وإن لم يعتبر المنهزمون بالوحي أن تبديل الحكم الشرعي طلباً لرضا كافرٍ أو منافق ظلم للنفس وللأمة موبقٌ، فها هم الكثير من بني جلدتنا قد بحّت حناجرهم، وكلّت أجسادهم، وتجرحت أقدامهم، وضيّعوا أموالهم في السعي نحو الغرب من أجل المناشدة بالسلام العالمي، والتآلف والتعايش، فما زاد الغرب إلا عتوًا واستكباراً ونفورًا عن الإسلام، فيجب علينا أن نأخذ دين الإسلام بفخر وقوة واعتزاز، ومن ذلك أن نقيم شعيرة الولاء والبراء ونحكّم شرع الله ونضعه حيث وضعه، ونبغض أعداء الإسلام والمسلمين من الكفار والمنافقين ونتبرأ منهم والآيات والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصى.
والإسلام دين العدل والحق والشمول، فحين العمل يجب أن نأخذ بكل نصوصه، لا نظهر جانباً ونغيّب آخر لمطمع ومصلحة تُزعم، فالإسلام دعى إلى اللين والرفق في موضعه ودعى إلى الجهاد والغلظة في موضعها، وهذا هو نهج صلى الله عليه وسلم كما أنه نبي الرحمة والعفو، فهو نبي الملحمة، فلا نأخذ أمراً وندع الآخر، بل إن المتعين والواجب أن نشتغل باتباع نهج صلى الله عليه وسلم في الحب والبغض، والولاء والبراء.
وأن نراعي حين التعامل مع العدو أحوال المسلمين من قوة وضعف، ففي القوة يُبادر بجهاد أعداء الله، وفي حال الضعف والوهن يؤخذ بآيات الصبر والصفح، مع العمل على إعداد العدة لتتقوى الأمة، فلا تبقى صابرة صافحة ذليلة، وحين الأخذ بهذا الجانب الشرعي لا يلغى الآخر، بل يكون حاضراً لا يُغيّر ولا يُبدل ولا يغيب.
ومن انحرف عن نهج الإسلام وكفر بما جاء به صلى الله عليه وسلم انحط إلى أدنى الدركات، وجعل نفسه مع البهائم بل هو أضل سبيلاً، وقد فهم كفار قريش التوحيد أفضل مما فهمه بعض المنتسبين للإسلام في عصرنا من دعاة التقريب بين الأديان، وحوار الحضارات، فحينما قال لهم صلى الله عليه وسلم : (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) قالوا كما حكى الله عنهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ص : 5]، فعلموا أن كلمة التوحيد تنفي كل إله غير الله.
بل قد فهم بعض ملحدي عصرنا التوحيد أفضل منهم، فحينما تكلم الرئيس الروسي "بوتين" عن الحرية الدينية في بلادة قال: نحن نأذن بتعليم ونشر سائر الكتب الدينية لسائر الديانات إلا "التوحيد" لأنه يلغي غيره، ولا يقبل المشاركة.
وظهور ما يسمى بـ (حوار الحضارات) أو (حوار تقارب الأديان) كان في عقد التسعينيات ردًّا على أطروحة "صامويل هنتنجتون" (صدام الحضارات) فبدأ جملة من كُتّاب الغرب ومن خلفهم من أبواق مصطنعة من أبناء المسلمين يروجون لفكرة (حوار الحضارات) و( التقريب بينها) و (المساواة بين الأديان) وأن أهل الكتاب مؤمنون بالخالق كالمسلمين وليسوا كفاراً، وتولد عنها انعقاد المؤتمرات والندوات لتُعنى بذلك، وبثوا سموهم الزعاف في مدح الإسلام والمسلمين تارة ووصفهم بالإرهاب تارة أخرى، وتلوّنوا في ذلك كالحرباء بحسب مصالحهم، وأننا شركاء معهم في الإنسانية وعِمارة الأرض، وغرسوا في نفوس الكثير فكرة احترام الرأي الآخر مهما كان، وبثوا المفاهيم والأفكار والمصطلحات الغربية بين المسلمين لتصبح مطالب ومقاييس !
وقد وقع بعض أبناء المسلمين من علماء وأفراد ومؤسسات في شِراكهم، ففتقوا ما يسمى بـ (المصلحة) حتى دخل منها الكفر والزندقة، وفكرة الإخوة بين المسلمين وغيرهم من الكفار، وساروا بفكرة الأولويات النابعة من واقع المصلحة العامة، التي تجعل للعقل مدخلاً في منازعة الله في حقّه في التشريع وإصدار الأحكام، ولجؤوا إلى العموميات دون التفصيل لتمييع أصول وأحكام وأنظمة الإسلام.
وقد جاء الإسلام بمفاهيم ومناهج وسلوك لتحديد هوية المسلم لتميزه عن غيره، وتحدد له الطريق القويم والمحجة الواضحة للوصول إلى النجاة، قال تعالى (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف : 108]، ويلزم من هذا عدم التخلي عن أي أمر متعلق بأخلاق وحياة الأمة المسلمة، فحياتنا على نهج معيّن خاص، مبني على عقيدة التسليم لله والعبودية له، والانقياد له بالطاعة، فالإسلام ليس كغيره فقد جاء بحفظ الدين والدنيا فهو سياسة واجتماع واقتصاد وسلوك وتربية، غير أن قوّة الكفار وضعف المسلمين وفرضهم الأنظمةَ الكافرة والقوانين المضادة لحُكم الله، قد جرأ عدداً من أبناء المسلمين أن يطلبوا مجتمعاً غير مسلم، قال تعالى (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة : 50]، فتمكنت الهزيمة في قلوبهم، حتى لو ترك الغرب (اليهود والنصارى) ما هم عليه من قوانين وأنظمة إلى قوانين أخرى لإدراكهم بخطأ ما كانوا عليه لتركوا ذلك معهم، ولو عادوا لما كانوا عليه من قبل لعادوا معهم مرة أخرى ..(62/69)
وقد حكم الله ولا مبدل لحكمه أن من لم يكن على الإسلام فهو من ملة الكفر، مستحق للنار والخلود فيها إلى أبد الآبدين، وهذا أصل التوحيد، وعليه بُعثت الرسل، وأنزلت الكتب، وخلقت الجنة والنار، وشرع الجهاد، ونصب الميزان، ووضع الحساب والعقاب، أصل مستقر لا خلاف فيه عند المسلمين عالمهم وجاهلهم، ومن شكّك فيه، فضلاً عن مخالفته، فليس هو من المسلمين، بل من أدخل المشكّك فيه والمخالف في دائرة الإسلام كافر خارج عن الملة باتفاق المسلمين، ومن العجب أن مثل هذا الأصل يبيّن، فهو من الواضحات، والأصول البينات.
وقد جاء القرآن والسنة مفرقاً بين المسلمين والكفار، ومبيناً أن هذين الاسمين اصطلاحين شرعيين لا يجوز النزاع فيهما، وجعل ذلك أصلاًَ من الأصول، إذ لا تكاد تخلو سورة من بيانه، فبيّن الفرق بين مدلول كلمتي (المسلم ) و(الكافر)، فكان المسلم كل من يدين بدين الإسلام الذي جاء به صلى الله عليه وسلم فحسب، وكان الكافر كل من يدين بغير الإسلام (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران : 85].
وهذا الفهم بيّن واضح وصريح وجلي كالشمس، في أن غير المسلم يكون كافراً مهما كان دينه وشريعته، وإذا مات دخل النار، وأن المسلم إذ مات مآله الجنة، فالأصل أن يسمى كل باسمه، فالكافر لا يصح أن نسميه (غير المسلم) فحسب بل هو كافر أيضاً، فبهذه المصطلحات الشرعية وبهذه المسميات التي أنزلها الله في كتابه وفي سنة نبيه يتم التميز بين البشرية في الأرض، وفي دائرة كل مسمى تتفرع المسميات فالكافر يكون يهودياً أو نصرانياً أو بوذياً أو هندوسياً مهما كان دينه، ومهما كان فكره فيكون شيوعياً أو ماسونياً أو علمانياً أو ليبرالياً ونحو ذلك .
فهذا التميز بين المسلمين وغيرهم أصل في عقيدة الإسلام وأحكامه بل هو أساسه، فلا حلول وسط ولا التقاء مع الكفار في الأسماء ولا في الأحكام ولذا قرر تعالى هذا الأصل بقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : 6] فلا توافق بيننا وبين الكفار، إلا بصور معينة بينها الشارع .
فلا يمكن أن يتضح المسلم وحقيقته إلا بتبيين حقيقة الكافر، إذ أن الشيء يتضح ببيانه وبيان ضده.
فعند الحكم على الناس عامة يقال مسلمون وكفار، لا وجود لشيء آخر غير ذلك، حُكْم لا مناص منه، ولا حيدة عنه، إذا هو الإسلام والإسلام هو، لا فريق ثالث في الدنيا غير ذلك، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [التغابن : 2]. حتى من وقع في الكفر وتلبّس به من الأمم والشعوب التي لم تقم عليها الحجة في الظاهر فهي كافرة اسماً، لمشابهتها لفعل الكفّار في الظاهر، لكنها ليست بكافرة حُكماً، فلا تُقاتل، ولا تُسلب المال، ولا تُستباح سائر حُرماتها، حتى تقوم البينة، بخلاف الكفّار الخلّص الذين قامت عليهم البينة والحجة، فهم كفار حُكماً واسماً، ولذلك سمى الله من وقع وتلبّس بفعل الكفر ( كافراً ) وإن لم تبلغه الحجة، فقال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ) [التوبة : 6] فسماه ( مشركاً ) قبل أن يسمع كلام الله، لكنه ليس بكافرٍ حُكماً حتى يسمع كلام الله.
وبين الله وحكم وهو خير الفاصلين لأجل معرفة العدو من الصديق والحق من الباطل، قال تعالى: (يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) [الأنعام : 57] أي هو خير من بيّنَ وميّز بين الحق والباطل، والسبب من تمييز ذلك في قوله: (وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام : 55]. وسفور الكفر والإجرام واستبانة سبيله وأهله مهم لوضوح الإيمان والخير واستبانة سبيله وأهله، وحينما يختلط سبيل بآخر، ينعكس ذلك على أهله وسالكيه.
وقد حكم الله بذلك كله، ولا مبدل لحكمه، (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) [الأنعام : 57] لا تزعزع ذلك ذِلة زمرة، ومهانةُ ثُلة، وهزيمة شِرذمة .
سمى الله كل من لا يدين بالإسلام وهو دين صلى الله عليه وسلم كافراً.(62/70)
وقال تعالى: (لم لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : 1]. وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) [البينة : 6]. وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) [محمد : 34] وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) [محمد : 32]. وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) [آل عمران : 91]. وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ) [غافر : 10]. وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [البقرة : 161].
بل بيّن أن الكفرة من أهل الكتاب وغيرهم لا يُحبون الخير لهذه الأمة بقوله تعالى: (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ) [البقرة : 105].
* * *
والمراد تقريره:
أولاً: أن مما أجمع عليه المسلمون، وهو أصل الاعتقاد في الإسلام المعلوم من الدين بالضرورة:
* أنه لم يبق على وجه الأرض دين حق يتعبد الله به سوى دين الإسلام، وأن الله ختم به الأديان والملل والشرائع (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران : 85] .
* وأن القرآن الكريم آخر كتب الله نزولاً، وهو ناسخ لكلِّ كتاب أنزل من قبل من التوراة والإنجيل وغيرها ومهيمن عليها، وكلها دخلها التحريف، وقد خص الله القرآن بحفظه، فلم يبق كتاب منزل يتعبد الله به سواه، قال الله تعالى : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ)[المائدة : 48], وقال عن خصوصية القرآن: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر : 9], وبين تحريف ما عداه كالتوراة والإنجيل، وأنه قد لحقهما التحريف والتبديل بالزيادة والنقصان، فقال الله تعالى : (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ)[المائدة : 13] ، وقال: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة : 79]، وقوله سبحانه: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران : 78].
وما كان فيها من صحة فهو منسوخ بالإسلام، ولو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباع صلى الله عليه وسلم ، فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلموهو غَضِب حين رأى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفة فيها شيء من التوراة: ( أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟! ألم آت بها بيضاء نقية ؟ لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)، فلا يسوغ لأحد من أهل الكتاب أو غيرهم الخروج عن شريعة الإسلام، ومن خرج كفر واستحق العذاب الخالد، فقد ثبت في صحيح مسلم: (والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)، فإذا كان هذا في حق أهل الكتاب وهم أمة كتابية، فغيرهم من باب أولى.(62/71)
* وأن نبينا ورسولنامحمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل، كما قال الله تعالى : (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) [الأحزاب : 40] ، وقد أخذ الميثاق على سائر الأنبياء أن بعثة محمد ناسخة لشرائعم، ولو بُعث في عصرهم لتبعوه جميعاً، ولا يستحق الاتباع أحد غيره بعده، قال الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران : 81]. فموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام لو كان مع محمد أو بعده يجب عليهما الحكم بشريعة محمد واتباعه، وهما أنبياء الله ففي الحديث السابق: (لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) وعيسى إذا نزل في آخر الزمان يكون تابعاً ل صلى الله عليه وسلم وحاكماً بشريعته، قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ) [الأعراف : 157].
وبعثة صلى الله عليه وسلم عامة للناس أجمعين، قال الله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [سبأ : 28] ، وقال : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : 158].
* ومن الأصول العظام في الإسلام أنَّه يجب اعتقاد كفر كلِّ من لم يدخل فيما جاء به صلى الله عليه وسلم وهو (الإسلام) من اليهود والنصارى والوثنيين وغيرهم وتسميته كافراً، وأنَّه عدوٌّ لله ورسوله والمؤمنين، وأنه شر الخلق، وأنه من أهل النار خالداً فيها، قال تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : 1]، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) [البينة : 6].
وقد روى مسلم في "صحيحه" قا صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار ) ولهذا فمن لم يكفر اليهود والنصارى وكل من خرج عن شريعة محمد فهو كافر لتكذيبه ما جاء وتواتر في الكتابة والسنة، ولنقضه أصول الإسلام التي لا يستقر إلا بها.
* * *
ثانياً: أن ما تقدم هي أصول الإسلام وكلياته الاعتقادية، إذا عُلم ذلك فإن الدعوة إلى يُسمى بـ ( وحدة الأديان ) أو ( التقارب بينها ) أو ( الخلط بينها ) دعوة كفرية, تهدم الإسلام وتقوض دعائمه وتجرُّ أهله إلى ردَّة شاملة، وأصلها ومنبتها أهل الكتاب، ومصداق ذلك في قول الله سبحانه : (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) [البقرة : 217], وقال: (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النساء : 89].
وحينما يئس الغرب من السيطرة وإحكام القبضة على العالم الإسلامي، ووجدوا أن الحائل دون ذلك كله هو الإسلام وصلابة عقيدته، وقوّة أهله فيه، بخلاف سائر شعوب الأرض التي دانت لهم، ورأوا أن نزع الإسلام من القلوب أمر متعذر، سعوا لهذه الدعوى، لتذوب صلابة القلوب وقوّة الأمة وتنصهر فيما يريدون، فإذا تم إلغاء الفوارق بين الإسلام والكفر والحق والباطل والمعروف والمنكر، والعدل والظلم، وكُسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين، فلا ولاء إذاً ولا براء ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله، وهذا ما يريدونه من المسلمين، فروّجوا لهذه الدعوى، خوفاً مما تقرر في الشرع من عقيدة الولاء والبراء والقتال، قال تعالى: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة : 29], وقال: (وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة : 36].
ودعوة وحدة الأديان أو التقريب بينها، ردَّة صريحة عن دين الإسلام، إن صدرت من مسلم، لأنها تعارض أصول الاعتقاد، وتكذّب القرآن إذ أنه ناسخ لجميع ما قبله من الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها، وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع، وترضى بالكفر والشرك بالله.
* * *
شبه وبينات:(62/72)
يثير بعض دعاة التقريب بين الأديان، أو بعض الملحدين الذين يزعمون تسامحاً، وهم في الحقيقة في عِداد الملاحدة المكذبين للكتاب والسنة، يثيرون شيئاً من الشبه التي لا تنطلي على مؤمن، لكن رأينا إزالتها إذا قد تنفذ لبعض العقول التي لا تحسن فهم الكتاب والسنة.
أولها: أن الله قال: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران : 85] والإسلام هو الاستسلام لله على أي ملةٍ كانت، وكتب كثير منهم عن معنى كلمة "الإسلام" في هذه الآية الكريمة بوجه لم يقله مسلم قط،فقالوا أن الإسلام هو دين الله ودين من أسلم وجهه وذاته وإرادته للخالق, والكلمة هنا (الإسلام) ولو أنها تشمل المسلمين أتباع الرسالة التي أتى بها الرسول محمد عليه الصلاة والسلام, إلا أنها لا تقتصر عليهم, كما نرى في الآيتين التين سبقتاها (أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 83-85].
وقالوا: الآيات التي تبين أن لفظة الإسلام والمسلمين لا تقتصر على أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم عديدة كقوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة 131-133].
وقوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين) [آل عمران: 67], وقوله: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 52]، وقوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُون) [المائدة: 111].
قالوا: فالتسمية بـ"المسلمين" شملت أقواماً سبقت مجيء الرسول بقرون عديدة.
وبيان ذلك :
أن اليهود الذين اتبعوا موسى عليه السلام والنصارى الذين اتبعوا المسيح عليه السلام بلا تحريف وقبل محمد هؤلاء مسلمون، ولا وجود لهم اليوم، ووجودهم متعذر، وذلك أنهم حرفوا كلام الله وبدلوا تشريعه، وأشركوا به، فمن أراد أن يتدين بما جاء به موسى وعيسى من تشريع في الإنجيل والتوراة لا يمكنه ذلك، لأنها محرّفة بنص الكتاب والسنة، وهذا أمر محسوم من شكك فيه كفر، فاليهود القائلون بأن عزيرًا ابن الله، وكذا النصارى القائلون بالتثليث فهؤلاء كفار اتفاقاً، كما حكاه ابن حزم كما في "مراتب الإجماع" ( ص 119): (اتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفارًا واختلفوا في تسميتهم مشركين).
فمن قال ببقاء أمة منهم (مسلمة) باقية على ما لم يحرّف وأن التحريف في بعضهم، مكذِّب في نسخ الشريعة المحمدية لما قبلها، وأن لا إسلام إلا ما جاء به صلى الله عليه وسلم ، ومن قال أن اليهود والنصارى الآن على ما دعى إليه موسى وعيسى، مكذب بعموم الرسالة ونسخها ونصوص القرآن والسنة في إثبات التحريف فيهم، وكلُّ ذلك كفر بالإجماع (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [المائدة : 72,73].
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة : 30].(62/73)
- ومن كفرهم اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله تعالى، قال تعالى: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة : 31].
والإسلام يُطلق على كل منيب لله موحد له منذ بعثة نوح إلى محمد، وبمحمد نُسخت الشرائع كلها، فمن خالفه فليس بمسلم، إذ أنه مكذب لعموم رسالته ولختام نبوته، وعموم الرسالة وختامها ووجوب المتابعة أصل من أصول الإسلام لا إسلام بدونه (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران : 85]. والإسلام بعد بعثة صلى الله عليه وسلم هو ما جاء به دون ما سواه من الأديان، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع على كل من لم يؤمن به ويتبعه أنه من أهل النار سواءً كان كتابياً أم غير ذلك، فقد روى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار).
فهذا قاطع بكقر كل من لم يتدين بدين صلى الله عليه وسلم ، وأن عاقبته النار، وأول من يدخل في ذلك اليهود والنصارى..
وقد أمر الله بسلوك سبيل نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) [الأنعام : 153].
ومن خالفه متوّعد بالنار ففي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى". قيل: ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى".
فالإسلام الآن لا يفسر إلا بما جاء به صلى الله عليه وسلم ، بذلك فسره الشرع، وقيده به، فقوله تعالى: (فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) [آل عمران : 20] المراد بالإسلام هنا وفي غيرها من الآيات هو ما عليه نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة لا ينصرف الاسم لأحد في عصره ومن جاء بعده إلا من تبعه، وتفسير الإسلام على هذا كما جاء في الحديث في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً".
فشريعة محمد اختصت بالعموم للناس كافة، وناسخة لغيرها ممن قبلها، وتواترت نصوص القرآن والسنة ببيان تحريف التوراة والإنجيل، والمكذب بذلك كافر بالاتفاق، ومن أدخل في حقيقة الإسلام أحداً غير من كان على ملة محمد، أو أخرج من الكفر من خرج منها، مكذب لذلك كله.
فيجب الاستغناء بشريعة محمد عن سائر التشريعات، لأنها ناسخة وخاتمة لسائر الشرائع، جاءت لتوحيد عقيدة البشرية كلها، فقد روى النسائي وغيره عن صلى الله عليه وسلم أنه رأي في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة فقال: "أمُتهوِّكون يا ابن الخطاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حياً واتبعتموه وتركتموني ضللتم" وفي رواية: "لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي" فقال عمر: رضيتُ بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبياً. .
فلم يبق دين صحيح أنزله الله، يُحق به الحق ويُبطل به الباطل وتسمو به الإنسانية، وتسعد به البشرية، وتعمر به الأرض العمارة المرضية، سوى الشريعة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم من ربه وختم بها ما قبله، فقد سلمت من التحريف والتزييف، لكونها محفوظة من عند الله حفظاً أبدياً، من الله بدأ القرآن وإليه يعود
قال الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر : 9].
وما في هذا القرآن أصل كل حق جاءت به الشرائع السماوية السابقة، مهيمن على جميع الكتب، كما قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ) [المائدة : 48]
وشريعة محمد عامة للناس كافة، يجب على كل من سمع بها اتباعها، ومن لم يتبعها فليس من الإسلام في شيء قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [سبأ : 28]، فمن سمع بمحمد ودينه ثم لم يؤمن به فهو كافر لما روى مسلم (والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)، والمراد بالسماع هنا، هو أن يبلغه ذكر محمد ودينه وأنه نبي موحى إليه على وجهٍ يفهمه لو أراد، وهذا كافٍ في قيام الحجة، وظهور المحجة.(62/74)
فبالإسلام ختم الله سائر الشرائع، فلا مكان لاتباع شيء منها، ولا التدين بشيء مما كان عليه السابقون من أهل الكتاب وغيرهم قال تعالى: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب : 40]، فجعل الله الدين المتقبل عنده دين محمد الإسلام، لا يقبل من أحدٍ غيره قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) [آل عمران : 19] فمن تعبد بغير الإسلام كفر، وكان من الخاسرين قال: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران : 85] وجعل الله نبيه شهيداً على الناس هو وأمته يوم القيامة بما عملوا: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : 143]، وقال: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً) [النساء : 41] يعني على سائر من جاء بعدك .
* * *
ثانيها: قالوا: الأديان كلها من عند الله وترجع إلى حقيقة واحدة، وكل منا يحمل جانباً من الحقيقة، وأرض الله تسعنا جميعاً مسلمين ونصارى ويهوداً وكذلك جنته، مصداقاً لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : 62]. وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [المائدة : 69].
وبيان ذلك :
أن المقصود بهذه الآيات من مات على ملته قبل بعثة صلى الله عليه وسلم ، من أهل التشريعات السماوية فقط، كاليهودية والنصرانية، فمن مات على ذلك مؤمناً عاملاً للصالحات، لم يكن على تحريف أو تبديل، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهذا لا إشكال فيه بإجماع المسلمين، وهذا التأويل مروي عن أئمة التفسير كمجاهد والسدي، وعلى ذلك حمله سائر المفسرين وحمل الآية على غير ذلك يتضمن ضرب الكتاب ببعضه وإبطال لأحكامه، ونقض لكثير من نصوصه، وما في هذه الآيات نظير صلاة بعض الصحابة إلى بيت المقدس فحينما ماتوا والقبلة كما هي في بعض غزوات صلى الله عليه وسلم ، وغُيرت القبلة إلى البيت الحرام وجِل بعض الصحابة، هل يتقبل الله منهم أم لا؟ وهل يضيع عملهم أم لا؟ فأنزل الله قوله تعالى : (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) [البقرة : 143] يعني صلاتكم, فقد روى البخاري من حديث زهير عن أبي إسحاق عن البراء أن صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهراً, وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [البقرة : 143] ورواه مسلم من وجه آخر.
فالعمل والاقتداء بالحكم الشرعي المنسوخ قبل نسخه امتثال وقربه، والعمل به بعد نسخه مخالفة وبُعد.
فقد روى ابن جرير الطبري في "تفسيره" عن حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ) [البقرة : 62] الآية. قال سلمان الفارسي للنبي r عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم، قال: "لم يموتوا على الإسلام". قال سلمان: فأظلمت علي الأرض. وذكر اجتهادهم، فنزلت هذه الآية، فدعا سلمان فقال: "نزلت هذه الآية في أصحابك". ثم قال صلى الله عليه وسلم : "من مات على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي فهو على خير ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك".
وثمة معنى آخر في التفسير للآية وهو أن الباب في الإسلام مفتوح أمام أهل الأرض جميعاً للإيمان بدعوة محمد، حتى لو لم يكونوا من العرب، إذ العبرة فى الدين الخاتم أنه دين عالمى لا دين عصبية قبلية أو قومية أو مخصوص بعِرْقٍ دون آخر، فمعروف أن أنبياء بنى إسرائيل كلهم لم يُبْعَثوا لأحد من خارج أمتهم، فكانت الآية مُزيلة للإشكال واللبس عند أهل الكتاب، أن الشريعة المحمدية للناس كافة، بل مُلزمة لهم.(62/75)
ولهذا يجد المتأمل أن الله في كتابه قد علَّق نجاة اليهود والصابئين والنصارى على إيمانهم بالله واليوم الآخر وعملهم الصالحات فقط دون اعتبار آخر (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : 62].
ثم إن الإيمان بالله واليوم الآخر لا يصح إلا إذا آمن المرء بجميع الأنبياء والرسل، ومنهم صلى الله عليه وسلم وذلك واضح جلي من الآيات التالية: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً)[النساء : 150, 151], وقوله (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [الأنعام : 92] وقطع أن الرحمة لا تكون إلا لمن آمن بمحمد واتبعه (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : 156, 157].
وهذه الآيات التي تمسك بها بعض أهل الكتاب في أن الله زكاهم وبين نجاتهم وأمنهم، من جملة ما أخبر الله عن سابقيهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وما آمنوا به حرفوه عن معناه ومقصده، وما من مرة أثنى القرآن أو السنة على أحدٍ من اليهود والنصارى إلا كان ذلك بعد دخوله الإسلام، إلا أن بعض ذوى الأهواء والعقول المعكوسة يَبْغُون منا أن نقرأ القرآن ونفهمه بعقولهم المريضة وأفهامهم المنكوسة.
وعلى هذا فليس في القرآن أي تناقض، ولا وجود له إلا في قلوبهم وأفهامهم، وهل من أنزل تلك الآية يقول (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران : 85] ويأمر المُصلي في كل ركعة أن يقول: (غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة : 7] والمغضوب عليهم اليهود والضالون النصارى، وهل من أُنزلت عليه تلك الآية وهو صلى الله عليه وسلم يقول : (والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار) ويقول: (والذي نفس محمد بيده لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالاً بعيداً أنتم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين)
والصابئون المذكورون ليسوا بأصحاب كتاب سماوي ولا نبي، فلمَ قرنهم الله باليهود والنصارى، وكيف يكونون (وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : 62] على ذلك المعنى الباطل.
فيجب أن نقرأ ونفهم كلام اللهي كُلّيّته وشموله ولا نجعله عِضِين.
فتأمل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : 62]. ذلك أنه لا معنى لاشتراط الإيمان بالله واليوم الآخر في حالة المؤمنين، أي المسلمين، وهم المذكورون في أول الآية، إذ هم مؤمنون، فلا يلحقهم وصف الإيمان أصلاً إلا بذلك، على عكس الحال مع اليهود والصابئين والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد بعد، ومن ثم فلا يُعَدّون مؤمنين كما بيّنّا.
ولو كان النصارى والصابئون واليهود من أهل هذا الوعد (وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) [البقرة : 62] لكانوا والمسلمين سواء، ولما وجب دعوتهم إلى الإسلام فهم لهم الأجر مع الأمن التام يوم القيامة، والآيات في دعوتهم أكثر من أن تُحصى، وقد بعث النبي معاذاً إلى اليمن يدعوهم إلى النجاة.(62/76)
* ثم إن هذا الفهم فيه اتهام للقرآن بالتناقض، فمن هم الذين قال الله فيهم: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المائدة : 72,73].
ولماذا أرسل صلى الله عليه وسلم إلى قيصر والمقوقس وغيرهما يدعوهم إلى الإسلام مخبراً لهم بحصول الإثم إن أعرضا عن دعوته، فالنصارى لا يؤمنون بالإله الحق، بل يؤلهون عيسى، ويجعلونه رباً من دون الله، فهم في الحقيقة مشركون يعبدون غير الله كما يعبد البوذيون، والبراهمة، وأتباع كونفوشيوس في الصين،ولا يؤمنون باليوم الآخر الصحيح الذي جاء به الإسلام، وإنما يؤمنون بيوم يجلس فيه المسيح ليحاسب الناس، بل لا يؤمنون بمتع الجنة الحسية التي يتحدث عنها القرآن، والله قد أخبر أن اعتقادهم ذلك كفر لا ينفعهم، فقد وصفهم أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، كما في قوله: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة : 29]، وهذه الآية بالإجماع في اليهود والنصارى عند المفسرين، فكيف يصفهم الله هنا بعدم الإيمان بالله واليوم والآخر وهناك يصفهم به!
ثم أن الله قال مبيناً بعدهم عن الإيمان: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ) [المائدة : 65]
* وليُعلم أن أصحاب الأهواء والنصارى خاصة حريصون أشد الحرص على إشاعة اللبس في هذه الآيات وإيهام الجهلة من المسلمين بأن القرآن يُخبر بنجاتهم ويمدح حالهم، وينص على إيمانهم، لكن هيهات هيهات والمسلم يقرأ في كل ركعة: (وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة : 7] وقد ثبت عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون) وهم المقصودون في آخر سورة الفاتحة، قال ابن أبي حاتم في تفسيره": (ولا أعلم في هذا بين المفسرين اختلافاً).
* * *
وعلى ذلك :
فإن الدعوة إلى جمع الكلمة وتوحيد الصفوف على أمر غير الإسلام وتوحيد الله مع تنحية نصوص القرآن والسنة كفر وردة عن الدين، بل من رضي بذلك ورغب فيه، واستحسنه مرتد قطعاً بجميع أدلة التشريع من قرآن وسنة وإجماع.
فلا يجوز الدعوة إلى ذلك، ولا الرضى به، بل يجب إنكاره والتحذير منه.
ولا يجوز بالإجماع لمسلم أن يبني كنيسة، أو يعتني بها، أو يطبع التوراة والإنجيل لنشره.
ويجب دعوة أهل الكتاب وغيرهم من الكفار إلى الإسلام باللين والحسنى، قال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت : 46] ليخرجوا من الظلمات إلى النور، وإقامة الحجة عليهم ليحي من حي عن بينه ويهلك من هلك عن بينة قال الله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : 64].
أما حوارهم لأجل النزول عند رغبتهم، وإرضائهم، وتحقيق أهدافهم، فمنكر عظيم وشر مستطير، وفتنة كبيرة تفتن الأمة عن دينها، قال تعالى : (وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ) [المائدة : 49].
ولا بد من وضوح الأحكام في بيان العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وغياب ذلك والبعد عن الفهم الشرعي في طريقة التعامل مع الإحداث، ووجود القصور والخلل في ذلك أدى إلى الشعور بالهزيمة والتبعية والانقياد والتسليم للغرب قولاً وعملاً عند كثير من المسلمين، وسيجلب ذلك جيلاً مهزوماً من أبناء المسلمين، فلا بد من الفقه في الشرع، وأن يتخذ المسلمون طريقاً واضحاً للتغيير والتعامل مع الكفار بعد النظر في الواقع وفهمه، ثم إنزال الأحكام عليه.(62/77)
وليُعلم أن الالتقاء مع الكفار والحوار معهم يكون كما فعل الرسو صلى الله عليه وسلم عندما بعث برسالة إلى هرقل بقوله تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : 64]. وفي ساحة المعركة قا صلى الله عليه وسلم "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، واخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين لا يجري عليهم حكم الله الذي جرى على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبو فاستعن بالله عليهم وقاتلهم".
هذا هو الالتقاء والحوار الذي حدده الشرع مع الكفار وليس غيره، وقد يقع بين المسلمين والكفار عهد وميثاق مؤقت، فتحرم بذلك دماؤهم وأموالهم، والتعدي عليهم حينئذٍ من أعظم الظلم؛ ففي "الصحيح" عن صلى الله عليه وسلم : (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة).
فلا العقيدة ولا التشريع ولا الوحدة الوطنية ولا القومية ولا الآلام ولا الآمال تربط بيننا وتوحدنا معهم، فلا مجال للتقارب إما إيمان وإما كفر، فالصراع دائم والمدافعة مستمرة، وهو صراع ومدافعة بين الحق والباطل بدأ منذ آدم عليه السلام ومنذ عصيان إبليس لرب العالمين، صراع مستمر بين إبليس وأتباعه وذريته وبين الأمة الإسلامية؛ هذه هي حقيقة الصراع وإن اختلفت المصطلحات والمسميات، وهذه هي طريقة الإسلام في الحياة وتلك طريق الكفر.
عبد العزيز الطَّريفي
الرياض 15/6/1426 هـ
ص.ب (24151) الرياض (11322)
ata r ifi@hotmail.com
================
عناصر القوة الإيجابيَّة في مواقف المسلمين لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
خباب بن مروان الحمد
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً ، وأشهد ألاَّ إله إلاَّ الله إقراراً به وتوحيداً ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، صلَّى الله عليه وعلى آله ، وصحبه وسلَّم تسليماً مزيداً أمَّا بعد:
إنَّ حديثي سينصبُّ حول استخلاص عناصر القوة والإيجابية في مواقف المسلمين في النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتي رأيت أنَّها ـ ولله الحمد ـ كان لها ظهور ساطع ، وبارق لامع ، نتج إثر ما اقترفته الصحيفة الدنماركيَّة سيئة الذكر ، والتي تمخَّض من جرَّاء فعلها ، منافع كثيرة ، فربَّ ضارة نافعة ، وعلى نفسها جنت براقش ، وظهر أنَّ في الأمَّة الإسلامية خيراً كثيراً ، ما زال يتنامى ويتصاعد يوماً بعد يوم.
إنَّ حدث الرسوم المسيئة للنبي r سيُنسى يوماً ما ، ويبقى الأثر المستثمر منه والمتمثل؛ في جامعة عتيدة ، وقناة فضائية، ومقرر مدرسي، ومؤلف علمي، ومؤتمر سنوي، ومؤسسة عريقة ،كنتيجة طيبة للغضبة الإيجابية التي عمت العالم الإسلامي.
ولهذا فإنَّه يجب ألا تغلق الإساءة أعيننا عن اغتنام الفرصة، ويكفي أصحاب الرأي أن يتذكروا ما قاله _عليه الصلاة والسلام_ حينما هجاه بعض الكفار وقالوا عنه "مذمم" بدلاً عن "محمد" زيادة في الذم، فكان قوله _ r_ لصحابته الذين ساءتهم مقالة الكفار: " ألا تعجبون كيف يصرف الله عني أذى قريش وسبهم، هم يشتمون مذمماً وأنا محمد". أخرجه البخاري. فهم رسموا رسومات وهمية في أذهانهم ، وهي ليست -بلا شك- رسومات للنبي _ عليه الصلاة والسلام ـ ولهذا قال الله تعالى ل صلى الله عليه وسلم :(إنَّا كفيناك المستهزئين) فلن يضرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اقترفته أيدي الرسَّامين ، ولكنَّنا نقول : إنَّ ما وراء ذلك الحدث كان للمسلمين فيه دور كبير في نصرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن ذلك:
1ـ المقاطعة الاقتصادية من الشعوب الإسلاميَّة للدول التي أساءت لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم وقد قيل في المقولة الأمريكية :الذي في يده السلاح هو الذي يسن القوانين ، ومن هنا فقد استشعر المسلمون أنَّ بيدهم سلاحاً لا يستطيع أهل الكفر أن ينزعوه منهم لأنَّه متعلق بإرادتهم ، بل جعلت أوروبا (الرسمية) تقف على قدمها وتحاول معالجة القضية ، وبهذا صار للمسلمين موقف يحسب له أهل الكفر حساباً ، وأدَّت هذه المقاطعة إلى انتصار كبير نفسي للمسلمين ، وكسر لحاجز الخوف الذي زرعه الغرب فينا.(62/78)
2ـ طباعة الكتب المعرفة بشخصه صلى الله عليه وسلم ومنها قيام مجلة البيان بمشروع سمَّته :(مشروع المحبة ) حيث سيطبع منه مليون نسخة ، من كتاب (محبة النبي وتعظيمه) للشيخين الفاضلين: عبدالله بن صالح الخضيري ، وعبداللطيف بن محمد الحسن .
3ـ إنشاء المواقع المعرفة بشخصه ، وإطلاق كثير منها ، إثر تلك الهجمة الشرسة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرافقة لكثير من الصفحات العديدة التي كانت مصاحبة لكثير من المواقع الإخبارية ، أو العلمية ، بل حتَّى في المنتديات كانت هناك صفحات عديدة تتحدَّث عنه صلى الله عليه وسلم
4ـ هبَّات الشعوب الإسلامية هبَّة واحدة لنصرته صلى الله عليه وسلم وكان في ذلك خير كثير ، ولهذا فإنِّي أقول لنخبنا العلميَّة والفكريةَّ : ينبغي ألاَّ نحتقر الشعوب فهي القلب النابض بالإسلام ، بل هي مستودع الإسلام ، فقد بان أنَّ في الأمَّة الإسلاميَّة خيراً كثيراً ، وأنَّه لا يزال فيها ، من يتنفض لحرمات الله ، ويغار على دينه ، ويذبُّ عن حرمة الإسلام ، وصدق القائل:
إذا كان قلبي لا يغار لدينه***فما هو لي قلب ولا أنا صاحبه
5ـ كثرة المحاضرات والخطب ، والبدء بدروس علميَّة تشرح شمائل صلى الله عليه وسلم ، وجميل خلقه ، وسيرته ، متزامنة مع ما كان يُشرح من قبل.
6ـ شعور كثير من المسلمين بالعزة ، وأنَّهم يستطيعون أن يصنعوا قراراً ، يستجديهم بعده الشرق والغرب ، بأن يخفِّفوا من غلواء غضبهم ، ويتركوا مقاطعة الدول التي أساءت لرسول الله.
7ـ هذه الهجمة الشرسة أشعرت المسلمين وخصوصاً أهل العلم بأهميَّة تفعيل قضية إنشاء رابطة عالمية للعلماء والمفكرين ، خالية من الثالوث الخطير الذي ينبغي عليهم أن يحذروا منه وهو :(البعد عن الحزبية ـ ترك التعصب للإقليمية ـ ألا يكون تابعاً لجهة رسمية) وتكون بدورها هذه الرابطة تدرس مستجدات المسلمين الراهنة ، وتردها لمنهاج الله ، ولعلَّ هذا المؤتمر يكون بداية تفعيل هذه القضيَّة.
8ـ محاولة كثير من المسلمين الانتهاج بنهج خير المرسلين ، واتباع سنته وتطبيقها ، وتوصية بعضهم لبعض بالحث على ملازمة ذلك.
9ـ الضغط الإسلامي على هذه القضية جعلها رأس القضايا في الإذاعات ، والوكالات الإخبارية.
10ـ عودة الكثير من المسلمين للهداية بفضل الله ، حين شعروا بقيمة دينهم ، وعلو نبيهم ،
11ـ إسلام بعض الكفار ، في بعض الدول الكافرة.
12ـ عرف كثير من المسلمين حقيقة عداوة الكفَّار لهم ، وحقدهم على دينهم ورسولهم ، وإرادة الشر والكيد بهم ، فازدادت قناعة كثير من المسلمين ببغض الكفار لهم ، ولا ننسى أنَّه تعالى قد قال:(إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبيناً)
13ـ تصدي الكثير من المسلمين لبعض دعوات العلمانيين ، والرد عليها ، من قبيل قول بعضهم إنَّ هذه الرسوم من قبيل حرية الرأي فلا داعي لمعارضتها ، ومعارضة بعضهم للمقاطعة ، وقول بعضهم أن القضية أكبر من حجمها.
14ـ كانت تلك الإساءة لرسولنا صلى الله عليه وسلم منحة للتعريف بدين الإسلام ، والسؤال عنه من قبل الكفَّار فقد أوردت وكالات الأنباء شراء كثير من الفرنسيين للقرآن الكريم بعد الأزمة الدنماركيَّة ، ولكم أن تعرفوا أنَّه خلال أسبوع واحد كانت نسخ القرآن التي اشتريت من قبل الفرنسيين 60 ألف نسخة ، ولعلَّ ذلك يكون سبباً في هدايتهم إلى هذا الدين الإسلامي العظيم ، وحينها نقول: على نفسها جنت براقش.
15ـ قيام بعض المؤسسات الإسلاميَّة بطباعة كثير من الكتب المعرِّفة بفضل الإسلام وبرسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمتها لعديد من اللغات كالانجليزية والفرنسية والدنماركية وغيرها.
16ـ مواقف بعض حكومات الدول الإسلاميَّة ؛ بسحب سفرائهم من الدنمارك ، واستدعاء سفراء الدنمارك ، وتبنِّي تبيين فضل رسول الله ، وسيرته .
17ـ المطالبة بمحاكمة جميع المجرمين بما فيهم رئيس تحرير تلك الصحيفة محاكمة عادلة ، وإيقاع العقوبة الرادعة بهم ، وفصل رئيس التحرير من تلك الصحيفة ، تنكيلاً به وإزراء عليه وعقوبة له.
18ـ المظاهرات العارمة التي عمَّت البلاد الإسلامية ، وكانت شعلة وهَّاجة ضدَّ من سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
19ـ هذا الحدث بيَّن أنَّ المسلمين إذا اختاروا رأياً واتفقوا عليه فإنَّه بمقدورهم بإذن الله أن يكون لهم موقف سديد تجاه أعداء الدين ، لا يستطيعون زحزحتهم عنه ، أو ثنيهم عنه.
20 ـ بدء كثير من أصحاب الفكر والعلم بتبيين سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وخصوصاً أن كثيراً من الأوروبيين قد بيَّن لهم إعلامهم بأن رسول الله رجل إرهابي ودموي ، وقد أوصدت تلك الأنظمة الحاكمة على شعوبها في بلادهم وأقفلت عليهم بإعلامهم الذي يضلِّل هذه الشعوب، ويصف المسلمين بأنَّهم همجيون ، وليسوا ذوي أخلاق ومعرفة وعلم .
21ـ رسائل الاحتجاج التي وصلت للدنمارك وسفاراتها.
22ـ بدء بعض المنشدين الإسلاميين ، بإخراج أشرطة في فضائل النبي ، وتمدحه بالمدح المباح الذي لا يوجد فيه غلو ولا إجحاف.(62/79)
23ـ الحوارات في الفضائيات ، والمقالات في الصحف ، التي انتشرت عقب الهجمة الشرسة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبيين سيرته ، وشمائل أخلاقه .
24ـ استقبال بعض الدعاة والأثرياء للأجانب الذي يرغبون في التعرف على الإسلام.
25ـ ضغط بعض المختصِّين على الدول المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي اشعلت الأزمة لسن قوانين تجرم إهانة العقائد السماوية ، لأنَّ هذه العقائد تستحق معاملة أفضل من القداسة التي يضيفها الغربيون على "السامية" اليهودية.
26ـ انكباب كثير من الشباب والفتيات على دراسة سيرة رسول الله ، وكتابة بحوث حول مقاطع من هديه صلى الله عليه وسلم
27ـ كثير من مستخدمي الانترنت يرسلون رسائل بريدية في الدفاع والذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبيين سيرته سواء للمسلمين أو لغيرهم .
28ـ هناك الآلاف اليوم في أوروبا بالذات يقبلون على شراء الكتب التي تتحدث عن شخص النبي الكريم، وهذه طريقة قوية لجذبهم للإسلام.
29ـ أنَّ أي إنسان مسلم اليوم يشعر بأن نبيه أهمُّ إليه من حبل الوريد ، وإن مس بسوء ، فما نفع الحياة بعد ذلك ؟
30ـ فتح الباب أيضا لمناقشة جدوى ما يسمى " حوار الحضارات" إذا كانت الحضارة الأوروبية تعتبر أن من حقها إهانة سيد البشر لأن في ذلك حرية للتعبير عن رأيها ،وطرح الموضوع من خلال وجهات النظر المعاصرة ، والمصطلحات المتداولة دوليا، مثل: حوار الحضارات، واحترام الأديان والمقدسات وإدراجها ضمن منظومة حقوق الإنسان.
31ـ هذا الحدث بيَّن التآزر الخفي بين أهل الكفر ، حيث كان من نتائجه التي أعتبرها إيجابيَّة أنَّه كشف حقد الكافرين على المسلمين (أتواصوا به بل هم قوم طاغون) وأنَّهم لم يتجاوزوا ما قاله ـ عزَّ وجلَّ ـ :" بعضهم أولياء بعض" ففي فلسطين مثلاً بعد حادثة الدنمارك تكررت حوادث الإساءة لشخص الرسول الكريم، وقام اليهود بكتابة شعارات مهينة ضد النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام، وقبل عدَّة أيام من تاريخ كتابة هذه الأوراق ، وقف الجنود على حاجز عسكري قرب القدس وقاموا بتوجيه الشتائم ضد شخص الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام أمام المواطنين المحتجزين وأمام نواب في المجلس التشريعي.
32ـ هناك من ظن أن سيرة الرسول أصبحت مجرد مقررات تدرس ومعلومات تعيش رهينة الكتب ، وأن حبه أمر نتوارثه ونعايشه بحكم العادة ، وهذا أمر ثبت خطؤه.
33ـ الأطفال الصغار كان لكثير منهم أدوار إيجابية حتى في رفض أكل أي منتج دنماركي لسبهم لرسول الله.
34ـ أشعرت المسلمين بوجوب الرجوع للقرآن ، ودراسة آيات الولاء والبراء، وأن الكفار بعضهم أولياء بعض ، وتذكر مواقفهم تجاه سبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
35ـ مناداة الكثير من أبناء المسلمين ألاَّ يكون هذا الفعل منهم مجرد رد أفعال بل منازلة وفعال، وأنَّ المسلمين بإمكانهم أن يصنعوا الحدث.
36ـ أنَّ المسلمين لم ينخدعوا بما يسمَّى اعتذارات وهمية صدرت عن الجريدة أو عن المجلة الدنماركية التي أساءت لرسول الله ، بل كان لديهم من الوعي الشيء الكبير.
37ـ ظهر استطلاع بيَّن أنَّ أكثر من ثلاثة أرباع الأردنيين يؤيدون استخدام سلاح النفط في حال تكرار الإساءة ، كما في استطلاع لمركز عالم المعرفة الأردني لاستطلاعات الرأي.
38ـ استغلال الدعاة والمفكرين والعلماء هذه الهجمة بتبيين فضل رسول الله ، وشيء من سيرته العطرة ، بل بدأ كثير منهم بدروس تخصه عليه السلام.
39ـ بعض المواقع الإباحية كان لها دور بالحث على المقاطعة ، ونصرة رسول الله ، وتاب كثير منهم إثر تلك الهجمة وأعلن ذلك في منتديات الإنترنت.
40ـ كثير من المسلمين أحسُّوا بالترابط ، والشعور بالجسد الواحد ، والوحدة فيما بينهم ، وتناسي الخلافات والحزبيات ومن ذلك هذا المؤتمر الرائع الذي ينم عن وحدة الأمة الإسلامية.
41ـ أن أمة الإسلام مهما يفعل لها أعداء الإسلام من الغزو الفكري إلاَّ أنَّهم لم ولن يصلوا إلى أساسها وفطرتها بالسوء لأن الله ناصرٌ دينه وحافظٌ لهذا القرآن والدين إلى يوم الدين.
42ـ شعر التجَّار بدورهم في هذه المقاطعة ، ولهذا فينبغي علينا إشعارهم بأنَّه كان لهم دور كبير وكبير جداً في بثِّ روح الموالاة لرسول الله ، وأنَّهم سيَّروا الشعوب المسلمة لمقاطعة الدول المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
43ـ إعلان بعض المواقع عن مسابقات للتأليف عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والكتابة في ذلك ، من قبيل المقالات ، أو البحوث والدراسات.
44ـ كانت هناك مواقف رائعة للغاية من بعض الصحافيين المسلمين ، حين دافع عن شخصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين كان يتحادث مع رئيس تحرير تلك الصحيفة الدنماركيَّة، وعارضه بادعائه أنَّ تلك كانت من قبيل حريَّة الرأي ، ولهذا فينبغي علينا أن نثمِّر مواقف أولئك الصحافيين ، ونثمِّنها لهم ، ونشكرهم عليها.(62/80)
45ـ أنَّ المقاطعة الاقتصادية للدنمارك والدول المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم ، أوجدت فكرة البديل في المنتج العربي المحلي ، بالاعتماد على الذات وتحقيق الاكتفاء الذاتي ، ومناداة الكثير من المسلمين بقولهم:(نأكل ممَّا نزرع ، ونلبس ممَّا نصنع) ، بل هذه المقاطعة أوضحت أهمية الاستقلال الاقتصادي لاسيما بعد تصريحات السفير الدنماركي بالجزائر، والتي يهزأ بها على المسلمين قائلاً: "كيف يقاطعون وهم لا ينتجون ! ".
46ـ توحد الصف باختلاف أطيافه المتنوعة ، وإن كان ـ في رأيي ـ توحداً وقتياً يحتاج إلى آليات لاستمراره ، والحقيقة أنَّ هذا التوحد الشعبي بين المسلمين ، ما كان له أن يظهر بهذه القوَّة إلاَّ لأنَّ من ورائه أثر العقيدة الإسلاميَّة ، وأنَّها هي التي تجمع المسلمين وتوحد صفوفهم.
47ـ التحرر من الاستعباد الداخلي والخارجي.
48ـ تنمية روح الإبداع والابتكار ، لدى الشعوب المسلمة في الوسائل العمليَّة في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
49ـ أظهر هذا الحدث مكامن القوة في الأمة التي يجب أن تستغل وتستثمر.
50ـ أطلَّ الإسلام من خلال هذه القضية على كثير من البقع الكونية التي كانت تجهل الإسلام وحقيقته.
51ـ وضع خطوط حمراء للمجتمع الغربي تجاه المسلمين ومعتقداتهم.
52ـ شعر المسلمون بشيء من الطمأنينة على رموزهم الإسلامية من خلال وقفتهم القويَّة والمشرِّفة.
53ـ تفكير الكثير من الإعلاميين ورجال الأعمال ، للبدء بإطلاق قناة فضائية ، تخصُّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع ما يدور حوله.
54ـ مناداة بعض الأشراف الذين هم من ذريَّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بمقاضاة الصحيفة ، ورفع دعواهم للمحامين ليبدؤوا بها.
55 ـ تفكير كثير من النخب العلميَّة وأصحاب المال بإنشاء وتمويل أقسام للدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية ، التي ترحب بكل ممول، وتمنحه الحرية بتصرف أمواله.
56ـ إنشاء مواقع الكترونية باللغات الغربية للتعريف بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتعاليم رسالته.
57ـ إيجاد وسائل إعلامية ناطقة بلغات الغرب تكون قوية حتى توضح صورة الإسلام.
58ـ بدء بعض الإسلاميين بدعم حملات تعريفية بالنبي صلى الله عليه وسلم في الغرب، على أن تموِّلها جهات في الدول الإسلامية ، لكن تتولى تنفيذها المراكز والهيئات الإسلامية الغربية.
59ـ التبرع بجوائز علمية للكُتاب الذين يكتبون مؤلفات وبحوثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم باللغات الغربية ، يتنافس فيها الكتاب المسلمون الغربيون، ويتم نشرها على نطاق واسع.
60ـ تواصي كثير من الشعوب الإسلاميَّة بالدعاء على أولئك الظلمة الذين أساؤوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
61ـ الفطرة النقيَّة التي ظهر من خلالها غضبة الناس حتى من غير الملتزمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرغم من الهجمة الفكرية الشرسة على الأمة والغزو الإعلامي الصليبي والذي يبث على قنواتنا العربية.
62ـ القيام بالجانب الايجابي باتجاه الآخر وهو تنظيم مؤتمرات وورش عمل ، لغير المسلمين للتعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم .
63ـ رب ضارة نافعة ، فبعض المواقع المعرِّفة للنبي صلى الله عليه وسلم باللغة الانجليزية ، لم تظهر إلاَّ بعد هذه الأزمة.
64ـ ظهور أصوات جديدة من الدعاة صغار السن ، وكتَّاب جدد لم يظهروا إلاَّ من خلال تلك الأزمة.
65ـ وضوح الأثر الإيجابي لوسائل الإعلام عند استخدامها في المجالات المهمة والقضايا الجوهرية في حياة الأمة.
66ـ كثرة الصلاة والسلام على رسول الله ، فالشعوب كلُّها تتواصى بذلك ، وأظنُّ أنَّ أكثر فترة مرَّت على البشريَّة بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي هذه الفترة ، التي سبَّ فيها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فضجَّ المسلمون بالصلاة والسلام عليه ـ عليه صلاة الله وسلامه ، ما تعاقب الليل والنهار ، وجرت الأنهار ، وصدحت الطيور مغنية فوق الأشجار.
* ملاحظة : أصل هذا المقال ورقة عمل شارك بها الكاتب في مؤتمر البحرين ، لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
============(62/81)
(62/82)
( مصطلح : الإسلام السياسي ) ..
سليمان بن صالح الخراشي
من المعلوم أن الدين الإسلامي خاتم الأديان الذي ارتضاه الله لعباده ؛ كما قال تعالى : ( ورضيتُ لكم الإسلام دينًا ) قد جاء كاملا شاملا لكل نواحي الحياة : الاجتماعية والاقتصادية والسياسية .. الخ
ولكن هذا الأمر لم يرض أعداءه من الغربيين وأتباعهم اللادينيين الذين أرادوه كغيره من الأديان الأخرى المحصورة في علاقة الإنسان بربه ، وأمر الآخرة فقط ، دون أن يكون له سلطان وهيمنة على دنيا الناس . أو كما يقول أحد رموزهم - كاذبًا - : ( أراد الله للإسلام أن يكون دينًا ، وأراد به الناس أن يكون سياسة ) ! ( الإسلام السياسي ، محمد سعيد العشماوي ، ص 7 ) .
ولهذا فقد اجتهدوا في الترويج لفكرة " فصل الدين عن السياسة " وما يدعمها من شعارات ومصطلحات .
ومن تلك المصطلحات : مصطلح " الإسلام السياسي " الذي أطلقه أولئك على كل جماعة إسلامية تهتم بقضايا الأمة .
وقد بحثتُ عن مصدر هذا المصطلح ، وماقيل عنه ؛ فتحصل لي التالي :
قال الأستاذ عطية الويشي في كتابه " حوار الحضارات " ( ص 210 ) : ( أول من استخدم هذا المصطلح هو هتلر ، حين التقى الشيخ أمين الحسيني مفتي فلسطين آنذاك ، إذ قال له : إنني لا أخشى من اليهود ولا من الشيوعية ، بل إنني أخشى الإسلام السياسي ! ) .
وقال الدكتور محمد عمارة في كتابه " الإسلام السياسي والتعددية السياسية من منظور إسلامي " ( ص 5 - 6 ) : ( إنني لا أستريح كثيرًا لمصطلح " الإسلام السياسي " رغم شيوع هذا المصطلح ، وصدور الكثير من الكتابات حول هذا الموضوع وتحت هذا العنوان . وفيما أذكر ، وفي حدود قراءاتي ، فإن أول من استخدم مصطلح " الإسلام السياسي " هو الشيخ محمد رشيد رضا . لكنه استخدمه في التعبير عن الحكومات الإسلامية التي سماها " الإسلام السياسي " ويعني الذين يسوسون الأمة في إطار الأمة الإسلامية . لكن مصطلح الإسلام السياسي يُستخدم الآن ، ومنذ العقود الثلاثة الماضية وصعود المد الإسلامي والظاهرة الإسلامية ، بمعنى : الحركات الإسلامية التي تشتغل بالسياسة ، وفي هذا المصطلح " الإسلام السياسي " شبهة اختزال الإسلام في السياسة ؛ لأنه ليس هناك إسلام بدون سياسة ) .
وقال الأستاذ علي صدر الدين البيانوني المراقب العام للاخوان في سوريا :
( بالنسبة لمصطلح " الإسلام السياسي " ، إنه مصطلح ناشئ أصلاً عن الجهل بالإسلام، الذي جاء بالعقيدة والشريعة، خلافاً للمسيحية التي جاءت بالعقيدة فقط، ونادت بإعطاء ما لله لله، وما لقيصر لقيصر.
إنك حين تجرّد الإسلام من بعده التشريعي، لا يبقى إسلاماً، وإنما يتحوّل إلى شيء آخر. إن الإسلام دينٌ شاملٌ لكل جوانب الحياة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. فليس هناك إسلام سياسيّ، وإسلام اقتصادي، وإسلام اجتماعي.. بل هو إسلامٌ واحد، شاملٌ لكلّ جوانب الحياة، ولذلك نرفض مقولة " الإسلام السياسي " ) . ( موقع الجماعة على شبكة الأنترنت ) .
وفي حوار أجرته صحيفة الراية القطرية في 24 مايو 2002م مع الدكتور ساجد العبدلي، الأمين المساعد للشؤون الإعلامية في الحركة السلفية الكويتية ؛ قال عن هذا المصطلح : ( هذا المصطلح يحمل تشويها كبيرا للمقاصد الشرعية من العمل السياسي، وقد يعطي إيحاء بأن هناك إسلام سياسي وآخر دعوي وآخر خيري وهكذا، بينما الإسلام واحد ، وهو دين شامل لا يتجزأ لكل مناحي الحياة، ولم يكن المسلمون يفصلون بين العمل السياسي والدعوة في يوم من الأيام ، بل كانت جميعها كلا متكاملا. هذا المصطلح " الإسلام السياسي " نتج في جملة ما نتج عنه عن الميول التجريدية التي تركز على فهم الإسلام كدين عبادة وتكاليف عبادية أكثر من كونه نظاما سياسيا وتنظيميا للدولة واجتماعيا، أي أن النظرة صارت تشدد على الدين والمعتقد أكثر من النظام والنهج والكيانية الإسلامية المنشودة ) .
ويقول الدكتور جعفر شيخ إدريس في مقال مهم له عن هذا المصطلح :
( عبارة "الإسلام السياسي" كأختها "الأصولية" صناعة غربية استوردها مستهلكو قبائح الفكر الغربي إلى بلادنا وفرحوا بها، وجعلوها حيلة يحتالون بها على إنكارهم للدين والصد عنه. فما المقصود بالإسلام السياسي عند الغربيين؟ كان المقصود به أولاً الجماعات الإسلامية التي انتشرت في العالم العربي وفي باكستان والهند وأندونيسيا وماليزيا وغيرها تدعو إلى أن تكون دولهم إسلامية تحكم بما أنزل الله تعالى.
- ما الذي يأخذه خصوم الإسلام السياسي عليه؟
أما الغربيون فاعتبروه أولاً ظاهرة غريبة بعد سني الحكم الاستعماري الذي ظنوا أنه وطَّد الحكم العلماني على المنهاج الغربي، ووضع أسساً متينة للتبعية وضمان المحافظة على المصالح الغربية. فشق عليهم أن تنبت في بلاد المسلمين نابتة تعارض هذه العلمانية التي يرونها تعم العالم بأسره. كيف تنشأ جماعات تسير عكس هذا التيار العالمي، وتدعو إلى الرجوع إلى حكم ديني إسلامي؟(62/83)
وثانياً: لأن الرأي السائد بينهم ـ لا أقول الذي يعتقده كل واحد منهم ـ هو أن الدين ينبغي أن يكون شأناً فردياً بين العبد وربه، لا مدخل له في الحياة العامة ولا سيما السياسية منها التي يرون أن تكون متروكة لما يراه الناس، وأن تكون مبنية على المساواة الكاملة بين المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم.
وثالثاً: لأن الرأي الشائع بينهم أن النصوص الدينية محدودة بزمانها ومكانها الذي ظهرت فيه، وأنها لذلك ينبغي أن لا تفهم على ظاهرها، بل يجب أن تؤوَّل تأويلاً يجعلها متناسبة مع ثقافة العصر.
ورابعاً: لأن منهم من ظن أن الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله ـ تعالى ـ ظاهرة جديدة لم تكن في الإسلام من قبل؛ فلذلك ناسب أن توصف بالإسلام السياسي تمييزاً له عن الإسلام الديني.
وخامساً: لأنهم رأوا فيها صورة من صور استغلال الدين للمآرب السياسية.
لهذه الأسباب وأمثالها كانوا وما يزالون شديدي العداوة الفكرية والعملية للجماعات التي تتسم بما أسموه بالإسلام السياسي، يحرشون الحكومات عليها، ويدعونها لكبتها حتى لو كان ذلك على حساب الديمقراطية التي كانت سائدة آنذاك في العالم الإسلامي، التي استفادت منها تلك الجماعات. ويكتبون الكتب والمقالات، ويسخرون سائر وسائل الإعلام لحربها. ينصرهم في هذه الحرب أذنابهم المنافقون في بلاد المسلمين الذين يقتاتون على فضلات فكرهم ودعاياتهم. وقد امتدت حربهم في أيامنا هذه للدول التي تؤمن بمبدأ تطبيق الشريعة.
ولما كان الغربيون يرون أن ما هم عليه من دين أو فكر أو ثقافة أو حتى عادات في المأكل والملبس والجد واللعب، بل وما كان لهم من تاريخ وما مارسوه من تجارب، وسائر ما ألفوا من جوانب الحياة، هو الأمر الطبيعي، وأن ما خالفه هو الشذود الذي يحتاج إلى تفسير؛ فقد اجتهد بعضهم في أن يجد تفسيراً لهذه (الظاهرة). فكان مما سلُّوا به أنفسهم أنها نتيجة لظروف طارئة هي الحكم القهري والتخلف الاقتصادي والضعف العسكري الذي ابتليت به البلاد التي ظهرت فيها هذه الحركات ولا سيما العالم العربي، وأن علاجها لذلك هو الضغط على تلك الحكومات لتكون أكثر انفتاحاً وديمقراطية، ومساعدتهم على شيء من النمو الاقتصادي يحسن من أوضاع الشباب المتذمرين؛ فإذا ما حدثت هذه الإصلاحات، وزالت الأوضاع القديمة زالت بزوالها نتائجها التي من أهمها ظاهرة الإسلام السياسي.
ونقول إن ما ذكروه من أسباب ربما كان فعلاً من عوامل تشجيع ما يسمونه بظاهرة الإسلام السياسي، لكن مما لا شك فيه أنه ليس منشأها. فكل من له أدنى معرفة بدين المسلمين وتاريخهم يعلم أن قضية الالتزام بما أنزل الله في شؤون السياسة والحكم هي أمر عريق فيه: في نصوص كتابه، وسنة نبيه، وأقوال علمائه. وأن تصديق ذلك في واقعه التاريخي الذي لم يعرف شيئاً اسمه الحكم العلماني، وأن هذا الحكم إنما فرض عليه من خارجه يوم استولت جيوش الغرب على بلاده. وحتى هذه العلمانية الدخيلة لم تبلغ مبلغ علمانيتهم في مدى بُعدها عن الدين، حتى إن الكثيرين منهم لينفون أن تكون حكومة من حكومات العالم الإسلامي علمانية، ويرون أنه من الخطأ لذلك أن توضع الإسلامية (بمعنى النشاط السياسي للحركات الإسلامية) في مقابل العلمانية .
وإذن فالقول بأنها مجرد استغلال للدين لتحقيق أهداف سياسية ليس بصحيح أيضاً: أولاً: لأن من أعظم من دعا إلى الحكم بما أنزل الله وبيَّن أنه جزءٌ لا يتجزأ عن دين الإسلام علماء أعلام لم تكن لهم أطماع سياسية، ولا كانت لهم في يوم من الأيام علاقة بالأحزاب الإسلامية السياسية؛ علماء من أمثال: الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ عبد العزيز بن باز.
هل استغل بعض الأفراد وبعض الجماعات الدينَ لتحقيق أهداف دنيوية سياسية أو غير سياسية؟ نعم! وقد ظل كثير منهم يفعل ذلك على مر التاريخ، ومع كل رسالات السماء. ولا أعرف كتاباً تطرَّق لهذه المشكلة وبيَّن أسبابها وأنواع مرتكبيها ونتائجها وحذر منها مثل كتاب الله تعالى. فعلى الذين يتحدثون عن هذه المشكلة أن يعلموا أنهم لم يأتوا بجديد. إن هؤلاء يدعوننا لأن نترك ديننا؛ لأن بعض الناس استغله لأسباب سياسية. ولو تابعنا منطقهم هذا لتركنا بناء المساجد؛ لأن بعض المنافقين استغل بناءها لأسباب سياسية، فاتخذها: {ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ } [التوبة: 107].
وكانوا مع ذلك يحلفون بأنهم ما أرادوا إلا الحسنى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ الْحُسْنَى} [التوبة: 107].(62/84)
ولو أتبعناه لتركنا الإنفاق في سبيل الله؛ لأن بعض الناس يتخذ ما ينفق مغرماً (أي غرامة) ويتربص بنا الدوائر، ولقررنا أن لا يكون لنا علماء؛ لأن بعض علماء السوء يستغل علمه لأغراض دنيوية: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 98 - 100].
وكما أن بعض الناس يستغل الدين لتحقيق أهداف سياسية فيكون انحرافه بسبب سوء قصده، فإن آخرين ينحرفون بسبب سوء فهمهم وقلة علمهم، فيحاولون تحقيق بعض الأهداف السياسية بوسائل وطرق مخالفة لدين الله وتحريفاً له وفتنة للناس عنه؛ فهل نترك العمل السياسي على أساس ديني؛ لأن بعض الناس يسيء فهم الدين؟
يقول بعض الغربيين: (لكن المشكلة أن كل إنسان يمكن أن يدَّعي أن فهمه هو الفهم الصحيح للتوراة أو الإنجيل أو القرآن، بل يزعم بعضهم أنه [يعني القرآن] كالكتاب المقدس: العهد القديم والعهد الجديد ـ بإمكانك أن تجد فيه أياً ما تريد لتسوّغ به كل ما تريد تقريباً) ، نقول فرق بين أن يدّعي مدّع أن ما استدل به من قول يدل على ما يريد وأن يكون دالاً فعلاً على ما يريد. أما القرآن فنحن نعلم أنه ـ وهو كتاب الله ـ لا يمكن أن يدل على الشيء ونقيضه {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
يقول بعضهم: «إذا سلَّمنا بهذا فتبقى مشكلة هي أن النص بحسب معناه الذي تدل عليه ألفاظه ويدل عليه سياقه لا يتناسب مع ثقافة العصر؛ فلا بد إذن من تأويله لجعله مناسباً معها. لكن أليست هذه دعوة إلى خداع النفس؟ أنت تقرأ نصاً تقول: إنه كلام الله، وتفهمه على وجهه الصحيح، ثم تقول: إن هذا الذي فهمته لا يتناسب مع ما أريد، لذلك يجب أن أغيِّره لكي أجعله مناسباً مع ما أهوى، ثم تقول: إن هذا الذي هويت هو ما عناه الله ـ تعالى ـ بكلامه. هل يقول هذا إنسان مؤمن؟ بل هل يقول هذا إنسان أمين يحترم نفسه؟ إنك إما أن تعتقد أن ما يقوله الله هو الحق كما قاله، وإما أن تعتقد أنه ليس بالحق أو ليس بالعدل، فتقول: إنه لا يمكن أن يكون كلام الله، فتكفر بالكتاب الذي كنت تظن أنه كلام الله. أما أن تجمع بين الفهم الصحيح والتحريف فلا. وهذا الأمر المنكر خُلُقاً وديناً هو الذي حذرنا الله ـ تعالى ـ من الاطمئنان إلى ممارسيه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75].
تأمل قوله ـ تعالى ـ: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي إنهم فهموا ما قال الله ـ تعالى ـ وتصوروه على وجهه الصحيح، ثم عمدوا إلى تحريفه وهم يعلمون أنهم محرفون له.
ثم نقول: إن الدين الحق إنما جاء لنفع الناس في دنياهم وآخرتهم، فلا يمكن أن يكون فيه ما يمنع من الأخذ بشيء هو من ضرورات العصر، أما أهواء العصر وما يشيع فيه من قيم وأفكار وعادات وتقاليد فإن الدين لم يأت لموافقتها، بل جاء لإقرار ما فيها من حق وإنكار ما فيها من باطل؛ فالمعيار هو كلام الله لا أهواء البشر.
ثم إن كثيراً مما يسمى بثقافة العصر مما يخالف الدين الحق ليس هو في حقيقته بالأمر الجديد الذي يقال إنه مما امتاز به عصرنا، وإنما هو الثقافة التي اتسمت بها الجاهلية على مر العصور. خذ مثلاً استبشاعهم للحدود ـ ولا سيما حد الزنا ـ ودعوتهم إلى تغييره. هذا الحد موجود في التوراة، لكن اليهود غيروه حتى قبل مجيء النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكان الذي دعاهم إلى ذلك هو فُشُوُّ الزنا بينهم ولا سيما في أشرافهم. وهذا هو عين السبب الذي يدعو الغربيين وأمثالهم إلى استبشاع هذا الحد. إن الناس إذا فشت فيهم الفاحشة واعتادوها مات فيهم الشعور بأنها فاحشة، ودعك أن تكون جريمة تستحق هذه العقاب الأليم! ) . ( مجلة البيان ، العدد 202 ) .
تنبيه : مما يؤخذ على كثير من الإسلاميين الذين اهتموا بالجانب السياسي في الإسلام - رغم جهودهم المشكورة - أنهم في المقابل هونوا أو قل اهتمامهم بالجانب العقدي والتربوي فيه ؛ فغلبت السياسة عليهم حتى أنستهم مهمة الدعاة الأولى ؛ وهي الدعوة إلى دين الله كما أنزل على صلى الله عليه وسلم ؛ دون تحريف أو زيادة . وإنكار ما يخالفه من الشركيات والبدع .(62/85)
بل - للأسف - وصل الحال ببعض المنخرطين في الهم السياسي من أبناء الإسلام أن رق دينهم ، وكثرت تنازلاتهم ومداهناتهم للآخرين ؛ حتى كادوا يستوون في أمرهم مع العلمانيين وغيرهم من المخالفين .
فلابد لعقلاء الأمة وذوي الرأي فيها أن يتنبهوا لهذا الأمر الخطير . ويعطوا كل مقام حقه ؛ دون إفراط أو تفريط . والله الموفق .
=============(62/86)
(62/87)
الإسلام والآخر الحوار هو الحل
بقلم
حمدى شفيق
رئيس تحرير جريدة النور الإسلامية المصرية
بسم الله الرحمن الرحيم
]يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا
إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير[ صدق الله العظيم (الحجرات : 13)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وبعد ..
فإن علاقة المسلمين بالآخر هى من أهم الموضوعات المطروحة الآن على الساحة ، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م فى الولايات المتحدة الأمريكية ، وما تلاها من احتلال القوات الأمريكية لأفغانستان ثم العراق ، وكذلك استمرار المذابح المروعة التى يرتكبها الاحتلال الصهيونى فى فلسطين ، وتعرض المسلمين للمظالم والفتك والتشريد فىكشمير والشيشان وغيرهما ..
ويُثار الكثير من الأسئلة فى ظل الحملات الإعلامية المسعورة ضدنا فى وسائل الإعلام الغربية : ما هو مضمون علاقة المسلم بالآخر ؟ أهو الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى ، أم هو الصراع والتربص والقتال الضارى حتى يهلك الأعجل من الفريقين ؟! وماذا يقول التاريخ عنا وعنهم ؟ وما هو وضع الأقليات الإسلامية فى الخارج فى ظل هذه الظروف ؟ وما هى الأحكام المنظمة لأوضاع غير المسلمين فى المجتمعات الإسلامية ؟ وما هى الوسائل التى يمكن من خلالها أن يسمع الآخر صوت الإسلام والمسلمين لعله يتذكر أو يخشى ؟ .
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها يأتى هذا الكتاب ، وهو جهد متواضع نسأل الله أن يتقبله بكرمه وجوده وإحسانه ، وأن يغفر لنا ما كان من زلل أو تقصير، إنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير .
حمدى شفيق
الفصل الأول
نظرية صراع الحضارات
لم يكن صمويل هنتنجتون هو أول من زعم وجود صراع بين الحضارات، فالحملة على الإسلام والمسلمين تعود إلى قرون ، بل بدأت مع ظهور الدعوة الإسلامية المباركة منذ 14 قرناً من الزمان .. وتبلورت أكثر فى أوقات الحروب الصليبية وحملة الإبادة الجماعية لمسلمى الأندلس ، ثم رسخت جذور العنصرية الغربية أكثر فى حقبة الاستعمار الأوروبى لمعظم بلاد العالم الإسلامى .. ثم وجد الغرب نفسه بحاجة إلى ملء الفراغ الذى سببه انهيار الشيوعية وزوال خطرها باختلاق خطر آخر ؛ لأنه من الصعب بعث الحياة فى فكرة أوروبا الموحدة إن لم يكن هناك خطر خارجى .. وبطبيعة الحال تستثمر الدوائر الصهيونية فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مثل هذه الأوضاع لسكب مزيد من البنزين على نار التعصب ضد العرب والمسلمين ، والإلحاح باستمرار وعبر وسائل الإعلام الخاضعة لنفوذهم على مقولة صراع الحضارات .. وتجدر الإشارة هنا إلى أن صمويل هنتنجتون صاحب النظرية الأشهر بهذا الصدد يهودى الديانة ، فضلاً عن علاقاته الوثيقة بدوائر المخابرات الأمريكية ، ولهذا دلالته التى لا تخفى على أحد .. كما أنه نقل النظرية عن أستاذه برنارد لويس وهو يهودى أيضًا ..
وقد سبق هنتنجتون فى حكاية الصراع هذه الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون الذى أكد صراحة فى كتابه (الفرصة السانحة) أو (انتهزوا الفرصة) أن العالم الإسلامى هو العدو المستقبلى للغرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتى .. وكرر ذات المقولة أمين عام سابق لحلف شمال الأطلنطى .. ثم تلاه فرانسيس فوكوياما الأمريكى من أصل يابانى الذى تحدث عن قرب نهاية التاريخ وانتصار الحضارة الغربية على العالم الإسلامى .. وهناك أيضًا الحملات المسعورة التي يقودها كبار المنصرين أمثال جراهام بل وبات روبرتسون وجيمى سواجارات ، والتى تلح على ضرورة ضرب الإسلام تمهيدًا لحرب (هرمجدون) المزعومة التى يقود فيها السيد المسيح اليهود والنصارى للقضاء على المسلمين والوثنيين ، ولهذا .. لابد - من وجهة نظر هؤلاء - من دعم إسرائيل واستمرارها، لأن قيامها وبقاءها شرطان لازمان لوقوع (هرمجدون) المزعومة !!(62/88)
و (هرمجدون) كلمة عبرية تعنى إما : تل مجيدون شمال فلسطين وهو موجود هناك ويعرفه الأهالى باسم: تل المجيدية، أو أن معناها جبل مجيدو وهو موجود بفلسطين أيضاً . وأهم كتاب دينى أمريكى يكشف خلفية الأمريكان المؤمنين بحكاية هرمجدون هذه فى حربهم المقبلة مع المسلمين وعقيدتهم الشيطانية هو كتاب (Fo r cing of God's Hand) - ترجمة حسام تمام - وهو أهم ما صدر فى الشأن الدينى الأمريكي فى العام الماضي . وربما كان من أهم الكتب التى عالجت باقتدار قضية التوظيف السياسي - الذى يصل إلى حد الابتزاز - للنبوءات الدينية فى العقد الأخير من القرن العشرين. والمؤلفة هى الكاتبة الأمريكية المعروفة جريس هالسل التى عملت محررة لخطابات الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون جونسون، وهى صحفية مشهورة ومرموقة صدرت لها عدة كتب، أهمها وأكثرها شهرة (النبوءة والسياسة) .. والكتاب عبارة عن إجابات عن أسئلة جمعتها المؤلفة من سلسلة مقابلات شخصية مع مسئولين من مراجع كنسية أمريكية مختلفة ، وتتصدى فيه جريس هالسل - ربما لأول مرة - لظاهرة المنصرين التوراتيين التلفزيونيين، الذين يمثلون اليمين المسيحي المتطرف فى الولايات المتحدة الأمريكية، والذى يعرف إعلاميا بـ (الصهيونية المسيحية). وهى الظاهرة التى تجسد أغرب وأسوأ أشكال الدجل السياسي الدينى فى العقد الأخير، ربما على مستوى العالم كله، والتى صنعها عدد من المنصرين التوراتيين الذين احترفوا تقديم برامج تليفزيونية عن النبوءات التوراتية التى تبشر بقرب نزول المسيح المخلص ونهاية العالم فيما يعرف بمعركة (الهرمجدون)، واستطاعوا من خلال نشاطهم - الذى يعد أكبر وأهم حركة تنصير فى تاريخ المسيحية - إقامة ما يعرف بـ (حزام التوراة)، والذى يتكون من مجموعة ولايات الجنوب والوسط الأمريكي، والتى تكونت فيها قطاعات واسعة من المسيحيين المتشددين دينياً والمؤمنين بنبوءة (الهرمجدون)، أو نهاية العالم الوشيكة والمرتبطة بنزول المسيح المخلص من الشر والخطيئة. ويعتمد خطاب المنصرين التوراتيين على رؤية سهلة للحياة، مفادها أن العالم أصبح تملؤه الشرور والخطايا، وهو ما سيعجل بظهور (المسيح الدجال) وجيوش الشر . ولن يصبح هناك حل لإنقاذ البشرية والخلاص من الشرور إلا عودة المسيح المخلص لانتزاع المسيحيين المؤمنين من هذا العالم الملئ بالخطيئة والشر، وهذا الخلاص - عندهم - رهين بعودة المسيح فقط . أما المطلوب عمله من هؤلاء المؤمنين فهو السعى لتحقيق هذه النبوءة أو الإسراع بإجبار يد الله على تحقيق (النبوءة)!. وتحقق النبوءة عندهم رهن بقيام إسرائيل الكبرى وتجميع كل يهود العالم بها، ومن ثم فلابد من تقديم وحشد كل التأييد المادى والمعنوى، المطلق وغير المحدود أو المشروط للكيان الصهيوني؛ لأن ذلك هو شرط نزول المسيح المخلص .
والطريف أن هذا التأييد لا يعنى الإيمان باليهود أو حتى مبادلتهم مشاعر الحب أو التعاطف معهم، لأن هؤلاء التوراتيين يعتقدون أن المسيح المخلص سيقضى على كل اليهود أتباع المسيح الدجال الذين سيرفضون الإيمان به، أى أنهم يدعمون الكيان الصهيونى باعتباره وسيلة تحقق النبوءة فقط . هذه العقيدة تلقفها كبار القادة اليهود فى أمريكا والكيان الصهيونى، وخاصة من اليمين الديني المتطرف الذى يسيطر على مجريات ومقاليد اللعبة السياسية، واستغلوها جيداً للحصول على كافة أشكال الدعم والتأييد . وهم لا يعنيهم محبة اليمين المسيحي المتطرف فى أمريكا أو إيمانه بهم بقدر ما يعنيهم ما يدره عليهم الإيمان بهذه النبوءة من أموال ودعم سياسي واقتصادي غير محدود. فبفضلها تتدفق الرحلات السياحية الأمريكية على الكيان الصهيوني، وتنظم مظاهرات التأييد وحملات جمع التبرعات، وتسخر الإدارة والسياسة الأمريكية لخدمة المصالح الصهيونية، خاصة مع تزايد إيمان الشعب الأمريكي بهذه النبوءة والاعتقاد بها، حتى أن استطلاعا أجرته مجلة (تايم) الأمريكية سنة 1998 أكد أن 51% من الشعب الأمريكي يؤمن بهذه النبوءة ، ومن هؤلاء عدد كبير من أعضاء النخبة الحاكمة فى الولايات المتحدة، بعضهم وزراء وأعضاء فى الكونجرس وحكام ولايات . بل ويؤكد الكتاب أن جورج بوش، وجيمي كارتر، ورونالد ريجان كانوا من المؤمنين بهذه النبوءة ، والأخير كان يتخذ معظم قراراته السياسية أثناء توليه الرئاسة الأمريكية على أساس النبوءات التوراتية .(62/89)
وتكشف جريس هالسل فى كتابها عن أن هناك اقتصاديات ضخمة تقوم على هذه النبوءة التى تدر مليارات الدولارات سنوياً على نجوم التنصير التوراتي، الذين يمتلكون عشرات المحطات التلفزيونية والإذاعية فى أمريكا وأنحاء العالم، وأبرزهم بات روبرتسون الذى يطلق عليه لقب (الرجل الأخطر فى أمريكا).. فقد أسس وحده شبكة البث المسيحية (CBN)، وشبكة المحطة العائلية إحدى كبريات الشبكات الأمريكية، كما أسس التحالف المسيحي الذى يعد الأوسع نفوذاً وتأثيراً فى الانتخابات الأمريكية بفضل ملايين الدولارات التى يحصل عليها كتبرعات من أتباعه ومشاهدى نبوءاته التلفزيونية، وكذلك بات بيوكاتن الذى كان مرشحاً لانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة عن حزب الإصلاح .
وتعد برامج هؤلاء المنصرين التوراتيين من أمثال هالويل، وجيري فالويل، وتشارلز تايلور، وبول كرواسي ، وتشال سميث ، وروبرتسون ، وبيوكاتن ، من أكثر البرامج جماهيرية فى الولايات المتحدة كما تشهد أشرطة الفيديو والكاسيت التى تحمل هذه البرامج رواجاً هائلاً فى أوساط الطبقة المتوسطة الأمريكية (ومعظم المؤمنين بهذه النبوءة منها وهم بالملايين)، وكذلك الكتب الخاصة بها والتى صارت تباع كالخبز؛ حتى أن كتاب (الكرة الأرضية العظيمة المأسوف عليها) للمنصر التوراتى هول ليفدسى بيعت منه أكثر من 25 مليون نسخة بعد أيام من طرحه فى الأسواق. وينتشر المنصرون التوراتيون فى معظم أنحاء الولايات المتحدة فى عدة آلاف من الكنائس التى يعملون فى كهانتها، عبر مؤسسة الزمالة الدولية لكنائس الكتاب المقدس. ويؤمن أتباع هذه النبوءة بأنهم شعب نهاية الزمن، وأنهم يعيشون اللحظة التى كتب عليهم فيها تدمير الإنسانية، ويؤكدون قرب نهاية العالم بمعركة الهرمجدون التى بشرت بها التوراة، والتى سيسبقها اندلاع حرب نووية تذهب بأرواح أكثر من 3 مليارات إنسان! وتبدأ شرارتها من جبل الهرمجدون الذى يبعد مسافة 55 ميلاً عن تل أبيب بمسافة 15 ميلاً من شاطئ البحر المتوسط، وهو المكان الذى أخذ أكبر حيز من اهتمام المسيحيين بعد الجنة والنار!.
وتحلل جريس هالسل كيف أفرزت هذه الحركة المسيحية أكثر من ألف ومائتى حركة دينية متطرفة، يؤمن أعضاؤها بنبوءة نهاية العالم الوشيكة فى الهرمجدون، وترصد سلوك وأفكار هذه الحركات الغريبة التى دفعت ببعضها الى القيام بانتحارات جماعية من أجل التعجيل بعودة المسيح المخلص وقيام القيامة، ومنها جماعة (كوكلوكس كلان) العنصرية، والنازيون الجدد وحليقو الرؤوس، وجماعة (دان كورش) الشهيرة والتى قاد فيها (كورش) أتباعه لانتحار جماعى قبل عدة سنوات بمدينة (أكوا) بولاية تكساس من أجل الإسراع بنهاية العالم، وكذلك القس (جونز) الذى قاد انتحاراً جماعياً لأتباعه أيضاً فى (جواينا) لنفس السبب، وقد كان (ماك تيموثى) الذى دبر انفجار (أوكلاهوما) الشهير من المنتمين لهذه الجماعات .
ويكشف الكتاب عن العلاقة العنصرية الغريبة التى تربط بين اليمين المسيحي المتطرف فى أمريكا ونظيره اليهودى فى الكيان الصهيونى ، على الرغم من التناقض العقائدى بينهما. العلاقة التى تقوم على استمرار الدعم والتأييد المطلق رغم الكراهية المتبادلة! فتؤكد هالسل أن اللاسامية نوعان: نوع يكره اليهود ويريد التخلص منهم وإبعادهم بكل الوسائل، ونوع آخر يكرههم، ولكن يريد تجميعهم فى فلسطين مهبط المسيح فى مجيئه الثانى المنتظر.
وتشرح هالسل كيف يستفيد الكيان الصهيونى من هذه النبوءة التى تمنع المسيحي الأمريكي المؤمن بها من التعامل الراشد مع الواقع، وتجبره على رؤية الواقع والمستقبل فى إطار محدد ومعروف سلفاً، وهو ما يؤدى إلى الوقوع فى انتهاكات أخلاقية فاضحة تأتى من تأييد المشروع الصهيوني العنصرى الذى يقوم على الاستيطان، وتهجير الآخرين، وطردهم من أرضهم، والاستيلاء عليها، بل والقيام بمذابح جماعية ضدهم، وهو ما يظهر فى التعاطف الذى يبديه المسيحيون التوراتيون مع السفاحين اليهود إلى حد المشاركة فى المجازر التى يرتكبونها ضد الفلسطينيين، كما فعل بات روبرتسون الذى شارك فى غزو لبنان مع إريل شارون والمذابح الوحشية التى ارتكبها وشارك معه متطوعون من المسيحيين التوراتيين الذين حاربوا مع الجيش الصهيوني، وهى المعلومات التى حرصت هالسل على ذكرها رغم الحظر المفروض عليها إعلامياً فى الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. كما تكشف هالسل عن أن معظم المحاولات التى جرت لحرق المسجد الأقصى أو هدمه وبقية المقدسات الإسلامية فى القدس من أجل إقامة الهيكل موَّلها وخطط لها مسيحيون توراتيون من المؤمنين بنبوءة الهرمجدون وإن لم يشاركوا فيها !!. وفى فكر المنصرين التوراتيين تغيب كل معانى المحبة والتسامح المقترنة بالمسيحية، ويبدو المسيح فى أحاديثهم فى صورة جنرال بخمسة نجوم يمتطي جواداً، ويقود جيوش العالم كلها، مسلحاً برؤوس نووية ليقتل مليارات البشر فى معركة الهرمجدون(1) .(62/90)
ولا ننسى تصريحات العجوز الشمطاء مارجريت ثاتشر رئيس وزراء انجلترا الأسبق - فى عدة مناسبات - المعادية للإسلام والمسلمين ، وأيضًا بيرلسكونى رئيس وزراء إيطاليا حليف عصابات المافيا الدولية ، رغم اضطراره إلى الاعتذار عنها فيما بعد ، ثم السقطة المدوية للرئيس الأمريكى جورج بوش الابن الذى وصف حربه العدوانية ضد العراق بأنها (حملة صليبية) جديدة !! ولا يجدى طبعًا فى محو أثر هذه العبارة بالغة الخطورة ، الادعاء بأنها كانت (زلة لسان) ، أو قيام بوش بعد ذلك بزيارة المركز الإسلامى فى واشنطن لتهدئة مشاعر المسلمين ، لأن بوش من أتباع الكنيسة المتطرفة التى تؤمن كما أشرنا بضرورة قيام ودعم دولة إسرائيل تمهيدًا لمعركة (هرمجدون) المزعومة لسحق المسلمين والوثنيين وبدء الألف عام السعيدة لهم على الأرض بعد تخلصهم من غير المسيحيين !!! طبعًا لو قلنا نحن هذا لقامت الدنيا ولم تقعد احتجاجًا على وحشية المسلمين وأفكارهم التصفوية التى تعمل على إبادة الآخرين واستئصالهم ، ولكن لأن هذه هى نظرية كثير من السادة الأمريكان فلا وجود لأية ردود أفعال تذكر!!!
ولأن نظرية هنتنجتون هى الأشهر فسوف نعرضها فيما يلى بإيجاز ثم يأتى الرد عليها تفصيليًا :
تحدث صمويل هنتنجتون عن صراع الحضارات لأول مرة فى مقال نشره عام 1993 فى مجلة (فورن أفيرز) ثم فى كتاب كامل وقال : إنه بعد انتهاء الحرب الباردة سوف تسيطر الصراعات بين الحضارات . وأن (الإسلام تحيط به حدود دموية ، ويبدو أن ما يحدث فى تيمور الشرقية والشيشان وكوسوفا والعراق وكشمير يؤكد هذه الملاحظة . وسواء اعتقد المرء ذلك أم لم يعتقد فإن اللوم يقع على الإسلام !!
وفى عام 1996 قدم هنتنجتون وجهة نظره فى كتاب بعنوان : (صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمى) وصفه هنرى كيسنجر بأنه يقدم إطارًا جريئاً لفهم السياسات العالمية فى القرن الحادى والعشرين ، وقال كيسنجر : إن تحليلات هنتنجتون تثبت صحتها ودقتها إلى درجة تنذر بالخطر . وتتلخص نظريته فى أن الحضارات الرئيسية المعاصرة هي الحضارات الصينية، واليابانية ، والهندوسية ، والإسلامية ، والأرثوذكسية ، والغربية (أوروبا وأمريكا) وحضارة أمريكا اللاتينية . والحضارات الأربع الكبرى فى العالم هى الحضارات الصينية ، والهندوسية ، والإسلامية ، والحضارة الغربية ، وكل من هذه الحضارات تضم حوالى مليار نسمة ، وكل حضارة منها لها دين مؤسس لها تشكلت وتبلورت حوله ، وهذه الديانات هى: الإسلام، والمسيحية، والكونفوشية ، والهندوسية ، وتعتبر كل من الصين والهند قلبًا أو محورًا لحضارة كل منهما ، أما الغرب فينظر إليه على أنه منقسم إلى محورين رئيسيين هما : الولايات المتحدة وأوروبا . وبالنسبة للإسلام فليست هناك دولة تمثل قلب أو محور حضارته ، وهذا ما يجعل من الصعوبة فهم الإسلام وحضارته بالنسبة لمن هم خارج هذه الحضارة ، ويقول هنتنجتون أيضًا : إن صراع الإسلام والغرب يثير مشكلات ضخمة للعالم بطريقة أو بأخرى .
إن الغرب يطالب بسيطرة فريدة على العالم ، والمبرر لذلك أنه يمثل القوة العالمية القائمة على أساسين هما : تفوق التكنولوجيا الأمريكية ، وتفوق الأيديولوجية العالمية القائمة علىالليبرالية وحقوق الإنسان . وتنظر الحضارات الأخرى إلى الغرب على أنه يمتلك قوة عسكرية واقتصادية خطيرة ، ولكنه منهار من الناحية الاجتماعية . ويتمثل هذا الانهيار الاجتماعى فى التفكك الأسرى ، وعدم التمسك بالمعتقدات الدينية , وانتشار الجريمة ، والمخدرات ، وارتفاع نسبة المسنين , وانتشار البطالة.. أما الغرب فإنه ينظر إلى نفسه على أنه نموذج لحضارة القرن الحادى والعشرين ، وتنظر إليه الحضارات الأخرى على أنه نموذج سيىء يحسن تجنبه وليس محاكاته .(62/91)
ويضيف هنتنجتون : إن الغرب يسيطر على العالم الآن سيطرة كاملة، وسيظل مسيطرًا ومتفوقًا فى القوة خلال القرن الحادى والعشرين ، إلا أن التغييرات التدريجية والحتمية الأساسية تؤثر أيضًا على توازن القوى بين الحضارات، وستأخذ قوة الغرب فى الاضمحلال . فخلال خمسة وسبعين عامًا من 1920 حتى 1995 تراجعت السيطرة السياسية للغرب على المناطق العالمية بنسبة 50% , وتراجعت نسبة من يسيطر عليهم الغرب من سكان العالم 80%، وتراجعت سيطرة الغرب على الصناعة العالمية بنسبة 35% ، أما سيطرة الغرب على القوة العسكرية فقد تراجعت بنسبة 60% . وفى العالم 45 دولة مستقلة تنضوى تحت راية الإسلام ، وهو أقوى الديانات العالمية من حيث سيطرته الثقافية على المؤمنين به ، كما أنه دين له ميزة اقتصادية كبرى ، هى أنه يسيطر على معظم احتياطى البترول العالمى ، ولن ينضب هذا البترول إلا بعد سنوات طويلة جدًا , ولايزال الإسلام يمر بمرحلة النمو السكانى السريع ، ومن المتوقع أن يشكل المسلمون 30% من سكان العالم فى عام 2025 ، وقد تسببت الهجرة من الدول الإسلامية إلى دول أوروبا فى ردود فعل شديدة فى أوروبا ، حتى إن نصف عدد الأطفال فى بروكسل - مقر الاتحاد الأوروبى - يولدون من أمهات عربيات ، ويشكل الشباب المسلم الساخط العاطل عن العمل تهديدًا لأوطانهم الأصلية ولدول الغرب التى هاجروا إليها .. أما الصحوة الإسلاميةلاملام الجديدة فقد منحت المسلمين الثقة فى شخصيتهم المميزة ، وفى الإحساس بأهمية حضارتهم ، وفى القيم الإسلامية بالمقارنة بالقيم والحضارة الغربية فى العالم ، ويقول أيضًا : إن الخطر يكمن فى التفاعل بين هذه الصحوة والثقة الإسلامية التى تدعمها الزيادة السكانية المستمرة وبين مخاوف الحضارات المجاورة ، وهذه الحضارات المجاورة لحضارة الإسلام لديها شعور كامل بالخوف من التهديد الإسلامى .. الغرب قلق بسبب البترول وهواجس الانتشار النووى فى الدول الإسلامية , والهجرة من الدول الإسلامية، كما يشعر الغرب بالقلق على إسرائيل ، والانتقاص من حقوق الإنسان فى الدول الإسلامية . وكذلك فإن روسيا تشعر بالتهديد الإسلامى بصورة مباشرة ، ويتمثل فى انفصال الدول الإسلامية والمطالبة المسلحة للشيشان بالاستقلال ، وكذلك يخشى الصرب من قيام (ألبانيا العظمى) . وتخشى الهند من باكستان ، ومن جاذبية الإسلام لنحو مائتى مليون مسلم فى الهند واحتمال انسلاخهم منها، والصين أيضًا تشعر بالقلق تجاه المسلمين فى آسيا الوسطى ومن مطالبة المسلمين فى إقليم سنكيانج الصينى بالانفصال ، والصينيين فى أندونيسيا ، بل إن سكان أفريقيا جنوب الصحراء من غير المسلمين لديهم مخاوف أيضًا تجاه الإسلام .
أما عن مستقبل العلاقة بين الحضارات الأربع : الحضارة الغربية وحضارة الصين وحضارة الهند والحضارة الإسلامية ، فإن هنتنجتون يرى أن الصراع بينها حتمى ، ويرى أن الإسلام يمثل مشكلة ليس لها حل ، وليس أمام الغرب إلا أن يظهر تفهمًا أكبر للصحوة الإسلامية ، لأن هذه الصحوة سوف تتطور فى المستقبل أكثر مما هى عليه الآن ، وعلى الغرب أن يغير ردود فعله تجاه هذه الصحوة الإسلامية ، لأن موقف العجرفة والشعور بالتفوق الثقافى ومشاعر العداء الصريحة من جانب الغرب تجاه الإسلام هى أسوأ ردود فعل ممكنة , وإن كان هنتنجتون يصل أخيرًا إلى التنبؤ بأن الدول المجاورة للإسلام ستفعل كما حدث فى صربيا وتتصدى للصحوة الإسلامية , وكما كان الخوف من الألبان المسلمين هو الذى أتى بميلوسيفيتش عام 1987 إلى السلطة على أمل أن يقضى بالمذابح على المسلمين ، ولكن لن يجد العالم الأمر سهلاً حين يسعى إلى تحجيم (الحدود الدموية) للإسلام وعدم اتساعها .
وهكذا فإن الخوف من الإسلام واعتباره هو (العدو) للحضارة الغربية وللحضارات الأخرى أصبح قائمًا على أساس نظرية متكاملة ، لها جذور تاريخية قديمة ، اكتملت وتبلورت على يد صمويل هنتنجتون أستاذ الدراسات الدولية فى جامعة هارفارد .. النظرية إذن نظرية أمريكية .. وهى فى حقيقتها ليست إلا تبريرًا فلسفيًا للحرب ضد الإسلام .. وقد ينكر بعض الأمريكيين أنهم يعتقدون صحة هذه النظرية .. ولكن ما تفعله أمريكا ليس إلا التطبيق العملى لها ، فالمفهوم الغربى فى هذا القرن - كما عبّر عنه هنتنجتون ، وكما نرى فى كتابات المفكرين والمحللين وتصريحات السياسيين ، ومواقف الدول الغربية ، وكما نرى على أرض الواقع - هو حوار بالصواريخ والطائرات والقنابل الذكية وآلة الحرب الهائلة التى تتحرك لتدمير دول إسلامية .
والدليل على نظرية هنتنجتون عن حتمية الصراع بين الإسلام والحضارة الغربية ما نراه فى مناهج تدريس التاريخ للتلاميذ فى أمريكا والدول الغربية من تصوير المسلمين وفقًا لأنماط ذهنية ثابتة ste r eotypes فى الوعى الأمريكى والأوروبى ، تعكس التحيز وفقدان الموضوعية عند الحديث عن الإسلام والمسلمين .(62/92)
وفى دراسة للدكتورة فوزية العشماوى للكتب المدرسية فى المناهج الأمريكية والأوروبية أكدت أن ما يدرسه التلاميذ عن الإسلام والعالم الإسلامى لا يزيد عن 3% من المقرر الدراسى ، و 97% من المقرر مخصصة لتاريخ أوروبا وأمريكا , وفى الغالب يكون الجزء المخصص للعالم الإسلامى فى إطار بلاد العالم الثالث سواء من الناحية الجغرافية أم التاريخية ، أم فى إطار توزيع الثروات الطبيعية فى العالم وخاصة البترول ، بينما تجعل المناهج من أوروبا وأمريكا المحور الذى تدور حوله الأحداث التاريخية المهمة ، وكأن الدول الإسلامية هوامش أو زوائد . ويتبين ذلك من إغفال الأحداث التاريخية المهمة التى تعتبر علامات ثابتة فى التاريخ العربى والإسلامى ، ويتم التركيز فقط على الأحداث التى تبرز تفوق الغرب وانتصاره على المسلمين ، مما يؤكد حرص واضعى المناهج الدراسية على غرس الاتجاه لرفض (الآخر) العربى والمسلم ، على أساس أنه مختلف عن الإنسان الغربى ، وعدم تفهم دوره فى التاريخ وقيمة هذا الدور . وتشير الدكتورة فوزية العشماوى إلى دراسة قامت بها تحت إشراف اليونسكو عن صورة المسلم فى الكتب المدرسية فى فرنسا وأسبانيا واليونان وخاصة كتب التاريخ فى نهاية المرحلة الابتدائية ، وكانت نتيجة البحث أن التاريخ الذى يتم تدريسه للتلاميذ الأوروبيين الصغار يعلمهم أشياء مختلفة تمامًا عما يتم تدريسه للتلاميذ العرب والمسلمين ، وتقدم للتلاميذ الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم بمعلومات تجرح شعور المسلمين ، فتجد نبى الإسلام r يتم تقديمه أحيانًا على أنه شاعر يرى رؤى خارقة ، ويشار إليه بألفاظ توحى بالشك فى مصداقيته ، وفى أغلب الأحيان يبدأ تدريس الإسلام بذكر الانتشار السريع المخيف للإسلام بالغزوات فى صدر الإسلام ثم بالفتوحات فى القرنين السابع والثامن الميلاديين ، وكيف أن جيوش المسلمين زحفت إلى أوروبا واكتسحت تلك البلاد واستولت عليها بقوة السيف، ونهبت أموالهم وثرواتهم إلى أن تمت هزيمة المسلمين على يد (شارل مارتال) القائد الفرنسى الذى أوقف الغزو الإسلامى فى معركة (بواتييه) فى جنوب فرنسا عام 732 ميلادية .
كذلك يتم تصوير العرب فى حروبهم على أنهم يتعاملون بوحشية ، وتؤدى هذه الكتابات إلى أن تثبت فى أذهان الغربيين صورة المسلمين على أنهم الغزاة المتوحشون الذين يثيرون الرعب ، ويمثلون تهديدًا لجيرانهم . وفى الفصل الخاص بالحروب الصليبية تصور المناهج هذه الحروب على أنها كانت بهدف (تحرير بيت المقدس من أيدى الكفار) المسلمين الذين كانوا يحتلونها ويسيئون معاملة الحجاج المسيحيين القادمين من أوروبا لزيارة الأماكن المسيحية المقدسة فى القدس . ويدل على ذلك أن الأوروبيين مازالوا يرددون حتى اليوم الوصف الذى كان يطلق على المسلمين فى أوروبا فى القرون الوسطى ، وهو أنهم كفار دون محاولة من مؤلف الكتاب المدرسى لتصحيح هذا المفهوم الخاطىء.. وفى نفس الوقت تغفل المناهج الدراسية الإشارة إلى وحشية جيوش الصليبيين وعدم تسامحهم مع المسلمين سكان القدس حين انتزعوها من أيدى المسلمين عام 1099م , (بينما تعترف الموسوعات العلمية الكبرى بأن الصليبيين ذبحوا أكثر من 70 ألفًا من أهالى القدس المدنيين دون تمييز بين النساء والأطفال والشيوخ ، أو بين مسلمين ويهود ، وحتى بين المسيحيين من أهالى المدينة العزل ، ولا تشير المناهج إلى تسامح المسلمين حين استعادوا القدس عام 1187 على يد صلاح الدين الأيوبى الذى أصدر العفو عن كل الذين أساءوا إلى أهل المدينة) ، وهذه الواقعة سجلها التاريخ ، ولا يعلمها الغربيون لأنهم لم يدرسوها فى مدارسهم ، وتغفل المناهج الدراسية فضل العلماء والفلاسفة العرب المسلمين على النهضة الأوروبية فى القرن الخامس عشر الميلادى ، ونادرًا ما يذكر ابن رشد وابن المقفع والخوارزمى وابن سينا وابن النفيس الذين كانوا أساتذة ومعلمين لأوروبا بأسرها منذ القرن التاسع الميلادى ، ولهم اكتشافات علمية واختراعات ونظريات علمية وفلسفية كانت الأساس للنهضة الأوروبية حيت ترجمت أعمالهم إلى اللاتينية ثم إلى اللغات الأوروبية , وكثير من علماء عصر النهضة نسبوا لأنفسهم أفكارًا واكتشافات ونظريات المسلمين إلى أن بدأ بعض المستشرقين الغربيين يعترفون بفضل العرب والمسلمين على النهضة الأوروبية .
هكذا يعلمون تلاميذهم فى الغرب عن الإسلام والمسلمين ما يغرس الكراهية والعداء منذ الصغر ، فلا غرابة أن يعبروا عن هذه الروح العدائية عندما يكبرون ، ولا غرابة أن يظهر عندهم نظرية صراع الحضارات وحتمية الحرب العالمية الثالثة ضد الإسلام هذه المرة !(2) .
المراجع
(1) حمدى شفيق - العلماء يردون على أسطورة هرمجدون - الفصل الأول .
(2) رجب البنا - صناعة العداء للإسلام - دار المعارف - مصر .
الفصل الثانى
نقد نظرية الصراع(62/93)
تنطوى الرؤية الهنتنجتونية هذه للعالم المعاصر على قدر هائل من التلفيق العلمى و (لَىِّ) عنق التاريخ , ولعل التلفيق الأكبر يكمن فى تجاهله للدول والمؤسسات السياسية ، رغم الدور المحورى الذى تلعبه الدولة - سواء امبراطوريات الأسر القديمة أو الدولة القومية الحديثة - فى قيام أية حضارة ، فالغرب عنده هو كتلة واحدة متجانسة ، رغم الاختلافات الشديدة بين أمريكا من جهة والدول الغربية من جهة أخرى . والحضارة الإسلامية كذلك كتلة واحدة وليست دولاً وشعوبًا وقوميات مختلفة ، سواء كان ذلك فى ذورة قوتها ومجدها (عندما كانت حضارة عربية) إبان العصرين الأموى والعباسي ، أو كان ذلك فى ظل الخلافة العثمانية التى فرضت هيمنتها على جزء كبير من العالم القديم ، أو حتى فى العصر الراهن ، الذى تعانى فيه الدول الإسلامية من أقصى درجات الفقر والضعف الاقتصادى والسياسى والعسكرى والعلمى ، ناهيك عن التفكك فيما بينها .
ومن المعروف أنه لا يمكن لأى حضارة أن تقوم دون وجود مركز - الدولة - قوى اقتصاديًا وعلميًا وعسكريًا يقوم بدور الحاضن لها . ووفقًا لهذه الرؤية ، كانت الدولة العثمانية آخر مركز قوى - على الأقل عسكريًا - للحضارة الإسلامية . وفى ظل الوضع العالمى الراهن والتوازنات الإقليمية والدولية السياسية والاقتصادية والعسكرية ، لا يمكن لأية دولة إسلامية كبيرة نسبيًا (إيران ، مصر ، أندونيسيا ، باكستان ، تركيا) ، أن تقوم بدور (الدولة المركز) التى يمكن لها أن تقود هذه الحضارة الإسلامية المعاصرة - المزعومة - فى مواجهتها للحضارة الغربية - المزعومة أيضًا - أو أية حضارة هامشية أخرى .
أما التلفيق الأكبر الذى لجأ إليه هنتنجتون فهو رؤيته للحضارة الغربية ذاتها التى يصنفها استنادًا إلى معيارى الجغرافيا والدين فقط .
هذا التلفيق الهنتنجتونى يتعلق بجوهر الحضارة الغربية ذاته .
فالحضارة الغربية هى الحضارة الوحيدة غير الدينية، أو بتعبير أدق هى الحضارة الأولى الما بعد دينية . وهى ليست نتاج ثورة أو طفرة نوعية ، وإنما هى محصلة لتراكمات هائلة وسلسلة ممتدة ، على طول امتداد التاريخ البشرى، من التحولات والحركات الثقافية والاجتماعية والمكتشفات العلمية والسياسية الكبرى . فمنذ ثلاثة قرون ، أو أكثر قليلاً ، لم يكن هناك من يتحدث عن حضارة غربية ، فالمصطلح الذى كان سائدًا آنذاك هو (العالم المسيحى) ومع عصر الاكتشافات الجغرافية والثورة الصناعية التى تلته ، وانتشار أفكار عصر التنوير وصعود الطبقة التجارية البرجوازية ، تغلغلت العلمانية بين قطاعات واسعة من السكان , وكفت أوروبا عن حروبها الدينية ولم تعد (العالم المسيحى)، ولم يظهر مصطلح (الحضارة الغربية) إلا فى أوائل القرن العشرين . وهو مصطلح ينطوى ضمناً على الوعى بأن هذه الحضارة ، على النقيض من الحضارات المهيمنة السابقة ، لا تضع الدين فى مكانة محورية بالنسبة لها .
والمفارقة أنه فى الوقت الذي يروج فيه هنتنجتون وأتباعه لمفهومه التلفيقى عن (الحضارة الغربية) فإن النخبة الثقافية والسياسية لم تعد تنظر إلى أمريكا باعتبارها جزءًا من - أو حتى ناقلة لـ - الحضارة الغربية ، بل ينظرون إليها باعتبارها مجتمعًا متميزًا يجسد التعددية الثقافية والعرقية ، ثقافته محصلة تفاعل ثقافى بين الثقافات الأوروبية ، والإفريقية ، والإسلامية ، والآسيوية ، والسلافية ... إلخ . وتضرب هذه الثقافات بجذورها فى الحضارات الإفريقية والأمريكية اللاتينية والكونفوشيوسية والإسلامية ، وليس الأوروبية فقط . وهكذا تبشر أمريكا بنموذجها الثقافى باعتباره النموذج الوحيد لعصر العولمة . وبعد أن قادت العالم قسرًا إلى تحقيق التجانس الاقتصادى والتجارى والقانونى على الصعيد الكونى ، فإنها تحاول تحقيق تجانس كونى مماثل على الصعيد الثقافى .
ونحن لا نرى فى أطروحة هنتنجتون حول صراع الحضارات سوى فكرة تعبوية ذات رائحة عنصرية لا تستند إلى أية حقائق علمية أو مبررات أخلاقية، هدفها فقط تبرير الصدامات العنيفة التى يشهدها العالم نتيجة لرفض أناس كثيرين لمنطق (الهيمنة والابتلاع) وليس لمنطق العولمة .
وإذا كان هنتنجتون يقصد بفكرته حول (صراع الحضارات) أن (الحضارة الغربية تواجه الحضارات الأخرى) فإن معناها الحقيقى هو (أمريكا فى مواجهة العالم)(1) .
ويرى المفكر السويدى إنجمار كارلسون أن نظرية الصراع بها عدة نقاط ضعف :
• فـ (هنتنجتون) يقسم العالم إلى سبع أو ثمانى حضارات كبرى : (الغربية وتحتوى على حضارة غرب أوروبا وأمريكا الشمالية ، والحضارة الكونفوشيوسية، واليابانية ، والإسلامية ، والهندوسية ، والسلافية - الأرثوذكسية ، وحضارة أمريكا اللاتينية ، وربما الحضارة الأفريقية) . غير أنه لا يعزى أية مكانة مميزة للديانة اليهودية ، وهو فى هذا المقال يصف إسرائيل بأنها (صناعة الغرب) (تعمد هنتنجتون ذلك لأنه يهودى) .(62/94)
• وتقسيم هنتنجتون لا يسير على نسق واحد ، فبعض الحضارات تعرف على أساس معايير دينية وثقافية ، غير أن العامل الرئيس فى حالات أخرى هو الجغرافيا . وما الذى يميز حضارة أمريكا الشمالية عن حضارة أمريكا اللاتينية؟ إن كلاً من أمريكا الشمالية والجنوبية يقطنها المهاجرون الأوروبيون الذين حملوا معهم قيمًا لازالوا يتمسكون بها حتى الآن ، ومن الصحيح أن عنصر الهنود الحمر هو أكبر بكثير فى دول معينة من أمريكا اللاتينية كالمكسيك وجواتيمالا وبيرو والإكوادور عما هو عليه فى الولايات المتحدة ، غير أنه من الصحيح أيضًا أن تشيلى والأرجنتين وكوستاريكا هى أكثر أوروبية من الولايات المتحدة الأمريكية التى تتحول سريعًا إلى حضارة إسبانية ، وفى الواقع فكل من أمريكا الشمالية واللاتينية يمكن تمييزهما كحضارات غربية تمتزج بكل منها عناصر حضارية أخرى بدرجات متفاوتة.
وهل الفيليبينيون الكاثوليك غربيون أم آسيويون ؟ إن (هنتنجتون) يتحدث عن الحضارة البوذية , لكن ما الذى يجمع بين التايلانديين وأهل التبت والمغول والقلموقيين الذين يعيشون فى اتحاد الجمهوريات الروسية ؟
وأين يوجد العالم الكونفوشيوسى الذى يتحدث عنه (هنتنجتون) ؟ فعلى الرغم من الموروث الكونفوشيوسى المشترك ، فإن الصين وفيتنام كانتا دومًا أعداء, فـ (فيتنام) تساورها شكوك كبيرة بشأن نوايا الصين بغض النظر عمن تولى السلطة فى هانوى وبكين ، وبالمثل فجهود بكين للتأكيد على الموروث الكونفوشيوسى المشترك كتمهيد للاتحاد مجددًا بتايلاند كانت تقابل بنظرة احتقار من التايلانديين(2) .
• ويرسم (هنتنجتون) خطوطًا مستقيمة عبر الخرائط التى تبين بدايات ونهايات الحضارات المختلفة ، ويعترف بأن مجال الحضارة الإسلامية ينقسم إلى العرب والأتراك والمالايويين ، ولكن لسبب ما يغفل عن الرافد الإسلامى الكبير فى إفريقيا ، ولا يتطرق حتى إلى الفروق الكبيرة بين المسلمين فى الأرخبيل الإندونيسى ، والمسلمين فى غرب أفريقيا ، والمسلمين فى قلب العالم العربى . و (هنتنجتون) يغفل أيضًا حقيقة أن الوحدة الإسلامية يكاد ينعدم أثرها بعد خمسين عامًا . وفى الحقيقة فقد ساد الانقسام العالم الإسلامى منذ وفاة رابع الخلفاء الراشدين عام 661 ميلاديًا ، وهذا لم يحدث بين السنة والشيعة فحسب ، ولكن على مستويات أخرى أيضًا .
• ويعرّف (هنتنجتون) حرب الخليج بأنها حرب بين الحضارات ، وفى الواقع لم يظهر أى صراع آخر بمثل هذا الوضوح ، كيف أن مصالح الدولة لها الغلبة على المناخ الدينى. فصدّام لم يبرر هجومه على الكويت بأسباب دينية ، فهو لم يلجأ إلى مثل هذا التبرير إلا حينما أرغم على الانسحاب فى مواجهة التحالف الذى تألف من المملكة العربية السعودية وتركيا ومصر وسوريا، فضلاً عن القوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية ، بل إن الأسرة المالكة السعودية نجحت فى تحريك المراجع الإسلامية التى أصدرت فتوى مفادها أن دفاع الجنود الأمريكيين غير المسلمين عن مكة لا يتعارض مع تعاليم القرآن .
أما إيران فلا زالت تتحين الفرص ، وعلى الرغم من نبرة العداء لأمريكا ، فليس هناك ما تأخذه على (الشيطان الأكبر) إذا كان ما يفعله فى صالح أنصار آية الله .
• وإحدى النقاط المهمة التى يثيرها (هنتنجتون) هى أننا نشهد الآن ظهور المحور الإسلامى الكونفوشيوسى أو (الرابطة) : فبؤرة الصراع الأساسية فى المستقبل القريب ستكون بين الغرب والدول الإسلامية الكونفوشيوسية العديدة).
إن الدليل المادى الوحيد الذى يقدمه (هنتنجتون) لتأييد نظريته هو صادرات السلاح التى تقدمها كوريا الشمالية والصين إلى ليبيا ، وإيران ، والعراق ، وسوريا . وهذه الاتصالات بين النظامين الديكتاتوريين الشيوعيين وليبيا - التي تخضع لحكم القذافى الذى يسير على نهج (نظريات الكتاب الأخضر) التى يعتبرها جميع رجال الدين الإسلامى بدعًا - وكذلك مع نظامى حزب البعث المتنافسين فى دمشق وبغداد ، من الواضح تمامًا أنها لاتعبر عن أى تقارب أيديولوجى ، أو عن مؤامرة إسلامية كونفوشيوسية ، فالأمر لايتعلق سوى بالمادة ، وفضلاً عن ذلك فإحدى المشاكل الداخلية الكبرى التى تواجهها الحكومة الصينية هى الخوف من امتداد الصحوة الإسلامية لتصل إلى شعب يويجور فى سينكيانج ، عن طريق بنى جلدتهم من الأتراك فى وسط آسيا ، وهذا هو سبب تأييد الصين للهجمات على أفغانستان .
وإلا فيمكننا بالمثل القول بأن مبيعات الأسلحة الأمريكية والفرنسية إلى المملكة العربية السعودية تدل على إقامة تحالف إسلامى مسيحى .(62/95)
وعلى هذا ، فما أوحى به (هنتنجتون) من الصدام بين الحضارات على المستوى الواسع لا يستند إلى أساس سليم ، ويبدو أنه يستند إلى حجة أقوى عندما يزعم أن الصراعات على المستوى الجزئى تتبع (الشروخ) بين مواطن الحضارات ، ويبدو أن الحرب الأهلية فى طاجيكستان والصراعات فى القوقاز تؤيد هذه النظرية ، بل والأكثر منها الحروب الأهلية فى جمهورية يوغسلافيا السابقة ، حيث اتبعت الخطوط الأمامية إلى حد كبير الخط التقليدى الفاصل بين الإمبراطوريات الرومانية الشرقية والغربية ، وبين الإمبراطورية العثمانية وإمبراطورية هابسبورج .
غير أن هذه الحجج ذاتها لم تتحر قدرًا كبيرًا من التمحيص ، فلم تنشب حرب واحدة خلال القرن الماضى بسبب الصدام بين الحضارات أيّاً كان تعريفها.
وفى عام 1914م ، تحالفت برلين البروتستانية مع فيينا الكاثوليكية واستانبول المسلمة ضد موسكو الأرثوذكسية وباريس الكاثوليكية ولندن البروتستانتية ، وقد دخلت صربيا الأرثوذكسية بالفعل الحرب ضد فيينا الكاثوليكية ، غير أنها كانت فى حالة حرب أيضًا مع بلغاريا الأرثوذكسية ، كما أن الدول البادئة بالعدو فى الحرب العالمية الثانية وهى ألمانيا وإيطاليا والاتحاد السوفييتى نجحت فى التعاون فيما بينها ، رغم أنها تنتمى إلى أقاليم ثقافية مختلفة ، وحينما هاجم (هتلر) (ستالين) لم يسأل (تشرشل) و (روزفلت) ما إذا كان حليفهما الجديد مسيحيًّا أو أرثوذكسيًّا أو شيوعيًّا .
والحربان العالميتان قتل فيهما أكثر من ستين مليونًا من البشر وكانتا بين المسيحيين ، ومعظم الحروب التى وقعت بعد عام 1945م كانت حروبًا داخل حضارات : حروب كوريا ، وفيتنام , وكمبوديا ، والصومال ، والعراق ، وإيران ، والكويت . فأطول الصراعات وأكثرها دموية فى الشرق الأوسط لم تنشب بين العرب واليهود ، ولكن بين المسلمين ، وهى الحرب بين العراق وإيران ، كما استخدم العرب العراقيون الغاز السام ضد الأكراد وليس ضد غير ذوى الملة .
وعلى النقيض من نظرية (هنتنجتون) فالحروب التى اشتعلت فى يوغسلافيا السابقة بما فيها من تطهير عرقى لم تكن جهادًا ولكن حروبًا على السلطة والأرض بين الأرثوذكس والكاثوليك من غير ذوى الملة من جهة ، وبين المسلمين من جهة أخرى من خلال تحالفات غير دينية . أما صبغة الدين التى اصطبغت بها القومية فقد نمت بشكل واع إلى جوار العداوات والقلاقل الاجتماعية ، والصراعات التى شهدتها يوغسلافيا السابقة تبين كيف أنه من اليسير توظيف القومية كأداة ، غير أنها لا يمكن أن تقوم كدليل يؤيد نظرية الحرب بين الحضارات .
وفى البوسنة زعم الصرب أنهم يقاتلون الإسلام من أجل المسيحية ، ومن الصحيح أن الحروب التى نشبت فى يوغسلافيا السابقة اتبعت التخوم الثقافية بين الإمبراطوريات الرومانية الشرقية والغربية ، وتطورت فيما بعد إلى حرب بين الأرثوذكسية والكاثوليكية ، وبين الأرثوذكسية والكاثوليكية من جهة والإسلام من جهة أخرى . ولكن هذا يرجع فى المقام الأول إلى اقتران القومية الصربية بإصرار قادة الحزب الشيوعى على عدم التخلى عن سلطتهم . أما الهجوم الصربى الذى كان يهدف إلى إقامة صربيا العظمى فقد كان موجهًا منذ البداية إلى الجارتين المسيحيتين سلوفينيا وكرواتيا . وفى البوسنة دافع المسلمون عن مجتمع متحضر ، بينما أظهر الصرب الأرثوذكس تعصبًا وضيق أفق لا يقل عما هو خليق بأشد المتعصبين من أية ديانة أخرى , وفى البوسنة وكوسوفا أيضًا تدخلت قوات من الحضارة الغربية لنصرة المسلمين .
إن الحضارات لا تسيطر على الدول ، بل على العكس من ذلك تسيطر الدول على الحضارات ، وهى لا تتدخل للدفاع عن حضاراتها إلا إذا كان هذا فى مصلحة الدولة .
وفى الحرب بين أذربيجان وأرمينيا ، حاولت إيران أن تقوم بدور الوساطة وجنحت إلى تأييد مسيحيى أرمينيا لا مسلمى أذربيجان ؛ خشية أن يؤدى انتصار أذربيجان إلى تقوية النزاعات الانفصالية بين الأقلية الأذربيجانية الكبيرة العدد .
• فما يعطى الانطباع لأول وهلة بوجود صدام بين الحضارات يتبين عند تناوله بالتحليل أنه خصومة بين الدول على الموارد والأرض ؛ سعيًا وراء المزايا الاستراتيجية والسطوة السياسية . فالحرب ضد صدام حسين لم تكن حربًا بين الحضارات - فالحضارات لا تصنع الحروب - ولكنها قتال من أجل البترول والتوازن الاستراتيجى فى الشرق الأوسط ، والعداء بين بكين وواشنطن حول تايوان ، أو قرصنة نسخ أسطوانات الكمبيوتر ، أو صادرات السلاح ليس حربًا بين الكونفوشيوسية وتوماس جيفرسون ، لكنه صراع بين قوتين عظميين .(62/96)
إن (هنتنجتون) يعرّف الحضارة بأنها : (أوسع مستويات الهوية التى يمكن للمرء أن ينتمى إليها) . وقليل جدّاً من الأشخاص هم الذين بإمكانهم أن ينتموا بأجسادهم إلى مفهوم واسع كمفهوم الحضارة ، فهم ينشدون بدلاً من هذا هويات ضيقة كالأمم أو الجماعات العرقية أو الدينية . وعلى الرغم من الإلحاح الدائم على الهوية الأوروبية فى هذه الآونة ، إلا أن التحقيقات التى قامت بها المفوضية الأوروبية تبين أن ما يزيد على 70% من سكان جميع الدول الأوروبية ينظرون إلى أنفسهم فى المقام الأول فى ضوء انتمائهم إلى أمم ، بينما تأتى الهوية الأوروبية فى مرتبة تالية .
• إن الحضارات التي يتحدث عنها (هنتنجتون) ليست شرائح متماثلة ومتنافرة يفنى بعضها الآخر ، ولكنها تتواءم مع بعضها البعض ، ليس فقط فى الأقاليم الحدودية ولكن فى مراكزها أيضًا ، بل إن الإسلاميين يستخدمون التقنيات الغربية كما ظهر جليًا فى أحداث 11 سبتمبر ، وهم بذلك يظهرون أيضًا أسلوبًا للتفكير غريبًا عن ثقافتهم ، ولنضرب مثالاً آخر : فى عام 1957م كان يوجد 1.7 مليون مسيحى فى كوريا الجنوبية ، وفى الوقت الحاضر يتراوح عددهم ما بين 14 و 17 مليونًا ، أى ما نسبته 40% من عدد السكان ، ويقال : إن الضربات المتوالية كانت موجهة إلى القيم الكونفوشيوسية التى تعد الأساس الذى قامت عليه المعجزة الاقتصادية الكورية والتى أفل نجمها الآن .
• إن نظرية (هنتنجتون) أحادية السبب تمامًا ، فهو لا يأخذ فى الحسبان الآثار التى تركها اقتصاد السوق الحر على الأنظمة السياسية ، وكذلك القوى التى حررت قيودها عمليات التكامل الاقتصادية ؛ ولهذا السبب فافتراض أن الصراعات المستقبلية سوف ترتبط بتوزيع الثروة بين الدول يستند إلى قدر أكبر من االمصداقية . ونسق العالم ذو القطبية الثنائية لم يحل محله (الصدام بين الحضارات) الذى ذكره (هنتنجتون) ، ولكن جاء بدلاً منه على حد قول (جيرجين هيبرمان) : (عدم القدرة على التنبؤ مجددًا) . وعلى الرغم من ذلك يمكننا أن نؤكد أن المستقبل لن يأتى معه بنهاية التاريخ ، أو بالصدام بين الحضارات .
أما الصدام الحقيقى اليوم فليس بين الحضارات ، ولكن فى داخلها بين ذوى النظرة الحديثة التقدمية وبين من يتمسكون منهم بنظرة العصور الوسطى . وكمثال على ذلك : فبعد الهجوم على مركز التجارة العالمى قام (جيري فالويل) بمخاطبة مشاهدى التليفريون قائلاً : إن أمريكا تستحق العقاب ! فمن وجهة نظره أن من يجرون عمليات الإجهاض ، والمناصرين لحقوق الشواذ، وكذلك المحاكم الفيدرالية التى منعت الصلاة فى المدارس ، قد أثارت غضب الرب .
وعلى حد قول (هنتنجتون) ، فللإسلام حدود مخضبة بالدماء ، وهذه المقولة ليست فقط رمزية تاريخية ، ولكن لها خطورتها أيضًا ، فالإسلام والمسيحية عاشا جنبًا إلى جنب لمدة 1400 عام تقريبًا ، دومًا كجيران ، وفى معظم الوقت كخصوم ، وفى الواقع من الجائز اعتبارهما شركاء ؛ حيث إنهما يشتركان فى نفس الموروث اليهودى الهيلينى الشرقى ، وهما فى آن واحد تجمعهما معرفة قديمة .
والحضارة الإسلامية ليست غريبة كما تبدو غالبًا فى ضوء التحاملات والتصورات الغربية المسبقة . ومن أكثر الأساطير شيوعًا أسطورة تشارلز مارتل الذى أنقذ الغرب من الدمار بانتصاره على العرب فى بواتييه فى عام 732م، فقد أجبر العرب على الانسحاب من جبال البرانس حتى عادوا إلى جنوب أسبانيا ؛ حيث استمرت الدولة الإسلامية التى قامت هناك فى الازدهار لما يناهز 800 سنة، وهذا التواجد الإسلامى فى القارة الأوروبية لم يتسبب فى انهيار الحضارة الغربية ، بل أسفر عن تآلف متفرد ومثمر بين الإسلام والمسيحية واليهودية ، مما أدى إلى ازدهار ليس له مثيل فى العلم والفلسفة والثقافة والأدب .
• • •
إن الصراع بين بنى الإنسان لا يكون بالضرورة بين حضارات مختلفة . فالحضارة الحقيقية تعنى فى جوهرها التقدم المادى والروحى للأفراد والجماعات، أى أنها ترتقى بالإنسان ماديًا وروحيًا ، وتهذب من أخلاقه ، وتحد من نزعاته العدوانية ، وإنما يكون الصراع بين البشر من أجل مصالح ومطامع وأيديولوجيات متباينة وأهداف دينية أو سياسية ، فهو إذن صراع قُوَى تهدف به إلى فرض سيطرتها وتسلطها على قوى أخرى . أما الحضارات فإنها تدفع بالأحرى إلى الحوار لا إلى الصدام .
وقد شهدت البشرية هذا وذاك . فالمسلمون مثلاً قد اضطروا فى عصور الإسلام الأولى إلى الدخول فى صدام مسلح مع الروم - الذين كانت تمثلهم فى ذلك الوقت الدولة الرومانية الشرقية - ولكن مع ذلك لم يمنعهم على المستوى الحضارى من إجراء حوار حضارى مع الروم ، وإن كان حوارًا صامتًا - إذا جاز هذا التعبير - وقد تمثل ذلك فى ترجمة العلوم المختلفة لليونان إلى العربية، وتم ذلك أيضًا بالنسبة للفرس والهند ... إلخ .(62/97)
وفى المقابل خاضت أوروبا بجحافلها القادمة من مختلف البلاد الأوروبية حربًا ضد المسلمين - سميت بالحروب الصليبية - استمرت ما يقرب من قرنين من الزمان ، ولكن ذلك لم يمنع أوروبا من القيام بحوار - على المستوى الحضارى - مع المسلمين تمثل فى حركة ترجمة نشطة لعلوم المسلمين إلى اللغة اللاتينية . وقد بلغت هذه الحركة ذروتها فى الفترة من القرن الحادى عشر حتى نهاية القرن الثالث عشر الميلادى .
وقد كان من الطريف فى هذا الصدد أن أوروبا أول ما عرفت الفلسفة اليونانية - وهى فلسفة أوروبية - عرفتها عن طريق النقل من العربية ، ولم تبدأ فى نقلها من اليونانية مباشرة إلا بعد سقوط القسطنطينية فى يد الأتراك العثمانيين , وهجرة العلماء اليونانيين على أثر ذلك إلى إيطاليا .
وفى العصر الحاضر بدأ العالم الإسلامى يترجم ما أنتجته الحضارة الغربية الحديثة من منجزات علمية ، ويرسل البعوث إلى جامعات الغرب للاغتراف من علومها وفنونها . وقد فعلت أوروبا الشىء نفسه فى الماضى بإرسال بعثات إلى الأندلس حينما كان للمسلمين فى الأندلس حضارة مزدهرة .
ومن ذلك يتضح أن الصراع الحضارى لم يكن هو القاعدة فى علاقة أوروبا بالإسلام ، بل كان التفاعل الثقافى يفرض نفسه دائمًا ، ويترك آثاره البعيدة والفعالة بعد زوال أسباب الصراعات الأخرى .
ونحن نزعم أن القرن الجديد لن يشهد صدامًا بين الحضارات وإن كانت هناك محاولات من جانب العولمة للترويج لنظم وقيم معينة تثير استفزاز الآخرين .
والذى يدعونا إلى القول بأن القرن الجديد لن يكون قرن صراع حضارى وإنما قرن حوار حضارى هو ما يلى :
أولاً : صراعات الماضى تختلف عن صراعات الحاضر اختلافًا أساسيًا . فنحن فى عصر ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية قد أصبحنا نعيش فى عالم يمثل قرية كونية كبيرة ، والأخطار التى تهدد عالمنا المعاصر قد أصبحت أخطارًا عالمية تهدد الجميع ، وتتطلب جهودًا دولية لمواجهتها مثل قضايا البيئة والمخدرات والإرهاب الدولى والجريمة المنظمة وأسلحة الدمار الشامل وأمراض العصر ، وعلى رأسها أمراض نقص المناعة أو (الإيدز) ،وغيرها من القضايا التى تتطلب تكاتف الجهود الدولية . ولعل ذلك هو الذى شجع الأمم المتحدة على الإعداد لتنظيم منتدى للحوار بين الحضارات عُقد عام 2001م دعمًا للتفاهم بين الثقافات والحضارات المختلفة .
ثانيًا : إذا كانت الأصوات التى تروج لصدام الحضارات قد وجدت أصداء واسعة فى الشرق وفى الغرب ، فإن هناك جهودًا وأصواتًا مضادة فى الغرب ترفض بشدة مقولة هنتنجتون حول صدام الحضارات ، وبصفة خاصة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية .
ومن الأمثلة على ذلك ما شهده العقد الأخير من القرن العشرين من رفض واضح فى بعض الدوائر الغربية لنظرية صدام الحضارات - إذا جاز أن تسمى هذه الدعوة بالنظرية - . ومن بين تلك الأصوات العاقلة فى الغرب (الأمير تشارلز) ولى عهد بريطانيا الذى ألقى محاضرة مهمة فى 27 أكتوبر 1993(3) فى مسرح شيلدونيان بأكسفورد بمناسبة زيارته إلى مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية ، وأكد فيها أن (الذى يربط العالمين الغربى والإسلامى أقوى بكثير مما يقسمهما ؛ فالمسلمون والمسيحيون واليهود جميعهم (أصحاب كتاب) . والإسلام والمسيحية يشتركان فى النظرة الوحدانية : الإيمان بإله واحد ، وبأن الحياة الدنيا فانية ، وبالمسئولية عن أفعالنا ، والإيمان بالآخرة . إننا نشترك فى كثير من القيم) .
وأشار إلى أن حكم الغرب على الإسلام قد عانى من التحريف الجسيم نتيجة الاعتبار بأن التطرف هو القاعدة وقال :(إن التطرف ليس حكرًا على الإسلام ، بل ينسحب على ديانات أخرى بما فيها الديانة المسيحية . والغالبية العظمى من المسلمين يتسمون بالاعتدال . ودينهم هو دين الاعتدال) .
