والنصارى، وإن لم يكن التزلف والتقرب والمساعدة والمساندة والمعاونة بشكل أو بآخر والمشاركة لأولئك المحاربين الذين جاءوا من كل حدب وصوب ليهتكوا العرض ويسلبوا الأرض ويقتلوا النفس ويهلكوا الحرث والنسل؟ وما يكون الرأي في تلك الجرائم التي فاحت وشاع أمرها والتي لم يرتكبها في حق أهليكم وإخوانكم وأبناء جلدتكم سوى الأمريكان والبريطانيين ومن حالفهم من معشر يهود ومن أهل الصليب؟ وأين أنتم وقد رفع هؤلاء شعار الصليب وأقروا بأن حروبهم (صليبية) واعترفوا أن العراق ستكون عاصمة دولة ربيبتهم المزعومة من النيل إلى الفرات؟ أين أنتم يا جنود الحرس الوطني والشرطة العراقية من دينكم الذي يحرّم قتل النفس المسلمة، ومن وعيد ربكم القائل في قرآنكم (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً.. النساء/ 93)، ومن تحذير نبيكم القائل (من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة كتب بين عينيه آيس من رحمة الله)، والقائل: (لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، والقائل: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً)، والقائل: (إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليك كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)، ومن إجماع المسلمين على حرمة سفك دم المسلم ولو أكره القاتل وهدد بالقتل .. أين ذلك كله مما تفعلونه طواعية بحجة أكل العيش وعدم وجود فرص عمل؟ وهل هذا العمل الذي تتقاضون من أجله حفنة من الدولارات وتحرمون لأجله رحمة الله وجنته وتسهمون فيه بشكل مباشر أو غير مباشر في الإضرار بدينكم ووطنكم وأهليكم فتقتلون لأدائه طفلاً أو امرأة أو تحمون به مستعمرة أو تفادون من خلاله كافرًا أو تنتهكون به حرمة إلخ، يُعدّ في أي عرف وفي أي ملة وعند من له عقل أو ضمير عملاً شريفاً؟، وكيف تهنأون به وتقتاتون منه أنتم وأولادكم وقد دفعتم ثمنه دماء ذكية بغير حق ومساجد هدمت وحرمات انتهكت سواء كان ذلك بفعلكم أو بمعاونتكم؟ وإذا كان الصليبي الذي أشرك معه اليهودي والذي أتيتم أنتم لتشاركوهم في حرب إخوانكم وبني قومكم، جاء ليحقق هدفه في نهب ثروات بلادكم وقبض أثمان نفطكم وأخذ خيرات وأقوات أبنائكم، فما هدفكم أنتم وأين خدمتكم لدينكم وأين جهادكم في سبيل ربكم وأين دفاعكم عن عرضكم وذبكم عن نساء أهليكم، وأين نخوتكم ورجولتكم وقد جاءتكم الفرصة سانحة بعد أن دهم العدو أرضكم واغتصب زوجاتكم وأخواتكم وأمهاتكم وبناتكم وعماتكم وخالاتكم وبناتهن، أو فعل مثل ذلك في نساء إخوانكم في الدين والوطن؟، وألا كان حرياً بكم بدل أن تمكنوا لهذا المغتصب الآثم والمعتدي المجرم أن تسهموا مع إخوانكم في دفعه فتبتغون بذلك الأجر من الله وتدخلون معه في تجارة رابحة قال عنها: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها النهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين. يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله).(66/233)
إليكم يا أبناء ديننا وعروبتنا وإلى كل من يحمل السلاح في وجه أهله وبني قومه ليحارب به مع أعداء الإنسانية، وإلى كل من يكرس للاحتلال - عن طريق انتخابات معلوم سلفاً نتائجها- ومستبقياً إلى ما لا نهاية الأوضاع على ما هي عليه الآن، هاكم فيما ذكرنا نماذج وبعضاً مما جاء في صحفهم وبشهادتهم وعلى ألسنتهم (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة): أفردت جريدة (روبنز بنورث) الأمريكية على صدر صفحتها الداخلية قصة اغتصاب 5جنود أمريكيين للفتاة العراقية (س) التي كانت متجهة لسوق البصرة لشراء احتياجات منزلها مخلفة وراءها طفلتين، وفي نهاية المقال يتساءل الكاتب: "أي أمن وأمان وديمقراطية أراد بوش أن يحققها في البلد العربي المسلم إنه يريد شيكاغو ثانية .. يريد أن يصرف أنظار مواطنيها عن دينهم وعبادتهم .. يريد بث الرعب وإنهاء حياتهم المستقرة"، كما ذكر الكاتب الأمريكي (ديفيد كول) عملية بشعة قام بها أربعة جنود أمريكان كانوا مخمورين يدخنون الماريجوانا ضد أسرة المواطن (ص ح ز) الذي اقتحموا منزله في ساعة متأخرة من الليل، ولما لم يجدوا ما يسرقونه التقط أحدهم ذراع الزوجة البالغة من العمر 27 عاماً ولديها طفلان، وبكل قسوة اختطفوها من بين أحضان طفليها الصغيرين اللذين كانا يرتعدان خوفاً وهلعاً من أصوات بنادق المحتلين، ثم اقتادوها بعد أن أشهروا السلاح في وجه زوجها الذي حاول دفعهم فأصابوه ليسقط مدرجاً في دمائه وسط بكاء طفليه.. الكاتب الأمريكي (وليام بود) لم يكن أقل صراحة وهو يروي في صحيفة (ويست بومفريت) الأمريكية في صدر صفحتها الأولى تحت عنوان (الاغتصاب الديمقراطي) تفاصيل جريمة بشعة ارتكبها جنود الاحتلال ويقول: "إن بوش قد ترك لجنوده أن يفعلوا ما يحلو لهم مع ضحايا سجنه الكبير في العراق، ترك (كول) و(ديفيد) اللذين يتميزان بالعدوانية الشديدة والهمجية يغتصبان نساء عراقيات بلغ عددهن وقتها26فتاة وضحية، يقومان بعد الثامنة مساءً باختطاف ضحيتهما من شوارع العاصمة دون تبرير ويجردانها من ملابسها أولاً ثم يُقدمان على تصويرها وإرسال هذه الصور المشحونة بأوضاع مخلة إلى أصدقائهما للاستمتاع بها وكأنهما ما حضرا إلى العراق إلا لهذا، فقط بنادقهم هي التي تتحدث وتتكفل بإسكات أي ضحية وبث الرعب في المحيطين بهم، عشرات الشكاوى وصلت إلى رؤسائهما ولم يتخذوا ضدهما أي إجراء يمكن أن يمنعهما عن هدفهما"، ويضيف الكاتب الأمريكي منتقداً: "هذه ليست ديمقراطية، يكفي تحقيق بعض الأهداف كالبترول والتوسع من أجل مصلحة الأعوان ولترحل أمريكا وترحم نساء وأطفال وشيوخ العراق".
فكيف- وهذه شهادة بعضهم- يتأتى لأبناء العراق الحبيب ولجنود شرطته وحرسه الوطني وللأنظمة العربية الذين مكنوا لأولئك الأوغاد أن يسكتوا عن هذا دون ما احتجاج فضلاً عن أن يغضوا الطرف عنه بل ويتعاونوا مع فاعليه وينفذوا مخططاته التي منها ضرورة إجراء انتخابات تحت نير هذا احتلال غاشم لا يبقي على شيء.
ولم يكن (بود) الذي ذكرنا شهادته هو آخر من انتقد الاحتلال وندد به فقد انتقده (وليام أركلين) وأفرد على صدر صفحات (ويست بومفريت) جرائم حرب لجنود أمريكان ارتكبوها في العراق، وذكر- بعد أن ندد بعمليات النصب والسلب التي يقومون بها- قصة جنود أمريكان راحوا يفتشون أحد المنازل وبقسوة قاموا بانتزاع صغيرتين من أحضان الأبوين وجردوهما من المشغولات الذهبية وحين تأخرت عملية تجريد إحداهما من قرطها انتزعه واحد منهم بشدة ليصيب الطفلة بجرح قطعي ولم يستطع أحد من أفراد الأسرة حمايتها خوفاً ورعباً من السلاح الفتاك الذي يحملونه.(66/234)
وعن قتل المدنيين المتعمد حدثوا ولا حرج، وفي إطار الحديث عن بعض حوادث قتلهم وعن حجم الخسائر في الأرواح والضحايا التي سقطت على أيدي أولئك الذين يحصون عدد قتلاهم بالواحد- في الوقت الذي فيه لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة- نكتفي هنا بما أكدته مؤسسة مدنية قامت بمسح المستشفيات والمقابر والأسر العراقية من وجود آلاف المصابين ومن أن أكثر من 5000عراقي من المدنيين لقوا مصرعهم في الفترة ما بين 20/ 3/ 2004 وحتى إعلان انتهاء العمليات الرئيسية في1/ 5 يعني في غضون شهرين فقط، ناهيك عن عشرات المئات من القتلى التي تسقط بشكل يومي عند كل مداهمة لمدينة على نحو ما جرى في الموصل والرمادي وبعقوبة والفلوجة وغيرها، فماذا يا ترى تكون حصيلة القتلى منذ بداية وطوال فترة الاحتلال إلى يومنا هذا؟ يجيب عن هذا التساؤل (مارك ريزيكه) مؤسس منظمة اجتماعية أجنبية الذي صرح عندما سؤل عن عدد الضحايا المدنيين: "إن الجيش الأمريكي لا يتعقب أثر هذه الأشياء ولا يهمه عددها"، وكان مسئولون عسكريون قد أوضحوا أنه لا توجد لديهم أرقام دقيقة أو تقديرات عن عدد القتلى والجرحى من المدنيين العراقيين حيث قالت المتحدثة الرسمية لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) (جان كامبل): "إننا لا نحتفظ بالقائمة"، وبالطبع يغيب عن أمثال هؤلاء ما جاء في الحديث: (لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)، وقوله عليه السلام: (لو اجتمع أهل الأرض على قتل مسلم لأكبهم الله جميعاً في النار).
لكن التبعة واللائمة تقع في المقام الأول على أهل النفاق الذين مكنوا قوى التحالف من إعمال القتل في أهليهم وذويهم رغم ما يتعرض له أولئك المنافقون أنفسهم، ورغم عجز قوى التحالف البيّن عن إحراز نصر بدونهم، الأمر الذي يؤكد إمكانية انتهاء الاحتلال منذ بدايته لولا مباركة أولئك المنافقين الذين قدموا على طائرات المحتل واستعانوا به بل وطلبوا- ولا يزالون- ذلك منه صراحة، كما يفسر إصرار أمريكا إزاء ضراوة المقاومة وشدتها على إجراء انتخابات بأي شكل .. لتخرج من هذا المستنقع الآسن وذاك الفخ الذي نصبته لنفسها- وقد حفظت ماء وجهها- رغم فداحة ما تكبدته في العدد والعدة .. ولتوقع أهل البلاد مع الحكومة التي ارتضتها لتحقيق مصالحها في بركة من الدماء.. ولتقف هي فيما بعد موقف المتفرج بعد أن توهم العالم أنها أدت مهمتها ووضعت العراق على بداية طريق الحرية والديمقراطية، فإياكم يا أبناء عراقننا الحبيبة وإنفاذ مخططاتها.
ولعله قد وضح الآن أن ما سبق أن ذكرنا بعضه مما يفعله أعداء الله وأعداء الإنسانية ومما جاء في فلتات ألسنتهم وهو قليل من كثير، مقصوده إقامة الحجة على أهل النفاق الذين يجدّون في البحث عن أسباب يغطون بها جرائمهم في حق دينهم ووطنهم وأهليهم، وقد وجدوها بالفعل فيما يردده أضرابهم من المرجفين خارج المدينة وداخلها من تسمية المقاومة العراقية إرهاباً .. وفيما أوحى لهم به أعداء الإنسانية من ضرورة ضبط الحدود وعقد مؤتمرات لدول الجوار للغرض ذاته ولمنع العناصر الأجنبية المتسللة (وهم لا يعنون بالطبع قوى البغي والعدوان الذين أتوا من أقاصي بلاد الدنيا وأدانيها عبر محيطات العالم وأجوائه ليحاربوا عرباً مثلهم ومسلمين في عقر دارهم ويغتصبوا نساءهم ويهلكوا حرثهم ونسلهم، ولا أولئك المرتزقة الذين أتوا بهم لتحقيق نفس هذه الأغراض من العجم، بل يقصدون بها حفنة من شباب البلاد العربية المجاورة عز عليهم أن يتركوا إخوة الإيمان وأصحاب الجنب الذين وصى الإسلام بهم وأمر بنصرتهم) .. كما وجدوها في إطلاق عبارات (متمردين) و (مسلحين) و(قوى الظلام) إلخ، (ويعنون بهم أهل البلاد التي احتلت أراضيهم وتهدمت بيوتهم ودمرت مساجدهم وأجهز على جرحاهم) .. ووجدوها كذلك فيما منّاهم به أهل الكفر من إشاعة الحرية وإقامة الديمقراطية وفي تهيئة المناخ الملائم لإجراء انتخابات علم سلفاً ما يكون مصيرها ومن سيحظى بها على غرار ما حدث في أفغانستان والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.(66/235)
ومقصود ما ذكرنا كذلك، بيان أن ما يجري من مدافعة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ما هو إلا سنة من سنن الله التي أخبر عنها في قوله: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين)، وقوله: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) .. وما هو إلا قتال في سبيل الله أمر الله به وأوجبه كما جاء في قرآن المسلمين (كتب عليكم القتال وهو كره لكم)، (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان ... الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) .. وما هو إلا ابتلاء منه سبحانه لعباده المؤمنين ليعلم من ينصره ورسله بالغيب على ما جاء في قوله: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب)، وقوله: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم)، وليميز به بين أهل النفاق وأهل الإيمان ويبين به درجته لدى كلِّ حتى لا يدعيه أي أحد كما جاء في قوله: (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين)، وقوله: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) .. ما هو إلا لبث روح الأمل لدى عباده المؤمنين لكونه اقتراب لما وعدهم به في قوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلكم وليمكنن لكم دينكم الذي ارتضى لكم) .. وما هو إلا تحقيق لما ساقه الله في قوله: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)، وقوله: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد)، وقوله: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون)، والنبي في قوله (تتداعى عليكم الأمم .. الحديث) .. ما هو إلا إجمال لما حدث في مكة وما حدث في أحد وبدر، هو (ليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء.. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)، (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون).
ولا ينبغي أن نتهاون أو يفوتنا التنبه لما كشفت عنه آية آل عمران الأخيرة من جعل أهل النفاق أقرب للكفر من الإيمان، وما أكثر ما زاوج القرآن بينهما، ولنتأمل في ذلك قوله تعالى: (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً.. النساء/ 140)، وقوله: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم .. التوبة /68)، وقوله: (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً.. التوبة/ 97)، وقوله: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً ولئن قوتلتم لننصرنكم .. الحشر/ 11)، كما لا ينبغي أن يفوتنا أمر الله لنبيه بجهادهما معاً- كذا دون تفرقة- وذلك في قوله: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم.. التوبة/ 73 والتحريم/ 9)، ونصحه بعدم طاعتهم والسير في ركابهم (ولا تطع الكافرين والمنافقين .. الأحزاب1، 48).. وعلى غرار ذلك ولخطورة ما عليه أهل النفاق زاوج القرآن كذلك بينهم وبين المشركين في قول الله تعالى: (ليعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات .. الأحزاب/ 73) وقوله: (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات .. الفتح/ 6)، وفي ذلك من شديد غضب لله على هذا الصنف من الناس- كما لا يخفى- ما فيه.(66/236)
كما شهدت آي الذكر الحكيم بفسادهم (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. البقرة/)، وكذبهم (والله يشهد إن المنافين لكاذبون .. المنافقون/1)، ووسمتهم بالفسق والخروج عن طاعة الله (نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون ..التوبة/ 67)، وقلة الفقه والعلم (ولكن المنافقين لا يفقهون.. لا يعلمون.. المنافقون/ 7، 8)، وبظنهم بفعالهم القبيحة أنهم (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون..البقرة/ 9)، وأنهم العون الوحيد للكفر والكافرين.. وبأن نفاقهم لا يظهر إلا في وجود قوتين متصارعتين يتذبذب بينهما على ما هو عليه الحال الآن خلافاً لعصر الخلفاء الذي خمدت فيه قوة الكفر .. وأوضحت أنهم لخفائهم أخطر في حربهم المسلمين من الأعداء الظاهرين وأن أخطر ما في حربهم للإسلام سهولة الاستحواز على عقول البسطاء من عامة المسلمين ثم نشر الفتنة بألوانها بينهم وأن شخصاً واحداً يستطيع أن يفسد الآلاف من هؤلاء السذج كما استطاع ابن سلول حين رجع بثلث الجيش في غزوة أحد على سبيل المثال، ومسيلمة الذي أفلح في إفساد عقيدة عشرات الألوف من أهل اليمامة، وابن سبأ الذي استطاع أن يصدع كيان الأمة بعد مقتل عثمان .. كما أفصحت آيات الذكر الحكيم عن تحالفاتهم مع جميع أطياف الكفر لكونهم- من الناحية المادية وحسب نظرتهم للأمور- الأكثر عدة وعتاداً ولكون صحبتهم- من وجهة نظرهم- أخف ضرراً وأيسر عبئاً.. ولم تعذرهم فيما أقدموا عليه من جرائم في حق دينهم وذويهم لا في الدنيا حيث الذلة والاستكانة ولا في الآخرة حيث العذاب المهين في الدرك الأسفل من النار يوم القيامة.. ووصفتهم بالحرص على الدنيا والإرجاف والكبر والبخل والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والتكاسل عن الصلاة إشاعة الفاحشة في المؤمنين والخوف منهم وبكثرة الحلف.. وأظهرت مدى خطورتهم وعداوتهم لأهل الإيمان في عصر لم يجرئوا فيه على حمل السلاح في وجوههم، بل ونزل فيه قول الله تعالى: (هم العدو فاحذرهم) كذا بأسلوب القصر المفيد أنهم العدو البالغ العداء لا غيرهم، وبأنهم في الدنيا في قلق نفسي لا يستقرون على حال (يحسبون كل صيحة عليهم .. المنافقون/4)، الأمر الذي يعكس ما في بواطنهم من وساوس وتصورات لأنهم متلبسون بجرائم من الكذب والبهتان فهم لذلك على حذر دائم، ومع احترافهم الكذب والحذر الشديد سرعان ما ينكشف بهتانهم (إن الله مخرج ما يحذرون ..التوبة/64)، ولا يهنأ لهم مقام (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورون فيها إلا قليلاً. التوبة/ 60).
وفي نور الذكر الحكيم وعلى ضوء ما أفادته آياته المحكمات وأشارت إليه السنة الصريحة والعقل الصحيح أفتى أهل العلم بجواز قتل المسلم الذي تترس به العدو إذا تحقق في قتله الخلوص إلى العدو فما بالك بمن قاتل من المنافقين دون العدو، وضحى بنفسه في سبيله، كما أفتوا بأن التحرج من قتال أهل النفاق إنما كان في حال عدم مساهمتهم في قتال وقتل أهل الإيمان واكتفائهم في معاداة المسلمين بحرب المؤامرات والدعايات "حتى لا يستغلوا ذلك- على حد ما ذكر د/ عبد الحليم حفني في كتابه (أسلوب القرآن في كشف النفاق ص71)- في الدعاية لمصلحتهم ضد المسلمين"، أما مع مواجتهم المسلمين وتعاونهم في ذلك مع العدو فلا فرق بينهم إذاً وبين أهل الكفر على ما أفاده ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) وكما أفاده إجماع المفسرين فيما سقناه لهم في آيات سورة المائدة سيما وقد جمع القرآن بين الفريقين وأمر الله نبيه بمجاهدتهما معاً، وقد حدا ما ذكرنا بـ 29عالماً من علماء السعودية يمثلون غيرهم من العلماء المخلصين الشرفاء وكذا بعلماء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالأزهر الشريف لأن يصدروا فتواهم التي تقضي بعدم جواز قتال رجال المقاومة الذين يقومون بواجبهم في صد وإخراج المحتل ولا الاعتداء عليهم وبعدم جواز التعاون مع أعداء الإنسانية أو تنفيذ مخططاتهم التي يدخل فيها بالطبع تنظيم الانتخابات التي تكرس احتلالهم أو تمكن لهم وبعدم جواز اتخاذهم أولياء أو مدهم بالمعلومات تحت أى ظرف من الظروف، وهو ما أفاده كلام الشيخ سيد سابق في كتابه فقه السنة 3/ 75 حيث نص على "أن حكم القرآن في هؤلاء الذين يتعاونون مع الاستعمار وأعداء العرب والمسلمين بيّن واضح، وأن ذلك خيانة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وأنهم لم يراعوا حق الإسلام ولا التاريخ، ولا حق الجوار ولا حق المظلومين، ولا حق حاضر هذه المنطقة ولا حق مستقبلها، وهؤلاء الخونة بتصرفهم هذا قد باعوا أنفسهم للشيطان، وسجلوا على أنفسهم خزي الدهر وعار الأبد".(66/237)
إن هذه الفتنة التي أطلت برأسها وتمثلت في الاحتلال الأمريكي وتحالفه البغيض للعراق وما أحدثه أولئك المجرمون القتلة أعداء الحرية والديمقراطية والإنسانية في تلك البلد المسلم، من دمار وخراب طال الأرض والشجر والإنسان، ومن سفك دماء وحصد لا نقول لأرواح عشرات الآلاف من الأبرياء بل لمئات الآلاف، وقتل جرحى واغتصاب نساء واعتداء على أطفال، وانتهاك حرمات وتدنيس مقدسات وهدم مساجد ونهب متاحف وسرقة آثار، وارتكاب جرائم حرب واستخدام أسلحة دمار شامل وقنابل محرمة دولياً بلغت مئات الآلاف من الأطنان، واحتلال لأرض الغير بالقوة عن قصد وبعد تفادي أسباب ذلك والعلم به، واستعمال لأعمال أقل ما توصف به أنها أعمال بلطجة وهمجية، وعصف بما يدين هذه الأعمال البربرية من قرارات دولية، وإعلان بأن ما ذكر يأتي في إطار حرب صليبية، وفرض لعقيدة النصارى عن طريق مبشرين، واستحضار لليهود وإعطائهم الحق في حرب وقتل وتعذيب المسلمين وشراء أراضيهم في كركوك والموصل وأربيل تمهيداً لتطويق بلاد المسلمين ولتحقيق حلمهم من النيل إلى الفرات، وسماح لآلاف من جنودهم ولعشرات من حاخاماتهم للمشاركة في هذه الحرب القذرة، وعدم إخلاء الشوارع والمناطق الساخنة من جثث المسلمين وتركها تتعفن وتصبح مرتعاً لكلاب أتوا بها لهذا الغرض، وتقطيع أطباء أمريكيين لأوصال وأعضاء القتلى وبعض الجرحى العراقيين بقصد المتاجرة بها وبيعها للمرضى وللمراكز الطبية في أمريكا على ما أفادته تقارير أجهزة الاستخبارات الأوربية مؤخراً، وحرمان الجرحى من مواد الإغاثة الطبية سعياً إلى التخلص منهم، وتدمير العديد من المستشفيات والعيادات، ونهب محتوياتها أحيانا وضرب العاملين فيها حتى من الأطباء، وفرض أشخاص غير مرغوب فيهم ولا يمثلون هذا الشعب المقهور، وإكراه على اتباع نظم انتخابية تمهيداً لتعيينهم ولفرض أمر واقع على نمط ما جرى في تجربة أفغانستان، واصطناع ديمقراطيات مفصلة ومعدة سلفاً لتحقيق مصالح المحتل، وتداعي الأمم الكافرة من كل حدب وصوب، ومنع شباب المسلمين- في الوقت ذاته- من مناصرة إخوانهم في الدين، وتبجح بإمرار كل ذلك بحجج كاذبة ودعاوى مختلقة يقومون بأنفسهم بتفنيدها ويقرون- لكن بعد فوات الأوان وبعد تحقيق الهدف منها وبعد ارتكابها عن عمد- بخطئها .. ونضيف لما ذكرنا ما وقع من إدانةِ خبراء وعسكريين ومختصين من نفس دول الاحتلال، ومن اعترافات صريحة منهم ولأكثر من مرة بخطأ هذه الحرب، ومن تظاهرات اندلعت من جميع دول العالم وفي قلب الدول المشاركة، ومن سحب بعض هذه الدول لقواتها بعد أن أدركت خطأ هذه الحرب .. كل هذه الأمور جعلت ليس أبناء العراق فحسب بل المسلمين في كل بقاع الأرض في المحك وأمام اختبار صعب (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله)، فهل إلى خروج من هذا النفق المظلم وطريق النفاق المسدود من سبيل غير سبيل الجهاد؟ وهل من ملبٍ للنداء وتائب مقلع عن نفاقه معتصم بربه مشمر لرائحة الجنة مدافع عن دينه وأرضه وعرضه؟ هذا أملنا وليس لنا أمل سواه (إن المنافين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً . إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله واخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً . ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً.. النساء/ 145:147)، (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.. آل عمران/ 126)، (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. يوسف/ 21).
===============(66/238)
(66/239)
وإذا لم يعتذر البابا..فكان ماذا ؟.
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
- سؤال مشروع ؟.
لما صدر عن البابا اتهام المسلمين والإسلام بأنه شرير وغير إنساني، وغير عقلاني: طالبه جمع كبير من الشخصيات والمنظمات الإسلامية بالاعتذار العلني الصريح، وألحوا في ذلك جدا، وأكدوا، وأصروا، ولم يقبلوا تصريحه الثاني، ولا الثالث، الذي تضمن أسفا على سوء فهم كلامه؛ إذ لم يكن سوى أسفا، وليس اعتذارا. وتفاعل كثير من المسلمين غيرة على دينهم مع هذه المطالبة، وقد كانت حالة تجسدت فيها المعاني الإيمانية، والغيرة، والاعتزاز بالانتماء إلى الإسلام.
غير أنه وسط هذه الموجة من الغضب لم يسأل أحد: ما المقصود والغاية من اعتذار البابا ؟.
وإذا لم يعتذر - كما هو الحال - فكان ماذا ؟.
هل سيتضرر الإسلام والمسلمون من ذلك ؟.
وإذا اعتذر هل سيكون ذلك خيرا للإسلام والمسلمين ؟.
* * *
- الأحداث.
في محاضرة له في جامعة جنيسبرج بولاية بفاريا بألمانية، في 12/11/2006م، والتي كانت بعنوان: "العقل والإيمان"، أورد البابا حوارا جرى بين الإمبراطور مانويل الثاني (1350-1425) ومثقف فارسي قال فيه: "أرني شيئا جديدا جاء به محمد، فلن تجد إلا ما هو شرير ولا إنساني، مثل أمره بنشر الدين، الذي كان يبشر به بحد السيف".
وفي المحاضرة أكد البابا على:
- رسوخ العنف في بنية الدين الإسلامي، من خلال إفادته بأن آية البقرة: {لا إكراه في الدين}، إنما نزلت في بداية الدعوة، حين لم يكن ل صلى الله عليه وسلم قوة ولا منعة.
- أن الإسلام يخلو من العقل، واستدل عليه بأن مشيئة الرب في العقيدة الإسلامية وإرادته ليست مرتبطة بمقولاتنا، ولا حتى بالعقل، وأن ابن حزم ذهب في تفسيره إلى حد القول بأن الله ليس لزاما عليه أن يتمسك حتى بكلمته، ولا شيء يلزمه أن يطلعنا على الحقيقة.
وحينما عرج على المسيحية سبغها بكل ما جرد الإسلام منه؛ بالسماحة والعقلانية، واستدل عليه بأول نص في الكتاب المقدس، في سفر التكوين: "في البدء كانت الكلمة"، فالرب يتحاور بالكلمة، والكلمة هي عقل وكلمة في نفس الوقت.
في نهاية كلمته دعا إلى المحاورة بين الحضارات، بالعقل والإيمان وبالكلمة؛ ليكون موافقا لطبيعة الرب.
ويلاحظ في كلمته هذا: محاولة الاستئثار المسيحي بالرب والعقل والتسامح معا، وتجريد الإسلام منها، فالمسيحية هي التي تعمل وفق إرادة وطبيعة الرب، ووفق العقل، والإسلام يعمل معارضا لطبيعة إرادة الرب والعقل؛ كونه يتخذ العنف والسيف طريقا للإقناع، ولأنه يلصق بالرب الاستعلاء المطلق، والمشيئة المطلقة، التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا ترتبط بمقولاتنا ولا العقل..؟!!.
إثر هذه المحاضرة انطلقت ردود الفعل - المعتادة !! - من المسلمين، تمثلت في التعبيرات التالية:
- غضب إسلامي عبرت عنه: دول، ومنظمات، وشخصيات، ومظاهرات جماهيرية.
- استنكار جهات إسلامية، ونصرانية شرقية خصوصا من هذا التصريح.
- مطالبة بالاعتذار العلني الصريح، وطلب توضيح موقف البابا من الإسلام.
- أن التصريح كان في سياق تبرير الحملات الصليبية الأخيرة على بلاد الإسلام.
- الرد على الإدعاء البابوي حول العنف واللاعقلانية المنسوبة إلى الإسلام، وذلك من طريق:
o نفي جهاد الطلب، وقصره على جهاد الدفع.
o رسم عقلانية الإسلام من خلال موقف الأشعرية في رفض إيمان المقلد، وإيجاب النظر. وموقف المعتزلة في إيجاب الأصلح على الله تعالى.
o بيان تسامح الإسلام مع الديانات بعد الفتح الإسلامي.
o فضح السلوك المسيحي في العالم؛ احتلالا، ونهبا، وتقتيلا، واضطهادا.
وقد كان الصوت الأعلى هو صوت المطالب بالاعتذار، الحاث على غضبة إسلامية كبرى، ومحاولة دفع التهمة عن الإسلام والمسلمين. والذين قاموا بالرد بالمثل؛ أي ببيان فضائح الاعتقاد والسلوك النصراني في العالم كانوا قليلين، وليست لهم من الشهرة كالتي للذين اكتفوا بطلب الاعتذار، دون نقد للمسيحية عقيدة أو تاريخا.!!.
* * *
الاعتذار ؟.
نعود إلى السؤال المشروع، فنقول:
يطلب الاعتذار في العادة من المخطئ، بقصد الحد من الآثار السلبية التي تنجم عن الخطأ، من رد فعل غير ملائم، يضر بالجانبين: المخطئ، والمخطئ عليه.
فالاعتذار ينزع فتيل أزمة تكاد أن تقع بسبب ذلك الخطأ.
والأزمة ورد الفعل يقع من شعور المخطئ عليه بالإهانة، التي لحقت به، فيسعى في رد الاعتبار، وإزالة التشويه، وذلك بتقرير المخطئ بخطئه، أو بطريق آخر هو الرد بالمثل. فإن لم ينجح لجأ إلى التصادم، ورد الاعتبار بالقوة، ومن هنا تتدخل أطراف أخرى لمنع مثل هذا التصادم.
وفي حالة تصريح البابا، فإنه تسبب في الطعن في الإسلام والمسلمين، وتشويه الصورة، وفتح بابا ، المفتوح أصلا - للتصادم بين الإسلام والمسيحية، أو المسلمين والمسيحيين.
وهنا نفهم لم تصدت كل هذه القوى الإسلامية للرد، إنهم يقصدون: رد الاعتبار، وإزالة التشويه الذي لحق بالإسلام والمسلمين، ومنع التصادم بين الحضارة الإسلامية والمسيحية. ولأجلها طالبوا بالاعتذار، فكان الاعتذار وسيلتهم الوحيدة - تقريبا - في تحصيل هذه المقاصد.(66/240)
لكن ألم يكن ثمة وسيلة أخرى لتحصيل هذه المقاصد ؟.
وبصورة أخرى: هل كانت وسيلة الاعتذار هي الوسيلة المثلى، التي لا تحمل معها أية آثار سلبية ؟.
في هذا التساؤل إثارة لمسألة سلبية الاعتذار، أو لنقل المحتوى الآخر للاعتذار غير ما ذكر، فإن للاعتذار وجها آخر غير تلك التي ذكرت في المقاصد، أغفلت، فلم يذكرها إلا القليل، وهي:
- أن على الطرفين ألا يبادرا بأي فعل فيه نقد وطعن تجاه الآخر، وهكذا يستطيع كل طرف أن يحاج الآخر، إن هو بادر بنقد أو طعن، بأنه خرج عن القاعدة والأصل، وعليه أن يعتذر.
وفي حالة تصريح البابا، فإن مطالبته بالاعتذار يحتوي ضمنا التعهد بعدم الطعن والنقد في المسيحية، فلا ينتقد المسلمون النصرانية، ولا يتكلمون في بطلانها، وتحريف كتابها، ومصادمتها للمعقول.
مع أن هذا النقد أمر من صميم دين الإسلام، وصميم الواجبات على المسلمين، لبيان الحق، والدعوة إليه، ودحض الباطل المبين، وعليه درج العلماء حينما ألفوا في بطلان النصرانية، كابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، ومن المعاصرين: رحمت الله الهندي، وأبو زهرة..
فهذا هو الأساس الذي بنيت عليه فكرة الاعتذار، سكوت كل طرف عن الآخر، من مبدأ التساوي، وبه يمكن للمسيحيين أن يكفوا، وأن يطالبوا المسلمين بالمثل. لكن إذا كان نهج الإسلام هو الرد ونقض النصرانية، واتهامها بمخالفة المعقول والمنقول، فإن ذلك يضعف موقف المطالبين بالاعتذار.
فهل كان هؤلاء مدركون لمثل هذه النتيجة، أم إنهم مستعدون للكف عن نقد النصرانية ؟.
إن كانوا غير مدركين، فعليهم أن يدركوا.
وإن كانوا مدركين، وهم مستعدون للكف وعدم الخوض في بطلان النصرانية، فتلك هي الداهية!!.
ويسأل عن سببها: هل هو إيمان بفكرة وحدة الأديان، أم شعور بالضعف ؟.
أما وحدة الأديان، فنبرؤهم منها، ونعيذهم، لكنا ذكرنا بها؛ لأن موقفهم ينسجم تماما مع فكرة وحدة الأديان، التي تقوم على اعتبار صحة جميع الأديان، وتساويها، ومن ثم فلا وجه لنقد أو طعن يوجه تجاه إحداها.
لكنه شعور بالضعف، يبدو، يحمل على السكوت أمام عدو نصراني كبير، يحمل معه كل أدوات التدمير، ويتحكم في مصير ملايين المسلمين. محاولة للإبقاء على المسلمين، نظرا إلى عدم تكافؤ القوى. وهذا هدف نبيل لا شك ..
غير أن المتابعة للأحداث تدل على: أن هذه الطريقة غير نافعة في تحصيل الهدف، بل ضارة، فإن على أهل الحق بيان الحق، وإن عذروا حينا، فلا يعذرون كل حين في السكوت على الباطل.
ومداراة المسيحيين ومحاباتهم، طلبا للسلامة وكف شرورهم، بهذه الطريقة لم تنجح، بل زادت شرهم، فمنذ عقود وبعض المسلمين في محاولة لمد جسور التواصل، والتقارب، والحوار، والتعايش.. إلخ، ولو بالسكوت عن نقد المسيحية، ودعوة المسيحيين للإسلام. لكن لم يظهر في الأفق المسيحي سوى العدوان الصريح، فهم الذين احتلوا: أفغانستان، والعراق، والشيشان، ودمروا البوسنة، وكوسوفا، ولبنان، وهم الداعمون لإسرائيل، وقد عبروا عن صليبيتهم في كلمة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن الأخيرة: "إنها حرب صليبية"، وموقفهم من الرسومات المسيئة للنبي واضح، فدول أوربية كثيرة حذت حذوا الدنمارك، آخرها النرويج قبل أيام، أعادت نشر الصور، ثم هذا البابا يخرج بمثل هذه التصريحات، مع أن الفاتيكان هي الراعية للحوار بين الحضارات.
فكل ما بذله هؤلاء المسلمون من الحوار، والتقارب، والتعايش، والذي حملهم على السكوت عن نقد النصرانية، لم يفد بشيء، بل زاد من هجمتهم ضد الإسلام، وصدق ربنا إذ يقول:
- {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم }.
فهذا موقف خاطئ من هذه المنظمات والشخصيات المطالبة بالاعتذار، خطأ واقعا، كما تقدم، وخطأ شرعا، فإن الشرع يأمر بقولة الحق، والصدع بها، لا عقد تحالفات لغض النظر عن فساد المعتقدات، والسكوت عن بيان الحق، مهما كانت الدعاوى، من ضعف أو عجز، فإنه إذا نظرنا في تاريخ الدعوة، فإن الدين كان ضعيفا، ثم مازال يقوى بالدعوة والبلاغ؛ ببيان محاسن الإسلام، ومساوئ ما سواه، ومن ذلك النصرانية، وعلى هذا درج القرآن. فإذا ما اتخذ مبدأ السكوت بداعي الضعف، فمتى يهدى الناس إلى الإسلام، ومتى ينتشر ويقوى، وقد علم أن قوته إنما تتحصل بالدعوة والبلاغ، التي تزيد من أتباعه المتمسكين به ؟!.
* * *
إن الموقف الصحيح في الرد على البابا، وكل تصريح من هذا النوع، هو:
الرد بالمثل، وفي التاريخ والدين النصراني من النقاط السوداء الكبيرة ما لا تعجز ناقدا، حتى لو كان عاميا؛ ببيان فساد المعتقد النصراني، ومعارضته للعقل، وللرحمة، وتأييد ذلك بالتاريخ المسيحي:
- فالتلثيث، والصلب، والفداء، والعشاء الرباني، عقائد مسيحية معارضة للعقل، كانت سببا في ردة طائفة من النصارى، ورفضها للمسيحية.
- وتاريخ الحروب الصليببية شاهد على دموية، وعنف، وإرهاب المسيحيين، منذ أيام الحاكم الروماني قسطنطين، ونيرون، واضطهاد الكاثوليك - حزب البابا- للآرذثوكس في مصر وغيرها، والآريوسيين، وما حدث في حقهم من مجازر أمر لا يخفى.(66/241)
- كما أن محاكم التفتيش في أسبانيا، والتي قتل فيها مئات الآلاف من المسلمين على الهوية الإسلامية، تركت ندبة سوداء في تاريخ أوربا المسيحية.
- ومثلها ما حدث من تطهير عرقي في البوسنة، وتحديدا في سربرنتشا، تحت سمع وبصر، بل وعون النيتو، والأمم المتحدة، ودول أوربا، وأمريكا، سفك الدم الحرام لما يزيد عن ثمانية آلاف مسلم، قتلوا بدم بارد، ودفنوا في مقابر جماعية، هذا عدى إجرام أمريكا الصليبية في أفغانستان، والعراق، حيث قتل مئات الآلاف.
فبعد كل هذا، ألا يستحي البابا من اتهام المسلمين بالعنف واللاعقلانية ؟!.
وألم يجد الذين غضبوا من تصريحه حلا لرد الاعتبار سوى المطالبة الاعتذار ؟!.
إن صفحة المسيحيين سوداء مخزية مليئة بالإجرام، كان يكفي هؤلاء المخلصين أن يسلطوا الضوء على إحداها، بدل المطالبة بالاعتذار. الاعتذار يعطيه قيمة، ويرسخ مفهوم التساوي والسكوت عن بيان الحق فيهم، وهذه هي الداهية ؟!.
كان عليهم بعده التعريج على محاسن الإسلام، وصنائعه المباركة في العالم وتاريخه أجمع، حتى شهد بعدله وبره وإحسانه وقسطه المنصفون من أتباع الديانات، من كاثوليك، وآرثوذكس.
إنها لفرصة تاريخية لإحياء الدعوة إلى الإسلام من جديد، في العالم كله، وفضح الدين المسيحي في عقيدته وتاريخيه، كان من الواجب استغلالها؛ بنشر المؤلفات الميسرة للذكر والفهم، بكافة اللغات، وبالبرامج والمحاضرات والندوات الفضائية المكثفة، على نطاق شامل وواسع؛ لتكون تصريحات البابا أداة وصولها إلى الإسماع في الأصقاع.
لكن وبدلا من ذلك، اتجه الحل إلى المطالبة بالاعتذار، واستنفد هؤلاء المخلصون جهدهم ورأيهم وكلمتهم فيه، مع تمنع وتمتع نصراني بهذا الإلحاح، ثم لم يخرجوا من البابا بشيء يذكر، ففي كل مرة يخرج فيها، يربت على أكتاف الغاضبين، يهدئ من روعهم، ويقول لهم كمعلم: هذه الحقيقة، فاسمعوها، ولو غضبتم.. فنحن نعمل على ترشيدكم، وترقيتكم إلى ما هو أسمى. !!..
هذا هو معنى أسفه من سوء فهم المسلمين كلامه، وعدم اعتذاره..
لدينا خلل في التعاطي مع المخالفين، بين من لا يرى إلا السيف معهم، حلا وحيدا، وبين من لا يرى سوى التقارب والكف حتى عن بيان الحق فيهم، تحت ذرائع شتى.
لكن أين من يقول لهم: نحن لا نتعدي عليكم، لكن دينكم باطل.. نحن لا نظلمكم، لكنكم ضالون.. نحن نحب لكم الخير، فتعالوا إلى الإسلام.. أنتم في شقاء، فتعالوا إلى الراحة والنعيم.. أنتم في ضيق وظلمة.. فتعالوا إلى السعة والنور.. وصدق الله تعالى إذ يقول:
- {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.
================(66/242)
(66/243)
حتى لا تضيع الحقيقة
لفضيلة الشيخ د. عوض بن محمد القرني
( 3 / 8 / 1422هـ )
في غمرة الأحداث الجارية اضطربت كثير من العقول وتاهت كثير من البصائر واختلط في كثير من المفاهيم الحق بالباطل واستغفل الناس إلى درجة كأن وسائل الإعلام لم تتخاطب مع أناس ذوي عقول ومدارك ، ونال من الإسلام وأصوله كل من هب ودب ، وأصبح الكثير من العرب والمسلمين أمام أنفسهم قبل غيرهم محل التهمة والشبهة .
وكل هذا ما كان ليحدث مهما كان ضخامة الأحداث وأعاصير الفتن لولا أن الكليات العاصمة والأصول المنقذة في ديننا وعقيدتنا غابت عن حياة وفكر الكثير منا عند تحليل الأحداث والتعامل مع النوازل .
ثم أمر آخر يعجب الإنسان كيف غاب عن عقول الكثيرين من أهل الفكر والعلم ورجال الإعلام وهو المناقشة العقلية والمنطقية لكثير مما يجري من أحداث .
وثالثة الأثافي هو التقصير المريع في الدفاع عن هذا البلد الذي أصبح مستهدفاً في نظامه ودينه وشريعته واقتصاده وشعبه بصور شتى مما يفرض على كل غيور صادق أن يسهم في رد هذه الهجمة الظالمة بالحقائق المستندة إلى الحق .
ولكل هذا وحتى لا تضيع الحقائق في غبار وظلمات الأباطيل وتهريج الأعداء وتخرصات المرجفين الضعفاء كان هذا الإسهام من خلال المحاور الآتية :
( :: ) أصول حذار من نسيانها :
إن الإسلام دين ودنيا باعتباره وحياً من الله سبحانه وتعالى أثمر الاهتداء به في الممارسة الإنسانية حضارة تاريخاً وتجربة حية للعديد من الأمم والشعوب استقر لديه العديد من الأصول الكلية الجامعة في العلاقة بين المسلمين وغيرهم المستنبطة من وحي الله والتي رسختها أثبتتها التجارب الحية عبر أكثر من ألف وأربعمائة سنة ولا ينبغي لنا أن نتنصل من ديننا ومبادئنا وقيمنا لتهديد من الآخر أو لشدة من البلاء والفتن ومن هذه الأصول :
1 ـ إن التدافع بين الحق والباطل من سنن الحياة اللازمة لها التي فطرها الله عليها لا لأن المسلمين عشاق حرب ودماء ودمار بل لأن الآخرين لا يرضون ولا يسلمون بوجود للمسلمين يعبر عن ذاته ويحتكم إلى قناعاته في الالتزام بدين وشريعته ومن هنا فإن عداوة الكفار للمؤمنين حقيقة لا تحتمل التساؤل إلا حينما حين يكون كتاب الله لدينا محل شك والعياذ بالله قال تعالى : {{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثير .. }} ((الحج40)) وقال تعالى : {{ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم }} ((البقرة120)) وقال تعالى : {{ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا .. }} ((البقرة217)) . والواقع التاريخي يؤكد ويشهد لهذا الخبر الإلهي الحق من فجر الإسلام إلى اليوم ومروراً بالحروب الصليبية والإبادة التي تعرض لها المسلمون في الأندلس وانتهاء بالغزو الاستعماري الحديث وما تلاه وما يتلوه من أنهار الدماء وجبال الجماجم والأشلاء وآلاف حالات الاغتصاب في البوسنة وكوسوفا والشيشان وفلسطين وكشمير والفلبين وبورما وغيرها وحتى في بعض الجزر الإندونيسية ولئن كانت دواعي وأعراف الدبلوماسية والسياسية تلطف عبارات الشكوى والألم فإن ذاكرة الشعوب المسلمة لازالت تتذكر كلّ ذلك ولا يعني إيمان المسلم بهذا التدافع بين الحق والباطل والعداوة بين المسلمين والكفار أن نتعامل معهم أو أن نظلمهم أو ننكر حقوقهم التي جعلها الله لهم لأن الوحي الذي اخبر أن من لوازم الحياة عداوتهم لنا جعل من الأحكام التي نتعامل بها مع غيرنا ما ينظم العلاقة بين المسلم وغير المسلم والالتزام بها ديناً لا خيار لنا في العمل به أو تركه ما دمن مسلمين .
لكن المشكلة في التاريخ كله تأتى من الطرف الآخر من نقض للعهود وانتهاك للأعراض وإبادة للشعوب وإكراه على ترك الدين واعتناق غيره وتدمير للمساجد وإن أردت أن ترى الفرق بين الإسلام والغرب شاخصاً أمام ناظريك فقارن حال البلاد الإسلامية التي مازال النصارى فيها منذ ألف وأربعمائة سنة لم تهدم لهم كنيسة ولم ينلهم مكروه مع الأندلس وغيرها من البلاد التي سيطر عليها النصارى وهل بقي فيها للإسلام ذكرى حتى بداية هذا القرن وقارن ما فعله الصليبيون بالمسلمين عندما دخلوا القدس مع ما فعله صلاح الدين بالنصارى عندما استعاد الأرض المقدسة وخذ أفعال النصارى في البوسنة وفي الشيشان في هذه السنين دليلاً آخر على صحة ما نقول .
وليس هذا النهج الغربي مع المسلمين فقط ، بل مع جميع الشعوب الأخرى ؛ فقد استأصل الغربيون الهنود الحمر من الأمريكتين وقضوا على تراث وحضارة الأستراليين والنيوزلنديين بالحديد والنار واستعبدوا الشعوب الأفريقية وغيرها ولم يتغير الوضع نسبياً إلا في العصر الحديث بعد أن فقدت الكنيسة سلطانها على الغربيين وأصبح نهجهم الحياتي في الجملة ليبرالياً ديقراطياً علمانياً .(66/244)
وإن كانت الذاكرة الاجتماعية الصليبية والعنصرية الغربية لا زالت الموجهة للكثير من تصرفات ومواقف المجتمعات الغربية حتى على مستوى النخب السياسية والفكرية ؛ وما مقولات ((نهاية التاريخ)) وصدام الحضارات وإعلان بوش أنها حرب صليبية والدعم الغربي غير المتحفظ وبلا حدود للنبتة الخبيثة ((إسرائيل)) إلا أدلة حية على ما نقول ولن تفيدنا الافتراضات الوهمية المثالية والأماني والأحلام الخيالية في السلام وانعدام الصراع من الحياة شيئاً في عالم الواقع والحقيقة .
فلم تشهد البشرية من الحروب والإبادة مثلما شهدت في ظل سيادة النموذج الغربي عالمياً مع قيام عصبة الأمم المتحدة ومجلس الأمن وغيرها .
صحيح أن القوى من الناحية المادية غير متكافئة وأن الظروف في الجملة غير مواتية . لكن لا يعني هذا أننا لا نمتلك أي عنصر من عناصر القوة بل لدينا الكثير فنحن أمة قدرها أن لا تموت وتندثر وإن ضعفت أو اعترتها الأمراض ؛ بل إنها أشد ما تنتفض شباباً وقوة وحيوية ونهوضاً وتجديداً أشد ما تكون الابتلاءات والمحن التي تتعرض لها وتصيبها . وان الأنظمة والحكومات في العالم الإسلامي حين تقف مواقف الرجولة والشجاعة لا التهور والطيش فستجد من شعوبها من التضحيات والفداء والعطاء ما لا يوجد في أمة أخرى . ولا يفهم جاهل أو متجاهل أن هذا القول يستدعي منع قائله من إقامة العلاقات مع الكفار والوفاء بالعهود والتعامل معهم والاستفادة مما لديهم والتحاور معهم ودعوتهم لكن ما سماه علماؤنا ((الولاء والبراء)) هو السياج الذي يسمح للمسلم بأن يعيش حياته مع الناس أخذاً وعطاءاً من غير تبعية ولا ذل ولا مهانة ولا تنازل ولا مساومة على ديننا ولا حقوقنا ولا كرامتنا ولا قيمنا . وان في التاريخ لعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ؛ فملوك الطوائف في الأندلس وأمراء الأقاليم في بلاد الشام أيام الغزو الصليبي لم ينفعهم ولم يشفع لهم إعطاء الدنية في دينهم وأمتهم وانتهوا على أيدي من ركنوا إليهم من الكفار اسوأ نهاية وما زالوا لكل من يقلب صفحات التاريخ مثل السوء وقاع الاحتقار والخسة لدى أمتهم وأجيالها المتلاحقة .
2 ـ أن العاقبة والنصر والتمكين ستكون لدين الله الذي تكفل الله بحفظه {{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }} ((الحجر9)) وإن المواجهة بين الحق والباطل محسومة في آخر المر لصالح الحق وأهله والذي تمثله بلا شك الرسالة الخاتمة ـ الإسلام ـ قال تعالى : {{ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد }} ((غافر51)) .
وهذه الحقيقة الراسخة في وجدان المسلم جزء من عقيدته والوعد بها من الله سبحانه وتعالى في كتابه ووعده لا يتخلف ولذلك فإن المؤمن يعتقد أن ما قد يصيب المؤمنين من ابتلاءات ونكبات إنما هو نوع من التأديب لهم لتقصيرهم في تأهلهم بالاستجابة لأمر الله والالتزام بدينه ليستحقوا نصر الله وانه كذلك وسيلة ربانية لتمحيص المؤمنين وزيادة تأهلهم لتحمل تبعات التمكين في الأرض وليظهر للناس بغي أهل الباطل وظلمهم للمؤمنين وأنهم لا يرقبون فيهم إلاً ولا ذمة ولا يعرفون عدلاً ولا إنصافاً وإنما هو التجبر والاستكبار في الأرض بغير الحق ثم يكون بعد الصبر والمصابرة والمثابرة والثبات على الحق والاحتساب لما يصيب المؤمنين نصر الله لعباده كما قال تعالى : {{ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم الوارثين }} ((القصص5)) وقال تعالى : {{ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }} ((السجدة24)) وهذا اليقين بنصر الله للمؤمنين يورثهم قوة وعزة وثباتاً واطمئناناً ومعنويات عالية في مواجهة الأحداث والنوازل والمصائب وبصيرة في فهم كثير من الأحداث وتحليل كثير من المواقف .
وأحداث التاريخ تؤكد هذه الحقيقة في عالم الواقع فما من مواجهة تمت بين الكفر والإيمان وكان جند الإيمان متأهلين إيمانياً وعقدياً ودينياً وباذلين لإمكاناتهم وجهدهم في نصرة دينهم إلا كتب الله لهم النصر مهما قل عددهم وعدتهم من الناحية المادية بالنسبة لما لدى عدوهم وبالتالي فإن الصراع بين الحق والباطل لا يحسم بناءا على الحسابات المادية فقط بل إن في هذه المواجهة بالذات حسابات أخرى لا يفهمها ولا يدركها ولا يعول عليها إلا من كان من أولياء الله الصادقين الذين نور الله قلوبهم بالإيمان وعقولهم بالعلم وزكى جوارحهم بالعمل الصالح المبرور وهذا المفهوم هو الذي جعل خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو يواجه مائتين وأربعين ألفاً من الروم في اليرموك بأربعين ألفا من المسلمين يقول لمن قال له ما أكثر الروم : بل ما أقل الروم إنما يكثر القوم بنصر الله ويقلون بخذلانه قال تعالى : {{ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم كم بعده }} ((آل عمران 160)) .(66/245)
3 ـ إن تغير واقع الأمة لتنهض من كبوتها وتستيقظ من غفلتها وتستدرك ما فاتها وتقوم بدورها في الأرض أمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر ومقيمة لموازين العدل والقسط بين الأمم ومانعة للفساد والإفساد والظلم الذي عم الأرض في ظل مدنية الإلحاد والمادية إن كل ذلك بدايته تغيير النفوس المؤمنة من الجمود إلى المرونة ومن السلبية إلى الإيجابية ومن الانغلاق إلى الانفتاح ومن عبادة الدنيا إلى عبادة الله والتجرد لطاعته ومن البدعة إلى السنة ومن الضلال محض الإيمان والهدى ومن الجهل إلى العلم وقل ما شئت من المعاني والأمراض التي نخرت في قلوب المسلمين وعقولهم فحولتهم إلى كائن كلٌ أينما توجهه لا يأتي بخير .
إن بداية الحركات الإنسانية التي تحدث تحولات جذرية في مسيرة التاريخ الإنساني تبدأ ولا شك بتغيير حقيقي جذري في النفوس في العبادات والشعائر وفي النظم والشرائع ولا يكفي التغيير الشكلي القشوري! إن التغيير المطلوب هنا ينبغي أن يعود بنا للنبع الصافي: الكتاب والسنة مع استيعاب وتوظيف جميع منجزات العلم والعقل والحضارة الإنسانية لخدمة ذلك التغيير وتوسيع مداه وجعله رحمة للناس وتقدماً وتطوراً لا شقاء ولا بلاء فما جاء دين الله إلا رحمة للعالمين يعلمهم ويزكيهم ويسمو بهم إلى أعلا درجات الإنسانية الممكنة ، قال تعالى : {{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }} ((الرعد11)) .
4 ـ من سنن الله التي انبأ بها عباده في كتابه أنه إذا تخلت فئة من الأمة عن حمل رسالة الإسلام والبذل في سبيلها ورضيت لنفسها الهوان والدونية وزهدت في شرف القيام بدور الهداية للعالمين والشهود على البشر بالحق والعدل فإن الله يستبدل قوماً غيرهم يكون لديهم الاستعداد للتأهل لحمل تلك الرسالة الخالدة والظهور بها والإسهام في قيادة ركب البشرية نحو الرقي والتقدم في إطار الإيمان والتوحيد وقيمه الخلقية الخالدة قال تعالى : {{ وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم }} ((محمد 38)) .
وبهذا فإن دين الله محفوظ لا يخشى عليه الزوال ولا على رسالته الاندثار أمر يقيني ، فالفئة التي تربط مصيرها المحتمل للحفظ والضياع بمصير الدين المحفوظ يقيناً فقد ضمنت وجودها حية باقية مؤثرة الوجود الاجتماعي والحضاري الفاعل لا الوجود الحياتي الحيواني الاستهلاكي الكل العبء على سواه قال تعالى : {{ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لا ئم }} ((المائدة 54)) .
ومن يتأمل تاريخ الإسلام يجد أن هذا الدين كان محفوظاً منتصراً عالياً كلما قصرت أمة في حمله بعث الله أمة جديدة تتشرف بحمله والجهاد في سبيله فتنال بذلك عز وسعادة الدنيا فضلاً عما ادخره الله لها في الآخرة .
5 ـ من لوازم كل ما سبق وضروراته أن تكون ولاية المؤمن لإخوانه المؤمنين فيحبهم وينصرهم وينصح لهم وأن يتبرأ من الكفر أهله ويبغضهم لكفرهم فيتولى المؤمنين ويبرأ إلى الله من الكافرين والأدلة على ذلك كثيرة جداً قال تعالى : {{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وأبناءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون }} ((التوبة 23)) وقال تعالى : {{ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين }} ((التوبة 24)) وقال تعالى : {{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة .. ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل }} وقال تعالى : {{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين }} ((المائدة 51)) .
ومرة أخرى نؤكد أن البراءة من الكفر وأهله لا تعني أبداً ظلمهم أو الاعتداء على حقوقهم وحرمانهم بل إن الإسلام كفل لهم من الحقوق والرعاية إن كانوا من رعايا الدولة المسلمة مثلما للمسلمين إلا في أمور محدودة لا يمكن أن تقوم لدولة الإسلام قائمة إلا بمراعاة هذه الأمور إذ أن تطبيق الإسلام وحفظه وحمايته لا يمكن أن يسند إلى غير المؤمنين به وكل عاقل لا يجادل في هذا ولا ينكره .
لكن كما أن الإسلام يفرض على أتباعه العدل والإنصاف وعدم الظلم لغير المسلمين فإنه يحرم على المسلم أن يدخل تحت ولايتهم أو ينصرهم على إخوانه المسلمين ويجعل ذلك من كبائر الذنوب التي قد تخرج من وقع فيها من الإسلام ما لم يكن مكرهاً أو جاهلاً أو متأولاً .
(( :: )) مناقشة هادئة للأحداث :(66/246)
لقد ابتدأت الأحداث بالتفجيرات المروعة التي وقعت في أمريكا وتحول العالم إلى هرج ومرج وكأنما فقد الناس عقولهم فلا منطق ولا عقل ولا تفكير وإنما تهم وتهديد ووعيد والجميع مذهولون قد فوجئوا بما حدث وسلموا بكل ما قيل والحديث عن هذه القضية طويل كثير التشعبات ولكنني سأختصره في النقاط التالية :
1 ـ إن الكثير من علماء المسلمين فضلاً عن زعمائهم وحكامهم بادروا إلى استنكار الحدث إما لعدم مشروعيته أصلاً في نظر البعض وإما لما يترتب عليه من مفاسد ومضار للمسلمين في نظر آخرين وإما لدفع قالة السوء ومنع تشويه صورة الإسلام عند غير المسلمين وإن كان جمهور وعوام المسلمين في كل مكان ابتهجوا وتشفوا في رد فعل عفوي تجاه أمريكا وما يلقاه منها المسلمون في كل مكان وبالذات في فلسطين على يد ابن أمريكا المدلل ((إسرائيل)) وإني لا أظن أن هذا الشعور العفوي كان أيضاً لدى الكثير من السياسيين والعلماء والمفكرين لكن حساباتهم السياسية وموازناتهم العملية هي التي جعلتهم يعلنون مواقف غير هذا .
2 ـ بادرت أمريكا وعلى لسان أكابر مسؤوليها وخلال ساعات من وقوع الحدث إلى اتهام أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة وحركة طالبان وشعب أفغانستان بالعملية والإرهاب عموماً دون انتظار لنتائج التحقيق ولا تقديم لأي دليل ، أخذت آلة الإعلام الهائلة تدير معركة فاجرة ضد الإسلام وحضارته وتاريخه وشارك في ذلك الكثير من مفكري الغرب بل وبعض السياسيين وأعلن بوش الحرب الصليبية الجديدة وبدأت المضايقات بل والاعتداءات على المسلمين في أمريكا والغرب عموماً وبدأت الاعتقالات والاستدعاءات للكثير من المسلمين في أمريكا ، ولم ينج أو يسلم من ذلك حتى أساتذة جامعة هارفرد من المسلمين ، وحتى هذه الساعة لم تقدم أمريكا دليلاً واحداً قطعياً يثبت دعواها بل ظنياً .
وبدلاً من ذلك ابتزت العالم كله بالتهديد والوعيد وأعلنت أن من لم يكن معها فهو مع الإرهاب وأعلنت أن من حقها ضرب أي دولة أو جماعة في أي مكان ودون إبداء أي أدلة وأصبح المنطق السائد هو منطق فرعون (( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد )) .
ويتساءل الناس أين أدلة عدالة الغرب المزعومة ، أين المبدأ القانوني الشهير الذي يقول : (( إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته )) .
وإن الناس ليعجبون أين كانت الهبة العالمية والحمية الأمريكية عندما قتل مئات الآلاف في البوسنة والشيشان وغيرها .
وأين حتى الاستنكار أو الشجب لما يجري في فلسطين من قتل للأطفال والنساء وتهديم للبيوت وجرف للمزارع وقتل لشعب كامل بالحصار والجوع واستخدام الرصاص المشع ضده ، بل لماذا هناك يدعم ويؤيد الإرهاب اليهودي من قبل أمريكا ويلام الضحية الفلسطيني الذي لا يستسلم لقاتله ليتم القتل بدون أي إزعاج للقاتل أو جرح لمشاعره ، حتى إلقاء الحجارة على الدبابات والطائرات ذات المواصفات الأمريكية الفائقة أصبح عملاً إرهابياً في نظر أمريكا!
3 ـ إن كلمة الإرهاب هذه المفردة التي دخلت كل لغة هذه الأيام اختلطت مفاهيم الناس عنها بين القليل من الحقائق والكثير من المغالطات ، وإن أمريكا التي تطالب العالم بالوقوف معها بدون أي نقاش لم تكلف نفسها عناء أن تدعوا لمؤتمر يبحث في تحيد معنى الإرهاب والفرق بينه وبين الدفاع المشروع عن النفس وعن الأوطان والأديان والمقدسات ، إن الكيل بمكيالين والتعامل مع حوادث الإرهاب بازدواجية المعايير وفرض ذلك على العالم بالقوة لن يولد إلا مزيداً من ردود الفعل الأسوأ وإن الشعوب المقهورة والمسلوبة حقوقها والتي ترى مقدساتها تنتهك وكرامتها تداس لم يبق لديها ما تسعى للحفاظ عليه في الحياة وإن أمريكا تخطئ خطأ فادحاً حين تظن أنها ببوارجها وجبروتها ستقتلع من قلوب الناس السعي للموت حين يقتنعون بأنه الطريق الوحيد الباقي أمامهم للخلود في الجنة حين لم يتمكنوا من تحقيق طموحاتهم في الدنيا في العيش أحرارا من وجهة نظرهم وهم يعتقدون أن أمريكا هي السبب في كل مصائبهم ومصائب شعوبهم .
بماذا ستفسر الشعوب الإسلامية ما قاله وزير الخارجية الأمريكي في أول مؤتمر صحفي بعد أحداث 11 سبتمبر حين سئل من أحد الصحفيين هل تعتقد أن دعم أمريكا لإسرائيل سبب فيما حدث ؟
فكانت إجابته : بلا شك أن دعم أمريكا لإسرائيل أحدد الأسباب لما حدث لكنني أؤكد لكم أننا سنستمر في دعم إسرائيل لتبقى القوى في المنطقة ولن نتوقف عن ذلك أبداً!!
إن المعالجة الحقيقية للإرهاب في اجتثاث أسبابه الحقيقية التي نبت في تربتها وسقته بمائها وليس المقام مقام تفصيل فيها وما أظن أمريكا تجهل الأسباب لكن غرور القوة يعمي ويصم حتى أن الإنسان حين يمتلك القوة يظن أنها الحل الوحيد لكل مشكلة ويتجاهل ما عداها من حلول وإن كانت هي الحلول الحقيقية .(66/247)
4 ـ ماذا يا ترى سيقول القانون الدولي لو كان المطلوبون في هذه الأحداث يقيمون في أمريكا وتطالب بهم دولة أخرى دون أن يكون بينها وبين أمريكا أي اتفاقات لتبادل المطلوبين ماذا كان سيكون موقف أمريكا بل والعالم الذي يصفق لأمريكا وهي تذبح الشعب الأفغاني وتقتل في قراه ومدنه المئات والسبب أن الصواريخ والقذائف (الذكية) اخطأت هدفها فقط .
فكيف إذا أضيف إلى ذلك أن الدولة التي يقيم فيها هؤلاء المطلوبون وهي هنا أفغانستان تصرخ قدموا لنا أي دليل ويحاكمون في دولة إسلامية أخرى . ولكن المنطق السائد هو منطق القوة والجبروت لا منطق العقل والقانون والإقناع .
ثم كما أن أمريكا تحترم دستورها وقانونها ولا يمكن أن تخالفه تحت أي ظرف ومن أجل سواد عيون أي دولة فإن الشريعة الإسلامية التي تقول أفغانستان أنها دستورها وقانونها تحرم عليها أن تسلم أي مسلم ليحاكم أمام قانون وضعي ، فلم لا ترضى أمريكا أن يحاكم هؤلاء أمام محكمة شرعية في أفغانستان وترسل مدعيا ينوب عنها أولى من إرسال صورايخ توماهوك وطائرات ب 52 .
5 ـ توالت الأحداث سريعاً وظهر أن أمريكا مصممة على ضرب أفغانستان بل صرح بوش ورامسفيلد صراحة بأنه حتى لو قامت أفغانستان بتسليم بن لادن فإن ذلك لن يحول دون ضرب أفغانستان وكأن القرار قد اتخذ ولابد من تنفيذه وكما يقال في المثال الشعبي: عنز ولو طارت .
ولئن كان المسلمون في الأعم الغالب أعلنوا رسمياً ما بين حكومات وعلماء استنكارهم لما حدث في أمريكا فإنهم أيضاً وبصورة أقوى سيقفون صفاً واحداً في وجه الهجمة الوحشية الأمريكية على أفغانستان التي أوقعت مئات القتلى من المسلمين المستضعفين ومن الشيوخ والنساء والأطفال وقد عدّ علماء الإسلام من نواقض الإسلام إعانة الكافر على المسلمين .
ولا شك أن أمريكا ورطت نفسها واستعدت للمسلمين ووسعت دائرة الفتنة ولم تتعامل مع الحدث بحكمة .
6 ـ وأخيراً هل يطمع المسلمون في أن يعامل الإرهابيون من اليهود والنصارى الذين اعترفوا وافتخروا بإرهابهم وما فعلوه بالمسلمين ببعض ما يعامل به الأفغان الآن ؟
أين شارون صاحب صبرا وشاتيلا؟ أين كارادتش صاحب فضائح البوسنة والهرسك؟ أين يلتسين المشرف على مجازر الشيشان وغيرهم الكثير؟
أم أن القضية كانت جاهزة ومعدة لإشعال شرارة الحرب الصليبية في صدام الحضارات لكي نصل إلى نهاية التاريخ وكانت تنتظر فقط المبرر المناسب لإخراجها!
( :: ) ماذا يراد بأرض الجزيرة ومهبط الوحي ومعقل الإسلام :
إن المتأمل في ما يقال ويكتب في الإعلام الغربي وعلى ألسنة الكثير من مسؤوليه زخبرائه ليلمح ويستشف من وراء ذلك تحاك ويعقد لواؤها ضد المسلمين في كل مكان وبالذات ضد أرض الحرمين: ديناً ومجتمعاً ونظاماً وحكومة وثروة وإني لأرجو أن أكون مخطئاً في ذلك لكن بذل النصح وبيان الرأي لن نخسر منه شيئاً بإذن الله .
وسيكون الحديث في هذا المحور في النقاط الآتية :
1 ـ إن هذا البلد مستهدف من قبل هذه الأحداث لإسلاميته تاريخاً وواقعاً وهذا الاستهداف يظهر جلياً في الإعلام الغربي وفي دعاوى منظمات حقوق الإنسان وهجومها على تطبيق شريعة الله والآن زاد مع ذلك تصريحات الكثير من المسؤولين الغربيين من الدرجة الثالثة وما دونها وفي تحليلات الخبراء ومراكز البحوث والدراسات التي تصر على أن هذا البلد هو مصدر الإرهاب بسبب تمسكه بالإسلام وحفاظه على القرآن وقيام وحدته السياسية على الشريعة الإسلامية والمطالبة صراحة في بعض وسائل الإعلام بضرب المملكة والسعي لإحداث تغيير فيها ومع الأسف أن نجد من أبناء المسلمين بل أحياناً أبناء البلد من يتبنى هذه الحملات الظالمة ويرددها في مقولاته ويزعم أن مناهجنا أو الوهابية كما يزعمون هي المسؤولة عن تفريخ الإرهاب .
2 ـ وجوب تلاحم جميع المسلمين في هذا البلد للوقوف في وجه هذا الاستهداف الظالم واتخاذ جميع الوسائل المشروعة لبيان حقيقة الدور الريادي لهذا البلد الكريم في احتضان قضايا المسلمين وإغاثة المنكوبين في كل مكان في الدنيا وأن أبناء هذا البلد حكومة وشعباً في خندق واحد للدفاع عن الإسلام وعدم السماح بالمساس به ورفض التشكيك في مبادئه الربانية السامية وأن الهيئات الإغاثية الإسلامية كالرابطة والندوة العالمية هي بعض مظاهر التعبير عن الوجه المشرق لهذا البلد الذي وصلت مساعداته وجهود أبنائه إلى مشارق الأرض ومغاربها تمسح الدموع وتواسي المعوزين وتغيث المنكوبين ، إننا في حاجة إلى إخراج الأرقام وذكر الإحصائيات التي ترد على كل من مشكك وتلجم كل بوق يردد ما لا يعي ويزعم أنه لا يوجد لدينا إلا البترول والإرهاب .(66/248)
إن في تصريحات المسؤولين الشجاعة المشكورة التي بينت أن الإسلام ليس محل اتهام وأن التمسك به لن يكون أبداً محل مساومة مهما كانت الظروف وإن ضرب الشعب الأفغاني غير مقبول وإن مبرر ذلك تحت لافتة حرب الإرهاب أقول إن في هذا الموقف النبيل ما يستحق الدعم والمساندة والاحتذاء والاقتداء به في رد الباطل وإن كانت وراءه أمريكا وإن من الأمثلة المضيئة المشكورة في هذا الباب تصريحات سمو الأمير نايف بن عبد العزيز التي تصدر من رجل يمتلك الرؤية القائمة على توفر المعلومات والاطلاع على حقائق الأمور إلى حد كبير فله من المسلمين الشكر والدعاء بالثبات والأجر .
3 ـ قيام الدعاة والمفكرين والكتاب والخطباء بتأصيل المنهج الشرعي الوسطي المعتدل القائم على الفهم الحق للكتاب والسنة وتوعية الناس بذلك بعيداً عن غلوا الغلاة وتميع المنهزمين لأن ذلك أولاً هو واجبنا الشرعي ولأنه ثانياً صمام الأمان لحفظ مسيرة مجتمعنا ووحدته وهديه وتميزه . ولنتفق أن الأفهام الخاطئة تعالج بالإقناع والعلم الشرعي وضوابطه .
وأخيراً فإني لعلى قناعة تامة أرجو أن يوافقني عليها الآخرون أن أي اضطراب واختلاف في هذا البلد وفي هذه الظروف سيكون لا قدر الله كارثة على المسلمين وفي كل مكان ولا يفوقها في سوء العاقبة والعياذ بالله إلا التخلي عن الإسلام وبيعه في أسواق السياسة العالمية التي يمارس دور النخاسة فيها اليهود المجرمون وينفذ مخططاتهم الصليبيون المغفلون .
وتبقى بإذن الله أرض الحرمين موئل الهدى بإذن الله وعصمة الناس في وجه كل بلاء وفتنة وأهلها المسارعون إلى كل مكرمة في نصرة الإسلام والوقوف مع أهله وقضاياهم والتحاور مع العالم كله بالحكمة والهدى .
وأخيراً فلابد من اللجوء إلى الله والتوكل عليه والإلحاح في الدعاء أن يرفع عن المسلمين هذه المحنة ومن يتوكل على الله فهو حسبه والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..
000000000000000
() أستاذ جامعي سابق ومفكر إسلامي سعودي
===============(66/249)
(66/250)
أمة في خطر مداخلة عن مناهج التعليم في الوطن العربي
سالم مبارك الفلق
لا يخفى على المتتبع لمسيرة التعليم في الدول المتقدمة جهود الولايات المتحدة الأمريكية في تطوير محتوى وطرق وأساليب تدريس كل من العلوم والرياضيات منذ أن فوجئت في العام 1957م بإطلاق القمر الاصطناعي سبوتنيك Sputnik من قبل الاتحاد السوفيتي. ومنذ ذلك العهد خضعت مناهج الرياضيات في الولايات المتحدة الأمريكية لعدد من التغيرات و الاجتهادات بغرض التطوير ورفع أداء الطلاب في هذه المادة. ويمكن تقسيم فترات التغيير إلى فترات الستينات ثم السبعينات ثم الثمانينات التي ظهرت الدعوة فيها قوية للتطوير, ففي هذه الفترة ظهر تقرير "أمة في خطر"(a nation at r isk)عام 1983 ، أهم وثيقة عن التعليم في أمريكا خلال العقود الماضية. الذي يؤكد أن مشكلات الأمة الأمريكية في التعليم ترجع بالدرجة الأولى إلى انخفاض المستويات الأكاديمية للطلاب، وإلى تدني نوعية التعليم وأشار أيضا بأصابع الاتهام للمعلم نفسه. وواكبه عدد من التقارير في مجال الرياضيات مثلAgenda fo r Action تلاها تقرير Eve r ybody Counts ثم وثيقة معايير منهج وتقويم الرياضيات المدرسيةStanda r ds fo r Cu r riculum and Evaluation fo r School Mathematics , وهذه الوثيقة الأخيرة كان لها الأثر البالغ على تطوير تدريس الرياضيات في مدارس التعليم العام في الولايات المتحدة . وظلت اللجنة التي أصدرت تقرير "أمة في خطر" منعقدة حتى نهاية القرن العشرين ذلك التقرير مهد أيضا لظهور الخطوة التي رسمها الرئيس بوش عام1990بعنوان أمريكا عام 2000 استراتيجية للتعليم المتضمنة الكثير من اتجاهات الإصلاح التي نادى بها تقرير 1983.
ومنذ أربع سنوات اكتشفت الولايات المتحدة أن نظام التعليم في اليابان وكوريا الجنوبية يتفوق على نظام التعليم عندها؛ فأقامت الوزارة مؤتمراً دُعي إليه كبار رجال الدولة والمؤثرون في المجتمع تحت عنوان "أمة في خطر"؛ وذلك لأنه إذا كان خريجو الجامعات من هذين البلدين سيتفوقون على خريجي الجامعات في أمريكا؛ فإنها ستكون في خطر بعد عشر سنوات أو عشرين سنة. وعزته إلى قصور نسبي في نظامها التعليمي، فأجرت الإصلاحات اللازمة. كما أن الأوروبيين أيضا يجرون تعديلات على نظامهم التعليمي (مثلاً برنامج أوريكا). جدير بالذكر أن التعليم يحتل قائمة أجندة اليونسكو، ويشغل اهتمام صانعي السياسة في كل دول العالم .
في نفس التوقيت أقامت إحدى الدول النامية مؤتمرًا عن التعلم في بلادها، وعلى الرغم من المشاكل الهائلة في هذه الدولة التي تتعلق بالمناهج والمدارس والطالب والجو العام للعملية التعليمية وعدم الاعتناء بالنابغين وغير ذلك من العوامل المتداخلة ــــ فإن عنوان المؤتمر كان "أمة لها مستقبل"... فإذا كان حال الأمم المتقدمة تجاه منظومتها التعليمية بهذا القدر من التخوف على نوعيتها ومدى ملاءمتها باعتبارها أهم المشاكل التي تواجه كيانها وتهدد وجودها ؛ فإن البلدان العربية أحوج ما تكون إلى مثل هذه المراجعة المستندة إلى التحليل الاقتصادي وإلى قيم اكتساب المعرفة في التطور الإنساني. إن الفارق الأساسي بين البلدين هو الفارق بين النظرتين على هذا المستوى؛ الفارق بين من يخاف من مشكلة قد تحدث بعد عدة سنوات؛ فيعد لها العدة ومن يغفل عن مشكلة تحيط به من جميع جوانبه..
إننا في موقف خطير ينبغي للمسئولين عن التعليم في كل بلد عربي أن يتداركوه فقد نمنا وأدلج أعداؤنا وتكاسلنا وجدّوا وقنعنا بالثقافة الشكلية والمعلبة التي هي سرّ تخلفنا في كل جوانب الحياة , وأي تقدم يأتي بغير تعليم ...
أننا نقبل منجزات الغرب الحضارية وتقنياته التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا.بينما كان أجدر بنا أن نرصد طرق التفكير وأسلوب الحضارة والتعليم السائدة في الغرب. الأحرى أن نعود إلى القرون الوسطى عندما لم يكن لأمريكا وجود. حين نقل العرب إرث فارس واليونان الحضاري والثقافي والعلمي إلى اللغة العربية ليس فقط بتعريبها وترجمتها، بل بإدخالها في صلب الثقافة العربية تعديلاً وتجاوزاً وتطويراً بحيث تنسجم مع روح العصر فلم يكن غريبا أن يأتي الناس من أوربا وغيرها لتعلم اللغة العربية، كما نذهب اليوم لنتعلم اللغات الأجنبية ؛ فتم ما يعرف بالمثاقفة (accultu r ation) بين الحضارات المختلفة عن طريق الجدل الواسع والعلني في كل الشؤون الدينية والمذهبية واللغوية والعلمية... دون أي تهديد أو تخوف من الآخر أومن ثقافته.
أما قبل ...(66/251)
فقد غدت العاصمة العباسية بغداد معملاً يزود العالم بآخر منجزات العصر على المستوى التربوي والعلمي وقف إلى جانبها عدد آخر من المؤسسات التعليمية التي تميزت بصفتها العلمية المنهجية , والتي تعد بحق جامعات أو أكاديميات في العصور الماضية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : جامع الأزهر في القاهرة , وجامع الزيتونة في تونس , والمسجد الأقصى في القدس, المدرسة المستنصرية التي بناها الخليفة العباسي المستنصر بالله عام 1227م وبدأ التدريس فيها عام 1233, و بيت الحكمة في بغداد ,.ودار الحكمة في القاهرة أنشأها الحاكم بأمر الله الفاطمي سنة 975م.....الخ ثم بدأت بعدها مرحلة جديدة من مراحل الانحدار والتخلف عاشتها البلاد العربية لمدة أربعة قرون من الزمن ركدت فيها الحضارة الإسلامية وجمدت لعدم قدرة الدولة العثمانية على تغذيتها بالتشجيع المعنوي والمادي وإغلاق الشرايين التي كانت تصل بينها وبين الثقافات الأخرى ؛ فاقتصر دور المدرسين على التلقين والتقليد وزيادة عدد الكتاتيب زيادة كمية على حساب نوعية التعليم.
أما بعد ...
فإذا كانت الحملة الفرنسية عام 1798م قد عرّفت المصرين بآلة الطباعة وبالمدارس الأوربية حديثة الطراز إضافة إلى المناهج التعليمية العلمية الحديثة، فقد ترتب على ذلك أيضا تشديد قبضة الاحتلال على واقع التعليم والنظام التعليمي بما يخدم مصالحه السياسية والاقتصادية وممارسة أهدافه الاستعمارية.
مع نهاية القرن السابع عشر وهزيمة الدولة العثمانية عسكريا أمام الجيوش النصرانية الغربية , بدأت السفارات إلى الغرب , وبدأ استقدام متخصصين في العلوم البحتة , ولأول مرة جرى استقدام غير مسلمين للتخطيط والتدريس في المدارس الإسلامية . ثم عمل الأعداء على شطر نظم التعليم إلى شقين : التعليم الديني والتعليم المدني مع احتواء الأخير على بعض المناهج الشرعية , التي عملوا بعد ذلك على إضعافها من خلال عدة طرق منها :ـ طريقة وضع المنهج , وطريقة تدريسه , وموقع الحصص في اليوم الدراسي , والحط من مدرسيه , وتخفيض عدد ساعات هذه المناهج .. ثم عمدوا بعد ذلك إلى تعديل في هذه المناهج وفق الرؤى العولمية والاتجاهات العلمانية .
إن فكرة العلاقة بين الهيمنة والتعليم في الغرب أساسية ؛ لذا فهم يحاولون الهيمنة والسيطرة والإخضاع عبر التعليم , عبر تغيير مناهج التعليم الديني في مصر والسعودية وباكستان واليمن ,وعبر القضاء على المدارس الدينية والمعاهد والجمعيات الخيرية التي تدعمها , ويغري أمريكا بهذا صداقتها لهذه البلدان .
لقد أصبح واضحا أن قضية المناهج التعليمية لم تعد شأنا داخليا ترتبه الحكومات متى وكيف شاءت , وتهمله أو تؤجله متى وكيف شاءت ؛ وإنما أصبحت شأنا عالميا في ظل ثقافة العولمة وبفعل أدواتها , وأصبح في منطقتنا العربية له أبعاد ثقافية واقتصادية وسياسة بل وعسكرية إذا لزم الأمر .
إن قضية تغيير المناهج التعليمية في المنطقة الإسلامية لم تفتر منذ معاهدة كامب ديفيد , ومرورا باتفاقيات مدريد وما تلاها , إلا أنها ازدادت جرأة ووضوحا وصراحة بعد أحداث 11 سبتمبر اذ شنت الدوائر الرسمية ووسائل الإعلام في الغرب حربا ضروسا على مناهج التعليم في العالم الإسلامي متهمة إياها بأنها المسئول الأول عن ظاهرة تفريخ الإرهاب , وقد وضعوا الخطط للتدخل في التعليم في عدة بلدان وتعد مصر وباكستان والسعودية واليمن نماذج على ذلك , حيث قدمت الولايات المتحدة الأمريكية دعما لباكستان مقداره 100مليون دولار لبناء بنك معلومات عن طلاب المدارس القرآنية يهدف لتأمين معلومات أساسية عن كل طالب ومدرس في هذه المدارس .
ترتبط المناهج بهوية الأمة , وتشكل عاملا مهما في إعدادها وتربيتها , ومن ثم فالتعامل معها لا يخضع لتصريحات طائشة ومواقف مندفعة , وإنما تحتاج إلى أن يتعامل معها في ظل أوضاع هادئة بعيدا عن التشنج والانفعال وبعيدا عن الاستجابة لردود الأفعال .
ورغم أن أمريكا تمارس التدخل في خصوصيات الشعوب الأخرى إلا أنها لا ترضى ذلك لنفسها وهي القائلة قبل عشرين عاما على لسان الرئيس الأمريكي رونالد ريجان :" " لو أن هذه المناهج التي بين أيدينا فرضتها علينا أمة من الأمم لاعتبرنا ذلك اعتداءً سافراً علينا " "(( إن الدهشة سوف تلجمنا إذا علمنا أن مؤسسة تسمى (كير) تتبع المخابرات المركزية الأمريكية هي التي تقوم بالتخطيط للمناهج في وزارة التربية والتعليم المصرية ، والدهشة سوف تمسك بتلابيبنا إذا علمنا أن وفد F.B.I قد التقى شيخ الأزهر , ووفود الكونجرس تلتقيه للاطمئنان على مناهج الأزهر ))[1] .(66/252)
نستطيع أن نقول إن هناك تدنيا في مستوى التعليم في معظم البلدان العربية هذا إذا لم نقل جميعها. وأن أبناءنا في خطر.. والسبب نوعية التعليم الذي يتلقونه، والذي يخرجون بسببه من سوق العمل، وتزيد معدلات البطالة في أغلب الدول العربية، ويتوقع لها أن تزيد أكثر وأكثر إذا لم يسرع القائمون على التعليم بتغيير سياساتنا التعليمية فورًا. و يمكن دراسة ذلك ضمن ما يسمى بالتخطيط التربوي وصعوباته في الوطن العربي. حيث تواجه مدارسنا في مراحلها الأولى ضعفا وضحالة و بهما يتدرج الناشيء حتى يصل إلى الجامعة وهو غير مؤهل للدراسة الجامعية , ولا تستطيع جامعاتنا وهو تواجه هذا العدد الهائل من الطلاب الضعاف أن ترسبهم جميعا بل هي مضطرة ـــ وهم في مستوى متقارب ـــ إلى أن تعتبرهم جميعاً ناجحين . ويمرون من عام إلى عام حتى يفرغوا من دراساتهم الجامعية وعقلياتهم ليست أكبر من عقليات التلاميذ في المدارس الابتدائية والمتوسطة ؛ فجامعاتنا إذا تمنح شهادات ولا تخرج متعلمين .
نحن اليوم في عصر التخصص وقد مضى الوقت الذي يمكن أن نجد فيه من يعرف كل شيء ويتحدث في كل فن . وأن العلوم الحديثة والتقنية هي التي تسيطر في الألفية الثالثة وما سبقها من قرون ثلاثة، على موازين الأحداث، وتهيمن على مصائر الأمم، وتصنع الفرق بين الرفاهية والازدهار والمنعة، وبين التخلف والهزيمة واستجداء إنتاج الآخرين. خصوصا إذا عرفنا أن الثقافة العربية بطبيعتها (ثقافة أدبية)، ويهيمن عليها (الفكر الأدبي) بمعطياته وتفرعاته وأنساقه . ومن البدهي أن الأمم المتقدمة عندما تقلق على نظامها التعليمي من واقع المنافسة الشرسة بين بعضها بعضا، فإن اهتمامها ينصب في الحال على المناهج العلمية، وبرامج التدريب المهني، ووسائل تطوير المهارات التقنية، ولذا كانت الصيحة في أمريكا،عندما اكتشفت في الثمانينيات تحول التلاميذ من القسم العلمي إلي القسم الأدبي بسبب انخفض أداء الطلاب الأمريكان في الرياضيات والعلوم . و أن كوريا الجنوبية عندما توجه تعليمها وتدريبها نحو عصرها ومتقضياته، استطاعت أن تتحول إلى نمر آسيوي، وأن تتمكن خلال عشرين عاما من تسجيل 16380 براءة اختراع في المجال الصناعي والتقني فقط، وأما العالم العربي، الذي يضج بالشعراء والأدباء وأصحاب التخصصات الإنسانية، فلم يسجل سوى 170 براءة اختراع ؛ فمن الضرورة بمكان أن يتحول التعليم في الوطن العربي من مجرد تعليم تلقيني إلى تعليم يقوم على الابتكار والإبداع واستخدام تكنولوجيا العصر؛ حتى يصبح خريجو هذا النوع من التعليم قادرين على اللحاق بسوق العمل الذي لا يقبل الآن خريجي تعليم القرن العشرين.
وأضيف أيضاً أن كتاب "أمة في خطر" الذي كشف ساعتها عن تدني المستوي العلمي للطلاب في ذلك الوقت أكد أنَّ أهم أسباب النهوض هي اللغة الإنجليزية ثم الرياضيات والفيزياء، وأخيرًا الحاسب الآلي، أما عندنا فإن الصورة مقلوبة تمامًا؛ حيث هناك تركيز رسمي على أهمية الحاسب الآلي واللغة الأجنبية في الوقت الذي يتم فيه إهمال اللغة العربية إهمالاً كبيرًا، فاللغات الأجنبية لها أهمية بلا شك، ولكن هذا ليس على حساب اللغة العربية، فاللغة الوطنية أداة فكر، أما اللغة الأجنبية فهي أداة تواصل وهناك فارق كبير بين الأمرين.
التربية والتعليم عملية تغيير مستمرة وشاملة تنتقل بالفرد أو المجتمع من الواقع الذي هو عليه إلى المثل الأعلى الذي ينبغي أن يكون عليه , وتتكامل مؤسسات تربوية كثيرة في تحقيق ذلك : كالأسرة والمدرسة والمسجد ... وهذه المؤسسات التربوية تتكامل مع مؤسسات أخرى كالإعلام والثقافة دون أن تعوق احداهما الأخرى في أداء وظائفها , وأن التلاعب به من قبل قوة خارجية هو خطر لا يمكن الاستهانة به أو التقليل من شأنه . إنها حرب صليبية وان الخطر داهم على الأمة حكاما وشعوبا , ويجب على الكل أن يستيقظ ويرفض المساومة على الثوابت أو التلاعب بالعقائد , وان يعرف الجميع أن روح الأمة أقوى من كل شيء , و أن كل الحلول التي تأتينا مرة من أمريكا وأخري من انجلترا وثالثة من دول أخرى قد ثبت فشلها وسبب ذلك أن التعليم لابد أن ينبع من واقع المجتمع الذي يخرج منه .
الأستاذ /
سالم مبارك الفلق
1/11/2005م
alfalagg@yahoo.com
-----------------------
[1] مجلة البيان العدد173المحرم1423هـ(مناهج التعليم الديني في العالم الإسلامي) كمال حبيب ص/49 .
===============(66/253)
(66/254)
تدنيس القران
خالد الراشد
ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستفغره ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله
((يا ايها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون)) [ال عمران : 3] (( يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذي تسائلون به والارحام ان الله كان عليكم رقيبا)) [النساء : 4] (( يا ايها الذين امنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم اعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما )) [الاحزاب : 33]
اما بعد فان اصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي صلى الله عليه وسلم وشر الامور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
عباد الله ان القران الكريم خير كتاب انزل عل اشرف رسول الى خير امة اخرجت للناس بافضل الشرائع واسمحها واكملها. انزله الله تعالى ليكون دستورا للامة وهداية للخلق وليكون اية على صدق الرسو صلى الله عليه وسلم وبرهانا ساطعا على نبوته ورسالته وحجة قاطعة قائمة الى يوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم (( الر كتاب احكمت اياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير* الا تعبدوا الا الله انني لكم منه نذير وبشير* وان استغفروا ربكم ثم توبوا اليه يمتعكم متاعا حسنا الى اجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وان تولوا فاني اخاف عليكم عذاب يوم كبير* الى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير* الا انهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه الا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون انه عليم بذات الصدور )) [هود :1 :5]
ولقد سمى الله القران باسماء عديدة تدل على رفعة شانه وعلو مكانته وعلى انه اشرف كتاب سماوي على الاطلاق. فهو القران والفرقان والذكر والكتاب . كما وصفه الله تعالى باوصاف جليلة عديدة فهو النور والهدى والرحمة والشفاء والموعظة الى غير ذلك من الاوصاف التي تشيد بعظمته وقدسيته .
قال تعالى (( يا ايها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين * قل بفضل وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)) [يونس :57 :58]
قال ابن عباس فضل الله هو الاسلام ورحمته هو القران
ولقد تكفل الله بحفظ هذا الكتاب من التحريف والتغيير والتبديل فلا ياتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه . قال جل في علاه (( انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون)) [الحجر : 9]
قال المفسرون انا نحن نزلنا الذكر اي نزلنا القران . وانا له لحافظون اي حافظون له من ان يزاد فيه او ينقص منه . قال قتادة وثابت البناني اي حفظه الله من ان تزيد فيه الشياطين -اي شياطين الانس وشياطين الجان - ان تزيد فيه باطلا او تنقص حقا . فتولى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظا وقال في غيره من الكتب (( بما استحفظوا)) فوكل حفظ تلك الكتب اليهم فبدلوا وغيروا وحرفوا
قال يحي ابن اكثم كان للمامون وهو امير اذ ذاك مجلس نظر - اي مجلس مناظرات- فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب حسن الوجه طيب الريح قال فتكلم فاحسن العبارة . قال فلما انفض المجلس دعاه الماموت فقال له اسرائيلي انت -يعني يهودي- قال نعم . قال له اسلم حتى افعل بك واصنع لك ووعده المامون خيرا ان اسلم . فقال اليهودي بل ديني ودين اباءي . ثم انصرف. قال فلما كان بعد سنة جاءنا اليهودي مسلما . قال فتكلم في الفقه والحديث فاحسن الكلام فلما انفض المجلس . دعاه المامون وقال له الست صاحبنا بالامس . قال بلى . قال فما سبب اسلامك. اسمع وقل الله اكبر . قال اليهودي انصرفت من مجلسك في ذاك اليوم فاحببت ان امتحن هذه الاديان وانا احسن الخط - يعني اجيد الكتابة- فعمدت الى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت منها وادخلتها الكنيسة فاشتريت مني ولم يكلفوا انفسهم ان يقراوها او يراجعوها ثم عمدت الى الانجيل فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها وانقصت منها وادخلتها البيعة -معابد اليهود- فاشتريت مني ولم يقراوها او يراجعوها ثم عمدت الى القران فكتبت ثلاث نسخ وادخلتها الى الوراقين قالوا لا نقبلها حتى نقراها ونراجعها فاكتشفوا اهخطاءها واكتشفوا الزيادة والنقصان فقاموا واحرقوها وكادوا يقتلونني فعلمت ان هذا كتاب محفوظ من الله فكان هذا سبب اسلامي . قال يحي بن اكثم فلقيت سفيان بن عيينة فذكرت له الخبر فقال لي مصداق هذا في كتاب الله عز وجل قلت في اي موضع قال في قوله تبارك وتعالى عن اليهود والنصارى (( بما استحفظوا في كتاب الله)) [المائدة : 5] فجعل حفظ والتوراة والانجيل اليهم فضيعوهما وبدلوهما وحرفوهما وقال عن القران (( انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون)) فتكفل الله وتهد بحفظه فلم يستطع احد ان يغير فيه او يبدل ، وكلما حاول اعداء الله ان يكيدوا لهذا القران بالتحريف او التبديل فضحهم الله وبين كيدهم ومكرهم وهذا الذي اغاظهم وجعلهم يتطاولون على قراءننا حقدا وحسدا وغيظا(66/255)
ووالله ان ما نقلته وسائل اعلامهم عن تطاولهم على القران بالتدنيس والتنجيس لجانب من حفظ الله لكتابه. ففضحوا بعضهم بعضا واظهر الله وكشف جريمتهم وان انتقامه منهم لقريب ومهما فعلوا سيظل قراننا قويا وحجة على المكذبين المعاندين وسيظل صامدا امام حقدهم ومؤامراتهم واسمع معي .
منذ اسبوعين مضت وفي هذا الجامع المبارك اعلن عشرة من الفلبينيين النصارى اسلامهم وبداوا يروون قصص اسلامهم وقد كان معهم قسيس قد اسلم منذ سنوات وقد كان له دور عظيم في اسلام اكثر هؤلاء .
اما احدهم فروى خبرا عجيبا عن اسلامه يقول فيه جئت الى هذه البلاد منذ شهر واحد فقط وبدات عملي مع المؤسسة التي كفلتني ثم منذ ايام مرضت فاستأذنت من العمل في الصباح لاذهب للمستشفى فذهبت واعطوني رقما للانتظار فجلست انتظر دخولي على الطبيب لم ادري اني على موعد مع حياة جديدة لم ادري اني مع اعظم لحظة في حياتي واني على وشك استقبال ميلاد جديد .