وأشار كذلك إلى أن هناك الكثير مما يمكن أن نتعلمه من الإسلام (وأن العالمَين الإسلامى والغربى يمكن أن يتعلما كثيرًا من بعضهما البعض) .
ورفض مقولة صدام الحضارات قائلاً : (أنا لا أوفق على مقولة أنهما (العالم الإسلامى والغربى) يتجهان نحو صدام فى عهد جديد من الخصومة والعداء ، بل إننى على قناعة تامة بأن لدى عالمَينا الكثير لكى يقدماه إلى بعضهما البعض) .
كما أشار أيضًا إلى أن الكثير من المزايا التى تفخر بها أوروبا العصرية قد جاءت أصلاً من إسبانيا أثناء الحكم الإسلامى . وخلص إلى القول : (إن الإسلام جزء من ماضينا وحاضرنا فى جميع مجالات البحث الإنسانى . وقد ساهم فى إنشاء أوروبا المعاصرة . إنه جزء من تراثنا وليس شيئاً منفصلاً عنه) .(62/98)
وفى نفس الإطار نجد أن وزير الخارجية البريطانية (روبين كوك) يشير فى محاضرته فى المركز الإسماعيلى فى لندن فى 8 أكتوبر 1998م(4) إلى أن جذور الثقافة الغربية ليست يونانية أو رومانية الأصل فحسب ، بل هى إسلامية أيضًا . ويبين أن التحديات التى نواجهها تحديات عالمية . ويرفض مقولة صراع الحضارات ، وأن الإسلام هو العدو الجديد للغرب ويقول : (إن البعض يقول : إن الغرب بحاجة إلى عدو ، وبما أن الحرب الباردة قد ولت إلى غير رجعة ، فإن الإسلام سيأخذ مكان الاتحاد السوفييتى القديم كعدو . ويقولون: إن صراع الحضارات قادم وأنه لا مفر منه . وأنا أقول : إنهم مخطئون، بل ومخطئون خطأ فادحًا . فنحن لسنا بحاجة إلى الإسلام كعدو ، بل نحن بحاجة إلى الإسلام كصديق) .
ويشير إلى أن (الغرب مدين للإسلام بالشىء الكثير ، فالإسلام قد وضع الأسس الفكرية لمجالات عديدة مهمة وكبيرة فى الحضارة الغربية . إن ثقافتينا قد تشابكتا مع بعضهما البعض عبر التاريخ والأجيال ، وهى تتشابك أيضًا فى وقتنا الحاضر) .
ويبرز كوك أهمية الحوار بين الجانبين ويقول : (اليوم أريد أن أقترح بأن نبدأ حوارًا جديدًا جديًا بين أوروبا والعالم الإسلامى . فقد حان الوقت لكى يبدأ الاتحاد الأوروبى ومنظمة المؤتمر الإسلامى بالحديث مع بعضهما البعض على أعلى مستوى ممكن) .
فإذا اتجهنا شطر أكبر دولة فى أوروبا ، ونعنى بها ألمانيا ، فإننا نجد اتجاهًا مماثلاً رافضًا تمامًا لفكرة صراع الحضارات ، ومتبنيًا أسلوب الحوار الحضارى . وقد ذهب الرئيس الألمانى (رومان هيرتسوج) خطوة أبعد فى هذا المجال بالدعوة إلى عقد مؤتمر فى العاصمة الألمانية برلين للحوار بين الحضارتين الإسلامية والغربية .
وقد وجه الدعوة إلى رؤساء خمس من الدول الإسلامية هى مصر والمغرب والأردن وأندونيسيا وماليزيا ، ورؤساء خمس من الدول الأوروبية هى إيطاليا وإسبانيا والنمسا والنرويج وفنلندا ، بالإضافة إلى ألمانيا الدولة المضيفة . وتم اللقاء فى 23 أبريل 1999م على مستوى المراكز البحثية المتخصصة .
وقد اشترك فى المؤتمر أيضًا ممثلون لدول أخرى مثل إنجلترا وفرنسا وسويسرا والسويد ولبنان . وصدر عن المؤتمر (بيان برلين) الذى يمثل خطة للعمل المستقبلى . وقد تضمن البيان العديد من التوصيات التى تدعم الحوار الحضارى بين الشرق والغرب ، وتستشرف مستقبل العلاقات بين المجتمعات الإسلامية والغربية .
وبالإضافة إلى ذلك صدر فى شهر مايو 1999م - كتاب للرئيس الألمانى بعنوان (الحيلولة دون صدام الحضارات - استراتيجية السلام للقرن الحادى والعشرين) . وقد تضمن هذا الكتاب آراء الرئيس الألمانى التى أعلنها حول هذا الموضوع فى الفترة من 1995م حتى 1999م ، كما تضمن أيضًا تعقيبات لأربعة من المفكرين المعروفين .
ويؤكد الرئيس الألمانى رفضه المطلق للزعم بأن الشرق والغرب يستعدان لمواجهة مزعومة بين الإسلام والمسيحية . ويحذر من خطورة الترويج لمثل هذه الأفكار ، ويؤكد على ضرورة التركيز على القواسم المشتركة بين الحضارات .
ويشير الرئيس الألمانى إلى ضرورة بناء جسور الثقة بين الجانبين لمواجهة تحديات المستقبل التى تعد تحديات لنا جميعًا ، وتتطلب حلولاً دولية وتعاونًا مشتركًا بين الجميع ، كما يدعو إلى ضرورة تعرف الشعوب والحضارات على بعضها البعض على نحو أفضل للوصول إلى فهم مشترك ، واحترام متبادل وثقة متبادلة أيضًا . ويرى أن الحوار بين الحضارات والأديان يُعد أهم الواجبات الملقاة على عصرنا . وبصفة خاصة الحوار بين الإسلام والمسيحية .
ومن خلال هذه التوجهات الصادرة فى أوروبا من شخصيات لها وزنها يتضح لنا أن هناك تيارًا أوروبيًا قويًا رافضًا فكرة صدام الحضارات ، وهو تيار أقوى كثيرًا من تيار صمويل هنتنجتون ومن يشايعه . ولكن الشىء المؤسف أنه قد تم تسليط الضوء على نحو مريب على أفكار هنتنجتون السلبية ، وتم تضخيمها إعلاميًا ، وفى الوقت نفسه غابت عن الساحة الإعلامية تلك الأفكار الإيجابية والأصوات العاقلة التى ترفض صدام الحضارات وتتبنى حوار الحضارات(5) .
المراجع
1. مجلة (العربى) - العدد 518 - يناير 2002 .
2. انجمار كارلسون - (الإسلام وأوروبا) - ترجمة سمير بوتانى - مكتبة الشروق الدولية.
3. نشر مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية هذه المحاضرة تحت عنوان: (الإسلام والغرب) عام 1993م .
4. مجلة منبر الإسلام - العدد الصادر فى شعبان 1419هـ الموافق ديسمبر 1998م ص 55-58 .
5. جريدة الأهرام 13/8/1999م .
الفصل الثالث
الحوار هو الحل
فى مواجهة مزاعم الصراع طرح علماء المسلمين خيار الحوار مع الآخر كمنهج إسلامى أصيل ، صرح به القرآن الكريم وطبقه الرسو صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده .. يقول الدكتور بكر مصباح تنيرة(1) :(62/99)
الحوار فى معناه اللغوى ، يفيد المحادثة والمناقشة والمناظرة التى تدور بين طرفين أو أكثر ، وتشمل موضوعات متعددة ومتباينة ، بعضها عام وبعضها خاص ، كما تتعرض للمشكلات التى تهم هذه الأطراف ، وهى تسعى وراء الحوار فيما بينها إلى معرفة الحقائق ، وتبادل الآراء والأفكار والخبرات حول الموضوعات المشتركة(2) . وتحديد المواقف من المشكلات القائمة، وطرح حلول لها ، والحوار بذلك يساعد على تنظيم العلاقات الإنسانية بما يوفر لكل طرف حاجاته التى يتطلع إليها ، ويحقق له غاياته المشروعة دون أن يكون ذلك على حساب حقوق الآخرين أو يسبب لهم أضرارًا تلحق بهم .
والحوار بهذا المعنى أسلوب من أساليب التفاهم بين الأفراد والجماعات والدول والحضارات ، وهو يرمى إلى تحقيق التعارف والتعايش والتعاون بين الناس جميعًا على أساس حرية الرأى واحترام الآخرين ، وتبادل المنافع .
والإسلام بحضارته الخالدة وتجربته الإنسانية العميقة ، والحافلة بأشكال تطبيق الحوار فى شؤون الدين الدنيا بين جميع البشر ؛ دون تمييز أو تحيز لأى سبب له دوره الرئيس الذى ينبغى أن يقوم به فى هذه المرحلة التاريخية المعاصرة .
وليس هذا بجديد ، فقد ازدهر الحوار فى ظل الحضارة الإسلامية ، وهذا لكون الحوار يمثل منهجًا من مناهج الدعوة الإسلامية إلى الناس كافة لعبادة الله الواحد الأحد وتحقيق الإصلاح وتطهير المجتمع الإنسانى من الفساد وتنمية العلاقات الأخلاقية بين الجماعات والديانات والدول(3) .
وأوجز الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فى بيان جوهر رسالة الإسلام فى كلمات جامعة بليغة فقال : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه الإمام أحمد والحاكم .
والحوار منهج من مناهج الدعوة الإسلامية دعا إليه القرآن فى قوله سبحانه وتعالى : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل:125 .
وقد أرسى الإسلام فى أصوله الثابتة الطاهرة ، القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة ، وإجماع السلف الصالح مبادىء الحوار ، وقد حفلت به مظاهر الحياة فى الحضارة الإسلامية فى جميع مراحل تطورها التاريخى منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً .
مبادىء الحوار فى الإسلام
لقد انفرد الإسلام بتفعيل وتحديد المبادىء الثابتة التى ينبغى أن يقوم عليها أى حوار ناجح ، يؤدى إلى تحقيق الأهداف المطلوبة منه ، ولاسيما الحوار السياسى الذى يختص بشؤون المجتمع والدولة ويشمل أمور الدين والدنيا ، وقد سبق الإسلام وحضارته بذلك الديانات والحضارات الماضية ، فالمبادىء الواضحة هى فى الحقيقة بمثابة القواعدالتى ينبغى أن يلتزم بها جميع أطراف الحوار ؛ كى يبلغ كل طرف الغايات التى يسعى إليها ، ومن أبرز المبادىء التى فصلها الإسلام للحوار الإيجابى والبنَّاء ما يلى :
1- العلم الذى يستند إلى الحقائق الثابتة والمعلومات الدقيقة والصحيحة والخبرة العملية ؛ ولاسيما إذا كانت موضوعات الحوار تتناول القضايا العامة فى المجتمع والدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من شؤون الحكم . وينبغى أن يشارك المتخصصون فى مثل هذه المحاورات حتى تأتى النتائج والأحكام مفيدة تخدم أغراض الحوار ، وتعود بالنفع على أفراد المجتمع ورجال الحكم . وفى الدول الحديثة يتم تطبيق هذا المبدأ قبل إجراء أى حوار أو مناقشة، فيتم إعداد البحوث والدراسات التى تتناول الموضوعات من جميع جوانبها .
2- حرية الرأى التى تُعطى كل طرف من أطراف الحوار الحق فى أن يقبل أو يرفض ما يُعرض عليه من آراء وأفكار وعقائد وموضوعات شتى , وعلى الآخرين أن يحترموا هذه الحرية . والقاعدة الشرعية فى الفقه الإسلامى تقول: (إن كل عمل أو اتفاق يتم تحت الضغط والإكراه فهو باطل) ، كما يقول فقهاء الإسلام (يمين المكره باطلة وما بنى على باطل فهو باطل) ، يقول الله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس:99 .
ويؤكد الحق عز وجل هذا المبدأ وضرورة تطبيقه حتى مع الكافرين ، يقول تعالى : (وإن أحدٌُ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) التوبة:6 .
وقد حمى الإسلام هذه العناصر فمنع الإكراه والإغراء لتحرر الفكر ويمنع التقليد ، بل دعا الناس إلى النظر الحر فى الكون وما شمل من أسرار، فالحرية فى الإسلام مبدأ مقدس حتى فى اختيارالعقيدة لقوله تعالى : (لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى) البقرة:256 .(62/100)
3- العدالة بمعناها الواضح والشامل مبدأ إنسانى أقره الإسلام وجعله قاعدة من قواعد الحكم بين الناس ، وهو يقوم على إعطاء كل ذى حق حقه، والعدالة الإسلامية تحمى المسلمين وغير المسلمين ، وتفرض على أولى الأمر حماية حقوق الإنسان دون تمييز أو تحيز ، وهذا يقوى ثقة الإنسان بنفسه وفى النظام السياسى الذى يعيش فى كنفه ، وهذا يدفعه إلى المطالبة بحقوقه وممارستها من دون حرج أو خوف ، يقول تعالى فى محكم آياته : (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) المائدة:8 .
ويدعو الله رسوله الكريم إلى الحكم بالعدل حتى مع المخالفين لدين الإسلام، فيقول تعالى : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حُجّة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) الشورى:15 .
يقول فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة فى ذلك : (ألا فليعلم الناس اليوم أنه لا يصلح العالم إلا إذا كانت العدالة ميزان العلاقات الإنسانية فى كل أحوالها، فلا يبغى قوى على ضعيف ولا يضيع حق ...)(4) .
4- المساواة وهى فى الإسلام تعنى إلغاء الفروق بين بنى الإنسان بسبب اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة أو المال أو العلم، وإنما يكون التمايز بين الناس بالعمل الصالح الذى يعود عليهم جميعًا بالفائدة ، ولكل أجره على ذلك . والمساواة بهذا المعنى تبث الثقة بين الناس وتدفعهم إلى التعايش والتعاون، يقول الله سبحانه وتعالى : (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) آل عمران:195 .
وأيضًا (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) النحل:97 .
ثم ينهى الله جل شأنه عباده عن أن يسخر بعضهم من بعض ، ويحقر بعضهم بعضًا ، أو يفخر بعضهم على بعض لأن مثل هذا السلوك يفسد العلاقات الإنسانية ، يقول تعالى : (يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) الحجرات:11 .
وإذا قامت المساواة فى المجتمع استقامت العلاقات بين أعضائه وتحقق التعاون فيما بينهم لحل المشكلات ومواجهة الصعوبات .
5- التسامح وهو خُلق إنسانى أصيل دعا إليه الإسلام ؛ لأنه يرفع الحرج فى العلاقات بين الناس ويجعل الإنسان يترفع عن الكره والبغضاء وروح الثأر والانتقام ، وهى صفات تفسد وتدمر الحياة البشرية على الأرض ، وتقطع سبل التفاهم والتعاون بين الناس .
وفى مقابل ذلك يدعو سبحانه وتعالى إلى العفو والتسامح ونسيان الأحقاد والعمل بالحسنى ، فيقول تعالى : (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم , وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) فصلت:34-35 .
وقد ضرب الرسو صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى فى التسامح مع أعدائه الذين حاربوا دعوته وأخرجوه من بلده وآذوه وحاولوا قتله ، وعندما نصره الله عليهم يوم فتح مكة المكرمة قال لقريش فى حوار نموذجى بين المنتصر والمهزوم : (ما تظنون أنى فاعل بكم)؟ قالوا : خيرًا ، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام : (أقول لكم كما قال أخى يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ، اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
هذه هى المبادىء السامية التى وضعها الإسلام لتقوم عليها العلاقات الإنسانية ، ويدور فى ضوئها الحوار أياً كان نوعه وموضوعه وغايته ، وإذا أخذت الجماعات والدول بهذه المبادىء فى المحاورات فيما بينها تكون قد خطت الخطوة الصحيحة فى حل المشكلات ، وتحقيق التعاون فيما بينها مصداقًا لقول الله جل شأنه : (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) المائدة:2 .
تفاعل مع الآخر
ويرى الدكتور حسن عزوزى أن التقاء الحضارات معلم من معالم التاريخ الحضارى للإنسانية ، وهو قدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبه ، وقد تمّ دائمًا وأبدًا وفق هذا القانون الحاكم (التمييز بين ما هو مشترك إنسانى عام وبين ما هو خصوصية حضارية) .
ولا شك أن الخيار البديل لصدام الحضارات هو أن تتفاعل الحضارات الإنسانية مع بعضها بعضًا ، بما يعود على الإنسان والبشرية جمعاء بالخير والفائدة ، فالتفاعل عملية صراعية ولكنها متجهة نحو البناء والاستجابة الحضارية لتحديات الراهن ، عكس نظرية (صدام الحضارات) التى هى مقولة صراعية تدفع الغرب بإمكاناته العلمية والمادية لممارسة الهيمنة ونفى الآخر، والسيطرة على مقدراته وثرواته تحت دعوى وتبرير أن نزاعات العالم المقبلة سيتحكم فيها العامل الحضارى .(62/101)
والإسلام كدين وحضارة عندما يدعو إلى التفاعل بين الحضارات ينكر (المركزية الحضارية) التى تريد العالم حضارة واحدة مهيمنة ومتحكمة فى الأنماط والتكتلات الحضارية الأخرى ، فالإسلام يريد العالم (منتدى حضارات) متعدد الأطراف ،ولكنه مع ذلك لا يريد للحضارات المتعددة أن تستبدل التعصب بالمركزية الحضارية القسرية، إنما يريد الإسلام لهذه الحضارات المتعددة أن تتفاعل وتتساند فى كل ما هو مشترك إنسانى عام .
وإذا كان الإسلام ديناً عالمياً وخاتم الأديان ، فإنه فى روح دعوته وجوهر رسالته لا يرمى إلى تسنم (المركزية الدينية) التى تجبر العالم على التمسك بدين واحد ، إنه ينكر هذا القسر عندما يرى فى تعددية الشرائع الدينية سنة من سنن الله تعالى فى الكون ، قال تعالى : (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات) المائدة:84، وقال أيضًا : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود:118 - 119 .
إن دعوة الإسلام إلى التفاعل مع باقى الديانات والحضارات تنبع من رؤيته للتعامل مع غير المسلمين الذين يؤمنون برسالاتهم السماوية ، فعقيدة المسلم لا تكتمل إلا إذا آمن بالرسل جميعًا : (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) البقرة:285، بيد أنه لا يجوز أن يُفهم هذا التسامح الإنسانى الذى جعله الإسلام أساسًا راسخًا لعلاقة المسلم مع غير المسلم على أنه انفلات أو استعداد للذوبان فى أى كيان من الكيانات التى لا تتفق مع جوهر هذا الدين . فهذا التسامح لا يلغى الفارق والاختلاف ، ولكنه يؤسس للعلاقات الإنسانية التى يريد الإسلام أن تسود حياة الناس، فالتأكيد على الخصوصيات العقائدية والحضارية والثقافية، لا سبيل إلى إلغائه، ولكن الإسلام لا يريد لهذه الخصوصيات أن تمنع التفاعل الحضارى بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها .
وفى سياق التفاعل الحضارى المنشود يمكن القول : إن احتمال أن تتقدم حضارة على أخرى بهذا الجانب المنشود أو ذاك وارد ، كما هو الشأن بالنسبة للحضارة الغربية فى عالم اليوم، ولكن القول بأفضلية حضارة على أخرى هو قول متهالك، فمن يستطيع إثبات أن هذه الحضارة أفضل من تلك أو أغزر ثقافة وحكمة وإنسانية وتسامحًا، ولا يوجد فى الواقع أى مقياس أو معيار نقيس به هذه الأفضلية فى كل الجوانب ؟
إن شرط ازدهار هذه القيم فى أى حضارة يرتبط أساسًا بمدى قدرتها على التفاعل مع معطيات الحضارات الأخرى ومكوناتها ، وبالتالى الاعتراف بهذه الحضارات ومحاورتها وقبول تعددية الثقافات وتفهم مفاهيم وتقاليد الآخرين، واعتبار الحضارة الإنسانية نتاجًا لتلاقح وتفاعل هذه الحضارات لا صراعها فيما بينها ، أو استعلاء بعضها على البعض الآخر . والحضارة الإسلامية منذ نشوئها وتكونها لم تخرج عن هذا الإطار التواق إلى التفاعل مع الحضارات الأخرى أخذاً وعطاءً، تأثرًا وتأثيرًا. لقد حمل العرب قيم الإسلام العليا ومثله السامية وأخذوا فى نشرها وتعميمها فى كل أرجاء الدنيا، وبدأت عملية التفاعل بينها وبين الحضارات الفارسية والهندية والمصرية والحضارة الأوروبية الغربية فيما بعد، ومع مرور الزمن وانصرام القرون نتجت حضارة إسلامية جديدة أسهمت فى إنضاجها مكونات حضارات الشعوب والأمم التى دخلت فى الإسلام، فاغتنت الحضارة الإسلامية بكل ذلك عن طريق التلاقح والتفاعل، وكانت هى بدورها فيما بعد عندما استيقظت أوروبا من سباتها وأخذت تستعد للنهوض مكوناً حضاريًا ذا بال أمدّ الحضارة الأوروبية الغربية بما تزخر به من علوم وقيم وعطاء حضارى متنوع .
ويمكن قول الشىء عينه عن الحضارة الغربية التي لم تظهر فجأة ، بل تكونت خلال قرون كثيرة حتى بلغت أوجها فى عصرنا الحاضر ، وذلك نتيجة التفاعل الحضارى مع حضارات أخرى هيلينية ورومانية وغيرها، وبفعل التراكم التاريخى وعمليات متفاعلة من التأثر والتأثير خلال التاريخ الإنسانى الحديث. إن أكبر دليل على أن الحضارة الإسلامية لم تسع فى أى وقت من الأوقات إلى التصادم مع الحضارة الغربية كما ينذر بذلك أصحاب نظرية الصدام الحضارى هو أن العرب والمسلمين لم يضعوا فى أى زمن من الأزمان صوب أهدافهم القضاء على خصوصيات الحضارة الغربية وهويتها الحضارية ، كما نجد الفكر العربى والإسلامى قد اتجه بانفتاح وقوة صوب التراث الغربى للاستفادة منه وتطويره، لقد كان هنالك فعلاً استجابة سريعة للحضارة العربية الإسلامية فى تفاعلها مع الحضارة الغربية، وهذا ما لا نلمسه فى الحضارة الغربية التى لا تسعى إلى الاستفادة من تراث ومعطيات الحضارات الأخرى(5).
تدافع الحضارات(62/102)
ويميل بعض الكتّاب الإسلاميين إلى تسمية العلاقة بين الحضارات المختلفة بـ (التدافع بين الحضارات) بدلاً من (الصراع) .. ويستند هؤلاء في ذلك إلى قوله تعالى : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) البقرة:251 .. فغاية التدافع هى عمارة الأرض والإبقاء على الأنفع والأحسن والأكثر فائدة للبشرية، فالبقاء للأصلح وليس للأقوى، ولا للظلم كما يريد هنتنجتون وأمثاله .. فنحن فى إطار التدافع لا نستهدف القضاء على الآخر ولا مصارعته بل تبادل المنافع وتحقيق المصالح المشتركة لبنى الإنسان .. ويميل فريق آخر إلى تعبير (مصالح الحضارات) لما يجسده من قيم إنسانية تسهم فى بناء مجتمعات تقوم على مبدأ (التبادل الخلاق بين كل الثقافات) ، وهو ما لا يمكن تحقيقه عن طريق حضارة واحدة هى الحضارة الغربية ، بل لابد من مشاركة لحل الحضارات العالمية الموجودة على الساحة .. والتبادل ليس للسلع الاستهلاكية وحدها ، وإنما يشمل ما هو أسمى وأبقى ، ألا وهو الندية والاحترام المتبادل والحوار الفكرى العالمى(6) .
نظرية التعارف
كما أسلفنا تبنى الكثير من المفكرين والمثقفين مقولة (حوار الحضارات)، وهى الرؤية التى دعا إليها فى وقت مبكر المفكر الفرنسى المسلم (روجيه جارودى)، وأكدها السيد (محمد خاتمى) فى خطابه الشهير الذى ألقاه سنة 1998م، فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، مما حدا بها لاختيار سنة 2001م عامًا للحوار بين الحضارات . وأصبحت هذه المقولة المقابل الأبرز لمصطلح الصدام . وبين هاتين المقولتين هناك نظرية ثالثة تُعرف بـ (تعارف الحضارات)، وهى أطروحة أطلقها المفكر الإسلامى زكى الميلاد ، فى رؤية مغايرة للنظريتين السابقتين ، وهى نظرية مستوحاة - كما لا يخفى - من القرآن الكريم .
وقد بدأ التعريف بهذه النظرية فى 1418هـ/1997م ضمن العدد(16) من مجلة (الكلمة) الفصلية التى يرأس تحريرها، ثم العددين 35 و 36 من ذات المجلة ، كما طرحها أيضًا فى مجلة الحج والعمرة عدد ربيع الأول عام 1424هـ/ 2003م ..
يقول زكى الميلاد شارحًا نظرية التعارف :
نظرية حوار الحضارات : هى نظرية أراد منها جارودى أن تكون خطاباً نقديًا وعلاجياً لأزمة الغرب الحضارية - كما يصفها - ولأنماط علاقاته بالعالم والحضارات غير الأوروبية. كما أراد منها أيضًا أن تكون خطابًا موجهاً إلى الغرب بصورة أساسية. لذلك فهى تنتمى وتصنف على النظريات الغربية التى تنطلق من نقد التجربة الغربية والفكر الغربى . ومن حيث نسقها المعرفى فهى تنتمى إلى المجال الثقافى وتحدد به لأنها تركز على الأبعاد الثقافية والفكرية والأخلاقية .
وأما حوار الحضارات فى رؤية السيد محمد خاتمى فقد جاءت استجابة لبعض المعطيات والضرورات السياسية فى الدرجة الأولى، ومن أجل أن تكون خطاباً نقدياً بديلاً لخطاب صدام الحضارات. وقد ظلت تتحدد فى هذا النطاق، ولم تحول إلى نظرية واضحة ومتماسكة, ومازال العالم العربى والإسلامى يفتقر إلى نظرية تعبر عن رؤيته فى كيفية التقدم والتحضر، وعن أنماط علاقاته بالعالم.
فإذا اعتبرنا (صدام) الحضارات بوصفها نظرية تفسيرية، و (حوار الحضارات) بوصفها نظرية نقدية أو علاجية ، فإن تعارف الحضارات هى نظرية إنشائية بمعنى أن القاعدة فيها هى الإنشاء وليس الإخبار، فقد جاءت لإنشاء شكل العلاقات المفترض بين الناس كافة حينما انقسموا إلى شعوب وقبائل ، كما نصت الآية الكريمة التى أطلق عليها بآية التعارف ، رقم 13 فى سورة الحجرات : (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) .
فالتعارف هو المفهوم العام والكلى والجامع والشامل الذى اختارته هذه الآية فى تحديد النمط العام لعلاقات الناس كافة ، مهما تعددت وتنوعت أعراقهم وسلالاتهم، لغاتهم وألسنتهم، دياناتهم ومذاهبهم، تاريخهم وجغرافياتهم. ولأن خطاب الآية إلى الناس كافة ، ولأن الحديث عن شعوب وقبائل وليس عن أفراد، أى أنه حديث عن أمم ومجتمعات وتجمعات لذلك فقد جاز لنا تطبيق هذا المفهوم على مستوى الحضارات، ومن هنا تحدد مفهوم تعارف الحضارات. فهى نظرية مستنبطة من القرآن الكريم، وهو الكتاب الذى بإمكانه تحديد وصياغة العناوين أو المفاهيم الكلية والعامة والجامعة والشاملة ، إذا جاءت فى سياق يقتضى هذا الشأن - كما هو الحال فى آية التعارف - علمًا بأن جملة (شعوبًا وقبائل) لم ترد فى القرآن الكريم إلا فى هذه الآية . لهذا فإن تعارف الحضارات فيها من المقومات والركائز والشرائط بالشكل الذى يجعلنا نطلق عليها مصطلح النظرية .
ويضيف زكى الميلاد :(62/103)
إن نظرية تعارف الحضارات هى أكثر من كونها مرحلة وسيطة أو انتقالية، فهى وسيطة بمعنى أن على أساسها تتحدد مستويات ودرجات واتجاهات العلاقات ونظام التواصلات بين الناس، وبين المجموعات البشرية، وبين الحضارات، وهكذا أنماط وأشكال وصور هذه العلاقات والتواصلات. فالتعارف هو الذى يؤسس لأشكال الحوار ومستوياته ودرجاته، وإلى أشكال ومستويات ودرجات أخرى من العلاقات والتواصلات أيضًا ، كالتعاون والتحالف والتبادل والإنماء والاندماج والتكامل .. إلى غير ذلك من صور وأشكال وأنماط العلاقات . وبقدر ما يتطور التعارف تتطور تلك الصور والأنماط من العلاقات والتواصلات ، وهذا يعنى أن التعارف يسبق الحوار ويؤسس له أرضياته ومناخاته , ويشكل له بواعثه وحوافزه ، ويطور له صوره وأنماطه ، ويرتقى بدرجاته ومستوياته ، ولهذا فإن التعارف هو القاعدة وليس الحوار .
كما أن التعارف له من الفاعلية ما بإمكانه أن يجنب الحضارات مصير الصدام ، لأن الناس - كما قال الإمام على (رضى الله عنه) - أعداء ما جهلوا . وفى هذا المجال نستحضر من التاريخ الإسلامى الوسيط تجربة التحول العظيم الذى حصل عند المغول الذين بدؤوا بغزو كان من نتائجه تدمير الحضارة الإسلامية والإطاحة بها , وممارسة أعلى درجات البربرية وهو السلوك الذى كان يتصف بالقسوة والعنف والتخريب . ولكنهم وبعد زمن من السيطرة والتواجد فى المنطقة الإسلامية وبين المسلمين ، انتهوا إلى اعتناق الإسلام . والتعارف هو الذى أحدث هذا المستوى من التحول فى ذهنيات المغول . فالجهل قادهم إلى الحرب والتدمير ، والتعارف قادهم إلى السلم والإيمان .
وهناك أيضًا نموذج آخر هو التحول الذى حصل عند الأوروبيين بعد الحروب الصليبية التى قادتهم إلى قناعة جديدة ، هى ضرورة التعرف على الحضارة الإسلامية وعلى الشرق عمومًا ، الذى كان أكثر تقدمًا وتحضرًا ومدنية من الغرب . القناعة التى حرضت الغرب على أن ينهض بأكبر وأعظم جهد بحثى فى دراسة الإسلام والحضارة والشرق ، وهو الجهد الذى عرف بحركة الاستشراق ، وكان من المفترض لهذا الجهد أن يقود أوروبا إلى نوع من التفاهم وبناء علاقات جديدة بينها وبين الإسلام والعالم الإسلامى . لكن الذى حصل هو عكس الاتجاه تمامًا ، لأن المعرفة التى نهض بها الغرب ارتبطت بدوافع وخلفيات ومصالح استعمارية وإمبريالية ، وهذا يعنى أن التعارف لم يكن أخلاقيًا ، وإنما كان توظيفيًا ويخدم مصالح استعمارية .
وينتقد زكى الميلاد تعبير (حوار الحضارات) قائلاً :
قد وجدت بعد فحص مقولة حوار الحضارات أن هذه المقولة تفتقر إلى الدقة والوضوح والإحكام والتماسك . وأول ما يعترض هذه المقول هو : هل أن الحضارات تتحاور فعلاً ؟ وكيف نتصور هذا التحاور ونبرهن عليه ؟ علمًا بأن الدارسين والباحثين والمؤرخين فى ميادين التاريخ والاجتماع والانثربولوجيا والحضارة والثقافة ، الذين درسوا صور وأشكال وأنماط العلاقات بين الحضارات لم يتحدثوا عن ظاهرة الحوار بين الحضارات ، وإنما تحدثوا عن ظواهر أخرى كالتفاعل والتعاقب والتبادل والاحتكاك ، إلى جانب الصراع والصدام . وقد شرحوا هذه الظواهر وعرفوا بها وعن صورها وأشكالها وأنماطها . ولعل فى أكثر الأحيان يكون المقصود من حوار الحضارات تلك الظواهر المذكورة، لكن هذا لا يعفى من سلب الدقة عن هذه المقولة . وفى الأدبيات العربية المعاصرة هناك لفتات متزايدة ومقنعة لحد ما فى نقد هذه المقولة بعد أن دخلت فى دائرة التداول والاهتمام . وهناك من يصنفها مثل الدكتور الجابرى بأنها مفعمة بالغموض والالتباس ، وحسب رأيه أن الذين يطرحون هذه المقولة يتوقفون عند منطوقها حيث ينطوى موقفهم على نوع من الغفلة ، لأن الحوار بين الحضارات إما أن يكون عفويًا تلقائيًا نتيجة الاحتكاك الطبيعى فيكون عبارة عن تبادل التأثير عن أخذ وعطاء بفعل الصيرورة التاريخية، وهذا النوع من تلاقح الحضارات لا يحتاج إلى دعوة ، ولا يكون بتخطيط مسبق بل هو عملية تاريخية تلقائية .
ومن جهة أخرى فى نقد هذه المقولة : أنها غير ممكنة فعلاً من جهة التطبيق ، لأن الغرب الذى يفترض فيه أن يكون طرفًا أساسيًا فى أى حوار على مستوى الحضارات ، فإنه ليس على استعداد فى أنها ينخرط فى هذا الحوار مع حضارات يعتبرها غير متكافئة معه ، وهو الذى يمثل الحضارة الغالبة والمسيطرة على العالم والمتحكمة فى ثرواته . كما أن تاريخ علاقات الغرب بالحضارات الأخرى قد لا يشجعه على هذا الحوار ، وهو الذى دخل فى صدام وتدمير مع بقية الحضارات الأخرى وسلب منها ثرواتها وأوصلها إلى درجة الإفقار والتخلف .
يضاف إلى ذلك أننا على مستوى العالم العربى والإسلامى لا نمتلك نظرية واضحة حول حوار الحضارات ، ولا نفهمها أو نتعامل معها إلا بطريقة تغلب عليها العمومية والإطلاقية التى تفتقد إلى التحديد والتقييد والتبيين . لكنها مع ذلك تبقى من المقولات التى يمكن اعتبارها دعوة أخلاقية نبيلة .(62/104)
وهذا ما دفعنى إلى التمسك بمقولة (تعارف الحضارات) التى يمكن فهمها وتحديدها والبرهنة عليها , وحتى الاتفاق عليها . ويلاحظ زكى الميلاد أنه بعد 11 سبتمبر 2001م تنامت فى المجتمعات الغربية ظاهرة لفتت إليها الكثيرين فى داخل هذه المجتمعات ، وفى خارجها ، وهى ظاهرة تزايد واتساع الاهتمام نحو الاطلاع والتعرف والتساؤل عن الإسلام من جديد ، لدرجة أصبحت المؤلفات والكتابات فى هذا المجال هى الأكثر انتشارًا وتداولاً وطلبًا ، وبدأت المراكز والمعاهد والجمعيات الإسلامية هناك تستقبل اتصالات لم تشهد مثيلاً لها من قبل ، وتدور هذه الاتصالات حول الإسلام والقضايا الإسلامية والمجتمعات الإسلامية . ووصل الحال ببعض المعاهد والكليات والجامعات الأوروبية والأمريكية - التى وجدت من الضرورى تخصيص برامج دراسية حول الإسلام - أن تستجيب لحاجات طلابها فى تكوين المعرفة بالإسلام والثقافة الإسلامية ، ويمكن وصف هذه الظواهر بأنها تأتى فى سياق تأكيد الحاجة إلى تعارف الحضارات .
من جهة أخرى إن هذه الأحداث كشفت عن اختلالات عميقة فى طبيعة الرؤية المتشكلة حول العالم عند بعض الفئات والجماعات الإسلامية التى تحاول أن تصادم العالم وتنقطع عنه وترفض الاندماج فيه , وتعتبر أنها فى حالة حرب ومواجهة مع الذين يختلفون معها فى الدين والعقيدة . وهذه الحالة فى جوهرها تعبر عن أزمة فكرية ناشئة من عدم القدرة على تكوين المعرفة بالآخر المختلف . فىحين أن الذى ينبغى إعادة النظر فيه هو أن حقيقة مشكلتنا نحن فى العالم الإسلامى هى مع تخلفنا بالدرجة الأولى وليس مع الغرب أو الحضارات الأخرى . وبالتالى فإن القضية هى كيف نتغلب على هذا التخلف ونسلك طريق التحضر ، ومتى ما قطعنا هذه الخطوات أو بعضها سوف يتغير موقعنا فى العالم ، كما سوف تتغير نظرة العالم والحضارات الأخرى إلينا. لذلك فإننا ندرك وبعمق حاجتنا لأن ننهض بمشروع يكون بمستوى التعارف مع الحضارات على قاعدة أن نكتشف لأنفسنا الطريق الذى نستقل به فى سعينا نحو التمدن والتحضر .
كان يفترض فى أحداث 11 سبتمبر 2001م ، أن تهيىء اللحظة التاريخية لانطلاقة فكرة أو نظرية حول تعارف الحضارات ، لكى يتحصن العالم من النزاعات والصدامات والحروب ، ولكى لا تتكرر مثل هذه الأحداث مرة أخرى فى أى مكان من العالم . وهذا يتطلب صياغة رؤية جديدة للعالم يشترك الجميع بكل تنوعاتهم الدينية والثقافية ، العرقية والقومية ، اللغوية واللسانية ، فى صياغتها وبلورتها وتكاملها ، وفى التضامن حولها ، والدفاع عنها . الرؤية التى تنطلق من مراجعة شاملة ونقد جذرى لطبيعة النظام العالمى السائد بكل مكوناته وعناصره وشرائطه ، ويصل إلى جوهره وحقيقته . لأن هذا النظام العالمى يرسخ العنصرية والطبقية وبكل صورها وأنماطها ، ولا يضمن كرامة الجميع ولا يحفظ حقوق الجميع . وهذه الوضعيات هى التى تحرض على انتشار ظواهر العنف ، وتسبب النزاعات ، وتشعل الحروب ، وهى التى تجعل مثل أحداث أيلول/سبتمبر ممكنة الحدوث . والأفدح من ذلك محاولة الغرب أن يحتكر الحضارة والمدنية لنفسه ، ويرسخ فى العالم الانقسام بين أمم متحضرة وأمم متخلفة ، هذا الاختلال هو ما ينبغى أن يتغير .
وفكرة تعارف الحضارات تأتى فى سياق نقد هذا الاختلال والعمل على إنهاض وبناء وعمران الحضارات المختلفة ، لأنها - أى تعارف الحضارات - تنطلق من نزعة إنسانية عميقة هى التأكيد على وحدة الأصل الإنسانى ، والغاية من تأكيد وحدة الأصل الإنسانى فى هذه الآية هو أن ينظر الناس من أمم ومجتمعات وحضارات إلى أنفسهم كما لو أنهم أسرة واحدة ، لكنها منتشرة على مساحات هذه الأرض . وهذه النظرة الإنسانية والأخلاقية بحاجة إلى تنظيم قواعد السلوك على المستوى الدولى . يضاف إلى ذلك أن هناك اعتقادًا بدأ يتأكد بين الحضارات ، هو أن هذه الحضارات لا تعرف بعضها بعضًا كما ينبغى ، وتفتقد إلى جسور التواصل فى عالم تطورت فيه تقنيات الاتصال وأنظمة المواصلات التى باتت تربط العالم ، وتجعل منه أشبه ما يكون بقرية صغيرة. لهذا يمكن الاستفادة من العولمة فى تطوير وتعميم فكرة التعارف بين الحضارات، وتقليص المسافات التى تفصل بينها وإزالة جميع صور الجهل أو عدم الفهم أو غير ذلك فيما بين هذه الحضارات .
رأى المؤلف(62/105)
نظن أن الاختلاف فى تحديد اسم العلاقة مع الآخر ، وهل هو (حوار) أم (تعارف) أم (تدافع) لا يهم .. المهم فى نظرنا أن يكون جوهر العلاقة مع الآخرين هو : التفاهم والتواصل والتبادل الحضارى ؛ أى تبادل المنافع والخيرات والخبرات ، كما نلاحظ أن المعانى متقاربة للغاية ، وكل منها يقره الإسلام بل يدعو إليه ..كذلك فإن التحاور هو الوسيلة إلى التعارف ، كما أن التدافع يعنى التفاعل الإيجابى، وأن يفيد كل طرف بما هو نافع وحسن لدى الآخر وينبذ الباقى .. وتبادل المنافع والثقافات والخيرات مرحلة تتبع الحوار والتعارف ثم التواصل والتآلف .. وبناء على ذلك ينبغى على علمائنا عدم التوقف كثيرًا عند المسميات ، وإثارة الخلافات النظرية حولها ، بل ننصرف سريعًا إلى المضمون والجوهر ، فمازلنا فى بداية الطريق ، والعبرة بالتطبيق وسرعة تحويل الأفكار والنظريات إلى واقع ملموس على الأرض .
• والمطلوب الآن ترسيخ ثقافة الحوار مع الآخر ، وبث مفاهيم التواصل والتبادل الحضارى على الجانبين ، وحشد أنصار جدد لها للتصدى للمعسكر الآخر الداعى إلى الصراع والصدام ، واستخدام كل السبل والوسائل المتاحة - وعلى رأسها وسائل الإعلام العالمية - للرد على جميع مزاعم هنتنجتون وأمثاله وتفنيد آرائهم الهدَّامة ، وإقناع الجميع بخطورة التسليم بها، وضرورة شيوع ثقافة الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى، فهى الحل الوحيد لإنقاذ البشرية كلها من ويلات ومخاطر لا تُبقى ولا تذر .
ضوابط الحوار :
ويحدد الدكتور يوسف القرضاوى ضوابط الحوار فيما يلى :
• الحوار بالحسنى : فالقرآن الكريم يأمرنا صراحة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن) النحل:125 . فالموافقون لك فى الدين تدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، والآخرون تجادلهم بالتى هى أحسن ، وهناك طريقتان للحوار : طريقة حسنة ، وطريقة أحسن منها وأجود ، فالمسلم مأمور أن يستخدم الطريقة التى هى أحسن وأمثل. وقد اكتفى القرآن مع الموافقين بأن تكون الموعظة حسنة ، ولم يرض مع المخالفين إلا أن يكون الجدال بالتى هى أحسن .
وقد نص القرآن على ذلك فى خصوص أهل الكتاب ، فقال تعالى : (ولاتجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم) العنكبوت:46 .
ومن أجل ذلك أفضل أن يكون عنوان الدعوة (الحوار بين الأديان) وليس (التقريب)؛ لأنها تفهم خطأ .
• التركيز على القواسم المشتركة بيننا وبين أهل الكتاب ؛ ولهذا جاء فى تتمة الآية السابقة فى مجادلة أهل الكتاب : (وقولوا آمنا بالذى أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) العنكبوت:46 .
ففى مجال التقريب والحوار بالتى هى أحسن : ينبغى ذكر نقاط الاتفاق، لا نقاط التمايز والاختلاف .
وهناك من المسلمين المتشددين من يزعم أنه لا توجد بيننا وبين اليهود والنصارى أية جوامع مشتركة، ما دمنا نحكم عليهم بالكفر، وأنهم حرفوا وبدلوا كلام الله .
وهذا فهم خاطىء للموقف الإسلامى من القوم . فلماذا أباح الله تعالى مؤاكلتهم ومصاهرتهم؟ وكيف أجاز للمسلم أن تكون زوجته وربة بيته وأم أولاده كتابية ؟ ومقتضى هذا : أن يكون أجداد أولاده وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم وأولادهم من أهل الكتاب، وهؤلاء جميعًا لهم حقوق ذوى الرحم وأولى القربى .
ولماذا حزن المسلمون حين انتصر الفرس - وهم مجوس يعبدون النار - على الروم ، وهم نصارى أهل الكتاب ؟ حتى أنزل الله قرآنًا يبشر المسلمين بأن الروم سينتصرون فى المستقبل القريب (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) الروم:4 ، 5 ، كما جاء فى أول سورة الروم .
وهذا يدل على أن أهل الكتاب - وإن كفروا برسالة صلى الله عليه وسلم - أقرب إلى المسلمين من غيرهم من الجاحدين أو الوثنيين .
• الوقوف معًا لمواجهة أعداء الإيمان ، ودعاة الإلحاد فى العقيدة، والإباحية فى السلوك ، من أنصار المادية ، ودعاة العرى، والتحلل الجنسى والإجهاض والشذوذ الجنسى ، وزواج الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء .
فلا مانع أن نقف مع أهل الكتاب فى جبهة واحدة ، ضد هؤلاء الذين يريدون دمار البشرية بدعاواهم المضللة ، وسلوكياتهم الغاوية، وأن يهبطوا بها من نقاء الإنسانية إلى درك الحيوانية : (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً ، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) الفرقان : 43 ، 44 .
وقد رأينا الأزهر ورابطة العالم الإسلامى والفاتيكان يقفون فى (مؤتمر السكان) فى القاهرة سنة 1994م، وفى مؤتمر المرأة فى بكين سنة 1995م فى صف واحد، لمواجهة دعاة الإباحية .
• الوقوف معًا لنصرة قضايا العدل، وتأييد المستضعفين والمظلومين فى العالم، مثل قضية فلسطين والبوسنة والهرسك، وكوسوفا ، وكشمير ، واضطهاد السود والملونين فى أمريكا وفى غيرها، ومساندة الشعوب المقهورة ضد الظالمين والمستكبرين فى الأرض بغير الحق، الذين يريدون أن يتخذوا عباد الله عبادًا لهم .
فالإسلام يقاوم الظلم، ويناصر المظلومين، من أى شعب ، ومن أى جنس، ومن أى دين .(62/106)
والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر حلف الفضول الذى شارك فيه فى شبابه فى الجاهلية ، وكان حلفًا لنصرة المظلومين ، والمطالبة بحقوقهم، ولو كانت عند أشراف القوم وسراتهم .
وقال عليه الصلاة والسلام: (لو دعيت إلى مثله فى الإسلام لأجبت)(6).
• ومما ينبغى أن تتضمنه هذه الدعوة : إشاعة روح السماحة والرحمة والرفق فى التعامل بين أهل الأديان ، لا روح التعصب والقسوة والعنف .
فقد خاطب الله تعالى رسوله محمدًا بقوله : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107 .
وقال عليه الصلاة والسلام عن نفسه : (إنما أنا رحمة مهداة)(7) .
وذم الله بنى إسرائيل بقوله : (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) المائدة:13 ، وفى موضع آخر قال فى مخاطبتهم : (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة) البقرة:74 .
وقال النبى لزوجه عائشة : (إن الله يحب الرفق فى الأمر كله)(8) ، (ما دخل الرفق فى شىء إلا زانه وما نزع من شىء إلا شانه) ، (إن الله يحب الرفق، ويعطى عليه ما لا يعطى على العنف)(9) .
ولا تتنافى روح التسامح والرحمة والرفق فى معاملة أهل الكتاب مع ما يعتقده المسلم من كفرهم بدين الإسلام، وأنهم على ضلال، فهناك عناصر أخرى تخفف من هذا الأمر فى فكر المسلم وضميره :
1- فهو يعتقد أن اختلاف البشر فى أديانهم واقع بمشيئة الله تعالى، المرتبطة بحكمته . كما قال تعالى : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود:119،118، أى خلقهم ليختلفوا مادام قد منحهم العقل وحرية الإرادة .
2- وأن الحساب على ضلال الضالين، وكفر الكافرين ليس فى هذه الدنيا، ولكن فى الآخرة, وليس موكولاً إلينا ، ولكن إلى الله الحكم العدل، واللطيف الخبير . كما قال تعالى لرسوله : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولاتتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأُمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) الشورى:15 .
3- اعتقاد المسلم بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان . وفى هذا روى البخارى عن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم مروا عليه بجنازة، فقام لها واقفًا، فقالوا : يا رسول الله ، إنها جنازة يهودى! فقال : (أليست نفسًا؟) بلى فما أعظم الموقف، وما أروع التعليل !!
4- إيمان المسلم بأن عدل الله لجميع عباد الله، مسلمين وغير مسلمين، كما قال تعالى : (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة:8، وبهذا لا يتحيز المسلم الحق لمن يحب، ولا يحيف على من يكره. بل يؤدى الحق لأهله، مسلمًا أو غير مسلم، صديقًا أم عدوًا(10) .
المراجع
1. مجلة الوعى الإسلامى - العدد 455 رجب 1424 هـ .
2. المعجم الوسيط - مجمع اللغة العربية - القاهرة - دار المعارف ص 205 .
3. الشيخ محمد الخضيرى - تاريخ التشريع الإسلامى - المكتبة التجارية - مصر .
4. محمد أبو زهرة - العلاقات الدولية فى الإسلام - الدار القومية - القاهرة - 1964هـ ص 29 .
(5) موقع البلاغ www.balagh.com .
6. الدكتور أحمد عبد العزيز المزينى - مجلة الوعى الإسلامى - العدد 455 .
7. رواه ابن إسحاق فى السيرة كما فى ابن هشام (1/29) من الطبعة الجمالية، قال ابن زيد بن المهاجر قنفذ التيمى أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهرى يقول : قال رسول الله : فذكره، قلت : وهذا سند صحيح لولا أنه مرسل . ولكن له شواهد تقويه ، فرواه الحميدى بإسناد آخر مرسلاً أيضًا كما فى (البداية) 2/29. وأخرجه الإمام أحمد (رقم 1655/ 1676) من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعًا دون قوله : (ولو دُعيت به فى الإسلام لأجبت) وسنده صحيح .
8. الحاكم : عن أبى هريرة :1/35 صححه الحاكم ووافقه الذهبى، تفسير ابن كثير 3/202،201.
9. متفق عليه : اللؤلؤ والمرجان عن عائشة (1400) .
(10) د. يوسف عبد الله - فى فقه الأقليات المسلمة - دار الشروق - مصر .
الفصل الرابع
هل انتشر الإسلام بالسيف ؟
من المزاعم التىتخيف الآخرين وتعرقل الحوار والتعارف ، تلك الأكذوبة التى يتداولها كثير من المستشرقين، وخلاصتها : أن الإسلام قد انتشر بالسيف.. ويمكننا الرد على هذه الفرية بكل سهولة وإيجاز فيما يلى :
• لقد عاش الرسو صلى الله عليه وسلم قرابة 13 عامًا فى مكة يدعو إلى الله سراً وعلانيةً .. وتعرض هو وكل أصحابه لأذى المشركين واضطهادهم بكل الوسائل والأساليب ، فما رفع أحدهم سيفًا على مشرك .. وقد يقول قائل : هذا لأنهم كانوا مستضعفين فى ذلك الوقت .. ونرد فورًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عمن آذوه وعذبوا أصحابه وقتلوا بعضهم عندما أمكنه الله منهم بفتح مكة ، وقال لهم قولته الشهيرة : (اذهبوا فأنتم الطلقاء)(1) .(62/107)
• إن استمرار وجود ملايين من غير المسلمين فى معظم دول العالم الإسلامى حتى الآن بكنائسهم ومعابدهم هو الدليل القاطع على تسامح المسلمين وعدلهم ، وحمايتهم للآخر ، وعدم إكراه أحد على الإسلام بعد أن فتحوا تلك البلدان . (قارن هذا التسامح بالإبادة الجماعية للمسلمين فى إسبانيا بعد انتهاء الحكم الإسلامى بها ، وإبادة الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين على أيدى البيض الذين قدموا من شتى أنحاء أوروبا واحتلوا الأمريكتين بقوة السلاح) .
• فى عصرنا الحديث اعتنق الملايين من الأوروبيين والأمريكان الإسلام .. ومازال عشرات الألوف يدخلون فى دين الله أفواجًا يوميًا بعد اقتناع ودراسة متأنية .. أى سيف الآن أجبر هؤلاء على الإسلام ؟! لقد اعترف الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون بأن الإسلام هو أسرع الأديان انتشارًا الآن فى الولايات المتحدة الأمريكية (أقوى دولة فى العالم والتى تحتل الآن دولاً إسلامية مثل العراق وأفغانستان) فهل نقدر الآن - كمسلمين - على ممارسة أى ضغط أو إجبار على أحد من الأمريكان أو الأوروبيين لاعتناق الإسلام ؟ هل أرغم أحد المفكر العالمى الفرنسى رجاء جارودى على اعتناق الإسلام ؟ هل هدد أحد النجم العالمى كات ستيفن ليصبح مسلماً ؟ وهل أجبر أحد الملاكم العالمى محمد على كلاى وزميله مايك تايسون على الإسلام ؟ وماذا عن مئات القساوسة فى الغرب الذين أسلموا بعد مقارنة للأديان ؟(2) .
• دخل الإسلام معظم أنحاء آسيا وأفريقيا عن طريق التجار المسلمين العزل من أى سلاح - سوى العقيدة الراسخة - الذين جذبوا أنظار السكان الأصليين بالأمانة والصدق ومكارم الأخلاق ، ونجحوا فى دعوتهم إلى الإسلام بالقدوة الحسنة .
• نصوص القرآن قاطعة فى النص على حرية العقيدة .. يقول الإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا فى تفسير قوله تعالى : (لا إكراه فى الدين) البقرة:256 . أخرج ابن جرير من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال : (لا إكراه فى الدين) هذه الآية فى رجل من الأنصار من بنى سالم بن عوف يقال له الحصين ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو مسلماً ، فقال للنبى صلى الله عليه وسلم ألا أستكرههما ؛ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ، فأنزل الله الآية . وفى بعض التفاسير أنه حاول إكراههما ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله ، أيدخل بعضى النار وأنا أنظر ! ولابن جرير عدة روايات فى نذر النساء فى الجاهلية تهويد أولادهم ليعيشوا ، وإن المسلمين بعد الإسلام أرادوا إكراه من لهم من الأولاد على دين أهل الكتاب على الإسلام ، فنزلت الآية ، فكانت فصل ما بينهم ، وفى رواية له عن سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عندما أنزلت : (قد خيَّرَ الله أصحابكم ، فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم) .
قال الشيخ رشيد رضا فى تفسير الآية(3) : هذا حكم الدين الذى يزعم الكثيرون من أعدائه - وفيهم من يظن أنه من أوليائه - أنه قام بالسيف والقوة، فكان يعرض على الناس والقوة عن يمينه ، فمن قبله نجا ، ومن رفضه حكم السيف فيه حكمه ، فهل كان السيف يعمل عمله فى إكراه الناس على الإسلام فى مكة أيام كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى مستخفياً ، وأيام كان المشركون يفتنون المسلم بأنواع من التعذيب ولا يجدون رادعاً ، حتى اضطر النبى وأصحابه إلى الهجرة ؟ أم يقولون إن ذلك الإكراه وقع فى المدينة بعد أن اعتز الإسلام ، وهذه الآية قد نزلت فى غرة هذا الاعتزاز ؟ فإن غزوة بنى النضير كانت فى ربيع الأول من السنة الرابعة ، وقال البخارى : إنها كانت قبل غزوة أحد التى لا خلاف فى أنها كانت فى شوال سنة ثلاث ، وكان كفار مكة لا يزالون يقصدون المسلمين بالحرب . نقض بنو النضير عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فكادوا له وهمَّوا باغتياله مرتين ، وهم بجواره فى ضواحى المدينة ، فلم يكن بُدّ من إجلائهم عن المدينة ، فحاصرهم حتى أجلاهم ، فخرجوا مغلوبين على أمرهم ، ولم يأذن لمن استأذنه من أصحابه بإكراه أولادهم المتهودين على الإسلام ومنعهم من الخروج مع اليهود، فذلك أول يوم خطر فيه على بال بعض المسلمين الإكراه على الإسلام ، وهو اليوم الذى نزل فيه (لا إكراه فى الدين) .
ثم نقل عن الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله أنه قال : كان معهودًا عند بعض الملل لاسيما النصارى حمل الناس على الدخول فى دينهم بالإكراه ، وهذه المسألة ألصق بالسياسة منها بالدين، لأن الإيمان - وهو أصل الدين وجوهره - عبارة عن إذعان النفس ، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه ، وإنما يكون بالبيان والبرهان ، ولذلك قال تعالى بعد نفى الإكراه : (قد تبين الرشد من الغى) البقرة:256 ، أى قد ظهر أن فى هذا الدين الرشد والهدى والفلاح والسير فى الجادة على نور، وأن ما خالفه من الملل والنحلل على غى وضلال .(62/108)
ثم قال : ورد بمعنى هذه الآية (يونس:99) قوله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وتؤيدهما الآيات الكثيرة الناطقة بأن الدين هداية اختيارية للناس ، تعرض عليهم مؤيدة بالآيات والبينات ، وأن الرسل لم يبعثوا جبارين ولا مسيطرين ، وإنما بعثوا مبشرين ومنذرين . ولكن يُرد علينا أنا أمرنا بالقتال ، وقد تقدم بيان حكمة ذلك ، بلى أقول : إن الآية التى نفسرها نزلت فى غزوة بنى النضير، إذ أراد بعض الصحابة إجبار أولادهم المتهودين أن يسلموا ولا يكونوا مع بنى النضير فى جلائهم كما مر ، فبين الله لهم أن الإكراه ممنوع ، وأن العمدة فى دعوة الدين بيانه حتي يبين الرشد من الغى، وأن الناس مخيرون بعد ذلك فى قبوله أو تركه . ثم قال : شرع القتال لتأمين الدعوة، ولكف شر الكافرين عن المؤمنين، لكيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن تتمكن الهداية من قلبه، ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه، كما كانوا يفعلون ذلك فى مكة جهرًا، ولذلك قال : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) البقرة:193 ، أى حتى يكون الإيمان فى قلب المؤمن آمنا من زلزلة المعاندين له بإيذاء صاحبه، فيكون دينه خالصاً لله غير مزعزع ولا مضطرب، فالدين لا يكون خالصاً لله إلا إذا كفت الفتن عنه وقوى سلطانه، حتى لا يجرؤ على أهله أحد.
ثم نقل عن الأستاذ الإمام محمد عبده أن الفتن إنما تكف بأحد أمرين :
الأول : إظهار المعاندين للإسلام ولو باللسان، لأن من فعل ذلك لا يكون من خصومنا، ولا يبارزنا بالعداء، وبذلك تكون كلمتنا بالنسبة إليه هى العليا، ويكون الدين لله، ولا يفتن صاحبه فيه، ولا يمنع من الدعوة إليه .
والثانى : - وهو أدل على عدم الإكراه - قبول الجزية، وهى شىء من المال يعطوننا إياه جزاء حمايتنا لهم بعد خضوعهم لنا، وبهذا الخضوع نكتفى شرهم، وتكون كلمة الله هى العليا .
فقوله تعالى : (لا إكراه فى الدين) قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام، وركن عظيم من أركان سياسته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولايسمح لأحد أن يكره أحداً من أهله على الخروج منه . وإنما نكون متمكنين من إقامة هذا الركن وحفظ هذه القاعدة إذا كنا أصحاب قوة ومنعة نحمى بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا فى ديننا اعتداء علينا بما هو آمن أن نعتدى بمثله عليه ، إذ أمرنا أن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نجادل المخالفين بالتى هى أحسن ، معتمدين على أن تَبَيُّن الرشد من الغى هو الطريق المستقيم إلى الإيمان، مع حرية الدعوة، وأمن الفتنة . فالجهاد من الدين بهذا الاعتبار، أى أنه ليس من جوهره ومقاصده، وإنما هو سياج له وجُنَّة، فهو أمر سياسى لازم له للضرورة، ولا التفات لما يهذى به العوام ومعلموهم الطغام، إذ يزعمون أن الدين قام بالسيف، وأن الجهاد مطلوب لذاته، فالقرآن فى جملته وتفصيله حجة عليهم .
وذكر أيضًا فى تفسير قوله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) أن هذه أول آية نزلت فى أن الدين لا يكون بالإكراه، أى لا يمكن للبشر ولا يُستطاع، ثم نزل عند التنفيذ (لا إكراه فى الدين) (البقرة:256) أى لا يجوز ولا يصح به، لأن علماء المسلمين أجمعوا على أن إيمان المُكْره باطل لا يصح، لكن نصارى أوروبا ومقلديهم من أهل الشرق لا يستحون من افتراء الكذب على الإسلام والمسلمين، ومنه رميهم بأنهم كانوا يكرهون الناس على الإسلام ، ويُخَيِّرونهم بينه وبين السيف يقطع رقابهم، على حد المثل : (رمتنى بدائها وانسلت) .
فهذا ما يقوله الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا فى تفسير تلك الآية, وهما اللذان كان لهما ولأستاذهما جمال الدين الأفغانى الفضل فى تطهير الإسلام مما لصق به من آثار الجمود، حتى أعادوه إلى طهارته وروعته الأولى، فأمكنه أن يقف كالصخرة العاتية أمام سيل الشبهات التى توجه إليه فى هذا العصر، ولولا هذا لتزعزعت أركانه ، ولاختفى فى ظلمات الجمود التى كانت تخيم عليه، وتساعد أعداء الإسلام فيما يوجهونه من طعنات إليه، كما يساعدونهم فى جمودهم على تفسير تلك الآية بما يفيد أن الإسلام لم ينتشر إلا بالإكراه .
شهادة مفكر مسيحى
وهناك أيضًا شهادات المنصفين من غير المسلمين ، ونختار منها شهادة ذلك المفكر المصرى المسيحى الدكتور نبيل لوقا بباوي(4) الذى أصدر مؤخرًا دراسة تحت عنوان : (انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء) رد فيها على الذين يتهمون الإسلام بأنه انتشر بحد السيف وأجبر الناس على الدخول فيه واعتناقه بالقوة .
وناقشت الدراسة هذه التهمة الكاذبة بموضوعية علمية وتاريخية أوضحت خلالها أن الإسلام، بوصفه دينًا سماويًا، لم ينفرد وحده بوجود بفئة من أتباعه لاتلتزم بأحكامه وشرائعه ومبادئه التى ترفض الإكراه فى الدين، وتحرم الاعتداء على النفس البشرية، وأن سلوك وأفعال وفتاوى هذه الفئة القليلة من الولاة والحكام والمسلمين غير الملتزمين لا تمت إلى تعاليم الإسلام بصلة .(62/109)
فقد حدث فى المسيحية أيضاً التناقض بين تعاليمها ومبادئها التى تدعو إلى المحبة والتسامح والسلام بين البشر وعدم الاعتداء على الغير ، وبين ما فعله بعض أتباعها فى البعض الآخر من قتل وسفك دماء واضطهاد وتعذيب، مما ترفضه المسيحية ولا تقره مبادئها، مشيرة إلى الاضطهاد والتعذيب والتنكيل والمذابح التى وقت على المسيحيين الكاثوليك، لاسيما فى عهد الإمبراطور دقلديانوس الذى تولى الحكم فى عام 248م، فكان فى عهده يتم تعذيب المسيحيين الأرثوذكس فى مصر بإلقائهم فى النار أحياء ، أو تعليقهم على الصليب حتى يهلكوا جوعًا، ثم تترك جثثهم لتأكلها الغربان، أو كانوا يوثقون فى فروع الأشجار، بعد أن يتم تقريبها بآلات خاصة ، ثم تترك لتعود لوضعها الطبيعى فتتمزق الأعضاء الجسدية للمسيحيين إرباً إرباً .
وأضاف بباوي : أن أعداد المسيحيين الذين قتلوا بالتعذيب في عهد الإمبراطور دقلديانوس يقدر بأكثر من مليون مسيحى ، إضافة إلى المغالاة فى الضرائب التى كانت تفرض على كل شىء حتى على دفن الموتى ، لذلك قررت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى مصر اعتبار ذلك العهد عصر الشهداء، وأرخوا به التقويم القبطى تذكيرًا بالتطرف المسيحى. وأشار الباحث إلى الحروب الدموية التى حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت فى أوروبا، وما لاقاه البروتستانت من العذاب والقتل والتشريد والحبس في غياهب السجون إثر ظهور المذهب البروتستانتى الذى أسسه الراهب مارتن لوثر الذى ضاق ذرعاً بمتاجرة الكهنة بصكوك الغفران ، فتصدوا له ولأتباعه وذبحوا الملايين منهم .
وهدفت الدراسة من عرض هذا الصراع المسيحى إلى :
أولاً : عقد مقارنة بين هذا الاضطهاد الدينى الذى وقع على المسيحيين الأرثوذكس من قبل الدولة الرومانية ، ومن المسيحيين الكاثوليك ، وبين التسامح الدينى الذى حققته الدولة الإسلامية في مصر، وحرية العقيدة الدينية التى أقرها الإسلام لغير المسلمين ، وتركهم أحراراً في ممارسة شعائرهم الدينية داخل كنائسهم، وتطبيق شرائع ملتهم في الأحوال الشخصية، مصداقًا لقوله تعالى في سورة البقرة : (لا إكراه في الدين) البقرة:256، وتحقيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغير المسلمين في الدولة الإسلامية إعمالاً للقاعدة الإسلامية (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، وهذا يثبت أن الإسلام لم ينتشر بالسيف والقوة لأنه تم تخيير غير المسلمين بين قبول الإسلام أو البقاء على دينهم مع دفع الجزية (ضريبة الدفاع عنهم وحمايتهم وتمتعهم بالخدمات)، فمن اختار البقاء على دينه فهو حر، وقد كان في قدرة الدولة الإسلامية أن تجبر المسيحيين على الدخول في الإسلام بقوتها، أو أن تقضى عليهم بالقتل إذا لم يدخلوا قهرًا، ولكن الدولة الإسلامية لم تفعل ذلك تنفيذاً لتعاليم الإسلام ومبادئه، فأين دعوى انتشار الإسلام بالسيف ؟
ثانيًا : إثبات أن الجزية التى فرضت على غير المسلمين فى الدولة الإسلامية بموجب عقود الأمان التى وقعت معهم، إنما هى ضريبة دفاع عنهم فى مقابل حمايتهم والدفاع عنهم من أى اعتداء خارجى، لإعفائهم من الاشتراك فى الجيش الإسلامى حتى لا يدخلوا حربًا يدافعون فيها عن دين لا يؤمنون به، ومع ذلك فإذا اختار غير المسلم أن ينضم إلى الجيش الإسلامى برضاه فإنه يعفى من دفع الجزية .
وتقول الدراسة : إن الجزية كانت تأتى أيضًا نظير التمتع بالخدمات العامة التى تقدمها الدولة للمواطنين مسلمين وغير مسلمين، والتى تنفق من أموال الزكاة التى يدفعها المسلمون بصفتها ركناً من أركان الإسلام، وهذه الجزية لا تمثل إلا قدرًا ضئيلاً متواضعًا لو قورنت بالضرائب الباهظة التى كانت تفرضها الدولة الرومانية على المسيحيين فى مصر، ولا يعفى منها أحد، فى حين أن أكثر من 70% من الأقباط الأرثوذكس كانوا يعفون من دفع هذه الجزية، فقد كان يعفى من دفعها : القُصّر والنساء والشيوخ والعجزة وأصحاب الأمراض والرهبان والفقراء أيضًا كانوا يعفون .
ثالثاً : إثبات أن تجاوز بعض الولاة المسلمين ، أو بعض الأفراد أو بعض الجماعات من المسلمين فى معاملاتهم لغير المسلمين إنما هى تصرفات فردية شخصية لا تمت لتعاليم الإسلام بصلة، ولا علاقة لها بمبادىء الدين الإسلامى وأحكامه، فإنصافاً للحقيقة يجب ألا ينسب هذا التجاوز للدين الإسلامى، وإنما ينسب إلى من تجاوز، وهذا الضبط يتساوى مع رفض المسيحية للتجاوزات التى حدثت من الدولة الرومانية ، ومن المسيحيين الكاثوليك ضد المسيحيين الأرثوذكس، ويتساءل قائلاً : لماذا إذن يغمض بعض المؤرخين عيونهم عن التجاوز الذى حدث فى جانب المسيحية ولا يتحدثون عنه بينما يضخمون الذى حدث فى جانب الإسلام، ويتحدثون عنه ؟ ولماذا الكيل بمكيالين ؟ والوزن بميزانين؟!
• ونشير فى هذا الصدد إلى الواقعة المشهورة التى ترويها كتب التاريخ (سيرة عمر بن الخطاب للإمام الجوزى) التى اقتص فيها الفاروق عمر من ابن والى مصر عمرو بن العاص الذى ضرب قبطيًا ظلمًا ، وقال الفاروق كلمته المشهورة : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ؟!) .
المراجع(62/110)
(1) راجع سيرة ابن هشام - السيرة النبوية لابن كثير - فقه السيرة للشيخ محمد الغزالى .
(2) انظر قصص إسلام هؤلاء فى : www.thet r ue r eligion.o r g/conve r ts ، وموقع www.saaid.net ، www.islamway.com .
(3) تفسير المنار - سورة البقرة - الآية 256 . وقارن تفسير هذه الآية فى الجامع لأحكام القرآن للقرطبى - تفسير ابن كثير - تفسير النسفى - تفسير البيضاوى - تفسير الطبرى - فى ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب .
(4) نبيل لوقا بباوى - انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء - دار بباوى للنشر - القاهرة 2003م .
الفصل الخامس
الأقليات فى المجتمع الإسلامى
لكى ندرك عظمة التشريع الإسلامى فى الاعتراف (بالآخر) وحفظ حقوقه فى إطار من التعايش السلمى للمجتمع بجميع طوائفه وفئاته، علينا أن نشير إلى ما كانت عليه الأمم الأخرى قبل ظهور الإسلام ..
• فالرومان كانوا يحتكرون (السيادة والشرف) للجنس الرومانى، ويرون فى الأخرين والأغيار (برابرة) لا يستحقون حتى أن يطبق عليهم القانون الرومانى! .. ولا حق لهم فى التدين بغير دين السادة الرومان - وثنّيا كان هذا الدين أو نصرانيًا - ولقد صبوا جام اضطهادهم، فى حقبة الوثنية، على اليهود وعلى النصارى، وفى حقبة تنصرهم، على النصرانية الشرقية - المخالفة لهم فى المذهب - فى مصر والشام .
• واليهودية التلمودية، قد تحولت إلى (وثنية) جعلت الله، سبحانه وتعالى، إله بنى إسرائيل وحدهم، وللشعوب الأخرى آلهتها، وذلك بدلاً من الإيمان بأنه، سبحانه، هو إله العالمين .. ولقد صبوا جام اضطهادهم على المسيح عيسى ابن مريم، عليه السلام، وعلى حوارييه والذين آمنوا به واتبعوه.
والنصرانية - هى الأخرى - بادلت الآخرين إنكارًا بإنكار، واضطهادًا باضطهاد.. فبمجرد أن أفاقت - فى مصر مثلاً - من الاضطهاد الوثنى الرومانى، وفور تدين الدولة الرومانية بالنصرانية، على عهد الإمبراطور (قسطنطين) (274 - 337م) صبت هذه النصرانية جام اضطهادها على الوثنية المصرية، فدمرت معابدها، وأحرقت مكتباتها، وسحلت وقتلت ومزقت وأحرقت فلاسفتها .. وسجل التاريخ كيف قاد بطرك الكنيسة المصرية (تيوفيلوس) (385 - 412م) (حملة اضطهاد عنيفة ضد الوثنيين، واتجه للقضاء على مدرسة الإسكندرية، وتدمير مكتبتها وإشعال النار فيها .. وطالت هذه الإبادة مكتبات المعابد .. وتم السحل والتمزيق والحرق لفيلسوفة الأفلاطونية الحديثة، وعالمة الفلك والرياضيات (إناتيه) (370 - 415م) وذلك فضلاً عن تحطيم التماثيل .. والعبث بالآثار ..)(1).
ثم عادت النصرانية اليعقوبية إلى موقع الضحية والمضطهد من النصرانية الملكانية الرومانية، بعد الاختلاف حول طبيعة المسيح، عليه السلام ..
ثم جاء الإسلام فأحدث (الإصلاح الثورى) فى العلاقة بالآخرين، وبلغ فى العمق والسمو الحد الذى جعل فيه الآخر جزءًا من الذات ، وكما يقول المفكر الإسلامى الدكتور محمد عمارة : فقد وضع الإسلام هذه المبادئ كمواد فى دستور دولته الأولى - دولة النبوة والخلافة الراشدة - .. وصياغات دستورية فى المواثيق والمعاهدات والعهود التى عقدتها الدولة الإسلامية مع (الآخرين) الذين قامت بينهم وبين دولة الإسلام علاقات ومصالح وارتباطات، ثم تجسد كل ذلك فى الواقع والحضارة والتاريخ ..
ففى دستور دولة المدينة - (الصحيفة .. الكتاب) - الذى وضعه رسوله ا صلى الله عليه وسلم عند قيام هذه الدولة، عقب الهجرة، لينظم الحقوق والواجبات بين مكونات الأمة، فى الوطن .. نص هذا الدستور على أن القطاعات العربية المتهودة من قبائل المدينة، ومن لحق بهم وعاهدوه، قد أصبحوا جزءًا أصيلاً فى الأمة الواحدة والرعية المتحدة لهذه الدولة الإسلامية.. فنص هذا الدستور على أن (يهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم .. ومن تبعنا من يهود فإن لهم النصر والأسوة، غير مظلومين ولا مُتَنَاصر عليهم .. وأن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم .. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه)(1) .
وهكذا تجسد التحام (الآخر اليهودى) فى الأمة الواحدة والرعية المتحدة للدولة، فى ظل المرجعية الإسلامية، ومن خلال سعتها التى نص عليها هذا الدستور عندما قال: (.. وأنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده ، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله ..)(3) .
كذلك تجسد هذا الالتحام (بالآخر)، وتحققت هذه المساواة وإياه فى العلاقة التى أدخلت النصارى - نصارى (نجران) وكل المتدينين بالنصرانية - فى صلب الأمة الواحدة، وفى رعية الدولة المتحدة، فنص ميثاق العهد الذى كتبه رسول ا صلى الله عليه وسلم لنصارى (نجران) على مجموعة من المبادئ الدستورية التى وضعت مبادئ علاقة الإسلام بالآخرين فى الممارسة والتطبيق .. فجاء هذا الميثاق :(62/111)
(.. ولنجران وحاشيتها، ولأهل ملتها ، ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية .. جوار الله وذمة محمد رسول الله على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم، وبِيَعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير .. أن أحمى جانبهم، وأذُب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان، ومواطن السياح، حيث كانوا من بر أو بحر، شرقًا وغربًا، بما أحفظ به نفسى وأهل الإسلام من ملتى) ..
ولم يقف هذا الميثاق، فقط ، عند ضمان حرية الاختلاف فى المعتقد الدينى، وحرية إقامة هذا المعتقد المخالف للإسلام ..وإنما نص على احترام (الوجودالمؤسسى) لهذا التنوع والاختلاف .. (..فلا يُغَيَّر أسقف، ولا راهب من رهبانيته ..) .
ولأن الجزية هى (بدل جندية)، لا تُؤخذ إلا من القادرين ماليًا، الذين يستطيعون حمل السلاح وأداء ضريبة القتال دفاعًا عن الوطن، وليست (بدلاً من الإيمان بالإسلام) وإلا لفرضت على الرهبان ورجال الدين .. وبدليل أن الذين اختاروا أداء ضريبة أداء الجندية فى صفوف المسلمين، ضد الفرس والروم، وهم على دياناتهم غير الإسلامية - فى الشام .. والعراق .. ومصر - لم تفرض عليهم الجزية، وإنما اقتسموا مع المسلمين الغنائم على قدم المساواة.. لأن هذا هو موقع (الجزية) فى علاقة الدولة الإسلامية بالآخرين، جاء فى ميثاق نصارى (نجران) : (..ولايُحشرون) أى لا يكلفون التعبئة العامة للقتال، ولا يكلف أحد من أهل الذمة منهم الخروج مع المسلمين إلى عدوهم، لملاقاة الحروب ومكاشفة الأقران، فإنه ليس على أهل الذمة مباشرة القتال، وإنما أُعطوا الذمة على أن لا يُكلفوا ذلك، وأن يكون المسلمون مدافعين عنهم، وجوارًا دونهم ولا يكرهون على تجهيز أحد من المسلمين للحرب ، بقوة وسلاح وخيل، إلا أن يتبرعوا من تلقاء أنفسهم، فيكون من فعل ذلك منهم وتبرع به حُمد عليه، وعُرف له وكُوفئ به ..) .
كما نص هذا الميثاق على أن العدل فى القضاء والمساواة فى تحمل الأعباء المالية إنما هى فريضة إلهية شاملة لكل الأمة، على اختلاف معتقداتها الدينية (.. فلا خراج ولا جزية إلا على من يكون فى يده ميراث من ميراث الأرض، ممن يجب عليه فيه للسلطان حق، فيؤدى ذلك على ما يؤديه مثله، لا يُجار عليه، ولا يُحمل منه إلا قدر طاقته وقوته على عمل الأرض وعمارتها وإقبال ثمراتها، ولا يُكلف شططا ولا يُتجاوز به حد أصحاب الخراج من نظرائه .. ولا يُدخل شئ من بنائهم فى شئ من أبنية المساجد ولا منازل المسلمين .. ومن سأل منهم حقًا فبينهم النَّصَف غير ظالمين ولا مظلومين ..) .
وإمعانا من الإسلام فى توفير عوامل التلاحم للأمة الواحدة، التى جعل الإسلام وحدتها فريضة نص عليها القرآن الكريم : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء : 92 . فلقد حققت التطبيقات الإسلامية فى الواقع الإجتماعى عددًا من الإنجازات التى سلكت الجميع فى الأمة الواحدة.. فالموالى - الذين كانوا أرقاء ثم حررهم الإسلام - دمجهم النظام الإسلامى فى قبائلهم، التى كانوا أرقاء فيها، ولحمهم فيها بلحمة (الولاء)، الذى جعله كالنسب سواء بسواء، يكسب هؤلاء الموالى شرف هذه القبائل وحسبها ونسبها .. ونصت سنة رسول ا صلى الله عليه وسلم على أن (مولى القوم منهم) - رواه البخارى - وعلى (أن الولاء لحمة كلحمة النسب) - رواه الدارمى وأبو داود - حتى لقد أصبح بلال الحبشى (سيدًا) يقول عنه عمر بن الخطاب، وعن أبى بكر، الذى اشتراه وأعتقه : (سيدنا أعتق سيدنا!) .. وحتى لقد تمنى عمر أن يكون أحد الموالى - (سالم مولى أبى حذيفة) (12هـ - 633م) - حيا ليجعله خليفة على المسلمين! ..
والقبائل والعشائر، التى اندمج فيها الموالى، قد تحولت إلى لبنات فى بناء الأمة الواحدة ..(62/112)
كذلك سلكت التطبيقات الإسلامية باب المصاهرة والزواج بين المسلمين وبين الكتابيات المحصنات؛ لتحقيق أعلى درجات التلاحم بين غير المسلمين وبين المسلمين فى بناء الأمة الواحدة .. فزواج المسلم من الكتابية يدخل ذويها من غير المسلمين فى دائرة (أولى الأرحام) عند المسلمين، وتلك قمة التلاحم والاندماج .. وعنها يقول الإمام محمد عبده : (أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية، نصرانية أو يهودية، وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها، والقيام بفروض عبادتها، والذهاب إلى كنيستها أو بيعتها، وهى منه بمنزلة البعض من الكل، وألزم له من الظل، وصاحبته فى العز والذل، والترحال والحل،بهجة قلبه، وريحانة نفسه، وأميرة بيته، وأم بناته وبنيه، تتصرف فيهم كما تتصرف فيه .. لم يفرق الدين فى حقوق الزوجية بين الزوجة المسلمة والزوجة الكتابية ، ولم تخرج الزوجة الكتابية، بإختلافها فى العقيدة مع زوجها، من حكم قوله تعالى : (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الروم:21 ، فلها حظها من المودة ونصيبها من الرحمة وهى كما هى.. وهو يسكن إليها كما تسكن إليه، وهو لباس لها كما أنها لباس له . أين أنت من صلة المصاهرة التى تحدث بين أقارب الزوج وأقارب الزوجة، وما يكون بين الفريقين من الموالاة والمناصرة، على ما عهد فى طبيعة البشر؟ وما أجلى ما يظهر من ذلك بين الأولاد وأخوالهم وذوى القربى لوالدتهم. أيغيب عنك ما يستحكم من روابط الألفة بين المسلم وغير المسلم بأمثال هذا التسامح الذى لم يُعهد عند من سبق ولا فيمن لحق من أهل الدينين السابقين عليه؟ ..)(4).
ولذلك وحتى يكون هذا الزواج سبيلاً لهذا التلاحم، حرص عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم مع نصارى (نجران) على أن يتوافر لهذا الزواج عنصر الرضا والقبول.. فالمرأة لابد، فى زواجها، من (ولى) ، وأولياء الكتابية كتابيون، فلا بد أن يكون هذا الزواج عن محبة ورضا وقبول واختيار .. وعن هذا المبدأ الإسلامى جاء فى هذا الميثاق : (ولا يُحمِّلوا من النكاح - (الزواج) - شططا لايريدونه، ولا يُكره أهل البنت على تزويج المسلمين، ولا يُضاروا فى ذلك إن منعوا خاطبًا وأبوا تزويجًا، لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم، ومسامحة أهوائهم، إن أحبوه ورضوا به ..) .
ولأن هذا التلاحم، بواسطة المصاهرة، لا يتحقق إلا فى ظل الاعتراف الإسلامى (بالآخر الدينى) ، وبحق هذا الآخر فى المغايرة الدينية - وهو ما تميز به الإسلام عن كل الآخرين، وبسببه جاز زواج المسلم من (الأخرى)، لأنه يعترف بدينها، ومُكلَّف باحترام عقيدتها وتدينها - على عكس موقف الآخرين من الإسلام، ومن عقيدة المسلمة - . لهذا التميز الإسلامى، كان زواج المسلم من الكتابية بابا للتلاحم، ولإدخال غير المسلمين فى دائرة (أولى الأرحام)، ولم يكن هذا الزواج سببًا من أسباب الشقاق الاجتماعى ، فنص العهد مع نصارى (نجران) على أنه (إذا صارت النصرانية عند المسلم - (زوجة) - فعليه أن يرضى بنصرانيتها . فمن خالف ذلك وأكرهها على شئ من أمر دينها فقد خالف عهد الله وعصى ميثاق رسول الله، وهو عند الله من الكاذبين..).
وإذا كانت تطبيقات الدولة الإسلامية لهذه المبادئ الإسلامية، قد بلغت، وحققت - قبل أربعة عشر قرنًا - الحد الذى يدهش له الكثيرون فى عصرنا الحاضر .. من مثل تحرير جيش الفتح الإسلامى لمصر كنائس نصارى مصر من الاحتلال والاغتصاب الرومانى، لا ليحولها إلى مساجد للمسلمين، وإنما ليردها للنصارى اليعاقبة يتعبدون فيها .. فإن عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم مع نصارى (نجران) قد بلغ الذروة - فى تعامل الدولة الإسلامية مع دور العبادة هذه - إلى الحد الذى نص فيه على أن مساعدة الدولة الإسلامية لغير المسلمين فى ترميم دور عباداتهم هى جزء من واجبات هذه الدولة .. ولأن غير المسلمين هم جزء أصيل فى الأمة الواحدة، والرعية المتحدة لهذه الدولة، فجاء فى هذا الميثاق مع نصارى (نجران) : (.. ولهم إن احتاجوا فى مرمة بيعهم وصوامعهم أو شئ من مصالح أمور دينهم، إلى رفد - (مساعدة) - من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها، أن يُرفدوا على ذلك ويُعاونوا، ولا يكون ذلك دَيْنًا عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم، ووفاء بعهد رسول الله، وموهبة لهم، ومنة لله ورسوله عليهم) .
ثم يتوج هذا الميثاق بنود هذه الحقوق بالنص على كامل المساواة بين المختلفين فى الدين والمتحدين فى الأمة الواحدة، والملتحمين فى الرعية المتحدة للدولة الإسلامية، بقول رسول ا صلى الله عليه وسلم : (.. لأنى أعطيتهم عهد الله أن لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم.. حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم ..) .(62/113)
ولأن وحدة الأمة لا تتحقق إلا بولاء كل أبنائها لها، وانتماء جميعهم لدولتها ولمقومات هويتها وأمنها الوطنى والقومى والحضارى، اشترط هذا العهد على نصارى (نجران) أن يكون الولاء خالصًا والانتماء كاملاً لهذه الأمة الواحدة ، ولهذه الدولة الإسلامية .. فالولاء - كل الولاء - لها وحدها، والبراء - كل البراء - من جميع أعدائها .. ولذلك، جاء فى هذا الميثاق : (.. واشترط عليه أمورًا يجب عليهم فى دينهم التمسك بها والوفاء بما عاهدهم عليه، منها: ألا يكون أحد منهم عينًا ولا رقيبًا لأحد من أهل الحرب على أحد من المسلمين فى سره وعلانيته ، ولا يأوى منازلهم عدو للمسلمين، يريدون به أخذ الفرصة وانتهاز الوثبة، ولا ينزلوا أوطانهم ولا ضياعهم ولا فى شئ من مساكن عباداتهم ولا غيرهم من أهل الملة، ولا يرفدوا - (يساعدوا) - أحدًا من أهل الحرب على المسلمين، بتقوية لهم بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم، ولا يصانعوهم.. وإن احتيج إلى إخفاء أحد من المسلمين عندهم، وعند منازلهم، ومواطن عباداتهم، أن يؤووهم ويرفدوهم ويواسوهم فيما يعيشون به ما كانوا مجتمعين، وأن يكتموا عليهم، ولا يظهروا العدو على عوراتهم، ولا يخلوا شيئًا من الواجب عليهم)(5).
ويزيد من سمو هذا الإنجاز الإسلامى، تعميم التطبيقات الإسلامية لهذا المنهاج وهذه المبادئ على الديانات الوضعية أيضًا .. فلم يقف المسلمون بهذه (الثورة الإصلاحية)، فى العلاقة بالآخر، عند اليهود - أهل التوراة - والنصارى - أهل الإنجيل - فقط، وإنما عمموها لتشمل (المجوس) و(الهندوس) و(البوذيين) .. وعندما فتح المسلمون فارس - وأهلها مجوس يعبدون النار، ويقولون بإلهين أحدهما للخير والنور وثانيهما للشر والظلمة - عرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (40ق - 32هـ - 584 - 644م) رضى الله عنه، هذا الأمر و (الواقع المستجد) على مجلس الشورى - فى مسجد المدينة - وقال :
- (كيف أصنع بالمجوس؟
- فوثب عبد الرحمن بن عوف (44ق هـ - 32هـ - 580 - 652م) رضى الله عنه، فقال :
- أشهد على رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه قال : (سُنوا فيهم سنة أهل الكتاب ..)(6)
فطبقت الخلافة الراشدة هذه السنة النبوية، وساد هذا التطبيق على امتداد تاريخ الإسلام فى بلاد الديانات الوضعية - من فارس إلى الهند إلى الصين - حتى لقد تمتع أهل هذه الديانات، لا بحرية الاعتقاد فقط وإنما - أيضًا - بحرية مناظرة علماء الإسلام، فى مجالس الخلفاء، إبان مجد وقوة وعظمة الخلافة الإسلامية .. ولقد أورد (السير توماس أرنولد) (1864 - 1930م) - بإعجاب - كيف أن زعيم المانوية(7) المجوس - فى فارس - (يزدانبخت) قد أتى بغداد، وناظر المتكلمين المسلمين، فى حضرة الخليفة (المأمون) (170-218هـ 786-833م)، فلما أفحمه علماء الإسلام، تاق (المأمون) إلى أن يسلم (يزدانبخت)، ففاتحه فى ذلك، لكنه رفض فى أدب، وقال للخليفة :
- نصيحتك، يا أمير المؤمنين، مسموعة، وقولك مقبول، ولكنك ممن لا يُجبر الناس على ترك مذهبهم .
فتركه المأمون وشأنه .. بل وطلب حمايته من العامة حتى يبلغ مأمنه بين أتباعه وأنصار مذهبه من المجوس (8) .
وهكذا بلغ الإسلام القمة، عندما لم يكتف بالوصايا والمنظومة الفكرية والفلسفية، التى تعترف بالآخر - الذى لا يعترف بالإسلام! - وإنما تجاوز (الفكر) إلى (الممارسة والتطبيق)، فى الدولة.. والأمة.. والاجتماع.. وعندما تجاوز (الاعتراف بالأخر) إلى حيث دمج هذا (الآخر) فى (الذات)، مع الحرص على التعددية الدينية، التى سلكها فى إطار (وحدة الدين) الإلهى الواحد.. لا باعتبارها مجرد حق من حقوق الضمير الإنسانى، وإنما باعتبارها سنة من سنن الله التى لا تبديل لها ولا تحويل.. فحقق الإسلام بهذا (الإصلاح الثورى) مستوى غير مسبوق فى التاريخ الإنسانى، سواء على المستوى الفكرى أو فى الممارسة والتطبيق(9) .
أهل الذمة : الذمة فى اللغة تعنى العهد والأمان والضمان . وفى الشرع تعنى عقدًا مؤبدًا يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبولهم أحكام دار الإسلام فى غير شؤونهم الدينية .وهذا العقد يعطى لكل طرف حقوقًا ويفرض عليه واجبات، وليست عبارة أهل الذمة عبارة تنقيص أو ذم ، بل هو شرف لهم أن يكونوا فى ذمة الله ورسوله ، وهى عبارة توحى بضرورة وأهمية حفظ العهد والوفاء تدينًا وامتثالاً للشرع، وإن كان بعضهم يتأذى منها فيمكن تغييرها لأن الله لم يتعبدنا بها . وقد غير سيدنا عمر بن الخطاب لفظ الجزية الذى ورد فى القرآن استجابة لعرب بنى تغلب من النصارى الذين أنفوا من الاسم وطلبوا أن يأخذ منهم ما يُؤخذ وإن كان مضاعفًا تحت مسمى آخر فوافقهم عمر وقال: (هؤلاء قوم حمقى رضوا المعنى وأبوا الاسم) .(62/114)
ومما يلاحظ كما يقول الدكتور عصام أحمد البشير(10) أن فكرة عقد الذمة ليست فكرة إسلامية مبتدأة، وإنما هى مما وجده الإسلام بين الناس عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فأكسبه مشروعية، وأضاف إليه تحصينًا جديدًا بأن حول الذمة من ذمة العاقد أو ذمة المجير إلى ذمة الله ورسوله أى ذمة الدولة الإسلامية نفسها. وبأن جعل العقد مؤبدًا لا يقبل الفسخ حماية للداخلين فيه من غير المسلمين . انتهى
عقد الأمان
أما الذين يأتون إلى ديار الإسلام لفترة مؤقتة - مثل السياح والدارسين والدبلوماسين الأجانب - فهؤلاء يشملهم عقد الأمان، وهو عقد يكفل حماية غير المسلم إذا قدم إلى بلادنا لأغراض سلمية - وليس للتخريب أو التجسس - فهذا يحرم الاعتداء على حياته أو ماله أو عرضه ، وعلى جميع المسلمين حمايته وتأمينه حتى يخرج من بلادنا سالمًا بعد إنتهاء الغرض الذى قدم لأجله .
وأساس عقد الأمان قوله تعالى : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون) التوبة:6. كما أجار النبي صلى الله عليه وسلم من أجارت ابنته زينب وهو زوجها العاص بن الربيع وكان لم يزل مشركًا حينها ، وأجار النبى كذلك من أجارت أم هانىء ابنة عمه أبى طالب، وأكد عليه السلام أنه يجير على المسلمين أدناهم، ولو كان طفلاً أو امرأة أو عبدًا ، فيجب على جميع المسلمين احترام هذا الجوار وتأمين المشرك الذى يتمتع به حتى يبلغ مأمنه .
الجزية
وهى ضريبة سنوية على الرؤوس تتمثل فى مقدار زهيد من المال - دينار أو دينارين سنوياً - على الرجال البالغين القادرين ، حسب ثرواتهم ، والجزية ليست ملازمة لعقد الذمة فى كل حال كما يظن بعضهم، بل استفاضت أقوال الفقهاء فى تعيينها وقالوا : إنها بدل عن اشتراك الذمى فى الدفاع عن دار الإسلام ، لذلك أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل منهم الاشتراك فى الدفاع عنها ،فعل ذلك المسلمون مع أهل أرمينية سنة 522 ، وحبيب بن مسلمة الفهرى مع أهل إنطاكية ، وأبرمه مندوب أبى عبيدة بن الجراح وأقره عليه مَنْ معه من الصحابة ، وصالح المسلمون أهل النوبة على عهد الصحابى عبد الله بن أبى السرح على غير جزية بل هدايا فى كل عام، وصالحوا أهل قبرص فى زمن معاوية على خراج وحياد بين المسلمين والروم .
• غير المسلمين من المواطنين الذين يؤدون واجب الجندية ، ويسهمون فى حماية دار الإسلام لا تجب عليهم الجزية ، والنص الوارد فى آية التوبة يقصد به خضوعهم لحكم القانون وسلطان الدولة .وهناك من رد إلى النصارى، الجزية عند مظنة العجز عن حمايتهم، فعلها أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه عندما تجمع الروم لقتاله فخاف ألا يمكنه الدفاع عن مدن الشام وسكانها النصارى ، فكتب يرد إليهم أموالهم على أن يرجعوا إلى سابق العهد إذا انتصر المسلمون على الروم .
• أهل الكتاب ارتضوا أن يعيشوا تحت رعاية الدولة المسلمة فلهم بذلك من الحقوق مثل ما للمسلمين وعليهم من الواجبات ما على المسلمين إلا ما استثنى بنص، قال الإمام على كرم الله وجهه : (إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا ..) .
حقوق وواجبات أهل الكتاب
لأهل الكتاب جملة من الحقوق منها :
1- حق الحماية من الاعتداء الخارجى والحماية من الظلم الداخلى (من آذى ذميًا فقد أذانى ومن أذانى فقد أذى الله) فلا يلحقهم أذى فى أبدانهم ولا أموالهم ولا أعراضهم .
2- حق التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر، قال سيدنا عمر بن الخطاب : (ما أنصفناه إذا أخذنا منه الجزية فى شبيبته ثم نتركه فى هرمه) وقد أمر رضى الله عنه - وكذلك الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز - بصرف معاشات من بيت مال المسلمين للعجزة والمسنين من أهل الكتاب .
3- حرية التدين (لاإكراه فى الدين) ومن ذلك ممارسة شعائرهم الدينية فى دور عبادتهم وعدم جواز منعهم من ذلك . أما واجبات غير المسلمين فهى:
• على غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين وحرمة دينهم فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم فى الأمصار الإسلامية ولا يحدثوا كنيسة فى مدينة إسلامية لم تكن فيها كنيسة من قبل ذلك، لما فى الإظهار والإحداث من تحدى الشعور الإسلامى الذى يؤدى إلى فتنة واضطراب لكن يتعين حماية ماهو قائم منها بالفعل وعدم هدمه ، والدليل قوله سبحانه وتعالى :(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله) يدل على أن من أساليب الإذن بالقتال حماية حرية العبادة
كما أن العهود التى أقامها الرسو صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اليهود والنصارى تضمنت الحفاظ على دور عبادتهم، وكذلك عهد الرسو صلى الله عليه وسلم لأهل نجران أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وبيعهم. وأيضاً فإن عهد سيدنا عمر لأهل إيلياء فيه نص على كنائسهم، فلا تسكن ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من صليبها. وهناك أيضاً عهد سيدنا خالد بن الوليد لأهل عانات أن يضربوا نواقيسهم فى أى وقت شاؤوا من ليل أو نهار .(62/115)
كما يقول الدكتور عصام البشير : أن واقع حال المسلمين يدل على جواز بقاء الكنائس فى ظل الدولة المسلمة. روى المقريزى أن جميع كنائس مصر محدثة فى الإسلام بلا خلاف ، ولهم حرية العمل والكسب وحرية تولى وظائف الدولة ونحو ذلك إلا ما اسثنى بنص لعدم جواز تولى الكتابيين للوظائف الدينية أو تغلب عليها الصيغة الدينية كالإمامة التى هى رئاسة الدين والدنيا وخلافة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يعقل أن يقوم بإمامة المسلمين وقيادة الجيش وإمرة الجهاد الذى هو ذروة سنام الاسلام، والقضاء بين المسلمين الذى يقتضى العلم بشريعة الاسلام،إلا مسلم عالم بدينه وشريعته.
ضمانات الوفاء بحقوق أهل الكتاب
إن الضمانات لتنفيذ هذه الحقوق وكفالة تلك الحريات تتمثل فى:
ضمان العقيدة:فالمسلمون يحرصون على الالتزام بعقيدتهم وتطبيق أحكام دينهم، لا يمنعهم من ذلك عواطف القرابة ولا يصدهم عن ذلك مشاعر العداوة والشنآن .
ضمان المجتمع المسلم بدستوره وسلوكه
فالمجتمع الإسلامى مسؤول بالتضامن عن تنفيذ الشريعة وتطبيق أحكامها فى كل الأمور ، ومنها ما يتعلق بغير المسلمين ولو قصر بعض الناس أو انحرف أو جار وتعدى ، وجد فى المجتمع من يرده إلى الحق ،ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ويقف بجانب المظلوم المعتدى عليه ،ولو كان مخالفًا له فى الدين .
وهناك القضاء : فالذمى المظلوم له أن يشكو إلى الوالى أو الحاكم المحلى، فيجد عنده العدل والحماية ، فإن لم ينصفه فله أن يلجأ إلى القضاء فيجد عنده الإنصاف والأمان ، حتى لو كانت القضية بينه وبين الخليفة نفسه، ففى الاسلام يجد القضاء المستقل العادل والذى له حق محاكمة أى مدعى عليه مهما علا منصبه فى الدولة . مثال ذلك واقعة تخاصم الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه ويهودى إلى القاضى شُريح الذى حكم لصالح اليهودى على أمير المؤمنين لعدم وجود دليل يرجح دعواه ، وبسبب هذه العدالة أسلم اليهودى .
واجبات أهل الكتاب
واجبات أهل الكتاب تنحصر فى أمور معدودة هى :
• أداء التكاليف المالية : من جزية وخراج وضرائب وغيرها . (وقد سبق الحديث عن الجزية) . وأهل الكتاب فى التكاليف والرسولم والضرائب الأخرى سواء والمسلمون ، فليس فيها شىء يجب باختلاف الدين وإنما تجب على أنواع الأموال والأراضى المزروعة دون نظر إلى صاحب أى منها : أمسلم هو أم غير مسلم .
التزام أحكام القانون الإسلامى
• والواجب الثانى على أهل الكتاب أن يلتزموا أحكام الإسلام ، التى تطبق على المسلمين لأنهم بمقتضى العهد ينتمون إلى جنسية الدولة الإسلامية، فعليهم أن يتقيدوا بقوانينها التى لا تمس عقائدهم وحريتهم الدينية . ولكن مع مراعاة أنه ليس عليهم تكاليف من التكاليف التعبدية للمسلمين ، أو التى لها صبغة تعبدية أو دينية ، مثل الزكاة التى هى فريضة إسلامية ، ومثل الجهاد الذى هو خدمة عسكرية وفريضة إسلامية ، ومن أجل ذلك فرض الإسلام عليهم الجزية بدلاً عن الجهاد والزكاة .
• والواجب الثالث عليهم : أن يحترموا شعور المسلمين ، الذين يعيشون بين ظهرانيهم ، وأن يراعوا هيبة الإسلام والدولة التى يتمتعون بحمايتها ورعايتها .
فلا يجوز لهم أن يسبوا الإسلام أو رسوله أو كتابه جهرة ، ولا أن يروجوا من العقائد والأفكار ما ينافى عقيدة التوحيد ، ولا يعملوا على تنصير أبناء المسلمين أو محاولة فتنتهم عن دينهم .
ولا يجوز لهم أن يتظاهروا بشرب الخمر وأكل الخنزير ، ونحو ذلك مما يحرم فى دين الإسلام . كما لا يجوز لهم تحدى مشاعر المسلمين ، وعليهم ألا يظهروا الأكل والشرب فى نهار رمضان ، مراعاة لمشاعر المسلمين .
النموذج المصرى
إذا أخذنا الأقلية النصرانية فى مصر ، وهى أكبر أقلية غير مسلمة فى بلاد العالم العربى - كنموذج للتعايش السلمى لغير المسلمين فى بلد إسلامى -فإننا نلاحظ الآتى :
• يبلغ عدد النصارى فى مصر أقل من 6% (5.9%) حسب إحصاءات 1986م . ورغم ذلك فإنهم يمتلكون حوالى 40% من ثروة مصر .. ويعترف الأنبا موسى أسقف الشباب فى الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بأن : (الأقباط نسبتهم فى رجال الأعمال مرتفعة أكثر من نسبتهم العددية فى مصر)(11) ، وكذلك المهن المرموقة مثل الطب والصيدلة والمحاماة والهندسة وغيرها .. ولذلك كان العلامة الشيخ محمد الغزالى - رحمه الله - يصف النصارى فى مصر بأنهم أسعد أقلية فى العالم .
• يمتلك نصارى مصر 22.5% من الشركات التى تأسست من عام 1974م - 1995م ، و 20% من شركات المقاولات فى مصر ، و 50% من المكاتب الاستشارية ، و 60% من الصيدليات ، و45% من العيادات الخاصة، و35% من عضوية الغرفة التجارية الأمريكية والألمانية ، و 60% من عضوية غرفة التجارة الفرنسية ، ويشكلون 20% من رجال أعمال مصر ، و 20% من المديرين بقطاعات النشاط الاقتصادى ، وحوالى 16% من وظائف وزارة المالية المصرية ، و25% من المهن الممتازة كالأطباء والمحامين والمهندسين ..
• يسيطر النصارى على أكثر من ثلثى تجارة الذهب والمعادن النفيسة الأخرى فى مصر ، كما يمتلكون من الأراضى والعقارات أضعاف نسبتهم العددية .(62/116)
• ونضيف أيضًا أن الحكومة المصرية لا تخلو دائمًا من وزيرين أو ثلاثة وزراء من الأقباط ، كما يوجد عدد منهم فى مجلسى الشعب والشورى بالانتخاب وبالتعيين أيضًا .. فى المقابل يُلاحظ أنه لا يوجد أى وزير مسلم فى أية دولة أوروبية أو أمريكية رغم تواجد عشرات الملايين من المسلمين هناك، وكذلك المجالس التشريعية الأوروبية والكونجرس الأمريكى لا يوجد بها أعضاء يمثلون الأقليات الإسلامية هناك (!!!) .
وبعد كل هذا يزعمون أنهم دعاة الحريات والديمقراطية والمشاركة السياسية ويتطاول علينا أذنابهم بادعاء اضطهاد الأقلية عندنا !!!
حقًا إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، وازعم ما شئت أيضًا !!!
ونختتم بشهادة المفكر البريطانى الكبير سير توماس أرنولد الذى أكد فيها: (من الحق أن نقول أن غير المسلمين قد نعموا - بوجه الإجمال - فى ظل الحكم الإسلامى بدرجة من التسامح لا نجد لها معادلاً فى أوروبا) . ويضيف ان عشرات الملايين من نصارى الشرق الذين اعتنقوا الإسلام قد فعلوا ذلك طواعية وعن رغبة كاملة فى التحول إليه دون أية محاولة للإرغام أو الاضطهاد(12) .
كما أن تسامح المسلمين وتركهم للنصارى قابضين على الدواوين وإدارات الدولة الإسلامية جعل المستشرق الألمانى آدم متز يقول : (لقد كان النصارى هم الذين يحكمون الدولة الإسلامية)(13) ، فأى تسامح وتواد مع الآخر أكثر من ذلك ؟! كل هذا يدفعنا إلى أن نردد مع المفكر والعبقرى الألمانى يوهان جوته مقولته الشهيرة فى ديوانه (الشرق والغرب) : إذا كان الإسلام هو القنوت ، فعليه نحيا ونموت ..
المراجع
6. تاريخ مصر - يوحنا النيقوسى ص 529 - 534 ترجمة وتعليق د . عمر صابر عبد الجليل القاهرة 2000م - تاريخ مصر فى العصر البيزنطى ص 40-49 ، وص 167-168 طبعة القاهرة 2000 .
7. مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة ص 17 - 21 جمع وتحقيق الدكتور محمد حميد الله الحيد آبادى - طبعة القاهرة 1956م
8. المصدر السابق ص 20 .
9. الشيخ محمد عبده - الأعمال الكاملة جـ3 صـ312 دراسة وتحقيق د . محمد عمارة - طبعة القاهرة 1993م .
10. مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوى - مشار إليه من قبل - ص 112- 123 - 127
11. البلاذرى - فتوح البلدان صـ327 - تحقيق د . صلاح الدين المنجد - طبعة القاهرة 1956م .
12. هم أتباع (مانى) ويسمون (المانوية) وهو مذهب مجوسى .
13. سير توماس أرنولد - الدعوة إلى الإسلام - ترجمة د . حسن إبراهيم حسن ود. عبد المجيد عابدين وإسماعيل النحراوى - طبعةالقاهرة 1970م .
14. الدكتور محمد عمارة - الإسلام والأقليات - الماضى والحاضر والمستقبل - طبعة مكتبة الشروق الدولية سنة 2003م .
15. الدكتور عصام أحمد البشير - معالم حول أوضاع غير المسلمين فى الدولة الإسلامية - بحث مقدم لمؤتمر الإسلام والغرب فى عالم متغير - الخرطوم - 2003م .
16. الملل والنحل والأعراق ص 529 .
17. سير توماس أرنولد - الدعوة إلى الإسلام - سبقت الإشارة إليه .
18. آدم متز - الحضارة الإسلامية فى القرن الرابع الهجرى - ترجمة د . محمد عبد الهادى أبو ريدة - طبعة بيروت سنة 1967م .
الفصل السادس
المسلمون فى دار العهد
يبلغ عدد المسلمين فى أوروبا أكثر من خمسين مليونًا(1) من بينهم أعداد كبيرة من العرب والمسلمين المهاجرين من بلدان لأسباب اقتصادية غالبًا - بحثًا عن فرص عمل - ولأسباب سياسية أحيانًا، فضلاً عن ملايين من الأوروبين الذين اعتنقوا الإسلام عن اقتناع وفهم بعد دراسة عميقة .. وهناك توقعات بأن ترتفع أعداد المسلمين فى أوروبا، وتتناقص أعداد غير المسلمين - بسبب قلة عدد المواليد هناك عن عدد المتوفين سنويًا - إلى أن يصبح المسلمون هم أغلب سكان أوروبا خلال أقل من عشرين عامًا (ولهذا يمكن فهم أحد أهم أسباب الحملة المسعورة الآن على الإسلام والمسلمين فى وسائل الإعلام الغربى) بل إن صمويل هنتنجتون نفسه يتوقع - كما سبق - أن يبلغ المسلمون أكثر من 30% من سكان العالم قبل حلول عام 2025م .. ويبلغ عدد مسلمى أمريكا الشمالية أكثر من عشرة ملايين نسمة طبقًا للتقديرات شبه الرسمية، لكن العدد الحقيقى أكبر من ذلك، لأنه لاتوجد جهة رسمية تسجل أعداد من يعتنقون الإسلام وهم بالآلاف يوميًا، كما أنه لا تسجل الديانة فى وثائق تحديد الهوية، وبالتالى لا يمكن تحديد أعداد أتباع كل ديانة بدقة ..
أما الأقلية الإسلامية فى الهند فهى أكبر عددًا من معظم الدول الإسلامية - كل على حدة - إذ يبلغ تعداد مسلمى الهند أكثر من مائتى مليون نسمة .. ويؤكد كثير من المسلمين الهنود أن عددهم الحقيقى أكبر من ذلك ، وأن السلطات الهندوسية هى التى تتعمد تقليل العدد المعلن لأسباب سياسية (بسبب النزاع الطائفى بين الهندوس والمسلمين من جهة ،والنزاع بين الهند وباكستان من جهة أخرى) .(62/117)
ويبلغ عدد مسلمى الصين أكثر من 25 مليون شخص ، ويقترب عدد المسلمين الروس من هذا الرقم(2) . وهكذا نرى بوضوح أن كل دول العالم غير الإسلامى يحتضن جاليات إسلامية كبيرة وذات حضور واضح هناك لا يمكن تجاهله أو تهميشه مهما اشتدت محاولات الاحتواء أو الإضعاف أو القمع أحيانًا .. وهنا يثور التساؤل : هل يعتبر المسلمون هناك فى دار حرب كما يقول الفقهاء القدامى طبقًا للتقسيم الشهير للعالم إلى دار إسلام ودار حرب ؟
أما دار الإسلام فهى البلاد التى تسودها أحكام الإسلام وشعائره ويأمن فيها المسلمون والذميون أيضًا .
وأما دار الحرب فهى البلاد التى لا تطبق فيها أحكام الإسلام وشرائعه لأن السيادة فيها للكفار وليست للمسلمين .. وهذا التقسيم الثنائى للعالم لم يرد فى القرآن الكريم ولا فى السُنَّة النبوية المطهرة ، ولذلك عارضه فريق من العلماء على رأسهم الإمام الشافعى رضى الله عنه فى كتابه (الأم) - يرى أن الأصل هو أن العالم دار واحدة - والإمام محمد بن الحسن الشيبانى فى كتابه (السير الكبير) والشيخ محمد أبو زهرة(3) .
يقول العلامة الشيخ أبو زهرة : إن دار العهد حقيقة اقتضاها الفرض العلمى وحققها الواقع ، فقد كانت هناك قبائل ودول لا تخضع خضوعًا تامًا للمسلمين وليس للمسلمين فيها حكم ، ولكن لها عهد محترم وسيادة فى أرضها ولو لم تكن كاملة فى بعض الأحوال .. ودار العهد : هى البلاد التى كان بينها وبين المسلمين عهد عقد ابتداء ، أو عقد عند ابتداء القتال معها عندما يخيرهم المسلمون بين العهد أو الإسلام أو القتال ، فأهلها يعقدون صلحًا مع الحاكم الإسلامى على شروط تشترط من الفريقين، وهذه الشروط تختلف قوة وضعفًا على حسب ما يتراضى عليه الطرفان ، وعلى حسب هذه القبائل وتلك الدولة قوة وضعفًا ، وعلى مقدار حاجتها إلى مناصرة الدولة الإسلامية .
ومن هذه القبائل ما كان الصلح معها على أساس جُعل من المال يدفعه أهلها فى نظير حماية المسلمين لهم ، والذود عنهم ، كما حصل فى صلح النبي صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران ، فقد أمّنهم النبي صلى الله عليه وسلم على أنفسهم وأموالهم من أى اعتداء يكون عليهم ، سواء أكان من المسلمين أم من غيرهم .
وكذلك فعل القائد الصحابى أبو عبيدة عامر بن الجراح مع أهالى حمص فقد أمَّنَهم ، وتعهد لهم بأن يدفع الرومان عنهم فى نظير مال دفعوه إليه، ولكن حدث أن أصاب الجيش الإسلامى ضعف بسبب طاعون سرى فيه، فأعاد القائد الوفى - الذى سماه صلى الله عليه وسلم - أمين هذه الأمة - إليهم أموالهم ، وبين عجزه عن مدافعة الرومان عنهم ، فنشطوا هم لمعاونة القائد العادل الأمين .
وفى عهد عثمان رضى الله عنه عقد عبد الله بن أبى السرح صلحًا مع أهل النوبة كانت أساسه تأمينهم على أنفسهم ، ورعاية استقلالهم، ومبادلة التجارة معهم، ولم يأخذ منهم فريضة مالية يؤدونها .
وكذلك فعل معاوية مع أهل أرمينية، فقد عقد صلحًا يقرر سيادتهم الداخلية المطلقة .
ونرى من هذا أن هذا النوع من القبائل أو الدول لا يمكن أن يعد دار حرب ولا دار إسلام، ولكن يعد دار موادعة أو دار عهد، وقد قال بعض الفقهاء :إن هذه الديار تدخل فى عموم دار الإسلام، لأن المسلمين لم يعقدوا هذه العهود، إلا وهم أهل المنعة والقوة .
ولكن الفقهاء الذين حرروا القول فى القانون الدولى الإسلامى كالشافعى فى (الأم)، ومحمد بن الحسن الشيبانى قرروا أن دار العهد نوع آخر، فقد جاء فى كتاب (السير الكبير) لمحمد ما نصه :
(المعتبر فى حكم الدار هو السلطان والمنعة فى ظهور الحكم، فإن كان الحكم حكم الموادعين فبظهورهم على الأخرى كانت الدار موادعة، وإن كان الحكم حكم سلطان آخر فى الدار الأخرى فليس لواحد من أهل الدار حكم الموادعة) .
ونرى محمد بن الحسن الشيبانى يؤكد فرض دار أخرى هى الموادعة أو العهد ، ولكنه يأتى بأمر جديد لم نذكره من قبل، وهو أنه يفرض أن أهل العهد قد يكونون خاضعين فى نظامهم لدولة أخرى لاتدخل فى حكم العهد، فيقرر أنه إن كان السلطان والمنعة لأهل الجماعة التى عقد معها عقد الموادعة فإنها دار عهد، وإن كان السلطان والمنعة لدولة أخرى فإنه لا يقرر العهد لإحداهما إلا أن تكون لها ومن معها معاهدة .
• يجب أن يلاحظ أن العالم الآن تجمعه منظمة واحدة - الأمم المتحدة - قد التزم كل أعضائها بقانونها ونظمها، وحكم الإسلام فى هذه أنه يجب الوفاء بكل العهود والالتزامات التى تلتزمها الدول الإسلامية عملاً بقانون الوفاء بالعهد الذى قرره القرآن الكريم، وعلى ذلك لا تعد ديار المخالفين الى تنتمى لهذه المؤسسة العالمية دار حرب ابتداء بل تعتبر دار عهد .. انتهى كلام الشيخ أبو زهرة .
رأى المؤلف(62/118)
ويرى كاتب هذه السطور أن معظم دول العالم غير الإسلامى ينطبق عليها حاليًا وصف : (دار العهد) ،وعلى ذلك يأمن فيها المسلمون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ،وعليهم أيضًا أن يطبقوا منهج التعايش السلمى مع رعايا هذه الدول باعتبارهم (معاهدين) أمرنا الإسلام باحترام العهود المبرمة معهم والوفاء لهم بما اتفقنا عليه .. فلا يجوز لنا قتل أحد منهم - إلا فى حالة الاضطرار إلى الدفاع عن النفس أو المال أو العرض أو الدين شأنه فى ذلك شأن المعتدى المسلم - كما يحرم علينا سلب أموالهم أو الاعتداء على أعراضهم أو المساس بدور عبادتهم .
• وتوجد علاقات دبلوماسية واقتصادية بين معظم بلاد العالم الإسلامى وباقى الدول ، فهناك إذن معاهدات معهم علينا أن نفى بها .
• كذلك فمن أقوى الأدلة عندنا على اعتبار معظم الدول اليوم - خارج العالم الإسلامى - دار عهد أن آلاف المآذن ترتفع الآن فى سماء أوروبا وأمريكا وآسيا واستراليا وأفريقيا ، ولم يكن الحال كذلك فى زمن الفقهاء القدامى الذين قسموا العالم إلى دار إسلام ودار حرب فقط .. وتوجد الآن بكل القارات مراكز إسلامية ومدارس لتحفيظ القرآن الكريم , ويتمتع المسلمون بحرية العبادة بصفة عامة - باستثناء حالات قليلة والاستثناء لا يُقاس عليه - فكيف نعتبر كل هذه الدول (دار حرب) وفيها عشرات الملايين من المسلمين، وفيها أيضًا مئات الملايين ممن يحبون الإسلام والمسلمين وينصفون الإسلام وأهله ولو لم يدخلوا فيه ؟!!
وكيف نعتبر الأصدقاء المنصفين من أمثال (جوته) و (جوستاف لوبون) و (الأمير تشارلز) و ( زنجريد هونكه) وغيرهم من أهل دار الحرب ؟! هؤلاء الذين يدافعون عن الإسلام ضد الآخرين المتعصبين الحاقدين ، كيف بالله نضعهم فى خندق واحد مع من يناصبوننا العداء كالصهاينة والمتعصبين الصليبيين أمثال هنتنجتون ؟! لقد علمنا الإسلام أن، المهادن لنا أو المحب من المشركين ليس كالمحارب ، قال تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنة:8،9 .
فقه الأقليات المسلمة
• وتبدو الحاجة ماسة إلى تأصيل قواعد فقهية خاصة بما يصادف المسلم خارج دار الإسلام . ويضع الدكتور يوسف القرضاوى عدة ضوابط هامة بهذا الصدد منها :
• إن الأقليات المسلمة هم جزء من الأمة الإسلامية من ناحية، التى تشمل كل مسلم فى أنحاء العالم، أيّاً كان جنسه أو لونه أو لسانه، أو وطنه ، أو وظيفته، وهم - من ناحية أخرى - جزء من مجتمعهم الذى يعيشون فيه، وينتمون إليه . فلابد من مراعاة هذين الجانبين، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، ولا يتضخم أحدهما على حساب الآخر .
• إن (فقه الأقليات) المنشود، لا يخرج عن كونه جزءًا من (الفقه العام) ولكنه فقه له خصوصيته وموضوعه ، ومشكلاته المتميزة، وإن لم يعرفه فقهاؤنا السابقون بعنوان يميزه ، لأن العالم القديم لم يعرف اختلاط الأمم بعضها ببعض، وهجرة بعضها إلى بعض، وتقارب الأقطار فيما بينها، حتى أصبحت كأنها بلد واحد، كما هو واقع اليوم .
وإذا كان عندنا الآن ما يمكن أن نسميه (الفقه الطبى)، وعندنا ما يسمى (الفقه الاقتصادى) ، وكذلك عندنا ما يمكن أن نسميه (الفقه السياسى) . إذا كان عندنا هذه الأنواع من الفقه، فلماذا لا يكون عندنا (فقه الأقليات) كى يهتم بعلاج مشكلاتهم، والإجابة عن تساؤلاتهم . وإن كانت كل هذه الأنواع من الفقه لها جذور فى فقهنا الإسلامى، ولكنها غير منظمة، وهى مجملة غير مفصلة، ناقصة غير مكتملة، مناسبة لعصرها وبيئتها، لأن هذه طبيعة الفقه، ولا يتصور من فقه عصر مضى أن يعالج قضايا عصر لم تنشأ عنده، ولم يخطر ببال أهله حدوثها.
• يجب أن يكون للمسلمين - بوصفهم أمة ذات رسالة عالمية - (وجود إسلامى) ذو أثر، فى بلاد الغرب، باعتبار أن الغرب هو الذى أصبح يقود العالم، ويوجه سياسته واقتصاده وثقافته . وهذه حقيقة لا نملك أن ننكرها .
فلو لم يكن للإسلام وجود هناك، لوجب على المسلمين أن يعملوا متضامنين على إنشاء هذا الوجود، ليقوم بالمحافظة على المسلمين الأصليين فى ديارهم، ودعم كيانهم المعنوى والروحى، ورعاية من يدخل فى الإسلام منهم، وتلقّى الوافدين من المسلمين، وإمدادهم بما يلزمهم من حسن التوجيه والتفقيه والتثقيف. بالإضافة إلى نشر الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين .
ولا يجوز أن يترك هذا الغرب القوى المؤثر للنفوذ اليهودى وحده، يستغله لحساب أهدافه وأطماعه، ويؤثر فى سياسته وثقافته وفلسفاته، ويترك بصماته عليها. ونحن المسلمين بمعزل عن هذا كله ، قابعون فى أوطاننا، تاركين الساحة لغيرنا، فى حين نؤمن نظريًا بأن رسالتنا للناس جميعًا وللعالمين قاطبة . ونقرأ فى كتاب ربنا (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107 ، (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا) الفرقان:1 .(62/119)
ونقرأ فى حديث نبينا صلى الله عليه وسلم: (كان النبى يُبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) متفق عليه عن جابر .
ومن هنا لا مجال للسؤال عن جواز إقامة المسلم فى بلد غير مسلم، أو فى (دار الكفر) كما يسميها الفقهاء، ولو منعنا هذا - كما يتصور بعض العلماء لأغلقنا باب الدعوة إلى الإسلام وانتشاره فى العالم، ولانحصر الإسلام من قديم فى جزيرة العرب ولم يخرج منها .
ولو قرأنا التاريخ وتأملناه جيدًا ، لوجدنا أن انتشار الإسلام فى البلاد التى تسمى الآن :العالم العربى ، والعالم الإسلامى ، إنما كان بتأثير أفراد من المسلمين، تجار أو شيوخ طرق، ونحوهم، ممن هاجروا من بلادهم إلى تلك البلاد فى آسيا وإفريقيا، واختلطوا بالناس فى بلاد الهجرة، وتعاملوا معهم، فأحبوهم لحسن أخلاقهم وإخلاصهم، وأحبوا دينهم الذى غرس فيهم هذه الفضائل ، فدخلوا فى هذا الدين أفواجًا وفرادى .
حتى البلاد التى دخلتها الجيوش الإسلامية فاتحة، إنما كان قصدها بالفتح إزاحة العوائق المادية من طريق الإسلام، حتى تبلغ دعوته للشعوب، ليمكنهم أن يختاروا لأنفسهم، وقد اختارت الشعوب هذا الدين راضية مختارة، حتى كان ولاة بنى أمية فى مصر يفرضون الجزية على من أسلم من المصريين لكثرة الداخلين فى الإسلام ، حتى أبطل ذلك عمر بن عبد العزيز ، وقال قولته المشهورة لواليه : (إن الله بعث محمدًا هاديًا ، ولم يبعثه جابيًا) .
أهداف الفقه المنشود للأقليات
ويحدد الدكتور يوسف القرضاوى أهداف فقه الأقليات فيما يلى :
أولاً : أن يعين هذه الأقليات المسلمة- أفرادًا وأسرًا وجماعات - على أن تحيا بإسلامها، حياة ميسرة، بلا حرج فى الدين، ولا إرهاق فى الدنيا.
ثانيًا : أن يساعدهم على المحافظة على (جوهر الشخصية الإسلامية) المتميزة بعقائدها وشعائرها وقيمها وأخلاقها وآدابها ومفاهيمها المشتركة، بحيث تكون صلاتها ونسكها ومحياها ومماتها لله رب العالمين، وبحيث تستطيع أن تنشىء ذراريها على ذلك .
ثالثاً : أن يمكَّن المجموعة المسلمة من القدرة على أداء واجب تبليغ رسالة الإسلام العالمية لمن يعيشون بين ظهرانيهم، بلسانهم الذى يفهمونه، ليبينوا لهم، ويدعوهم على بصيرة، ويحاوروهم بالتى هى أحسن، كما قال الله تعالى : (قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى) يوسف:108 ، فكل من اتبع محمدًا r فهو داع إلى الله، وداع على بصيرة ، وخصوصًا من كان يعيش بين غير المسلمين .
رابعًا : أن يعاونها على المرونة والانفتاح المنضبط، حتى لا تنكمش وتتقوقع على ذاتها، وتنعزل عن مجتمعها، بل تتفاعل معه تفاعلاً إيجابيًا، تعطيه أفضل ما عندها، وتأخذ منه أفضل ما عنده، على بينة وبصيرة، وبذلك تحقق المجموعة الإسلامية هذه المعادلة الصعبة:محافظة بلا انغلاق ، واندماج بلا ذوبان .
خامسًا : أن يسهم فى تثقيف هذه الأقليات وتوعيتها، بحيث تحافظ على حقوقها وحرياتها الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى كفلها لها الدستور، حتى تمارس هذه الحقوق المشروعة دون ضغط ولا تنازلات .
سادساً : أن يعين هذا الفقه المجموعات الإسلامية على أداء واجباتهم المختلفة : الدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها، دون أن يعوقهم عائق، من تنطع فى الدين، أو تكالب على الدنيا، ودون أن يفرطوا فيما أوجب الله عليهم، أو يتناولوا ما حرم الله عليهم، وبهذا يكون الدين حافزًا محركًا لهم، ودليلاً يأخذ بأيديهم، وليس غلاً فى أعناقهم، ولا قيدًا بأرجلهم .
سابعًا : أن يجيب هذا الفقه المنشود عن أسئلتهم المطروحة ، ويعالج مشكلاتهم المتجددة ، فى مجتمع غير مسلم، وفى بيئة لها عقائدها وقيمها ومفاهيمها وتقاليدها الخاصة، فى ضوء اجتهاد شرعى جديد، صادر من أهله فى محله .
خصائص هذا الفقه المنشود
ولهذا الفقه المنشود خصائص لابد أن يراعيها، حتى يؤتى أكله، ويحقق أهدافه، تتمثل فيما يلى :
1- فهو فقه ينظر إلى التراث الإسلامى الفقهى بعين، وينظر بالأخرى إلى ظروف العصر وتياراته ومشكلاته. فلا يهيل التراب على تركة هائلة أنتجتها عقول عبقرية خلال أربعة عشر قرناً، ولا يستغرق فى التراث بحيث ينسى عصره وتياراته ومعضلاته النظرية والعملية، وما يفرضه من دراسة وإلمام عام بثقافته واتجاهاته الكبرى على الاقل. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
2- يربط بين عالمية الإسلام وبين واقع المجتمعات التى يطب لها ويشخص أمراضها، ويصف لها الدواء من صيدلية الشريعة السمحة، فقد رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم يراعى طبائع الأقوام وعاداتهم، كما قال : (إن الأنصار يعجبهم اللهو) وكما أذن للحبشة أن يرقصوا بحرابهم فى مسجده.
3- يوازن بين النظر إلى نصوص الشرع الجزئية، ومقاصده الكلية، فلا يغفل ناحية لحساب أخرى، ولا يعطل النصوص الجزئية من الكتاب والسنة، بدعوى المحافظة على روح الإسلام، وأهداف الشريعة، ولا يهمل النظر إلى المقاصد الكلية والأهداف العامة, استمساكًا بالظواهر وعملاً بحرفية النصوص .(62/120)
4- يرد الفروع إلى أصولها، ويعالج الجزئيات فى ضوء الكليات، موازناً بين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، وبين المصالح والمقاصد عند التعارض فى ضوء فقه الموازنات ، وفقه الأولويات .
5- يلاحظ ما قرره المحققون من علماء الأمة من أن الفتوى تختلف باختلاف المكان والزمان والحال والعرف وغيرها. ولا يوجد اختلاف بين زمان وزمان مثل اختلاف زماننا عن الأزمنة السابقة، كما لا يوجد اختلاف مكان عن مكان، كالاختلاف بين دار استقر فيها الإسلام وتوطدت أركانه وقامت شعائره، وتأسست مجتمعاته ،ودار يعيش فيها الإسلام غريبًا بعقائده ومفاهيمه وقيمه وشعائره وتقاليده .
6- يراعى هذه المعادلة الصعبة : الحفاظ على تميز الشخصية المسلمة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة مع الحرص على التواصل مع المجتمع من حولهم، والاندماج به والتأثير فيه بالسلوك والعطاء(4) .
المراجع
19. أحمد الراوى - اتحاد المنظمات الإسلامية فى أوروبا - الإسلام والمسلمون والعمل الإسلامى فى أوروبا .
20. تتعمد الصين وروسيا أيضًا التقليل من الأعداد المعلنة للمسلمين فى كلا البلدين لأسباب استراتيجية، بسبب محاولات الأقلية المسلمة فى الصين الاستقلال عن الدولة الشيوعية ، والحرب التى تشنها روسيا على المسلمين الشيشان .
21. الإمام محمد أبو زهرة - العلاقات الدولية فى الإسلام - دار الفكر العربى - القاهرة 1994م .
22. د. يوسف عبد الله القرضاوى - فى فقه الأقليات المسلمة - دار الشروق - مصر .
الفصل السابع
ماذا قدمنا للآخرين ؟
لعل أقوى رد على منكرى التواصل والتعارف بين المسلمين والآخر ، هو تلك المآثر العظيمة التى سجلتها أقلام غربية منصفة أبت إلا تذكير العالم بما قدمه المسلمون والعرب للحضارة الإنسانية .. فقد كنا دومًا رسل هداية ورحمة وعطاء كما أمرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . وفيما يلى نسوق أمثلة فحسب ، لأننا لو أردنا الإطالة لاحتجنا إلى مجلدات لحصر كل ما قدمناه للإنسانية ..
ذكرت مجلة "اليونسكو" (عدد تشرين الأول 1980م فى الصفحة 38) : أن كتاب القانون - لابن سينا - بقى يُدرَّس فى جامعة بروكسل حتى سنة 1909م ، وقال د. أوسلر :لقد عاش كتاب القانون مدة أطول من أى كتاب آخر كمرجع أوحد فى الطب، وقد وصل عدد طبعاته إلى خمس عشرة طبعة فى الثلاثين سنة الأخيرة من القرن السادس عشر، وقد زاد عدد الطبعات أكثر فى القرن السابع عشر، فابن سينا مكن علماء الغرب من الشروع فى الثورة العلمية، التى بدأت فعلاً فى القرن الثالث عشر وبلغت مرحلتها الأساسية فى القرن السابع عشر .
وحول أثر الحضارة العربية الإسلامية فى النهضة الأوربية، يقول الباحث الدكتور شوقى أبو خليل فى كتابه الحضارة العربية الإسلامية وموجز الحضارات السابقة(1) :
(لقد كانت العصور الوسطى الأوربية مظلمة، إلا البقاع التى وصلها الفتح العربى : الأندلس، صقلية، وجنوبى إيطاليا؛ فقد أنارت الحضارة العربية الإسلامية أرجاءها، وحركت عقول أبنائها، فليس من المصادفة أبداً أن تبدأ أوروبا نهضتها ويقظتها الفكرية من المناطق التى وصل إليها العرب ، ذلك لأنهم أصحاب تراث حضارى عظيم) .
ويضيف الباحث د. شوقى : (ولكن اقتباس هذه الحضارة الرائعة من قبل الأوروبيين كان أبتر ، وهذا الأخذ كان ناقصًا ، لأنهم أخذوا الجانب العلمى المادى ، وتركوا الجانب الروحى الإنسانى والتسامح الذى عاشته حضارتنا أينما حلت .. أجل إنها المعجزة العربية) .
وبكلمة مختصرة شهد القرن الحادى عشر ، انتقال بعض مظاهر أسس الحركة العلمية العربية إلى أوروبا من خلال الأندلس (مدرسة طليطلة) ، وجنوبى إيطاليا (مدرسة ساليرنو) ، بينما شهد عملية انتقال مشابهة عن طريق ثغور بلاد الشام المحتلة من قبل الصليبية (1907م - 1290م) .
وفى هذا الصدد قال المؤرخ الدكتور (لوسيان لوكليرك)(2) : (هناك تفكيران عصفا بأوروبا فى القرن الثانى عشر ؛ الأول : دينى متعصب ، دفع الأوروبيين للقيام بالحروب الصليبية ، والثانى : متعطش للعلم ، دفعهم للتفتيش عن منابعه لدى العرب المسلمين) .
مدرسة طليطلة
لقد مرت مدرسة طليطلة بعدة مراحل ، وفى كل مرحلة كانت تترجم المئات من الكتب والمخطوطات العربية إلى اللاتينية ، فمنذ استيلاء (الفونسو الثالث - ملك قشتالة) على مدينة طليطلة من أيدى العرب المسلمين عام 1085م، أمر بترجمة المخطوطات فى الخزائن التى كانت تحتوى على ملايين من المخطوطات والكتب الأدبية والعلمية والطبية - فالمكتبة العامة لمدينة قرطبة - وحدها - كانت تحتوى على أكثر من نصف مليون مخطوط عربى ، وإن فهارس هذه المكتبة ملأت مجلدين يحويان أكثر من ألفى صفحة - لاسيما أن الملك كان يحب الثقافة ، مما شجع حركة الترجمة ، لدرجة أن أقيمت ، ولأول مرة ، ورشات الترجمة ، وظهرت مفارز للترجمة ، يتعلم أفرادها اللغة العربية أولاً ، ثم يبدءون بترجمة عدد من المخطوطات القيمة الشهيرة من العربية إلى اللغة العامية القشتالية كلغة وسيط ، وبعدها تجرى صياغة هذه الترجمة باللغة اللاتينية الفصحى ، لأنها كانت اللغة الرسمية للعلم والكنيسة فى أوروبا .(62/121)
وفى الفترة 1125م - 1151م حكم (ريمون) الذى تميز بشغفه للعلم ، مما شجع على ترجمة المزيد من الكتب العربية إلى اللاتينية ، لاسيما أن ثمة مترجمين مشهورين ، تولوا هذه المهمة ، منهم :
(يوحنا الإشبيلى) : تولى نقل الكتاب من اللغة العربية إلى اللغة القشتالية العامية (الكاستيجا) .