هناك على الطاولة في صالة الانتظار كانت كتيبات بلغات مختلفة شدني منها كتاب بلغتي عنوانه عيسى رسول الاسلام فقلت كيف يكون هذا عيسى ولد الله وليس للاسلام رسول فاخذت الكتاب وهنيئل لاولئك الذين يضعون هذه الكتيبات ويحرصون على نشرها يقول بدات اقرا واقلب الصفحات وبدا نداء الفطرة نداء التوحيد في داخلي ينادي ويصيح ويقول لي الى متى خذا الضلال الى متى هذا الضياع فاخذت اقرا ودموعي على خدي نسيت اني مريض ونسيت اني في المستشفى وبداالصوت في داخلي يزيد ويرتفع عيسى رسول الاسلام . عيسى رسول الاسلام وليس ولد لله فالله لم يتخذ صاحبة ولم يتخذ ولدا
ويقول خرجت من المستشفى واخذت ابحث عن من يعينني حتى اعلن توبتي من الكفر والكذب على الله ابحث عمن يساعدني على الدخول في الاسلام لاكون من اتباع صلى الله عليه وسلم ومن اتباع عيسى رسول الاسلام . يقول وها انا ذا بين يديكم الان اردد بكل اقتناع وبكل ارتياح وبكل سعادة . اردد واقول اشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله واشهد ان عيسى عبد الله ورسوله
هذا تاثير ديننا وتوحيدنا وقراننا رغم ضعف امتنا وتكالب الاعداء عليها من كل حدب وصوب ورغم نفاق المنافقين ورغم انف الحاقدين ورغم خيانة الاعلاميين من فاسقات وفاسقين . لا زال اسلامنا بقيادة قراننا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلمهو المؤثر الاول على البشر ولك هذا الخبر من معقل الكفر امريكا . فالاحصائيات تقول من بعد احداث سبتمبر الى يومنا هذا زادت الطلبات على القران المترجم والكتب التي تتحدث عن الاسلام وبلغ عدد الداخلين في الاسلام من الامريكان منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا اكثر من ثلاثين الفا او يزيدون ويتوقعون ان يصل عدد المسلمين في امريكا خلال سنوات قليلة اكثر من عشرين مليون
هذا الذي اغضبهم ولم يستطيعوا ان يشفوا حقدهم وصدق الله حين قال لنا عنهم (( ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من افواههم وما تخفي صدورهم اكبر قد بينا لكم الايات ان كنتم تعقلون)) [ال عمران : 118] كلما ظنوا انهم تمكنوا من الاسلام واهله هزمهم حملة القران واذاقوهم الذل والهوان والبسوهم ثياب الخزي والعار فلم يجدوا الا ان يصوبوا حقدهم وجام غضبهم على قراننا لانهم يعلمون انه اغلى من اعمارنا
انها عظمة القران التي ذلت لها الرقاب وازالت صمم الاذان وفتحت اياته اقفال القلوب . قال الله (( افلا يتدبرون القران ام على قلوب اقفالها )) [محمد : 24] يقول جبير بن مطعم قبل اسلامه والخبر في الصحيحين قدمت الى المدينة بعد بدر لارتداد نصارى قريش فجئت الى المسجد و صلى الله عليه وسلم يصلي بهم صلاة المغرب يقرا من ايات سورة الطور فسمعته يقرا قول الله (( ام تامرهم احلامهم بهذا ام هم قوم طاغون * ام يقولون تقوله بل لا يؤمنون * فلياتوا بحديث مثله ان كانوا صادقين * ام خلقوا من غير شيء ام هم الخالقون * ام خلقوا السموات والارض بل لا يوقنون * ام عندهم خزائن ربك ام هم المسيطرون * ام لهم سلم يستمعون فيه فليات مستمعهم بسلطان مبين )) [الطور 32: 38]قال فلما سمعت تلك الايات انفطر قلبي فكان ذلك اول ما وقر الايمان في قلبي
انها ايات القران التي لو تنزلت على الارض او على الجبال لصدعتها وقطعتها . قال الله (( ولو ان قرانا سيرت به الجبال او قطعت به الارض او كلم به الموتى بل لله الامر جميعا افلم يياس الذين امنوا ان لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة او تحل بدارهم حتى ياتي وعد الله ان الله لا يخلف الميعاد )) [الرعد : 31](66/256)
لقد تحداهم الله منذ ان نزلت اول الايات فقال لهم اجمعوا جنكم وانسكم واولكم واخركم واتوا بمثله او بعشر سور مثله او بسورة مثله فعجزوا ولا زالوا عاجزين ولا زال التحدي قائما الى يوم الدين . قال الله (( قل لئن اجتمعت الانس والجن على ان ياتوا بمثل هذا القران لا ياتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا )) [الاسراء : 88] وقال ايضا (( ام يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين فان لم يستجيبوا لكم فاعلموا ان ما انزل بعلم الله وان لا اله الا هو فهل انتم مسلمون )) [هود 13 : 14] وقال الله (( وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله ان كنتم ان كنتم صادقين فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اعدت للكافرين )) [البقرة 23 : 24]
كفى وحسبك بالقران معجزة دامت لدينا دواما غير منصرم
مهيمنا عربيا غير ذي عوج مصدقا جاء للتزيل في القدم
فيه التفاصيل للاحكام مع نبا عما سياتي وعن ماض من الامم
فانظر قوارع ايات المعاد به وانظر لما قص عن عاد وعن ارم
وانظر به شرع احكام الشريعة هل ترى بها من عويص غير منفصم
الله اكبر ما قد حاز من عبر ومن بيان واعجاز ومن حكم
والله اكبر اذ اعيت بلاغته وحسن تركيبه للعرب والعجم
احبتي نسيت وانا اتلوا عليكم من ايات واخبار عظمة القران نسيت ان اخبركم كيف اسلم ذلك القس الذي جاء بالفلبييينين العشرة منذ ايام رواها لنا باختصار قائلا تخرجت من الفاتيكان معقل التنصير في العالم وبدات اتنقل من بلد الى بلد لتنصير المسلمين وكانت اكثر زياراتنا لمصر فانها مصدر من مصادر قوة المسلمين ثم جلست يوما مع مجموعة من القساوسة والمبشرين فقلت لهم لقد طفنا اكثر بلاد الارض ولم يبقى الا جزيرة صلى الله عليه وسلم لم تصل اليها دعوة المسيح ولا بد من اقتحامها فهي معقل الاسلام العنيد فخططت ودبرت للوصول والحصول على طريقة ادخل بها الى تلك البلاد يعني الى بلادنا المباركة فنجحت في ذلك فلما وصلت بدات ابحث عمن يعطيني نسخة مترجمة للقران لاكتشف اسرار الاسلام واتعرف على اخطاء القران فتكون هي طريقي لتنصير المسلمين ومحادثتهم. سالت هذا وطلبت ذاك ولكنهم تاخروا علي مما يدل احبتي على تقصيرنا في دعوة الاخرين . يقوا وانا على احر من الجمر فانا في مهمة من اجل دين المسيح ابن الله ولا زلت اطلب القران المترجم حتى وصلت النسخة فاخذتها واغلقت الابواب وجلست ولا احد يراني الا الله بدات اقرا وفي نيتي تتبع واستخراج الاخطاء فاذا بسورة الفاتحة تحيرني وتاخذني الى عالم اخر ثم اول مقطع من سورة البقرة تتحداني وتخبرني ان هذا الكتاب خال من الاخطاء مما زاد في حرصي على القراءة والتدبر وبدات اقفال الكفر تنحل وتنفتح وبدا ظلام الشرك ينجلي وبدات امطار الهداية في النزول وبدا القران يجاوبني على كل الاسئلة والاستفسارات وبدات اقول لنفسي من هذا الذي يتحداني ومن هذا الذي عنده كل هذه القدرة وكل هذه الصلاحيات حتى يتكلم في ملكوت الارض والسماوات فجائني الجواب من اعماق قلبي. انه الله جل جلاله . انه الله الذي قال بسم الله الرحمن الرحيم (( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذي له ملك السموات والارض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا * واتخذوا من دونه الهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا )) [الفرقان 1 : 3]
انه القران الذي حير الالباب والعقول وكسر القيود والاغلال . اسمع وقل معي ما اجمل هذا الكلام . بسم الله الرحمن الرحيم (( الر * كتاب انزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات الى النور باذن ربهم الى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السموات وما في الارض وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين يستحبون الحياة الدنيا على الاخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا اولئك في ظلال بعيد )) [ابراهيم 1 : 3]
سالته الذي كان قسا في يوم من الايام . كم استغرق اسلامك؟ فقال فقط ايام. قلت انا يا الله ما اقوى الحق كما قال الله ((بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصرفون )) [الأنبياء : 18] يقول كلما خطر على بالي سؤال ولبس علي الشيطان وجدت الجواب في القران . يقول وجدت اجوبة كثير في قولة تعالى في اول سورة البقرة (( والذين يؤمنون بما انزل اليك وما انزل قبلك وبالاخرة هم يوقنون )) وانطلق الذي كان قسيسا احبتي في يوم من الايام . انطلق منذ ان اعلن اسلامه داعيا الى الله وباذلا كل قواه للدعوة الى الاسلام والى نصرة القران فاسمع الى انجازاته في سنوات :(66/257)
اسلم على يديه عشرات الالاف من النصارى والامريكان في كل مكان . واسمع الذي اغاظ عباد الصليب الامريكان وجعلهم يتطاولون على القران يقول اقسم بالله لما جاءت قواتهم على جزيرتنا منذ سنوات لم يرجعوا الا وقد اسلم منهم اكثر من سبعة وعشرين الفا ولا زلنا نمدهم بعشرات الالاف من المصاحف والكتيبات ولا زلت استلم عشرات الرسائل يوميا والاستفسارات فدعهم يعظوا على الحصى كمدا من مات من الغيظ منهم له كفن
انه القران الذي صنع خير امة اخرجت للناس يوم ان كان القران اخلاقها بالنهار وكان القران الحانها بالليل كما قال الله واصفا عباد الرحمن في سورة الفرقان ((وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ))[63] هذا بالنهار اما بالليل ((والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما)) [64] ما هو دعائهم وما هو قيامهم . يقولون ويتضرعون ((والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم ان عذابها كان غراما * انها سآئت مستقرا ومقاما )) [66:65] ثم يبين الله شيئا من اخلاقهم وبعضا من اعمالهم فيقول ((والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوام* والذين لا يدعون مع الله الها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * الا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما * ومن تاب وعمل صالحا فانه يتوب الى الله متابا)) [71:63] .ثم زاد الله بوصف اعمالهم واخلاقهم فقال)) والذين لا يشهدون الزور)) لا باطل لا موسيقى لا الحان لا شاشات لا قنوات ((والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما )) [72] ومن اعظم صفاتهم كما قال الله (( والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا * والذين يقولون ربنا هب لنا من ازواجنا وذرياتنا قرة اعين واجعلنا للمتقين اماما )) [74:73] فهل ضيع الله دعائهم. حاشا وكلا وتعالى الله بل كان عند حسن ظنهم فاجاب دعائهم وقبل توبتهم وامن خوفهم واجزاهم بما صبروا فقال (( اولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلّقون فيها تحية وسلاما * خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما *قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما)) [77:75] هذا حالهم مع القران فكيف هو حالنا
ان كنت تزعم حبي فلم هجرت كتابي
اما تاملت ما فيه من لذيذ خطابي
قال الفضيل ما تم معصيته ومصيبة اعظم من مصيبتنا يتلو احدنا القران ليلا ونهارا ولا يعمل به وكله رسائل من ربنا الينا قلت اه ثم اه ثم اه . لو راى حالنا ونداءات ربنا تنادينا في كل مكان. كانوا اذا سمعوا الله يناديهم يا ايها الناس قالوا نحن الناس فماذا تريد منا يا ربنا
انه القران نور الليل وهدى النهار . اعوذ بالله من الشيطان الرجيم ((ان هذا القران يهدي للتي هي اقوم و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم اجرا كبيرا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) ] الاسراء 9 : 10 [ وقا صلى الله عليه وسلم (( اقراءوا القران فانه ياتي شفيعا لاصحابه يوم القيامة )) .
نفعني الله واياكم بالقران العظيم ونفعني واياكم بما فيه من الايات والذكر الحكيم . اقول ما تسمعون واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم
الحمد لله على احسانه والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له تعظيما لشالنه واشهد ان محمدا عبده ورسوله الداعي الى رضوانه اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى اله وصحبه واخوانه
عباد الله اوصيكم ونفسي بتقوى الله وتعاهد كتاب الله جل في علاه . ادعوا الله صباح مساء ان يجعل القران العظيم ربيع قلوبنا وجلاء احزاننا وهمومنا
عباد الله اجمع العلماء على ان من اهان القران الكريم او دنسه فان كان من المسلمين فهو كافر مرتد يجب ان يقام عليه الحد وان كان من الكفار فهو محارب يجب قتاله ويلحق بهذا الحكم من رضي بهذا الامر او صدر منه ما يدل على الفرح به او تاييده او الدفاع عن فاعله وهذا امر عظيم
عباد الله لقد جاءت الصرخات والاستغاثات من العراق وافغانستان منذ زمان بان عباد الصلبان يهينون القران فلم نصدقهم . قالوا لنا منذ زمان انهم يهينون القران فلم نصدقهم ولم نستجب لنداءاتهم كاننا مخدرون بل نحن كذلك وقاتل الله اعلامنا الامريكي عفوا اعلامنا العربي الذي يلعب دورا كبيرا في تضليل الشعوب وتخديرهم. فمنذ ايام مضت ذكرت مجلة نيوزويك الامريكية في عددها الصادر في 2/4/1426لهجرة حبيبنا الموافق 10/5/2005 من سنينهم الميلادية ذكرت المجلة عن محقيقين يتابعون ما يجري في معتقل جوانتناموا ان عسكريين امريكيين يشاركون في عمليات الاستجواب لابناءنا المسلمين المعتقلين قد وضعوا المصاحف في المراحيض لاستفزاز المعتقلين وانهم امعانا في المهانة قام الجنود الامريكيون بالتبول على صفحات القران الكريم وتدنيسه باقدامهم لانتزاع الاعترافات من اخواننا لانهم يعرفون كم هو غالي عندنا هذا الكتاب .(66/258)
لم نقلها نحن بل فضحوا بعضهم بعضا وحتى لا يقول المنافقون اننا نفتري عليهم كذبا ويتصدون للدفاع عن الصليبيين كما هو حالهم في كل حين. لقد وصلت المذلة في المسلمين الى الحد الذي يهان فيه اقدس مقدساتهم ولا يفعلون شيئا شبعنا من الشذب والاستنكار وطلب الاعتذار . شبعنا ومللنا وتقطعت قلوبنا من الشذب والاستنكار وطلب الاعتذار. لقد نزع الله المهابة من قلوب اعداءنا منا وقذف في قلوبنا نحن الوهن . لقد تشبعت قلوبنا بحب الدنيا الى درجة ان يتم تدنيس القران جهارا نهارا ولا يتحرك المسلمون
نعم قامت احتجاجات ومظاهرات هنا وهناك واستنكرت بعض الحكومات على استحياء فقامت وزيرة خارجيتهم التي يقطر شعرها من الدهون والكريمات لكن اما تلاحظون انهم يحرصون على ان تكون وزيرات خارجياتهم من النساء فقبل هذه الساقطة كانت العجوز الشمطاء . ثم تامل اثناءلزيارات وزيرات الخارجية الامريكيات كيف يتسابق رجالنا لمصافحتهن مع العلم ان النبي نهى عن مصافحة النساء . لكن ربما افتى لهم من افتى بالجواز لانهن قبيحات ولا يخشى الفتنة منهن . الا في الفتنة سقطوا
خرجت وزيرة خارجيتهم لا لتعترض ولكن لتقول وتصرح بان اهانة القران شيء بغيض وذلك لتهدئة مشاعر المسلمين وخوفا من غضبهم هنا وهناك وبعد تصريحها-الفاجرة- بايام قام جنودهم بالعراق باقتحام بعض المساجد وتدنيس المصاحف برسم الصلبان عليها . وقامت احدى القنوات الاخبارية ببث بعض الصور لاهالي تلك المساجد وهم يحملون المصاحف لقد لطخها الامريكان بصورة الصلبان
نقول للقوم انها حرب صليبية جديدة ضد الاسلام فيقولون لنا لا بل هم دعاة تحرير وسلام. اي سلام هذا الذي تغتصب فيه النساء وتستباح المساجد ويداس فيه القران . يقول لنا ربنا ((وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)) ] البقرة : 120 [ ومنافقوا العصر يقولون لا سوف يرضون . فمن نصدق نصدق ربنا ام نصدق المنافقين . لكن لئن فعلوا هذا بقراننا فما ظنكم ماذا يفعلون باخواننا واسرانا هناك لن اقول لكم انا لكن سيقول لكم محامي امريكي يتولى الدفاع عن بعض الاسرى هناك
يقول محامي حقوق الانسان ولا ادري اي انسان يقصدون يقول توم بولنر الذي يتولى الدفاع عن بعض المعتقلين في معتقل جوانتناموا التابع للجيش الامريكي ان موكليه من الشباب المصريين تعرضوا لعمليات تعذيب واسعة سواء اثناء اعتقالهم في باكستان او افغانستان او عقب نقلهم الى غوانتناموا شملت اهانات دينية مثل القاء المصاحف على الارض ووطئها بالاقدام والقائها في المراحيض وقاموا بحلق رؤوس الاسرى وشعر اجسامهم وصدورهم وكانت الحلاقة تاخذ اشكال الصلبان . يقولوا ولقد رفعت هذه الانتهاكات في مذكرات مكتوبة الى وزارة الدفاع الامريكية التي لم تتخذ اي اجراء لوقف هذه الممارسات الظالمة ضد اخواننا . يقول فولنر ان اكثر الاسرى تعرضوا للتعليق من اليدين وضربوا بسلاسل حديدية وتعرض اكثر منواحد للتعليق في وضع مقلوب وضربوا حتى فقدوا الوعي وجردوا من ملابسهم وابقوا عرايا لفترات طويلة وكانت الحارسات يتولين اكثر هذه المهمات بل وتعرض اكثر من واحد منهم للواط والصدمات الكهربائية والتقييد بالسلاسل المعدنية في اوضاع مؤلمة ولفترات طويلة بحيث يضطرون بالتبول على انفسهم وصدق الله حين اخبرنا عنهم وقال ((كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ))] التوبة : 8 [ وذكر المحامي الامريكي ان كثيرا من الاسرى ادلوا باعترافات كاذبة لوقف التعذيب الذي تعرضوا له وقال له احد الاسرى عندما يحدث مثل هذا فانك تقول لهم ما يريدون سماعه حتى يتوقفوا عن تعذيبك واهانتك
وتعتقل امريكا الظالمة ولاكثر من ثلاث سنوات اكثر من ستمائة مسلم من الشباب في ظروف لا يعلمها الا الله تحبسهم في حظائر كالحيوانات دون انتوجه اليهم تهم ودون اعطائهم اية حقوق ولقد سعت استراليا فاخرجت اسراها وسعت بريطانيا وفكت اسراها ومن كان من الاسرى امريكيا حولوه الى المحاكم الامريكية وكل بكى على اسراه الا اسرانا لا بواكي لهم . اين نحن من قول صلى الله عليه وسلم (( فكوا العاني فكوا الاسير )) الم تروا صورهم في وسائل الاعلام وهم مقيدون بالسلاسل والاغلال ويساقون الى الحظائر كالاغنام . اما هزك المنظر اما حرك الدمع في عينيك والاسى في قلبك اما تفكرتم بحال ابائهم وامهاتهم . لسان حالهم
اسير في غياهبهم اسير اسير في سجونهم حقير
يدنس عزتي علج رماني على الرمضاء يلفحني الهجير
يدوس كرامتي حينا وحينا يقهقه وهو خمار سكير
وانات الاسارى شاهدات على ملياركم اين الضرير
واين الفارس المغوار ياتي يفك القيد اعياني الزفير
ولو ان القطيع لنا جهار لما طابت بسكنانا الحمير
ايهنأ عيشكم يا قوم اني اجرع كاس حنظله المرير
اما ان ان نقول
ايا جبناء قد حان انتقامي ايا ثارات قد صاح النذير
وميثاق المعراة اشترينا تكاد نفوسنا شوقا تطير(66/259)
انهم ضحايا صمتنا . اين دعائنا لهم اين دموعنا من اجلهم اين مطالباتنا بفكهم ام اشتغالنا بدنيانا جعلنا ننساهم . لكن وربي ان نسيناهم فان الله لن ينساهم
اين الحميات على الدين ما اسفت على شعور غدت تلمود اصفان
هل حرروا اسرة هل انجدوا بلدا ام قولهم لست افاك وفتان
والمدعون التصدي اين وثبتهم يوم الكريهات لم تظفر باعوان
اي منالذكر فيها عز امتنا ما احسنالسير في افياء قران
اما الى النصر والتحرير موعدنا او جنة ذات روضات وريحان
لا تظن ان نداءات الاسلام لم تصل الى القلوب الحية بل وصلت ولقن الصليب درسا في عقر داره منذ ايام . قال لي احد الشباب الذي يدرس هناك رغما عنه واستجابة لرغبة ابيه ولقد رجع منذ ايام يقول: بعد خبر تدنيس القران ثارت ثائرة المسلمين هناك وكثرت ردات الفعل من الافراد والمؤسسات والجمعيات المسلمة وبينما انا اسير في سيارتي مع احد الشباب وقد رجعنا من الجامعة فاذا امامنا سيارة مكتوب على زجاجها الخلفي احرقوا القران ثم كلمة يسبون الله فيها لا استطيع ان اذكرها لشناعتها قال فثارت ثائرتنا وصاح فينا نداء واسلاماه . لكِ الله يا امة الاسلام يدنس قرانك وتغتصب نسائك ويؤسر رجالك ولا عمر لكِ ولا صلاح الدين ولا خالد يغزو الرومان ويقهر الصليبيين .
يقول الشاب ثارت ثاترتنا ونحننرى تلك الدعوى الظالمة وسب لله على علن ومسمع من الجميع منهم فلحقناه وفر الجبان حتى اجبرناه على الوقوف فنزلنا واخذ يسب ويشتم ويتطاول على الاسلام فلما ساء ادبه بعد ان طلبنا منه ان يزيل ما قد كتب على زجاج السيارة الخلفية رفض . قال فلقناه درسا لن ينساه ضربناه ضربا مبرحا ثم قيدناه في سيارته في وضح النهار ثم كسرنا زجاج السيارة الخلفي ومضينا في طريقنا فلم يستطع احد ان يعترض طريقنا رغم انهم في ارضهم وفي عقر دارهم. يقول وانا الان لا اريد الرجوع الى هناك مرة ثانية ناصحوا ابي وناصحوا كل الاباء . لماذا يرسلوننا الى الكفار . هناك اهانات وسب للاسلام في كل مكان
انصروا دينكم انصروا قرانكم انصروا اخوانكم انصروا هذا الدين . لقد ان للمسلمين في مشارق الارض ومغاربها ان يعودوا لرشدهم ويجمعوا امرهم ويجاهدوا عدو الله وعدوهم فالاسلام جريح في كل مكان واصوات الاستغاثات قد ملئت المكان انصروا دينكم بالتمسك بالقران والاعتزاز بالاسلام واحياء روح الجسد الواحد الذي اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى
ان الاوان ليظهر ولاءنا وبرائنا. قاطعوا الكفار كسدوا بضاعاتهم انتصارا للقران والاسلام . ادعموا القران ادعموا حلقات القران وجمعيات القران وربوا ابنائكم على اخلاق القران وعلى حب القران وعلى حفظ ايات القران وعلى العمل بالقران
وربي ان الذي حدث فيه خير وخير كثير فلقد انفضحت امريكا الظالمة وهي مفضوحة منذ زمان وانفضح معها الذسن يوالونها ويدافعون عنها . ارادوا الانتقام من القران فغزاهم القران من حيث لا يشعرون . تقول جمعية كير المدافعة عن حقوق المسلمين في امريكا بعد حادثة تدنيس القران اخذ كثير منالشعب الامريكي الجاهل يتسائل عن القران يقولون لماذاغضب هؤلاء المسلمون من اجل كتاب فبداوا يتصلون على جمعية كير يطلبون نسخا مترجمة للقران . يقول المسؤول ولقد وزعنا وارسلنا الالاف النسخ منالقران المترجم الى الانوالطلب في ازدياد يوما بعد يوم . ارادوا الانتقام من القران فغزاهم القران في عقر دورهم وصدق الله حين قال ((لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)) ] النور : 11 [
المطلوب من اهل القران فهم معانية والعمل فان لم نفعل ذلك ولم نتاثر بالقران فلن نكون من اهله ومااكثر الذين سيكونون عرضة لدعوة الرسو صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حينيشتكي للقران وقال الرسول (( يا ربي ان قومي اتخذوا هذا القران مهجورا)) هجروا قرائته وهجروا العمل به وهجروا تدبره وهجرواالرجوع اليه
ان فريق الجنة هو بالجهاد في سبيل الله وتبليغ دعوته ورفع الظلم عن الاخرين ولقد وعد الله في الكتب السماوية كلها ان الجنة للصادقين في بيعهم ولا اوفى بعهده من الله فبشرى وطوبى لمن بايع وباع وما اعظم البيعة حين يكون المشتري هو الله ((إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا )) ] الفتح : 48 [ في طريق الجنة لا مجال للخائفين ولا للجبناء فتخويف اهل الباطل هو من عمل الشيطان ولن يخاف منالشيطان الا اتباعه واولياؤه ولا يخاف من المخلوقين الا من في قلبه مرض اليس الله بكاف عبده ((أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ)) ]الزمر : 37 [ الا والله ان الله عزيز ذو انتقام(66/260)
اللهم انتقم لدينك وانتقم لكتابك وانتقم لعبادك المسلمين . اللهم انصر المسلمين المستضعفين بمسارق الارض ومغاربها يا رب العالمين . اللهم مجري السحاب وهازم الاحزاب اللهم اهزم الامريكان وزلزلهم . اللهم لا ترفع لهم راية ولا تحقق لهم غاية واجعلهم لمن خلفهم عبرة واية . اللهم مكن المجاهدين من رقابهم . لا تدع لهم قوة على الارض الا دمرتها ولا في السماء الا اسقطتها . اللهم عليك بهم انهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز . اللهم عليك باليهود الغاصبين والشيوعيين الاثمين والروافض والحاقدين واعداء الملة والدين . اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من اجل اعلاء كلمتك . انصر من نصرهم واخذل من خذلهم قوي عزائمهم اربط على قلوبهم . افرغ عليهم صبرا . ثبت الاقدام . اللهم اشفي جرحاهم وفك اسراهم وكن لهمعونا وظهيرا يا رب العالمين
لا اله الا انت سبحانك انا كنا ظالمين . اللهم اصلح ولاة امورنا وولاة امور المسلمين . اللهم ردنا الى الحق يا رب العالمين واجعل القران العظيم ربيع قلوبنا وجلاء احزاننا وذهاب همومنا وغمومنا اللهم اجعلنا من اهله ومن خاصة اهله يا رب العالمين . ارفعنا به الدرجات كفر عنا به الخطيئات . البسنا به الحلل واسكنا به الظلل واجعله نورا في وجوهنا ونورا في صدورنا ونورا في قبورنا ونورا وذخرا لنا يوم نلقاك يا ذا الجلال والاكرام
عباد الله ان اتنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم . ان الله يامر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله اكبر والله يعلم ما تصنعون
الاستماع
http://www.islamcvoice.com/mas/open.php?cat=9&book=1819
===============(66/261)
(66/262)
مات البابا وبقي الإسلام
عبد السلام محمد زود
سدني أستراليا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فقد خلق الله الناس، واختار لهم الإسلام دينا، وأرسل لهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، ودعاهم للإيمان به، ليسعدوا في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} وهذا في الدنيا {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} النحل 97 وهذا في الآخرة، وخطبة اليوم بمشيئة الله تعالى بعنوان: (مات البابا وبقي الإسلام) ونبدأ بالإسلام لحيويته، ونختم بالبابا لانتهائه، فنقول وبالله التوفيق: لقد بين وحي الله تعالى للناس كافة، أن حاجتهم إلى الإسلام أشد من حاجتهم إلى للطعام والشراب والهواء، لأنه لا نجاة للناس ولا سلامة إلا بالإسلام، فما هو الإسلام يا تُرى؟
- الإسلام هو الدين الوحيد عند الله تعالى كما قال: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} آل عمران 19، وسمى من دخلوا فيه قديما وحديثا بالمسلمين، فقال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} آخر الحج.
- وكان الإسلام ولا زال هو دين الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فالإسلام هو دين نوح عليه السلام، حيث قال لقومه: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} يونس 72، أول رسول يقول لأهل الأرض جميعا: وأمرت أن أكون من المسلمين.
- والإسلام هو دين خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} آل عمران 67
- والإسلام هو دين ذرية إبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } البقرة 131-132
- والإسلام هو دين يعقوب عليه السلام وبنيه، كما قال تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} البقرة 133
- والإسلام هو دين لوط عليه السلام، كما قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} الذاريات 35-36 وهو بيت لوط عليه السلام.
- والإسلام هو دين موسى ومن آمن معه، كما قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ }يونس 84
- والإسلام هو دين عيسى عليه السلام ومن آمن معه، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} المائدة 111
- والإسلام هو الدين الذي دخل فيه سحرة فرعون يوم أن شرح الله صدرهم له، حيث قالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} الأعراف 126
- والإسلام هو دين سليمان عليه السلام حيث قال: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ }النمل 42
- والإسلام هو الدين الذي لم تجد بلقيس ملكة سبأ دينا يصلح للدخول فيه غيره حيث قالت:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} النمل44
- بل والإسلام هو دين المؤمنين من الجن، قال تعالى حكاية عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَد} الجن 14
- والإسلام هو الدين الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، كما قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} آل عمران85
- وما جاء خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم إلا بالإسلام، كما أمره تعالى بقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }الأنعام 162- 163
- والإسلام هو الدين الذي رضيه الله لعباده حيث قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } المائدة 3
- والإسلام هو الدين الذي من أراد الله به خيرا شرح صدره له، كما قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ..} الأنعام 125(66/263)
- والإسلام هو الدين الذي دعا يوسف عليه السلام ربه أن يتوفاه عليه، فقال: { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} يوسف 101
- والإسلام هو الأمنية التي يتمنى العباد جميعا -حتى الكفار- أن يموتوا عليه، كما قال تعالى عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }يونس 90
- والإسلام هو الدين الذي يتمنى الكفار يوم القيامة أن لو كانوا من أتباعه كما قال تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} الحجر 2
- وأبى الله تعالى أن يجعل المسلمين كالمجرمين فقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} القلم 35-36
- ولا أمن من فزع يوم القيامة بل ولا دخول للجنة إلا للمسلمين فقط، كما قال تعالى: {يَا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} الزخرف 68-70
- وأمر الله تعالى نبيه محمدا r أن يعلن للناس قائلا: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} الأنبياء 108
- وأمر رسوله محمدا r أن يقول للعرب وأهل الكتاب: {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} آل عمران20
- وليس هناك أديانا سماوية كما يقول الناس، بل هناك دين واحد هو الإسلام، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} آل عمران 19، وإنما هناك شرائعُ ومناهج، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً..} المائدة 48
- والإسلام هو الدين الذي أمرنا الله تعالى أن نموت عليه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} آل عمران 102 ومن مات على غير الإسلام فقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.
- إذاً فالإسلام هو دين الله تعالى الذي جاء به الأنبياء والمرسلون لشعوبهم وأقوامهم، جاء به نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وجعل الله لكل نبي شريعة ومنهاجا تختلف عن شريعة النبي الآخر، فهنيئا لمن كان مسلما، وعاش مسلما، ومات مسلما، هنيئا له الجنة، وويل لمن كان كافرا، وعاش كافرا، ومات على الكفر، ويل له من النار، ومن غضب الجبار جل جلاله.
وقد حاول الكفار بجميع طوائفهم إطفاء دين الإسلام على مر العصور، وما استطاعوا ذلك، ولو نظرنا في حاضر الإسلام، وكيف يتقدم ويكسب في كل يوم بل في كل لحظة مواقع جديدة، وناساً يدخلون فيه، وناساً من أهله يعودون إلى صفائه ونقائه، وإنجازات لرجاله ودعاته في مشاريع ومؤسسات وكتب، وجماهير تحتشد لهم، وجموعاً تؤم المساجد والمناسك، وصلاحاً هنا وهناك، وتقدماً في المواقع، رغم ضعف المسلمين، لو نظرنا في ذلك كله لأيقنا أن الإسلام هو دين الله الذي لا يقبل من أحد دينا سواه.
ولما لم يستطيعوا إطفاء نور الإسلام حاربوا أهل الإسلام، وأبادوا منهم جماعات ومجتمعات، وأسقطوا دولا وأذهبوا أسماءً وشعارات، وبقي الإسلام شامخا، لأنه دين الله، والذي يريد أن يطفأ نور الإسلام مثله كمثل الفراشة التي تحاول إطفاء نور الكهرباء يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُاْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} التوبة 32-33 ولن يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا وسيدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلا يذل الله به الكفر وأهله، كما النبي صلى الله عليه وسلم .
وما خُلقت هذه الأمة إلا للإسلام، وما وجدت إلا للإسلام، فالإسلام هو سر بقائها، والذي يريد أن يقضي على الإسلام فليقض على هذه الأمة، وهل يستطيع أحد أن يقضي على هذه الأمة أو على دينها، هيهات ثم هيهات!! فهذه الأمة موعودة بالبقاء، وليس بالبقاء فقط بل بالنصر والتمكين، ولا يزال الله عز وجل يخرج لهذه الأمة في كل مرحلة من تاريخها علماء ودعاة وقادة ومجاهدين يستعملهم في خدمة هذا الدين.(66/264)
انظروا كم دفن الناس من طاغية؟ وكم دفن الناس من كافر محارب لله ورسوله؟ كم دَفنوا من زنديق؟ وكم دفنوا من كافر؟ وكم دفنوا من منافق وملحد؟ فرعون مضى، النمرود مضى، أبرهة مضى، أبو جهل مضى، هولاكو مضى، جنكيز خان مضى، وقرونا بين ذلك كثيرا، حتى رؤساء الكفر والضلال في هذا الزمان سيدفنهم أصحابهم، حتى بابا الفاتيكان الذي حارب الإسلام طيلة حياته أخيرا مات وبقي الإسلام شامخا، فقط صبر جميل واستعانة بالله، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إخواني في الله:
إن هذا الدين هو كلمة الله عز وجل، ولا إله إلا الله هي كلمة الإسلام، ومن ذا الذي يستطيع أن يُطفأ نور هذه الكلمة؟!!
أتُطفِأُ نورَ الله نفخةُ كافر *** تعال الذي في الكبرياء تفردَّا
إذا جلجلت الله أكبر في الوغى *** تخاذلت الأصوات عن ذلك الندا
ومن خاصم الرحمن خابت جهوده *** وضاعت مساعيه وأتعابه سدى
ونقول اليوم لأمريكا: لستِ أول من حارب الإسلام، بل حاربه قبلك الكثير، لكن ماذا كانت النتيجة؟ أهلك الله كل من وقف في طريق الإسلام، وأبقى الله الإسلام شامخا، وسيبقى بموعود الله ورسوله، وهاهو الإسلام الآن يتململ في أوربا وأمريكا…
إخواني في الله: رغم الظروف الصعبة التي يمر بها المسلمون في كل مكان، إلا أن المستقبل للإسلام، لا بد أن يعتقد المسلمون وأبناء المسلمين بأن المستقبل للإسلام قطعاً، كيف وقد أفلس الغرب والشرق من القيم والمفاهيم والأخلاق؟ كيف وقد صاروا في أمر مريج؟ وما هو الدين المرشَّح للإنتشار والظهور، واقتناعِ البشرية به وإتيانهم إليه؟ أليس هو الإسلام؟ أليس الإسلام هو أسرع الأديان انتشارا في العالم رغم ضعف المسلمين اليوم، فكيف في غيره من الأوقات؟!!
أجل لقد أفلس الغرب في الأصول الاجتماعية التي قامت عليها حضارته، فحياة الغرب التي قامت على العلم المادي، والمعرفة الأولية، والكشف والاختراع، وإغراق أسواق العالم بمنتجات العقول والآلات، لم تستطع أن تقدم للنفس الإنسانية خيطا من النور، أو بصيصا من الأمل، أو شعاعا من الإيمان، ولم ترسم للأرواح القلقة أي سبيل للراحة والاطمئنان، رغم كثرة الكنائس والرهبان والكرادلة، ولهذا كان طبيعيا أن يتبرم الإنسان الغربي بهذه الأوضاع المادية البحتة، وأن يحاول الترفيه عن نفسه، ولم تجد الحياة الغربية المادية ما ترفِّهُ به عنه إلا الماديات أيضا، من الآثام والشهوات والخمور والنساء والاحتفالات الصاخبة والمظاهر المغرية التي تلهيه بها، ثم ازداد بها بعد ذلك جوعا على جوع، وأحس بصرخات روحه تنطلق عالية، تحاول تحطيم هذا السجن المادي، والانطلاق في الفضاء، واسترواح نسمات الإيمان، فاهتدت في آخر الطريق إلى الإسلام فدخلت فيه، فوجدت الراحة والأمن والأمان، وسلوا كل من أسلم يخبركم عن هذه الحقيقة، ومن هنا ندرك سر إقبال الغرب على الإسلام.
بل تدبروا معي ما تخطه الأقلام الغربية، لأن كثيرا من الناس -وللأسف- لا يصدقون الوحي إلا إذا كان من أوربا وأمريكا، أوردت مجلة التايم الأمريكية الخبر التالي: (وستشرق شمس الإسلام من جديد، ولكنها في هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي لا تشرق من المشرق كالعادة، وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب) من قلب أوروبا تلك القارة التي بدأت المآذن فيها تناطح أبراج الكنائس في باريس ولندن ومدريد وروما ونيويورك، وصوتُ الأذان الذي يرتفع كل يوم في تلك البلاد خمس مرات، خيرُ شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضا جديدة وأتباعا.
أصبح للأذان من يلبيه في كل أنحاء الأرض، من طوكيو حتى نيويورك، وعند نيويورك ومساجدها نتوقف، ففي أوقات الأذان الخمس ينطلق الأذان في نيويورك من مائة مئذنة، يلبي نداءَ المؤذن فيها نحو مليون مسلم، ويكفي أن تعلم أخي أنه قد بلغ عدد المساجد في أمريكا -قلب قلعة الكفر- ما يقرب من (2000) ألفي مسجد والحمد لله، وترتفع في بريطانيا مئذنة حوالي (1000) مسجد، وتعلو سماء فرنسا وحدها مئذنة (1554) مسجدا ولا تتسع للمصلين، وأما ألمانيا فتقدر المساجد وأماكن الصلاة فيها بـ(2200) مسجد ومصلى، وأما بلجيكا فيُوجد فيها نحو (300) مسجد ومصلى، ووصل عدد المساجد والمصليات في هولندا إلى ما يزيد عن (400) مسجد، كما ترتفع في إيطاليا وحدها مئذنة (130) مسجدًا أبرزها مسجد روما الكبير، وأما النمسا فيبلغ عدد المساجد فيها حوالي 76 مسجدا، هذه فقط بعض الدول في أوربا الغربية، عدا عن أوربا الشرقية، والإقبال على الإسلام يزداد يوما بعد يوم، ومن هذه المساجد يتحرك الإسلام، وينطلق في أوربا، لذلك ليس غريبا أن تشدد أوربا وأمريكا في أمر المساجد ومراقبة أهلها، والتضييق في إعطاء الرخص لبنائها، ولو علمتَ أخي أن معظم هذه المساجد كانت كنائس فاشتراها المسلمون وحولوها إلى مساجد لعجبت.(66/265)
أما جريدة السانداي تلغراف البريطانية فقالت في نهاية القرن الماضي: (إن انتشار الإسلام مع نهاية هذا القرن -يعني الذي مضى- ومطلع القرن الجديد -يعني الذي نحن فيه- ليس له من سبب مباشر إلا أن سكان العالم من غير المسلمين بدءوا يتطلعون إلى الإسلام، وبدءوا يقرءون عن الإسلام فعرفوا من خلال اطلاعهم أن الإسلام هو الدين الوحيد الأسمى الذي يمكن أن يُتبع، وهو الدين الوحيد القادر على حل كل مشاكل البشرية).
مجلة لودينا الفرنسية قالت بعد دراسة قام بها متخصصون: (إن مستقبل نظام العالم سيكون دينيا، وسيسود النظام الإسلامي على الرغم من ضعفه الحالي، لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة) لِمَ لا وهو دين الله الذي أنزله للعالمين؟!!.
وقال رئيس شرطة المسلمين وهو ضابط أمريكي أكرمه الله بالإسلام قال: (الإسلام قوى جداً جداً في أمريكا، وينتشر بقوة في الشرطة الأمريكية).
إخواني في الله: وبعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، ازداد في العالم الغربي الإقبال على فهم الإسلام بصورة غير متوقعة، وأصبحت نسخ القرآن الكريم المترجمة من أكثر الكتب مبيعا في الأسواق الأمريكية والأوربية حتى نفدت من المكتبات، لكثرة الإقبال على اقتنائها، وتسبب ذلك في دخول الكثير منهم في الإسلام، ويكفي أن تعلم أن في ألمانيا وحدها بيعت خلال سنة واحدة (40) ألف نسخة من كتاب ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الألمانية.
كما أعادت دار نشر (لاروس) الفرنسية الشهيرة طباعة ترجمة معاني القران الكريم بعد نفادها من الأسواق.
وفي عام 2001 نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالا ذكرت فيه أن بعض الخبراء الأميركيين يقدرون عدد الأميركيين الذين يعتنقون الإسلام سنويا بـ 25 ألف شخص، وأن عدد الذين يدخلون دين الله يوميا تضاعف أربع مرات بعد أحداث 11 سبتمبر حسب تقديرات أوساط دينية.
والمدهش أن أحد التقارير الأمريكية الذي نُشر قبل أربع سنوات ذكر أن عدد الداخلين في الإسلام بعد ضربات الحادي عشر من سبتمبر قد بلغ أكثر من ثلاثين ألف مسلم ومسلمة، وهذا ما أكده رئيس مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكي حيث قال: (إن أكثر من 24 ألف أمريكي قد اعتنقوا الإسلام بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، "وهو أعلى مستوى تَحقق في الولايات المتحدة منذ أن دخلها الإسلام".
إخواني في الله: ونظرا لإقبال الغرب على الإسلام فقد حذر أسقف إيطالي بارز من (أسلمة أوروبا).
وفي مدينة بولونيا الإيطالية حذر أسقف آخر من أن الإسلام سينتصر على أوروبا إذا لم تغدو أوروبا مسيحية مجددًا..
ولم يقتصر الأمر على هؤلاء بل وصل الخوف إلى من كان يسمى بالأمس القريب بابا الفاتيكان الذي صرخ بذعر في وثيقة التنصير الكنسي لكل المنصرين على وجه الأرض قائلاً: "هيا تحركوا بسرعة لوقف الزحف الإسلامي الهائل في أنحاء أوربا" وقد قضى البابا عمره لاهثًا وراء حلم توحيد جميع كنائس العالم تحت الكنيسة [الأم] بالفاتيكان، لمواجهة الزحف الإسلامي فما استطاع.
ونحن نقول للمسلمين ولأبنائنا المسلمين: إن المستقبل للإسلام، وبوادر الفتح الإسلامي لأوربا بات وشيكا إن شاء الله تعالى.........
وتدبروا معي هذا الحديث الذي يسكب الأمل في قلوب الأمة سكبا، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: سُئِلَ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً، يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ) رواه الإمام أحمد وصححه الألباني.
وفي هذه الأيام التي تُغرقنا فيها وسائل الإعلام بالحديث عن بابا الفاتيكان وموته، نرى في الجانب الآخر أعدادا لا يعلمها إلا الله يدخلون في دين الله أفواجا، وهذا التوجه الهائل نحو الدين الإسلامي هو ما يخيف الحكومات الغربية، ويجعلها تزداد خوفا وحقدا على الإسلام وأهله، ومحاولة وقف هذا الزحف الإسلامي بشتى الوسائل، بالحروب العسكرية تارة، وبالغزو الفكري تارة أخرى.
أجل إن الإعلام لا يريكم إلا ما يرى، بينما عندما يلقي داعية مسلما محاضرة عن الإسلام في قلب أمريكا كما فعل ذلك الداعية الإسلامي الأمريكي الذي كان قسيسا سابقا والمعروف بـ(يوسف استس) ألقي محاضرة عن الإسلام وفي نهاية المحاضرة أعلن جميع من في القاعة وعددهم 135 شخصا أمريكيا أعلنوا الشهادة بصوت واحد، فسبحان الله، أين وسائل الإعلام عن هذه المشاهد التي تهتز لها القلوب....؟.(66/266)
فهيا أيها المسلمون في كل مكان، تحركوا بكل ما تملكون من وسائل وإمكانيات، وبينوا صورة الإسلام المشرقة، فالإسلام الآن متهم في الغرب بالإرهاب والتطرف شئنا أم أبينا، فإن كنت أخي تعرف زميلا لك في أي مكان، فأرسل إليه رسالة، أو أهدئه كتابا أو شريطا عن الإسلام، وافعل ذلك مع جيرانك وزملائك في العمل، المهم أن تبذل شيئا للإسلام، وأنت سفيرُ الإسلام في هذه البلاد شئت أم أبيت، فهيا تحرك لخدمة دين الله تعالى، واعلم أن الكون لا يتحكم فيه الأمريكان ولا الفاتيكان، ولا يدير دفته الأوروبيون، بل إن الذي يدبر أمر الكون هو ملك الملوك سبحانه وتعالى، وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
تعلمون إخواني أن للإعلام تأثيرا كبيرا في صياغة الأحداث، والتأثير في عقلية القارئ والمستمع والمشاهد، وتوجيه الرأي العام حول ما يريد، بل وإقناعه بما يريد، إلا أن الأمر ليس بالضرورة كما تصوره وسائل الإعلام، فهي في غالب الأحيان تَذْكُرُ الجزء الذي يناسبها ويخدم مصالحها من القضية الكلية، وتتغاضي عمدا عن جوانب أخرى مهمة من الحدث نفسه.
ولا أشك أنكم قرأتم وسمعتم وشاهدتم شيئا مما تناقلته وسائل الإعلام في حدث وفاة يوحنا بولس الثاني زعيم الكنيسة الكاثوليكية الرومانية بالفاتيكان، حيث صوره الإعلام أنه الزعيم الروحي للبشرية جمعاء، ويحظى بإجماع دولي على زعامة العالم، في حين أنه لا يتعدى كونه زعيم واحدة من الكنائس النصرانية التي لا تحظى بالقبول من طرف كنائس أخرى تنتمي إلى نفس الديانة.
وإن المتابع لوسائل الإعلام في هذه الأيام يرى أنها عظَّمت الرجل كثيرا، وأكثرت من ذكر أعماله الإنسانية والتنصيرية، حتى صورته أنه رسول السلام الوحيد في هذا العصر، الحريص على أمن الشعوب في العالم، ناسين أو متجاهلين الحروب الصليبية الدموية قديما وحديثا ضد المسلمين وغير المسلمين من الديانات الأخرى.