(دومينيكو جونديسالفى) : تولى الترجمة من القشتالية العامية إلى اللغة اللاتينية الفصحى ، ومن بعض الكتب التى ترجمت : كتب ابن سينا الطبية والعلمية الأخرى والفلسفية ..
(مرقص الطليطلى) : تولى ترجمة كتاب (جس النبض) لجالينوس ، ولكن ليس عن لغة الكتاب الأساسية ، التى هي اليونانية ، وإنما نقلاً عن ترجمة عربية سابقة لهذا الكتاب ، قام بها حنين بن إسحاق ، وبهذا يكون فضل العرب مضاعفًا بهذه الحالة .
(جيرار الكرمونى) (1187م) : هذا المترجم بالذات كان نشيطًا لدرجة أنه قام بالترجمة من اليونانية والعربية إلى اللغة اللاتينية لنيفٍ وسبعين كتابًا فى الصيدلة والطب والفلسفة وغيرها من العلوم ، وعلى سبيل المثال نورد بعضها :
- فى علم الصيدلة : ترجم كتاب (الأدوية المركبة) للكندى .
- فى علم الطب : ترجم كتاب (القانون) لابن سينا .
إضافة إلى كتاب : (التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوى ، وكتاب (المنصورى) لأبى بكر الرازى .
ومن المفيد ذكره فى هذا الصدد ، أن كتاب (القانون) ظل يُدرس فى الجامعات الأوروبية حتى بداية القرن السادس عشر ، وكتاب (التصريف...) كان المرجع الأول لعلم الجراحة فى أوروبا ، وكذلك كتاب (الجراحة الكبرى) للزهراوى ، كان المعتمد الأساسى فى علم الجراحة فى أوروبا حتى ظهور الجراح الفرنسى (آمبروا زباريه) فى القرن السادس عشر . أما كتاب الرازى (المنصورى) فقد كان المجلد التاسع منه ذا تأثير كبير فى تطور علم الطب فى القرون الوسطى وكانوا يسمونه (Nonusal-Manso r i) أى المنصورى التاسع(3).
مدرسة ساليرنو
تأتى أهمية مدرسة ساليرنو من حيث كونها أول جامعة أقيمت فى أوروبا ، والتى خرجت جيلاً من الرواد أنشأ الجامعات الأوروبية الأولى فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر وما بعدهما ، ومن أمثال تلك الجامعات : (ديادوفا وبولونيا فى إيطاليا ، ومنبيليه وباريس فى فرنسا) . إضافة إلى جامعة أكسفورد ولايدن ولوفان ولايبزغ وتوبنجن وهايدلبرغ وبال ... إلخ .
ولقد لعب بعض الأطباء المهاجرين العرب دورًا كبيرًا فى تطور مدرسة ساليرنو للطب ، مثل : قسطنطين الأفريقى - التونسى الأصل - الذى ترجم العديد من الكتب العربية العلمية إلى اللغة اللاتينية ، مثل كتاب (الكامل فى الصناعة) وكتاب (الملكى) لعلى بن العباس ؛ وكتاب (فىأمراض العيون) لحنين بن إسحاق ، وكتاب (زاد المسافر) لابن الجزار ، وحوالى عشرين كتابًا أخرى أصبحت المراجع العلمية لها .
ناهيك عن أن (بارتولومو) ، وهو من تلامذة قسطنطين الأفريقى فى مدرسة ساليرنو ، قام بترجمة كتاب (الملكى) لعلى بن العباس من اللاتينية إلى الألمانية ، فكان أول كتاب طبى يدرس باللغة الألمانية الجديدة . ثم تلاه العديد من الكتب .
الثغور الشامية فى مرحلة الحروب الصليبية
شهد القرنان الثاني عشر والثالث عشر مرحلة الحروب الصليبية ، التي تمت فيها عملية تماس إجبارى على مستوى واسع ، بين المجتمع العربى الإسلامى من جهة ، وحشود من الأوروبيين الغزاة من جهة ثانية ، وقد حصل هذا التماس فى بلاد الشام بالذات حيث أنشأ الصليبيون إمارات أوروبية مستقلة فى كل من الرها (إيديسا) ، وأنطاكية ، وطرابلس الشام ، ومملكة مسيحية فى القدس ، لدرجة أن وصفت هذه المرحلة بأنها الأهم فى نقل مظاهر وأسس الحركة العلمية من (دار الإسلام) فى المشرق إلى البلدان الغربية فى أوروبا .
وثمة علاقات تمت على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية ، لاسيما فى أوقات المهادنة . ومن جملة ما أخذوه نظامنا العلمى التعليمى ، وكيفية تدريس العلوم ، وإجازة الأطباء ، وطرق العلاج ، والمؤسسات العلاجية ، وخاصة نظام المستشفيات (البيمارستانات) ، ناهيك إلى انتقال العديد من الصناعات إلى أوروبا ، لاسيما صناعة الورق ، لما لها من أهمية فى الثقافة والعلم والتعليم ، وكذلك صناعة النسيج إلى فرنسا ، إضافة إلى إجادة اللغة العربية من قبل الأوروبيين(الذين كانوا مع الوحدات الصليبية فى الشرق) ، بغية التمكن من ترجمة الكتب العلمية إلى اللغة اللاتينية أولاً ، ثم إلى فروعها من اللغات الأوروبية فى مرحلة لاحقة . كما أن ثمة مدن تميزت بحركة نشطة فى الترجمة من اللغة العربية إلى اللاتينية ، فمثلاً :
مدينة أنطاكية
كان من أهم المترجمين : (إيتين الإنطاكى) حيث ترجم كتاب (الملكى) لعلى بن العباس إلى اللاتينية، وذلك تحت عنوان r egalis Disposite عام 1127م .
مدينة طرابلس
اعتبر المترجم (فيليب الطرابلسى) ، من أنشط المترجمين ، حيث ترجم كتاب (سر الأسرار) لأرسطو إلى اللغة اللاتينية ، لكن ليس عن لغته الأصلية - وهى اليونانية - وإنما عن ترجمة عربية له تحت عنوان كتاب (السياسة فى تدبير الرئاسة) .(62/122)
وإضافة لما سبق ، فالحقيقة العلمية تقول إن ازدياد المعلومات عن حضارات الشرق كالمصرية , والسومرية ، والبابلية .. يضطر المؤرخون إلى تعديل جذرى فى النظر إلى الحضارة اليونانية ، فليست هناك (معجزة يونانية) مطلقًا، لأن الحضارة اليونانية ، امتداد واقتباس للحضارة العربية القديمة فى وادى الرافدين ، ووادى النيل ، وبلاد الشام ، فاليونانيون اقتبسوا من الحضارة العربية فى شرقى البحر المتوسط الشىء الكثير فى مختلف العلوم ، وعاد إلينا على أنه علم وطب يونانيان ونُسى الأصل أو تنوسى .
وكما تقول الباحثة ليلى محمد محمد فإنه يبدو فضل العرب المسلمين على الحضارة الأوروبية مزدوجًا ومضاعفًا : نقل الفكر اليونانى إلى الغرب أولاً ، ورفده بأمهات الكتب العلمية والتصانيف التى أبدعها العرب المسلمون ثانيًا . ولاسيما أن اختراع الطباعة على يد يوحنا جوتنبرغ عام 1448م سهل انتشار الثقافة والعلم وعجل بنشوء الحضارة المعاصرة(4) .
وقد تحققت النقلة الحضارية المهمة بالترجمة المكثفة للأعمال اليونانية الكلاسيكية ، مثل أعمال أرسطو وإقليدس وأبيقراط وغيرهم ، والتى ترجمت إلى العربية من المصادر اليونانية والعبرية والسورية ، وقام المسيحيون العرب من أتباع الكنائس الأرثوذكسية السورية والنسطورية بإنجاز عدد من تلك الترجمات. على أن الترجمة لم تكن حرفية ؛ إذ غالبًا ما كان يجرى التعليق على المصدر الأصلى ونقده وإضافة حواشٍ إليه ، وبهذا الشكل بات المسلمون الورثة الحقيقيين للثقافة الهيلينية ، التى غالبًا ما يستخدمها الغرب كمرجع ومصدر ولاشك أن جهود الترجمة الإسلامية الكبيرة صانت هذا التراث الثمين وتولت إدارته(5) .
وصلت جهود الترجمة ذروتها على يد الطبيب المسيحى السورى حنين ابن إسحاق ، جمع ابن إسحاق فى رحلاته الطويلة المخطوطات المختلفة للمؤلفات الأساسية المتوفرة آنذاك ، وقام بمقارنتها قبل ترجمتها إلى السريانية أو العربية ، وفى مطلع القرن التاسع تم تأسيس (دار الحكمة) فى بغداد ، حيث باتت تلك الأعمال متوافرة باللغة العربية التى كانت قد أصبحت لغة العلوم آنذاك .
وكانت بغداد مركز العالم خلال الفترة من عام 750م وإلى العام 1258م حين قام المغول بتدميرها ، وفى الوقت الذى كان فيه أهل شمال أوروبا يهيمون على وجوههم ويكتسون بجلود الحيوانات ، كانت بغداد تنعم بحضارة مزدهرة متطورة تميزت بالتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود ، وبغداد - التى اصبحت مؤخرًا رمزًا للمشاكسة وعدم التصالح - كانت آنذاك تعرف باسم (مدينة السلام)(6) .
ويقول إنجمار كارلسون : أن الثقافة الإسلامية - على ذلك - ليست غريبة كما تدعى كليشهات الغرب وأفكاره المسبقة .
تمكن المسلمون العرب والبربر من هزيمة مملكة الفيزغوطيين فى إسبانيا بسرعة بعد عبورهم لمضيق جبل طارق . كان أهل البلاد الأصليون آنذاك يعانون من حكم أرستقراطية غريبة ، فى حين كان اليهود عرضة لاضطهاد الكنيسة ، وبمساعدة اليهود سقطت طليطلة فى أيدى المسلمين دون مقاومة تذكر ،كما تم فتح قرطبة بمساعدة راع إسبانى دل المهاجمين على فجوة فى سور المدينة ، ومع افتتاح إشبيلية فى 716م وصل الفتح إلى ذروته ، وتم وضع أساس الإطار الجغرافى فى إسبانيا الذى انتعش فيه مجتمع التعددية الثقافية على امتداد ثمانية قرون تقريبًا .
لم يعتبر السكان الأصليون المسلمين الفاتحين همجًا بدائيين ، بل على العكس أعجبهم نمط الحياة الرفيع والرفاه والرقة التى جاء بها المسلمون ، وسرعان ما بات المسيحيون يقلدون المسلمين . ولقد قطع هذا الذوبان والاندماج الثقافى شوطًا بعيدًا إلى حد أن قسيسًا إسبانيًا كتب حانقًا يقول :
(إخوانى المسيحيون يتذوقون الشعر والحكاية العربية ، ويدرسون علوم الدين والفلسفة المحمدية ليس لغرض دحضها ، ولكن لتهذيب أذواقهم وامتلاك الأسلوب الرفيع . هل هناك الآن من هو قادر على قراءة التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة ؟ كلا للأسف الشديد . إن الموهوبين الشبان من المسيحيين لا يعرفون سوى الآداب العربية ، إنهم يقرأون ويدرسون الكتب العربية فحسب ، ويبذلون الغالى والرخيص لجمع الكتب العربية ، ويسبحون ويمجدون فى كل مناسبة بالعادات العربية) .
ذلك السعى المحموم تجاه نمط الحياة الرفيع مازال يعكس نفسه إلى يومنا هذا فى بعض التعابير المتداولة فى اللغات الأوروبية ، والمستعارة مباشرة من اللغة العربية . قليلون أولئك الذين يعرفون مثلاً أن كلمة (الجالا) (الحفل الكبير احتفاء بشخص أو حدث مهم) جاءت أصلاً من العربية ، وأصل التعبير والحدث هو (الحلة) التى كان الأمير الشرقى يخلعها على شخص قام بأداء عمل أو خدمة جليلة ، واليوم نجد فى العديد من اللغات الأوروبية استعارات محورة لمشتقات من هذا التعبير .
لاشك أن الدين كان قوام تأسيس الهوية ، وأن الدين كان بدوره يرتبط بنظام الحكم الإقطاعى ، ولكن العلاقة بين المجموعات الدينية كانت ترتكز على التسامح المتبادل فيما بينها ، والذى كان مستمدًا بدوره من مبدأ (أهل الكتاب) الذى ورد فى القرآن .(62/123)
ويمكن اعتبار عمليات التحول بين الديانات الثلاث بمثابة مقياس خاص لمبدأ التسامح المعمول به آنذاك ، كان التحول من المسيحية واليهودية إلى الإسلام شائعًا ومازال .
وكانت هناك خمس لغات على الأقل قيد الاستعمال اليومى ، لغتان للحديث ، العربية الأندلسية ولغة الرومانا العامية (التى تطورت فيما بعد إلى اللغة الإسبانية) . أما لغات الكتابة فكانت العربية الفصحى والعبرية واللاتينية.
ويضيف إنجمار كارلسون : لقد حرر الفتح الإسلامى اليهود من الاضطهاد الذى كانوا يعانون منه تحت الحكم المسيحى ، ولقد تأقلم اليهود مع الثقافة العربية ، ووصلوا إلى مراكز رسمية عالية خلال فترة الازدهار تلك ، وأدلى اليهود أيضًا بقسطهم فى التطور العلمى والفلسفى والأدبى الذى تحقق خلال تلك الفترة والذى تمركز حول قرطبة . وتمت إعادة نفخ الحياة فى اللغة العبرية بظل الدعم العربى وحمايته، وعلى الرغم من أن اليهود كانوا يكتبون بالعربية عند تناول الفلسفة والعلوم ، إلا أن العبرية كانت لغتهم المفضلة عند كتابة الشعر ، وربما كانت هذه هى المرة الأولى التى جرى فيها استخدام العبرية لأغراض أخرى غير الطقوس الدينية .
ولقد ارتحل اليهود إلى إسبانيا العربية من جميع الأصقاع ، حتى إن غرناطة باتت مدينة ذات صبغة يهودية ، ويكفى أن نشير فى هذا الصدد إلى قيام ناشر إسرائيلى فى مطلع الثمانينيات بنشر مجموعة من الأعمال تحت عنوان (كنوز من الفكر اليهودى) ، وكانت جميع المجلدات الستة التى تم نشرها فى المجموعة أعمالاً كتبت فى إسبانيا خلال الفترة 1050 - 1428م ، لا بل إن خمسة من الأعمال الستة تمت كتابتها أصلاً باللغة العربية ، وتضمنت الأعمال كتابين للمؤلف جابريول (المعروف أكثر باسمه اللاتينى Aviceb r on، وقصائد للشاعر يهودا هاليفى ، وأعمالاً لموسى بن ميمون (قارن التسامح الإسلامى مع اليهود بما يفعلونه الآن فى فلسطين) .
كانت إسبانيا المقاطعة الأولى التى انفصلت عن دار الخلافة ، ولقد وصل الأمير الأموى عبد الرحمن الداخل إلى إسبانيا فى العام 755م هاربًا من دمشق، وكان الحكام فى إسبانيا قانعين فى البداية بلقب الإمارة ، ولكن عبد الرحمن الثالث أعطى لنفسه - فى العام 929م - لقب (أمير المؤمنين) ، وأصبحت الخلافة فى قرطبة خلال القرن العاشر أكثر ممالك أوروبا رخاء على الصعيدين الثقافى والمادى ، وفى الوقت الذى كانت فيه المدن فى وسط أوروبا مجرد أكواخ من الخشب ، كان سكان قرطبة الذين بلغ عددهم نصف مليون نسمة يتمتعون بشوارع مضاءة وشبكة لمياه التصريف وأكثر من 300 حمام عمومى .
إلا أن حكم الأمويين بدأ بالتضعضع مع الانقسامات الداخلية ، وأيضًا مع ضغوط المسيحيين المتزايدة من الشمال الذين كانوا يطالبون باسترجاع الأراضى المسيحية . ونتيجة لهذه الضغوط انقسمت الخلافة فى قرطبة إلى ممالك صغيرة متعددة منذ العام 1013م ، وكان بعض الحكام المسلمين شقرًا وذوى عيون زرق نتيجة للزيجات المختلطة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين ، وجرى عقد معاهدات تحالف بين الحكام المسلمين والمسيحيين .
على أن رؤساء الكنيسة الكاثوليكية كانوا يعتبرون أن أى اتصال مع المسلمين ، أو أى تنازل لهم مهما صغر شأنه ، هو نصر لأعداء المسيحية ، وبدءًا بالقرن الحادى عشر كانت هناك عملية استرجاع تدريجية للأراضى من المسلمين ، إذ سقطت طليطلة فى 1085م ، وقرطبة فى 1236م ، وفالنسيا فى 1238م ، وإشبيلية فى 1248م . على أن الموقع الأخير ، غرناطة ، ظل صامدًا لأكثر من قرنين ونصف من الزمن ، كمدينة مفتوحة للفنانين والعلماء والكتّاب من شتى أرجاء حوض البحر المتوسط ، وظلت غرناطة واحدة من أجمل مدن الدنيا وواحة للاجئين (المور) (العرب الهاربين من إسبانيا المسيحية) وللمسيحيين واليهود على السواء .
ولكن غرناطة سقطت أخيرًا مع قلعتها الحمراء فى عام 1492م ، ولقد حدث هذا بعد أن أصبحت نموذجًا للتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود، وهو النموذج الذى بات يعرف باسم التعايش التلاؤمى (Conviviencia)، وعلى امتداد كامل فترة الاسترجاع كان المسيحيون يواجهون طرفًا أكثر رفعة حضارية . ولقد كان الإسلام أكثر مدنية وأكثر تطورًا من الناحية التقنية ، فضلاً على أنه كان أكثر انفتاحًا على العالم وأغنى تنوعًا من الناحية الروحية .
وبعد الاجتياح المسيحى باتت طليطلة مركزًا لترجمة الأعمال العلمية من العربية إلى اللاتينية ، ولقد جرى جمع أفضل عقول أوروبا آنذاك فى تلك المدينة ، ويمكن على ضوء ذلك الاستنتاج القول بأن العلماء والبحاثة المسلمين والمسيحيين واليهود من طليطلة وقرطبة وإشبيلية وغرناطة كانوا أساس ولادة المنهج الإنسانى الأوروبى ، وذلك عبر تعريف أوروبا المسيحية بكلاسيكيات تاريخ العلوم ، وهذا يصح على نظريات الحساب التى طورها إقليدس وأبولونيوس وأرخميدس , وعلى علوم الفلك لدى المصرى بطلميس ، وعلى علوم الطب عند أبو قراط وجالينوس .(62/124)
وقد تأثر التعليم والعلم والثقافة فى أوروبا بشكل قوى بالمعارف الإسلامية أيضًا عبر صقلية ؛ إذ كانت هذه الجزيرة مقاطعة بيزنطية فى بداية القرن التاسع ، فقد تمكن المسلمون فى العام 829م من الحصول على موطىء قدم فيها، ومع العام 902م سقطت الجزيرة بكاملها فى أيديهم إلى جانب أجزاء من جنوب إيطاليا ، ولكن السيطرة الإسلامية هناك لم تكن طويلة الأمد كما فى جنوب إسبانيا ؛ إذ تمكن النورمانديون من استرجاع صقلية فى أواخر القرن الحادى عشر . وعلى الرغم من قصر هذه الفترة الزمنية ، إلا أن المدن الصقلية بشكل خاص كانت قد تأسلمت مما انعكس فى انصهار ثقافى مرموق ظل حيًا ومشعًا لقرون ، وظل نظام حكم النورمانديين ذا طابع عربى كامل ؛ إذ إن (روجر الأول) ، وهو الذى بدأ الحملات ضد المسلمين فى الجزيرة أحاط نفسه بالفلاسفة وعلماء الفلك والعلماء العرب ، وكان بلاطه فى باليرمو بلاطًا شرقيًا أكثر مما كان غربيًا ، ولقد ظلت الجزيرة لأكثر من قرن من الزمن مملكة مسيحية يحتل المسلمون فيها أغلب المراكز الرفيعة .
لم يكن (فريدريك فون هوهينشتاوفن) حاكمًا لجزيرة صقلية فى النصف الأول من العام 1200م فقط ، بل كان أيضًا إمبراطورًا للإمبراطورية الرومانية المقدسة وملك القدس ، وعلى الرغم من أنه كان صاحب أعلى مركز مدنى فى العالم المسيحى ، إلا أن حياته الخاصة كان حياة شبه شرقية ، فلقد كان لديه حريم ، وكان بلاطه يضم فلاسفة من دمشق وبغداد ويهودا شرقيين وغربيين. إن الانفتاح المميز الذى ساد بلاطه كان أساس عهد النهضة الإيطالى ، وكانت العربية واليونانية واللاتينية تستخدم فى المناسبات الرسمية ، ولقد انتشرت الثقافة والعلوم العربية من جزيرة صقلية والجنوب الإيطالى إلى شمال إيطاليا وبقية أنحاء أوروبا ، وتجدر الإشارة إلى أن الإمبراطور (فريدريك) وابنه (مانفريد) كانا يتقنان العربية ، ولقد قاما بدراسة العلوم والفلسفة العربية ، وبترجمة الأدبيات العربية إلى اللاتينية .
ويشهد إنجمار كارلسون بأن : علم التاريخ جاء إلى أوروبا من الأندلس وصقلية ، وهو أيضًا الطريق الذى جاءت منه العلوم والتكنولوجيا العربية ، لا بل إن إسهام العرب فى خلق المعرفة الطبية فى أوروبا يعتبر واحدًا من أبرز وأكبر عمليات النقل العلمى التى تمت فى التاريخ . لقد جمع أبو بكر الرازى (المتوفى فى العام 935م) كل المعرفة الطبية الموجودة فى زمانه فى 30 مجلدًا، وقام أيضًا بتأليف أكثر من مائة رسالة طبية أعيد نشرها نحو 40 مرة مع حلول القرن التاسع عشر ، وكانت بحوثه تلك مادة تدريس فى الجامعات الأوروبية لقرون طويلة ، وقد حاز وصفه للجدرى والحصبة على شهرة خاصة ، وقام الطبيب والفيلسوف ابن سينا (المتوفى فى العام 1037م) أيضًا بوضع دائرة معارف للعلوم الطبية ظلت تستخدم فى الجامعات الأوروبية حتى القرن الماضى، وشرح (ابن الخطيب) (المتوفى فى العام 1374م) كيفية انتقال الطاعون بالعدوى . أما أعمال على بن عيسى حول أمراض العيون فإنها تعكس فهمًا ومعرفةً لم تصبح متوافرة فى أوروبا قبل القرن الثامن عشر ، وكان الطبيب المصرى (ابن النفيس) (المتوفى فى 1288م) أول من شرح نظام الدورة الدموية . وهذا مجرد غيض من فيض .
ومنذ القرن العاشر فرض المسلمون على الأطباء ضرورة اجتياز امتحان طبى قبل السماح لهم بممارسة المهنة ، وكان تعليم الأطباء يجرى فى مستشفيات خاصة فى المدن الكبيرة ، ولقد طور الأخصائيون فى هذه المستشفيات فنون الجراحة ، كما جرى مراقبة ووصف مراحل تطور الأمراض المختلفة ، وتمت دراسة الأدوية المستخلصة من الأعشاب وتحليل آثارها على الجسم البشرى . لقد كانت العلوم الطبية متطورة إلى درجة أن عالم النبات (ابن البيطار) من ملقا (الأندلس) جدول فى القرن الثالث عشر أكثر من 1400 عقار طبى مختلف، وفى الواقع أن الصيدليات كمؤسسات طبية هى إبداع عربى ، ولقد كان هناك محلات عطارة رسمية فى الأندلس توفر الدواء للعامة .
وحقق علماء الفلك العرب تطورًا كبيرًا فى تحديد المسارات التى يأخذها القمر والكواكب ، وكتبوا فى وقت مبكر عن المد والجزر ، وعن قوس القزح ، وعن الشفق ، وعن الهالات حول الشمس والقمر ، وافتراض العلماء العرب أن الأرض كروية منذ القرن الحادى عشر . إن إنجازات (كوبرنيكوس وكيبلر) ما كان يمكن لها أن تكون بدون الأعمال التأسيسية للفلكيين العرب .
ولقد تمكن القسيس (لوبيتوس) من برشلونة من تعلم كيفية استخدام الأسطرلاب عبر قراءة نصوص مترجمة من العربية ، وكتب فى العام 984م إلى إخوانه المسيحيين - على الجانب الآخر من سلسلة جبال البرانس - حاثًّا إياهم على استخدام العلوم العربية ؛ وذلك لتسهيل تحقيق أهدافهم الدينية قائلاً: إن من يرغب بأداء الصلوات فى أوقاتها الدقيقة ، والاحتفال بعيد الفصح فى التاريخ الصحيح ، وتفسير البشائر حول نهاية العالم ، عليه أن يستخدم الأسطرلاب . لقد نسينا نحن المسيحيين الحكمة والمعرفة الأصلية ، وها هو الله يهبنا إياها ثانية عبر العرب . انتهى .(62/125)
ولم يمنح العرب أوروبا الأسطرلاب فقط ، بل أعطوها أيضًا أداة أكثر دقة للحساب ، ألا وهي الأرقام العربية ، التى يجدر أن نسميها بالأرقام الهندية كما يفعل العرب أنفسهم . كانت هذه الأرقام معروفة فى بغداد منذ نحو العام 720م ، ويرجح أنها جاءت إلى بغداد عبر التجار الهنود . إن المساهمة الأكثر أهمية لعلماء الحساب الهنود تتمثل فى إبداع رقم الصفر ، وفى وضع النظام العشرى ، وعقب نحو قرن من معرفة هذا النظام ، قام (أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمى) (المتوفى فى العام 846) بوضع كتابه عن تطوير مجالات استخدامه فى علم الحساب ونظام العد العشرى ، وهو يستحق عن جدارة لقب (أبو علم الجبر واللوغارتمات) ، بل إن كلمة (الجبرا) باللغات الأوروبية مشتقة مباشرة من كلمة الجبر بالعربية ، وكلمة اللوغارتمات مشتقة بدورها من تحريف اسم الخوارزمى .
كانت أساليب الحساب الجديد ثورة عظيمة الشأن ؛إذ وفرت الأرقام الجديدة إمكانية التعامل مع المسائل الرياضية بشكل لم يكن متاحًا فى السابق مع استعمال الأرقام الرومانية ، ولقد حرر هذا الإنجاز العربى أوروبا من (اضطهاد الأرقام الكاملة) حسب تعبير أحد الرهبان .
كان للانتشار السريع للإسلام نتائج على علوم الجغرافيا أيضًا ؛ إذ تم وضع وصف دقيق لمسالك الحج من الحواضر الإسلامية فى مصر وسوريا وما بين النهرين فى وقت مبكر . ونتج عن هذا تأليف دوائر المعارف الجغرافية وكتب الرحلات عبر القارات ، ولقد وضع (أبو عبد الله المقدسى) (المتوفى فى العام 1000م) مجلدًا حول الجغرافيا الفيزيائية والبشرية المعروفة فى ذلك الزمن ، على ضوء ملاحظاته والمراقبات الموثوقة للآخرين , وهو أيضًا مؤلف (أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم) الذى نقله الأوروبيون إلى لغاتهم ، كما قام (ياقوت الحموى) (المتوفى فى العام 1229م) بتأليف قاموس جغرافى مهم بعنوان (معجم البلدان) .
ولقد استفادت أوروبا أيضًا من العلوم العربية فى هذا المجال ؛ إذ قام الملك النورماندى (روجر الثانى) بتكليف الجغرافى العربى الإدريسى برسم خرائط شاملة عن العالم ، فقام هذا برسم خريطة للعالم بالإضافة إلى 72 خريطة تفصيلية عن الحدود المعروفة آنذاك ، من خط الاستواء جنوبًا إلى المحيط الأطلسى غربًا وإلى المحيط الهادى شرقًا .
كانت المخططات التى وضعها راسمو الخرائط العرب واليهود فى صقلية ومايوركا فى القرن الثالث عشر فريدة من نوعها ؛ إذ استمر استعمالها ولم يجر تعديل المسافات المحددة فيها إلا فى وقت متأخر من القرن السابع عشر ، وكلمة أطلس المستخدمة فى اللغات الأوروبية مأخوذة مباشرة من اللغة العربية، وعندما قام (فاسكو دي جاما) بالاستعانة بالقبطان العربى (ابن ماجد) ؛ لاكتشاف طريق الهند عبر رأس الرجاء الصالح ، فإنه كان يعرف تمامًا بمن يجب أن يستعين .
أما الرحالة المغربى (ابن بطوطة) (المتوفى فى 1368م أو 1377م) فإنه ارتحل إلى أصقاع بعيدة أوصلته إلى تومبكو وإلى بكين وإلى الفولغا ، وهو لاشك رحالة على نفس مستوى (ماركو بولو) .
وفيما يلى ، نخبة من أسماء المسلمين الذين أغنوا أوروبا بعلومهم ومعارفهم، والذين وصفهم الباحث والرحالة الألمانى (الكسندر فون هومبولت) فى القرن التاسع عشر بأنهم (منقذو التعليم والثقافة الغربية) .
• عباس بن فرناس (المتوفى فى 888م) الذى حاول تصميم طائرة قبل نحو 600 عام من قيام الإيطالى ليوناردو دافنشى بنفس المحاولة .
• أبو الحسن بن الهيثم (المتوفى فى 1039م) الذى اخترع الحجرة المظلمة فى التصوير .
• أبو الريحان البيرونى (المتوفى فى 1050م) العبقرى المتعدد المواهب الذى كان مؤرخًا وديبلوماسيًا وأخصائيًا فى اللغة السنسكريتية وعالم فلك ، وخبيرًا بالخامات وصيدلانيًا .
• عمر الخيام (المتوفى ما بين 1123م و 1131م) الذى كان شاعرًا وعالم حساب فى آن واحد .
• ابن رشد (ولد وتعلم فى الأندلس ، وتوفى فى 1198م) الذى تركت شروحاته وتعليقاته على أعمال أرسطو آثارًا عميقة على الفلسفة الغربية .
• ابن خلدون (المتوفى فى 1406م) الذى يعتبر بحق (أبو التاريخ) و (أبو علم الاجتماع) ، عبر مُؤلفه الشهير المعروف بـ (مقدمة ابن خلدون) ،عن تاريخ العالم ومنهجه المميز فى نقد المصادر .(62/126)
وكما تقول أغنية مصرية شائعة : (الأرض بتتكلم عربى) ، فإن أوروبا كثيرًا ما تستعمل العربية دون أن تدرى . إن الآثار التى خلّفها الحكم العربى فى إسبانيا وصقلية يمكن متابعتها بشكل خاص فى مفردات اللغات الأوروبية، وخاصة فى اللغة الإسبانية . إن واحدة من كل خمس كلمات فى اللغة الإسبانية ذات أصل عربى ، لا بل إن البطل الوطنى الإسبانى الذى هزم العرب، يحمل اسمًا عربيًا : (السيد) (El Cid) ، ومعظم السائحين الذين زاروا حلبات مصارعة الثيران قد لا يعرفون بأن نداء (أوليه) بالإسبانية تمتد جذوره فى اللغات العربية : إنهم يمجدون بهتافهم هنا اسم الله ، وإن اسم أطول نهر فى إسبانيا (Guadalquivi r ) مشتق فىالواقع من الاسم العربى (الوادى الكبير) ، وماذا عن اسم جبل طارق ؟ بل إن التعبير الشائع (هستا مانيانا) , والتى تعنى إلى الغد ، فإن كلمة (هستا) تعود بأصلها إلى كلمة (حتى) العربية .
ومن بين التعابير الحربية والعسكرية فى اللغات الأوروبية التى تعود بأصلها إلى اللغة العربية نذكر مثلاً دار الصناعة (A r senal) ، والغزوة ( r azzia) ، وقالب (Calib r e) . وللتذكير فقط فإن المسلمين وليس البريطانيين هم الذين سادوا الأمواج (كما يقول النشيد الإنجليزى) ، بل إن اللقب العسكرى للأدميرال نيلسون مشتق من اللغة العربية . إن كلمة أدميرال مشتقة (أمير الرحل) التى تحرفت إلى (Ammi r aglio) بالإيطالية ثم أدميرال بالإنجليزية، وكلمة (Mansoon) هي أيضًا كلمة بحرية مشتقة من كلمة الموسم .
وقد استعارت كل اللغات الأوروبية بشكل مكثف من العربية خصوصًا فى مجال أسماء النباتات والحيوانات . وكأمثلة على ذلك نذكر الحشيش (Hasch) ، الذرة (Du r صلى الله عليه وسلم a g r ain) ، الطرحون (Ta r صلى الله عليه وسلم agon)، الباذنجان (Aube r gine) ، البرقوق (Ap r icot)، الكمون (Cumin)، الكافور (Campho r )، القهوة (Coffee)، الياسمين (Jasmine)، الزنجبيل (Ginge r )، القطن (Cotton), الليمون والليمونادة (Lemon)، النارنج (O r ange)، السبانخ (Spinach)، الزعفران (Saff r on) .
وكبرهان على التأثير العربى الواسع الذى شمل مختلف المجالات، والذى يكاد أن يقارب ما نطلق عليه اليوم اسم (الاستعمار الثقافى)، نورد فيما يلى مجموعة من الكلمات السويدية المستعارة مباشرة من اللغة العربية :
الشفرة (Ciphe r )، العرق (A r صلى الله عليه وسلم ack) الكهف (Alcove) الملغم (Amalgam)، الكحول (Alcohol)، الجبر (Algeb r a)، الحبل (Cable)، الزهر (Haza r d) ، الإكسير (Elixi r )، الدمقس (Damask) .
ويشهد علماء الغرب على بشاعة أسلافهم : ولاشك أن الإحساس بالدونية الثقافية ساهم فى بلورة موقف المسيحيين تجاه المسلمين الذى تميز بالقسوة واللارحمة ، ويحفظ لنا التاريخ مثلاً أن (الكاردينال زيمينس) أمر فى العام 1499م بحرق ثمانين ألف كتاب عربى فى غرناطة ، بحجة أن (العربية هى لغة عرق كافر وعرق وضيع) . وبعد ثلاث سنوات أجبر المسلمون فى إسبانيا على الاختيار بين اعتناق المسيحية أو مغادرة البلاد أو الموت ، وخلال الحقبة الزمنية نفسها تم نفى نحو ربع مليون يهودى بعد أن رفضوا اعتناق المسيحية . وتم إحراق مئات الألوف من المسلمين أحياء بعد تعذيب وحشى مروع .
عانت إسبانيا آنذاك من نفس الجنون العرقى الذى تعانى منه البوسنة اليوم ، إذ إن حمى تحويل أتباع الأديان الأخرى إلى المسيحية سرعان ما أصبحت حملة للتمييز العنصرى ، وحتى ذلك الوقت لم يكن (الدم) أمرًا ذا شأن إلا للنبلاء الذين لا يمتلكون الأضياع ، ولكنه سرعان ما أصبح معيارًا حاسمًا للتمييز بين البشر ، وعلى هذه الخلفية فضل الملك (فرديناند) والملكة (إيزابيلا) دخول التاريخ لا بصفتهما ملكين على أتباع من ثلاث ديانات ، بل فضّلا صفة الملوك الكاثوليك . وهكذا انتهى عهد التعايش التلاؤمى على يد المسيحيين المتعصبين .
إن تجربة الأندلس تؤكد : أن بعض التجاوزات المتطرفة التى قد نراها اليوم على الأصعدة المختلفة ليست صنوًا للإسلام . إنها ببساطة ليست من الإسلام فى شىء . الإسلام هو مصهر للإبداعات المتنوعة ، وهو مستودع لأفكار متعددة ومتميزة ، من نظريات يوتوبية استرجاعية حول الخلاص الروحى إلى تأكيدات للهوية الثقافية واستيعاب لكل الأفكار والثقافات .(62/127)
إسبانيا المسلمة هى برهان ملموس على كل هذا ، وهى تحد سافر للأفكار الجاهزة ، وللقوالب المسبقة حول الإسلام والمسلمين . الإسلام كان الحضارة المتفوقة ، وكان الطرف الخلاق حين كانت المسيحية متخلفة عنه قرونًا كثيرة، ولقد عاشت المجموعات السكانية المختلفة بظله بتناغم وتجانس دون اعتبار للعرق والدين . لقد تمكن الإسلام هناك من خلق مجتمع (التعايش السلمى) الذى وصفه المستشرق البريطانى (وليام مونتغمرى وات) بأنه مفهوم يتضمن التكافل والتكامل والانصهار .
تعليق
لقد استمر عطاء علماء المسلمين للبشرية حتى يومنا هذا برغم كل الظروف السيئة التى نمر بها الآن .. ويكفى أن نشير إلى حصول اثنين من علماء المسلمين على جائزة نوبل العالمية تقديرًا لعطائهما وجهودهما المتميزة .. الأول كان الفيزيائى الباكستانى أحمد عبد السلام .. والثانى هو الدكتور أحمد زويل عالم الفيزياء العربى المسلم صاحب الاكتشافات العلمية المذهلة فى العصر الحديث ، ومنها اكتشافه وحدة القياس الزمنى (الفمتوثانية) لأول مرة فى التاريخ .. وهناك أيضًا عالم الفضاء المصرى العربى الدكتور فاروق الباز أحد أبرز خبراء وكالة أبحاث الفضاء الأمريكية (ناسا) .. والعبقرى الدكتور مشرفة .. وعالمة الذرة المصرية الدكتورة سميرة موسى ، وعالم الذرة الدكتور يحيى المشد (اغتالتهما المخابرات الإسرائيلية الموساد بخسة ووضاعة لمنع العرب من الحصول على القنبلة النووية) .. وأيضًا نذكر جراح القلب العالمى الدكتور مجدى يعقوب ..والعالم الجليل الدكتور زغلول النجار أحد أكبر علماء طبقات الأرض فى العالم كله .. وهؤلاء فقط مجرد أمثلة لما قدمته عقول العرب والمسلمين للإنسانية من عطاء .. وهم وأمثالهم - قديماً وحديثاً - البرهان الساطع على أن المسلمين دائمًا كانوا حريصين على التواصل الإيجابى مع الآخر والتعاون المثمر على البر والتقوى والخير للبشرية كلها(7) .
المراجع
(1) الحضارة العربية الإسلامية والحضارات السابقة ، للباحث الدكتور شوقى أبو خليل .
(2) Lucien Lecle r c, Histo r e de la medecien a r abe, Tome 2, P. 343, 345. .
(3) مجموعة بحوث وأعمال المؤتمر العالمى الأول للطب الإسلامى ، الكويت ، 1981م ، الدكتور أبو الوفا التفتازانى .
(4) ليلى محمد محمد - مجلة النادى الأدبى لمنطقة حائل - العددان 8 ، 9.
(5) إنجمار كارلسون - الإسلام وأوروبا - ترجمة سمير بوتانى - مكتبة الشروق الدولية .
(6) هناك موسوعتان مشهورتان عن بغداد ، الأولى : دار السلام , والثانية : تاريخ بغداد، الخطيب البغدادى ، 14 مجلدًا ، مكتبة الخانجى .
(7) ومن أراد المزيد عن العطاء الإسلامى العظيم للعالم فليراجع كتاب المستشرقة الألمانية زنجريد هونكه : (شمس الإسلام تشرق على العالم) - ط دار الشروق - مصر ، وكتاب (حضارة العرب) للعلامة الفرنسى جوستاف لوبون - ط الهيئة المصرية العامة للكتاب .
الفصل الثامن
وسائل التواصل
أدى التطور الهائل في وسائل الاتصال والمواصلات إلى تيسير التواصل بين جميع الدول والشعوب .. ولاشك أننا نستطيع استثمار هذه الوسائل الحديثة فى التحاور والتواصل والتبادل الحضارى مع الآخرين ..
• وعلى رأس هذه الوسائل الحديثة تأتى شبكة المعلومات الدولية - الإنترنت - وهىقفزة كبرى في عالم الاتصالات تيسر لنا - بأقل التكاليف -الوصول إلى كل بيت فى سائر أنحاء المعمورة بلا قيود أو معوقات .. ويكفى أن نشير إلى الملايين من الأوروبيين والأمريكيين الذين اعتنقوا الإسلام خلال بضع سنين منذ اكتشاف الإنترنت كوسيلة فائقة السرعة زهيدة التكلفة للحصول على المعلومات والاتصال بالآخرين .. وعلى سبيل المثال فقد زاد عدد زوار المواقع الإسلامية على الإنترنت - بعد 11سبتمبر 2001م - 76 ضعفًا بسبب الرغبة العارمة لدى الآخرين في التعرف على هذا الدين وما يدعو إليه .. والمؤكد أن هذا كله في صالحنا، لأن النتيجة في كثير من الحالات هى اعتناق هؤلاء الإسلام بعد معرفة الحقائق الكاملة عنه بعيدًا عن أكاذيب وتضليل الصحف الغربية ووسائل الإعلام الأخرى ؛ (تضاعف عدد من اعتنقوا الإسلام في أمريكا 3 مرات بعد 11 سبتمبر) ويمكن لمن يرغب في معرفة بعض ثمار التواصل عبر الإنترنت بهذا الصدد أن يقوم بزيارة بعض المواقع الآتية :
www.jews-fo r -allah-o r g وهو موقع أنشأه حاخام يهودى سابق اهتدى للإسلام - مع كل أسرته - بعد حوار قصير عبر الإنترنت مع شاب مسلم مثقف واعٍ نجح في عرض حقائق الإسلام العظيم على هذا الحاخام الذى أنشأ هذا الموقع لدعوة اليهود وغيرهم إلى الإسلام،بعد أن هداه الله إلى الدين الحق .
- قسيس أمريكى شهير اعتنق الإسلام مع والده - قسيس أيضًا - وصديقهما الوزير الأسبق وأسس موقعًا للدعوة إلى الإسلام www.islamtomo r صلى الله عليه وسلم ow.net وأيضاً www.islam-guide.com موقع جيد لتعريف الآخرين بالإسلام.(62/128)
www.thet r ue r eligion.o r g/conve r ts موقع هام يحتوى على عشرات من قصص إسلام مشاهير الغرب فى كل المجالات.
www.saaid.net أيضا موقع إسلامى ممتاز به كثير من القصص الرائعة لمئات من غير المسلمين الذين هداهم الله للإسلام .
- www.islamicweb.com وموقع آخر للحوار مع غير المسلمين وقصص المسلمين الجدد من مختلف البلدان والثقافات .
- وهناك أيضًا موقع رائع أسلم بسببه عشرات www.islamway.com .
وتجدر الإشارة إلى أن معظم هذه المواقع هى ثمرة مجهود فردى لدعاة وهبوا أنفسهم وما يملكون لنشر دين الله بين العالمين ..
ولكن الأمر يتطلب سرعة مشاركة الدول والهيئات الإسلامية ذات الإمكانيات الكبيرة بإنشاء مئات المواقع- بكل لغات العالم الأخرى وليست الإنجليزية أو العربية وحدها - وتوفير كل المعلومات الأساسية عن الإسلام بما في ذلك الردود العلمية المقنعة على كل ما يثار حول الإسلام من شبهات؛نظرًا لوجود الآف المواقع المعادية التى تنشر الأباطيل عن الإسلام وتربطه بالإرهاب والخرافات وكل ما ينفر الآخرين منه ..
• لقد لاحظ كاتب هذه السطور - من خلال متابعة غرف الدردشة (الشات)الإسلامية بشبكة (ياهو) - قلة عدد الدعاة الذين يجيدون اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأجنبية والمؤهلين للرد على ما يثار من أسئلة أو افتراءات على الإسلام .. الأمر الذى يجعلنا نطالب بسرعة إعداد أعداد كافية من العلماء المتخصصين المسلحين بكل أدوات العصر - إجادة لغات أجنبية وكذلك إجادة استخدام الكمبيوتر والتحاور عبر الإنترنت - فضلاً عن الثقافة الإسلامية بالطبع، والدراية بكيفية التحاور مع الآخرين، ومهارات الإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة، ومعرفة كل الإجابات الشافية والردود على الأباطيل التى تثيرها وسائل الإعلام الأجنبية لمحاولة تشويه الإسلام في وجدان الآخرين ..
صحيح أن هناك حاليًا كما أشرنا بعض الشباب ممن ألهمهم الله رشدهم ووفقهم لتحقيق إنجازات طيبة عبر الإنترنت،وكان من ثمرات جهدهم المبارك،أنه يعتنق الإسلام على أيديهم يوميًا،عشرات من غير المسلمين، لكن عددهم ما يزال ضئيلاً،وإمكانياتهم محدودة للغاية، إذا قورنت بالجيوش الجرارة من المنصرين ومئات المليارات المخصصة للحرب على الإسلام بوسائل مختلفة .. لذلك تعتبر المشاركة بالمال أو النفس في الدعوة إلى الله في هذا الميدان وغيره من أسمى مراتب الجهاد في سبيل الله،فهو كما وصفه الدكتور يوسف القرضاوى بحق (جهاد العصر).
• وما ذكرناه عن الإنترنت يصدق أغلبه أيضًا على القنوات الفضائية ..
ففى الوقت التى يبث فيه الآخرون في مختلف أنحاء العالم مئات - بل آلاف - القنوات الفضائية بكل اللغات لنشر عقائدهم والترويج لثقافتهم وحضاراتهم،وكثير من هذه القنوات يتطاول على الإسلام العظيم ورسوله الأمين صلى الله عليه وسلم . فإننا في المقابل لا نكاد نجد قنوات إسلامية ترد على هذا التطاول الإجرامى،أو تقدم للآخرين - بلغات أجنبية - كل ما يجب أن نقدمه لهم من معلومات عن ديننا الحنيف وحضارتنا العربية الإسلامية الخالدة!!! إننا نطالب بسرعة بث قنوات فضائية عالمية إسلامية بكل اللغات لسد النقص الخطير في هذا المجال،فالجهاد الإعلامى لا يقل أهمية عن الجهاد في ميادين القتال - بل هو الأهم في أوقات السلم - بدلاًمن التسابق الذى نراه الآن - للأسف الشديد - والتنافس في إنشاء قنوات فضائية تبث العرى والانحلال وتضرب الفضائل في مقتل !!!وكفانا إهدارًا للمال ، وكفانا إفسادًا لشباب وأطفال المسلمين وإهدارًا لأوقاتهم وطاقاتهم في متابعة مواد إعلامية أقل ما يقال فيها - في أحسن الأحوال - أنها غير ذات فائدة على الإطلاق!!!
• ونطالب أيضًا بإنشاء إذاعات إسلامية تبث برامجها بلغات العالم الأخرى لنشر مبادئ الإسلام ، وتعريف الآخرين بحضارتنا وقيمنا، والرد على الحملات المضادة .
• لابد أيضًا من إنشاء دار نشر إسلامية عالمية تتولى تنشيط حركة طبع وترجمة الكتب والمطبوعات الإسلامية إلىكل لغات العالم بإعتبارها من أهم وسائل التعارف والتواصل مع جميع الأمم والشعوب الأخرى،كما كان الحال في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية في الأندلس وبغداد .. وعلى رأس هذه الكتب التى تبرز الحاجة الملحة إلى ترجمتها وطبعها معانى القرآن الكريم وكتب العقيدة والأحاديث الصحيحة والفقه الإسلامى وغيرها من الكنوز الإسلامية .. وما أكثر ما نطالع - عبر الإنترنت وغيره - أناسًا من غير المسلمين يناشدوننا إمدادهم بترجمة لمعانى القرآن الكريم وغيرها من الكتب والمراجع الإسلامية بلغاتهم،لأنهم لا يملكون أية مصادر للتعرف على الإسلام سوى وسائل الإعلام الغربية الحاقدة التى لا هم لها سوى إشاعة الخوف من الدين العظيم وتشويهه على الدوام ..
ملاحظة :(في أعقاب أحداث 11 سبتمبر نفدت ملايين من الكتب التى تتحدث عن الإسلام - إيجابًا أو سلبًا - من المكتبات الأمريكية خلال بضعة أشهر ،والأمر يحتاج إلى إمكانيات هائلة لا وجود لها سوى لدى الدول الإسلامية .(62/129)
وقد أنعم الله علينا بثروات ضخمة من النفط وغيره،فلا أقل من إنفاق بعضها على وسائل الدعوة إلى الله،وما أعظمها من أوجه للإنفاق في سبيل الله وما أعظم الأجر عليها لمن يوفقه الله إلى ذلك ..
• ويلحق بهذا إعداد دائرة معارف إسلامية وموسوعة شاملة بكل اللغات المعروفة،وهو ما يفعله الآخرون لنشر مذاهبهم وعقائدهم وحضارتهم .. فلماذا لا نفعل هذا ونحن أصحاب الدين الحق والحضارة الرائدة ؟!!
• كذلك تبدو الحاجة ملحة إلى إصدار صحف ومجلات إسلامية عالمية بلغات مختلفة،لمواجهة الحرب الإعلامية الطاحنة التى يشنها الآخرون علينا،وعرض بضاعتنا النفيسة على الكافة .. ويكفى تخصيص جزء يسير من الميزانيات الضخمة لوزارات الإعلام في الدول العربية والإسلامية لتحقيق هذا الغرض النبيل،بدلاً من الدعاية ذات التوجهات الإقليمية لكل دولة على حدة !!!
• وكذلك دعم المساجد والمراكز الإسلامية والثقافية في الخارج وإنشاء المزيد منها، وإنشاء معاهد ومراكز أبحاث إسلامية، وإمدادها بكل الإمكانيات اللازمة لأداء رسالتها العظيمة في التعارف مع الآخرين والتواصل معهم،وتصحيح ما لديهم من مفاهيم خاطئة عن الإسلام والمسلمين،وذلك بإمدادها بكل الكتب المترجمة والمواد السمعية والبصرية التى تشرح الإسلام شرحًا صحيحًا، وبالسبل التى تتلاءم مع أنماط تفكير الأخرين .. ومن الضرورى بالطبع إعداد العاملين بتلك المراكز وتدربيهم على كيفية التحاور والتعامل مع الناس في البلاد التى يعملون بها .. وكما أشار مسئول فرنسى ذات مرة،فإنه ليس من المعقول أن يعمل أئمة مساجد ووعاظ مسلمون في فرنسا وهم لا يعرفون من الفرنسية كلمة واحدة،فضلاً عن جهلهم التام بالبيئة هناك وعادات وتقاليد الفرنسيين !! وما ذكره المسئول الفرنسى ينطبق أيضًا على كثير من الدعاة والأئمة في بلدان أجنبية أخرى .. إنه لا مفر أمام من يريد العمل في حقل الدعوة بالخارج من إتقان لغة البلد الذى سيعمل به، والإلمام بكل المعلومات الضرورية عن المجتمع الذى سيعيش فيه ويدعو أبناءه إلى الإسلام .. ومرة أخرى نشير إلى التفاوت الهائل بين إمكانيات المراكز الإسلامية والثقافية في الخارج - وهى ضئيلة جدًا - وإمكانيات مراكز وبعثات التنصير مثلاً التى يرصدون لها أرقاماً فلكية - عشرات المليارات من الدولارات سنويًا - وبطبيعة الحال فإننا نظلم العاملين بهذه المراكز الإسلامية إن طالبناهم بمجاراة الآخرين في ظل هذه الظروف، فالمعركة نظريًا غير متكافئة .. ومع ذلك فإنه بفضل الله وحده،ينتشر الإسلام بقوة دفع ذاتية عظيمة .. ويعجز المنصرون عن تحقيق معشار ما يحققه الإسلام من انتشار عظيم رغم كل ما ينفقون من أموال هائلة .. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف:21 .
• وكذلك ينبغى تفعيل دور الملحقيات الثقافية والدينية في سفارات الدول العربية والإسلامية بالخارج، وجعلها حلقة تواصل وحوار مع الناس في الدول التى توجد بها هذه السفارات .. إذ إنه ليس من المعقول أن تنفق عشرات بل مئات الملايين على هذه الملحقيات سنويًا بغير عمل يُذكر-اللهم إلا إصدار نشرات دعائية للحكومات والمشاركة في استقبال ووداع كبار المسئولين القادمين لزيارة تلك البلدان في المطارات وإقامة حفلات التكريم لهم - إننا نطالب بتجاوز الشئون الإقليمية المحلية لكل بلد على حدة، فالتحديات القائمة والحملات المسعورة موجهة ضد الجميع،ومن البديهى أن يكون الدفاع ضدها مشتركًا، والتخطيط والتنسيق والتوجيه موحدًا أيضًا .. وليتنا ندع صراعاتنا وانقساماتنا ومشاكلنا الداخلية جانبًا لنتحاور مع الآخرين كجبهة موحدة تعمل فقط من أجل الإسلام ..
• إن الآخر لن يحترمنا ولن يقيم لنا وزنًا إن تعاملنا معه فرادى - مفككين ومتطاحنين - وكما سأل أحد خصوم الإسلام كاتب هذه السطور ذات مرة - في حوار عبر الإنترنت - : أى إسلام تريدون منا أن نتبعه،أهو الوهابية السعودية أم الشيعية الخومينية أم الصوفية أم .... إلخ ؟!!! بطبيعة الحال كان الجواب هو: أن الله واحد، والإسلام واحد، والقرآن الكريم كتاب واحد،والكل مسلمون على إختلاف المذاهب والبلدان والحكومات ..والإسلام العظيم حجة على الجميع ولا أحد حجة على الإسلام .. فالمنهج كامل شامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،ولكن أخطاء البشر هى التى تسبب هذه المشاكل والصراعات والإنقسامات، وليس من المنطقى أن يتحمل الإسلام - عقيدة وشريعة - المسئولية عن أية انحرافات أو أخطاء بشرية ناجمة عن الخروج على أحكامه .. انتهت الإجابة .. لكن يبدو لى أيضًا أننا بحاجة إلى حوار داخل البيت الإسلامى أولاً قبل أن نخرج للتحاور مع الآخرين .. أليس كذلك ؟!!
• وهناك الدور الهام الذى يمكن للمبعوثين للدارسة بالخارج والقادمين من الخارج للدارسة بجامعاتنا القيام به لدعم الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى بين الجانبين .(62/130)
• بهذا الصدد نطالب بزيادة المنح الدراسية لغير المسلمين للدراسة بالجامعات الإسلامية في بلادنا لمنحهم الفرصة كاملة للإطلاع على حضارتنا وديننا وتعلم لغتنا،فبذلك نكسب أنصارًا جددًا لنا هناك .. إذ أن هؤلاء سوف يتأثرون قطعًا بما درسوه، وبمعايشتهم للمسلمين هنا، وسوف يتحول أغلبهم - حتى ولو لم يعتنقوا الإسلام - إلى محامين بارعين يتصدون للحملات المعادية لنا في بلادهم، ويتعاملون مع خصومنا بذات أساليبهم - باعتبارهم جزءًا من المجتمع - فهم أقدر منا وأكثر خبرة في التصدى لهؤلاء،وإجهاض مخططاتهم ضد ديننا وحضارتنا ..
• كذلك يتعين الإعداد الجيد للمبعوثين العرب والمسلمين إلى الخارج قبل سفرهم - حتى ذوو التخصصات العلمية البحتة ينبغى تزويدهم بجرعات كافية من الثقافة الإسلامية - ليتمكنوا من التحاور مع الآخرين والتواصل معهم عن علم ودراية، وأيضًا لنحميهم من الذوبان في المؤثرات الثقافية والحضارية المغايرة لثقافتنا وحضارتنا ..
ومن المؤلم جدًا أن كثيرًا من أبنائنا المبعوثين للخارج رغم تفوقهم في تخصصاتهم - كالطب والهندسة والكيمياء - فإن الحصيلة الثقافية الإسلامية لديهم متواضعة للغاية،ولهذا يعجزون عن التحاور مع الآخرين،ولا يحسنون تقديم إجابات صحيحة عن الإسئلة المحرجة التى يوجهها إليهم الجيران الأجانب في المسكن أو الزملاء في الجامعة عن الإسلام والمسلمين !!! والأكثر إيلامًا أن بعضهم لا يلتزم في حياته وسلوكياته بما ينبغى أن يكون عليه المسلم ليجد الآخرون فيه القدوة والمثال الطيب للمسلم !!!
وليت هؤلاء يتذكرون إن أسلافهم العظام - من التجار المسلمين وغيرهم -نشروا الإسلام في معظم أنحاء آسيا وأفريقيا بالقدوة الحسنة فقط لا غير، إذ كانوا قرآناً يمشى على الأرض فأحب الآخرون دينهم وأقبلوا عليه ..
• ومن السبل الجيدة للتحاور والتواصل مع الأخرين إقامة المؤتمرات والندوات الإسلامية الدولية .. على ألا يقتصر الحضور والمشاركة فيها على كبار المفكرين والعلماء من المسلمين وحدهم .. فيجب لكى تتحقق الأهداف المرجوة منها أن يُدعى إليها الكُتاب والمفكرون والإعلاميون المنصفون من غير المسلمين - وعددهم ليس بالقليل - وكذلك مشاهير الغرب من علماء ومفكرين ونجوم في شتى المجالات ممن اعتنقوا الإسلام،فهؤلاء يشكلون واحدة من أهم وسائط الحوار والتواصل مع مجتمعاتهم،وتأثيرهم هناك أفضل بكثير من غيرهم،لأنهم أدرى بمجتمعاتهم ومواطنيهم،وأقدر على التفاهم معهم بذات السبل والأساليب والمناهج الفكرية والإعلامية السائدة هناك .. وعلى سبيل المثال فإن الشعب الفرنسى يعلم جيدًا من هو الدكتور رجاء جارودى - الفيلسوف الذى أسلم وتحول إلى مفكر إسلامى بارز - والملايين هناك يقرأون كتبه ومقالاته ويتأثرون بها - والفرنسيون يعلمون أيضًا من هو الدكتور موريس بوكاى - العالم والطبيب والجراح الفرنسى الشهير الذى تحول للإسلام بعد دراسة عميقة - وقراء كتبه بالملايين .. إذن تأثير مثل هذين في فرنسا يبلغ أضعاف تأثير فريق كامل من الدعاة العرب . ولهذا تجب الاستعانة بأمثال هذين العملاقين وكذلك بالمنصفين من مفكرى الغرب غير المسلمين،فتأثيرهم هائل لأن ما يقولونه هو شهادة نجوم من الغرب وليسوا عربًا ولا مسلمين، وهى أقوى نفوذًا وتأثيرًا هناك بالقطع ..
نشير أيضًا إلى المطرب العالمى كات ستيفن الذى اعتنق الإسلام وتحول إلى داعية إسلامى كبير في بريطانيا، وأسس دارًا للتعليم والدعوة في لندن، وقد اعتنق الإسلام على يديه مئات من الأوروبيين .. وكذلك الدكتور مراد هوفمان المفكر والسفير الألمانى الشهير الذى إعتنق الإسلام و كتب العديد من المؤلفات القيمة دفاعاً عن الإسلام والمسلمين .
• نرى أيضًا ضرورة إنشاء هيئة عالمية للحوار مع غير المسلمين وفى اعتقادنا أنه لابد أن تتمتع هذه الهيئة بالاستقلال عن جميع الحكومات والتيارات والجماعات السياسية كى نضمن لها الحرية والحياد المناسبين لأداء دورها المهم فى إدارة الحوار مع الآخر والتعريف بالإسلام والحضارة الإسلامية وتحقيق وظيفة التبادل الحضارى مع الآخرين بدون أية مؤثرات سياسية أو إقليمية أو أيديولوجية من أية جهة .. ويمكن أن تكون إحدى العواصم الأوروبية الكبرى مقرًا لهذه الهيئة ، وينبغى أن تضم فى عضويتها عددًا كافيًا من العلماء المؤهلين جيدًا وخبراء فى التحاور مع الشعوب الأخرى بلغات مختلفة ، وتستخدم فى أعمالها كافة وسائل الإعلام والتواصل بكل تقنيات العصر الحديث .(62/131)
• إنشاء عدد من الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية فى كل العواصم الكبرى بالخارج لتدريس العلوم الإسلامية لأبناء الجاليات الإسلامية هناك ، وأيضًا لتعريف الآخرين بالثقافة الإسلامية وتدريس مفاهيم الإسلام الصحيح لهم.. وكذلك دعم أقسام الدراسات الإسلامية واللغة العربية وإنشاء المزيد منها بشتى الجامعات العالمية الكبرى ، بشرط مهم هو تنقية مناهج الدراسة بتلك الأقسام من كل المعلومات الخاطئة المضللة عن الإسلام ، وأن يكون الإشراف عليها لعلماء مسلمين يكون لهم حق إلغاء أية مواد أو معلومات لا تتفق والمفاهيم الإسلامية الصحيحة .
• دعم المنصفين من المفكرين والإعلاميين والساسة الغربيين المناصرين للإسلام والمسلمين ماديًا وأدبيًا من خلال بند (المؤلفة قلوبهم) فى مصارف الزكاة، فنحن نرى أن هؤلاء المنصفين للإسلام وأهله تنطبق عليهم شروط استحقاق الأخذ من الزكاة تحت هذا البند ، لما لهم من دور عظيم وضرورى فى مواجهة الحملات المسعورة ضد الإسلام والمسلمين . ولمن شاء أن يرجع إلى كتب السيرة العطرة ، ليجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً من قريش من غنائم غزوة حنين أموالاً طائلة ليؤلف قلوبهم ، وترك الأنصار ثقة فى قوة إيمانهم وسماحة نفوسهم (سيرة ابن هشام - فقه السيرة للغزالى - الرحيق المختوم للمباركفورى) .
ألا هل بلغت .. اللهم فاشهد ..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
============(62/132)
(62/133)
اعترافات الدكتور محمد عماره .. !
سليمان بن صالح الخراشي
فتن بعض المسلمين خلال سنين مضت بقضية " الحوار مع الأديان الأخرى " أو مع " الغرب " بغية الوصول إلى تعايش سلمي - كما يقال - من خلال نبذ الصراعات والاعتراف المتبادل بين الجميع ، مغترين بالجهود الحثيثة التي يبذلها الآخرون بدعوى الوصول لهذا الهدف ؛ عن طريق إقامة المؤتمرات الحوارية واللقاءات .
وكان هذا البعض ينتقد كل من يحذره من هذه الدعوات واللقاءات المشبوهة المخادعة المخالفة لسنة الله الكونية والشرعية ، التي يستغلها الآخرون لاستدراج المسلمين لباطلهم ، أو دفعهم للتنازل عن شيئ من دينهم ؛ كما قال تعالى ( ودوا لو تُدهن ) . متغافلين عن إخبار الله تعالى بأن الصراع بين الحق والباطل مستمر إلى قيام الساعة ، وعن قوله ( ولا يزالون يقاتلونكم ) ، وقوله ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك . وما أنت بتابع قبلتهم . ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير ) . وقوله ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) .
إلا أن العقلاء منهم اكتشفوا بعد جهد ضائع زيف هذه المؤتمرات ودعوات الحوار ؛ عندما وجدوها لا تختلف كثيرًا عن المؤسسات التنصيرية ! رغم التضليل الخارجي المتخفي خلف الشعارات .
وأسوق هنا اعتراف فارس من فرسان هذه الحوارات واللقاءات ؛ هو الدكتور محمد عمارة ؛ الذي كان في يوم ما مخدوعًا بها ، مؤملا عليها آمالا كثيرة ؛ إلى أن اكتشف في النهاية أن آماله تتبخر مثل السراب بعد كل مؤتمر يحضره أو يشارك فيه .
ولعل في نشر اعترافه - الذي يشهد لشجاعته - عبرة لمن لازالوا يؤملون أن يجنوا من الشوك العنب .
يقول الدكتور في مقدمة كتيبه " مأزق المسيحية والعلمانية في أوربا " ( ص 5-14) : ( مع كل ذلك، فتجربتي مع الحوارات الدينية -وخاصة مع ممثلي النصرانية الغربية- تجربة سلبية، لا تبعث على رجاء آمال تُذكر من وراء هذه الحوارات التي تُقام لها الكثير من اللجان والمؤسسات، وتُعقد لها الكثير من المؤتمرات والندوات واللقاءات ، ويُنفق عليها الكثير من الأموال.
وذلك أن كل هذه الحوارات التي دارت وتدور بين علماء الإسلام ومفكريه وبين ممثلي كنائس النصرانية الغربية، قد افتقدت ولا تزال مفتقدة لأول وأبسط وأهم شرط من شروط أي حوار من الحوارات ؛ وهو شرط الاعتراف المتبادل والقبول المشترك بين أطراف الحوار، فالحوار إنما يدور بين "الذات" وبين "الآخر"؛ ومن ثم بين "الآخر" وبين "الذات"، ففيه إرسال وفيه استقبال، على أمل التفاعل بين الطرفين، فإذا دار الحوار -كما هو حاله الآن- بين طرف يعترف بالآخر، وآخر لا يعترف بمن "يحاوره"، كان حواراً مع "الذات"، وليس مع "الآخر"، ووقف عند "الإرسال" دون "الاستقبال"، ومن ثم يكون شبيهاً -في النتائج- بحوار الطرشان! ..
موقف الآخرين من الإسلام والمسلمين هو موقف الإنكار، وعدم الاعتراف أو القبول، فلا الإسلام في عرفهم دين سماوي، ولا رسوله صادق في رسالته، ولا كتابه وحي من السماء، حتى لتصل المفارقة في عالم الإسلام إلى حيث تعترف الأكثرية المسلمة بالأقليات غير المسلمة، على حين لا تعترف الأقليات بالأغلبية!
فكيف يكون، وكيف يثمر حوار ديني بين طرفين، أحدهما يعترف بالآخر، ويقبل به طرفاً في إطار الدين السماوي، بينما الطرف الآخر يصنفنا كمجرد "واقع"، وليس كدين، بالمعنى السماوي لمصطلح الدين؟!
ذلك هو الشرط الأول والضروري المفقود، وذلك هو السر في عقم كل الحوارات الدينية التي تمت وتتم رغم ما بُذل ويُبذل فيها من جهود، وأنفق ويُنفق عليها من أموال، ورُصد ويُرصد لها من إمكانات!
أما السبب الثاني لعزوفي عن المشاركة في الحوارات الدينية -التي أُدعى إليها- فهو معرفتي بالمقاصد الحقيقية للآخرين من وراء الحوار الديني مع المسلمين، فهم يريدون التعرّف على الإسلام، وهذا حقهم إن لم يكن واجبهم، لكن لا ليتعايشوا معه وفقاً لسنة التعددية في الملل والشرائع، وإنما ليحذفوه ويطووا صفحته بتنصير المسلمين!
وهم لا يريدون الحوار مع المسلمين بحثاً عن القواسم المشتركة حول القضايا الحياتية التي يمكن الاتفاق على حلول إيمانية لمشكلاتها، وإنما ليكرسوا -أو على الأقل يصمتوا- عن المظالم التي يكتوي المسلمون بنارها، والتي صنعتها وتصنعها الدوائر الاستعمارية التي كثيراً ما استخدمت هذا الآخر الديني في فرض هذه المظالم وتكريسها في عالم الإسلام.
فحرمان كثير من الشعوب الإسلامية من حقها الفطري والطبيعي في تقرير المصير واغتصاب الأرض والسيادة في القدس وفلسطين والبوسنة والهرسك وكوسوفا والسنجق وكشمير والفلبين .. إلخ .. إلخ .. كلها أمور مسكوت عنها في مؤتمرات الحوار الديني.
بل إن وثائق مؤتمرات التدبير لتنصير المسلمين التي تتسابق في ميادينها كل الكنائس الغربية، تعترف -هذه الوثائق- بأن الحوار الديني -بالنسبة لهم- لا يعني التخلي عن "الجهود القسرية والواعية والمتعمدة والتكتيكية لجذب الناس من مجتمع ديني ما إلى آخر" بل ربما كان الحوار مرحلة من مراحل التنصير!(62/134)
وإذا كانت النصرانية الغربية تتوزعها كنيستان كبريان، الكاثوليكية، والبروتستانتية الإنجيلية، فإن فاتيكان الكاثوليكية -الذي أقام مؤسسات للحوار مع المسلمين، ودعا إلى كثير من مؤتمرات هذا الحوار- هو الذي رفع شعار: "إفريقيا نصرانية سنة 2000م"، فلما أزف الموعد، ولم يتحقق الوعد، مد أجل هذا الطمع إلى 2025م !!
وهو الذي عقد مع الكيان الصهيوني المغتصب للقدس وفلسطين معاهدة في 30-12-1993م تحدثت عن العلاقة الفريدة بين الكاثوليكية وبين الشعب اليهودي، واعترفت بالأمر الواقع للاغتصاب، وأخذت كنائسها في القدس المحتلة تسجل نفسها وفقاً للقانون الإسرائيلي الذي ضم المدينة إلى إسرائيل سنة 1967م!!
بل لقد ألزمت هذه المعاهدة كل الكنائس الكاثوليكية بما جاء فيها، أي أنها دعت وتدعو كل الملتزمين بسلطة الفاتيكان الدينية -حتى ولو كانوا مواطنين في وطن العروبة وعالم الإسلام- إلى خيانة قضاياهم الوطنية والقومية!
وباسم هذه الكاثوليكية أعلن بابا الفاتيكان أن القدس هي الوطن الروحي لليهودية، وشعار الدولة اليهودية، بل وطلب الغفران من اليهود، وذلك بعد أن ظلت كنيسته قروناً متطاولة تبيع صكوك الغفران !
أما الكنيسة البروتستانتية الإنجيلية الغربية، فإنها هي التي فكرت ودبرت وقررت في وثائق مؤتمر كولورادو سنة 1978م:
"إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تناقض مصادره الأصلية أسس النصرانية، وإن النظام الإسلامي هو أكثر النظم الدينية المتناسقة اجتماعياً وسياسياً، إنه حركة دينية معادية للنصرانية، مخططة تخطيطاً يفوق قدرة البشر، ونحن بحاجة إلى مئات المراكز تؤسس حول العالم بواسطة النصارى، للتركيز على الإسلام ليس فقط لخلق فهم أفضل للإسلام وللتعامل النصراني مع الإسلام، وإنما لتوصيل ذلك الفهم إلى المنصِّرين من أجل اختراق الإسلام في صدق ودهاء"!!
ولقد سلك هذا المخطط -في سبيل تحقيق الاختراق للإسلام، وتنصير المسلمين- كل السبل اللا أخلاقية- التي لا تليق بأهل أي دين من الأديان- فتحدثت مقررات هذا المؤتمر عن العمل على اجتذاب الكنائس الشرقية الوطنية إلى خيانة شعوبها، والضلوع في مخطط اختراق الإسلام والثقافة الإسلامية للشعوب التي هي جزء وطني أصيل فيها، فقالت وثائق هذه المقررات:
"لقد وطّدنا العزم على العمل بالاعتماد المتبادل مع كل النصارى والكنائس الموجودة في العالم الإسلامي، إن النصارى البروتستانت في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا، منهمكون بصورة عميقة ومؤثرة في عملية تنصير المسلمين. ويجب أن تخرج الكنائس القومية من عزلتها، وتقتحم بعزم جديد ثقافات ومجتمعات المسلمين الذي تسعى إلى تنصيرهم، وعلى المواطنين النصارى في البلدان الإسلامية وإرساليات التنصير الأجنبية العمل معاً، بروح تامة من أجل الاعتماد المتبادل والتعاون المشترك لتنصير المسلمين".
فهم يريدون تحويل الأقليات الدينية في بلادنا إلى شركاء في هذا النشاط التنصيري، المعادي لشعوبهم وأمتهم !
كذلك قررت "بروتوكولات" هذا المؤتمر تدريب وتوظيف العمالة المدنية الأجنبية التي تعمل في البلاد الإسلامية لمحاربة الإسلام وتنصير المسلمين، وفي ذلك قالوا:
"إنه على الرغم من وجود منصرين بروتستانت من أمريكا الشمالية في الخارج أكثر من أي وقت مضى، فإن عدد الأمريكيين الفنيين الذين يعيشون فيما وراء البحار يفوق عدد المنصرين بأكثر من 100 إلى 1، وهؤلاء يمكنهم أيضاً أن يعملوا مع المنصرين جنباً إلى جنب لتنصير العالم الإسلامي، وخاصة في البلاد التي تمنع حكوماتها التنصير العلني"!
كذلك دعت قرارات مؤتمر كولورادو إلى التركيز على أبناء المسلمين الذين يدرسون أو يعملون في البلاد الغربية، مستغلين عزلتهم عن المناخ الإسلامي لتحويلهم إلى "مزارع ومشاتل للنصرانية"، وذلك لإعادة غرسهم وغرس النصرانية في بلادهم عندما يعودون إليها، وعن ذلك قالوا:
"يتزايد باطراد عدد المسلمين الذين يسافرون إلى الغرب؛ ولأنهم يفتقرون إلى الدعم التقليدي الذي توفره المجتمعات الإسلامية، ويعيشون نمطاً من الحياة مختلفاً -في ظل الثقافة العلمانية والمادية- فإن عقيدة الغالبية العظمى منهم تتعرض للتأثر.
وإذا كانت "تربة" المسلمين في بلادهم هي بالنسبة للتنصير "أرض صلبة، ووعرة" فإن بالإمكان إيجاد مزارع خصبة بين المسلمين المشتتين خارج بلادهم، حيث يتم الزرع والسقي لعمل فعال عندما يعاد زرعهم ثانية في تربة أوطانهم كمنصرين"!
بل إن بروتوكولات هذا المؤتمر التنصيري لتبلغ قمة اللا أخلاقية عندما تقرر أن صناعة الكوارث في العالم الإسلامي هي السبيل لإفقاد المسلمين توازنهم الذي يسهل عملية تحولهم عن الإسلام إلى النصرانية! فتقول هذه البروتوكولات:(62/135)
"لكي يكون هناك تحول إلى النصرانية، فلابد من وجود أزمات ومشاكل وعوامل تدفع الناس، أفراداً وجماعات، خارج حالة التوازن التي اعتادوها. وقد تأتي هذه الأمور على شكل عوامل طبيعية، كالفقر والمرض والكوارث والحروب، وقد تكون معنوية، كالتفرقة العنصرية، أو الوضع الاجتماعي المتدني. وفي غياب مثل هذه الأوضاع المهيئة، فلن تكون هناك تحولات كبيرة إلى النصرانية .. إن تقديم العون لذوي الحاجة قد أصبح عملاً مهماً في عملية التنصير! وإن إحدى معجزات عصرنا أن احتياجات كثير من المجتمعات الإسلامية قد بدلت موقف حكوماتها التي كانت تناهض العمل التنصيري ؛ فأصبحت أكثر تقبلا للنصارى " !
فهم -رغم مسوح رجال الدين- يسعون إلى صنع الكوارث في بلادنا، ليختل توازن المسلمين، وذلك حتى يبيعوا إسلامهم لقاء مأوى أو كسرة خبز أو جرعة دواء! وفيما حدث ويحدث لضحايا المجاعات والحروب الأهلية والتطهير العرقي -في البلاد الإسلامية- التطبيق العملي لهذا الذي قررته البروتوكولات، فهل يمكن أن يكون هناك حوار حقيقي ومثمر مع هؤلاء؟!
تلك بعض من الأسباب التي جعلتني متحفظاً على دعوات ومؤتمرات وندوات الحوار بين الإسلام والنصرانية الغربية، وهي أسباب دعمتها وأكدتها "تجارب حوارية" مارستها في لقاء تم في "قبرص" أواخر سبعينيات القرن العشرين، ووجدت يومها أن الكنيسة الأمريكية -التي ترعى هذا الحوار وتنفق عليه- قد اتخذت من إحدى القلاع التي بناها الصليبيون إبان حروبهم ضد المسلمين، "قاعدة" ومقراً لإدارة هذا الحوار ؟!
ومؤتمر آخر للحوار حضرته في عمّان -بإطار المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية- مع الكنيسة الكاثوليكية في الثمانينيات وفيه حاولنا -عبثاً- انتزاع كلمة منهم تناصر قضايانا العادلة في القدس وفلسطين، فذهبت جهودنا أدراج الرياح! على حين كانوا يدعوننا إلى "علمنة" العالم الإسلامي لطي صفحة الإسلام كمنهاج للحياة الدنيا، تمهيداً لطي صفحته -بالتنصير- كمنهاج للحياة الآخرة !
ومنذ ذلك التاريخ عزمت على الإعراض عن حضور "مسارح" هذا "الحوار"! . انتهى كلام الدكتور عمارة .
قلتُ : ويحسن بالقارئ لمعرفة المزيد عن زيف مؤتمرات حوارات الأديان أن يطلع على رسالة قيمة مطبوعة في أربعة مجلدات للدكتور أحمد القاضي بعنوان " دعوة التقريب بين الأديان " . وكذا رسالة " تسامح الغرب مع المسلمين في العصر الحاضر - دراسة نقدية في ضوء الإسلام " . أما عن المؤتمر الشهير الوحيد ! الذي شارك فيه بعض العلماء بحسن نية فقد ذكر تفاصيله الأستاذ مطيع النونو في كتابه الجديد " حوار الحضارات بين المملكة العربية السعودية والفاتيكان - في إطار الحوار الإسلامي المسيحي " .
===========(62/136)
(62/137)
وماذا عن حوار الحضارات؟!
من المعروف بداهة أنه لابد حتماً لكل حوار مهما كان نوعه من تكافؤ، وندادة بين المتحاورين، ولو بنسب متقاربة، وأن يكون «الإصلاح» حقاً هو الهدف الصادق المخلص لموضوع الحوار بحيث ينتهي هذا «الإصلاح» إلى توادّ، وتراحم، وتسامح، ومحبة في التعامل بين مختلف الشعوب العالمية ذات الحضارات التي تصل إلى حد التناقض.. بل إلى حد «العداء» الصريح الصارخ على مدى زمني موغل في عمق التاريخ!! وقد كان لابد من ذلك حتماً بسبب الخلافات الشديدة بين ثقافات عديدة متضاربة، وبين مصالح، ومطامح متضاربة متناقضة، يسودها الجشع، والطمع، وتكتنفها الكثير من الجهالات عبر المسار الزمني المديد!!
ومن ثم لم نكن نسمع بما يسمى بالدعوة إلى الحوار بين الحضارات، أو بين الأديان في العالم إلا عندما وصلنا إلى زمن يفترض أن قد ارتقت، أو تسامت، وازدهرت فيه العلوم، والمعارف، ونضجت نوازع التعامل الإنساني التي هي غاية الأديان، والحضارات في كل زمان، ومكان. ولكن لاشك أننا قد أخطأنا كثيراً جداً عندما اعتبرنا زمننا هذا هو الزمن الصالح المناخ، أو الجيد التربة لبدء الشروع في التداعي العالمي إلى الحوار بين الأديان، والحضارات بغية تقارب إنساني عالمي صادق مخلص. نعم لاشك أننا قد أخطأنا في مسألة التوقيت هذه حيث مازالت «الهمجيات» و«الجهالات» و«التوحشات» والأطماع بما في أيدي الغير.. مازال كل ذلك سائداً متوغلاً، متغلغلاً!! ومن ثم لا يمكن لزمن تسود فيه كل هذه «البشاعات» أن يكون -بأي حال -زمناً صالحاً لحوارات إنسانية متسامية.فأقلّوا علينا من كثرة هذا الحديث.. مادام لازال بيننا صاحب أرفع منصب دين عالمي «بابا الفاتيكان» لا يخجل، ولا يستحي من أن يمارس علناً على رؤوس الأشهاد إهانة، وتحقير، وشتم خاتم الأديان، وخاتم الأنبياء، وهو يعلم تماماً كون ذلك حقيقة صارخة لا يدانيها أي شك!!
============(62/138)
(62/139)
حوار الحضارات.. ثلاث رؤى غربية
أ. سمير مرقص**
…
16/06/2004
علينا في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، خاصة مع التوحش الأمريكي، ونزوع الولايات المتحدة إلى السلوك الإمبراطوري فيما يتعلق بالعالم.. أن نمد جسور الحوار مع القوى المدنية والشعبية والقاعدية في الغرب التي تتبنى رؤية في الواقع تتفق مع مصالحنا الحقيقية والواقعية، والتي تمس أوضاع الناس بشكل مباشر، وعدم الوقوع في فخ تحويل النظر عن هذا الأمر تحت مظلة الصدام الحضاري أو الديني...
المراجع العربية:
(1) محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997.
(2) الفضل الشلق، حوار الحضارات في عالم الصراع، مجلة الاجتهاد، العدد 52 و53، السنة 13، خريف وشتاء 2001 - 2002.
(3) إدوارد سعيد، تغطية الإسلام، ترجمة سميرة نعيم خوري، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1983.
(4) فريد هاليداي، الإسلام والغرب: خرافة المواجهة (الدين والسياسة في الشرق الأوسط)، ترجمة عبد الإله النعيمي، دار الساقي، بيروت، 1997.
(5) سمير مرقس، تعليق "استغرابي" على نص "استشراقي"، تعليق على ترجمة قمنا بها لنص لبرنارد لويس بعنوان الغرب والشرق الأوسط: سجال وتباين، دار ميريت، 1999. ويشار إلى أن مقال برنارد لويس يمكن اعتباره أساسا نظريا موجزا لكتابه الذي صدر بعد 11/9 "ما الخطأ"؟ أو What Went W r ong?
(6) سمير أمين، نحو نظرية للثقافة، نقد التمركز الأوربي والتمركز الأوربي المعكوس، سلسلة دراسات الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، 1989.
(7) عزيز العظمة، إفصاح الاستشراق، المستقبل العربي، عدد 32، أكتوبر 1981.
(8) جراهام إي. فوللر وإيان أو. ليسر، الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة، ترجمة شوقي جلال، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1997.
(9) نادية رفعت، من "انتفاضة سياتل" إلى "انتفاضة واشنطن" تنامي الحركة المناهضة للعولمة الاقتصادية، الجمهورية، إبريل 2000.
(10) فيفيان فؤاد ونادية رفعت وسمير مرقس، المنظمات الأهلية والدولية في مصر: من السكون إلى الحركة.. دراسة للصراع حول قانون الجمعيات الأهلية، مقدمة إلى مؤتمر المنظمات غير الحكومية والمحكومية في العالم العربي، القاهرة، مارس 2000.
(11) السيد يسين، نص خطاب المعارضة الأمريكي، الأهرام 9-5-2002.
المراجع الأجنبية:
1) Anwa r Abd El-Malek, O r ientalism in C r isis, Diogenes, no. 44, 1963
2) Law r ence E. Ha r صلى الله عليه وسلم ison & Samuel P. Huntington, Cultu r e Matte r s: How Values Shape Human P r og r ess, Basic Books, 2000
** مستشار المركز القبطي للدراسات الاجتماعية ومركز الفسطاط للدراسات.
عضو الهيئة الاستشارية لبرنامج حوار الحضارات بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
الحضارات.. أم الناس صانعة الحضارات؟
أ. سمير مرقص**
…
16/06/2004
أدى ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر إلى بروز حركتين متضادتين فيما يتعلق بالعلاقة بين الحضارات/ الثقافات والأديان؛ فمن جهة نجد حركة نشطة ودؤوبة للقاءات تعقد في الجهات الأربع للنقاش حول حوار الحضارات بأبعاده وتفاصيله. ومن جهة أخرى نجد آلة حربية -أمريكية بالأساس- مستنفرة تحت غطاء فكري وأيديولوجي يصب في اتجاه صدام الحضارات. المفارقة أن الغرب مصدر "هاتين الحركتين"؛ الأمر الذي ربما يوحي بمدى التنوع الذي يسمح بوجود النقيضين: "المبادرة بالحوار" و"المسارعة إلى الصدام"؛ وهو ما يمكن أن يكون صحيحًا نسبيًّا في الإطار الداخلي الغربي. إلا أنه -ولا شك- يكون محل تساؤلات لدى الآخرين غير الغربيين. فكيف يتفق كل من "الحوار" و"الصدام" في نفس الوقت، وهل العلاقة بين الحضارات/ الثقافات والأديان لا بد أن تكون إما صراعية أو حضارية؟ وهل يكون الصراع أو الحوار بين الحضارات/ الثقافات والأديان أم بين المنتمين إليها؟
إن المقاربات الموضوعية التي تناولت علاقة الحضارات ببعضها تشير إلى أن الحضارات لا تتصارع أو تتحاور، بل الناس هم الذين يتصارعون ويتحاورون لأسباب تتعلق بالمصالح في المقام الأول. وأن مواقفهم لا تنبع من معطياتهم الحضارية والثقافية بقدر ما تنبع من مواقعهم في البناء الاجتماعي القومي أو العابر للقوميات بفعل العولمة.(62/140)
وعليه فنحن ننطلق من أرضية تؤمن بأن الحضارات ليست "كتلا" تعمل كل منها وكأنها آلية منتظمة في ذاتها، صماء في طبيعتها، بل يوجد التنوع والتناقض في داخل كل حضارة، وهو ما أتاح وجود ما يسمى برؤى متعددة للعلاقة بين الحضارات، لا نقول الحوار أو الصدام؛ حيث إن كلا منهما ما هو إلا تجسيد لإحدى هذه الرؤى بحسب المصلحة والسياق التاريخي. بلغة أخرى: إن ما سمح بوجود التنوع في الغرب هو أن الغرب توجد فيه رؤى متعددة حول العلاقة بين الحضارات، يحدد هذه الرؤى مصالح ومواقع البشر في البناء الاجتماعي؛ مما يتيح أن نجد جماعات بحكم المصالح/المواقع تتبنى الحوار، وأخرى تسعى إلى الصدام وهكذا..
ربما تسود رؤية لواحدة من هذه الجماعات في لحظة تاريخية محددة، وهنا لا بد من قراءة موازين القوى التي ترجح قوة على أخرى في لحظة زمنية بعينها. وعليه فإن العلاقة بين الحضارات -حوارًا كانت أم صدامًا- ليست قرارًا سابق التجهيز وإنما هي -بحسب الجابري- "عملية تاريخية"؛ حيث إنه من القرن السادس عشر يميل الميزان الحضاري إلى جهة الغرب (أو ما اصطلح على تسميته بالمركزية الغربية)، ومن ثَم استطاع أن يفرض الصدام تارة، أو يدعو للحوار تارة أخرى أو أن نجد الأمرين معًا، كذلك يميل الميزان في داخل الغرب ذاته إلى أنصار الصدام أكثر من الحوار.
=============(62/141)
(62/142)
ثلاث رؤى غربية
أ. سمير مرقص**
…
16/06/2004
مما سبق وقبل البدء في التعرف على الرؤى المعاصرة الغربية السياسية للعلاقة بين الحضارات لا بد من التأكيد على أن الغرب ينطلق من أرضية فكرية تقول: إنه أنجز ماديا وروحيا، وإن حضارته هي الحضارة التي يجب أن يقتدى بها. وبفضل هذا الإنجاز فإنه لديه الحق كل الحق في تحديد طبيعة العلاقة وفق ما تمليه عليه مصالحه. "فالتقدم المادي لا يحدث دون تعبئة روحية وتجديد في القيم؛ بمعنى اكتساب قيم جديدة حول العمل والإنجاز والحقوق والواجبات".
فالقيم -أخلاقية كانت أو دينية- جزء من سيرورة المجتمع، وهي أيضا تتجدد بتجدد المجتمع؛ فالرق الذي كان مقبولا لم يعد كذلك، أما الديمقراطية والحق المطلق بالملكية الخاصة والانتخابات وحقوق الإنسان والمواطنة فهي مبادئ جديدة عرفت في الغرب الأوربي أولاً ثم الأمريكي. إن تقدم الغرب ليس مجرد إضافات لإنجازات مادية على منظومة قيم ثابتة؛ بل جاء نتاجا لتجدد مادي وروحي، ربما يكون قد تم بسبب التوسع الخارجي ونزح الثروات، إلا أن ذلك أمر آخر؛ حيث تحقق الإصلاح الديني في الداخل الغربي: الأوربي ثم الأمريكي، وتم إنجاز التقدم العلمي، ومورست مبادئ الديمقراطية وولد الفرد المواطن.
وبالرغم من أن هذه الرؤية تحمل قدرًا من الإدراك بالذات الحضارية في علاقتها بالحضارات الأخرى -وهو الإدراك الذي حكم العلاقة بين الغرب والآخرين على مدى زمني طويل، فسادت هذه الرؤية على حساب رؤى أخرى- فإن الواقع الغربي لم يمنع في إطار سياقه الداخلي أن تعبر الرؤى الأخرى عن نفسها. صحيح أن المصلحة السياسية قد حددت إلى حد كبير أن تسود الرؤية ذات الطبيعة المهيمنة بسبب التوجهات التوسعية التي حكمت السياسات الغربية على مدى قرنين من الزمان.
وفي محاولة للاقتراب من هذه الرؤى والتعرف عليها وتسمية الأمور بمسمياتها يمكننا رصد ثلاث رؤى غربية فيما يتعلق بالعلاقة بين الحضارات وبخاصة في بعدها السياسي، وذلك كما يلي:
1. الرؤية الاستشراقية/المناطقية (القديمة/الجديدة).
2. الرؤية الاستشراقية المعدلة.
3. الرؤية المدنية/الشعبية/القاعدية.
بيد أنه -قبل استعراض الرؤى الثلاث- لا بد أن نشير إلى أن أحداث 11/9 قد أظهرت أن العنوان الرئيسي لها هو "الغرب والإسلام"، وهو ما تجلى في ردة فعل الإدارة الأمريكية -تصريحا وتلميحا- وربما أوربا، حول العلاقة بين الحضارتين، ومن ثم فإن رصدنا للرؤى الثلاث ينطلق من هذا الأمر؛ أخذًا في الاعتبار أننا نميل إلى عدم اختزال الأمر في العلاقة ذات الطبيعة الدينية أو الثقافية -صداما كانت أو حوارا- وإنما إلى إدراك الأسباب الحقيقية وراء الإصرار على جعل العلاقة ذات طبيعة دينية وثقافية والخلط بين مفاهيم الثقافة والحضارة والدين من دون تمييز، والأمر لدينا يبدو وكأنه مقصود "لتغطية المصالح" الحقيقية.
============(62/143)
(62/144)
الرؤية الاستشراقية القديمة
أ. سمير مرقص**
…
16/06/2004
يمكن القول بأن هذه الرؤية تتأسس على أن هناك صراعا تاريخيا بين عالم الغرب وعالم الإسلام، الضارب بجذوره إلى أكثر من ألف سنة، بحسب فريد هاليداي، بدءًا من فتح أسبانيا في القرن السابع مرورًا بالحروب الصليبية (والمعروفة بالفرنجة) ثم النزاعات العثمانية الأوربية والصراعات العرقية في عالم ما بعد الحرب الباردة في القارة الأوربية. ويضاف إلى ما سبق -بحسب إدوارد سعيد- أن "مصطلح" الإسلام "يبدو كأنما يدل على شأن واحد بسيط، ولكنه في الحقيقة وهم في بعضه أو تعميم أيديولوجي في بعضه، وهو تحديد بسيط جدا للإسلام في بعضه الآخر وذلك كما هو مستخدم اليوم في الغرب". ويضيف عبارة مهمة منصفة أنه "لا تقوم أي مقابلة مباشرة على أي درجة من الأهمية الحقة بين الإسلام بسكانه وحدوده الشاسعة وبالعشرات من مجتمعاته ودوله وتواريخه وجغرافيته وثقافاته".
ويعد هذا التحديد المنهجي الذي يطرحه إدوارد سعيد هو جوهر النظرة الاستشراقية التي ربما تخفت لفترات زمنية ولكنها بالقطع تستدعي في لحظات التوسع الغربي الاقتصادي في الجوهر، أو بحسب أنور عبد الملك في حديث وجهه إلى المستشرقين قائلا: "... إن بداية استشراقكم تزامنت مع بداية فتوحاتكم". وتقوم الفكرة الاستشراقية (السياسة) أو المناطقية بالتعبير الحديث A r ea Studies على قاعدتين هما:
أ) "التباين المطلق" بين الشرق والغرب.
ب) "السجالية التاريخية" بين الشرق والغرب.
* فبالنسبة للقاعدة الأولى نجدها تنطلق من مقولة كبلنج الشاعر "الغرب غرب والشرق شرق ولن يتقابلا أبدا". فدعاة الفكر الغربي يقدمونه باعتباره موحدًا وله خصوصية ثابتة منذ البدء، حيث ضمنت احتمال التقدم وهو احتمال غائب عن الشعوب الأخرى فلا مستقبل لهذه الشعوب إلا إذا تخلوا بالجملة عن هويتهم وخضعوا لتغريب شامل، كما يدعي هؤلاء أيضا أن تفوق الغرب قد تواجد ضمنيا منذ الأصل؛ وهو ما يضفي طابعا عنصريا على هذا الفكر.
* أما بالنسبة للقاعدة الثانية "السجالية التاريخية"، فإنه في إطار تكريس الإطار المعرفي لعلاقة الغرب بالشرق أعطى الغرب لنفسه الحق أن يكون باحثا، والشرق هو موضوع هذا البحث. وتتحول نتائج هذا البحث لتكون سجالا بينهما، والسجال هنا -بحسب عزيز- العظمة، "ليس خطابا حول النواقص، بل هو خطاب جوهري يواجه عدمه؛ أي نواقصه المطلقة...".
إن هاتين القاعدتين تصبان في اتجاه التقسيم الكوني والتمييز البشري مثلما أوضحهما أبلغ التوضيح برنارد لويس: ثقافات في صراع Cultu r es In Conflicts؛ وبالإضافة إلى هذه الدراسة دراسة هنتينجتون الشهيرة صدام الحضارات حيث التأسيس لفكرة الغرب والآخرين The West And The r est.
لقد كانت مهمة هنتينجتون ومعه مدرسة كاملة من النخبة الأمريكية هي التأكيد على مضمون المدرسة الاستشراقية القديمة بخطاب ومفردات تتناسب والمصالح الغربية الحالية خاصة الأمريكية بعد الحرب الباردة، والتي نجد تعبيرًا لها في المرجع المهم الذي صدر عن مركز دراسات المناطق بهارفارد والذي صدر عام 2000: أمور ثقافية Cultu r es Matte r s؛ حيث العوامل الثقافية وحدها دون غيرها هي المسئولة عن تشكيل التنمية الاقتصادية والسياسية، والتأكيد على ثنائية "نحن" و"هم"، بل وإحالة أسباب تخلف الشرق إلى العوامل الجغرافية والمناخية أي استعارة المفاهيم القديمة وإعادة توظيفها مجددا. والكتاب من تحرير لورانس هاريسون وصاموئيل هنتينجتون. وعليه لا نجد فرقا كبيرا بين ما كان يطرح في القديم وما يطرح الآن في إطار هذه الرؤية.
ونجد هذا الخطاب جليا في وثيقة الستين التي دعت إلى الحرب العادلة عقب 11 سبتمبر؛ حيث ضمت اليمين السياسي واليمين الديني في آن واحد، كذلك مضمون الخطاب السياسي الأمريكي الذي أعلن بكل وضوح على لسان رئيسه في الاجتماع المشترك لمجلس الكونجرس "أنها حرب حضارات".
===============(62/145)
(62/146)
الرؤية الاستشراقية المعدلة
أ. سمير مرقص**
…
16/06/2004
وهي مدرسة تدعو للحوار بين الثقافات والحضارات والأديان انطلاقًا من أن الصدام الحضاري ليس صدامًا حول "المسيح" أو "كونفوشيوس" أو "محمد" صلى الله عليه وسلم بقدر ما هو صراع سببه التوزيع غير العادل للقوة والثروة والنفوذ، والازدراء التاريخي الذي تنظر به الدولة والشعوب الكبرى إلى الصغرى. وفي نفس الوقت يعيد أبناء هذه الرؤية النظر إلى الثقافة باعتبارها وسيلة للتعبير عن المنازعات وليست سببا فيها. بيد أنه بالرغم من محاولة التمايز عن الرؤية الاستشراقية ببعديها القديم والجديد فإن هاجس وجود عدو وضرورة تحديد هويته يبقى أمرًا مشتركًا بين الرؤيتين. فالإيجابي الذي يعكس سمة الاختلاف -بعض الشيء- مقارنة بالرؤية الأولى هو أن هذه الرؤية لا تقوم بشكل مسبق بتسمية العدو، وإنما تضع مبادئ مرجعية للقياس عليها، وتخلص إلى أن من يقف ضد هذه المبادئ سيصبح عدوًا بالضرورة، وهذه المبادئ يمكن إيجازها فيما يلي:
أ. الرأسمالية والسوق الحرة.
ب. حقوق الإنسان والديمقراطية الليبرالية العلمانية.
ج. الدولة/الأمة كإطار للعلاقات الدولية.
لا يتردد أصحاب هذا الاتجاه من توجيه بعض الانتقادات للنظام الغربي كما يقبلون بعض الانتقادات التي يوجهها "الآخرون" من العالم الثالث/الشرقي للممارسات الغربية؛ وهو ما يعني وجود مساحة حوارية بين الغرب والآخرين، ولا يمانع أيضًا أنصار هذه الرؤية من الأخذ بمفردات ومفاهيم بعض الاتجاهات النظرية لمدرسة التبعية من نوعية: المركز الأطراف، كذلك قبول بعض المصطلحات الدالة على أوضاع اجتماعية واقتصادية صكها المجتمع الدولي مثل: الشمال والجنوب، الأغنياء والفقراء، بل والاطلاع على نتائج المنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع الدولي في العالم فيما يتعلق بقضايا البيئة والموارد والفقر والتنمية والمرأة... إلخ.
ويكرس أنصار الرؤية الاستشراقية المعدلة وقتًا غير قليل لمحاولة فهم الواقع المجتمعي للعالم الثالث بوجه عام وللبلدان الإسلامية بوجه خاص، ويحاولون التعرف على الأسباب التي أدت إلى عدم استقرار بعض هذه البلدان ومدى تأثير ذلك على النظام العالمي.
وتتفهم الرؤية الاستشراقية المعدلة كثيرًا مشاعر العالم الإسلامي في أنه يعيش تحت حصار فرضه عليه الغرب في عديد من المجالات الحيوية السياسية والعسكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ويمتد هذا التفهم إلى إدراك الأسباب التاريخية التي أدت إلى ذلك، وإلى إشكاليات عملية التحديث التي فرضها الغرب وما اقترن بها من توترات اجتماعية واقتصادية.
إلا أن أنصار الرؤية "المعدلة" يقاومون بكل قوة الاستقلال التام عن الغرب بل ومنع ذلك وضرورة اتباع النموذج الغربي الذي أثبت نجاحه، وعليه تطرح هذه الرؤية مهام، على الغرب أن يؤديها، وذلك كما يلي:
أ. مراجعة القيم والمفاهيم الغربية لتواكب المتغيرات.
ب. ترك العالم الثالث يسلك طريقه نحو التحديث، كل حسب الطريقة التي يختارها، والتفاعل بصورة إيجابية مع الدول التي تحقق تقدما اقتصاديا في الإطار الغربي.
ج. مساعدة الدول التي لا تستطيع تحقيق التقدم بحسب النموذج الغربي حتى لا تقوم مواجهة بين الغرب والآخرين.
إن أنصار هذه الرؤية يتيحون قدرًا من الحركة والحرية للآخرين، ولكنهم يؤكدون على مرجعية النموذج الغربي في النهاية؛ لذا فهم في النهاية ما هم إلا طبعة معدلة من الرؤية الاستشراقية في صورتها القديمة الجديدة.
============(62/147)
(62/148)
الرؤية المدنية الشعبية القاعدية
أ. سمير مرقص**
…
16/06/2004
هناك في داخل المنظومة الغربية من هم متحررون من التراث الكولونيالي بالمعنى الدقيق للكلمة، ويتجاوزون فكرة الحضارة/الكتلة التي تعني تماثل العناصر المكونة لها في مواجهة حضارة/كتلة أخرى. وعليه نجد أن أكثر من تشددوا في مواجهة العولمة هم أعضاء النقابات الغربية، والمدافعون عن البيئة، والناشطون في المجتمع المدني الغربي، والذين يحاولون بناء موقف مستقل عن أنظمة الحكم في الغرب وبخاصة الأمريكية.
فمن المعروف تاريخيا أن الإدارة الأمريكية تتولى بالنيابة عن الأمريكيين إدارة شئون السياسة الخارجية بشكل مطلق والتي ازدادت في الآونة الأخيرة بوصول بوش الابن إلى مقعد الرئاسة الأمريكية؛ حيث الإدارة ذات طابع يميني متشدد: سياسي وديني، وقد ازداد تشدد الإدارة بطبيعة الحال بعد 11/9. بيد أن أصحاب الرؤية المدنية القاعدية يحاولون التمرد على الرؤى والسياسات التي تؤدي إلى الصدام من واقع الهيمنة الغربية، وانحازوا للتصدي لسياسات الظلم الاجتماعي والاقتصادي داخليا في إطار المنظومة الغربية، ومدوا تضامنهم مع فقراء العالم والمتضررين بغض النظر عن انتماءاتهم، كما يؤكدون على أن التنوع من أهم الخصائص البشرية في وجه رؤى عنصرية تمثل تهديدا حقيقيا للتنوع ولكل ما يميز عرقا عن آخر، أو أيديولوجيا عن أخرى، أو دينا عن آخر. إن أنصار هذه الرؤية أمكنهم من خلال وسائل الاتصال الحديثة تعبئة التحالفات في شتى بقاع الأرض في مواجهة عنت الرؤى الحاكمة في الغرب والساعية للصدام من دون تمييز.
يمكن القول بأن هذه الرؤية تناقض ما سبق من حيث المضمون الفكري من جانب، وكذلك التحرك العملي من جانب آخر، إنها حركة قاعدية مدنية ترفض استئثار الغرب بالعالم، كما ترفض الصراع على القاعدة الحضارية: غرب - شرق، غرب - إسلام، وتعود إلى أصل هذا الصراع -في تصورها- وأنه صراع ضد العولمة بغض النظر عن أن من يطلقها هو الغرب؛ لأن هناك من يستجيب لها من الآخرين، وبالتالي لا بد من تعبئة كل المتضررين سواء في الغرب أو في الشرق، في الشمال الغني أو الجنوب الفقير، في الحضارة الغربية أو في الحضارة الإسلامية.
إنها في واقع الأمر حركة "العولمة من أسفل" التي تحاول تسليط الأضواء على التأثيرات السلبية لسياسات العولمة الاقتصادية والضغط من أجل زيادة معدلات الفقر والتهميش والتلوث البيئي وانتهاك حقوق الإنسان المترتبة عن سياسات المؤسسات المالية الدولية سواء في الشمال أو في الجنوب، والدعوة إلى بناء نظام اقتصادي عالمي بديل قائم على العدل وليس السوق الحرة والرأسمالية الشرسة، وبتعبير آخر عدم التعمية على ما سبق بمقولة صدام الحضارات.
في ضوء ذلك تشكلت العديد من المنظمات والجماعات غير الحكومية التي تمثل هذا الاتجاه، وتضم في صفوفها منظمات متنوعة ومتباينة الاتجاهات؛ فمنها الخيرية والدينية والإصلاحية والتقدمية والراديكالية والشبابية والنسائية والنقابات العمالية والجماعات الفلاحية والحركات الاجتماعية وغيرها من المنظمات الشعبية. وتسعى هذه المنظمات إلى تبني مسار للتنمية بديل للمسار الحالي للعولمة، وبناء هياكل اجتماعية واقتصادية وسياسية بديلة قائمة على التعاون والديمقراطية والمشاركة السياسية والعدل الاجتماعي والتنوع الثقافي وحماية البيئة.
وقد استفادت هذه الحركة من شبكة الإنترنت في سرعة الاتصال وتبادل المعلومات والتنسيق والتعبئة والحركة. كما اعتمدت على آلية عمل ديمقراطية غير مركزية (حيث كسرت احتكار المركزية الحضارية الغربية) تتناسب مع عدم تجانس المنظمات والجماعات المشاركة في هذه الحركة؛ وهو ما أتاح الاستقلالية في اختيار شكل ومساهمة وتحرك كل منها اعتمادا على إبداع وخبرة المشاركين ومبادرتهم.
وعليه تتجاوز هذه الرؤية ما تحاول أن تكرسه الرؤيتان السابقتان، ولعل ما حدث في سياتل ودربان وكذلك بيان المثقفين الليبراليين والتقدميين المائة والأربعين في مواجهة بيان الستين عقب 11/9 يكشف عن هذه الرؤية. وفيما يخص بيان المائة والأربعين نجد أنه بحق -بحسب السيد يسين- خطاب معارضة أمريكي يؤكد أن هناك إمكانية التمايز عن الرؤيتين الاستشراقيتين (القديمة/الجديدة والمعدلة). إن هذه الرؤية تتيح أن تتحالف كل فئة في حضارة ما مع المقابل لها في الحضارة الأخرى، وهو ما ينطبق على الحوار القائم بين المجتمع المدني العابر للقوميات؛ وهو ما يمكن أن ينطبق عليه تعبير حوار الحضارات، خاصة أن الرؤيتين السابقتين يمكن اعتبارهما نخبويتين تعبران عن مصالح من يحكم، بينما هذه الرؤية قاعدية مدنية وشعبية.
=============(62/149)
(62/150)
نحو حوار حضاري بين القوى المدنية
أ. سمير مرقص**
…
16/06/2004
وبعد.. حاولنا في عجالة أن نرصد الرؤى الغربية فيما يتعلق بالأبعاد السياسية لحوار الحضارات من جانب، وتفنيد مقولة "الحوار - الصدام" بين الحضارات من جانب آخر؛ فالحوار بين الحضارات تصبح الدعوة إليه في ظل دعاوى الصدام أمرًا ملتبسًا. إن الحوار المطلوب هو الحوار الممتد بين أصحاب المصالح المشتركة وعدم الخضوع لفكرة الحضارة/الكتلة التي تتماثل عناصرها، ومن ثم مصادرة إمكانية الحوار بين العناصر المتماثلة في كل حضارة. ولا شك أن المهمة الضرورية هي في النضال ضد ما من شأنه فرض رؤى مطلقة على طبيعة العلاقة بين الحضارات بشكل يجعل من الحوار وسيلة لتحقيق التبعية. فالديمقراطية وحقوق الإنسان التي نتجت في الغرب من خلال مسيرة حية على أرض الواقع دفع البشر ثمنها حروبا وصراعات، لا يمكن أن تفرض بشكل فوقي في أماكن أخرى بشكل ميكانيكي وبمنطق "الاستزراع" أو من خلال الحوار الذي يصبح وسيلة للهيمنة والدفع القسري لا أداة للتفاعل الحضاري الحقيقي الحر.
إن الديمقراطية وحقوق الإنسان لا يمكن فرضهما بالمنطق "الاستشراقي القديم/الجديد" أو "المعدل" مجددًا؛ حيث إنه تاريخيا تم إجهاض كل منهما بالتوسع الذي تم منذ القرن السادس عشر بحسب بيتر جران وإيمانويل والرشتاين وآخرين. إن انتصار النموذج الغربي في طبيعته الأمريكية في الحرب الباردة ساعد على تدعيم فكرة "لماذا لا يأخذ الآخرون بهذا النموذج وإن كان قسرًا؟"، وفي مرحلة لاحقة طرحت الإدارة الأمريكية شعار "إما أن يكون العالم معنا أو ضدنا"؛ وهو ما أوجد التناقض بين حرية الأخذ بالديمقراطية وتطبيق حقوق المواطنة والإنسان باعتبار ما سبق ثمرة نضال ذاتي وبين فرضها بالقوة الجبرية من أعلى.
في هذا السياق تأتي أهمية الرؤية المدنية القاعدية؛ حيث إمكانية أن تأخذ كل تجربة سياسية مداها في ضوء واقعها، كذلك إمكانية قبول وجود مركزيات أخرى غير غربية، وعليه يستقيم الحوار. علينا في هذه اللحظة التاريخية الفارقة خاصة مع التوحش الأمريكي ونزوع الولايات المتحدة إلى السلوك الإمبراطوري فيما يتعلق بالعالم أن نمد جسور الحوار مع القوى المدنية والشعبية والقاعدية في الغرب والتي تتبنى رؤية في الواقع تتفق مع مصالحنا الحقيقية والواقعية والتي تمس أوضاع الناس بشكل مباشر وعدم الوقوع في فخ تحويل النظر عن هذا الأمر تحت مظلة الصدام الحضاري أو الديني. فالصراع أو الحوار لا بد أن يكون حول قضايا الناس ومصالحهم.
==============(62/151)
(62/152)
الاقتصاد.. ديناميت صراع الحضارات
2001/09/13
…
حسين النديم
ضربات الاقتصاد.. هل تفجر صراع حضارات
بعد دقائق من ورود خبر الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي يوم الثلاثاء الماضي 11-9-2001، هبطت معظم بورصات الدول الصناعية بشكل حاد جدًا لم يحدث مثيله إلا في عام 1987، وانخفضت قيمة الدولار الأمريكي أمام جميع العملات الرئيسية، وارتفع سعر النفط، وكذلك الذهب باعتباره ملاذًا آمنًا للمدخرات والاستثمارات.
في مساء يوم الثلاثاء وصباح الأربعاء 11/ 12 -9-2001 وعدت البنوك المركزية لدول مجموعة الدول السبع الصناعية خاصة الولايات المتحدة نفسها واليابان، بإمداد أسواق المال بالسيولة اللازمة؛ لمنع حدوث حالة هلع بين المستثمرين والمودعين، وهذا الأمر ليس مستغربًا في ضوء الصور المفجعة لتلك العملية غير المسبوقة في تاريخ عمليات الإرهاب الدولي وحالة الطوارئ التي تلتها.
لكن الحقيقة التي غطّى عليها الهجوم والتي سيؤثر فيها مباشرة هي أن النظام المالي العالمي كان في طريقه إلى ركود شامل خلال هذه الأسابيع، وذلك وفقا لتوقعات عالم الاقتصاد الأمريكي "ليندون لاروش" نتيجة سياسات عدة سنين من ضخ الأموال في أسواق المضاربات المالية وإهمال الاستثمارات في البنية التحتية والصناعات الثقيلة والزراعة والخدمات العامة في معظم دول العالم الصناعية.
وكذلك بروز تحالف اقتصادي تجاري آسيوي - روسي - إسلامي على "طريق الحرير الجديد"، وهو مشروع طموح لربط البنى التحتية للنقل والطاقة بين دول القارة الأورآسيوية ليتخطى ما يروج له مبتكرو ما سُمي "صراع الحضارات"، وبناء حوار حضارات مبني على تعاون اقتصادي تنموي أكثر عدالة من النظام الاقتصادي والسياسي الحالي الذي وصل إلى نهايته المنطقية.
إشارات من روسيا والشرق
بعد ساعات من وصول رئيس الوزراء الإسرائيلي "إريل شارون" إلى موسكو بداية شهر سبتمبر الحالي، أعلن نائب وزير الطاقة النووية الروسي عن التزام بلاده بإكمال مشروع المفاعل النووي الإيراني في بوشهر، بل وأعلن أيضًا عن استعداد روسيا لعرض بناء مفاعل جديد على إيران.
كانت تلك إشارة واضحة إلى شارون من القيادة الروسية حول ضرورة عدم التطرق إلى علاقة روسيا الإستراتيجية بإيران والعراق؛ لأن إعادة النظر في هذه القضية أصبحت أمرا غير وارد، وعندما أصر شارون على محاولته الضغط على القيادة الروسية لإعادة النظر في علاقتها بإيران، سمع الكلام نفسه من فم الرئيس "فلاديمير بوتين". وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن السياسة الرسمية الروسية اليوم هي تقوية علاقاتها بالبلدان الأورآسيوية المستعدة للعمل على بناء علاقات اقتصادية متينة وبعيدة الأمد، والتخلي عن نظام مساعدات صندوق النقد الدولي والدول الغربية التي نهبت روسيا بـ"إصلاحاتها".
قبل شهرين من ذلك وقّعت روسيا والصين معاهدة الصداقة الإستراتيجية القاضية بتقوية التعاون السياسي والاقتصادي بين الدولتين في مجالات النقل والطاقة والتجارة والتبادل التكنولوجي والتسليحي خلال العشرين سنة القادمة، وقد اعتبر المحللون الغربيون تلك المعاهدة تحديًّا إستراتيجيًا كبيرًا لنظام القطب الواحد السائد في العالم، وقد كان هذا التعاون قد بدأ من عدة سنين، لكنه لم يرق إلى هذا المستوى في ظل سياسات الرئيس الروسي السابق "بوريس يلتسن"، ويعتبر النقل عبر خط سكك الحديد - عبر سيبيريا - من أقاصي الشمال الشرقي الصيني إلى موسكو وأوروبا، بالإضافة إلى رغبة الصين بالاستفادة من الموارد المعدنية ومصادر الطاقة الهائلة غير المستثمرة في مناطق سيبيريا كمصدر مستقبلي لاحتياجاتها المتنامية - من أهم نقاط هذا التعاون.
وكانت كل من الهند وروسيا وإيران قد أسست في 15 مايو الماضي "اتحاد النقل الأورآسيوي"، وهي اتفاقية ترانزيت تجارية لنقل البضائع من "الهند" بحرًا إلى ميناء "بندر عباس" الإيراني، وعبر شبكة سكك الحديد الإيرانية إلى ميناء "بندر أنزلي" على بحر قزوين، ومن ثم بحرًا إلى ميناء "أستراخان" الروسي، وصولا إلى شمال شرق أوروبا، وهذا يعني فتح ممر تجاري بين آسيا وأوروبا يختصر مدة نقل البضائع بمقدار الثلث، وفي الوقت نفسه تقوية التحالف الإيراني الروسي، ولا تزال إيران كذلك سائرة في بناء سكة حديد "كرمان ـ زاهدان" على الحدود مع باكستان لربط إيران بها وبالهند، كما أن المناقشات لا تزال قائمة حول بناء أنبوب غاز من إيران الى الهند يمر بباكستان حيث تستفيد منه هي أيضًا.
أضف إلى ذلك تأسيس "منظمة شانغهاي للتعاون" في يونيو الماضي، وتتألف من كل من الصين وروسيا وكازاخستان وكيرجيستان وطاجيكستان وأوزبكستان، وكانت هذه المجموعة تُعرف باسم "خمسة شانغهاي"، أضيفت لها أوزبكستان هذا العام، وكان الهدف الأساسي لهذه المجموعة هو محاربة ما يُسمى بالتطرف الإسلامي في هذه المنطقة الحساسة من العالم، حيث تدور ألاعيب جيوسياسية عالمية تقودها أمريكا وبريطانيا؛ للسيطرة على مصادر الطاقة، ومنع امتداد نفوذ روسيا وإيران والصين إليها.(62/153)
وقد تحول انتباه أعضاء هذه المجموعة تدريجيًا إلى قضية التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري، خاصة بعد بناء مشاريع طرق وسكك حديد جديدة تربط بينها، ومن المرجح أن تنضم إيران إلى هذه المجموعة قريبًا، أما أفغانستان التي تسيطر عليها طالبان وباكستان التي تدعمها، فإن انضمامها إلى هذه المنظمة هو رهن بحل القضية الأفغانية الشائكة.
كما أن تركيا ودولا عربية مثل العراق وسوريا هي في طريقها إلى الاندماج إلى هذه التشكيلة، عن طريق الارتباط بها بواسطة سكك الحديد وأنابيب النفط والغاز، يضاف إلى ذلك قيام مصر بإكمال بناء جسر "الفردان" في شهر أكتوبر المقبل الذي سيربط قلب مصر وقارة أفريقيا بالبر الآسيوي عبر سيناء والى رفح الفلسطينية، وكان المتابعون المصريون يأملون في حل "أزمة السلام" بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ حتى يكتب لقطار الشرق السريع أن يسير عبر الأراضي الفلسطينية إلى الأردن وسوريا، في طريقه إلى أوروبا وربما إلى آسيا عبر العراق وإيران.
إن إستراتيجية طريق الحرير الجديد هذه كانت تبدو وكأنها أحلام جميلة في بداية التسعينيات، لكنها اليوم أصبحت تشكل واقعًا؛ بسبب الجهد الكبير الذي بذلته الصين وإيران ودول آسيا الوسطى والآن روسيا، وقد أصبح هذا أيضًا تكتلا عالميًا غير معلن قد يجذب إليه أوروبا الغربية التي تتعطش لتوسيع صادراتها الصناعية إلى أوروبا الشرقية و"الشرق الأوسط" وآسيا؛ هربًا من الركود الاقتصادي القادم، لكن يمنعها الخوف من رد الفعل الأنجلوأمريكي الذي كان دائمًا يعتبر التعاون القاري بين دول أوروبا الغربية والشرقية وآسيا تهديدًا لنفوذ الإمبراطورية البحرية البريطانية.
كما أن هذه الإستراتيجية قد أصبحت جزءًا من رغبة الصين وروسيا والهند بخلق "عالم متعدد الأقطاب"، وكان رئيس الوزراء الروسي السابق "يفجيني بريماكوف" قد عبّر عن ذلك صراحة حين أعلن أثناء زيارته إلى الهند في آخر شهر ديسمبر عام 1998 (ثلاثة أيام بعد عملية القصف الأمريكية البريطانية ضد بغداد) عن رغبة بلاده في تأسيس التحالف الثلاثي بين الهند وروسيا والصين.
من ناحية أخرى، كان هذا المشروع الذي يركز على تطوير البنية التحتية وتنمية المناطق الداخلية الواسعة لدول شرق وجنوب شرق آسيا بمثابة الرد على الأزمة الاقتصادية الآسيوية التي اجتاحت المنطقة بعد عام 1997؛ نتيجة المضاربات العالمية ضد عملاتها وأيضًا التركيز الشديد لهذه الدول على الاعتماد كليًا على صادرات السلع الاستهلاكية إلى العالم الصناعي.
والأهم من كل ذلك، أن دولاً مثل الصين وروسيا والهند وإيران تتبع ديانات وعقائد مختلفة بشكل كبير عن بعضها البعض، لكن تمكنت من كسر الهوة التي تفصلهم عن طريق البناء على مصالحها المشتركة، هذا النوع من التعاون سيساعد بالتأكيد في محاولة إزالة أسباب الصراع بين بعض هذه الدول الكبرى والأقليات المسلمة فيها، مثل: مشكلة الشيشان في روسيا، والمسلمين في الصين وقضية كشمير التاريخية، في ظل ظروف تعاون اقتصادي وتجاري ستجنح هذه الدول في محاولة التوصل إلى حلول عملية لهذه المشاكل؛ حفاظًا على مصالحها الاقتصادية عند الأطراف الأخرى.
من أورآسيا إلى نيويورك
إن انهيار أسواق المال الأمريكية والأوروبية الغربية، واحتمال تدهور سعر الدولار، وحدوث ركود قد يستمر طويلاً سيذهب بنصف القوة الإستراتيجية لأمريكا وحلفائها الغربيين (في حلف الناتو)، وما سيتبقى لهم هو القوة العسكرية، وفي ظل عدم قيام الدول الغربية هذه بإعادة النظر في النظام المالي الحالي الذي أدى إلى هذه الأزمة وبناء نظام جديد مبني على أساس التجارة العادلة والتنمية الاقتصادية الحقيقية لدول العالم النامية وتغيير سياسة الإقراض الاستعبادية وشروط صندوق النقد الدولي الظالمة، فإنه ليس من المرجح أن يكون هنالك حل للأزمة المالية والاقتصادية العالمية.
ويوجد في أوساط مؤثرة في الحزبين الجمهوري والديمقراطي بالولايات المتحدة من يروج لاستخدام حالة الحرب بين "إسرائيل" والفلسطينيين؛ لخلق أزمة عسكرية و"صراع حضارات" عالمي يعيد لحلف الناتو سيطرته على الشؤون السياسية في العالم، لكن لن يتم هذا الأمر إذا بقي الصراع العسكري محدودًا بين إسرائيل والفلسطينيين؛ إذ لا بد من توسيع دائرة الصراع حتى يمكن تحويله إلى حرب دينية تجتاح معظم القارة الأورآسيوية.
ومن أبرز هؤلاء المخططين الإستراتيجيين "زبيجنيف بريجينسكي" مستشار الأمن القومي السابق صاحب نظرية "قوس الأزمات"، الذي كانت تعني خلق طوق من الحروب الإقليمية والدينية وغيرها على طول حدود الاتحاد السوفيتي مع دول العالم الإسلامي من بنغلاديش وكشمير وأفغانستان، مرورا بإيران والعراق ومنطقة الهلال الخصيب، نزولاً إلى السودان.(62/154)
وهناك "صامويل هنتنجتون" صاحب نظرية "صراع الحضارات"، و"أليكساندر هيج" وزير الخارجية السابق، الذي طالب "إسرائيل" بضرب المفاعل النووي الإيراني في "بوشهر" أثناء حديثه مع مجلة "جيروزاليم بوست" في شهر تموز الماضي، و"هنري كيسنجر"، وهناك قائمة طويلة يمكن أن تضاف لهؤلاء، لكننا نركز عليهم فقط بسبب قوة تأثيرهم ومدى خطورة أفكارهم.
يقول كيسنجر في كتابه الأخير المعنون "هل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية": إن "الأزمة الاقتصادية العالمية هي أكبر تهديد للديمقراطية المعاصرة"، ثم يضيف: "إن وقوع أزمة مالية مهمة أخرى في آسيا أو في الديمقراطيات الصناعية، سيعجل بالتأكيد جهود دول آسيوية للحصول على سيطرة أكبر على مصائرها السياسية والاقتصادية، عن طريق خلق بديل آسيوي للنظام الإقليمي الحالي، إن بروز تكتل آسيوي معاد يضم مزيجًا من أكثر دول العالم كثافة بالسكان وأكثرها وفرة في الموارد الطبيعية وأكثرها تقدمًا من الناحية الصناعية لن يكون في المصلحة القومية لأمريكا."
ويقترح كيسنجر في كتابه أن تتحول أمريكا إلى النظام الإمبراطوري كسابقتها بريطانيا، حيث ستدير أمريكا شؤون العالم عن طريق سياسات "توازن القوى" أي ضرب دولة بأخرى وشعب بآخر وطائفة بأخرى، ومن ثم التدخل عسكريًا "لإدارة هذه الأزمات".
مكمن الخطر في العملية الإرهابية في نيويورك وواشنطن هو أنها من البشاعة بحيث يمكن استغلالها لتعبئة الشارع الأمريكي وراء "صراع حضارات" فعلي بين أمريكا ودول العالم العربي والإسلامي بالتنسيق مع "إسرائيل"، كما أن غلاة الصهاينة الذين يحضون بدعم اليمين المسيحي المتطرف يعدون العدة منذ فترة للتأهب لمعركة "هيرماجدون" الفاصلة ومجيء المسيح المخلص، إذا تمكنوا من تدمير الحرم القدسي الشريف وبناء هيكل سليمان المزعوم مكانه، وسوف يكون من السهل نشر حالة من الفوضى والحرب الدينية في كل "الشرق الأوسط"، وربما يتم توريط دول عربية وإسلامية مثل سوريا والعراق وإيران في مثل هذا الصراع.
لذلك يمكن القول بأن من قام بالتخطيط لهذه العملية الإرهابية ونفذها كائنا من كان قد وفّر فرصة ذهبية للدوائر والمؤسسات الغربية الحاكمة التي كانت في الشهور الأخيرة تنظر غير مصدقة إلى تلاشي إمبراطوريتها المالية التي طالما حيكت عنها وعن نموها وازدهارها الأبدي الأساطير، قد وجدت في هذه الأزمة والصراع في "الشرق الأوسط" وسيلة لإعادة سلطانها وسيطرتها في العالم، لكن بقوة السلاح هذه المرة.
============(62/155)
(62/156)
حوار الحضارات.. مصالحة أم مصالح؟
د. إيكيهارد شولتس**
…
09/08/2003
إن الحوار أو التواصل بين الحضارات المختلفة هو عملية تاريخية تتسم بالتأرجح بين وتائر معتدلة نسبيًّا تارة، ووتائر تؤدي إلى تفاقم الخلافات الموجودة بين الحضارات المختلفة تارة أخرى.
والسؤال هو: ما هي أسباب هذه التذبذبات؟ هل هي مزمنة؟ هل وراءها مصالح معينة؟ من يدفعها حتى تتحول إلى أزمات خطيرة أو حتى إلى اشتباكات مسلحة؟ ما هو دور الأديان في هذا الصدد؟ وكيف يمكن الخروج من لحظات الصدام لفترات التفاعل والتعايش؟ وما هي الحواجز التي تعرقل الحوار؟ وكيف نتغلب عليها؟
لغة التواصل الإنساني
إن التواصل الإنساني يختلف عن التواصل بالحاسوب وهو أكثر من مجرد نقل معلومات، ويستوجب نجاحه أكثر من محض الاشتراك في لغة يفهمها الطرفان. التواصل الناجح يحتاج إلى معارف مشتركة: معارف مشتركة حول رؤية كل طرف للعالم، وحول القيم التي يتبناها كل طرف، وحول موقف كل طرف من الطرف الآخر. ولا يجوز أن نرى في الغاية من هذه المعارف الخاصة بالتواصل مع الطرف الآخر بالضرورة الوصول إلى إجماع، بل التواصل لا يتناقض مع استمرار الاختلاف وعدم الوصول لاتفاق في كل القضايا. وأزعم أنه يمكن للتواصل أن يكون ناجحًا حتى ولو كانت العقائد والقيم والآراء مختلفة تمامًا.
بيد أنه من البديهي أن يعرف كل طرف رؤية الطرف الآخر ومواقفه معرفة جيدة. ولو فشلنا في إقامة التواصل واستمراره فسوف نفشل في تحقيق التعايش البنَّاء، ليس فقط بين الحضارات بل أيضًا على مستوى التواصل الشخصي، أي أنه لا مفر من إنجاح "التواصل" بين الحضارات لمن ينشد تحقيق "التعايش" بين الحضارات.
إن القول "نحن في الغرب" يفترض وجود "الشرق"، وهذا "الشرق" ينبغي تعريفه بشكل مركب وليس فقط جيو-إستراتيجيًّا. وهذا التعريف لا يمكن أن يعتمد فقط على التاريخ المعاصر أو على وجود الكتل العالمية، ويبدو لي أن هذا المصطلح (أي الشرق) بعد أن كان وصفًا للمعسكر الشيوعي وأتباعه من الأنظمة الأوروبية التي كانت أعضاء في حلف وارسو تحول بصورة ما إلى وصف للعالم الإسلامي، وتم استعادة سمات العداء التي تعود لقرون سالفة بين أوروبا والعالم الإسلامي، مع استمرار صورة العدو/الخطر التي كانت مخصصة منذ سنوات قليلة للمعسكر الشيوعي.
ولا شك أنه من حق البعض أن يتخيل عالمًا صراعيًّا لا مجال فيه للتفاهم، أو أن يتخيل آخرون عالمًا مثاليًّا خاليًا من أي مشاكل تواصلية، فهذه التصورات موجودة، ومع ذلك ينبغي أن نعرف أن عالمنا الحقيقي سيختلف دومًا عن هذا العالم القبيح الذي لا يمكن فيه عبور فجوة الاختلاف، أو حتى هذا العالم المثالي الذي يفهم فيه كل إنسان الآخرين رغم كل التباينات الحضارية. العالم الحقيقي مركب ولا يمكن اختزاله لمفردات وتصورات بهذه البساطة.
إن المشاكل التواصلية ستستمر حتى مع توافر حسن النية لدى الجميع، وقد تؤدي الاختلافات والتباينات الثقافية إلى سوء الفهم وإلى أخطاء في التقييم. ولذلك يجب علينا ألا ننطلق من الرغبة في تحقيق ما يبدو وكأنه الحالة المثالية بل ربما كان الأجدى أن نبدأ بمحاولة منع حدوث الأسوأ. فكلما اتسعت دوائر العولمة اصطدمت حتمًا العقائد والقيم المختلفة، وهذا الاصطدام قد يؤدي إلى عواقب أكثر تدميرًا لو لم نستطع أن نحلَّ النزاعات حلاًّ ينبني على "التعارف" والتواصل.
يجب علينا إذن أن نعمل بكل ما في وسعنا للحيلولة دون حدوث أسوأ الأوضاع، أي انهيار التواصل ونهايته خاصة في مجال التواصل بين الثقافات.
والاستنتاج المنهاجي هو أنه لا يجوز أن نفكّر في كيفية التواصل بين الحضارات فحسب بل يجب علينا أن نلتقي، ونقوم بخلق السياقات والدوائر التي يتم فيها التواصل المباشر بين الحضارات، علمًا بأن التواصل يتم يوميًّا إعلاميًّا وفكريًّا وأدبيًّا وتجاريًّا وعسكريًّا، بل وإرهابيًّا! وعلى ضوء ذلك يجب علينا التفكير في كيفية الحيلولة دون تحول التواصل إلى عملية عشوائية لا يستفيد منها إلا طرف واحد، أو أطراف على نفس الجانب دون الجانب الآخر من التواصل.
والتواصل الناجح لا يعني أنه من المفروض أن نعرف كل شيء عن الآخر، ولا أن تتمتع كل المعلومات بنفس القيمة والثقل. ويجب بالضرورة ألا نعرف كل ما يمكن معرفته حول موقف الآخر من العالم والقيم وآفاق المستقبل.
إن المعارف التي نحتاج إليها هي المعارف التي تتركز على ما هو جوهري فقط لحامل هذه المعارف، أي ما يسمى بجوهر هويته، أي الهوية الشخصية في التواصل الشخصي أو التواصل بين الأشخاص أو الأفراد والهوية الحضارية أو الثقافية في التواصل بين الثقافات أو الحضارات. ويمكن تحديد المستوى الشخصي أو الجماعي على أساس تحديد المسافة بيننا وبين الآخر، أي ما هي الاختلافات أو التباينات بيننا؟
تناحر أم مساحات اشتراك؟(62/157)
هل العلاقة بالضرورة هي تناحرية؟ هل لا يمكن حلها إلا على حساب الآخر؟ هل هي لعبة صفرية لا بد فيها من خاسر ومنتصر فقط؟ هل تؤدي الهيمنة الاقتصادية حتمًا إلى هيمنة ثقافية؟ هل هناك قيم قائمة بحد ذاتها؟ هل هناك قيم أبدية خاصة بكل الحضارات أم فقط بالبعض منها؟ هل يقف الآخر من هذه القيم نفس الموقف؟ هل هناك قيم تتمتع بنفس الأهمية على خلاف الحضارات والمراحل التاريخية؟ من يحدد ما هي القيم "المشتركة" التي يجب الحفاظ عليها؟
الجواب على كل هذه الأسئلة مرتبط بتعريف الهوية وبحملات التضليل والدعاية بأشكالها المختلفة، وهدف كل الصراعات الحضارية هو في الأخير الهيمنة الفكرية والهيمنة في مجال تحديد الهوية، ومن يستطيع أو يعتقد أنه يستطيع أن يحدد ما هو مرغوب فيه وما هو غير مرغوب فيه حضاريًّا.
وقبل مناقشة القيم المختلفة والاختلافات أو التباينات يجب أن نتفق على الحد الأدنى من القيم المشتركة. ما هي هذه القيم إن وجدت؟ وفي هذا المجال نعاني كلنا من مرض التضليل الذاتي أي مرض التخيل، تخيل أو وهم أننا نحن الذين نمثل القيم الصحيحة والحميدة وقيم الآخرين هي أقل قيمة أو تعود إلى مراحل تاريخية قد اندثرت. وإلى الآن لا نعرف الدواء الذي يضمن الشفاء التام من هذا الوهم. لكن في الوقت نفسه يجب أن نفهم أن هذا المرض بالذات هو الضمان لاستمرار قيمنا والشرط الأساسي لوجود التعددية الحضارية والثقافية. ولا يمكن أن أتصور أن العالم كله يتبنى القيم نفسها ويأكل الأكل نفسه... وإلخ؛ وذلك لإيماني بتعدد الحضارات. إن "التعارف" -وبحق- هو الوجه الآخر لعملية "التدافع"، والعلاقة بين الحضارات هي علاقة جدلية مركبة.
ودواء الاستعلاء ووسيلة الخروج من هذا التضليل الذاتي في: الاستماع إلى آراء الآخرين وما يقولونه عنا، وهي وسيلة ناجحة للغاية لو أردنا أن نصغي للآخرين. بل يمكن القول بأن الآخرين يعرفوننا أحسن مما نعرف أنفسنا في الكثير من المجالات، وإننا قد نكتشف في مرآة الآخر بعض الحقائق التي لم نكن نعرفها عن أنفسنا. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أننا نحن الذين نعرف الآخرين معرفة أدق منهم بصورة مطلقة. وهذا يستلزم أن ينشغل البحث العلمي بتحليل موقف الآخرين منا وما يعرفون عنا ومدى تغيّر هذه المواقف.