أقول إن وراء هذه الحملة الإعلامية القوية، حملة تنصيرية عالمية، ودعوة خاصة للنصارى بكافة طوائفهم أن يعودوا إلى الكنيسة، ويحيوا دورها من جديد، بعد أن هجروها، وباعوا بعضها بالمزاد، وما كان مسجدُنا هذا، أعني مسجد الأزهر هنا إلا كنيسة باعوها بعد أن أصبحت خاوية على عروشها من المصلين، وهكذا حال معظم مساجد المسلمين في الغرب كانت كنائس فحولها المسلمون إلى مساجد.
أقول: إن الاهتمام العالمي الزائد بالرجل، وحضورَ رؤساء العالم اليوم للمشاركة في تشييعه، إنما هو ثمرة تقطفها النصرانية، التي باتت مهددة بالانحسار خاصة في أوربا، وذلك من جراء الزحف الإسلامي إلى قلبها كما سمعتم، حيث يتخذ الإسلام فيها مواقع جديدة كل يوم، من خلال دخول أهلها في الإسلام، كما صرَّح بذلك البابا نفسه عندما صرح بالمنصرين أن يهبوا للوقوف في وجه الزحف الإسلامي داخل أوربا.
وهذا إن دل فإنما يدل على قوة الإسلام وتقدمه، وقد استولى على الأخبار العالمية اليوم، فما من نشرة أخبار عالمية إلا وأخبار المسلمين تتصدرها أو تكون ضمنها، ولم يعد للنصرانية في السنوات الأخيرة ذكر في الأخبار العالمية، سوى فضائح الرهبان من اللواط والاغتصاب، فجاءهم حدث وفاة البابا فرصة ذهبية ليبشروا بالنصرانية التي قضى حياته في الدعوة إليها، كم من مسلم فقير في أدغال إفريقيا نصَّره! وكم من مسلم فقير عديم في آسيا نصَّره! ومن دين الإسلام أخرجه! ثم بعد ذلك يحزن البعض من المسلمين على وفاته، بل ويترحمون عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله!
اعلموا إخواني: أن أبناءنا هم رأس مالنا في هذه الحياة الدنيا، وهم أكبادنا تمشي على الأرض، ودينهم أغلى علينا من كل شيء، فإن خسرنا دينهم فقد خسرنا كل شيء، وإن ربحنا دينهم فقد ربحنا كل شيء.
نقول لإخواننا وأبنائنا: من مات على الإسلام فمصيره إلى الجنة بإذن الله تعالى خالدا فيها أبدا، ومن مات على الكفر بالله فمصيره إلى النار والعياذ بالله تعالى كائنا من كان، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } البقرة 161- 162 وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار).
نقول هذا لننظف أذهان إخواننا وأبنائنا مما سمعوه طيلة هذه الأيام من أخبار عن الرجل وديانته النصرانية وكنيسته الكاثوليكية وما سمعوه على الفضائيات من جواز الترحم عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(66/267)
اعلموا إخواني: أنه تحرم الصلاة والاستغفار والترحم على الكفار والمنافقين لقول الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } التوبة 84 ولقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} التوبة 113، قال النووي في المجموع(5/144،258) :: (الصلاة على الكافر، والدعاء له بالمغفرة حرام بنص القرآن والإجماع).
سبحان الله كيف يجوز الترحم على رجل ظل طيلة حياته وهو يدعو الناس إلى الكفر بالله والشرك بالله تعالى، وإقناعهم بأن عيسى هو ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وأنه قتل وصلب فداء للبشرية، والله تعالى يقول: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ }ويقول: { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} كيف نترحم أو نحزن على رجل كان سببا في تنصير كثير من فقراء المسلمين في أدغال آسيا وإفريقيا.
لم الحزن على رجل اعتذار لليهود عن الهوليكوست (محارق اليهود) ولم يعتذر للمسلمين عما لحق بهم من جرائم قديما وحديثا بدءا من محاكم التفتيش النصرانية، ومرورا بالحروب الصليبية، ووصولا إلى الإبادة الجماعية لمسلمي البوسنة والهرسك وكل ذلك باسم الصليب.
إن حروب العصر سواء كانت في البوسنة والهرسك أو في أفغانستان أو في العراق قد أوقد نارها شرذمة من المتطرفين النصارى الذين يكنون العداء للمسلمين، وما تصريحات بوش عند غزو العراق إلا دليل على ذلك، حيث أكد أن الحرب حرب صليبية، ويومها لم نسمع أي تعليق من البابا يستنكر فيه هذا الأمر الخطير، أو يردُّ عليه، وصدق الله العظيم: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} آل عمران اللهم قد بلغت اللهم فاشهد...
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، واحشرنا مسلمين مع سيد الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
خطبة الجمعة مات البابا وبقي الإسلام 28/صفر/1426هـ 8/4/2005م
==============(66/268)
(66/269)
موتوا بغيظكم يا عُباد الصليب
عبد العزيز بن ناصر الجليل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي رضي لنا الإسلام ديناً , ونصب لنا الدلالة على صحته برهاناً مبيناً , وأوضح السبيل إلى معرفته واعتقاده حقاً يقيناً , ووعد من قام بأحكامه وحفظ حدوده أجراً جسيماً , وذخراً لمن وفاه به ثوابا جزيلا وفوزاً عظيماً , وفرض علينا الانقياد له ولأحكامه , والتمسك بدعائمه وأركانه , والاعتصام بعراه وأسبابه
فهو دينه الذي ارتضاه لنفسه ولأنبيائه ورسله وملائكة قدسه , فبه اهتدى المهتدون وإليه دعا الأنبياء والمرسلون ( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ) , فلا يقبل من أحد دينا سواه من الأولين والآخرين , {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ]آل عمران :85[.
وحكم سبحانه بأنه أحسن الأديان , ولا أحسن من حكمه ولا أصدق منه قيلا فقال {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }]النساء 125[
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , ولا ضد له , ولا ند له , ولا صاحب له , ولا ولد له , ولا كفؤ له , تعالى عن إفك المبطلين , وخرص الكاذبين , وتقدس عن شرك المشركين وأباطيل الملحدين .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفوته من خلقه وخيرته من بريته , وأمينه على وحيه , وسفيره بينه وبين عباده , ابتعثه بخير ملة و أحسن شرعة , و أظهر دلالة وأوضح حجة , وأبين برهان إلى جميع العالمين أنسهم وجنهم , عربهم وعجمهم , حاضرهم وباديهم , الذي بشرت به الكتب السالفة , وأخبرت به الرسل الماضية , وجرى ذكره في الإعصار وفي القرى الأمصار والأمم الخالية , ضربت لنبوته البشائر من عهد آدم أبي البشر , إلى عهد المسيح ابن البشر .
رضي المسلمون بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا , ورضي المخذول بالصليب والوثن إلها وبالتثليث والكفر ديناً , وبسبيل الضلال والغضب سبيلا ... ( أما بعد )
فإن من بعض حقوق الله على عبده : رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان , والسيف والسنان , والقلب والجنان , وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان ........) ]اقتباساً من مقدمة كتاب (هداية الحيارى) لابن القيم رحمه الله باختصار.[
وإن ما تفوه به عابد الصليب وإمام الكفر ورئيسه في (الفاتيكان) لم يكن هو الأول من نوعه وليس غريباً أن يخرج من أفواههم النجسة مثل هذا الكلام لأنه وأمثاله قد ملئوا كفراً وحقداً وكل إناء بما فيه ينضح ومثل هذا الكفر المتجدد إنما هو زيادة في الكفر على كفرهم وإملاء من الله عز وجل لهم حتى يسرعوا إلى الأجل الذي قدره الله لهم ليقصمهم فيه ويمحقهم قال الله عزوجل {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ]آل عمران178. [
وليس الغرض من هذه الكتابة الرد على ماتفوه به إمام الكفر ومرجع النصرانية الوثنية في العالم اليوم فقد كفانا الرد على شبهاتهم أئمة الإسلام في القديم والحديث كشيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه العظيم ( الجواب الصحيح ) , وتلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه النفيس ( هداية الحيارى ) . هذا لو كان ما قاله رئيس الكفر ناشئاً عن جهل بالإسلام ورسول الإسلام أما وإنه يعرف حقيقة الإسلام وحقيقة نبينا صلى الله عليه وسلم كما يعرف أبناءه وما صده عن ذلك وجعله يقول ما قال إلا العناد الاستكبار فإن مثل هذا لا يستحق الرد ولا الالتفات وإنما الله عز وجل هو الذي يتولى الرد على هذا وأمثاله بما يشاء {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ }]الحج38.[
وإنما المقصود من هذه الكتابة مخاطبة إخواني المسلمين الموحدين بتوظيف هذا الحدث في التركيز والتأكيد على بعض المسائل والأصول المهمة التي يسعى أعداء هذا الدين من الكفرة والمنافقين في توهينها والتشويش عليها لعلمهم بأنها هي التي تحفظ للمسلمين كيانهم وعقيدتهم وأخلاقهم .
ويمكن الحديث عن هذه المسائل المهمة في ظل هذه الهجمة الشرسة من أئمة الكفر على ديننا حسب الوقفات التالية :
الوقفة الأولى : النظر إلى هذه الأحداث في ضوء السنن الإلهية .
الوقفة الثانية : من ألطاف الله عزوجل وحكمته في هذه الأحداث .
الوقفة الثالثة : موتوا بغيظكم .
الوقفة الرابعة : رمتني بدائها وانسلت .
الوقفة الخامسة : بل انتشر الإسلام بالسيف والبيان .
الوقفة الأولى : النظر إلى هذه الأحداث في ضوء السنن الإلهية :
يقول الله تعالى : {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ }]آل عمران137.[(66/270)
ويقول سبحانه { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }]فاطر43[
والآيات من كتاب الله عز وجل في الحث على النظر في السنن الربانية كثيرة جداً وبخاصة عند التقديم والتعقيب على قصص الأنبياء عليه الصلاة والسلام مع أقوامهم , إنه من الواجب على دعاة الحق والمجاهدين في سبيل الله أن يقفوا طويلاً مع كتاب الله عز وجل وما تضمن من الهدى والنور ومن ذلك ما تضمنه من السنن الربانية المستوحاة من دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام , وذلك لأن في معرفتها والسير على هداها أخذ بأسباب النصر والتمكين والفلاح , ونجاة مما وقع فيه الغير من تخبط وشقاء وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة , وحرمان التوفيق في النظر الصحيح للأحداث والمواقف وليس المقصود هنا التفصيل في موضوع السنن الربانية فهذا له مقام آخر , وإنما المقصود هو الاستضاءة بهذه السنن في الوصول إلى الموقف الحق الذي نحسب أنه يرضي الله عز وجل وذلك في الأحداث الساخنة التي تدور رحاها اليوم في حرب الإسلام وأهله .
وأكتفي بذكر سنة واحدة من سنن الله تعالى تتناسب هذا الحدث الذي نحن بصدده . وبفهم هذه السنة يزول الاستغراب مما يحدث ونتمكن من الفهم الصحيح لحقيقة هذه الهجمات المتتالية من أعداء الإسلام ودوافعها وحكمة الله عز وجل في إيجادها لأن من أسمائه سبحانه : العليم الحكيم ومن أثار هذين الاسمين الكريمين اليقين بأن أي شيء يحدث في خلقه سبحانه فإنما هو بعلم الله تعالى وإرادته وحكمته البالغة . وهذه السنة التي أعنيها هنا والتي هي مقتضى حكمته سبحانه وعلمه هي سنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل :
يقول الله عزوجل : { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }]البقرة251. [
ويقول تبارك وتعالى { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }]الحج40[.
في هاتين الآيتين أبلغ دليل على أن الصراع حتمي بين الحق وأهله من جهة والباطل وأهله من جهة أخرى , هذه سنة إلهية لا تتخلف ووقائع التاريخ القديم والحديث تشهد على ذلك وهذه المدافعة وهذا الصراع بين الحق والباطل إن هو إلا مقتضى علمه سبحانه وحكمته ورحمته ولطفه وهو لصالح البشرية وإنقاذها من فساد المبطلين , ولذلك ختم الله عز وجل آية المدافعة في سورة البقرة , بقوله سبحانه (وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
حيث لم يجعل الباطل وأهله ينفردون بالناس بل قيض الله له الحق وأهله يدمغونه حتى يزهق فالله تعالى يقول {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } ]الأنبياء:18[.
إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة بدون هذه السنة - أعني سنة المدافعة مع الباطل وأهل الفساد - إنهم يتنكبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عزوجل الذي ارتضاه واختاره لهم , وإن الذين يؤثرون السلامة والخوف من عناء المدافعة مع الفساد وأهله , إنهم بهذا التصرف لا يسلمون من العناء والمشقة , بل إنهم يقعون في مشقة أعظم وعناء أكبر يقاسونه في دينهم , وأنفسهم, وأعراضهم , وأموالهم , وهذه هي ضريبة القعود عن مدافعة الباطل , وإيثار الحياة الدنيا .
والمدافعة بين الحق والباطل تأخذ صوراً متعددة : فبيان الحق وإزالة الشبه ورفع اللبس عن الحق وأهله مدافعة , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة , وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين مدافعة , والصبر والثبات على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة مدافعة , ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله عز وجل على رأس وذروة هذا المدافعات لكف شر الكفار وفسادهم عن ديار المسلمين ودينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم .
واليوم لم يعد خافياً على كل مسلم ما تتعرض له بلدان المسلمين قاطبة من غزو سافر وحرب شرسة على مختلف الأصعدة , وذلك من قبل أعدائها الكفرة , وأذنابهم المنافقين , فعلى الصعيد العسكري ترزح بعض بلدان المسلمين تحت الاحتلال العسكري لجيوش الكفرة المعتدين التي غزت أهل هذه البلدان في عقر دارهم كما هي الحال في أفغانستان والشيشان والعراق وفلسطين وكشمير , وعلى صعيد الحرب على الدين والأخلاق والإعلام والتعليم والاقتصاد لم يسلم بلد من بلدان المسلمين من ذلك.(66/271)
وقد تقرر عند أهل العلم أن الجهاد يتعين على المسلمين إذا غزاهم الكفار في عقر دارهم, ويصبح واجباً على كل مسلم قادر أن يشارك في دفع الصائل عن بلده بكل ممكن , فإن كان الغزو عسكرياً وبالسلاح وجب رده بالقوة الممكنة والسلاح , وإذا كان الغزو بسلاح الكلمة والكتاب و المجلة والوسائل الإعلامية الخبيثة بأنواعها المقروءة والمسموعة والمشاهدة منها أقول : إذا كان الغزو من الكفار للمسلمين في عقر دارهم بهذه الوسائل والمعاول الخطيرة والتي يباشر الكفار بعضها وينيبون إخوانهم من المنافقين في بعضها فإن الجهاد بالبيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمدافعة والتحصين يصبح واجباً عينياً على كل قادر من المسلمين كل بحسبه .
وحينما نربط هذه السنة ومقتضى اسمائه الحسنى بهذه الأحداث التي تزامنت وتتالت وتشابهت قلوب أصحابها في الهجوم على دين الإسلام وأهله وبلدانه تتضح لنا هذه السنة بجلاء وحينئذ يرتفع الاستغراب مما يقوم به الكفار من هجوم وافتراء على دين الإسلام ويشمر المسلم للدخول في الصراع ضد أعداء الله تعالى بما يستطيع من نفسه وماله ولسانه وقلمه . قا صلى الله عليه وسلم : ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم ) ( رواه النسائي (3045)وصححه الألباني )
الوقفة الثانية : ذكر بعض الحكم والألطاف الإلهية المتجلية في هذه الأحداث.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ( وأسماءه الحسنى تقتضي آثارها , وتستلزمها استلزام المقتضي المُوجب لمُوجبه ومُقتضاه , فلا بد من ظهور آثارها في الوجود فإن من أسمائه : الخلاق المقتضي لوجود الخلق , ومن أسمائه الرزاق المقتضى لوجود الرزق والمرزوق , وكذلك الغفار والتواب والحكيم والعفو, وكذلك الرحمن الرحيم , وكذلك الحكم العدل , إلى سائر الأسماء , ومنها الحكيم المستلزم لظهور حكمته في الوجود , والوجود متضمن لخلقه وأمره , { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ] الأعراف :54[ فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه ، وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه وأمره , فمصدر الخلق والأمر عن هذين الاسمين المتضمنين لهاتين الصفتين , ولهذا يقرن - سبحانه - بينهما عند ذكر إنزال كتابه , وعند ذكر ملكه وربوبيته , إذ هما مصدر الخلق والأمر. ) ( الصواعق المرسلة : 4/1564)
إذا تبين لنا هذا الأصل العظيم أيقنا أن ما يجري اليوم من كيد وافتراء وهجوم شرس من الكفار على دين الإسلام فإنما هو بعلم الله تعالى وإرادته { ً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } ]الأنعام : 112[ .
وأن له سبحانه الحكم البالغة في ذلك . والمؤمنون يحسنون الظن بربهم سبحانه ويوقنون أن عاقبة هذه الأحداث التي يقدرها الله عز وجل هي خير ومصلحة ولطف بالموحدين إن شاء الله تعالى . ومع أن المعركة مع الكفار لازالت في بدايتها . ومع أنها موجعة وكريهة إلا أننا نلمس لطف الله عز وجل ورحمته في أعطافها ., وأقتصر على ثلاث من أهم هذه الألطاف والثمار العظيمة :
الأولى : تلك اليقظة الشاملة بين المسلمين والوعي بحقيقة أعدائهم وما يكيدون به للإسلام وأهله . ومع إن هذا العداء والكيد من الكفار قد حذرنا الله عز وجل منه في كتابه الكريم إلا أن كثيرا من المسلمين وبحكم غفلتهم عن كتاب ربهم سبحانه تلاوة أو تدبرا لم يتعظوا بكلام ربهم سبحانه فنسوا حظا مما ذكروا به وغفلوا عن عدوهم . ولذا فمن رحمته سبحانه أن يقدر أحداثاً مؤلمة للمسلمين لكنها تحمل في طياتها خيرا ومن ذلك كما أسلفت -يقظة المسلمين ورجوعهم إلى دينهم وتقوية عقيدة الولاء والبراء , وشحذ هممهم وعزائمهم لنصرة الدين والبراءة من أعدائهم وجهادهم باللسان والسنان . وهذا مكسب عظيم إذا قارناه بأحوال الأمة قبل ذلك وما كانت تعيشه من الغفلة والإنخداع بما يزعمه الكفرة والمنافقين أنهم دعاة سلام وأمن وحرية .
والمتدبرون لكتاب الله تعالى وتاريخ الصراع بين الحق والباطل لم يكونوا بحاجة إلي إقناعهم بعداوة الكفار وكيدهم من خلال هذه الهجمات الأخيرة بل إن هذه الهجمات زادتهم إيمانا ويقينا لما حذرهم الله عزوجل منه في كتابه الكريم .
ومن هذه التحذيرات قوله تعالى :{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } ]البقرة:120[ وقوله عز وجل :( وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ.... الآية { ] البقرة:217[ .
وقوله سبحانه : {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.... الآية} ]البقرة :105[ .
وقوله سبحانه {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ..... الآية} ] البقرة:109 [ .(66/272)
وقال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ]المائدة :51 [ .
إذن فلا غرابة إذا هاجموا دين الإسلام ورسول الإسلام r فهذا شأنهم وشنشنتهم في قديم الزمان وحديثه , وأعظم من ذلك وأشنع سبهم لله عز وجل وطعنهم في ربوبيته و ألوهيته بنسبة الولد إليه وجعله شريكا مع الله عز وجل في ربوبيته و ألوهيته تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
ولكن الملفت في هذه الهجمات المتأخرة تزامنها وتتابعها وتوزيع الأدوار بين رموز الكفر عندهم بمختلف توجهاتهم , السياسية , والدينية , والثقافية , و العسكرية .
والتصريح الذي صدر من رئيس الفتيكان يأتي في سياق حملة عالمية وراءها اليهود والنصارى وأذنابهم من المنافقين على الإسلام والمسلمين بدأت في دوائر الثقافة والفكر والإعلام فيما سمي بصراع الحضارات , وما سمي بنهاية التاريخ , وعبر عنه المحافظون الجدد في أمريكا والأحزاب والأنظمة والشخصيات المتناغمة معهم في أوروبا وأستراليا , وأيضاً عبر عنه الإنجيليون وعبرت عنه التجمعات الماسونية المختلفة في العالم , ثم تحولت هذه الحملة المحمومة المسمومة الحاقدة إلى فعل سياسي واحتلال عسكري يمارس من خلال الجيوش الغربية , حين أعلن الطاغوت الأول "بوش " أنها حرب صليبية , واحتلت العراق وأفغانستان , وتهدد وتحاصر البلدان الإسلامية الأخرى وتمارس عليها الضغوط ومن ذلك كلام بوش الأخير ووصفه للمسلمين بالفاشيين وقبله كلام رئيس الوزراء الإيطالي عن الحضارة والإسلام وبعده الرسوم المسيئة في الصحف الدنماركية ثم ها نحن نرى الآن رئيس الفاتيكان يبارك هذه الجهود , ويعلن من كرسي البابوية انسياقه في هذه الحملة , وهذا يذكرنا بدور الباباوات في الحروب الصليبية السيئة الذكر , التي حفل بها تاريخ الغربيين .
إذن فإن يقظة المسلمين ووقوفهم على حقيقة أعدائهم وما يخططون من حروب صليبية بدأت طلائعها في بعض بلدان المسلمين . إن هذا من فوائد هذه الأحداث المرة والتي يجب على دعاة هذه الأمة وعلمائها توظيفها في شحن الهمم وتقوية عقيدة الولاء والبراء ودعوة كل قادر في هذه الأمة إلى مواجهة هذا الغزو الخطير على بلدان المسلمين عقدياً وعسكرياً واستنفار المسلمين في جهاد الأعداء الغزاة باللسان والبيان والسنان .
الثانية : فضح الدعوات التي يرفعها رموز المنافقين وبعض المهزومين من المسلمين التي تدعو إلى التعايش مع الآخر وترك تسميته بالكافر والقضاء على مشاعر الكراهية نحوه بل الدعوة إلى محبته وموالاته !!
فهاهو حقد الآخر وكيده وحربه فماذا يقول دعاة ( نحن ولآخر ) ؟ وماذا يقوله رموز السلام الذين يريدون نزع الكراهية والبراءة من الكفار من صدور المسلمين ؟ ، وقال كلينتون -الرئيس الأمريكي الأسبق - في تصريحات لشبكة سي.إن.إن الإخبارية" إن البابا ساهم من خلال هذه التصريحات في إضعاف تأثير رجال الدين الإسلامي المعتدلين الذين يحاولون "استعادة" راية دينهم من الإسلاميين المتعصبين، وقال أيضا في برنامج لاري كينج لايف الحواري الشهير على الشبكة الأمريكية إن كل شخص منا يدلي بهذه التصريحات وخاصة إذا كان في منصب مرموق مثل البابا، يزيد من صعوبة مهمة المعتدلين في العالم الإسلامي".
إنهم يفتضحون وتتهاوى دعواتهم وبرامجهم, هذا عن المنافقين منهم . أما من انخدع بهذه الدعوات من جهلة المسلمين ومهزوميهم فأحسب أن الغفلة والتلبيس قد زالت عنهم وحل مكانهما الشعور بكراهية الكافر والبراءة منه ومن كفره والاستعداد لجهاده ورد كيده وكفره . وهذه ثمرة عظيمة أفرزها هذا الهجوم السافر الظالم من رموز الكفار المحاربين لله ولرسوله{فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً }]النساء19[
الثالثة : السقوط الذريع لما يسمى بالدعوة إلى وحدة الأديان وتقاربها !! ومع أن هذه الدعوة الخطيرة متهافتة وباطلة من أصلها بما تعرفه من استحالة اجتماع التوحيد مع الشرك حيث علمنا الله عز وجل أن لا وحدة ولا تقارب ولا تفاهم بين الإيمان والكفر وذلك في كتابه سبحانه حيث قال (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ) ]يونس: 32 [ ويبين لنا سبحانه موقف الكفار مع انبيائهم الذين يدعونهم إلى التوحيد بقوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } ] ابراهيم : 13 [(66/273)
وقال سبحانه عن نبيه هود عليه السلام وهو يتحدى قومه الكفار : ({قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }هود54*مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ }] هود:55 [ ومع وضوح هذه الأدلة الدامغة إلا أنه وجد من المسلمين من انخدع بمثل هذه الدعوات فراح يضيع عمره في اللهث وراءها . ولكن من رحمة الله تعالى ولطفه أن يقدر مثل هذه الأحداث التي تبين خبث القوم وكيدهم وغطرستهم مما كان له الأثر الكبير في استيقاظ المخدوعين من المسلمين على استحالة هذا التقارب وبطلانه من أصله .
ومن باب الفائدة في هذا المقام أحيل القارئ الكريم إلي فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في حكم الدعوة إلي وحدة الأديان وتقاربها وتحمل هذه الفتوى رقم(19042).
الوقفة الثالثة : ( قل موتوا بغيظكم )
يعجب بعض المتابعين من الحملة المتزايدة على الإسلام من بعض الزعماء الدينيين والسياسيين النصارى في السنوات الأخيرة , ويتساءل بعضهم عن سر التوقيت والتزامن , فمن كلام بوش عن المسلمين الفاشيين , إلى كلام البابا بندكت السادس عن - صلى الله عليه وسلم - وقبلها كلام رئيس الوزراء الايطالي عن الحضارة الإسلامية , وبعده الرسوم المسيئة , وغير ذلك من حملات التشويه ويتساءل البعض عن الأسباب الكامنة في هذه الحملات ولماذا في هذا الوقت بالذات ؟ ولا شك أن هناك أسباباً لهذه الحملات في هذا الوقت من أهمها ما يلي :
السبب الأول : الانتشار الواسع لدين الإسلام في معاقل النصرانية والذي أقض مضاجعهم وملأ قلوبهم غيظاً وحقداً وحسداً على أهل الاسلام والتوحيد ويمثل هذا الانتشار الواسع لدين الإسلام وكثرة المعتنقين له في المظاهر التالية :
أ- زيادة أعداد المساجد في دول الغرب :
ففي قلب أوروبا بدأت أعداد المساجد فيها تنافس أعداد الكنائس في باريس ولندن ومدريد وروما ونيويورك , وصوت الأذان الذي يرفع كل يوم في تلك البلاد خمس مرات , خير شاهد على ان الإسلام يكسب كل يوم أرضاً جديدة وأتباعا جدداً . فقد أصبح للأذان من يلبيه في كل أنحاء الأرض, من طوكيو حتى نيويورك , وعند نيويورك ومساجدها نتوقف , ففي أوقات الأذان الخمس ينطلق الأذان في نيويورك وحدها في مائة مسجد , وبلغ عدد المساجد في الولايات المتحدة الأمريكية ما يقرب (2000) مسجد والحمدالله.
وترتفع في بريطانيا مئذنة نحو (1000) مسجد , وتعلو سماء فرنسا وحدها مئذنة (1554) مسجداً ولا تتسع المصلين , وأما ألمانيا فتقدر المساجد وأماكن الصلاة فيها بـ (2200 ) مسجد ومصلى , وأما بلجيكا فيوجد فيها نحو (300) مسجد ومصلى ووصل عدد المساجد ومصليات في هولندا الى مايزيد عن (400) مسجد , كما ترتفع في إيطاليا وحدها مئذنة ( 130 ) مسجداً , أبرزها مسجد روما الكبير , وأما النمسا فيبلغ عدد المساجد فيها حوالي (76) مسجداً .
هذه فقط بعض الدول في أوروبا الغربية ، عدا عن أوروبا الشرقية، والاقبال يزداد يوماً بعد يوم، ومن هذه المساجد يتحرك الإسلام وينطلق .
ب - تحذير الصحف الغربية من إنتشار الإسلام :
فقد بدأت الصحف الغربية تطلق صيحات تحذير من إنتشار واسع لدين الإسلام بين النصارى , ومن ذلك ما جاء في مقال نشر في مجلة (التايم) الأمريكية " وستشرق شمس الإسلام من جديد , ولكنها هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا , فهي لا تشرق من المشرق كالعادة , وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب "
أما جريدة ( الصاندي تلغراف ) البريطانية فقالت في نهاية القرن الماضى : " إن إنتشار الإسلام مع نهاية هذا القرن - يعني الذي مضى - ومطلع القرن الجديد يعني الذي نحن فيه - ليس له من سبب مباشر إلا أن سكان العالم من غير المسلمين بدؤوا يتطلعون إلى الإسلام , وبدؤوا يقرؤون عن الإسلام, فعرفوا من خلال اطلاعهم أن الإسلام هو الدين الوحيد القادر على حل كل مشاكل البشرية "
مجلة (لودينا) الفرنسية قالت بعد دراسة قام بها متخصصون " إن مستقبل نظام العالم سيكون دينياً , وسيعود النظام الإسلامي على الرغم من ضعفه الحالي , لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة "
ج - انتشار بيع نسخ القران الكريم والكتب الإسلامية وبعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر , التي كان لها آثار سيئة واسعة على النشاطات الإسلامية في الغرب وعلى دول الإسلام , إلا أنه مع ذلك ازداد في العالم الغربي الإقبال على التعرف على الإسلام بصورة غير متوقعة , وأصبحت نسخ القران الكريم المترجمة من أكثر الكتب مبيعاً في الأسواق الأمريكية والأوروبية حتى نفدت من المكتبات , لكثرة الإقبال على اقتنائها , وتسبب ذلك في دخول الكثير منهم في الإسلام , وفي ألمانيا وحدها بيعت خلال سنة (40) ألف نسخة من كتاب ترجمة معاني القران الكريم باللغة الألمانية . كما أعادت دار نشر (لاروس) الفرنسية الشهيرة طباعة ترجمة معاني القران الكريم بعد نفادها من الأسواق .
د- تزايد أعداد الداخلين في الإسلام(66/274)
ففي عام 2001 نشرت صحيفة ( نيويورك تايمز ) مقالاً ذكرت فيه أن بعض الخبراء الأمريكيين الذين يعتنقون الإسلام سنوياً ب(25) ألف شخص ، وأن عدد الذين يدخلون دين الله يومياً تضاعف أربع مرات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حسب تقديرات أوساط دينية. والمدهش أن أحد التقارير الأمريكية الذي نُشر قبل أربع سنوات ذكر أن عدد الداخلين في الإسلام بعد ضربات الحادي عشر من سبتمبر قد بلغ أكثر من ثلاثين ألف مسلم ومسلمة ، وهذا ما أكده رئيس مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكي ؛ إذ قال : "إن أكثر من (24) ألف أمريكي قد اعتنقوا الإسلام بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر " وهو أعلى مستوى تحقق في الولايات المتحدة منذ أن دخلها الإسلام " .
أما في فرنسا فقد أوردت صحيفة(لاكسبرس) الفرنسية تقريراً عن انتشار الفرنسيين جاء فيه : "على الرغم من كافة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفرنسية مؤخراً ضد الحجاب الإسلامي وضد كل رمز ديني في البلاد ، أشارت الأرقام الرسمية الفرنسية إلى أن أعداد الفرنسيين الذين يدخلون في دين الله بلغت عشرات الآلاف مؤخراً ، وهو ما يعادل إسلام عشرة أشخاص يومياً من ذوي الأصول الفرنسية ، هذا خلاف عدد المسلمين الفعلي من المهاجرين ومن المسلمين القدامى في البلاد"
وقد أشار التقرير إلى أن أعداد المسلمين في ازدياد من كافة الطبقات والمهن في المجتمع الفرنسي، وكذلك من مختلف المذاهب الفكرية.
وهذا الانتشار الواسع لدين الإسلام يحصل مع التضييق الشديد على الأنشطة الإسلامية والجمعيات الخيرية الإسلامية في كثير من الدول ، ومع وجود الجهود الهائلة والإمكانات الضخمة التي يبذلها النصارى في نشر الديانة النصرانية والصد عن الإسلام على كافة الأصعدة حتى بلغت ميزانيات بعض الكنائس العالمية أكثر من مليار دولار للسنة الواحدة أ. هـ (باختصار عن مقال في موقع أنا المسلم).
وصدق الله العظيم {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } ]الأنفال: 36 [
كل هذا مما أغاظ الكفار ونفسوا عن هذا الغيظ والحقد بهذة الهجمات المخذولة . وهنا نقول ما قال الله عز وجل لسلفهم ( قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور) ال عمران.
السبب الثاني لهذه الحملات :
ما حققه الله عز وجل على أيدي المجاهدين في هذه الأمة جزآهم الله خيراً من نكاية وإثخان في الغزاة حيث نسمع ونرى من انتصارات المجاهدين في أفغانستان والعراق وفلسطين ما يثلج الصدور ويغم الكفار حيث أصبح الكفرة الغزاة في متناول المجاهدين الأسود تنالهم أيديهم ورماحهم فقذف الله في قلوبهم الرعب ورد الله كيدهم في نحورهم وصاروا يفكرون في الخروج من مأزقهم بعد أن ضنوا أن ديار المسلمين لقمة سائغة لهم . ولما رأى رموز الكفر في الغرب السياسيون منهم والدينيون تصاعد العمل الجهادي أمامهم وتصاعد الكراهية والبغض والبراءة منهم كل هذا زادهم غيضاً وحنقاً فلجئوا إلى هذه الحملات الفجة الحاقدة على الإسلام لينفسوا عن غيظهم نسأل الله عز وجل أن يزيدهم حسرة وأن يموتوا بغيظهم {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } ]التوبة :32.[
السبب الثالث :
التغطية على جرائمهم البشعة بنشر التشويه لسمعة المسلمين في العالم وتبرير حملاتهم البربرية على بلدان المسلمين بحجة الحرب على الإرهاب ونشر السلام حيث أن هذه الحملات تأتي بمباركة رئيس الفاتيكان كما كان ذلك في الحروب الصليبية القديمة التي حفل بها تاريخ الغرب الصليبي حيث سبقها مباركة الباباوات وتشجيعهم للنصارى على حرب المسلمين ، وتصويرهم لأنفسهم بأنهم رسل حضارة وتقدم ، وإظهار إبادتهم للمسلمين بأنها دعوة للسلام والحرية والديموقراطية!!.
الوقفة الرابعة: رمتني بدائها وانسلت
هذا المثل يضرب لمن يعير غيره بعيب هو فيه ( أنظر مجمع الأمثال 2/23) وإنه لمن العجائب والمضحكات أن يتهم عابد الصليب دين الإسلام بأنه مخالف للعقل والمنطق أو أنه متعطش للدماء، وأنه ما قام إلا على العنف والحقد والإكراه!!
إن عابد الصليب حينما تفوه بهذا الكلام من فمه النجس ليعلم في قراره نفسه أنه كذاب وأن دين النصرانية الذي هو رئيسة اليوم عارق في أوحال الشرك والهمجية وإلغاء العقل والتفكير ، كما يعلم في نفس الوقت أن دين الإسلام بريئ من كل ما قال وأنه ما من دين أكرم العقل و وضعة في مكانة اللائق به كالإسلام .
إن رئيس الفاتيكان يعلم ذلك علم اليقين ولكنه الاستكبار والحسد والغيظ قال الله عز وجل عن سلفه
(الذين أتاهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) البقرة :(66/275)
وقال عن من آمن منهم وانقاد للتوحيد والإسلام {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } ]لمائدة : 83[
فسبحان من وفق من شاء من عبادة إلى هدايته وحرم من حرم منهم حكمة منه وعدلا.
وأكتفي بمثال واحد ساقه الإمام أبن القيم رحمه الله تعالى من دين النصارى المحرف يدل على همجية العقول وانتكاسها قال رحمة الله تعالى : ( وكيف لا يميز من له أدنى عقل يرجع إليه بين دين قام أساسه وارتفع بناؤه على عبادة الرحمن ،والعمل بما يحبه ويرضاه مع الإخلاص في السر والإعلان ، ومعاملة خلقه بما أمر به من العدل ولإحسان، مع إيثار طاعته على طاعة الشيطان ، وبين دين أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار بصاحبه في النار ، أسس على عبادة النيران ، وعقد الشركة بين الرحمن والشيطان ، وبينه وبين الأوثان ، أو دين أسس بنيانه على عبادة الصلبان والصور المدهونة في السقوف والحيطان. وأن رب العالمين نزل عن كرسي عظمته فالتحم ببطن أنثى ، وأقام هناك مدة من الزمان بين دم الطمث وظلمات الأحشاء تحت ملتقى الأعكان، ثم خرج صبياً رضيعاً يشب شيئاً فشيئاً ويأكل ويشرب ويبول وينام ، ويتقلب مع الصبيان .
ثم أودع في المكتب بين صبيان اليهود يتعلم ما ينبغي للإنسان ،هذا وقد قطعت منه القلفة حين الختان، ثم جعل اليهود يطردونه ويشردونه من مكان إلى مكان .
ثم قبضوا عليه ، وأحلوه أصناف الذل والهوان ، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجا من أقبح التيجان، وأركبوه قصبة ليس لها لجام ولا عنان ، ثم ساقوه إلى خشبة الصلب مصفوعاً مبصوقاً في وجهه ، وهم خلفه وأمامه وعن شمائله وعن الأيمان .
ثم أركبوه ذلك المركب الذي تقشعر منه القلوب مع الأبدان ، ثم شدت بالحبال يداه مع الرجلان ، ثم خالطهما تلك المسامير التي تكسر العظام وتمزق اللحمان ، وهو يستغيث : ياقوم ارحموني! فلا يرحمه منهم إنسان .
هذا وهوا مدبر العالم العلوي والسفلي الذي يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شان ) من مقدمة كتاب هداية الحيارى.
ولكن العجيب المضحك كما أسلفت هو أن يرمي هذا المخذول خصمه بما هو غارق فيه وفي أوحاله ولكنها الغطرسة والاستخفاف بعقول الناس إذ كيف يرمي غيره بحجر من بيته من زجاج!؟
أما الأشد عجباً وسخفاً فهو رميه لدين الإسلام بأنة متعطش للدماء والعنف وأنه انتشر على جماجم الناس وأشلائهم !! ألا يستحي هذا الظالم المخذول من نفسه؟ إنه والله يعلم أنه كاذب وأن الناس يعلمون أنه كاذب ولكنه الاستخفاف بعقول الناس والكبر و الغطرسة. وإلا فماذا يقول عباد الصليب عن حروبهم الدينية المخزية عبر مئات السنين التي شنوها قديماً في حروبهم الصليبية؟! ومن هم الذين وراءها وماذا يقولون عن محاكم التفتيش. وماذا يقولون عن الحربين العالميتين التي قتل فيها الملايين من بني جلدتهم ومن غيرهم . ومن هم الذين غزوا بلاد المسلمين واحتلوها في القرن الماضي ومن هم الذين قتلوا عشرات الآلاف بالقنبلة الذرية التي تحرق الأخضر واليابس!!
ومن هم الذين قتلوا وشردوا مئات الآلاف في أفغانستان والعراق !!؟
ومن الذين قتلوا المسلمين ودفنوهم في مقابر جماعية في حرب البوسنة والهرسك؟!!
ومن هم الذين ساهموا في المذابح المروعة في أفريقية بمباركة قسيس ورهبان الهوتو التي حدثت لقبائل التوتسي ؟! ! ومن ومن؟
إن كل هذه الجرائم والدماء والأشلاء إنما تمت على يد النصارى بمباركة قساوسهم فكيف لا يستحي هذا المتغطرس النجس من هذه الجرائم؟ لكنهم استخفوا بعقول الناس وبدلاً من الاعتراف بهذه الجرائم والانكفاء على أنفسهم راحوا يزيدون جرائمهم ويشعلونها حرباً على الإسلام ثم يسمون جميع ضحاياهم إرهابيين أو أنهم دعاة للإسلام بالعنف ويسمون إبادتهم دعوة للسلام والحرية والديمقراطية!! إنهم هم فقط لهم حق القتل والإبادة ويجب أن يقبل المسلمون بالموت وأن يعتبروه حرية وتقدماً وسلاماً مسيحياً !!
الوقفة الخامسة : بل انتشر الإسلام بالسيف والبيان.(66/276)
إنه لمن المؤسف أن يضع بعض الدعاة والمفكرين من المسلمين أنفسهم موضع المتهم المنهزم الذي يريد أن يبرئ نفسه من تهمه ويحسن وضعه عند خصمه . إن هذا المنهج الأعوج هو ما يتبناه اليوم بعض من قام بالرد على عابد الصليب المخذول عندما قال أن الإسلام أنتشر بالسيف ، فبادر هؤلاء بالرد عليه بقولهم إن الإسلام لم ينتشر بالسيف ،وإنما بالدعوة والبيان وإنما كان السيف للدفاع عن النفس و عن الديار فقط!! ولا يخفى ما في هذا الكلام من مخالفة لما ذكره الله عز وجل في كتابة الكريم عن غاية الجهاد وما فيه أيضاً من مخالفة لسيرة الرسو صلى الله عليه وسلم والخلفاء وأمراء المسلمين من بعدة في تسيير الجيوش لفتح الدنيا وإزالة الطواغيت الذين يصدون عن الدين الحق وحتى لا تكون فتنة أي شرك . ويكون الدين كله لله يقول الإمام أبن القيم رحمه الله تعالى:( والسيف إنما جاء منفذاً للحجة مقوماً للمعاند ، وحداً للجاحد، قال تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }]الحديد25 [
دين الإسلام قام بالكتاب الهادي ونفذه السيف الماضي شعر:
فما هو إلا الوحي أوحد مرهف ** يقيم ضباه أخدعي كل مائل
فهذا شفاء الداء من كل عاقل * وهذا دواء الداء من كل جاهل
]هداية الحيارى (المقدمة)[
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى : ( إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر ، وتحت الهجوم الإستشراقي الماكر ، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة . والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيداً أن هذه ليست الحقيقة ، ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة .. ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون- عن سمعة الإسلام،
بنفي هذا الاتهام! فيلجأون إلي تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في ((تحرير الإنسان)) ابتداء...
والمهزومون روحياً وعقلياً حين يكتبون عن ((الجهاد في الإسلام)) ليدفعوا عن الإسلام هذا الاتهام.. يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه، والتي تعبد الناس للناس وتمنعهم من العبودية لله ومن أجل هذا التخليط -وقبل ذلك من أجل الهزيمة! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم : ((الحرب الدفاعية)).. والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك.. ان بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة ((الإسلام)) ذاته، ودوره في هذه الارض، وأهدافه العليا التي قررها الله، وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين، وجعلها خاتمة الرسالات..
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير ((الإنسان))في ((الأرض)) من العبودية للعباد- وذلك بإعلان الوهية الله وحده - سبحانه- وربوبيته للعالمين..
ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم قد امنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلي أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدافعون هذا المد، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية من: أنظمة الدول السياسية، وأنظمة المجتمع العنصرية إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير ((الإنسان)) نوع الإنسان .. في ((الأرض)) .. ملء الأرض.. ثم تقف أمام العقبات تجاهدها باللسان والبيان!.. إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد، تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات .. فهنا: ((لا إكراه في الدين)).. أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله، وهو طليق من الأغلال)) [ أنظر في ظلال القران 3/1440-1444 ،3/1433-1436 ].
ولقد وقفت على مقال مسدد في موقع (المختصر) أحسب ان صاحبه وفق لبيان الحق في هذه المسالة ومن باب الفائدة أنقله مختصراً : "إنَّ الإسلام يحتاج اليوم إلى من يقدمه للناس كما هو بِعزَّة ووضوح، نعم بحكمة ولكن دون تحريف أو انهزام. والذي أعتقده أنَّ الفرصة هذه الأيام سانحة لمثل هذا التقديم، فلا ينبغي تضييعها. والإسلام ليس ضعيفاً كي نضعه في قفص الاتهام ثم نجهد في الدفاع عنه لإخراجه منه!(66/277)
وهكذا أوقعونا في الفخ فقالوا: إنَّ إسلامكم انتشر بالسيف، ودينكم دين إرهاب، وإنَّ نبيكم لم يأتِ إلا بالدمار للعالم! وأنتم معشر المسلمين تحبون الدماء! فقام المخلصون، وهم إما جهلة، وإما منهزمون، وإما يريدون تجميل الإسلام إلى أن يفتح الله، وإما ـ وللإنصاف ـ مجتهدون، يَردون: كلا ديننا لم ينتشر بالسيف، انظروا إلى شرق آسيا لم يدخله الإسلام إلا عن طريق التجار، وكلا نحن لسنا إرهابيين، نحن ألطف مَن خلَقَ الله! ونبينا نبي الرحمة، حتى الحيوانات لم تهملها رحمته! أما عن حبنا للدماء فإشاعات مغرضة والله!
ألا دعونا مما قاله رئيس الفاتيكان وأجداده وأبناؤه، وقولوا لنا ماذا قال الله سبحانه، وماذا قال رسول صلى الله عليه وسلم ! دعونا من فقه الأزمة هذا الذي يقودكم وخذونا إلى فقه الرشد الذي دلَّنا اللهُ عليه ورسولُه، وحمله الصحابةُ ومن بعدهم من كبار الأمة وفقهائها وعليه ساروا حتى وهم في أصعب حالاتهم أيام الصليبيين والتتار، ذلك أنَّ الهزيمة لا تقاس بكم احتل من أشبار، وإنما بكم احتل من قلوب!
قال الله تعالى: "{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }]الحديد25 [
لقد بينت الآية القاعدة التي يقوم عليها الإسلام، وهي الكتاب، والقوة. وقد قال ابن تيمية رحمه الله: "قِوام الدين: كتاب يهدي وسيف ينصر"، لقد جاء الإسلام معلنا للحق، ومؤيدا للحق في نفس الوقت، وما الطغيان الذي نراه اليوم إلا لأن الحق لا قوة له، ولذلك أمر الله المسلمين بالإعداد{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ ..... }]الأنفال: 60[. أمر بذلك لأنه لا يوجد مبدأ دون قوة، وسواء كان هذا المبدأ حقا أم باطلا، أرضيا أم سماويا فلا بد له من قوة تحميه.
الإسلام دين السيف لأنه جاء لقيادة البشرية نحو خيرها، فمن حقها أن تبلغَها الدعوةُ، ولا يمكن هذا إلا بتحطيم الأنظمة التي تحول بين الناس وبين أن يسمعوا كلمة الله . والإسلام دين السيف لمنع الفتنة التي يقترفها المفسدون في الأرض، وليكون الدين كله لله "لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان، ولكن بمعنى استعلاء دين الله في الأرض"، قال تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين" (البقرة: 193).
وهل نريد هذا فعلا؟! مع كل هذا الضعف: نعم! ومع كل هذا الهوان: نعم! ونحن تحت القصف: نعم! ونحن مشردون: نعم! هذا هو فقه الرشد الذي لا يتغير في الأزمات! وغيره فقه أزمة لا يمثل الإسلام، وإنما يمثل النفوس المسحوقة...
والإسلام دين السيف لأن الصراع بين الخير والشر لا ينقطع، فالحياة قائمة على قانون التدافع، ولو تمكن الشر وحده من الأمر ـ كما يحصل الآن ـ لفسدت الحياة. وما الطغيان الذي نراه اليوم إلا لانعدام القوة المقابلة. قال الله تعالى{ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } ]الحج: 40[...والإسلام دين السيف لأنه فعل رسول ا صلى الله عليه وسلم ، نبي المرحمة ونبي الملحمة؛ نبي المرحمة في وقتها، ونبي الملحمة في وقتها، وهذا مقتضى الحكمة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم
فإن قيل حلم فقل للحلم موضع ** وحلم الفتى في غير موضعه جهل
فهو r الذي أمر بقتال الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله ... كما صح عنه، والنص عام والقول بأنه خاص بوقته ضعيف. وهو الذي أمر كما قال الصحابي فيما رواه البخاري: "أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية".[ البخاري (2925) ].
لقد آن للمسلمين أن يتحولوا إلى موقف الهجوم بدلا من موقف الدفاع الذي لصقوا به دهرا طويلا، وليقولوا للعالمين: إذا كان الإرهاب لحفظ الحق، فنحن إرهابيون، ذلك أن الإرهاب ليس وصفا مطلقا فقد يكون خيرا وقد يكون شرا! كالقتل، منه ما هو شر، ومنه ما هو خير، فقتل النفس البريئة شر، وقتل القاتل خير! وهكذا...
إن من يتهمنا بالإرهاب هم آخر من يحق لهم الكلام عنه، فلسنا نحن الذين استعمرنا العالم في القرون الوسطى، أنهكنا الشعوب وسرقنا خيراتها، ولسنا نحن الذين اصطحبنا رجال الدين ليخدعوا الشعوب باسم الرب! ولسنا نحن الذين أشعلنا أقذر حربين في قرن واحد أكلتا ملايين البشر، ومحقتا خيرات الدنيا! والقائمة تطول.) أ .هـ ]أنظر موقع المختصر المقال بعنوان (بل الإسلام دين السيف)[ إبراهيم العسعس.(66/278)
( هذا هو قوام الأمر في نظر الإسلام. وهكذا ينبغي أن يعرف المسلمون حقيقة دينهم، وحقيقة تاريخهم، فلا يقفوا بدينهم موقف المتهم الذي يحاول الدفاع، إنما يقفون به دائماً موقف المطمئن الواثق المستعلي على تصورات الأرض جميعاً، وعلى نظم الأرض جميعاً، وعلى مذاهب الأرض جميعاً، ولا ينخدعوا بمن يتظاهر بالدفاع عن دينهم بتجريده في حسهم من حقه في الجهاد لتأمين أهله، والجهاد لكسر شوكة الباطل المعتدي، والجهاد لتمتيع البشرية كلها بالخير الذي جاء به، والذي لا يجني أحد على البشرية جناية من يحرمها منه، ويحول بينها وبينه. فهذا هو أعدى أعداء البشرية، الذي ينبغي أن يطارده المؤمنون، الذين أختارهم الله وحباهم بنعمة الإيمان، فذلك واجبهم لأنفسهم وللبشرية كلها، وهم مطالبون بهذا الواجب أمام الله..
جاهد الإسلام أولاً ليدفع عن المؤمنين الأذى، والفتنة التي كانوا يسامونها، وليكفل لهم الأمن على أنفسهم، وأموالهم، وعقيدتهم. وقرر ذلك المبدأ العظيم { والفتنة أشد من القتل}. فأعتبر الاعتداء على العقيدة والإيذاء بسببها، وفتنة أهلها أشد من الاعتداء على الحياة ذاتها. فالعقيدة أعظم قيمة من الحياة وفق هذا المبدأ العظيم، وإذا كان المؤمن مأذون في القتال ليدفع عن حياته وعن ماله، فهو من باب أولى مأذون في القتال ليدفع عن عقيدته ودينه .....
وجاهد الإسلام ثانياً لتقرير حرية الدعوة- بعد تقرير حرية العقيدة- فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة ، وبأرقى نظام لتطوير الحياة جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها ؛ ويبلغه إلى أسماعها وإلى قلوبها فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر . ولا إكراه في الدين ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة ؛ كما جاء من عند الله للناس كافة . وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا . ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الأرض تصد الناس عن الإسماع إلى الهدى ، وتفتن المهتدين أيضاً فجاهد الإسلام ليحطم هذه النظم الطاغية ؛ وليقيم مكانها نظاماً عادلاً يكفل حرية الدعوة إلى الحق في كل مكان وحرية الدعاة . وما يزال الجهاد مفروضاً على المسلمين ليبلغوه إن كانوا مسلمين !
وجاهد الإسلام ثالثاً ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه . وهو وحده النظام الذي يحقق حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان ؛ حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال؛ ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها ..) أنظر باختصار في ظلال القرآن 1/294-296
وقد يستغرب القارئ هذا الاستطراد في هذه المسألة ولكن هذا الاستغراب يزول إذا نظرنا إلى ضخامة هذا التلبيس والتضليل الذي تتعرض له ثوابت هذا الدين وشعائره . فعندما ندرك خطورة هذا التبديل في دين الله عز وجل فإنه لا يستكثر الكلام في إزالة هذا اللبس وبيان الحق للناس . بل أن الأمر يستحق بسطاً وتفصيلاً أكثر من ذلك . ولكن مالا يدرك كله لا يترك جله . والله سبحانه الموفق والمعين والمسدد .
وفي ختام هذه المقالة أقول ما قاله ابن القيم رحمه الله تعالى في آخر خطبة كتابة
(هداية الحيارى)
((فلله الحمد الذي أنقذنا ب صلى الله عليه وسلم من تلك الظلمات ، وفتح لنا به باب الهدى فلا يغلق إلى يوم الميقات ، وأرانا في نوره أهل الضلال وهم في ضلالهم يتخبطون ، وفي سكرتهم يعمهون ، وفي جهالتهم يتقلبون وفي ريبهم يترددون ، يؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت ،يؤمنون ويعدلون ، ولكن بربهم يعدلون ، ويعلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ، ويسجدون ولكن للصليب والوثن والشمس يسجدون ، ويمكرون ولكن لا يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } ]ال عمران :164[
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } ]البقرة :151[
الحمد لله الذي أغنانا بشريعته التي تدعوا إلى الحكمة والموعظة الحسنة، وتتضمن الأمر بالعدل والإحسان ، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، فله المنة والفضل على ما أنعم به علينا وآثرنا به على سائر الأمم ، وإليه الرغبة أن يوزعنا شكر هذه النعمة ، وأن يفتح لنا أبواب التوبة والمغفرة والرحمة ..))
وكتبه: عبد العزيز بن ناصر الجليل
==============(66/279)
(66/280)
بوش يصر على أنها حرب صليبية
الإسلام اليوم - القاهرة: 16/1/1423
30/03/2002
الحرب التي بدأتها الولايات المتحدة بتأييد غربي كامل ضد ما أسمته بالإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الماضي، ووصفها (بوش) في بدايتها بأنها حرب صليبية، وبرر الإعلام الأمريكي والغربي ذلك بأنها زلة لسان، وقد زل لسان وزير خارجيته (كولين باول) هو الآخر وقال: إنها حرب صليبية، ثم أعلنها (بيرلسكوني) صراحة.. إنها حرب على الإسلام.. فالحضارة الغربية - حسب قوله - أعلى وأكثر تفوقًا على الإسلام، والإسلام من وجهة نظره لا يلبى حقوق الإنسان.. والتعددية والديمقراطية.. إلخ.
وإذا كان البعض يحاولون إلهاء الناس بتصريحات رسمية تطالب الجمهور الأمريكي والغربي - الذي أظهرت جماعات منظمة منه عنصرية فائقة - بأن لا يعامل المسلمين والعرب بشكل عنصري داخل أوربا وأمريكا ، فإن الجرائم متواصلة وتتحول إلى ممارسات إدارية رسمية بل وقانونية مستقرة.. بعد أن انطلقت جماعات منظمة فى كل أنحاء الولايات المتحدة تقتل العرب والمسلمين.. بالشكل والمظهر..قتلاً على الهوية .
وقد أصبح مؤكداً أن الرئيس (بوش) يعتقد حقيقة أنه يقود حملة صليبية. فقد عاد ليستعمل العبارة، و قال (بوش) خلال حديثه إلى الجنود الكنديين الذين سارعوا للالتحاق بالقوات الأمريكية "إن هؤلاء"وقفوا إلى جانبنا في هذه الحملة الصليبية الهامة للدفاع عن الحرية".
حقيقة إنها حملة صليبية في وقت يتعلم الفلسطينيون- كما يقول روبرت فسك - كيفية الحصول على "الحرية"، و يستمر (بوش) في منح الضوء الأخضر (لأريل شارون) في "حربه ضد الرعب". و تمثل قدرة الأمريكيين على إعادة كتابة التاريخ، و تفتيت النزاع الفلسطيني الإسرائيلي إلى مجموعة من الأفكار المسبقة - فضيحة في حد ذاتها. فقد تحولت الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى "أراض متنازع عليها"، كما أصبحت المستوطنات اليهودية في الأراضي العربية إلى "ضواحي" حسب (سي آن آن) و (البي بي سي). أما فيالق الموت الإسرائيلية فتعتبر "قوات نخبة تقوم بعمليات قتل مستهدفة." و بالطريقة نفسها تعلن وسائل الإعلام الأمريكية انتصارها في أفغانستان.
و هذا كذب آخر. طائرات (ب-52) تقصف بقنابلها الخطيرة "مقاتلين أعداء" - ليسوا أعداء للولايات المتحدة، و إنما اعترضوا على الاختيار الأمريكي الذي وقع على "حامد قرضاي".إن الغرب يتجاهل في الوقت نفسه الحرب الفلسطينية - الإسرائيلية. فقد قال تقرير أمريكي رسمي صدر مؤخراً: إن الانتفاضة الفلسطينية "خطأ إستراتيجي". و اعتبر مسؤول رسمي إسرائيلي حسب يومية "هآرتز" الإسرائيلية لزملائه أن عليهم التعلم من سلوك الجيش الألماني في "غيتو وارسو" أيام الحكم النازي. و ليس هناك حاجة للتذكير بأن مثل هذا التقرير لا ينشر في الولايات المتحدة إنما نشر في الصحف البريطانية .
الحقيقة هي أن الفلسطينيين تعلموا من تاريخهم الإسلامي الزاخر كيف أن خيارهم هو عدم الاستسلام للاحتلال ما دام بإمكانهم المواجهة بالسلاح. إنها حرب شرسة و فظيعة إنها السنة الأكثر رعبا في تاريخ إسرائيل الحديث. لكنها أيضا حرب ضد الاحتلال و ضد المستوطنات، و نحن نسمع لتقارير الخارجية الأمريكية، و لتصريحات المتحدث باسمها يتملكنا اعتقاد بأن الولايات المتحدة تبنت حقًا مواقف (شارون) المجنونة التي تعتبر عرفات جزءًا من الإرهاب العالمي." و بالنظر إلى التقارير الأمريكية عن الوضع في الشرق الأوسط يمكننا التساؤل لماذا يرغب البنتاغون في إنشاء "مكتب التأثير الإستراتيجي" أو بتعبير أدق مكتب " بث الأخبار الكاذبة" من أجل إخفاء الحقيقة و الكذب على الصحافة، ما دام الصحفيون الأمريكيون لا يترددون في اعتناق طروحات حكومتهم، و لا داعي بالتالي لإنفاق عشرة بلايين دولار من أجل بيع هذا النوع من التدليس
==============(66/281)
(66/282)
حملة صليبية... وليست غزوة حضارية
السيد أبو داود 13/1/1425
04/03/2004
إذا كان الرئيس الأمريكي بوش قد خانه التعبير وقال في رده على ما حدث في واشنطن ونيويورك في 11 سبتمبر 2001م "إن هذه الحرب ستكون مختلفة عن كل الحروب .. إنها حرب صليبية على الإرهاب ، فالإرهاب موجه ضد المسيحية واليهودية".
هذا الكلام فضح المسألة برمتها ، وهو يفسر تمامًا تفكير وفعل الإدارة الأمريكية - مسنودة في الغالب بكثير من الدعم الأوروبي - في عملياتها ضد العالم الإسلامي في أفغانستان والعراق وباكستان وإيران وليبيا وفي تهديدها لمصر والسعودية والسودان واليمن .. إلخ.
والمشكلة في العقل الأوروبي ليست وليدة اليوم؛ بل هي ترجع إلى فترة الإمبراطورية الرومانية، فهذه الإمبراطورية تمثل مرجعية أساسية للتفكير الغربي.. ومعروف أنها كانت تسعى لفرض قيمها على العالم بالقوة والحرب، حيث كانت مؤمنة بأن العالم يجب أن يتبع قانونها الإمبراطوري.. والمؤرخون يؤكدون أن الإمبراطورية الرومانية حينما اعتنقت النصرانية طوعت الدين لخدمة أغراضها الإمبراطورية الإمبريالية التوسعية ولم تسع هي إلى ضبط تصرفاتها بالدين .. وأصبح هذا موروثًا في الفكر والممارسة الأوروبية والأمريكية على مر التاريخ .
وأصبح الغرب يدبرون الحروب التي يخوضونها ضد العالم لفرض هيمنتهم عليه بأنها "حرب عادلة" .. والحرب العادلة هي التي تحقق أغراض وأهداف وخطط الغرب الصليبي.
وهكذا ظلت ازدواجية القيم أمراً ثابتاً في علاقة الغرب بالعالم فباسم الصليب شنت أوروبا النصرانية على العالم الإسلامي حروباً دامت مئتي سنة احتلت بلاده ومقدساته وذبحت أهله.
الاستعمار الحديث جزء من الحرب الصليبية
كثير من المؤرخين والمثقفين العرب والمسلمين يرون أن الحروب الصليبية انتهت بتحرير بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي وهذا فهم خاطئ بكل تأكيد .. لأن الحروب الصليبية اتخذت في الفكر الغربي مفهوماً جديداً بعد فك أسر لويس التاسع عشر من مصر وعودته إلى بلاده مرة أخرى .. حيث كتب أن التعامل مع العالم الإسلامي يجب أن يتغير ولا يأخذ شكل الحرب المباشرة ورفع الصليب.
ولذلك يعتبر كثير من المثقفين أن احتلال البلاد العربية والإسلامية سواء أكانت ليبيا 1811م أو الجزائر 1830م أو مصر 1881م أو تقسيم الدول العربية بين دول الإمبريالية الغربية في أعقاب الحرب العالمية الأولى والاستحواذ على خيراتها ومص ثرواتها وتعطيل تطورها وذرع الكيان الصهيوني على أرضها ..كل ذلك كانت حرباً صليبية أو مرحلة من مراحل الحرب الصليبية التي حافظت على تخلف العرب والمسلمين وأبقت الفجوة كبيرة وواسعة بين الطرفين تمنع النهضة الإسلامية التي تخيف الغرب الإمبريالي الاستعماري الصليبي وعلى رأسه أمريكا وبريطانيا.
بل إننا نقول إن حركة الكشوف الجغرافية التي أصابت الغرب في فترة من تاريخه لم تكن هدفاً بريئاً لاستكشاف العالم الجديد؛ بل كانت مرحلة من مراحل الحرب الصليبية للالتفاف حول العالم الإسلامي وتقطيع أطرافه واحتلال قلبه.
وفي أعقاب موجة الكشوف الجغرافية ظهر مفهوم غربي كاذب وهو مسؤولية الرجل الأبيض نحو تحضير العالم - كما يدعي الأمريكان اليوم الذين يقولون إن مسؤوليتنا تحضير الشعوب المتخلفة (ولو بالقوة) - وتغيير نظمها السياسية ومناهجها التعليمية.
وطبعاً الغرب يريد شماعة دائماً كي يعلق عليها أهدافه ، ويخفي وراءها أغراضه الخبيثة ، فوجدوا هذه الشماعة فيما يسمى "الإرهاب" .. وهي كلمة معادلة في قاموسهم لـ "الإسلام" تماماً ..وجاء تصريح بوش بها كاشفاً لكثير من الخبايا والسياسات.
أفغانستان والعراق.. حملة صليبية جديدة
ما حدث في أفغانستان واستباحة أمريكا - مؤيدة بالغرب - لكل المواثيق الدولية لضرب بلد آمن لم يفعل لها شيء.. كل ذلك كان في إطار سياسة الاستعلاء الإمبريالي الغربي الصليبي بزعامة بوش ؛ فأمريكا بدون تحقيق ولا إدانة دولية توجه أصابع الاتهام إلى حكومة طالبان لإيوائها تنظيم القاعدة ، فتحرق الأخضر واليابس وتقتل عشرات الآلاف من الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ والمدنيين وتهدم المساجد والمستشفيات والمدارس ، بل وتضرب مواكب العرس والأفراح.
وكأن الغرض الأساسي هو محاربة المد الإسلامي في هذا البلد الفقير وإخافة كل المجتمعات الإسلامية بأن من يسلك سلوك أفغانستان وطالبان فسوف يكون مصيره الدمار والهلاك كما حدث في أفغانستان.
العجيب أن حجة "تحضير ومدنية " الدول المتخلفة التي تتحدث عنها أمريكا قد اختفت بعد أن تحققت الأهداف العدوانية، فالمرافق الأساسية تم تدميرها وإلى الآن لم يحصد الأفغان من الأمريكان إلا الخراب.. بل وزادت المخدرات بنسبة 19 ضعفاً عما كانت عليه أيام طالبان.(66/283)
وما حدث في العراق كان أكبر وأبشع .. فهذه الدولة التي حققت في يوم من الأيام أعلى معدلات التنمية ، أغرى الغرب رئيسها صدام حسين بغزو الكويت ودفعوه دفعاً إلى الخطأ ، ثم حاصروه من 1991م وحتى 2003م حصاراً مات بسببه الولدان والشيوخ .. وضربوه باليورانيوم .. ولأنها حرب صليبية فقد غزوا العراق - بلا أي مبرر- اللهم إلا النزعة الصليبية الإمبريالية.
لماذا هذه الحملة الصليبية الجديدة ؟
بعد أن انهار الاتحاد السوفيتي وانهارت معه الشيوعية ظهرت فكرة العولمة .. وتم تأصيلها فكريًّا وثقافيًّا عن طريق بعض الأعمال الثقافية مثل كتاب نهاية العالم لفوكوياما ، وكتاب صدام الحضارات لصمويل هنتنجتون .. يقولان إن النظام الغربي وعلى رأسه النظام الأمريكي هو النظام الأفضل والأنجح ولابد أن يسود العالم بعد خوض صراع مع عدة قوى وعلى رأسها العالم الإسلامي .
وبدأ الغرب يروج لهذه المقولات وتركز الحديث عن الصراع الحتمي مع الإسلام أقصد مع "الإرهاب" .. وكأنه لم يبق في العالم أية منظومة ثقافية أو حضارية أخرى غير الإسلام .. ونسي القوم أو تناسوا الثقافة الصينية والهندية والإفريقية واللاتينية .
ولأن مفكري الغرب يعلمون أن هوية الإسلام مستقلة لها سماتها وخصائصها في الجانب الفكري والثقافي والعقائدي؛ فقد ركزوا على ضرورة الاصطدام معه، وفرض الأفكار الغربية عليه، حتى ولو بالقوة.
وهكذا فإن الذين لا يقتنعون بمشروع العولمة الغربي الذي هو امتداد للإمبريالية والحملات الصليبية ليسوا سوى إرهابيين أصوليين.
إن رد الفعل الأمريكي على ما حدث في 11 سبتمبر 2001م ليس مجرد رد اعتبار أو انتقام، إنما هو نتيجة مخزون نفسي وفكري وثقافي قديم تبلورت في فترات زمنية بعيدة المدى.
مشكلة التواجد الإسلامي في الغرب
يعتقد الغربيون أنه إذا أتيح للإسلام الريادة من جديد، فسوف يقوم أتباعه بنشر الإسلام في كل أنحاء أوروبا وأمريكا، ومن هنا يشعر الغرب بخطر الإسلام داخل بلدانهم .. ولذلك فهم يعملون دون كلل على محاصرة هذا المد الإسلامي قبل أن يقوى .. ولهذا أيضًا اتخذت حربهم ضد الإسلام - بخلاف الحملات الصليبية والتدخل المباشر - أشكالاً متنوعة من التنصير والماسونية والغزو الفكري.
ويظهر في الكتابات الغربية الآن من يقول بضرورة إعادة استعمار الشرق العربي ونشر المسيحية فيه خاصة وأن الغرب - وعلى رأسه الساسة والمفكرون - يزعجه ما يمثله العالم الإسلامي من استقلالية في الفكر والعقيدة والثقافة والانتماء والنهج والسياسي والاقتصادي.
لكن ما يزعج في هذا المجال هو أن رجال الإعلام والسياسة في بلادنا قد صدقوا ما تروجه وسائل الإعلام الغربية من أن الغرب ليس في حالة عداء مع الإسلام أو الشعوب الإسلامية .. وإنما هو ضد التطرف والأصولية والحركات الإسلامية لأنها حركات "إرهابية" .. وحينما يصدق القوم هذه الادعاءات يتنادون لضرب الحركات الإسلامية ويقعون في الفخ.
وتحاول أمريكا أن توهم المسلمين بأنها تخوض حربًا حضارية وليست حربًا دينية .. ونحن هنا نقول : إن كوبا وكوريا الشمالية من الخارجين على أمريكا .. فلماذا لا تظهر لهم السلاح وتحرك لهم الجيوش ؟
لسبب واحد هو أن الحرب صليبية والجيوش لا تتحرك إلا لضرب واحتلال البلاد العربية والإسلامية
==============(66/284)
(66/285)
أمريكا ...وتعدد نوافذ الحرب
عز الدين فرحات 25/2/1425
15/04/2004
قال بعضهم: "إنها زلة لسان وخطأ غير مقصود" تلك الكلمة التي تفوه بها بوش الصغير حين وصف حربه على ما يسميه الإرهاب بأنها( حرب صليبية مقدسة) وكعادتنا - نحن المسلمين- صدقنا التبرير من منطلق قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) [الحجرات: من الآية12].
وتبدأ أولى حروب القرن - كما يحلو لقناة "الجزيرة" أن تسميها- بتدمير أفغانستان والقضاء على كل ما يمت فيها للإسلام بصلة ، وتثني بالعراق وبعد العراق ...، و...
والمشهد الظاهر للعيان هو الحرب العسكرية بأسلحتها من طائرات ومدرعات ومدافع وغيرها؛ ولكن المسكوت عنه أشد وأخطر من الأسلحة العسكرية تلك هو الحرب على دين الأمة وعقيدتها .
تقول الدكتورة زينب عبد العزيز في كتابها "حرب صليبية بكل المقاييس": إن الحرب على العراق هي حرب صليبية بكل المقاييس واستدلت على ذلك بأدلة كثيرة ومتعددة منها:
ـ ما أعلنته محطة الإذاعة البريطانية في نشرتها العربية صباح 19/3/2003م وجاء فيها: "صرح الرئيس جورج بوش أنه حتى وإن تنحى صدام حسين؛ فإنه سوف يجتاح العراق لـ(تتركتها) أو لفرض العلمانية عليها لاقتلاع ذلك الدين الذي يتمخض عنه الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم بأسره" والتتركة يقصد بها فرض النظام التركي العلماني الذي تم فرضه على تركيا لاقتلاع هويتها الإسلامية في مطلع القرن العشرين.
وتؤكد الدكتورة زينب عبد العزيز على أنها حرب صليبية مستشهدة بعدد ضخم من التصريحات والمقالات والتحليلات الصادرة عن مسؤولين غربيين تتجاوز الثلاثمائة مادة إعلامية؛ منها ما جاء في جريدة (لوس انجلس تايمز) في 4/4/2003م عن الحظر الذي فرضته الإدارة الأمريكية على بعض المنظمات غير الحكومية من أن تتجه إلى العراق، بينما سمحت لفرق المارينز أن تصطحب في حقائبها المنظمات التبشيرية التابعة لكل من بيلي وفرانكلين جراهام اللذين يعتبران الإسلام دينًا شيطانيًّا ، وأنه يجب تنصير كافة المسلمين .
وفي 4/4/2003م كتب هنري تانك في صحيفة (لوموند) الفرنسية مقالاً بعنوان "المبشرون المعمدانيون في شاحنات الجيش" جاء فيه: المبشرون الأمريكيون لا يضيعون وقتهم، إنهم يعسكرون عند أبواب العراق مستعدون للانطلاق جريًا لمساعدة الشعب ماديًّا وروحيًّا عندما سيتم تحريره من صدام حسين، إن الجمعية المعمدانية للجنوب تعد واحدة من أندر الكنائس في الولايات المتحدة التي أقرت الحرب على العراق وهم حاليًا مزودون بكل فرقهم ويقبعون على الحدود الأردنية.
وتحت عنوان "المبشرون الصليبيون الجدد" كتب بيل بركوبتز يوم 9/4/2003م في كلمة الطريق قائلا: "لقد تلبد الجو هذه الأيام بالإعلان عن فرق المبشرين المسيحيين الأصوليين المتوجهين إلى العراق في عملية تبشير بعد الحرب...وما إن تنتهي الحرب وتبدأ عملية الاحتلال؛ فإن إدارة بوش تخطط لإقامة حكومة أمريكية مكونة من السياسيين وشركات البترول لترعى مصالحها، وخلف هؤلاء الحصاد الشرسين مباشرة تتبعهم جيوش من القادة الأصوليين المسيحيين منقبين في الرمال بحثًا عن أتباع جدد...
وتستبق المنظمات التنصيرية الأحداث فلا تكتفي بالعراقيين الأحياء فقط، بل تسعى إلى نطفهم في أرحام الأمهات فيسعون إلى إجهاض العراقيات قبل ولادتهن حتى لا يلدن أطفالاً يوحدون الله؛ فقد صرحت جلوريا فلدت رئيسة منظمة تنظيم الأسرة الأمريكية ((all أنها تريد أن يتم الإجهاض الإجباري على اللاجئات العراقيات بدلاً من ولادة أطفال يحملون العقيدة الإسلامية.
ويعلن المدير التنفيذي للمنظمة المذكورة (all) جيم سولاك: أن برنامج تنظيم الأسرة لا يعرف الحدود، ويضيف أن الشعب العراقي يتطلع إلى الحصول على حرية حقيقية من القهر ، إلا أن برنامج تنظيم الأسرة الأمريكي يريد أن يفرض نفسه ويكسب حربه على أطفال العراق قبل ولادتهم من خلال برنامجه الديكتاتوري للإجهاض ومنع الحمل.
وليست هذه الحرب الصليبية على العراق فقط؛ بل هي ممتدة لتشمل العالم العربي والإسلامي بصور وأشكال متعددة منها الحرب على مناهج التعليم والحرب على المؤسسات الخيرية الإسلامية...
الحرب على مناهج التعليم:
بعد سقوط بغداد بأيام قلائل أذاعت إحدى المحطات العربية أن الصراع المتوقع مع الغزو الصليبي الأمريكي سيكون شاملاً؛ لأن العدو أعلن أنه يستهدف كل شيء حتى المدارس والجامعات وطريقة حياة الناس ودينهم ومعتقداتهم، ولم يفت بوش الصغير التأكيد على ذلك عمليًّا حين قرر وقف الدراسة في جميع المدارس والجامعات حتى يتم تعديل المناهج التعليمية.
وليست الحرب على المناهج التعليمية وليدة اليوم ولكنها قديمة قدم الاستعمار الغربي للمنطقة العربية والإسلامية خلال القرنين الماضيين، ولكن لنكن مع الحملة الصليبية التي تتزعمها أمريكا الآن.(66/286)
فقد نشر موقع (الإسلام اليوم) مقالاً في 8/1/2004م بعنوان (معركة تغيير المناهج تشعل نيران الغضب (جاء فيه: في عام 1979 أنشئت ما تسمى بـ"منظمة الإسلام والغرب"، تحت رعاية منظمة الثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة "يونيسكو"، والتي تشكلت من 35 عضوًا.. عشرة منهم مسلمون، وكان من أول أهداف المنظمة الجديدة - كما نص دستورها صراحة- علمنة التعليم، حيث جاء فيه " إن واضعي الكتب المدرسية لا ينبغي لهم أن يصدروا أحكامًا على القيم، سواء صراحة أو ضمنًا، كما لا يصح أن يقدموا الدين على أنه معيار أو هدف". ونص - أيضاً - على "المرغوب فيه أن الأديان يجب عرضها ليفهم منها الطالب ما تشترك فيه ديانة ما مع غيرها من الأديان، وليس الأهداف الأساسية لدين بعينه"، وهو ما يسير في إطار عولمة الأديان وجمعها في إطار واحد!.
ومما يؤكد أن الإدارة الأمريكية باتت عازمة على تحقيق سيطرتها الثقافية على المنطقة ما اعترف به آخر تقارير وزارة الخارجية الأمريكية حول تلقي بلدان في منطقة الشرق الأوسط في عام 2002 وحده 29 مليون دولار من أجل ما أسماه "جهود تغيير نظم التعليم"، وفي عام 2003 وصل الإنفاق الأمريكي في نفس الإطار إلى ثلاثة أضعاف حيث قفز إلى 90 مليون دولار!! ومن المتوقع أن يشهد العام الجديد 2004 زيادة كبيرة في المبالغ المخصصة لتغيير التعليم في العالم العربي والإسلامي، حيث طالبت الإدارة الأمريكية الحالية الكونجرس بتخصيص 145مليون دولار في ميزانية 2004 من أجل تحويل التعليم في المدارس الإسلامية في المنطقة العربية إلى تعليم علمانيّ، وهي مطالبة تبعتها لجنة تقسيم الميزانية في الكونجرس بتوصية بشأن تخصيص45 مليون دولار فقط للعالم العربي على أن يوضع الباقي في ميزانية تغيير مناهج التعليم في بقية الدول الإسلامية لا العربية منها فقط.
الحرب على المؤسسات الخيرية الإسلامية:
يقول الشيخ دباس بن محمد الدباس -رئيس مؤسسة الحرمين الخيرية- عن أسباب الهجمة على المؤسسات الخيرية: هناك عدة أسباب نستطيع من خلالها فهم أبعاد التدخل الأمريكي في أنشطة المؤسسات الخيرية، لعل من أهمها العامل الديني؛ فالرئيس الأمريكي نفسه وبعض من حوله ممن يحسب على تيار النصارى الصهاينة الذي يحمل معتقدات متطرفة تجاه المسلمين، حتى إن أحد كبار مستشاري الرئيس المقربين وهو قسيس متطرف قام بسب الإسلام علانية، وهذا يقتضي بالطبع أن العمل التنصيري له أولوية كبيرة، ولا يخفى أن من أكثر ما يقض مضاجع المنصرين هو الانتشار المتزايد للإسلام الذي ترعاه الجمعيات الخيرية، فكان لا بد من تحجيمها. يدخل مع هذا العامل المهم العامل السياسي فأمريكا لديها تخوف من تزايد المد الإسلامي الذي قد يشكل خطرًا مستقبليًّا على مصالحها؛ بل على بقائها.. الأمر الذي تطلب التحرك السريع لتجفيف منابعه .
وفي حوار معه موقع (الإسلام اليوم) قال الدكتور محمد عبد الله السلومي مؤلف كتاب (القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب): "أعتقد أن دوافع الحرب على المؤسسات الخيرية الإسلامية دينية لتحقيق أهداف سياسية، وأعتقد أن (المسيحيين المولودين من جديد) وهم رمز الأصولية الأمريكية، ومنهم الإدارة الأمريكية الحالية يعملون وفق معتقدات دينية تؤمن بتهميش وعداوة الأمم والثقافات الأخرى، كما تؤمن بالبراءة من الأديان الأخرى ومنابذتها وخاصة الدين الإسلامي ومؤسساته، والتي تشكل النتائج وضوح الهدف بتجريدها من قوتها على الأقل.
وقد أكد الدكتور السلومي على صليبية هذه الحرب من خلال كتابه المذكور ويكفي ذكر بعض العناوين الموجودة في الكتاب ليتضح لنا ضراوة هذه الحرب ومنها على سبيل المثال:
- واشنطن تطالب العرب بإلغاء التعليم الديني.
- سيناتور أمريكي يطالب السعودية بوقف دعم المدارس الدينية.
- واشنطن تعلن 46 منظمة يمنع أعضاؤها من دخول الولايات المتحدة.
- وفد أمريكي في السعودية لوضع آلية الإشراف على الجمعيات الخيرية.
- الاستخبارات الأمريكية والباكستانية تداهم مكاتب منظمات الإغاثة في بيشاور.
- وزير الخزانة الأمريكي في السعودية لمناقشة التمويلات الخيرية.
- حملة أوروبية لملاحقة الجمعيات الخيرية الفلسطينية.
هذه وغيرها كثير يستطيع القارئ العودة إليها في كتاب (القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب).
وماذا بعد؟
هل كانت زلة لسان ،وخطأ في البيان، أم أنها كلمة صدرت عن عقيدة وإيمان ؟!!
=============(66/287)
(66/288)
فرسان مالطة..الحروب الصليبية لم تتوقف
القاهرة/ د. محمد مورو 30/4/1428
17/05/2007
يخطئ من يتصور أن الحروب الصليبية قد توقّفت في يومٍ من الأيام. ونقصد بالصليبية هنا: المسيحية الأوروبية، وهي مسيحية لا تمُت بصلة للمسيحية الشرقية بأيّ صورة من الصور.
الحروب الصليبية ليست فقط هي تلكَ الحروب التي فجَّرها البابا إربان الثاني عام 1095م، عندما وقف، وقال: الآن بدأت الحروب الصليبية؛ لتحرير بيت المقدس من الكفار المسلمين، واستمرت تلك الحروب في حملات كثيرة قُدِّرت بحوالي 200 عام، إلى أن تمّ دحرُها نهائياً عن الشرق، وتحرير آخر المعاقل من أيديهم في عكّا عام 1291، بل هي حروبٌ كانت قبل ذلك، واستمرت في الأندلس والمغرب العربي، في الصّراع العثماني الأوروبي، ثم في القرون الاستعمارية والصهيونية، وأخيرًا في العراق وأفغانستان والصومال ....الخ.
ولم يكن جورج بوش إلاّ مُعبِّرًا عن الوجدان الصليبي الغربي، حينما قال: إن الحرب على العراق حربٌ صليبية!!
ولعلّ فرسان مالطة، هي إحدى تجليات هذه الحروب الصليبية.. وقد فجَّر الصحفي المخضرم محمد حسنين هيكل قنبلةً كبيرة، حين كشف عن استخدام الولايات المتحدة لهؤلاء الفرسان كمرتزقة، تُحرِّكُهم الروحُ الصليبية في معارك العراق وأفغانستان، بل تمّ الكشف أيضاً عن وجود هؤلاء في دارفور وجنوب السودان وغيرِها، وقد قاموا بالجهد الأكبر في مذابح الفلوجة عام 2004م ، الأمر الذي يعني أننا بالفعل إزاء حرب صليبية بكل معنى الكلمة.
قد يختلط الأمر بالنسبة للبعض بين فرسان مالطة وجمهورية مالطة، ولكن الاسم يُعبِّر عن حالة تاريخية في مرحلة معيَّنة، الاسم الأكثر شهرةً لمجموعة من الصليبيين عمِلوا قُبيْل الحملات الصليبية على بيت المقدس، تحت ستار العمل الخيري، وهم من الكاثوليك، ويمكن اعتبارهم طليعةً كان قد أرسلها بابا الكاثوليك إلى بيت المقدس، قبل الحروب الصليبية، وكتمهيد لها، فقد بدأ ظهورُهم على مسرح الأحداث عام 1070، أي قبل الحرب الصليبية بحوالي (25) عاماً، بدأ ظهورهم في ذلك الوقت كهيئة خيرية، أسّسها عددٌ من الإيطاليين؛ لرعاية الحجاج الكاثوليك في مستشفى القديس يوحنا، قرب كنيسة القيامة ببيت المقدس. وكانوا يسمَّوْن "فرسان المستشفى"، وكان هناك جماعات مماثلة في بيت المقدس تقوم بنفس المَهمَّة، تمهيداً للغزو الصليبي، مثل فرسان المعبد، فلما جاءت الحملات الصليبية قام هؤلاء بدور خبير في المعارك والاستخبارات، بل في المذابح؛ لأنهم كانوا يحملون عنصرية وكراهية شديدة للمسلمين. وبعد هزيمة الصليبين في موقعة حطين عام 1187 تمّ إخراجُهم نهائياً من الشام عام 1291 بسقوط عكّا وطرْدِ الصليبين منها. وخرج هؤلاء الفرسان إلى بلاد أخرى مثل رودس ومالطة وإيطاليا وغيرها، وسيطروا على بعض جزر البحر المتوسط: ومنها مالطة، ثم طُردوا منها، بعد أن حمَلوا اسم "فرسان مالطة"، ودخلوا في معارك مع المسلمين..المهم أنه انتهى الأمر بهم إلى أن اتّخذوا من روما مقرًا لهم، ولكنهم استطاعوا أن يُقيموا تنظيماً دولياً يضمّ فرساناً ومتطوعين، يحملون الحُلْم الصليبي التقليدي في العودة إلى بيت المقدس وتحطيم العالم الإسلامي، ولهم رمز مميز، هو صليب أبيض معلَّق بحبل أسود.
ويقدر بعض الخبراء عدد هؤلاء بحوالي عشرة آلاف فارس وحوالي نصف مليون متطوِّع، ولهم تواجدٌ في عددٍ من الدول الأوروبية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية ذاتِها، ولفرسان مالطة علاقات وثيقة مع منظمة مدكو كلوكس كلان الأمريكية العبقرية، التي مارست التطهير العرقي ضد السود والآسيويين في الولايات المتحدة.
وقد كشف الباحثان (الأيرلندي سيمون بيلز) والأمريكية (ماريا سانيكيران) أن أبرز أعضاء جماعة فرسان مالطة من السياسيين الأمريكيين هما: رونالد ريجان، وجورج بوش الأب، رئيسا أمريكا السابقان، وحسب موقع فرسان مالطة على الإنترنت، فإن بريكسوت بوش الجد الأكبر للرئيس الأمريكي جورج بوش كان من الأعضاء البارزين في تلك الجماعة، وبحسب الموقع الرسمي لفرسان مالطة أيضاً، فإن رئيس منظمة فرسان مالطة هو الأمير البريطاني (فرا أندرو بيريتي) الذي تقلَّد الرئاسة عام 1988 ويقيم في روما ويُعامَل كرئيس دولة بكل الصّلاحيات والحصانات الدبلوماسية. وينص القانون الدولي على سيادة دولة فرسان مالطة، ولها صفة مراقب في الأمم المتحدة، وللمنظمة علاقات دبلوماسية مع (96) دولة على مستوى العالم، والغريب أن منها دولاً عربية وإسلامية، مثل مصر والمغرب والسودان وموريتانيا!!(66/289)
ما كشف عنه الصحفي المخضرم محمد حسنين هيكل بشأن العلاقة بين تلك المنظمة العنصرية منذ أيام الحروب الصليبية وبين حكومة الولايات المتحدة، يجعل الحقيقة الوحيدة والكبيرة أننا في العراق وأفغانستان إزاء حرب صليبية، فهناك تعاقد أيديولوجي مشترك بين حكومة الولايات المتحدة وتلك المنظمة. وأحد كبار أعضاء تلك المنظمة وهو جوزيف سميتز، الذي عمل مفتشاً عاماً في وزارة الدفاع الأمريكية، ثم انتقل للعمل كمستشار في مجموعة شركات برينس المالكة لشركة (بلاك ووتر)، وهذه الشركة الأخيرة هي أكبر الشركات الأمنية المتعاقدة مع الولايات المتحدة للعمل في العراق، وأن هناك حوالي (200) ألف من المرتزقة يعملون لحساب الولايات المتحدة في العراق، معظمهم ينتمون للأيديولوجية الصليبية، وأن فرسان مالطة والمتطوِّعين من أمثال هذه الجماعات ومنهم نصارى لبنانيون خاصة من جيش أنطوان لحد، يقومون بالأعمال القذرة مثل: التعذيب في السجون والمذابح في المدن العراقية (الفلوجة نموذج عام 2004 ).
و حجم أعمال شركة (بلاك ووتر) في العراق مثلاً حوالي (100) مليار دولار، وهي تمتلك أسلحة ثقيلة وطائرات مروحية، وتسعى هذه الشركة للعمل في دارفور!!
===============(66/290)
(66/291)
نظرة قانونيّة في حرية التعدّي على الأديان
محمود المبارك 9/1/1427
08/02/2006
يحتار الغرب في فهم مواقف المسلمين من الحريات الديموقراطية ويتساءل: لماذا تضيق عقول المسلمين عن قبول الرأي الآخر خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالحريات الدينية؟ ولماذا يأبى المسلمون الحرية الغربية التي طالما حلموا بها في بلادهم؟ ثم كيف يجحد المسلمون المقيمون في الغرب نعمة الحرية التي وفرت لهم مناخ العبادة والحرية الدينية والسياسية، الأمر الذي لم توفره لهم دولهم ذاتها؟
أسئلة لا يكاد المواطن الغربي يجد لها جواباً إلا أن يكون السبب هو الإسلام ذاته؛ إذ يبدو أن الدين الإسلامي والديموقراطية "ضدان لا يجتمعان" كما قال (صاموئيل هنتنجتون) من قبل.
وما غياب الديموقراطية -التي انتشرت خلال العقدين الماضيين فوسعت العالم كله من شرق ولايات الاتحاد السوفييتي السابق إلى دول أمريكا اللاتينية باستثناء البلاد الإسلامية إلا تأكيد لهذه النظرة.
من هذا المنطلق، قد ينظر الغرب إلى تعنّت المسلمين في عدم قبولهم وجهات النظر التي عبرت عنها بعض الصحف في تعديها على رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - على أنه ضيق أفق عند المسلمين بسبب معتقداتهم الدينية. ولو اتسعت أفهام المسلمين للرأي الآخر -كما يُقال- لقلت هوة الخلافات الإسلامية الغربية ومنها الخلاف الحالي.
بيد أن هذا الخلاف الإسلامي الغربي الجديد الذي ظهر شعبياً في صورة مقاطعة، مدعومة ضمناً من حكومات عربية، قد استفحل الآن وبدأ يأخذ طابعاً قانونياً دولياً؛ إذ هدد الاتحاد الأوروبي برفع قضية قانونية إلى منظمة التجارة الدولية ضد الدول المقاطعة لأي منتجات أوروبية.
ويبقى السؤال: هل تجيز القوانين الغربية التعدي على الأديان بحجة الحرية الديموقراطية؟ أم أن الحرية الغربية قد جاوزت حدودها هذه المرة حين أساءت إلى نبي يقارب عدد أتباعه ملياراً ونصف المليار؟
حرية ديموقراطية أم إساءة دينية؟
قبل الخوض في التفاصيل القانونية المتعلقة، قد يكون مفيداً الإشارة إلى أن الحريات في الغرب وإن كانت في ظاهرها مطلقة، إلا إنها مقيدة بضوابط قانونية تحميها من التعارض مع قواعد الأخلاق والمصالح العامة وحقوق الآخرين والقوانين الداخلية والدولية.
بل إن الدول الأوروبية -التي عانت كثيراً من الحروب الدينية فيما بينها- قد وضعت عدداً من القوانين الداخلية والدولية التي تحد من حق الحرية الفردية والجماعية، الغاية منها تقليل هوة الخلافات بين دول وشعوب أوروبا؛ لأنه كلما ضاقت دائرة الخلافات بين الشعوب كلما قلت احتمالات نشوب حروب بينها، فحرية الرأي إذاً وإن كانت مكفولة بموجب الدساتير الغربية جميعاً، إلا إنها لا يجوز أن تكون سبباً في فرقة الكلمة وتشتيت الشمل.
وليس هذا حكراً على أوروبا فحسب، بل هو اليوم السياسة العامة في العلاقات الإنسانية الدولية، وهو الأمر الذي لأجله أُنشئت المنظمات الدولية والإقليمية، ومنها منظمة الأمم المتحدة، فقد نصت ديباجة ميثاق الأمم المتحدة على أن الهدف من هذا الميثاق هو "تطبيق التسامح بين الشعوب لتحقيق وحدتها". ومعلوم أن الاعتداءات على الأديان -وإن كانت كلامية- لا تعين على تحقيق التقارب والانسجام الإنساني المنشود، بل قد تكون سبباً للفرقة البشرية كما يحدث اليوم.
وقد أكدت المادة الثالثة (1) من الميثاق هذا المعنى؛ إذ بينت أن من الأهداف الرئيسة لإنشاء الأمم المتحدة "تشجيع احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع من غير تمييز ضد العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين"، وغني عن القول: إن نبز دين الإسلام بنعته دين الإرهاب في شكل رسوم كاريكاتيرية أمر لا يحمل احتراماً لأتباع هذا الدين الذين تزيد نسبتهم عن خمس البشرية.
كما أن إعلان مبادئ القانون الدولي الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة بالقرار رقم 2625 (1970) نص على: إنه "ينبغي على الدول أن تتعاون فيما بينها لتعزيز الاحترام الدولي ومراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع ولإزالة التعصب الديني". وواضح أن الاعتداءات على الأنبياء الذين يمثلون رموز الأديان أمر لا يعين على إزالة التعصب الديني، بل يزيده.
وقد تبع هذا القرار إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة الخاص بإزاحة جميع أشكال عنصرية الأديان والمعتقدات بموجب القرار رقم 36/55 (1981)، والذي يقضي في المادة الثالثة على أن "إهانة واحتقار الأديان يُعدّ خرقاً لميثاق الأمم المتحدة"؛ إذ هو يُعدّ "عائقاً لتحقيق العلاقات الأخوية السلمية بين الدول الأعضاء". ولا يماري أحد أن احتقار أنبياء دين معين هو احتقار للدين وأتباعه. ولأجل هذا، كان لزاماً على الدولة التي يحدث فيها نوع من أنواع الاحتقار الديني أن توقف تلك الإهانات بصفتها انتهاكاً للقانون الدولي، كما بينت ذلك المادة الرابعة من نفس الإعلان السابق الذكر في: إنه "يجب على جميع الدول أن تأخذ الخطوات الكفيلة بمنع وإزالة التعصب المبني على أسس دينية أو عقائدية"، وبالتالي فإن مسؤولية الدولة القانونية تلزمها باتخاذ إجراءات معينة ضد الإهانات التي تلحق بالأديان.(66/292)
يضاف إلى ذلك، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي نص في المادة الثامنة عشرة منه على وجوب "احترام ومراعاة الأديان" والميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي نص في المادة الثامنة عشرة (3) على وجوب أن تكون "حرية التعبير حول الأديان مقيدة بضوابط الأخلاق العامة، وألاّ تتعدّى على حقوق الآخرين". وقد جاء تأكيد لهذا المعنى الأخير في المادة التاسعة (2) من الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان حيث نصّ على: إن "حرية التعبير عن الأديان يجب أن تكون مقيدة بضوابط القانون التي تحقق المصالح العامة لحماية الحياة والأخلاق والحقوق والحريات ولحماية حقوق الآخرين".
لكن و على الرغم من هذه النصوص القانونية الصريحة، نجد العالم الغربي لا يزال يتمادى فيما يزعم أنها حرية ديموقراطية لا تتعارض مع حقوق الآخرين. وقد بدأ الهجوم على الدين الإسلامي يزداد ضراوة اليوم، وينتقل من دولة غربية إلى أخرى، ولكن الحجة التي يستند إليها البعض في عالم الغرب هي أن الغرب يخوض حرباً ضروساً ضد الإرهاب وأهله، وإنه ليس غريباً على من يخوض الحروب أن يسمي عدوه ويفضحه.