لا يصلح التواصل إذا صرنا القاضي والحَكَم ومن يحدد قواعد اللعبة، بل الاعتراف بالآخر يتطلب الاعتراف بحقه في المشاركة في تحديد القواعد من البداية واختيار الأسئلة التي يمكن أن تطرح والتي يجب أن تناقش.
ومشاكل الهوية لا تنشأ كمشاكل مجردة؛ ولذلك لا يمكن معالجتها معالجة مجردة بل هي عادة مرتبطة بمشاكل عملية ملموسة تعود إلى تحولات عميقة أو طارئة في الحياة العامة والخاصة. ويجب أن نتساءل: هل نحاول أن نحارب هذه التحولات العميقة أو الطارئة؟ بل هل نستطيع فعليًّا محاربتها؟ أم يحسن بنا معالجة المشاكل الناجمة عنها؟
لذلك يجب الإجابة على الأسئلة التالية:
- ما هي الأسباب التي تهدد التواصل بين الحضارات بالانقطاع؟
- ما هي مشاكل الهوية الحقيقية أو الوهمية المرتبطة بها؟
- ما هي الظروف التاريخية والدينية والاجتماعية الموضوعية المرتبطة بها؟
كيف نحل النزاعات المزمنة؟
أهم الأسئلة في الحقيقة هي:
ما العمل؟ وكيف نعالج انقطاع التواصل الموجود؟ وكيف نحل النزاعات المزمنة؟
إن الباحثين مولعون بالنظريات ويفتقدون أحياناً الشعور بالمشاكل الواقعية القائمة. وفي المقابل فإن الناس العاديين يتصرفون في حدود الخبرة المتاحة وفي ضوء معرفتهم بطبيعة الطرف الآخر، وهم يجيدون أحيانًا ما لا يجيده الباحثون. ولذلك يجب تشجيع الاتصال بمن خارج البرج العاجي، أي بالقيادات المجتمعية ورجال الدين والفنانين والكتاب والمثقفين وكل من يستطيع تقديم الحلول المنشودة والقابلة للتطبيق.
صراع من طرف واحد
إن الهدف في مجال التواصل بين الحضارات يجب أن يكون أولاً الحفاظ على التواصل الحضاري القائم أو الوقاية من لحظة انقطاع التواصل القائم، وثانياً تطويره في اتجاه تصحيح الأخطاء وخلق المناخ الملائم للتقريب بين أبناء الحضارات المختلفة.(62/158)
إن أطروحة صراع أو صِدَام الحضارات التي كثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة إنما هي في رأي البعض بالعالم الإسلامي جزء من الدعاية الغربية لفرض حضارتها على الشعوب الأخرى، وبالتالي الهيمنة على العالم ومحاولة رخيصة -لا بل غبية- لتمرير هذه التصورات، حيث إنه سرعان ما يتضح للقارئ الحصيف أن كتاب هنتنجتون وما يحتويه -إن صرفنا النظر عن عنوانه- لا يتعدى كونه دراسة تحليلية لثمانية أجزاء مختلفة من العالم سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، ولم يتطرق هنتنجتون فيه إلى جوهر الحضارة ولا حتى بالقدر الذي يوحي به عنوان الكتاب. فإن كان الكاتب جادًّا فعلاً في تحليل صراع الحضارات لكان عليه أولاً أن يبدأ بتحليل حضارته أو تلك الثقافة التي ينتمي إليها ويدعو لقيمها. غير أننا لا نُنكر على هنتنجتون نجاحه في إصدار هذا الكتاب؛ حيث إن نجاحه لا يعود إلى مضمون الكتاب بل إلى الترويج لفكرة أسماها صراع الحضارات والتي أصبحت حديث المقاهي.
إن أطراف أي صراع حقيقي لا بد أن تكون متكافئة ليس حضاريًّا فحسب بل أيضاً اقتصاديًّا وعسكريًّا، وأن تكون الرغبة في التصارع متبادلة وتمثل إرادة الطرفين.
وانطلاقاً من هذا ربما نتفق مع هنتنجتون في أن هناك فعلاً صراعا حضاريا، غير أن هذا الصراع ينطلق من طرف واحد وهو الحضارة الغربية التي تسعى لفرض نفسها بصفتها الحضارة البديلة أو المختارة أو الأرقى التي ينبغي فرضها على الشعوب الأخرى. ومن هنا يحق للعالم الإسلامي أن يسأل تحديداً عن نوع أو نمط الحضارة التي يريد الغرب فرضها عليه. هل هي حضارة حقوق الإنسان والتجارة المتكافئة والتبادل الحضاري واحترام سيادة الدول؟ أم حضارة اجتياح السلع الاستهلاكية الغربية للأسواق ودعم النظم المستبدة ما دامت موالية للغرب وتحقق المخطط الإستراتيجي للدول الكبرى.. حضارة صعود الجسد وجراحات التجميل وماكدونالدز والكوكا كولا؟
إنه لمن المسلم به -في رأي الكثير من مفكري العالم الإسلامي وغير الإسلامي- أن انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية قد حفز الغرب إلى البحث عن عدو جديد يتناسب مع مقاييسه ومواصفاته. وإذا ما نظرنا إلى الخريطة السياسية للعالم العربي والإسلامي لأدركنا مدى المشاكل الجمة والشائكة التي تعاني منها هذه الدول، وبالتالي تنامي الحركات الإسلامية الباحثة عن بديل نتيجة خيبة أمل شعوب هذه الدول ويأسها من الأنظمة القائمة في تحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية والديمقراطية، كل هذه الأسباب والعوامل مجتمعة جعلت من الإسلام المرشح الأول لوضعه في الإطار الذي رسمه له الغرب.
إننا نرى أن أي شكل من أشكال الديمقراطية والقيم المرتبطة بها التي تُفرض من خارج الحدود إنما تؤدي بالتالي وبصورة حتمية إلى انتقاص في السيادة الوطنية لتلك الدولة ومصادرة قرارها السياسي، وأنا على يقين من أن العالم العربي على أتم الوعي بهذه الحقيقة؛ لذا فقد آن الأوان للتصدي لهذه المشكلة بإطلاق الحريات السياسية تدريجيًّا وإشاعة الحد الأدنى من الديمقراطية، ولا يشترط في هذه الديمقراطية أن تسترشد بنفس القيم ونفس الآليات الموجودة في الديمقراطية الغربية، بل يجب أن تراعي الظروف المحلية الخاصة ومنظومة القيم الأخلاقية والدينية، وما يقدمه الدين الإسلامي من مقدمات وأنظمة وحلول للمعضلات المختلفة التي يواجهها المجتمع. إن تم ذلك فسيشكل -وبحق- مصدر قوة لهذه الأنظمة، وليس مصدر ضعف أو خطر كما يتصور البعض أحيانًا؛ وبالتالي يتم إسقاط كافة الحجج والذرائع وسحْب البساط من تحت أقدام المتباكين على واقع الديمقراطية وحقوق الانسان في العالم العربي.
هل يريد الغرب ديمقراطية إسلامية حقا؟
وهنا يطرح السؤال نفسه حول مصداقية تباكي الغرب على غياب الديمقراطية في البلدان العربية؟ فهل هو جاد فعلاً في تطبيق مبادئ الديمقراطية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ أم فقط السماح بذلك القدر من الديمقراطية الذي يضمن للغرب تحقيق مصالحه الاقتصادية وضمان تدفق البترول بالشروط والأسعار التي يحددها هو نفسه؟
إن الصراع القائم فعلاً حاليًّا والذي نشهد تطوره كل يوم هو في جوهره ليس صراع حضارات أو أديان أو ما شاكل ذلك بل هو في آخر المطاف صراع المصالح الاقتصادية والإستراتيجية، وأيضاً -كما في العراق- صراع السيطرة على منابع البترول. فمصادر البترول التي كان يعتمد عليها الغرب لم تعد مضمونة، والبحوث العلمية الخاصة بإيجاد مصادر بديلة ومتجددة للطاقة ما زالت في بداية الطريق، والتوصل إلى نتائج إيجابية في هذا الصدد ذات جدوى اقتصادية قد يستغرق عقودًا، كما أن مصادر البترول في الشرق الأوسط أصبحت غير مأمونة الجانب سياسيًّا. وبما أن البترول يشكل شريان الحياة بالنسبة للغرب كان لا بد له إذن من التحرك لضمان مصادر بترولية آمنة يُعتمد عليها حتى أن اقتضى الأمر شن الحروب وإسقاط الأنظمة سواء تحت ستار تحرير الشعوب من الدكتاتورية أو -كما يرى البعض- تجريد الشعوب من ثرواتها.(62/159)
إن حل مشاكل التواصل بين الحضارات لا يمكن أن يتحقق إلا بتكامل الوسائل والأدوات، والحلول التي لا تُتَنَاول إلا على جانب واحد مثل الجانب الديني أو الإثني أو الاقتصادي هي في آخر المطاف حلول جزئية وغالباً ما تبوء بالفشل.
إننا نحتاج إلى حلول تعتمد على تضافر مختلف فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية والتعاون بينها، والمعنيون في هذا الأمر هم الفلاسفة واللغويون وأصحاب الدراسات الثقافية والسياسية والتاريخية والدينية والقانونية والاقتصادية (قبل خبراء السوق المصرفية والشبكات المعلوماتية) والذين يجب أن يعملوا بصدق على تحليل كل ما يحيط بالتواصل بين الحضارات ومشاكله والحواجز التي تعيق تقدمه نحو تعاون حضاري طويل الأجل بعيدًا عن الحسابات الاقتصادية قصيرة الأجل التي تواجه مخاطر جمة نتيجة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي على أي حال، ما استمرت الأوضاع الداخلية والتوازنات الإقليمية والدولية على ما هي عليه.
ويجدر بي في الختام الإشارة إلى تحدٍّ قد يبدو فرعيا وبسيطا، لكنه يمثل تهديداً لأي جهد مخلص في هذا المجال. إن من يبحث في هذا الإطار قد يعاني بسرعة من ضغوط معينة من النخب المستفيدة من هذا الاستقطاب في الرؤى، سواء النخب الأكاديمية والفكرية أم السياسية والاقتصادية، ففي صفوف كلا الطرفين من لا يريد التفاهم والوفاق بل يحارب كل المحاولات في هذا الاتجاه. والفرد عادة لا يستطيع أن يقاوم هذه الضغط المزدوج: أترابه يشككون فيه، وقد يتهم بالخيانة بل والعمالة (جيمس بيسكاتوري وجون أسبوزيتو في الولايات المتحدة اتهمهما البعض بالعمالة لجماعات المقاومة الإسلامية لمواقفهم المعتدلة، وجالاواي النائب البريطاني لحزب العمال الذي نشط ضد الحرب في العراق يتهم الآن بالعمالة لنظام صدام حسين)، أما الطرف الآخر من الحوار فعادة لا يميز بين أطياف الطرف الغربي، ولا يرى في الجميع إلا أعداء للعرب والمسلمين. وقد تكون الجامعات هي المؤسسات الأقل تأثرًا بهذه الضغوط؛ لأنها ليست مؤسسات يجوز فيها منع التفكير والتعبير، ويجب ضمان حرية البحث العلمي فيها، لكن هذا لا يحدث دائمًا.
والاستنتاج من هذا هو ضرورة وجود نوعين من التواصل: أولاً التواصل في إطار الحضارة الواحدة، وثانيًا التواصل بين الحضارات المختلفة.
ونعرف أن التواصل في الحضارة الواحدة أو التواصل الداخلي يمكن أن ينقطع، وهذه الحالة تؤثر بالتالي سلبًا على التواصل بين الحضارات.
ويبدو لي أن التواصل الداخلي انقطع في أكثر من حضارة. فكيف نستطيع أن نحقق التواصل بين الحضارات دون الوفاق أو الوحدة الداخلية في تعريف القيم لكل كيان حضاري؟ وهل يمكن مناقشة تباين القيم مع الحضارات الأخرى إلا بعد الاتفاق على تحديد القيم المميزة لكل منظومة حضارية. وما هي قيم الغرب؟ وما هي قيم الشرق؟ وهل تسميات "الغرب" و"الشرق" ابتداءً تسميات صحيحة؟ أم أنها بدلاً من أن تكون محض أوصاف جغرافية ومكانية تحولت بحد ذاتها لأيقونات ولأحكام قيمية على الجانبين تشكك في إمكانية المشترك الإنساني؟! من هنا فلنبدأ.
===========(62/160)
(62/161)
حوار الحضارات.. نظرات وخطرات*
الأمير الحسن بن طلال
رئيس منتدى الفكر العربي، ورئيس منتدى روما
05/02/2002
الحوار قيمة حضارية بالغة الأهمية في حياة الأمم والشعوب، سواء في علاقات هذه الأمم بين ظهرانيها، أو في علاقات هذه الأمم ببعضها البعض. كيف ذلك؟ هذا ما يدلنا عليه الاجتهاد المقدم من الأمير الحسن بن طلال؛ والذي يدور حول المحاور التالية:
*الحوار والنموذج الجديد للعلاقات العالمية
*إدراك القيم المشتركة مفتاح العالمية العادلة
*الإسلام والعولمة.. التكامل على صعيد القيم
*لماذا الدعوة لنموذج "جديد" للعلاقات العالمية؟
*مراحل الثقافة العالمية والدعوة للتجديد الثقافي
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: "يا أيها النَّاسُ إِنَّا خلقناكم من ذكرٍ وأُنثى وَجَعَلنَاكم شُعوبًا وقبائل لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكرَمَكُم عِندَ الله أتقاكُم إنَّ الله عليمٌ خبيرٌ" (سورة الحجرات 49، آية: 13).
الحوار والنموذج الجديد للعلاقات العالمية
من خلال فحص الحوار كقيمة مهمة في حياتنا وكأداة نجد أن الحوارَ أداةٌ مناسبةٌ لبناءِ نموذج جديد من العلاقات العالمية؛ لأنه الخطوة الأولى التي تمنحُنا إحساسًا بالانتماء، والإقرار بما هو مشتركٌ بيننا.
ولكي يحظَى أيُّ مقترحٍ بالشرعية، يجب أن تكون له صلة بالتقاليد الدينية والثقافية والقانونية المختلفة، وإذا أمكن تحقيق ذلك فإن العولمة (Globalization) أو العالمية (Unive r salisation) لن يُنظَر إليها باعتبارها أمرًا مفروضًا من الغربِ أو من الولايات المتحدةِ على بقية البشر، بل سيتم تقبُّلُها كطريقة لتحديث كل واحد من هذه التقاليد وتوسيعه، مع المحافظة على جذوره. وعلى نحو مماثل، سيكتشف كل نمط من هذه التقاليد أن التحديات التي واجهها البشر على مر القرون قُوبِلَت بأساليبَ متشابهةٍ قليلاً أو كثيرًا. وعندها قد تميل المجتمعات الأهلية المختلفة إلى تقبُّل الآخر أخًا يقاسمها المصير الإنساني ذاته، لا عدوًا محتملاً.
وقد قام الشيخ سعيد رضا عاملي، من المركز الإسلامي في إنجلترا، بتوسيع فكرة رُهاب الإسلام (Islamophobia)، وتحدث عام 1997 عن ذلك التوجه الرامي إلى تركيز الاهتمام على الطِّباع أو الخصائص الأوروبية (Eu r ocent r ism)، والذي وصفه بأنه مناهض للعالمية؛ لأنه - وهنا تكمن المفارقة - يدَّعي وقوفه على أرضية أخلاقية عالية ذاتِ طَابعٍ عالميٍّ تزعُم أن تقليدَ النموذجِ الغربيِّ من جانب شعوب العالم كافة هو الحل الوحيد لمواجهة تحديات هذا الزمان. والحق أن ذلك التوجه، وهو ظاهرةٌ جدُّ معاصرة، يرتكز على وجهة نظر عنصرية (حسب منطق الشيخ سعيد) متأصلة جذورها في رُهاب الإسلام.
ووفقًا للأستاذ الدكتور أكبر بن أحمد، فإنَّ جذورَ الإسلام مترسِّخة في الحوار. فحين انطلقَ الإسلامُ من شبهِ الجزيرةِ العربيةِ انهمكَ على الفور في حوارٍ مع الحضارات. وعلى نحو مشابه، فإن الحوارَ متأصلٌ في الإسلام. لكنَّ النقاشَ مخنوقٌ بسبب من تلك الصورة الساخرة الكاريكاتيرية للعالم الإسلامي، كما هو الحال بالنسبة لصورة الغرب في أعين العالم الإسلامي. فالتصورات الخاطئة، إذا متبادلة ومفرِطة، إنه الحوار بين الأصمِّ والأبكمِ والأعمى.
عند بناء نموذج جديد للعلاقات العالمية، نجد أننا بحاجة -أيضًا- إلى بناءِ حقل مكمِّل من حقول المعرفة: هو علم السياسة البشرية (Anth r oplotics)؛ أي سياسة من أجل الإنسانية. ففي اللحظة التي نُقِرُّ فيها بقيمتِنا الإنسانية، يصبحُ الانتقال من العداء الجامح إلى السلام أكثر سهولة. إنَّ إعلانَ برلمانِ الأديانِ العالميِّ، تحت عنوان: أخلاقيات عالمية، يسعى في لحظةٍ معينةٍ إلى ربط الأفعال الإنسانية بأرضية أخلاقية. والمبادئ الأربعة الأساسية قريبة من فكرة الحقوق الطبيعية (Ius natu r alis)، وتشكِّلُ الحد الأدنى للفهم الأخلاقي المشترك بين الأديان الحالية والثقافات التي تتبناها. واليوم -أكثر من أي وقت مضى- يتطلب الأمر وضع أخلاقياتٍ للتضامنِ الإنسانيِّ وإقامةِ نظامٍ إنسانيٍّ دوليٍّ جديد.
نتحدث اليوم عن الحاجة إلى مصفوفة شاملة (An ove r a r ching mat r ix) من الموضوعات التي تدخل في إطار القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان من جهة وأخلاقيات التضامن الإنساني من جهة أخرى. إنَّ كل موضوع يُمكنُ أن يخطرَ بالبالِ، ويتعلقَ بالنزاعاتِ بين البشرِ أنفسِهم، أو بين الإنسانِ والطبيعةِ، أو الكوارث الطبيعية وتلك التي يصنعُها الإنسان، يندرج في مكان من ضمن هذه المصفوفة. لكن للأسف، رغم كل مواردنا البشرية والمادية والتكنولوجية، ما انفك العالم أغنى في المشكلات وأفقر في الحلول.(62/162)
ثمة حاجةٌ ملحةٌ على المستوى العالميِّ لتطويرِ صرحٍ للتضامنِ الإنسانيِّ، يكون مقبولاً عند الجميع. وفي اجتماع لنادي روما عُقِدَ مؤخَّرًا، اقترحتُ أن مصطلحَ أخلاقيات (Ethics) يجب أن يُفسَّرَ بمعناه الواسع، أي ألا يقتصرَ على الجانبِ الأخلاقيِّ، بل يتعدَّاه ليغطي القيم الاجتماعية الثقافية المشتركة التي لها صفةُ الكليةِ أو الشموليةِ، والتي صَمَدَت على مرِّ الزمان. فالهدف يجب أن يكون تعزيزَ كل ما من شأنه أن يربط بين البشر ويؤلف بين قلوبهم، سواء كان ذلك على أسسٍ حضاريةٍ وقواسمَ مشتركةٍ، أو حتى لمجرد أسباب فكرية.
تذكر أنماري شيميل (Annema r ie Schimmel) في كتابها (D r eams of Jesus in the Islamic T r adtion) "أحلام يسوع في التقاليد الإسلامية": "باعتباره آخرَ نبيٍ أرسلَه اللهُ قبل مجيء محمدٍ، فإن يسوع المسيح، ابن مريم، يشغل مكانة عاليةً جدًا في مجال التقوى عند المسلمين، فهو نموذج الفضيلة والتواضع والزهد، وهو عابرُ سبيلٍ وصوفي حقيقي لا يرى إلا الجوانب الإيجابية في كل شيء في الحياة. ذلك هو يسوع المسيح في التقاليد الإسلامية الرفيعة والشعبية".
وإذا كانَ بإمكانِ أبناءِ الطوائف الدِّينيَّة المختلفة تكريمُ الأنبياءِ أنفسِهم، واعتبارهم نماذجَ يجدرُ الاقتداء به؛ فربما لا نكون بعيدين كثيرًا عن الحوار الذين نصبو إليه جميعًا.
إن القمة العالمية للقادة الدينيين والروحيين، التي عُقِدَت في مقرِّ الأممِ المتحدةِ في نيويورك في آيار / مايو 2000م، حاولت أن تؤسِّسَ مجلسًا استشاريًّا دينيًّا دائمًا تابعًا للأممِ المتَّحدة. فمنذ الآن يجبُ تشكيلُ تحالفات بين الزعماء الروحيين والحكومات وممثلي المجتمع الأهلي؛ بهدف إنشاء شبكة عالمية للمبادرات، من شأنها أن تؤدِّيَ إلى سياساتٍ أفضل وأفعالٍ مسئولة، إذ لا يمكنُ للأخلاقياتِ العالميةِ الجديدة أن تتجاهل ما تمتلكه الإنسانيَّة من حسٍّ بالرُّوحانية.
وهناك قول أثير للاقتصادي المشهور الدكتور أمارتيا سن (D صلى الله عليه وسلم Ama r tya Sen) يؤكد فيه: إن القطب المقابل للعولمة هو الانفصالية المزمنة والحكم المطلق (Auta r ky) الذي لا يلين.
نحن نتكلم عن هذا العالم بدلالة المواقف والأفضليات السياسية، وليس بدلالة أخلاقيات التضامن الإنساني. فإذا كنا نتحدث عن الحاجة إلى إدارة عالمية ومسئولة فنحن بحاجة أيضا إلى الإقرار بضرورة تطوير أخلاقيات عالمية.
في كثير من اللغات تترجم العولمة إلى العالمية. ومع أن المرء يستطيع أن يدرك عالمية القيم، إلا أنه لا يستطيع أن يتفهم المقصود من عولمة الذين يملكون الأشياء والذين لا يملكونها. علينا إذا أن نتقدم نحو عالمية القيم، ونتحدث عن إدارة الصالح العام عالميا، ليس فقط بدلالة الحرب والسلام، وإنما أيضا بدلالة المشاركة الواسعة للمجتمع الأهلي في الحوار العالمي. وحين نتكلم عن الإدارة العالمية فإن العبارة التي كتبت على ضريح السفسطائي البيزنطي ليفانوس (Livanus) "لقد لامس قلبه حب الصالح العام"، ربما تكون - هذه العبارة - شعارا مناسبا لمثل هذه المبادرة. وهذا يستلزم، ليس فقط أن تشمل النخبة القادة بيننا، لكن أيضا الشباب والنساء والأقليات الذين لهم جميعا تجربتهم المباشرة ذات الصلة بآثار التغيير الاجتماعي.
إدراك القيم المشتركة مفتاح العالمية العادلة
في عام 1970 شاركت في مؤتمر قمة دول عدم الانحياز الذي حضره زعماء مثل: جمال عبد الناصر، وجوزيف تيتو، وأنديرا غاندي، وجلالة الملك حسين، كانت تلك الأسماء من النوع الذي يمكنك أن تربطه بمفاهيم عصرهم. أما اليوم فلدينا مفاهيم مثل العولمة والتجارة الإليكترونية، لكن يا ترى هل يوجد لدينا التزام سياسي لتحقيق رؤية تقوم على الاستقلال المتكافل (Int r a-independence) وليس فقط الاعتماد المتبادل (Inte r -dependence)؟ فالاعتماد المتبادل يمكن أن يعني أنني أستطيع أن أتناول غداء يقدم على مائدتك، لكن بوجود الاستقلال المتكافل بإمكاننا أن نتطلع إلى الانتقاء من بين تشكيلة أوسع من المأكولات.
إن الفجوة في مستوى الازدهار بين بلدان العالم ومناطقه سبب دائم لنشوب النزاعات والحروب. فإذا أراد الناس العيش بسلام، فعليهم تضييق هذه الفجوة أو سدها نهائيا. إن الفقر هو إنكار لحقوق الإنسان، وإهانة لكرامتنا الإنسانية الأصيلة، وللتنمية البشرية الإنسانية، وللروح الإنسانية. والفقر شر في حد ذاته، يحرمنا من الصحة، ومن فرص التقدم كأسرة إنسانية، ومن حرياتنا الأساسية، ومن احترام بعضنا للآخر. كما أنه يدمر احترامنا لأنفسنا باستهدافه روح إنسانيتنا بالذات. ويجادل البعض أن العولمة يمكن أن تزيد الفقر وتفاقم أكثر الهوة بين الأغنياء والفقراء. وهذا بدوره يؤدي إلى تزايد معدلات الجريمة والأمراض الاجتماعية، ويفسح أيضا مجالا أوسع للاستغلال والهيمنة بفتح قنوات أكثر لتفاعل آلياتها.(62/163)
إضافة إلى ذلك، علينا أن نقر بأن نصف سكان العالم هم من النساء، وزهاء 10% من هؤلاء السكان من المعوقين. فإذا لم يدمج النساء والمعوقون بشكل أكبر في المجتمع وفي عملية التنمية، نكون قد أهملنا أكثر من نصف القدرات الفكرية للبشرية. وإذا عدنا إلى عام 1911، وجدنا العبارة الآتية تقرأ عند افتتاح مدرسة لاكنو (Lucknow) الإسلامية للبنات: لا يمكن لأية جماعة أن تتقدم إذا كانت الأمهات فيها أميات، وغير قادرات على إسداء النصيحة اللازمة وتقديم التوجيه الكافي لأولادهن. وهي عبارة معادلة لمقولة روبي مانكنز ( r uby Mannekins) التي كثيرا ما يستشهد بها: "إنك إذا علمت رجلا فقد علمت شخصا واحدا؛ أما إذا علمت امرأة فقد علمت أسرة. وقد كان الرسول الكريم محمد - r- أبا لأربع بنات. ومن أحاديثه - صلى الله عليه وسلم -: "الجنة تحت أقدام الأمهات" (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن معاوية بن جاهمة السلمي)، وكان لا يضيع فرصة لإبداء كلمة في صالح المرأة وتعزيز مكانتها. وقد صرح بوضوح تام: "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" (رواه ابن ماجه والطبراني والسيوطي).
لقد أفاد ماكس فان ديرستويل (Max Van de r Stoel) المفوض السامي للأقليات القومية في منظمة الأمن والتعاون في أوربا (OSCE) و"المبعوث الخاص السابق للأمم المتحدة للتوفيق بين الأطراف وتحسين العلاقات" أنه، في عالم يتزايد فيه الاعتماد المتبادل، يجب أن لا تتخذ مسألة المحافظة على السيادة الإقليمية ذريعة لرفض حقوق الأقليات. إن حماية حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية ليس فقط من مقتضى القانون الدولي، بل هو من علامات الإدارة السليمة للصالح العام (Good gove r nance)، وأحد عناصرها يمكن أن يكون الإدارة الذاتية للصالح العام (Self-gove r nance). إن إمكانيات الحكم الذاتي غير الإقليمي لم تحظ بالاهتمام الكافي. ويضيف قائلا إن أشكالا معينة من الإدارة الذاتية للصالح العام من الممكن إدخالها لتسهيل حماية حقوق الأشخاص الذين ينتمون إلى الأقليات وتعزيزها، وكذلك هويتهم وثقافتهم. وهذا الأمر له صلة عادة بالتربية والتعليم، وبالثقافة، وباستخدام لغة الأقلية، وبالدين، وباستخدام الرموز والأشكال الأخرى للتعبير الثقافي. وبالسماح للأقليات بأن يكون لها درجة معينة من التحكم بالشؤون التي تؤثر فيها بصورة مباشرة، ستصبح هذه الأقليات قادرة على حماية مصالحها وهوياتها، وتعزيزها من دون أن تعرض استقرار الدولة التي تعيش في كنفها وسيادتها للخطر. وفي نظر السيد فان ديرستويل، إن المفهوم الذي يسمى تقرير المصير الذاتي من الداخل (Inte r nal Self-dete r mination) يمكن أن يوازن بين مفاهيم تبدو متضادة، وهي تقرير المصير الذاتي والمحافظة على الحدود. كما أن إيلاء اهتمام أكبر لهذه القضايا في صنع السياسة لدى الدول سيقلل من التوترات العرقية البينية؛ إضافة إلى أنه سيبني مجتمعات متكاملة تؤلف أساسا للدول القوية.
إن القمة العالمية للتنمية الاجتماعية (WSSD) التي نظمتها الأمم المتحدة في كوبنهاغن عام 1995م قدمت إجماعا جديدا على ضرورة وضع البشر محورا للتنمية. ومن بين هذه الالتزامات: محو الفقر المطلق، وإنجاز العمالة التامة كهدف أساسي للسياسة، وتعزيز التكامل الاجتماعي القائم على تدعيم حقوق الإنسان وحمايتها، والمساواة والإنصاف بين النساء والرجال، وتنمية أقل البلدان نموا (The least developed): التنمية الاجتماعية، وإمكانية الحصول على التعليم والرعاية الصحية الأساسية. كما أن منتدى المنظمات غير الحكومية (NGO Fo r um)، الذي عقد في وقت متزامن مع هذه القمة، خلص إلى أن جميع المشاركين لديهم رؤية مشتركة لعالم يقر بوحدته الأساسية والاعتماد المتبادل بين أجزائه، فيما يقوم باحتضان كامل للتنوع البشري؛ بكل مظاهره الدينية والثقافية والإثنية والعرقية؛ حيث يكون للعدالة والإنصاف بين جميع سكانه الأولوية القصوى في كل المحاولات والمشروعات، وحيث يتم التمسك كليا بمبادئ الديمقراطية والمشاركة الشعبية؛ حتى يصبح بناء حضارة مسالمة ومتعاونة فيما بينها ومستدامة، وهي التي طالما تمنيناها وحلمنا بها، أمرا ممكنا بعد طول انتظار.(62/164)
لقد حذر الأمين العام للأمم المتحدة من أن العولمة يجب أن تعني أكثر من استحداث أسواق كبيرة. والحق أن الإعلان الذي اعتمده اجتماع الألفية (Assembly Millennium) مؤخرا يجدد تأكيد الصلة بين جهودنا لإزالة الفقر وتحقيق التنمية البشرية، من جهة، وإنشاء نظام تجاري ومالي متعدد الأطراف، مفتوح قائم على تطبيق القواعد والأنظمة، ويمكن التنبؤ به، ولا تمييز فيه، من جهة أخرى. إذن نحن بحاجة إلى ما وصفه مؤخرا السفير الإيطالي ديني (Dini) بنظام عالمي للسلوكيات والعادات والأخلاق (Wo r ld Ethic) لتوجيه العولمة. وعند إمعان النظر في هذا النظام الأخلاقي العالمي يتبين لنا أن القيم ليست حكرا على منطقة واحدة من مناطق العالم. فجميع الشعوب لديها ما تساهم به في هذه الأخلاقيات (Global Ethic).
إن إمكانية تحقيق مثل هذه الأخلاقيات العالمية متأصلة في إنسانيتنا المشتركة والقيم التي تشترك فيها دياناتنا: كتجنب إلحاق الأذى بالآخرين، والعطف، ومحبة الجار. فإذا أضفنا إليها تلك القيم التي تقوم عليها حقوق الإنسان: كالإقرار بالمساواة، والكرامة، والقيمة الإنسانية، والاحترام المتبادل، والتسامح، والعدالة، تجمعت لدينا أسس متينة لتلك الأخلاقيات ترتكز على توجه احتوائي (Inclusive App r oach)، يضم إليه النساء والرجال في شراكة متكافئة، وينصت إلى أصوات الشباب وفئات أخرى طال تجاهلها. ولا بد من التأكيد على ضرورة حدوث نقلة نموذجية (Pa r adigmatic Shift). كما أننا بحاجة إلى رؤية جديدة: رؤية تضرب بجذورها في أرض التواضع والاعتدال ونقد الذات: رؤية ترنو إلى عالم أفضل يستند إلى الاحترام المتبادل، والتسامح، والعطف، والتضامن الإنساني. فنحن بحاجة إلى وضع دستور للسلوك الإنساني، يحدد العلاقات المهنية والشخصية بين الأفراد، ويدعو الحكام والحكومات على حد سواء لأن يجعلوا احترام حقوق الإنسان والمبادئ الإنسانية في صلب سياستهم وأفعالهم.
إن وجود أخلاقيات عالمية قوية لدعم الإرادة السياسية أمر ضروري لضمان قيام المجتمع الدولي باتخاذ إجراء فوري للتصدي للجريمة والاغتصاب والإبادة العرقية، وغيرهما من الفظائع، وحتى نضمن تقديم مرتكبيها - فردا فردا - إلى العدالة. وعلينا أن نعزز بشكل أكبر التضامن الدولي القائم على إنسانيتنا المشتركة، باعتبارها العروة الوثقى بين جميع الشعوب.
الإسلام والعولمة.. التكامل على صعيد القيم
ضمن السياق الإسلامي، تجد العولمة وقد حررت من هياكلها العصرية الضيقة، وأعطيت بدلا من ذلك بعدا روحيا وأخلاقيا. فالتكامل العالمي في الإسلام ليس عملية استيعاب سائبة، ويجب أن لا يكون كذلك مهما اختلف السياق؛ بل هو حركة مسؤولة تتجه نحو الإقرار بما يوحد الإنسانية من حيث اهتماماتنا كبشر؛ ومن ثم يسمح للإنسانية باستنباط أساليب لإعادة تقويم أولوياتنا، والعمل في سبيل الصالح العام الأكبر، وبناء نماذج جديدة للعمل الإيجابي، والتحلي بالمسؤولية في علاقاتنا (في أي حقل كان). وما دام الوضع كذلك، لم تعد ثمة حاجة إلى صياغة خطاب إسلامي منفصل للتعامل مع العولمة وآثارها، حسنة كانت أو سيئة، نظرا للطبيعة التكاملية للنظرة الإسلامية. وهكذا نجد أن العولمة قد تحولت إلى أداة للعمل الأخلاقي المسؤول.
بيد أن المجتمعات الإسلامية المعاصرة قد تشكلت، إلى حد كبير، بما ورِثتْه في فترة خضوعها للاستعمار، لذلك فإن تنميتها المقارنة قد تم خنقها، كما هو الحال في كثير من بلدان العالم النامي. وعلينا أن نتفهم ذلك إذا كنا سنستوعب الأثر التفاضلي للعولمة. فالواقع الاجتماعي في هذه المجتمعات، في كثير من الحالات، عبارة عن فقر وأمية أو نقص في الحصول على التعليم، وإبقاء النخبة على الوضع الراهن من خلال الجبروت العسكري وتدهور البيئة، وغياب سيادة القانون والحريات المدنية. أما كيف ستواجه هذه المجتمعات بعناصرها الواسعة الاختلاف، شتى التحديات التي تطرحها العولمة، فهو أمر متروك للزمن. لكن هناك مؤشرات مهمة متوافرة حاليا تمكننا من تفحص فوائد العولمة ومضارها بالنسبة لعالمنا.
منذ فترة تزيد على عشر سنوات، ونحن ندعو لإنشاء صندوق زكاة إسلامي، وأنا أتحدث هنا عن أهمية تقديم المساعدة للآخرين، ربما عن طريق فيلق سلام إسلامي يتألف من أطباء وجرّاحين وعمال اجتماعيين. قد تكون هذه طريقة لنقول فيها للعالم إن الإسلام ليس انطوائيًّا أو متقوقعا، كما أنه ليس إقصائيًّا: بل يشترك مع بقية الإنسانية في القيم الأخلاقية. لقد قيل إنه لا يمكن أن تقوم ديمقراطية عالمية من دون أن يكون هناك، من حيث الأساس، أخلاقيات عالمية تشكل المسعى والمبتغى: أخلاقيات تميز بين السياسة Politics والسياسات Policies بين الشعارات والجوهر، وأعتقد أننا في كثير من الأحيان -عند استجاباتنا الدولية لأمراض هذا العصر- أسأنا التشخيص، أو ربما أسأنا تفسير التحديات التي تطرحها حالات التباين واللامساواة.(62/165)
إن العولمة ليست مجرد فكرة يمكن قبولها أو رفضها، بل هي حقيقة واقعة. والوقائع لا بد من إداراتها بأسلوب براغماتي مع توفر رؤية ضابطة. ففي المقام الأول، علينا أن نقوم بتوسيع مفهوم الإنسانية (Humanita r ianism) كما جرى تفصيله في تقرير اللجنة المستقلة الخاصة بالقضايا الإنسانية الدولية التي كان لي شرف المشاركة في رئاستها مع الأمير صدر الدين أغا خان. إن الفكر الإنساني يتوجه أساسا نحو مصالح الناس ورفاهيتهم، ويشمل الإنسانية وحقوق الإنسان سواء بسواء، متعديا حدود القانون الإنساني الحالي، ويرتكز على أخلاقية التضامن الإنساني. كما أن تعزيز تعددية الأطراف، وهو المبدأ الذي تقوم عليه الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية، هو أمر واجب أيضا. وفي هذا السياق، فقد نلت شرف إدخال القرار المتعلق بالنظام الإنساني الدولي الجديد، الذي تم اعتماده من دون تصويت، من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 كانون الأول / ديسمبر 1987م.
إضافة إلى ذلك، يقتضي الأمر وجود ثقافة للسلام تستخدم طرقا براغماتية وفاعلة للقضاء على التنازع وإعطاء الناس دليلا ملموسا على إمكانية تطبيق السلام. قد يتذكر المرء الدعوة إلى السلام التي صدرت عن محكمة لاهاي (Hague) عام 1999م، والتي كرست لنزع الشرعية من الحرب، والسعي للتركيز من جديد على رؤية عالمية تعد النزاعات العنيفة غير شرعية، وغير قانونية، وغير عادلة من حيث الأساس. ومع أن الاتفاقات والمعاهدات عدت لأمد طويل أدوات ضرورية لتنظيم سلوك الدول، فإن اهتماما دون ذلك بكثير قد أعطي إلى توجه أشمل يتولى الأفراد: أي مواطني هذه الدولة ذاتها. وأحد المكونات الحيوية لهذا التوجه يستدعي إعادة النظر في المعنى المتعارف عليه لمصطلح الأمن، فيجب أن لا يقتصر معنى الأمن على تعريفه العسكري؛ لأن الأمن الاجتماعي والأمن الاقتصادي هما أيضا من متطلبات الاستقرار. وجميع الناس لهم الحق في حياة كريمة خالية من الرعب واليأس.
وهكذا يجب تشجيع الدول على احترام حقوق الإنسان الأساسية وتطبيقها إذا أريد لمواطنيها تجنب الاضطهاد السياسي، والأيديولوجي أو أي شكل آخر من أشكال الاستغلال.
لكن بالقدر نفسه من الأهمية، يجب القيام بمبادرة عالمية تستخدم جميع الموارد التي يمكن تصورها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية، لتحسين الأوضاع المحلية وتقديم سيناريوهات للمصالحة.
والمعرضون للخطر بصورة خاصة هم الشباب الذين يشكلون حاليا غالبية سكان العالم النامي. والإقرار بهذا الأمر هو ما يهيئ لنا نقطة انطلاق ممكنة؛ ألا وهي تعزيز ثقافة عالمية للسلام بين الشباب. وإذا أمكن لثقافة السلام أن تصبح طريقة للعيش تتغلغل في شتى مناحي حياتهم فستمثل استثمارا عالي المردود في مستقبلنا المشترك.
لا بد لنا من الحديث عن مفهوم جديد ـ دستور للسلوك ـ لا يقوم على العقلانية والطريقة العلمية فحسب، وإنما يجب أن يراعي أيضا أهمية القيم. لقد تكلم السيد كوفي أنان، الأمين العام للأمم المتحدة، عن ضرورة حقن الأخلاق ـ نظام للسلوكيات الأخلاقية الروحية ـ في الأمم المتحدة والهيئات العالمية. إن مثل هذا الدستور المقترح، وهو نتاج سنوات طويلة من الحوار بين أتباع الأديان التوحيدية الثلاثة، ما فتئ يتطور بعيدا عن الأنظار. فهو يوضح الحقوق والواجبات، ويحثنا على الابتداء بما هو مشترك، ويحتضن مبدأي عدم الإكراه والتدفق الحر للمعلومات. وهو يدعو كذلك إلى تطوير إطار للاختلاف في الرأي، وقبول المسئولية عن الأقوال والأفعال على جميع الصعد، كما أنه يؤكد الرابطة بين اللاهوت والمنحى العلمي.
إن التضامن الإنساني يتطلب التقاء شتى الثقافات في نطاق الحضارة الإنسانية؛ كي تتفاعل من دون أن تتصادم، ويُغني بعضها بعضا. فلا توجد ثقافة منغلقة على نفسها بطبيعتها، أو ميَّالة نحو العنف. غير أن الثقافات التي تشعر بأنها مهددة قد تلجأ إلى الدفاع عن نفسها حين تُوصَد الأبواب في وجهها؛ مواجهة بذلك الإقصاء برفض مضاد.
إن دستورا للسلوك من شأنه أن يعنى بالكرامة الإنسانية. ومع أن البعض قد يجادل بأن الكرامة الإنسانية مفهوم مجرد، فإنها حقيقة وواقع من حيث ضرورة الإقرار بالبعد الإنساني، الذي هو بعد فوق قطري، مقابل ما هو ثنائي القومية. ويجب أن يشمل هذا الدستور قوي التغيير: الأمم الجديدة، وحركات الشعوب، والنساء، والشباب. كما يتحتم أن يركز على المجموعات الأكثر هشاشة بيننا، فعليه أن يستمع إلى أولئك الذين شهدوا التعذيب، والاقتلاع من الجذور (التشريد والنزوح، وما شابه)، والإهمال. كذلك يجب أن يستمر في تأكيد السلطة الأخلاقية، مهما بلغت أهمية القوة السياسية.(62/166)
والعالم الْمُعَوْلَم يحتاج إلى أخلاقيات عالمية. فعلى حد قول المجلس العالمي للكنائس، والمئات المئات من الاجتماعات حول هذا الموضوع ـ موضوع تحسين الحوار وتعميقه بين أتباع الأديان: "نحن نشترك في الأمور الآتية: أهمية منح الفقراء نفوذا، وتطوير المجتمع الأهلي؛ وبعبارة أخرى: السياسة من أجل الناس أو السياسة البشرية، وإدارة الصالح العام عالميا، لكن بوجه إنساني مؤكد".
لماذا الدعوة لنموذج "جديد" للعلاقات العالمية؟
والأصوات المتعقلة التي تتعالى الآن تطالبنا بأن نقوم ببناء نموذج جديد للعلاقات العالمية. إذا نفترض أن النموذج القديم السائد قد انقرض بسبب من سياسة القوة والسياسة الواقعية ( r ealpolitik)؛ ذلك أن النموذج القديم يرى التنوع على أنه تهديد، ويقترح أن الأمم المتحدة يجب أن ترتكز على عقد اجتماعي عالمي جديد؛ بحيث تكون العالمية سمة متأصلة في الأمم المتحدة، بمعنى احترام الفردية.
ويتساءل المرء، عند تثبيت حقوق الإنسان على أنها ملزمة قانونيًّا، إذا كان من الضروري النظر ليس فقط في التفاعل التاريخي بين الأديان والتوجهات الفكرية والتطورات الفلسفية، وإنما أن يؤخذ بالحسبان أيضًا العوامل الاجتماعية الاقتصادية. ويدل على ذلك تاريخ لجنة الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الإنسان لعام 1966م، إذ نجد المواجهة مع التقاليد الفكرية الفردية للمفاهيم الكلاسيكية لحقوق الإنسان مجسدة في كل من الميثاق الاجتماعي والميثاق المدني، أو العقدين الاجتماعي والمدني اللذين نظما القواعد المتعلقة بالمصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. إن الظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية تمثل عوامل تؤثر بشكل حاسم في تنفيذ حقوق الإنسان الاجتماعية.
ويمكن القول: إن هناك ثلاثة أشكال من الخوف: الخوف من الآخر، والخوف ممن هو من جنسنا نحن، والخوف من الإعلان عن عقد اتفاقات. فهل من الممكن، أو من المتصور، أن تصافح عدوًا؟ هل سنخضع للرقابة إذا تصافحنا أو تبادلنا الآراء؟ كيف نستطيع أن نعلن للعالم عن مشاعرنا بأننا ملتزمون بالسلام؟ فربما نحن نخشى السلام.
وإذ نحن في معرض الحديث عن الإساءات والإعانات التي حملها القرن الماضي، علينا أن نتذكر أن النماذج لم تكن كلها سيئة. بالتأكيد كانت هناك نماذج داخل نماذج أخرى، كثير منها جرى استحداثه أو بناؤه في مجال المجتمع الأهلي، حيث بذل جهدٌ واعٍ لتحسين العلاقات العالمية، وفتح طرق للتفاهم والحوار فيما بين الأديان، والثقافات، والأمم، والأعراق، والطوائف، على مستوى القواعد الشعبية.
إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قدَّم لنا عددًا من النماذج ضمن لائحة البنود المدرجة فيه. فالبند الأول ينص على أن: "جميع البشر ولدوا أحرارًا ومتساوين من حيث الكرامة والحقوق". ويمكننا أن نجد أصداء لهذا البند في صياغات مبكرة، مثل إعلان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن المساواة واستنكاره للتقسيمات القائمة على فكرة الأعراق أو الأجناس. فمقولة: لقد ولدنا جميعًا أحرارًا ومتساوين في الكرامة والقيمة ليست قولاً مقيتًا أو نابيًا على أسماع المسلمين، بل هي عنصر أصيل في بنية ثقافتهم.
وحين كُتِبَت مسودة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م، رفضت النسبية الأخلاقية والثقافية بشكل حازم. فاستنادًا إلى التوجه النسبي، من الضروري التسامح والقبول بالأفكار الأخرى على قدم المساواة، حتى أكثرها انحرافًا وتشوهًا، فيما يخص حرية الإنسان وكرامته: أي حتى تلك الأفكار التي تنطوي على التحقير والعبودية. لكن هذا الأمر غير مقبول. فالمطلوب توفر أساس أخلاقي وقانوني، مقبول لدى الجميع لتكريس ميثاق حقوق الإنسان هدفًا عالميًا. إن هذا البحث عن المثل الأعلى المشترك المذكور في ميثاق الأمم المتحدة، الذي ينبثق عنه ذلك التنوع الثقافي لحقوق الإنسان، يصبح أداة للتوسط بين التفسير الفردي والجماعي لحقوق الإنسان. ومما هو راسخ في الحقوق الثابتة والأصلية التي يحتويها الميثاق العالمي يمكن أن نقوم نحن بتطوير أنماط أو نماذج فرعية، إن شئتم، لتعزيز التواصل والتعاون على مستوى القواعد الشعبية وداخل البلدان نفسها.
لقد كانت هناك بالتأكيد محاولات في الماضي لبناء نماذج جديدة، قام بها رجال دولة لاحتياجات إنسانية لدى الآخرين. فلوعُدنا إلى الوراء، إلى وقت مبكر، ووقفنا عند فترة الثمانمائة عام من الوجود العربي الإسلامي في إسبانيا، لوجدنا أن هناك فترات طويلة من التعايش السلمي بين الطوائف والجماعات كافة. فقد كان للمسيحيين ولليهود على حد سواء حضور في المناطق العربية الإسلامية؛ حتى إن فترات السلام والاستقرار امتدت زمنًا طويلاً كافيًا لنمو ثقافة عربية إيبرية جديدة وازدهارها. إن الأندلس التي تحقق فيها هذا التجديد الثقافي تبقى في أذهاننا نموذجًا مثاليًا للحوار بين الحضارات.
مراحل الثقافة العالمية والدعوة للتجديد الثقافي(62/167)
إن عالم اليوم أخذ يصبح، بشكل متزايد، أكثر ترابطًا واعتمادًا في ما بين أجزائه؛ حتى إن الحدود أضحت لا معنى لها. لكننا نسري نحو عالم واحد له جدول عمل واحد. ولو أن إحدى الثقافات انفردت بنفسها، وأملت شروط المرجعية على جدول الأعمال هذا، فإن صوغ نظام قيمي وفق هذه الثقافة وحدها سيؤدي إلى إقصاء الثقافات الأخرى، وإلى الظلم والتهميش؛ وبالتالي إلى النزاع والحروب. إن الحوار المفيد المثمر يحب أن يقوم على توجه لا إقصائي بالنسبة لجميع مكوناته. فالإسلام هو استمرار للحقيقة التي جاءت من خلال فترات سابقة من الوحي. والإسلام ينص على أنه "لا إكراه في الدين" (سورة البقرة: الآية 256). كما يخاطب الآخرين من غير المؤمنين، قائلاً: "قل يا أيها الكافرون لا أعبدُ ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين" (سورة الكافرون: الآيات 1- 6).
فلا بد من تكثيف الحوار بين الأديان، مع التركيز على طبيعة الدين، بدلا من العقيدة اللاهوتية. كما يجب إيجاد توجه قابل للتطبيق للتصدي للآثار السلبية الناجمة عن تدهور الاعتقاد الديني، متبعين في ذلك طريقة القياس بدلاً من المقارنة. أما الهدف فيجب أن يكون تسليط الضوء على أهمية القيم الروحية والأخلاقية التي يحتويها تراثنا الديني المشترك. غير أن مفتاح تحسين العلاقات بين الأديان، على المدى البعيد، يكمن في استحداث ثقافة سياسية واجتماعية تتمتع بالثراء الناتج عن التنوع. ولا بد من معالجة عدم التسامح عن طريق إدخال دستور إنساني للأخلاق في هذا العالم الذي نتقاسم العيش فيه.
لقد أحزنني كمسلم أن أرى التدمير كيفما اتفق لأماكن العبادة لدى البوذيين في أفغانستان. وأحزنني أكثر أن الأرض الوسط (Te r صلى الله عليه وسلم a media)، التي وجدت على مدى قرون بين الأديان، يجري تناولها بمرجعية سياسية. وكنت أفضل لو أن مسلمين قد طُلِبَ إليهم التوجه إلى أفغانستان لتمثيل الأمم المتحدة؛ ذلك أن هناك تقاربًا ثقافيًا بينهم وبين حركة طالبان، ويمكنهم أن يقولوا لطالبان: إن ما تقومون به شيء غير معقول ويجافي الحق والإنصاف، ولا يقبله المسلمون. غير أنه لا يمكننا السماح باستمرار هذا التدهور، وإلا فإن الأرض الوسط سيقضى عليها. كما أننا لا نستطيع الاستمرار في الادعاء بأننا معتدلون ونتبنى الوسط، إذا لم نكن ديناميين لتعزيز ذلك الاعتدال وتلك المنزلة الوسط. فإذا لم نكن ديناميين، وإذا لم ننهض بأنفسنا، وإذا بقينا هكذا لا يُحسب لنا حساب، فإن تلك المكانة الوسط ستضمحل وسيملؤها المتطرفون من كل فج وصوب بشعارات الكره والمواجهة.
إن أنواع الرُّهاب المختلفة: كرُهاب الإسلام أو معاداة المسلمين، ورُهاب السامية أو معاداتها، والعنصرية أو التمييز العنصري، والفصل العنصري، هي، بحُكم تعريفها، مخاوف لا عقلانية ومبالغ فيها. وإذ نحضر للمؤتمر العالمي لمناهضة العنصرية، فإن الوقت يبدو مناسبًا -في سياق عملية الحوار بين الحضارات - لاستكشاف الروابط بين العنصرية والتمييز الثقافي والعرقي والديني؛ كي نفهم؛ ومن ثم نتحدى إمكانية التدمير الكامنة في رُهاب الإسلام وغيره من أشكال عدم التسامح والتمييز العنصري والديني. فمن الضروري كسر الحلقة المفرغة إذا أردنا تحقيق مستقبل أكثر إشراقًا وانسجامًا للبشرية. وباللغة العملية، يمكن للمرء أن يفكر فيما قامت به الرابطة البرلمانية الدولية من صوغ لدستور أخلاقي للسلوك المضاد للسامية، علنا نتوصل إلى إجراء مشابه مناهض لرُهاب الإسلام.
قبل سنوات معدودة، وصفت لجنة رانيميد ( r unnymede Commission) في المملكة المتحدة رُهاب الإسلام - باضطراب - بأنه: ينطوي على عداء سافر، يكاد يصل إلى حد الاحتقار للمبادئ التي يعتز بها المسلمون أكثر ما يعتزون فيما يخص الحياة الإسلامية والفكر الإسلامي، بالغًا درجة تتفجر فيها الكراهية، وكأنها سيل عارم أو نزف حاد، في وسائل الإعلام الغربية التي تصور الإسلام بعدم التسامح مع التنوع، وأنه يسير على وتيرة واحدة، ويروج للحرب، ويتهالك عليها. وتمضي فتقول: إن رهاب الإسلام يعد تحديًا لا للمسلمين في الغرب وحسب، وإنما أيضًا لكل المفكرين الذين يحاولون التعامل مع المشكلات المعقدة ذات الصلة بالاحتكاك الحضاري والنزاع.
إن الكراهية حزام غير صحي ودرع غير واق. ومثل هذه الكراهية المستعمرة كالغشاوة تُعمي أبصارنا عن إنسانية الآخر، وتحط من شأننا أمام الله والبشرية جمعاء. إن التعليم، كما أعتقد، قد يكون المفتاح لحل كثير من مشكلاتنا:
- امنع الناس من التعليم، تكن قد حرمتهم من حريات أساسية دعت إليها وأيدتها التقاليد الدينية منذ فجر الإنسانية.
- احجب التعليم عن الناس، تُفسح المجال لتسرب التطرف والتعسف والتحامل؛ وهذه الأمور هي العدو الطبيعي للسلام والمساواة والإنصاف والتنمية.
- احرم الناس من التعليم تعرض نفسك للإساءات والإهانات؛ سواء أكنت في مجموعة فعلى يد أفراد لا يعرفون الرحمة، أو كنت فردًا فعلى يد مجموعة متزمتة لعقيدتها.(62/168)
- أوصد باب التعليم في وجه الناس، تكن قد مهدت السبل لحدوث ممارسات مقيتة لا تجد من ينتقدها؛ لا بل إنها تحدث أحيانًا تحت شعار التقاليد أو الدين.
عند تقديم إجابات للسؤال عن كيفية بنائنا - كإنسانية مشتركة؛ ككائن واحد - نموذجًا جديدًا للعلاقات العالمية. علينا أن نسأل أنفسنا أولا بعض الأسئلة البسيطة: يا ترى ماذا حدث للتسامح؟ وماذا حل لدعوتنا المُلحة لتجنب الأزمات؟ ماذا حدث للإيمان السليم والنية الحسنة؟ وماذا أصاب قدرتنا على المكافحة الفاعلة لكل ما نعرف أنه مقيت استنادًا إلى إنسانيتنا المشتركة؟
* قدمت هذه الورقة أمام مؤتمر المشاهير، بدبلن - إيرلندا، والذي عُقد في 30 - 31 آيار / مايو 2001م. والورقة مترجمة عن الأصل الإنجليزي.
===============(62/169)
(62/170)
الغرب والشريعة الإسلامية .. التأثير والتأثر
لماذا هذا الموضوع: بحث في الأهمية
د. أحمد محمود الخولي - عضو هيئة تدريس جامعة القاهرة
كلية دار العلوم - قسم شريعة
…
اصطدم حوار الحضارات برفض الغرب الإقرار بالفضل الحضاري للمسلمين، ونشب خلاف عميق احتاج الجميع حسمه لاستئناف الحوار... كيف حسمه المسلمون... وتظهر أهمية الكتابة تحت هذا العنوان من خلال ما سنوضحه في المدخلين التاليين: الموضوعي والتاريخي:
أما المدخل الموضوعي: فأقصد بالموضوعية هنا اتصال هذا المدخل بمضمون هذا الموضوع، وهذا المدخل يتمثل في تلك المقولات الغربية المفضوحة الزيف، والتي تقطر حقداً على الحضارة الإسلامية التي قدمت النور إلى العالم، خاصة في جانبها التشريعي وأحكامها الراقية، هذه المقولات التي اجتمع عليها أمثال جولدزير، وفون كريمر، وسانتيلانا، وكاروزي، وشيلدون آموس، والتي تمس مباشرة الشريعة الإسلامية، حيث يقولون: "إن الشرع المحمدي ليس إلا القانون الروماني للإمبراطورية الشرقية معدلاً وفق الأحوال السياسية في الممتلكات العربية"، أو في قولهم: "العرب (ويقصدون المسلمين) لم يضيفوا إلى القانون الروماني سوى بعض أخطاء"، أو في قولهم: "القانون المحمدي ليس سوى قانون جستينيان (آخر مرحلة في تطور القانون الروماني) في لباس العرب".
وهذه المقولات الحاقدة تمثل قلب المعركة التي تواجهها أمتنا الإسلامية منذ أكثر من قرنين من الزمان، والتي احتدم أوارها في العقود الخمسة الأخيرة، ألا وهي معركة بقاء (الهوية الإسلامية) للأمة، فالمتأمل في حال عالمنا الإسلامي يلحظ المحاولات العنيفة من قبل الغرب ومن عاونهم لمسخ شخصية أمتنا وإفقادها ذاتيتها وخصائصها ومرجعيتها، ولمحاولة طمس صبغة الله في تكويننا الحضاري "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون" (سورة البقرة، الآية: 138).
ومن ثم وجب تحرير مواطن أصالة الذات وخصائصها، واستقلالية الشخصية وملامحها، خاصة في جانبها التشريعي؛ لأنه من الملاحظ أن النتاج الثقافي هو أشد الميادين تأثراً بتلك المعركة، حيث زحفت عوامل الهدم لتصيب الآداب والفنون، بل وانسحبت تدريجيًا إلى العادات والتقاليد التي اتسمت إلى حد كبير، ولو من الناحية الشكلية بالإسلام.
وقد عاون على استمرار هذا الانهيار الحضاري والثقافي أنه تزامن مع وجود قدر ليس بالقليل من الجمود في عقول من كان يجب أن يضطلعوا بواجب الدفاع عن شخصية الأمة؛ فاهتزت المرجعية وظهرت التيارات الفكرية الغربية في نهر ثقافتنا، ولم يصمد أمام تيار الذوبان والتغريب إلا هذا البناء التشريعي الضخم، الذي جعل أحد أبرز المستشرقين من غير المحايدين يقول: "إن الشريعة الإسلامية هي أبرز مظهر يميز أسلوب الحياة الإسلامية، وهى لب الإسلام ولبابه". وحتى يومنا هذا نجد أن الشريعة بما تتضمنه من موضوعات قانونية ( Legal Subject - Matte r ) (بالمعنى المحدود) ما تزال تكون عنصراً هامًا، إن لم يكن أهم عنصر في الصراع القائم في عالم الإسلام اليوم بين الاتجاه التقليدي الذي يستمسك بالتراث الماضي (T r aditionalism)، واتجاه التجديد (Mode r nism) الناتج عن تأثير الآراء الغربية"(1).
وهذا ما قرره كثير من علماء المسلمين، منهم الذي يقول: "ولكنك لا تجد أي أثر من آثار المدارس الفقهية الأجنبية في الفقه الإسلامي، سواء منه ما يتعلق بالعبادات أو ما يتعلق بالمعاملات وغيرها من أبواب الشريعة.. فإذا أردنا أن نعيد بناء الفكر الإسلامي على حقيقته، فما علينا إلا أن ندرس الفقه الإسلامي ، ونعمل على تطبيقه في محاكمنا ومعاملاتنا.."(2).
وأما السياق التاريخي : فهو ذلك التيار الذي نلاحظه الآن في حركة التسارع من كثير من المؤسسات الغربية والإسلامية لإقامة مؤتمرات وندوات تحت ما يُسمى (حوار الحضارات)، هذا الحوار الذي يفرض علينا معرفة حدود ما لنا من إسهامات في بناء هذه الحضارات، ويؤكد أهمية دراسة خصائص كل حضارة مقارنة بالحضارة الأخرى في إطار التأثير والتأثر الشرعيين؛ لتقف تلك الدراسات حجر عثرة أمام ما أسماه بعضهم بصدام الحضارات، تلك الفكرة التي تنتظم في جوهرها عدم اعتراف بالآخر ومن ثم جواز إبادته وإفنائه.
وأرى أنه يجب - قبل الخوض في أي بحث عن التأثيرات الحضارية من أي جانب من جوانبها - أن يؤخذ في الاعتبار عدد من المنطلقات المنهجية التي يجب أن يتحرك في ضوئها البحث ضبطا للمقدمات والنتائج معًا، وهو ما سنتعرض له في الأوراق القادمة.
===============(62/171)
(62/172)
المنطلق الأول: عالمية البناء الحضاري
استئناف حوار الحضارات رهن بحل تلك المعضلة
إن البناء المعرفي والحضاري للبشرية جمعاء له صفة الإنسانية، فكل الأمم قد أسهمت فيه بنصيب ما؛ ولذا فالرؤية الإسلامية تقضي بأن الأمم كلها عبارة عن قطار بشري واحد، تخلف سياراته بعضها البعض، ويتسلم قيادها في كل عصر من الأعصار إحدى هذه الأمم التي استجمعت أسباب القيادة مادية كانت أو معنوية.
ولعل هذا المعنى واضح في مثل قوله تعالى: "إني جاعل في الأرض خليفة" (سورة البقرة، الآية: 30)، قال المفسرون: "أي آدم وذريته يخلف بعضهم بعضا في عمارة الأرض"، وقوله تعالى: "وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم .." (سورة فاطر، الآية: 39): أي خلفاء الأمم الماضية والقرون السالفة، خلفتموهم في عمران الأرض.
ويمكن القول بأن المتحكم الأساس في حركة الأمم هو دوران السنن الإلهية كونية كانت أو شرعية، كما أن الأمم القائدة تحمل كبر ما تقود به بقية الأمم من قيم ومفاهيم، فعلى حسب هذه القيم وتلكم المفاهيم تقترب البشرية من جادة الطريق وسواء الصراط أو تبتعد.
وجدير هنا أن نشير إلى خسران الأمم كلها قيادة المسلمين للعالم، فما قدمت حضارة قط للبشرية مثل ما قدمت حضارة الإسلام من توازن في كل شيء، بين الوحي والعقل، وبين الحقيقة والشريعة، وبين العلم الديني والتجريبي، وبين العلم والعمل، وبين الإنسان وموقعه في الكون، وبين الإنسان وأخيه الإنسان.
ولذلك وجب رفض ادعاء بعض الغربيين القائل بأن حضارتهم هي أم الحضارات، وجذورها اليونانية والإغريقية هي التي أمدت كل الحضارات بالنور الذي أضاء لها الطريق، وكذا رفض ما يزعمون من أن حضارتهم القديمة - حتى بعد موتها واندثارها - هي التي قامت عليها حضارتهم المعاصرة، من دون استمدادها من أي حضارة أخرى.
كل ذلك ادعاء لا يقبل التسليم، وجدير بنا في هذا السياق أن نشير إلى قول أوزوالد شبنجلر الذي يؤكد رفضه هو نفسه لهذا الادعاء بقوله: "إن الرأي القائل بحضارة إنسانية واحدة تسير في خط مستقيم ينقسم إلى عهود قديمة ومتوسطة وحديثة، رأي صادر عن العقلية الأوروبية الغربية المحدودة ضمن أفقها المحدود، والمعجبة بإنجازاتها، والتي تحصر الحضارة في ذاتها، وتنصرف عن الحضارات الأخرى، وتنظر إلى تطورها وكأنه تطور الإنسانية بكاملها وإلى عهودها الحديثة وكأنها أواخر مراحل التقدم أو خاتمتها"(3).
وفي السياق نفسه نرى أنه ليس دقيقًا - بل ليس صادقًا - ما ذهب إليه جارودي من أن الحضارة الغربية، وبخاصة الأوروبي منها وليدة روافد ثلاثة: في المجال الأخلاقي هناك المسيحية، وبخاصة الكاثوليكية، وفي مضمار الحقوق والسياسة والدولة هناك القانون الروماني، وفي حقل الفكر والفنون هناك التقليد الإغريقي(4).
وحقيق بنا إضافة الإسلام بوصفه رافداً أساسيًا استمدت منه الحضارة الغربية الكثير حيث عبر إلى أوروبا - ومن ثم إلى الغرب كله - عن طريق الأندلس وجنوب إيطاليا، وطرق أخرى للاحتكاك بين المسلمين والغرب، وله بصمات واضحة ومضيئة في مضمار الحقوق والسياسة والدولة، بل والفكر بعامة.
ويتبين خطأ الإطلاقات التي تنسب الفضل للحضارة الغربية وحدها من مشاهد كثيرة ، نختار منها مشهدين:
المشهد الأول: شهادات الغربيين أنفسهم على عون الحضارات الأخرى، وبخاصة الإسلامية منها، في بناء حضارة الغرب اليوم، إذ مما لا شك فيه أن شهادات المنصفين من الغربيين للحضارة الإسلامية بالإسهام الأكبر في النهضة الحديثة لأوروبا ومن ثم الغرب كله خير دليل على هذا الإسهام.
يقول بريفولت في كتابه "بناء الإنسانية Making of Humanity"، بالصفحة: 199، وهذه واحدة من شهادات عديدة وكثيرة لا يمكن حصرها: "إن ما يدين به علمنا للعرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة، بل يدين لها بوجوده نفسه، فالعالم القديم - كما رأينا - لم يكن للعلم فيه وجود، وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علومًا أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم، وأخذوها عن سواهم، ولم تتأقلم في يوم من الأيام، فتمتزج امتزاجًا كليًا بالثقافة اليونانية. وقد نظم اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات، ولكن أساليب البحث في دأب وأناة وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها، والمناهج التفصيلية للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة، والبحث التجريبي، كل ذلك كان غريبًا تمامًا عن المزاج اليوناني، ولم يقارب البحث العلمي نشأته في العالم القديم إلا في الإسكندرية في عهدها الهيليني، أما ما ندعوه (العلم) فقد ظهر في أوروبا نتيجة لروح من البحث جديدة، ولطرق من الاستقصاء مستحدثة، بطرق التجربة والمقاييس وتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان. وهذه الروح وتلك المناهج أوصلها العرب إلى العالم الأوربي"(5).(62/173)
ويقول في ص 202: "إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلم العربي والعلوم العربية في مدرسة أكسفورد، على خلفاء معلميه العرب في الأندلس، وليس لروجر بيكون ولا لسميه (يقصد: فرانسيس بيكون) الذي جاء بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي. فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربا المسيحية، وهو لم يمل قط من التصريح بأن تعلم معاصريه للغة العربي وعلوم العرب، هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة. والمناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التجريبي هو طرف من التحريف الهائل لأصول الحضارة الأوربية، وقد كان منهج العرب التجريبي في عصر بيكون قد انتشر انتشارًا واسعًا، وانكب الناس في لهف على تحصيله في ربوع أوربا".
ويقول في ص: 202 أيضًا: "لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية على العالم الحديث، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج، إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في أسبانيا، لم تنهض في عنفوانها إلا بعد مضي وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام، ولم يكن العلم وحده هو الذي أعاد إلى أوروبا الحياة، بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوربية".
المشهد الثاني: النتاج الفكري الحقيقي للحضارة الإسلامية في كثير من جوانب الحضارة، ونركز هنا على النتاج التشريعي، خاصة وهم يزعمون في المقولات التي سقتها في بداية هذا الموضوع وأمثالها أن الشريعة الإسلامية ما هي إلا استمداد كامل من القانون الروماني، فضلاً عن ادعائهم أن الحضارة الغربية استمدت نظمها التشريعية من ذات القانون، وحري بنا أن نتأمل ما يلي:
أ - ابتكار علوم تشريعية (قانونية) لم يعرفها العالم من قبل، ومثالها القانون الدولي الإسلامي:
عاشت البشرية دولاً وجماعات وقامت حضارات وماتت حضارات ولم نر حضارة ما أو دولة ما تبتكر قانونا يحكم علاقات هذه الدول وتلك الحضارات بعضها مع بعض، حتى جاء الإسلام الذي أسس بشريعته قانونًا دوليًا يحكم هذه العلاقات، قائمًا على مبادئ العدالة والمساواة بين بني البشر، وعدم الإكراه في الدين، وعدم التسلط الظالم على شعوب الأرض لاستغلال ثرواتها بالقهر والنهب والهيمنة المتوحشة، وعدم إبادة الآخر.
وجاء محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ أبي حنيفة من علماء القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي، ليضع أول مُؤَلَّف في القانون الدولي، وهو كتابه العظيم الشأن (السير الكبير) ومختصره (السير الصغير)، وتتابعت المصنفات بعد ذلك في هذا الباب، بصورة مستقلة أو ضمن أبواب الفقه التي تعنى بأحكام الجهاد وما يتصل به. وهذا الإسهام يعد مفخرة من مفاخر الفكر التشريعي الإسلامي. وبذلك أسس المسلمون فقه القانون الدولي الذي لم يعرف شبيه له في العلوم القانونية الغربية إلا في مراحل متأخرة من النهضة الغربية، ربما لم تتجاوز القرن الواحد من الزمان من يومنا هذا.
ب - إنشاء النظريات الفقهية الكبرى:
خاصة تلك النظريات الفقهية التي تربط بين الحكم الفقهي (أو ما يسمى لدى علماء القانون: القاعدة القانونية) والقاعدة الأخلاقية. حيث كان القانون الروماني يفصل بين القانون والأخلاق، ويعتبر أن القاعدة القانونية منبتة الصلة بالقاعدة الأخلاقية، ومن ثم قال كثير من شراحهم للقانون ومنهم ريبير: "إن الفقهاء الرومان لا يعرفون القاعدة التي تلزم الشخص باحترام كل ما يتعهد به، ولا القاعدة التي تقضي بضرورة تعادل التزامات الطرفين، ولا يحمون الطرف الضعيف في العقد، ولا يلزمون الشخص بعدم إساءة استعمال حقه، ولا يأخذون بالمبدأ الذي يقضي على كل شخص بضرورة تعويض الغير عما يلحقه به من أضرار، ولا يعرفون واجب مساعدة الغير"(6).
وفي قبالة هذا الظلم البين للمتحاكمين إلى القانون الروماني ظهر في الفقه الإسلامي من النظريات التشريعية المبنية على الأسس الأخلاقية الكريمة، على سبيل المثال لا الحصر: نظرية منع التعسف في استعمال الحق، فليس للجار مثلاً أن يستعمل حقه بحيث يترتب على هذا الاستعمال حدوث ضرر فاحش لجاره، فلا يجوز له مثلا تعلية حائطه إذا كان يترتب على ذلك حجب الضوء عن جاره، ولا فتح مطلات ونوافذ على جاره إذا كان ذلك يؤذي هذا الجار، ومن هذه القواعد القانونية التي راعت جانبًا أخلاقيًا مهما قاعدة رعاية الرفق مع المدين عند الحجز عليه لسداد دينه، فقرر الفقهاء المسلمون أنه إذا كان المالك مدينًا دينًا ثابتًا عليه شرعًا يجوز نزع ملكه الزائد عن حوائجه الضرورية المحتاج إليها في الحال ومنها مسكنه الضروري إذا لم يكن له مال من جنس ما عليه من الدين الشرعي ويباع قضاء إذا امتنع عن بيعه بنفسه لقضاء دينه من ثمنه، ويبدأ في البيع بالأيسر فالأيسر بقدر الدين" (7).(62/174)
أين هذا مما كان عليه الأمر قبل الإسلام، خاصة عند المتحاكمين بالقانون الروماني الذي يزعمون أنه أصل النهضة القانونية الغربية الحديثة، "فقد كان التزام الإنسان لآخر - وفق هذا القانون - فيما سلف من الزمن سببًا كافيًا لأن يبسط ذلك الشخص الآخر سلطانه على جسم الملتزم مباشرة ضمانًا للوفاء بما التزم به وتوثيقًا له، سواء أكان التزامًا بعمل أم بكف عن العمل، وكان له بسبب هذا السلطان أن يتخير عند الامتناع عن الوفاء من وسائل التعذيب ما يراه حاملاً على التنفيذ والوفاء أو على الافتداء بالمال، فإن شاء حبسه، وإن شاء ضربه، حتى إذا يئس من نجاحه بتلك الوسائل كان له أن يسترقه ويبيعه في حقه، بل وأن يقتله في بعض الأحوال"(8).
وقد وضعوا ذلك في قانونهم حيث كان "بموجب عقد القرض القديم كان الدائن الذي لم يستوف حقه يستطيع بعد مهلة مقدارها 30 يوما أن يلجأ إلى إجراءات وضع اليد على المدين، فيأخذ المدين أمام القاضي، فإذا لم يجد من يتعهد عنه ويبرئه يسلم إلى الدائن الذي يحبسه في سجن خاص مدة 60 يوما يعرض خلالها في السوق 3 مرات، فإذا لم يجد من يدفع عنه وانتهت مدة الـ 60 يوما حق للدائن أن يبيعه وراء نهر التيبر أو أن يقتله"(9).
وظل هذا الحكم تعمل به بعض الأقوام في الماضي يبيعون المدين بدينه، إلى أن جاء الإسلام ونسخ هذا الحكم، وأمر بأخذ الدين من المدين الموسر المستطيع للسداد، وإنظار المعسر الذي لا يستطيع السداد، وتقرير عظمة الثواب لهذا الإنظار، وذلك عملا بقوله تعالى: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" (سورة البقرة، الآية: 280).
فإذا أضفت إلى ذلك نظرية الضرورة الشرعية التي يقول عنها القانوني لامبير: "تعبر نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي أشد ما تكون جزمًا وشمولاً عن فكرة يوجد أساسها في القانون الدولي العام في نظرية الظروف المتغيرة، وفي القضاء الإداري الفرنسي في نظرية الظروف الطارئة، وفي القضاء الإنجليزي فيما أدخله من المرونة على نظرية استحالة تنفيذ الالتزام تحت ضغط الظروف الاقتصادية التي نشأت بسبب الحرب، وفي القضاء الدستوري الأمريكي في نظرية الحوادث المفاجئة"(10).
ولو تتبعنا أحكام الفقه الإسلامي ونظرياته الكثيرة؛ لعرفنا كم من النظريات والتشريعات التي أضافها هذا الفقه العظيم للفكر التشريعي بعامة والفكر القانوني الغربي بخاصة.
3 - معركة الحضارة : (61-62)، نقلاً عن كتاب: انحطاط الغرب (The Decline of West ) لمؤلفه الألماني المشهور Oswold Spengle صلى الله عليه وسلم
4 - جارودي: حوار الحضارات منشورات عويدات، بيروت - باريس، ط ثالثة، 1986م، ص17.
5 - نقلاً عن: سيد قطب: الإسلام ومشكلات الحضارة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة العاشرة، 1409هـ = 1989م، ص: 35، 36.
6 - انظر: صوفي أبو طالب: بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، ص: 128.
7 - راجع: قدري باشا: مرشد الحيران، المواد: 57-71، و164.
8 - الحق والذمة: ص82.
9 - الدكتور عبد الودود يحيى: حوالة الدين، ص 34.
10 - نقلاً عن: صوفي أبو طالب: بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني، ص: 131-132.
==============(62/175)
(62/176)
المنطلق الثاني: التسليم بأن الحكمة ضالة المؤمن
الحكمة والتصالح مع منجزات الغرب
إن دراسة التأثيرات الحضارية تثير في النفس حساسية خاصة عند الأخذ أو العطاء، فشعور الدونية عند الأخذ من الآخر (التأثر)، ومعنى الاستعلاء والتكبر يهيج مع العطاء بالآخر (التأثير)، وهذا النوع البغيض من المشاعر تأباه طبيعة الفكر الإسلامي.
- فمن ناحية يرى المسلم أن الحكمة ضالته إن وجدها فهو أحق الناس بها، والإسلام يحرر العقل ويحث على النظر في الكون وتتبع سنن الحياة، ويرحب بالصالح النافع من كل شئ ومن كل أحد، دون حرج في الأخذ والعطاء.
ولقد جاء توجيه الله تعالى بسؤال من يظن أنه ذو علم في مجال ما لمعرفة ما لديه، وإن خالفنا في الدين، يقول تعالى: "فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين" (سورة يونس، الآية: 94). ومثل ذلك قوله تعالى:"واسأل من أرسلنا قبلك من رسولنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون" (سورة الزخرف، الآية: 45)، وقوله تعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" (سورة النحل، الآية: 43).
وشواهد الانتفاع للصالح النافع من النتاج الفكري لأمم أخرى يتضح في مثل موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق، حيث نقل سلمان فكرة الخندقة وهي خطة عسكرية فارسية كان له- بعد الله وفضله - أثر كبير في النصر للمسلمين، وفكرة تدوين الدواوين على عهد عمر - مثلاً - منقولة، ولا غرابة في هذا.
كما أنني ألحظ أن الفقهاء المسلمين منذ وقت مبكر ناقشوا قضية الأخذ بشرع من قبلنا فيما لا حكم لنا فيه وما لم ينسخه ناسخ، واعتمدوا الأخذ به بضوابط، فلا حرج إن كان فيه نفع أن ننتفع به.
- ومن ناحية ثانية يرى المسلم أن مهمته في الحياة نشر الخير في العالمين، ونقل النفع إلى الناس أجمعين، وحمل رسالة النبيين بالهداية والنور إلى كل الخليقة، من غير استعلاء ولا استكبار عند هذا العطاء.
إلا أنه وجب أن نثبت ملاحظات ثلاث مهمة:
- الملاحظة الأولى: أن اختيارات الإنسان ممن يحتك بهم دليل على عقله رجاحة أو وضاعة، وشاهد على قوة بنائه الفكري أو اهترائه، ومن ثم فقد يختار الإنسان ممن حوله ما يكون داعمًا لقوته ومساعدًا له على التقدم والتطور نحو الخير والحق، وكذا الحضارات - كالكائن الحي - اختياراتها دليل على ما فيها من عوامل القوة أو الضعف، ومؤشر للقيم والمفاهيم المؤسسة لهذه الحضارة.
- الملاحظة الثانية: "أن الإنسان قد يستطيع أن يمتلئ من علوم الآخرين، ويبقى مع ذلك غير أهل لأن يفكر بواسطة شخص، أو يوجد شيئا ما، فقد يستطيع أن يكون تلميذًا من غير أن يقدر على أن يكون أستاذًا"(11)، ومن ثم فالأخذ عن الآخر وتطوير ذلك المأخوذ وتفعليه والبناء عليه عبقرية في ذلك، وهو اعتلاء لمنصب الأستاذية بعد درجة التلمذة، وكذا الحضارات العملاقة العظيمة لا تقف عند حضور الأخذ عن الآخر وإن كان صالحًا، وإنما تأخذ لتهضم ما أخذته، وتطبعه بطابعها وتحوله إلى جزء من كيانها وتطوره وتزيده بهاءًا ونضجًا، وهذا الذي فعلته الحضارة الإسلامية في كثير من مجالات الفكر والإبداع.
- الملاحظة الثالثة: أن التسامح في أخذ النافع ونشر الصالح ليس معناه - في منطق التأثيرات الحضارية - التفريط في إثبات هوية الحق والدفاع عن مصدريته؛ ولذا فإن سعة سماحة الإسلام وحياده وموضوعيته هي التي جعلت المسلمين يعترفون بالفضل لأهله، ويدركون في نفس الوقت ما لهم من مواقع أقدام في كل شيء، فيحتفظون لحضارتهم بما لها من أياد على الحضارات الأخرى، من غير استعلاء ولا تكبر ولا فساد في الأرض، مصداقاً لقوله تعالى: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور" (سورة الحج، الآية: 41).
11 - راجع معروف الدواليبي: المدخل إلى علم أصول الفقه، 101 ، طبعة ثانية، 1374هـ = 1955م ، مطبعة الجامعة السورية.
===============(62/177)
(62/178)
المنطلق الثالث: كل حضارة نالها جانب من هداية الله
كل حضارة نالها جانب من هداية الله
إنه لا بد أن نأخذ في الاعتبار، ونحن ندرس التأثيرات الحضارية بصفة عامة والتأثيرات التشريعية بصفة خاصة، أنه لم يخلُ فكر أمة من بقايا من هداية الله تبارك وتعالى. يؤكد هذا ويؤيده قوله تعالى: "وإن من أمة إلا خلا فيها نذير" (سورة فاطر، الآية: 24)، وقوله عز من قائل: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" (سورة الشورى، الآية: 13)، وقوله تعالى: "رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" (سورة البقرة، الآية: 123).
ومن ثم فإن طرفًا من هذه الهداية يظل مؤثرًا بصورة حقيقية في فكر كل أمة، فمهما تنحرف أمة من الأمم عن جادة الهداية، يبقَ طرف منها. وعادة فإن هدايات الله تتشابه بين الأمم، خاصة في جانبي العقيدة والتشريع، فقد يكون من مواطن التشابه بين الحضارات ما كان راجعًا إلى أصل هداية الله وليس إلى جهود البشر. يقول تعالى: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه..." (سورة البقرة، الآية: 213).
ولذا وجب التطامن والتواضع لله تعالى، والتخفف من ادعاء العبقرية الفكرية والتشريعية لأمة ما، فالفضل ظاهر لله تعالى فيما يرسله إلينا من هدايات تترى تأخذ بأيدينا نحو الصواب.
==============(62/179)
(62/180)
المنطلق الرابع: بين الاستسلام للآخر والتأكيد على الذات
هل تختلف شخصيتا الورقة أم تتلاشى إحداهما كاللعبة
إذ كل جانب من جوانب الحضارة مستقل قام بذاته، له أدوات تقويمه والحكم عليه، وله مصادره، وله العلوم الحاكمة له ومناهج البحث فيه، ومن ثم يجب أن تدرس التأثيرات الشرعية - مثلاً - في إطار ما يناسبها من مناهج البحث وقواعد النظر.
على سبيل المثال منهج التطور القانوني المتبع في تحليل المبادئ القانونية الوضعية يظهر لكل ذي عينين عدم مناسبة تطبيقه على كثير من المبادئ الشرعية؛ حيث تعتمد هذه المبادئ في استمداد مشروعيتها على الكتاب والسنة، المصدرين الأساسيين لأي تشريع إسلامي، وما فيهما غير قابل للتغير والتبدل والتطور، ما دام في إطار الأحكام الثابتة التي نص عليها الشارع.
وهنا أثبت الملاحظتين الآتيتين:
أولاً: يجب أن يؤخذ في الاعتبار مدى ارتباط هذا التشريع أو ذاك في أي أمة بحركة المجتمع وما يسود فيه من قيم ومفاهيم، حيث تتضح العلاقة التبادلية بينهما، وفي ضوء ذلك قد يختلط التشريع بحياة الناس ويصبح جزءًا من نسيج المجتمع، ويتحول إلى سلوك اجتماعي متوارث، وينسى التشريع على مدى الأيام، ويبقى أثره سلوكًا متبعًا، ولعل هذا هو الذي حدث بالفعل بانتقال كثير من المفاهيم والأخلاق والقيم الإسلامية إلى الغرب؛ فطبقوها دون نسبتها إلى أصلها التشريعي، وهذا الذي حدا بالشيخ محمد عبده أن يقول عندما زار أوروبا: "وجدت إسلاما بغير مسلمين، وترى بالشرق مسلمين بغير إسلام".
ثانياً: يجب أن تكون المقارنة بين التشريعات المختلفة مركزة على فلسفة التشريع وأصوله ومصادره والقواعد الكلية الضابطة له بدرجة أساسية، ذلك أن دعوى التأثير أو التأثر في مجال التشريعات تكون غير ذات مصداقية إذا ظل التمثيل على هذا أو ذلك بمجموعة من الأمثلة التشريعية الجزئية إذ يسهل على أي باحث منحاز لتشريع ما أن يتلمس عدة أمثلة - والتشريعات واسعة وكثيرة التفاصيل والجزئيات - تدل على سبق تشريعه للتشريعات الأخرى، إذ التشابه في النتاج الإنساني سهل الحصول.
==============(62/181)
(62/182)
المنطلق الخامس: حتمية اتصال الحضارات وتلاقحها
سهلت ثورة الاتصالية تعارف الحضارات
فأما عن حتمية اتصال الحضارات فشيء لا يستطيع إنكاره أحد، بل إن سنة الله جل وعلا في الوجود اقتدت أن يقوم الكون على سنة التدافع. يقول تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" (سورة البقرة، الآية: 251)، ويقول تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا" (سورة الحج، الآية:40).
وأما عن وجوب عدم المغالاة في نتائج الدراسات التأثيرية في بعض جوانب المقارنة فلأنها ليست يقينية، وإنما هي اجتهادات في فهم ظروف الاحتكاك بين الأمم وطبيعة تلاقح المعارف والقيم والمفاهيم. وهذا يقودنا إلى معرفة ما يمكن أن يكون من ثوابت الفكر التي يجب أن نلتزمها، وما يمكن أن يكون من المتغيرات التي تقبل التطوير والتبديل.
ولأن "التشابه في الأحكام القانونية، أو في غير ذلك من النظم المختلفة أمر طبيعي بين الأمم جميعًا، لا فرق بين المسلمين والرومان أو غيرهم من الأمم والشعوب المختلفة، ونجده ماثلاً واضحًا في الفلسفة ومناحي التفكير عامة. لا نستطيع - لمجرد هذا التشابه - الزعم بأن هذه الأمة هي التي أخذت عن تلك وليس العكس، بل قد يكون مرجعه إلى ما نعرف من أن العقل الإنساني السليم يتشابه في كثير من ألوان التفكير، دون حاجة لتفسير هذا الشبه بالأخذ والتقليد، وكل هذه أمور بدهية لا تحتاج في فهمها وتسليمها إلى عناء من التفكير" (12).
ويمكن التعبير عن ذلك بأن التشابه بين نظامين قانونيين في بعض القواعد لا يدل على أن أحدهما قد اشتق من الآخر، ولا على أنه قد تأثر به على وجه اليقين، بل ربما يدل على أن المجتمعين المحكومين بهذين النظامين القانونيين قد وصلا إلى درجة واحدة من المدنية والحضارة (13).
ومن عجب أن الغربيين يستخدمون هذا المبدأ لصالحهم فقط، فإنه إن سبق تشريعنا الإسلامي السماوي - وهو سباق دائمًا لكل خير - تشريعهم الوضعي بصورة جليه قالوا: "إن التشابه محض اتفاق في الاجتماع البشري، وإن بدا تشريعهم الوضعي في جانب من جوانبه متطورًا أكدوا أن الحضارة الغربية هي التي أنتجته من بنات أفكارها وبعرق أبنائها العباقرة في زعمهم.
وأخيراً: فإن قدرًا ليس بالقليل من الثوابت المرجعية تبقى حجر الزاوية في بناء أي حضارة ذات شخصية متماسكة متميزة، لا تستطيع الانخلاع عنها وإن أرادت، فالذوبان في الآخر أو القبول به مستعمرًا على المستوى الحضاري نوع من أنواع انتحار الحضارات بغير دم أو سكين.
=============(62/183)
(62/184)
ما بعد الأحداث.. حوار الحضارات ترف أم ضرورة؟
ثمة مقولة ترى بأن قرب الحضارات من بعضها البعض في العصر الحديث، يجعل الحوار في ما بينها اكثر الحاحا من أي فترة تاريخية مرت بها البشرية. ويبدو ان الحاجة الآن اكثر من اي وقت مضى الى فكر فعال ذي بعد انساني قادر على تجسير المسافات وردم الهوة التي ما لبثت ان تزداد اتساعا بفعل المعطيات والتحولات.
نحن بالتأكيد بأمس الحاجة الى لحظة تأمل واسترخاء، تقوم على القراءة الهادئة العميقة بطريقة موضوعية لا محاباة فيها ولا تجن. ومن الطبيعي ان صفاء الذهن يقود الى رؤية نافذة تتسم بالبحث في العلل والحفر في التراكمات.
اننا نحتاج الى فتح النوافذ لطرد الفاسد من الهواء، ومن ثم علينا ان نحلم بعالم جديد حتى تتحقق ثقافة التسامح وهي ما فتئت ان ترنو الى مناخات التعايش والسلام.
* الحرب النفسية
* فالأحداث الاخيرة وما رافقها واعقبها من افرازات، ساهمت ـ بلا ادنى شك ـ في تهشيم جسد التواصل الانساني، واعاد الى الاذهان اشكالية الصراع بين الحضارات الانسانية، لتفرض نفسها على الساحة وكأنها صيرورة وهي ليست تطورا في الزمن فحسب، بل انها ـ كما يعتقد هيغل ـ قبل كل شيء تطور غير رمني يحدث داخل الاشياء والافكار فيغيرها من حالة فقيرة ومجردة نسبيا الى حالة اكثر غنى وموضوعية.
وعند المحاولة لتحليل او الوقوف على حقيقة العلاقات الانسانية، لا بد لنا من الارتكاز على (الفكر الاجتماعي) الذي يترك بصماته على تركيبة المجتمع (أي مجتمع) كاشفا اطاره واسلوب تفكيره، وهو ما سوف نستعرضه لاحقا.
غير ان من تابع الاعلام الغربي، لا سيما بعد الاعتداءات في نيويورك وواشنطن، يلمس الى اي مدى تم تكريس مفهوم الحرب الفكرية تجاه العرب، وفعلا قد اجاد الاعلام الغربي بمهارة فائقة في تنمية العداء والكراهية للعالمين العربي والاسلامي من قبل الشعوب الغربية، ولعل الاحداث التي تعرض لها بعض العرب في اميركا وبريطانيا دليل قاطع على قدرة الاعلام في التأثير على الفكر الاجتماعي الذي يعتبر مكملا للواقع الاجتماعي. وهذه الحملات (الحرب النفسية) ـ كما تقول احدى الدراسات ـ اكثر خطورة من الحرب التقليدية، وعزت ذلك الى كونها تهدم الشخصية من الداخل، فضلا على انها حملات مُقّنعة فلا تظهر علنية ورأت ان اطلاق هذه الحملات، انما يستهدف النيل من القيم والعقائد، وهز الانسان العربي في شخصيته خاصة في ظل شعوره بالانعزال والخشية من الاهانة من المجتمعات الأخرى.
على أي حال، انا لست من انصار (المؤامرة) غير ان الطرح العلمي يبقى مقبولا اذا ما ارتهن الى الموضوعية، وهو احد عناصره بالطبع، وكنت قد لاحظت ان ثمة نزعة في بعض المقالات الغربية حول تضخيم ظاهرة (الاسلاموفوبيا) وهو الخطر من الدين الاسلامي الذي لوحظ زيادة معتنقيه بشكل لافت للنظر، وفي خضم كل هذا الاحتدام والتحليلات، كان لا بد من قراءة تقوم على التساؤل الذي هو من طبيعة العقل، ومن الطبيعي ان يستند الى الاختلاف والتعددية واحتمالية الخطأ او الصواب لا على اليقينية المطلقة او المعصومية.
وحتى يمكن الوصول الى نتيجة دقيقة او محاولة ذلك على اقل تقدير لا بد من النفاذ الى كوامن الخلاف وفهم حصيلة الصراع السياسي والفكري والعقائدي، رغم اختلاف الميول والطرائق والوسائل ناهيك من تباين المصادر، لكن يفترض الاستناد الى الحكم النيّر، طالما ان الرغبة تنصب في طرح موضوعي محايد، وشتان ما بين المصداقية والافتعال الممجوج.(62/185)
ولتوضيح ما اهدف اليه، اسوق عدة محاور مما يؤدي ـ حتما ـ الى بلورة الصورة بشكل واقعي وسليم، ويرتبط بشكل او بآخر بالموضوع الرئيسي الذي نحن بصدده ألا وهو (حوار الحضارات) ومدى اهميته في الوقت الراهن، وحين يتبادر الى الذهن (صراع الحضارات) لا بد ان نستعرض نظريات (هنتنغتون وفوكوياما) منظري السياسة الاميركية التي ما برحت تشكل النظام العالمي، وهي القوة العظمى الوحيدة. ويبدو ان اهمية تلك الطروحات تأتي في وقت يدخل فيه العالم مرحلة جديدة، لكنها مرتبطة ارتباطا عضويا بما سبقها من احداث وتراكمات مما زاد في تعميق الهوّة بين العالم الاسلامي والغرب وحين المضي الى المزيد من ايضاح الصورة، لا سيما بعد احداث 11 سبتمبر الماضي، فإن المحور الثاني يتعرض الى قصة الارهاب وعلاقة الاسلام بالغرب، والوقوف على مقالات لغربيين رأوا فيها ان (طالبان) نموذج (للوهابية) التي تتبناها السعودية، وهنا بلا شك مغالطة كبيرة، وسوف يتم توضيحها في مقال لاحق، مضاف اليه نظرة معاصرة للارهاب الذي اكتوت منه اميركا، وكان (فوكوياما) كتب قبل ايام في جريدة «اللوموند» الفرنسية وأمس في جريدة «الجارديان» البريطانية، موضحا ان هناك امورا ايجابية للهجوم الذي حدث على اميركا، منها انه تولد شعور حقيقي بالانتماء القومي، وان اميركا ايقنت انها دولة عادية مثلها مثل غيرها، معرضة لاخطار الارهاب ولكي تحاربه، عليها طلب المساعدة من اصدقائها. لقد ايقظ حادث 11 سبتمبر اميركا من سباتها، وشعرت بما يحس به العالم، ويبدو ان الكثيرين يتفقون مع (فوكوياما) في هذا الطرح وهذا الزميل بشير عبد الحفيظ (الخبير بالشأن الجزائري)، يرى ان العالم الآن قد ادرك الكارثة التي حلت بالجزائر، والمعاناة التي عاشها شعبها وحيدا بلا مساعدة. على ان فرانسيس فوكوياما (تعني القسيس البروتستانتي) وهو ـ فعلا ـ ابن لقس ياباني، كان قد هاجر من اليابان الى اميركا منذ زمن بعيد، يُعد من مجددي النهج الهيغلي ـ نسبة الى الفيلسوف هيغل، فطروحاته رغم بعض الانتقادات الموجهة اليها، واعترافه هو ذاته بصحتها، الا انها اتسمت ـ كما يرى المختصون ـ بكثير من العقلانية المرتهنة للممكن والمعقول. هذا لا يعني تكاملها المطلق بقدر ما يعني انها تحمل قدرا كبيرا من الحقائق والمسلمات.
* هيجل ونهاية التاريخ
* كان هيغل قد تنبأ بنهاية التاريخ في القرن التاسع عشر بقيام الدولة القومية البروسية، وجاء بعده ماركس ليعلن ان الشيوعية هي بداية التاريخ الحقيقي، وستتلاشى الرأسمالية، ولكن ها نحن اليوم نعيش في وقت يقول لنا ان التاريخ لا يمكن ان يتوقف طالما ان علم الطبيعة الحديث ليست له نهاية ولذا فقد انهارت تلك الفرضيات، بينما لا يزال فوكوياما يصر على ان البشرية قد وصلت الى نهاية التاريخ في ما يتعلق بالنظام السياسي، لا سيما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وأن أفكاره حول الحداثة لا زالت قائمة وصحيحة ويمضي (تلميذ هيغل) في كتابه «نهاية التاريخ وخاتم البشر» قدما الى التأكيد بأن الديمقراطية الليبرالية ستنتصر (سيادة الغرب) لأنها ـ حسب اعتقاده ـ خالية من العيوب، ولذا هو يهمس في اذننا بأن هذه الديمقراطية المتحررة، ونظامها الاقتصادي الذي يتحكم فيه السوق، هما البديل الوحيد النافع للمجتمعات الحديثة، وان التاريخ اتجاهي ومتجدد ويبلغ ذروته في اطار الدولة الحديثة المتحررة. وقد توصل فوكوياما الى هذه النتيجة باستخدام التاريخ من وجهة النظر الهيغيلية ـ الماركسية الخاصة بالتطور التقدمي للمؤسسات البشرية السياسية والاقتصادية، ولذلك فهو يرى بأن التاريخ هنا مدفوع بعاملين اثنين: اولهما فهم علم وتقنية الطبيعة الحديث، الذي يوفر اساس التحديث الاقتصادي، وثانيهما النضال من أجل الحصول على الاعتراف، الذي يتطلب في نهاية الامر نظاما سياسيا يعترف بحقوق الانسان المتعارف عليها دوليا، كما انه يرى ان ذروة عملية التطور التاريخي ليست في الاشتراكية ـ كما يرى الماركسيون ـ وانما في الديمقراطية وفي اقتصاد السوق. ولذلك فهو يراهن على نجاح العولمة كنموذج تنموي، ومقللا من منافسه النموذج التنموي الآسيوي، بل وانتقص من اهميته بدليل تلك الاحداث ونتائجها الوخيمة التي تكشف سوء الاداء الاقتصادي الآسيوي، كما يريد ان يقول فوكوياما إن التقنية الحديثة ـ (قاعدة التطور لدى فوكوياما ان العلم هو الذي يحرك العملية التاريخية) ـ ستوفر للجيلين القادمين ادوات تمكنهم من تحقيق ما عجز عنه الاشتراكيون من تحقيقه في الماضي.(62/186)
وهنا يعتقد فوكوياما بأننا وصلنا الى نهاية التاريخ، لأننا سنكون قد قضينا على الانسانية، ولحظتها سيبدأ تاريخ جديد لما بعد البشرية. وعاد فوكوياما ليقطع طريق النقد، مشيرا الى القول إن القصد من «نهاية التاريخ» هو انتهاء حقبة وبداية أخرى، بالمعنى نفسه لدى ماركس بيد ان الفارق بينهما: ان ماركس (الاشتراكية) اعتبر ان التاريخ الانساني الحقيقي يبدأ مع تشكل المجتمع اللاطبقي. ولكن لماذا لم تنجح الاشتراكية لتكون (نهاية التاريخ) ـ هنا يجيب فوكوياما بأنه ربما الادوات التي تبناها الاشتراكيون (الاشتراكية المبكرة، والتحليلية، والتشنج، ومعسكرات العمل) ربما كانت تلك الادوات بشعة جعلتها غير قادرة عمليا على تحويل الاساس الطبيعي للسلوك البشري.
اما المجتمع الحقيقي، فقد بدأت تتشكل صورته (المجتمع ما بعد الصناعي)، مستدركا بالتأكيد على انه يجب ردم فجوات كبيرة قبل ان يتم الانتقال النهائي من المجتمع الصناعي الى مجتمع الخدمات، من انتاج الاشياء الى انتاج المعلومات، من الطبقة الى الفرد، وبالتالي من الامة الى العولمة، مستندا الى ابحاث هيئة علم الطبيعة الحديث التي تشير الى هيمنة علم التقنية الحديثة في القرن القادم.
* الحركة المنطقية
* ومن يتأمل مقولات فوكوياما يجد انها تنتهج الاسلوب الهيغلي او ما يسمى «بالحركة المنطقية»، حيث كل رأي او موقف له بالتأكيد جانب معاكس او مخالف، فالرأي له رأي آخر مخالف له، والموقف له موقف آخر معارض وهكذا، وبالتالي اذا اتحد هذان الرأيان او الموقفان، فإنهما يشكلان في نهاية المطاف رأيا ـ حسب اعتقاد هيغل ـ افضل من السابقين، فمثلا الرأسمالية والشيوعية، نظام ونظام مضاد، فالتوحيد بينهما يؤدي الى تطورهما، ومن هذا التطور ينبثق نظام ثالث ارقى منهما وبعيدا عن لجة المصطلحات الاكاديمية، والتعمق في المنهج العلمي، نستطيع ان نقول ان فوكوياما (كان نائبا لمدير مجموعة تخطيط السياسة بوزارة الخارجية الاميركية، ويعمل حاليا مستشارا لمؤسسة راند في واشنطن) يريد ان يرسل رسالة الى صانعي القرار السياسي الاميركي مؤداها (لا تقلقوا) فالانتصار للديمقراطية الليبرالية، وسيكون العالم ليبراليا، وسيبقى ليبراليا ما بقيت الحياة، حيث يكون التاريخ قد انتهى بوصوله الى اقصى ما يمكن ان يصل اليه البشر من رقي وسمو هنا فوكوياما يروج للنموذج الاميركي ويؤكد على تفوقه وعلو كعبه وقد أُتهم ـ فعلا ـ من قبل البعض بأنه أداة في يد المؤسسة الاميركية، نظرا لأن اراءه تستقطب اهتماما عالميا.
وفي هذا السياق، لا بد ان نذكر صموئيل هنتنغتون ونظريته «صدام الحضارات» وبكثير من الايجاز نجد انها تقول ان النزاعات الدولية سواء منها الاقليمية او العالمية ستكون في المستقبل على شكل صدام حضارات، وليس على صراع آيديولوجي، لان الاختلاف بين الحضارات حقيقة الوقوع. ويرى الباحث الاميركي ان المحور البارز في السياسة الدولية سيكون الغرب، مؤكدا بأن البؤرة المركزية للصراع العالمي ستكون بين الغرب والحضارتين الاسلامية والكونفوشوسية (الصينية). وما دام الامر كذلك فإن هنتنغتون (مدير معهد جون أولين للدراسات الاستراتيجية بجامعة هارفارد) يطالب الغرب باحتياطيات ضرورية عليه ان يتخذها من الآن على المديين القريب والبعيد منها زيادة التسليح حفاظا على التوازن العسكري مع الصين والدول الاسلامية ودعم الجماعات المتعاطفة مع الغرب في الحضارات الأخرى، ومحاولة اختراق الحضارتين (الاسلامية والصينية) من الداخل والخارج وذلك بتعميق فهمه للاسس الفلسفية والدينية التي تقوم عليها تلك الحضارتان، كما ان على الغرب ـ ايضا ـ ان يحافظ على قوته الاقتصادية لحماية مصالحه، مؤكدا بأن هاتين الحضارتين تمثلان التهديد الحقيقي للغرب ومصالحه.
وصاحبنا هنا، على عكس صديقه فوكوياما، فهو ايضا يرسل رسالة الى المؤسسة الاميركية قائلا (احذروا). هناك صراع حضارات، واذا اردتم ان تحافظوا على سيادة هذا العالم، فعليكم ان تتحركوا وتخططوا قبل فوات الآوان! اذن، صاحبنا هذا من مروجي النموذج الاميركي ـ ايضا ـ وينزع الى تكريس النهج الليبرالي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الاميركية.
* نتيجة واحدة
* على ان البعض يتهم الكاتبين بتأثرهما بتخصصهما في مجال الدراسات السياسية الاستراتيجية ذات العلاقة المباشرة بالقرار السياسي، الذي ينطلق عادة من مصالح آنية او قصيرة المدى، لذلك فإن طروحاتهما تفتقد الى المعنى التاريخي الشامل، فهما لم يأخذا التاريخ كوحدة تحليل ـ كما يرى تركي الحمد ـ او فترة زمنية طويلة، وهنا كان الخلل في النتائج العامة التي وصلا اليها، هذا لا يعني عدم وجود صراع بين الثقافات في الماضي وفي الوقت الحاضر، ولا يعني نفي حقيقة الانتصار الحالي لليبرالية. كل ذلك موجود، لكن السؤال هو: هل مثل هذه النتائج مطلقة ودائمة، كما تتضمن كتابات هنتنغتون وفوكوياما؟(62/187)
النتيجة التي يصل اليها الكاتبان ـ تقريبا ـ هي نتيجة واحدة (ضرورة واهمية سيادة الغرب)، فهنتنغتون (يحذر) من صراع الحضارات ويطالب بالتحالفات لتستمر هذه السيادة، بينما يدعو فوكوياما (الى عدم القلق) لان سيادة الغرب قد اصبحت نهائية (نهاية التاريخ) وان التغيير سيتم لا محالة عاجلا ام آجلا، وما هي الا مسألة وقت فقط.
بقى ان نقول ان التاريخ مفتوح لكل الاحتمالات، ومن طبيعة الحياة التعدد والاختلاف، والحضارات متعاقبة، والتغير والتحول سيبقيان ما بقيت الحياة، ورغم هذا لا كمال مطلق، ولا يمكن ان يكون بأي حال من الاحوال، ولذلك فالتاريخ لا ينتهي الا بنهاية الانسان ذاته.
============(62/188)
(62/189)
حوار الحضارات أم صراع الثقافات
د. عطا الله مهاجراني
حيات نو ( الحياة الجديدة ) 11/7/2002
الدكتور عطا الله مهاجران كان وزيرًا للثقافة وقد اضطر للاستقالة من منصبه تحت ضغط من المحافظين، ويشغل الدكتور مهاجراني حاليًا منصب مدير مركز حوار الحضارات برئاسة الجمهورية.
يرى الدكتور مهاجراني أن الدعوة لحوار الحضارات لم تكن جديدة. لكن الجديد هو المصطلحات والمفاهيم التي تطرح من خلالها في الفترة الحالية، كما لا يرى اختلافًا بين حوار الحضارات وحوار الثقافات وحوار الأديان، وهذا نص الحوار.
• ان تساؤلنا الأول يدول حول ما الفترة الزمنية التي يرجع إليها مصطلح حوار الحضارات, وكيف ولماذا بدأ بحث هذا الموضوع وإثارته في العالم المعاصر؟
يرجع مفهوم حوار الحضارات إلى عدة آلاف من السنين منذ أن ظهرت الحضارة والثقافة، فعلى سبيل المثال كانت تعقد ندوات في العصر الهخامنشي في تخت جمشيد ( مكان أثري حاليًا ) وذلك في أوقات الصيف, وقد وجدت البيئة الملائمة لظهور مفهوم حوار الحضارات، وكما تعلمون فإن ابن سينا يعتبر من الشخصيات الداعية إلى حوار الحضارات، وقد استفاد من علوم الهند واليونانيين عند تأليفه لكتابه القانون ( رغم أنه كتاب طبي )، ومن هذا المنطلق يجب القول أن حوار الحضارات يرجع إلى القدم، إلى بداية الحضارة الإنسانية.
ولكن حوار الحضارات طرح في العصر الحديث مفهوم ومصطلحات جديدة، وذلك بعد طرح المفكر الأمريكي صمويل هنتنجتون لنظرية "صراع الحضارات". لذا يعد حوار الحضارات موضوعًا جديدًا بالنسبة للعالم المعاصر، كما أنه موضوع اهتمام دولي.
• لماذا يدعو عالم اليوم إلى حوار الحضارات؟
ذلك لأن إنسان العالم المعاصر في أشد الاحتياج إليه. فالهوية البشرية تتشكل أساسًا بالحوار، والحوار يتطلب وجود الآخر ولا يتشكل عن طريق المونولوج ( الحوار داخل النفس البشرية )، ويعني ذلك أن تصور الإنسان معزولاً في جو من الأجواء عن كافة الاتصالات يعد مشكلة كبيرة؛ لأن ذلك يعرضه للخطر والهلاك فالإنسان اجتماعي بطبعه ولا يمكنه إلا أن يكون كذلك. ويجب أن نأخذ في اعتبارنا أن الفكر يولد من خلال العلاقة بين الأفراد والمعاملات التي تتم بين البشر فيقول ديكارت : "أنا أفكر إذن أنا موجود" وأنا يمكنني القول: "أنا أتحاور إذن أنا موجود" ويدرك الإنسان نفسه عن طريق الحوار، كما يتعرف على هويته.
• هناك اختلاف في وجهات النظر بين المنظرين والمفكرين بخصوص استخدام مصطلح حوار الحضارات أو الثقافات, ويعتقد البعض أن الحوار في العادة يقوم بين الثقافات وليس بين الحضارت؛ لأن الحضارة هي الجزء المادي للثقافة، فما رأيكم؟
إن حوار الثقافات غاية في الأهمية وكلاسيكي ومتداول في نفس الوقت، وفيه نقوم بتقسيم الثقافة إلى قسمين: قسم مادي، وآخر غير مادي وهناك تقارب بين القسمين, ولإيضاح معنى ذلك يمكن الإشارة إلى نموذج " إنشاء مدينة" فيعد فصل الجزء المادي عن غير المادي أمرًا صعبًا وخطأ في ذات الوقت؛ لأن المعمار ( العمارة ) تشتمل على مظهر حضاري وكذلك مظهر ثقافي، وبهذا المعنى يعد إنشاء مدينة علامة ومظهرًا حضاريًا ولكن كيفية إنشاء المدينة تعد بلا شك مظهرًا ثقافيًا. ويجب النظر إلى أنه عندما نتحدث عن حوار الحضارات فنحن نعبر بشكل أكبر عن حوار الثقافات، فمفهوم حوار الحضارات يحول أذهاننا بصورة واضحة إلى البحث في الثقافة، وهذا لا يعني أن استخدام مفهوم حوار الحضارات أو حوار الأديان خطأ, وأنه يجب فقط التحدث عن مفهوم حوار الثقافات، إنني أرى أن المصطلحات الثلاثة هي تعبيرات صحيحة: حوار الحضارات، حوار الثقافات وحوار الأديان، واذا كنا ننظر إلى الحضارة على اعتبار أنها مفهوم شامل فالثقافة تستقر في جوانحها، ويذكر بعض المنظرين أن الدين هو روح الثقافة والثقافة كذلك هي روح الحضارة، وفي الواقع فإن الحضارة نسيج ونسيجها وهيكلها الروحي هو الثقافة وروح هذه الثقافة يشكلها الدين، وبناء على ذلك يمكننا التحدث عن حوار الحضارات والثقافات والأديان, وبذلك فنحن لا نعتبر أن أحد هذه المفاهيم أكثر مناسبة وترجيحًا ومرجعية من الآخر, ولكن تطرح المفاهيم الثلاثة بجوار بعضها البعض.
• اخترتم سيادتكم الحوار بشكل إيجابي كقاعدة وأساس إلا أن "توماس هوبز يعتقد في هذا الخصوص أن الإنسان ذئب الإنسان", وبالنظر إلى ذلك لا يعد الحوار قاعدة أو أساسًا فما رأيكم في هذا الرأي؟(62/190)
بخصوص الإجابة على هذا السؤال يجب الفصل بين نقطتين، وتتتمثل الأولى في النظر إلى واقع البشر والذي بنى علماء مثل "هوبز" رأيهم عليه وهو تفسير العالم بواقعه وما يحياه، والنقطة الثانية تتمثل في ما يبتغيه المجتمع، أي بعبارة أخرى هدف الحياة الإنسانية، فلو سألت مجموعة من الأفراد، في أي جهة يجب أن نتحرك؟ لكانت إجابتهم متشابهة بشكل كلي وفي الأساس فإن اختيار أحد الجانبين: الأول وهو الحرب وسفك الدماء والاعتداء، والآخر وهو المثالية والسلام والهدوء واضح من قبل الناس، فالناس بلا شك ستختار الجانب الثاني، ومن المؤكد أن عددًا قليلاً سيرغبون في الجانب الأول وهو الحرب وسفك الدماء. إن الإنسان لم يخلق للحرب وسفك الدماء، ولو أن هذا الواقع قائم في عالمنا المعاصر ( الإنسان ذئب الإنسان ) فعلينا ألا نكترث بمثل هذا الواقع ويجب علينا أن نغيره، وبناءً على ذلك فإن حوار الحضارات يطرح كإمكانية لتغيير هذا الواقع. وبهذا التفصيل فإن نظرية صمويل هنتنجون "صراع الحضارات" توضح ما يجري في الواقع، أما نظرية حوار الحضارات فهي توضح ما يبتغيه غالبية البشر من أماني وأهداف يريدونها ويرغبون فيها، والآن يجب طرح هذا التساؤل وهو هل نحن مضطرون لقبول هذا الأمر الواقع أم يمكننا السعي بكافة الإمكانيات لتغييره وأن نتحرك نحو الواقع المرغوب فيه؟ لقد شاهدنا كلا التيارين، تيار "الإنسان ذئب الإنسان" وتيار "حوار الحضارات" فالتيارات الأول يعمل فيه الإنسان لمصلحته الشخصية بشكل كبير ويضم بين جوانبه قتلة البشر والمعتدين في التاريخ ومظهرهم وشكلهم واضح. وتتمثل فكرة التيار الثاني في أن الإنسان جاء إلى هذه الدنيا للخير والرقي, أو بتعبير الفارابي الوصول إلى سعادة المجتمع, وبذلك فالإنسان ليس عدوًا للإنسان، ولكنه يجتهد من أجل تغيير الظروف غير المرغوب فيها إلى الخير والسعادة. وقد خطا الفنانون والمفكرون خطوات واسعة في هذا الاتجاه، وهم الذين اهتموا طوال التاريخ بقضايا من قبيل الحرية والعدالة والإنسانية, وبذلوا كافة جهودهم من أجل تغيير الوضع غير المرغوب فيه.
• لقد أشرتم سيادتكم في مواضع مختلفة إلى أسبقية وقدم وعراقة إيران القديمة في مجال حوار الحضارات، ولكن الوجه الثقافي الغالب يبرهن على أمر آخر، فالأدب والشعر يعتبران من العناصر الأساسية الدالة على مجتمع من المجتمعات وينظر إلى أدبنا على اعتبار أنه لا يرد فيه الثقة في الحوار، وإذا كان هناك حوار فقد كان من وراء الستار، كما أن الرسامين يشيرون في أعمالهم إلى المونولج ( الحوار أحادي الجانب ) خلافًا للرسامين الإيرانيين اليونايين والرومان الذين يؤكدون على الحوار فكيف يجب الاهتمام بمثل هذه القضايا؟
لقد اختلف النظام السياسي والاجتماعي الإيراني القديم عن النظام في اليونان والرومان، وهذا الموضوع غاية في الأهمية، ففي العصور القديمة قبل مجيء الإسلام كانت الحكومات مستبدة ويطرح هذا الموضوع العالم "فيفوجول" في كتابه "الاستبداد الشرقي" وذلك على نحو يعتبر معه أن الوجه الغالب على الشرق -ومن بينه إيران- هو الاستبداد وبالطبع فإن الحوار لا معنى له في ظل الحكم الاستبدادي، وقد كان ملوك ذلك الوقت متعالين على شعوبهم, وقد راجت تجارة الرقيق وكان قسمًا كبيرًا منهم يعملون في بلاط الإيرانين القدماء، ومن هنا فإنني أؤكد على أننا لم نتمكن من طرح الحوار على اعتبار أنه الوجه الغالب قبل الإسلام, وحتمًا فإن هذا الأمر لا يعني نفي وجود أي نوع من الحوار، ففي الوقت الذي تشدد فيه الروم وقاموا بالاعتداء على جذور التصوف المسيحي شاهدنا هجرة المفكرين الغربيين إلى إيران. وفي ظل تلك الظروف أصبحت مدينة جند شابور مركزًا لوجود العلماء والأدباء والمنجمين الغربيين, واليوم نحن نشهد مسيرة معكوسة فكثير من المفكرين والعقول الإيرانية تهاجر إلى الغرب، وهذه المسائل يمكن أن تمهد الأرضية لحوار الحضارات، والمثال الآخر في الدول القديمة والذي يدل على وجود الحوار هو أن بزرجمهر بذل جهودًا عظيمة في الدول الساسانية في ترجمة الكتب المهتمة بالحضارات والثقافات الأخرى.
ولكنني على كل حال أعتقد بأن ذلك لم يكن الوجه الغالب في ذلك الوقت، ويمكننا القول بأن "سقراط" يعد فيلسوف الحوار في اليونان القديمة, ويجب أن أذكر بأننا نرى الحوار بصورة جديدة وواضحة بعد الإسلام، وفي العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.
• ما هي المباديء النظرية والمعرفية لحوار الحضارات؟(62/191)
إن أول ما يطرح في هذا الخصوص هو المعرفة الدقيقة للنفس والعقائد والنظريات الشخصية، فيجب قبل كل شيء أن نعرف أنفسنا فلا معنى للحوار بدون ذلك، وفي ذات الوقت يجب معرفة الطرف المقابل وهذا أمر ضروري ويتمثل الأمر الثاني في الاعتراف رسميًا بالطرف الآخر, ويعني ذلك قبول الحوار معه, ولا يجب أن نعلن عن وجهة نظرنا فقط ليتقبلها الآخر بدون مناقشة، فهذا النوع من التعامل لا يعد حوارًا، وذلك كالقضية السياسية المطروحة على الساحة الإيرانية حاليًا, وهو الحديث عن مباحثات مع الولايات المتحدة ففي الواقع ليس هناك مباحثات؛ لأن الأمريكيين يعرضون وجهات نظرهم ويظنون أننا سنقبلها بشكل كامل. إنهم يضعون شروطًا في الحوار، وعلى الطرف الآخر أن يقبلها، هذا الوضع لا يمت للحوار ولا للمباحثات بصلة.
والأمر الثالث في هذا الخصوص يتمثل في أننا يجب أن نظن أن كافة الحقائق لدينا بشكل كامل، فيجب أن يستفيد الطرف المقابل مما لدينا، ويجب القبول بأننا نتحرك في الحوار نحو نقطة مشتركة, وفي هذا الصدد فإننا لا نمتلك كل الحقيقة فالقرآن يقول: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} [آل عمران ـ 64] وبناءً على ذلك توجد كلمة مشتركة عبر عنها القرآن الكريم فلم يقل: تعالوا إلى كلمتنا, وهذا موضوع محوري في بحث الحوار ويجب الاهتمام به.
الأمر الرابع في هذا الخصوص يكمن في تحديد هدف الحوار، فهدفه يتمثل في بناء مجتمع قائم على الخير والسعادة والعدالة، فنحن نتحاور ولا نتشاجر ولا نتنازع، ولا يبنغي أن تكون نتيجة الحوار هي الحرب وسفك الدماء, ولكن يجب أن يرتكز الحوار على التعايش السلمي، بعبارة أخرى نحن نتحاور حتى نعيش مع بعضنا البعض, ولا نتحاور حتى ننفصل ونتخاصم ونتنازع.
• أشرتم سيادتكم إلى حقيقة غاية في الأهمية وهي الوصول إلى كلمة مشتركة أو نقاط مشتركة كشرط للحوار, ولكن الواقع أن الناس يعيشون خارج حدودهم الجغرافية في أجواء مختلفة، فهل مع وجود هذه الاختلافات الثقافية (من قبيل الحياة في جو استبدادي أو ديمقراطي) هل بالإمكان بدء الحوار؟
يجب النظر عند الإجابة على هذا السؤال إلى الحقائق التي ذكرتها سالفًا، وأولى هذه الحقائق في هذا الصدد هي معرفة النفس ومعرفة الآخر، فالغرب لا يعرف الشرق ومن بينه إيران معرفة كافية وصحيحة, والنموذج الواضح والشاهد على ذلك هو حديث "هونزماس" بعد سفره إلى إيران، فقد ذكر أن "الإيرانيين يعرفون الألمان جيدًا أفضل من معرفة الألمان لهم". والحقيقة الثانية والتي لا يمكن إغفالها تتمثل في أن الناس في بقاع العالم المختلفة لا يختلفون عن بعضهم البعض اختلافًا كليًا، فيذكر السيد "تجويدي" وهو أحد الموسيقيين والفنانين البارزين حقيقة مهمة فيقول عن كافة المغنين في كافة بلاد العالم: إذنهم يغنون مثل بعضهم البعض, وذلك على نحو يمكن القول معه أن الفن له شكل واحد في العالم كما أن الضحك كذلك له شكل واحد. لذا فإننا نجد أن مشاعر مثل العشق والحب والمنفعة والمصلحة أو الميل والرغبة في الحوار توجد بصورة واحدة لدى كافة الأفراد بغض النظر عن كونهم أوروبيين أو شرقيين أو غربيين، فللإنسان سلوكيات ولهذه السلوكيات مظاهر واحدة, فالسلوكيات الأربعة لروح الإنسان تتمثل في "طلب الحقيقة، العبادة، الإثارة، والتضحية، وحب الجمال" وذلك كما حددها "توشيهيكو ايزوتسو" عالم الإنسانيات والمفكر الياباني البارز. والجدير بالذكر أن نفس العناصر الأربعة السابقة هي التي تمهد الأرضية لإجراء الحوار، فاذا قررت أنا على اعتباري مسلمًا محاورة مسيحي فلا يمكنني القول أنه لا توجد نقاط مشتركة بيننا، فمن يتعمق في الحوار يدرك وجود نقاط مشتركة كثيرة بيننا، وبناءً على ذلك لا يمكن القبول بأن بين الحضارات والثقافات أي انفصال ونحن بدون ذلك لا يمكننا أن ننهض بالحوار. وعلى أية حال فإن الحوار يتم بين مثقفي الحضارات ويمكن أن يتم بالمواجهة أو بصورة تحريرية (مكتوبة).
• يوجد في كل مجتمع عدد لا بأس به من الثقافات المحدودة والمحلية، ولكننا عند الحوار نقوم باختيار ثقافة واحدة يمكن عن طريقها تلافي اضطرابات ومشاكل الثقافات الصغيرة والمحلية، فهل للثقافة المختارة صلة وعلاقة مباشرة أو علاقة يشوبها الضيق من المؤسسة الرسمية أو بعبارة أخرى المؤسسة الحكومية؟
توجد مستويات مختلفة للحوار ولتفرضوا أن كافة الوزراء والسفراء يتحاورون مع بعضهم البعض ففي الواقع فإن الدنيا كلها بذلك تتحاور مع بعضها البعض، ومن الأمور المهمة أنه يمكن لدولتنا أن تتخذ موقفًا خاصًا من إسرائيل والولايات المتحدة على اعتبار أنها جمهورية إسلامية, ويعني ذلك أننا إذا كنا لم نعترف رسميًا بإسرائيل فنحن لن نتحدث ونتحاور معها ولكننا نتحاور مع الولايات المتحدة في مجال الاقتصاد والثقافة والمنظمات الدولية كصندق النقد الدولي أو النبك الدولي، بيد أن هناك خلافًا اليوم تجاه هذه القضايا المطروحة في هذا الصدد.(62/192)
والجدير بالذكر أننا نقوم في مراكز حوار الحضارات بدعوة المفكرين الأمريكين للبحث والتحاور, وفي المقابل يقومون هم بدعوة مفكرين إيرانيين لنفس الغرض وللوصول إلى نتيجة, فمن المؤكد أننا نحتاج إلى الحوار.
فمن الممكن على سبيل المثال أن يقول غربي أنه لا يمكن التحاور مع المسلمين؛ لأنهم إرهابيون. هذا على نحو ما يطرحه بعض الغربيين في كتاباتهم عن المسلمين، وأرى أنه يجب التحاور معهم في هذا الصدد للوصول إلى نتيجة، ولذا فأنا أوافق على أن البعض ربما يطرحون بعض القضايا والأمور هي في وجهة نظر الطرف المقابل ضد الحوار، ولكن لا يجب اعتبار هذا الشخص يعبر عن مؤسسة أو دولة أو ثقافة.
• ليس الهدف من سؤالي القول بأن الثقافات تتعارف على بعضها بصورة ذاتية من خلال الحوار، ولكن يلوح للناظر أن تصورنا للثقافة في موضوع الحوار يقوم على اعتبار أن لها صلة وعلاقة بالقوة والمؤسسات الرسمية, لا يمكن إنكارها والنموذج البارز لذلك هو عدم الاكتراث بالثقافات المحلية أو الصغيرة، وهذا يشير إلى وجود مؤسسة تقوم باختيار الثفافة، فما رأيكم في هذا الخصوص؟
في العادة فإن المؤسسات الرسمية وغير الرسمية تشارك في بحث الحوار جنبًا إلى جنب، ويجب أن يقوم بهذا الحوار الصفوة والمؤسسات العلمية، ونحن باعتبار تولينا رئاسة هذ المركز "حوار الحضارات" نقوم بإقرار علاقتنا واتصالاتنا بشكل كبير، ومن الأمور المقطوع بها أن الحوار قطاع ومستوى ثالث من النسيج الاجتمعي للمجتمع, وإن معرفة ذلك ولفت الانتباه إليه لهو أمر غاية في الأهمية.
• كيف تقيمون الصلة بين الثقافة الرسمية والمؤسسة الحاكمة؟
لا يطرح هذه التعبيرات المختلفة عن الثقافة أي شخص قط أو مؤسسة حكومية, فمثلاً في الصحافة تنعكس الأوجه الثقافية للمجتمع, ولكن هناك سؤال مهم هو أي قدر من الأشعار والقصص المنشورة لها صبغة حكومية؟ فمعرفتي عن أمريكا اللاتينية لا تتشكل عن طريق التقارير السياسية الحكومية من هناك, ولكنها تتشكل عن طريق كُتاب أمثال ( جابريل جارسيا ) يعني ذلك أننا ندخل إلى أمريكا اللاتينية من خلال دروب القصة والرواية، وبعد هذا كله فإنه لا يمكن القول بأن ممثلي الدولة الرسميين هم الذين يعرفون الثقافة. ولو ألقيتم نظرة على بعض المجالات والتي تقع تحت سيطرة الحكومة مثل الجيش أو النظام الاقتصادي لوجدتم أن هناك تكريسًا للقوة والهيمنة فيهما, أما ذلك فلا يوجد في المجال الثقافي، فهذا المجال يخالف سائر المجالات، ومن المؤكد أن هناك بعض المواضع التي توجد فيها المفاهيم التي تحدثتم عنها من تكريس القوة والهيمنة الحكومية, ولكن ذلك يتم في إطار ضيق، فهناك شعراء موضع قبول واهتمام من العامة وهم من زوايا كثيرة لهم علاقات مع المؤسسة الحكومية.
وحتمًا فإنه لو تم مد عملية تكريس القوة وإعمال النفوذ إلى هذه المجالات الثقافية فإن ذلك سيؤدي إلى مشكلات عديدة, والنموذج البارز الشاهد على ذلك هو هذا التدخل الحكومي من قبل الاتحاد السوفيتي السابق، فقد كان يقوم بالإشراف على كافة شئون وأمور الدولة ومن بينها الأمور الثقافية. وقد أشار التاريخ إلى عدم قدرة هذه الأساليب على مواصلة عملها واستمراريتها.
• إذن سيادتكم تعتقدون أن التعرف على الثقافات من خلال الأدب خير من التعرف عليها عن طريق رجال السياسة؟
إنني أقول أن التعرف على الحضارة أو الثقافة يتم عن طريق الفن والأدب الخالد الباقي وهذا أفضل من التعرف عليها عن طريق التقارير والإعلانات السياسية.
• إن أحد المسائل والأمور التي لا يهتم بها خلال الحوار هو مسألة عدم تجانس طرفي الحوار فأحيانًا يقول مفكرونا: حوار الإسلام والغرب، ولكن الإسلام في الواقع دين والغرب عبارة عن نطاق جغرافي فهل يخلق عدم التجانس هذا مشكلة؟
من المؤكد أن رأيكم صحيح، فعندما نطرح الحوار يجب الاهتمام بتجانس طرفي الحوار ولذا فلا يمكن القول: الحوار بين الإسلام والغرب, ولكن يجب القول: الحوار بين الإسلام والمسيحية أو الثقافة الشرقية والثقافة الغربية وقس على هذا.
ويجب علينا بعد ذلك القيام بتحديد إطار الحوار في مجال السياسة أو الفن أو في المسائل الأخرى. وفي الوقت الذي نتحاور فيه على اعتبار أننا مسلمون أو مسيحيون يمكننا بحث نقطة مشتركة بيننا مثل الوحي مثلاً، ونقوم بتبادل وجهات النظر بصددها.
• ينظر دائمًا إلى الحوار على أنه علاقة أفقية غير مستقرة؛ لأنه خلال كل مرحلة تثبت الثقافة أو الحضارة الخاصة سيطرتها وتكرس هيمنتها, ولذا فنحن إذا أردنا الحوار مع الغرب فيجب علينا الاستعانة بالعناصر الثقافية الغربية، ففي المجال اللغوي تعد اللغة الانجليزية اليوم هي اللغة العالمية، فما هي المشكلات المصاحبة لمثل هذه المسائل؟
نعم إن اللغة المسيطرة والمهيمنة هي اللغة الإنجليزية، فالاتصالات تتم عن طريقها من خلال الإنترنت والقمر الصناعي، وهذا واقع، ولكن هذا لا يعني نفي إمكانية الحوار، فنحن في كافة الحالات يمكننا أن نحاور الطرف المقابل.(62/193)
وبخصوص الجزء الثاني من سؤالكم والخاص بالهيمنة والسيطرة التامة لحضارة من الحضارات فأنا أؤيد ذلك الرأي وهذا الأمر موجود على الساحة، ومن المؤكد أن له تأثيرًا خاصًا على الحوار، فعندما نريد التحاور مع الغرب في مجالات الاقتصاد والصناعة والطب وأمور من هذا القبيل, فإن أحد أطراف الحوار يمتلك دعامة علمية قوية في حين يفتقدها الطرف الآخر, ولكن لا يجب أن ننسى أن هذه الدعامة جاءت من العلماء من كافة أنحاء العالم, ولا يمكننا صبغ هذه العلوم بصبغة خاصة أو إلحاقها بعرف خاص، فلا يمكننا القول مثلاً بأن هناك فيزياء أمريكية أو صناعة فضاء أمريكية، فهذه العلوم هي نتاج لمساعي كافة العلماء والمفكرين في العالم أجمع طوال تاريخ البشرية الطويل.
ولكن يجب ألا تنسوا كذلك أن الصورة أو العلاقة في هذه المجالات معكوسة أو متساوية على نحو لا نشعر معه بأننا مقهورون ومغلوبون أمام الطرف الآخر للحوار، فمثلاً نحن نشعر بالمساواة أمام الطرف الآخر في المجال الديني والعلوم الاجتماعية والفلسفية. ويجب التنويه إلى أن هدفنا من الحوار ليس فقط التأكيد على الدفاع عما نملكه، ولكن يمكننا عن طريقه الاستفادة مما يملكه الآخر. وبشكل عام فإن أسس الحوار تقوم على استفادة الحضارات من الحضارات الأخرى وهذا ما يجب الاهتمام به والتوجه إليه
=============(62/194)
(62/195)
حوار الحضارات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
عندما نتمعن في الحضارات المتنوعة وعلاقتها ببعضها نجد أن كل حضارة لها معتقداتها وتقاليدها وطرق معايشها. ونجد أن كل حضارة تأخذ من الأخرى ما يسهم في بناء وتقدم الإنسان وما يروي عطشه إلى المعرفة ومحاولة الوصول إلى الحقيقة. لا توجد حضارة قائمة بذاتها ولها زادها المعرفي الخاص بها وأنا هنا لا أتكلم عن المعتقدات بل أشير إلى المعرفة التي بها نمت جميع الحضارات.
فلو بحثت في نشأة أي حضارة فسوف تستنتج أنها استقت معلوماتها من اندماجها بحضارات أخرى ثم زادت عليها و أبدعت فجاءت حضارة أخرى وبنت معرفتها من الحضارات السابقة وزادت هي الأخرى أبدعت. فحركة الحضارة هي حركة تصاعدية وعملية بناء وتفاعل بين مختلف الحضارات. وأضرب أمثلة توضح هذه الفكرة.
كان العرب يستخدمون حروف الهجاء بمثابة الأرقام وقد نقلوا ذلك عن السريان. مثلا حرف الهمزة يمثل الرقم واحد وحرف الباء يمثل الرقم اثنين وحرف الحاء يمثل الرقم ثمانية وحرف الثاء يمثل الرقم خمسمائة وكانوا يستخدمون ذلك في حساباتهم. وعندما اتصل العرب بالحضارة الهندية في زمن الفتوحات الإسلامية حصل تفاعل واندماج معها فأخذوا منهم الأرقام الهندية وهي التي نكتب بها الآن. وقد أضاف العرب الصفر إلى هذه الأرقام وبزيادة الصفر سهل حل كثير من المصاعب . ثم جاء الفرنجة وأخذوا الأرقام التي يكتبون بها الآن من المسلمين في الأندلس مع تحوير في شكلها . هذا التفاعل يولد أسسا جديدة لتصحيح مسيرة الحضارات .
والمسلمون لم يعرفوا الحساب والهندسة والفلك إلا بعد حركة الترجمة التي كانت في العصر العباسي في القرن الثاني الهجري وخصوصا ترجمة العلوم اليونانية التي غيرت طريقة تفكير المسلمين ومنهجهم في النظر للكون والأشياء. لكن المسلمين أضافوا الشيء الكثير والجديد مثل علم الجبر الذي لازال يسمى في الغرب algeb r a وأبدعوا في مجال الكيمياء والفلك والجغرافيا حتى جاءت الحضارة الغربية واقتبست من الحضارة الإسلامية.
ولنأخذ مثلا آخر لنوضح كيف أن الحوار بين الحضارات هو عملية بناء لمحاولة الوصول إلى الحقيقة. مثلا قال العالم اليوناني بطليموس المتوفى سنة 170 ميلادية أن الأرض هي مركز الكون وأن الكواكب الأخرى تدور حولها . ثم جاء العالم البولندي كوبرنيكس المتوفي سنة 1543 ميلادية وخطأ نظرية بطليموس وقال أن الشمس هي مركز الكون وأن الأرض تدور حولها فكان مصيره الإعدام من قبل الكنيسة والتي أرغمت الناس بعدم تصديقها. في القرن السادس عشر الميلادي جاء العالم الإيطالي جالليليو وتبنى نظرية كوبرنيكس وبنى أول تلسكوب بقوة تكبير عشرين مرة ونشر أبحاثه حول كروية الأرض والكون .