أي إرهاب يعنون؟
مفهوم الإرهاب عند الغربيين عموماً والأمريكيين خصوصاً له تاريخ مقترن بالمسلمين فحسب، وأما الأعمال التخريبية التي يكون فاعلوها غير مسلمين فلا تُعدّ إرهاباً، وقد رأينا -على سبيل المثال لا الحصر- كيف أن (ديفيد كورش) قائد المجموعة المسيحية المتطرفة في واكو تكساس، و(ماك في) مفجر البناية الحكومية في أوكلاهوما، و(جولد ستاين) الذين قتل أكثر من أربعين مصلياً في الحرم الإبراهيمي (وهم كلهم من الأمريكيين البيض)، كل هؤلاء وغيرهم كثير، لم يُنعتوا بصفة "إرهابيين" لا رسمياً ولا إعلامياً ولو كانوا مسلمين لكان الحال غير الحال.
وقد رفضت محكمة في ولاية كاليفورنيا قبل أشهر تهمة الإرهاب في قضية ضد أمريكي أبيض قام بإحراق مركز إسلامي، واكتفت المحكمة بقبول تهمة التخريب بدلاً، كما إن هناك العشرات ممن قاموا بعمليات إرهابية داخل الولايات المتحدة وترفض الحكومة الأمريكية إطلاق صفة "إرهابيين" عليهم لكونهم من الأمريكيين البيض، وواضح أن الإعلام الغربي قد لعب لعبة غير نظيفة في الإساءة إلى الإسلام بوسمه ديناً معيناً على الإرهاب، ويبدو أن وسائل الإعلام العربية والحكومية قد اصطيدت في هذا الشرك، حيث درجت وسائل الإعلام العربية اجترار وتكرار وصف "إرهاب" لكل أعمال العنف التي تُنسب للمسلمين بل وفي بعض الأحيان حتى قبل التأكد من حقيقة نسبتها إليهم.
هل هي حرب صليبية؟
مما يزيد الأمر أسًى أن الدول الغربية، التي ما فتئت تلقن الدول المسلمة دروساً في التسامح الديني والمذهبي، لا ترى بأساً في التعرض للإسلام ووسمه بأنه دين الإرهاب، ولكن سعة الأفق الغربية قد تضيق عن تحمل أي تطاول على السامية اليهودية بأي نوع كان! ويكفي شاهداً على هذا أن الكتب المناوئة للإسلام التي أُلفت في الغرب خلال خمس السنوات الأخيرة تزيد عدداً على جميع ما أُلّف في نفس الموضوع خلال الخمسين عاماً الماضية.
ونتيجة لهذا، فإن هناك اليوم شعوراً يزداد نموه بين المسلمين يوماً بعد يوم، مفاده: إن الحرب التي يشنها الغرب بقيادة الولايات المتحدة اليوم هي حرب ضد الإسلام وليست حرباً ضد الإرهاب.
ويجد هذا الاعتقاد السائد تأكيداً ليس في الحروب غير المسوّغة التي شُنت أو يراد لها أن تُشن ضد دول إسلامية مثل أفغانستان والعراق وسوريا.. الخ، بل وفي التصريحات التي عبر عنها عدد من المسؤولين في الغرب حول الإسلام كدين سماوي، فتصريح رئيس وزراء إيطاليا بيرلسكوني الذي قال فيه: "إن الإسلام هو دين السفهاء"، وحديث رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغرت تاتشر التي أساءت فيها إلى الدين الإسلامي لم تكن لتمر دون ملاحظة. إضافة إلى ذلك فإن تصريح الرئيس الأمريكي جورج بوش بُعيد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001م والتي نادى فيها بشن "حرب صليبية" لم تُنس بعد.
بل إن بعض التصريحات الغربية قد أحدثت ضجة داخل عالم الغرب نفسه، فما صرح به الجنرال الأمريكي بويكن -على سبيل المثال- "من أن الحرب التي تشنها الولايات المتحدة ضد الإرهاب هي "حرب صليبية"، وأن النصر لن يتأتى إلا إذا اعتقد المحاربون أنها كذلك"- أمر أثار حفيظة الصحافة الأمريكية في التساؤل حول علاقة الدين بالسياسة والحروب.
وأما على الصعيد الديني ذاته فالأمر أكثر وضوحاً وخطراً. إذ إن تصريحات القساوسة الغربيين والأمريكيين منهم على وجه الخصوص، من أمثال (بيلي قراهام)، و(بات روبرتسون) و(جيمي سواقرت) وغيرهم أكثر من أن تُحصى في مقال كهذا؛ إذ اتهم بعضهم رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام بأنه إرهابي وقاطع طريق ورجل شهواني وغير ذلك من الاتهامات التي لا يقبلها من عنده احترام لنفسه قبل خصمه.(66/293)
وإذا ما أخذنا في الاعتبار صمت كنيسة الفاتيكان حول كل الإهانات التي تعرض ويتعرض لها المسلمون - مع تدخلها في كل كبيرة وصغيرة تحدث في العالم- أدركنا مدى الريبة التي تنتاب المسلمين من حقيقة هذه الحرب، يُضاف إلى ذلك ما قامت وتقوم به الحكومة الأمريكية من إهانة للمسلمين المعتقلين في معتقلات أبي غريب وغوانتانامو، وما لحقها من تدنيس للقرآن الكريم الذي لا يمكن أن يُفسّر بعيداً عن الأحقاد الدينية التي انبعثت من جديد، يرافق هذا صمت الدول الغربية عن كل ما سبق كتواطؤ واضح ضد المسلمين من وجهة نظرهم.
وبمنطق التواطؤ أيضاً، لا غرابة أن يصمت الكونغرس الأمريكي وتتعامى الصحافة الأمريكية عن حقوق "مواطنين" أمريكيين انتهكت من قبل الإدارة الأمريكية الحالية، حين قامت بمخالفة القوانين الداخلية في التجسس عليهم لمجرد كونهم مسلمين، ولو كانوا يهوداً أو لو كان التجسس على معابد يهودية بدل المساجد، لربما كانت ردة الفعل مختلفة جداً.
بل إن هناك من المسلمين من يشعر أن مجالات حرب الغرب على الإسلام قد شملت تنازلاً عن المبادئ التي قام عليها الفكر الغربي الديموقراطي والأمريكي خصوصاً، كمبدأ نشر الحريات وإرساء الديموقراطيات في العالم أجمع، ومن ذلك الشرق الأوسط والبلاد الإسلامية.
فإعانة الولايات المتحدة لأنظمة "إسلامية" عسكرية مستبدة وصلت إلى الحكم عن طريق انقلاب عسكري، وادّعاؤها مناصرة الديموقراطية في نفس الوقت أمر لم يعد مقبولاً، كما إن رضا الولايات المتحدة والغرب عموماً عن دولة عربية كانت بالأمس القريب من ألد أعدائها وتُتهم بمخالفة كل أنواع حقوق الإنسان رغم بقاء النظام السياسي فيها كما هو، أمر يلقي بظلال الشك حول حقيقة الزعم الأمريكي القائل بحرصه على إرساء النهج الديموقراطي في منطقة الشرق الأوسط.
ولعل الموقف الأمريكي والغربي الرافض للتسليم بقبول نتائج الانتخابات الفلسطينية التي جاءت بالطريقة الديموقراطية الغربية، وتهديد الغرب بإيقاف المساعدات المالية لمجرد كون المنتصر فيها حزب إسلامي، أمر يصعب تسويغه، وليس الموقف الأمريكي والغربي من الوضع في العراق أفضل حالاً، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت -ولا تزال- تزعم أنها إنما دخلت العراق لتحقيق الديموقراطية، فإن غضّ الطرف من قبل الولايات المتحدة -وهي الدولة المحتلة- عن التجاوزات القانونية الفاضحة التي جرت في الانتخابات العراقية، ورفضها في نفس الوقت وجود مشرفين دوليين على الانتخابات التي باتت اتهامات نتائجها بالزور تكاد تكون حقيقة ثابتة، أمر يزيد تشكيكاً في حقيقة المزاعم الأمريكية.
خاتمة..
ربما كان سكوت الدول الإسلامية الرسمي في المرات السابقة سبباً لفتح شهية الغرب في التمادي في النيل من رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، ولكن الموقف الرسمي لحكومة المملكة العربية السعودية بصفتها الراعية للحرمين الشريفين -والذي سيذكره التاريخ- جاء ليثبت أن مبادئ الأمم وانتماءاتها وعقائدها أهم بكثير من مصالحها الاقتصادية المؤقتة.
وهذا الموقف المشرف قد يكون خطوة أولى فاعلة، والذي إن لم يفلح فقد يتبعه تهديد بقطع النفط ضد من يسيئون إلى مشاعر مئات الملايين من المسلمين غير مكترثين بخرق القوانين الدولية
=============(66/294)
(66/295)
سياسة أمريكا في عهد "بوش" والخلفية الدينيّة المتطرّفة!
عوض الغنام / القاهرة 5/1/1427
04/02/2006
فجأة وبلا مقدمات تحوّلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى راعية للأديان وحارس على حريات عباد الله الدينية. وأصبح الدين في عهد بوش المحرك الرئيس للسياسة الخارجية الأمريكية من خلاله تتحدد المواقف من الآخر (المعونات ـ المساعدات ـ حقوق الإنسان). والحقيقة أن الأمر لم يتحول هكذا بين يوم وليلة؛ إذ إن هناك مطابخ سياسية في الخارجية الأمريكية، ولجان بحث واستشارة تعمل منذ عدة أعوام على تحديد القضايا التي على أساسها سوف تعمل السياسة الخارجية الأمريكية في المستقبل، بعدما انتهت الحرب الباردة، واختفت معها قضايا مهمة كانت أهم العناصر التي تتعامل معها الخارجية الأمريكية مثل: الشيوعية وسباق التسلح والتنافس في أوروبا الشرقية. وقد اهتدى منظرو السياسة الخارجية لاعتماد معيارين للمستقبل:
أحدهما: هو ملف حقوقك الإنسان الذي بدأ التعامل معه مبكراً بوساطة تقارير الخارجية الأمريكية السنوية عن دول العالم.
والثاني: هو ملف الأديان أو كما يطلقون عليه (الحريات الدينية)، وقد بدأ التعامل مع هذا الملف الثاني الحساس منذ عهد الوزيرة رايس التي شكلت لجنة استشارية معنية بالحريات الدينية في العالم، وضُم إليها شخصيات أغلبها من يهود أمريكا ناشطين في مجالات حقوق الإنسان، وكان الهدف الأساس من وراء ذلك هو ـ كما أُعلن ـ السعي نحو تفهم أكبر للمشكلات الدينية في العالم. وبعبارة أدق أن يجمع الأمريكان معلومات أوفر عن هذا الملف الساخن الحساس.
وقد عقدت هذه اللجنة الاستشارية عدة اجتماعات فيما بعد، والتقى بها مؤخراً الرئيس جورج بوش. ولكن فجأة دشنت هذه اللجنة باكورة عملها بإعداد تقرير عن اضطهاد المسيحيين في العالم، وأجملته ببضع صفحات عن الحريات الدينية في العالم بشكل عام. وقد شكلت بمناسبة تدشين هذا التقرير يوم 13 يناير الماضي مناسبة جيدة لمعرفة كيف يفكر المسؤولون الأمريكان في هذا الأمر، وكيف سيتعاملون مع هذا العامل الديني الحساس في سياستهم الخارجية؛ فقد أكد بوش في هذا اللقاء أن العمل لتعزيز الحرية الدينية في شتى أرجاء العالم سوف "يمثل جانباً مهما من سياستنا المتعلقة بحقوق الإنسان"، كما أنه سيكون موضع تركيز الدبلوماسية الأمريكية. وكشف بوش عن أن الكونجرس طلب بدوره إمداده بهذه التقارير عن حقوق الإنسان والحريات الدينية في العالم كي "يقيّم" على أساسها أداء دول العالم، ويمنحهم "الثواب والعقاب"!
كما كشفت رايس في المقدمة التي كتبتها لتقرير لجنة الحريات الدينية الخاص باضطهاد المسيحيين في العالم أن الكونجرس سيمنع المساعدات عن الدول التي تضطهد المسيحيين، وأن وزاراتها لن تتردد في التدخل لدى أي دولة تضطهدهم أو تعجز عن كفالة سلامة أي جماعات دينية. وحتى تؤكد السيدة الحديدية الجديدة رايس ما تقول حذرت بوضوح قائلة (سنستخدم جميع الأدوات المتاحة لدينا)، ولم تنس بالطبع أن تذكر أن بلادها سوف (تستغل) كل الهيئات والمنظمات الدولية للضغط على الدول التي تنتهك حقوق وحريات المتدينين وخصوصاً المسيحيين، بل وكشفت أكثر عن أن هناك الآن في كل سفارة أمريكية في العالم قسماً خاصاً يرصد الأوضاع الدينية في هذه الدول، ويرسل تقاريره العاجلة إلى الخارجية الأمريكية، كما يتدخل في شؤون هذه الدول الأجنبية طالباً منها تحسين ملفها بالنسبة للحريات الدينية. وحتى إدارة الهجرة الأمريكية سوف تراعي قبول هجرة هؤلاء المضطهدين دينياً بشكل عاجل.
تدخل في الشؤون الداخلية
أيضاً قال(جون ساتاك) أحد مستشاري رايس لشؤون الديموقراطية وحقوق الإنسان: إن هذا الاهتمام بالدين سيكون في صلب السياسة الخارجية الأمريكية في فترة ما بعد الحرب الباردة، مؤكداً -بشكل غير مباشر- أن بلاده تسعى لفتح حوارات متواصلة مع أصحاب السلطة الدينية في شتى أرجاء العالم، وتمت بالفعل بعض هذه اللقاءات سواء في أمريكا أو سفاراتها في الخارج، كذلك لاحظ كل من قرأ تقرير الخارجية الأمريكية الأخير عن الأديان أن التقرير قد تضمن بوضوح دور السفارات الأمريكية في العالم في الاتصال بحكومات دول، وسؤالها عن بعض الوقائع التي تتهم فيها هذه الدول باضطهاد أو تجاهل الحريات الدينية لبعض أبنائها- خصوصاً المسيحيين- كما تضمن سرداً لعملية التدخل الأمريكي الفجّ في السياسات الداخلية لكثير من دول العالم، كأن واشنطن قد نصبّت نفسها راعية للمتدينين، بيد أن متابعة الملف الأمريكي في هذا الصدد تكشف مخاطر تحوّل هذا الأمر إلى ملف مدمر؛ فالأمريكيون -خصوصاً- في ظل هيمنتهم على النظام العالمي يسعون لشن حرب صليبية حقيقية ضد غيرهم من الدول بزعم أن هذه الدول تضطهد المسيحيين، ولا تحترم الحريات الدينية، وإذا كان الأمر سوف يبدأ بقطع المساعدات ومحاربة هذه الدول في الهيئات الدولية والتحريض ضدها. فما الذي يمنع من السعي لإسقاط أو الدخول في حرب مع هذه الدول- ولو من الباطن- كما يحدث حالياً في إفريقية ومناطق آسيوية أخرى..(66/296)
والعجيب أن الرئيس الأمريكي أصدر تعليمات مهمة تتضمن (13) بنداً لمسؤولي الحكومات الفيدرالية الأمريكية تصب كلها في خانة الحريات الدينية لكل أصحاب الديانات السماوية والوضعية، وقد لقيت هذه القرارات استحساناً لدى المسلمين في أمريكا، والذين يُقدر عددهم بحوالي عشرة ملايين؛ إذ سمح (بوش) للجميع بإظهار تدينه (بلا حدود) بدءاً من لبس الحجاب والطاقية وحتى العمامة والقلنسوة اليهودية، وحتى المناقشات الدينية، ووضع المصاحف والأناجيل على المكاتب وغيرها من الحريات. ولا شك أن هذه الخطوة الأمريكية داخلياً تتعارض تماماً مع توجيهات السياسة الخارجية الجديدة التي تسعى حتى لعقاب من يحمون دينهم (طالبوا باكستان بإلغاء عقوبة جلد من يسبّ الرسول عليه الصلاة والسلام)!
الخطوة الأمريكية الأخيرة بالتركيز على ملف الأديان في السياسة الخارجية الأمريكية قد لا تكون بعيدة أيضاً، كما أثير بعد انهيار الشيوعية من اتخاذ الغرب للإسلام عدواً بديلاً عن الشيوعية؛ فقد تحدث سكرتير عام حلف الأطلنطي السابق عن ذلك بوضوح، كما أن توسيع حلف الأطلنطي مؤخراً ليضم دولاً من شرق آسيا لا يبعد كثيراً عن فكرة حصار العالم الإسلامي بحزام من الشرق والغرب، وحصاره من الجنوب، وشن حرب صليبية بوسائل جديدة ضده، تبدأ من الحصار السياسي، وتنتهي بالحصار الاقتصادي للقضاء على السياسة الأمريكية
==============(66/297)
(66/298)
بعد الحادي عشر من سبتمبر: هل دخل العالم عهد الاستعمار الجديد؟
إدريس الكنبوري 8/11/1423
22/01/2002
برزت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية والحرب الهمجية ضد أفغانستان معالم مرحلة جديدة دخلها العالم ، تتميز في الكثير من عناصرها ومكوناتها عن المراحل السابقة، وهي مرحلة يمكن نعتها بمرحلة "ما بعد الاستعمار" أو "الاستعمار الجديد"، الأكثر تطورا من الاستعمار التقليدي القديم الذي عانت منه الشعوب العربية والإسلامية ودول العالم الثالث المستضعفة، ويمكن نعت المرحلة المتطورة من الاستعمار بأنها "العصر الأمريكي" أو "عصر الصهيونية" كما وصفه محمد حسنين هيكل، عصر يبرز فيه التحالف الأمريكي- الصهيوني والتحالف المسيحي- اليهودي والتقارب الأوروبي- الأمريكي، والروسي- الغربي، بشكل أقوى من السنوات الماضية، وبشكل يتجاوز الجغرافيات السياسية التي اعتادها العالم حتى اليوم، لصالح الاستراتيجية الجديدة التي تحاول الولايات المتحدة كزعيمة للعالم وضعها.
لقد حدد الرئيس الأمريكي جورج بوش بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر التصور الأمريكي للمرحلة الجديدة، من خلال حديثه عن قيم غربية عرضة للخطر، وعن الإرهاب الذي يستهدف العالم الحر كما قال، وعن قيم الليبرالية الاقتصادية والديمقراطية والحرية بالمفاهيم الغربية التي ينبغي على التحالف الدولي العريض الدفاع عنها، وذهب بعيدا للحديث عن "حرب صليبية" ، رغم كونه تراجع عنها في اللحظة الأخيرة، وقسم العالم إلى قسمين بالطريقة المانوية: القسم الخير الذي يقف في صف أمريكا، والقسم الشرير الذي يقف في الصف الآخر الذي وضعه تحت كلمة واحدة هي صف الإرهاب، كما تحدث عن "الشر" الذي ينبغي اجتثاته حتى ينتصر الخير !!
ويذكرنا هذا الخطاب الأمريكي الجديد الذي نشأ عقب الحادي عشر من سبتمبر بالخطاب الاستعماري التقليدي السابق للقوى الغربية العظمى، مثل الدفاع عن حقوق الأقليات وتمدُّن الشعوب المتخلفة وإدخال الحضارة إلى أدغال إفريقيا البائسة، وإخراجها من القرون الوسطى والبدائية إلى الحضارة والتمدن، ونعرف المصير الذي دخلته هذه الشعوب بعد المد الاستعماري في ذلك الوقت، والنتائج الوخيمة التي لا تزال تجرها خلفها بسبب الإرث الاستعماري المظلم الذي كبل حركة سيرها، أما الفارق بين العهد الاستعماري القديم والعهد الجديد فهو في غياب تنافس القوى الكبرى على بقية العالم، واعتراف أوروبي وروسي بالهيمنة الأمريكية كل من زاوية مصالحه السياسية والاستراتيجية الخاصة، وحضور نوع من الترابط المتقدم بسبب العولمة السياسية قبل الاقتصادية، وجنوح هذه العولمة نحو عولمة عسكرية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، وتحول مفهوم القانون الدولي إلى "قانون أمريكي"، واختفاء دور الأمم المتحدة بشكل أكبر، وبعد هذا كله ومعه، ظهور منظومات فكرية عنصرية جديدة تحاول إقناع الغرب بوجود "صدام بين الحضارات" و"نهاية التاريخ" التي تتضمن في طياتها القول بنهاية تاريخ الشعوب غير الغربية، وانتصار النموذج التاريخي الغربي والرأسمالية الليبرالية المتوحشة.
أمريكا و"الفرصة السانحة"
قبل سنوات كتب الرئيس الأمريكي الأسبق (ريتشارد نيكسون) كتابه "الفرصة السانحة"، ليبشر الولايات المتحدة بزعامة العالم بعد اختفاء الاتحاد السوفياتي والشيوعية, وقد كان نصيب العالم العربي والإسلامي الأوفر حظاً في هذا الكتاب، لحاجة واشنطن إلى اختراقه بشكل أكبر بعد زوال القطبية الثنائية الدولية التي كانت تقضي بالمحافظة على بعض التوازنات. حدد (نيكسون) في مؤلفه ما يشبه برنامجا شاملا لكيفية التعامل الأمريكي مستقبلا مع المنطقة العربية والإسلامية، ووضع "الإرهاب" الإسلامي على رأس قائمة الأولويات التي على واشنطن التعاطي معها.
ولاشك أن (نيكسون) لم يكن يعبر عن أفكار شخصية، بقدر ما كان يعكس آراء تيار عريض من صناع القرار الأمريكي، ونجد أن جزءاً كبيرا من أفكار كتابه تم تطويره في نظريات "نهاية التاريخ لفوكوياما", و"صراع الحضارات لهنتنغتون" فيما بعد.(66/299)
إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر تعتبر من هذه الناحية "الفرصة السانحة" للولايات المتحدة الأمريكية من أجل "استكمال" ما بدأته في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، و"إتمام" صرح النظام الدولي الجديد و"عولمة" النموذج الأمريكي. فزوال الاتحاد السوفياتي لم يكن كافيا ليطلق حرية واشنطن في تسيير شؤون العالم بالكيفية التي ترغب فيها، لأن زواله كشف عن طموح روسي للتوسع والهيمنة على شؤون المنطقة في آسيا الوسطى ومغالبة النفوذ الأمريكي، ومالت أوروبا الشرقية سابقا نحو أوروبا الأم الرأسمالية لتبرز هذه الأخيرة قطبا جديدا يبحث عن موقع في ساحة التنافس الدولي مع الولايات المتحدة الأمريكية، أما اليابان، فلا تبرز كخطر جدي بالنسبة لواشنطن أكثر من أنها منافس اقتصادي ضخم، لا يطرح تحديا عسكريا معقولا. ويبقى التنين الصيني، إد تحاول واشنطن التغلب على تململه بإدراجه ضمن مسار العولمة الغربية، وتشجيع نهج الإصلاح الليبرالي الاقتصادي والسياسي فيه، وفتح الطريق أمامه لدخول حيز منظمة "التجارة العالمية"، بهذه الطريقة تكون الصين تحت المراقبة، ولكن إلى حين.
لقد رأينا السرعة الكبيرة التي حدث بها التحول الأوروبي والروسي إلى جانب الرغبة الأمريكية في تشكيل تحالف دولي تحت مظلة واشنطن، حين التحقت أوروبا سريعا بأمريكا وقدم "حلف الناتو" جميع المساعدات المطلوبة، وتخلت روسيا عن مواقفها العدائية السابقة تجاه واشنطن لتنضم إلى التحالف راغبة في الحصول على تأييد أمريكي وغربي لسياستها في الشيشان وداغستان، وجميع النقاط الساخنة في القوقاز وآسيا الوسطى، وأصبح أمام واشنطن مجال واسع للتحرك دون رادع من قوة أو قطب دولي. وجاء التحول الأكبر مع القرار الذي تبناه مجلس الأمن الدولي بشأن مكافحة الإرهاب، والذي غلب الرؤية الأمريكية للإرهاب، ومنح صلاحيات واسعة للدول الخمس الدائمة العضوية ، والمالكة لحق "الفيتو" في مجلس الأمن لتطبيق ما تراه مناسبا من أجل القضاء على الإرهاب كما تفهمه وتحدد معاييره.
حقبة جديدة
هكذا بات العالم أمام تحول جديد يعطي للولايات المتحدة المبادرة الأولى والأخيرة في القضاء على "الإرهاب"، ويضع في يدها المبرر القانوني الدولي والشرعية الدولية والوسائل العسكرية الغربية للسير في نهجها الاستعماري الجديد، ويعلن (بوش) والمسؤولون الأمريكيون في البيت الأبيض والبنتاغون أن الحرب ضد الإرهاب لن تتوقف بعد أفغانستان، وأن هناك محطات أخرى ستلي هذا البلد، مما يعني أن المغامرة العسكرية الأمريكية لن تتوقف، وأن الجيش الأمريكي سيجوب العالم لضرب كل ما تراه أمريكا مرادفا للإرهاب، سواء بالضرب المباشر أو بتحريك جماعات من المرتزقة لنفس الغايات والأهداف. إن الأهداف المعلنة هي مكافحة الإرهاب، ولكن الهدف غير المعلن هو استئصال كل من يقف في طريق الهيمنة الأمريكية وزعامتها المطلقة على العالم، وما يضر بمصالحها ويشكل خطرا عليها حاضرا أو مستقبلا، أي أن الهدف الأخير هو "إرغام الآخرين" على دخول "بيت الطاعة الأمريكي" بتعبير المفكر واللساني الأمريكي (ناعوم تشومسكي)، فالذين يعادون القيم الأمريكية، ويستهدفون مصالحها، وحتى أولئك الذين يريدون البحث عن استقرارهم الداخلي الوطني والحفاظ على المصالح العامة لمواطنيها، ولكن يمس ذلك بالمصالح الأمريكية بطريق غير مباشر، هؤلاء ستجري ملاحقتهم عسكريا وفرض الحلول الأمريكية عليهم من الأعلى، حتى لو كانت تلك الحلول ستجر الخراب والفوضى على بلدانهم!!
وهذا هو التصور الجديد للاستعمار الجديد أو حقبة ما بعد الاستعمار. لقد كان الاستعمار القديم يروج شعار "الحضارة" في مقابل "التخلف والبداوة"، لتبرير سياسات النهب والقتل والتدمير، أما الاستعمار الجديد فهو يرفع شعار "السلام الأمريكي" والقيم الغربية في مقابل "الإرهاب والعنف"، لتبرير نفس السياسات القديمة المتجددة. وسوف لن تكون هناك قوى دولية متعددة، ولكن قوة عالمية واحدة يحقق الآخرون مصالحهم بمقدار الإقتراب منها، لأن العالم سيكون أمامه خياران اثنان لا ثالث لهما، كما صرح بذلك (جورج بوش) أمام الكونغريس الأمريكي، وهما : خيار الاصطفاف وراء الولايات المتحدة، أو خيار الوقوف في الصف المقابل.
إن عنوان الحقبة الجديدة هو "الفوضى المتوحشة ، وقانون الغاب ، وسلطة الأقوى، والمزيد من التفتيت للكيانات الوطنية واصطناع التجزئة وضرب الدول الضعيفة ببعضها, وفرض قيم الغرب ، وعولمة الخيار العسكري الأمريكي"!!
العالم الإسلامي... محور الاستعمار الجديد(66/300)
أما موقع العالم الإسلامي، ومنه العالم العربي، فسيكون في قلب هذا التحول العالمي الخطير. إن تصريح (بوش) الذي حدد فيه طبيعة الحرب ضد الإرهاب بأنها "حرب صليبية" لم يكن مجرد "زلة لسان" كما قيل، كما أن تصريحات الرئيس الإيطالي (بيرلوسكوني) حول الإسلام وحضارته لم تكن سهواً أو خطأ ديبلوماسياً. مثل هذه التصريحات ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد, وأن ينظر إليها كتعبير عن النوايا الدفينة لأصحابها. وتصريحات (بوش) المتكررة التي قال فيها بأن الإرهاب مصدره "الشر" الكامن في النفوس (لافي السياسات الدولية والعوامل الخارجية) هي تصريحات تشير إلى المضمون والأبعاد التي تعطى لمفهوم "الإرهاب" لدى الولايات المتحدة الأمريكية!!
إن هذا التحديد لمصدر الإرهاب يعني أن الإرهاب ليس نتاجا للظلم العالمي ، والاحتلال والعدوان العسكري ، والسياسات الأمريكية والغربية تجاه الدول والشعوب، بل نتاج الثقافات والعقليات والأفكار والقوالب الحضارية والهوية، لقد أصبح "الشر" يتجه إلى نفسيات الشعوب وأساليب التربية والتنشئة الاجتماعية والسلوك، في مقابل "الخير" الذي تعبر عنه الحضارة الغربية بثقافتها وأساليبها التربوية والعقليات والأفكار الغربية والأمريكية.
يلتقي هذا المفهوم العنصري البغيض تماما مع مضمون نظرية "صدام الحضارات"، وفي جذور هذه النظرية وغيرها من نظريات الاستشراق الغربي ينبغي إيجاد تفسير ل "زلة لسان" الرئيس الأمريكي وتصريحات الرئيس الإيطالي، لا في شيء آخر خارجها. أما ذلك التمييز التكتيكي الذي حاول الزعماء الأوروبيون والأمريكيون وضعه بين الإسلام والإرهاب فليس سوى طريقة للخداع، وما يؤكد ذلك هذه الحملات "المسعورة" ضد الجمعيات والمنظمات الإسلامية الخيرية والفكرية والثقافية عبر مجموع دول العالم الغربي، والدعوات والمطالب الموجهة إلى الدول العربية والإسلامية بمحاربة الجمعيات الإسلامية الخيرية والدعوية وتجفيف منابعها، فهذا يؤكد أن الغرب لا يضع فرقا بين ما يسمى إرهابا، وبين الإسلام في تعبيراته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المختلفة، وأن الإسلام هو المستهدف أولا وآخراً. وأن اللوائح التي وضعتها واشنطن بأسماء المنظمات والجمعيات المتهمة بالإرهاب لا تترك مجالا للشك حول النوايا "الصليبية" والاستعمارية للولايات المتحدة والغرب من ورائها، فما يجمع بين أسماء هذه المنظمات كونها لا تحظى برضا واشنطن، ولا نستغرب بعد هذا إذا وضعت أمريكا حركة حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله في إحدى هذه اللوائح، لأن منطق الاستعمار الجديد لا يفرق بين "الإرهاب" وبين "المقاومة المشروعة" ، ولأنه أيضا منطق مقلوب، يتعامل مع الاحتلال باعتباره واقعاً تاريخياً وسياسياً وجغرافياً ثابتاً ، ومع المقاومة ضده باعتبارها خرقاً للاستقرار !
==============(66/301)
(66/302)
موقف الغرب من الإسلام
سهيلة زين العابدين حمَّاد 10/3/1424
11/05/2003
لقد وقف الغرب من الإسلام موقفاً عدائياً عبر التاريخ، ويظهر هذا العداء بجلاء ووضوح في الآتي:
1-الحروب الصليبية:
حارب الغرب الإسلام، والحروب الصليبية التي شنها على الإسلام -مدى قرنين من الزمان- أكبر دليل على هذا .
الحركة الاستشراقية:
عندما فشلت هذه الحروب في تحقيق أهدافها، احتضنت الكنيسة الاستشراق الذي استمر على مدى ثمانية قرون يهاجم الإسلام، وينال من التشريعات القرآنية، ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن النبي الكريم، لتشويه الإسلام، وسيرة نبيه - صلى الله عليه وسلم - للحيلولة دون إسلام النصارى، ولتنصير المسلمين، وللسيطرة على المسلمين سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واحتوائهم علمياً وفكرياً، ولا تزال الحركة الاستشراقية مستمرة حتى يومنا هذا، وقد تغير مسماها، إذ أصبحت تحمل مسمى الدراسات (الشرق أوسطية) ملقية بمصطلح (الاستشراق) في مزبلة التاريخ -بعدما كُشفت أغراضه وأهدافه- مركزة على هذه المنطقة التي تضم المقدسات الإسلامية، وباعتبارها محور الصراع، مع سيرها على ذات المنهج. ولقد صرَّح المستشرق اليهودي الفرنسي (مكسيم ردنسون) أنَّهم لن يتخلوا عن مناهجهم إرضاءً للعرب .
3-دعوة البابوية استقبال الألفية الثالثة بلا إسلام:
والإسلام ظل -وسيظل- مخيفاً لأعدائه الذين يخططون للقضاء على كل ما هو إسلامي، ويرهبهم الجهاد في سبيل الله للدفاع عن الأوطان وتحريرها، فعملوا على تغييب الجهاد واعتباره إرهاباً، وملاحقة المجاهدين في فلسطين وغيرها كإرهابيين لتصفيتهم والقضاء عليهم، والحملة الحالية الموجهة ضد الإسلام، وضد المملكة ليست وليدة أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وإنَّما مخطط لها منذ سنين طويلة، فلقد أعلن (بابا الفاتيكان) في المجمع المسكوني عام 1965م أنهم سوف يستقبلون الألفية الثالثة بلا إسلام، ففي شهر مايو عام 1992م صرَّح نائب الرئيس الأمريكي في حفل الأكاديمية البحرية الأمريكية بولاية (ماريلاند) أنَّهم قد أخيفوا في هذا القرن بثلاثة تيارات هي: الشيوعية، والنازية، والأصولية الإسلامية، وقد سقطت الشيوعية والنازية، ولم يبق أمامهم سوى الأصولية الإسلامية.
4- إعلانهم في مؤتمر التنصير -الذي عقد في (كلورادو) بالولايات المتحدة- أنّ الحضارة الإسلامية شرّ برمتها، ويجب العمل على اقتلاعها من جذورها، وأنَّ كلمة (مسجد) و (مسلم) تستفزهم.
4-إعلان جورج بوش حرب صليبية ثانية على الإسلام:
فما أعلنه الرئيس الأمريكي أنَّ حرب الإرهاب هي حرب صليبية على الإسلام لم تكن زلة لسان، وكل الأحداث التي حدثت -والمخطط لها- تؤكد أنَّ هناك حرباً شرسة على الإسلام على مختلف الجبهات، وعلى كل الأصعدة، والحملة المكثفة على المملكة العربية السعودية تؤكد ذلك؛ لأنَّ المملكة مهد الإسلام، ولأنَّها أكثر الدول الإسلامية اهتماماً بتحفيظ القرآن الكريم للجنسين، وبتدريس المواد الدينية من تفسير للقرآن الكريم، وحديث وتوحيد وفقه في جميع المراحل الدراسية، وذلك لينشأ أبناؤها على أسس سليمة من العقيدة.
والغربيون يدركون تماماً أنّ الدين الإسلامي والتاريخ الإسلامي يخلوان من الحقد الديني الذي يمتلئ به التاريخ الأوروبي، وتلمود اليهود وتشريع التوراة المحرفة، وتاريخ اليهود الصهاينة في فلسطين.
والذي يؤكد ما أقوله إنَّ التلمود يبيح دماء وأعراض وأموال غير اليهود، ويسب سيدنا عيسى -عليه السلام- ويشتمه، وإسرائيل قائمة على أساس الدين بكل ما تحمله عقيدتهم من استعلاء على الشعوب، وأنَّهم شعب الله المختار، وإسرائيل بكل ما تقوم من حرب إبادة لشعب بأكمله -وهو أعزل- وتضربه بالطائرات والصواريخ والدبَّابات، وتجرف الأراضي، وتهدم المنازل، وتقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتروع الآمنين، وتمثل بجثث القتلى من الأطفال، وتنزع منها أعضاءها، هذا كله لا يعد إرهاباً في نظر الغرب، بل اعتبروا جهاد الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال الصهيوني إرهاباً، مع أنهم قاوموا هم من احتل أراضيهم، فأمريكا قاومت الاستعمار البريطاني، وفرنسا قاومت الاحتلال الألماني لأراضيها.
والواضح أنّ نجاح انتفاضة الأقصى -فيما ألحقته من خسائر لإسرائيل- جعلت الصحف الإسرائيلية -الآن- تتحدث عن انهيار إسرائيل، وقد أصبح الآن عدد النازحين من إسرائيل من اليهود أكثر من المهاجرين إليها، إضافة إلى الخسائر المالية التي تكاد تشل اقتصاد إسرائيل، فهذا ضاعف من جنون الغرب، -ولا سيما أمريكا- الموجه حملاته ضد الإسلام، وكل ما هو إسلامي، وتجفيف منابع الجمعيات الخيرية التي تدعم الشعب الفلسطيني بصورة خاصة؛ لإجهاض الانتفاضة والقضاء عليها .(66/303)
وينبغي ألا ننسى أنَّ هذه الحملات التي تحركها وتصعدها الصهيونية العالمية؛ لأنهم مستفيدون منها إلى حد كبير، كما لا يخفى على الجميع مدى سيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام الغربية، من صحافة وإذاعة وتلفزيون وسينما ومسرح، وشركات إعلان، وكذلك على مصادر الخبر، وهي وكالات الأنباء، فجريدة (النيويورك تايمز) -التي تقود حملة شعواء على المملكة- صاحبها يهودي، والكاتب الصحفي بها -المتحامل على الإسلام- يهودي صهيوني، وهذا يجعلنا ندرك أبعاد هذه الحملة
===============(66/304)
(66/305)
نائب زعيم المحاكم : مستعدون لحرب طويلة مع الغزاة !
حوار: سعد بن أحمد / الرياض 19/12/1427
09/01/2007
قبل عدة أشهر فقط تفاجأ العالم بالظهور المفاجئ للمحاكم الإسلامية في الصومال والتي سيطرت قواتها في زمن قياسي على العاصمة مقديشو بعد هزيمتها لقادة المليشيا وزعماء الحرب الموالين لواشنطن . لتعيد الأمن والاستقرار لمئات الآلاف من سكان العاصمة مقديشو ، وتضبط الأوضاع العامة في مناطق واسعة من الصومال ولتفرض المحاكم الإسلامية نفسها على الساحة كأهم قوة سياسية وعسكرية بالصومال .
وخلال هذا الأسبوع .. تفاجأ العالم كذلك بالسقوط المفاجئ لسلطة المحاكم في الصومال رغم خوضها حربا - غير متكافئة بالتأكيد - مع القوات الأثيوبية التي اجتاحت الأراضي الصومالية لدعم حلفائها في الحكومة الانتقالية . فما سر هذا الاختفاء المفاجئ للمحاكم الإسلامية ؟ وأين تتواجد قيادتها حاليا ؟ وما هي إستراتيجيتها لمواجهة الاجتياح الأثُيوبي للصومال ؟
هذه الأسئلة وغيرها طرحناها على الشيخ عبد القادر علي عمر نائب زعيم المحاكم الإسلامية وذلك في حوار خاص مع شبكة "الإسلام اليوم " من مقر إقامته بالصومال ، حيث استطاعت شبكة "الإسلام اليوم " ربط الاتصال الهاتفي معه مساء الثلاثاء رغم الأوضاع الاستثنائية التي تشهدها الصومال بوجه عام ، وقيادة المحاكم الإسلامية حاليا بشكل خاص .
وهذا نص الحوار :
بداية ..كيف تصف لنا الأوضاع حالياً بالعاصمة مقديشو؟
والله - الأوضاع- بمقديشو سيئة حيث تتواجد أعداد كبيرة من القوات الأثيوبية وحلفائها التي ترهب الناس وتضايقهم . كما أن قوات المحاكم الإسلامية لا تزال متواجدة جزئيًا بمقديشو ، وسكان المدينة يعيشون أوضاعاً صعبة ، نرجو الله تعالى أن ينصرهم على هؤلاء الظالمين.
أين تتواجد قيادة المحاكم الإسلامية حالياً؟ وكيف تفسرون الانهيار المفاجئ للمحاكم الإسلامية ؟
قيادة المحاكم الإسلامية موزعة على مناطق كثيرة في الصومال ، فهي متواجدة بالقرب من مدينة كيسمايو وكذلك بالعاصمة مقديشو وغيرها من الأقاليم .
أما خروجنا من العاصمة مقديشو وغيرها من المدن فهو لتجنيب المدنيين المعاناة وحفاظاً على أرواح الأبرياء من سكان مقديشو وغيرها ، وليس خروجنا هزيمة أو استسلاما للغزاة المعتدين من القوات الأثيوبية .
هل ما زال لدى المحاكم وجود عسكري بالعاصمة مقديشو؟
كما تعلم الشعب الصومالي كله يدعم ويساند المحاكم الإسلامية ، وقوات المحاكم بعضها ما يزال موجوداً بمقديشو وبعضها موجود بأقاليم أخرى، والشعب كله يساند المحاكم الإسلامية ومتمسك بها حتى النهاية.
هل بالإمكان تقدير حجم القوات الأثيوبية التي دخلت الصومال؟
القوات الأثيوبية التي دخلت الأراضي الصومالية تقدر بحوالي 25.000 جندي، ويتواجد الآلاف من هذه القوات الغازية بمقديشو وضواحيها، إلا أن الجزء الأكبر من القوات الأثيوبية يوجد بمدينة كيسمايو والمناطق القريبة منها.
أين تتركز المواجهات المسلحة حالياً، خاصة وأننا سمعنا أمس عن مواجهات حصلت بينكم وبين القوات الغازية بجنوب البلاد ، وعن قصف جوي أمريكي اليوم لمواقعكم هناك ؟
بالفعل قصفت الطائرات الأمريكية اليوم مناطق جنوب مدينة كيسمايو وبلدة كيا القريبة منها ، كما تشهد المناطق الواقعة جنوب كيسمايو حالياً معارك طاحنة بين قوات المحاكم الإسلامية والقوات الأثيوبية وحلفائها.
الرئيس الصومالي المؤقت رفض التفاوض مع قيادة المحاكم بينما طالبت نائبة وزيرة الخارجية الأمريكية الحكومة الصومالية بالتفاوض معكم.. ما تعليقكم على ذلك؟
الحكومة الصومالية مسلوبة الإرادة كما تعلمون وليس لها قرار مستقل ، وهي تابعة لإرادة واشنطن وأثيوبيا وتحديداً ميليس زيناوي ، وبالتالي فهذه التصريحات والمواقف لا قيمة لها بالنسبة لنا .
هل هناك أطراف عربية أو إسلامية سعت للتوسط بينكم وبين الحكومة المؤقتة بعد خروجكم من مقديشو؟
كما هو معلوم الجامعة العربية طالبت بخروج القوات الأثيوبية من الصومال لكننا لم نشاهد أي أثر لهذه الدعوة على أرض الواقع ، والآن كما تتابعون أثيوبيا غزت أرض الصومال وهذه الحرب هي حرب صليبية ضد الإسلام والمسلمين في بلاد الصومال ، وجميع بلدان العالم اكتفت حتى الآن بالتفرج فقط على ما يجري دون فعل أي شيء لوقف العدوان الأثيوبي.
كيف تقيمون الوضع الإنساني العام في الصومال في ظل الاجتياح الأثيوبي لبلدكم؟ وما هي أوضاع المواطنين الصحية والغذائية بشكل عام في الصومال؟
الشعب الصومالي كما هو معلوم شعب فقير وعانى كثيرا في الماضي من الحروب والفوضى ، وهو الآن يتعرض لعدوان صليبي حاقد، كما أن البلاد تعرضت لفيضانات مدمرة قبل عدة أسابيع مما فاقم من تردي الأوضاع العامة، ومع ذلك ثقتنا في الله تعالى بلا حدود، ونحن عازمون على الثبات والجهاد لدحر المعتدين .
هل تتوقعون حرباً طويلة مع القوات الأثيوبية الغازية ، وهل أنتم مستعدون لذلك؟(66/306)
نعم نحن مستعدون لحرب طويلة مع القوات الغازية لأن هذا الشعب المسلم قد احتلت أراضيه ودنست مقدساته وليس أمامه إلا خيار واحد هو الصمود والجهاد لطرد المعتدين ونرجو الله تعالى أن ينصرنا.
أخيراً.. ماذا تنتظرون من الأشقاء العرب شعوباً وحكومات في ظل المحنة الحالية التي يمر بها الصومال؟
نطالب الشعوب الإسلامية بتقديم الدعم المناسب لإخوانهم في الصومال ونرجو منهم الدعاء الصالح ، وبذلك يساعدون اخوتهم في الصومال على الثبات حتى تحقيق النصر على المعتدين بإذن الله.
==============(66/307)
(66/308)
نقد الفكر الليبرالي ( جديد ومزيد ).
الحرب على السلفيّة..!
( نقد الفكر "الليبرالي" السعودي )
فئة ضالة جديدة
بقلم/ د. محمد بن عبد العزيز المسند
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
قسم الدراسات القرآنية
وعضو الجمعية العلمية السعودية للقرآن وعلومه
المقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإنّ من المعلوم أنّ هذه الدولة السعوديّة منذ نشأتها على يد الإمامين الجليلين محمّد بن عبد الوهّاب ومحمّد بن سعود ـ رحمهما الله تعالى ـ قد قامت على العقيدة السلفيّة النقيّة التي كان عليها السلف الصالح منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم.. والإمام محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله لم يأت بجديد فيما دعا إليه، وإنّما جدّد ما اندرس من معالم هذا الدين لا سيّما ما يتعلّق بالتوحيد ونبذ الشرك، فكانت دعوته تحريراً للعقول من الجهل والخرافات والخزعبلات، وجرى على ذلك أتباعه من بعده حكاماً ومحكومين، ولقد تعرّضت هذه الدولة السلفيّة المباركة منذ نشأتها للكثير من الأذى والمواجهات والتحديات من قبل جهات عدّة، لكنّها ـ بفضل الله تعالى ثم بفضل تمسّك أهلها بهذه العقيدة السلفيّة النقية ـ صمدت في وجه أعدائها، وعاودت الظهور كلّما ظنّ أعداؤها أنّها قد زالت إلى الأبد..
وفي أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ثمّ الأحداث التي وقعت في هذه البلاد من تفجيرات آثمة، مع ما صاحب ذلك من وفاة كبار أئمّة هذه الدعوة السلفيّة المعاصرين الذين كان لهم كبير الأثر في حمايتها والذود عنها؛ وجد الأعداء فرصتهم في النيل من هذه الدعوة السلفية ممثلّة في أهلها والقائمين عليها، ولم يكن عدوّها الخارجي بأخطر من عدوّها الداخلي المتمثلّ في بعض أبنائها العاقّين الذين تشرّبوا مبادىء وأفكاراً منحرفة، كان منهم طائفة تبنت الفكر الاعتزالي القديم، وراحت تدعو إليه وتنافح عنه، وترى في السلفيّة عدوّاً لدوداً له، وهم بذلك يسعون إلى إعادة فتنة سلفهم القديمة مع إمام أهل السنة في وقته الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولكن بوجه عصري جديد يتماشى مع ما يريده العدو الخارجي المتمكن، هذا الوجه يتلخص في اتهام هذه السلفية النقيّة بأنّها هي مصدر الإرهاب ـ الذي لم يتم الاتفاق على تعريفه إلى هذه اللحظة ـ، ومصدّرته، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فجعلوا السلفية المسكينة هي السبب الرئيس في جميع النكبات التي حلّت بالأمّة من تخلّف وتأخر وتفرّق(!)، وأنّه لا سبيل إلى التقدم والازدهار إلا بنبذ هذه السلفية النقية التي تدعو إلى اتّباع منهج السلف الصالح ابتداء من رسول ا صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، ومروراً بأئمّة الإسلام العظام كسعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير والأئمّة الأربعة وابن تيمية وانتهاء بأئمة السلفية المعاصرين كابن باديس وابن باز وابن عثيمين وغيرهم عليهم جميعاً رحمة الله تعالى، وفي الوقت نفسه راحوا يبشّرون بمشروعهم التغريبي الجديد المتمثّل في إحياء الفكر الاعتزالي العقلاني، بدعوى الإنسانية والتعددية.. وقد رأيت أن أقصر الحديث على هذه الطائفة الاعتزالية دون غيرها لأسباب أهمّها:
1. أنّهم من أبناء جلدتنا اللصيقين، ويتكلّمون بألسنتنا..
2. تمكنهم من بعض وسائل الإعلام المحلية، وإعطاؤهم الضوء الأخضر من قبل القائمين على تلك الوسائل ليقولوا جلّ ما يريدون، وعدم السماح بنشر الردود عليهم إلا بشكل ضئيل جداً.
3. أنّهم يتحدّثون باسم الدين ويلبسّون على الناس بخلط الحقّ بالباطل، وإثارة الشبه القديمة التي أثارها الأعداء من قبل.
4. تمكنهم من بعض المنابر الجامعية في بلادنا، وبلبلة أفكار الطلاب وتشكيكهم في دينهم وعلمائهم بل وفي أقرب الناس إليهم وفي هذا يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13709: " ما أؤكّده لطلابي دائماً، ويقع منهم موقع الغرابة أنّ الفكر الخارجي حالة ليست ببعيدة عنا، الحالة الخارجية لها نسبتها الخاصة، وقد تنمو داخل الفرد ببطء دون أن يشعر، وقد تتسرب إليه من أقرب الأقربين، بل قد يكون أقرب الناس إليه ـ والداه أو إخوته مثلاً ـ من غلاة الخوارج، ولكنه يستبعد أن يكون هذا القريب الذي يطمئن إليه غاية الاطمئنان من الخوارج الغلاة الذين يقرأ عنهم وعن تكفيرهم ووحشيتهم.. لا يكادون يصدقون هذا، مع أنهم يعرفون تمام المعرفة أن الخوارج القدامى خرجوا من صميم المجتمع... "، بهذه الطريقة الماكرة يشكك الأستاذ الجامعي تلاميذه في والدِيهم وإخوانهم، بل العجيب أن يتحوّل مدرس العربية، إلى أستاذ في العقيدة، ليلقنهم درساً في الفِرَق، وهذا الذي طالما استنكروه في صحفهم، وعدّوه من أسباب تدني التعليم عندنا كما يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( دعاة لا معلمون ) الوطن: 921.
ثم يقول الأول في مقاله: إن الطلاب لا يكادون يصدقون ما يقوله..!!، وكيف يصدقون هذا الهراء من كاتب يعلمون خبثه وانحرافه العقدي والفكري، وقد قابلت بعض طلابه فأبدوا استياءهم من فكره المنحرف الذي يبثه في قاعة الدرس..(66/309)
ولقد كنت منذ زمن أتتبع كتاباتهم التي يسوّدون بها الصحف والمجلات، فجمعت منها كمّاً هائلاً مليئاً بالجهالات والمغالطات والتلبيس والدسّ الرخيص، وتقرير العقائد الباطلة، وغير ذلك من أنواع الباطل، وما فاتني منها ربما أضعاف ما جمعته، مما يصعب معه نقد هذا الفكر نقداً شاملاً دقيقاً، إذ يحتاج ذلك إلى مجلدات ضخمة ربما فني العمر قبل الفراغ منها.. ولا أقول ذلك مبالغة وإنّما هي الحقيقة، لذا سأحاول نقد ما تيسر لي من هذا الفكر بحسب ما يتسع له الوقت، وهو كاف ـ بإذن الله ـ لفضحه وبيان فساده وخطله..
وسيكون الحديث عنهم في النقاط التالية:
أوّلاً: سماتهم الشكلية الظاهرة..
ثانياً: سماتهم الفكرية والثقافية من خلال كتاباتهم المعلنة..
ولن أحرص على ذكر الأسماء، لأنّ الأسماء تتغيّر وتتبدّل، بخلاف السمات فإنّها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان إلا قليلاً، وهذا هو منهج القرآن في الحديث عن مثل هذه الطائفة..
هذا؛ ومن الملاحظ من خلال كتاباتهم أنّهم يتبادلون الأدوار، فبعضهم متخصّص في الطعن في السلفية وتشويهها وتنفير الناس منها، وبعض آخر متخصّص في التقليل من خطورة المذاهب المنحرفة، والأفكار الضالة، بل الدعوة إلى بعضها وتلميعها وخصوصاً الفكر الاعتزالي كما سيأتي بإذن الله، وهكذا، وبعض ثالث متخصّص في النيل من حضارتنا الإسلامية، وتشويهها، والثناء المغالي على الحضارة الغربية، وتمجيدها إلى حدّ الهوس، وهلمّ جرّاً..
أمّا مصادرهم التي ينهلون منها، فهي بعض الكتب الفكريّة لبعض الكُتّاب المنحرفين من تلامذة المستشرقين الحاقدين، ومن أصحاب التوجّهات العلمانية المشبوهة، الذين يجيدون بثّ الشبه، والتشكيك في أصول الدين ومصادره، وتاريخ المسلمين، بطريقة ماكرة، وغير منهجية، قد تخفى على كثير من الشباب الغضّ الذي ليس له حظّ وافر من العلم الشرعي، ومن أبرز هؤلاء المفكّرين، وأكثرهم حضوراً في كتاباتهم: المفكّر المغربي محمّد عابد الجابري، ففي الوقت الذي يطعنون فيه بأئمّة السلف وعلماء الأمّة كما سيأتي؛ نجدهم يسبغون أوصاف التعظيم والتبجيل لهذا المفكر وأمثاله، يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ في مقال له بعنوان: ( إشكالية العنف الفلسطيني الإسرائيلي ) الرياض: 13401: " فلسطين والنهضة العربية، أيّهما الوسيلة، وأيّهما الهدف؟ تاه العربي في هذا السياق وغمّ عليه! وأصبحت الحيرة في هذا من الإشكاليات المزمنة في الوعي العربي ذي البعد الوحدويّ؛ كما يرى ذلك المفكّر المغربيّ الكبير: محمد عابد الجابريّ.. "!!! .
ويقول آخر ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد، وتقرير مذهب الاعتزال ـ في مقال له بعنوان ( غرس المفاهيم من خلال الطرح غير العقلاني ) الرياض: 13477: " يرى الدكتور محمد عابد الجابري أنّه لكي يتمّ غرس المفاهيم الحداثية في الذاكرة الجمعية لمجتمع معين مثل مفاهيم الديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان والمجتمع المدني فلا بدّ من تجذيرها تراثياً.. " ويستمر الكاتب في شرح وجهة نظر الجابري، وعلى الرغم من أنّه أبدى شيئاً من التحفظ المؤدب تجاه تلك الوجهة، إلا أنّه يختم مقاله بقوله: " وهذه على الأقلّ تظلّ مجالاً للتساؤلات التي على المفكّرين الكبار من طراز الجابري بالذات أن يولونها ( هكذا ) اهتمامهم.."، وأضع تحت كلمتي ( طراز ) و( بالذات ) عدّة خطوط.
وفي مقال آخر بعنوان ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551، يقول الكاتب نفسه: " مفكرون عرب كبار وعلى رأسهم الجابري.. ".
أمّا ترديد أفكار الجابريّ، وحتى ألفاظه ومصطلحاته، فهو كثير في كتاباتهم، ومن ذلك:
• ( بنية العقل العربي) من مقال بعنوان: (بائعو الكلام) الرياض: 13490.
• ( الإيبيستيمولوجيا، النظام البياني والعرفاني والبرهاني ) من مقال بعنوان: ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551.
• ( التاريخ السياسي المتدثّر برداء الدين، والمحافظ على أيدلوجيته القبليّة، ومكاسبه الغنائميّة.. ) من مقال بعنوان: ( قراءة في بعض فروع العقائد ) الرياض: 13667.
• ( المخيال الجمعي ) من مقال بعنوان: ( مفهوم الحاكمية ) الرياض: 13716، وغيرها من العبارات.
بل إنّ أحد كبرائهم ـ وهو أشدّهم افتتاناً بالحضارة الغربيّة وتمجيدًا لها ـ صرّح في مقال له بعنوان: ( أسباب التباس مفهوم الثقافة ) الرياض: 13789 بمنهجهم في التلقّي، يقول: " أمّا التوغّل الفردي في اكتساب المعرفة المقروءة، والتحليق في آفاق المعارف الإنسانيّة؛ فهو من التغيّرات التي طرأت على الحياة البشريّة، وهو عالميّ المصدر، فرديّ الاهتمام، فهو لا يكون جماعياً، ولا يمثّل سياقاً عامّاً، أو نسقًا سائدًا، وإنّما هو عمل فرديّ يقتصر مداه على صاحبه ومن يتأثّرون به، ويستجيبون له [ يقصد حزبه الليبراليّ ]، وتكون مرجعيّته المعرفيّة من خارج النسق الثقافي المحلّي المغلق(!)، إنّه يعتمد على المصادر المكتوبة الممحصّة(!)، وهي مصادر مجلوبة من خارج الثقافة السائدة "(66/310)
هذه هي مرجعيّتهم، إنّها مجلوبة من خارج الثقافة السائدة(!) وهي كتب المستشرقين الحاقدين، وأذنابهم من الزنادقة الملحدين، والمفكّرين المنحرفين كما تدلّ على ذلك كتاباتهم!!!.
ثمّ يواصل: " فالفرد المهتّم يكوّن ذاته بذاته منفردًا، ويفتح ذهنه لكلّ المتاح من الإنتاج العالميّ، من الأفكار والمعارف والآداب(!) والفنون حيث يتجاوز الفرد بهذا التحليق(!) الثقافة السائدة تجاوزًا موغلاً(!) معتمدًا في ذلك على التأمّل العميق والاستقصاء الدقيق، والبحث الدائم، والمعايشة المنفردة(!) ".
فهو يرى أنّ مجرّد القراءة الفرديّة، والجهد الفرديّ في التلقّي، ومن مصادر خارج النسق الإسلاميّ المنضبط، هو سرّ التميّز والتثقيف والتقدّم المنشود، وهو إذ يقول ذلك ـ بهذه السذاجة الغريبة ـ لا يخاطب جمعًا من المثقّفين والنخب الذين لديهم التمحيص والتمييز بين الغثّ والسمين، والنافع والضارّ، وإنّما يخاطب الناس جميعًا في صحيفة سيّارة، فكيف يصدر مثل هذا من كاتب يعدّ نفسه من نخبة النخبة(!)، وقد حذّر سلفنا الصالح من هذا النوع من التلقّي، وشاعت بينهم المقولة الشهيرة: ( من كان شيخه كتابه، كثر خطؤه، وقلّ صوابه )، وهي مقولة صحيحة يؤكّدها الواقع القديم والحديث، فإنّك لا تجد رجلاً تفقّه وتعلّم وتتلمذ على الكتب إلا وتجد له من الأخطاء والشذوذ ما يفوق الحصر.
ثمّ إنّ هؤلاء وهم يتّهمون السلفية بالتقليدية، ويلمزونها بذلك، وهي من أشدّ المذاهب حرصاً على اتّباع الدليل، ونبذ التقليد؛ نراهم يقلّدون هذا الجابري وأمثاله، ويردّدون ذات الأفكار، بل ذات الألفاظ التي يردّدونها، والتي صدرت ـ أوّل ما صدرت ـ من المستشرقين الحاقدين، وأخذها عنهم هؤلاء المقلّدون، فعاد الأمر إلى تقليد المستشرقين، وترديد شبههم..، وإذا كان ولا بدّ من التقليد، فتقليد السلف الصالح خير من تقليد المنصّرين، من المستشرقين، وأذنابهم من المفكّرين بعقول غيرهم(!!!).
وبعد، فهذا أوان البدء بالمقصود:
أوّلاً: السمات الظاهرة: فأمّا سماتهم الشكلية الظاهرة ـ التي يتستّرون بها على أفكارهم ـ، فأبرزها إعفاء اللحى مع الأخذ منها، أو على حدّ تعبير أحد مشايخنا الأجلاء ـ اللحى الليبرالية ـ، حتى إنّ أشدّهم تطرّفاً لو رأيت صورته لحسبته من الصالحين، بينما كتاباته تمتليء حقداً وغلاً على الصالحين والمصلحين لا سيما أصحاب المنهج السلفي القويم من الأوّلين والآخرين كما سيأتي.. وليس ذلك خاصّاً بهم، فقد يشترك معهم في ذلك بعض العامّة ممن لا يحمل فكرهم المنحرف..
ومع ذلك، فقد تقتضي مرحلة من المراحل الظهور بغير لحى، فهي ليست ضرورية عندهم..
كما أنّ من سماتهم الظاهرة حضور الجمع والجماعات، مع انتقادهم الشديد ـ غير الموضوعي ـ لأئمّة المساجد واحتقارهم وكراهيتهم، إلى درجة الطعن والتشكيك في دينهم أحياناً، والتأليب عليهم، وأحياناً السخرية منهم والتندّر بهم لا سيما إذا خالفوهم في الأفكار المطروحة.. ويظهر ذلك جليّاً في مواقعهم على الأنترنت، فما لا يقدرون على بثه في صحفهم ومجلاتهم بأسمائهم الصريحة، يبثونه عبر تلك المواقع بأسماء مستعارة.. بل إنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرفاً وبذاءة ـ دعا في مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13716، إلى فرض الوصاية على الخطباء ـ الذين هم في الغالب من طلاب العلم وأساتذة الجامعات ـ وكتابة الخطب لهم بل حتى الأدعية، فلا يكون لهم دور إلا مجرد قراءة الخطب المكتوبة فقط(!)، هذا مع طنطنة هذا الكاتب وغيره من هذه الفئة على ضرورة رفع الوصاية المفروضة على عامة الناس من قِبل العلماء، والتي تحول بينهم وبين الاقتناع بالأفكار المضللة التي تدعو إليها هذه الفئة الضالة وغيرها، وهذه من أعجب تناقضاتهم كما سيأتي إن شاء الله..
يقول أحدهم ـ وهو من أكثرهم حديثاً عن السياسة والدعوة إلى الفكر الاعتزالي ـ في مقال له تفوح منه رائحة العلمنة بعنوان: ( التجييش الطائفي على المنابر ) الرياض: 13770، ـ وكلّ من يدعو إلى الدين والعقيدة عندهم فهو طائفي ـ، يقول: " أدركتني صلاة الجمعة الماضية مع أحد الخطباء ذي الباع الطويل في التسييس المنبري(!) ومنذ قد غادرت مسجده منذ مدّة ليست بالقصيرة عندما أدركت حينها أنني لا أكاد أسمع وأنا منصت لخطبته إلا تحاليل(!) سياسية رديئة المضمون(!) رائجة السوق لدى الخطاب الديماغوغي(!) القابل للتجييش بطبيعته.. " إلى آخر ما ذكر بأسلوبه الركيك المتهالك، أمّا الخطاب الديماغوغي!!! فهذا الذي لم أفهمه إلى هذه الساعة، ولعلّه مشتق من الدماغ، والله تعالى أعلم، أما (التحاليل)، فذكرتني بالمستشفيات، والدماء المسحوبة للتحليل، ولعله اختار هذا اللفظ لمناسبته للإرهاب وسفك الدماء..(66/311)
وفي مقال بعنوان: ( نجاحات الأمن قدوة كيف نبرر قتلنا المجاني ) الوطن: 1156، يلمز أحدهم خطيب العيد الذي صلى خلفه، لأنّه ـ كما يقول ـ ذكر أنّ للتطرف وجهين، وجه محسوس وهو الذي يؤدي إلى التفجير والتخريب، والوجه الآخر تطرف فكري وهو تطرف العلمانيين والمنحرفين من كتّاب ومثقفين... وذِكْرُ هذا الوجه الأخير هو الذي أقضّ مضجع هذا الكاتب، واغتاظ منه ( كاد المريب أن يقول خذوني )، فما كان منه إلا أن اتهم الخطيب بالتبرير للإرهاب المحسوس، مع أنّه لم يقل ذلك، لكنه الصيد في الماء العكر، والدفاع عن وجودهم، حيث استغلوا الأحداث الأخيرة لتصفية الحساب مع خصومهم التقليديين.
هذه مجمل سماتهم الظاهرة..
أمّا سماتهم الفكرية العامّة التي ظهرت من خلال كتاباتهم المعلنة، فهي كثيرة جداً، أذكرها أوّلاً بإجمال، ثمّ بتفصيل:
أوّلاً: الإجمال:
1. محاربة السلفية.
2. الخلل العقدي الواضح في كتاباتهم.
3. الشكّ في دينهم، وكثرة الحديث عمّا يسمونه بـ ( امتلاك الحقيقة المطلقة ).
4. العزف على وتر الإنسانية.
5. الدعوة إلى علمنة الحياة، وإقصاء الدين ( وهو لبّ مشروعهم الذين يدعون إليه ).
6. الإعجاب بمن يسمّونه ( الآخر )، ومدحه، وكيل الثناء عليه.
7. الجهل.
8. تنزيل الآيات التي جاءت في حقّ الكفرة من المشركين وأهل الكتاب، على خصومهم المؤمنين من العلماء والدعاة وطلبة العلم!!.
9. عدم قبول النصيحة، والسخرية من الناصحين، والتشهير بهم.
10. المزايدة على حبّ الوطن، وهم أشدّ الناس خطرًا على الوطن.
11. الطعن في أئمّة السلف قديمًا وحديثًا، والتقليل من شأنهم، مع إجلال الزنادقة والملحدين والمارقين والمبتدعة.
12. الغرور والكبر واعتقاد امتلاك الصواب..
13. الهجوم الشديد على المؤسسات الدينية والمناشط الدعوية والأشرطة والكتيّبات النافعة.
هذه بعض سماتهم بإجمال، أمّا التفصيل:
السمة الأولى:
محاربة السلفية
وهذه سمة ظاهرة في كتاباتهم، بل هي أبرز سماتهم، يبدونها أحياناً، ويخفونها أحياناً كثيراً، وليس المراد بالسلفية هنا: المدّعاة من قبل بعض النوابت الذين شوّهوا السلفية الحقّة ما بين إفراط أو تفريط، فهؤلاء أمرهم مكشوف لكل ذي بصيرة، بل العجب إنّ بعضهم قد وضعوا أيديهم في أيدي هؤلاء الاعتزاليين المارقين لمحاربة السلفية الحقّة ممثّلة في أهلها العاملين بها.. ومع هذا فإنّ هؤلاء الاعتزاليين يسخرون منهم، ومن سلفيتهم بل من السلفية كلّها أيّاً كانت، يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرفاً ـ بأسلوب ماكر لا يخلو من السخرية في مقال له بعنوان: ( المعاصرة وتقليدية التقليدي ) الرياض: 13366، وعلامات التعجب من عندي: " السلفيات وإن تنوعت، بل وإن وقف بعضها من بعض موقف التضادّ؛ إلا أن الوعي الماضوي(!) يجمعها. إن السباق فيما بينها ليس سباقاً في ميدان الحاضر أو المستقبل، وإنّما هو سباق في ميدان الماضي، والسابق هو الذي يصل ـ بأقصى سرعة ـ إلى الماضي السحيق(!).." إلى أن يقول: " وهكذا نجد أنّ كلّ سلفية ـ أيّاً كان نوعها ودعواها وتمظهرها ـ تدعم الوعي السلفي(!) وترسّخ للماضوية، وتكافح في سبيل التقليد، بدعوى أنّه الحصن المنيع ضدّ الابتداع، وهي بهذا تقف ضدّ أي حراك تقدّمي، تقف ضدّ التقدّم كوعي(!)، وإن تهادنت معه في هذا الموقف أو ذاك. إنّ هذه الهدنة من قبل السلفي فعل تكتيكي لا يرقى إلى الاستراتيجي ولا يقاربه، حتى في مداه النسبي، لأنّ السلفية ـ دائماً(!) ـ في صف الماضي على حساب الحاضر(!) ". والماضي السحيق الذي أشار إليه هذا الكاتب، هو رسول ا صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، إذ إن هذا هو أقصى ما يرجع إليه السلفي المتبع، فهو تعبير آثم يدلّ على شناعة هذا الفكر التغريبي وقبحه، واستهانته بسلف الأمّة.. وأما اتهام السلفية بأنّها في صف الماضي على حساب الحاضر! فهو محض افتراء وكذب، فلا تعارض بين الماضي السحيق ـ على حدّ تعبير الكاتب ـ الذي منتهاه رسول الهدى r، وبين الحاضر والمستقبل في الفكر السلفي الصحيح، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها كما دلت على ذلك النصوص الشرعية.
وقبل الحديث عن هذه الحرب القذرة، لا بد من بيان بعض المصطلحات التي تتردد في كتاباتهم، حتى يتفهم القارىء ما يهدفون إليه.
فمن هذه المصطلحات:
• ( السلفية التقليدية ) ويريدون بها المؤسسات الدينية الرسمية في الدولة التي تتمثّل فيها هذه السلفية، كهيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء، وسائر علمائنا الكبار..
• ( الفكر الصحوي ) ويريدون به طلبة العلم والدعاة النشطين، وهو الذي يعدونه ـ كما يقول أحدهم ـ " النشاط الحركي العصري للسلفية التقليدية وأنّ العلاقة بينهما علاقة عضوية يستحيل تمايزها " الرياض:13436.
• ( الإسلام الحركي ) أو ( الحراك المتأسلم!! )، ويريدون به أيضاً الدعاة النشطين في الدعوة... فهم لا يريدون إسلاماً نشطاً متحرّكاً، وإنّما يريدون إسلاماً جامداً خاملاً لا يتحرك، حتى يتمكنوا من تنفيذ مشروعهم التغريبي دون مقاومة تذكر!!!.(66/312)
• ( الإسلام السياسي ) ويريدون به العلماء والدعاة الذين يشاركون في الشأن العام، لا سيما القضايا السياسية، ولهم دور فاعل فيها... وهم يريدون إسلاماً "دراويشياً" لا يفقه شيئاً في القضايا العامة حتى تخلو لهم الساحة..
• ( التنميط ) ويريدون به تربية الناس على منهج أهل السنة والجماعة، وعقيدة السلف الصالح، وحمايتهم من المذاهب المنحرفة، والعقائد الفاسدة..
• ( الأيديولوجيا )، وهو مصطلح وافد غير عربي يتردد كثيراً في كتاباتهم ـ بل يكاد يكون ترداده سمة لهم ـ ويريدون به المعتقد الديني أو الثقافي الذي يؤمن به الفرد ويترجمه سلوكاً في الواقع المعاش. والأدلجة عندهم فيما يتعلّق بالسلفية: تشبه التنميط، فهي دعوة الناس إلى الدين والمعتقد الصحيح وتربيتهم عليه ليكون واقعاً معاشاً، وهذا هو الذي يقضّ مضاجعهم، ويحول بينهم وبين تحقيق مشروعهم التغريبي.
وقد سلك هؤلاء المارقون في حربهم للسلفية مسالك عدّة، من أبرزها:
1. محاولة تشويه السلفية، والتنفير منها، وتصويرها بصورة مقزّزة لصرف الناس عنها، وذلك للتمهيد لطرح مشروعهم التغريبي العفن المتقنّع بقناع العقلانية والتنوير!! وهم وإن كانوا كلّهم يعملون في هذا السياق؛ إلا أنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وأكثرهم بذاءة ـ قد تخصّص في ذلك كما سبق، فلم يترك شتيمة، ولا نقيصة إلا رمى بها هذه السلفية التي يدين بها عامّة أهل هذه البلاد وغيرهم، وكلّ ما تقاطع معها من "الإسلامويين" ـ كما يعبّرون استهزاء ـ ولو من بعيد، وحتى لا أكون متجنّياً، فإنّي سأذكر بعض هذه الشتائم، ليعلم القارىء مدى الإسفاف الذي وصلوا إليه، مع دعواتهم المتكرّرة للتسامح مع "الآخر" واحترامه وتقديره!!!. فمن هذه الشتائم:(66/313)
( السلفية العتيقة ) الرياض: 12953، ( السلفية التقليدية ) الرياض: 13065، (الانغلاق السلفي ) الرياض: 13338، ( قوى التقليد والجمود والظلام ) الرياض: 13485، ( قوى التقليد والظلام والإرهاب ) الرياض: 13331، ( قوى التأسلم ) الرياض: 13359، ( قوى التخلف والتوحش والانغلاق ) الرياض: 13352، ( قوى التطرف ) الرياض: 13331، ( قوى تخلف وتقليد ) الرياض: 13331، ( التقليدية البلهاء ) الرياض: 13065،( التقليدية الميتة ) الرياض: 13331 ، ( الثقافة الميتة ) الرياض: 13072، ( الثقافة التي تصنع الغباء ) الرياض: 13072، ( الثقافة التقليدية البائسة ) الرياض: 13065، ( ثقافة الانغلاق ) الرياض: 13065، ( ثقافة تقتل الوعي ) الرياض: 13065، ( ثقافة التجميع واللا عقل ) الرياض: 13072، ( ثقافة الموت الوعظية الحمقاء ) الرياض: 13072، ( ثقافة كسيحة ) الرياض: 13156، ( الوعي الكسيح ) الرياض: 13002، ( الوعي المتسطّح الكسيح ) الرياض: 13072، ( الوعي المأزوم ) الرياض: 13380، ( وعي غارق في مخلّفات عصور الانحطاط ) الرياض: 13156، ( القراءة التراثية المبعثرة ) الرياض: 13331، ( الطرح المتسطّح ثقافياً ) الرياض: 13163، ( رؤى الانغلاق وتيارات الكره ودعاة النفي ) الرياض: 13128، ( براثن التنميط والمحافظة والتقليد ) الرياض: 13128، ( الاحتيال اللا معرفي وجرثومة الوصاية ) الرياض: 13065، ( الدروشة الوعظية التي تفتقد الحكمة ) الرياض: 13072، ( الإفلاس المعرفي ) الرياض: 13072، ( الاستغفال المعرفي ) الرياض: 13121، ( الترنح المعرفي ) الرياض: 13282، ( تيار الجمود والارتياب ) الرياض: 13282، ( الاختطاف الثقافي والاجتماعي ) الرياض: 13128، ( قصور معرفي حاد ) الرياض: 13163، ( البلاهة السياسية ) الرياض: 13191، ( الغباء السياسي ) الرياض: ، ( ضمور الوعي السياسي ) الرياض: 13380، ( الجماعات المتأسلمة ) الرياض: 13247، ( نمطية بلهاء ) الرياض: 13338، ( المتأسلمون )، ( تيارات التأسلم ) الرياض: 13282، ( فكر الإقصاء والنفي ) الرياض: 13282، ( اللا وعي بالتاريخ ) الرياض: 13002، ( الفهم القاصر ) الرياض: 13002، ( جماهير الغوغاء ) الرياض: 13002، ( المنزل القديم المتداعي بوحشيته المعتمة ) الرياض: 13002، ( سيكولوجية البدائي ) الرياض: 13002، ( خطاب موعظة لا معرفة ) الرياض: 12953 ، ( ألاعيب الحواة ) الرياض: 13436، ( ممارسة خرقاء ) الرياض: 13436، ( الحراك المتأسلم ) الرياض: 13478، ( الخرافة والتقليد والخداع ) الرياض: 13485 ، ( طمر الحقائق ) الرياض: 13485، ( حراك سلبي ) الرياض: 13485، ( الأيدلوجي المنمط ) الرياض: 13499، ( المجتمعات المحافظة الأصولية ) الرياض: 13499، ( حركات الأدلجة ) الرياض: 13499 ، ( الأدلجة الماكرة ) الرياض: 13324 ، ( تجهيل الجماهير ) الرياض: 13499، ( الجماهير البائسة الظامئة ) الرياض: 13506، ( الجماهير الغائبة المغيّبة ) الرياض: 13338، ( الحواشي وحواشي الحواشي ) الرياض: 13506، ( الإسلام الحركي السياسي ) الرياض: 13506، ( المراهقة الصحوية ) الرياض: 13303، ( أوهام التقليدية الميتة ) الرياض: 13065، ( مفرقعات صحوية ) الرياض: 13289، ( شريط الكاسيت الغبي ) الرياض: 13289، ( الهراء الإعلامي والسطحية ) الرياض: 13289، ( المتأسلمون ) الرياض: 13303، ( الحراك الثقافي المتأسلم ) الرياض: 13359، ( دعوى النقاء الأخلاقي المزعوم ) الرياض: 13331..
هذه بعض الشتائم المقذعة التي قمت بإحصائها من مقالات كاتب واحد منهم فقط، ودون استقصاء تام(!) ويلاحظ على هذه الشتائم ما يلي:
أ- كثرتها، حتّى إنّها لتصل إلى الخمس والستّ في المقال الواحد!!!!، وفي هذا دليل واضح على افتقاد الحجّة الصحيحة المقنعة، فإنّ المبطل إذا عجز عن الإقناع بالحجّة؛ لجأ إلى السباب والشتائم للنيل من خصمه.
نعم؛ قد يضطر الإنسان أحياناً إلى توجيه بعض الشتائم إلى خصمه اللدود، لكن أن تكون بهذه الكثرة المفرطة، ومن أناس " أكاديميين" يدّعون الفكر والعقل المستنير؛ فهو أمر يدعو إلى التأمّل والعجب!!.
ب- تضمنّها العديد من التهم ذات العيار الثقيل بلا دليل ولا برهان صحيح، وما أسهل أن يطلق المرء على خصومه التهم جزافاً بلا بيّنة صحيحة، والتي قد يصل بعضها إلى الإخراج من الدين والإسلام، كقولهم: ( المتأسلمون )، ( قوى التأسلم ) ، ( الحراك الثقافي المتأسلم ) ونحوها من الشتائم، فالمتأسلم هو الذي يدعي الإسلام وهو ليس كذلك كما يُفهم من هذا الوصف، ولطالما دندن هؤلاء حول خطورة التكفير، والإخراج من الدين، حتى وإن كان بحقّ، فما بالهم يصفون خصومهم المسلمين بالضد من ذلك !!!.(66/314)
ج- أنّ هذه الشتائم لم تقتصر على أهل العلم والفكر والدعوة من السلفيين من الأوّلين والآخرين، بل تجاوزت ذلك إلى عامّة الناس المقتنعين بهذه العقيدة، والذين يطلقون عليهم وصف ( الجماهير ): فهم ( الجماهير البائسة الظامئة )، و( جماهير الغوغاء )، و( الجماهير المجهّلة )، و( الجماهير الغائبة المغيّبة )، و(المجتمعات المحافظة الأصولية )، لا لشيء إلا لأنّ هذه الجماهير المسلمة اختارت هذه العقيدة النقية، ولم تستجب لدعواتهم التغريبية المضللة، ولن تستجيب بإذن الله تعالى..
د- أنّ الكثير من هذه الأوصاف ( الشتائم ) هم الأقرب إلى الاتصاف بها، والتخلّق بها لمن تأمل ذلك، لكنهم يقلبون الأمور، ويلبّسون على الناس على قول المثل السائر: ( رمتني بدائها وانسلّت )!!.
ه- أنّ مثل هذه الشتائم لا تصدر إلا من نفس موتورة حاقدة، قد تشبّعت بالشبهات، فاستقرّت فيها وتمكّنت منها، وداء الشبهات أعظم أثراً في النفوس والقلوب من داء الشهوات، فكيف إذا اجتمع الأمران، نسأل الله السلامة والعافية.
والعجيب أنّهم يرون أنّ مثل هذه الشتائم القبيحة التي يسمونها نقداً؛ ضرورية لإيقاظ المجتمع من سباته، وتنويره(!!!)، يقول أحدهم ـ وهو كبيرهم وأشدّهم افتتانناً بالحضارة الغربية ـ في مقال له بعنوان: ( تخصّص في الطب وأبدع في الفكر والمسرح) الرياض: 13502: " وبذلك أدرك ( بريخت ) بأنّ مواجهة الطوفان بالنقد الحادّ، والتهكّم الموجع من أهمّ وسائل إيقاظ المجتمع من سباته، وتنويره للمصير المظلم الذي يساق إليه ". وبريخت هذا مبدع عالمي عند الكاتب ترك تخصصه في الطب(!)، واشتغل بالمسرح(!)، وهو حين يذكر قول هذا المبدع(!) لسان قلمه يقول: إياك أعني واسمعي يا جارة، كما يدل على ذلك باقي المقال، ومقالاته الأخرى. وقد فهم تلميذه السابق الرسالة ـ وبئست التربية ـ، فأطلق تلك الشتائم والتهكّم الموجع بذلك الكمّ الهائل لمواجهة (طوفان) السلفية، وإيقاظ الفتنة النائمة.. وحتماً سيغرقه هذا الطوفان بإذن الله تعالى.
وأعجب من ذلك أنّ هذا الكاتب نفسه ـ صاحب الشتائم السابقة ـ حينما تحدّث عن بعض الكُتّاب المنحرفين في مقال له بعنوان ( قراءة الإسلام بين العلمية والإيديولوجيا 2/2 ) الرياض: 14185 وصفه بوصف هو أجدر أن يوصف به فقال: " لا غرابة في أن تصدر هذه الشتائم عن إنسان مريض يعاني من عقد الاضطهاد، وربما مر بمواقف زادت من تأزمه واضطرابه، أو ربما كان خاضعاً لتربية غير سوية، قادته إلى استخدام هذه اللغة السوقية التي لا تجد من يلوكها إلا في الحواري الخلفية، وعند الحشاشين والقوادين، وإنما العجب أن تحتفي بعض الصحف المحترمة، كأخبار الأدب، وأدب ونقد، ودور النشر العلمية.. بمثل هذا العابث، والذي لا يمتلك سوى هذا الكلام الذي يراه صاحبه علماً. الجهالة من ناحيتين، جهالة أولية، وجهالة جراء عدم إدراك مستوى ضحالة الذات معرفياً ".
وهو في مقاله هذا نصّب نفسه مدافعاً عن الإسلام والدين، وهو الذي كان يكيل الشتائم لأهل الدين كما سبق، ويرميهم بكل نقيصة، فلم يسلم منه حتى الأئمّة الكبار كابن القيّم وغيره، ولا فرق بين من يطعن في الدين نفسه، ومن يطعن في حملته وأهله، سوى أنّ الأوّل طعن صريح، والثاني خبث مغلّف بتلميح..
وفي مقال له بعنوان ( متطرفون في الزمن الليبرالي ) الرياض: 14220 دعا فيه صراحة إلى اعتناق الفكر الليبرالي وبشّر فيه بها!!! قال: " والمجتمع الليبرالي مجتمع راشد، يتجاوز هذا السباب الطفولي، وإن اضطر في سياق الخطاب اللاهوتي إلى شيء من ذلك - كحق في التعبير عن الرؤية - فإنه يطرحه في سياق موضوعية صارمة، لا يسمح لها بالإساءة المباشرة إلى أحد ". هذا هو نصّ ما قاله: سباب طفولي في سياق موضوعية صارمة !!! ودون إساءة إلى أحد !! وهل بعد ذلك الكمّ الهائل من الشتائم الطفولية السابقة من إساءة تطال كلّ سلفي موحد في هذه البلاد السلفية ؟. أهذه هي الليبرالية التي يدعون إليها ويبشّرون بها؟..
2. ربط السلفية بالإرهاب ـ الذي لم يُتفق على تعريفه إلى هذه الساعة ـ والاستماتة في ذلك، ونسبة بعض المارقين إليها وهو ما يطلقون عليه: ( السلفيّة الجهادية ).. فكلما خالفهم مخالف، أو حاجّهم محاجّ، أو احتسب عليهم محتسب من أهل الدين والعلم والدعوة رموه بالإرهاب بجرة قلم، والعامة يروون في هذا المقام قصة رمزية طريفة، وهي أن امرأة أراد زوجها أن يتزوج عليها، ففكرت في حيلة لمنعه من الزواج، فما كان منها إلا أن اتصلت برجال الأمن، وذكرت لهم ارتيابها من زوجها، وأن له صلة بـ ( الإرهابيين )، وقبيل ليلة الزواج تم القبض عليه بهذه التهمة، واعتذر أهل الزوجة عن تزويجه، وبهذا نجحت الخطة..(66/315)
يقول أحدهم ـ وهو مقيم في لندن ـ في مقال له بعنوان: ( الحالة الدينية في السعودية..هل تستمر القاعدة بتجنيد السعوديين ) الوطن: 1139 : " ما هي وضعية الحالة الدينية اليوم في السعودية؟.. لا يمكن القول إنّها متسامحة وعصرية، فالأحداث الإرهابية هي نتاج غلو ديني اشترك بعض أفراد المذهبيّة الدينية السلفية السائدة، والأيديولوجيا الصحوية في صنعها في المقام الأوّل بغض النظر عن المسببات الأخرى التي وضعتها في موضع التنفيذ. ومظاهر التشدد الديني التي تلمس كل يوم في خطب الجوامع وأدعية القنوت، والفتاوى المتشددة، والخطاب الديني بمجمله مغرق في التزمت بعيد كل البعد عن حال التسامح واليسر المنتظرة منه "، وهكذا تطلق التهم جزافاً بلا بيّنة سوى أنّ الذين قاموا بالتفجيرات يستشهدون ببعض أقوال السلف، ولو أننا أخذنا بهذا المنطق المعوج لحكمنا على القرآن نفسه بأنّه سبب الإرهاب، لأنّ الخوارج الأوّلين استدلوا به على مذهبهم، وكذلك سائر الفرق الضالة.
ثم، ومن أجل حلّ هذه الأزمة يرى الكاتب أنّ الحل يكمن في: " تغيير الطريقة التي يتم التعامل بها مع الأفكار والطوائف أو الأديان بوصفها كافرة أو مبتدعة أو علمانية، وينبغي أن ينظر إلى نقد وتقييم المناهج والمؤسسات الدينية، وإصلاحها(!) بالطريقة العصرية، والحدّ(!) من تضخّم الأدلجة الإسلاموية.." وهو كلام في غاية الخطورة والضلال، والغلو المضاد، حيث يدعو الكاتب إلى عدم وصف الأديان ـ ويريد بها بطبيعة الحال أصحابها المتدينين بها اليوم ـ بالوصف الذي وصفها الله به في كتابه الكريم، ووصفها به رسوله الأمين كما في قوله تعالى: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.. }، وقوله: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ..}، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم " والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " أخرجه مسلم. ولا خلاف عند أهل الإسلام في كفر اليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب الملل الأخرى، فمن لم يكفرهم فهو مكذب للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. وكذلك يدعو الكاتب إلى عدم تبديع أهل البدع وأهل العلمنة، وفي ذلك مضادة لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة"، وهذا في نظر الكاتب يعدّ إصلاحاً بالطريقة العصرية، وصدق الله إذ يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }.
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ في مقال له بعنوان: ( الإنترنت والخطاب الديني) الرياض: 13247: " .. كما أظهر هذا الخطاب [ يعني خطاب التطرّف ] أنّ مرجعيّة التطرّف والغلو، ومن ثم الإرهاب، ليس الفكر القطبي، ولا طرح الجماعات المتأسلمة(!) وإنّما مصدر الاستدلال ـ في الغالب العام ـ: السلفية التقليدية، بمرجعيّاتها المشهورة التي لها اعتبارها في الخطاب السلفي ".
إذن، السلفية بمرجعياتها المشهورة هي مصدر الإرهاب، فيجب محاربتها، والقضاء عليها، هذا ما يهدف إليه الكاتب. والردّ عليه كالرد على الذي قبله.
أمّا المرجعيات المشهورة فيريدون بها: أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الوهاب رحمهم الله..، وقد صرّح أحدهم بذلك ـ وهو أكثرهم تعالماً، وأشدّهم جهلاً ـ في مقال له بعنوان: ( الإنسان والوطن أهمّ من ابن تيمية) الوطن: (965 )، زعم فيه ـ زوراً وبهتاناً ـ أنّ ابن تيمية هو منظّر الجهاديين، وأنه سبب الإرهاب، معتمداً على نص لابن تيمية مبتور من سياقه، وهو إذ يعيب على من أسماهم بالجهاديين سوء الفهم؛ يقع في الخطأ نفسه وهو لا يشعر.(66/316)
وأخطر من ذلك، ما سطّره الكاتب الأوّل في مقال له بعنوان: ( واحذرهم أن يفتنوك ) الرياض: 13128، يتحدّث فيه عمّا أسماه بالفرادة، يقول منظرّاً لهذه الفرادة: " إنّ الأصل في الكائن الإنساني خاصّة هو الاختلاف والتنوّع والتفرّد، وليس التشابه والتماثل كما يحاول دعاة المحافظة والتقليد ترويجه ـ تطبيقاً ـ في بيئتنا الاجتماعيّة، وإن ادّعوا تنظيراً غير ذلك".. وهذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، فالفرادة إن كانت فيما لا يتعارض مع أصل الدين وثوابته، ونصوصه القاطعة، فهي مطلوبة، وإلا فإنّها ابتداع وخروج عن الدين، وحقّها ـ لفظاً ـ أن تكون بالمثنّاة ( قرادة )، لكنّ الكاتب تعمد الإطلاق للوصول إلى ما يهدف إليه، لذا فهو يواصل مقاله قائلاً ـ بعد أن قرّر أنّ إلغاء هذه الفرادة المطلقة جريمة ـ: " ويبقى السؤال الأهم في هذا الطرح: إذا كان إلغاء معالم التفرد في الإنسان جريمة، فهل تمارس هذه الجريمة في محيطنا الثقافي والاجتماعي؟، وإذا كانت تمارس، فهل هي مقصودة أم أنها جزء من الحراك الاجتماعي التلقائي؟، وعلى أية صورة تمارس هذه الجريمة؟، هل هي فردية أم جريمة منظمة؟، وما مدى انتشارها وذيوعها؟ ومن الفاعل؟، وأين؟، ومتى؟. وإذا كان بعض هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها تفصيلاً؛ لهذا السبب أو ذاك، فإن الإجابة العامة التي ينطق بها الواقع (الثقافي/ الاجتماعي) لدينا إجابة لا تدعو للتفاؤل، من حيث الوقوع المتعين لهذه الجريمة المعنوية ".
ثم تبدأ معركته مع السلفية، أو على حدّ تعبيره: ( الاتجاه المحافظ التقليدي لدينا)، وهذا هو المقصود، فيقول: " إن ما فعله - ويفعله - الاتجاه المحافظ التقليدي لدينا إنما هو عملية قتل متعمد لكل معالم الفرادة الطبيعية، إنه في الحقيقة (اغتيال للعقل) على نحو تدريجي، وبأساليب قد لا تكون واضحة في كل الأحيان، وفي كل الحالات. لا أستطيع أن أقول: إن عملية المسخ الاختياري (والقسر في بعض الأحيان) التي يمتزج بها الاجتماعي بالديني ( وفق رؤية خاصة يتم تعميمها)، بالثقافي، بالواقعي، وبطريقة لا تبقي أي خيار، لا أظن أن لها مثيلاً على مستوى التجمعات الإنسانية المعاصرة كافة..".
وبعد الطعن في السلفية ـ خصمه اللدود ـ بإجمال، يبدأ في التفصيل، فيستعرض المراحل الدراسية جميعها إلى مرحلة الدراسات العليا، فيقرّر أنّ هذه المراحل كلّها عندنا تقضي على هذه الفرادة المزعومة، والسبب أنّها تلتزم بمذهب أهل السنّة والجماعة وسلف الأّمة، أو على حدّ تعبيره: " نمط التربية المستمد من موروث اجتماعي موغل في القدم يبدأ عمله منذ السنوات الأولى للطفولة؛ لكون القائم على التربية الأولى ابناً باراً لثقافة التقليد والمحافظة في الغالب " أو بتعبير آخر له: " أفكار مغرقة في محافظتها وسلفيتها وتزمتها.. "، أو بتعبير ثالث عن النشاط اللا منهجي: " وفق المنطلقات ذات الزوايا الحادة للمنظومة السلفية التقليدية التي تجتهد في التنميط؛ فضلاً عن أن التنميط كامن في البنية العامة للمناهج "..
ثم يتحدث عن المرحلة الجامعية، فيصفها بأنّها: " أكبر (ورشة) للتنميط، وقتل ما أبقته المراحل الأولى من الفرادة العقلية، وترسيخ قيم المحافظة والتقليد، فتمارس بين أروقة الجامعة أكبر عملية اجترار للتراث، بكل ما يحمله من إيجاب وسلب، وبكل ما تعنيه هذه العملية في ذاتها ( من حيث هي اجترار) من نكوص إلى وعي قد طواه الزمن في مقبرته الأبدية، ولكننا نأبى إلا نبش تلك القبور، والبحث في تلك العظام النخرة عن مصدر للحياة!.. ". وهو يريد بذلك الأقسام الشرعية في الجامعات ذات التوجه السلفي خصمه اللدود، أمّا كليات الطب والهندسة والعلوم وغيرها، فلا يتحدّث عنها.
ثم يتحدّث عن مرحلة الدراسات العليا، فيصفها بأسلوب مسفّ ينم عن حقد دفين على المنهج السلفي القويم، مدعم بالافتراء والكذب وكيل التهم الجائرة فيقول: " إن الدارس لا يمكن أن يقبل في هذه الدراسات ابتداء، ولا يمكن أن يتقبل فيما بعد، ما لم يكن ذا مهارة في النسخ، مع قدر لا يستهان به من عدم الأمانة في النقل والاجتزاء؛ لخدمة الفكرة الموروثة في التيار المندغم فيه، فليست الحقيقة هي الغاية، وإنما الإبقاء على ما يؤيده تيار المحافظة من مخلفات القرون الوسطى هو الغاية، وفي سبيلها فليتم الإجهاز على الحقيقة بسيف العلمية!، وبهذا لا يمكن أن يعترف بالدارس باحثاً علمياً في مؤسسات التقليد ما لم يتنكر لبدهيات البحث العلمي. وهذا هو الشرط الأولي لقبوله (باحثاً!) في المنظومة التقليدية ".. إنّها تهم شنيعة، في غاية البشاعة والشناعة لجامعاتنا الإسلامية العريقة التي خرّجت الكثير من العلماء والدعاة والمفكّرين حتى من غير أبناء هذا البلد، ولكن الحقد الدفين يعمي ويصم..