وقد كان للمسلمين دور في هذا المجال. فقد قال العالم المسلم أبو الريحان البيروني المتوفى سنة 400 هجرية أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس وقد أشار كوبرنيكس إلى اسم البيروني في كتاباته . ثم يظهر في القرن العشرين العالم آينشتاين ويقول بنظرية انبعاج الكون .
وقد ظلت قوانين اسحق نيوتن في الحركة في علم الفيزياء هي السائدة حتى جاء آينشتاين بنظريته النسبية التي أدخلت تغييرا في تلك القوانين . فمثلا ظل الاعتقاد بأن الكتلة لا تتغير لا تزيد ولا تنقص لكن أثبت آينشتاين أن الكتلة تزيد أو تنقص مع تغير السرعة . وقد كان يعتقد أن الضوء يسبح في وسط أسمه الأثير لكن آينشتاين أثبت أن الضوء يسري في الفراغ .
ولو بحثت في دقائق نظرية النظريات التي تظهر عبر التاريخ ترى أنها بنيت على نظريات سابقة لها سواء كانت هندسية أو رياضية أو فلكية أو غيرها أخذها العلماء من سابقيهم مثل فيثاغورس وبطليموس وأرخميدس وجابر بن حيان والحسن بن الهيثم والجلدكي وابن سيناء واسحاق نيوتن وغيرهم . فترى أن مسيرة كل حضارة لايمكن فصلها عن الحضارات الأخرى وهناك عملية هدم وبناء وتصحيح ما هو خطأ وحوار خفي وصامت بين كل الحضارات برغم الصراع والتطاحن والحروب الدائرة بينهم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
=============(62/196)
(62/197)
حوار الحضارات خطابٌ لاهوتي يواجه فقدان التوازن الحضاري
الوقت - نادر المتروك:
16 تشرين الأول (أكتوبر) 2006 ، بقلم مروة كريديه
الباحثة اللبنانية في مجال الأنثروبولوجيا، مروة كريدية، تذهب إلى أن هناك خللا عميقاً في أشكال الحوار السائد اليوم، وفي نقدها لهذه الأشكال تذهب إلى أن هناك هيمنة لاهوتية متبادلة بين أطراف الحوار، وهو ما يُفقِد الحوارات قيمتها التفاعلية، ويجعلها مورداً غير مباشر لحرب التأويلات التي تنتهي إلى فقدان الحضارة لتوازنها. وفي الوقت الذي تؤكّد فيه كريدية على ضرورة احترام المقدّس عند الآخرين، فإنها تدعو إلى حقّ الانقلاب الثقافي انطلاقاً مع مقولة ''الإنسان الكوني'' الذي يحمل قيمته في ذاته الكريمة، بغض النظر عن انتماءاته الأيديولوجية والنسقية.
- كيف تنظرين إلى مشاريع الحوار التي تنتشر هذه الأيام؟
- عند استعراض بعض مضامين مشاريع ''الحوار'' الحالي، نجد انها ''شعارات مؤدلجة''، تعتمد خطابا ''لاهوتيّا'' يقابل خطابا ''لاهوتيا'' مضادا، لا يؤدي إلا إلى مزيد من الفشل الذريع. فالعمليات الحوارية السائدة حاليّا لا تؤسّس إلا لمزيد من التشنج، وذلك لعمق الخطأ الفكري والمنهجي الذي ترتكبه الأطراف المتحاورة، لأن مرتكزات '' الحوار'' ومنطلقاته دوغمائية عقائدية بحتة في معظم الأحيان، كما أن كلَّ طرف محاور ينظر للآخر على أنه ''شرّ'' يجب أن يُقتلَع أو أن ''يُطوَّع''، فالمتحاورون الآن يتحاورون من خلف السياج.
حرب التأويلات
- ما المضامين العميقة لهذا الخطأ الذي يعاني منه الحوار السائد في رأيك؟
- الخطأ في هذه الحالة مُركّب لسببين: الأول أن المنطلقات الحوارية هي نصوص ''مقدسة''، وبالتالي فهي تُفرَض بشكل غير قابل للنقاش أصلا، الأمر الثاني والأخطر هو أنها تُطرح على أنها إلزامية وحتمية بحقّ الآخر، وبالتالي فالأطراف تخرج من الحوار أشد عداءً وأكثر انغلاقاً.
- لابد أن المشاريع الحوارية هذه تقوم على بنيةٍ سياسية سالبة لكي تصبح على هذه الحال السلبية التي تصفين. فما هي في تصوّرك؟
- يمكن القول ان الخطاب السياسي المنبني أو المرتبط بمشاريع الحوار السائدة، هو خطاب مرتكز على قراءة ''النص الديني'' القائم على قراءةٍ أيديولوجيّة بحتة، علماً أن الحضارات بطبيعتها لا تعترف بالحدود السياسية التي تنضوي تحتها لأنها تقوم على ديمومة زمنية، في حين أن موازين القوى السياسية منظورها آني لا ينسجم مع المنظور التاريخي، الأمر الذي يحوّل العالم إلى بؤرة نزاع وصراع لا ينتهي.
هذه القراءة السائدة حاليّا تتولّد عنها أمور خطيرة، ومنها تعميم حقائق أي ''أيديولوجية سياسية'' لا يكون إلا عبر الفوز بالسلطة، فالسلطة هدف مباشر وأساسي. كما تتحول النصوص الدينية في هذه الحال إلى مكان مركزي ''لحرب التأويلات''، وبالتالي لحرب ''الحقائق'' وتحصيل حاصل لحرب ''السلطات''.
وفي هذه الحال أيضا؛ تتماهى الحقائق والقوة، فتصبح المعارف سلطة، والسلطة معرفة، وتصبح معها ''القراءة الأيديولوجية'' وسيلة سيطرة وتفوّق. وينبني على هذه الأمور؛ أنّ منْ يدعي ''المعرفة'' يمتلك ''السلطة'' لأنه يمتلك ''الحقيقة''، وهي تمثل بالنسبة له ''الحقّ'' المتمثل ''بالنص الديني'' الإلهي، وبناءً عليه فهو يُفسّر أي تعارض مع هذه ''السلطة'' بأنه تعارض مع ''الحق'' وبالتالي تعارض مع ''الإرادة الإلهية''، وبالتالي هو يمتلك الحق في ممارسة ما يراه ضروريًّا لإحقاق ''الحق'' فتصبح ''الحرب'' مسوّغة ويصبح ''العنف'' مشروعًا وحقًّا وتطلق على ذلك المسميات المعروفة، مثل ''الحرب العادلة'' أو ''المقدسة'' أو غير ذلك من التسميات المؤدلجة.
إذن فإن ما نشهده اليوم على الساحة العالمية، هو أننا نسير باتجاه عالم مغلق تتحرك فيه ''أيديولوجيات'' و''عقائد'' بل و''مذاهب'' متصارعة ومتنافرة، وأن ما نشهده هو باختصار ''لاهوت سياسي'' وحروب متوالدة.
فقدان التوازن الحضاري
- هناك فقدان توازن حضاري، وبالتالي لا معنى للحوار. هذه نتيجة حاضرة من كلامكِ السابق.
- إن السبب الرئيس في فقدان التوازن الحضاري، هو انعدام الحوار بين الثقافات والحضارات العالمية، والذي يتحمل مسؤولية فشله كلُّ أطياف الحضارة الإنسانية. نعم، هذه هي نتيجة الكلام السابق.
- وكيف الخروج من ذلك؟
- التواصل والتفاعل الإيجابي يُعد من أفضل المناهج للخروج من أزمة اختلال التوازن والانتظام الذاتي للحضارات وللإنسان على حدّ سواء، وهو التفاعل القائم على تقديم ما هو عملي، وهو دليل على أن الثقافة قابلة لأن تستجيب لحاجات أبناء الثقافات المغايرة، وتقديم الحلول للمشكلات التي تعجز بعض الحضارات عن حلها، ولن يحصل ذلك إلا بوضع المشترك بين أبناء هذه الثقافة وأبناء الثقافات الأخرى لتكون بمثابة الجسور التي تؤدي إلى الاندماج الإيجابي المنبني على أساس الخصوصية والاستقلال والفعل والتفاعل.(62/198)
إنّ عملية احتواء الصراعات الثقافية والحضارية ونشدان الصيغ الإنسانية للقضايا المتنازع عليها لهي ضرورة حضارية أكيدة. ومن جانب آخر، فإن على الأطراف كافة التخلي عن ''الفوقية'' ونزْع وهم ''النخبوية''، وعلى حكومات الدول الغربية السعي الجدي لإحداث التواصل الفعلي والبناء، إنْ هي أرادت أن تحافظ على مصالحها كافة بما فيها الاقتصادية والاجتماعية، وأن تتعامل مع العالم الإسلامي من باب التواصل لا أن تتعامل معه بعقلية المتفوّق المستعمر المسيطر، وعليها أن تقدم لشعوبها مفاهيم واضحة عن أبجديات الثقافات الأخرى، وتفتح لهم أفق التحاور الجاد، وعدم المساس بما هو ''مقدس'' عند غيرهم من الحضارات الأخرى .
حق الانقلاب الثقافي
- لكن الأزمات لا تزال مستمرة، والأخبار كلّ يوم تقدّم الجديد على هذا الصّعيد!
- إنّ الخطوة الأولى في تخفيف حدّة الأزمات تبدأ بالإقرار بأنّ الانقلاب الثقافي العميق مطلوب للحضارات الإنسانية كافة للتغلب على الصراعات الدائرة.
واليوم نشعر بالحاجة القصوى لاستخدام كل مناهج العلوم الاجتماعية وإمكانياتها المعرفية بل ونتخطاها من أجل التفكير بالمضامين التاريخية الموضوعية، وبالثقل الجيوبوليتيكي، وبالمثل العليا، وبالآفاق المستقبلية، خصوصا فيما يتعلق بعلاقتنا مع الحضارات الأخرى، ولا بد من التركيز على جدية الطرح وعلميته، وليس الاكتفاء بتلك الخطابات الأيديولوجية التي تهيمن حتى على بعض المفكرين، ولهذا السبب لا بد أن نعيد التفكير في هذه الخطابات؛ لكي نحِلّ الواقعية محلّ الصورة الأيديولوجية، وينبغي أن ننظر إلى الأمور من خلال منظورات لم تُعرف من قبل، وذلك لكي نقدّم صورة أخرى عن الإنسان أينما كان سواء كان في المشرق ام المغرب وبغض النظر عن معتقده.
الإنسان الكوني
- بصورة إجمالية، ما هي رؤيتك الفلسفية للحوار المنتج في هذه المرحلة الراهنة؟
- رؤيتي الشخصية تتبلور من خلال طرح مُقترب علمي وثقافي واجتماعي جديد يتناول الأنساق المؤسِّسة لمناهج المعارف الإنسانية كافة، فيتخللها جميعها ويتخطاها في آن معاً، وذلك من خلال افتراض مُسبق لذهنية منفتحة فتتحاور وتتصالح مع كلّ ما يحيط بها، وترتكز على صوْن كرامة الإنسان، بغض النظر عن أي انتماء له، سواء كان انتماء فكريا عقائديا أم جغرافيا سياسيا، لأن الإنسان - بنظري - ذو بُعد كوكبي كوني، وهو مظهر من مظاهر التجلي الوجودي، وظهوره على الأرض وانتمائه الى حضاره واعتناقه لأية عقيدة ليس إلا مرحلة من مراحل تاريخ الكون، ولكلّ إنسان الحقّ في انتمائه إلى ثقافة متجسدة من خلال طرح عبر ثقافي قائم على التأسيس لاحترام التنوعات الفردية والجماعية التي تجمع فيما بينها الحياة المشتركة على الأرض.
وهذه صيغة جديدة للعلاقة بين الثقافات والحضارات الإنسانية تمرّ عبر تصحيح علاقة الانسان بالطبيعة بالواقع بالآخر، وقبل كل شيئ بنفسه وذاته التي تنطلق من مفهوم أنه لا وجود لـ ''أنا'' و''هو''، وفكرة الذات مقابل ''الذات'' لتتعارض معها غير موجودة، والآخر هو أنا، والذات قابلة للتغيير والتبديل، وبناء عليه فإن الحضارة الأخرى والمفاهيم والأيديولوجيات كلها وكلّ ما يحمل هذا الآخر من مخزون حضاري ممكن أن يدخل ويمتزج مع الذات فيغيّرها ويطوّرها أو لا يطوّرها.
===============(62/199)
(62/200)
واقع (حوار الحضارات)
شبكة البصرة
صلاح المختار
رغم تراجع الحديث حول (حوار الحضارات) عقب أحداث 11/9/2001م في أميركا، وطغيان واقع (صراع الحضارات) فإن ثمة من استمر في الدعوة للحوار! ورغم أن هذه الدعوة سليمة من حيث المبدأ بيد أن سلامتها، كي تكتمل ، يجب على الطرف الآخر، وهو الأقوى ، أن يثبت حسن نواياه بالأفعال والإجراءات وليس بالأقوال والادعاءات. ولقد أكدت أحداث غزو العراق واستكلاب الغزو الصهيوني في فلسطين مؤخراً، أن الغرب الرسمي، وبمشاركة قسم كبير من الغرب الشعبي الذي ينتخب حكوماته الاستعمارية ، يشن حرب إبادة شاملة ضد الأمة العربية والإسلام . من هنا تفرض الضرورة تسليط الضوء على جوانب أساسية من موضوع علاقاتنا مع الغرب لتأكيد أن ثمة مؤامرة كبرى ، بل هي الأعظم والأخطر في تاريخنا العربي والإسلامي كله، هدفها استعبادنا ونهب ثرواتنا ومحو هويتنا القومية والدينية عبر الغزو والإبادة الجماعية للعرب أفراداً وحكومات وشعباً.
حوار المتباينين
ولا يقصد هنا التباين في الآراء والمصالح ، فمن الطبيعي أن يجري الحوار بين مختلفين، إنما المقصود هو أن طرفي (حوار الحضارات) غير متكافئين، فالأول، وهو الغرب الذي يضم أميركا الشمالية وأوروبا، متفوق بشكل مطلق في أغلب نواحي الحياة، خصوصاً تلك المتعلقة بالقوة الغاشمة، أما الطرف الثاني، وهو الوطن العربي والعالم الإسلامي، فإنهما الأضعف والأكثر تمزقاً وفرقة رغم ما يملكانه من إمكانات هائلة كان بالامكان استخدامها لتحقيق نوع من التوازن في القوى، لو استخدمت وتمت السيطرة عليها من قبل العرب، لكنها بيد الغرب منذ عقود طويلة!
ما الذي يجبر طرفاً قوياً ومتفوقاً على احترام ومراعاة مصالح طرف ضعيف لا يملك (بيده فعلاً) أدوات ووسائل الضغط ؟ إن ما يجعل القوي يحترم مصالح الضعيف هو رادع القيم الإنسانية العليا، وفي مقدمتها العدالة واحترام كل إنسان، بغض النظر عن جنسه، والحفاظ على الحقوق الشرعية. ولكن إذا كان الغرب مجرداً من القيم الإنسانية العليا تماما، وهو واقع أثبتته ظاهرة الاستعمار الغربي الذي قتل عشرات الملايين من شعوب العالم الثالث، ونحن العرب الآن نتعرض لأبشع (هولوكوست) يصنعه الغرب ( بعد ابادة 112 مليون هندي احمر هم من كانوا سكان امريكا الاصليين ، كما اثبت الباحث الاستاذ منير العكش ، وكان عدد سكان اوربا كلها انذاك هو55 مليون انسان ) مدفوعاً ايضاً بقوة الصهيونية، خصوصاً في العراق وفلسطين، حيث صار المثل السائد هو: (اقتل عربياً وامشي) ، إذا كان الوضع هو كذلك كيف نتوقع من الغرب أن يحترم مصالحنا وحقوقنا؟
إن ما حصل ويحصل في عشرات سجون العراق من اغتصاب جنسي وتعذيب حتى الموت وقتل عشوائي للمواطنين، ونهب وتدمير العراق، والذي وصل عدد ضحاياه منذ عام 1991 إلى أكثر من مليوني عراقي ماتوا، هو أفظع دليل ومشهد على انعدام الضمير الإنساني في الغرب الرسمي وفي قسم كبير من الغرب الشعبي الذي يرى لكنه يسكت، أو يكتفي بالقول (ان هذا خطأ) ثم يسكت تاركاً حكامه يقتلون ويغتصبون ويسرقون و يعيد انتخابهم ! وما يجري في فلسطين هو صورة مصغرة لما يجري في العراق. ومن المؤسف أن نلاحظ أن أكثر حكومات الغرب الأوروبي (اعتدالاً) وهما حكومتا فرنسا وألمانيا، لا تتخذان من المواقف ما يثبت أنهما تختلفان جذريا عن حكومتي الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ رغم المجازر البشعة ضد المدنيين في العراق وفلسطين ورغم النهب والتدمير المنظم فإنهما يكتفيان بالتعبير عن الأسف !
ولإدراك حجم التشابه بين أوروبا وأمريكا لا بد أن نشير إلى ردود فعل فرنسا وألمانيا على عملية استشهادية يقوم بها فلسطيني وطنه محتل، فنجد شيراك شخصياً وشرويدر شخصياً يلعنان ويشتمان بأبشع الأوصاف النضال الفلسطيني! ولو قارنا رد فعل فرنسا وألمانيا على دخول العراق للكويت، برد فعلمها على غزو أميركا للعراق تتضح لنا أسطورة وأكذوبة وجود فرق جوهري بين أميركا والغرب ، ففي حالة الكويت ساهمت فرنسا بالحرب وبشراسة فاقت شراسة البريطانيين في قتل العراقيين ، ولعل قصف المقاتلات الفرنسية لسوق الفلوجة وقتل عشرات المدنيين في عام 1991 هو اوضح مثال يثبت ان فرنسا قد مارست قتل المدنيين في الفلوجة قبل الامريكيين ، وفي حالة غزو العراق فإن فرنسا وألمانيا اعترضتا دون استخدام فرنسا للفيتو، وبشكل لين انتهى بالاعتراف بغزو العراق لاحقاً! أما ألمانيا فقد دفعت في عام 1990م مبلغ عشرة مليارات دولار مساهمة في الحرب ضد العراق، وهاهي الآن تبيع السلاح لقوات غزو العراق وتؤيد الاحتلال ويعلن وزير دفاعها عن وجود احتمال ارسال قوات المانية الى العراق لمساعدة امريكا على الخروج من المستنقع العراقي الخطير ، بل الاخطر من حرب فيتنام !(62/201)
هذا الفرق في رد الفعل على حالة واحدة ، هي الاستيلاء عسكريا على بلدين ، يؤكد أن الغرب لا يملك الرادع الأخلاقي ولا القيم الإنسانية التي تسمح له بخوض حوار إيجابي مع طرف أضعف منه بكثير، ومن يتوقع منه ذلك يجهل، أو يتجاهل الواقع المر. فالحوار إذن بين قوي وضعيف وليس بين أنداد في عالم وحشي وبربري يحكمه قانون الغاب، وفيه لا بد للضعيف أن يصغي ويقبل وإلا فإنه سيقتل!
غياب حسن النية
الحوار كلمة تنطوي على معنى إيجابي فهي نقيض الحرب ، أو على الأقل هي وسيلة تتجنب الحرب والصدام وتسعى لإيجاد عناصر تفاهم بين طرفين مختلفين ويسعيان للوصول إلى حل عبر الوسائل الودية. هل ينطبق هذا التعريف للحوار على (الحوار) بين العرب والغرب؟ الجواب هو كلا ، لأنه ، أي الحوار ، ، وببساطة ووضوح تامين، عبارة عن أسلوب ملحق وخادم للأسلوب الأساسي : إخضاع العرب بمختلف الوسائل وفي مقدمتها العنف. ولإثبات ذلك يجب التذكير بأجندة (الحوار) هذا، فكلها تنصب على إلزام العرب بقبول مفاهيم وخيارات غربية وتخدم الغرب والصهيونية وليس من بينها أي خيار يخدم المصالح المشروعة للعرب، فالجانب الغربي، سواء كان أميركيا أو أوربيا، يريد منا أن نقبل مفهومه للإرهاب، والذي يشمل أساساً المقاومة المشروعة للاحتلال في فلسطين والعراق، وذلك يعني عمليا أن نقبل بالاحتلال وضياع الحق المشروع لنا، وأن نتخلى عن جزء من ديننا ونزيله من القرآن الكريم وأن نقبل (بالقيم الغربية) الخاصة بمعاني (الشرف) والزواج والشذوذ الجنسي والعلاقات الجنسية خارج الزواج ، وأن نتخلى عن أي نظام اقتصادي يضعف نهب الغرب لثرواتنا ويفرض علينا الشركات التي يريد كي تسيطر على اقتصادنا، وأن ننسى أننا عرب وننتمي لأمة واحدة وأن نتصرف بصفتنا بلداناً متفرقة ومختلفة لا يربط بين العراقي واليمني إلا ما يربط العراقي بالأجنبي كالارجنتيني، وأن (نحب) إسرائيل ونتوقف عن رفض احتلالها وتوسعها ومجازرها ضدنا.. الخ..
هذه القائمة الطويلة من طلبات الغرب من العرب أثناء الحوار تعد طريقاً باتجاه واحد المستفيد فيه طرف واحد والخاسر فيه طرف واحد ، فأين الحوار الإيجابي الذي يفيد طرفيه؟ في الواقع لم يقم حوار متكافئ أبداً، والعرب الذين طالبوا بحقوقهم أثناء (حوارات) معينة استبعدوا وانقطع الحوار معهم ، أو طلبوا منهم تأجيل طلباتهم لما بعد نجاح الحوار! فأي حوار هذا الذي يجرد الطرف الأضعف فيه حتى من ملابسه الداخلية ويجبر على فتح الغرفة الخاصة جدا بحريمه للجان التفتيش وحقوق الانسان؟! هذا النوع من الحوار هو امتداد للبندقية الغربية والصهيونية التي تبيد أبناءنا وتدمر وطننا يراد منه إقناعنا بقبول التنازل عن الثروات والهويتين القومية والدينية بالحوار وإلا فالبندقية جاهزة للقتل !
غطاء للاستعمار الجديد
إن (حوار الحضارات) ، الذي تخلت عنه أميركا رسمياً وفعلياً واختارت ا بادة الحضارات الأخرى بالقوة العسكرية ، مازال التكتيك المفضل لحلفاء أميركا الأوربيين، خصوصا ًبريطانيا فرنسا وألمانيا، فلئن كان الأميركي يقتل العربي بالرصاص ويدمر إنسانيته بالاغتصاب الجنسي فإن الأوروبي يحاول أن يمتص غضب العربي ويخدعه بادعائه أنه (صديق) يريد الحوار والتعاون لا الحرب ولا الغزو والهيمنة ، ولكن في الحالتين النتيجة واحدة وهي إجبار العرب على تطليق هويتهم وتاريخهم وثقافتهم ودينهم وتسليم ما تبقى حرا من ثرواتهم للغرب. إن هذا النوع من الحوار هو أحد أهم وسائل استعمار الغرب للوطن العربي ، فما أن يضرب الأميركي بالرصاص عربياً ويقتله حتى يتقدم أوروبي ليقول لشقيقه : إذا أردت النجاة من المصير المؤسف لشقيقك فوافق على ما نريد! ألا يشكل ذلك كله نقضاً للحوار ووأداً له؟
هنا يطرح سؤال مهم وهو التالي : إذا كان هذا الضرب من الحوار هو في الواقع أداة إخضاع واستعمار يكمل ويدعم البندقية وليس بديلاً عنها، فهل يعني ذلك التخلي عن فرص البحث عن حلول سلمية تجنبنا التعرض للابادة ، او على الاقل تقلل منها وتحفظ مصالحنا ، أو على الأقل قسم منها ؟ بالتأكيد كلا ، إذ يجب اغتنام أية فرصة (حوار) لإيصال صوتنا للطرف الآخر، والتأكيد له أن ما يفعله لن يخلق تعايش حضارات بل حروب حضارات ستعم الجميع وستؤدي الى خسارة الجميع ، ولضمان أن يكون لنا صوت مسموع يجب أن يسند حوارنا مع الآخر ببندقية المقاوم سواء في فلسطين أو العراق ، وفي أي قطر عربي يتعرض للاحتلال أو التهديد به. بتعبير آخر: أن الطرف الآخر لن يصغي لنا جدياً أبداً إلا إذا أدرك أننا نملك وسائل إيذائه وتهديد مصالحه
===========(62/202)
(62/203)
نظريتنا حول حوار الحضارات
لماذا لا توجد لدينا نظرية في حوار الحضارات؟
عندما طرح فوكوياما مقولته حول «نهاية التاريخ» سنة 1989م، حاول اختبار هذه المقولة في مقالة قصيرة نشرها في مجلة «ناشيونال أنترست» الأمريكية، وبعد أن تصدّرت هذه المقولة العناوين الرئيسية في بعض المجلات الأمريكية الشهيرة مثل «التايم» و«النيوزويك» وغيرهما، وتحولت في فترة قياسية -حسب قول الكاتب الأمريكي ألن ريان- إلى رعشة في كل العالم، وأصابت الكثير من القراء بالذهول، وبسبب ما أحدثته هذه المقولة من جدل وسجال على نطاق عالمي واسع، اندفع فوكوياما إلى تطوير هذه المقولة، بالتوسع في دراستها وتحليلها بالشكل الذي ظهر في كتابه الصادر سنة 1992م، بعنوان: (نهاية التاريخ والإنسان الأخير).
وحينما طرح صمويل هنتنغتون مقولته حول «صدام الحضارات» سنة 1992م، حاول هو الآخر اختبار هذه المقولة، في مقالة قصيرة نشرها بمجلة «فورين أفيرز» الأمريكية، وبسبب ما أثارته هذه المقولة من نقاشات واحتجاجات نقدية وساخنة بين مختلف ثقافات وحضارات العالم، وفجّرت حولها -حسب قول أستاذ العلوم السياسية الكاتب الأمريكي جيمس كورت- صداماً كبيراً بين الكتّاب. هذه النقاشات الاحتجاجية حرّضت هنتنغتون على التوسع في دراسة هذه المقولة، وجمع القرائن والأدلة والحوادث والوقائع التي تعزز قناعته بهذه الفكرة، كما ظهر في كتابه الصادر سنة 1996م، بعنوان: (صدام كيف ندخل حوار الحضارات ونحن
لا نعتمد على أنفسنا في معرفة حضارتنا الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي).
في المقابل حينما طُرحت فكرة «حوار الحضارات»، والتي دعا إليها على المستوى العالمي السيد محمد خاتمي في خطابه سنة 1998م، لم يظهر من المثقفين والمفكرين والباحثين العرب والمسلمين اهتمام كبير بتطوير هذه الفكرة، والعمل على تعميقها فكرياً ومعرفياً، والاندفاع نحو طرحها، والدفاع عنها، والتأكيد عليها، ولم ترتبط هذه الفكرة وتعرف بأسماء تتواصل مع العالم في هذا الشأن، ولم تقدم إضافات فكرية متميزة ومهمة، تساهم في إنماء هذه القضية وتجديدها وتراكمها.
كما أننا لم نبتكر لأنفسنا فهماً خاصاً بنا حول هذه القضية، الفهم الذي يستند إلى حقائقنا التاريخية، ويرتكز على معاييرنا الفكرية، وينطلق من شروطنا الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. ومن دون تكوين هذا القدر من الفهم المستقل، فإن من الصعب علينا التواصل مع العالم في هذا المجال، لأن التواصل في جوهره هو عملية معرفية تنطلق من المعرفة، ويفترض أن تنتهي إليها، والذي لا يستطيع إنجاز معرفة، فإنه لا يمكن أن يقنع العالم بالتواصل.
ومع أن قضية «حوار الحضارات» هي من قضايا العالم الكبرى، وهي شديدة الارتباط برؤيتنا وتفكيرنا لمسألتنا الحضارية، ومستقبلنا وعلاقتنا بالعصر والعالم، إلا أنه لم تتخصص لهذه القضية مجلة فكرية واحدة في العالم العربي، تساهم بشكل دائم في دراسة هذه القضية، وتطوير المعرفة بها، وبناء التواصل بين المفكرين والباحثين المهتمين بها، ولكي تكون مثل هذه الخطوة من الصور الحية في تمثل هذه القضية.
وبطموح أكبر، كان يفترض أن ينهض بهذه المهمة مركز متخصص للدراسات والبحوث، يتعامل مع قضية بهذا المستوى، بقدرات علمية رفيعة، وبطريقة تجمع العقول المُفكرة والمتخصصة، وبمنهج يُراكم المعرفة ويُطوّرها، خصوصاً وأننا أمام مشكلة حساسة وحرجة هي أن معرفتنا عن حضارات العالم، لا نكوّنها نحن بأنفسنا، ولا نستقل بمعرفة خاصة عنها، وإنما نرجع في الغالب إلى دراسات الغربيين وبحوثهم الموسوعية في هذا المجال، وهي الدراسات المهيمنة على هذا الحقل.
والأشد حساسية وحرجاً من ذلك، أنه حتى معارفنا نحن عن حضاراتنا، أصبحنا نأخذها من دراسات الغربيين، فعمليات التنقيب والحفريات الأثرية والتاريخية التي جرت وتجري في مناطقنا، لسنا من ينهض بها في العادة، وهكذا عمليات البحث والتحقيق، وصيانة المخطوطات المجهولة والقديمة والمتآكلة، بالإضافة إلى حماية الآثار والمواقع الأثرية، والحفاظ عليها والعناية بها، وحتى التشجيع عليها، غالباً ما يأتي من الغربيين، فكيف ندخل في حوار بين الحضارات، ونحن لا نعتمد على أنفسنا حتى في تكوين المعرفة بحضارتنا، ونفتقد من جهة أخرى إلى المعرفة بالحضارات في هذا العالم!
جريدة عكاظ هذا اليوم
==============(62/204)
(62/205)
حوار الحضارات ..وفتح جسور التطبيع
محمود العالم
ثقافة القوة دعوة إلى استغلال الواقع وتطويره واستخدام عناصر القوة فيه لتحقيق المزيد من القوة والنمو باعتبار أن القوة سبيل البقاء ، وأن النمو تدعيم للقوة فلا قوة بلا نمو ولا نمو بلا قوة و...... القوة في استخدامها ودليل الحياة في نموها فمن لا ينمو يموت ومن لا يستعمل قوته يصيبه العجز ومن منطلق هذه النظرة إلى الحياة يندفع الغرب خارج حدوده ليمارس حقه في استخدام قوة ما يملك ويلبي مستلزمات النمو توسعاً ورقياً ، افقياً وعمودياً من أجل جمع الثروة ونشر النفوذ فالاستعمار ثقافة غربية بحكم أنها ثقافة مشحونة بنزعة التفوق فهي التي انجبت أعتي الأنظمة التوسعية والاحتكارية والعنصرية والنازية والفاشية والصهيونية وهي التي أشعلت الحروب الصليبية والاستعمارية وحروب الإبادة والتطهير العرقي والحروب العالمية وهي الثقافة التي استخدمت أسلحة الدمار الشامل وممارسة سياسات الحصار والتجويع وانتهكت بكل صلف المواثيق الدولية وحقوق الانسان ..
إن طرح فكرة حوار الحضارات حالياً لا يقصد من ورائه غير تمرير وفتح جسور التطبيع مع مشاريع الواقع المفروض بالقوة مثل واقع الاحتلال الصهيوني لفلسطين والاحتلال الانجلوأمريكي للعراق ، وفكرة الشرق أوسطية والقبول بثقافة العيش والتعايش مع مفردات الغزو الثقافي تحت راية ما يسمى " بالعولمة " ..
بآليات جديدة فما يطرح من شعارات حول التعاون من أجل حماية البيئة وحقوق الإنسان يخفي تحت طياته جرحاً دولياً يريد الغرب من خلاله أن يشرك فيه العالم المتخلف وتحميله مسؤولية تدمير البيئة وانتهاك حقوق الإنسان ومحاولة لجعل الشعوب المتخلفة في مأزق لتدفع ضريبة ما ارتكبه الغرب ولا زال من تلويث للبيئة وتصنيع الأسلحة النووية ونشر الرعب ..
فما يجري الآن هو جدل عقيم بين حضارتين على النقيض تماماً ، حضارة صناعية مادية مبنية على فكرة البقاء للأقوى ومن يملك القوة فهو على حق وبين حضارة مبنية على القيم الروحية والمبادئ الإنسانية لا تقدس غير قوة الحق وقيم العدالة والمساواة .
===========(62/206)
(62/207)
من صدام الحضارات إلى حوار الحضارات ).....
بقلم: د. رسول محمد رسول
حتى عام 1996، كان صامويل هنتنجتون واحداً من الباحثين البارزين الذي اجتهد لصياغة رؤية تفسيرية، بالاستناد إلى مجريات الواقع الحضاري الذي يعيشه العالم، وبما أن كل رؤية تفسيرية تنطلق من ثابت منطقي ووجدي أحياناً، فإن هنتنجتون يعتمد مقولة (الصدام The Calsh ) كتعبير عن لحظة الصراع الذي يجري وسيستمر في أرض الواقع، لكي تكون هذه المقولة ذات دلالات عامة وشمولية فإنه يحقنها بقوة دلالية مضافة لتصبح أكثر تعبيراً عن جوهرية هذا الصدام، واتساع شموليته، فمن الصدام الحضاري إلى الصدام الكوني، ومن الصدام الجزئي، بين طرفين أو ثلاثة إلى صدام كلي تشترك فيه مجمل القوى البشرية بمختلف تشكيلاتها.
وكما هو معتاد، فإن أي مفهوم إجرائي لابد أن يشتغل في مجال ما وإلا ظل سابحاً في فضاء معطل، فالتعبير يجري ضمن مجال، فأما أن يصل إلى التطابق بين إرادة التغيير، أو يصل إلى حالة الصدام والتنافر بين الإرادات المضادة، والمجال الذي يفترض فيه هنتنجتون (التغيير والصدام) هو مجال ((الحضارات)) فالتغيير يجري في وضعية الحضارات، والصدام سيكون فيما بينها، وهنا إقصاء لرؤية الانسجام والتوائم الحضاري، وإنزال التنابذ والتنافر إلى حيزات الواقع الفعلي.
ثمة مفاهيم ذات مساس مباشر بالخطاب العام الذي يشتغل فيه كتاب (هنتنجتون) وهي: مفهوم الحضارات، مسألة الحضارة الكونية، العلاقة بين القوة والثقافة، ميزان القوى المتغير بين الحضارات، التأصيل في المجتمعات غير الغربية، البنية السياسية للحضارات، الصراعات التي تولدها عالمية الغرب، العسكرية الإسلامية، التوازن والاستجابات المنحازة للقوة الصينية، أسباب حروب خطوط التقسيم الحضاري والعوامل المحركة لها ومستقبل الغرب وحضارات العالم.
هذه المفاهيم، أو التكوينات المفهومية، تتمفصل في خمسة محاور أساسية هي:
1 ـ لأول مرة في التاريخ نجد (الثقافة الكونية) متعددة الأقطاب ومتعددة الحضارات، التحديث مختلف بدرجة بينة عن التغريب، ولا يُنتج حضارة كونية بأي معنى، ولا يؤدي إلى تغريب المجتمعات غير الغربية.
2 ـ ميزان القوى بين الحضارات يتغيرن الغرب يتدهور في تأثيره النسبي، الحضارات الآسيوية تبسط قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، الإسلام ينفجر سكانياً مع ما ينتج عن ذلك من عدم استقرار بالنسبة للدول الإسلامية وجيرانها، والحضارات غير الغربية عموماً تُعيد تأكيد ثقافتها الخاصة.
3 ـ نظام عالمي قائم على الحضارة يخرج إلى حيز الوجود، المجتمعات التي تشترك في علاقات قربى ثقافية تتعاون معاً، الجهود المبذولة لتحويل المجتمعات من حضارة إلى أخرى فاشلة، الدول تتجمع حول دولة المركز أو دولة القيادة في حضارتها.
4 ـ مزاعم الغرب في العالمية تضعه بشكل متزايد في (صراع مع الحضارات الأخرى) وأخطرها مع (الإسلام والصين)، وعلى المستوى المحلي، فإن حروب خطوط التقسيم الحضاري، وبخاصة بين المسلمين وغير المسلمين، ينتج عنها (تجمع الدول المتقاربة)، وخطر التصعيد على نطاق واسع، وبالتالي جهود من دول المركز لإيقاف تلك الحروب.
5 ـ إن بقاء الغرب يتوقف على الأمريكيين بتأكيدهم على (الهوية الغربية)، وعلى الغربيين عندما يقبلون حضارتهم كحضارة (فريدة)، وليست عامة، ويتحدون من أجل تجديدها، والحفاظ عليها ضد التحديات القادمة من المجتمعات غير الغربية، إن تجنب حرب حضارات كونية يتوقف على قبول قادة العالم بالشخصية متعددة الحضارات للسياسة الدولية وتعاونهم للحفاظ عليها.
تُشير هذه المحاور إلى إن عالم ما بعد الحرب الباردة متعدد الأقطاب، يفتقر إلى تقسيم واحد ومحدد، كالذي كان أثناء الحرب الباردة، هذه الأقطاب هي (الحضارات) التي يتكون منها العالم، وهي: الصينية، اليابانية، الهندية، الإسلامية، الغربية، الأفريقية وأمريكا اللاتينية، وما يحكم العلاقات بين هذه الحضارات هو (الصدام)، هذا الصدام ينطلق ويعود بالاستناد إلى (الثقافة) أو إلى (الهوية)، ذلك ((إن الثقافة أو الهويات الثقافية، والتي هي على المستوى العام، هويات حضارية، هي التي تشكل أنماط التماسك والتفسخ والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة .. )) على أن العوامل الثقافية المشتركة والاختلافات هي التي تشكل المصالح والخصومات وتقاربات الدول، ونلاحظ إن أهم دول العالم جاءت من حضارات مختلفة، والصراعات الأكثر ترجيحاً أن تمتد إلى حروب أوسع، هي الصراعات القائمة بين جماعات ودول من حضارات مختلفة، وأشكال التطور السياسي والاقتصادي السائدة تختلف من حضارة إلى أخرى، والقضايا السياسية على أجندة العالم تتضمن (الاختلافات بين الحضارات)، والقوة تنتقل من الغرب الذي كانت له السيطرة طويلاً إلى الحضارات غير العربية، والسياسة الكونية أصبحت متعددة الأقطاب ومتعددة الحضارات.(62/208)
إن رؤية هنتنجتون تتقاطع هنا كياً مع رؤية (فرانسيس فوكوياما)، الباحث الأمريكي الجنسية الياباني الأصل، والذي قال: بأن انهيار القطبية الثنائية بانهيار الاتحاد السوفيتي، كإطار للشيوعية، أدى إلى انفراد الرأسمالية والليبرالية الغربية بالعالم وهو ما يمثل نهاية الاريخ، أو بتعبيره حالياً نشهد نهاية التاريخ بما هو نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وتعميم الليبرالية الديمقراطية الغربية على مستوى العالم كشكل نهائي للحكومة الإنسانية.
التغير في مسار التاريخ والتغيرات المتلاحقة خلال ربع قرن لم تؤد إلى حالة من الانسجام أو التوافق الواحدي الاتجاه، بل على العكس من ذلك، أخذت تُشطي هذه القطبية المنفردة إلى أقطاب أخرى، فالصراع خرج من مجال ضيق بين نظامين هيمناً على البشرية خلال خمسة وسبعين عاماً إلى مجال أنظمة متعددة ومختلفة، ومن دائرة عقائدية ممنطقة ومُعقلنة إلى مجال أنظمة وجودية فكرية ترتبط بمفاهيم مؤصلة في الذات البشرية، ذات ارتباط معيوش لا يكاد ينفصل انفصالاً كلياً عن الوجود البشري في ظهوره الشخصي مثل: العرق، الدم، الطائفة، الدين، العقيدة، التقاليد، وهي ومفاهيم تُمثل: قوى للصدام، أو هويات ثقافية أو حضارية، مؤهلة للتنازع والصدام والتصارع بها بين التعدديات الحضارية، أو القُطبيات المختلفة.
الصراع الجديد إذن صراع هويات ثقافية أو حضارية وهو الذي سيحكم العلاقات بين البشر، وفي الم يُوصف بأنه مائع ترى الناس (يبحثون عن الهوية والأمان، وعن جذور وصلات لحماية أنفسهم من المجهول)، ومع نهاية الحرب الباردة بدأت الدول في أنحاء العالم تتلمس الطريق نحو التجمع، وتجد هذه التجمعات مع دول لها نفس الثقافة ونفس الحضارة، بمعنى إن السياسة الكونية يعاد تشكيلها الآن على امتداد الخطوط الثقافية، الشعوب ذات الثقافات المتشابهة تتقارب والشعوب والدول ذات الثقافات المختلفة تتباعد، الإنحيازات التي تعتمد على الأيديولوجية والعلاقات مع القوى الكبرى تفسح الطريق لتلك التي تعتمد على الثقافة والحضارة، والحدود السياسية يُعاد رسمها لكي تتوافق مع الحدود الثقافية والعرقية والدينية والحضارية، المجتمعات الثقافية تحل محل تكتلات الحرب الباردة، وخطوط التقسيم بين الحضارات تصبح هي خطوط الصراع الرئيسية في السياسة العالمية.
إن إرادة البحث عن هوية والعودة إلى فيافيها، رغبة أفرزتها متغيرات العصر، ويلاحظ (هنتنجتون) أكثر من ذلك، فلقد شهدت مرحلة التسعينات انفجار (أزمة هوية كونية)، فأينما تنظر تجد الناس يتساءلون: (من نحن)؟، (لمن ننتمي)؟، (من هو الآخر)؟ وهي أسئلة مركزية، ليس فقط للشعوب التي تحاول أن تصوغ دولاً قوية جديدة، كما في يوغسلافيا السابقة، إنما على المستوى العام، هذه الأسئلة أثارت لدى الباحث أسئلة أخرى، الإجابة عنها تقتضي النظر إلى الوقائع في كليتها وشموليتها، فلماذا تُسهل العوامل الثقافية المشتركة من عملية التعاون والتلاحم بين الناس؟، هذا السؤال الذي يطره هنتنجتون يريد به التوصل إلى تفسير لأسباب تركز العلاقات بين البشر على أساس مبدأ أو مرجعية، ولغرض الإجابة عن هذا السؤال يرى:
1 ـ يوجد لدى كل الأفراد هويات متعددة، قد تتنافس مع بعضها، وقد تقوي من بعضها البعض، القرابة، المهنة، المؤسسة، الإقليم، التعليم، الحزب، الأيديولوجيا .. الخ.
2 ـ البروز المتزايد للهوية الثقافية على (المستويات الدنيا) قد يقوى بروزها على (المستويات العليا).
3 ـ الصراعات بين الجماعات الثقافية تتزايد أهميتها والحضارات هي الكيانات الثقافية الأوسع.
4 ـ البروز المتزايد (للهوية الثقافية) دفع القدرات الرائدة وقوة المجتمعات غير الغربية إلى إعادة تنشيط الهويات والثقافات الأصلية.
5 ـ أدى التحسن الذي حدث في مجالات الانتقال والاتصال إلى تفاعلات وعلاقات أكثر تكراراً واتساعاً وتناسقاً وشمولاً بين شعوب من حضارات مختلفة، ولذلك أصبحت هوياتهم الحضارية أكثر بروزاً.
6 ـ إن مصادر الصراع بين الدول والجماعات التي تنتمي إلى حضارات مختلفة كانت دائماً تولد صراعاً بين الجماعات كالسيطرة على الناس، الأرض الثروة، القوة، النسبية، أي القدرة على فرض القيم والثقافة والمؤسسات الخاصة على جماعة أخرى.
7 ـ الهوية على المستوى الشخصي، القَبَلي، العرقي، الحضاري، يمكن أن تعرف فقط في علاقتها بـ ((الآخر)) شخصاً آخر، قبيلة أخرى، جنساً آخر، حضارة أخرى.
8 ـ كلية وجود الصراع، فالكره شيء إنساني، ولتعريف النفس ودفعها يحتاج الناس إلى أعداء، منافسين في العمل، خصوماً في الإنجاز وفي السياسة، ومن الطبيعي أن لا يثق الناس في المختلفين عنهم ومَن لديهم القدرة على إلحاق الضرر بهم، بل يرونهم خطراً عليهم، حل صراع ما أو اختفاء عدو ما، يولد قوى شخصية واجتماعية وسياسية تؤدي إلى نشوء صراعات جديدة أو أعداء جُدد، نزعة الـ ((نحن)) والـ ((هم)) عامة تقريباً في السياسة، والـ ((هم)) في العالم المعاصر، وعلى نحو متزايد هم أُناس ينتمون إلى حضارة أخرى.(62/209)
من كل هذا نلاحظ أن (هنتنجتون) لا يرى في انتهاء الحرب الباردة نهاية للتعدد، والانسجام والانفراد المتوقع بالكون محض وهم، التعدد وتأصيله في الكون البشري أصبح أكثر حقيقية وواقعية من ذي قبل، والحاجة إلى الذات والهوية والأصل والعرق والمجال المحدد أمست حاجة وجودية، لكنها تتركز في عالم اليوم بالهوية الحضارية، هذا الثابت هو أساس وجوهر الصراع والتنافس في حياتنا المعاصرة، والنزوع إلى الاختلاف بالطبع لا يلغي النزوع إلى التوحد والتوافق والانسجام.
ويرجح هنتنجتون الرأي بأن (أواخر القرن العشرين شهد انبعاثاً أو صحوة دينية في أنحاء العالم، وأدى ذلك إلى تقوية الاختلافات بين الأديان. ونظرته إلى المستقبل تُرجح انتصار الإسلام حيث على ((المدى الطويل سينتصر محمد (ص) والمسيحية تنتشر أساساً عن طريق التحول، الإسلام ينشر عن طريق التحول والتناسل ونسبة المسيحيين في العالم ارتفعت إلى 30% في الثمانينات ثم استقرت وهي الآن تنخفض، وقد تصل إلى 25% من سكان العالم بحلول عام 2025م ونتيجة لمعدل الزيادة السكانية المرتفع جداً، فإن مسلمي العالم سيستمرون في الزيادة الكبيرة التي قد تصل إلى نسبة 20% من سكا العالم مع نهاية القرن الحالي وتفوق عدد المسيحيين بعد سنوات قليلة وربما تصل إلى نسبة 20% من سكان العالم بحدود سنة 2000).
إن عملية التأصيل الكونية هذه تتجلى بشكل واضح في الإحياء الديني الذي يجري في أجزاء كثيرة من العالم، خاصة ذلك الانبعاث الثقافي في الدول الآسيوية والإسلامية الناجم عن نشاطها الثقافي ونموها الديمغرافي، وتتبع هذه الصحوة في الجمهوريات الإسلامية كونها (رد فعل ضد العلمانية والنسبية الأخلاقية والانغماس الذاتي وإعادة تأكيد لقيم الانضباط والعمل والعون المتبادل والتضامن الإنساني، وهذا يعني على حد تعبير (وليم ماكنيل) حين يقول: إن إعادة تأكيد الإسلام مهما كان شكله الطائفي، يعني رفض النفوذ الأوروبي الأمريكي على المجتمع والسياسة والقيم المحلية، وهذا يؤشر على أن (صحوة الأديان غير الغربية هي أقوى مظاهر معاداة التغريب في المجتمعات غير الغربية، لكن الصحوة هنا ليست رفضاً للحداثة بل هي رفض للغرب والثقافة العلمانية النسبية المتفسخة المرتبطة به.
وعلى هذا الأساس تُعد، الصحوة الثقافية والاجتماعية والسياسية العامة للإسلام اليوم التحدي الإسلامي الجديد، والحضارة الإسلامية تُعبر عن ثقتها بنفسها في تحدي الغرب بالاستناد إلى التعبئة الاجتماعية والنمو السكاني، هذا التحدي له آثاره على (عدم استقرار السياسة العالمية في القرن القادم).
يستقرأ (هنتنجتون) واقع حال هذه الأصولية ومُعطياتها، فقد 0لمست الصحوة كل مجتمع في العالم تقريباً، مع بداية السبعينات اكتسبت الرموز والمعتقدات والمبادئ والممارسات والسياسات والتنظيمات الإسلامية التزاماً متزايداً ودعماً في كل أنحاء العالم المكون من بليون مسلم والممتد من المغرب العربي إلى أندونيسيان ومن نجيريا إلى كازخستان، وقد اتخذت عملية بعث الروح في الأسلمة طريقها إلى الظهور من خلال ثلاث فئات، شأنها في ذلك شأن الحركات الثورية، وهي:
1 ـ الفئة الأولى: وتتكون من الطلاب والمثقفين الذين اجتاحا الاتحادات الطلابية، ثم الاختراق الإسلامي للجامعات في مصر والباكستان وأفغانستان وطلاب المعاهد الفنية وكليات الهندسة، ثم جيل التأصيل الثاني الذي عبر عن نمط جديد من الأسلمة في السعودية والجزائر.
2 ـ الفئة الثانية: جاءت من القطاعات الأكثر تقدماص في الطبقة المتوسطة كالأطباء والمحامين والمدرسين والموظفين في الدولة.
3 ـ الفئة الثالثة: من جماهير الإسلام الثوري كما يقول (روي): هم نتاج المجتمع الحديث القادمون الجدد إلى المدينة، ملايين الفلاحين الذين ضاعفوا وضاعفوا من عدد سكان المدن الإسلامية الكبرى، وهذا برأي هنتنجتون، استخلاص نظري، فالمهاجرون من المزارع والمكدسون في الأحياء العشوائية والحقيرة من المدن كانوا دائماً في حاجة إلى الخدمات الاجتماعية التي توفرها لهم المنظمات والمؤسسات الإسلامية وكانوا هم المستفيدين منها.(62/210)
ومن ناحية ترتبط الصحوة الإسلامية بوضعية الحكومات الإسلامية فالعلاقة متداخلة ويحاول (هنتنجتون) استقراء مؤشراتها، فالحكومات التي تُمارس الحكم من منظور إسلامي عملياً هي قليلة في الآفاق الإسلامية، هناك إيران والسودان ودول الخليج العربي فضلاً عن دول أخرى خارج هذه الأطر الجغرافية، في السبعينات والثمانينات كان الصراع قائماً بين فكرة الديمقراطية الليبرالية والاتجاهات الإسلامية، لكن الحركات المتأسلمة تكتسب قوة في البلاد الإسلامية، التأسلم كان هو البديل العملي للمعارضة الديمقراطية للسلطوية في المجتمعات المسيحية، هذه الحركات إحتكرت غالباً عملية المعارضة للحكومات في الدول الإسلامية، ومن منظور (هنتنجتون) كانت قوة هذه الحركات تعود في جزء منها إلى ضعف مصادر المعارضة البديلة، والحركات اليسارية والشيوعية فقدت مصداقيتها ثم قل شأنها لدرجة كبيرة بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي والشيوعية العالمية، جماعات المعارضة الديمقراطية الليبرالية كانت موجودة في معظم المجتمعات الإسلامية لكنها كانت تقتصر عادة على أعداد محدودة من المثقفين وغيرهم من ذوي الارتباطات أو الجذور الغربية ومع إستثناءات قليلة كان الديمقراطيون الليبراليون عاجزين عن كسب الدعم الشعبي في المجتمعات الإسلامية، بل حتى الليبرالية الإسلامية فشلت في تكوين جذورها.
وبالمقارنة مع الأحزاب الديمقراطية فإن القوة الأصولية تنوعت عكسياً مع هذه الأحزاب، ومنها العلمانية والوطنية، هذه الأخيرة تبدو بلا قناع بينما الحركات الأصولية لديها غطاء شعبي واسع، فضلاً عن المؤسسات التي تدعمها .. ، وقوة الصحوة وجاذبية التأسلم أدتا إلى تبني الحكومات للممارسات الدينية ودمج رموزها في أنظمتها، وهو الأمر الذي يعني إعادة تأكيد الشخصية الإسلامية للدولة والمجتمع.
ومن وجهة نظر هنتنجتون هناك أسباباً لتعاظم القوة الإسلامية في مرحلة السبعينات والثمانينات ومنها، وهو الأهم، الطفرة النفطية التي حدثت في السبعينات حيث حفزت الصحوة الإسلامية وزدتها بالوقود، هذه الطفرة زادت لدرجة كبيرة من ثروة وقوة كثير من الدول الإسلامية ومكنتها من أن تعكس اتجاه علاقة السيطرة والتبعية التي كانت بينها وبين الغرب.
الصراع إذن حقيقة موضوعية عامة بين الشعوب، وأسباب (الصراع المتجددة بين الإسلام والغرب توجد في الأسئلة الأساسية للقوة والثقافة، مَن الفاعل ومَن المفعول به .. ، مَن الذي يجب أن يحكم، ومَن الذي يجب أن يكون محكوماً؟ .. )، وبما أن النم السكاني والثراء الاقتصادي يمثلان قوة أساسية عبر التاريخ، فإن (مستوى الصراع العنيف بين الإسلام والمسيحية، عبر الزمن كان يتأثر دائماً بالنمو الديمغرافي هبوطه، كذلك بالتطورات الاقتصادية والتحول التكنولوجي وشدة الإلتزام الديني، والعلاقات بين الإسلام والمسيحية، سواء الأرثوذكسية أو غيرها، كانت عاصفة غالباً، كلاهما كان (الآخر) بالنسب للآخر، وصراع القرن العشرين بين الديمقراطية والليبرالية والماركسية واللينينية ليس سوى ظاهرة سطحية وزائلة إذا ما قُرون بعلاقة الصراع المستمر بين الإسلام والمسيحية، أحياناً كان التعايش السلمي يسود، غالباً كانت العلاقة علاقة تنافس واسع مع درجات مختلفة من الحرب الباردة وهذا يعني إن (الإسلام ه الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك .. ).
وعلى مدى القرون الماضية كان الصراع بين الإسلام والغرب يتركز في مظاهر أو ظواهر تطلع إلى الواجهة دون غيرها، وفي أواخر هذا القرن كانت الصحوة الإسلامية، ولكن وراء هذه الظاهرة أسباباً أو عوامل متشابهة كما يرى (هنتنجتون) زادت من حدة الصراع بين الإسلام والغرب ومنها:
1 ـ خلف النمو السكاني الإسلامي أعداداً كبير من الشبان العاطلين والساخطين الذين اصبحوا مجندين للقضايا الإسلامية ويشكلون ضغطاً على المجتمعات المجاورة، كهجرة الشبان المسلمين إلى دول الغرب.
2 ـ أعطت الصحوة الإسلامية ثقة متجددة للمسلمين في طبيعة وقدرة حضارتهم وقيمهم المتميزة مقارنة بتلك التي لدى الغرب.
3 ـ كذلك جهود الغرب المستمرة لتعميم قيمه ومؤسساته من أجل الحفاظ على تفوقه العسكري والاقتصادي والتدخل في الصراعات داخل العالم الإسلامي ولدت إستياءً شديداً بين المسلمين من الغرب.
4 ـ سقوط الشيوعية أزال عدواً مشتركاً للغرب والإسلام وترك كلاً منهما لكي يصبح الخطر المتصور على الآخر.
5 ـ الاحتكاك والامتزاج المتزايد بين المسلمين والغربيين يثير في كل من الجانبين إحساساً بهويته الخاصة وكيف إنها مختلفة عن هوية الآخر، وهو ما يفاقم الخلافات حول حقوق أبناء حضارة في دولة يُسيطر عليها أبناء حضارة أخرى، في الثمانينات والتسعينات إنهار بشدة ذلك التسامح بالنسبة للآخر في كل من المجتمعات الإسلامية والمسيحية.
إن هذه العوامل المشتركة، أي القائمة على أساس علائقي، ليست سوى ملامح تحيل إلى التشاؤمية في مستقبل العلاقة بين الإسلام والغرب، فمن المرجح أن تكون علاقات الغرب بالإسلام متوترة على نحو ثابت وعدائية جداً في معظم الأحوال.(62/211)
وعلى المدى القادم فإن (العلاقة بين قوة وثقافة الغرب وقوة وثقافة الحضارات الأخرى هي السمة الأكثر ظهوراً في عالم الحضارات، ومع زيادة القوة النسبية للحضارات الأخرى يقل التوجه نحو الثقافة الغربية وتزداد ثقة الشعوب غير الغربية بثقافاتها الأصلية والالتزام بها)، لكن الغرب سيُعاني من مشكلات عديدة في هذا الاتجاه، فالمشكلة الرئيسية (في العلاقات بين الغرب والباقي بالتالي هي التنافر بين جهود الغرب لنشر ثقافة غربية عالمية وانخفاض قدرته على تحقيق ذلك)، ومن ذلك أيضاُ نُلاحظ مع هنتنجتون إنه (طالما أن الإسلام يظل و (سيظل) كما هو الإسلام، والغرب يظل (وهذا غير مؤكد) كما هو الغرب فإن الصراع الأساسي بين الحضارتين الكبيرتين وأساليب كل منهما في الحياة سوف يستمر في تحديد علاقتيهما في المستقبل كما حددها في مدى الأربعة عشر قرناً السابقة).
إن هنتنجتون في نظريته (الصدام) يتوقف عند حدود بروز جهويات الإنسان الجديدة القديمة في نهاية القرن، وهي: العرق والتدين الطائفي وبمستوى أعم الهوية الثقافية أو الحضارية التي يقودها إلى حيز الصراع أو الصدام عنوة، وذلك بالاستناد إلى وقائع وأحداث إن هي إلا متغيرات يعدها هنتجتون مؤشرات تغير سيقع في المستقبل وهو الصدام المتوقع بين الغرب وبين الإسلام ضمن تصور صراعي أو صدامي بين حضارات متعددة هي التي تكوّن عالم اليوم.
إن فكرة (التصادم) إذن قديمة قدم الوجود الإنساني، وهي تتأثر بشكل أو بآخر بثقافة العصر وبطبيعة العلاقات الدولية في المجتمع الإنساني فضلاً عن تغيرات الفكر العلمي والفلسفي، أما فكرة التصادم في الأدبيات الغربية، الفكرية والسياسية والفلسفية والتي تطرح العلاقة بين الشرق والغرب كونها علاقة تصادمية، أو ستكون كذلك فإنها طرحت قبل هنتنجتون، كتحصيل حاصل لنظريات أو تصورات تفسيرية تستشرف العلاقة بين الشرق والغرب عامة والإسلام والغرب خاصة، وقد وجدنا أن روجيه غارودي الفيلسوف الفرنسي طرح فكرة التصادم، ولو بشكل سريع، يقول غارودي في مطلع كتابه: (الأصوليات المعاصرة، أسبابها ومظاهرها)، إن الأصوليات كل الأصوليات أكانت تقنوقراطية أم ستالينينية، مسيحية يهودية أم إسلامية، تشكل اليوم الخطر الأكبر على المستقبل، فانتصاراتها، في عصر لم يعد لنا فيه الخيار إلا بين الدمار المتبادل والأكيد وبين الحوار، يمكناه أن تحبس كل المجتمعات البشرية في مذاهب متعصبة منغلقة على نفسها، وبالتالي متجهة نحو المصادمة، كما إن هناك العديد من الباحثين والمفكرين الغربيين قد استشرقوا رؤية التصادم القادم بين الغرب والإسلام، وقد اعتمد هنتنجتون طروحاتهم لتعزيز تفسيره للصراع الحضاري القادم.
إن هنتنجتون لا ينظر إلا إلى الجوانب السلبية من ظهوريات الإسلام أو الأسلمة في العالم الآخذة بالازدياد، وهو في الوقت الذي يتابع ظهوريات الإسلام في الدول الغربية، وذلك أمر مهم، نراه يركز على أحداث ووقائع تعكس عنف العلاقة بين الغرب والإسلام، وهل فاته أن هذه الأحداث هي نتاج لماكنة السياسة الغربية في العالم، إن ما حدث عام 1991 حين شنت القوات العسكرية الأطلسية حربها الشعواء المدمرة ضد العراق، وطناً وشعباً، كان نتاجاً لقصدية سياسية ستراتيجية غربية في المنطقة، كما أن ما حدث وما زال يحدث وما زال في كوسوفو هو الآخر نتاجاً لإرادة سياسية بالدرجة والأساس، وقد اعتاد الغرب أن يتحين الفرص ويصطاد الأفكار، ويُنضد الايديولوجيات المرحلية ليصل بها إلى حالة التصارع الحضاري، أو الثقافي، إن المهم والأساس بالنسبة للغرب هو مصالحه الاقتصادية وتأمين احتياجاته المادية لحياته لا أكثر.
=============(62/212)
(62/213)
الإسلام ودوره في مشروع حوار الحضارات ...
محمد ياقوت
إن الإسلام مع دعوته للحوار وأمره به ـ إذ هو سنة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ـ ينادي الغرب وأمثالهم أن ينظروا بعين الحيادية والتجرد من الهوى إلى تعاليم الإسلام ونصوصه الصريحة في الأمر والدعوة إلى الحوار والتفاعل الثقافي بين الشعوب والحضارات ..
الشيىء الذي نريد أن نشير إليه هو أن الإسلام له دوره في تعزيز الحوار بين الحضارات:
تحدث المستشرق العاقل " سان سيمون " عن جانب من جوانب هذا الدور التعزيزي للإسلام في كتابه " علم الإنسان " بقوله:
" إن الدارس لبنيات الحضارات الإنسانية المختلفة ، لا يمكنه أن يتنكر للدور الحضاري الخلاق الذي لعبه العرب والمسلمون في بناء النهضة العلمية لأوربا الحديثة "( رشدي فكار: نظرات إسلامية للإنسان والمجتمع، 31).
أما " أوجست كونت " فقد أدرك قدرة الإسلام في التعامل واحتواء جميع العقول والفلسفات والأفكار الإنسانية .. وعبّر عن ذلك بقوله :
" إن عبقرية الإسلام وقدرته الروحية لا يتناقضان البتة مع العقل كما هو الحال في الأديان الأخرى ؛ بل ولا يتناقضان مع الفلسفة الوضعية نفسها ؛ لأن الإسلام يتمشى أساساً مع واقع الإنسان ، كل إنسان، بما له من عقيدة مبسطة ، ومن شعائر عملية مفيدة ! "( رشدي فكار: نظرات إسلامية للإنسان والمجتمع، 31).
أما " شبرل" عميد كلية الحقوق بجامعة "فيينا"، فيقول في مؤتمر الحقوق سنة 1927 :
" إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد صلى الله عليه وسلمإليها ، إذ رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً؛ أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون ؛ لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة "( عبد الله ناصح علوان : معالم الحضارة في الإسلام، 155).
إنّ الإسلام هو دين الحوار والتعارف والاعتراف بالآخر، وهو شريعة تطوير القواسم المشتركة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وإيجاد السّبل الضامنة لتحقيق التعايش والسلام والأمن ، بل ويحفظ الإنسان من أن يحيا حياة الإبعاد والإقصاء ونكران الآخر. لهذا أمر الإسلام بالحوار والدّعوة بالتي هي أحسن، وسلوك الأساليب الحسنة ، والطّرق السليمة في مخاطبة الآخر. قال تعالى: (ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ( النحل ،الآية: 125).
على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الحوار في الإسلام على أساس الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، إنه منهج حضاري متكامل في ترسيخ مبادئ الحوار بين الشعوب والأمم . يقول القرضاوي " ومن الملاحظ على التعبير القرآني المعجز في الآية : أنه اكتفى في الموعظة بأن تكون(حسنة)، ولكنه لم يكتف في الجدال إلا أن يكون بالتي هي( أحسن). لأن الموعظة ـ غالباً ـ تكون مع الموافقين، أما الجدال فيكون ـ عادة ـ مع المخالفين؛ لهذا وجب أن يكون بالتي هي أحسن . على معنى أنه لو كانت هناك للجدال والحوار طريقتان: طريقة حسنة وجيدة ، وطريقة أحسن منها وأجود، كان المسلم الداعية مأموراً أن يحاور مخالفيه بالطريقة التي هي أحسن وأجود "( يوسف القرضاوي : خطابنا الإسلامي في عصر العولمة،40 ،41 ).
و قال تعالى أيضا : (وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلََهُنَا وَإِلََهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)( العنكبوت ، الآية: 46). فالحوار ممكن لأنّ هناك قواسم مشتركة ، وهناك مجال للتّفاهم والتّقارب ، وهي الإيمان بما أُنزل على المسلمين وغيرهم ، فالمصدر واحد وهو الله . فليتعارفوا وليعرفوا بعضهم ، ومن ثم فليتقاربوا وليتعاونوا على ما هو صالح لهم جميعا. فالقرآن يعطينا أسلوب بدء اللّقاء والحوار ، وكيف نستغلّ نقط التّلاقي بين المتحاورين .فيبيّن الأصول التي يمكن الاتّفاق عليها ويركّز على ذلك فيقول : (قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ)(آل عمران، الآية 64)(62/214)
ثمّ يبيّن الإسلام نوع العلاقة التي يجب أن تسود المسلمين وغيرهم .. إنّها علاقة التّعاون والإحسان والبرّ والعدل . فهذا هو الحوار الحضاري والعلاقة السامية ، قال تعالى: (لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ)( الممتحنة - الآية: 8.) . يقول سيد قطب :" وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية , بل نظرته الكلية لهذا الوجود , الصادر عن إله واحد , المتجه إلى إله واحد , المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي , من وراء كل اختلاف وتنويع"( سيد قطب : في ظلال القرآن ، ، ج 6، ص 3544).
ومن ثم يتبين للباحث مدى العمق الإسلامي لمفهوم الحوار بشكل عام، ولمفهوم حوار الحضارات بشكل خاص .
الإسلام يرفض المركزية الحضارية :
ونعتقد مع ذلك أن الإسلام كدين وحضارة عندما يدعو إلى التفاعل بين الحضارات يرفض (المركزية الحضارية) التي تريد العالم حضارة واحدة ، مسيطرة مهيمنة ومتحكمة في الأنماط والكيانات الحضارية الأخرى، فالإسلام يريد العالم (منتدى حضارات) متعدد الأطراف، يريد الإسلام لهذه الحضارات المتعددة أن تتفاعل وتتساند ، وتتبادل الثقافات والعلوم والأفكار، في كل ما هو مشترك إنساني عام ، وبما يخدم المصلحة العامة لكل الحضارات ، أما قول الحق تبارك وتعالى : " ليظهره على الدين كله " فالمقصود بظهور الدين الإسلامي ليس ظهور استبداد أو اتضهاد ديني يمارسه الإسلام على الأديان الأخرى ، أو تمييز عنصري يتعاطاه على الشعوب والأعراق ، بل .. ظهور أستاذية وظهور تفوق يظهر الإسلام في وسط هذه الحضارات مظهر التلميذ المتفوق بين أقرانه !! ذلك التفوق الرباني الموجود في النظام الإسلامي ، والذي يدفع الإسلامي أن يغزو العقول والقلوب حتى لا يترك الله بيت مدر ولا وبر حتى يدخله الله هذا الدين يا قومنا إن الإسلام يؤمن بالتعددية الحضارية .. بل ويمارسها.. إنه ينكر هذا القسر عندما يرى في تعددية الشرائع الدينية سنة من سنن الله تعالى في الكون، قال تعالى: (لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلََكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىَ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)( المائدة - الآية: 48) . وقال أيضاً: (وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)( هود - الآية: 118) .
وهكذا نعتقد أن الإسلام بطبيعته يساعد على نهوض الحضارات الأخرى ، بحيث يتحول العالم إلى منتدى حضاري يحقق التعددية الحضارية ، لا المركزية التسلطية ..
ياقوم ! نحن نحتاج أن نفهم إسلامنا قبل أن نلوم غيرنا على عدم فهمه !!
============(62/215)
(62/216)
حوار الحضارات مفهوم ملفق وغارق في الالتباس
معظم شعوب العالم لم تلق بالا او لم تصغ كما ينبغي لتلك المرافعة المثيرة وذلك الدفاع المؤثر الذي ملأ الدنيا بضجيجه ومارسه كل العرب دفاعا عن انفسهم، وقيمهم طيلة الايام التي اعقبت حوادث نيويورك وواشنطن، ومع ما صاحبها من مس في الكرامة ونيل من الكبرياء العربية، الا ان العالم ما زال غير مقتنع ببراءتنا وبراءة قيمنا من الارهاب والتخريب الذي شهده العالم بالامس، حيث اتضح ان هذه المرافعة التاريخية وهذه الاعترافات المذلة لم ترفع عنا حيفاً ولم تحقق لنا هدفاً، وقد فشلت فشلا ذريعا في تأدية مهمتها وتحقيق غرضها بالرغم من ثمنها الباهظ وصوتها المحرج والمرتفع، وكانت الصدمة اكبر واعمق حينما اكتشفنا فداحة الاذى وشمولية التدمير، وعموم التشويه، الذي لحق بالاسلام ونال من الشخصية العربية، اذ جاء على كل عطائها التاريخي وابداعها الانساني، وقيمها العظيمة، بل وجودها وكيانها كله بشكل بالغ القتامة وشديد التعقيد.
انه موقف جدا مخز وتموضع في المكان ضاق بنا كأمة تعتز بماضيها الى درجة التبجيل، اذ لا يذكر التاريخ ان احدا وضعنا في هذا الموقف الضعيف والمهزوز كي ندافع مكرهين عن مشروعية وجودنا وصلاح قيمنا وتسامح ثقافتنا.
* الاشمئزاز من اللغة الجامدة
* ألم نكن المبادرين الاوائل في غزو فضاء الآخر والدخول معه مبكرا في حوار تناول المقدس والممنوع، بل المنظومات المعرفية برمتها دون خوف او وجل، وبشكل لا يجرؤ عليه اليوم اكثرنا تحررا وليبرالية، وبوثوقية علمية لا يصدقها ولا يقوى عليها متزمتو هذا العصر اصحاب العمائم والخطب الجهادية الفارغة، هذه الثقة بالنفس وهذه العقلانية الفريدة التي ادركت اهمية الحوار واربكت الآخر قرونا طويلة قبل ان يواصل نهوضه وتقدمه الذي نشهده ونعيشه اليوم، اين هي اذاً هذه العقلية؟ وما سبب هذا الفشل الذريع في الوصول الى العالم وهذا الانهيار الكامل للسمعة؟ اين مكمن الخلل؟ هل اللغة التي خاطبنا العالم بها لغة اموات ولا يفهمها أحد غيرنا؟ ان الذي يحاول ان يقرأ ما حدث ويحدث لا يجد الا شيئا واحدا وهو ان العالم يتوحد ضدنا ويزداد كرها واشمئزازا كلما واصلنا مخاطبته بهذه اللغة الجامدة، وهذه المقاربات الرسمية المتخلفة، لذا علينا ان نتوقف ونكف عن قراءتها وتفسيرها ومقاربتها بتلك اللغة الميتة وهو ما نفعله اليوم تماما، اذ ان هناك انماطا من التغيرات في العلاقات مع الغير والذات والاشياء لم نكتشفها بعد، فهناك اشكال جديدة من التفكير والعمل والانظمة المغايرة من التواصل والتبادل بين الامم، انا مدرك انه لا يوجد اخطر ولا اكبر من الصراعات بين الثقافات والهويات، ولكن ما نمارسه من حوار فكري بيني ومع الآخر عمق هذا الصراع وأججه وليس اقله ذلك الادعاء الفج الذي نردده بازعاج مستمر وبلاهة متناهية وهو انهم ونهضتهم مدينون لحضارتنا من قبل، والتأكيد دائما على الأنا والآخر وهو فرز حاد وكريه للعالم وتحد صارخ لروح التسامح والتنوع الذي يسوده اليوم، اننا من الفطنة بمكان والفقر والتخلف ان لا نحرص على هذا التصنيف ولا نقره في حوارنا معهم، فنحن المتضررون من هذا الفرز الفارغ وهذا الهروب المستمر من الواقع، ولكي يفهمنا العالم ويتعاطف معنا ومع قضايانا يجب ان نتخلص من هذا الخطاب السطحي ذي النبرة الوجدانية، الذي طغى اخيرا على خطاب الجامعة العربية بعد غياب طويل، ولكن تجاوزه والقطع معه لا يتم بقرار رسمي يصدره امين جامعة الدول العربية، وباعتماد مفهوم غارق في الالتباس والغموض، وهو حوار الحضارات ودعوة تلك النماذج السائدة من النخب المثقفة، وبشكلها العتيق لتديره وتتولى اعادة تدوير ما قالته طيلة ايام الازمة بشكل ممل ومحزن.
كان يجب ان لا يسيطر السياسي التقليدي على هذا المؤتمر، لاختلاف المجال وعمق الطرح وغياب المصالح الآنية التي يحرص السياسي عليها عادة لزوم البهرج الاعلامي المباشر، ولان تلك الوجوه التي استعين بها ايضا استنفدت افكارها ورؤاها ولم يعد عندها ما تقوله سوى ترديد تلك الفرضية التي اجترحها عقل مفكر غربي فارغ يلعب ويتسلى حيث باركناها واعتمدناها بشكل رسمي دون تفكير او تأنٍ، ناسين او متناسين اننا مجرد شعوب وقبائل تحاول النهوض والتقدم وتشكل مع هذا العالم حضارة انسانية ناشئة ومتشابكة الكترونيا وتقنيا متحررة من كل العوائق الجغرافية واللغوية والثقافية، وتوهمنا فعلا بأن هناك حضارة اخرى منافسة للحضارة الغربية صاحبة السطوة والقوة الضاربة في هذا الكون الممتد، حيث نسينا انفسنا وانطلقنا منهمكين نشرح ونبين نقاط الالتقاء ونقاط الخلاف والاختلاف مع هذه الحضارة المتفوقة ورحنا نرسل اشارات توحي للغرب بأن العالم يتسع لأكثر من حضارة، ولذلك لا مبرر لخوفهم من منافستنا لهم على العالم.
* العدو الأخضر المفترض(62/217)
* بهذا التصور الانتهازي والتسطيح الفاضح للامور استهبلنا هذه الفرصة ولم نكذب خبرا فسارعنا نناور الغرب وبشكل متهالك مستعجلين الجلوس والحوار مع الشريك الغربي والند المكافئ لنا كما توهمنا، والحق يقال اننا ذهبنا بعيدا في احلامنا بعد سقوط عدوهم الاحمر، او كما توهمنا اننا العدو الاخضر المفترض والبديل القادم والحضارة المنسية. انا لا اعترض على مبدأ الحوار فهو نهج المتحضرين، وهو ايضا ترجمة حقيقية لحسن النيات وفاتحة خير لعصر جديد من التواصل والتفاهم بعيدا عن طريق الاحتراب الذي مارسه بنو الانسان في القرون الخوالي، ولكن ليس اعتراضا بقدر ما هو تساؤل اعتقد انه مبرر ومشروع عن الطرف الآخر من معادلة ذلك الشعار الذي يرفعه مؤتمر (حوار الحضارات) الذي ترعاه جامعة الدول العربية هذه الايام، وهو مفهوم (الحضارات)، ولم يحظ هذا المفهوم بالطرح والنقاش كما حظي مفهوم (الحوار)، وقد بقي مفهوم (الحضارات) بعيدا عن التناول وكأنه حقيقة مسلمة، بل اعتبرنا الخوض فيه او الوقوف عنده مضيعة للوقت، واعتقد ان السبب يعود لقناعتنا العميقة بأننا فعلا حضارة منافسة وهذه القناعة هي التي اوصلتنا لهذه الورطة او المغالطة في تحليل هذا المفهوم او هذه الفرضية الغربية والتسليم بها دون تفكير، فلو حاولنا الالتفاف على ذلك المفهوم العدواني او تلك الفرضية الغربية وبحركة منطقية تحاكي تموضعنا الفعلي بين شعوب العالم وقبائله، واقترحناه (حوار الذات مع الذات) او (حوار الشعوب) او (حوار الثقافات) لكان اصوب واقرب للواقع المعيش وأبعد عن الحرج وأحفظ للكرامة العربية والاسلامية، وتسمية حقيقية للاشياء بأسمائها الصحيحة، وبذلك نقطع الطريق على مبتدع تلك الفرضية، وهو السيد (صموئيل هنتغتون)، حيث اطلقها كما تعلمون كفكرة او مجرد فرضية لا اكثر بمقالة له نشرت بمجلة امريكية اسمها «شؤون خارجية» عام 1993م وتحت عنوان «صدام الحضارات»، والتي صادف نشرها ظروفا دولية مواتية جعلت منها حكاية على كل لسان وزادا لا ينضب من التنظير والتنظير المضاد حتى تضخمت وتحولت الى ما يشبه النظرية ونشرت في كتاب من تأليفه وما زال صداها يتردد حتى يومنا هذا، ومؤتمر حوار الحضارات المنعقد حاليا في جامعة الدول العربية من ثمرات هذه الفرضية العدوانية التي كادت تطغى على الذهنية الغربية وهي التي اجترحتها اصلا كما استبدت بنا وكأنها حقيقة تاريخية مسلمة لا مجرد فرضية يلفها الغموض والالتباس من كل جانب، والعجيب ان ردة فعلنا لم تكن على عدوانية مطلق فرضية صدام الحضارات ولا على النصيب الاكبر من تلك السلبيات التي خصنا بها دون الآخرين كالصينيين مثلا ضمن فرضيته سالفة الذكر، بل ردة فعل عكسية، وفرحا غامرا بهذا الاعتراف والاهتمام المفاجئ حتى لو كان صراعا او صداما او افتراسا، فهو على كل حال اعتراف جاء بعد تهميش طويل واقصاء ظالم كما كنا نحس به ونشعر، وهذه الفرضية وما لاقته من ضجيج اعلامي قد انتشلتنا من قاع النسيان وجعلتنا في عين العاصفة من جديد، وهذا في حد ذاته مكسب كبير اعطانا الشعور بأننا ما زلنا موجودين في العالم، والوجود الجغرافي هو العامل الوحيد من عوامل الحضارة الذي نمتلكه في الوقت الراهن ولا نحتكم على غيره في المستقبل المنظور وعليه يفترض ان نعي دورنا ونعرف حجمنا وننغمس في حل مشاكلنا الحقيقية وليست تلك الاحلام او الامجاد الغابرة التي اتمنى من المؤتمرين الاجلاء انهم ادركوها، فنحن بحاجة ماسة الى آليات ومقاربات من الحوار البيني الصريح، (الذات مع الذات) اولا، والاتصال العصري الفعال مع العالم ثانيا، لان الوقت يمضي والهوة تتسع والسمعة غير الجيدة تتكرس لدى العالم فهل من مجيب؟ وختاما اذكّر القارئ الكريم انها ليست المرة الاولى التي انادي فيها بتعرية هذه الفرضية العدوانية والملفقة وهي «حوار الحضارات» فقد سبق لي طرحها ومن هذا المنبر بالذات ومنذ أكثر من سنة.
كاتب سعودي *
============(62/218)
(62/219)
حوار الحضارات كما ينبغي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ا صلى الله عليه وسلم وبعد:
تنتشرفي هذه الأيام على ألسنة كثير من الناس كلمات (حوار الحضارات) و(صدام الحضارات) وهذه الكلمات يختلف مدلولها حسب قائلها، وكلا الكلمتين عند الغرب يعني الهيمنة الغربية المطلقة على العالم، ولكن هل يأتي هذا بالتدرج وهو ما يسمونه (حواراً) أو بالقوة المسلحة وهو ما يسمونه (صداماً) وأما في أوساط المسلمين فمعظم الكتاب والمفكريين حتى الإسلاميين يرون أن أسمى مايمكن الوصول إليه مع القوة الغربية الغاشمة هو السماح لبلاد المسلمين بقدر من التميز لا سيما في مجال الأخلاق وعدم مطالبتهم بأن يندمجوا تماماً في ثقافة العري والإباحية والشذوذ وغيرها وهم يسمون ذلك (حواراً) وغني عن الذكر أن هؤلاء يفرون تماماً من فكرة الصدام التي يرون أنها لا تخدم مصالح المسلمين.
ومما ينبغي ان ينتبه له أن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأن الرسو صلى الله عليه وسلم -كغيره من الأنبياء - هو الذي صادم عقائد قوم وطرقهم في الحياة ليخرجهم من الظلمات إلى النور وأن الله تعالى قد أمره بأن يدعوا إلى سبيله بالحكمة والبيان أولاً ليحى من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، ثم بالسيف والسنان لمن أصر على العناد وذلك عند وجود القدرة على ذلك.
وعدم وجود القدرة على المواجهة بالسيف والسنان لا يعني أبداً أن يغير المسلم دعوته أو أن يداهن المشركين وقد أنزل الله تعالى على رسول صلى الله عليه وسلم وهو بعد مازال مستضعفاً قوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9) .
إذن فنحن ندعوا إلى حوار مع كل الأديان نبين لهم من خلاله الحق من الباطل وندعوهم أن يخرجوا من جور الأديان إلى عدل الإسلام. نحن ندعو إلى حوار نصادم فيه باطلهم بالحق الذي معنا.
ومن مواقف التاريخ الرائعة التي اشتملت على حوار حضاري بليغ معركة القادسية، التي سبقها حوار بين وفد المسلمين وبين كسرى، ثم تلاه حوار بين (ربعي بن عامر) رضي الله عنه وبين القائد رستم أبرز قواد كسرى، ومما يزيد من روعة هذا الحوار أنه كان بين يدي معركة فاصلة نصر الله فيها المسلمين على عدوهم نصراً عزيزاً مؤزراً.
وستلحظ أخي الكريم ،
أن هذه الحوارات الناطقة، تخللتها حوارات أخرى صامتة رستم يخرج في زينته ويفرش نمارقه وبسطه وربعي رضي الله عنه يخرقها له برمحه ويدخل عليه بدابته، وغيرها من الحوارات التي لعلها كانت أبلغ من الحوارات الناطقة.
لقد كانت مفردات الحوار هي هي التي تكون بين حضارات الإسلام حضارات التوحيد والعبودية لله والطهارة والنقاء، وبين حضارات الكفر على اختلاف أنواعها فرساً كانوا أو روماً، شرقاً كانوا أو غرباً، فإنهم لا يعرفون إلا لغة الملك والجاه والسيادة، واستعباد البشر بعضهم لبعض، ولا يجيدون إلا لغة المفاوضات الدنيئة على ملك الدنيا ورياستها ولا يقدمون إلى البشرية عندما يقودونها إلا الأغراض من الشهوات واللذات الدنيوية ولذلك حفظ التاريخ أكثر ما حفظ من هذه الحوارات تلك العبارة الجامعة المانعة التي قالها ربعي بن عامر رضي الله عنه "إن الله ابتعثنا لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الأخرة".
والآن نتركك أخي الكريم لتعيش لحظات مع هذه المواقف الناصعة للصحابة الكرام في مواجهة هؤلاء الطغاة.
أولاً: الحوار بين وفد سعد بن أبي وقاص وكسرى:-
ذكر الإمام ابن كثير في البداية (7/41) عن سيف أن سعداً رضي الله عنه كان قد بعث طائفة من أصحابه إلى كسرى يدعونه إلى الله قبل الوقعة، فاستأذنوا على كسرى فأذن لهم، وخرج أهل البلد ينظرون إلى أشكالهم وأرديتهم على عواتقهم، وسياطهم بأيديهم، والنعال في أرجلهم، وخيولهم الضعيفة، وخبطها الأرض بأرجلها؛ وجعلوا يتعجبون منها غاية العجب. كيف مثل هؤلاء يقهرون جيوشهم مع كثرة عددها وعُددها؟ ولما استأذنوا على الملك يَزدَجِرد أذن لهم وأجلسهم بين يديه - وكان متكبراً قليل الأدب - ثم جعل يسألهم عن ملابسهم هذه ما اسمها، وعن الأرِدية والنعال والسياط. ثم كلٌما قالوا له شيئاً تفاءل، فرد الله فأله على رأسه.(62/220)
ثم قال لهم: ما الذي أقدمكم هذه البلاد؟! أظننتم أنا لما تشاغلنا بأنفسنا اجترأتم علينا؟ فقال له النعمان بن مقرن رضي الله عنه: إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والأخرة. فلم يَدعُ إلى ذلك قبيلة إلا وصاروا فرقتين: فرقة تقاربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث. ثم أُمرأن ينهد إلى من خالفه من العرب ويبدأ بهم، ففعل فدخلوا معه جميعاً على وجهين: مكروه عليه فاغتبط، وطائع إياه فازداد ؛ فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق، وأمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين الإسلام، حسٌن الحَسَن وقبٌح القبيح كله. فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزاء، فإن أبيتم فالمناجزة. وإن أجبتم إلى ديننا، خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، وإن أتيتمونا بالجزى قبلنا ومنعناكم، وإلا قاتلناكم.
قال: فتكلم يزدجرد، فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم ؛ وقد كنٌا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، ولا تغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عددكم كثر فلا يغرٌنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتاً إلى خِصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملٌكنا عليكم ملكاً يرفق بكم.
فأسكت القوم، فقام المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فقال: أيها الملك، إن هؤلاء رؤوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الأشرافَ الأشرافُ، ويعظم جقوق الأشرافِ الأشرافُ، وليس كل ما أُرسلوا له جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلاٌ ذلك فجاوبني، فأكون أنا الذي أبلغك ويشهدون على ذلك.
إنٌك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً، فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع. كنا نأكل الخنافس والجعلان، والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضاً، وأن يبغي بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه.
وكان حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلاً معروفاً نعرف نسبه، ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته خير بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو نفسه كان خيرَنا في الحال التي كان فيها أصدَقَنا وأحلَمنا. فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أول تِربٍ كان له وكان الخليفة من بعده. فقال وقلنا، وصدٌق وكذبٌنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئاً إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه.
فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله، فقال لنا إنٌ ربٌكم يقول: أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شيء، وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شيء، وإلىٌ يصير كل شيء، وإن رحمتي أدركتكم، فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلٌكم على السبيل التي أنجيكم بها بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري دار السلام، فنشهد عليه أنٌه جاء بالحق من عند الحق. وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فأعرضوا عليه الجِزية ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم، فمن قتل منكم أدخله جنتي، ومن بقى منكم أعقبته على من ناوأه، فاختر إن شئت الجزية وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك.
فقال يزدجرد: أتستقبلني بمثل هذا؟ فقالا: ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به. فقال: لولا أن الرسل لا تُقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي، وقال: ائتوني بوِقر من تراب فاحملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من أبيات المدائن. إرجعوا لإلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه وجنده في خندق القادسية وينكل به وبكم من بعد، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابوره.
وقد نفذ كسرى ما هدد به وأرسل رستم قائده إلى المعركة ولكن بعد أن دب الوهن في قلبه وقلب قائده، فحاول رستم أن يتفادى المعركة بحوار مع الصحابة رضي الله عنهم، وكلما أنهى الحوار مع واحد طلب حواراً مع آخر حتى كان هذا الحوار الشهير مع ربعي رضي الله عنه.(62/221)
ثم بعث سعد رضي الله عنه إليه - أي إلى رستم - رسولاً آخر بطلبه وهو رِبعي بن عامر، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلي الثمينة والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب. ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه. فقالوا له: ضع سلاحك فقال: إني لم آتِكم وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت. فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النٌمارق فخرٌق عامتها. فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال:" الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَتَها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى حلقه لندعوهم إليه ؛ فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أيداً حتى نفضي إلى موعود الله، قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى". فقال رستم: لقد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم، كم أحبُ إليكم؟ يوماً أو يومين، قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. فقال: ما سنٌ لنا رسول ا صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل. فقال: أسيدهم أنت؟ قال: لا ولكن المسلمين كالجسد الواحد يُجير أدناهم على أعلاهم. فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعزٌ وأرجح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب!! أما ترى ثيابه؟! فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب.
=============(62/222)
(62/223)
الاتحاد الأوروبي وإشكاليات الحوار مع الإسلاميين
طه عبد الرحمن 17/3/1426
26/04/2005
لا تزال قضية الحوار الأورو متوسطي، تطرح نفسها على الساحة العربية ـ الأوروبية، فيما أخذت هذه القضية أخيراً منحاً جديداً، عندما طالب الاتحاد الأوربي بالحوار مع القوى الإسلامية المعتدلة في العالم العربي .
في هذا السياق يأتي مؤتمر مركز البحوث والدراسات السياسية بجامعة القاهرة حول "أوربا وإدارة حوار الثقافات الأورو متوسطية"، والذي شارك فيه باحثون مصريون وعرب؛ إضافة إلى باحث من كوسوفا وقد طالب المؤتمرون بإحياء المنهج العلمي في الحوار مع الغرب، وإعادة النظر في الخطاب الموجه إلى الغرب على المستويين الإسلامي والعربي، وترشيح القوى الإسلامية المعتدلة للدخول في هذا الحوار، واندماج التيارات الإسلامية في أوربا داخل الحياة الجديدة في بلاد الهجرة ، والتفاعل في الحوار مع الغرب، وتحديداً في أوربا التي تعد الأقرب جغرافيا للعالم العربي . وفي محاضرته في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر أكد المفكر الإسلامي د. احمد كمال أبو المجد أن العقل العربي المسلم لا بد له أن يستخدم هبة العقل التي منحها الله سبحانه وتعالى، وأن يدرك المسلمون والعرب أنهم لا يعيشون في جزر منعزلة، وعلينا ـ كما يقول ـ أن نسلم في تواضع أن الله تعالى وزع الحكمة بين عباده وبثها بين شعوب الدنيا، وأن الخلق كلهم عباد الله، مؤكدا على ضرورة إصلاح البيت الإسلامي من الداخل ، متسلحين في ذلك بالعلم ومتفانين في العمل بحيازة الثروة وإحراز القوة، وإدراك أن التعامل مع الآخرين لا يمكن أن يكون بالعجز أو الضعف، ولكن من خلال المال والقوة والحديد، وأن الصحوة الحقيقية ينبغي أن لا تكون شعارات أو أماني، وإنما من خلال جهد منظم ومحكم . باستخدام أسلوب الحكمة والمرونة في التعامل مع الآخرين .
ويوضح د. أبو المجد أن للدين دورا متعاظما في توفير البنية الأخلاقية للنظام العالمي، والتأكيد للآخرين على أن الكتاب والسنة ليسا من أمور الماضي، وأنهما منهجاً قائماً إلى يوم القيامة ، وأن الحديث عن غير ذلك يعدهروبا وعجزا عن مواجهة الحاضر، أو تخوفاً مما لا ينبغي التخوف منه، أو تأثماً مما لا ينبغي التأثم منه ، خاصة وأن المتأثمين الغارقين في الإحساس بالخطأ والخطيئة لا يمكن الاعتماد عليهم لبناء حضارة إنسانية قوية مرتبطة بقيم ومبادئ الإسلام .
مسلمو البلقان
وفي حديثه عن مدى تفاعل شعب البلقان مع أوربا ، تعرض مدير "بيت الحكمة" بالأردن، الدكتور محمد الأرناؤوط لهذه القضية. مشيراً إلى حجم ظاهرة التطهير العرقي بحق المسلمين التي شهدها البلقان في القرن الأخير، وهي الظاهرة التي لم تعرف لها أوربا مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية .
وحذر الأرناؤوط من خطورة ظهور إيديولوجية جديدة بين مسلمي البلقان ورغبتهم في ألا يكونوا جزءاً من العالم الإسلامي أو الشرق تحديداً، بغرض الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولذلك فإن أوربا تنظر إليهم على أنهم غرباء عنها نظرا لانتمائهم الإسلامي.
كما حذر من خطورة تبني بعض المسلمين في البلقان لمفاهيم جديدة كالعلمانية وتأسيس هرمية جديدة للتقرب من أوربا، بغية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في العام 2010 من جانبه تعرض الدكتور كمال مورينا ـ الأستاذ في كلية الدراسات الإسلامية بكوسوفا ـ للصعوبات التي تواجه مسلمي البلقان في ظل وجود محاولات من بعض الرموز الإسلامية في كوسوفا للتنصل من إسلامهم باعتبار ذلك دليلا على رغبتهم في التقرب من أوربا . وانتقد غياب المساعدات العربية والإسلامية لشعب كوسوفا في الوقت الذي تقوم فيه المنظمات الغربية، وخاصة الأمريكية بالترويج لحملات التبشير والتنصير بين صفوف المسلمين؛ فضلاً عن وجود هاجس لدى كثير من المسلمين في كوسوفا من وصفهم بالإسلاميين، خوفا من إلصاق تهمة الإرهاب بهم !
عوائق الحوار
وفيما أثار بعض المشاركين في المؤتمر وجود قطيعة في الحوار بين أوربا والدول المتوسطية . رفض الدكتور سيف عبد الفتاح ـ المنسق التنفيذي لبرنامج حوار الحضارات بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ـ إحداث مثل هذه القطيعة . معتبراً أن مشكلة الحوار تكمن في أن أوربا لا تزال بعض دوائرها تعتقد أن المسلمين الموجودين هناك هم امتداد للحكم العثماني، مما يشير إلى خطورة تأثير مثل هذا الهاجس العثماني على أوربا .
ودعا د. عبد الفتاح إلى تقديم الدعم لمسلمي البلقان، حتى لا تتلقفهم المنظمات التنصيرية، مشدداً على أهمية البحث في أسباب هجرة الكثير منهم إلى الغرب، دون الهجرة إلى بلاد المسلمين أو الشرق عند ظهور حالات التطهير العرقي .(62/224)
وحول تعدد الخطاب في أوربا، بالرغم من توحدها في اتحاد يجمعها . قالت الدكتورة نادية مصطفى ـ مدير مركز البحوث والدراسات السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ـ إن إشارة الاتحاد الأوربي للحوار مع القوى الإسلامية، يعد مبادرة للحوار على المستوى الشعبي وليس الرسمي، مما يتطلب اغتنام الفرصة، لكي يتولد تيار من كافة التيارات الإسلامية لجمعها حول قضية أساسية وهي الدخول في حوار مع أوربا خدمة لقضايا العرب والمسلمين .
هوية القوى المعتدلة
فيما أثار أمجد جبريل ـ باحث في العلوم السياسية ـ إشكالية أخرى، عندما انتقد المتحدثين المطالبين بحوار القوى الإسلامية المعتدلة مع أوربا، في الوقت الذي لا يوجد فيه تعريف بطبيعة وهوية هذه القوى؛ فضلاً عن عدم الاعتراف الرسمي بها، ووجود أزمة في الحوار بينها وبين الغرب .
وهو ما اتفق عليه الباحث الأكاديمي الدكتور حامد صديق . عندما أشار إلى أن الغرب نفسه يعتبر الإسلام عدوه بعد انهيار الشيوعية .
وتساءل : كيف يمكن إجراء حوار من هذا النوع، والآخر يعتبر الطرف المقابل عدواً له .
وتساءل الباحث الإسلامي محمد الشريف عن كيفية إقامة حوار مع أوربا في الوقت الذي تنتهج فيه فكراً علمانياً يستهدف فصل الدين عن الدولة، وعدم اتفاق القيم والأوضاع الاجتماعية بها مع الدين الإسلامي، علاوة على مواقف دولها من الإسلام، مثل منع فرنسا الطالبات من ارتداء الحجاب، والموقف الألماني المماثل حالياً؛ فضلاً عن التصريحات الرسمية لرئيس وزراء إيطالياً "برلسكوني" من الحضارة الإسلامية وعدائه الواضح لهذه الحضارة .
من جانبه اشارالدكتور عماد الدين شاهين ـ أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ـ إلى وجود مصلحة أوروبية في هذا الحوار، نتيجة لرغبة أوربا في شرق أوسط مستقر؛ إضافة إلى تزايد أعداد المسلمين في أوربا، وظهور جيل أوروبي من المسلمين؛ فضلاً عن رغبة أوربا في إحداث توافق مع التيارات الإسلامية المعتدلة .
ويؤكد حرص الاتحاد الأوربي في الاندماج مع القوى الإسلامية المعتدلة ، في الوقت الذي يسعى فيه أيضاً للاندماج مع قوى ومؤسسات المجتمع المدني بالعالم العربي، وتشجيع الرغبة في التواصل الأوربي مع هذه القوى التي يشترط الاتحاد الأوربي في التحاور معها في أن تكون معتدلة، وتنتهج النهج الديمقراطي، وتسمح بتداول السلطة إذا أتيح لها ذلك .
ويؤكد د. شاهين على أن التيار الإسلامي الوسطي هو الأقرب للتواصل في الحوار مع أوربا، وأنه رغم حالة التوجس التي تسيطر على بعض الدوائر الغربية وخاصة الأوروبية نتيجة اعتقاد البعض منهم بأن هدف حتى هذه التيارات هو الوصول إلى دوائر الحكم . مشيراً إلى أن الحوار بين الطرفين من الممكن أن يكون تدريجياً متعدد الجوانب والأبعاد، في حال توفير المناخ الصحي لهذا الحوار .
نموذج إسلامي أوروبي
أما الدكتور محمد صقار ـ أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة ـ فتناول الطرح الإسلامي الأوربي نفسه داخل القارة، معتبراً أنه يتسم بالديناميكية والتفاعل مع هذه المجتمعات . وتعرض كنموذج لذلك للدكتور محمد أسد، والذي رأى أن منهجه يقوم على بعدين هما البنية الأفقية للطرح من حيث القضايا والإشكاليات، في الوقت الذي تقوم فيه البنية التحتية لطرحه على الثوابت الإسلامية والالتزام بها .
ويؤكد أن طرح أسد كان يستند إلى الوعي العميق بين الجانب الثقافي والسياسي ـ والحرص على عدم الوقوع في "فخ" المصطلحات، فكان يتجنب الحديث عن العلمانية ليقدم بديلاً إسلامياً عنها، ومحاولة التوفيق بين ما هو ديني ودنيوي استناداً إلى الرؤية الإسلامية الأصيلة
=============(62/225)
(62/226)
الحوار بين الحضارات
د. خالد بن عبد الله القاسم 25/7/1427
19/08/2006
أولاً: الإسلام دين الحوار:
ثانيًا: أهم أهداف الحوار في الإسلام:
ثالثاً: آداب الحوار:
وقبل الدخول في حوار الحضارات نمهد بتعريف الحوار والحضارات.
أما الحوار في اللغة من الحور وهو الرجوع ويتحاورون أي يتراجعون الكلام(1).
وقد ورد في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم كلها تظهر الاختلاف بين المتحاورين ومحاولة إقناع بعضهم بعضاً، الأول ورد في قصة أصحاب الجنة "فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً" [الكهف:34]، والثاني فيها أيضاً "قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً" [الكهف:37]. والثالث في أول سورة المجادلة "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا" [المجادلة:1]. ونفهم من هذه المواضع الثلاثة أن الحوار مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين مختلفين.
ويتفق الحوار مع الجدل والمناظرة والمحاجة في كونه مراجعة الكلام وتداوله بين عدة أطراف إلا أن الجدل يأخذ طابع القوة والغلبة والخصومة وهو مأخوذ من معناه اللغوي حيث يسمى شدة القتل جدل، والجدال من الإبل الذي قوي ومشى مع أمه(2).
ولفظة الجدل مذمومة في غالب آيات القرآن الكريم، حيث وردت في تسعة وعشرين موضعاً(3)، مثل قوله سبحانه: "مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً" [الزخرف:58]، ولم يمدح الجدل إلا إذا قيد بالحسنى وجاء ذلك في موضعين، في قوله سبحانه: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [العنكبوت:46]، وقوله سبحانه وتعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].
وأما الحضارة فهي في اللغة من الحضر وهي الإقامة في المدن والقرى وهي ضد البداوة، قال القطامي:
فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا(4)
وفي العصر الحديث أطلق البعض هذا المصطلح على كل نتاج مادي لأمة من الأمم من عمران ومخترعات وابتكارات وتنظيمات. وتوسع النطاق ليشمل بالإضافة على النتائج المادية القيم الدينية والثقافية(5).
وعليه فكل أمة تشترك في هذه المعاني لها حضارة تخصها، فهناك الحضارة الإسلامية، والحضارة الأوروبية الغربية المسيحية، والحضارة الأوروبية الشرقية المسيحية، والحضارة الهندية، وحضارة الشرق الأقصى(6) وغير ذلك.
أولاً: الإسلام دين الحوار:
الحوار منهج قرآني, فقد كلم الله ملائكته واستمع منهم "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" [البقرة:30] وكذلك رسله "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ" [المائدة:116]، وحتى مع الكافرين "قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى" [طه:125-126]. وحتى مع إبليس "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" [الأعراف:12]. والقرآن مليء بمحاورات الرسل مع أقوامهم "قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" [إبراهيم:10] .
وتأمل حوار إبراهيم عليه السلام مع مدعي الربوبية "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [البقرة: 258].
وحوار موسى مع فرعون مدعي الألوهية والربوبية في سور عديدة في القرآن وكذلك بقية الرسل عليهم صلوات الله وسلامه حيث يحاورون أقوامهم بالحكمة لدعوتهم إلى الله وبيان الحق لهم والرد على شبهاتهم.
وهذا القرآن يحكي حوار النبي صلى الله عليه وسلم- مع امرأة "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" [المجادلة: 1].
وحضارتنا الإسلامية على مدى التاريخ هي حضارة الحوار فقد حاور علماء المسلمين كافة أهل الملل والنحل بالمنهج القرآني والدعوة إلى الخير(7).
ثانيًا: أهم أهداف الحوار في الإسلام:(62/227)
1 - الدعوة إلى الإسلام, وعبادة الله وحده لا شريك له وهذا أسمى هدف "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [فصلت: 33] ومعرفة الله هي أعظم حقيقة وعبادته هي الحكمة من خلق البشر "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56], ويترتب عليها سعادة البشرية في الدنيا والآخرة " فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" [طه: 123, 124].
ويدخل في ذلك إبراز محاسن الإسلام والرد على شبهات أعدائه وإيضاح الحقيقة العظيمة في الحكمة من خلق البشر وما يُراد منهم وما يراد بهم وما مصيرهم.
فالحوار مطلب إسلامي لكي نقوم بواجبنا تجاه الأمم الأخرى ليس لافادة أنفسنا فحسب بل لفائدة الأمم الأخرى أيضًا لنوصل إليها الخير الذي أمرنا به.
فالأمة الإسلامية هي صاحبة الرسالة الأخيرة, وعليها واجب البلاغ، قال تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران: 110].
2- تحقيق وظيفة الإنسان في الأرض وهي الخلافة وعمارة الأرض "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" [البقرة: 30] (8).
3- تبادل العلوم النافعة، وحل الإشكالات القائمة والتعاون على الخير "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" [المائدة: 2].
وليس من أهداف الحوار موالاة الكفار ومودتهم من دون المؤمنين، فقد جاءت النصوص القطعية في النهي عن ذلك، قال الله تبارك وتعالى: "لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ" [آل عمران: 28].
كما أن الحوار لا يهدف إلى التنازل عن شيء من ثوابتنا العقدية أو الشرعية، أو المشاركة في الدعوات المغرضة لوحدة الأديان التي تساوي الإسلام بغيره وخلط الحق بالباطل، أو مشاركة الكفار في باطلهم، وقد نهى الله نبيه عن ذلك فقال سبحانه: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 1-6]، وقال أيضاً: "وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ" [القلم: 9] وقال سبحانه: "وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً" [الإسراء: 74] كما يجب التفريق بين الكفار المحاربين الذي يجب معهم الجهاد في سبيل الله "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" [الممتحنة: 1]، وقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" [التوبة: 73]، والمسالمين الذين قال الله فيهم: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الممتحنة: 8].
ثالثاً: آداب الحوار:
من أهم آداب الحوار:
1- حسن القصد من الحوار: وذلك بالإخلاص لله والرغبة في طلب الحق، قال تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " [البينة: 5].
2- العلم: فلا حوار بلا علم، والمحاور الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، وقد ذم الله سبحانه وتعالى المجادل بغير علم "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ" [الحج: 8]، وذم أهل الكتاب لمحاجتهم بغير علم كما في قوله تعالى: "هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [آل عمران: 65-66].
العلم عام في كافة مواضع الحوار، فيشمل العلم بالإسلام وعقيدته وحضارته والعلم بالمحاورين وخلفياتهم وكافة ما يحتاج إليه في الحوار.(62/228)
فالمحاور المسلم داع إلى الله يجب أن تكون دعوته بعلم وبصيرة كما قال سبحانه "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" [يوسف: 108].
فالعلم بالإسلام وحضارته وشبهات المخالفين في غاية الأهمية في حوار غير المسلمين لإقناعهم ورد شبهاتهم فضلاً عن عدم الانخداع والتأثر بها.
3- التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام، حيث أن أهم ما يتوجه إليه المحاور التزام الحسنى في القول والمجادلة، ففي محكم التنزيل: "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [سورة الإسراء: 53] "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ" [سورة النحل: 125] (9).
وعلينا أن ننأى بأنفسنا عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز.
4- التواضع واللين والرفق من المحاور وحسن الاستماع وعدم المقاطعة والعناية بما يقوله المحاور، فهو أدعى للوصول إلى الحقيقة واستمرار الحوار، وهذا ما علمناه القرآن، فقد أمر الله نبيه موسى وأخاه هارون عليهما السلام عند مخاطبة فرعون الذي طغى وتجبر وادعى الألوهية والربوبية، فقال سبحانه : "فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" [طه: 44].
5- الحلم والصبر، فالمحاور يجب أن يكون حليماً صبوراً، فلا يغضب لأتفه سبب، فإن ذلك يؤدي إلى النفرة منه والابتعاد عنه، والغضب لا يوصل إلى إقناع الخصم وهدايته، وإنما يكون ذلك بالحلم والصبر، والحلم من صفات المؤمنين قال تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [أل عمران: 134]. وعندما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم- أوصني، قال: (لا تغضب) (10) وكررها مراراً.
ومن أعلى مراتب الصبر والحلم مقابلة الإساءة بالإحسان، فإن ذلك له أثره العظيم على المحاور، وكثير من الذين اهتدوا لم يهتدوا لعلم المحاور واستخدامه أساليب الجدل، وإنما لأدبه وحسن خلقه واحتماله للأذى ومقابلته بالإحسان، وقد نبه الله عز وجل الداعين إليه إلى ذلك الخلق الرفيع وأثره وفضل أصحابه، فقال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" [فصلت: 33-35].
6- العدل والإنصاف؛ يجب على المحاور أن يكون منصفاً فلا يرد حقاً، بل عليه أن يبدي إعجابه بالأفكار الصحيحة والأدلة الجيدة والمعلومات الجديدة التي يوردها محاوره وهذا الإنصاف له أثره العظيم لقبول الحق، كما تضفي على المحاور روح الموضوعية.
والتعصب وعدم قبول الحق من الصفات الذميمة في كتاب الله فإن الله أمرنا بالإنصاف حتى مع الأعداء فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة: 8]، ومن تدبر القرآن الكريم وذكره لأهل الكتاب وصفاتهم الذميمة يجد أن المولى عز وجل لم يبخسهم حقهم، بل أنصفهم غاية الإنصاف، ومن ذلك قوله تعالى: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً" [آل عمران: 75]، وقوله تعالى: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" [آل عمران:113]. يقول ابن القيم:
وتعر من ثوبين من يلبسهما *** يلقى الردى بمذمة وهوان
ثوب من الجهل المركب فوقه *** ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحل بالإنصاف أفخر حلة *** زينت بها الأعطاف والكتفان(11)
ويأمر الله بمحاورة أهل الكتاب بلغة الإنصاف والعدل: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً" [آل عمران: 64].
والإسلام ينطلق في الحوار من التكافؤ بين البشر لا تفاضل لعرق كما حكى الله عن اليهود قولهم: "نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ" [سورة المائدة: 18] أو لون كما يدعى العنصريون البيض في أوروبا، أو طبقية كما هي عند الهندوس، وإنما بصلاحهم، ولنتأمل آية قرآنية مفتتحة بالمبدأ ومقررة وجود الاختلاف ومبينة أهمية التعارف وخاتمة بميزان التفضيل "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [الحجرات: 13].(62/229)
وهذا الاختلاف من آياته سبحانه "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ" [الروم: 22].
فالإسلام يقرر أن الاختلاف حقيقة إنسانية طبيعية ويتعامل معها على هذا الأساس "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" [المائدة: 48].
فوجود الاختلاف أمر واقع وله حكم إلاهية ويجب التعايش وفق ما أمر الله من الدعوة والنصيحة(12).
وأخيراً هذه نظرتنا للحوار والاختلاف، ولكن عندما ننظر إلى الواقع ودعوات الحوار الصادرة من الغرب لنا أن نتساءل: كيف يؤتي الحوار ثماره في العالم اليوم بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب وهو يصاحب الهيمنة والاستعلاء، والظلم والجور، والاحتلال ولغة السلاح.
إن التكافؤ بين المتحاورين مهم جدًّا ليحقق الحوار أهدافه(13).
أن الحوار لا يحقق أهدافه مع المجازر المستمرة في فلسطين والاحتلال في العراق وأفغانستان؛ بل كيف تتفق لغة الحوار ع الجدار العنصري في الأرض المحتلة على الرغم من إدانة العالم في الأمم المتحدة (باستثناء بعض دول الغرب المنحازة للصهيونية).
أي حوار ينادي به الغرب مع هذا العدوان والظلم ولغة الاستعلاء، وفرض المصطلحات واستغلال التفوق الإعلامي لتشويه الآخرين.
كيف نثق بهذا الحوار الذي يهدف إلى نمط جديد من الدبلوماسية لتكريس الظلم ومصالح تتعلق بالاقتصاد والسياسة ومواصلة الحرب والصراع والاحتلال(14).
إن الغرب مطلوب منه قبل أن يتحدث عن الحوار ونشر الديموقراطية (والشرق الأوسط الكبير) إن كان يريد خيرًا بالآخرين يجب تقليص الهوة السحيقة بين البلدان الغنية والفقيرة, وعليه مساعدة البلدان على التنمية لا توريطها في الديون والفقر، وفرض الإملاءات عليها، ومساعدة البلدان التي خربتها الحروب كالصومال وأفغانستان وغيرها على إنهاء ذلك الوضع, بل أن تكف يدها عن إشعال الفتن في تلك البلدان.
بعد ذلك يُقال أننا نرفض الحوار والتسامح؛ ومن يتهمنا بذلك؟ إنه المستعلي الظالم المحتل لأرضنا والساعي لتشويه ديننا وثقافتنا، ومع ذلك فلا نزال نقول إننا مع دفاعنا عن ديننا وثقافتنا وأرضنا وأنفسنا فإننا نرى أن الحوار هو خيار مهم لتحقيق أهدافنا العليا القائمة لمصلحة البشرية.
(1) لسان العرب، ابن منظور (4/217-218).
(2) لسان العرب، ابن منظور (11/103).
(3) انظر: أصول الحوار، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1408هـ - 1987م، ص: 9. وانظر: الحوار مع أهل الكتاب، د. خالد بن عبدالله القاسم، دار المسلم، الطبعة الأولى، 1414هـ، ص: 104.
(4) لسان العرب، (4/196).
(5) انظر: الحضارة والعالم الآخر، د. عبدالله الطريقي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1415هـ، ص: 16-17.
(6) انظر: الحضارة، حسين موسى، عالم المعرفة، 1998م، ص: 220.
(7) انظر: موقف الإسلام من الحضارات الأخرى، د. محمد نورد شان، بحث مقدم إلى ندوة الإسلام وحوار الحضارات، غير منشور، مكتبة الملك عبد العزيز، الرياض - السعودية، محرم 1423هـ، ص: 6.
(8) انظر: مدخل إسلامي لحوار الحضارات، لمحمد السعيد عبد المؤمن ص(11-12)، بحث مقدم لندوة الإسلام وحوار الحضارات، مكتبة الملك عبد العزيز، 1423هـ غير مطبوع.
(9) أصول الحوار وآدابه في الإسلام، صالح بن عبدالله بن حميد، ص: 13.
(10) أخرجه البخاري، ك الأدب، باب الحذر من الغضب، رقم (5765).
(11) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، ابن القيم، دار المعرفة، بيروت، 1345هـ، ص: 19.
(12) انظر: مجلة العرفة، العدد 101 شعبان 1424هـ، موضوع قيم الإسلام، الحوار الانفتاح على العالم، ص: (18 - 26).
(13) انظر: من أجل حوار بين الحضارات (9) روجيه جارودي دار النفائس، الطبعة الأولى 1411هـ.
(14) انظر: حوار الحضارات، محمد خاتمي (50) ضمن كلمة الرئيس الإيراني في اليونسكو (بتصرف) في فرنسا 30/10/91 دار الفكر دمشق الطبعة الأولى 1423هـ.
==============(62/230)
(62/231)
إقالة العثرات في حوار الحضارات
قراءة في كتاب " التقريب بين الأديان للدكتور / أحمد القاضي . رسالة دكتوراه في أربع مجلدات
إعداد/ عبدالله السهلي
الحوار : مادته حور و(الحور : الرجوع عن الشيء إلى شيء والمحاورة المجاوبة والتحاور : التجاوب . والمحاورة : مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة ) لسان العرب ابن منظور ص 3/383 ط 1 إحياء التراث 1416هـ .
قال الراغب في مفردات القرآن .. والمحاورة والحوار : المرادة في الكلام ومنه التحاور قال تعالى : "والله يسمع تحاوركما " .
ومفهوم الحوار في الفكر السياسي والثقافي المعاصر من المفاهيم الحديثة التي لم تظهر إلا بعد إنشاء منظمة الأمم المتحدة .
ولعل من أسباب شيوع هذا الشعار كونه لا يفصح - بحد ذاته - عن هدف معين أو يوحي بتوجه معين يمكن أن يكون ملزماً أو محرجاً للمنادين من الطرفين فالحوار دعاء يمكن أن يحوي مضامين متباينة . فقد يكون حواراً يقصد به التقريب بين الأديان والالتقاء في وسط الطريق كما في " الحوار الإبراهيمي " ، وقد يستخدم خارج نطاق دعوة التقريب بين الأديان فيما يعرف بقضايا التعايش وحينئذ لا يتعلق الأمر بالدين من حيث هو دين عقيدة وشريعة ولكن بالعلاقة المعيشية البحتة بين معتنقي الأديان وهو بهذا يهدف إلى تحسين مستوى العلاقة بين شعوب وطوائف وربما تكون أقليات دينية ويتعلق بقضايا مختلفة كالاقتصاد وأوضاع المهجرين واللاجئين والإنما . وهذا مثل " الحوار العربي الأوروبي " وهذا الحوار بحد ذاته - بغض النظر عما يصاحبه من تأطيرات قد تلحقه بالنوع الأول - تفرضه طبيعة الحياة البشرية وحاجاتها المختلفة- ومن ثم فلا غبار على الدخول فيه كما جرى في عهدة النبوة من حوار التعايش مع جهود المدينة وغيرهم .
وقد تنبه الكفار لأهمية تحديد المصطلحات . يقول الكاتب الروسي المعاصر إليكس جوارفسكي في كتابه : (الإسلام والمسيحية من التنافس والتصادم إلى آفاق الحوار والتفاهم ) قال : .... لابد قبل كل شيء من تحديد وضبط مفهوم الحوار ذاته ".
وينبغي أن نذكر هنا أن الحوار قد أغدق عليه من ألفاظ التمجيد لدى فئام من المفكرين حتى غدا مقصد من مقاصد الشرع لديهم مما يفرض علينا تساؤلاً : أين علماء الأمة وسلفها عن هذه المحمدة العظيمة التي قصرت عنها سائرة الفضائل .
وخذ على سبيل المثال :
أ . د . يوسف الحسن في كتابه " الحوار الإسلامي المسيحي ، الفرص والتحديات) . قال : الحوار هو جوهر الحياة وهو أحد مقاصد الشرع الكبرى ....
ب- د . يوسف القرضاوي : قال في الحوار الإسلامي المسيحي . محاضرة منشورة في مجلة المسلم المعاصر . قال : إذا نظرنا إلى القرآن الكريم نجد أنه كتاب حوار من الطراز الأول وقد حاور الأنبياء وأقوامهم - وذكر أمثلة - ومن أعجب الحوارات في القرآن حوار الله تعالى مع بعض خلقه في قوله تعالى : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها " ، وحوار الله تعالى مع أعدى أعدائه الشيطان . لذا لا عجب في أن نقتدي بالقرآن الكريم في أن نتحاور مع من خالفنا أ هـ
وهنا لابد من أن نعقب وهو أن الألفاظ الشرعية ذات دلالات خاصة ولا يدخل فيها- لا مشاحة في الاصطلاح - فلو ساغ لنا أن نعبر بالحوار فيجب أن نضمنة معنى الدعوة وإقامة الحجة وقطع الشيهة وأن لا نطلق أعنة الكلام تجري في مسارح الأفكار المتباينة .
والنتيجة أن الحوار تحول إلى غاية وليس وسيلة لغاية
وللتقريب أو حوار الحضارات بواعث وأهداف يعاد طرحها في ندوات حوار الحضارات . وهي في حقيقتها شبه تحتاج بيان ودحض منها :
1- باعث التصدي للإلحاد والانحلال الخلقي والمادية .
يقول د . القرضاوي في مستهل تعداده لأهداف الحوار الديني بين الإسلام والنصرانية : " الوقوف في وجه تيار الإلحاد والمادية الذي يعادي كل الرسالات السماوية ويسخر من الأيمان بالغيب .... وكذلك تيار الإباحية والانحلال الخلقي . الذي يكاد يدمر خصائص الإنسانية وفضائلها التي كسبتها من هداية النبوات " أ . هـ و يقول أحمد كفتارو : " لقد جعل القرآن بين المسلمين والمسيحيين راطبة روحية يعيشون تحت ظلالها في سعادة متكاتفين متعاونين …. لا سيما والإلحاد يكاد يلف العالم بظلامه .. ضمن هذه القاعدة " نتعاون على ما نشترك فيه . ونتسامح فيما يختلف فيه من فروع " الدعوة والدعاة (1/560) وكذلك يقرر هذا أ. كامل الشريف بعد عودته من ندوة جارودي الإبراهيمية في قرطبة عام 1987م . وهذه الشبهة هي أقدم الشبهات . و أول ما طرحت عام 1954م في مؤتمر بحمدون في لبنان بمبادرة من جمعية الأصدقاء الإمريكان للشرق الأوسط وشارك فيه 74 مسلم ونصراني .
نقول : لا شك أن أهل الكتاب خير من الملحدين والوثنيين كما أنه من دواعي فرح المؤمنين أن ينتصر أهل الكتاب على الوثنيين والملحدين .كما فرح المؤمنون الأوائل بغلبة الروم النصارى للفرس المجوس (مطلع سورة الروم) .(62/232)
ولكن التمييز بين أصناف الكفار شيء والتقارب والحوار بدعوى مواجهة الإلحاد والفساد شيء آخر . ولا يجوز الربط بينهما . ذلك أن للإسلام دعوته الخاصة ومنهجه المنفرد في هداية الخلق . والحوار بسبب هذه الدعوى يفضي إلى تصويب اليهودية والنصرانية وبالتالي نقل البشر من ركن من أركان النار إلى ركن آخر ليس إلا . والتعاون معهم لدفع مفسدة جزئية كالإجهاض والمخدرات قد يؤدي إلى مفسدة كلية تمس الاعتقاد .
يقول الأستاذ سيد قطب : " وسذاجة أي سذاجة وغفلة أي غفلة أن نظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين أمام الكفار الملحدين . فهم الكفار والملحدين إذا كانت المعركة على المسلمين ..." .
ومن ثم فليس هناك جبهة تديّن يقف معها الإسلام في وجه الإلحاد ! هناك دين هو الإسلام وهنا " لا دين " هو غير الإسلام ثم يكون هذا اللادين عقيدة أصلها سماوي ولكنها محرفة أو عقيدة اصلها وثني باقية على وثنيتها . أو إلحاد ينكر الأديان . نختلف فيما بينها كلها ولكنها تختلف كلها مع الإسلام (في ظلال 2/910-916).
2 - الباعث الدعوي :
يرى بعض الإسلاميين في الحوار وسيلة إلى الدعوة أو دفع الشبهات عن الإسلام فالدكتور الترابي على سبيل المثال يضع هذا الباعث في أعلى قائمة دواعي الحوار ومبرراته قائلاً : " إنه ضرورة شرعية لتبليغ الرسالة . وحمل أمانة الدعوة. فالأصل هو التفاعل التبليغي وعدم جواز السكون ) شؤون الأوسط عدد (36) ديسمبر 1994م .
وهي مسوغات صحيحة لغاية مشروعة ألا وهي الدعوة إلى الله وتبليغ دينه ولكن أي إسلام يراد إبلاغه من خلال مؤتمرات الحوار وندواته ؟ أهو الإسلام النقي القائم على توحيد الله واتباع نبيه أم إسلام مهجن لا يرى فيه الغربي إلا تقرباً إلى النصرانية التي ملّها ومجها ّ! ؟ وأين ثمار هذا الباعث الدعوي من ملتقيات وندوات الحوار والتقريب منذ أكثر من أربعين سنة حتى الآن .
إننا لا نعلم حتى الآن أن أحداً دخل في الإسلام كثمرة تمخضت عن هذه الملتقيات والحوارات والسبب أن الدعوة شعارها الذي حمله الأنبياء والمصلحون هو " اعبدوا الله مالكم من إله غيره " وهذا ما يستحيل طرحه والحالة كهذا
3-من أهداف وبواعث الحوار هو إبراز التسامح الإسلامي وتحسين صورة الإسلام المشوهة في الغرب .
والتسامح - مصطلح فضفاض يتضمن حقاً وباطلاً لذا يتحتم للتوضيح والاستفصال عن مفهومة ، والغالب أن يطرح التسامح الذي يعني المداهنة وإعطاء الدنية في الدين وتسوية المسلمين بالمجرمين باسم الحرية الدينية أو التعددية الثقافية . أو التنوع الحضاري .
وإن الغرب الذي يخطب وده هؤلاء التسامحيون لا يكف ليل نهار عن تشويه الإسلام في وسائل الإعلام والسخرية من أهله وهذا من الغرب ليس رده فعل لبعض تصرفات بعض المسلين ولن يرده عنها انبطاح التقريبيين بين أيدي الغرب بل هو عقيدة راسخة منذ فجر الإسلام : " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " (البقرة 120) " ولئن اتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك " ( البقرة 145) .
إن كل جريمة ترتكبها مجموعة دينية أو عرقية لا تنسب في لغة الإعلام الغربي إلى الدين الذي تنتمي إليه تلك المجموعة أو حتى الفرد إلا حين تصدر عن مسلمين فيقال " الإرهاب الإسلامي" (الإرهابيون المسلمون ) ولا يقال لجرائم الصرب في البوسنة وكوسوفا " الإرهاب الارثوذكسي " ولا لعمليات الألوية الحمراء في إيطاليا " الإرهاب الكاثوليكي ) ولا لتفجيرات الجيش السري الإيرلندي (الإرهاب البروتستانتي) ولا الجيش الأحمر الياباني " الإرهاب اليهودي ) وهكذا اليهود والهندوس
يقول سيد قطب : " إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة باسم التسامح والتقريب بين الأديان يخطئون في فهم معنى الأديان كما يخطئون في فهم معنى التسامح فالدين - الإسلامي - هو الدين الأخير وحده عند الله والتسامح يكون في المعاملات الشخصية لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي .
4- الحوار وسيلة لتحاشي النزاعات والحروب وصدام الحضارات .
وهذا الأمر في نظري هو من الأسباب الرئيسية لندوة حوار الحضارات التي أقيمت في الندوة . وهذا السبب والباعث طرحه كثير من رواد التقريب والحوار أمثال د . محمد عثمان صالح في تحديات الحور بين الأديان و د . يوسف الحسن في الحور الإسلامي المسيحي الفرض والتحديات . و د . موسى الكيلاني وغيرهم .
- وهذا الباعث وهو خطر النزاعات والحروب سلاح يشهره بعض دعاة التقريب والحوار لتمرير فكرتهم . وضرب من الإرجاف لتوهين النفوس وزلزلتها . ويعلم هؤلاء أن الذي يملك الآلة العسكرية المتطورة هم النصارى . وهم مثيرو النزاعات والحروب كما أن الدعوة بحتمية الصراع بين الإسلام والنصرانية تنبعث بقوة من المعسكر المقابل وليس من الصف الإسلامي فإن الحروب والخصومة ليست هدفاً للإسلام ولا شهوة للمسلمين لذلك " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " .
- ومن شواهد الدعوة إلى حتمية الصراع عند الغربيين:
1-كتاب " نهاية التاريخ ) للأمريكي الياباني الأصل فرانسيس فوكوياما .(62/233)
1- مقالة البروفسور صموئيل هانتنغتون " صدام الحضارات ضمن دراسة مطولة بعنوان " المصالح الأمريكية ومتغيرات الأمن ) . وقد أكد أفكاره هذه بعد أربع سنوات من نشرها في مقابلة له مع مجلة المجلة وهي تقريرات خبير متمرس تبوأ أعلى المواقع الاستشارية وليست انفعالات طائشة من زعيم قومي .
إنها خلاصة تجارب أئمة الكفر . " ولا يزالون يقاتلوكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا " (البقرة 217) إن استدفاع ويلات الحروب وآثارها المدمرة لا يكون بالمقايضة على أمور الدين الإعتقادية أو التشريعية فليس ذلك لأحد من الخلق "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهعم " البقرة .
=============(62/234)
(62/235)
فتح قنوات الحوار
د. عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين * 23/5/1425
11/07/2004
لقد شاع استخدام كلمة (الحوار) هذه الأيام في أدبيات الفكر، والسياسة، والاقتصاد، والإعلام، والحياة الاجتماعية وغيرها.
إن فتح قنوات الحوار مع الآخرين يطول الحديث فيه، ذلك أن الكلام أو الحوار أحد أساليبِ الإقناع المؤثرة والفعالة، وما أحوجنا -جميعًا- إليه في كل حينٍ من أجل تربية أبنائنا وتوجيههم، ومناقشاتنا لغيرنا في بساطةٍ وهدوءٍ ووضوحٍ، لا سيما في أزمنتنِا المعاصرة؛ حيث كثرت الحوارات البعيدة عن المنهج الشرعي والآداب العامة.
إننا إذا أردنا أن يكون حوارنا فعالاً داخل الإطار الإسلامي بدءًا من المنزل ومرورًا بالمدرسة والمسجد والجامعة ومحيط العمل وانتهاءً بالأمة؛ فلا بد من ممارسة حوار متناغم يَشِي بوجود مراجعة دائمة وتسامحٍ عملي وتفاعلٍ إيجابي حتى يثمر نتائج محددة.
إن المتأملَ في حال بعضِ المتحاورِين في مسائِلِ العلمِ أو الدِّينِ أو القضايا العامة أو الاجتماعية وغيرها، يُخيّلُ إليه أنهم يتقاتلون لا أنهم يتحاورون ويتجادلون ويتناقشون، وأن الذي في أَيْمَانِهِم ليس قَلَمًا يَقْطُرُ مِداداً بل سيفاً يقطر دماً. وكان الأولى أن يَغلبَ الجو العلمي بهدوئِه ورزانتِهِ على الجو الانفعالي بشدته وطيشه، ولكنَّ هذا إنما يكون في الاختلاف الملتزم بأدب الحوار والموضوعية والجدالِ بالتي هي أحسن، والابتعادِ عن العناد والمكابرة، إذ الإسلامُ يدعو إلى الحوارِ والمجادلةِ بالتي هي أحسن من أجل الوصولِ إلى الحقِ.
وكذا الوقوفِ على أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته الجامعة في حواراته لا حصرَ لها، سواء بينه وبين المشركين، أو بينه وبين المنافقين، أو بينه وبين المسلمين، وسواء بينه وبين كبار الصحابة، أو بينه وبين صغارهم، أو الجهلة من البادية.
وأنوه على أن الحوار مع الآخرين، وإتاحة الفرصة لتبادل الرأي للوصول إلى قناعات معينة، أو صيغ مشتركة للتفاهم والتعاون، هو مطلب إسلامي، وإحدى وسائل الدعوة إلى الله تعالى، إذا توافرت للحوار شروطه، من إتاحة الفرص المتكافئة، وتحرير موضوع الحوار، والالتزام بآدابه وأخلاقه(1)، انطلاقًا من قوله تعالى : )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(2).. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- : "إن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق، أو كان داعية إلى الباطل، فيجادل بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلاً ونقلاً؛ ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي يعتقدها، فإنه أقرب إلى حصول المقصود، وألا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة، تذهب بمقصودها، ولا تحصل الفائدة منها، بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها".(3)]
وأشير إلى ما ذكره معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد -رئيس مجلس الشورى- في حديثه عن العنف والإرهاب: "إننا نحتاج إلى فتح أبواب الحوار الصريح الشفاف يقوده علماؤنا في حوار حضاري بنَّاء.. إن العدل في الحوار يتطلب شفافية ومصارحة ومصداقية من جميع الأطراف حتى تصل الأمة جميعها بأبنائها إلى ساحة الأمن الفكري الوسط في التدين والمنهج والخطاب".
ثم تحدث عن فضيلته عن دور المفكرين والمثقفين في أداء رسالتهم الخاصة والمنيرة المتميزة تنبع من انتسابهم للدين ومبادئه. (4)
وأؤكد على "أن الحوار يكون -أحيانا- أقوى من الأسلحة العسكرية كلها، لأنه يعتمد على القناعات الداخلية الذاتية؛ بل ربما أفلح الحوار فيما لا تفلح فيه الحروب الطاحنة".(5)
وأحب أن أبين أنه ليس من الضروري أن نعتقد أن نتيجة الحوار لا بد أن تكون إقناعك الطرف الآخر بأن ما عندك حق، ومن ثم التغلب عليه، وأنَّ ما عنده باطل؛ فليس هذا بلازم.
ولربما أقنعتَهُ فهذا جميل، وإذا كنتَ ملتزمًا بكيفية التحاور، وآدابِهِ ومنهجيتِهِ، فأقل شيءٍ أن يعلمَ خصمُك أن لديك حجةً قويةً، وأنك محاورٌ جيدٌ، وأن يأخذَ عنك انطباعًا طيبًا.(6)
أسأل الله تعالى التوفيق والسداد، إنه خير موفق ومعين.* عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء
(1) حتى لا تكون فتنة لعمر عبيد حسنة، ص70-71.
(2) سورة النحل.
(3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص404.
(5) المجلة العربية.
(6) أدب الحوار لسلمان بن فهد العودة، ص8
(7) انظر : أدب الحوار، ص18
=============(62/236)
(62/237)
مجلة الدعوة: حوار عن الحوار
مجلة الدعوة 19/10/1425
02/12/2004
لقاء منبر الحوار في مجلة الدعوة مع فضيلة الشيخ سلمان العودة عن الحوار في 29/5/1425هـ
ما تأصيل مصطلح الحوار في الإسلام بين الحقيقة والمعنى؟
الحوار هذا لفظ شاع في عصرنا بطريقة ملفتة للنظر؛ حيث تستطيع أن تقول: إنه أصبح سمة من سمات هذا العصر, وظاهرة من ظواهره .
فأنت تسمع مثلاً ( حوار الحضارات), ( حوار الشمال والجنوب ), ( الحوار العربي ), ( الحوار الأوربي ) وغير ذلك.
ولعل من أبرز أسباب ذلك هو الثورة أو الانفجار المعلوماتي الذي حدث في هذا العصر؛ فلم يعد هناك أحد كائناً من كان فوق الحوار فإن لم تتكلم وتحاور في شاشات التلفزة استطعت ذلك عبر الإنترنت ودهاليزه اللامتناهية أو المجالس أو غيرها.
ولذلك يجب أن يترسخ لدينا أن أي كلمة أراد صاحبها نشرها فلها طرقها ومسالكها الكثيرة .
والعصر مختلف تماماً عن سابقه؛ لذلك هناك ضرورة حتمية للمحاورة والجدال والمناظرة , ولعل ما نراه اليوم؛ من قطار لا يتوقف, وسيل هادر, من المؤتمرات, والندوات والاجتماعات, في نواحي العالم تبرز أهمية تفعيل الحوار.
والحوار هو عملية محاورة, بين أفراد؛ اثنين أو أكثر, يتخللها موضوع يطرحه أحدهم ويجاب عنه, وقد ينتج عنه تفريعات أخرى.
ومن أثر الحوار: أن يفكر المحاور في آرائه أو يتراجع عنها أو يزداد بها وثوقاً.
ولفظ الحوار لم يكن مستعملاً في تاريخنا بشكل كبير وقلما كان يستعمله علماء الأصول أو علماء الكلام بخلاف لفظ الجدل والمناظرة.
قال ابن فارس حَوَرَ( الحاء, والواو, والراء) ثلاثة أصول:
أحدها: لون (يعني: الحور في العين وغيرها).
والآخَر: الرُّجوع
والثالث: أن يدور الشيء دَوْراً.
وفي القرآن الكريم أشكال وأنماط متعددة ومختلفة من الحوارات بين كافة المستويات فمن ذلك:
* حوار الملائكة مع ربهم سبحانه وتعالى.
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30) .
* حوار الله سبحانه وتعالى مع الأنبياء والرسل.
على سبيل المثال عيسى عليه السلام: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (المائدة:116)
* حوار الله سبحانه وتعالى مع إبليس.
(قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(لأعراف:12)
* حوار الأنبياء مع أهليهم
(وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (هود:43)
* حوار أهل الجنة والنار
(وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) (لأعراف:50)
* حوار الرسل مع أقوامهم وهذا كثير جداً
* حوار الإنسان مع غير الإنسان كالهدهد مع سليمان عليه السلام
(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ) (النمل:22)
* حوار الأنبياء مع الملوك والحكام والجبابرة وهذا أيضا في عشرات المواضع كما في قصة موسى عليه السلام مع فرعون.
* حتى ذكر الله حوار الإنسان مع أعضائه التي تشهد عليه وتنطق يوم القيامة
(وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (فصلت:21)
وفي القرآن الكريم نصوص كثيرة متشابهة كلفظ الجدال, والمخاصمة, والمحاجة .
لكن لفظ الحوار له خصوصية ومزية, وقد ورد في القرآن في ثلاثة مواضع:
1- (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (الكهف:34)
2- (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (الكهف:37)
3- (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة:1)(62/238)
ولفظ الحوار في القرآن غير مقيّد, والله عز وجل سمى فعل المرأة (مجادلة) وهي تذكر زوجها وأطفالها, ولما اشترك معها صلى الله عليه وسلم سمى الفعل محاورة.
ومن ألصق معاني الحوار أو الحور هو التردد والرجوع, وذلك يكون بالذات أو بالفكر ومنه «اللَّهُمَّ إنّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الْحَوَرِ بَعْدَ الكَور » أي من التردد في الأمر بعد المضي فيه أو النقص في الحال بعد الزيادة.
والمحاورة والحوار هي المراددة في الكلام ومنه التحاور.
فالحوار فيه معنى ترداد الفكر في العقل, والأخذ والرد, وفيه معنى الاستعداد لدى الإنسان للرجوع إلى الحق إن استبان له.
وهذا معنى شريف في لفظ الحوار، ولا يستلزم ذلك الرجوع من قول لآخر, لكن يحدث الإنسان نوعاً من التحوير أو التعديل أو ينظر في دقة وتحرير ما قاله.
إذن الحوار فيه نوع من الرجوع, وعدم الاستئثار بالرأي دون الطرف الآخر, وفيه نوع من الملاينة في الكلام, والملاطفة, بخلاف المجادلة والمحاجة.
وفيه نوع من رفع سقف المناقشة قدر الطاقة بين المتحاورين.
فالحوار ليس جدالاً ولا مقارعة ولا منابذة في ميدان قتال تراق فيه دماء المتحاربين بسيوف الألفاظ النابية والفكر المعقد والمسلك المتشنج.
فهناك تلازم بين الحوار والأدب, بين الحوار واللطف, بين الحوار واللغة الراقية!
وهذا كله من شأنه أن يجعل الحوار يؤتي أكله, ويصل إلى أهدافه من بيان الحق, وإقناع الآخر به.
لكن المشاهد في الواقع وفي وسائل الإعلام كالفضائيات, والإذاعات, والشبكة العنكبوتية وغيرها؛ يختلف تماماً عما يجب من لوازم أدب الحوار .
فهناك الاستئثار, والصراخ, والعصبية, والتنابز, والازدراء, والنظرة الدونية؛ حتى يتخيل لك في بعض البرامج الحوارية أنك في حلبة مصارعة؛ أيهما يطرح الآخر أرضا بضربة قاضية!!
فنحن بحق نعاني أزمة في الحوار, ترتبط بأزمات كثيرة؛ في الفهم والتلقي والنقل والأخلاق.
وعلام يدل ذلك ؟
هذا يدل على أهمية الرجوع إلى ما يجب أن يكون عليه الحوار من وضوح في الهدف على كافة المستويات, والهدف واضح, وهو: الحق, فيجب البحث عنه, والرجوع إليه متى استبان على لسان من جاء به أيا كان, بلا تسلط, أو إحراج, أو استعراض للقدرة العقلية, أو الذهنية !!
ويدل أيضا على أن الحوار من أفضل وسائل الإقناع, وتغيير الفكر الذي يعدل سلوك المحاور إلى الأفضل ،وفيه ترويض للنفوس على قبول النقد ، واحترام آراء الآخرين ...
وتتجلى أهميته في دعم النمو النفسي, والتخفيف من مشاعر الكبت وتحرير النفس من الصراعات والمشاعر العدائية والمخاوف والقلق ، فأهميته تكمن في أنه وسيلة بنائية علاجية تساعد في حل كثير من المشكلات.
ومن أعجب الكلمات التي ينبغي أن يوقف عندها؛ كلمة الإمام الفذ الشافعي رحمه الله, وهو من كبار أساتذة التاريخ الإسلامي, في فنون الجدل, والمناظرة, وتأصيلها فقد كان يقول:( ما جادلت أحداً إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه).
هل لنا نصيب من هذه العبارة الحكيمة, وهل يوجد اليوم أحد من الناس يقول مقالة الإمام الشافعي رحمه الله قولاً وفعلاً؟
الإمام رحمه الله قال هذه الكلمة؛ لأنه واثق أنه سيقبل الحق إن ظهر له سواء عند نفسه أو الآخر, والمشكلة هي في الطرف الآخر الذي لا يقبل الحق إلا إذا قاله هو, ولن يقبله إذا خرج من الشافعي؛ لذا تمنى أن يظهر الله الحق على لسان محاوره حتى يقبله الجميع .
- هنا تلاحظ :
- صفاء نفس الإمام الشافعي.
- محبته لظهور الحق على لسان أي طرف خاصة لو كان المحاور.
- محبته لقبول هذا الحق الذي ينبغي أن يكون هدفا.
- عدم قصد الإمام الشافعي لإحراج من أمامه؛ سواء بإظهار تناقضه أو ادعاء ما ليس له أو غير ذلك.
- فكرة العلو في الأرض أو التسلط على عباده غير واردة في جدول أعمال الإمام.
- كان من أقواله أيضاً ( والله لقد تمنيت أن الخلق كلهم تعلموا هذا, وأنه لم ينسب إلي منه حرف واحد).
أقول: فمن اتصف بمثل هذه المعاني التي اتضحت من قول الإمام الشافعي لا بد وأن يكون له نصيب من كلمته.
ثمت تساؤل مهم يلح على البعض هل يمكن الحوار والجدال في الأمورالقطعية في الإسلام, وما مجالات الجدال والمحاورة؟
الحوار والجدال لا يجوز أبداً أن يكون في القطعيات المسلم بها في الإسلام؛ كالقرآن الكريم أو أركان الإيمان, والإسلام, أو الدين الجامع, وعصمه الكبار, ومعاقده الشريفة؛ التي اجتمعت عليها الأمة, وبموجبها صارت أمة واحدة؛ كما قال الله تعالى:
(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:92) .
فلم يكن أمة واحدة إلا بمسلمات وقطعيات اجتمعت عليها لا تقبل الأخذ والرد.
وإنما يكون الأخذ والرد, والاجتهاد, والحوار, في القضايا النظرية الفرعية, سواء في الفقه أو التاريخ أو مستجدات الواقع أو مجريات السياسة أو غير ذلك.(62/239)
فمن حق كل طرف أن يكون مقتنعاً بما لديه, مما قامت عليه البراهين عنده على صحته. لكن لا يمنع هذا أن يسمع الآخرين, وأن يكون مستعداً للنظر فيما عنده من مسائل وهذا معنى كلام الشافعي رحمه الله: (قولي صواب يحتمل الخطأ, وقول غيري خطأ يحتمل الصواب ).
وجاء رجل إلى الإمام أحمد رحمه الله بكتاب
وقال له: هذا كتاب ألفته, وسميته كتاب (الخلاف )
فقال له الإمام أحمد: هذا حسن لكن سمِّهِ كتاب (السعة)
لأن ها مما وسع الله تعالى به على العباد .
وفي نفس الباب كلمة الإمام مالك المشهورة ( ما منا إلا رادٌّ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر r ).
وكذلك الإمام أبو حنيفة كان يقول:(حرام على من لم يعلم دليلي أن يفتي بكلامي ؛ فإننا بشر, نقول القول اليوم, ونرجع عنه غداً)
وهؤلاء تلامذته غيروا من بعده نحو ثلث المذهب, وهو تغيير قائم على الاجتهاد, والنظر والمحاجة, والبحث عن الحق لا بمحض التشهي.
فمثل هذه المسائل والنواحي التي ذكرت هي التي يجوز فيها التحاور والنقاش الذي يدور على الأخذ والرد العلمي القائم على الدليل والبرهان وليس على الهوى, والتعنت, واللجاج, وعلو الصوت, والصراخ, والإطاحة بالآخر, وإقصائه بالحق وبالباطل.
في الحوار تبرز قضية أساس, وهي اقتران الرحمة مع المحاورة. ما منهج المناظرة والمحاورة لدى الأنبياء؟
الرحمة قضية أساس في كل شيء حتى في ذبح الحيوان «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ الاِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ثُمَّ ليُرِحْ ذَبِيحَتَهُ».
وهي أساس في أي مبدأ, أو محاورة, بين عالم ومتعلم, أو كبير وصغير, مع كل الأطراف وعلى كل المستويات.
وقد جمع الله عز وجل بين المحاورة والرحمة في صفة أنبيائه.
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء:107)
(فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف:65)
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) (هود:28)
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159)
وهذه الحوارات بين الأنبياء وأقوامهم مفعمة بالرحمة وروح الود؛ كما هو ظاهر.
وفي الحديث الذي رواه أهل السنن أبي سعيد الخدري ، قال: قال رسول الله: «مَا مُجَادَلَةُ أَحَدِكُمْ فِي الحَقِّ يَكُونُ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِأَشَدَّ مُجَادَلَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ فِي إخْوَانِهِمُ الَّذِينَ أُدْخِلُوا النَّارَ قَالَ: يَقُولونَ: رَبَّنَا إخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا وَيَصُومُونَ مَعَنَا وَيَحُجُّونَ مَعَنَا فَأَدْخَلْتَهُمُ النَّارَ قَالَ: فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَأَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ مِنْهُمْ قَالَ: فَيَأْتُونَهُمْ فَيَعْرِفُونَهُمْ بِصُوَرِهِمْ ......»
وهذه مجادلة فيها إشفاق ورحمة ورغبة في إنقاذهم من النار؛ كما كانوا في الدنيا يجادلون برحمة وبلطف وأدب.
قال أحمد بن حنبل : ( قلما أغضبت أحداً فقبل منك ).
إن المناظرة والحوار في منهج الأنبياء تمثل مبادئ حقيقية سامية ثابتة لا خلاف عليها ولا جدل فيها.
وما نقل عن بعض الأئمة من النهي عن الجدال والمناظرة والحوار؛ فهذا اجتهاد خاص؛ لظروف معينة؛ يوجهها الوقت, وطبيعة الأحداث في عصرهم؛ لكن الأصل أن الرسل عليهم السلام جاؤا بأصل لا خلاف عليه وهو المحاورة لإظهار الحق .
ومن تأمل القرآن وجد كلمة ( يا قوم ) جاءت عشرات المرات على لسان الأنبياء؛ جاءت في معرض بيان الحجة وإزالة الشُبَه من أذهان المدعوين إلى الله.
بل من تأمل سيرة صلى الله عليه وسلم مع قومه في مكة وهم كفار, ومع المنافقين في المدينة, وعلى رأسهم عبد الله ابن أبي سلول, وكيف كان صلى الله عليه وسلم يلاحقه بقوله: يا أبا الحباب! يا أبا الحباب! من تأمل ذلك وغيره من المواضع التي لا تحصى؛ علم الأصل جيداً.
وليس هذا مرتبطاً بمرحلة استضعاف, ولا غيره, وإلا فقد تلطف مع خصومه في المدينة وهي مرحلة قوة كما تلطف في معهم في مكة . بل تلطف مع اليهود في الرد وهم يسألون عن أوَّلُ أشراط الساعة ؟ وما أولُ طعامٍ يأكلهُ أهل الجنةِ ؟ ومِن أيِّ شيءٍ يَنزعُ الولَدُ إِلى أبيهِ, ومن أيِّ شيءٍ يَنزِعُ إِلى أخوالهِ ؟
حتى أغلظ له بعضهم لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم «أَيَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ»، قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ، ومع ذلك حدثه النبي صلى الله عليه وسلم .
فأين الحوار اليوم من هذه المعاني .(62/240)
إن بعضهم قد يقصيك أو يصنفك لأدنى حركة, وليس فكرة تعبر عنها مرتبطة بالدليل وهذا ناتج عن فقدان الحوار لأصل فيه وهو الرحمة مع المخالف.
ولي محاضرة خفيفة بعنوان ( كيف نختلف ) ذكرت فيها ما يعالج هذا الموضوع.
ما شروط الحوار التي ترون وجوب توافرها في أي محاور كبر أو صغر قوي أو ضعف ؟
هذا الموضوع فيه تفصيل, لكن من صفات المحاور:
1- سلاسة العبارة وجودة الإلقاء وحسن العرض.
2- حسن التصور عند المحاور؛ فلا تكون الأفكار متضاربة أو مشوشة.
3- القدرة على ترتيب الأفكار وعدم التداخل.
4- العلم؛ فالبعض قد يخذل الحق في شخصه؛ لضعف علمه, وهذا يحدث كثيراً خاصة في وسائل الإعلام عندما يتحدث باسم الإسلام شخص ضعيف العلم والفهم.
5- الفهم مع العلم.
6- الإخلاص والتجرد في طلب الحق فلا يكون همه الانتصار وإنما طلب الحق كما مر معنا في الإمام الشافعي رحمه الله.
لكن هل توجز لنا آداب الحوار الصحيح عموماً.
من آداب الحوار الصحيح:
- حسن المقصد, وليس العلو في الأرض ولا الفساد.
- التواضع في القول والعمل, وتجنب ما يدل على العجب والغرور والكبرياء.
- حسن الاستماع والإصغاء.
- الإنصاف.
- البدء بمواضع الاتفاق والإجماع والمسلمات والبديهيات إذا ليس من المصلحة أن نهجم على مسائل مختلف فيها.
- ترك التعصب لغير الحق.
- احترام الطرف الآخر.
- الموضوعية - وهو رعاية الموضوع وعدم الخروج منه إلى بنيات الطريق ومن الموضوعية التوثيق العلمي أيضا .
- عدم الإلزام بما لا يلزم, أو المؤاخذة بالإلزام.
- الاعتدال في كل شيء؛ في الصوت وفي الجلسة, وفي الحركات وفي سياق الحجج وفي الوقت من أول المحاورة إلى آخرها.
هل هناك تعارض بين مفهوم الولاء والبراء في الإسلام وبين الحوار أو التعامل المصلحي.
هناك نقاط مهمة في هذا الجانب منها:
- لا تعارض مطلقاً بين الولاء والبراء وبين الحوار.
- أعظم سورة ذكرت الولاء والبراء هي سورة الممتحنة وهي مدنية.
(لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)
هذا من حيث الأصل إجماع.
لكن حتى الكفار المحاربون يقول فيهم :
(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الممتحنة:7)
فلا يعتقد أن أحداً لن يهتدي فالله قدير, وكثير ممن حاربوا صلى الله عليه وسلم في بدر وغيرها تحولوا إلى أنصار وأعوان وحملة لهذا الدين ودعوته.
وكما أسلفت فإن من تأمل تعامل صلى الله عليه وسلم مع صناديد قريش في مكة واليهود في المدينة؛ أدرك أن لا تعارض أبداً بين الحوار والمجادلة والتعامل المادي المصلحي من جهة وبين البراء مما عليه الكفار والمشركون من أنواع الضلالات والانحرافات والمخالفات .
- ومن العجيب أنه سألني بعض طلبة العلم :
وكانوا مسافرين إلى إفريقيا لذبح الأضاحي وقابلتهم في الطائرة - سألني : هل يجور أن أبتسم في وجه الكافر ؟!!
- هل يجوز أن أصافحه؟!!
- هل يجوز أن أجلس معه في مكان واحد ؟!!
قلت له: سبحان الله ... وهل في المسألة خلاف؟
إذاً: كيف كان صلى الله عليه وسلم يعامل قريشاً وأشياخ الوثنية بمكة؟ واليهود وأهل الشرك بالمدينة؟ وهل يمكن أن تقوم دعوة إلا على الخلق الحسن والتواصل مع الآخرين؟!
هل الحوار يعني الذوبان والتمهيد إلى التحول كلية عن الحق؟
يتصور البعض أن الحوار يعني ذوباناً أو تحولاً , والصحيح هو العكس تماماً فالحوار لغة الأقوياء وهو علامة قوة وثقة بالنفس بما لدى الإنسان من ثوابت ومسلمات, والحوار دلالة أكيدة على أن المحاور على بصيرة من أمره فهو :
1- من أقوى رسائل الدعوة والتبشير بهذا الدين.
2- الحوار يزيل الصورة الضبابية للأمور ويجليها ويحولها من الغموض والتعقيد إلى الوضوح والسهوله والفهم والدقة.
وفي معرض ذكر الاختلاف والتنوع بين الناس يقول تعالى : )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)
قال سبحانه " لتعارفوا " ولم يقل لتعاركوا؛ فالأصل التعارف في كل شيء اسماً وشخصاً وثقافة وتاريخاً وعملاً وموقفا وكتاباً ودراسات بحيث يكون الحديث عن وعي وبصيرة.
3- كثيراً ما يوقف الحوار أنواعاً من الصدامات التي لا حاجة لها ولا داعي إليها.
وإذا كان الجهاد فريضة قائمة إلى قيام الساعة وماضية أيضاً, وهذا معنى متواتر وهو مرتبط بخلود هذه الأمة, واستعدادها للصبر والمقاومة, وهو من المعاني التي تميز هذه الأمة, وربما لولا المقاومة فيفلسطين والعراق وغيرها لكان وضع الأمة أسوأ مما هي عليه .(62/241)
لكن الجهاد صورة واحدة فقط, وقد أجمع الفقهاء واتفقوا على الهدنة والصلح, واتفقوا قبل ذلك على دعوة الإمام لمن أراد أن يغزوهم فيجب عليه الدعوة للإسلام أولاً وَإذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكينَ فادْعُهُمْ إلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ «أَوْ خِلاَلٍ» فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجابُوكَ فَاقْبَلْ مِنهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ... » الأولى: الدعوة إلى الإسلام ، والثانية: الدعوة إلى أداء الجزية, والثالثة: فَاسْتَعِنْ بِالله وَقَاتِلْهُمْ .
والخطاب هنا ليس لآحاد البشر بل هو خاص بالجيش الغازي. أما أمور العلاقة الفردية بين المسلم وغير المسلم فهي أبعد من هذا, ولها أفاق ومجالات, وهذه معان محكمة لا جدل فيها ومع ذلك يكون فيها كثير من الضبابية وعدم الوضوح.
4- الحوار يوصل إلى المصالح المشتركة, فقد تجد قسمة مشتركة بينك وبين الآخر كالدين الجامع ومواطن الإجماع والاتفاق والمحكمات من الكتاب والسنة وأصول الإسلام والإيمان والأخلاق وغير ذلك. فهذه قسمة مشتركة بين المسلمين جميعاً يجب أن ينطلقوا منها ويصدروا عنها.
ومن القواسم المشتركة " المصلحة الجامعة)
وهي المصلحة العامة التي أجمع عليها العلماء, كما يقول ابن تيمية, والغزالي, والشافعي وغيرهم. وهي أن الدين جاء لتحصيل المصالح ودفع المفاسد .
وقد رهن النبي الله عليه وسلم درعه عند يهودي لطعام اشتراه والحديث في البخاري .. والبيع والشراء فيه مصلحة لليهودي ولم يغب ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
فالسعي يكون لما فيه مصلحة لك ولو تعلق بمصلحة للآخرين, فليس الرشاد هو السعي في حرمان الآخرين من مصالحهم, بل الحكمة أن نسعى في مصالحنا ولو ترتب عليها مصالح لغيرنا, والله أعلم.
=============(62/242)
(62/243)
الحوار...مأزق النظرية وإشكالية الممارسة
د. سلطان بن حسن الحازمي* 29/3/1423
10/06/2002
شاع استخدام كلمة (حوار) هذه الأيام في أدبيات الفكر، والسياسة، والاقتصاد، والإعلام، والحياة الاجتماعية وغيرها، فالحديث يدور حول "حوار الحضارات" و "الحوار العربي الأوروبي" و"الحوار الإسلامي المسيحي" و "حوار الشمال والجنوب" هذا على مستوى الدول والقارات والتكتلات الاقتصادية والسياسية، أما داخل العالم العربي والإسلامي فهناك "الحوار الإسلامي الإسلامي" و "الحوار الإسلامي العلماني" و "حوار الفرق والمذاهب" و "حوار التيارات الفكرية المختلفة". يدل - هذا- على أن الحوار روح العصر؛ إذ وسَّعت ثورةُ الاتصالات الحديثة- التي ألغت كثيرًا من الحواجز الجغرافية والسياسية- دوائر الحوار بصورة لم تعرفها الإنسانية من قبل، يشهد على ذلك العددُ الضخمُ من المؤتمرات، والندوات، والاجتماعات، والمنتديات التي تعقد على مدار الساعة واليوم في عالمنا، وتنوّع الموضوعات المطروحة.
إن ضرورة إجادة الحوار مع الذات أولاً، ثُمَّ إحسان الحوار مع الغير داخل الإطار العربي والإسلامي، مقدمةٌ لحوارٍ أكثرَ ندية وإيجابية مع الأديان والثقافات والأمم والحضارات الأخرى، ولتفاعلٍ أكثرَ تأثيرًا على الساحة الدولية.
إن عملية الحوار الموضوعي والجادّ تتميز بالمراجعة للمواقف المتخذة، إذ إن هذه المواقف لا تتخذ موقفًا سكونيًا قطعيًا غير قابل للتغيير والتبديل، بل موقفا حركيا قابلاً للتحول.
إننا إذا أردنا أن يكون حوارنا فاعلاً ومنفعلاً داخل الإطار الإسلامي بدءًا من المنزل ومرورًا بالمدرسة والشارع والجامعة ومحيط العمل وانتهاءً بالأمة، فلا بد من ممارسة حوار متناغم يَشِي بوجود مراجعة وتسامح وتفاعل إيجابي حتى يثمر نتائج محددة.
ممارسة الحوار الراقي أداة للوصول للأفكار الناضجة وقد قيل: "من المناقشة ينبثق النور" حيث يستفيد المحاور من مناقشة آرائه لإعادة صياغتها وبلورتها بشكل أفضل وأكثر ملاءمة لسياقها. لقد سمت المناظرات والمحاورات التي كانت تجُرى في كافة مجالات المعرفة الشرعية والإنسانية والطبيعية بالحضارة العربية والإسلامية في عصور ازدهارها، وجعلتها تتبوأ مراكز الصدارة والريادة على مستوى العالم , وأنتجت لنا تراثًا ضخمًا تمثل في المدارس الفقهية، والنحوية، والثقافية، وغيرها. هذا النتاج المتألق- من الأمثلة التي تتبادر للذهن في هذه اللحظة كتاب "الرسالة" للشافعي و "المقدمة" لابن خلدون- لم يكن ليرى النور بهذه الصورة المتوهجة لولا مروره بمراحل إنضاج من خلال محاورات ومناظرات ومناقشات طويلة، وليست جهدًا فرديًا كما يتبدى للبعض. لقد كان الباحث عن المعرفة في عصور النهضة الإسلامية ينتقل من حلقة إلى أخرى، ومن مجلس إلى مجلس يناقش ويحاور ويناظر ويعبر عن رأيه في جو متسامح دون خوف ودون أن يحجر أحد على رأي أو يمنع من قول، متمسكين بحدود حرية التفكير في الإسلام.
إن الحوار أداة لبناء التفكير السديد يجعل المعرفة استنتاجًا وممارسةً واختيارًا، ويجعل العلم نورًا في العقول لا متونًا في الصدور؛ ذلك أن العقل الإنساني كالجذوة بحاجة للإشعال كي يتوهج، وليس حاوية تقذف فيها المعلومات للحفظ!! لذا يجب على التربية الإسلامية اليوم وعلى كافة المستويات بناء التفكير على أساس التحصين والمنعة الذاتية في عصر يستحيل الانعزال والانغلاق فيه، وكذلك تجريد الفكر العربي والإسلامي مما علق به من تقاليد وأعراف محلية وإقليمية أبعدته عن فهم حقائق الدين والتأثير في دائرة الفعل الإنساني. إن تنشيط التفكير عبر الحوار يبني أجيالا قوية يصعب احتواؤها وتغيير قناعاتها في اتجاهات سلبية.
إننا بحاجة ماسة للتصالح والتحاور مع ذواتنا بالصدق، مع خالقنا أولاً ثم مع النفس والآخرين، فنحن نعيش حال تناقض بين سلوكياتنا، وأقوالنا، ومواقفنا، جعلتنا نتأزم مع ذواتنا، وجعلت الآخرين ينظرون إلينا بسخرية، ويرتابون نحو صدق ما نحمل من قيم نظرية عظيمة يغذيها الإسلام، لكنها لا تجد سندًا من ممارسة وحضور على مستوى الفعل والحدث الإنساني.
كيف نريد أن نؤثر في ذلك "الآخر" البعيد ونحن نمارس إلغاء الآخرين من ذوي القربى في الدين، والدم، واللسان، والوطن، وغيرها، ونفرض الوصاية على عقولهم وأفهامهم - محتكرين الصواب أو الحق - في مسائل الاجتهاد وصناعة الحياة رغم اعترافنا - نظريًا- أن طرائق وصولنا لهذا "الحق" متنوعة ومتعددة.(62/244)
إن التعصب وأحادية الرأي آفة خطيرة، جِدُّ خطيرة، تنبع أساسًا من تنزيه الذات، وتضخم الأنا والتقليد والترديد، مما أدى إلى شيوع الانغلاق، والجمود، والتقوقع، والتقليد للجديد أو للقديم. إن القمع، والتسلط، والإرهاب الفكري، والنظر للناس على أنهم جهلة أو ذوو نيات سيئة يسد باب الحوار، ويحول الناس إلى إمَّعات منقادة انقيادًا أعمى، عندها تغيب الموضوعية في التفكير ويصبح "الأشخاص" هم سبيل اقتناع الناس بالأفكار وليس أدلتها الشرعية أو العقلية. إن ممارسة فرض الرأي على الآخرين، والإلغاء والوصاية على الثقافة والفكر، والتحدث بلغة الأستاذ تحت أية حجة أمر غير مقبول ولا مشروع، بل يؤدي إلى جلد أدمغة المتلقين، ويسهم في تشنجهم وتزمتهم، مما يلجئ البعض إلى العنف كوسيلة للتعبير عن الذات واكتساب الحقوق.
من الآفات الخطيرة أيضًا كراهية ممارسة عملية الحوار، وهي مرتبطة بتنزيه وتضخيم الذات المذكورة آنفا، إما لضعف الحجة التي تؤدي إلى بروز الرأي الآخر، أو بدعوى الحرص على وحدة الصف والكلمة، أو بدعوى ذم الإسلام للجدل مع التغافل عن نصوص وشواهد من السنة ووقائع من التأريخ تبين أن الحوار والجدال بالتي هي أحسن هو الممدوح والمطلوب.
إن من أبرز سلبيات الخطاب العربي والإسلامي المعاصر هو شيوع التفكير والتحليل العاطفي والسلبي للأحداث، وغياب العقل والفكر الناقد الذي ينطمر تحت أوهام المتابعة أحيانا أو التأصيل والتجديد أحيانا أخرى.
إن استمرار سياسات الإلغاء للشعوب، وأجواء الريبة والتربص، وعدم الثقة بين الحاكم والمحكوم، والتمكين لفئات وأفكار على حساب أخرى داخل العالمين العربي والإسلامي، واستمرار التقاتل والتهارش والتراشق بين مختلف التيارات، وعدم التركيز على نقاط الالتقاء ودعمها وتقويتها؛ سيؤدي إلى تمادي الأعداء والمنافسين في غيَّهم، وسيساعد أمريكا وربيبتها (إسرائيل) في فرض رؤيتهم وسيطرتهم لعقود طويلة قادمة.
لنبدأ بالحوار مع الأجنة في بطون أمهاتهم بتوفير جو نفسي لهذا القادم إلى الحياة برعاية الأم جسديًا ونفسيًا، ومن ثم تعليم هذا الطفل أدب المحاورة بممارسة نماذج عملية لحوار راق بين الأب والأم، وإعطائه الفرصة داخل المنزل بالتعبير عن ذاته وفق قواعد أصيلة تنبع من قيم الإسلام العظيمة، ومن ثم إتاحة المجال في سياق التفاعلات الاجتماعية، يأتي بعد ذلك دور المدرسة والمعهد والجامعة وحركة الحياة؛ لرسم معالم شخصية مستقلة مبدعة بالتربية على الحوار والمناظرة والمناقشة والمثاقفة، للوصول إلى النتائج بعيدًا عن أجواء القمع والتسلط والدكتاتورية.
إن مما يقوي ويعزز النسيج الوطني في البلدان العربية والإسلامية هو فتح باب الحوار والاستماع لما لدى شعوبهم، وعدم الحكم على النيات، وإعطاء الفرصة لكافة شرائح هذه المجتمعات للمساهمة في دعم الجبهة الداخلية، فمباركة تلك الدعوة إلى المصالحة والحوار بين الحكام والشعوب بكافة تياراتها، حتى يتوجه الجميع نحو قضايا الأمة الكبرى المرتبطة بالتنمية والاستقلالية الاقتصادية والعسكرية، وطيَّبة تلك الدعوة إلى تصالح التيارات المختلفة داخل الوطن الواحد، وعبر العالم الإسلامي طولا وعرضا.
آن لنا أن نكفَّ عن اجترار خلافات الماضي، وأن نواجه الحاضر، ونخطط للمستقبل؛ لدعم مسيرة التنمية وصولاً إلى الأهداف الكبرى على مستوى الأفراد والأوطان والأمة.
إن الحوار الجاد والصادق سيكون أداة محورية في سبيل التغيير الإيجابي الذي ينشده الملايين في العالم الإسلامي، إذا نحن طبقنا أسسه والتزمنا آدابه، انطلاقًا من مبدأ التعاون للوصول إلى الأهداف المشتركة، في إطار الثوابت الكبرى للأمة؛ لكي نتغلب على مشكلاتنا، ونساهم في حل مشكلات عالمنا المعاصر، شريطة أن ننهض أولاً بمسؤولياتنا ثم ننطلق إلى آفاق الريادة العالمية.*محاضر في جامعة الملك خالد
===========(62/245)
(62/246)
الحرب غير المقدسة "الإرهاب باسم الإسلام"
عمان / إبراهيم غرايبة 6/5/1428
23/05/2007
الكتاب
…
الحرب غير المقدسة "الإرهاب باسم الإسلام"
المؤلف
…
جون اسبوزيتو
ترجمة
…
مصطفى عبد الرزاق
الناشر
…
دار الحوار للنشر والتوزيع، بيروت
الطبعة
…
الطبعة الأولى، 2006
يدرس هذا الكتاب لمؤلفه الباحث المشهور والمتخصص بالحركات الإسلامية السياق التاريخي للحركات الإسلامية التي اتخذت طابع العنف والمواجهة السياسية، وهو بالطبع يعبر عن وجهة نظر ومنهج استشراقي، وتنقصه على الرغم من المكانة العلمية الكبيرة للمؤلف المعلومات الدقيقة وتفسيرها الصحيح أيضاً، ولكنه يبقى نموذجاً للرؤية الغربية للحركات الإسلامية يصلح أن يُقدّم لقارئ (الإسلام اليوم)، لعل ذلك يعين في فهم أو معرفة التفكير الغربي الأكاديمي حول هذا الموضوع، وعدا هذه المقدمة فإن العرض التالي هو استيعاب قدر الإمكان للكتاب ومحاولة لعرضه في مقالة، وقد حذفت بعض الأجزاء التي تورد معلومات نمطية مكررة ومغلوطة عن الجماعات والدول الإسلامية.
أساس الجهاد:
يدعو الإسلام إلى العمل على الامتثال لأوامر الله، ويجب على المسلمين العمل والجهاد لتحقيق معتقداتهم وللوصول إلى حياة أفضل، والمساهمة في تحقيق إقامة مجتمع إسلامي عادل على مستوى العالم، وقد قدمت الحياة والخبرة الناجمة عن المجتمع الإسلامي الأول النموذج الذي يجب الاقتداء به لانتشار الإسلام والدفاع عنه من خلال الهجرة والجهاد.
فعندما عانى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته من الاضطهاد المتواصل في مكة فإنهم هاجروا إلى يثرب وبمجرد إعادة تجمعهم واستقرارهم بدأ الجهاد لنشر كلمة الله والدفاع عنها، يتزاوج هذا المثال من الهجرة والجهاد في مواجهة المحنة مع مفهوم الأمة، والذي يؤكد على أن تأييد الوحدة الإسلامية كان بمثابة المرشد للمسلمين والجماعات الإسلامية على مختلف العصور بما فيها القائمة اليوم.
وقد ولدت الهزيمة الكارثية للعرب في حرب 1967 نزعة عميقة نحو البحث عما حدث، كما شهدت السبعينيات أيضا تزايداً في قوة وبروز المعارضة الإسلامية الداخلية والحركات الإصلاحية، ففي مصر صعد الإخوان المسلمون من جديد، كما جاءت الثورة الإسلامية في إيران صرخة ملهمة للناشطين الإسلاميين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
وكان الغزو السوفييتي لأفغانستان بمثابة نقطة تحول رئيسة في مسار الحركات الإسلامية القتالية، مثل الجهاد والقاعدة وغيرهما.
وشهدت أفغانستان في عام 1996صعود جماعة طالبان التي تمكنت من توحيد نحو90%من البلاد، وفي الوقت نفسه تزايد نمو جماعة بن لادن وأتباعه، واستطاع اجتذاب شباب عرب ومسلمين معارضين من الذين فرضت عليهم ظروفهم الفرار من بلدانهم الأصلية، ومن بين هؤلاء الكثير من الراديكاليين المصريين البارزين مثل أيمن الظواهري،و رفاعي طه زعيم الجماعة الإسلامية المصرية المحظورة.
الجهاد من أجل الإسلام:
يعتقد الكثير من المسلمين أن ظروف عالمهم تتطلب الجهاد، وحتى يمكننا فهم الطرق المختلفة لتفسير الجهاد عبر التاريخ الإسلامي والتمييز بين المنظمات المتطرفة من جانب والأغلبية المسلمة من جانب آخر، فالإسلام يقدم رسالة كونية، فالنص يمكن أن يقدم نفسه لكل العصور وكل الأماكن، ويمكن للمؤمنين في كل عصر وموقف أن يجدوا فيه التعاليم والمبادئ والقيم التي تقدم لهم المعنى والتوجيه.
وقد حثت الدعوة الإسلامية الناس على الكفاح والجهاد من أجل إصلاح مجتمعاتهم والعيش في حياة تقوم على العقيدة الدينية لا الانتماءات القبلية، وبمرور العصور فإن القانون الإسلامي والمشرعين أصبحوا السلطات الرئيسة بشأن معاني الجهاد، متى يتم إعلانه ومتى يتم تقييده.
وشهد عالم الإسلام المبكر مثل الكثير من المجتمعات الإسلامية اليوم، الإرهاب الديني من قبل الحركات المتطرفة، ويقدم الخوارج والحشاشون أمثلة تاريخية حول الطريقة التي تحول بها المعارضون إلى الحرب غير المقدسة باسم الإسلام .
الاستعمار والحروب الصليبية
كان للحروب الصليبية والاستعمار الأوروبي تأثير شامل وطويل الأمد على الخيال الإسلامي، وقد مثلت الحروب الصليبية والتي جاءت "لتحرير" القدس بالنسبة للكثيرين في الغرب لحظة من التوهج الديني دفاعاً عن المسيحية، وفي الحقيقة فإن البابا في أوربا دعا إلى الحروب الصليبية لأسباب سياسية أكثر من زعمه كونها لأسباب دينية، وكان استخدام الرئيس جورج بوش لكلمة الحرب الصليبية في خطاب له حول الإرهاب تعبيراً عن الذكريات التاريخية للمسلمين والغربيين.
ثمة أربعة ردود أفعال من قبل المسلمين تجاه الاستعمار تشكل أساساً لتفسير ما نشهده اليوم على ساحة العالم الإسلامي: المقاومة والحرب، الانسحاب وعدم التعاون، العلمنة والتغريب، والتحديث الإسلامي.(62/247)
وبالنسبة لمن اعتمدوا خيار المقاومة فقد ذهبوا إلى التفكير بأنهم بذلك يتبعون سنة النبي: الهجرة خارج الأرض التي لم تعد تحت الحكم الإسلامي والجهاد، والقتال من أجل الدفاع عن الإيمان وأراضي الإسلام، ومع ذلك فإن خيار الهجرة بالنسبة لأعداد كبيرة من الناس كان غير عملي، وإعلان الحرب المقدسة على القوة العسكرية الأوروبية المهيمنة محكوم عليه بالهزيمة، وبالنسبة للعديد من الزعماء الدينيين فإن الخيار العملي كان يتمثل ببساطة في رفض التعامل مع ممثلي الاستعمار الجديد، وتجنب شركاتهم ومدارسهم ومؤسساتهم.
وأصبحت الحركات الإسلامية الحديثة القوة الدافعة وراء الإحياء الإسلامي، و المسلمون لهم تراث طويل من التقاليد التي تدعوهم إلى إصلاح مجتمعاتهم في كل عصر، وعلى أساس رؤية القوة الإسلامية المبكرة ونجاحها ثم تدهورها لعدة قرون، فإنه ليس من المدهش أن نرى انتشار الحركات الإسلامية في القرن الحادي والعشرين التي تناضل لإقامة عالم أفضل.
وقد ظل التغيير الثوري غير العنيف من القاعدة الشعبية، والثورة العنيفة للإطاحة بالحكومات القائمة غير الإسلامية هما الطريقتان الملازمتان للحركات الإسلامية المعاصرة، فانتشرت الحركتان الإسلاميتان الرائدتان، الأخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في الوطن العربي وشبه القارة الهندية، وغلب على هذه الحركات والجماعات العمل السياسي والدعوي السلمي، فيما اتجهت أقلية راديكالية نحو العنف.
وتعتبر مصر أفضل مثال لتوضيح كيف نشأت الجماعات السلمية والعنيفة معاً؛ فالمجتمع المصري قدم قائمة طويلة من المصلحين والمتطرفين، من رشيد رضا وحسن البنا إلى سيد قطب إلى عبد السلام فرج وأيمن الظواهري.
وفي الحقيقة فإن صعود الحركات الإسلامية الرئيسة كان معظمه استجابة للإخفاق والأزمات في مجتمعاتها ولشغل الفراغ القائم في القيادة الفاعلة، وأكثر مكان تبدو فيه هذه الفكرة واضحة هو فلسطين، فقد أدى وجود الاحتلال إلى نشوء جماعتين إسلاميتين مسلحتين (حماس والجهاد) كرد فعل على إخفاق القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية (فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية) وأثبتت حماس بأنها تمثل أكثرية فاعلة في المجتمع.
وتُعدّ حماس فرعاً من الإخوان المسلمين في فلسطين، وقد نشأت في عام 1987خلال الانتفاضة الفلسطينية ضد الاحتلال والحكم الإسرائيليين في غزة والضفة، وانخرطت في عملية الدعوة و"العمل من أجل وضع أفضل للفلسطينيين ، والجهاد والدعوة إلى القتال ضد الاضطهاد والاحتلال الصهيوني " ، ويعتبر الشيخ أحمد ياسين مؤسس حماس وهو زعيم جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين مؤسس الحركة.
ويغلب على أعضاء الإخوان وحماس أنهم مهنيون وتكنوقراط يحترفون مهن الطب والهندسة والعلوم أو تجارة الأعمال، ويتم تجنيد الأعضاء من خلال شبكة المساجد والمدارس والمؤسسات الخيرية داخل هذه الحركة الدينية الاجتماعية السياسية ، وأدى الربط بين الأنشطة السياسية والاجتماعية مع أعمال المقاومة العسكرية إلى كسب الدعم المالي والأخلاقي من قبل الكثير من الفلسطينيين والمسلمين في العالم العربي والإسلامي.
ومهما كانت إنجازات حماس كحركة اجتماعية وسياسية، فإن أنشطتها التي تتسم بالعنف هي المعروفة في الغرب، فأعضاء حماس يشاركون في المواجهات اليومية مع القوات الإسرائيلية خلال الانتفاضة، من خلال حرب عصابات مخططة ضد القوات الإسرائيلية والشرطة الإسرائيلية، لكن تاريخ حماس يبين أنها ليست كغيرها من المنظمات الإسلامية الأخرى بقدرتها على الموازنة بين الجانب الإيديولوجي والأنشطة العملية التي تمثل استجابة للحقائق السياسية والاجتماعية.
وكذلك إذا نظرنا إلى الجزائر، فإن الخوف يسيطر على الكثيرين في الغرب منذ الثمانينيات من أن الإسلام يمكن أن يصل إلى السلطة عبر الثورات أو عبر الإطاحة بالحكومات من خلال المجموعات السرية، فقد شهدت الجزائر نجاح الإسلاميين عبر صناديق الاقتراع، وهذا النجاح - الذي تمت سرقته - وتُعدّ الجبهة الإسلامية للإنقاذ أول حزب إسلامي يحظى بالشرعية عندما أخفق النهج الاشتراكي في الجزائر في حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية.
وحققت جبهة الإنقاذ الإسلامية نصراً مذهلاً في الانتخابات البلدية في عام 1990؛ فقد حازت على 54% من أصوات الناخبين، ولكن تدخل الجيش الجزائري أجبر الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة، وألقى القبض على قادة الإنقاذ، وسجن أكثر من عشرة آلاف في معتقلات الصحراء، وحظر الإنقاذ، وتمت مصادرة أصولها المالية.(62/248)
وقد أدى إلغاء نتائج الانتخابات واضطهاد العناصر الراديكالية إلى اشتداد عود المقاتلين، وعزز جهادهم المسلح، وتوصلوا إلى أن المشاركة في الانتخابات إستراتيجية غير مجدية، وحتى لو فازوا فإن الدول المتسلطة سوف تمنعهم من الوصول إلى السلطة، وبقيت الظروف التي تعزز المصالحة الوطنية والاستقرار هشة، ويمثل أداء الحركات الإسلامية الانتخابي تحدياً للمقولة التقليدية التي تقرر أن الإسلاميين لا يمكن أن ينجحوا عبر صندوق الانتخابات، ومما يدعو للسخرية أن نجاح الحركات الإسلامية في إطار العملية الديمقراطية تم النظر إليه على أنه حدث بالغ الخطورة ويشكل تهديداً يجاوز ذلك الذي تمثله الثورة المسلحة.
وقد ظل الإسلام عنصراً أساسياً وجوهرياً في هوية الفرد وجزءاً هاماً من الحياة الدينية والثقافية، على الرغم من السيطرة السوفييتية والسياسات المناهضة للإسلام في وسط آسيا، وفي أعقاب تفكك الاتحاد السوفييتي أصبح الإسلام متمماً لعملية بناء الأمة فيما بعد استقلال جمهوريات آسيا الوسطى، ومساهماً في نمو الهويات الوطنية الجديدة ونظم القيم، ومرشداً للحياة الاجتماعية والسياسية والعلاقات الجيدة مع العالم الإسلامي، وبمجرد ظهور الإسلام كقوة سياسية محتملة فإن دولا مثل أوزبكستان وطاجيكستان انتقلت من التعاون إلى القمع، مما أدى إلى حرب أهلية مدمرة في طاجيكستان، وقمع ونزاع مسلح في أوزبكستان، وتعد حركة أوزبكستان الإسلامية المجموعة المسلحة التي يخشى منها بشكل أكبر من أي مجموعة أخرى، وقد أعلنت الولايات المتحدة في أواخر سبتمبر 2001 أن هذه المجموعة تعد منظمة إرهابية وجزءاً من القاعدة.
صدام الحضارات:
استخدم صدام الحضارات للإشارة إلى الحلفاء أو الأعداء في العالم الإسلامي، وقد راح البعض رداً على هجمات 11سبتمبر يؤكد على أن صدام الحضارات إنما يتمحور حول النزاع مع أسلوب الحياة الغربية الحديث، مثل الديموقراطية، وحقوق المرأة، والرأسمالية، وفي الواقع فإن الرأسمالية ممثلة في العالم الإسلامي في كل من صيغ التنمية الوطنية، وكذلك في النسخ المستلهمة من الغرب.
ومع ذلك يوجد أصوات متنوعة متعلقة بالإصلاح الإسلامي والحوار الحضاري يمكن أن يتم سماعها من الشرق الأوسط إلى آسيا، فقد نظر أنور إبراهيم نائب رئيس الوزراء الماليزي السابق، إلى أن جذور التعايش قائمة سواء في التاريخ الإسلامي أو القرآن، ويُعدّ التعايش المشترك الصيغة الإسلامية للتعددية، وهوما تم التعبير عنه في القرآن بوضوح، فالبشر خلقوا شعوباً وقبائل لكي يتعارفوا.
وأما محمد خاتمي فيعد حوار الحضارات بديلاً لكل من الخطاب الجهادي المتشدد القديم، والتسمم بأفكار الغرب، وأكد خاتمي على العكس من الموقف المتشدد لخامنئي أن الإصلاح الإسلامي مفتوح على التفاعل الإيجابي مع الحضارة الغربية، وضرورة بناء جسر بين التراث والحداثة، وتُعدّ رؤية خاتمي للتاريخ وتطور الحضارات إيجابية ، فالحضارات تتغير باطراد وتتطور، والحضارة الغربية هي الأخيرة، ولكن ليست هي الحضارة الإنسانية المطلقة، فهي مثل كل أثر إنساني مؤقتة وقابلة للتأثر.. إن الحضارات تتغير ولا يوجد في هذا الخصوص حضارة مطلقة أبدية.
أما عبد الرحمن واحد زعيم نهضة العلماء أكبر منظمة إسلامية وتضم (35) مليون عضو في إندونيسيا فهو يعترف بالحاجة إلى إقامة وحدة وطنية في مواجهة الطائفية، وإقامة حكم القانون، وتطوير أطر اقتصادية قابلة للحياة، من أجل التوزيع المتساوي للثروة، وقد وضع أيضاً إصبعه على سبب رئيسي للعنف والإرهاب في الأقطار المسلمة، فمعظم الحكومات في العالم الإسلامي تعتمد على هندسة الأوضاع الاجتماعية السياسية، والتسلط والاضطهاد السياسي، ويرى أن الفشل في إقامة علاقة العقيدة مع الهوية الوطنية والبناء المؤسسي ساهم في عدم الاستقرار والأخطار؛ إذ إن الحكومات التي تعتمد على السيطرة الاجتماعية أكثر من الشورى، تلك التي تستخدم العنف والقمع، توفر مناخاً يساهم في إيجاد الراديكالية والعنف ضد الدولة، وهنا فإن الحركات تواجه بخيارين: "إما خيار اتباع نهج راديكالي أو رد فعل تدريجي في كفاحها من أجل العدالة الاجتماعية والمعاملة المتساوية أمام القانون وحرية التعبير".
وأخيراً، وفي إطار المجتمع الذي تتزايد عولمته، فإن تحديد الإسلام والعالم الإسلامي على أنه كيان شمولي يصبح أمراً أكثر صعوبة؛ إذ إن الحدود الفاصلة بين الإسلام والغرب تتلاشى، ذلك أن التداخل العميق في العلاقات ليس قائماً فقط بين الأقطار، والمجتمعات، والمؤسسات المسلمة والتجمعات غير المسلمة، ولكن الأكثر أهمية أن الإسلام ذاته حاضر في أمريكا وأوروبا حيث أصبح المسلمون جزءاً من نسيج المجتمعات الغربية كمواطنين ومهنيين وجيران؛ فالكثير من المسلمين من أبناء الجيل الثالث والرابع من المواطنين في المجتمعات الغربية ليسوا أكثر أو أقل أمركة أو أوربة من اليهود والمسيحيين والهندوس.
============(62/249)
(62/250)
كراهية الغرب للمسلمين .. متى تنتهي ؟
الإسلام اليوم - القاهرة 11/4/1423
22/06/2002
قضية العلاقة بين الإسلام والغرب .. شائكة وحساسة ومليئة بالمرارات والعداوات ..
فما هي المحطات التي أدت إلى هذه الحال المعقدة من الكراهية ؟!
وهل يمكن التغلب على هذه الحال وإقامة علاقات أكثر رشدا وأكثر عدالة ؟
" محطات الكراهية "
في البداية نقف مع المحطات الرئيسة للاحتكاك بين الإسلام والغرب، والتي أدت إلى هذه الكراهية مع الدكتورة نادية مصطفى أستاذ العلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة التي تقول إن المحطة الأولى كانت بعد ظهور الإسلام مباشرة وانتشاره في شبه الجزيرة العربية وكانت قسمين .. القسم الشرقي البيزنطي وكان موجودا في الشام ومصر وأماكن شرقية أخرى وكان الأقوى .. وقسم غربي في أوروبا بين الفرنسيين والألمان نتج عنه ممالك جزئية صغيرة .
وهكذا فقد احتك الإسلام بالجزء الأقوى من الدولة الرومانية المسيحية الأوروبية وهو الجزء البيزنطي الشرقي وأجلاه عن الشام ومصر بعد معارك طاحنة وطويلة وممتدة .
والمحطة الثانية كانت في وصول الإسلام إلى الأندلس جنوبي أوروبا في عهد الخلافة الأموية .. واستقر الإسلام في هذه المنطقة الأوروبية لحوالي ست مئة عام، وكان يمكن أن يتوغل في فرنسا وألمانيا .
هذا الوجود والانتصار الإسلامي ثم المعارك التي خاضها الأوروبيون ضده .. وإبادة المسلمين الذين بقوا بعد زوال دولتهم .. أوجد كراهية للإسلام والمسلمين .
أما المحطة الثالثة فجاءت في الحروب الصليبية الحاقدة التي رفعت الصليب واستمرت لأكثر من مئتي عام، واحتلت بيت المقدس وكثيرًا من البلاد العربية، ولقيت هزيمة كبيرة وارتكب فيها الصليبيون مجازر مروعة ضد المسلمين .
والمحطة الرابعة كانت في فتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية المسيحية وما أعقب ذلك من قيام الدولة العثمانية التي وصلت إلى غرب ووسط أوروبا وحتى حدود النمسا الحالية لدرجة أن الوجود الإسلامي في وسط أوروبا مثل ألبانيا وكوسوفا ومقدونيا والبوسنة هو بفضل الوجود العثماني ، ووقفت الدولة العثمانية طيلة خمس مئة عام في وجه الأطماع الأوروبية ومنتصرة عليها ..
أما المحطة الخامسة فكانت في حركة الاستعمار الأوروبي للعالم العربي والإسلامي التي جاءت في أعقاب عصر النهضة والكشوف الجغرافية .. ونتج عن ذلك إحاطة الاستعمار الأوروبي المسيحي بالعالم الإسلامي واستيلائه على هذه البلاد واستعماره لها ونهبه لثرواتها .
وكانت المحطة السادسة في حركات التحرر التي قامت في العالم العربي والإسلامي للتخلص من الاستعمار وما نتج عن ذلك من صراع دموي راح فيه الملايين من المسلمين كما حدث في الجزائر .
وكانت المحطة السابعة في إنشاء الغرب الأوروبي والأمريكي لإسرائيل كرأس حربة في قلب العالم العربي والإسلامي .. وكيان صهيوني يحافظ على المصالح الغربية الاستعمارية ويقف ضد وحدة العالم العربي والإسلامي .
أما المحطة الثامنة والأخيرة فهي معركة مكافحة ما يسمى بالإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية ومعها أوروبا ضد العالم العربي والإسلامي في أعقاب تفجيرات سبتمبر الماضي .. واستهداف أمريكا لكل حركات المقاومة في العالم الإسلامي .
هذه المحطات هي محطات صراع متواصلة ساعدت على تضخم حالة الكراهية المتبادلة بين الطرفين .
" صورة ذهنية مشوهة "
أما د. صلاح عبد المتعال الخبير بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية فيقول: إن نوعية الحياة في الغرب ارتبطت أساليبها بوحشية النظام الإنتاجي الرأسمالي ، وضرورة ضمان أسواق له في شتى بقاع العالم ، وابتداع نظام الشركات متعددة الجنسية وحمايتها بكل السبل ، إلى درجة تبرير التدخل العسكري السافر .. وأخيرا قهر الدول للانضمام إلى اتفاقية (الجات) التي ستؤول فوائدها بشكل جوهري إلى الدول الأكثر تقدما على حساب الأخرى المتخلفة والأقل نموا .
أهم من ذلك أن الغرب يتصور واهما أن حضارته ومدنيته أسبق وأفضل الحضارات والمدنيات .. ولها الحق في قيادة غيرها من سائر البشر .. يساعدهم على ذلك تمكنهم بسيطرة القوة والإرهاب بالتهديد والوعيد لمن لا يكون معهم أو في صفهم كما مؤخرا في تداعيات 11 سبتمبر 2001 والأزمة الأفغانية .. والصمت القاتل عن جرائم الحرب الإسرائيلية في فلسطين .
وهكذا فإن الشقة بين الحضارتين الغربية والإسلامية بعيدة ، وأسباب ابتعادها تكمن في تضارب المصالح أولا ، وفي الصورة الذهنية المشوهة عن الإسلام بفعل كثير من المفكرين والمستشرقين ، وخيرات الشعور بالعداوة التاريخية الصليبية ، وسلوكيات مخالفة للإسلام وروحه بين المجتمعات الإسلامية ودولها وحكامها .(62/251)
وبالتالي تأتي أهمية تصحيح الصورة الذهنية لدى الغرب عن الإسلام .. ولكن يسبق ذلك ضرورة تصحيح المفاهيم الأساسية في العالم العربي والإسلامي ، وتنقية التراث من شوائب البدع والغلو .. والاتجاه نحو الوسطية والاعتدال .. والسير قدما نحو تحقيق دعائم الاستخلاف وتنمية المجتمعات العربية والإسلامية والأخذ بأسباب القوة بالتقدم المعرفي والعلمي والتقني ، وتطوير المنظومة التربوية والتعليمية يف إطارها الإيماني .
وخلاصة القول أن الإسلام بقيمه الإنسانية في العدل والحرية والمساواة يجب أن ينعكس في ضروب السلوك الاجتماعي والسياسي لدى الشعوب والحكام .
وهذا هو السبيل الموضوعي لقناعة الآخر بإنسانية وعالمية الإسلام وجدوى حضارته .. وحتى يتحقق ذلك فلا يخلو الأمر من أهمية الدراسة والبحث والتخطيط المحكم لتنشيط حركة السياسية والاجتماعية والشعبية ومنظمات المجتمع المدني على المستويات الإقليمية والدولية .. وتوثيق الروابط والخبرات بين الشخصيات والمنظمات الثقافية والجامعية في الغرب والشرق ، وهذا كله وغيره لا يغنى عن جهود مستمرة لتطوير السياسة الإعلامية الفضائية ، ووضع منهجية ملائمة للخطاب الإسلامي الموجه للشعوب الغربية والآسيوية والأفريقية وغيرها .
"حلم بعيد المنال "
بينما يرى الدكتور محمد أحمد الصادق (أستاذ العلوم السياسية بجامعة عين شمس) أن الحديث عن خطة طموحة لترشيد العلاقات الإسلامية الغربية وتحسينها هو أمر صعب التحقيق في الواقع ؛ لأننا إذا كنا نتحدث عن حوار الحضارات والتعاون والتفاعل بدلا من الصراع والإلحاق والتبعية .. فمن سيسمح لنا بذلك ؟
إن الغرب الآن تستولي عليه تماما فكرة صراع الحضارات وإذلال الآخر، وضرورة إلحاقه بالركب الغربي وإعادة صياغته لتلائم النموذج الغربي .. وبالتالي فإننا يجب أن نسأل أنفسنا عدة أسئلة في هذا السياق ..
السؤال الأول: هل الغرب سيتقبل الحديث عن علاقة متوازنة ومحترمة ؟
السؤال الثاني: هل نحن في موقع يسمح لنا بطرح الموضوع أساسا ؟
السؤال الثالث: أيُّ القوى في بلادنا ستقوم بالحديث عن هذا الموضوع مع الغرب والتفاوض بشأنه ؟
والإجابة عن السؤال الأول تقول إن الغرب القوى لن يتقبل من الحديث عن هذا الموضوع .. لأن له مصالح في بلادنا .. والموضوع تحكمه موازين القوى وهي في صالحه .. ولذلك فسوف يستمر في استخدام قوته واستغلال ضعفنا لفرض ما يريده بالقوة والقهر .. وتحكمه في ذلك مواريث العداوة التاريخية .
أما السؤال الثاني فهو محور القضية .. فنحن في موقع الضعيف المتهالك الذي لا يستطيع أن يجبر خصمه على احترامه والخوف منه والجلوس معه على مائدة المفاوضات . إننا من الضعف بمكان لدرجة أننا نقف في الخندق الأخير للدفاع عن هويتنا .
إننا لا يمكن أن نطرح هذا السؤال الثاني إلا إذا كانت ذاتنا حقيقية ولها وجود حقيقي وحضور .
أما السؤال الثالث والمتعلق بمن سيتحدث باسمنا ويفاوض الغرب .. والإجابة معروفة فالقوى الوطنية والإسلامية مقهورة في عالمنا العربي والإسلامي .. بينما العلمانية المنهزمة أمام الغرب والعميلة له هي المسيطرة وسوف تتعاون مع الغرب ضد الإسلام .
" إرهاب صليبي فاق كل الحدود "
ويزيد الأمر تعقيدا أن المحطة الأخيرة في الاحتكاك والعداء بين الغرب والإسلام وهي ما يسمى بمكافحة الإرهاب .. قد فاقت كل المحطات واستوعبتها .. ففيها من مذابح الصليبين في القدس كما نرى في الدعم اللا متناهي لليهود في فلسطين لتنفيذ مذابح مخيم جنين وغيره .. وفيها من الاستعمار الاستيطاني في القرن الثامن عشر ومن الكراهية والحقد ضد الإسلام في العصور الوسطى وعصر النهضة .. وفيها من الإمبريالية في بداية القرن العشرين، ويزيد من خطورة الهجمة الحالية أن الهجمات السابقة كانت هناك مقاومة لها متعددة الأشكال والدرجات، وكنا نكسب الكثير منها أو كسبنا معظمها .. أما الآن فلا توجد مقاومة .. وإذا وجدت ففينا من يسعى لوأدها .. وانتشر بل مفهوم التطبيع في مواجهة المقاومة .
============(62/252)
(62/253)
المطلوب تحرك جميع المؤسسات الإسلامية لتصحيح الصورة في الخارج
الاسلام اليوم - القاهرة 23/2/1423
06/05/2002
كشف المفكر الإسلامي الدكتور "أحمد كمال أبو المجد" أن المسلمين أصبحوا مطالبين حاليًا بوقف أسراب النعوش التي تخرج يوميًا من الأراضي الفلسطينية المحتلة ، والعمل على تصحيح الصورة العربية والإسلامية المغلوطة في الغرب.
وقال في حديثه لـ " الإسلام اليوم " : إن العرب والمسلمين حاليًا أصبحوا في حالة حرب ضد "شارون" مما يتطلب منعه من ممارسة جرائمه ، خاصة وأنه مجرم حرب مطلوب محاكمته دوليًا .
وشدد على ضرورة أن يدرك الخطاب الإسلامي فقه الأولويات والمقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية ، وطبيعة العلاقة مع الآخر والتأكيد على إعمال المنهج العلمي في التفكير بحيث يترافق ذلك مع الكتاب والسنة النبوية الشريفة .
وتناول د."كمال أبو المجد" وزير الإعلام المصري الأسبق في حواره قضايا إسلامية أخرى ارتبطت بدعاية اليهودية ضد الأمة الإسلامية ، وفقه الأولويات ، ومستقبل الأمة في ظل التحديات الراهنة ، وعقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما ترتب عليها من تداعيات وذلك على النحو التالي :
تحديات في مواجهة الأمة
سؤال:ماذا يعني اختياركم للمنصب الجديد في جامعة الدول العربية كمفوض عام لشؤون حوار الحضارات ؟
جوابأنا أعمل في هذا المجال منذ أربعين عاما ، وليس هذا بجديد عليَّ ، ولكنه سيكون جهدًا تنسيقيًا مع: ما يقوم به الأمين العام للجامعة "عمرو موسى" ، ولذلك سأحاول القيام بهذا الدور بأمانة حتى يمكن مواجهة ما يحاك ضدنا هنا وهناك .
وأؤكد أننا أمة نمر بلحظة تاريخية مريرة يجب أن تتوقف معها المهرجانات والاحتفالات؛ لأننا نشهد حالة حرب ضد العرب والمسلمين ، وهو ما يستدعي أداء الأعمال والمهام المطلوبة بكفاءة تامة ، وأن ينسحب من لا يعمل ليفسح المجال لمن يعمل بنقاء حتى نستطيع مواجهة هذه اللحظة المحزنة التي يمر بها العرب والمسلمون ، ونوقف أسراب النعوش التي تخرج يوميًا من بيوت الفلسطينيين في الأرض المحتلة من دون أن يتحرك أحد ويمنع "شارون" مجرم الحرب المطلوب محاكمته دوليا من الاستمرار في مخططه ضد أبناء فلسطين .
فاستمرار هذا الوضع سيؤدي إلى اختفاء المعتدلين من الأمة بسبب المذابح اليومية المستفزة التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي والإجراءات التي يتم ترتيبها يوميًا على الأرض الفلسطينية وضد أبنائها .
سؤال:وما هو المطلوب من الأمة أَنْ تفعله عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر الماضي واستغلال أجهزة الإعلام الغربية لهذا الحادث لتشويه صورة العرب والمسلمين ؟
جواب:لا شك أنه بعد وقوع تلك الأحداث ظهرت قوى تسعى إلى بسط الهيمنة الثقافية في العالم كله ، والتدخل في ثقافة الآخرين إلا أن الأمة الإسلامية وما لديها من عزة واستعلاء يجعلها تنظر في ذلك التحدي بالرغم من غضبتها عقب ما أصابها من تشويه هي والعرب عقب عاصفة سبتمبر .
وأنا أدرك أنه من الضروري أن يفوّت العربُ والمسلمون الفرصة على راغبي الاصطياد في الماء العكر ، فالمسلمون أذكى وأحصف من أن يدبر لهم بليل ، وهو أمر يضع على علماء الإسلام والمفتين في العالم الإسلامي دورًا كبيرًا في تصحيح الصورة التي علقت بأذهان هؤلاء عن الإسلام والمسلمين خصوصا والعرب عمومًا ، وأن يتصدوا للأفكار الهدامة ، وإبراز الصورة الصحيحة للدين الإسلامي .
ومن الضروري على المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي وخاصة الأزهر الشريف أن يقوم بدور في تصحيح الدعوات المغلوطة ذات التأثير السلبي الذي يمارسه أنصاف المتعلمين أو الجهلاء .
دعاية غربية
سؤال:ألا تخشى على الأمة الإسلامية أن يتم عزلها عن العالم في ظل الدعاية الغربية التي تتعرض لها من جانب أجهزة الإعلام التي تسيطر عليها الجماعات اليهودية في الغرب ؟
جواب:أؤكد أن العزلة غير جائزة إسلاميا أو واقعيًا ، وعلى الخطاب الإسلامي المعاصر أن يدرك فهم فقه الأولويات والمقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية ، وأيضا فهم طبيعة العلاقة مع الآخر ، وأن الإسلام ليس في قتال مع الدنيا كلها .
وأحذر من خطورة الانغلاق أو عدم الانفتاح على الآخرين والغفلة عن الواقع ، لأن لذلك ستكون آثاره سلبية، ولم يكن ذلك من طبيعة الرسول صلى الله عليه وسلم- ولا في سير أصحابه أو التابعين من بعدهم .
فقه الأولويات
سؤال:وكيف يمكن للخطاب الديني المعاصر فهم "فقه الأولويات" والتعامل في ضوء الرغبة الجادة من الأمة الإسلامية في الحوار مع الآخر ؟
جواب:لابد من إعادة ترتيب الأولويات عند عرض الإسلام والدعوة إليه، وهذا لا شك في أنه مجال في تكامل بناء الإسلام ، فالعقيدة أساس الإسلام ، والأخلاق ضمانه ، والشريعة ترجمته العملية ، والواجبات فيه كلها مطلوبة ، والمحرمات كلها واجب تركها .
ولكن دعوة الناس وكسب ولائهم والتوصل لإقناعهم يقتضيان التدرج وما يمكن أن يتراخى طلبه والتشدد في أمره ، وكثير من الناس يقفزون قفزًا من كتب الفقه إلى منابر الدعوة من دون أن يتوقفوا ليعرفوا واقع الناس وما هم فيه .(62/254)
إن الأمر ليس فتوى أو تشريعًا إنما هو ترتيب في البيان وتدرج في معاملة النفوس طلبا لهدايتهم ، فالدعاة إلى الإسلام يقعون في خطأ فادح إذا هم خرجوا على الناس في جميع المجتمعات بقائمة موحدة من الأوامر والنواهي ، ومطالب الإصلاح والتغيير، متجاهلين خصائص تلك المجتمعات ومشاكلها التي تتفاوت في أهميتها وإلحاحها من زمن إلى زمن ومن بلد إلى بلد .
إن الخلل في ترتيب الأولويات يزداد خطورة إذْْ يتحول الدعاة إلى أولى أمر وحكام ، وحين يشرع باسم الإسلام في أخذ الناس به وإقامة أحكامه بينهم فهم ليسوا ملزمين باسم الإسلام وشموله بتطبيق أحكامه في شؤون الناس جملة واحدة ، فهو التزام بما لا يلزم وتوريط لاسم الإسلام ودعوته بما لا ضرورة له .
وعلى أولئك الذين لا يفهمون فقه الأولويات أن يبدؤوا بكبريات الأمور وأساسيات الحكم العادل وتوفير قدر من الحرية والكرامة والعدل بين الناس وإعلان عزمهم على تنفيذ برنامج مرحلة إصلاحي تتعاقب مراحله في أناة وروية ليتعرفوا على أحكام الإسلام مرحلة بعد مرحلة وحكمًا بعد حكم حتى يقبلوا على دخول الإسلام لا الرهبة منه ، فالدعوة إلى الإسلام ينبغي أن تكون بالترغيب وليس بالترهيب .
مستقبل الأمة
سؤال:وفي ظل هذه الأوضاع الحالكة التي تواجه العرب والمسلمين .. كيف تنظرون إلى مستقبل الأمة العربية والإسلامية ؟
جواب:لا يمكن أن نستشرف المستقبل إذا لم نبذل للحاضر ، فنحن على مفترق طرق إما أن نستمر فيما نحن عليه من الكلام الكثير والعمل القليل والتشرذم الذي يزداد يومًا بعد يوم ، وإما أن تكون السلبيات التي أكثرنا الحديث عنها موقظة للهمم فاتحة للأعين جامعة للشمل محركة للأمة .
إن الوقت الذي نعيش فيه هو وقت للتوقف والحيرة ، وإن كان يحمل بذور التوجه إلى المستقبل وهذه البذور هي التي نريد أن ننميها ، وهناك بشائر وعي بضرورة قيام نهضة إسلامية ، وهو الجزء المشرق في الصورة ، فليست الصورة قاتمة ولكن بشائر الوعي والرشد وبدايات الحركة تبدو في الأفق علينا أن ننميها ونحميها ونحركها وننطلق من خلالها .
والحل - كما أراه - في العقول وسأظل أردد ذلك إلى ما لا نهاية ، فتحريك العقول وتنوير الصدور وإصلاح النفوس وإزالة الامتعاض والانكماش من نفوس الشباب هو المنطلق، ويوم أن يحدث هذا فسيرى الناس عجبًا ، وسيكون لنا في الخريطة العامة موقع من مواقع الريادة .
وأرى أنه من الضروري تحديد الحركة الواجبة الاتباع في الحاضر لتوجه التحرك إلى المستقبل توجيهًا يحقق القدر الأكبر من أهداف الجماعة المسلمة .
فما يصنعه المسلمون في حاضرهم هو الذي يحدد مصيرهم في مستقبلهم وما نحققه اليوم في واقعنا من شروط النهضة وأسباب الانبعاث هو وحده الذي يفتح أمامنا آفاق الرجاء ويطرق بنا أبواب الأمل في التغيير .
وأعود إلى ما ذكرته أن الأمة لديها من الحصافة والذكاء ما يمكنها أن تتجاوز عثرتها وتحقق آمالها بإعلام يلعب دورًا هائلاً في توجيه عقول الناس وضمائرهم إلى صحيح الدين الإسلامي ووسطيته السمحة .
وأؤكد أن الأمة حاليًا في أمس الحاجة إلى جهود علمائها ومفكريها، ويمكن للمؤتمرات والندوات الإسلامية أن تكون مفيدة في تحقيق أهدافها، وأن ننشغل خلالها بمشكلاتنا الحقيقية التي تواجه المسلمين اليوم ، ونأخذ الأمور بنية صادقة نستعين بها على حاضر الأمة ومستقبلها .
"الخطاب الإسلامي الموجه إلى الغرب "
سؤال:هناك دعوات متكررة في العالم العربي والإسلامي إلى تطوير الخطاب الإسلامي الموجه إلى الغرب .. فما رأيكم في مثل هذه الدعوات ؟
جواببداية أؤكد أن إصلاح البيت لابد أن يأتي من الداخل .. بمعنى لإصلاح شؤوننا متسلحين في ذلك: بالعلم ومتفانين في العمل ، وحيازة للثروة ، وإحرازًا للقوة ، ذلك أن حسابات أهل الدنيا قد بنيت على المال والقوة والحديد ، والدنيا لا تأخذ الحكمة من العجزة ولا تستمع أبد للضعفاء ، والصحوة الحقيقية ليست شعارًا ولا أماني ، وإنما هي جهد هائل وتبعات جسام .
ولا شك أن الدين كان وسوف يكون له دور متعاظم في توفير البنية الأساسية الأخلاقية ، وعلينا أن ندرك ونعرف حق المعرفة أن الكتاب والسنة ليسا من أمور الماضي وإنما أمران قائمان إلى يوم القيامة .
وهنا أدعو إلى ضرورة إعمال المنهج العلمي في التفكير بحيث يترافق ذلك مع الكتاب والسنة النبوية الشريفة ، وعلينا أن نسقط نهائيًا - بغير رجعة - تلك المقابلة العقلية بين العقل والنقل والتي شغلت صفحات طويلة من تاريخنا وأعوامًا من صراعنا ظلت تشغل الأمة وقتًا طويلاً في حوار غير مفيد ، وعندها سنتمكن من توجيه الخطاب المناسب إلى الآخر
==============(62/255)
(62/256)
لقاء الشيخ سلمان العودة مع موقع الساخر الإلكتروني
الاسلام اليوم - خاص 3/1/1424
06/03/2003
أيها الأحبة !
الإسلام من أقوى الأديان حضوراً نعم! ففي كل ناحية من وسائل الإعلام نجد حديثاً عن الإسلام بغض النظر عن هويته وهدفه ـ سواء كان يهودياً أو مسيحياً ـ بالشتم تارة وبالتحذير أخرى أو بالتخطيط والتكتل؛ لكن هذا مؤشر قوي لفعالية هذا الدين وقوة حضوره.
ولا شك أن الكثيرين فقدوا حيادهم المزعوم أمام المدّ الإسلامي وأصبح عندهم قراءة ومناقشة انتقائية إقصائية كالحة الوجه .
ـ لكن الحقيقة المرّة - أيضاً - أننا نحتاج إلى يقظة نتغلب بها على حالة العجز الإسلامي عن استثمار التقنية الإعلامية لطرح بديل إسلامي في خضم سيل الأطروحات الزائفة التي يزعمها الآخرون.
ولعمري! إذا كنا غير قادرين على مخاطبة أنفسنا بشكل صحيح ـ وهذا واقع ـ فكيف سنخاطب الآخرين ؟! هل رأيتم فاقداً لشيء يعطيه لغيره !
بإمكاننا ـ أيها الأخوة ـ أن نصنع كثيراً لهذا الدين كلٌ بحسب إمكانياته وطاقاته. ونستفيد من رغبة العالم القوية في سماع أو معرفة أي شيء عن هذا الدين.
بإمكاننا توضيح أن هذا الدين جاء ليعزز جوانب الحق في الأديان الأخرى ويمحو ما بها من باطل )وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ((المائدة: من الآية48)
بإمكاننا أن نثبت للعالم أن في ديننا جانباً إنسانياً يصنع الحضارة والتاريخ ويقوم بأكبر المنجزات ولا يضعها عائقاً أمام التحديث والإبداع.
بإمكاننا ـ أيها الإخوة ـ أن نعالج قضايانا المصيرية إذا حاولنا أن نفرغ من نزاعاتنا البينية .
ـ البعض منا لا يحسن الإبداع إلا في خلق مشكلات وهمية ما إن ينتهي من مناقشتها حتى يعيد تصنيعها ليعالجها مرة أخرى؛ مما يغيّبه عن مشكلاتنا الجادة التي تستحق منا المعالجة الحقيقية لا الوهمية.
ـ متى يأتي اليوم الذي نستطيع أن نقول فيه بصدق: هذا هو الإسلام.
سؤال:منهجية التغيير هل تبدأ بتغيير الواقع الذي يظهر على سلوكيات وتصرف الأفراد والمؤسسات؟؟ أم نحن بحاجة إلى تغيير الأفكار والرؤى والتي على ضوئها تتغير سلوكيات البشر.؟
لا شك أن الأمة تمر بأزمة... فهل ترى أن التركيز على بيان سلبيات المجتمع في الخطب والدروس والمحاضرات مع إغفال الجوانب الإيجابية وعدم تبصير الناس بها يؤدي إلى إضعاف الهمم وإحباط العاملين في حقل الدعوة..؟؟ وما الطريق الأمثل في نظركم هل هو البدء بتغيير السلبيات والاهتمام بها أم نشر الخير وزيادة العناصر الإيجابية باعتبار ذلك كفيلا بطمس السلبيات دون التركيز عليها مباشرة؟؟
جواب:ـ بلا شك؛ أن فكرة التغيير هي من الإشكالات عند البعض. ذلك لأننا نتخيل أن مستقبل هذا الدين لن يتحقق إلا بصعود قوى عظمى تمثل الإسلام وهبوط قوى تعاند الإسلام كأمريكا مثلاً. وكأن مستقبل الإسلام لن يتحقق إلا بهذه الصورة التي ربما تكون بعيدة والتي تحتاج إلى أمد بعيد يحتاج إلى: صبر ومجاهدة !
ـ كذلك الذي ينظر إلى حال العالم الإسلامي اليوم وتفوق الغرب عليه من الناحية التقنية وأنه أصبح هو الهدف للغرب ولا حليف أو نصير له - قد يصاب بحالة يأس أو قنوط أو إحباط .
عموما: علينا أن ندرك - تماماً - أن ثمة شروطاً وأسباباً إذا عملنا بها؛ حصلنا على المراد والله تعالى ( لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) .
ـ كما يجب أن نضع في أنفسنا: أن معطيات الواقع العالمي ليست كلها مسدودة بحيث يستحيل الدخول إليها؛ بل كل ما حولنا من واقع مليء بالمداخل والثغرات التي يمكن توظيفها بشكل جيد وإيجابي لمصالح الأمة والدعوة إليها.
ـ إن القدرات الذاتية للأمة والدعوة هي الفيصل الحازم في أي تغيير أو تطوير أو تحسين. وكما يقال:
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وإذا وضعنا في أنفسنا أننا قادرون على إنتاج أي شيء؛ فهذا في حد ذاته جيد فالقوى العظمى لا تهب فجأة ولا تمشي إلى الواقع أو إلى المنصة بسرعة الصاروخ !
ـ وأعتقد أنه لابد من تغيير الأفكار والرؤى دون مساس بثوابت الشريعة. إذ من الخطأ أن نعتقد: أن رؤيتنا هي الصواب وأنها هي التي يجب أن تكون مشروعاً سرمدياً نلاحق من خلالها الآخرين وننظر من خلالها نظرة انتقائية إقصائية .
ـ ومع تغيير الأفكار والرؤى يتزامن معها تغيير السلوكيات والمعاملات على مستوى الفرد والمؤسسات.
وكما قلت ينبغي أن ننهي معاركنا الداخلية، التي يظنها البعض نوعاً من البناء والمجاهدة والتأصيل ثم نلتفت إلى مشكلاتنا الحقيقية.
دعونا نتفاءل قليلاً ونقول: إن طاقة الأمة في الاستعصاء والمقاومة لا بأس بها. وقدرتها على تجاوز الأزمات الطارئة قائمة بحمد الله؛ لكن مشكلتنا في الأزمات المقيمة المستقرة المنبعثة من داخل الأمة والتي تحتاج معها إلى تغير الرؤى والأفكار والسلوكيات. وتحتاج - أيضاً - إلى ترك النظرة الفردية والرمزية وتحويل ذلك إلى مؤسسات أممية تعنى بالشمول والواقعية.(62/257)
- والاعتدال في معالجة الواقع مهم؛ فتناول السلبيات لا يجب أن يكون من حيث هي سلبيات؛ بل للتأمل فيها: أسباباً وعلاجاً. فالواقع مليء بفرص تدعو للتفاؤل ومعالجة الواقع بروح مرتفعة وعالية.
وكما قيل:
وللهِ أوس قادمون وخزرج
ومشروعنا هو مشروع الإسلام نفسه ندعو إليه غضاً طرياً بلا إفراط ولا تفريط منطلقاً من الواقع الذي نعيشه بإيجابياته وسلبياته مستوعباً لكل شرائحه التي استوعبها في زمنه الأول إيماناً أن الإسلام لكل زمان ومكان على وجه المعمورة.
سؤال:تمر الأمة بأحداث قوية بين الفترة والأخرى..، ومن المعروف سلفا أن التجارب التي تمر بها الأمة يجب أن توظفها في إحيائها من جديد.. ترى كيف يمكن لنا أن نستفيد من هذه الأحداث في بناء الوعي .؟ ماذا يجب علينا أن نفعل؟
جواب:ـ لا يخفى على أحد سقوط دعوى الغرب العريضة التي ادعى فيها: تحقيق الرفاهية للعالم . فالواقع والأحداث يكذب هذا.
وقد قيل :
ودعوى القوي كدعوى السباع … …
من الناب والظفر برهانها
إن الغرب يقتل ويدمر لكنه لا ينسى أن يضع على صدر الجثة لافتة بعنوان: لقد كنا في حالة دفاع عن النفس!!
ولا يخفى - أيضاً - أهداف الغرب التوسّعية التي يستثمرون فيها الأحداث ويوظفونها لصالحهم بجدارة.
أولاً: ديننا يعلمنا كيف نستفيد من كل حدث ونوظفه لخدمة هذا الدين ويعلمنا أيضاً أن الله لا يخلق شراً محضاً وأن النوازل التي تقع على هذه الأمة قد يكون فيها جوانب خير ومصلحة؛ تخفى على قوم وتبَين لآخرين وقد تظهر اليوم أو غداً.
ومن الخير أن تفتح الأحداث أبواباً من المقاومة على مستوى أفضل وعلى التوجه نحو الاهتمامات الفاضلة والمقاصد العليا بدلاً من الاسترسال وراء الجزئيات ومواطن الخلاف .
وقد كانت الآيات تنزل في مناسباتها حرباً وسلماً نصراً وهزيمة حادثة فردية أو جماعية أو أسرية أو شخصية وذلك لتربية المسلمين من خلال الحدث كما حدث في غزوة أحد وفي سورة الحشر مع اليهود.
وفي قوله تعالى: ( إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) تنبيه أن اليسر مع العسر وليس بعده كما يظن البعض!
ومن اليسر أن يعمل كلٌ على شاكلته في أعماله الصالحة وفي أعماله الدنيوية أيضاً وهذا لا يتنافى مع احترام الشعور بالحزن والغضب لما يجري من أحداث وهذه وصفة نبوية " إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة؛ فاستطاع أن يغرسها فليغرسها "؛ فالحياة مستمرة والدعوة قائمة والجهاد مستمر والعلم قائم والناس عاملون هذا في دنياه وهذا في أخراه وهذا في زرعه وهذا في بره وهذا في بحره وهكذا (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)(الإسراء: من الآية84) .
ثانياً : يجب علينا الاستفادة من الأحداث باتجاه بناء الوعي ويجب أن يثمر الحدث وعياً وإدراكاً سليماً وتصوراً جيداً.
ووسائل الإعلام سلاح ذو حدين في تنمية الوعي وفي قتله وتغييبه. وكم من تصورات وخيالات تبنى في العقول لأجل خبر متغير قد لا يكون له مصداقية؛ فالمعلومات الموثقة الكاملة غير المجتزأة مهمة في بناء التصورات.
ثالثاً : يجب - أيضاً - الاستفادة من الحدث في إحياء المفاهيم الشرعية لمفهوم الولاء والبراء الولاء للمسلمين وما يترتب عليه والبراءة من الكافرين وما يترتب عليه. ( إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(الممتحنة: من الآية4).
نحن في الشدائد نحتاج إلى قيم الصبر والحلم والتلاحم والتفاؤل والبِرّ.
رابعاً : يجب الاستفادة من الأحداث بتوظيفها باتجاه الفاعلية الإيجابية ونسأل أنفسنا ما هي واجباتنا؟ وما هو الممكن منها؟ وماذا نستطيع تقديمه من هذا الممكن؟
من الأخطاء أن نتحول إلى منظرين نوزع المسؤوليات والتبعات على الآخرين؛ بل واللائمة على هذا أو ذاك من حكام وأعداء وشيطان وعلماء ومفكرين؛ لكي نخرج أنفسنا من المسؤولية نفسها وكأننا لسنا من هذه الأمة والقرآن يقول: ( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ )(آل عمران: من الآية165).
خامساً: الاستفادة من الأحداث في كسر الحواجز بيننا وبين جميع شرائح الأمة؛ فلا يكون تعاملنا مع شريحة واحدة فقط نظن أنها هي الأولى بالخطاب أو المشروع الذي نفرضه.
سادساً: من أفضل أنواع استغلال الأحداث هو التنبه للقضاء على معاركنا الداخلية نزاعاً وخصاماً وتقاطعاً في كل شيء حتى في أبسط المسائل الفروعية الفقهية والتي يبني عليها البعض قناعات يقصي بها الآخرين.
ـ يجب أن نعمم روح الشورى والقضاء على النمطية الفردية ومحورية الرمز في التعامل .
ـ أخيراً يجب أن نعرف أين نحن؟ وعلى من ستدور اللعبة القادمة ؟! ولنحذر أن نكون في شباكها ونحن لا ندري!(62/258)
سؤال:أرى أن الحركات الإسلامية تركز على فتح دورات لأعضائها حول الفقه والنحو .. وما إلى ذلك، وينسون المسائل الإدارية والقيادية والقرآن والحديث والفكر والاستشراق والاقتصاد الإسلامي.. فما رأيك في تشجيع الشباب على تعلم العلوم الاجتماعية بجانب العلوم الشرعية وحفظ كتب التراث؟
جواب:ذكرت أن العالم الإسلامي يملك مقومات تفوقه وإبداعه من: ثروات وعقول مفكرة وسهولة الحصول على التقنيات؛ ومع ذلك نعاني من خلل في الجانب التقني والإداري !! ولذا: من المهم تنمية هذه الجوانب الإدارية والقيادية والاجتماعية وفتح مجالاتها للشباب وتعميق الفهم فيها بالدورات والندوات ففي ذلك خير كثير.
وهناك جفوة لا مبرر لها تستوحش من هذه العلوم إما بسبب عدم الفهم لها أو بسبب ما هي عليه من الخلط!
والإسلام دين جامع تنمو في أحضان دولته كل المصالح والحقائق والعلوم ويكفي أن يكون أول خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).
ولعل الأخ السائل يراجع المادة الصوتية المسجلة بعنوان ( القراءة أولاً ).
سؤال:في هذا الوقت وفي الظروف المعاصرة ما الأرجح؟ نظرية صدام الحضارات أم حوار الحضارات..وذلك وفق معطيات الأحداث التي تمر بها الأمة حاليا..؟؟
جواب:صدام الحضارات: هو عنوان الكتاب الذي ألفه المفكر الأمريكي (صموئيل هنتجتون ) وتوقع فيه الصدام الحضاري بين الغرب وقوى أخرى منها الإسلام. وقد ظلت هذه الدراسة محل بحث ومناقشة منذ سنوات عدة ومن الواضح أن هناك مؤيدين للصدام بين الحضارات في كل من الغرب والعالم الإسلامي.
وهناك من يرفع شعار ( صدام المصالح والسياسات ) ويحتج بالحروب التي دارت بين الأوروبيين أنفسهم ودامت قروناً عدة.
وكذلك الحروب التي اندلعت داخل الحضارات (الكونفوشية) كما حدث بين الصين وفيتنام أو بين اليابان وكوريا أو بين فيتنام وكمبوديا أو بين اليابان والصين .
كما أن هناك من يرفع شعار (صدام الجهالات) كما يفعل إدوارد سعيد وقد يكون الأمر في الواقع مزيجاً من ذلك كله.
إن الإدارة الأمريكية على وجه الخصوص تخضع لابتزاز يهودي ولتأثيرات دينية يمينية علماً أن السياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي وقضاياه لم تكن يوماً من الأيام إلا نموذجاً للانحياز والظلم والاستعلاء؛ ولهذا فلا غرابة أن تتفاقم مشاعر الكراهية والعداء للأمريكان في الأرض الإسلامية وكيف لا يكرهونها وهم يرون صنع يديها في فلسطين وأفغانستان والعراق ؟!
وأمريكا إذا أمعنت ستفقد الكثير إن خسائر الشركات الأمريكية بسبب المقاطعة تقارب الـ50% !
سؤال:العولمة ... مصطلح رائج في الأوساط الثقافية والإعلامية... هل العولمة حتمية... وضرر ماحق لا مصرف عنه وكيف يمكن أن نفهمها في ظل ثوابت الإسلام ؟كيف نتصدى للعولمة ؟
جواب:إن العالم بدون شك يسير باتجاه إلغاء الحدود والفواصل القائمة بين الأفراد والمجتمعات والثقافات والدول.
والعولمة ليست بالضرورة إلغاء خصوصية شعب بعينه أو أمة بعينها وذاتها الداخلية ولكنها إلغاء للحدود بين الأشياء المحلية وبين الأشياء العالمية .
إن العولمة عبارة عن دخول في منافسة شديدة بين الأمور العالمية وبين القضايا المحلية سواء كانت اقتصاداً أو ثقافة أو إعلاماً أو غير ذلك فهل لدينا القدرة على المنافسة ؟!
الذي يكتب الحل لا يلزم أن يكون هو الذي يملك الحل؛ فكثير من الإسلاميين أو الدعاة والعلماء قد يطرحون حلولاً للعالم الإسلامي تجاه هذه العولمة؛ لكن يبقى السؤال المعلق: من الذي يستطيع أن ينفذ هذه الحلول ؟!
ومن يستطيع أن يقوم بها ؟
ومن يحولها من كتابه على ورق أو تنظير فكري إلى واقع ممكن ولو كان هذا الواقع صغيراً ومتواضعاً ؟!
إن ثمة حلولاً كثيرة والإسلام نفسه له عولمته الخاصة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (ص:87) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح : " بعثت إلى الناس كافّة " ولكي نحول هذا النمط الشرعي وهذا النظام العام الإسلامي إلى حلول واقعية يحمي المسلمين على الأقل وحتى نكون أكثر واقعية يحمي بعض مكاسب المسلمين ويقلل من خسائرهم لذلك يجب :
1 ـ المحافظة على الثوابت الشرعية والأخلاقية لهذه الأمة.
2 ـ بناء التكتلات الاقتصادية سواء تكتلات دول أو شركات ضخمة .
3 ـ الاستفادة من آليات التحديث المعاصرة .
4 ـ الاستجابة للتحديات المستقبلية واستخدام الأساليب الذكية؛ من أجل الاستفادة فإن كل أزمة هي في الوقت نفسه فرصة إذا أحسن الناس استخدامها.
5 ـ توفير مناخ الحريات واحترام حقوق الإنسان وحقوق المرأة ومراعاة المبادئ التي تتلاقى مع الثوابت الشرعية.
6 ـ تحديث أنماط التفكير والنظر التي تحكم الفرد والمجتمع والجماعة في العالم الإسلامي وتربية الناس على الرؤية الصادقة المعتدلة مع إتاحة الفرصة للتعددية في الرأي إذا كانت ضمن إطار الشريعة.
7 ـ إزالة الحدود الخاصة بين الأفراد والجماعات والشعوب الإسلامية .(62/259)
سؤال:ما نعانيه نحن رواد منتديات الشبكة من العلمانيين واليبراليين بل والملحدين أحياناً ومن أبناء جلدتنا ووطننا للأسف كيف نواجههم...؟
جواب:بل كيف السبيل للحوار معهم وهم كثيراً ما يتهكمون ويسخرون منا حتى أن البعض صار يتحرّج من مسمى سلفي أو مذهب السنة والجماعة ... هل نتركهم في افتراءاتهم وكذبهم يعمهون أم نستمر بالرد عليهم في كل شاردة وواردة ..وهي في غالبها أكاذيب وافتراءات..؟
العلمانية ليست بالضرورة: أحزاباً أو أشخاصاً؛ بل هي: نظم وأنماط سلوك واتجاهات تفكير . يعمل الغرب المنتصر على فرضها والتمكين لها .
ولا توجد منطقة دون أخرى تعتبر عصية على العلمانية خاصة إذا كانت تريد حصتها من الاقتصاد وتحاذر العزلة بأي ثمن .
ومن أخص المعارك في العصر الحديث هي معركة الإسلام والعلمانية .
والعلمانية في الأصل تقوم على: تنحية الدين عن السياسة ثم تنحية الدين عن الاقتصاد ثم عن العلم والتقنية ثم عن قيم المجتمع وأخلاقه. بل عن الحياة كلها؛ مفترضة أن هذه التنحية تطلق قوى الإبداع والعقل الحر كما يقولون!!
ـ ونحن نجد أن العلمانية - التي فرضت وجودها في معظم رقعة العالم الإسلامي وكان لها قوة سياسية وإعلامية وسلطوية وثقافية - أنها هي التي مارست طريقة التهميش والفكر الأحادي والنظرة الانتقائية وحجرت على كثير من أصحاب الأطروحات التي لا تتفق معها بحجة الجمود أو التخلف أو الرجعية أو أي شيء آخر. ولذلك أي دعوة انطوت جوانحها على ما سبق فهي تملك مقومات سقوطها وإن ازدهرت إلى حين. هذا من ناحية.
من ناحية أخرى: لئن كان الغرب طرح مشروع العلمانية في زمن منصرم وأمكن إنجاحه في كثير من البلاد الإسلامية؛ فقد ظلت أكثر المجتمعات الإسلامية - بحمد الله - لا تعترف بالتطبيق العلماني في واقعها ولا يخفى على أحد أن كثيراً ممن طبقوا مشروع العلمانية عند الأزمات وخوف انصراف الناس عنهم يلوحون بنصوص الدين ويرفعون أعلامه (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) .
ولا يخفى على أحد الإشكالات التي تواجهها العلمانية والتي منها:
ـ إخفاقها حينما تتعامل مع الإنسان بوصفه إنساناً.
ـ ومنها أنها تنظر للإنسان أنه جزء من كل هذا الكون ولابد أن يخضع لقوانينه وهذا يعني إلغاء الإنسان فالإنسان في النموذج العلماني يبدأ في المركز وينتهي بالإعدام.
والواقع أن تقوى الله هي مصدر الرزق ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) .
ومن التقوى إشاعة الفضيلة بين عبادة والأخلاق والحكم بالشريعة وحسن التخطيط وتنسيق الجهود واستثمار الطاقات.
ومن المهم أن ننمي عندنا الوعي بالأخطار المحدقة بنا من كل جانب وضرورة التكتل العلمي وتنظيم الصفوف والتخلي عن معاركنا الوهمية التي لا تثمر إلا نكداً ونشر العلم وتحكيم الشرع على أنفسنا قبل أن نطالب به الآخرين.
سؤال:الشيخ سلمان العودة أحد أهم الذين تبنوا فكر التغيير وترشيد الصحوة، في مواجهة التحديات ..!! هل مازال العودة بقناعاته القديمة أم أن هناك تجارب غيرت من نظرته وطريقته في التغيير خصوصاً بعد فترة تجربة السجن ...؟ هل تغير الشيخ سلمان ؟
جواب:من تأمل الشريعة علم أنها بفضل الله جاءت صالحة لكل زمان ومكان وهذا يمنحنا مزيداً من الوعي والتجديد مع الحفاظ على ثوابت الشريعة وأصولها التي لا جدال فيها ولا مساومة .
وليس من الصوابية أن يجتهد أحدنا فيما يسمح فيه الشرع بالاجتهاد ثم ينزل اجتهاده منزلة الأصول والمرجعية والعصمة الشخصية بينما مجتهدو الزمن الأول المبارك قصارى قولهم عن اجتهادهم: إنه صواب يحتمل الخطأ .
ومن تأمل الأحوال الأممية للدول الكبرى الراسخة وجدها تخضع سياستها وبرامجها للتجديد والتطوير والتغيير بحسب متطلبات الموقف .
والدعوة سبيلها العمل الاجتهادي يجتهد فيها فرد أو جماعة مقابلة لأوضاع متغيرة. ولكل موقف ومرحلة زمنية عبادتها. ألا ترون أن المسلم يدعو في كل صلواته أمام ربه " (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) والمسلم في ميزان الشرع مهتدٍ لكنه يطلب المزيد من هداية العلم والتوفيق فيما اختلف فيه من حوله من السائرين إلى ربهم " اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك " .
ومن المهمات نبذ التعصب والآراء الشخصية والتقليد خاصة تقليد الإنسان لنفسه " إني والله لا أقسم على شيء فأرى غيره خيراً منه إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير ".
إن التجارب الدعوية تُحفظ لتطور وتجدد والمراجعة والتصحيح ضرورة لكل عمل .
قال الخليفة الراشد عمر لأبي موسى: ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم بدا لك فيه أن تراجع الحق فإن الحق قديم .
وكما أسلفت: فإنه من الواجب علينا ألا نعتبر تجاربنا ـ خاصة التي هي محل اجتهاد ـ مشروعاً سرمدياً لا يقبل التجديد ولا التغيير على الأقل في طريقة طرحه وتسويقه وليس مضمونه ـ فإن الشيئين اللذين لا يقبلان التجديد ولا التغيير هما الوحيان .
سؤال:هل التغيير عبر الجهاد هو الحل الأمثل خلال الفترة القادمة..؟؟(62/260)
جواب:من يتقن صناعة الحياة فإنه يتقن صناعة الموت وليس محبوباً أن يموت الخيرون ليتركوا الحياة يعبث بها الأشرار! وعمر المسلم لا يزيده إلا خيرا فخيركم من طال عمره وحسن عمله لكن حين يترتب على موت الفرد حياة الجماعة ورفع الذل والمعاناة عن الأمة؛ تكون المصلحة أرجح. وهذه واحدة من مسائل تغليب المصالح على المفاسد لا غير .
أما مفهوم ( الجهاد ) فهو مفهوم حياتي واسع لا يختص بالمواجهة المسلحة مطلقاً .
وفي نصوص الكتاب الكريم نجد :
الجهاد بالقرآن (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52)، وهذا يعني: الدعوة والحجة والبيان والمجادلة بالحسنى .
جهاد النفس ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (العنكبوت:69) ؛ فيدخل في معنى الآية : مجاهدة النفس على الخير والتزكية والإيمان، وكفها عن الشر والشهوة والفتنة.
ومثله قوله تعالى : (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت:6) .
3- الجهاد بالمال، وهذا يعني: صرفه في مصارف الخير المتنوعة . ويشمل ذلك: صرفه للمقاتلين في سبيل الله، وهذا ورد في عدة مواضع من القرآن الكريم .
4- الجهاد بالنفس، هذا يشمل: الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمن، كالقتال المشروع في سبيل الله والتعليم والدعوة و غيرها.
ومن المدركات التاريخية المقررة: أن أكبر بلد إسلامي اليوم - من حيث عدد السكان - ( إندونيسيا ) دخلها الإسلام ليس عن طريق الحرب ، بل بالرسالة الأخلاقية .
وبالرغم من انحسار السلطة الإسلامية عن مناطق كثيرة حكمها الإسلام تاريخياً؛ إلا أن أهلها الأصليين ظلوا مسلمين، وحملوا رسالة الحق ودعوا إليها وتحملوا الأذى والتعذيب والظلم في سبيلها؛ كما نجده في:بلاد الشام ومصر والعراق والمغرب والقوقاز، والبلقان وأسبانيا التي أقيمت للمسلمين فيها محاكم التفتيش وهذا يدل على أن تأثير الإسلام فيهم كان أخلاقياً إقناعياً، بخلاف الاستعمار الغربي الذي أخرج بالقوة من البلاد الإسلامية ولا يتذكر الناس عنه إلا المآسي والآلام والقهر والتسلط.
إن من الخطأ الفادح أن يتصور البعض: أن كلمة الجهاد هي رديف لكلمة:( القتال ) أو ( الحرب ) والتي لا تعني إلا جزءاً خاصاً من مفهوم الجهاد .
إن الإسلام تحت اسم الجهاد يدعو إلى حماية المجتمعات من الظلم والتسلط والدكتاتورية التي تصادر الحقوق والحريات، وتلغي نظام العدل والأخلاق وتمنع الناس من سماع الحقيقة أو اعتناقها، أو تضطهدهم في دينهم.
كما أنه تحت الاسم ذاته يسعى إلي الإيمان بالله وعبادته وتوحيده ونشر قيم الخير والفضيلة والأخلاق بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال سبحانه (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: من الآية125) .
كما يدعو إلى الإصلاح الاجتماعي في مقاومة الجهل والخرافة والفقر والمرض والتفرقة العنصرية .
ومن أهدافه الأساسية: حماية حقوق المستضعفين الخاصة والعامة من تسلط الأقوياء والمتنفذين .
وفي القرآن الكريم : (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (النساء:75) .
قال الزجاج : أي: ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء المستضعفين ؟
وهذا قول ابن عباس وغيره من أئمة التفسير .
وبهذا يكون من صور الجهاد في الإسلام: مقاومة الظلم ومقارعته ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا )( النساء: من الآية75 ) فهو يضمن حق الأمم في مدافعة الظالمين المعتدين .
ويحرم الإسلام الظلم حتى للمخالف في الدين؛ كما قال سبحانه: ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) (المائدة: من الآية8).
ويقول للمؤمنين في شأن قريش التي منعتهم من دخول المسجد الحرام بمكة:( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)(المائدة: من الآية2) والشنآن هو البغض والعداوة أي: لا تحملكم بغضاء وعداوة شعب أو أمة على أن تعتدوا عليهم أو تظلموهم وتصادروا حقوقهم .
وفي الحديث عن أنس - رضي الله عنه- عن صلى الله عليه وسلم (اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافراً فإنه ليس دونها حجاب ) رواه الإمام أحمد في مسنده وهو حديث صحيح الإسناد.
كما أن من صور الجهاد مقاومة الدكتاتوريات التي تريد المحافظة على الخرافة والجهل، وعدم إعطاء مساحة لقيم الإيمان بالله، والأخلاق في الحركة الاجتماعية .
الإسلام والقتال :(62/261)
وفي موضوع القتال يمكن أن نرسم بعض الحقائق المهمة في التصور الإسلامي، ومن بينها ما سبق: أن الجهاد وإن كان أوسع من مفهوم القتال، فإنه يبقى من الوضوح أن نقول: إن الإسلام يعترف بالقتال حين يكون خياراً لمعالجة المشكلات أو مواجهة الظلم والعدوان والدفاع عن الحريات والحقوق الخاصة، وحين نؤكد اعتراف الإسلام بالقتال والدفاع والحرب فهذا جزء من منظومة القيم في الإسلام كما نفهمها ويمكن لكل منصف أن يدرك معقولية مثل هذا القرار في الإسلام .
لقد دخل المسلمون في تاريخهم الطويل في معارك وحروب تحت هذا المبدأ .
ومع أننا ندرك تماماً أنه: ليس ضرورياً أن ما يصنعه مجموعة من المسلمين فهو إملاء إسلامي شرعي في نظر الآخرين، وأن التاريخ الإسلامي ليس دائماً سجلاً للفضائل المحضة، ولكن دعونا نتذكر:
كم قتل المسلمون من المدنيين في القرن المنصرم ؟!
وكم قتلت الشيوعية ؟!
وكم قتلت المجموعات والدول الغربية ؟!
ومن الذي أشعل أكبر حربين عالميتين خلال نصف قرن، وجرّ إليها القريب والبعيد ؟!
إن العالم يتذكر بمرارة ضرب المدنيين بالأسلحة النووية في هيروشيما وناجازاكي، ويتذكر المجازر الدموية في البوسنة والهرسك والتباطؤ الدولي عن إيقاف نزيف الدماء هناك ولقد قتل في إندونيسيا - عام 1965م في إثر انقلاب مدعوم من الولايات المتحدة - مئات الألوف غالبهم من الفلاحين ولم تُخف الصحافة الوطنية في الولايات المتحدة اغتباطها بما يحدث كما قتل مئات الآلاف في العراق من الأطفال في ظل الحصار الدولي منذ عام 1991م.
ويشاهد العالم بعينيه ما تفعله القوة الغاشمة الإسرائيلية - المدعومة من الولايات المتحدة - بالعزّل في فلسطين الذين تحتل ديارهم وتعامل حتى مواطنيها منهم معاملة عنصرية سافرة.
وإذا كان هؤلاء - الذين رسموا في العصر الحديث مذابح جماعية - يشعرون بمبررات في داخلهم؛ فهذا يدل على عمق المشكلة الأخلاقية التي تواجه العالم.
إن الإسلام حين يدعو لاعتماد خيار القتال؛ فهذا يأتي ضمن نظام يتّسم بالدقة والعدالة، وإعطاء فرصة للسلام فهناك مجموعة من الشروط ترسم نظام القتال الذي يشرعه الإسلام للمسلمين وهو هنا إحدى صور الجهاد؛ لكن من الواضح أنه ليس عدوانياً على أحد بل يقوم لحماية الحقوق ونصر المستضعفين ومحاربة الظلم والتعسف ونشر قيم العدل أمام رفض مجموعات الدكتاتورية الانفتاح على الآخرين والسماح للفرد في المجتمع باختيار القيم الفاضلة .
وفي هذه الدائرة يمكن أن نفهم صورة القتال في الإسلام كنظام لنشر وحماية الحريات المدنية والحقوق. والمسلمون حين يشاركون في هذا القتال؛ فإنهم يتمتعون بعلاقة روحية في داخلهم تجعلهم الأكثر كفاءة من الناحية المعنوية .
وإذا كان المثل يقول: إن الأخلاق تُعرف حال القوة والقدرة - وهذا في نظرنا صحيح - فإن الإسلام حال قوته ونفوذه كان يرسم قيماً أخلاقية عالية حتى مع الذين يضطر إلى محاربتهم.
وفي أمثلة سريعة يرد أبو عبيدة إلى أهل حمص المال الذي أخذه منهم مقابل الحماية؛ خشية ألا يقدر على حمايتهم، وهو يقوم بها في الوقت ذاته.
ويأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بتشكيل محكمة ميدانية للنظر في دعوى أهل سمرقند بعدم صحة إجراءات الحرب، فتأمر المحكمة الجيش الإسلامي بالانسحاب الفوري، وهكذا كان ينسحب الجيش وسط دهشة أهل المدينة وذهولهم.
وهذه الحرب العادلة محكومة وفق الشريعة الإسلامية بالنظام الأخلاقي الذي لا يسمح بالتجاوز حتى نجد في وصية الخليفة الأول الصديق - رضي الله عنه- ليزيد: لا تقتل امرأة ولا صبياً ولا هرماً .
وكذلك كان عمر - رضي الله عنه - يوصي جيشه ويقول: لا تقتلوا امرأة ولا صبياً ولا شيخاً هِمَّاً، يعني: كبيراً .
وكان أبو بكر يوصي بعدم قتل الرهبان في الصوامع .
وقال عمر: اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب. وهذا باب تطول قراءته ويعرف في مواضعه من كتب الفقه الإسلامي.
لقد كان لفقدان المسؤولية في تصنيف الإرهاب أثر في رفع روح التوتر ضد الولايات المتحدة ليس بين المسلمين فحسب بل حتى لدى شعوب أخرى في العالم ..
قد يبدو للأقوياء أن من السهل والمناسب إسقاط المشكلات على الضعفاء تحت مجموعة من الذرائع وهذا ما نقرؤه في اتجاه بعض الدوائر في الغرب في جعل الطرف الرئيس في مشكلة الإرهاب المسلمين وليس غيرهم .
الدين في مفهوم المسلمين :
يبقى مفهوم الدين واضحاً في عقل المسلم البسيط أنه: عبارة عن عبادة الله وتحقيق قيم الخير والعدل التي شرعها الإسلام؛ لإقامة حياة أفضل في الدنيا، وسعادة أبدية في الآخرة.
إن الدين لم يكن يوماً ما مشكلة عند المسلمين؛ لأنه مفهوم واسع يمكن أن يستوعب في رسالة الإسلام كل شؤون الحياة، ويمثل الإسلام في هذا المقام انفتاحاً واسعاً لصناعة نظام أخلاقي يمكن أن يعيش تحته الآخرون في أمن واستقرار.(62/262)
الدين في الإسلام ليس قضية شخصية أو مجرد رمزية في دائرة محدودة من دوائر الحياة بل يعني: صناعة الحياة ليس للمسلمين فقط بل لكل من يكون مستعداً للسلام والعدل واحترام الحقوق، ويمكن أن نقول ببساطة إنه يعني: البحث عن السعادة والأمن والتكامل الأخلاقي.
وتحت هذا المفهوم يبقى أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى العلمانية لسبب بسيط: أنه لا توجد مشكلة لهم مع الدين. إن الفرد في الغرب قد يفهم الدين في دائرة معينة تتعلق بالجانب التعبدي المحض بين الإنسان وبين الله؛ بينما هو في الإسلام معنى شمولي ينظم سير الحياة كلها وفق قواعد عامة وأصول مرنة، تكفل إمكانية الإفادة من الجديد في العلوم والتقنيات والتسهيلات المادية وغيرها، وتحافظ في الوقت ذاته على تميز المسلم وأنموذجه الثقافي الخاص .
نتصور أن من مشاكلنا مع الغرب: أنهم لا يفهموننا كما يجب وكما هي الحقيقة.
ومن المؤسف أن تكون مجموعات من الأسوياء في العالم تقع تحت تصوير ساذج يفتقد الأمانة في رسم هوية المسلم أو تحديد مفهوم الدين عند المسلمين .
إن من أسس الدين في الإسلام: أنه يعطي مساحة لفهم الذات واحترام المبادئ والحريات الخاصة، كما يرفض الإسلام محاولة تحويل الدين إلى أداة لتبرير الأخطاء أو صناعة العدوان .
وربما كانت مشكلة فهم كلمة ( دين ) وكلمة ( جهاد ) والربط بينهما من إشكاليات الفهم لدى بعض الغربيين.
وإذا تحقق فهم الدين بهذا المعنى الواسع وفهم الجهاد بذاك المعنى الواسع أيضاً؛ زال كثير من الالتباس في الباب.
وهكذا تحدث الانتقائية - أحياناً - في التقاط جزئية خاصة ومعالجتها كما لو كانت هي الإسلام فقط مع عزلها عن المنظومة الثقافية التي تنتمي إليها. يحدث هذا في المجال السياسي والاجتماعي والثقافي على السواء.
نلاحظ أحياناً أن بعض الدوائر في الغرب تجامل في إعلان احترام الإسلام كديانة؛ لكن لا نجد مساحة لهذا الإعلان في التعامل مع المسلمين، وكأن بعض هذه الدوائر تريد أن تفهم الإسلام كما يحلو لها !
هناك فرق بسيط هو: أن المسلم العادي يشعر أن الإسلام نظام شامل للحياة، والفرد في المسيحية لا يجد هذا الشعور بل يبقي الدين دائرة ضيقة في نظر المسيحيين، وهنا قد لا يستوعب الفرد في الغرب العلاقة عند المسلمين بين الدين والدافع الذي يحرك الإنسان في أي اتجاه في الحياة .
إن الدين يبقى في نفوس المسلمين الملاذ الآمن والأكثر فعالية لمقاومة كل أشكال التحديات .
وهنا! يمكن أن نقول للعالم كله: إن تصعيد التحدي ضد المسلمين- من قبل أي قوة في العالم - سيجعل من الصعب في الأخير أن تتمتع هذه القوة بالهدوء والاستقرار؛ لأن المسلم العادي يمكن أن يستوعب المحرك الديني في داخله لمقاومة العدوان ومن المؤكد أن هذا المحرك سيجعل من الفرد أكثر مرارة، وسيكون أكثر فعالية في صناعة الأفراد من كل أنظمة التدريب النظامية، وفي الوقت نفسه فإن المحرك الديني سيجعل من الفرد العادي في الإسلام أنموذجاً لصناعة الخير والسلام واحترام الحقوق والحريات في ظل نظام العدالة.
والمسلمون يعلمون جميعاً أن نبيهممحمدا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ونبي الملحمة أي: القتال. والأصل في دعوته ورسالته الرحمة لكنه يتحول إلى القتال حين تقف بعض القوى في صف رفض الرحمة والأخلاق وحرمان الآخرين منها أو محاولة سلب الحقوق ومصادرة الحريات الخاصة؛ فإن الإسلام يمكن أن يعبئ في أقل من أربع وعشرين ساعة الملايين من المسلمين المستعدين للتضحية في سبيل الدفاع عن الإسلام دون أي علاقة اتصال تجري بين هؤلاء، واليوم نعلم- ونحن على ثقة في قراءتنا للعقل المسلم العادي - أن عشرات الملايين من المسلمين سيبدون استعداداً للدفاع عن فلسطين والمسجد الأقصى لو افترضنا وضع استفتاء في العالم الإسلامي، وهذه النتيجة التي نعلمها ستكون تجاوباً عفوياً مع حالة الظلم الممارسة في الأرض الفلسطينية، وهذا أحد مبادئ الإسلام التي رسمها في علاقة المسلمين بعضهم مع بعض مهما كان قدر الفوارق السياسية والاجتماعية والعرقية التي يمكن أن تختصر وتمحى بشكل مفاجئ أمام حركة الدين الروحية التي تضمن التجاوب بين المسلمين .
وحين نتحدث عن هويتنا الخاصة؛ فإن الدين يعد في الأساس عند المسلمين قيمة روحية عالية ونرى أن تعلقهم به هو الأقوى مقارنة بغيرهم لأسباب تتعلق بالإسلام ذاته، ومن السذاجة التفكير في تجريد المسلمين منها، وهذه القيمة تتجه في الأساس إلى السلام لكن يمكن أن تكون قوة مضادة لكل محاولات التعدي التي تواجه المسلمين أو مجموعات منهم .
إن المسلم الذي لا يُعطى مساحة كافية للتدين؛ معرض لردة الفعل القوية ضد من يشعر بعداوتهم له أكثر من المسلم المستقر في سلوكه أو المنتمي إلى مدرسة إسلامية أو معهد شرعي ولهذا فمن الطيش توجيه الاتهام إلى المدارس الإسلامية أو المناهج الشرعية في العالم الإسلامي وأقل ما يقال: إن العلم الشرعي يضبط العداوة وينظمها ويحافظ على أخلاقيتها وهدوئها.(62/263)
سؤال:قال لي شخص غير مسلم ذات مرة بأن البحث عن الحقيقة هو أهم ما يجب على الشخص فعله في حياته فافترض كوني غير مسلم - لا سمح الله - ولم يكن لدي أي اتصال بالمسلمين فهل يمكن لي أن أسلم في حالة وقوعي في أحد الديانات الأخرى؟ ..نقطة النقاش كانت تدور حول التلقين الذي يوجد في جميع المجتمعات مما يجعل الإسلام " دين آبائنا الأولين " أكثر من كونه الحقيقة التي يجب علينا إيجادها؟ إني أجد الحيرة في الرد على مثل هذا السؤال!؟؟
جواب:لو افترض أن إنساناً نشأ في بيئة إسلامية ووجد نفسه مسلماً ؛ فهو من فضل الله عليه. ولو نشأ في بيئة كافرة لم يصلها الإسلام ووجد نفسه كافراً فهذا من عدله سبحانه وتعالى فهو الحكم العدل: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء:23) فكون الإنسان نشأ على الكفر ولم تبلغه شرائع الإسلام هذا عدل محض من خالقه سبحانه وتعالى إذ هو عالم بما كان عليه .
لكن اختلف أهل العلم في مآل ومصير هؤلاء في الآخرة وذكروا فيهم أقوالاً .
وممن فصل في هذه المسألة ابن القيم في ( أحكام أهل الذمة ) وإن كان بحثه في الأصل في أولاد المشركين . وقد ذكر - رحمه الله - في المسألة عشرة أقوال. آخرها : أنهم يمتحنون في الآخرة، ويرسل الله تعالى إليهم رسولاً، وإلى كل من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار. وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار .
وهذا قول جميع أهل السنة والحديث، حكاه الأشعري عنهم في كتاب الإبانة؛ وذكره ابن فورك؛ وأبو قاسم ابن عساكر في تصانيفه؛ وحكاه محمد بن نصر المروزي في الرد على ابن قتيبة، وذكر حججه .. وقد سردها الإمام ابن القيم؛ ومال إلى تقويتها، وعززها بنحوٍ من عشرين وجهاً، قال في الوجه الثامن عشر، بعد كلامٍ: هؤلاء لا يحكم لهم بكفر ولا إيمان؛ فإن الكفر هو جحود ما جاء به الرسول، فشرط تحققه بلوغ الرسالة، والإيمان هو تصديق الرسول فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وهذا أيضاً مشروط ببلوغ الرسالة، ولا يلزم من انتفاء أحدهما وجود الآخر إلا بعد قيام سببه ، فلما لم يكن هؤلاء في الدنيا كفاراً ولا مؤمنين، كان لهم في الآخرة حكم آخر غير حكم الفريقين 0
فإن قيل: فأنتم تحكمون لهم في الدنيا بأحكام الكفار، من التوارث، والولاية، والمناكحة، قيل: إنما نحكم لهم بذلك في أحكام الدنيا، لا في الثواب والعقاب 0
ثم قال: الوجه الثاني: سلّمنا أنهم كفار، لكن انتفاء العذاب عنهم لانتفاء شرطه، وهو قيام الحجة عليهم، فإن الله تعالى لا يعذب إلا من قامت عليه الحجة .. إلى آخر كلامه رحمه الله 0
أما معنى قيام الحجة، فهو أن تبلغه رسالة الإسلام كما أنزلها الله، باللغة التي يفهمها، ويدرك معناها، ولا معنى لبلوغ حجة لم يفهمها، فإن ما لا يفهم لا ينتفع به، كما لو تكلم بلغةٍ غير لغته، أو تكلم مع ضعيف الفهم قليل الإدراك بلغةٍ راقيةٍ لا يستوعبها، أو لم يحسن عرض حجته، والله تعالى أعلم بالصواب .
ولو استعرضنا خارطة الأديان الوضعية والسماوية المحرفة كلها من: يهودية ونصرانية وهندوسية إلى غير ذلك واستعرضنا ما فيها من عقائد وقناعات وأصول وثوابت - لذي عقل وفطره سليمة؛ لحكم بأن الإسلام من بينها هو المنفرد بمخاطبة العقل والوجدان في آن واحد فلا توجد فيه إشكالات الأديان الأخرى التي يطول الكلام عليها وتقرأ في مظانها من كتب المِلل والنحل وسيجد أن الإسلام لا تناقض فيه ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(النساء: من الآية82) .
ويا ليتنا بدلاً من الجدل المحتدم حول دقائق بعض المسائل نجتهد في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وتشجيعهم على اكتشاف الحق الذي جاء به، ورفع الشبهات والأباطيل التي ألصقها به الشانئون المغرضون، والجهالات التي ألحقها به الضالون والمبتدعون، حتى يجلى لهم دين الله تعالى واضحاً كالشمس ليس دونها سحاب، إذاً لا نجفلوا إليه مسرعين، وأقبلوا نحوه مهطعين، وتشربوا هدايته تشرب الظمآن للماء البارد ....
فكم من أسيرٍ رمته الحياة … …
رأى أنها قيده فانتحر
يريد السعادة في موته … …
ولم يدر ماذا وراء القدر
علينا إذاً إخوتي ذنبهم … …
سنسأل عنهم .. فهل نعتذر ؟
إن الإسلام اليوم محجوب بمساوئ أهله. وشعوبه صارت أمثولة يتسلى بها الإعلام في كل مكان، فإن أرادوا التمثيل على قلة الاهتمام، أو التبذير، أو الدموية، أو الشهوانية، أو التخلف، فأقرب وسيلة لذلك السحنة العربية الإسلامية، واللباس العربي، واللسان العربي 0
إن الإعلام الغربي - ربما - لا يبالغ أكثر وأكثر في هذه الصورة حتى لا يسبب الفزع أو القلق للأطفال، أو لعله يعرض ذلك في الأوقات التي ينصرفون فيها عن التلفاز0
فنسأل الله أن يعيد المسلمين إلى دينهم الحق، وأن يرزقهم صدق الاستمساك به، وأن يجعلهم لسان صدقٍ يعبر عنه، وأن يلهمهم تحقيقه في واقع حياتهم الفردية والاجتماعية، حتى يكون ذلك خير ردٍ على الصورة القاتمة التي يتلقاها الناس عنهم في كل مكان، والله المستعان
أهداف الحملة الأمريكية(62/264)
سؤال:لا تخفى عليكم الحملة الأمريكية الشعواء الآن على العراق وأنها لا تستهدفها فقط بل تستهدف المنطقة بأسرها. فهل توضحون لنا أهدافها الحقيقية وواجب المسلمين تجاه هذه الحملة وذلك لأن الأمة وشباب الصحوة خاصة يعيشون حالة من فقدان الوزن تجاه الموقف المفترض في اتخاذه ... وفقنا الله وإياكم .
جواب:الحمد لله ...
في اعتقادي ـ والله أعلم ـ أن الحملة العسكرية الداعمة للحملة السياسية ذات أهداف متعددة ولا شك أن أهم أهداف هذه الحملة هي:
1- إسقاط الحكم في العراق وإقامة حكومة بديلة عميلة .
2- السيطرة على منابع النفط لدعم الاقتصاد الأمريكي وتأمين مستقبله.
3- إقامة نموذج للدولة التي يريدونها في المنطقة لتكون قدوة لجيرانها :
أ- دولة مرفهة ( نسبيا ) .
ب- الحريات متاحة، خصوصاً التحرر من القيم والفضيلة، مع قدر من الحرية السياسية التي لا تخرج عن إطار المصالح الأمريكية .
جـ - النفوذ الاستخباراتي الذي يمكن من خلاله أن تكون دولة العرب والمسلمين في نطاق معلوماتها وتحرياتها.
4- حماية أمن إسرائيل ومصالحها وضمان سيطرتها وتفوقها وإقامة مشروع السلام وفق المعايير الشارونية المتطرفة.
5- تدشين ما يسمى بـ ( القرن الأمريكي الجديد ) الذي يشكل امتداداً لعصور الاستعمار بشكل أو بآخر ويكفي أنه يحكم العراق حاكم أمريكي ليكودي !
6- ممارسة نفوذ وضغط فاعل على دول الجوار خاصة في مجال ( التعليم ) و ( المرأة) و ( الإصلاح السياسي ) و ( الإصلاح الاقتصادي ) و ( حقوق الأقليات ) و ( الحرية الدينية )، كما في مصطلحات القوم وربما تشهد دول الخليج كالكويت وقطر والسعودية مزيداً من الضغوط لتغيرات هائلة خصوصاً بعد الحرب ومن ذلك تشريع حقوق المرأة السياسية في الترشيح والانتخاب والممارسة الاجتماعية ... الخ .
7- القرب من المنطقة يتيح لهم رعاية التغيير الذي قد يتم بشكل تلقائي .
8- ومن المهم جداً أن تتم هذه الأهداف دون تضحيات كبيرة، ويقوم بتقديم التضحيات الأطراف المحلية ( العميلة) أو ( الغبية ) .
التوصيات :
1- التوبة والرجوع إلى الله .
2- تحقيق معاني الأخوة الشرعية بصدق .
3- التسامح وإحسان الظن .
4- عدم السماح بالتناقضات الموجودة داخل المجتمع أن تطل برأسها مهما كان نوعها .
5- تقديم الأولويات، وعدم خلط الأمور .
6- مطالبة الدول بتحكيم الشريعة ونشر العدل بين الناس .
7- مطالبة الدول بالتجنيد الإجباري .
8- إقامة المؤسسات الإصلاحية الجادة التي تساهم في بناء المجتمع، وتوظف جهود الشباب في عمل خير فعال .
9- تفهم الظروف والوعي الحاذق بها مما يمهد الوصول إلى حالة ( التوازن ) التي تمنع من الاستسلام للضغوط، وتمنع من أن تتحول الضغوط إلى سبب للصدام بين أطراف المجتمع، وكلا الأمرين مفيد للخصم.
10 ـ وإن كان لي من نصيحة أزجيها لأحبتي من شباب الإسلام ممن يعلم أنني والله أحمل لهم خاصة وللمسلمين عامة الحب والإشفاق والرحمة والصدق والله حسيب الجميع فهو: التحذير بعد التحذير على حرمة الدماء وألا ننقل المعركة إلى أرضنا الإسلامية ولا نستحل دماء إخواننا المسلمين فهذا الباب لا يقبل فيه عذر ولا تأويل بعد وعيد الله ورسوله بنار جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً لمن قتل مؤمناً متعمداً وبعد قول صلى الله عليه وسلم في الحديث:( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ) ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93) ، وعند البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً ) وعند أبي داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً فإذا أصاب دماً حراماً بلّح ) وعنه - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً ) وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) قال خالد بن دهقان سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله : اعتبط بقتله قال : الذين يقاتلون في الفتنة ؛ فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله . يعني: من ذلك . قال أبو داود : فاعتبط يصب دمه صباً.
لا عذر أبداً لا عذر أبداً لا عذر أبداً بل الحرج والإثم وخسار الدنيا والآخرة لمن باء بقتل مسلم كائناً من كان.
ووالله لا يفلح من كان سبباً في قتل مسلم تحت أي تأويل أو شعار فالمسألة محكمة واضحة جلية ويعلم ربنا سبحانه أن الحامل على مثل هذا التأكيد هو استشعار شيء من المسؤولية والتخوف على حاضر هذه الأمة ومستقبلها وعلى أهل ملتنا وديننا .(62/265)
فالله الله أيها الأحبة! في الانضباط وعدم الانجرار إلى معارك يخسر فيها الجميع ألا هل بلغت اللهم فاشهد!
وهذا يصدق على حرمة دم المسلم في العراق أو في الكويت أو في السعودية أو في اليمن أو في أي زمان أو مكان فاللهم احفظ دماء المسلمين وأديانهم وحقق وحدتهم واهد قلوبهم.
سؤال:هل تعتبر المقاطعة بعد مضي هذه الفترة من تجربتها حلا ذا جدوى، وهل تتوقعون نجاحها..؟؟ وما مدى فاعليتها في التحدي الراهن..؟؟
جواب:سلاح المقاطعة الاقتصادية من أهم الأسلحة الفعالة خصوصا في العصر الحديث، حيث تتعاظم قيمة الاقتصاد.
ولذلك نلحظ أن ا لولايات المتحدة استماتت في تدمير المقاطعة العربية والإسلامية للبضائع اليهودية، وللشركات المتعاملة مع اليهود.
وبالفعل فقد تهتكت المقاطعة شيئاً ما، وصارت في بعض المناطق أثراً بعد عين، بسبب أن منظمة التجارة العالمية عملت على محو الحدود بين الدول، وفي هذا الإطار تأتي إزالة الحدود الجمركية، ورفع الدعم عن السلع المحلية.
لكن الشيء الذي يمكن أن يحدث هو المقاطعة الشعبية، بمعنى أن ترتفع وتيرة الوعي لدى الشعوب الإسلامية، بحيث يختار المشتري البضائع والسلع العربية والإسلامية، أو حتى أية بضاعة أخرى غير إسرائيلية ولا أمريكية.
إنه لا أحد يستطيع أن يجبر المواطن العادي على شراء سلعة بعينها، غير أنه من الناحية الواقعية لكي يكون هناك مقاطعة حقيقية وليس شعاراً يرفع لمجرد الاستهلاك، فلا بد من توفر الأسباب التالية :
أ - الوعي الشعبي الشامل، بحيث لا تكون هذه أفكار شريحة خاصة، أو نخبة معينة، ويكون الناس بمعزل عنها، هذه مسؤوليات يتحملها الإنسان العادي، وما لم يكن لديه الوعي والإدراك والقناعة، فلن يكون ثمة مقاطعة.
ب - وجود مؤسسة متخصصة لهذا الغرض، تتولى التذكير الدائم بهذا الموضوع، وتقدم للناس قوائم مستمرة بالسلع المطلوب مقاطعتها، والبدائل التي تقوم مقامها، وتتولى إقناع المشترين بالمميزات الموجودة في السلعة البديلة، وتربط ذلك بالهدف الكبير المتعلق برفع الدعم الشرائي عن السلع الأمريكية واليهودية .
جـ - المرحلية إذ إن الاستغناء عن جميع تلك السلع يعتبر أمراً غير واقعي بالنظر إلى جماهير الناس، وسرعة ركون الناس إلى الرخاء والرفاهية، وعدم جدية الدعوة إلى المقاطعة؛ لذا يمكن ترتيب المقاطعة في مرحليات، على سبيل المثال :
المرحلة الأولى: مقاطعة السلع والبضائع الإسرائيلية، خصوصا في الدول التي تتعامل اقتصادياً مع إسرائيل.
المرحلة الثانية: مقاطعة الشركات التي تتعاون وتدعم الكيان اليهودي، أيا كانت جنسيتها.
المرحلة الثالثة: مقاطعة الشركات الأمريكية المتعاطفة مع اليهود خصوصا الشركات الكبرى والشركات التي يوجد لها بدائل جدية، كشركات السيارات، وشركات الملابس والأغذية الأثاث ولي مقالة بعنوان " المقاومة السلبية هل تنجح " نرسلها إليكم.
سؤال:السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
فضيلة الشيخ حفظك الله سؤالي هو: ما موقفنا تجاه الفتن الموجودة وما يحاك للإسلام والمسلمين..؟؟ على مستوى الأفراد والأسر ..؟؟
جواب:الواجب على المسلم في الفتنة إذا وقعت أن يدرأ عن نفسه ما استطاع .
والفتن إما أن يُعلم وجه الصواب فيها وإما أن تكون فتنة عمياء لا طاعة فيها ولا رجوع إلى رأي رشيد.
والأُولى يدرأ المسلم عن نفسه ويدعو إلى الحق ويعتصم بالكتاب والسنة .
والثانية هي التي يعتزل فيها المسلم وهي التي لا يدري وجه الصواب فيها.
والفتنة تتشابه وتتلاحق ويخفى كثير من خصائها وينبغي على المسلم التروي وعدم التسرع في إطلاق الإحكام والسماع لكل أحد .
وينبغي الرجوع إلى أهل العلم الثقات ) وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم)(النساء: من الآية83)
- عدم الانخداع بالخائضين في الفتنة )وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36) .
- أن يشغل المسلم نفسه بالأعمال الصالحة النافعة .
- أن يعلم المسلم أن النصر لأوليائه وتأخير النصر هو من حكم الله عز وجل في خلقه.
عدم الخوض في أعراض العلماء والطعن فيهم واستغلال المواقف للنيل منهم .
الدعاء والابتهال إلى الله عز وجل في كل حين أن يجيرنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
الإقبال على العبادة والشأن الخاص ( العبادة في الهرج كهجرة إلي ) وعليك بخاصة نفسك وأهل بيتك ومن يلزمك .
وفي خضم التحديات المعاصرة وتكاثر الفتن .. بدأت الأمة تنظر إلى المستقبل من زاوية أحاديث الفتن والملاحم وخروج المهدي والسفياني وقراءة أحداث العصر وفق الأحاديث الكثيرة في الفتن والملاحم وربطها بها!!
وكذلك كثر تأويل الأحلام والرؤى بشكل ملفت للنظر...!!بما يخدم القضية والواقع
ما جدوى مثل هذه الأعمال التي تلبس لباس العلمية والفقه في الدين ... وما توجيهك حيالها..؟؟
((وهل صحيح أن المهدي لا يوجد دليل ثابت لظهوره ...؟؟ ))(62/266)
ورد في شأن المهدي أحاديث، ربما تزيد على مائة، ما بين موضوع ، وضعيف، وحسن. وربما يكون فيها الصحيح، وهو قليل جداً .
منها : حديث علي بن أبي طالب ، مرفوعاً ( المهدي مِنّا - أهلَ البيت - يصلحه الله في ليلة ) رواه أحمد، وابن ماجه، وحسّنه بعضهم لكن سنده ضعيف .
وأحاديث أبي سعيد الخدري، جاء عنه ثلاثة أحاديث في هذا الباب ، خرَّجها الحاكم، وخرَّج بعضها أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وغيرهم .
منها حديث: "يخرج في آخر أمتي المهدي"؛ وهو عند الحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، وفي سنده اختلاف.
ومنها حديث: "المهدي منّي أجلى الجبهة، أقنى الأنف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يملك سبع سنين " رواه أبو داود.
ومنها حديث: ( الرايات السود ) عن ثوبان - رضي الله عنه - مرفوعًا "إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان فأْتوها ولو حبواً، فإن فيها خليفةَ الله المهدي"؛ رواه الحاكم وأحمد وهذا الحديث جاء من طرق كلها ضعيفة، ولا يصح فيه شيء، وإن كان بعضهم تسامح، وصححه بمجموع طرقه، وقد تمسك بهذا الحديث أقوامٌ في دعوى أن المهدي من ولد العباس، وأن الدولة العباسية كان فيها المهدي، وكان هناك من تسمَّى بهذا من خلفائهم ؛ ولذلك قال ابن حزم - وهو أُمويُّ الهوى-:
ومذ لاحت الراياتُ سوداً تبينت … …
جموع الهدى أن لا سبيل إلى الرشد
وكانت رايات بني العباس سوداً، وليس ببعيد أن يكون هذا الحديث الضعيف قد وضع بِرُمّته؛ أو حُرِّفَ لفظه بسبب التعصب لدولة بني العباس.
وحديث أم سلمة - رضي الله عنها - (المهدي من عترتي ، من ولد فاطمة) رواه أبو داود (4284)، وابن ماجه (4086)، وسنده ضعيف، ورجَّح المنذري أنه من كلام سعيد بن المسيَّب .
وهناك أحاديث كثيرة ثابتة في جملتها، وإن كان غالبها لا يصل إلى درجة الصحيح، بل ربما لا يصل إلى درجة الصحيح منها إلا حديث واحد، والحسن فيها قليل - أيضاًَ-، وغالبها ضعيف .
وقد كتب كثير من العلماء في موضوع المهدي، منهم نعيم بن حماد في كتاب: ( الفتن ) ونعيم - وإن كان إماماً في السنة - إلا أنه كثير الوهم، وقد ذكر هذا الدارقطني، والذهبي، وابن حجر، بل قال مسلمة بن القاسم: له أحاديث منكرة في الملاحم، تفرَّد بها .