فعين الرضا عن كلّ عيب كليلة كما أنّ عين السخط تبدي المساويا(66/317)
ثم يدلل هذا الكاتب الموتور على ما ذهب إليه من حقد دفين وفق طريقته السابقة من الافتراء والكذب والتلبيس والألفاظ النابية فيقول: " ومما يدل على مستوى هيمنة هذا النمط الببغاوي في المؤسسات العلمية التي تهيمن عليها الاتجاهات المحافظة، أن الحكم بموضوعية على شخصيات أو تيارات في القديم أو الحديث، بما يخالف رؤية هذه الاتجاهات، وما يسود في أروقتها من مسلمات يودي بصاحبه، ويعرضه للنفي خارج المؤسسة العلمية، فضلاً عن الإقصاء الديني، يشهد على ذلك أن كل دراسة لشخصية أو فكرة أو تيار، تتم في هذه الأقسام تعرف النتيجة فيها سلفا، بل لا يمكن أن تكون النتيجة إلا ما قررته المنظومة في أدبياتها، فمهما حاول (هذا إذا حاول) الباحث الاستقلال فهو لا يستطيع، وموقفه البحثي في النهاية دفاعي عن الأفكار العامة لمؤسسته العلمية التي تحتويه. هذا هو الواقع، وإلا فدلوني على رسالة واحدة طعن(!) صاحبها في فكرة أو شخصية لها وزنها في المنظومة الفكرية لمؤسسته العلمية، أو أثنى على تيار مخالف أو شخصية ليست محل القبول في هذه المؤسسة، فقبلت المؤسسة المحافظة بذلك ".. إنّ هذا الكاتب يريد من الباحث الملتزم بعقيدة أهل السنّة والجماعة أن يطعن في أئمّة السلف أو مذهب السلف، أو يثني على أهل البدع، والفرق الضالة وخاصة المعتزلة(!) ، ويريد من الجامعات الإسلامية أن تفتح المجال لكلّ من أراد ذلك باسم الاستقلال والفرادة كما يزعم، وإلا فإنّ ذلك ضرب من الإقصاء والنفي والقضاء على الفرادة المزعومة، أمّا أن يبتكر الباحث موضوعاً في تخصّصه ـ مع التزامه بثوابت الأمة ومنهج أهل السنّة ـ فذلك ليس من الفرادة في شيء في مفهوم الكاتب، الفرادة عنده هي الخروج عن مذهب السلف، والطعن فيهم ـ كما يفعل هو مراراً في مقالاته كما سيأتي ـ ، إنّ هذا لهو عين الضلال وانتكاس المفاهيم..
ثمّ إني أوجه سؤالاً لهذا الكاتب ولن يستطيع الإجابة عليه فأقول: هل صحيفتك التي تكتب فيها، وتهاجم مِنْ على منبرها مذهب السلف الصالح تسمح بمثل ما ذكرت من نقد لفكرة أو شخص ينتمي إليها أو إلى الفكر الذي تتبناه ؟؟ الجواب: لا وألف لا، لأني قد جربت ذلك، وجربّه غيري، فلم نجد إلا الإقصاء والنفي والتجاهل إلا في حدود ضيقة، فهل من معتبر..؟
ثم يواصل الكاتب بذاءته وافتراءاته وشتائمه المعتادة ـ سأضع تحتها خطاً ـ قائلاً: "بهذا يتضح أن كل مرحلة علمية، وكل تناغم مع المجتمع في تياره المحافظ خاصة، تفقد المرء جزءاً من فرادته، مما يعني أنه كلما قطع مرحلة من ذلك، وظن أنه قد تحقق له شيء من العلم، فإنه لم يزدد بذلك إلا جهلاً. وبمقدار حظه من هذا التنميط والاختطاف الثقافي والاجتماعي يكون حظه من الجهل المركب؛ لأنه بهذا يفقد التفرد في الرؤى والأفكار، بمقدار ما يندغم في تيارات المحافظة، وبقدر ما يتناغم مع المؤسسات العلمية التي تهيمن المحافظة عليها. ويزداد الأمر سوءا ومأساوية، عندما ندرك أن هذا الاغتيال للفرادة، وهنا التنميط الذي يتم في هذه المراحل العمرية لا يجري لصالح رؤى الانفتاح - مع أن اغتيال الفرادة جريمة، أيا كانت مبرراته - وفي سبيل الرقي بالإنسان، وإنما هو لصالح رؤى الانغلاق، وتيارات الكره، ودعاة نفي الآخر، كل ذلك بالإيحاءات الخاصة للسلفية التقليدية التي لا تني عن إنتاج نفسها كلما أشرفت على الهلاك "..
ويختم مقاله بهذا التحذير: " وأخيراً لا يسعني إلا أن أقول لكل قارئ: احذرهم.. احذرهم (وأنت تعرفهم) أن يفتنوك. قد تكون نجوت منهم كليا أو جزئيا، قد تكون ممن هلك بفتنتهم التي ظاهرها الرحمة، لكن أدرك من نفسك ما يمكن إدراكه، مارس إنسانيتك(!) على أكمل وجه، كن ابن نفسك في كل شيء(!)، حاول قدر الاستطاعة، مهما كلفك ذلك، هذا بالنسبة لك، ولكن، تبقى المهمة الصعبة: استنقاذ الأجيال الناشئة من براثن التنميط والمحافظة(!) والتقليد، وهي مهمة لابد أن ينهض بها كل (إنسان) لتحقيق أكبر قدر من الفرادة (من الإنسانية)(!) قبل أن تغتال في مهدها ".. وهكذا تصبح المحافظة على العقيدة السلفية النقيّة ـ حسب رأي هذا الكاتب ـ فتنة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ويحذّر منها في معقلها ومهدها، فإلى الله المشتكى.
أمّا دندنة الكاتب ـ بل سائر المنتمين إلى هذا الفكر الاعتزالي الليبرالي التغريبي ـ حول ( الإنسانية ) فذلك موضوع آخر سأفرد له سمة مستقلة بإذن الله تعالى.
كما أنّ من الملاحظ أنّ الكاتب(!) جعل عنوان مقالته هذه جزءاً من آية كريمة نزلت في جماعة من اليهود(!)، وهو ها هنا ينزلها على خصومه السلفيين المسلمين المحافظين(!!)، وهذه سمة متكرّرة في مقالات هذا الكاتب وأصحابه، سأفرد لها أيضاً سمة خاصّة بإذن الله تعالى. وهي جريمة نكراء في حقّ كلام الله تعالى، وحقّ إخوانه المسلمين.
وحتى يعرف القاريء حقيقة هذه الفرادة التي تحدث عنها هذه الكاتب وغيره من أصحاب هذا الفكر، وحقيقة موقفهم من عقيدة السلف والعقائد الأخرى المنحرفة وخاصّة المعتزلة؛ أسوق لكم هذه الأقوال لبعضهم:(66/318)
فهذا أحدهم ـ وهو الكاتب السابق نفسه ـ في مقال له بعنوان ( ثقافة تصنع الغباء ) الرياض: 13072، وهذا العنوان من جملة شتائمه المعتادة للسلفية، يقول عن السلفية التي يسميها تقليدية بأنّها: " لا تعدو كونها تأويلاً خاصّاً للإسلام، محلّه متاحف الفكر، لا الحراك الاجتماعي "، فهل رأيتم إقصاء ونفياً أشدّ من هذا الإقصاء والنفي؟!!!
والغريب أنّ هذا الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( من التطرف إلى الإرهاب ) الرياض: 12953،يصف بعض الأقسام في بعض جامعاتنا أنّها " ما زالت معاقل للفكر الذي ينفي الآخر، وما زالت تقتات على الترسيخ لثقافة الإقصاء ونفي الآخر، وتروج لها في أطروحاتها "، ويريد بهذه الأقسام التي في جامعاتنا ـ كما هو ظاهر ـ: الأقسام الشرعية، والعقدية على وجه الخصوص، ويريد بثقافة الإقصاء والنفي ثقافتنا الإسلامية السلفية، أمّا الآخر المنفي فهي الفرق الضالة المنحرفة من معتزلة وحرورية ومرجئة وصوفية وغيرها.
ويقول آخر ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد وأكثرهم خلطاً بين النصوص ـ في مقال له بعنوان: ( قراءة في بعض فروع العقائد ) الرياض: 13667: " ومما يجدر التنبيه عليه أنّ مصطلح ( العقيدة ) أمر تواضع عليه العلماء الذين تبنوا مجال البحث في مجال الغيبيات فيما بعد الصدر الأوّل، إذ لم يكن لذلك لمصطلح أساس من النصوص الوحييه سواء من القرآن أو السنة، إذ إنّ المصطلح الأساسي الشرعي الذي جاء به القرآن والسنة النبوية هو مصطلح ( الإيمان ).. " وكأنّ مصطلح ( الديمقراطية) و( الليبرالية ) و(الإيبيستيمولوجيا ) و( الأيديولوجيا ) وغيرها من المصطلحات التي يرددونها في مقالاتهم ليل نهار، لها أصل في الكتاب والسنة !!!
ثمّ يمضي الكاتب في تقريره لحقيقة الإيمان ومن هو المؤمن فيقول: " وهو [ أي الإيمان ] عبارة عن مفهوم بسيط ( هكذا ) يرمز إلى ستة أمور، من آمن بها أصبح مسلماً ومؤمناً كامل الإيمان لا يحتاج معه إلى امتحانات قلبية أو مماحكات لفظية، أو حفظ مدونات عقدية لإثبات إيمان المرء ودخوله حظيرة الإسلام "..
وهو كلام خطير يدلّ على جهل فاضح، وانحراف واضح عن المنهج القويم والفهم السليم لدين الإسلام.. فإنّ لفظ الإيمان والإسلام إذا اجتمعا صار لفظ الإيمان مراداً به الاعتقاد الباطن، ولفظ الإسلام العمل الظاهر كالنطق بالشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، كما قال الله تعالى عن الأعراب: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا..} ففرق بين الإيمان والإسلام، وهذا أمر بدهي عند أطفال المسلمين، فمن لم يأت بأركان الإسلام الظاهرة لم يكن مسلماً ولا مؤمناً، حتى وإن ادّعى الإيمان والإسلام، ولهذا قاتل أبو بكر الصديق t مانعي الزكاة، مع أنّهم كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، ولما أنكر عليه عمر t كما جاء في الصحيح، قال له: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة.. أمّا الامتحان، فقد قال الله تعالى في سورة الممتحنة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ..}، وهي تسمى ( آية الامتحان )، وقد سئل ابن عباس t كيف كان امتحان رسول ا صلى الله عليه وسلم النساء؟ قال: كان يمتحنهنّ: بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله.. وهذا خلاف ما قرره الكاتب، بل إنّ ما قرّره هو مذهب المرجئة القائلين بأنّ الإيمان مجرّد الاعتقاد بالقلب، وأنّ العمل غير داخل في مسمّى الإيمان، وأنّه لا يضر مع الإيمان ذنب.. فكلّ من ادّعى الإيمان ـ حسب زعمهم ـ صار مؤمناً مسلماً.. وقد صدرت عدة فتاوى من اللجنة الدائمة للإفتاء في هذه البلاد في التحذير من هذا الفكر الإرجائي الخطير.(66/319)
ثم يقرر الكاتب مذهبه الفاسد مؤكّداً فيقول: " وبالتالي فليس هناك من الوجهة الشرعية(!) ما يعرف بأصول العقائد مقابل فروعها، بل هو أصل واحد هو الإيمان، وكلّ ما جاء بعد ذلك مما أصطلح عليه أصول العقائد وفروعها، وهي التي ألحقت بالعقائد وفقاً لأيديولوجية الجماعة أو المذهب القائلة بها؛ فهي مما تواضع عليه من امتهنوا ما اصطلح عليه لاحقاً بعلم العقائد، ومن الطبيعي أن يضطر الباحث إلى مسايرة هذه المواضعة عند البحث عن أي من مفرداتها بعد أن أصبحت واقعاً تراثياً في حياة المسلمين ".. ، وفي موضع آخر يصفها الكاتب بأنّها: " مماحكات ومجادلات سفسطائية، أدخلت في العقيدة قسراً بمؤثرات أيديولوجية" الرياض: 13561، وهكذا يلغي الكاتب بجرّة قلم كلّ ما قرره سلفنا الصالح من العقائد والأصول المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة، مما هو مستمد من الكتاب والسنة الصحيحة، والتي يتميز بها أهل السنة والجماعة عن أهل البدعة ، ليفتح الباب على مصراعيه لكلّ مبتدع وضال ليكونوا جميعاً على درجة واحدة من الإيمان والاعتقاد الصحيح، ولعمر الله إنّ هذا لهو الضلال المبين.
ويقول هذا الكاتب في مقال له آخر بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، بعد أنّ قرر حق ( الآخر )(!) في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد ـ يريد مذهب السلف ـ: " هنا أجد أنّه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج التعليمية، خاصّة المناهج الجامعية في الأقسام التي تدرّس العقديات والمذاهب بحيث يجعلها تؤسّس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخالفة عندما أرست قواعد مذهبها ـ خاصّة الفرق الإسلاميّة الماضية المنظور لها على أنّها مخالفة ـ بدلاً من تكريس وضع منهجي ينظر لها على أنّها ذات أهداف خاصّة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه، بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حقّ وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحقّ حصري لمبادىء مذهبه وقواعد مرجعيته " يريد مذهب أهل السنة والجماعة، ثم يذكر المذهب الاعتزالي على وجه الخصوص ويدافع عنه، وهذا هو مربط الفرس عنده، لتقرير مذهب الاعتزال، فيقول: " ومن ثم فإنّ الحاجة ماسّة لتأسيسٍ جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجردة(!) للمذاهب والفرق المخالفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجرّدة باستصحاب كامل لتاريخ نشأة تلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبياً، بدل أن تقدّم للطالب باعتبارها فرقاً ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة.."، وهكذا يريدون تمييع العقيدة السلفية الصحيحة، باسم التجرّد والفرادة. وتلميع الفرق الضالة المنحرفة، ومن ضمنها المعتزلة والرافضة والخوارج وغيرها من الفرق التي شوهت الدين، وآذى أصحابها عباد الله المؤمنين، ويلاحظ فيما ختم الكاتب مقاله ملاحظتين، إحداهما: التفسير السياسي للتاريخ والأحداث بشكل عام، وسأتحدث عن هذه المسألة بإذن الله في فصل مستقل. والثانية: التعريض بالحديث النبوي الشريف، حديث الفرقة الناجية، والاعتراض عليه(!)، بحجّة أنّه يخالف العقل، وهذا بناء على مذهبهم العقلي الفاسد.
وفي مقال آخر للكاتب نفسه بعنوان: ( أصالة التعدد في الطبيعة البشرية ) الرياض: 13160، يحاول الكاتب تأصيل مبدأ الاختلاف بين الناس ( التعددية ) وأنّها {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.. }، ويستدل بالآية الكريمة الأخرى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم }، واستشهاده بهاتين الآيتين على ما ذهب إليه خطأ فادح يدل على جهل فاضح، فأمّا الآية الأولى فإن من المعلوم ـ بلا خلاف أعلمه ـ أنّ المراد بالفطرة: الإسلام وليس الاختلاف، كما جاء في الحديث الشريف: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرّانه أو يمجّسانه..".. وأمّا الآية الثانية فهي في سياق الحديث عن اليهود، ولا علاقة بالاختلاف الذي بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام، بل إنّ نصوص الكتاب تدل على عكس ما أراد الكاتب تأصيله، فالله تعالى يقول: { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }، وقوله تعالى: { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ.. }، فجعل الرحمة في مقابل الاختلاف، فدل ذلك على أنّ الاختلاف ليس برحمة، بل هو شرّ ونقمة، وإن كان الله قد أراده كوناً، لا شرعاً، وأنّ الحقّ واحد لا يتعدد، وتأويل الآيات على غير ما جاءت له سمة بارزة من سمات أصحاب هذا الفكر الاعتزالي كما سيأتي في مبحث جهلهم.(66/320)
ثمّ يواصل الكاتب جهله فيقول مقلداً للجابري: " كان فيروس الضيق قد تحدد سلفاً في الفكر العربي حيث دشّن الخوارج ومباينوهم في الطرف القصيّ من المعادلة ( الأمويون وشيعتهم ) مبدأ ثنائبة القيم الذي يقول عنه المفكر المغربي محمد عابد الجابري إنّه مبدأ (إمّا وإمّا ) ولا مجال لحطّ الركاب بينهما، إمّا مع وإّما ضدّ، إمّا مسلماً وإمّا كافراً، وإمّا ناجياً وإمّا هالكاً، وإمّا مقتفياً وإمّا مبتدعاً.."
إنّ هذه الثنائية التي ذكرها مقلداً الجابري، قد نصّ الله عليها في كتابه الكريم، فقال سبحانه: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ.. }، وقال سبحانه: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }، فهي ذات الثنائية ( إمّا وإمّا ).. والذي أراده الجابري ولم يتفطّن له الكاتب أو تفطّن له ووافق عليه، هو تقرير مذهب الاعتزال القائل بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين ( لا مؤمن ولا كافر )، ولهذا قال: ( ولا مجال لحطّ الركاب بينهما )، وهو تقرير في غاية الخفاء والخبث، ويشبه فعل صاحب تفسير الكشّاف المعتزلي في تقريره لمذهب الاعتزال في تفسيره، حتى قال البلقيني رحمه الله: " استخرجت من الكشّاف اعتزاليات بالمناقيش ".. وهذا يحدث في صحيفة سيّارة تصدر في بلاد التوحيد التي قامت على العقيدة السلفية النقيّة، وفي ظني أنّ ولاة أمرنا ـ وفقهم الله لطاعته ـ لو تنبهوا لذلك لما رضوا به..
ولا يكتفي الكاتب بذلك، بل يختم مقاله بتوجيه بعض الشتائم، والانتقاص لأهل السنة وسلف الأمّة، ويضيف إلى ذلك بعض النصوص الحديثية، بطريقة فاضحة لا تدلّ على مقصوده، وما أقبح الجهل والتعالم إذا اجتمعا..
يقول ـ وتأمّلوا ما تحته خط ـ: " إنّ أكبر مشكلة واجهت الفكر العربي الإسلامي حين مواجهته مشكلة التعددية، وبالذات من النصف الأوّل من القرن الثالث الهجري، وهي ظن أولئك المتحذلقين والمتقوقعين حول فهومهم الخاصّة أنّهم بنفيهم وإقصائهم لخصومهم إنّما هم آخذون بحجزهم عن النار، وهؤلاء المخالفون ما فتئوا يتفلّتون منهم ويقعون فيها في تصنيف حصري لحقّ النجاة لفهوم بعينها دون بقيّة الأفهام المباينة والمقاربة... ".
فهو يعدّ تصدي سلفنا الصالح لأصحاب الفرق الضالة، والردّ عليهم، أكبر مشكلة واجهت الفكر العربي الإسلامي، ويخصّ النصف الأّوّل من القرن الثالث الهجري، لأنّه وقت نشوء فرقة المعتزلة التي جنّد نفسه للدفاع عنها، ويلاحظ شتائمه التي وصف بها أهل السنة وسلف الأمّة: ( المتحذلقين المتقوقعين حول فهومهم الخاصّة )، والتهم التي وجهها (النفي والإقصاء للخصوم )، والتعريض بالحديث النبوي الشريف الذي يُشبّه فيه صلى الله عليه وسلم المتهافتين على الباطل ـ كهذا الكاتب وأمثاله ـ كالفراش المتهافت على النار.. وتعريضٌ آخر بحديث الفرقة الناجية الوحيدة دون سائر فرق الضلال، ويصف ذلك ساخراً بلفظ سوقي فضائي بأنّه: ( تصنيف حصري لحقّ النجاة لفهوم بعينها دون بقية الأفهام.. ) ويريد بذلك فهم السلف الصالح!!!، فما حكم من استهزأ بالنصوص الشرعية ؟!.
ثم يستشهد على ما ذهب إليه من التعددية بقوله: " ومن ثمّ يتساءل الإنسان كيف حاص أولئك [ يعني السلف الصالح ] عن حياض المنهج النبويّ الكريم حين كان r يقرّ أصحابه على تباين أفهامهم لما كان يلقي عليهم من نصوص ( قصّة الصلاة في بني قريظة مثلاً ) وعن مسار الصحابة بعده على هذا المنهج المتفرّد في قراءة النصوص، وامتثال مكنوناتها ( اختلاف عمر بن الخطّاب وأبي بكر حول الكيفية التي ينبغي بواسطتها مجابهة مانعي الزكاة فكلاهما انطلق في تفسيره من ذات النصّ ) .. " ا. هـ واستشهاد الكاتب بهاتين الواقعتين فيه جهل عظيم، وتلبيس واضح، وبعد كبير جداً عما أراد التوصل إليه، وهذه هي طريقة هذا الفكر الاعتزالي في التعامل مع النصوص، فأمّا الحادثة الأولى، فهي اختلاف في مسألة فقهية فرعية لا تعلّق لها بمسألة الاعتقاد والإيمان، لذا أقرّ صلى الله عليه وسلم الفريقين على اجتهادهما.. ومثل هذا الاختلاف لم يزل موجوداً عند أهل السنة حتى وقتنا الحاضر، وليس فيه تثريب إذا صدر من مؤهل.. وأمّا اختلاف عمر مع الصديق y في قضية مانعي الزكاة، فهو ليس اختلافاً، وإنّما هو إشكال وقع في نفس عمر، فما لبث أن زال بعد ذلك وحصل الاتفاق على ذلك الأصل، والكاتب ـ للتلبيس ـ لم يذكر تمام القصّة، وهو قول عمر بعد أن زال عنه الإشكال: " فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنّه الحقّ "، فأين في هذين الحادثتين ما يدلّ على ما أراد أن يقرره الكاتب من التعددية في أصول الدين والإيمان والاعتقاد ؟!!(66/321)
ومن قبيل هذا الخلط والتلبيس المتعمّد بين الأصول والفروع، يذكر أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وخبثاً ـ في مقال له بعنوان ( المعاصرة وتقليدية التقليدي ) الرياض: 13366، بعد الخلط المتعمّد بين السلفية الحقّة ، والسلفية المدّعاة أنّ " السلف لم يتفقوا إلا على القليل(!)، واختلفوا على الكثير، فعن أيّهم يأخذ ؟ " يعني السلفي، ثم يذكر مسألة واحدة ـ واحدة فقط ـ اختلف فيها السلف، وهي خروج الحسين بن عليّ على الحاكم، ومخالفة بعض الصحابة له في هذا الخروج رضي الله عنهم جميعاً، وهذا الاختلاف ليس في أصل المسألة، وإنّما هو في بعض تطبيقاتها مع ما صاحب تلك الحادثة من ظروف وملابسات خاصّة، والقول بأنّ السلف لم يتفقوا إلا على القليل ـ من مسائل الاعتقاد ـ قول في غاية التجني والجهل بأحوال السلف ومنهجهم وعقيدتهم، وهو من أعظم التلبيس على عامة الناس، بل المعروف عند صغار أهل العلم، أنّ السلف الصالح في مسائل الاعتقاد الكبرى لم يختلفوا إلا في مسألة واحدة أو مسألتين، وبعض العلماء يعدها من قبيل الخلاف اللفظي لا الحقيقي، وإنّما وقع الخلاف بينهم في الفروع.
وفي سياق الحديث عن الفرق الضالة، يتباكى أحدهم على إقصاء تلك الفرق المارقة بل ـ وحتى الإلحادية منها(!) ـ في مقال له بعنوان ( تلاشي الفكر العربي ) الوطن: 980، فيقول: " نحن حتى اليوم(!) لم نقف على قراءة صحيحة للقضايا الكبرى أو حتّى الصغرى(!) في فكرنا، ولا للحركات الدينية التي مارست أشكالاً متعدّدة من حركات النقد للموروث بطريقة أو بأخرى، سواء الحركات الإلحادية أو الصوفية أو المعتزلية أو حتى الحركات الشعرية، فمن التجنّي إقصاء كلّ هذا الموروث وعدم الإفادة منه(!!!).."، ولا أدري ما الذي يريد بالقراءة الصحيحة التي لم نقف عليها حتى اليوم، ووقف عليها هو وأضرابه؟! وليست القضايا الكبرى فقط، بل حتى الصغرى !!!!. كما لا أدري ما الذي سنفيده من الحركات الإلحادية، والصوفية والمعتزلية الضالة ؟!!.
3. الطعن في مذهب السلف، والتندّر به، وكيل التهم له بلا حساب..
ففي مقال بعنوان: ( التاريخ وأزمة الفكر الإسلامي ) الرياض: 13688، كتب أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ مقالاً تحدّث فيه عن مسألة عقدية، وهي الكف عما شجر بين الأصحاب، وترك الخوض في ذلك، لأن الله U أثنى عليهم جميعاً، فهم ما بين مجتهد مصيب فله أجران، ومجتهد مخطيء فله أجر واحد، وهذا مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، ولذا يذكر في كتب العقائد، وقد عدّ الكاتب هذه العقيدة المتفق عليها عقبة تقف ـ حسب زعمه ـ دون تحقيق الحدّ الأدنى من الموضوعية العلمية(!)، ثم يقول بأسلوب ماكر خفي: " دراسة طبيعة الفكر الديني، وتتبع مراحل تشكله في فتراته الحاسمة تواجه الرفض في مجتمعات تقليدية لا تزال تستعصي على العلمية، وتتماهى مع الأسطرة(!)، بل والخرافة بوعي منها بهذا التماهي وما يتضمنه من مدلولات في الفكر والواقع أو بلا وعي. وهذا الرفض إما أن يكون رفضاً للدراسة ذاتها أي للمراجعة الفاحصة باعتبارها تتناول ميداناً مقدّساً لا يجوز الاقتراب منه، وإما أن يكون رفضاً للآلية ( المنهج النقدي) التي تجري مقاربة الموضوع بواسطتها، وفي أكثر الأحيان يجتمع السببان كمبرر للرفض"، أستاذ اللغة العربية، وصاحب الفكر الاعتزالي المنحرف، الحاقد على منهج السلف، يريد أن يخضع تاريخ الصحابة الأطهار y للفحص والمراجعة!!!، أمّا الآلية التي يريد أن يسلكها فهي آلية شيخه الجابري تلميذ المستشرقين والتي تتلخص في انتقاء بعض الصور القاتمة من بعض المصادر المشبوهة التي لا تميز بين الغث والسمين، وجعلها مناطاً للأحكام والنتائج، هذه هي الموضوعية التي يتحدّث عنها(!).
ثم يقول: " لا شيء يزعج البنى التقليدية الراسخة في الأعماق الوجدانية [ يريد عقيدة أهل السنة ] سوى إعادة فحص الحدث التاريخي، والنظر إليه من خلال أبعاد أخرى(!) غير التي اعتادت التقليدية أن تقدمه بها "، إنه يريد منا أن نسلك منهجاً آخر غير منهج أهل السنة والجماعة في تقرير العقائد، ليفتح الباب على مصراعيه لكل مبتدع وحاقد وموتور ليقرر ما يريد، وتالله ذلك هو الضلال البعيد..
ثم يواصل: " مما يعني أن الأشخاص ( الذوات المقدسة صراحة أو ضمناً ) ستكون على المحك، ولن تبقى كما هي عليه من قبل في تراتبيتها التي تتغيا الفكرة ـ براجماتياً(!) ـ في النهاية "، وهذا هو مربط الفرس عنده: النيل من الصحابة، على حد قول أهل الاعتزال: (هم رجال ونحن رجال ) وشتان بين أولئك الرجال وهؤلاء أشباه الرجال ولا رجال..(66/322)
ثم يضرب مثالاً للذوات التي يصفها بالمقدّسة بالخلفاء الراشدين y ومذهب أهل السنة في ذلك أن التفاضل بينهم على حسب ترتيبهم في الخلافة، لكنّ هذا الكاتب لا يروق له ذلك، ويعده أمراً مبيتاً في الضمائر قبل وجوده(!!!)، يقول: " جرى الحدث التاريخي فيما يخص السلطة على التراتبية المعروفة بالنسبة للخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، ومع أنه ـ أي الترتيب التاريخي للخلفاء ـ كان حدثاً تاريخياً مجرداً إلا أنه قد جرى تحميله معنى دينياً في تراتبية الأفضلية لهؤلاء، وهنا يظهر أثر الحدث التاريخي الواقعي ـ بأقصى حدود الواقعية الصريحة ـ على الفكري، وكيف جرى ضمه إلى مجمل المنظومة العقائدية بوصفه معبراً عن مضمر عقائدي كان موجوداً قبل وجوده المتعين في الواقع "، فهو لجهله ـ أو خبثه ـ يرى أن ترتيب الخلفاء كان حدثاً تاريخياً مجرداً..!! ولم يكن الأمر كذلك، بل إن الصحابة y اجتهدوا في تعيين الأفضل، بدليل أنهم توقفوا طويلاً بعد موت عمر t أيهما الأحق والأفضل عثمان أم علي، وكان عبد الرحمن ابن عوف t يطوف حتى على العذارى في خدورهن يسألهن حتى انتهى الأمر إلى تقديم عثمان t. ولهذا يقول أحد السلف: " من فضل علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار "، فكيف يقال إن ترتيب الخلفاء الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة كان حدثاً تاريخياً مجرداً ؟! لكنه الجهل والهوى، وإذا كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي، فإنهم لم يختلفوا في أبي بكر وعمر.. .
ولا يفوته في مقاله هذا أن يعرج على الصحابي الجليل، وكاتب الوحي معاوية t ويتهمه ببعض التهم الجائرة التي تنال من عدالته ونزاهته بناء على ما قرره سابقاً من الفحص والمراجعة(!)، ثم في نهاية مقاله يتباكى على مذهبه الاعتزالي العقلاني فيقول: " لا شك أن هذا يفسر كيف أن تيار العقلانية لا يظهر في مكان من العالم الإسلامي إلا ريثما يندثر، لا يتم هذا بقرار سلطوي في الغالب، وإنما بإرادة جماهيرية لا تزال تتدثر بلحاف الخرافة الصريحة أو الخرافة التي تؤسس على هذا القول أو ذاك "، وشتم الجماهير سمة بارزة من سماتهم كلما عجزوا عن بث فكرهم المنحرف، وستستمر الجماهير المسلمة التي تتدثر بلحاف أهل السنة والجماعة في رفض هذا الفكر الضال الذي ينال من ثوابتها وعقيدتها الراسخة ورموزها الشامخة ولو كره أدعياء العقلانية والتنوير بل التزوير.
وتقريراً لهذه العقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الواسطية: " ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله y كما وصفهم الله في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[الحشر:10]، وطاعة صلى الله عليه وسلم في قوله: " لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم .." إلى أن قال: " ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيّر عن وجهه، والصحيح أنهم معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم.. " إلى آخر ما ذكر.
هذا مثال واحد على طعنهم في عقيدة السلف والتشكيك فيها بطريقة ماكرة خفية، لا تخلو من مسلك التقية، مع ما فيها من التصريح ببعض ما تكنه نفوسهم، ومع هذا فهم يشتكون من عدم تمكنهم من قول كل ما يريدون. كفانا الله شرهم.
وفي مقال بعنوان: ( هيمنة الخرافة ) الرياض: 13566، يسخر آخر ـ وكان تكفيرياً فصار مرجئاً(!) ـ من عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة، وهي إثبات كرامات الأولياء، ـ وهي عقيدة ثابتة بالكتاب والسنة ـ، فيعدّها من الخرافة، ثم يقرر(!!) أنّ الخرافة والعقل ضدان لا يجتمعان!! ولا أدري أي عقل يقصد، فعقله يرى أنها خرافة، وعقول أئمة أهل السنة والجماعة بناء على ما جاء في الكتاب والسنة يرون أنها عقيدة ثابتة، فإلى أي عقل نتحاكم ؟ ثم يخلط الكاتب ـ وهذه عادتهم في الخلط والتلبيس ـ بين هذه العقيدة الثابتة وبين بعض الاجتهادات البشرية من بعض المجاهدين أو بعض المنحرفين فكرياً، وهذا الخلط منهج فاسد يدل إما على الجهل الفاضح، وإما على الهوى الواضح، للتوصل إلى أغراض في نفس الكاتب..
وتقريراً لهذه العقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الواسطية: " ومن أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات.. "..
السمة الثانية:
الخلل العقدي الواضح في كتاباتهم
وذلك ناتج عن تلوث المصادر الفكرية التي ينهلون منها، وهل تلد الحيّة إلا الحية!..وقد سبق شيء من انحرافاتهم العقدية، ويضاف إليها:(66/323)
1. نسبة الإعطاء والمنح والضرب للطبيعة(!)..
يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( الثقافة والإرهاب علاقة تضادّ ) الرياض: 13772، عازفاً على وتر الإرهاب والإنسانية: " والإرهاب تنكّر للبعد الإنساني في الإنسان، ومحاولة جنونية للرجوع إلى ما قبل الفطري والإنساني، أي أنّه محاولة رجعية ليست للقضاء على مكتسبات الأنسنة(!) فحسب، بل وللقضاء على ما منحته الطبيعة فطرياً للإنسان "، وسيأتي الحديث عن موضوع الأنسنة لاحقاً بإذن الله تعالى.
وفي مقال له بعنوان: ( المرأة من الأيديولوجيا إلى الإنسان ) الرياض: 13758، يكرر هذا الخلل العقدي مع عزفه المعتاد على وتر الإنسانية، وشتم السلفية، يقول: " ربّما كان من قدر المرأة لدينا أن تواجه أكثر من سور منيع يحول بينها وبين الحصول على أقلّ القليل من حقوقها الفطرية، تلك الحقوق التي منحتها إياها الطبيعة ابتداء.. "، وهكذا تصبح الطبيعة الجامدة هي المانحة ابتداء(!!!)، أليس هذا هو منطق الإلحاد ؟.
وفي السياق نفسه يقول آخر في مقال له بعنوان: ( إعصار كاترينا وعصارة الكره ) الرياض: 13607، وهو يتحدّث عن الإعصار الذي ضرب أمريكا: " ما ذنب أطفال وشيوخ وعجائز وأبرياء ضربتهم قوى الطبيعة(!) حتى غدوا كأنهم أعجاز نخل خاوية أن نحملهم وزر حكوماتهم في أخف المبررات(!) أو نربط بين ما حل بهم وبين ما مارسوا فيه حقهم المضمون(!) من رب العالمين في اختيار المعتقد الذي يريدونه في أسوأ المبررات.."، فربنا جل وعلا يقول: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ }[سبأ:17 ]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، والكاتب يقول: لا تسمعوا لكلام الله بل إنّ الضارب والمهلك هي قوى الطبيعة!!!. أمّا الكفر الذي هو ظلم للنفس قبل أن يكون جريمة يستحق صاحبها العذاب، فهو عند الكاتب حق مضمون من رب العالمين لأولئك الكفرة..!! فأي خلل أعظم من هذا الخلل العقدي الصارخ.
ثم يضيف إلى هذه الخلل خللاً آخر أطم فيقول: " لماذا لا نجيد إلا التشفّي والتمني بالمزيد بعد أن قصرت بنا الثقافة المنغلقة عن إشاعة ثقافة العون والمساعدة المنبثقة من روح الأخوّة الإنسانية التي تشكل أصلاً من أصول الإنسان العظيم الإسلام في صفائه ونقائه وعزته وإنسانيته قبل أن تختطفه قوى الظلام والكراهية لتجعل منه أيديولوجية ساخطة على العالم كله.." ، والأخوّة الإنسانية التي يتحدث عنها سيأتي الحديث عنها بشكل مفصل بإذن الله، أمّا التشفي فلا أعلم قوماً أشدّ تشفياً من هؤلاء القوم، لا سيما مع خصومهم السلفيين، وقد رأينا قمة هذا التشفي في حادثة حريق الرئاسة، نثراً وشعراً ورسماً، وبكائيات عجيبة لوفاة بضع فتيات من آثار التدافع والهلع، لا بسبب الحريق.. ولم يقتصر الأمر على هذا بل حاولوا الزج بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه القضية زوراً وبهتاناً، وبطريقة قذرة، لولا تصريحات المسؤولين المبرئة للهيئة.. ثم هم ينكرون تشفي (بعض) المسلمين المظلومين الذين فقدوا الكثير من أولادهم وأعزائهم والكثير من أموالهم وممتلكاتهم بسبب الجبروت الأمريكي المدمر في كثير من بلاد المسلمين.. ثم أي أخوّة إنسانية مع قوم يمتهنون المصحف الشريف في سجونهم، ويسخرون من سيد الخلق وخاتم المرسلين عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
2. الدفاع عن القبوريين وأصحاب المذاهب الكفرية..
ففي مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13716، يقول الكاتب السابق، بعد أن قرر أن مرجعية من وصفهم بالخوارج هي السلفية ( التقليدية ): "إننا نريد أن نعرف من هؤلاء الخوارج القعدة هل نحن أي كدولة ومجتمع في نظرهم مسلمون أم لا؟ "
إلى أن يقول: " أنا هنا لا أقصد موقفهم من عموم المجتمعات الإسلامية، لأنها في تصنيفهم العام غير المفصّل كافرة إمّا لأنها لا تحكم بما أنزل الله أو تسكت عن الحاكم في هذا الأمر وإمّا لأنها بدعية أو مذهبية أو قبورية أو حزبية.. إلخ هذا الهراء وإما لا تنكر كل ذلك "..
والقبوريّون هم عبّاد القبور، المعظّمون لها بالذبح والنذر والسجود وغير ذلك من أنواع الشرك الأكبر، وهؤلاء لا شكّ في كفرهم، والكاتب يجعل ذلك من الهراء، وهذا خلل كبير في الاعتقاد، فإنّه إذا كان تكفير المسلم الموحّد لا يجوز، فكذلك عدم تكفير الكافر هو أيضاً لا يجوز، وهو تطرّف مضادّ للتطرف الأوّل الذي أراد أن يحذّر منه..
وأمّا حديثه عن الدولة والمجتمع، وتمسّحه بذلك، فهو من باب التقيّة التي يشتركون فيها مع الرافضة، وذلك أنّهم أصلاً لا يرون شرعية هذه الدولة السلفيّة (الوهابيّة في نظرهم) لأنّها غير ديموقراطية، أي غير منتخبة من الشعب، وهم يسعون لتحقيق مشروعهم التغريبي الغربي إلى إزاحة هذه الدولة، لإقامة دولتهم ( الإنسانية ) المرتقبة التي لا دين لها ولا مذهب ولا طعم ولا لون ولا رائحة.!!!.(66/324)
وأمّا المجتمع الذي يزعمون تكفيره من قبل الخوارج القعدة، فهو المجتمع الذي استعصى عليهم ولذا فهم يرمونه ـ على سبيل الشتم ـ بالتجهيل، أو على حدّ تعبيرهم كما سبق: (الجماهير البائسة الظامئة )، و(جماهير الغوغاء )، و( الجماهير المجهّلة )، و(الجماهير الغائبة المغيّبة )، و(المجتمعات المحافظة الأصولية )، وهي الآن بعد هذه الشتائم أصبحت متّهمة بالكفر من قِبَل من يزعمون أنّهم قد اختطفوها، فأيّ تناقض بعد هذا التناقض الحادّ ؟!!.
3. الخلل في مفهوم الولاء والبراء..
وقد كتب أحدهم ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد وأشدّهم جهلاً ـ مقالاً بعنوان: ( فلسفة الولاء والبراء في الإسلام ) الرياض: 13546، وقرر مفهوماً غريباً للولاء والبراء، يفرّغه من مضمونه الشرعي الذي أراده الله U ، بل يضادّه ويخالفه، يقول: " وهو يشي بعلاقات سلمية قوامها الصلة والإحسان والبرّ ودعم ممكنات السلام الاجتماعي الذي أتى الإسلام ليجعلها الأصل في حياة الناس قبل أن تختطفها جماعات الإسلام السياسي لتجعل بدلاً منها العنف والقتل والدمار هو الأساس في علاقة الإسلام بغير من الديانات الأخرى افتئاتاً على الله تعالى ورسوله ومكراً للسوء ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله ".. فهو يخلط بجهل فاضح بين عقيدة الولاء والبراء التي قوامها ولبّها وروحها: الحب والبغض وموالاة المسلم أيّاً كان، والتبرّي من الكافر ومعاداته أيّاً كان، وبين معاملة الكفّار والتفريق بين من كان منهم محارباً، ومن كان منهم مسالماً.. وبغض الكافر ومعاداته كما قال الله عن الخليل إبراهيم u: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }[الممتحنة:4]، فنحن نبغض الكافر ونعاديه بقلوبنا من أجل كفره، لكن ذلك لا يمنعنا من بره إذا كان قريباً مسالماً كالوالدين ونحوهما، وكذلك لا نظلمه بل نقسط إليه، ونحسن معاملته ترغيباً له في ديننا، ومن أجل إنقاذه من الكفر الذي هو فيه، بل إنّ عقيدة الولاء والبراء لا تختص بالكافر، بل تشمل حتى العاصي، فنبغضه لمعصيته، لكن نحبه من وجه آخر لما عنده من الإيمان والإسلام، فمن لم يبغض الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، فلديه خلل في هذه العقيدة العظيمة، وما تأخر المسلمون، ولا تسلط عليهم العدو، إلا لتخليهم عن هذه العقيدة، أو اختلال مفهومها لديهم.
ولم يقف الأمر عند هؤلاء على مجرد الاختلال في المفهوم، بل تجاوزه إلى ما هو أعظم من ذلك، ألا وهو إلغاء هذه العقيدة من أصلها(!)، يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( الخطاب الديني وضرورة التجديد ) الجزيرة: 11595، عن مفهوم الولاء والبراء: "هذا المفهوم كان في الماضي، وفي زمن عدم وجود ( الدولة ) بمعناها وشكلها الحالي، ضرورة احترازية، ودفاعية وقائية مهمة، فقد كان بمثابة آلية عالية الفعالية آنذاك لمنع ما يمكن أن نسميه بلغة اليوم ( منع اختراق مجتمعاتنا من الآخر ) في حقبة كان الصراع والتطاحن فيها بين الأمم والثقافات هو السمة الطاغية على العلاقات الدولية، أما اليوم فقد تغير الوضع حيث أصبح التعاون بين الأمم(!!!) وتكريس كل ما من شأنه إثراء هذا التعاون، هو الثقافة السائدة بين شعوب الدنيا، لهذا فإن التغير النوعي في العلاقات الدولية الذي نعايشه اليوم كان يجب أن يتبعه تغير مواكب في مفهومنا للولاء والبراء بالشكل الذي يحافظ على فعالية هذا المفهوم.."، وقد ذكرني قوله ( ضرورة احترازية ودفاعية وقائية ) بالحرب الاستباقية الوقائية التي دشّنها ( الآخر ) في ظل التعاون الدولي بين الأمم(!) دفاعاً عن نفسه، ولو كان ذلك مبنياً على استخبارات خاطئة أو مبالغ فيها، وهي ليست مجرّد عقيدة في القلب، أو بغض باللسان، وإنما حرب بالأسلحة المدمرة وربما المحرمة دولياً التي لا تفرق بين المحارب والمدني، ويبدو أن مفهوم هذه العقيدة قد انتقل إلى ذلك الآخر في حين غفلة منا، فكان علينا التخلي عنه.. أما التعاون بين الأمم! فصحيح لكنه ضد الإسلام وأهله، كما في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها مما يطمع فيه ( الآخر )..
ويستشهد الكاتب المذكور على ما ذهب إليه من تعطيل مفهوم الولاء والبراء، بقول كبيرهم الجابري الذي يقول: " إذا تعارضت المصلحة مع النصّ، روعيت المصلحة(!) باعتبار أنّ المصلحة هي السبب في ورود النصّ، واعتبار المصلحة قد يكون تارة في اتّجاه، وتارة في اتّجاه مخالف(!)".(66/325)
فتأمّلوا هذا القول العجيب الذي يفترض تعارض المصلحة مع النصّ، ثمّ من الذي يحدّد المصلحة ؟، وكيف يكون اعتبار المصلحة تارة في اتّجاه، وتارة في اتّجاه مخالف؟ فما قيمة الدين حينئذ، إذا كانت ثوابته عرضة للاعتداء والإلغاء بحجّة المصلحة المزعومة ؟.. نعم قد يتخلّى المسلم عن عقيدة الولاء والبراء ظاهراً في حالات استثنائية خاصّة جداً، لكنّها تبقى عقيدة قلبية لا يجوز له أن يتخلّى عنها: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[النحل:106].
4. الثناء على الفرق الضالّة، وخصوصاً المعتزلة ـ التي تتّخذ من السلفية خصماً تقليدياً لها ـ والدفاع عنها، بل الدعوة إليها !!...
ففي مقال بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، كتب أحدهم يستنكر فزع خصومه السلفيين عند شتم مذهب السلف، وكيل التهم للسلفية بلا حساب ولا برهان، والذي يعدّونه من النقد!!. ويقرّر بفهم مغلوط ومنقوص للآية الكريمة: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }[هود:118]، أنّ الاختلاف بين البشر أمر جبلّي قد فُطر عليه البشر، وليس بمذموم، ولو أتمّ الآية لتبين له خطأ ما ذهب إليه، فإنّ الله قال بعدها: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }[هود:119]، فجعل الله الاختلاف مقابل الرحمة. وقوله: ( ولذلك خلقهم ) قيل للاختلاف. وقيل للرحمة. وقيل للأمرين: فريق في الجنّة وفريق في السعير، وهو الصحيح. ولذا ختم الآية بتوعّد الكافرين من الجنّ والإنس بنار جهنّم، ولم يعذرهم بكفرهم بحجّة أنّ الاختلاف أمر جبلّي فطريّ كما يقول هذا الكاتب الجاهل، ويدلّ على أنّ الأصل هو الاجتماع والاتفاق على التوحيد والإيمان الصحيح قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً..}[البقرة:213]، وقد روي عن ابن عباس t أنّ الناس قبل نوح كانوا على التوحيد عشرة قرون، ثم حدث الاختلاف والتفرق بعد أن زين الشيطان لقوم نوح عبادة الأصنام وتعظيم الصور..فكان نوح u هو أوّل الرسل لمحو الشرك.
ثم يقرر هذا الكاتب " حق الآخر (الكافر)(!) في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد!! أياً كان هذا الجانب... "..
ثم يقول مدافعاً عن المذهب الاعتزالي ـ وهذا هو مربط الفرس لديه ـ: " هنا أجد أنّه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج الجامعية في الأقسام التي تدرس العقديات والمذاهب بحيث يجعلها تؤسس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخالفة عندما أرست قواعد مذهبها ـ خاصة الفرق الإسلامية الماضية المنظور لها على أنها مخالفة ـ بدلاً من تكريس وضع منهجي يُنظر لها على أنها ذات أهداف خاصة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حق وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحق حصري لمباديء مذهبه وقواعد مرجعيته "، وبعد هذا التلميح غير المليح، ينتقل إلى التصريح فيقول: " المذهب الاعتزالي مثلاً عندما أسس للنظرة العقلية في الإشراقات(!) المبكرة من تألق الحضارة الإسلامية كان له هدف نبيل واضح وهو محاربة الهجمة الشعوبية على الإسلام آنذاك المتخذة من مذهب الشك أساساً لإتيان بنيان الإسلام من قواعده، فكان أن قام المعتزلة بالتأسيس للمذهب العقلي القاضي بتقديم العقل(!!!!) على النقل كسلاح مماثل ووحيد لردّ تلك الهجمة على الإسلام... " إلى آخر ما ذكر من التلبيس وقلب الحقائق، فأما الشك الذي يتحدث عنه فهم أهله والداعون إليه كما سبق من دندنتهم حول أنّ أحداً ما ـ أيّاً كان دينه ومذهبه ـ لا يمتلك الحقيقة المطلقة، فأي شك بعد هذا الشك ؟!، وأما تقديم العقل على النقل فهو الضلال المبين، فكيف تكون السيئة حسنة يُمدح صاحبها ؟!، إن هذا من انقلاب المفاهيم..
ثم يختم مقاله بالتعريض بالحديث الشريف ـ حديث الافتراق والفرقة الناجية ـ، وهو مخالف للعقل عندهم(!)، فيقول: " ومن ثم فإن الحاجة ماسّة لتأسيس جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجرّدة(!) للمذاهب والفرق المخالفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجرّدة(!) باستصحاب كامل لتأريخ نشأة تلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبياً بدل أن تقدم للطالب باعتبارها فرقاً ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة... "، أما التفسير السياسي للتاريخ والأحداث، واستبعاد الدين والعقيدة كمؤثّر رئيس، فذلك من أبرز سماتهم كما سيأتي، للتوصّل إلى ما يهدفون إليه من العلمنة.(66/326)