وصنَّف أبو نعيم الأصفهاني كتاباً في المهدي، ويوسف بن يحيى السلمي كتابا مطبوعاً اسمه : " عقد الدرر " وصنف ابن كثير، والسيوطي، والسخاوي، والصنعاني، والشوكاني، وغيرهم، وخلق من المعاصرين في هذا.
وقد ذكر ابن خلدون في المقدمة : أن المشهور بين الكافة من المسلمين إثبات المهدي، وهذا لا شك أنه هو الصحيح؛ فإن جماهير أهل العلم والأئمة قالوا بثبوت أحاديث المهدي، من حيث الجملة، وإن كان غالب الأحاديث فيها لا يخلو من مقال، وهناك من نصَّ على تواتر هذه الأحاديث - أيضاً-، خصوصاًَ من المتأخرين، كما أن هناك من نُقل عنه إنكار أحاديث المهدي كلها .
فقد نقل عن مجاهد إنكار هذا، وادعاء أن المهدي هو المسيح ابن مريم, وجاء في هذا حديث ( لا المهدي إلا عيسى ابن مريم) عند ابن ماجه، والحاكم وهو ضعيف، وكذلك نقل عن الحسن البصري، كما أن ابن خلدون ممن أنكر هذا ونفاه.
وأما من المتأخرين، فالشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود, ومحمد محي الدين عبد الحميد وغيرهم.
وخلاصة ما مضى: أنه جاء في السنة أحاديث كثيرة جداً، مترددة ما بين الموضوع والضعيف، والحسن، ويقلُّ فيها الصحيح، وأن الإيمان بخروج المهدي وظهوره أمر ثابت في الجملة .
وأهل السنة يؤمنون برجل من آل بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يخرج في آخر الزمان خروجاً طبعياً، يولد كما يولد غيره، ويعيش كما يعيش غيره، وربما يقع منه الخطأ، ويحتاج إلى إصلاحٍ مثل غيره من الناس، ثم يكتب الله على يديه خيراً كثيراً، وبرًّا، وصلاحاً للأمة، وعدلاً، ويجمع الله به شمل المسلمين.
ليس هناك أكثر من هذا؛ كما هو وارد في الأحاديث .
ولم يرد في أيِّ نص من النصوص أننا متعبدون بانتظاره، أو ترقُبه، بل لا ينبغي لأي مسلم أن يقبل مثل هذا الادعاء بمجرد الاشتباه؛ حتى تقوم الأدلة الكافية فإن المدعين كثير، منذ فجر التاريخ.
والمسلم مطالب بالتثبت، والتحري، والأناة، وألا يستعجل الأمور بمجرد الرغبة أو الهوى النفسي.
ولا يتوقف على خروجه أي شعيرة شرعية نقول إنها غائبة حتى يأتي الإمام المهدي، فلا صلاة الجمعة ، ولا الجماعة ، ولا الجهاد ، ولا تطبيق الحدود ، ولا الأحكام ، ولا شيء من ذلك مرهون بوجوده ؛ بل المسلمون يعيشون حياتهم ، ويمارسون عباداتهم ، وأعمالهم ، ويجاهدون ، ويصلحون ، ويتعلمون ، ويُعلِّمون ، فإذا وُجد هذا الإنسان الصالح ، وظهرت أدلته القطعية - التي لا لَبْس فيها - اتّبعوه . وعلى هذا درج الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وتتابع على هذا أئمة العلم على تعاقب العصور . ففكرة سيطرة الترقب ، والانتظار ، والمبالغة بهذا أمر حادث .
وقد كتبت حول هذا الموضوع ثلاث حلقات , يمكن مراجعتها في موقعنا ( الإسلام اليوم ) (islamtoday.net) بعنوان (الانتظار عقدة أم عقيدة) .(62/267)
سؤال:وسائل الدعوة مهمة جدا في مرحلة التحدي التي نعيشها ... ما السبب في بقاء وسائل الدعوة الإسلامية على بدائتها القديمة وعدم وجود هيئات خاصة للتطوير والابتكار واقتحام تقنيات العصر الحديث بمهارة واقتدار وتخريج مخرجين ومذيعين ومنظرين وشعراء وخطباء ورسامين ...إلخ يحملون الهم الإسلامي ويقدمون الحلول..؟؟
جواب:لا شك أننا الآن في عصر المعلوماتية , أصبحت المجتمعات فيه مكشوفة بلا حدود . والعالم كله كأنه في حلبة سباق يبدو فيها العالم الإسلامي غير مؤهل للمنافسة .
ولذلك بالنسبة للدعوة ؛ فيجب العناية بتكريس الخصائص الإسلامية العقدية منها والسلوكية , ودعم هذه الخصائص من خلال العمل المؤسسي الاقتصادي , والإعلامي , والتربوي الموجه لجمهور الأمة , الواصل إلى عمقها , فلا يصح أن يكون خطابنا حديثاً مع النفس , ولا مهامسة من شريحة منتخبة .
ـ نحن ملزمون بقراءة الواقع قراءة صحيحة , وأن نتعامل معه تعاملاً شرعياً , يعتمد على الأصول والقواعد ومحكمات النصوص , لا على الذوق والعاطفة وحكم الطبع .
نحن ملزمون برعاية أدب الخلاف , وحفظ الحقوق , ومراعاة طبيعة الموقف الذي يتهيأ له المسلمون , والذي يطلب من الغيورين تقديم جوانب الجمع القائمة في المنهج الشرعي الواحد على جوانب التفريق والتخالف . وأن نحكم أصول الشريعة التي يجتمع عليها , ونفصلها عن ساحة الاجتهاد في التوعيات والوسائل والأساليب التي تقبل التنوع والتعددية .
ووسائل الاتصال , والإعلام والمعلومات , والتقنية يجب أن تكون طيعة في أيدي المؤمنين لو أرادوا وصمموا , لكن الملاحظ مع كون العالم الإسلامي يملك ثروات هائلة , ومع كون هذه التقنية سهلة التحصيل إلا أن توظيفها لا يزال ضعيفاً بالمقارنة بالأعمال الإغاثية أو بناء المساجد .
وفي تقديري: أن العمل الدعوي والتربوي والتعليمي هو الأساس الذي يتفرع عنه ما سواه .
وأدوات الدعوة خاضعة لقسمة العبادات في الشريعة , فكما أن العبادات منها ما هو قُرَبٌ محضة , يصلح لها دين الناس , وهذه توقيفية , كلاً وتفصيلاً كالصلاة مثلاً . ومنها ما هو عادات وعبادات تصلح بها الدنيا , وهذه عفوية بشرية , الأصل فيها الإذن والإباحة " ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (يونس:59) ولهذا كانت دائرة المباح أوسع دوائر الشريعة .
والوسائل والأدوات جملة من هذا النوع , فلا حظر فيها إلا بدليل .
وكلما تفتقت الأذهان عن عبادة جديدة , فهو الابتداع , أو عن وسيلة جديدة فهو الإبداع . وقديماً قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز : يجدُّ للناس من الأقضية بقدر ما يجدّ لهم من الفجور .
سؤال:المؤامرة...!! إلى أي مدى لعبت دورها في تحريك مشاعر المسلمين ، وتعبئة طاقات الغضب والحذر، وهل كانت فكرة تعميمها صحية ، أم أنها أدت إلى غرس بذرة الخوف والعجز والخمول الفكري في رد كل ظاهرة إلى سببها الحقيقي...؟
وهل العداء بين الإسلام واليهود والنصارى أزلي وديمومي ، وهل هو شامل لكل من انتسب لهذه الديانات ..؟؟ كيف يمكن للعقل المسلم أن ينظر في مثل هذه القضية نظرة معتدلة ووسطية تمكنه من التصرف السديد والقويم.؟؟ بعيدا عن الغفلة القاتلة والاندفاع الأهوج؟؟
جواب:من الواجب علينا أن نفرق دائماً بين ( الوعي ) وبين (الإحساس بالمؤامرة ) . فالوعي موقف ذهني صادق , مبني على شواهد ويقينيات , ومعرفة الإنسان موقعه على خارطة الأحداث . والإحساس بالمؤامرة شعور نفسي يقصد فيه صاحبه تبرئة نفسه واتهام العدو .
وفي تقديري أننا لو ألفنا موسوعات , وأقمنا مؤسسات , هدفها اتهام العدو ؛ فإننا لم نصنع شيئاً أكثر من الإمعان في الخطأ والسلبية , لأننا لن نصحح , ما دمنا لم نعترف بخطئنا وتقصيرنا , وعدم مراجعتنا لا تراجعنا .
والقرآن كما هو معروف يثبت طرائق الأعداء وكيدهم ومكرهم , ولكنه يؤكد أنها تذهب هباء منثوراً , ولا تضر شيئاً عندما تواجه بمسلمين يصبرون ويتقون . وتقرر معنا سابقاً أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
الخطاب الإسلامي المعاصر ، هل يفتقر إلى الدقة في توصيف الظواهر ووضع الحلول الواقعية ..؟ ولماذا يقع في بعض الأحيان في شرك التصنيف والعمومية ..؟؟ وهل لدور ومحاضن التربية دور في تخريج جيل لايرى إلا فكر من تربى على أيديهم ، وأصبحت كلمات من مثل " علماني " و " حداثي " و " قومي " سهلة لوصف أي شخص يخالفهم بها..؟
وكيف لنا أن نعيد ترتيب أوراقنا التربوية للخروج من هذه الإشكالية التي بات يرددها كثيرون ممن لهم حوارات مع الصحوة..؟؟
بالنسبة للخطاب الإسلامي فكثيراً ما يتهم بالاختزالية والعاطفية والسطحية وغير ذلك .(62/268)
ومن البدهيات أن أصحاب الخطاب الإسلامي هم بشر من الناس , لم يحرمهم الله عز وجل من التفكير , ونعمة العقل وخص به غيرهم ؛ بل نحن على قناعة أن من تشبع بهذا الدين وثوابته وأصوله وحقائقه يملك مقدرة في تحليل ما حوله , بما عنده من هذه المعطيات الحقّة , بيد أن ثمت عوامل تؤثر في الاهتمامات وترتيب الأولويات منها :
حجم المتغيرات , ونضج التجربة العلمية والعملية , ومدى الشعور بالمسئولية , وقدر المصداقية مع الله ومع النفس ومع الناس . وهذه العوامل من شأنها أن تؤثر على أي تصور أو تعديل أو تصحيح لدى أي فرد أو جماعة أو حتى دولة .
والخطاب الإسلامي يعاني في بعض الأحيان من العمومية والإطلاقات والانتقائية بل والمثالية التي خرجت عن الواقع ولذلك فملاحظاتي حول الخطاب الإسلامي تتلخص فيما يلي :
1 ـ من المفترض أن يكون لدى أصحاب الخطاب الإسلامي وضوح في المنهج , ومعرفة المقاصد الكبرى للإسلام , والبعد عن الرمزية ومحدودية التفكير . والوعي بحقيقة الدعوة وتفهم السنن الشرعية والكونية في مناهج التغيير والإصلاح .
2 ـ من المتعين أن نكون على وعي بإدراك الإمكان الشرعي والواقعي الذي نعيش فيه , وأن يكون القدر الذي يريده أصحاب الخطاب الإسلامي متناسباًَ مع واقع من يخاطبون , وليس مثالياً متعالياً يولد أزمة عن محاولته .
3 ـ من الأساسيات: العناية ببناء الإيمان في القلوب , والتأسيس للعمل الصالح , ولغة الأمر بالمعروف ينبغي أن تكون هي الأصل في خطابنا مع العناية بأصول الإسلام , وعِصَمِه الكبار , هذا هو الأهم تحقيقه من عباد الله .
4 ـ في الحديث الذي رواه مسلم : "الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة " وهذا المعنى على مستوى التطبيق للأمر الشرعي أيضاً , لذلك من المهم أن ندرك أن الأمة وإن كان فيها نزّاع من الأخيار الأبرار , وطبقة من أهل العلم إلا أن جمهورها يغلب عليه الجهل والتقصير مع خير كثير , ولذا ينبغي وضع ذلك في الحسبان وألا يكون الخطاب لشريحة منتقاة دون غيرها .
5 ـ عندما يكون صاحب الخطاب الإسلامي مدركاً أنه لا يستعمل الأوراق الأخيرة والنفس النهائي عند إصلاحه للواقع ؛ فهو ـ هنا ـ يتخلص من كثير من الأخطاء التي تكتب النهاية للعمل قبل البدء فيه .
6 ـ أيضاً من الحكم الشرعية ـ فيما أرى ـ أن يتخلص الخطاب الإسلامي من اللغة الواحدة , فيختزل أزمات الأمة كلها في الواقع السياسي فقط , أو الاقتصادي فقط . ونمط آخر خص خطابه الإسلامي بأهل الخير والصلاح لأنهم متفاعلون , وهذا النوع قد يؤدي إلى فصل المجتمع الإسلامي إلى طبقات , تعيش العزلة والصراع الشعوري أحياناً ـ بين أهل الصحوة وباقي المجتمع المسلم الذي يتمتع بالخيرية أيضاً .
7 ـ إنه من المهم على محاضن التربية أن تربي الشباب وسواد المسلمين عموماً على قواعد الشرع الصحيحة .
وأصوله وكلياته ومقاصده العظام . وعلى توقير واحترام كل من جعل هذا الدين همه , وقصد هدي الرسو صلى الله عليه وسلم في دعوته حسب ما أمكنه .
ومن المهم أن يعلم شباب الصحوة أن أهل العلم ليس ممكناً ألا يقولوا إلا صواباً , فهم ليسوا معصومين . لكن لا يجمع الله الأمة على خطأ , ومن أكبر مقاصد الشريعة جمع القلوب على الدين والهدى .
8 ـ علماء الإسلام الكبار يعلم لهم قدرهم لكن الهدى هدى صلى الله عليه وسلم , فكل كلام سوى كلام المعصوم r يقبل النظر والمراجعة والخطأ , وما زال علماء الملة يتراجعون ويختلفون .
لكنهم كانوا أبعد شيء عن فساد العبارة , أو رداءة اللغة , أو التمرس على أسلوب المصادرة والتكفير والتخوين وهذه سيرهم وحياتهم وأقوالهم ... وفي عصرهم كان الكفر قائماً والنفاق موجوداً , بل في محكم التنزيل ( مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ). وفيه قال (اعدل يا محمد ) وأستأذن أحد الصحابة في قتله فقال صلى الله عليه وسلم : لعله أن يكون يصلي ... فما بال بعض إخواننا اليوم أصبح التكفير لغة دارجة عندهم , وهو شر من القتل , ففي الصحيح : " لعن المؤمن كقتله "... فما بالك بتكفيره إذاً ؟
سؤال:ما رأي فضيلة لشيخ فيمن يرى أن الأحداث الأخيرة التي مرت بالمسلمين أدت إلى تغيير طريقة تعاملهم مع غير المسلمين إلى استخدام اللين والحوار، والانتقال في فنيات التعامل إلى الحوار بدلا من التكفير والهجوم المباشر.,؟؟ وهل هو الطريق الأمثل في التحديات المعاصرة.؟(62/269)
جواب:منذ بزوغ فجر الرسالة والمسلمون يتلون قوله تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ )(النحل: من الآية125) وقوله : " (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8) , ويتلون قوله تعالى : " (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (المائدة:78) وقوله تعالى : " (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120) فاللين والحوار موجود ويقدر بقدره , كذلك الحرب والدفاع عن النفس موجود وله تقديراته أيضاً .
لكن تستطيع أن تقول إن الأحداث وسعت دائرة سؤال الغرب عن الإسلام , ونهمهم إلى معرفة أي شيء عنه , وهذه فرصة كبرى للمسلمين لبيان هذا الدين الشامل المانع , وبيان محاسنه لا أن نظهر منه جانباً واحداً فقط .
سؤال:هناك من ينادي بالتقارب بين المذاهب الإسلامية عن طريق الحوار من أجل وحدة الكلمة ما رأي فضيلتكم بهذا وما هي الطرق التي يمكن أن يكون فيها تقارب بين المذاهب الإسلامية..؟؟وهل تفرقها سبب في ضعف الأمة..؟؟
جواب:لا أدري هل المقصود بالمذاهب الإسلامية : المذاهب الفقهية ؛ الحنابلة والشافعية والأحناف والمالكية أم تقصد الشيعة والإباضية وغيرها . إن كانت الأولى فالخلاف بين المذاهب الفقهية إنما هو خلاف في الفروع الذي يسعنا فيه ما وسعهم ولم يوجب ذلك بينهم تقاطعاً ولا تدابراً ولا إحناً . وإن كنت تقصد الثانية فقد سبقت إجابة سابقة عن الشيعة , ووجوب الدعوة والنصح لكل مسلم من أهل القبلة .
ومسائل الاعتقاد ليست قضايا تجارية يتخلى كل طرف عن جزء من المال ليتم اللقاء في منتصف الطريق , لكن المجادلة والمناظرة العلمية الهادفة هي أسلوب من أساليب الدعوة والبيان .
سؤال:لماذا هذا التأليب على الشيعة والدعوة إلى الطائفية من بعض المشايخ
أليسوا مسلمين والتعايش الأخوي معهم أفضل لأننا جميعا من وطن واحد ودين واحد
والتعايش الأخوي معهم فيه أمن لوطننا واستتباب لأمننا وبالتالي تفرغ لمشاكلنا
الأكبر؟ وهل الحوار مع الشيعة عبر المنتديات ، والرد عليهم طريقة سليمة..؟؟
جواب:هناك نقاط مهمة عن الشيعة يجب التنبيه لها :
ـ الشيعة من أسمائهم : الرافضة والإمامية , وغالب الشيعة اليوم هم من الإمامية .
ـ الاثنا عشرية أساس اعتقادهم القول بعصمة أئمتهم وهم على باطل لا ينضبط .
ومن أسس مذهبهم سب الصحابة وذمهم , وكثير منهم يكفرونهم , والسب له صور :
ـ سب هو كفر , كرمي الصحابة بالنفاق أو الردة .
ـ سب يستحق صاحبه التفسيق أو التعذير .
ـ ومنه صورة مترددة بين ذلك .
لكن تكفير جميع الصحابة كفر .
ومما ينبغي التنبيه له أن الحكم على المقالة ليس بالضرورة حكماً على المنتسبين إليها ـ ولا غرابة في ذلك لماذا ؟
ـ لأنه يوجد في كتبهم أقوال متناقضة متباينه كالقول بتحريف القرآن , ويوجد أيضاً القول بكفر من قال بتحريف القرآن .
والحكم على الطائفة والفرد المعين مبني على معرفة كونهم يقولون بهذا ويعتقدونه أم لا ؟
ـ كثير من أصحاب المذاهب قد يجهلون مذهبهم ولا يعرفون تفاصيله بل ولا جمله وقواعده أحياناً . وقد يندهشون عندما تخبره أن هذا المعتقد مثلاً من عقائدهم , فيندهش لذلك ويستبشعه . ومن هنا يأتي سؤال الكثير منهم لماذا تعادون وتجادلون الشيعة وهم إخوانكم ؟!
والحكم على المعين بالكفر يجب أن يتوفر فيه الشروط وتزول الموانع كما قرر ذلك ابن تيمية رحمه الله.
والدعوة إلى الله واجبة قدر الاستطاعة لقوله تعالى : )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(النحل: من الآية125) .
وغيرها من الآيات هذه الآيات ) وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ)(الحج: من الآية67) )يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ )(المائدة: من الآية67) .هذه الآيات تدل على دعوة الناس كافة مسلمين وكفار ولا يملك أحد أن يستثني من هذا العموم , أو يخصص فئة بأنها لا توجه إليهم الدعوة .
إذا تقرر هذا فالدعوة لا تجامع الهجر , وتستدعي المجالسة , والمحادثة والصبر , والمعاملة بالحسنى ؛ رجاء فتح القلب , ومن تأمل دعوة الرسول علم ذلك .
ويمكن القول بوجود ثلاثة أصناف في أهل البدع : ( مسلمون , ومنافقون, وكفار )
- فالمسلمون هم الملتزمون بأصول الإسلام , وإن كان عندهم مخالفات وبدع لكنها ليست مكفرة , كتفضيل عليّ على عثمان .
- والمنافقون هم الموافقون للمسلمين ظاهرا ً, ويبطنون الكفر , كمن يبطن تكفير الصحابة أجمعين , ويظهر عدم ذلك.(62/270)
- والفئة الثالثة هم: الكفار المعلنون بعقائد كفرية صريحة كألوهية على بن أبي طالب .
فهذه العقائد إن ثبتت على شخص ونطق بها , وجب استتابته , فإن أصرّ بعد بيان الحجة عليه , فهو خارج مرتد عن اسم الإسلام
==============(62/271)
(62/272)
قيم حضارية
محمد مسعد ياقوت
إهداء ..
إلى الهادي الأمين ....
النبي محمد صلى الله عليه وسلم ،
الذي سبه من جهله .. وأحبه من عرفه ..
يا رسول الله : أرجو أن تقبل هديتي يا حبيب الله !
محمد ياقوت
"إن محمداً صلى الله عليه وسلمهذا الرجل الملهم ،
الذي أقام الإسلام ،
ولد في قبيلة عربية تعبد الأصنام،
ولد يتيماً محباً للفقراء والمحتاجين والأرامل واليتامى والأرقاء والمستضعفين .
وقد أحدث محمد( r ) بشخصيته الخارقة للعادة ثورة في شبه الجزيرة العربية وفى الشرق كله .
فقد حطم الأصنام بيديه ،
وأقام ديناً يدعو إلى الله وحده ،
ورفع عن المرأة قيد العبودية التي فرضتها تقاليد الصحراء ،
و نادى بالعدالة الاجتماعية وقد عرض عليه في آخر أيامه أن يكون حاكماً بأمره ، أو قديساً ،
ولكنه أصر على أنه ليس إلا عبداً من عباد الله أرسله إلى العالم منذراً وبشيراً"
(جيمس متشنر(
ملخص البحث
يهدف هذا البحث إلى إظهار أهم الأعمال الحضارية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، بإسلوب سهل وبلغة يفهما الغرب ..
فيعرض الباحث إلى دور النبي صلى الله عليه وسلم في الارتقاء بمستوى الإنسان من عصور الجاهلية والتخلف إلى حياة التحضر والتمدن، من خلال ما قام به صلى الله عليه وسلم من القضاء على الوثنية، ونشر قيم العدالة والمساوة والحب والإخاء والتسامح والحوار، ودور صلى الله عليه وسلم في تحرير المرأة من الوأد ورق الجاهلية والمتاجرة بجسدها إلى الحياة الإسلامية الكريمة التي تعلي من شأن المرأة . هذا إلى جانب دور النبي صلى الله عليه وسلم في إعلاء حقوق الإنسان بصفة عامة، و نشر ثقافة السلام في مجتمع الجزيرة العربية الغارق في براثن الحروب والمعارك القبلية ..
ويتوصل الباحث إلى عدة نتائج أهمها، أن صلى الله عليه وسلم أعاد للإنسان اعتباراته وحقوقه، وأن ل صلى الله عليه وسلم الفضل الأكبر في مكافحة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية القائمة على الطبقية والتمييز العرقي ..
ويوصي الباحث ـ ضمن ما يوصي ـ بضرورة الاهتمام بترجمة سيرة صلى الله عليه وسلم إلى اللغات الحية بصورة جديدة وعصرية تناسب عقلية الغرب .و الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم ممن يشوهون صورته، فالنبي صلى الله عليه وسلم قيمة إنسانية ضخمة، وإهانتها إهانة للبشرية جمعاء .
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
عندما ظهرت الحملة الإعلامية المغرضة التي قامت بها إحدى الصحف في دولة الدنمرك، حين عمدوا إلى رسم صلى الله عليه وسلم برسومات كاريكاتورية سيئة، وكان غرضهم من ذلك محاولة تشويه صورته .. فكرتُ ، كيف أنصر صلى الله عليه وسلم لاسيما وأنا باحث وداعية إسلامي أمارس الكتابة والخطابة ..
لم أستغرق وقتاً كبيراً في التفكير في اختيار أفضل وسيلة يمكنني أن أنصر بها النبي الحبيب r فقد ذهب فكري سريعاً في كتابة بحث أو دراسة علمية عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقلت في نفسي لما لا أعرض لأهم أعمال صلى الله عليه وسلم بشكل مبسط وبأسلوب يتفق مع لغة الغرب الذي يتشدق بالحديث في قيم ضخمة كالمساواة والعدالة والإخاء ..
فلما لا أحصى أهم الأعمال الإنسانية الكبيرة التي أفاد بها النبي صلى الله عليه وسلم بني البشر، والقيم الحضارية التي نشرها في ربوع العالم ؟
نحن نحتاج إلى عرض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بشكل جديد تعرّف ب صلى الله عليه وسلم وبدعوته تعريفاً بسيطاً و صحيحاً ، وتدحض المزاعم والشبهات التي تثار حوله، بشكل مختصر ومباشر، وكل ذلك بلغة يسيرة وعصرية مناسبة، تصلح للنشر في ديار الغرب وتفتح لهم آفاق الحقيقة ..
ولقد كان كثير من الصحابة ـ رضي الله عنهم ، أيام جاهليتهم يسرفون في سب وشتم صلى الله عليه وسلم نظراً للتعتيم الإعلامي الذي كانت تمارسه قريش على الرأي العام في الجزيرة ضد دعوة صلى الله عليه وسلم ، فضلاًَ عن الصورة المشوهة التي كان ينشرها صناديد قريش عن شخص الرسو صلى الله عليه وسلم ، حتى أصبح القاصي والداني يسمع فقط عن غلام قريش الكذاب الذي يدعي النبوة، وأن من الواجب اللغو والتشويش على دعوته ...
لكن بمجرد أن يتعرف هؤلاء الناس على شخص صلى الله عليه وسلم ويحدثونه ويحدثهم ، سرعان ما تنكشف الحقيقة .. وتتجلى الشمس الجميلة في خدرها..
وأأمل من الله ـ تعالى ـ أن يهدي هؤلاء الذين أساؤا إلى صلى الله عليه وسلم لصبحوا لساناً يدعو إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم . كما كان سهيل بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ لساناً ضد صلى الله عليه وسلم ، ثم هداه الله تعالى، فأصبح سهيل خطيب النبي صلى الله عليه وسلم
أهمية البحث :
تنبع أهمية هذا البحث ؛ من كونه رسالة تعريف مبسطة لنبي الإسلام في وقت تكالبت فيه الأقلام المسمومة والألسنة الحاقدة للنيل من مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم .(62/273)
والدراسة إذ تُّسْهم بمحاولة توضيح صورة نبي الإسلام للعالم، تنطلق من الإيمان بأهمية شهادات العلماء الغربيين المنصفين لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم
فرب شهادة باحث غربي أوقع في قلوب الغربيين من نصوص إسلامية كثيرة ! أسباب اختيار موضوع البحث :
من أسباب اختيار موضوع البحث، أنه يأتي في سياق إظهار الجانب الحضاري والإنساني في شخص النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، والذي يغفله أو يجهله الكثير من الغربيين .. نرى هذا واضحاً في كتابتهم ووسائل إعلامهم .
ومما دفعني أيضاً للكتابة في هذا الموضوع أيضاً؛ قلة الكتابات والأبحاث التي تتحدث عن الجوانب الإنسانية والحضارية في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
مشكلة البحث :
يمكن صياغة مشكلة البحث في عدة أسئلة، يقوم البحث بالإجابة عنها، وتتمثل في :
2. هل للنبي صلى الله عليه وسلم دور في تحضر الإنسانية، والقضاء على عصور الظلام والتخلف ؟
3. ما هو دور النبي صلى الله عليه وسلم في نشر قيم العدالة المساواة والحب والإخاء والتسامح الديني بين الناس ؟
4. كيف حرر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة من رق الجاهلية إلى كرامة الإسلام ؟
5. ما هو دور النبي صلى الله عليه وسلم في نشر رسالة السلام بين الشعوب ؟
6. ما هو الدور الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم لدعم ورعاية حقوق الإنسان ؟
أهداف البحث:
يهدف البحث إلى تحقيق عدة أهداف أهمها :
2. الوقوف على شمائل الرسو صلى الله عليه وسلم الإنسانية، وإيصالها إلى شعوب الغرب .
3. بيان دور صلى الله عليه وسلم في الارتقاء بمستوى الكائن البشري.
حدود البحث :
يدور هذا البحث حول شمائل وفضائل الرسو صلى الله عليه وسلم من خلال التركيز على مواقف السيرة النبوية وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأقوال المفكرين والباحثين من غير المسلمين، والتي تظهر الأعمال الحضارية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم
منهج البحث :
استخدم الباحث المنهج الوصفي التحليلي، من خلال تناول النصوص المتعلقة بوضوع الدراسة، واستخرج ما فيها من مضامين، والعمل على تصنيفها، ومن ثم إدراجها تحت العناوين الخاصة بها، والمعبر عنها في أسئلة الدراسة.
الدراسات السابقة :
لم يعثر الباحث على دراسة علمية قائمة بذاتها، تتعرض لكشف الجوانب الحضارية والإنسانية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، باستثناء الكتابات التي تتناول شمائل الرسو صلى الله عليه وسلم بصفة عامة، والكتابات التي تأصل لمبادىء حقوق الإنسان في الإسلام ..
خطة البحث :
يتكون البحث من مقدمة وتمهيد وعشرة مباحث وخاتمة وقائمة المصادر والمراجع
مقدمة البحث : وتتكون من أهمية البحث وأسباب اختياره، ومشكلة البحث، وأهدافه وحدوده ومنهجه..
تمهيد: تحت عنوان : صلى الله عليه وسلم وأهم أعماله الحضارية، وفيه تعريف موجز بالنبي صلى الله عليه وسلم وأهم أعماله الحضارية ..
المبحث الأول: نشر عقيدة التوحيد في ربوع العالم.
المبحث الثاني : الارتقاء بالعرب من مستوى القبيلة إلى مستوى الأمة.
المبحث الثالث : نشر قيم العدالة والمساواة
المبحث الرابع : نشر قيم الحب والإخاء
المبحث الخامس: نشر التسامح الديني
المبحث السادس : مبادرة النبي صلى الله عليه وسلم للحوار بين الحضارات
المبحث السابع: تكريم المرأة وتحريرها من رق الجاهلية
المبحث الثامن : مكافحة الفقر
المبحث التاسع :المعاهدات الداعمة للسلام
المبحث العاشر : خدمة الإنسانية ورعاية حقوق الإنسان
الخاتمة : تشتمل على نتائج البحث وتوصياته ومقترحاته ..
محمد مسعد ياقوت - بلطيم، مصر
yakut.blogspot.com
yakoote@gmail.com
+20104420539
تمهيد
صلى الله عليه وسلم وأهم أعماله الحضارية
محل وتاريخ الميلاد :
"في مكة . . أبصر النور طفل لم يمرّ ببال أمة، ساعة ولادته، أنه سيكون أحمد أعظم الرجال في العالم بل في التاريخ، ولربما أعظمهم إطلاقًا.."(1).
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ، القرشي والذي يمتد نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ ..
وولد النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول، لأول عام من حادثة الفيل.
يقول جون وليام دريبر :
"ولد في مكة بجزيرة العرب عام 569م، بعد أربع سنوات من موت "جوستنيان الأول"، الرجل الذي كان له ـ من دون جميع الرجال ـ أعظم تأثير على الجنس البشري.. وهو محمد"(2).
حال العالم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم :
"بينما كان العالم الشرقي والعالم الغربي بفلسفاتهما العقيمة يعيش في دياجير ظلام الفكر وفساد العبادة، بزغ من مكة المكرمة في شخص محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نور وضاء؛ أضاء على العالم فهداه إلى الإسلام"(3).(62/274)
فقد وُلد النبي صلى الله عليه وسلم والبشرية تُعاني الأمرّين من صنوف الجهل والتخلف والانحطاط الخلقي والحضاري .. العرب في الجزيرة العربية كانوا يعبدون الأصنام ويقتلون البنات ويتكسبون من وراء الزنى والدعارة .. أما الشعب الفارسي فقد أدمن عبادة النار كما أدمن عبادة الطاغية كسرى الذي كرث الطبقية والكراهية بين صفوف الشعب الفارسي .. وهذا هرقل أجج الخلاف الطائفي بين الرومان فأخذ يذّبح من يخالفه في المذهب، فضلاً عن فساد السلطة الرومانية الحاكمة مالياً وإدارياً وسياسياً .. حتى وصل بهم الحد أن فرضوا ضريبة على الشعوب تسمى " ضريبة الرأس" .. وهي ضريبة يدفعها المواطن نظير ترك رأسه دون ذبح !
وهكذا كان العالم يموج بالظلم والتخلف .. إلى أن أرسل الله ـ تبارك وتعالى ـ هذا الصادق الأمين محمد صلى الله عليه وسلم
ويبين هنري ماسيه(4) أن "بفضل إصلاحات محمد صلى الله عليه وسلم الدينية والسياسية، وهي إصلاحات موحدة بشكل أساسي، فإن العرب وعوا أنفسهم وخرجوا من ظلمات الجهل والفوضى ليعدّوا دخلوهم النهائي إلى تاريخ المدنية"(5)..
نشأته وشبابه :
نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في بيت جده عبد المطلب زعيم مكة، ومن ثم نال صلى الله عليه وسلم حظاً وافراً من الفطنة والفكر السديد، ومعايشة قضايا العالم ومشكلاته ونزاعاته .. فطالع النبي صلى الله عليه وسلم صحائف البشرية وأحوال القبائل والجماعات والأحلاف، وقد كان صلى الله عليه وسلم في ذروة الإيجابية مع قضايا أمته ، فهو عضو في " حلف الفضول " للدفاع عن حقوق الإنسان ورفض كل صور الظلم وأكل الحقوق بالباطل .. كما إنه حكم عدل في فض النزاعات والمشكلات التي تحدث بين القبائل والعائلات .. كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعزهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عَرِيكة، وأعفهم نفسًا وأكرمهم خيرًا، وأبرهم عملًا، وأوفاهم عهدًا، وآمنهم أمانة حتى سماه قومه : [ الأمين ] لما جمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال الطيبة .. إنه ـ ببساطة شديدة ـ كما وصفته زوجته خديجة ـ رضي الله عنها ـ ، يصل الرحم، ويحمل الكل، ويُكسب المعدوم، ويُقري الضيف، ويُعين على نوائب الدهر(6) .. وبقدر ما كان من إيجابية النبي صلى الله عليه وسلم في شبابه بقدر ما كان ينفر من مظاهر الجاهلية السائدة في المجتمع .. فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح قرباناً للأصنام، ولا يحضر للأوثان عيدًا ولا احتفالاً، ولا يشارك في أي طقوس دينية لهذه الأصنام ، بل كان من أول نشأته نافراً من هذه المعبودات الباطلة، حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها، وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف بهذه الأصنام ..!
ويتحدث توماس كارلايل (7)عن شباب صلى الله عليه وسلم قائلاً:
"لوحظ على محمد صلى الله عليه وسلم منذ [صباه] أنه كان شابًا مفكرًا وقد سمّاه رفقاؤه الأمين - رجل الصدق والوفاء - الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره. وقد لاحظوا أنه ما من كلمة تخرج من فيه إلا وفيها حكمة بليغة. وإني لأعرف عنه أنه كان كثير الصمت يسكت حيث لا موجب للكلام، فإذا نطق فما شئت من لبّ.. وقد رأيناه طول حياته رجلاً راسخ المبدأ صارم العزم بعيد الهم كريمًا برًّا رؤوفًا تقيًا فاضلاً حرًا، رجلاً شديد الجدّ مخلصًا، وهو مع ذلك سهل الجانب لين العريكة، جمّ البشر والطلاقة حميد العشرة حلو الإيناس، بل ربما مازح وداعب، وكان على العموم تضيء وجهه ابتسامة مشرقة من فؤاد صادق.. وكان ذكي اللب، شهم الفؤاد.. عظيمًا بفطرته، لم تثقفه مدرسة ولا هذبه معلم وهو غني عن ذلك.. فأدى عمله في الحياة وحده في أعماق الصحراء"(8).
ويقول الباحث والمستشرق البلجيكي ألفرد الفانز ، في كتابه علم النفس : عن أخلاق صلى الله عليه وسلم وأمانته وزواجه من خديجة :
"شب محمد صلى الله عليه وسلم حتى بلغ ، فكان أعظم الناس مروءة وحلماً وأمانة ، وأحسنهم جواباً، وأصدقهم حديثاً ، وأبعدهم عن الفحش حتى عرف في قومه بالأمين ، وبلغت أمانته وأخلاقه المرضية خديجة بنت خويلد القرشية ، وكانت ذات مال ، فعرضت عليه خروجه إلى الشام في تجارة لها مع غلامها ميسرة ، فخرج وربح كثيراً ، وعاد إلى مكة وأخبرها ميسرة بكراماته ، فعرضت نفسها عليه وهي أيم ، ولها أربعون سنة ، فأصدقها عشرين بكرة، وتزوجها وله خمسة وعشرون سنة، ثم بقيت معه حتى ماتت "(9).
و"صدع الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة نحو عام 610م وعمره يوم ذاك أربعون سنة، وكان مثل إخوانه الأنبياء السابقين [عليهم السلام] ولكن كان أفضل منهم بما لا نسبة فيه.. وكان زاهدًا وفقيهًا ومشرعًا ورجلاً عمليًا.."(10).
النبوة والوحي(62/275)
من المعروف أنمحمدا صلى الله عليه وسلم قدم نفسه للعالم على أنه نبي مرسل من قبل الله عز وجل، فما صلى الله عليه وسلم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، ومن ثم لسنا كالذين يتحدثون عن شخصية صلى الله عليه وسلم على أنه عبقري وفقط، أو مصلح وفقط .. بل نتحدث عن صلى الله عليه وسلم على أنه نبي من عند الله بالأساس، قد جمع الله فيه صفات العباقرة وأخلاق المصلحين وذكاء المفكرين ..
ولقد اختار اللهمحمدا صلى الله عليه وسلم ليكون خاتم الأنبياء ـ عليهم السلام ـ، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم سن الأربعين، نزل المَلَك جبريل ـ عليه السلام ـ على صلى الله عليه وسلم وهو في الغار بأول آيات القرآن الكريم، وكانت أول كلمة وأول تكليف من الله ل صلى الله عليه وسلم بكلمة "أقرأ"، لأهمية القراءة والعلم في بناء ونهضة الأمم والإنسانية ..
ولقد أخبرت التوراة والإنجيل عن بعثة صلى الله عليه وسلم بشكل صريح تارة وبشكل فيه تعريض تارة أخرى :
ففي بشارة سفر العدد: ورد في قصة بلعام بن باعوراء أنه قال: "انظروا كوكباً قد ظهر من آل إسماعيل، وعضده سبط من العرب، ولظهوره تزلزلت الأرض ومن عليها". . قال المهتدي الإسكندراني: "ولم يظهر من نسل إسماعيل إلا صلى الله عليه وسلم ، وما تزلزلت الأرض إلا لظهور صلى الله عليه وسلم . حقا إنه كوكب آل إسماعيل، وهو الذي تغير الكون لمبعث صلى الله عليه وسلم ، فقد حرست السماء من استراق السمع، وانطفأت نيران فارس، وسقطت أصنام بابل، ودكت عروش الظلم على أيدي أتباعه.".
وقد حُرف هذا النص في الطبعات المحدثة إلى: "يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من إسرائيل، فيحطم موآب، ويهلك من الوغى".
وفي سفر التثنية لما هُزمت جيوش بني إسرائيل أمام العمالقة، توسل موسى إلى الله سبحانه وتعالى مستشفعاً ب صلى الله عليه وسلم قائلاً: "اذكر عهد إبراهيم الذي وعدته به من نسل إسماعيل أن تنصر جيوش المؤمنين، فأجاب الله دعاءه ونصر بني إسرائيل على العمالقة ببركات صلى الله عليه وسلم " وقد استبدل هذا النص بالعبارات التالية: "اذكر عبيدك إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولا تلتفت إلى غلاظة هذا الشعب وإثمه وخطيئته" ولا يمكن أن يكون هذا الدعاء - الذي في النص الأول - قد صدر من موسى عليه السلام، لأنه ينافي كمال التوحيد.
وقال يوحنا في الفصل الخامس عشر من إنجيله إن المسيح ـ عليه السلام ـ قال: "إن الفارقليط الذي يرسله أبي باسمي يعلمكم كل شيء" وقال - أيضا - في الفصل السادس عشر: "إن الفارقليط لن يجيئكم مالم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه شيئاً، لكنه يسوسكم بالحق كله، ويخبركم بالحوادث والغيوب"(11).
ويقول إنجيل برنابا: "سيأتي مسيا (أي الرسول) المرسل من الله لكل العالم،.. وحينئذ يسجد لله في كل العالم وتنال الرحمة.."(12)
ويقول عيسى ـ عليه السلام ـ في إنجيل برنابا ـ أيضاً ـ : "لأن الله سيصعِّدني من الأرض وسيغير منظر الخائن حتى يظنه كل أحد إيّاي. ومع ذلك فإنه حين يموت شر ميتة أمكث أنا في ذلك العار زمنًا طويلاً في العالم ولكن متى جاء محمد رسول الله المقدس تزال عني هذه الوصمة" (13).
هذا، وقد شهد بنبوة صلى الله عليه وسلم رجلات اليهودية، كأمثال الحبر عبد الله بن سلام، ورجلات النصرانية كورقة بن نوفل ..
ليكونا حجة على كل يهودي أو نصراني إلى قيام الساعة !
كما شهد بنبوة صلى الله عليه وسلم كبار المفكرين والباحثين في العصر الحديث ..
فيقول واشنجتون إيرفنج :
"كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وأعظم الرسل الذين بعثهم الله ؛ ليدعوا الناس إلى عبادة الله"(14)..
ويثبت مارسيل بوازار نبوة صلى الله عليه وسلم بإسلوب عقلاني وعلمي بكلمات بليغة رشيقة .. فيقول :(62/276)
"منذ استقر النبي محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة، غدت حياته جزءًا لا ينفصل من التاريخ الإسلامي. فقد نقلت إلينا أفعاله وتصرفاته في أدق تفاصيلها.. ولما كان منظمًا شديد الحيوية، فقد أثبت نضالية في الدفاع عن المجتمع الإسلامي الجنيني، وفي بث الدعوة.. وبالرغم من قتاليته ومنافحته، فقد كان يعفو عند المقدرة، لكنه لم يكن يلين أو يتسامح مع أعداء الدين. ويبدو أن مزايا النبي الثلاث، الورع والقتالية والعفو عند المقدرة قد طبعت المجتمع الإسلامي في إبان قيامه وجسّدت المناخ الروحي للإسلام.. وكما يظهر التاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم قائدًا عظيم ملء قلبه الرأفة، يصوره كذلك رجل دولة صريحًا قوي الشكيمة له سياسته الحكيمة التي تتعامل مع الجميع على قدم المساواة وتعطي كل صاحب حق حقه. ولقد استطاع بدبلوماسيته ونزاهته أن ينتزع الاعتراف بالجماعة الإسلامية عن طريق المعاهدات في الوقت الذي كان النصر العسكري قد بدأ يحالفه. وإذا تذكرنا أخيرًا على الصعيد النفساني هشاشة السلطان الذي كان يتمتع به زعيم من زعماء العرب، والفضائل التي كان أفراد المجتمع يطالبونه بالتحلي بها، استطعنا أن نستخلص أنه لابدّ أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم الذي عرف كيف ينتزع رضا أوسع الجماهير به إنسانًا فوق مستوى البشر حقًا، وأنه لابد أن يكون نبيًا حقيقيًا من أنبياء الله"(15).
وبتلقائية شديدة، يثبت أميل درمنغم نبوة صلى الله عليه وسلم ، فيقول :
".. ولد لمحمد صلى الله عليه وسلم،[من مارية القبطية] ابنه إبراهيم فمات طفلاً، فحزن عليه كثيرًا ولحده بيده وبكاه، ووافق موته كسوف الشمس فقال المسلمون: إنها انكسفت لموته، ولكن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان من سموّ النفس ما رأى به ردّ ذلك فقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد..". فقول مثل هذا مما لا يصدر عن كاذب دجال.."(16) .
وبنفس المنطق يقول لايتنر (17) :
" بقدر ما أعرف من دينيْ اليهود والنصارى أقول بأن ما علمه محمد صلى الله عليه وسلم ليس اقتباسًا بل قد أوحي إليه به ولا ريب بذلك طالما نؤمن بأنه قد جاءنا وحي من لدن عزيز عليم. وإني بكل احترام وخشوع أقول: إذا كان تضحية الصالح الذاتي، وأمانة المقصد، والإيمان القلوب الثابت، والنظر الصادق الثاقب بدقائق وخفايا الخطيئة والضلال، واستعمال أحسن الوسائط لإزالتها، فذلك من العلامات الظاهرة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه قد أوحي إليه"(18).
أما لورافيشيا فاغليري فيقول :
"حاول أقوى أعداء الإسلام، وقد أعماهم الحقد، أن يرموا نبي الله صلى الله عليه وسلم ببعض التهم المفتراة. لقد نسوا أن محمدًا كان قبل أن يستهل رسالته موضع الإجلال العظيم من مواطنيه بسبب أمانته وطهارة حياته. ومن عجب أن هؤلاء الناس لا يجشمون أنفسهم عناء التساؤل كيف جاز أن يقوى محمد صلى الله عليه وسلم على تهديد الكاذبين والمرائين، في بعض آيات القرآن اللاسعة بنار الجحيم الأبدية، لو كان هو قبل ذلك [وحاشاه] رجلاً كاذبًا ؟ كيف جرؤ على التبشير، على الرغم من إهانات مواطنيه، إذا لم يكن ثمة قوى داخلية تحثه، وهو الرجل ذو الفطرة البسيطة، حثًا موصولاً ؟ كيف استطاع أن يستهل صراعًا كان يبدو يائسًا ؟ كيف وفق إلى أن يواصل هذا الصراع أكثر من عشر سنوات، في مكة، في نجاح قليل جدًا ، وفي أحزان لا تحصى، إذا لم يكن مؤمنًا إيمانًا عميقًا بصدق رسالته ؟ كيف جاز أن يؤمن به هذا العدد الكبير من المسلمين النبلاء والأذكياء، وأن يؤازروه، ويدخلوا في الدين الجديد ويشدوا أنفسهم بالتالي إلى مجتمع مؤلف في كثرته من الأرقاء، والعتقاء، والفقراء المعدمين إذا لم يلمسوا في كلمته حرارة الصدق ؟ ولسنا في حاجة إلى أن نقول أكثر من ذلك، فحتى بين الغربيين يكاد ينعقد الإجماع على أن صدق محمد صلى الله عليه وسلم كان عميقًا وأكيدًا"(19).
ويكشف روم لاندو زيف المكذبين لنبوة صلى الله عليه وسلم بقوله :
"كانت مهمة محمد صلى الله عليه وسلم هائلة. كانت مهمة ليس في ميسور دجال تحدوه دوافع أنانية، وهو الوصف الذي رمى به بعض الكتاب الغربيين المبكرين الرسول العربي صلى الله عليه وسلم أن يرجو النجاح في تحقيقها بمجهوده الشخصي، إن الإخلاص الذي تكشف عنه محمد صلى الله عليه وسلم في أداء رسالته، وما كان لأتباعه من إيمان كامل في ما أنزل عليه من وحي، واختبار الأجيال والقرون، كل أولئك يجعل من غير المعقول اتهام محمد صلى الله عليه وسلم بأيّ ضرب من الخداع المتعمد. ولم يعرف التاريخ قط أي تلفيق (ديني) متعمد استطاع أن يعمر طويلاً. والإسلام لم يعمر حتى الآن ما ينوف على ألف وثلاثمائة سنة وحسب، بل إنه لا يزال يكتسب، في كل عام، أتباعًا جددًا. وصفحات التاريخ لا تقدم إلينا مثلاً واحدًا على محتال كان لرسالته الفضل في خلق إمبراطورية من إمبراطوريات العالم وحضارة من أكثر الحضارات نبلاً"(20).
أهم أعماله الحضارية:
يقول فيليب حتي : "(62/277)
إذا نحن نظرنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم من خلال الأعمال التي حققها، فإن محمدًا الرجل والمعلم والخطيب ورجل الدولة والمجاهد يبدو لنا بكل وضوح واحدًا من أقدر الرجال في جميع أحقاب التاريخ. لقد نشر دينًا هو الإسلام، وأسس دولة هي الخلافة، ووضع أساس حضارة هي الحضارة العربية الإسلامية، وأقام أمة هي الأمة العربية. وهو لا يزال إلى اليوم قوة حية فعالة في حياة الملايين من البشر"(21).
و الحق ـ كما يقول إميل درمنغم (22) ـ "أن صلى الله عليه وسلم لم يعرف الراحة ولا السكون بعد أن أوحي إليه في غار حراء، فقضى حياة يعجب الإنسان بها، والحق أن عشرين سنة كفت لإعداد ما يقلب الدنيا، فقد نبتت في رمال الحجاز الجديبة حبة سوف تجدد، عما قليل، بلاد العرب وتمتد أغصانها إلى بلاد الهند والمحيط الأطلنطي. وليس لدينا ما نعرف به أن محمدًا r أبصر، حين أفاض من جبل عرفات، مستقبل أمته وانتشار دينه، وأنه أحس ببصيرته أن العرب الذين ألّف بينهم سيخرجون من جزيرتهم لفتح بلاد فارس والشام وأفريقية وإسبانية"(23).
ونستطيع أن ونوجز أهم الأعمال الحضارية التي قدمها النبي صلى الله عليه وسلم للبشرية في عدة نقاط، على النحو التالي :
1- نشر عقيدة التوحيد في ربوع العالم.
2- الارتقاء بالعرب من مستوى القبيلة إلى مستوى الأمة.
3- نشر قيم العدالة والمساواة
4- نشر قيم الحب والإخاء
5- نشر ثقافة التسامح الديني
6- مبادرة النبي صلى الله عليه وسلم للحوار بين الحضارات!
7- تكريم المرأة وتحريرها من رق الجاهلية
8- مكافحة الفقر
9-المعاهدات الداعمة للسلام
10- خدمة الإنسانية ورعاية حقوق الإنسان.
وهذه الأعمال هي ما سنفصل فيها القول في هذا البحث ـ إن شاء الله ـ ..
هوامش التمهيد :
2. جوستنيان الأول جوستنيان الأول: في خطى محمد ، ص 42.
3. جون وليام دريبر : تاريخ التطور الفكري الأوروبي، المجلد الأول، ص 229، 230 . ( و جوستنيان الأول هو جوستنيان أويوستنيانوس (483 - 565م)، الإمبراطور البيزنطي الشهير، الذي جمع الشرائع الرومانية ودونها )
4. إبراهيم خليل أحمد: محمد في التوراة والإنجيل والقرآن ، ص 47.
5. هنري ماسيه : ولد عام 1886، عمل مديرًا للمعهد الفرنسي بالقاهرة، وعين أستاذًا في جامعة الجزائر (1916-1927)، وعضوًا في مجمع الكتابات والآداب وفي المجمع العلمي العربي بدمشق، وانتدبته الحكومة لعديد من المهام الثقافية واختارته اليونسكو في لجنة المستشرقين.من آثاره: نشر كتابًا عن الشاعر (سعدي) (1919)، وصنف كتابًا بعنوان: (الإسلام) (1957)، كما ترجم وحقق العديد من النصوص العربية، ونشر العديد من الأبحاث في المجلات الاستشراقية الشهيرة.
6. هنري ماسيه : الإسلام ، ص 55.
7. انظر: صحيح البخاري، باب بدء الوحي، ج 1، ص 5 ، وصحيح مسلم، باب بدء الوحي إلى رسول الله ،ص 381.
8. توماس كارلايل( 1795 - 1881 ) الكاتب الإنجليزي الشهير، من أعماله (الأبطال) (1940)، وقد عقد فيه فصلاً رائعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، (الثورة الفرنسية) ..الخ.
9. توماس كارلايل : الأبطال ، ص50، 51.
10. انظر:الفرد فانز : علم النفس، نقلاً عن : محمد شريف الشيباني : الرسول في الدراسات الاستشراقية المنصفة،ص 17.
10-جورج سارتون : الثقافة الغربية في رعاية الشرق الأوسط ، ص 29، 30 ،31.
11-انظر: محمد بن عبد الله السحيم: أعظم إنسان في الكتب السماوية.
12-إنجيل برنابا ،( 82 : 16 - 18) ..نقلاًعن : محمد في التوراة، ص 105.
13-إنجيل برنابا ،(80: 112 - 16 ) نقلاًعن : محمد في التوراة ، ص 141.
14- إميل درمنغم: حياة محمد ، ص 72.
15-مارسيل بوازار: إنسانية الإسلام ، ص 46.
16- إميل درمنغم :حياة محمد ، ص318.
17-لايتنر : باحث إنكليزي، حصل على أكثر من شهادة دكتوراه في الشريعة والفلسفة واللاهوت، وزار الأستانة عام 1854، كما طوف بعدد من البلاد الإسلامية والتقى برجالاتها وعلمائها.
18-لايتنر : دين الإسلام ، ص 4 ، 5 .
19-فاغليري : دفاع عن الإسلام ، ترجمة: منير بعلبكي، ص37، 38.
20-أرنولد توينبي: الإسلام والعرب والمستقبل، ترجمة: نبيل صبحي الطويل ص33، 34.
21-فيليب حتى :الإسلام منهج حياة ، ص56.
22-إميل درمنغم E.De r menghem مستشرق فرنسي، عمل مديرا لمكتبة الجزائر، من آثاره: "حياة محمد"، و"باريس 1929"، وهو من أدق ما صنفه مستشرق عن النبي صلى الله عليه وسلم ، و"محمد والسنة الإسلامية"، "باريس 1955"..
23-إميل درمنغم :حياة محمد، ترجمة : محمد عادلزُعَيْتِر.
المبحث الأول : نشر عقيدة التوحيد في ربوع العالم
يقول نظمي لوقا (1) :
"أي الناس أولى بنفي الكيد عن سيرته من "أبي القاسم" صلى الله عليه وسلم الذي حول الملايين من عبادة الأصنام الموبقة إلى عبادة الله رب العالمين، ومن الضياع والانحلال إلى السموّ والإيمان، ولم يفد من جهاده لشخصه أو آله شيئًا مما يقتتل عليه طلاب الدنيا من زخارف الحطام"(2).(62/278)
فبعدما كانت عبادة الأصنام والأشخاص والنار والأبقار هي العبادة الأساسية المسيطرة على الشعوب، أصبحت عبادة الله ـ تبارك وتعالى ـ هي العبادة السائدة وأكثر انتشاراً، وبذلك يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أعاد دين إبراهيم وموسى والمسيح عيسى ـ ابن مريم ـ عليهم السلام، إلى الحياة مرة أخرى، بعدما حُرف الدين الحق (دين الأنبياء) من قبل الأنظمة الغابرة المستبدة، التي استعبدت الشعوب ومحقت هوية الإنسان، ومسخت فطرته ..
إن عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم البارزة للعيان ، تكمن في أنه كان حامل رسالة سماوية توحيدية ، تهدف أساساً إلى إصلاح حياة البشرية عامة، و نقلها من البربرية والوثنية إلى الحضارة التوحيدية اليقينية .. يقول مؤلف "قصة الحضارة" ـ الباحث الأمريكي وول ديوارنت ـ :
" كان صلى الله عليه وسلم نبياً كبيرا، و توحيدياً كاملاً و لم يكن له نظير جاء لإصلاح البشر "(3) .
ولقد بذل النبي صلى الله عليه وسلم مجهوداً ضخماً في سبيل نشر التوحيد ودحر الوثنية وعبادة البشر.. يبين ذلك واشنجتون إيرفنج بقوله :
"لقي الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل نشر الإسلام كثيرًا من العناء، وبذل عدة تضحيات. فقد شك الكثير في صدق دعوته، وظل عدة سنوات دون أن ينال نجاحًا كبيرًا، وتعرض خلال إبلاغ الوحي إلى الإهانات والاعتداءات والاضطهادات، بل اضطر إلى أن يترك وطنه ويبحث عن مكان يهاجر إليه هنا وهناك وتخلى عن كل متع الحياة وعن السعي وراء الثراء من أجل نشر العقيدة"(4).
ويؤكد ذلك هنري دي فاستري بقوله : ".. ولقد نعلم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم مرّ بمتاعب كثيرة وقاسى آلامًا نفسية كبرى قبل أن يخبر برسالته، فقد خلقه الله ذا نفس تمحّضت للدين ومن أجل ذلك احتاج إلى العزلة عن الناس لكي يهرب من عبادة الأوثان ومذهب تعدد الآلهة الذي ابتدعه المسيحيون وكان بغضهما متمكنًا من قلبه وكان وجود هذين المذهبين أشبه بإبرة في جسمه صلى الله عليه وسلم ولعمري فيم كان يفكر ذلك الرجل الذي بلغ الأربعين وهو في ريعان الذكاء ومن أولئك الشرقيين الذين امتازوا في العقل بحدة التخيّل وقوة الإدراك.. إلا أن يقول مرارًا ويعيد تكرارًا هذه الكلمات "الله أحد الله أحد". كلمات رددها المسلمون أجمعون من بعده وغاب عنا معشر المسيحيين مغزاها لبعدنا عن فكرة التوحيد.."(5).
ودخل الرسو صلى الله عليه وسلم في صراع مع أصحاب النزعات الرجعية كما يبين لورافيشيا فاغليري بقوله : "دعا الرسول العربي صلى الله عليه وسلم بصوت ملهم باتصال عميق بربه، دعا عبدة الأوثان وأتباع نصرانية ويهودية محرّفتين على أصفى عقيدة توحيدية. وارتضى أن يخوض صراعًا مكشوفًا مع بعض نزعات البشر الرجعية التي تقود المرء إلى أن يشرك بالخالق آلهة أخرى.."(6).
وإن المبهر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه هدّم الأصنام بأيد من صنعوها وعبدوها .. وهذا لاشك من دلائل نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم
فلما دخل صلى الله عليه وسلم مكة ـ في يوم فتحها ـ متجهاً إلى البيت، وحوله ثلاثمائة وستون صنماً ، فجعل يطعنها الواحدة تلو الأخرى بعود في يده ، وهو يقول:
" جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ، جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد" (7) .
وكان في جوف الكعبة أيضا أصناماً فأبى أن يدخل وفيها الآلهة ، وأمر بها فأخرجت وأخرجت صور لإبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام ، فقال صلى الله عليه وسلم :
"قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط ."ثم دخل البيت فكبر في نواحي البيت (8).
إنه لا يكسر الأصنام بيديه بل يكسرها بيد من عبدوها !
ولا يطمس صور البهتان على الأنبياء بل يطمسها الذين رسموها ..!
وفيما يلي نذكر مجموعة من المشاهد التي تؤكد أن صلى الله عليه وسلم نجح في تحطيم أصنام الجاهلية، حتى حطمها في قلوب من عبدوها !
1ـ لما اطمأن رسول ا صلى الله عليه وسلم بعد الفتح؛ بعث خالد بن الوليد إلى صنم العزى لخمس ليال بقين من شهر رمضان ـ سنة 8 هـ ـ ليهدمها وكانت بنخلة، وكانت لقريش وجميع بني كنانة وهي أعظم أصنامهم . وكان سدنتها بني شيبان، فخرج إليها خالد في ثلاثين فارسًا حتى انتهى إليها، فهدمها (9).
2ـ ثم بعث الرسو صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في نفس الشهر إلى الصنم سواع ليهدمه وهو صنم لهذيل برهاط، على قرابة 150 كيلوا مترا شمال شرقي مكة، فلما انتهى إليه عمرو قال له السادن : ما تريد ؟ قال : أمرني رسول ا صلى الله عليه وسلم أن أهدمه قال : لا تقدر على ذلك قال : لم ؟ قال تمنع قال : حتى الآن أنت على الباطل ؟ ويحك فهل يسمع أو يبصر ؟ ثم دنا فكسره، وأمر أصحابه فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا فيه شيئا، ثم قال للسادن : كيف رأيت ؟ قال : أسلمت لله . !! (10).
3ـ وفي الشهر نفسه بعث سعد بن زيد بن الأشهلي في عشرين فارسًا إلى الصنم مناة وكانت بالمشلل عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم، فلما انتهى سعد إليها قال له سادنها : ما تريد ؟ قال : هدم مناة، قال : أنت وذاك (11).(62/279)
أرأيت كيف تحول حال هؤلاء الصحابة من أناس يقدسون الأصنام والأوثان إلى رجال موحدين، وقادة فاتحين، وعلماء ومفكرين .. ؟ !
وهكذا كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كما وصفه جورج حنا بإنه " كان ثائرًا، عندما أبى أن يماشي أهل الصحراء في عبادة الأصنام وفي عاداتهم الهمجية وفي مجتمعهم البربري. فأضرمها حربًا لا هوادة فيها على جاهلية المشركين وأسيادهم وآلهتهم. فكفره قومه واضطهدوه وأضمروا له الموت. فهاجر تحت جنح الليل مع نفر من أتباعه، وما تخلى عن النضال في نشر دعوته، وما أحجم عن تجريد السيف من أجلها. فأخرج من جاهلية الصحراء عقيدة دينية واجتماعية تجمع بين مئات الملايين من البشر في أقطار المعمورة"(12)
وهكذا، كان ل صلى الله عليه وسلم الفضل الأعظم في دحر الوثنية التي طالما سقطت بمستوى الإنسان إلى دركات الحيوانية، حيث عبادة الأصنام والأبقار والفروج .. !
هوامش المبحث الأول :
3. نظمي لوقا :مسيحي من مصر. يتميز بنظرته الموضوعية وإخلاصه العميق للحق. ورغم إلحاح أبويه على تنشئته على المسيحية منذ كان صبيًا، فإنه كثيرًا ما كان يحضر مجالس شيوخ المسلمين ويستمع بشغف إلى كتاب الله وسيرة الرسول عليه السلام. بل إنه حفظ القرآن الكريم ولم يتجاوز العاشرة من عمره. ألف عددًا من الكتب أبرزها (محمد الرسالة والرسولل)، و(محمد في حياته الخاصة).
4. نظمي لوقا: محمد في حياته الخاصة ، ص 12.
5. وول ديورانت : قصة الحضارة، نقلا عن: الإسلام مبدأ و عقيدة ص 48.
6. إميل درمنغم: حياة محمد، ص 300.
7. هنري دي فاستري: الإسلام: خواطر وسوانح ، ص16، 17
8. فاغليري : دفاع عن الإسلام ، ترجمة: منير بعلبكي، ، ص 43.
9. انظر: ابن كثير: السيرة النبوية، 3\ 573، والبداية والنهاية 4\ 346 ، محمد سعيد رمضان البوطي : فقه السيرة، 266.
10. المصدر السابق.
11. انظر : صفي الرحمن المباركفوري : الرحيق المختوم ، 471.
12. انظر : المصدر السابق.
13. انظر : المصدر السابق
12-جورج حنا : قصة الإنسان ، ص 25.
المبحث الثاني : الارتقاء بالعرب من مستوى القبيلة إلى مستوى الأمة
تقول ايقلين كوبولد:
"كان العرب قبل محمد صلى الله عليه وسلم أمة لا شأن لها ولا أهمية لقبائلها ولا لجماعتها، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بعث هذه الأمة بعثًا جديدًا يصح أن يكون أقرب إلى المعجزات فغلبت العالم وحكمت فيه آجالاً وآجالاً.... لقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم القيام بالمعجزات والعجائب، لَمّا تمكن من حمل هذه الأمة العربية الشديدة العنيدة على نبذ الأصنام وقبول الوحدانية الإلهية.. لقد وفّق إلى خلق العرب خلقًا جديدًا ونقلهم من الظلمات إلى النور"(1).
ولقد كانت الحياة العربية قبل الإسلام تقوم أساساً على نمطية خاصة، فالقبيلة هي التنظيم الاجتماعي والسياسي الذي يضمم حياة الفرد في القبيلة ، فكان انتماء العربي الجاهلي انتماء قبلياً ، وليس هناك أية رابطة عملية توحد القبائل وتجمعها ، بل على العكس كانت القبائل متناحرة متحاربة ، وإذا ما قامت أحلاف قبلية ، فلمناصرة قبيلة على أخرى ، وبالتحديد كانت القبيلة العربية تشكل وحدة سياسية مستقلة . .
ومن هنا كان الانقلاب الذي أحدثه الرسول صلى الله عليه وسلم عميقاً في حياة الجزيرة العربية إذ استطاع بسياسته الكفاحية التي تمليها روح الإسلام أن يحول هذه الوحدات القبلية المستقلة ويرتقى بها لتظهر في إطار الأمة الإسلامية (2)
هذا، ويناقش المستشرق الفرنسي مارسيل بوازار فكرة « الأمة الإسلامية » ومغايرتها المفهوم الغربي، فيقول :
"ليس لفكرة " الأمة " الإسلامية مقابل في فكر الغرب ولا في تجربته التاريخية . فالجماعة الإسلامية، وهى تجّمع من المؤمنين يؤلف بينهم رباط سياسي وديني في آن واحد، ويتمحورون حول كلام الله القدسي ... و الفرد يندمج في الإسلام بالجماعة المؤمنة بالتساوي عن طريق شهادته، الفردية واستبطان إرادته وصفاته الخاصة كمؤمن، فالنية المعلنة والجهر بالكلام شرطان من شروط الانتماء إلى المجتمع . وبصورة تلازمية يحدد الامتثال لمشيئة الله البنية الاجتماعية . وهكذا تكون النظم التأسيسية للجماعة مشروطة بالعبادة الواجبة عليها نحو الله "(3).
وهكذا، فإن " الإمة الإسلامية" ـ القائمة على الإيمان ـ التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم كانت ولا زالت أقوى رباطاً وأوثق عرى من فكرة القبلية التي سادت في القرون الغابرة ..
ويؤكد ذلك المفكر الألماني رودي بارت(4) بقوله :
"كان العرب يعيشون منذ قرون طويلة في بوادي وواحات شبه الجزيرة، يعيثون فيها فسادًا. حتى أتى محمد صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإيمان بإله واحد، خالق بارئ، وجمعهم في كيان واحد متجانس"(5).
ويقول رودي بارت ، في موضع آخر:(62/280)
"جاء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، النبي العربي وخاتمة النبيين، يبشر العرب والناس أجمعين، بدين جديد، ويدعو للقول بالله الواحد الأحد، كانت الشريعة [في دعوته] لا تختلف عن العقيدة أو الإيمان، وتتمتع مثلها بسلطة إلهية ملزمة، تضبط ليس الأمور الدينية فحسب، بل أيضًا الأمور الدنيوية، فتفرض على المسلم الزكاة، والجهاد ضد المشركين.. ونشر الدين الحنيف.. وعندما قبض النبي العربي صلى الله عليه وسلم، عام 632م، كان قد انتهى من دعوته، كما انتهى من وضع نظام اجتماعي يسمو كثيرًا فوق النظام القبلي الذي كان عليه العرب قبل الإسلام، وصهرهم في وحدة قوية، وهكذا تم للجزيرة العربية وحدة دينية متماسكة، لم تعرف مثلها من قبل.."(6).
هذا، ولقد أثار موضوع فضل الرسول صلى الله عليه وسلم على العرب، اهتمام المنصفين، فهو الذي وحد الجزيرة العربية أول مرة في التاريخ في ظل حكم إسلامي ، متنور نقل العرب من الجاهلية إلى الحضارة والمدنية.. يقول الباحث الروسي آرلونوف في مجلة الثقافة الروسية ، في مقالة "النبي محمد صلى الله عليه وسلم" جاء فيها :
"في شبه جزيرة العرب المجاورة لفلسطين ظهرت ديانة أساسها الاعتراف بوحدانية الله ، وهذه الديانة تعرف بالمحمدية أو كما يسميها أتباعها الإسلام، وقد انتشرت هذه الديانة انتشاراً سريعاً، و مؤسس هذه الديانة هو العربي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قضى على عادات قومه الوثنية، ووحد قبائل العرب، وأثار أفكارهم وأبصارهم بمعرفة الإله الواحد، وهذب أخلاقهم ولين طباعهم وقلوبهم وجعلها مستعدة، للرقي والتقدم، ومنعهم من سفك الدماء ووأد البنات، وهذه الأعمال العظيمة التي قام بها محمد صلى الله عليه وسلم تدل على أنه من المصلحين العظام، وعلى أن في نفسه قوة فوق قوة البشر، فكان ذا فكر نير ، وبصيرة وقيادة، واشتهر بدماثة الأخلاق، ولين العريكة، والتواضع وحسن المعاملة مع الناس، قضى محمد صلى الله عليه وسلم أربعين سنة مع الناس بسلام وطمأنينة، وكان جميع أقاربه يحبونه حباً جماً، وأهل مدينته يحترمونه احتراماً عظيماً، لما عليه من المبادئ القويمة، والأخلاق الكريمة، وشرف النفس، والنزاهة " (7)
وهكذا فإن فضل الرسول صلى الله عليه وسلم على العرب لا حد له، إذ أخرجهم من الجاهلية إلى نور الإسلام، يقول المستشرق الأيرلندي المستر هربرت وايل في كتابه : "المعلم الكبير" :
"بعد ستمئة سنة من ظهور المسيح ظهر محمد صلى الله عليه وسلم فأزال كل الأوهام ، وحرم عبادة الأوهام ، وكان يلقبه الناس بالأمين ، لما كان عليه من الصدق والأمانة وهو الذي أرشد أهل الضلال إلى الصراط المستقيم " (8)
ويضيف هنري سيروي أن "محمداً صلى الله عليه وسلم لم يغرس في نفوس الأعراب مبدأ التوحيد فقط، بل غرس فيها أيضًا المدنية والأدب"(9).
ويتحدث الباحث الأمريكي جورج دي تولدز( 1815-1897) ، عن فضل الرسول صلى الله عليه وسلم على العرب حين نقلهم من الهمجية إلى المدنية، وعن دور الرسالة في تبديل أخلاق عرب الجاهلية ، حين عمر ضياء الحق والإيمان قلوبهم ، فيقول :
" إن من الظلم الفادح أن نغمط حق محمد صلى الله عليه وسلم، و العرب على ما علمناهم من التوحش قبل بعثته، ثم كيف تبدلت الحالة بعد إعلان نبوته ، وما أورته الديانة الإسلامية من النور في قلوب الملايين من الذين اعتنقوها بكل شوق وإعجاب من الفضائل ، لذا فإن الشك في بعثة محمد صلى الله عليه وسلمإنما هو شك في القدرة الإلهية التي تشمل الكائنات جمعاء"(10) .
ويؤكد ذلك م. ج. دُرّاني (11) بقوله:
".. وأخيراً أخذت أدرس حياة النبي محمد [ صلى الله عليه وسلم ] فأيقنت أن من أعظم الآثام أن نتنكر لذلك الرجل الرباني الذي أقام مملكة لله بين أقوام كانوا من قبل متحاربين لا يحكمهم قانون، يعبدون الوثن، ويقترفون كل الأفعال المشينة، فغير طرق تفكيرهم، لا بل بدل عاداتهم وأخلاقهم، وجمعهم تحت راية واحدة وقانون واحد ودين واحد وثقافة واحدة وحضارة واحدة وحكومة واحدة، وأصبحت تلك الأمة، التي لم تنجب رجلاً عظيمًا واحدًا يستحق الذكر منذ عدة قرون، أصبحت تحت تأثيره وهديه تنجب ألوفًا من النفوس الكريمة التي انطلقت إلى أقصى أرجاء المعمورة تدعو إلى مبادئ الإسلام وأخلاقه ونظام الحياة الإسلامية وتعلم الناس أمور الدين الجديد"(12).
وتقول الشاعرة الإنكليزية اللايدي إيفلين كوبرلد في كتابها : " الأخلاق " :(62/281)
"لعمري لقد استطاع محمد صلى الله عليه وسلمالقيام بالمعجزات والعجائب، لما تمكن من حمل هذه الأمة العربية الشديدة العنيدة على نبذ الأصنام، وقبول الوحدانية الإلهية ، ولقد كان محمد صلى الله عليه وسلم شاكراً حامداً إذ وفق إلى خلق العرب خلقاً جديداً ، ونقلهم من الظلمات إلى النور ، ومع ذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم سيد جزيرة العرب، وزعيم قبائلهم ، فإنه لم يفكر في هذه ، ولا راح يعمل لاستثمارها ، بل ظل على حاله ، مكتفياً بأنه رسول الله، وأنه خادم المسلمين، ينظف بيته بنفسه، ويصلح حذاءه بيده، كريماً باراً كأنه الريح السارية، لا يقصده فقير أو بائس إلا تفضل عليه بما لديه، وكان يعمل في سبيل الله والإنسانية " (13).
كان فضل النبي صلى الله عليه وسلم على العرب من العمق وبُعد الأثر لا يحصره زمان أو يحده مكان ، عاشته أمة الإسلام وما زالت وسيظل باقياً خالداً. يقول الباحث قسطاكي حمصي (1858-1941) :
"إذا كان سيد قريش نبي المسلمين ومؤسس دينهم ، فهو أيضا نبي العرب ومؤسس جامعتهم القومية ، وكما أنه من الحمق والمكابرة أن ننكر أن ما لسيد قريش من بعيد الأثر في توحيد اللهجات العربية ، وقتل العصبيات الفرعية في نفوس القبائل ، بعد أن أنهكها القتال في قتال الصحراء ، و تناحر ملوكها في الشام والعراق تناحراً أطال أمد الحماية الرومانية والفارسية في البلدين الشقيقين حتى الفتح الإسلامي . فمن الخطأ أن ننكر ما للرسول العربي الكريم وخلفائه من يد على أن الشرق ، في إثارة تلك الحماسة والبطولة النادرة المتدفقة في صدور أولئك الصحب الميامين، الذين كانوا قابعين في حزون الجزيرة وبطاحها، في سبيل الفتح، والمنافحة لتحرير الشرق من رق الرومان وأسر الفرس .إن سيد قريش هو المنقذ الأكبر للعرب من فوضى الجاهلية ، وواضع حجر الزاوية في صرح نهضتهم الجبارة المتأصلة في تربة الخلود " (14) .
ويبين آرنولد توينبي(15) أن النبي محمداً قد كرّس حياته لتحقيق رسالته في كفالة مظهرين أساسيين في البيئة الاجتماعية العربية؛ هما الوحدانية في الفكرة الدينية، والقانون والنظام في الحكم. "وتم ذلك فعلاً بفضل نظام الإسلام الشامل الذي ضم بين ظهرانيه الوحدانية والسلطة التنفيذية معًا.. فغدت للإسلام بفضل ذلك قوة دافعة جبارة لم تقتصر على كفالة احتياجات العرب ونقلهم من أمة جهالة إلى أمة متحضرة.. بل تدفق الإسلام من حدود شبه الجزيرة، واستولى على العالم السوري بأسره من سواحل الأطالسي إلى شواطئ السهب الأوراسي " (16) .
وصدق رسول ا صلى الله عليه وسلم عندما قال:" يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالاً فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي" .. كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ (17) .
كيف حول النبي صلى الله عليه وسلم العرب من قبائل متناحرة إلى أمة محترمة؟
بهذا الإيمان الواسع العميق والتعليم النبوي المتقن ، وبهذه التربية الحكيمة الدقيقة وبشخصيته الفذة، وبفضل هذا الكتاب السماوي المعجز الذي لا تنقضي عجائبه ولا تخلق جدته ، بعث النبي صلى الله عليه وسلم في الإنسانية المحتضرة حياة جديدة !
عمد إلى الذخائر البشرية وهي أكداس من المواد الخام لا يعرف أحد غناءها ، ولا يعرف محلها وقد أضاعتها الجاهلية والكفر والإخلاد إلى الأرض فأوجد فيها بإذن الله الإيمان والعقيدة وبعث فيها الروح الجديدة ، وأثار من دفائنها وأشعل مواهبها ، ثم وضع كل واحد في محله فكأنما خلق له ، وكأنما كان المكان شاغراً لم يزل ينتظره ويتطلع إليه، وكأنما كان جماداً فتحول جسماً نامياً وإنساناً متصرفاً وكأنما كان ميتاً لا يتحرك فعاد حياً يملي على العالم إرادته وكأنما كان أعمى لا يبصر الطريق فأصبح قائداً بصيراً يقود الأمم .
عمد إلى الأمة العربية الضائعة وإلى أناس من غيرها فما لبث العالم أن رأى منهم نوابغ كانوا من عجائب الدهر وسوانح التاريخ ، فأصبح عمر الذي كان يرعى الإبل لأبيه الخطاب وينهره وكان من أوساط قريش جلادة وصرامة ، ولا يتبوأ منها المكانة العليا ، ولا يحسب له أقرانه حساباً كبيراً، إذا به يفجأ العالم بعبقريته وعصاميته، ويدحر كسرى وقيصر عن عروشهما ويؤسس دولة إسلامية تجمع بين ممتلكاتهما وتفوقهما في الإدارة وحسن النظام فضلاً عن الورع والتقوى والعدل الذي لا يزال فيه المثل السائر(18).
ويبين المستر سنكس أن ل صلى الله عليه وسلم الفضل الأكبر ليس فقط في رقي العرب بل في رقي العالم كله حتى اليوم ، فيقول سنكس :
"ظهر محمد صلى الله عليه وسلمبعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة ....
إلى أن قال:(62/282)
إن الفكرة الدينية الإسلامية، أحدثت رقياً كبيراً جداً في العالم، وخلّصت العقل الإنساني من قيوده الثقيلة التي كانت تأسره حول الهياكل بين يدي الكهان. ولقد توصل محمد ـ بمحوه كل صورة في المعابد وإبطاله كل تمثيل لذات الخالق المطلق ـ إلى تخليص الفكر الإنساني من عقيدة التجسيد الغليظة" (19).
وهكذا، ارتقى العرب والعالم، نقلة حضارية ضخمة من عصور الجاهلية والظلام على عصور التحضر ، بفضل دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم
هوامش المبحث الثاني :
4. إفلين كوبلد : البحث عن الله، ص51، 66، 67
5. انظر: محمد شريف الشيباني : مرجع سابق، ص 68 وما بعدها.
6. مارسيل بوزار : إنسانية الإسلامية ، ص 182-183، وانظر: محمد شريف الشيباني : الرسول في الدراسات الاستشراقية المنصفة،68 وما بعدها
7. مفكر وباحث ألماني ،عكف على الدراسات الشرقية والعربية في جامعة هايدلبرج، وكرس حياته لدراسة الإسلام، وصنف عددًا كبيرًا من الكتب والأبحاث، منها ترجمته للقرآن الكريم ، التي أصدرها في عامي 1964 و1965، وله كتاب عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم
8. رودي بارت : الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ، ص 20.
9. رودي بارت : تاريخ الحضارات العام ، 3 / 112.
10. مجلة الثقافة الروسية ، ج 7 ، عدد 9
11. هربرت وايل : المعلم الأكبر ، ص 17
12. هنري سيروي : فلسفة الفكر الإسلامي ، ص 8
13. جورج دي تولدز : الحياة .
14. سليل أسرة مسلمة منذ القدم، أصبح نصرانيًا في فترة مبكرة من حياته وتحت تأثير إحدى المدارس التبشيرية المسيحية، وقضى ردحًا من حياته في كنيسة إنكلترا، حيث عمل قسيسًا منذ عام 1939 وحتى عام 1963 ، ثم عاد إلى دين الإسلام.
15. رجال ونساء أسلموا، 4 / 28 - 29
16. ايفلين كوبرلد : الأخلاق ص 66
17. مجلة الفتح القاهرية، عام 1930
18. المؤرخ البريطاني، الذي انصبت معظم دراساته على تاريخ الحضارات، وكان أبرزها مؤلفه الشهير (دراسة للتاريخ) الذي شرع يعمل فيه منذ عام 1921 وانتهى منه عام 1961، وهو يتكون من اثني عشر جزءًا عرض فيها توينبي لرؤيته الحضارية للتاريخ.
19. سومر فيل وإشراف: آرنولد توينبي : مختصر دراسة للتاريخ 10 / 381
20. صحيح البخاري ،ج 13 / ص 224
21. انظر: أبي الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص 155 وما بعدها.
22. آن بيزينت: حياة وتعاليم محمد ، ص5.
المبحث الثالث : نشر قيم العدالة والمساواة ..
يقول العلامة برتلي سانت هيلر :
"كان محمد رئيساً للدولة وساهراً على حياة الشعب وحريته، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبي بين ظهرانيها، فكان النبي داعياً إلى ديانة الإله الواحد وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً حتى مع أعدائه، وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية وهما العدالة والرحمة." (1) .
كان الرسو صلى الله عليه وسلم كقائد سياسي ورجل حكم وإدارة بالغ الحرص على تطبيق المساواة على الجميع ، خاصة وقد وضع نفسه على قدم المساواة مع سائر المسلمين، يقول مولانا محمد علي :
"وفي إقامة العدالة كان الرسو صلى الله عليه وسلم منصفاً حتى التوسوس . كان المسلمون وغير المسلمين ، والأصدقاء والأعداء ، كلهم سواء في نظره . وحتى قبل أن يبعث إلى الناس كانت أمانته وتجرده واستقامته معروفة لدى الخاص والعام، وكان الناس يرفعون منازعاتهم إليه حتى يحكم فيما . وفي المدينة رضي الوثنيون واليهود به حكماً في منازعاتهم كلها . وعلى الرغم من حقد اليهود العميق الجذور على الإسلام فإن الرسول حكم - عندما عرض عليه ذات مرة نزاع بين يهودي ومسلم - لليهودي بصرف النظر عن أن المسلم قد ينفر ، بذلك ، من الإسلام بل ربما بصرف النظر عن أن قبيلته كلها قد تنفر بذلك من الإسلام . ولا حاجة بنا إلى تبيان أهمية خسارة كهذه بالنسبة إلى الإسلام في أيام ضعفه ومحنته تلك ، فالأمر أوضح من أن يحتاج إلى بيان . و باختصار ، فقد كان تجسيداً للآية القرآنية التي تقول : ) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى ، واتقوا الله ، إن الله خبير بما تعملون (( المائدة : 8). ولقد نبه ابنته فاطمة، إلى أن أعمالها وحدها سوف تشفع لها يوم القيامة . وقال أيضاً : « لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها »(2). وفيما كان على فراش الاحتضار ، قبيل وفاته بقليل ، سأل كل من له عليه دين أن يتقاضاه ذلك الدين ، ولكل من أساء إليه ذات يوم أن يثأر لنفسه منه "(3).(62/283)
وفي معاملات النبي صلى الله عليه وسلم مع الآخرين لم يكن يضع نفسه على مستوى أرفع من غيره البتة . كان يضع نفسه على قدم المساواة مع سائر الناس . وذات يوم، وكان قد احتل في «المدينة» مقاماً أشبه بمقام الملك، وفد عليه يهودي يقتضيه ديناً ما ، وخاطبه في جلافة وخشنونه قائلاً : إن بني هاشم لا يردون أيما مال اقترضوه من شخص آخر . فثارت ثائرة عمر بن الخطاب لوقاحة اليهودي ، ولكن الرسول عنفه ذاهباً إلى أن الواجب كان يقتضي عمر أن ينصح كلاً من المدين والدائن : أن ينصح المدين - الرسول - برد الدين مع الشكر ، وأن ينصح الدائن بالمطالبة به بطريقة أليق . ثم دفع إلى اليهودي حقه وزيادة ، فتأثر هذا الأخير تأثراً عظيماً بروح العدل والإنصاف عند الرسو صلى الله عليه وسلم ، ودخل في الإسلام .
وفي مناسبة أخرى وكان مع أصحابه في أجمة من الآجام ، حان وقت إعداد الطعام ، فمهد إلى كل امرئ في القيام بجانب من العمل، وانصرف هو نفسه إلى جمع الوقود . لقد كان برغم سلطانه الروحي والزمني يؤدي قسطه من العمل مثل رجل عادي . وكان يراعي ، في معاملته خدمه ، مبدأ المساواة نفسه، وقال أنس : " خدمت رسول ا صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط ، وما قال لشيء صنعته لم صنعته ، ولا لشيء تركته لم تركته(4) .
« ولم يبق أيما عبد على عبوديته . فما إن يؤل إليه عبد رقيق حتى يسارع إلى إعتاقه. وطوال حياته كلها لم يضرب قط خادماً أو امرأة »" (5).
هذا، و يقول المستشرق والمؤرخ بودلي :" و ليس هناك أي عائق لوني للمسلم فلا يهم أكان المؤمن أبيض أو أسود أو أصفر، فالجميع يعاملون على قدم المساواة" (6).
فلقد ساوى الإسلام بين المكلفين في إيجاب العبادات وتحريم المحرمات ، وكما ساوى بينهم في الفضل والثواب بحسب أعمالهم } مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ { [النحل : 97 ] ، } إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ { إلى قوله }أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًاعَظِيمًا { [الأحزاب: 35 ] .
وساوى بينهم في التملكات المالية بجميع طرقها ووجوهها، وفي صحة التصرفات كلها وإطلاقها حيث اشتركوا في العقل والرشد .
وساوى بينهم بأن الرضا في المعاملات العوضية ، والتبرعات والإحسان شرط لصحتها ونفوذها ، وأن من أكره منهم لا ينفذ له معاملة ولا يستقيم له تبرع .
وساوى بينهم في كل حق ديني ودنيوي ، ولم يجعل لأحد منهم ميزة في نسب أو حسب أو مال أو حسن صورة ، إنما الميزة والتفضيل بالمعاني العالية في التقوى وتوابعها : } يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ { [الحجرات : 13 ] (7).
ولقد كان رسول ا صلى الله عليه وسلم من مؤسسي حلف الفضول، الذي ما أُوسس إلا لنصرة المظلوم ونشر العدل بين الناس، فقال رسول الله في هذا الحلف :
قَالَ " شهدت حلف المطيبين مع عمومتي - و أنا غلام - فما أحب أن لي حمر النعم و أني أنكثه "(8).
وقال : "لقد شهدت مع عمومتي في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت " (9) .
إن صلى الله عليه وسلم يُعلي منطق العدل، ويساهم في كل باب يخدم قيمة العدل..
ولقد رسخ الرسو صلى الله عليه وسلم قيم العدالة والمساواة في نفوس وزرائه وأتباعه ، فكان يقول ـ محذراً من استعباد الناس ـ : " لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي كلكم عباد الله وكل نسائكم إماء الله . ولكن ليقل : غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي . ولا يقل العبد : ربي ولكن ليقل : سيدي "(10) ..
ويقول : " كلكم بنو آدم و آدم خلق من تراب لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان "(11).
لقد حدث أن عبدالله بن رواحة ـ رضي الله عنه ـ لما بعثه رسول ا صلى الله عليه وسلم يقدر على أهل خيبر محصولهم من الثمار والزروع لمقاسمتهم إياها مناصفة حسب عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر أن حاول اليهود رشوته ليرفق بهم، فقال لهم : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ، ولأنتم والله أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم !!
فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض(12) ..!
لقد كان رضي الله عنه قد تخرج في مدرسة الرسو صلى الله عليه وسلم على المنهج الرباني المنفرد القائم على العدل والمساواة .
هذا، وتعد خطبة الوداع دستوراً عظيما في إقامة العدالة والمساواة في ربوع العالم .. ويعلق هربرت جورج ولز (13) على هذه الخطبة بقوله :(62/284)
" حجّ محمد صلى الله عليه وسلم حجة الوداع من المدينة إلى مكة، قبل وفاته بعام، وعند ذاك ألقى على شعبه موعظة عظيمة.. إنّ أول فقرة فيها تجرف أمامها كل ما بين المسلمين من نهب وسلب ومن ثارات ودماء، وتجعل الفقرة الأخيرة منها الزنجي المؤمن عدلاً للخليفة.. إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم، وإنها لتنفخ في الناس روح الكرم والسماحة، كما أنها إنسانية السمة ممكنة التنفيذ، فإنها خلقت جماعة إنسانية يقل ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي، عما في أي جماعة أخرى سبقتها"(14) .
هوامش المبحث الثالث :
2. العلامة برتلي سانت هيلر الألماني ( 1793 ـ 1884 )مستشرق ألماني ولد في درسدن، وقال هذه الكلمة في كتابه (الشرقيون وعقائدهم).
3. صحيح - البخاري ( 11\ 294 )ومسلم( 9\ 54).
4. مولانا محمد علي : حياة محمد و رسالته ، نقلاً عن : محمد شريف الشيباني : مرجع سابق، ص 120
5. المصدر السابق.
6. المصدر السابق.
7. بودلي: حياة محمد ، نقلا عن: عماد الدين خليل: قالوا في الإسلام ص 137.
8. عبد الله بن جار الله بن إبراهيم آل جار الله : كمال الدين الإسلامي وحقيقته ومزاياه ، ص90، 91.
9. صحيح - أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " ( 567 ) و ابن حبان ( 2062).
10. صحيح - السنن الكبرى للبيهقي (ج 6 / ص 367)، وصححه الألباني في تحقيق كتاب فقه السيرة للغزالي، ص 67.
10-صحيح - رواه مسلم وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح ، ج 3 / ص 31
11-صحيح - صححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير ،ج 18 / ص 344
12-ابن القيم (محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي) : زاد المعاد، ج 2، ص 11.
13-هربرت جورج ولز (1866 - 1946) الكاتب والأديب البريطاني المعروف. حصل على بكالوريوس العلوم سنة 1888، تولى التدريس بضع سنين ثم انصرف للتأليف. اشتهر بقصصه الذي يعتمد الخيال العلمي من مثل (آلة الزمن) و(الرجل الخفي)، فضلاً عن رواياته النفسية والاجتماعية من مثل (ميكا فيللي الجديد) و(الزواج). ولم يغفل ولز البحث في التاريخ فأنجز عام 1920 (معالم تاريخ الإنسانية) وأعقبه بـ(موجز تاريخ العالم). وكان آخر كتاب أصدره هو (العقل في أقصى تواتراته) (1944). ولولز كتاب في السيرة الذاتية بعنوان: (تجربة في كتابة السيرة الذاتية.
14-هربرت جورج ولز :معالم تاريخ الإنسانية ، 3 /640 ، 641.
المبحث الرابع : نشر قيم الحب والإخاء
يقول اينين دينيه:
"لقد دعا عيسى [عليه السلام] إلى المساواة والأخوة، أما محمد صلى الله عليه وسلم فوفق إلى تحقيق المساواة والأخوة بين المؤمنين أثناء حياته"(1).
فليس من الطبيعي ـ في اعتقاد النبي صلى الله عليه وسلم ـ أن يعيش الناس على هذا الكوكب في تشتت و تمزق، و لا من العقل والمنطق أن يتنافر البشر ويتناطحوا، و قد أوجدهم الله تعالى من مصدر واحد،وأصل واحد، خلقهم جميعا من آدم و حواء، أبيضهم و أسودهم، عربيهم و عجميهم، سيدهم و مسودهم غنيهم و فقيرهم ، بل إن أشد ما يتنافى مع الفطرة ،و يتعارض مع العقل، أن يوحد الله عباده في المنشأ و المصدر، ثم يتفرقون في المرجع و المصير . ولأجل هذا اتخذ الإسلام كل أساس و قاعدة تحمي هذا الكيان من الانشقاق والتصدع، وتمكنه من أداء مهمته على الوجه الأمثل ومن بين تلك القواعد : "الإخاء"الذي امحي أمامه جميع فوارق أفراد هذا الكيان ،و امتيازاتهم من نسب عريق ،و مال غفير، وجاه عريض، و كل ما درج الناس على اعتباره مميزا بعضهم عن بعض ..
ويبين المفكر برج :" أن مبدأ الإخاء الإنساني هو أساس فلسفة الأخلاق الاجتماعية في الإسلام " (2) .
ويشير فيليب حتي إلى " أن إقامة الأخوة في الإسلام مكان العصبية الجاهلية (القائمة على الدم والقرابة) للبناء الاجتماعي كان في الحقيقة عملاً جريئًا جديدًا قام به النبي العربي صلى الله عليه وسلم.."(3).
و تأسيساً على مبدأ الأخوة الإنسانية بين الأجناس والشعوب، حقق النبي صلى الله عليه وسلم واقعياً لا نظرياً عملية توحيد مختلف الأجناس في ظل المساواة والعدل الإسلاميين ، يقول برج مؤكداً :
"إنه ليس هناك من مجتمع آخر سجل له التاريخ من النجاح كما سجل للإسلام في توحيد الأجناس الإنسانية المختلفة ، مع التسوية بينها في المكانة والعمل وتهيئة الفرص للنجاح في هذه الحياة" (4).
ويتحدث المفكر الإنكليزي موير عن الرسالة المحمدية وفق عقيدتها ، فيقول :
"ومن عقيدة الإسلام أن الإنسان أخو الإنسان " (5).(62/285)
إن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم قدم الإسلام كعقيدة دينية وشريعة ظهرت في إطار تنظيم اجتماعي تبلور في الدولة الإسلامية عبر سائر المراحل التاريخية السابقة واللاحقة ، سابقاً إلى تحقيق فكرة التعايش بين الشعوب والأجناس والأديان ، وإن نظرة واحدة لأول دستور مكتوب في تاريخ البشرية، ونقصد به دستور المدينة ـ الذي وضعه الرسو صلى الله عليه وسلم ـ؛ فإن هذا الدستوريقدم لنا القوانين السائدة في أول دولة إسلامية قامت بعد الهجرة وحققت التعايش بين المسلمين واليهود والقبائل العربية التي لم تكن تعتنق الإسلام، ومن ثم تطورت جوانب هذا التعايش مع قيام الدولة الإسلامية التي ضمت شعوباً وأمماً مختلفة ، حققت بينها الانسجام والعدل والمساواة، بعيداً عن العصبية العرقية أو الاستعلاء الديني .
يقول مارسيل بوازار(6) :
" وقد فتح الإسلام الباب للتعايش على الصعيد الاجتماعي والعرقي حين اعترف بصدق الرسالات الإلهية المنزلة من قبل على بعض الشعوب ، وجعل المسلمين منحدرين من نسل مشترك هم اليهود والنصارى عبر إبراهيم . لكنه بدا أنه يرفض الحوار في الوقت ذاته على الصعيد اللاهوتي حين ربط التنزيل القرآني بما جاء في الكتاب المقاس وأزال من العقيدة كل ما اعتبر زيفاً مخالفاً للتوحيد بالمعنى الدقيق للكلمة. وأتاح منطق تعاليمه القوي وبساطة عقيدته، وما يرافقها من تسامح أتاح كل هذا للشعوب التي فتح بلادها حرية دينية تفوق بكثير تلك التي أتاحتها الدول المسيحية نفسها ، ولا سيما في حوض المتوسط الشرقي ، حيث كانت تحارب بقسوة الهرطقات التي غالباً ما كانت تتخذ شكل المطالبة القومية . وبهذا لا تغطي "الجماعة الإسلامية" رقعة « دار الإسلام ، » فالفكرة الأولى تتخذ طابع الموافقة الدينية ، و تضمن الثانية بنية سياسية ودينية معاً تضم غير المسلمين تبعاً لإجراء محدد .ويتيح التوحيد لكل إنسان شرف الاندماج في الجنس البشري دون حصر ولا مراعاة خاصة . و تستتبع وحدة الرسالات احترام معتنقي التنزيلات السابقة ، في حين أن اعتناق الإسلام يحقق للفرد في موازاة ذلك ، مكان بلوغ الدرجة القصوى من الكمال بالانخراط في مجتمع المؤمنين . وبالفعل فإن شهادة أن "لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله " التي ينخرط بها الفرد ، ويشارك مشاركة تامة في الأمة الإسلامية تتضمن اعترافاً مزدوجاً : الاعتراف بوحدانية الله ، والاعتراف بأن النبي محمداً رسول من الله. و تبقى القيمة الجوهرية هي هي لجميع الناس بوصفهم أناساً . ومع هذا فإن شعور المسلم بالدعوة الربانية أهي موضوعياً من شعور أي إنسان آخر لأنه يتبع أمر الله : }يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم أن الله عليم خبير { الحجرات13"( 7).
هذا، ويبين توماس آرنولد السبب في نجاح النبي صلى الله عليه وسلم في نشر قيم الحب والإخاء، هو حسن الخلق والمعاملة الحسنة والجاذبية التي كان يتمتع بها النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول آرنولد :
".. إن المعاملة الحسنة التي تعودتها وفود العشائر المختلفة من النبي صلى الله عليه وسلم واهتمامه بالنظر في شكاياتهم، والحكمة التي كان يصلح بها ذات بينهم، والسياسة التي أوحت إليه بتخصيص قطع من الأرض مكافأة لكل من بادر إلى الوقوف في جانب الإسلام وإظهار العطف على المسلمين، كل ذلك جعل اسمه مألوفًا لديهم، كما جعل صيته ذائعًا في كافة أنحاء شبه الجزيرة سيدًا عظيمًا ورجلاً كريمًا. وكثيرًا ما كان يفد أحد أفراد القبيلة على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثم يعود إلى قومه داعيًا إلى الإسلام جادًا في تحويل إخوانه إليه.."(8) .
ولقد "كانت تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم في [أعقاب فتح] مكة تدل على أنه نبي مرسل لا على أنه قائد مظفر. فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه برغم أنه أصبح في مركز قوي. ولكنه توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو"(9).
ولقد كانت أخلاق العفو والرحمة هي السلاح الأكبر الذي استعمله الرسو صلى الله عليه وسلم في غزو القلوب الصماء.
يؤكد ذلك ديوان شند شرمة بقوله :
"لقد كان محمد روح الرأفة والرحمة، وكان الذين حوله يلمسون تأثيره ولم يغب عنهم أبدًا"(10).
ولعل إدوار مونته يبين السبب الأساس في قدرة النبي الكريم في نشر الحب والإخاء بين العالمين، و هو ما عرف عن النبي محمد " بخلوص النية والملاطفة وإنصافه في الحكم، ونزاهة التعبير عن الفكر والتحقق، وبالجملة كان محمد أزكى وأدين وأرحم عرب عصره، وأشدهم حفاظاً على الزمام فقد وجههم إلى حياة لم يحلموا بها من قبل، وأسس لهم دولة زمنية ودينية لا تزال إلى اليوم" (11).
هوامش المبحث الرابع :
2. آتين دينيه وسليمان بن إبراهيم: محمد رسول الله ، ص 323.
3. برج : نقلا عن التكامل في الإسلام ، ج 2، ص 101.
4. فيليب حتى : الإسلام منهج حياة ، ص 19 ، 20.
5. المصدر السابق .
6. وليم موير : نقلا عن مجلة الهلال المجلد 4 ، الجزء 7.
7. مارسيل بوزار : إنسانية الإسلام ، 184-185.
8. المصدر السابق.(62/286)
9. توماس آرنولد : الدعوة إلى الإسلام ص 55 عن: Mui r (Si r Wiliam): Life of Mahomet, PP.107-8 (London, 1858-,1) .)
10. واشنجتون إيرفنج :حياة محمد ، ص 72.
10-ديوان شند شرمة: أنبياء الشرق ،ص 122.
11-كلمة للفيلسوف الفرنسي إدوار مونته الذي ولد في بلدته لوكادا( 1817 ـ 1894 )، وقال هذه الكلمة في آخر كتابه (العرب).
المبحث الخامس : نشر التسامح الديني
تجلت سياسة التسامح الديني في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عام الوفود حين استقبل وفوداً مسيحية وبعث برسالة إلى أسقف نجران . .
ويتحدث الباحث الروماني ك. جيورجيو عن أوضاع أصحاب الديانات السماوية في ظل الحكم الإسلامي فيقول :
" مع أن الإسلام عم الجزيرة كلها في السنة التاسعة فإن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكره اليهود و لا النصارى على قبول دينه، لأنهم أهل الكتاب . و قد جاء في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أبي الحارث أسقف نجران أن وضع المسيحيين في الجزيرة بعد الإسلام تحسن كثيراً، يقول في الرسالة :
"بسم الله الرحمن الرحيم ، من رسول ا صلى الله عليه وسلم إلى أبي الحارث أسقف نجران الأكبر وقساوسته وأساقفه .. أما بعد ، فليعلم الأسقف الأكبر وقساوسته وأساقفته أن كنائسكم ومعابدكم وصومعاتكم ستبقى كما هي ، وأنكم أحرار في عباداتكم . ولن يزاح أحد منكم عن منصبه ومقامه، ولن يبدل شيء . كما لم يبدل في مراسم دينكم ، ما دام الأساقفة صادقين ، ويعملون حسب تعاليم الدين . فمن أدى ذلك فإن له ذمة الله وذمة رسو صلى الله عليه وسلم ، ومن منعه فإنه عدو الله ولرسوله" (1).
تشير هذه الرسالة إلى أن المسيحيين ( وكذلك اليهود ) في الجزيرة أحرار في أداء شعائرهم ، ولن يزاحمهم من المسلمين مزاحم . وقد قدم في السنة التاسعة وفد من مسيحي نجران يرأسهم أبو الحارث الأسقف الأكبر، وعبد المسيح الأسقف ، والأيهم رئيس القافلة ، وحين أرادوا الدخول على صلى الله عليه وسلم ارتادوا ألبستهم الدينية الرسمية الكاملة، فأخذ سكان المدينة بهذه الثياب . وبعد أن زاروا صلى الله عليه وسلم سألوه أن يسمح لهم بأداء شعائرهم فطلب منهم أن يؤدوا صلواتهم في مسجد المدينة، فدخلوا واتجهوا نحو بيت المقدس، و تعبدوا هناك . . ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحترم النصارى احتراماً خاصاً ، لأن القرآن ذكرهم وأكرمهم . وقد أشار الله تعالى إلى هذه النقطة في محكم كتابه في سورة المائدة (الخامسة) في الآية ( 82 ) : } لتجدن اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون { و يقول في الآية التي بعدها : } وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعنهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون : ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ( ، ويقول بعدها كذلك: )وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين { ويقول بعدها: } فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وذلك جزاء المحسنين { (2).
ويتحدث لورافيشيا فاغليري عن منهج التسامح الديني عند صلى الله عليه وسلم ، ويقول :
"كان محمد صلى الله عليه وسلم المتمسك دائمًا بالمبادئ الإلهية شديد التسامح، وبخاصة نحو أتباع الأديان الموحدة. لقد عرف كيف يتذرع بالصبر مع الوثنيين، مصطنعًا الأناة دائمًا اعتقادًا منه بأن الزمن سوف يتم عمله الهادف إلى هدايتهم وإخراجهم من الظلام إلى النور.. لقد عرف جيدًا أن الله لابد أن يدخل آخر الأمر إلى القلب البشري"(3) .
هذا ويجدر القول إن سياسة التسامح الديني التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم تجاه أصحاب الديانات الأخرى استلهاماً لروح الإسلام ، غدت - فيما بعد- قاعدة لخلفاء الرسو صلى الله عليه وسلم ، في ظل الدولة الإسلامية العظمى التي ضمت أُمما مختلفة وأصحاب ديانات ظلوا يمارسون شعائرهم في ظل الحماية الإسلامية ، وكان لسياسة هذه التسامح أن حظيت باحترام وتقدير المفكرين والمستشرقين المنصفين فعقدوا المقارنة بن تسامح الإسلام وتعصب الصليبيين.. يقول المستشرق ميشون في كتابه : « تاريخ الحروب الصليبية» :
"إن الإسلام الذي أمر بالجهاد متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى ، وهو الذي أعفى البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب وحرم قتل الرهبان _على الخصوص _ لعكوفهم على العبادات ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس ..و قد ذبح الصليبيون المسلمين و حرقوا اليهود عندما دخلوها " (4).
ويزيد الباحث نفسه في كتابه ، "سياحة دينية في الشرق" ،، متحدثاً عن تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية ، وكيف أن المسيحيين تعلموا الكثير من المسلمين في التسامح وحسن المعاملة ، يقول :
"وإنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التعامل وفضائل حسن المعاملة ، وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم ، كل ذلك بفضل تعاليم نبيهم محمد "(5).(62/287)
وكان لهذا التسامح أثره في أن يصبح الدين الإسلامي ديناً عالمياً ، بدءاً من مراحله الأولى أيام الرسول في جزيرة العرب إلى أن عم أماكن شاسعة، يقول المستشرق جولد تسهير :
"سار الإسلام لكي يصبح قوة عالمية على سياسة بارعة ، ففي العصور الأولى لم يكن اعتناقه أمراً محتوماً فإن المؤمنين بمذاهب التوحيد أو الذين يستمدون شرائعهم من كتب منزلة كاليهود والنصارى والزرادشتية كان في وسعهم متى دفعوا ضريبة الرأس ( الجزية ) أن يمتعوا بحرية الشعائر وحماية الدولة الإسلامية ، ولم يكن واجب الإسلام أن ينفذ إلى أعماق أرواحهم إنما كان يقصد إلى سيادتهم الخارجية . بل لقد ذهب الإسلام في هذه السياسة إلى حدود بعيدة ، ففي الهند مثلاً كانت الشعائر القديمة تقام في الهياكل و المعابد في ظل الحكم الإسلامي " (6).
لقد أثارت مبادئ الحرية الدينية في الإسلام فيما أثارته احترام المستشرقين المنصفين وكذلك الباحثين العرب المسيحيين الذين قدروا الأخوة المسيحية الإسلامية حق قدرها، وتطرق يوسف نعيم عرافة في خطبة له في عيد المولد النبوي عام 1346هـ 1927 م إلى معاهدة الرسول مع أصحاب الديانات الأخرى ، لاسيما المسيحيين منهم، فيقول :
" إن محمدا ً ( r )هو باني أساس المحبة والإخاء بيننا ، فقد كان يحب المسيحيين ويحميهم، من ذلك ما قام به في السنة السادسة بعد الهجرة ، حيث عاهد الرهبان خاصة والمسيحيين عامة ، على أن يدفع عنهم الأذى ، ويحمي كنائسهم وعلى أن لا يتعدى على أحد من أساقفتهم ولا يجبر أحداً على ترك دينه ، وان يمدوا بالمساعدة لإصلاح دينهم وأديرتهم ، كما أن القرآن نطق بمحبة المسيحيين للمسلمين وبمودتهم لهم ، وإن الآية الشريفة : ] و لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون [( المائدة : 82) ، لتبعث على شد أواصر الصداقة بين الطرفين ، بل حتى مع الشعب الإسرائيلي في أكثر الأوقات ، إننا لنعلم أن ما أتى به الرسل موسى وعيسى ومحمد( عليهم الصلاة والسلام) ما هو إلا لإصلاح العالم لا لإفساده وخرابه ، وما الكتب الثلاثة المنزلة إلا نور صادر من بؤرة واحدة ينعكس نورها في ثلاثة أشعة ، كل منها للبشر" (7).
هوامش المبحث الخامس :
2. انظر: محمد شريف الشيباني : مرجع سابق،68
3. انظر: ك. جيورجيو : ص 371-372،و انظر: محمد شريف الشيباني : مرجع سابق،68
4. فاغليري : دفاع عن الإسلام ، ص73.
5. ميشون : تاريخ الحروب الصليبية، نقلا عن كتاب روح الدين الإسلامي ، ص 383
6. ميشون : سياحة دينية في الشرق ، ص 31.
7. جولد تسهير ، نقلا عن كتاب النظام السياسي في الاسلام ، ص 21، وانظر: محمد شريف الشيباني: مرجع سابق،87.
8. يوسف نعيم عرافة، نقلا عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص 110 ، و انظر: محمد شريف الشيباني : مرجع سابق،110.
المبحث السادس : مبادرة النبي صلى الله عليه وسلم للحوار بين الحضارات
بعدما عقد صلى الله عليه وسلم هدنة بينه وبين مشركي مكة الذين حاربوه على مدار ثمانية عشر عاماً ـ أو أكثر ـ، استغل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الهدنة في مراسلة زعماء وأمراء وملوك العالم .. لتعريف بدعوة الإسلام وغايته .. مركزاً في خطاباته على قيم السلام وحرية الاعتقاد، نرى ذلك جلياً في محتوى هذه الرسائل ..
هذا، ولنتأمل أحد هذه النماذج المشرقة، ولتكن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملك المقوقس ..
فكتب صلى الله عليه وسلم إلى جُرَيْج بن مَتَّي الملقب بالمُقَوْقِس ملك مصر والإسكندرية :
"بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبط، ] يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [ " (1).
واختار لحمل هذا الخطاب حاطب بن أبي بَلْتَعَة - رضي الله عنه ـ .
وجدير بنا أن نذكر كلام حاطب ـ رضي الله عنه ـ للمقوقس حتى يعرف الغرب أن هذه البعوث كانت تعرف هدفها جيداً كما أنها بلغت حداً من الفقه والحصافة يستحق الإعجاب البالغ.
قال حاطب: إن هذا النبي دعا الناس، فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل ..وكل نبي أدرك قوماً فهم أمته، فحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدرك هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكننا نأمرك به.(62/288)
فقال المقوقس : إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه . ولا ينهي عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوي، وسأنظر .
وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعله في حُقِّ من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتباً له يكتب بالعربية، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" بسم الله الرحمن الرحيم . لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد :
فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين، لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت بغلة لتركبها، والسلام عليك" (2)..
ولم يزد على هذا ولم يسلم، فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم مارية، فأنجبت له طفل ـ سماه إبراهيم، تقديراً وتشريفاً لأبي الأنبياء ـ عليه السلام ـ ، أما سيرين، فقد تزوجها الشاعر حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ ..
"تلك مُثلٌ لرسائله إلى رجالات النصرانية ومواقفهم منها. وقد ساق النبي كذلك مبعوثيه إلى رؤساء المجوسية يدعونهم إلى الله، ويحدثونهم عن الدين الذي لو تبعوه نقلهم من الغي إلى الرشاد .. وقد تفاوتت ردودهم، بين العنف واللطف والإيمان والكفر" (3)..
والنبي صلى الله عليه وسلم بذلك أول من نادى بالحوار بين الحضارات والحوار بين الأديان .. ومارس هذا الحوار كما رأيت بمستوى عال من الأدب وحسن الخلق واحترام الرأي الآخر .
ولقد أرسل الرسو صلى الله عليه وسلم الكثير من الرسل لتحقيق مثل هذا الحوار بينه وبين الأمم والحضارات الأخرى وملوك وزعماء العالم..
فبعث رسول ا صلى الله عليه وسلم ، قبل الفتح وبعد الحديبية، رسله إلى الملوك:
(1) فبعث دحية بن خليفة الكلبي، إلى قيصر ملك الروم، واسمه هرقل.
(2) وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ابرويز بن هرمز، ملك الفرس.
(3) وبعث عمرو بن أمية الضمري، إلى النجاشي ملك الحبشة.
(4) وبعث عمرو بن العاصي؛ إلى جيفر وعياذ ابني الجلندي الأزديين، ملكي عمان.
(5) وبعث سليط بن عمرو إلى هوذة ابن علي، الملك على اليمامة، وإلى ثمامة بن أثال، الحنفيين.
(6) وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين.
(7) وبعث شجاع بن وهب الأسدي، من أسد خزيمة، إلى الحارث
ابن أبي شمر الغساني، وابن عمه جبلة بن الأيهم، ملكي البلقاء من عمل دمشق.
(8) وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي، إلى الحارث بن عبد الملك أحد مقاولة اليمن.
(9) وبعث معاذ بن جبل إلى جملة اليمن، داعياً إلى الإسلام، فأسلم جميع ملوكهم، كذى الكلاع وذي ظليم وذي زرود وذي مران وغيرهم(4).
وأسلم سائر الملوك الذين ذكرنا قبل أنهم أرسل إليهم عليه السلام، وأسلم قومهم، حاشا قيصر والقومقس وهذوة وكسرى والحارث بن أبي شمر والنجاشي، وهو غير الذي هاجر إليه أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم بموته، فنعاه إلى المسلمين، وخرج بهم إلى البقيع، وصف أصحابه صفوفاً، وصلى عليه، وكبر عليه أربعاً، وكان يكتم قومه إسلامه خوفاً منهم.
وتأخر إسلام ثمامة بن أثال، ثم أسلم مختاراً بعد ذلك.
وهكذا، أحدث الرسو صلى الله عليه وسلم هذا الحوار البناء بين أمة الإسلام والأمم الأخرى في شتى بقاع العالم .. وتواصل مع قيادات ورموز العالم آن ذاك .. فمنهم من تجاوب ، وتناقش ، وأفاض .. ومنهم من تعامل مع رسل النبي بوقاحة، كما فعل كسرى ..
لكن يبقى للنبي صلى الله عليه وسلم فضل السبق في مبادرة الحوار مع الحضارات الأخرى ..
هوامش المبحث السادس :
5. انظر:البيهقي : دلائل النبوة، ج 5، ص 4، وما بعدها ، باب ما جاء في كتاب صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس.
6. انظر: المصدر السابق.
7. محمد الغزالي : فقه السيرة، ص 274.
8. انظر: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم :جوامع السيرة ، ص 29، 30
البحث السابع : تكريم المرأة وتحريرها من رق الجاهلية
يقول هـ. أ. ر. جب :
" إنه من المسلم به عالمياً بصفة عامة أن إصلاحاته ( أي صلى الله عليه وسلم ) رفعت من قدر المرأة ومنزلتها ووضعها الإجتماعي والشرعي "(1) ..
ويرى ول ديورانت(2) أن الإسلام قد رفع "من مقام المرأة في بلاد العرب ... وقضى على عادة وأد البنات وسوى بين الرجل والمرأة في الإجراءات القضائية والاستقلال المالي، وجعل من حقها أن تشتغل بكل عمل حلال ، وأن تحتفظ بما لها ومكاسبها، وأن ترث،وتتصرف في مالها كما تشاء، وقضى على ما اعتاده العرب في الجاهلية من انتقال النساء من الآباء إلى الأبناء فيما ينتقل لهم من متاع ، وجعل نصيب الأنثى في الميراث نصف نصيب الذكر، ومنع زواجهن بغير إرادتهن"(3).(62/289)
ويوضح إميل درمنغم (4) كيف حرر صلى الله عليه وسلم المرأة ويفصل في ذلك.. قائلاً :" مما لا ريب فيه أن الإسلام رفع شأن المرأة في بلاد العرب و حسن حالها، قال عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] : "مافتئنا نعد النساء من المتاع حتى أوحى في أمرهن مبينا لهن " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم" .. أجل، إن صلى الله عليه وسلم أوصى الزوجات بإطاعة أزواجهن، ولكنه أمر بالرفق بهن ونهى عن تزويج الفتيات كرهاً وعن أكل أموالهن بالوعيد أو عند الطلاق .... ولم يكن للنساء نصيب في المواريث أيام الجاهلية ... فأنزلت الآية التي تورث النساء. وفي القرآن تحريم لوأد البنات، وأمر بمعاملة النساء والأيتام بالعد ,ونهى صلى الله عليه وسلم عن زواج المتعة وحمل الإماء على البغاء وأباح تعدد الزوجات..ولم يوصي الناس به، ولم يأذن فيه إلا بشرط العدل بين الزوجات فيهب لإحداهن إبرة دون الأخرى...وأباح الطلاق أيضاً مع قوله: "ابغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق". وليس مبدأ الاقتصار على زوجة واحدة من الحقوق الطبيعية مع ذلك، ولم يفرضه كتاب العهد القديم على الآباء، وإذا كان هذا قد أصبح سنة في النصرانية فذلك لسابق انتشاره في بلاد الغرب ، وذلك من غير أن يحمله رعايا نيرون إلى بلاد إبراهيم ويعقوب [عليهما السلام] ...وأيهما أفضل : تعدد الزوجات الشرعي أم تعدد الزوجات السري ؟...إن تعدد الزوجات من شأنه إلغاء البغاء والقضاء على عزوبة النساء ذات المخاطر......" (5) ..
إن " تحرير المرأة" الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم ، كان تحريراً شاملاً وكاملاً بمعنى الكلمة .. فقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم هو العامل الأساس في إيقاف الجريمة الكبرى التي كانت تمارس في حق المرأة، ألا وهي جريمة " قتل البنات خشية العار" .. إن ثقافة وأد البنات كانت هي الثقافة السائدة في تصور المجتمع نحو المرأة .. ولم يجرأ أحد المصلحين قبل صلى الله عليه وسلم التصدي لهذه العادة القبيحة .. بل كانت تزداد فحشاً وانتشاراً في أنحاء الجزيرة ..
هذا، وقد كانت المرأة تباع وتُشترى وتُورث .. فلما بعثَ اللهمحمدا صلى الله عليه وسلم أعاد للمرأة حقوقها المسلوبة، فمنحها حق الحرية، وأن تبيع وتَشتري لا أن تُباع وتُشترى، وأن ترث كما يرث الرجل، لا أن تَورث كما كان الرجل يرثها مع مال أبيه .. إن العالم عن بكرة أبيه لم يعترف بالذمة المالية للمرأة .. وجاء النبي صلى الله عليه وسلم وقرر هذا الحق للمرأة .. فأصبحت تستطيع أن تعقد كبرى الصفقات التجارية، وتتعاقد مع من تشاء وتوكل من تشاء ..
و"في سور القرآن أشار إلى المساواة عند الله بين الذكر والأنثى بغير تفريق في التكليف أو الجزاء ، وإشارة صريحة مساواة المرأة والرجل في ثمرات الأعمال و الجهود .. وفي بعض الأمم القديمة ، والحديثة , كانت المرأة تحرم غالبا من الميراث، فأبى الإسلام هذا الغبن الفاحش...." (6) .
أما عن الاستقلال الفكري والأدبي للمرأة ، فيقول الله تعالى في القرآن : ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ[(الممتحنة10)
"والآية تشير -بجانب ما فيها من أحكام- إلى ما كانت تستمتع به المرأة من استقلال فكري وكيان أدبي محترم"(7)..
و"لم تكن النساء (المسلمات) متأخرات عن الرجال في ميدان العلوم والمعارف فقد نشا منهن عالمات في الفلسفة والتاريخ والأدب والشعر وكل ألوان الحياة" (8)..
وتبين ماكلوسكي (9) " أن نشاطات المرأة المسلمة قد تمتد أحيانا خارج المنزل، فبعض النساء المسلمات كن يقمن بمسؤوليات عامة ..في الحرب والتجارة. ولكن ذلك
كله كان في إطار الخلق الكريم" (10).
وعن حق المرأة في العمل تقول روز ماري(11):
" إن الإسلام قد كرم المرأة وأعطاها حقوقها كإنسانة ، وكامرأة ، وعلى عكس ما يظن الناس من أن المرأة الغربية حصلت على حقوقها ... فالمرأة الغربية لا تستطيع مثلا أن تمارس إنسانيتها الكاملة وحقوقها مثل المرأة المسلمة . فقد أصبح واجبا على المرأة في الغرب أن تعمل خارج بيتها لكسب العيش . أما المرأة المسلمة فلها حق الاختيار , ومن حقها ان يقوم الرجل بكسب القوت لها ولبقية أفراد الأسرة . فحين جعل الله سبحانه وتعالى للرجال القوامة على النساء كان المقصود هنا أن على الرجل أن يعمل ليكسب قوته وقوت عائلته . فالمرأة في الإسلام لها دور أهم واكبر مجرد الوظيفة , وهو الإنجاب وتربية الأبناء , ومع ذلك فقد أعطى الإسلام للمرأة الحق في العمل إذا رغبت هي في ذلك , وإذا اقتضت ظروفها ذلك " (12).(62/290)
ومما يدل على احترام الإسلام للمرأة ورعاية حقوقها مسألة نكاح المرأة واختيارها في ذلك: فقد بوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه وقال: باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما، ثم أورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن"، قالوا يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت"(13)
وتقديراً لدور المرأة في بناء المجتمع الإسلامي، فقد بايع رسول ا صلى الله عليه وسلم النساء في موقعة مشهودة للقاصي والداني، فكانت بيعة النساء ثانى يوم الفتح ـ في العام الثامن من الهجرة ـ على جبل الصفا بعدما فرغ من بيعة الرجال ..
قال الله تعالى : ]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهََ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )[الممتحنة12( .
واشتراك المرأة مع الرجل ، على أساس المساواة التامة ، في جميع المسؤوليات التي ينبغي أن ينهض بها المسلم ، ولذلك كان على الخليفة أو الحاكم المسلم أن يأخذ عليهنّ العهد بالعمل على إقامة المجتمع المسلم بكل الوسائل المشروعة الممكنة ، كما يأخذ العهد فى ذلك على الرجال ' ليس بينهما فرق ولا تفاوت .
ومن هنا كان على المرأة المسلمة أن تتعلم شئون دينها ودنياها ، كما يتعلم الرجل، وأن تسلك كل السبل المشروعة الممكنة إلي التسلح بسلاح العلم والوعي و التنبه إلي مكامن الكيد و أساليبه لدى أعداء الإسلام الذين يتربصون به، حتى تستطيع أن تنهض بالعهد الذي قطعته على نفسها وتنفذ عقد البيعة الذي في عنقها، وواضح أن المرأة لا تستطيع أن تنهض بشيء من هذا إذا كانت جاهلة بحقائق دينها غير منتبهة إلي أساليب الكيد الأجنبي من حولها(14).
ولقد احترم الرسو صلى الله عليه وسلم جوار المرأة ، فكان صلى الله عليه وسلم أول من اعترف بجوار المرأة في الجزيرة العربية بعد عهود الظلام .
ومثال أم هانىء واضح وجلي .. فقد أدخلت أحد المجرمين في جوارها يوم فتح مكة وقبل وعفا الرسو صلى الله عليه وسلم عن هذا المجرم ..
فلقد ذهبت أم هانئ بنت أبى طالب إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم عام الفتح فقالت : يا رسول الله زعم ابن أمي علىّ أنه قاتل رجل أجرته : فلان ابن هبيرة ، فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" (15)
"وتستطيع أن تتأمل هذا، فتعلم مدى الرفعة التي نالتها المرأة في حمى الإسلام وظله، وكيف أنها نالت كل حقوقها الإنسانية و الاجتماعية كما نالها الرجل سواء بسواء، مما لم يحدث نظيره في أمة من الأمم غير أن المهم أن تعلم الفرق بين هذه المساواة الإنسانية الرائعة التي أرستها شريعة الإسلام، والمظاهر التقليدية لها مما ينادى به عشاق المدنية الحديثة اليوم، تلك شريعة من المساواة الدقيقة القائمة على الفطرة الإنسانية الأصيلة، يتوخى منها سعادة الناس كلهم نساءً ورجالاً، أفراداً وجماعات، وهذه نزوات حيوانية أصيلة يتوخى من ورائها اتخاذ المرأة مادة تسلية ورفاهية للرجل على أوسع نطاق ممكن، دون أى نظر إلى شئ آخر ."(16).
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر المرأة جرثومة خبيثة كما اعتبرها الآخرون، ولكنه قرر حقيقة تزيل هذا الهوان عنها، وهي أن المرأة بين يدي الإسلام قسيمة الرجل، لها ما له من الحقوق وعليها أيضاً من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها، وعلى الرجل بما اختص به من صفة الرجولة، وقوة الجلد، وبسطة واتساع الحيلة، أن يلي رعايتها، فهو بذلك وليها، يحوطها بقوته، ويذود عنها بدمه، وينفق عليها من كسب يده، ذلك ما قرره الله تعالى بقوله،: ]وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ[ (البقرة: 228).
هوامش المبحث السابع :
2. هـ. أ. ر. جب : المحمدية ، طبعة لندن ( 1953 ) ص 33.
3. مؤلف أمريكي معاصر، يعد كتابه ( قصة الحضارة) ذو ثلاثين مجلدا ، واحد من أشهر الكتب الني تؤرخ للحضارة البشرية عبر مساراتها المعقدة المتشابكة , عكف على تأليفه السنين الطوال , وأصدر جزأه الأول عام 1935، ثم تلته بقية الأجزاء ومن كتبه ( قصة الفلسفة ) .
4. ول ديورانت: نقلاً عن : عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام.
5. مستشرق فرنسي ، عمل مديرا لمكتبة الجزائر، من آثاره : ( حياة محمد) (باريس 1929) وهو من أدق ما صنفه مستشرق عن صلى الله عليه وسلم , و ( محمد والسنة الإسلامية ) (باريس 1955) ، ونشر عددا من الأبحاث في المجلات الشهيرة مثل : (المجلة الأفريقية ) ، و ( حوليات معهد الدراسات الشرقية) ، و ( نشرة الدراسات العربية) ... الخ).
6. نقلاً عن : عماد الدين خليل : قالوا عن الإسلام..
7. نظمي لوقا: نقلاً عن : عماد الدين خليل : مرجع سابق.(62/291)
8. محمد الغزالي : فقه السيرة، ص 260.
9. ايفلين كوبولد: نظمي لوقا: نقلاً عن : عماد الدين خليل : مرجع سابق.
10. منى عبدالله ماكلوسكي ، ألمانية، تعمل قنصلا لبلادها ، ألمانيا الاتحادية ، في بنغلاديش، اهتدت إلى الإسلام في مطلع عام 1976 ، على يد شيخ الجامع الأزهر الدكتور عبدالحليم محمود -رحمة الله - وشعرت يومها (وكأنها ولدت من جديد.).
10-نقلاً عن : عماد الدين خليل : مرجع سابق.
11-روز ماري ( مريم هاو) صحفية إنكليزية، نشأت في عائلة نصرانية متدينة , ولكنها مع بلوغها مرحلة الوعي بدأت تفقد قناعاتها الدينية السابقة وتتطلع إلى دين يمنحها الجواب المقبول . وفي عام 1977 أعلنت إسلامها , وهي تعمل الآن في صحيفة (الاراب تايمز ) اليومية الكويتية التي تصدر بالإنكليزية.
12-نقلاً عن : عماد الدين خليل : مرجع سابق.
13-صحيح - البخاري، باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها، برقم ( 4843)، ومسلم، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت، برقم( 1419 ) .
14-انظر: محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة، 283
15-صحيح - البخاري ( 1\ 469)، ومسلم (4\ 45).
16-انظر: محمد سعيد رمضان البوطي: مرجع سابق ، 154
المبحث الثامن : مكافحة الفقر :
بعدما عاشت الجزيرة العربية حياة الطبقية .. الغني يأكل الفقير، والقوي يبتذ الضعيف، ظهر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته التي حققت العدالة الاجتماعية متمثلة في دولة المدينة المنورة من ناحية، وفي منهج الإسلام في مكافحة الفقر والمرض من ناحية أخرى ..
فالحكومة الإسلامية تحصل زكاة المال من الأغنياء لتردها إلى فقراء الشعب، فلما بعث صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن ، أوصاه الرسو صلى الله عليه وسلم قائلاً : " أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" (1) ..
وفي هذا يقول ول ديورانت :
".. لسنا نجد في التاريخ كله مصلحًا فرض على الأغنياء من الضرائب ما فرضه عليهم محمد صلى الله عليه وسلم لإعانة الفقراء.."(2).
من ناحية أخرى ، فقد حذر الرسو صلى الله عليه وسلم من مغبة منع الزكاة وتوعد مانع الزكاة بالعذاب الشنيع يوم القيامة، فقا صلى الله عليه وسلم :
"من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع ( نوع من الثعابين ) له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ( يعني شدقيه ) ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك ".. ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم ) ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة (آل عمران180" (3) .
وقال : " ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه " (4) .
وقال مرغباً في مكافحة الفقر : " أطعموا الجائع وفكوا العاني " (5) .
هذا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أسخى الناس كفاً وعطاءاً، ما سُئل شيئا فقال لا !
وأعطى صفوان بن أمية غنماً ملأت وادياً بين جبلين فقال صفوان: أرى محمداً يعطى عطاء من لا يخشى الفقر !
ورد على هوازن سباياهم وكانت ستة آلاف، وأعطى العباس من الذهب ما لم يطق حمله!
وحُملت إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير !! فقام إليها يقسمها، فمارد سائلاً حتى فرغ منها! (6) .
وفي يوم ازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه فقال : "أيها الناس، ردوا علي ردائي، فو الذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً " (7).
ويلخص واشنجتون إيرفنج السلوك المالي للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله :
"كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينفق ما يحصل من جزية أو ما يقع في يديه من غنائم في سبيل انتصار الإسلام، وفي معاونة فقراء المسلمين، وكثيرًا ما كان ينفق في سبيل ذلك آخر درهم في بيت المال.. وهو لم يخلف وراءه دينارًا أو درهمًا أو رقيقًا.. وقد خيره الله بين مفاتيح كنوز الأرض في الدنيا وبين الآخرة فاختار الآخرة"(8).
وهكذا، جعل الرسو صلى الله عليه وسلم من مكافحة الفقر، سلوكاً وخلقاً وفرضاً إسلامياً على كافة المسلمين ..
هوامش المبحث الثامن:
3. صحيح ـ وهو في الإرواء، وصححه الألباني في تخريج مشكلة الفقر، ص 36.
4. ول ديورانت : قصة الحضارة ، 13 / 59.
5. صحيح ـ أخرجه البخاري والنسائي وأحمد عن أبي هريرة.
6. صحيح -رواه البخاري في الأدب المفرد ( 112 ) و الحاكم ( 4 / 167 ) والخطيب في " تاريخ بغداد " ( 10 / 392) .
7. صحيح - أخرجه البخاري والدارمي وأحمد من حديث أبي موسى الأشعري.
8. انظر: ابن سيد الناس: عيون الأثر، ج 2 / ص 421، 422.
9. صحيح ـ صححه الألباني في تخريجح كتاب فقه السيرة لمحمد الغزالي ص 392.
10. واشنجتون إيرفنج : حياة محمد ، ص303
المبحث التاسع : المعاهدات الداعمة للسلام(62/292)
للنبي صلى الله عليه وسلم الفضل الأعظم في نشر السلام في ربوع الجزيرة العربية، التي عاشت عدة قرون في حروب طاحنة ومعارك على أتفه الأسباب، وكثرت حروب "الفجار" التي انتهك أصحابها حرمة مكة وحرمة الأشهر الحرم ..
ولأول مرة تشهد الجزيرة العربية تلك المعاهدة المحمدية التي نادى بها رسول ا صلى الله عليه وسلم في العام السادس من الهجرة، وهي المعاهدة المشهورة بـ " صلح الحديبية " ..
رغم ما كان من بنود مجحفة بالمسلمين في هذا الصلح ..
وإن المتأمل لأحداث صلح الحديبية يتبين له حرص النبي صلى الله عليه وسلم الشديد على تحقيق السلام وأنه كان دائماً يجنح للسلم إن هيئت له أسباب إقامة السلام في أي زمان وفي أي مكان ..
فعندما قصد رسو صلى الله عليه وسلم العمرة مع أصحابه، في العام السادس من الهجرة، أبت قريش أن تسمح للنبي وأصحابه بإداء عبادة العمرة، وهذا الفعل من القريشيين يعد جريمة كبرى في عرف العرب، إذ كيف يُصد عن البيت من جاء معظماً له !!
وعرفت قريش ضيق الموقف، فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو لعقد الصلح، وأكدت له ألا يكون في الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا، لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً، فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآ صلى الله عليه وسلم قال : " قد سهل لكم أمركم، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل" (1)، فجاء سهيل فتكلم طويلاً، ثم اتفقا على قواعد الصلح، وهي هذه (2) :
1 . الرسو صلى الله عليه وسلم يرجع من عامه هذا، فلا يدخل مكة، وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً، معهم سلاح الراكب، السيوف في القُرُب، ولا يتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض .
2 . وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض .
3 . من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق .
4 . من أتي محمداً من قريش من غير إذن وليه ـ أي هارباً منهم ـ رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد ـ أي هارباً منه ـ لم يرد عليه .
ثم ُدعي علي بن أبي طالب ليكتب مسودة الصلح، وكره سهيل بن عمرو ـ مبعوث القريشيين ـ أن يكتب في صدر الصحيفة " محمد رسول الله " وأبى عليّ بن أبي طالب، وهو كاتب الصحيفة، أن يمحو بيده " رسول الله " ، فمحا رسول ا صلى الله عليه وسلم هذه الصفة بيده، وأمر الكاتب أن يكتب " محمد بن عبد الله "(3) . ثم تمت كتابة الصحيفة، ولما تم الصلح دخلت قبيلة خزاعة في عهد رسول الله وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب، ، فكان دخولهم في هذا العهد تأكيداً لذلك الحلف القديم ـ ودخلت قبيلة بنو بكر في عهد قريش(4) .
ومن المواقف التي تدل على حرص الرسو صلى الله عليه وسلم على السلام، ما حدث في معركة الخندق ( الأحزاب) في العام الخامس من الهجرة، حيث حصار المشركون المدينة المنورة، فلما اشتد على المسلمين الحصار و البلاء بعث رسول ا صلى الله عليه وسلم ، إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المرى، وهما قائدا غطفان ـ في جيش الأحزاب ـ وعرض عليهما رسول ا صلى الله عليه وسلم ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فأحضر رسول ا صلى الله عليه وسلم الصحيفة والدواة، وأحضر عثمان بن عفان فأعطاه الصحيفة، وهو يريد أن يكتب الصلح بينهما، وعباد بن بشر قائم على رأس رسول ا صلى الله عليه وسلم ، مقنع في الحديد، فأقبل أسيد بن حضير إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ومعه الرمح، ولا يدري بما كان من الكلام حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة.فلما أراد رسول ا صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فذكر لهما ذلك، واستشارهما فيه (5).
فرفضا هذه الفكرة..
ونزل النبي صلى الله عليه وسلم على رأي الجماعة، فلم يتم هذا الصلح، لأن فيه إهانة لكرامة المسلمين، وتفريط في ثرواتهم !
وفي فتح مكة في العام الثامن من الهجرة أعلن الرسو صلى الله عليه وسلم الأمان العام لكن الناس، فقال : "من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه عليه فهوآ من ومن دخل المسجد فهو آمن" (6). وعهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم بدخول مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم (7)..
وعفا رسول ا صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة، ونتيجة لذلك ؛ دخلت أعداد كبيرة منهم في الإسلام..!
هوامش المبحث التاسع:
1- صحيح ـ رواه البيهقي في السنن الكبرى ( 9\ 220)، وهو في الإرواء(1\ 57).
2- انظر: السهيلي : الروض الأنف 4\ 48،وابن هشام: السيرة النبوية 2\ 316، وابن كثير : السيرة النبوية 3\ 320، وصفي الرحمن المباركفوري: الرحيق المختوم، 298، وعلي محمد الصلابي : السيرة النبوية، 2\284.
3- انظر: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم: جوامع السيرة 1 / 209 .
4- انظر: محمد بن يوسف الصالحي الشامي :سبل الهدى والرشاد 5\ 52.(62/293)
5- ابن كثير : السيرة النبوية 3 / 201، محمد بن يوسف الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 4 / 376
6- ابن سيد الناس :عيون الأثر ، 2 / 188.
7- المصدر السابق: 2 / 194.
المبحث العاشر : خدمة الإنسانية ورعاية حقوق الإنسان
لقد كان الهدف من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته، وكل الغاية من حياته ومنتهاها هو أن يخدم الإنسان وأن يهذب الإنسان وأن يزكي الإنسان وأن يعلم الإنسان، وباختصار أن يجعل من الإنسان إنسانًا متمدنًا متحضرًا.
لقد كان مصدر إلهامه الوحيد والقاعدة الهادية الوحيدة له في أفكاره وأقواله وأفعاله هو المصلحة البشرية ..
لقد كان إنسانًا بكل ما في الكلمة من معان. وكانت سعادة نفسه ورضاها في التعاطف والتواد والمحبة الإنسانية.
تقول ايقلين كوبولد :
".. لعمري، ليجدن المرء في نفسه، ما تقدم إلى قبر محمد صلى الله عليه وسلم روعة ما يستطيع لها تفسيرًا، وهي روعة تملأ النفس اضطرابًا وذهولاً ورجاء وخوفًا وأملاً، ذلك أنه أمام نبي مرسل وعبقري عظيم لم تلد مثله البطون حتى اليوم.. إن العظمة والعبقرية يهزان القلوب ويثيران الأفئدة فما بالك بالعظمة إذا انتظمت مع النبوة، وما بالك بها وقد راحت تضحي بكل شيء في الحياة في سبيل الإنسانية وخير البشرية"(1).
إن مسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، الكفاحية ونضاله العظيم لنشر رسالة الإسلام قد أدت إلى نتائج عظيمة، أهمها : خدمة وحدانية الله بإسقاط الوثنية، ومن ثم خدمة الإنسانية كنتيجة منطقية بانتشار رسالة الإسلام بين الشعوب العربية من جهة ، ولكونها رسالة عالمية من جهة أخرى، فكان أن عم خيرها البشرية جمعاء، وقدمت الحلول المنطقية لخلاص الأمم من مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية والروحية .
ويؤكد القس دافيد بنجامين كلدانى في مؤلفه : " محمد في الكتاب المقدس " هذه الحقيقة بأن الرسول خادم الله والإنسانية بقوله :
"إن الخدمة الجليلة العظيمة المدهشة التي قدمها صلى الله عليه وسلم لله ، ولصالح البشر، لم يقدمها أي مخلوق من عباد الله ملكاً كان أو نبياً، خدمته لله فإنه اقلع جذور الوثنية من جزء كبير من الأرض، وأما خدمته للإنسان فقد قدم له أكمل دين وأفضل شريعة لإرشاده وأمنه "(2).
ويتابع القس دافيد بنجامين كلدانى القول :
" أقام دين الإسلام الذي وحد في أخوة حقيقية ، جميع الأمم والشعوب التي لا تشرك بالله شيئاً . إن جميع الشعوب الإسلامية تطيع رسول الله وتحبه تحترمه ؟ لأنه مؤسس دعائم دينها ، ولكنها لا تعبده أبداً ولا ترفعه إلى مقام التقديس والتأليه"(3)..
ويقارن عبد الله لويليام حال العالم بعد عهد صلى الله عليه وسلم وبين عصر الجاهلية فيقول : "لما شرف محمد صلى الله عليه وسلم ساحة عالم الشهود بوجوده الذي هو الواسطة العظمى والوسيلة الكبرى إلى اعتلاء النوع الإنساني وترقيه في درجات المدنية أكمل ما يحتاجه البشر من اللوازم الضرورية على نهج مشروع وأوصل الخلق إلى أقصى مراتب السعادة بسرعة خارقة. ومن نظر بعين البصيرة في حال الأنام قبله عليه الصلاة والسلام وما كانوا عليه من الضلالة.. ونظر في حالهم بعد ذلك وما حصل لهم في عصره من الترقّي العظيم رأى بين الحالين فرقًا عظيمًا كما بين الثريا والثرى"(4).
إن عالمية الرسالة الإسلامية وإنسانيتها جعلت من النبي صلى الله عليه وسلم ، رسول البشرية جمعاء وزعيم مريدي الخير للإنسانية، وذلك كما يرى المستشرق السويسري ماكس فان برشم ( 1863 _ 1921 ) بمعرض حديثه عن دور النبي صلى الله عليه وسلم التاريخي العظيم في حياة العرب والشعوب التي دخلت في الإسلام ، فارتقت من وهاد الضلالة إلى معارج النور والحضارة ، يقول في كتابه : « العرب في آسية »:
" إن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي العرب من أكبر مريدي الخير للإنسانية، وإن ظهور محمد صلى الله عليه وسلم للعالم أجمع إنما هو أثر عقل عال ، وإن افتخرت آسية بأبنائها فيحق لها أن تفتخر بهذا الرجل العظيم ، إن من الظلم الفادح ، أن نغمط حق محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء من بلاد العرب وإليهم، وهم على ما علمناه من الحقد البغيض قبل بعثه، ثم كيف تبدلت أحوالهم الأخلاقية والاجتماعية والدينية بعد إعلانه النبوة ، وبالجملة مهما ازداد المرء إطلاعاً على سيرته ودعوته إلى كل ما يرفع من مستوى الإنسان ، إنه لا يجوز أن ينسب إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما ينقصه ، ويدرك أسباب إعجاب الملايين بهذا الرجل ويعلم سبب محبتهم إياه و تعظيمهم له" (5) ..
إلى جانب هذا، يبين فيليب حتي أن " صفات محمد صلى الله عليه وسلم مثبتة في القرآن بدقة بالغة فوق ما نجد في كل مصدر آخر. إن المعارك التي خاضها والأحكام التي أبرمها والأعمال التي قام بها لا تترك مجالاً للريب في الشخصية القوية والإيمان الوطيد والإخلاص البالغ وغير ذلك من الصفات التي خلقت الرجال القادة في التاريخ. ومع أنه كان في دور من أدوار حياته يتيمًا فقيرًا، فقد كان في قلبه دائمًا سعة لمؤاساة المحرومين في الحياة"(6) .(62/294)
و تلخص الموسوعة البريطانية السيرة الكفاحية لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم واجتهاده في رفع راية التوحيد وعظمته عربياً وإسلاميا وعالمياً فتقول :
"إن محمداً صلى الله عليه وسلماجتهد في الله وفي نجاة أمته ، وبالأصح اجتهد في سبيل الإنسانية جمعاء" ..
و".. امتدت أنوار المدنية بعد محمد صلى الله عليه وسلم في قليل من الزمان ساطعة في أقطار الأرض من المشرق إلى المغرب حتى إن وصول أتباعه في ذلك الزمن اليسير إلى تلك المرتبة العلية من المدنية قد حيّر عقول أولي الألباب. وما السبب في ذلك إلا كون أوامره ونواهيه موافقة لموجب العقل ومطابقة لمقتضى الحكمة"(7).
و"ما أجمل ما قال المعلم العظيم ( صلى الله عليه وسلم ): الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله " (8).
إن الإسلام اعتنى بالإنسان أكثر من أي من الأنظمة الأخرى وكرم الإنسان من الأشكال بحيث ان الانتحار نجد ما يبرره إذا إنسان عمله. بينما الإسلام يمنع الانتحار لأن الإنسان له الكرامة العليا فهناك حديث عن الرسو صلى الله عليه وسلم : سئل رسول الله من قتل هذا الشخص فقالوا لا ندري فقال القتيل بين المسلمين ولا تدري من قتله. والذي بعثني بالحق لو ان أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مسلم ورضوا به لأكبهم الله على وجوههم في النار. فلو ان كل المسلمين قبلوا على قتل واحد ظلماً لوضعهم الله جميعهم في النار نتيجة هذا(9).
وهناك آيات كثيرة في هذا الصدد ، تبين كيف رفع الإسلام من شأن الإنسان وصان حقوقه، بفضل دعوة صلى الله عليه وسلم :
قال الله تعالى في القرآن: ]وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [ (الإسراء:70)، هذه كلها تعكس ان نظرة الإسلام نظرة عالية ويهتم بالإنسان ويهتم بحقوقه، حتى جعل قتل نفس واحدة بغير حق كقتل البشرية كلها منذ أن خلق الله آدم وحتى قيام الساعة .. :
]مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً[(المائدة: 32)..
هوامش المبحث العاشر:
7. إفلين كوبلد : البحث عن الله ، ص52.( إفلين كوبلد (بريطانية)، أسلمت عام (1352هـ/1933م)، وتسمت باسم (نبيلة)، أدت فريضة الحج، ثم كتبت كتابًا بعنوان (البحث عن الله)، وهو يوميات أودعت فيه انطباعاتها عن الإسلام)
8. دايفد بنجامين كلداني (عبد الأحد داوود ) : محمد في الكتاب المقدس ، 82. وانظر: محمد شريف الشيباني : مرجع سابق،112
9. المصدر السابق.
10. عبد الله لويليام : أحسن الأجوبة عن سؤال أحد علماء أوروبا ، ص 21 ، 22.
11. ماكس فانبرشم : العرب في آسية.
12. فيليب حتى: الإسلام منهج حياة ، ص54.
13. عبد الله لويليام : أحسن الأجوبة عن سؤال أحد علماء أوروبا ، ص 22 ، 23.
14. جان ليك : العرب ، ص 43 و انظر: محمد شريف الشيباني : مرجع سابق،145.
15. عبد الحسين شعبان :ثقافة حقوق الإنسان، ص 140.
خاتمة
وهكذا ، يتجلى نور محمد صلى الله عليه وسلم .!
فتنكشف الحقيقة .. !
تلك الحقيقة التي يستحي من ذكرها كثير من المسلمين ويخفيها كثير من الحاقدين .. إنها الحقيقة الأبدية السرمدية القائلة بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعظم إنسان مشى على سطح الكرة الأرضية على الإطلاق، وأعظم من قدم وضحى لخدمة هذه البشرية، فهو أعظم موحد، وأعظم مصلح، وأعظم محرر.. وفوق هذا كله فهو خاتم الأنبياء، وأنه لا نبي بعده، وأن دعوته لابد أن يؤمن بها ويذعن لها القاصي والداني، إذا أراد السعادة في الدنيا والآخرة، والنجاة من عذاب الله..
نعم ..!
إن المعبر الوحيد للسعادة هو منهاج صلى الله عليه وسلم !
ونستطيع نجمل أهم نتائج وتوصيات هذا البحث على النحو التالي :
أولاً : نتائج البحث :
1- للنبي صلى الله عليه وسلم الفضل الأكبر في نهضة البشرية ـ بعد عصور الظلام في القرون الوسطى ـ من وحل الوثنية إلى ظلال التوحيد .
2- إن العرب لم يتمتعوا بالاستقلال أو التحرر إلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أتباعه ..
3- للنبي صلى الله عليه وسلم الفضل الأكبر في نشر قيم العدالة والمساواة والحب والإخاء في أنحاء العالم في الوقت الذي كان العالم يعاني من ظلم الفرس واستبداد الرومان وخرافات الهند .
4- عاش أصحاب الديانات والعقائد المختلفة في ظل حكم صلى الله عليه وسلم حياة آمنة ، قد حفظ صلى الله عليه وسلم لهم فيها حق حرية الاعتقاد، لم يهدم صلى الله عليه وسلم معبداً أو كنيسة قط !
5- النبي محمد هو أول من أعلن وطبق مبدأ الحوار بين الأديان والحوار بين الحضارات، وكان ذلك في العام الذي راسل فيه قادة وملوك العالم وأرسل إليهم الرسل والسفراء.
6- حرر النبي المرأة من رق الجاهلية على عدل الإسلام، وأنقذها من مأساة الوأد، ورد لها اعتبارها الفكري والاجتماعي والاقتصادي .(62/295)
7- أعاد النبي محمد للإنسان اعتباراته وحقوقه، فأسقط النبي نعرات الجاهلية ورجس التمييز والعنصرية، وأعلن أن دم الإنسان أشد حرمة من الكعبة !
8- للنبي محمد الفضل الأكبر في مكافحة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية القائمة على الطبقية والتمييز العرقي..
ثانياً : توصيات البحث :
1- على البشرية أن تعتز برجل كالنبي صلى الله عليه وسلم وأن تكرّم منهجه وتدرسه للأجيال .
2- ضرورة الاهتمام بترجمة السيرة النبوية إلى اللغات الحية بصورة جديدة وعصرية تناسب عقلية الغرب .
3- ضرورة الدفاع عن النبي محمد ممن يشوهون صورته فالنبي محمد قيمة إنسانية ضخمة، وإهانتها إهانة للبشرية جمعاء .
4- ضرورة وضع قانون يجرم ازدراء النبي محمد والأنبياء ـ عليهم السلام ـ ، لأن في ازدراء الأنبياء مسخ لفطرة الإنسان، وهتك لمثله العليا.
ثالثاً: مقترحات البحث :
يقترح الباحث إجراء الدراسات التالية :
1. فضل النبي صلى الله عليه وسلم على أوربا .
2. دور النبي صلى الله عليه وسلم في تحضر البشرية .
3. الرسو صلى الله عليه وسلم والذوق.
4. الرسو صلى الله عليه وسلم وفن التفاوض.
محمد مسعد ياقوت، مصر
yakoote@gmail.com
yakoutey@yahoo.com
yakut.blogspot.com
+20104420539
1. المصادر والمراجع
2. القرآن الكريم.
3. أ. س. تريتون : الإسلام ، طبعة لندن ، 1951 م.
4. إبراهيم خليل أحمد : محمد في التوراة والإنجيل والقرآن ، مكة المكرمة : المكتبة التجارية، 1409هـ.
5. أبي الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، القاهرة : مكتبة السنة، 1410هـ - 1990م.
6. آتين دينيه وسليمان بن إبراهيم: محمد رسول الله، ترجمة: د.عبد الحليم محمود، ود.محمد عبد الحليم محمود.
7. أحمد ديدات: ماذا يقول الكتاب المقدس و الغرب عن صلى الله عليه وسلم ، الطبعة الأولى ، القاهرة: الدار المصرية للنشر والتوزيع ، 1404هـ.
8. أكرم العمري ، موقف الاستشراق من السنة والسيرة ، بحث منشور في مجلة مركز بحوث السنة والسيرة ، 1995م .
9. إميل درمنغم :حياة محمد، ترجمة : محمد عادلزُعَيْتِر، بيروت : المؤسسة العربية للدراسات و النشر، الطبعة الثانية، 1988،
10. آن بيزينت: حياة وتعاليم محمد، دار مادرس للنشر، 1932م.
11. ابن سيد الناس (أبي الفتح محمد بن محمد بن عبدالله بن محمد بن يحيى))ت 734هـ(: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، بيروت : دار الآفاق ، 1977م.
12. ابن القيم (محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي) : زاد المعاد في هدي خير العباد ، تحقيق : شعيب الأرناؤوط - عبد القادر الأرناؤوط، بيروت - الكويت: مؤسسة الرسالة - مكتبة المنار الإسلامية -الطبعة الرابعة عشر ، 1407 هـ- 1986م،
13. ابن كثير(إسماعيل بن عمر): البداية والنهاية، بيروت:مكتبة المعارف،د. ت.
14. ابن كثير(إسماعيل بن عمر): السيرة النبوية، بيروت: مكتبة المعارف،د. ت.
15. البخاري (محمد بن إسماعيل ): صحيح البخاري، بيروت: دار ابن كثير، الطبعة الثالثة ، 1407هـ - 1987م.
16. البيهقي (أحمد بن الحسين بن علي بن موسى): سنن البيهقي الكبرى ، تحقيق : محمد عبد القادر عطا،- مكة المكرمة: مكتبة دار الباز ، 1414هـ - 1994م.
17. التبريزي (محمد بن عبد الله الخطيب): مشكاة المصابيح، تحقيق: تحقيق محمد ناصر الدين الألباني بيروت : المكتب الإسلامي ، الطبعة الثالثة - 1405 هـ- 1985م.
18. السهيلي: الروض الأنف، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل ، القاهرة: 1967 م.
19. الألباني (محمد ناصر الدين) : مختصر إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، بيروت : المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1405 هـ - 1985م.
20. الألباني (محمد ناصر الدين): إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل(8 مجلدات)، بيروت : المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية ، 1405هـ - 1985م.
21. الألباني (محمد ناصر الدين): السلسلة الصحيحة ،الرياض: مكتبة المعارف، د.ت.
22. الألباني (محمد ناصر الدين): صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته، بيروت : المكتب الإسلامي، د. ت.
23. الكتاب المقدس . طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط.
24. الكولونيل بودلي: حياة محمد، لندن، 1946م.
25. برهان غليون، ومحمد سليم العوا : النظام السياسي في الإسلام، دمشق: دار الفكر، د. ت.
26. توماس كارلايل : الأبطال وعبادة البطل والبطولات في التاريخ ، ترجمة : محمد السباعي. كتاب الهلال، القاهرة: العدد 326 صفر 1398
27. جورج حنا : قصة الإنسان، طبعة بيروت، 1959م.
28. جورج سارتون : الثقافة الغربية في رعاية الشرق الأوسط
29. جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، بيروت : المؤسسة العربية للدراسات و النشر، الطبعة الثانية، 1988جون وليام دريبر : تاريخ التطور الفكري الأوروبي، المجلد الأول، طبعة لندن 1875م.
30. خالد محمد خالد : رجال حول الرسول، القاهرة : دار المقطم، الطبعة الأولى، 1415هـ-1994م.
31. ديفيد بنجامين (عبد الأحد داود): محمد في الكتاب المقدس، ترجمة : فهمي شما . مراجعة : أحمد محمد الصديق . مطابع الدوحة الحديثة ، د. ت.(62/296)
32. ديوان شند شرمة: أنبياء الشرق، طبعة كلكتا ،1935م.
33. رودي بارت : الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ترجمة : مصطفى ماهر - القاهرة 1967م.
34. ستيفن ونسيمان : تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة: السيد الباز العريني ، بيروت: مكتبة الحياة، 1413هـ -1993م.
35. صفي الرحمن المباركفوري : الرحيق المختوم، المنصورة : دار الوفاء : 1426هـ-2005م.
36. عبد الحسين شعبان :ثقافة حقوق الإنسان، رابطة كأوا للثقافة الكردية، بيروت ، الطبعة الأولى،2001
37. عبد الله بن جار الله بن إبراهيم آل جار الله : كمال الدين الإسلامي وحقيقته ومزاياه ، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية، الطبعة الأولى ، 1418هـ
38. علي بن أحمد بن سعيد بن حزم :جوامع السيرة ، تحقيق : إحسان عباس، القاهرة: دار المعارف ، الطبعة الأولى ، 1900 م
39. علي محمد الصلابي : السيرة النبوية، عرض وقائع وتحليل أحداث، القاهرة : مؤسسة اقرأ، الطبعة الأولى ، 1426هـ-2005م
40. عماد الدين خليل : قالوا عن الإسلام ، بيروت :مؤسسة الرسالة، 2000م .
41. فيليب حتي : تاريخ العرب ، ترجمة : ادوارد جرجي وجبرائيل جبور، بيروت 1965 م
42. مجلة الثقافة الروسية ، ج 7 ، عدد 9
43. مجلة الفتح القاهرية، عام 1930
44. محمد الغزالي : فقه السيرة، القاهرة: دار الشروق، الطبعة الثانية، 1424هـ 2003م
45. محمد بن عبد الله السحيم: أعظم إنسان في الكتب السماوية ، القاهرة: منشورات مكتبة الخانجي ،د.ت.
46. محمد بن يوسف الصالحي الشامي (ت 943هـ)،: سبل الهدى والرشاد في سير خير العباد، تحقيق :مصطفى عبدالواحد. مصر:المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لجنة إحياء التراث الإسلامي ، عام 1392هـ / 1972م.
47. محمد سعيد رمضان البوطي : فقه السيرة، القاهرة : دار السلام 1419هـ- 1999م
48. محمد شريف الشيباني : الرسول في الدراسات الاستشراقية المنصفة،. نسخة ألكترونية.
49. محمد عزت الطهطاوي: محمد نبي الإسلام في التوراة والإنجيل والقرآن ، القاهرة : مكتبة النور، د. ت.
50. محمد ناصر الدين الألباني : تخريج أحاديث كتاب مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، بيروت : المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى ،1405 هـ- 1984 م.
51. مسلم بن الحجاج : صحيح مسلم، بيروت : دار إحياء التراث العربي.
52. موسوعة تاريخ الحضارات العام، ترجمة: فريد م. داغر، فؤاد ج. أبو ريحان، إشراف: موريس كروزيه، عويدات للطباعة والنشر، الطبعة الأولى ، 2003 م.
53. مونتجمري وات : محمد في المدينة، ترجمة : شعبان بركات ، بيروت: منشورات المكتبة العصرية ، د. ت
54. مونتجمري وات : محمد في مكة ، ترجمة: شعبان بركات ، بيروت: منشورات المكتبة العصرية ، د. ت
55. مونتجمري وات:الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر، ترجمة : عبد الرحمن عبد الله، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م
56. مونتجمري وات :تأثير الإسلام في أوربا في العصر الوسيط. ترجمة: حسين أحمد أمين، بعنوان "فضل الإسلام على الحضارة الغربية" دار الشروق. بيروت. 1983.
57. نصري سلهب: في خطى محمد، بيروت: دار الكتاب العربي، 1970م
58. نظمي لوقا: محمد في حياته الخاصة، القاهرة: دار الكتب الحديثة، 1969 م.
59. هـ. أ. ر. جب : المحمدية ، طبعة لندن ، 1953 م.
60. هربرت جورج ولز :معالم تاريخ الإنسانية، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد ، القاهرة: الهيئة المصرية العامة، 1967م
61. هنري ماسيه : الإسلام، بيروت: منشورات عويدات، 1988م.
62. ول ديورانت :قصة الحضارة ، بيروت : مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى، 2003م.
تم بحمد الله ..
وصلى الله على نبينا محمد، عدد ما أحاط به الله !
تعريف بالكاتب
محمد ياقوت
المعلومات الشخصية :
محمد مسعد ياقوت - باحث وداعية إسلامي مقيم في مصر .
جوال: 0104420539(002)
البريد الإلكتروني : yakoote@gmail.com
yakoutey@yahoo.com
الصفحة الإلكترونية : yakut.blogspot.com
الأعمال التي قام بها:
- باحث متفرغ لإعداد مشروع علمي في مؤسسة أحمد بهاء الدين.
- باحث متفرغ لإعداد مشروع علمي في وزارة الثقافة المصرية .
- باحث ومحرر بموقع خير أون لاين
- يكتب في العديد من المجلات كمجلة المجتمع الكويتية، ومجلة المعرفة السعودية، ومجلة الرسالة المصرية ..
- كاتب مشارك في موقع إسلام أون لاين.
- كاتب مشارك بموقع لبيا المستقبل
- قدم سلسلة حلقات عن الثقافة العلمية وأزمة البحث العلمي ،في القناة السادسة المصرية
- قدم في قناة الأمة الفضائية - سلسلة حلقات عن أخلاقيات الحرب في الإسلام. ( لم تكتمل) .
المؤلفات :
- الاختلاط وأثره على التحصيل العلمي والابتكار- رؤية شرعية - ، البحث الفائز بجائزة موقع المرأة " لها أون لاين" للثقافة و الإبداع ، عام 2004
- حوار الحضارات : الموجود والمفقود والمنشود، بحث مقدم إلى منظمة الكتاب الأفريقيين والأسيويين ، أغسطس 2005م ـ مسابقة مبارك العالمية للسلام والتنمية .(62/297)
- هروب النخب العلمية ، بين واقع النزيف وسبل العلاج : بحث مقدم إلى المؤتمر العالمي العاشر للندوة العالمية للشباب الإسلامي، " الشباب وبناء المستقبل" .
- تجديد الدين :مفهومه وضوابطه وآثاره : بحث مقدم إلى جائزة نايف بن عبد العزيز العالمية .
- الفصل بين الجنسين في التعليم بين الشريعة الإسلامية والدراسات الإنسانية، بحث مقدم إلى المؤتمر العالمي الثامن للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، بدولة الكويت.
-صنائع المعروف، ثلاثون بابًا من أبواب الخير، منشور.
- أزمة البحث العلمي في مصر والوطن العربي، القاهرة : دار النشر للجامعات، الطبعة الأولى، يناير 2007
===============(62/298)
(62/299)
صراع الحضارات أكذوبة غربية
التحرير 26/2/1424
28/04/2003
- ما يمر به الاسلام اليوم حلقة جديدة في سلسلة لن تتوقف
- المرأة تمتلك أخطر دور في بناء الأمة الإسلامية القوية
- الحرب على الإسلام لم تتوقف منذ ظهوره من أجل القضاء عليه
المفكر الإسلامي الدكتور مصطفى الشكعة يرى أن الإسلام والمسلمين يتعرضون حالياً لحملة هجوم شرسة لم يتعرضوا لها من قبل، فالغرب يشن عليهم حربًا بكل ألوان العدوان البارد والساخن، ويؤكد أن المسلمين يعيشون مرحلة زمنية تعيسة، ولكنهم لا بد أن يتمسكوا بدينهم ووحدتهم؛ لأن تلك سنة الله، فمنذ أن ظهر الإسلام علي الأرض وهو يمر بمراحل متعددة من الهجوم، لكن أبطاله استطاعوا أن ينتصروا على عدوهم في كل المرات.
وينادي الدكتور مصطفى الشكعة الأستاذ بجامعة عين شمس بضرورة تمسك المرأة المسلمة بالرسالة التي حددتها لها الشريعة الإسلامية؛ لأن دورها في بناء الأسرة والمجتمع الإسلامي مهم جداً ،وخاصة في ظل كفالة المبادئ الدينية لحقوقها، بعدما كانت كماً مهملا ضمن ممتلكات الرجل، ويحذر الدكتور الشكعة من خطورة الاستشراق فهو السم المدسوس في العسل.. تفاصيل عديدة حول القضايا الساخنة في هذا الحوار الذي أجراه موقع الإسلام اليوم.
صورة مشوهة
سؤال: ما تعليقكم على الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام هذه الأيام ؟
جواب: الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام ليست وليدة اليوم، ولكنها حلقة جديدة في سلسلة لن تتوقف، وتتغير حسب موازين القوى الدولية ووحدة العالم الإسلامي، فالغرب يشن حربه التي بدأت بتشويه صورة الإسلام والمسلمين في شتى وسائل الإعلام الغربي، فأصبح هناك عقيدة راسخة في عقول الشعوب المعادية للإسلام في أمريكا ودول أوروبا بأن الرجل المسلم شخص عدواني متخلف، قبيح المنظر بدائي، يمسك في إحدى يديه بكتاب الله وفي اليد الأخرى السلاح، يرتدي جلبابه الأبيض القصير.. أما الصورة الأخرى للمسلم فهو رجل يجمع حوله النساء والخمر والطرب والأموال ولا يفكر فكل ما يعنيه هو ملذات الدنيا المادية ويبدد في سبيل ذلك كل شيء..أما الصورة الأشد قسوة فهي تلك التي تصور هذا المسلم بالعداوة للإنسانية والشذوذ، بحيث يتم عرض صورته في هيئة شخص يعتدي على الأطفال الأبرياء ويمزق براءتهم.. هذه الصورة المشوهة هي القاعدة التي انطلقت منها كل الحروب ضد الإسلام وشعوبه، سواء كانت بالحرب الاقتصادية تارة أو بالسلاح تارة أخرى، وهو ما حدث في البوسنة والهرسك وأفغانستان وما حدث في السودان والصومال، ولم يزل في فلسطين مستمرا وكذلك كشمير وغيرها من المناطق الإسلامية، وما يتعرض له العراق الآن وإيران ولبنان، كل ذلك هو نفس سيناريو الهجوم، لكن كلما اشتدت الأزمات بالمسلمين لا بد أن يزداد تمسكهم بدينهم، وتقوى وحدتهم لأن العدو الذي يتربص بهم - دائما - يجد فرصته في فرقة الأمة لتحقيق أهدافه الاستعمارية.
محنة المسلمين
سؤال: ما هو تقييمك للوضع الحالي للأمة الإسلامية ؟
جواب: الأمة الإسلامية تعيش في محنة ما يطلق عليه الغرب بالأصولية أو ما يطلقون عليه "التطرف الإسلامي"، ولا بد أن نعرف أن أصولية الإسلام ذات معنى يختلف تماما عن الأصولية النصرانية، فالأصولية عندهم ترتبط بالكنيسة وحرق العلماء، بينما الأصولية الإسلامية ترتبط بكل معاني الإنسانية والحياة السلمية .
وقد طوع الغرب هذه المغالطة الكبرى بصورة سيئة، فأصبحت المادة العلمية التي يتلقاها الأطفال والشباب الذين يتلقون تعليمهم في مدارسهم يحصلون على مادة علمية تحتوي على مادة مشوهة وكريهة، فهم يعلمونهم كيف يكرهون الإسلام، أما المصيبة الكبرى فتكمن فيما تصدره بعض الهيئات الحكومية في بلاد المسلمين، وتحمل هجوما شرسا على الإسلام، فما أقبح أن تكون يد الهجوم على الإسلام من بلاد المسلمين ومن وسائل إعلام ليست غربية، كذلك بعض الكتب التي هاجم أصحابها الإسلام ثم أعلنوا توبتهم وبراءتهم منها، ثم نجد بعد ذلك قيام بعض الهيئات الحكومية في بلادنا الإسلامية تعيد طباعتها مما يخدم الأطماع الغربية، وتثير عددا كثيرا من علامات الاستفهام، أما المناهج التعليمية في العديد من المدارس بالدول الإسلامية فقد تعرضت لعملية تجهيل للقضايا الإسلامية وكل ما يربط التلاميذ بدينهم، حتى الحصص القليلة التي خصصتها وزارات التعليم للدين الإسلامي فكثيرا ما يتم إلغاؤها وتحويلها لتدريس مواد أخرى، لكن على النقيض تماما فبرامج أقسام اللغات الأجنبية في الجامعات وما شاكلها تقوم بتدريس روايات بعضها إباحي مائة بالمائة، والبعض الآخر فيه طعن في الإسلام، والأبشع من ذلك أن الروايات العربية التي يتم تدريسها في أقسام اللغة العربية كلها فاحشة، وكل ذلك من أساليب الهجوم على الإسلام .
الحرب على الإسلام
سؤال: ما تحليلك للحروب التي تعلن عنها الولايات المتحدة الأمريكية بدعوى مكافحة الإرهاب و إنقاذ الأمة العربية والإسلامية ؟(62/300)
جواب : الحروب الوهمية التي تعلن عنها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وتحشد العالم من أجل المشاركة فيها تحت مسميات الشرعية الدولية تارة، ومكافحة الإرهاب تارة أخرى، كل ذلك يدور في نفس فلك الحرب ضد الإسلام، فما حدث في البوسنة والهرسك من عمليات إبادة للمسلمين وما يدور على الأرض المحتلة في فلسطين كان أدعى لسرعة التدخل الدولي من أجل إنقاذ الضحايا، لكن ما حدث هو غض الطرف عن السفاحين حتى ينتهوا من تنفيذ جرائمهم ضد المسلمين، وبعد ذلك يتم التدخل بصورة تعد ورقة توت يحاول ما يسمى بالمجتمع الدولي أن يستر بها عورته، وعلى النقيض تماما يكون التصرف مع الدول الإسلامية، فحين بدأت أفغانستان والسودان وإيران في بناء قواعد لدول إسلامية حقيقية، تم اختلاق الحجج من أجل القضاء عليها كي تضمن دول محور الحرب على الإسلام استمرار نفوذها في العالم الإسلامي...
أما المهزلة التي يشهدها بلد مسلم كالعراق فهي مسألة لا علاقة لها بالقضاء على أسلحة الدمار الشامل، لأن هذا النوع من السلاح بدأت ولادته في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الكبرى، ولم يصل للدول الأخرى إلا بعد أن طورت الدول الكبرى هذه الأسلحة أو ابتكرت ما هو أخطر منها، والمسألة برمتها تدور في إطار تحقيق المصالح الخاصة لأمريكا وبريطانيا، كذلك تعطي الفرصة لتمكين الحكومة الدموية في إسرائيل من تحقيق مخططاتها تجاه الشعب الفلسطيني المجاهد، فأي عدالة دولية هذه التي ترى في امتلاك دولة ذات سيادة على أرضها لسلاح ما خطورة على العالم ؟
في حين لا ترى الخطورة نفسها في امتلاك دولة معتدية بل إنها ترفض نداء المجتمع الدولي بالتوقيع على اتفاقيات نزع هذا النوع من السلاح الخطر، المسألة واضحة ولا تحتاج لعناء في كشف أبعادها الاستعمارية.
الداء والدواء
سؤال: هل هناك تصور من وجهة نظرك للخروج من هذه المحنة ؟
جواب: لست يائساً من الوصول إلى طريق الخروج من هذه المحنة فالمسلم لا ييأس، لكن لا يمكن أن نصل إلى الدواء بدون معرفة الداء، والذي ينبع من البلاد الإسلامية نفسها، هذا الداء يكمن في الهجوم على الإسلام في بلاد المسلمين، وملاحقة كل من يتمسك به، وكذلك الفرقة والصراعات التي أصبحت تحكم معظم علاقات الدول الإسلامية، وغياب المشروعات الكبرى التي من شأنها توحيد كلمتهم وإثراء عملية التمسك بدينهم، كذلك اختفاء القدوة التي من خلالها انتشر الإسلام، فالتجار المسلمون في بداية الدعوة كانوا أمناء في تعاملاتهم، صادقين في علاقاتهم الاقتصادية، يقيمون الصلاة في أوقاتها، فأسلم الكثيرون ومن خلال هذه القدوة وعن طريقها يتربى الطفل وينشأ على الفضيلة، وبها يمكن تحصين المجتمعات الإسلامية من التيارات الفكرية و الثقافية الوافدة التي تدمر عقول الشباب وتهدم بناء المجتمع، هذا بالإضافة إلى استغلال الثروات الضخمة التي يتمتع بها العالم الإسلامي، سواء أكانت بشرية أو طبيعية أو صناعية، ورفع اليد الاستعمارية من السيطرة عليها، كما لابد أن نكون أشد حذرا من عمليات الاستشراق التي بدأت تحت رايتين، الأولى راية الكنيسة المعادية للإسلام، والراية الأخرى هي راية الاستعمار الذي يرى أن كل ما يملكه المسلمون حلال لهم، ولذلك يلجأون للتدليس وقلب الحقائق؛ حتى يتمكنوا من تحقيق أهدافهم .
هذه النقاط التي كانت سببا في داء الضعف الذي أصاب العالم الإسلامي لو تم القضاء عليها لتغيرت الصورة إلى النقيض، وعادت لنا قوتنا من جديد .
صدام الحضارات
سؤال: ماذا عن رأيكم فيما يعرف بتصادم الحضارات، وتأثير ذلك على الإسلام ؟
جواب: الحضارة في أي مكان بمعناها الراقي الرفيع هي ملك لكل الإنسانية وكذلك المعرفة، لذلك فإن الحصول على المعرفة والبحث عنها واقتنائها والسفر إليها هي أمر مطلوب من كل الحضارات، وصدام الحضارات ثم صراعها لا وجود له في الحضارة الإسلامية التي لا تصارع أحد من جانبها، وهنا نذكر بقول الإمام ابن رشد - الذي أهدر بعضنا قيمته العلمية والدينية - " أننا نقرأ ما يكتبه الآخرون فإن اتفق مع ديننا وعقيدتنا وآدابنا أخذناه وشكرناهم، وإن اصطدم مع معتقداتنا الدينية والحضارية انصرفنا عنه وشكرناهم أيضا" .. لذلك فالحضارات لا بد ألا تصطدم بعضها البعض على أي حال، بشرط أن تكون نافعة للبشر والعقل الإنساني وليس للتشكيك فيه وهدم المعتقدات الدينية السليمة، فالحضارات لا تصطدم وتتصارع لكنها تتفاعل من أجل الإنسانية، شريطة أن تكون بعيدة عن تغيير فطرة الخالق أو هدم العقائد السماوية .
طعنات مسمومة
سؤال : هل يرى فضيلتكم أن هناك أزمة حقيقية في العقل المسلم، وما تفسيرك للاتهامات التي ترد في هذا الشأن ؟
جواب : ما يدعيه البعض ويروج له من وجود أزمة في العقل المسلم مغالطة لا وجود لها، فمادة "يعقلون" و"أولي الألباب " في آيات القران الكريم لا تحصى فكيف يكون هناك أزمة في عقل المسلم.(62/301)
إن الأزمة موجودة في العقول المريضة التي تلصق بالإسلام الأزمات، فأعداء الإسلام يختلقون التعبيرات والمفاهيم الخاطئة عن الإسلام، ويطعنونه بها، والهدف من ذلك هو إحداث بلبلة في عقول المسلمين من أجل صرفها عن الاهتمام بواقعها والتفكير في مستقبلها، والشيء المؤسف أن الأعداء نجحوا إلى حد كبير في تحقيق أهدافهم، فهناك العديد من المسلمين لا يعلمون شيئا عن دينهم ولا مشاكل مجتمعاتهم الإسلامية .. فكيف نطلب منهم أن يعملوا عقولهم لحلها.
إن الأزمة الحقيقية هي محاولة تغييب العقل المسلم، ومحو طاقته الفكرية والإبداعية، وللقضاء على هذه الأزمة لا بد أن تتكاتف كل المؤسسات الإسلامية داخل مجتمعاتنا المسلمة، بحيث توضح روح الإسلام الحقيقية لكل من يشوب عقله أي نقص في جانب من جوانب الإسلام، وهذا يتطلب وضع خطة متكاملة للنهوض بالعمل الإسلامي داخل هذه المجتمعات.
صلاح المرأة المسلمة
سؤال: ما رأيك في دعوة المساواة بين الرجل والمرأة، والتي يروج لها البعض هذه الأيام ؟
جواب: المرأة قبل الإسلام كانت مخلوقاً مضطهداً من قبل الرجل في شتى المجتمعات، لكن مع ظهور نور الإسلام حصلت علي حقوقها كاملة، وتم فك القيود التي كانت تحيط بعنقها، وللمرأة دور أساس في بناء الأسرة التي تعد اللبنة الأولى للمجتمع، وصلاح المرأة المسلمة ينتج عنه صلاح المجتمع الإسلامي، فدورها لا يقل بأي حال عن دور الرجل، وما يجب عليها فقط أن تؤدي رسالتها بالصورة التي رسمها لها الإسلام وقواعده؛ حتى لا تتحول إلى مخلوق ثالث لا هي حافظت على كونها امرأة ولا استطاعت أن تصير رجلا.
ولا بد أن تعي ما يريده أعداء الإسلام من توجيه أسلحتهم لهذا الجانب المهم من البناء الإسلامي، فهم يرغبون في خروجها عن آداب دينها وإفسادها عن طريق شعارات المساواة وغيرها، ونجاحهم في ذلك يعني نجاحهم في إفساد اللبنة الأولى في بناء المجتمع المسلم بما يعني النجاح في إفساد كل المجتمع، كما يجب على الرجل منحها حقوقها كاملة كما كفلها لها الإسلام، ولا يعود بها إلى عصور الجاهلية .
============(62/302)
(62/303)
تحالف عسكرى استراتيجى على أرضية صراع الحضارات ضد العرب والمسلمين
طلعت رميح 30/1/1423
13/04/2002
وقت أن تدهورت الأوضاع على الحدود الهندية الباكستانية ووصلت حافة الحرب،اوفدت الحكومة الهندية وفدا "شعبيا" إلى مصر للقاء المثقفين والكتاب والصحفيين المصريين وشرح وجهات النظر الهندية فى أسباب تدهور الأوضاع على الحدود مع التركيز على الرؤية الهندية من قضية كشمير.
فى هذا اللقاء كانت الملاحظة الابرز لدى،هى حالة الانزعاج لدى الحاضرين من الكتاب والمثقفين من زيارة وزير الخارجية الإسرائيلى إلى نيودلهى من منطق أن للهند دور تاريخى فى حركة عدم الانحياز وادركت أن الحاضرين يتحدثون عن ماض بعيد ولا يدركون المدى الخطير الذى وصلت إليه العلاقات الهندية الإسرائيلية خلال السنوات العشر الأخيرة والتى اصبحت أخطر العلاقات الخارجية للكيان الصهيونى فى قارتى افريقيا وأسيا بل والأكثر تاثيرا على مجريات ومستقبل الصراع العربى الإسلامى مع الصهاينة.
والحقيقة أن العلاقات الهندية الإسرائيلية -أسبابها وأهدافها وطبيعتها وحدودها ومداها الإستراتيجى الذى وصلت اليه والأرضية الفكرية التى يقوم عليها-ما تزال مجهولة وغير مفهومة عربيا وإسلاميا إلا فى نطاق ضيق،حيث يتركز الاهتمام العربى والإسلامى على طبيعة هذه العلاقات من زاوية كشمير وفى أفضل الاحوال من زاوية بعض الصفقات العسكرية وبعض العلاقات الدبلوماسية الشكلية التى لا يصدر عنها ما يعبر حقيقة ما جرى ويجرى.ومع عدم تقليل الأهمية النظر من هذه الزوايا-خاصة قضية كشمير التى هي حالة شبيهة بحالة فلسطين-إلا أن هذه العلاقات أصبحت اليوم علاقات تحالف استراتيجى سياسى وعسكرى واقتصادى ..والأهم أنها تبنى على أرضية صراع الحضارات .
منذ وصول المتطرفين الهندوس إلى السلطة فى الهند (حزب بهارتيا جاناتا) بدأت إسرائيل السعى لتطوير هذه العلاقات على أساس إقامة تحالف حضارى هندوسى يهودى فى مواجهة الحضارة الإسلامية والمسلمين باعتبار أن المسلمين عدوا مشتركا وأن المواجهة بين إسرائيل والعرب والمسلمين هى نفسها المواجهة العربية الإسلامية ضد الهند سواء من قبل المسلمين داخل الهند أو فى الصراع الهندى الباكستانى فى كشمير وأن المصالح العليا للهند وإسرائيل تتطلب تحالفا إستراتيجيا على كافة المستويات
بين فلسطين وكشمير
وواقع الحال أن من يتابع ما يجرى داخل الهند وكشمير سيجده متشابها إلى نحو كبير مع ما يقوم به الكيان الصهيونى فى فلسطين فكما حاول الصهاينة حرق المسجد الأقصى وكما يحاولون هدمه وبناء هيكل سليمان المزعوم ،قام المتطرفون الهندوس بهدم المسجد البابرى ومحاولة بناء معبد هندوسى مكانة إضافة إلى ما تشهده المساجد من اعتداءات شبه يومية. وكما تجرى عملية إبادة وقتل وتهجير للعرب والمسلمين فى فلسطين فى الهند وكشمير تجرى عمليات قتل وتهجير وإبادة للمسلمين وقدر عدد المسلمين الذين الذين قتلوا وحرقوا فى الأحداث الأخيرة فى حيدر آباد وحدها بالمئات .وكما تقوم كل القوانين داخل إسرائيل على اعتبار العرب الفلسطينيين مواطنين من الدرجة الثانية أقرت الأغلبية الهندوسية فى البرلمان الهندى منذ أيام قانونا لمكافحة الإرهاب يرى المسلمون أنه موجه ضدهم لحرمانهم من حقوقهم وإطلاق يد أجهزة الأمن الهندية فى ملاحقة قادتهم واعتقالهم.
وكما يطرح شارون والمتطرفون الصهاينة طرد الفلسطينيين إلى الأردن تقوم اطروحات الهندوس المتطرفين لحل مشكلة كشمير على أساس تهجير المسلمين منها إلى داخل الهند أو خارجها إلى باكستان ومن يريد البقاء فعليه تغيير دينه الاسلامى!.وكما تعتبر الهند الحركات الكشميرية حركات إرهابية فإن إسرائيل تعتبر الحركات المقاومة الفلسطينية حركات إرهابية ويجرى تنسيق أمنى مباشر وعلى الارض فى كشمير بين أجهزة الأمن الإسرائيلية والهندية وقد قتل المجاهدين الكشميريين بالفعل ضباط من الموساد على الأرض الكشميرية وأسروا ضابطا أخر .وكما تهدد اسرائيل بشن ضربات نووية ضد العرب والمسلمين تهدد الهند بقصف باكستان بالأسلحة النووية. وقد قامت الدولتان بوضع خطط مشتركة لقصف المنشآت النووية الباكستانية باعتبارها تمثل تهديدا لكلا البلدين ،وكما هو معلوم فإن كلا من الهند واسرائيل تؤيدان مبادرة الدفاع الإستراتيجى للولايات المتحدة وتطالبان بالانضمام إليها.
والحقيقة أن كل هذا الكلام لم يعد أمرا تحليليا ذلك أن كلا من إسرائيل والهند أقاما ما سمى بالمنبر الاستراتيجى للحوار بينهما منذ فترة طويلة ولم يعد التحالف الاستراتيجى أمرا خفيا
الدعم الأمريكي
هذه هى الخلفية فى الالتقاء بين المتطرفين الهندوس والصهاينة كانت الأرضية التى اندفعت عليها العلاقات الاسرائيلية الهندية منذ مطلع التسعينات فى كافة المجالات ففي المجال التجاري بين اسرائيل والهند وصل التبادل إلى 1250 مليون دولار خلال عام 2000بينما لم تكن فى عام 93 تزيد350 مليون جنيه .(62/304)
أما التعاون العسكرى فقد نمى بشقية التكنولوجى والتجارى إلى افاق استراتيجية خطيرة.فى التعاون العسكرى هناك تقديم الهند ارضها للتجارب النووية الاسرائلية بديلا لجنوب افريقيا .وهناك اتفاقات انتاج الاسلحة الاسرائيلية فى الهند ،وهناك امداد اسرائيل للهند بصواريخ بحر-بحر،والطائرات بدون طيار،ومنظومات رادار،كما حولت اسرائيل صفقة الطائرات التى كانت باعتها للصين الى الهند وتتواتر الاخبار حاليا حول امداد اسرائيل للهند بمنظومة للصوارخ المضادة للصواريخ الباليستية بعيدة المدى من نوع ارو بتكلفة قدرها 2 مليار دولار .
واللافت للنظر هنا هو الخلفية الامريكية الداعمة للعلاقات الاستراتيجية الهندية الإسرائيلية حتى يرى كثير من المراقبين أن ما يجرى حقيقة هو تحالف إستراتيجى أمريكي هندى إسرائيلى .
يشير المراقبين إلى رفض أمريكا اتمام بيع صفقة طائرات الإنذار المبكر الإسرائيلية إلى الصين،وسماحها لها ببيعها للهند،وأيضا إلى إلغاء الولايات المتحدة بإلغاء العقوبات المفروضه على الهند بعد التفجيرات النووية ، بل يشيرون إلى القرض الذى قدمه البنك الدولى للهند بقيمة 3 مليار دولار ،منذ عام 1992 بمبادرة من اللوبى الصهيونى الامريكى ضمن اتفاق على إقامة علاقات استراتيجية هندية اسرائيلية.كما إن الولايات المتحدة تدعم التحالف الاستراتيجى الهندى الاسرائيلى كمحور فى استراتيجيتها الجديدة سواء فى مواجهة الحركة الاسلامية أو التواجد العسكرى فى القارة الاسيوية ولمواجهة القدرات النووية الباكستانية وللضغط الدائم على الصين.
وفى هذا السياق تجرى الاشارة إلى قيام الولايات المتحدة بامداد الجيش الهندى بنظام رادارى متطورضمن صفقة قدرت بنحو 641 مليون دولار.
إن النظر للعلاقات الهندية الإسرائيلية على هذا النحو يطرح تساؤلات خطيرة على العالم العربى والإسلامى الإجابة عليها بمستوى قدر التحديات التى تطرحها وربما كانت الخطوة المطلوبة اليوم بشكل عاجل - على الأقل -هى الدفع بالعلاقات العربية الباكستانية نحو تحالف إستراتيجى حقيقى فهذا اضعف الإيمان
============(62/305)
(62/306)
أمريكا والإسلام السياسي
باسمة محمد 26/7/1427
20/08/2006
عنوان الكتاب: أمريكا والإسلام السياسي، صدام الثقافات أم صدام المصالح؟
للمؤلف: فواز جرجس
عدد الصفحات 298
الطبعة الثانية 2005.
صادر عن منشورات جامعة كمبردج ـ بريطانيا
حين نزلت في المكتبات الطبعة الثانية من كتاب "أمريكا و الإسلام السياسي.. صدام الثقافات أو صدام المصالح" بدا التهافت عليه كبيراً، ربما لأن الصراع الحضاري القائم في هذه الفترة قد اتضحت معالمه وفق الإستراتيجية الغربية بالخصوص في تعاطيها مع الإسلام، عبر جملة من المقالات التي صارت تصب أغلبها في خانة "الإساءة" كما حدث في الدنمرك في الفترة الأخيرة، و هي الإساءة التي انتشرت بسرعة البرق في العديد من الصحف الأوروبية التي وجدت أن من "قواعد الديموقراطية" التضامن مع الدنمرك عبر إعادة نشر تلك الرسومات الشنيعة ضد رسولنا محمد صلوات الله عليه و سلم. ما حدث لا يمكن وصفه بالعفوي أو البريء، بدليل أن صحيفة مثل (فرانس سوار) الفرنسية عدت الأمر حرية لا يحق لأحد حجرها، طبعاً من دون أن يتكلم أحد عن تلك الحقوق التي حجرت حين منعت الصحف الغربية من مجرد التشكيك في حقيقة المحرقة اليهودية، على أساس أن ذلك التشكيك ـ مهما كان صغيراً ـ سيدخل آلياً في خانة معاداة السامية!
الصراع العقائدي الأعنف:
الدكتور فواز جرجس أستاذ العلاقات الدولية في جامعة (سارا لورانس) بنيويورك هو واحد من الذين يصرون على أن الصراع القائم هو صراع حضاري فعلي، ليس على أساس معتقدات فقط، بل و على أساس التواجد، بحيث أن الحضارة الغربية التي انعكست عليها اليوم الماديات تسعى إلى البقاء منفردة و أحادية، و هو الذي يجعل فكرة المشاركة مرفوضة مع ثقافات و معتقدات أخرى يرى فيها الغرب الجديد خطراً على صيرورة الحياة! من هنا، ليس من البديهي القول إن القوة الأحادية في العالم هي القوة الغربية؛ لأن مصطلح الغرب ليس دقيقاً، بل و غامضاً على أساس أن الأمريكيتين -من الناحية العقائدية على الأقل- تدخلان في سياق الغرب لكونهما جزءاً من الكنيسة، أي أن قانون "الفاتيكان" هو الذي يسري عليها من الناحية الدينية، و إن اختلف المذهب.. بينما الكلام عن الإسلام فهو مختلف، و إن كانت ثمة انقسامات كبيرة في الدول الإسلامية فهي انقسامات سيقت على أساس سياسي، و هو ما يجعل الخوف من الإسلام حقيقياً، على أساس أن وحدة المسلمين في العقيدة، هي نفسها وحدتهم في الإيمان، بأن الله واحد، و أن الرسول (عليه الصلاة و السلام) هو آخر الأنبياء و المرسلين، و أن قواعد الدين يمكن العثور عليها في شريعة مشتركة.. و هو الشيء الذي يبدو الغرب بعيداً عن تحقيقه في واقع لجؤوا فيه (أي الغرب) إلى العنف، و الحرب و الدمار لأجل فرض إستراتيجية مغايرة، تهدف إلى احتلال ما يمكن احتلاله لفرض حكم الطاعة على بقية الدول التي لا تريد الدخول إلى بيت الطاعة الأمريكي.. النقطة الأخرى هي أن الحرب التي تفشت منذ انتهاء الألفية الماضية لم تكن حرباً إستراتيجية فقط، و حتى و إن كانت اندلعت في مواقع إستراتيجية مثل أفغانستان و العراق، و في الشرق الأوسط و القوقاز الخ.. لكنها ليست حرباً سياسية خالية من الرؤى الدينية، لسبب أن الذي فجرها بشكل مباشر هو الرئيس الأمريكي الحالي، و بعبارته التي يكررها قبل كل خطاب" يباركنا الرب و يبارك أعمالنا" و هي الصيغة الخطابية التي كشفت ربما بشكل متأخر عن الفكرة الدينية المطلقة التي يتبناها الرئيس الأمريكي، و التي لا يتردد لحظة في الكشف عنها في كل خطاب يلقيه.. فعبارة "الرب" صارت عبارة إنجيلية واضحة في الخطاب السياسي الأمريكي الرسمي. الشيء الذي حدث أن الحرب وفق الرؤى الأمريكية الجديدة انتشرت بسرعة في العالم. فصارت عبارة "الإرهاب" ( Te r صلى الله عليه وسلم o r isme) هي التهمة الجاهزة لأجل إقناع الجميع أن ما يمكن القيام به هو لأجل المصلحة العامة، حتى لو كانت تلك المصلحة العامة تتناقض و المبادئ الإنسانية و تتعارض مع التسامح الديني ككل. لكن المصالح لم تكن تتعارض مع الرغبة في القضاء على الآخر، أي القضاء على من يعدونه "العدو الأخطر"، و الذي لا يمكن أن يكون دولة غربية، و لا حتى دولة من أمريكا اللاتينية على الرغم من الصراعات القائمة بين الأمريكيتين، و لكنه صراع قائم ضد دول مختلفة عن أمريكا لغوياً و عقائدياً و ثقافياً و فكرياً و مصائرياً أيضاً.. أي ببساطة الغول الإسلامي!(62/307)
لقد حاولت أمريكا أن تقود سياسة الاحتواء ضد العالم المختلف، بمعنى فرض سياسة الاحتواء الطوعي، الذي يعني أن الدول تصبح جزءاً من النظرية الأمريكية من حيث الفكر و التوجه، و ليس بالضرورة من حيث العقيدة.. فكانت مصطلحات مثل "الحرية" و "الديمقراطية" و "العدالة" و " القانون" و المساواة" هي المصطلحات التي انبهر بها الآخرون بحيث إنهم اكتشفوا حتميتها و فقدانها في بلدانهم، و كانت الحرب لأجل الحرية و الديموقراطية قد نجحت في تأسيس جبهات و أحزاب سياسية معارضة استطاعت أن تصنع "حروبها الداخلية" في الدول المعنية، و هي الحروب التي قادت إلى زعزعة الأمن في العديد من الدول، حتى و إن عجزت في الإطاحة بأنظمة كانت الولايات الأمريكية نفسها تبقيها قائمة لأجل أن تخدمها أكثر!
الدين و الدنيا:
لعل العبارة الأسهل للوصول إلى ما يشبه ميكافيلية الثقافات المتضادة هي عبارة "الدين و الدنيا"، و الحال أنها العبارة التي تبدو مفبركة إلى حد كبير فيما يخص التوجه العقائدي في الصراع القائم، و مفادها أن كل طرف يعد أن الدين/الدنيا يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من الدين/ الدولة، و الغريب أن الغرب يعيب على المسلمين أن يطالبوا بأن تقام دولهم على أساس شرعي إسلامي في الوقت الذي يلجأ الغرب نفسه إلى الكنيسة لأجل "تشريع" القرارات التي سرعان ما تصبح عامة. فلا أحد ينسى أن الكنيسة "انتقدت" الزواج الشبيه، أي زواج الرجل بالرجل و العكس، بينما شرعته القوانين السياسية على الرغم من معارضة الأكثرية (أكثر من 66% من الأوروبيين يعارضون زواج الأشباه)، و الكنيسة غضت النظر عن الأمر لكي لا يتهمها أحد بالتعصب و التعنت و الانسداد و الانغلاق. اللافت للانتباه أن الرئيس الأمريكي (قائد الحرب الحضارية الجديدة) يعدّ زواج الأشباه جريمة ضد الأعراف. و هي الكلمة التي كررها بحزم فيما يتعلق وجوب أن يتوافق الدين مع الحياة، و مع كل هذا حدث العكس فيما يخص بالنظرة إلى الإسلام، على أساس أن الإسلام أساساً دين و دنيا، لكن أريد له أن يكون عكس ذلك، و تم تحميله الكثير من الأخطاء التي لم تكن له يد فيها، على أساس أن الغرب يرفض أن يكون الإسلام السياسي حاكماً، و يرفض أن يكون الإسلام السياسي خياراً شعبياً و منظوراً فكرياً و عقائدياً، و هذا قمة التناقض و قمة الكيل بمكيالين؛ لأن التطرف الذي يسود العالم كان نتاجاً لتطرف اسمه المعيار غير الصحي الذي ينظر من خلاله الغرب إلى الإسلام اليوم، معتبرين إياه ديناً متخلفاً غير قادر على التعايش مع العصر، و مع المدنية الحديثة، حتى و إن كان يستفيد منها. هذا الاختلال يرى ـ فواز جرجس ـ أنه صنع التوترات الكبيرة و التي تفجرت على هذا الشكل الغلياني فيما يخص دفاع كل طرف عن رؤيته وفق ما يراه ضرورياً لأجل إلغاء الآخرين..
صراع الحضارات:(62/308)
لقد بدأ الكلام عن صراع الحضارات بشكل جدي منذ تحولت النزعة الحربية إلى واقع و قرار معمول بهما ضمنياً و بشكل واسع أيضاً. ليس الأمر حالة مرحلية، بل صار حالة مشهدية، بحيث انتشرت في العديد من الجهات و من المناطق حتى تلك التي لم تكن معنية بشكل مباشر بأي مواجهة كانت بين الديانات و الثقافات الأخرى.. يعتبر "فواز جرجس" أن الغرب وقع في خطأ كبير حين لم يدرس بشكل عميق الإسلام، بحيث أن الذين تداولوا السلطة في العديد من الحكومات الغربية، و الذين تداولوا السلطة في الولايات الأمريكية عملوا على الإبقاء على مصالحهم فقط من دون البحث عن المصالح الأخرى، حتى في عمليات الفبركة السياسية التي سرعان ما كانت تتحول إلى صراعات مباشرة. لم يكن الأمر يتعلق بصراع علمانية و عقيدة مثلاً، بحيث إن العلمانية في كثير من الأحيان أفرغت من محتوياتها الكثيرة حين كانت تتعارض مع قناعات البشر فيما يخص الدين و العقيدة على الأقل، بدليل أن الدول العلمانية الغربية تعارضت و تصادمت بشكل مباشر مع الكنيسة، و تحديداً مع رمز الكنيسة المتمثل في الفاتيكان، و لا أحد ينسى الخطابات القاسية التي كان يوجهها يوحنا بولس الثاني لبعض أقطاب العلمانية المبتعدين عن القرارات العقدية، و لهذا السبب حدث الصدام الحقيقي بين عقيدتين هما في الأساس الأهم في العالم، بين الإسلام و الغرب (بدل القول الإسلام و المسيحية) . و ليس الغرب في النهاية سوى جملة من العقائد التي تدخلت فيها بشكل آلي العقيدة اليهودية في بعض أسفارها التي كانت تتقارب كثيراً مع أقطاب الفكر السياسي الأمريكي من الذين وصلوا إلى سدة الحكم في البيت الأبيض. و هو ما يعيد نفس الفكرة التي سبق ذكرها و المتمثلة في الخطاب الديني حين يتعلق الأمر بقرار الحرب كما حدث مع جورج بوش الأب و الابن معا. و حتى في الحكومات السباقة، أي حين كان الحزب الديمقراطي الأمريكي يحكم كان نفس التيار الذي يقود فكرة أل"تخويف" من الآخر، و إن لم يكن ذلك التخويف يأخذ شكلاً كبيراً و مباشراً محافظاً بالخصوص على مصالحه مع العرب و مع المسلمين، أي أنها كانت تتبنى مصالحها على حساب التعامل بشكل متناقض مع ما صار يراه الحزب الديموقراطي خطراً محدقاً حقيقياً. الدكتور ـ فواز جرجس ـ يذهب إلى حد القول إن التناقضات الرهيبة في السياسة الأمريكية أنتجت تناقضات أكبر في التعامل مع العالم العربي و الإسلامي، فمن جهة ترى أمريكا أن الإسلام يقود ضمنياً إلى هيكلة جديدة للفضيلة و للقيم الإنسانية، و في الوقت نفسه تربط الإسلام بالعنف المباشر، و هو ما عكس الواجهة الأمريكية في خطابها السياسي المخاطب الشعب الأمريكي، و الذي لم يتغير مطلقاً عن ذلك الذي كان سائداً إبان الحرب الباردة، فإن تغيرت الكلمات إلا أن الفكرة لم تتغير، أي محاولة الانتهاء من الإسلام عبر تقزيمة و تقليم أظافره و تفريغه من محتواه، هو ما تعكسه فعلياً التصريحات الأمريكية الرنانة و الودية فيما يخص الإسلام، و التي تتصادم تماما مع الممارسات (الأمريكية ـ الغربية ) على أرض الواقع!
=============(62/309)
(62/310)
بيان المثقفين الأمريكان ..الدوافع والأهداف
طلعت رميح 1/3/1423
13/05/2002
اختار المثقفون السعوديون ، أن يأتي ردهم على بيان "المثقفين "الأمريكيين ، في صورة بيان حواري عقائدي وقيمي وحضاري ، انطلاقًا من نظرة قامت على التعامل مع المحتوى الفكري والقيمي الوارد في البيان الأمريكي لا مع أهدافه ودوافعه .
وواقع الحال أن الإنسان لا يملك إلا الإشادة والثناء على مبادرة المثقفين السعوديين ، من منطلق عدم ترك الساحة "الفكرية" لإدعاء أمريكي بحوار ، ومن تقدير لضرورة دخول المعترك الفكري والحواري باعتبارنا أمة حوار ، وربما أيضا من منطق ضرورة طرح وجهات نظر العرب والمسلمين على أوسع نطاق على الرأي العام الغربي .. ونخبه في هذا الظرف بالذات .. وهو بيان فكري راق في طرحه للقضايا التي تطرق لها .
إلا أن ثمة زاوية أخرى للنظر أو للتعامل مع البيان الأمريكي ، قد تكمل زاوية النظر التي رآها المثقفون السعوديون في البيان الأمريكي ، ألا وهي زاوية التأمل في الدوافع والأهداف خلف صدوره .
ومن ثم فإذا كان طبيعيًا ألا يتطرق البيان السعودي للدوافع خلف صدور البيان الأمريكي بصفة الأول بيانًا حواريًا حول ما ورد من مضمون في البيان الثاني .
يبقى من حق الآخرين أن ينظروا بتأمل في الأبعاد الحقيقية والدوافع خلف صدور هذا البيان ، وهى نظرة تقوم في واقع الحال إضاءة كاشفة على ما ورد به من تفكير أو بالأحرى تبرير ، كما تجعله مفهومًا على نحو أفضل.
ونستدرك بداية بالإشارة إلى أنه رغم أهمية إلقاء الضوء والتساؤل حول الأسماء الموقعة على البيان الأمريكي - حيث إن ورود أسماء مثل (صمويل هانتجتون) منظر صراع الحضارات (وفرانسيس فوكوياما) منظر نهاية التاريخ يكشف أبعادًا مهمة لفهم البيان أو لفهم الخلفيات الفكرية لمصدريه - إلا أننا آثرنا عدم التطرق لذلك حتى لا يضعف التركيز على الأهداف والدوافع العامة لصدور البيان .
" المأزق الأمريكي "
المتابع لتفاصيل خريطة التعامل الأمريكي مع العالم (خاصة العربي والإسلامي ) بعد وقوع أحداث 11 سبتمبر، لا شك يكتشف للوهلة الأولى ، أن ثمة ثغرة خطيرة في هذا التحرك ، تتمثل فيما طرح من مبررات للقيام بالعدوان على أفغانستان وامتداد الحملة إلى دول أخرى تحددها أمريكا وحدها وما طرح من مقومات ومؤهلات تملكها أمريكا لتؤهلها للسيطرة على العالم أو لتكون حكومة العالم تفرض" الأمن " وتؤدب الخارجين على "النظام".
أمريكا لم تطرح سوى لغة القوة والعنف والقهر .. لم تطرح نفسها في هذه المعركة الإستراتيجية "للقضاء على الإرهاب في العالم" إلا باعتبارها صاحبة قوة عسكرية باطشة أي دون أن تطرح أية ملامح فكرية وقيمية وعقدية وحضارية ، أو دون أن تقدم نفسها كنموذج متكامل جاذب للدول والحضارات وقابل للاحتذاء به ، الأمر الذي جعل معركتها عارية تمامًا من كل تبرير أيديولوجي في هذه المعركة ، أفقدها تراثها السابق - القديم - كبلد الدفاع عن الشعوب ، وتاريخها الحديث باعتبارها القوة المدافعة عن الحريات وحماية حقوق الإنسان والدفاع عنها في كل أنحاء العالم ... لقد اقتصر ما صدر عن الولايات المتحدة في هذه المرحلة على إظهار نفسها كنموذج للقوة الباطشة والتدخل العسكري بلا حدود أو ضوابط وباعتبارها القادرة على الاعتداء وإلحاق الهزيمة بأية قوة أو بلد في كل أنحاء العالم .
ورغم أن الولايات المتحدة كانت ترتكب كل الجرائم الحالية - من قبل- لكنها كانت ترتكبها قديما مقترنة بطرح أهداف قيمية على العالم .
لقد كانت الولايات المتحدة تطرح نفسها دومًا على أنها ممثلة "حضارة الحريات والتعددية والعالم المتحضر في مواجهتها للشيوعية خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الستينيات وفى أثناء عدوانها على فيتنام وكوبا وغيرها.
وأيًا كان رأينا في هذه الادعاءات في تلك الفترة صحتها أو صلاحيتها لتبرير العدوان وقتل وإبادة الشعوب إلا أن المهم هنا أنها كانت تبذل جهدًا دعائيًا كبيرًا في طرح نفسها للعالم باعتبارها النموذج الأرقى للحضارة الغربية وأنها صاحبة القيم الإنسانية .
وحينما انتهى الاتحاد السوفيتي وكانت الضربة القاصمة للأفكار الشيوعية في العالم قدمت الولايات المتحدة نفسها لقيادة العالم باعتبارها راعية حقوق الإنسان .. والمدافعة عن التعددية والديموقراطية في العالم .. والمدافعة عن استقلال الدول وسيادتها وقد استمر الوضع على هذا الحال حتى خلال حربها الإجرامية ضد العراق حيث جرى حشد التحالف الدولي ضد العراق بادعاء المحافظة على استقلال دولة ضد عدوان ينتهك سيادتها والمحافظة على حدود الدول .
كما حاولت الولايات المتحدة تقديم نمط حكمها الداخلي كبلد نموذج لتعايش جميع الأعراق والثقافات الإثنية والعرقية .
وتحت هذه التبريرات وتلك الصورة بدأت تفرض نفسها ورؤاها على العالم . لقد صارعت الصين بهذه الدعاية .. وتدخلت في إفريقيا تحت هذا النموذج وشنت حربها الإعلامية على الترابي في السودان ومشرف في باكستان والديكتاتوريات العسكرية في إفريقيا تحت هذه المفاهيم .(62/311)
لكن خوضها الحرب الأخيرة ، في أفغانستان جاء خاليًا من الادعاءات القيمية والمفاهيمية تمامًا ، فلم نسمع سوى ادعاءات بالدفاع عن النفس والاعتداد بالقدرة العسكرية الهائلة كما لم يجر الاهتمام حتى بتقديم مجرد دليل ثبوتى واحد على حركة طالبان أو القاعدة - ولو كان حتى مفبركًا - لتأكيد تورطهما في أحداث 11 سبتمبر ، وحينما حاولت الإدارة الأمريكية تقديم رؤية قيمية لخوض هذه الحرب جاءت" القيم" التي طرحها الساسة والعسكريون قيما عنصرية وعدوانية - حرب صليبية - الحضارة الإسلامية همجية - دول محور الشر - حرب مقدسة .
وطرحت صياغات سياسية فاشية مثل" من ليس معنا فهو ضدنا " .. إن العودة إلى التصريحات الأمريكية في تلك الفترة يظهر هذه الحالة .. لم تطرح الولايات المتحدة سوى لغة القوة والبطش والإرهاب ، الأمر الذي أثار إشكاليات خطيرة في صورة الولايات المتحدة في العالمين العربي والإسلامي بشكل خاص .
ولهذا كله جاء البيان الأمريكي محاولة لمعالجة هذه الثغرة وإدراكًا من أصحاب فكرته بأنه لا يمكن بناء إمبراطورية عالمية استنادًا إلى فكرة القوة العسكرية الفاشية أو فكرة إخافة الآخرين من القوة الباطشة وحدها .. ولذلك أيضًا عنون أصحاب البيان بيانهم بشكل يعوذه حتى ذكاء المواربة القيمية فجاء تحت عنوان "على أي أساس نقاتل".. ومن ثم فإن من يتابع البيان وما ورد فيه سيجدها بالدقة لغة خطاب تبريرية للحرب الراهنة .. أو هي إكمال - بأثر رجعي - للحرب التي أعلنت دون مبررات قيمية أو أخلاقية .. بل يمكن القول دون افتئات على الحقيقة أنه محاولة لإلباس تصريحات بوش ورامسفيلد لغة القيم والمفاهيم .
هذا الأمر حاسم في فهم ما ورد في هذا البيان وعلى من يريد اختبار هذه الفكرة جيدًا أن يقرأ الخطاب الصهيوني في الحرب العدوانية العسكرية الغاشمة ضد الشعب الفلسطيني - خاصة من قبل شارون ونتنياهو - وأن يعيد تركيب البيان باعتباره صادرًا من مثقفين صهاينة .. ساعتها سيدرك الأبعاد والدوافع لصدور البيان كتبرير دعائي في شكل قيمي أو باعتباره تنظيرا للعمل الحربي .
" الأزمة الأخطر "
لقد حدث المأزق الأمريكي المشار إليه سابقًا في ظرف كانت الولايات المتحدة في أشد الحالات حاجة لضرورة تقديم نفسها كنموذج حضاري - أي بقوة النموذج لا نموذج القوة - في ظل أطروحات "نهاية التاريخ" - التي قدمت رؤية تنظيرية لانتصار القيم والمفاهيم الغربية على جميع القيم والثقافات الأخرى - ومفهوم صراع الحضارات الذي يقدم تنظيرا لشكل الصراع المفاهيمى والقيمي والعقائدي في هذه المرحلة من حياة البشرية وأخيرا في ظل طرح مفهوم العولمة القائم على سيطرة الحضارة الغربية ومفاهيمها .
هذا الأمر تحديدا يمثل دافعا آخر خلف ظهور البيان الأمريكي ونشره في أوروبا تحديدًا وليس أمريكا - ثمة سبب آخر لذلك هو أن المجتمع الأمريكي ليس مستعدا لتلقى مثل هذه المفاهيم بعدما حدث من تراجع في الحريات السياسية والدستورية والقضائية بعدما جرى من اضطهاد عنصري داخلي بعد الأحداث - ذلك أن المأزق الأمريكي لم يعد واضحًا فقط أمام العرب والمسلمين فقط بل أمام المفكرين والرأي العام الغربي كذلك وقد تصاعدت مؤشرات تلك الحالة في إبعاد الولايات المتحدة من المنظمة الدولية لحقوق الإنسان بتصويت أوروبي ، وما حدث في مؤتمر ديربان بجنوب أفريقيا ، وفى المظاهرات المتصاعدة عددا وحدة في أوروبا تحديدا ضد العولمة الأمريكية للعالم. إن الولايات المتحدة تدرك أنها تعاني من مأزق أمام الرأي العام الغربي وليس فقط أمام الرأي العام العربي والإسلامي فقط حيث ينظر الغربيون للحضارة الأمريكية باعتبارها حضارة بلا قيم مقارنة بالحضارة الغربية "العتيقة" في أوروبا.
لقد ارتبط الإنتاج الحضاري المصدر للعالم من قبل الولايات المتحدة
بأمرين : الأول: المنتج الاستهلاكي السريع.
والثاني: العنف والسلاح.
فالعالم يعرف الحضارة الأمريكية من خلال البيبسي والكوكاكولا واللبان والشكولاته والهامبورجر والبيتيزاهوت .. ومن خلال أفلام العنف والرعب والجنس .
أما الجانب الثاني للدعاية الأمريكية والمشكل لصورتها في الخارج فهو الجانب التقني في مجال السلاح .. المواطنون يعرفون أمريكا بالفانتوم والشبح والـ ب52 وصواريخ كروز وتوماهوك .
والبيان في واقع الحال يحاول - في هذه اللحظة بالذات -تقديم الصورة الأمريكية للعالم من منظور قيمي .
نخلص للقول - في هذه العجالة - إلى ضرورة النظر للبيان الأمريكي من زاوية الدوافع والأهداف بالنظر لظروف إصداره لا من خلال محتواه فقط . يجب النظر إليه من زاوية المأزق الذي أصبحت فيه الحضارة الأمريكية من زاوية صورتها الخارجية .
لقد انكشف زيف كل الادعاءات التي ساقتها الدعاية الأمريكية من قبل وهى أحد أهم مؤشرات التراجع الأمريكي في العالم
==========(62/312)
(62/313)
أبو نورة وأنا .. وصراع الحضارات
د. خالدالدريس 19/1/1428
07/02/2007
في سنوات مضت أصدر كاتب غربي بحثاً خطيراً، يصدق عليه مقولة: "أنه ملأ الدنيا وشغل الناس".
فانشغل عالم الإعلام بشتى أنواعه بمتابعة الموضوع وبملاحقة ذلك الباحث، فامتلأت صفحات الجرائد، والمجلات، وعُقدت الندوات واللقاءات لمناقشة البحث الخطير الذي كان يحمل عنوان "صراع الحضارات"، وانشغل أبو نورة - أحد أصحابي - بتلك الفعاليات، وفي يوم من الأيام دعاني لمتابعة ندوة عُقدت خصيصاً للتعريف بالبحث والباحث، فاستجبت لطلبه، واستمعت بإمعان للمحاضرات والمناقشات والمداخلات، فاكتشفت أن الجميع تقريباً يرفضون مبدأ البحث وفكرته، ويدعون الباحث إلى تبني مبدأ الحوار لا الصراع بين الحضارات، ومن الحضور من هاجم البحث والباحث داعياً إلى التآخي والتعاون بين البشر ليعيش الكل في سلام وأمان ومحبة ومؤاخاة.
وعندها قلت لصاحبي: أتدري لقد تذكرت الآن سنة إلهية من أهم السنن الربانية، لم أر أحداً ذكرها أو ناقش تلك النظرية في ضوئها، قال: ما هي؟
فقلت: سنة التدافع بين الحق والباطل التي نص عليها القرآن الكريم.
فقال لي: ماذا تريد أن تقول؟
قلت: هؤلاء الذين يرفضون البحث، ويدعون إلى الحوار والتعاون والتآخي ينطلقون من فكرة ما يجب أن تكون عليه الأمور، أي نتمنى أن تجري الأحداث هكذا، لكن الكاتب -وهو على غير دينهم- ينظر للأمور كما تجري في الواقع لا بحسب الأماني والأحلام. يا صاحبي، أي الفريقين أقرب للواقعية في التفكير المستقبلي؟ أي الفريقين أقرب للتفكير من خلال سنة التدافع؟
ثم قلت له: إن الباحث يعلم يقيناً أنه من أمة عدوانية ظالمة تضطهد الشعوب المستضعفة، وهو يعلم يقيناً أن أغلب الشعوب المضطهدة في هذا العالم المسلمون، وهم حملة عقيدة لا تقبل الذل والضيم إنها عقيدة (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ)، إنها عقيدة "اطلبوا الموت توهب لكم الحياة"، كما أن أكثرية الشعوب الإسلامية في زمننا تتكون من الشباب، ومرحلة الشباب تعني الاندفاع والغضب العارم والحماسة المتعجلة والشجاعة التي تفتقد للحكمة، ولن تجري الأمور بهدوء، لابد من نقمة تهيج بعض الأفراد المضطهدين لمنازلة الخصم وإلحاق الأذى به، ولو كان ذلك مع عدم التكافؤ في القوة المادية، ولذا فالباحث يرى أن مصير الأمور إلى وقوع التصادم؛ لأن ذلك هو منطق الأحداث، فالحياة صراع وتنازع، فهو حيناً يقول بصراع الحضارات، فيسجل توقعاته من منظور واقعي لا من خلال التمنيات والرغبات والميول كما سمعت من هؤلاء المثقفين التائهين.
فسكت صاحبي، وسكتّ، ومضت سنوات تتبعها سنوات، وأكّدت لنا الأحداث أن توقعات الصراع بين الحضارات والثقافات بدأت تتحقق، وأن دعاة الوئام والأخوة البشرية ذهبت تمنياتهم أدراج الرياح.
أحبتي في الله سأحدثكم اليوم عن سنة التدافع التي هي من أهم السنن التي يجب على المسلمين أن يتفقهوا فيها ويفهموها حق الفهم؛ إذ هي من قواعد التفكير الكبرى في المنظور الإسلامي، فما هي سنة التدافع؟ وكيف تؤثر في تفكيرنا وتصورنا ومواقفنا من رؤية العالم المحيط بنا؟
إن سنة التدافع معناها: صراع الحق والباطل لينحي أحدهما الآخر عن ميدان القوة والتأثير، وقد يصل الأمر إلى استعمال القوة ليتحقق ذلك.
ودليلها من القرآن قوله تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)[البقرة:251]، ومعنى هذه الآية أنه لولا أن يدفع الله ببعض الناس -وهم أهل الطاعة له والإيمان به- بعضًا، وهم أهل المعصية لله والشرك به، لفسدت الأرض بغلبة الكفر، وتمكُّن الطغيان، وأهل المعاصي، ولكن الله ذو فضل على المخلوقين جميعًا.
ودليل آخر على سنة التدافع هو قوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40].
إن سنة التدافع هي قصة الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل، إنها تاريخ النزاع بين المؤمنين وغيرهم، وهي قصة لم تزل تُكتب فصولها وأحداثها إلى اليوم، ولم تنته بعد؛ فكل يوم يمضي تُكتب فيه أسطر جديدة في كتاب التنازع والتدافع بين حق مسلوب وباطل مستكبر متعالٍ، باطل يريد أن يصوغ الوجود والكون والعالم وكلَ من فيه بصبغته ومنهجه البعيد عن الحق والعدل والعبودية لله عز وجل.(62/314)
إن التدافع والتنازع والصراع بين أهل الحق وأتباع الباطل أمر لا بد منه، إنه أمر حتمي؛ لأن الحق يعني الخير، والباطل يعني الشر، وهما ضدان، والأضداد لا تلتقي ولا تجتمع، ولأن الباطل مع شقيقه الآخر الشر لا يهنأ له عيش، ولا تستقيم له حال إن هو رأى الحق يشيع بين الناس وينتشر.
إن مصالح الباطل تتضرر كل الضرر من انتشار الحق والخير، ولذا فهو يهاجم الحقّ ويعتدي عليه، ويضع العراقيل في طريقه، ويسعى إلى نفيه وتشويه سمعته، وصرف الناس عنه وتبغيضهم فيه. ولهذا قلنا: إن الصراع بينهما حتمي ومجريات التاريخ والواقع المعاصر تؤكد بكل دقة سنة التدافع؛ فالمتجاهل لها الغافل عنه ينأى بتفكيره عن سمة الواقعية؛ ليعيش في أوهام التفاهم والتآخي والتعاون بين البشر على اختلاف طبقاتهم في القوة؛ وتباين درجاتهم من الحق والصدق، وهذه معاني جميلة لو كانت حقيقية وصادقة، ولكن الواقع يكذبها في كل ساعة من ساعات اليوم الواحد؛ فالباطل بقوته وعنجهيته وكبريائه واستعلائه ومصالحه المادية الكثيرة، لا يمكن أن يقبل بالتعايش مع الحق أو يهادنه.
وأهل الباطل كما جرت عادتهم لا يكفيهم بقاؤهم على باطلهم، وإنما يسعون إلى محق الحق وأهله وإزالته بالقوة، وصد الناس عنه ببذل المال وبالقوة العسكرية الفتاكة، وبكل ما لديهم من قوة وقدرة لتحقيق ما يريدون، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).
وقال تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ). وددت -والله- أن تُنقش هذه الآية في قلب كل مسلم ليعرف المخدوعون حقيقة الباطل وأعوانه والكفر وجنوده، نعم والله: (ولا يزالون يقاتلونكم) ولماذا؟ ويأتيك الجواب من العليم الخبير (حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، وهذا دليل قاطع على استمرارية سنة التدافع بين أهل الحق والإيمان وأهل الباطل والكفر.
وفي خضم هذا التدافع الذي قدره الله وقضى سبحانه بوجوده، على المسلم أن يتفقه في معاني هذه السنة الإلهية الجليلة، ويعرف مقتضياتها ولوازمها وحدودها، ومن أهم الأمور في ذلك أن يعرف المسلم أن أهل الحق لا يمكن لهم أن يستمروا ويحموا وجودهم إلاّ بوجود قوة، ولذا أمر الله أهل الحق بإعداد القوة التي ترهب الأعداء، قال تعالى : (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ).
ومعنى هذه الآية الكريمة أن أعدُّوا - يا معشر المسلمين - لمواجهة أعدائكم كل ما تقدرون عليه مِن عدد وعدة؛ لتُدْخلوا بذلك الرهبة في قلوب أعداء الله وأعدائكم المتربصين بكم. وتأمل ولا تغفل -يا رعاك الله- في أن واجب القوة أن تكون مرهبة للعدو.
وليعلم المسلم أن من سنة الله في هذا التدافع أن الغلبة للحق وأهله كما وعد الخالق عز وجل بذلك: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
وقال تعالى : (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً).
قال ابن كثير: "هذه سنة الله وعادته في خلقه، ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل إلاّ نصر الله الإيمان على الكفر، فرفع الحق ووضع الباطل، كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين نصرهم على أعدائه من المشركين".
واعلم أخي المسلم أن نصر الله لا يأتي بسهولة ويسر، إنه حسب السنة الإلهية لا يأتي عادة للمؤمنين إلا بعد جهد عظيم يُبذل، وتضحيات ضخمة تُقدّم، ويسبقه عادة أذى يلحقه أهل الباطل بالمؤمنين.
وهذا لا يتعارض مع سنة الله في نصر المؤمنين؛ لأن الأمور بخواتيمها وعاقبتها، والعاقبة دائماً للمؤمنين في نصرهم على أهل الباطل.(62/315)
قال أحد المفكرين المسلمين: ومما يجب أن يُعرف أن نصر المؤمنين حسب سنة الله في نصرهم قد يتأخر؛ لأن الله تعالى يريد لهم النصر الأكبر والأكمل والأعظم والأدوم والأكثر تأثيراً في واقع الحياة، بعد أن تتهيأ في المؤمنين القاعدة اللازمة لاستحقاقهم هذا النصر الأكبر واستقبالهم له، ويدل على هذا أن نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه لم يحصل في يوم وليلة، ولا في سنة واحدة، وإنما تأخر فلم يحصل إلاّ بعد مضي أكثر مدة نبوت صلى الله عليه وسلم ، حدث ذلك بالغلبة والانتصار على قريش وبفتح مكة وكان ذلك في السنة الثامنة من الهجرة، وهذا يعني أن النصر حصل قبل وفاته عليه الصلاة والسلام بسنتين، قال تعالى: (إذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً).
=============(62/316)
(62/317)
صراع الحضارات أم هيمنة الحضارة الغربية؟
مجلة البيان - (ج 125 / ص 132)
بقلم: د.محمد يحيى
اتسع نطاق الجدل في الآونة الأخيرة حول المقولة التي عرفت باسم: (صراع الحضارات) والتي ولدت من خلال دراسة لأستاذ جامعي أمريكي هو (صمويل هنتنجتون) سعى فيها من وجهة نظره إلى تحليل الوضع العالمي تحليلاً استراتيجياً مستقبلياً على ضوء التغيرات في السنوات الماضية فيما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية أو الشيوعية، وهي نفس المتغيرات التي ألهمت زميل له هو (فرانيس فوكرياما) بتكوين مقولة حول (نهاية التاريخ) كان لها هي الأخرى نصيب في إثارة الجدل والنقاش. وقد انطلق (هنتنجتون) من واقع زوال القطب الشيوعي في الحضارة الغربية إلى طرح افتراضات حول المسار الذي سوف تأخذه السياسة الدولية مع الدخول في القرن الميلادي الواحد والعشرين، وانتهى إلى أن الحضارة الغربية (التي رأى أنها تشمل الشعوب البيضاء أو ذات الأصل القوقازي، والمسيحية الديانة، والأوروبية الفكر والثقافة) سوف تواجه بخصم عنيد محتمل في المستقبل القريب يطرح تحديه على خلفية حضارية ثقافية تتحرك أمامها التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والعسكرية وهذا الخصم هو بالمقام الأول الحضارة الإسلامية ثم الحضارة الآسيوية الشرقية أو الكتلة البوذية.
وذهب (هنتنجتون) أو مفسروه إلى أن التنافس والصراع سوف يكون طابع العلاقة بين الحضارات المذكورة ليس فقط حول النفوذ السياسي والاقتصادي بل أيضاً حول ـ وبسبب ـ الثقافة والقيم الحضارية والاجتماعية والعقائد الدينية والمذاهب الفكرية.
وقد أثارت هذه المقولة فور ذيوعها ردود فعل عديدة كان أغلبها على الجانب الصحفي السطحي المتسم بالعصبية. وكان أول وأبرز ردود الفعل هذه، وهو ما سبق لكاتب هذه السطور أن تعرض له، أن صدرت بيانات وتصريحات ودفاع من جانب رموز إسلامية رسمية في بلدان معينة تنفي أن يكون الإسلام يسعى للمواجهة والصراع، وتؤكد أنه يريد التعاون والمشاركة مع الغرب، وراحت هذه الأصوات تعيد تكرار المقولات المألوفة التي نسمعها كلما اتهم الغرب الإسلام بالتعصب أو التطرف أو الإرهاب من أن الإسلام دين تسامح ومحبة واحترام واعتراف بالآخرين. ورأى كاتب هذا المقال أن رد الفعل هذا كان المقصود بدايةً عن الترويج الإعلامي الغربي لمقولة (هنتنجتون). حيث بدا أن الدوائر السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة بالذات أرادت أن تخرج من الدول الإسلامية ولا سيما الواقعة تحت نفوذها بتطمينات حول نوايا المؤسسات والتوجهات الإسلامية نحو الغرب بعد أن كثر الحديث حول ما يوصف بخطر التوسع الأصولي الإسلامي. أي أن الهدف من الترويج الدعائي للمقولة على نطاق شعبي كان حثّاً على رد فعل دفاعي اعتذاري من الجانب الإسلامي ينكر فيه هذا الجانب أية نوايا عدوانية ضد الغرب، ثم يلتزم علناً وأمام العالم بالموقف الفكري والعملي الذي يريده الغرب من المسلمين ألا وهو موقف الانضمام إلى توجهات الغرب وعلمنة الفكر والعقيدة الإسلامية وتغريبها إلى الحد الذي تصبح فيه مماثلة لما عند الغرب من عقائد، كما تصبح فيه مألوفة مأمونة الجانب لدى الجمهور الغربي. إذن كان الترويج الواسع لمقولة صراع الحضارات على المستوى الإعلامي مدبراً ليقوم الجانب الإسلامي برد فعل يخدم الغرب.
لكن هذا الرأي ـ على وجاهته ـ لم يمس المقولة نفسها قدر ما لمس أحد الجوانب السياقية في ترويجها الإعلامي. ومقولة (هنتنجتون) تحفل بالجوانب التي تثير الفكر، ولعل أول هذه الجوانب هو سبب اختراع أو تصور خصم مستقبلي للحضارة الغربية بعد زوال الخصم السوفييتي ولكن مع الفارق؛ لأن الخصم الشيوعي كان خصماً من داخل الحضارة ذاتها؛ بينما الخصوم المطروحون هم من خارج تلك الحضارة؛ إلا إذا فسرنا الحضارة الصينية واليابانية على أنها متأثرة فكرياً وثقافياً بالغرب سواء في شيوعية الصين، أو في انغماس اليابان في التكنولوجيا المادية ذات الأصول الغربية. إن هذه الرغبة في خلق أو تصور الخصوم قد تبدو غير مفهومة إلا إذا تصوّرنا وجود نية عدوانية دفينة لدى دوائر أمريكية سياسية وفكرية تريد التعبير عنها من خلال اختلاق الأعداء لإعلان الحرب عليهم والتنفيس عن هذه الرغبات العدائية.(62/318)
ولكن الأمر ليس بهذه البساطة فإذا أردنا أن نكسب طرح (هنتنجتون) مصداقية فكرية أكبر لجاز لنا القول إن اختراع وتصور الأعداء والخصوم المستقبليين بعد زوال خصوم الماضي يدل على رغبة عارمة لإثبات الذات والهوية، ولا يتأتى هذا إلا بمثول منافس وخصم عنيد أمام هذه الذات والهوية تثبت وجودها وجدارتها في الوقوف أمامه والتسابق والتنافس ثم الصراع معه، ولعل (هنتنجتون) هنا يعيد بوعي أو بدون وعي مقولات (هيجل) المشهورة في الفكر الغربي حول الذات والآخر وإثبات الذات لوجودها فقط من خلال الصراع مع الآخر. وهناك جانب ثقافي عملي آخر لعملية اختراع الخصوم أو الأعداء وهو محاولة بث الحيوية والنشاط واستنهاض الهمة في الحضارة الغربية بالتحذير من وجود أعداء خطرين على الأفق والتلويح بهم؛ ذلك أنه قد ساد الإحساس في العقود الأخيرة وبالذات في دوائر السياسة والأكاديمية الأمريكية اليمينية المحافظة بأن الحضارة والثقافة الغربية تتعرض للانهيار والتدهور والتآكل من الداخل لا سيما على المستويات الأخلاقية والإنتاجية (بل لقد اتخذ انهيار الكتلة الشرقية نفسه على أنه من علامات هذا الانهيار)، وإزاء هذا التصور المقلق بوجود تدهور ذاتي داخلي في هذه الحضارة كان رد الفعل الطبيعي بالنسبة للدوائر المدافعة عنها هو اختلاق عدد خطير وتحد كبير يقف خارج هذه الحضارة والتلويح بهذا الخطر والعدو كوسيلة لحث واستشارة طاقات الفعل والاستجابة والنهضة الثقافية عند أبناء الحضارة الغربية ليتجاوزوا الضعف والتآكل.
يمكن القول من هذه الزاوية: إن مقولة صراع الحضارات لها جانب قد نسميه بالسياقي، ونعني به: أن لها دوافعها وبواعثها في إطار السياسات والأوضاع الثقافية في الغرب وبالتحديد لدى دوائر أمريكية ذات نفوذ تريد الحفاظ على الهوية الحضارية الغربية وتجديد حيويتها وقدراتها النزالية التنافسية بطرح خصوم المستقبل الألداء، وإفهام أبناء الحضارة أنه إذا كان العدو السوفييتي وكتلته قد زالا فإن هناك على الأفق من الخصوم الأشد (وهم على المستوى الحضاري ذاته) الذين ينبغي الحذر منهم، والاستعداد لدفع كيدهم، والتقوي والنهضة لاحتمالات المنافسة والصراع معهم. ولكن إثبات الذات والهوية في وجه تحدي الآخر قد لا يكفي هو الآخر لتفسير مقولات (هنتنجتون) واستقصاء جوانبها وأبعادها لا سيما أن الآخر المطلوب التحذير منه ليس كله وهماً مختلقاً بل له صفات تستحق التأمل فيها. إن قائمة أعداء وخصوم متنافس الغرب تستحق الدراسة.
وأول ما يلفت النظر في هذه القائمة أنها ليست على مستوى واحد من الطرح فهي تجمع بين خصوم واقعيين فعليين قائمين (الحضارة الآسيوية الناهضة أو البوذية أو الصينية اليابانية) وخصوم محتملين ليسوا سوى إمكانية قد تتحقق أو لا تتحق (الخصم الإسلامي) كما تخلو منها أسماء حضارات وثقافات قائمة ذات قوة نووية مؤكدة وقوة اقتصادية ذات إمكانات قوية (الهند، إسرائيل، البرازيل، جنوب أفريقيا وكتلة الدول الموالية)، فلماذا نجد في مقولة صراع الحضارات قوى قائمة ومؤكدة قد وضعت بجانب قوى محتملة على قائمة الخصوم؟ ثم لماذا تخلو القائمة من قوى أخرى مؤكدة؟ قد يقال في تفسير هذا الأمر الأخير أن تلك القوى المحذوفة لا تمثل خطراً على الحضارة الغربية في المستقبل حتى لو تسلحت بالأسلحة الذرية وملكت زمام القوى الاقتصادية الكبيرة، فالعلاقة مع إسرائيل اليهودية أوضح من كل بيان؛ والبدهي أن أمريكا تعتبر هذا الكيان امتداداً لها وسط الساحة العربية الإسلامية؛ فإسرائيل قوة مضافة لصالح الحضارة الغربية حتى ولو كانت يهودية الدين سامية الأصل عبرانية اللغة شرق أوسطية الموقع، فهي بمثابة الطليعة الزاحفة للجيش أو الحصن المتقدم. أما البرازيل فربما يقال إنها بنت الغرب بدينها الكاثوليكي ولغتها البرتغالية وتلاحمها الاقتصادي العضوي مع قارتها التي تعتبر من لواحق الغرب. ولا ننسى أن مقولة (هنتنجتون) تقيم أساسها على أطروحات العرق والأصول الأوروبية، وينطبق الشيء نفسه على جنوب أفريقيا حتى على الرغم من الكلام الكثير الذي قيل حول إنهاء نظام سيطرة الأقلية البيضاء؛ لكن البلاد تبقى مرتبطة بالحضارة الغربية على مستويات أعمق من العرق هي اللغة والمسيحية والاقتصاد.(62/319)
لكن الهند الهندوكية الآسيوية تبقى هي اللغز في الاستبعاد من قائمة الخصوم. فلماذا استبعدت الهند وهي دولة نووية التسلح فيما يقول الغرب نفسه، وهم كذلك يقولون لنا إنها قوة اقتصادية ناهضة تشبه في عدد سكانها وطبيعة نشاطاتها الاقتصادية (بل تفوق) ما تسمى باقتصاديات النمور الآسيوية؟ لماذا استبعدت الهند ووضعت الصين واليابان وقوى آسيوية أخرى على قائمة خصوم الغرب المحتمل أن يتصارعوا معه؟ هل ذلك لأن قوة الهند الذرية والاقتصادية هي قوة مكرسة علناً ضد المسلمين حول الهند في بنجلاديش وباكستان وشمالها في وسط آسيا بل وإلى إيران والخليج أو نزولاً إلى ماليزيا وإندونيسيا؟ وإذا كانت الهند مستبعدة من قائمة خصوم الغرب في القرن القادم برغم أنها ليست قوة غربية وبرغم إمكاناتها العسكرية والاقتصادية الهائلة فقط لأنها قوة ستنهض بدور المواجهة للإسلام حولها؛ فماذا يدلنا ذلك عن مقولة صراع الحضارات؟ إن الدلالة الواضحة هي أن تلك المقولة لا تنبني فقط على مبدأ الدفاع عن الحضارة الغربية والانتصار لإثبات ذاتها وهويتها بل إنها تقوم أيضاً على منطلق ديني معاد للإسلام يقبل بأن يتحد الغرب الأبيض المسيحي الأوروبي الثقافة مع حضارة سمراء هندوكية شرقية آسيوية ولا يتخذ منها خصماً محتملاً رغم إمكاناتها القوية الواضحة؛ لا لشيء إلا لأن هذه الحضارة أو الثقافة قد حددت بالفعل استراتيجياتها للمواجهة؛ بحيث تتصادم لا مع الغرب (أمريكا أو روسيا أو أوروبا) بل مع الكتلة الإسلامية المجاورة لها بل وقد تتصادم كذلك مع الكتلة الصينية التي يخشاها الغرب وكان قد سبق لهم صدام من قبل.
وإذا عدنا إلى قائمة الخصوم كما تحددها مقولة صراع الحضارات فسوف يستوقفنا المزج كما قلنا بين القوى الموجودة بالفعل والقوى الموجودة فقط بالاحتمال النظري غير المؤكد؛ مع إعطاء الأولوية في الخطورة ودرجة التحذير لهذه القوى الأخيرة، ونعني بها الإسلام. فالتركيز يجري على الخطر المحتمل من جانب الحضارة أو التيارات الإسلامية قبل أي شيء آخر؛ رغم أن هذه التيارات تعاني من ضعف شديد أو على الأقل تعاني من هجمة شرسة ليس فقط من جانب الغرب بل من جانب أنصار وعملاء الغرب داخل الدول الإسلامية نفسها سواء أكان هؤلاء من التيارات العلمانية المتغربة أو من الدوائر الحاكمة. وهنا يثور التساؤل: لماذا يوضع الإسلام الجريح ـ كدول وتيارات ـ موضع الخطر الأسمى وهو مجرد احتمال قوة؟ بينما لا تذكر القوى الفعلية المؤكدة التي يعاني منها الغرب بالفعل الآن إلا في المرتبة الأخيرة، وربما على سبيل العرض أو لإعطاء الانطباع بأن الإسلام لا يستهدف وحده؟ إن وجود إجابة على هذا السؤال من الأهمية بمكان، إذا كان الأمر قضية تحذير حقيقي من خصوم سوف يجري معهم الصراع في السنوات القادمة كما يقال؛ فلماذا لا يتصدر القائمة الخصوم والمنافسون القائمون فعلاً ويتصدرها خصوم محتملون بدرجة ضعيفة؟ إن الشكوى الآن في الغرب هي من المنافسة الاقتصادية الطاحنة من جانب الصين واليابان وسائر الاقتصاديات الآسيوية الناهضة مما يهدد حقيقة وفعلاً ربحية الصناعة والتجارة الغربية ويهدر قدرتها على المنافسة، بل إن الشكوى كانت وما زالت قائمة من التنافس الاقتصادي الشديد داخل الكتلة الغربية ذاتها (ألمانيا في مواجهة دول أوروبا الغربية وأوروبا الغربية، في مواجهة أمريكا... إلخ) فلماذا والحالة هكذا ينحّى هؤلاء الخصوم القائمون الفعليون ويصدّر الإسلام للعداوة وهم لم ينافس ويصارع الغرب بعدُ بدرجة تمثل أي تهديد؟ وربما يقال إن هؤلاء الخصوم اقتصاديون أساساً في تهديدهم بينما تهديد الإسلام المحتمل أو منافسته هي على المستوى الثقافي الحضاري أو العقائدي الأوسع وهو ما يهم الغرب في الجوهر على الرغم من إعلاء شأن المادة والنقد والاقتصاد في الحضارة الغربية. وأياً كانت الحال فإن وضع الإسلام بالذات منفرداً على أول قائمة الحضارات التي سيجري الصراع معها من جانب الغرب في المستقبل القريب على الرغم من وجود خصوم يفترض أنهم أجدر منه بتلك المكانة لذو دلالة.(62/320)
يدل هذا الوضع المنفرد على أن تصور الغرب للصراع القادم يراه عقائدياً في جوهره وليس كما يذهب العلمانيون في الأقطار العربية الإسلامية اقتصادياً مادياً وإن كان بالطبع ينطوي على هذا الجانب. كما يدل أيضاً على أن الإسلام كدين وعقيدة مستهدف بذاته وليس أيضاً كما يذهب العلمانيون وكارهو الإسلام في بلادنا إلى أنه قد استهدف بالعداوة من الغرب بسبب تصرفات من يسمون بالمتطرفين أو الأصوليين أو الإرهابيين على الجانب الإسلامي. لقد أصبح من المقررات الثابتة في هذه الأيام أن نسمع ونقرأ تصريحات لمسؤولين كبار ورموز دينية تبرئ الغرب من تهمة العداء للإسلام واستهدافه وترمي باللوم على المسلمين الذين أتوا ـ في زعم هذه التصريحات ـ من الأفعال المتطرفة والمشوِّهة لصورة الإسلام ما جعل الغرب يخشى الإسلام ويعاديه، لكن هذه المزاعم تفضحها وتنقضها مقولة صراع الحضارات، فمهما بلغت شراسة ما تسمى بأفعال التطرف (ونلاحظ أن معظمها ينصبّ على داخل المجتمعات الإسلامية ذاتها وليس على الغرب مباشرة) فإنها لا تسوِّغ أن يطرح أستاذ جامعي بحثاً علمياً يفترض فيه الموضوعية يضع الإسلام على رأس قائمة الأخطار المهددة للحضارة الغربية، ويسقط أو يقلل من الأخطار القائمة بالفعل من ثقافات وأيديولوجيات ودول وأنظمة قوية وقائمة. لا يمكن لأعمال التطرف وحتى الإرهاب أن تسوِّغ هذا الطرح كما يتبجح العلمانيون الذين يهتمون بالدفاع عن الغرب وتسويغ توجهاته أكثر بكثير مما يهتمون بالإسلام كما يدعون وإلا، فقد بدر من الصين مثلاً من الأعمال العدائية للأمريكان مثلاً في الماضي القريب ما كان يدعو إلى اتخاذها العدو الأول في الحاضر والآتي ومع ذلك تجد من يسوِّغون الصداقة والتعاون معها.
إن مقولة (هنتنجتون) حول صراع الحضارات آتت بنتيجة ربما لم تكن متوقعة منها وهي أنها أسقطت ودحضت أحد أهم طروحات اللادينيين في البلاد العربية في الوقت الراهن وهو أن المسلمين مسؤولون بسلوكياتهم عن إساءة صورة الإسلام في الغرب مما دفع الغربيين إلى اتجاه العداوة، ذلك أن طرح (هنتنجتون) عن الجوانب العميقة والجوهرية في علاقات الحضارات ولا يتوقف عند أعمال عنف أو تطرف هنا أو هناك على زعم صحتها، وهو إذ يتحرك على هذا المستوى الأعمق يصدق مع النفس (أي مع الذات الحضارية الغربية) ويرى أن الإسلام سوف يكون هو الخصم الأكبر للغرب وليس أي من الحضارات الأخرى. صحيح أن (هنتنجتون) يتحدث كسائر الصحف الغربية عن الإرهاب والأصولية والتشدد الإسلامي لكن كل هذه الدعاوى تبدو فجة وواهية بل وكاذبة إذا ما وضعت بجانب الحقيقة التي يدركها الجميع وهي أن الإسلام كقوة دولية فاعلة ومؤثرة ليس موجوداً الآن بالحجم الذي يسوِّغ كل هذا التهويل؛ لذلك تبقى الحقيقة أو الاستنتاج المنطقي بأن استهداف الإسلام بتسميته الخصم الحضاري للغرب لا ينطلق إلا من دافع العداء الصرف لهذا الدين والعقيدة. وهناك الدوافع التي ألمحت إليها من قبل باستنهاض همم الغربيين وحشد قواهم وتوجيهها ناحية العدو الخارجي وليس الداخلي مع إيجاد فرصة للذات الحضارية الغربية لكي تتحدد وتتجدد في مواجهة الآخر. وفوق هذه الدوافع نجد أن أطروحة (هنتنجتون) ترمي إلى مساعدة الدوائر الحاكمة في الغرب على تحديد استراتيجية للمستقبل بوضع العدو المحتمل أمام أنظارهم. وإذا تتبعنا مسار السياسات الغربية ولا سيما الأمريكية في الأعوام الأخيرة لوجدنا أن هذه الأطروحة قد أصبحت بالفعل تمثل النور الهادي والمرشد للتحركات الغربية عن عداء وملاحقة للإسلام ومن تحريض للأنظمة والدوائر التابعة على مواصلة هذه الملاحقة والاضطهاد للحركات الإسلامية. وهكذا تتحول الأطروحة النظرية إلي واقع عملي منظور.
وما تزال مقولة صراع الحضارات تجلِّي لنا من الجوانب الكاشفة الشيء الكثير الذي ينتظر البحث في مقال قادم بإذن الله.
===========(62/321)
(62/322)
صراع الحضارات مرة أخرى
مجلة البيان - (ج 126 / ص 92)
د. محمد يحيى
على الرغم من تعرض العديد من الكتاب لمقولة الأستاذ الجامعي: (صمويل هنتنجتون) التي عرفت باسم صراع أو صِدام الحضارات (نسبة إلى مقالته عام 1992م ثم كتابه الموسع حول الموضوع وتحت الاسم نفسه عام 1996م) إلا أن هذه المقولة - وإن بدت سطحية الطابع - تحتوي على أعماق وأبعاد وجوانب كثيرة تتجلى كلما تعرض لها المرء بالبحث أو التأمل، وقد حاولت في مقال بل مقالات سابقة أن أجلي بعض هذه الجوانب وتركت أخرى لعلِّي أعالجها فيما بعد.
ومن الجوانب التي ما زالت بحاجة إلى المزيد من الإيضاح في هذه المقولة هو دورها ووضعها داخل سياق الفكر الغربي والأوضاع المعاصرة هناك، وهو ما ألقيت عليه بعض الضوء في المقال السابق، وأرجو أن أسلط المزيد الآن.
تبدو مقولة صِدام الحضارات للنظر - من زاوية - وكأنها محاولة واسعة النطاق لجمع شتات الصف الغربي ورسم هويته بحدة ووضوح شديد؛ ذلك لأن الصف الغربي الذي كان موحداً في القرون الوسطى بل وقبلها تحت راية الإمبراطورية الرومانية ثم المسيحية (ولا أقصد بالوحدة هنا السياسية أو السياسية وحدها) هذا الصف قد تناثر شظايا وشُعباً حتى العصر الحديث عصر الاستقطابات السياسية والانقسامات الأيديولوجية والتناثر الاجتماعي. وصحيح أن محاولات الوحدة على كل المستويات كثرت وتعددت حتى جاء عهد التكنولوجيا الحديثة وثورة الاتصالات مع سقوط المعسكر الشيوعي والتي بدت كلها عوامل تشجع على الوحدة؛ إلا أن الوحدة بالمفهوم الحضاري الوجودي الأوسع كوحدة عقيدة وهوية ومصلحة مشتركة كبرى ظلت مع ذلك مفتقدة. ومن هنا تأتي أهمية المقولة.
إن دعوة (هنتنجتون) تحاول أن ترسم صورة قد لا تكون مكتملة في الوقت الراهن لحضارة اسمها: (الحضارة الغربية)، وهي وإن سكتت عن مكونات وأسس هذه الحضارة، وانشغلت برسم ملامح صورة العدو (الآخر الحضاري) التفصيلية إلا أنها مع ذلك تفصح عند استنطاقها عن هذه المكونات والأسس وتقدم لنا العجب؛ فالحضارة الغربية المتطورة تجمع أقطاباً وأطرافاً كانت حتى الماضي القريب جداً من الأضداد المتصارعة. فهذه روسيا (الاتحاد السوفييتي السابق) ومعها بلدان أوروبا الشرقية (المعسكر الاشتراكي أو الكتلة الشرقية سابقاً) تصبح من مكونات ولبنات الحضارة الغربية حتى وإن كانت حتى القريب العدو الأول للغرب الذي يعني الكتلة الرأسمالية الليبرالية المنضوية تحت لواء حلف الأطلسي. وهنا نجد أن مفهوم الغرب قد اتسع ليشمل (الشرق) لكنه شرق مسيحي أبيض (وإن كان أرثوذكسي المذهب).
ومفهوم الحضارة الغربية المطروح في مقولة (هنتنجتون) يجمع بين أوروبا وأمريكا ويبقي ما كان من توتر وما هو كائن من تضارب في المصالح الاقتصادية. بل إنه داخل الكتلة الغربية الأوروبية ذاتها يجمع ما بين الكتل المصلحية الثقافية المتضاربة من بريطانية وفرنسية وألمانية وشمال أوروبية وجنوب أوروبية. ولا يكتفي مفهوم الغرب الجديد في التوسع شرقاً حتى حدود الصين واليابان ووسط آسيا (حيث امتداد روسيا) بل إنه يضرب إلى الجنوب الأمريكي حتى القارة الجنوبية المتجمدة حيث يتضمن الأمريكتين: الوسطى، والجنوبية. وهناك أيضاً تسود المسيحية الكاثوليكية التي مقرها في روما، ويسود العنصر الأبيض حتى وإن وجدت الأعراق والعناصر الأخرى بكثافة عددية أكبر: من زنوج ومخلطين في البرازيل، أو هنود في البلدان الأخرى. لكن ارتباط هذه القارة بالتاريخ الأوروبي، والمنحى العام للحضارة الغربية قد ترسخ منذ (اكتشافها) (حسب الزعم الغربي) في القرن الخامس عشر الميلادي، ويعاد اكتشاف هذا الإقليم الآن بثرواته وإمكاناته الهائلة ليُدرج في صف الحضارة الغربية بعد أن كانت بعض تصنيفات الفكر اليساري الغربي تضعه في خانة (العالم الثالث) ثم (الجنوب) في مواجهة (العالم الأول) أو (الشمال) وهو (الغرب). وبالطبع فإن أستراليا ونيوزيلندا في أقصى الشرق، وإلى الشرق حتى من الخصم الجديد للحضارة الغربية (الإسلام والصين الناهضة أو الكتلة البوذية... إلخ) تقع هي الأخرى ضمن صف الحضارة الغربية الذي تنشئه مقولة صِدام الحضارات.(62/323)
إذن: نجد أن طرح التصور للحضارة الغربية عند (هنتنجتون) يتضمن ما يمكن تسميته بإعادة تأسيس وإنشاء صف الحضارة الغربية بشكل يختلف جذرياً عما اعتاد عليه الفكر السياسي والثقافي والفكري حتى عهود بالغة القرب. فالغرب كما قلنا كان يقتصر على مجموعة بلدان غرب أوروبا (جغرافياً) بالإضافة طبعاً إلى كتلة القارة الأمريكية الشمالية، لكن المفهوم الجديد يوسع المدى الجغرافي للغرب كثيراً إلى حد ينعدم معه معنى (الغرب) ذاته مع الامتداد العميق إلى أقصى الشرق من ناحية وأقصى الجنوب من الناحية الأخرى، ثم محاولة التوغل في الوسط من خلال الطرح المكمل لمفهوم الغرب وهو طرح الحضارة المتوسطية التي يفترض أن تضم بلدان حوض شرق البحر المتوسط ومعظمها إسلامية. وهذا الطرح جاء من بلدان أوروبا الغربية والجنوبية وهو إن حاول التظاهر بخلق أو إحياء كيان حضاري متميز (البحر متوسطي) إلا أنه في الحقيقة لا يكاد يخفي أنه أداة لاستيعاب وضم الدول الإسلامية الكبرى المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط وإلحاقها بالحضارة الغربية (المسيحية - الوثنية) وإدراجها كعناصر داخل هذه الحضارة بعد تجريدها من خصوصياتها الحضارية وتمييع هويتها العقدية. وهكذا يتسع مفهوم الحضارة الغربية الجديد ليشمل نطاقاً جغرافياً هائلاً بل - وهو الأهم - ليشمل ويبتلع نطاقات ثقافية كانت بشكل ما خارجة عن نطاق الثقافة الغربية كروسيا وأمريكا الجنوبية.
وينقلب هذا التوسع الجغرافي عدوانياً عندما يتحرك ليهاجم قلب العالم الإسلامي من خلال طرح مفهوم الحضارة المتوسطية وهو في جوهره مجرد مفهوم وسيط يمهد لإلحاق الحضارة الإسلامية أو بلدانها المركزية بالحضارة الغربية ومجال النفوذ الغربي بعد فصلها أولاً عن الوسط الإسلامي وضمها إلى ذلك الكائن المصطنع (البحر متوسطي) الذي لن يلبث أن يكشف عن وجهه الحقيقي فإذا هو غربي بحت بعد أن يكون فات أوان العودة إلى الهوية الإسلامية بالنسبة للبلاد الإسلامية التي تكون انضوت تحت لوائه.
ويتجلى هذا التوسع الجغرافي الشرس والشاسع لمفهوم الغرب في التصور الجديد من بعض التصورات التي ينقصها الوضوح في مقولة (هنتنجتون) أو التي يسكت عنها؛ فما هو وضع الهند أو إفريقيا في خارطة الصراع الحضاري الذي يتنبأ به الكاتب الأمريكي للقرن الحادي والعشرين الميلادي؟
لقد تعرضت في مقالتي السابقة لوضع الهند وخلصت إلى أن (هنتنجتون) لا يصنفها في خانة أعداء الغرب رغم أنها كالصين (وأكثر من العالم الإسلامي) تمتلك القوة النووية حسب أرجح التصورات، وفوقها إمكانات عسكرية واقتصادية كبيرة حالية ومتوقعة، كما خلصتُ إلى أن عدم وضع الهند في خانة العدو الحضاري المحتمل يعني أنها واقعة في خانة الأصدقاء أو الحلفاء المحتملين للحضارة الغربية حتى وإن لم توضع صراحة في الصف الغربي. ولا يُنسى أن الجذور الأولى للحضارة واللغات الأوروبية تستمد نفسها من الماضي الآري السنسكريتي في الهند؛ فضلاً عن أن المنطق الاستراتيجي السليم يحتم وضع الهند في الصف الغربي في مواجهة الحضارتين الإسلامية غرباً وجنوباً، والصينية شرقاً. تتبقى إذن قارة إفريقيا؛ ووضعها - من هذه الناحية - غامض؛ فهي غير مذكورة في الصف الغربي إضافة إلى أن ضعفها الحالي والمتواتر يجعل من غير المحتمل وضعها كالهند في خانة الحلفاء المستقبليين. لكن الواقع يقول إن عملية (هندسة سياسية) ضخمة تجري الآن لإلحاق سائر إفريقيا في إقليم ما يعرف بـ (جنوب الصحراء) إلى الصف الغربي. وإلا فلماذا عودة جنوب إفريقيا كالابن الضال إلى صف السياسات الدولية من منظور غربي؟ ولماذا عملية التغييرات حتى في قلب ووسط إفريقيا ثم في الاتجاهات الأربعة من ذلك القلب لرسم خريطة سياسية جديدة من إمبراطوريات لا تتميز بشيء قدر تميزها بالعداء للإسلام، والولاء السياسي والاقتصادي لأمريكا، والانتماء الديني إلى المذاهب المسيحية الغربية وبعدها الثقافة المتأوربة؟ إن المسرح السياسي العام يعد الآن في وسط وأطراف إفريقيا لتأكيد الضم والإلحاق بالغرب على أصعدة تمتد من الاقتصادي إلى الثقافي والديني في مواجهة الشمال والشرق الإفريقي المسلم.(62/324)
ومن ثم نرى أن الحضارة الغربية التي سوف تواجه العدو الإسلامي في المستقبل القريب حسب مقولة (هنتنجتون) هي صف أوسع وأكبر وأخطر بكثير من ذلك التصور الذي ساد حتى عهد قريب حول (الغرب) وليست القضية مجرد توسع جغرافي مهما كان مداه وخطورته، بل إن هذا التوسع عدواني في المقام الأول أي إنه مستمر وزاحف ينتهج سياسات الضم والإلحاق والإدراج، وترتيب الحلفاء والأصدقاء، وتحييد القوى التي قد تنضم إلى العدو؛ فهو صف يتبع أساليب عسكرية واضحة في التفكير والنهج. والأخطر من ذلك كله أن هذا الصف الغربي في شكله الجديد الذي تؤسسه وتنشئه مقولة صراع الحضارات يقوم على أساس ظن البعض أنه قد مات في الغرب إلى الأبد؛ وأعني به الأساس العقدي وبالتحديد: الديني المسيحي؛ فبعد قرون من سيادة نهج التفكير العلماني، وبعد أن بشّر الفكر الغربي في طرحه البراجماتي والليبرالي بنهاية الأيديولوجيا أو نهاية سيطرة المفاهيم العقائدية على توجيه الأمور في عصر العلم وثورة التكنولوجيا، كان من المظنون أن أي طرح يقيم الحضارة والثقافة والهوية على أسس دينية عقائدية قد مضى وقته إلى غير عودة في الغرب؛ لكن ها هو البروفيسور الأمريكي يبشر بحضارة غربية تقيم هويتها على أساس مواجهة خصم ديني (الإسلام) وهذا لا يكون إلا إذا كانت تلك الحضارة نفسها تقوم على أساس ديني أو هي شديدة الوعي والحساسية بدور الدين ووضعه كمقوِّم للحضارة والهوية والكيان. وعند هذه النقطة بالذات ينهار منطق الردود التي جاءت من العالم الإسلامي على مقولة صِدام الحضارات.
لقد تناولت من قبل بعض سمات الردود القادمة من بلدان إسلامية على هذه المقولة، لكن السمة الكبرى فيها هي أنها صدرت عن أصوات ودوائر ذات توجه علماني متغرب؛ فضلاً عن أنه واقع تحت سيطرة التوجيه المباشر للدوائر السياسية الحاكمة وهذا طبيعي؛ لأن الواقع في بلداننا الإسلامية يبين أن هذا التيار العلماني المتغرب قد أعطيت له في الآونة الأخيرة السيطرة على منابر الفكر والثقافة والإعلام والتعليم والعمل الاجتماعي في إطار الحملة الجارفة على الحركات الإسلامية بل والإسلام ذاته؛ ولذلك جاء تعامل هذا الصوت العلماني مع مقولة صدام الحضارات غريباً ولافتاً للنظر رغم صدوره عن أشخاص وأجهزة في بلدان إسلامية حسب التاريخ وحسب الأغلبية، وينبغي التركيز على هذه الحقيقة لغرابتها؛ فالرد الظاهر في العالم الإسلامي على مقولة (هنتنجتون) لم يجئ من أصوات إسلامية فكرية صادقة (وهو قد جاء ولكن تعرض للتعتيم) لكنه جاء من ذلك التيار العلماني المتغرب المسيطر بقوة الغير. لذلك تراوح الرد بين اتهامات سخيفة لـ (صمويل هنتنجتون) بأنه (أصولي) (ولولا بقية من حياء لقالوا أصولي إسلامي!) وبين مقولات مضادة تروّج لفكرة أن العلاقة الأساسية التي يدعو لها الإسلام (تذكّر أن هذا الطرح صادر عن علمانيين!) هي علاقة التفاعل والتعاون والتبادل بين الحضارات.
والمشكلة أو الأزمة التي وقع فيها الصوت العلماني المتغرب في البلدان الإسلامية في تعامله مع مقولة صراع الحضارات أنه لم يعد يتوقع أو يفهم أن يؤسس أحد فكرة أو طرحاً على قواعد الدين والعقيدة! إن هذا الصوت كان تلميذاً نجيباً ومطيعاً استوعب دروس علمانية الغرب التاريخية حتى النخاع، ونبذ الإسلام وراء ظهره نهائياً. وهذا الصوت لم يعد يستطيع أن يفهم أو يتعامل مع أي طرح يصدر عن الدين والعقيدة إلا بالرفض أو عدم التصور. ولذلك فعندما فوجئ هذا الصوت أو التيار بالعلمانية تسقط في الغرب، والمسيحية تنهض عند كثير من الفلاسفة وأصحاب المذاهب هناك (وهنتنجتون بالمناسبة هو مجرد صوت صغير غير ذي أهمية في سياق هذه العودة للمسيحية في تصور الأمور) أُسقِط في يديه ولم يعد يعرف كيف يتصرف أو يرد. لم يستطع هذا التيار أن ينادي بنهضة أو إحياء إسلامي، ولم يستطع أن ينادي بتأسيس وحدة حضارية إسلامية شاملة لتواجه الطرح الحضاري الغربي المؤسس على المسيحية الناهضة أو الأصولية!
وباختصار: لم يستطع الصوت العلماني - في تعامله مع مقولة صراع الحضارات - أن يدعو إلى رد إسلامي أو مواجهة إسلامية؛ لأنه نبذ الإسلام وتخلى عنه؛ فكان الرد الوحيد هو هيستيريا اتهام (هنتنجتون) بالأصولية تماماً كهيستيريا اتهام المسلمين بالأصولية والتطرف!(62/325)
ولم تتوقف المشكلة والمأزق عند هذا الحد؛ فالصوت العلماني المسيطر في التعامل القادم من البلدان الإسلامية مع مقولة صراع الحضارات قد أُشرِبَ الحضارة الغربية وثقافتها وفكرها؛ بحيث لم يعد يتصور أو يفهم أنه توجد حضارات أخرى وثقافات وعقائد غيرها. ومرة أخرى كان هذا هو الدرس الذي تلقاه ذلك الصوت من معلميه الغربيين واتبعه بنجابة التلميذ المطيع. ولهذا فعندما جاءت مقولة (هنتنجتون) تتحدث مذعورة عن خطر الثقافات والعقائد الأخرى على الغرب وقع الصوت العلماني في البلاد الإسلامية في حيرة مضاعفة: كيف يكون هناك خطر وقد تعلمنا أن كل الثقافات الأخرى غابرة، وأن حضارة الغرب وحدها هي القادمة وهي المنتصرة وهي الوحيدة؟ لقد رأى (هنتنجتون) أن هناك صحوة إسلامية تتحول إلى نهضة حضارية تنافس وتجبّ حضارة أمته الغربية.
أما العلمانيون الذين يحملون أسماء إسلامية فلم يروا في هذه الصحوة إلا (ردة) (حسب تعبيرهم) إلى عهود الظلام والرجعية.. إلخ، وردة عن النور الذي جاء من الغرب؛ ولهذا السبب لم يستطع الصوت العلماني أن يرد على مقولة صراع الحضارات بالدعوة إلى دعم الحضارة الإسلامية بكل الأساليب وعلى كل الأصعدة لتتصدى لهجمة الحضارة الغربية الشرسة المتوسعة، والتي تناصب الآخرين العداء، وتتخذ منهم أعداء حسب طرح (هنتنجتون).
على ضوء تغرب الصوت العلماني حتى النخاع لم يكن الرد المتوقع إلا أن يكون الدعوة إلى الحوار والتعاون والتفاعل والمشاركة مع الغرب مع إلصاق هذا المدخل بالإسلام. أوَليس الإسلام دين المحبة والسلام؟ لكن هؤلاء العلمانيين لم يكونوا يهتمون بالإسلام بأدنى قدر في هذا الطرح يوازي اهتمامهم بنفي أي احتمال للصراع مع الغرب سواء أكان ذلك سياسياً أو اقتصادياً أو حضارياً؛ إذ كيف يقبلون بوجود أي صراع مع الغرب مهما كان مسوّغاً بدوافع الدفاع عن الذات والهوية الإسلامية؛ بينما كل انتمائهم هم، وهويتهم هم، وذاتيتهم هم: غربية الطابع؟
لقد عمي الصوت العلماني عن الصورة الجديدة والتشكيل الجديد لمفهوم الغرب كما تجلى في مقولة صراع الحضارات. لم ير الصوت العلماني أية غرابة في أن تتوسع الحضارة الغربية وتتقوى أو أن تعادي الإسلام؛ فهم من أبناء هذه الحضارة الغربية بالروح وإن لم يكن بالجسد. لكنهم وجدوا الغرابة كل الغرابة في أن تخاف الحضارة الغربية من الإسلام، وتخشى النزال معه، وتحشد لذلك عدتها؛ فطفقوا وباسم الإسلام (!) ينادون بني جلدتهم المسلمين بأنه يجب أن لا يكون صراع مع الغرب بل إخاء وسلم ومحبة وتذلل وأخذ؛ حتى ولو أشهر الغرب سيوف التنصير والاستغلال الاقتصادي، وأعلن الحرب على الإسلام والمسلمين!
إن الرد القادم من بلدان إسلامية عديدة، والذي جرى إبرازه بحيث يتصور المرء أنه هو الرد (الإسلامي) على مقولة صراع الحضارات جاء في الحقيقة وفي معظمه من الأصوات العلمانية المسيطرة والموجودة حتى داخل المؤسسات الدينية الشهيرة بل وعلى رأسها في أحيان؛ ولذلك تخبط هذا الرد بين اتهامات مضحكة لهنتنجتون بالأصولية الفكرية أو الردة عن العلمانية! (وكأنها دين منزل عند هؤلاء الذين لا يقبلون الأديان) وبين اتهامات أخرى بأنه يذكي نيران العداوة والإحن؛ وكأنه ليس مجرد ممثل ومعبر عن حضارته المتوسعة الشرسة في طرحها المعاصر الذي هيمنت عليه المسيحية كعقيدة ودين تؤسس عليه الدول والسياسات والمواقف ويكون قاعدتها المتينة.(62/326)
الرد (الإسلامي) على (هنتنجتون) كان في الحقيقة رداً علمانياً متغرباً يهاجم الباحث الأمريكي؛ لأنه بطرحه الواضح المباشر لمفهوم الصراع الحضاري والثقافي والديني أعطى الإسلاميين وفكرهم دفعة ومسوِّغاً وحجة كان العلمانيون في البلدان الإسلامية يجتهدون لدفعها وإخفائها. إن العلمانيين في البلدان الإسلامية يبشرون بانتهاء عهد العقائد والديانات وحلول عهد العالمية والكوكبية (وهي ليست سوى هيمنة الحضارة الغربية بعد أن وُصِفت (بالعالمية) المطلقة) لكن ظهور مقولة صراع الحضارات وانتشارها بالشكل الإعلامي الواسع وذيوعها بين الجماهير العريضة أربك هذا الطرح العلماني بين ظهرانينا، وأظهر على العلن ما كان العلمانيون يبذلون ما في وسعهم لإخفائه بفضل سيطرتهم على منابر الإعلام والثقافة ألا وهو أن عهد الفكر العلماني قد ولى في الغرب نفسه، وحل محله عهد من بروز الأديان والعقائد كأسس للحضارة والثقافة عند الغرب، كما أن الحضارة الغربية التي طُرحت على الناس كحضارة عالمية وحيدة تجبّ كل الحضارات والعقائد بحكم أنها ذروة خط التقدم الإنساني قد ظهرت الآن ومن خلال مقولة صِدَام الحضارات على أنها ليست هي المطلقة بحكم أنها قمة التقدم البشري؛ بل إنها مجرد حضارة وعقيدة من بين حضارات وعقائد أخرى، وأنها ليست المطلقة بل تسعى إلى فرض نفسها بالقوة وتخاف من حضارة الإسلام وتسعى للكيد لها. كل هذه الحقائق فضحتها أطروحات (هنتنجتون) ولذلك جاء الرد العلماني عليه ليس من الغرب - حيث انهارت العلمانية - وإنما - وللغرابة - من العالم الإسلامي حيث تحتكر العلمانية دون حق منابر الفعل والفكر والتأثير؛ وجاء هذا الرد غريباً من حيث أنه يتمسح بالإسلام (حقاً أو باطلاً) ويدعو المسلمين إلى عدم النهوض للتحدي الذي تطرحه مقولة (هنتنجتون) بل على العكس إلى الخضوع لهذا التحدي والاستسلام له تحت زعم أن الإسلام باعتباره ديناً للمحبة والسلام لا ينبغي له أن ينهض للصراع والتنافس والجهاد حتى في وجه من يرفعون شعار النزال!
=========(62/327)
(62/328)
الفخ في صراع الحضارات
فاطمة عبد الله*
في حركة لولبية ومتصاعدة اتخذت مسألة نشر الصحف الأوروبية لصور ورسوم تسيء للنبي r منعرجا خطيرا؛ ليس أقلّه أن هناك من يدفع باتجاه تأجيج صراع مفتعل، وفخّ مهيأ سلفا من دعاة صراع الحضارات أسوة بما كان (بشّر) به جزافا المفكر الأمريكي (صموئيل هنتنغتون) في كتابه (صراع الحضارات) الذي نشره منذ عشرية ونصف.
وعندما نتفحّص في نسق العملية - عملية النشر التي ترد تباعا من عاصمة أوروبية إلى أخرى تحت تعلّة حرية التعبير - نعي تماما أن في الأمر حثّا نحو مخطط، أو فخ أفصح عنه، وحذّر منه وزير الخارجية الإسباني ميغل موراتينوس حين دعا العالم الغربي إلى عدم الوقوع في فخّ من أسماهم دعاة حرب الحضارات..
لكن عندما نستعرض وسائل الإعلام التي نشرت ولا تزال تعيد النشر، والبلدان التي تنتمي إليها نجد طرفا حاضرا غائبا في المشهد وهو الطرف الأمريكي.
إذ أن التعلة - التي تتخذها العواصم الغربية، وصحفها الكبرى التي نشرت، أو أعادت نشر الرسوم المشار إليها - هي حرية التعبير.. في حين أن الصحافة الأمريكية لم تنخرط إلى حدّ هذه اللحظة في هذا الجدل الذي أريد له أن يكون في ميدان العرب والمسلمين، وبوسائل الغرب من الأوروبيين.
هنا يطرح سؤال الحيرة نفسه: من هو الطرف أو الأطراف التي لها مصلحة في اشتعال النار بين الشرق والغرب، وتحديدا بين أوروبا والعالم الإسلامي المتاخم لها جغرافيا، والساكن بين ظهرانيها من خلال ملايين المسلمين الذين يعيشون في قلب أوروبا.
لقد تسارعت الأحداث بدرجة لم يعد معها التحاور ممكنا بالفكرة، والفعل أضحى فيه الكثير من الاستفزاز، وردّ الفعل صار مغمورا بالمشاعر والأحاسيس؛ وهنا لبّ المشكل؛ إذ أن التاريخ علّمنا أن مسّ مقدسات أو محرّمات مجموعة بشرية ما من شأنه أن يؤجج المشاعر، ويجعل المجموعة في حلّ من أي حوار.
الملفت في كل هذا الذي حدث من ردّة فعل شعبية غاضبة أنها لا تعني مفهوم الصراع في شيء، وهي كذلك لا تعني مفهوم الحوار في شيء أيضا.
عندما نتفحص جيدا هذه الأحداث المستجدة على الساحتين الأوروبية والعربية الإسلامية لا بد أيضا من أن نتساءل عن معاني عدة منها: ما معنى هذا التوقيت؟ وما علاقة تلك الرسوم المشينة والمسيئة لمشاعر المسلمين بأحداث العالم اليوم من حروب، واحتلال، وهيمنة؟.. وهي أحداث تسيء لكل من العربي، والمسلم الذي يقع عليه أثرها في حين أن من أصدرت صحفه، ووسائل إعلامه تلك الرسوم، هو الأطراف التي تتحرك، وتقوم بتلك الأفعال التي منها الاستعمار، والسيطرة على مقدرات الغير..
ما أشار إليه الوزير الأسباني كفيل بأن يفتّح أعين الكثيرين ممن اتخذوا من المسألة مجرّد ردّ فعل متخلف من أمة كفّ عطاؤها للحضارة الإنسانية منذ زمن.
إنه الفخّ الذي سارع عدد من الغربيين للوقوع فيه، في حين أن المسألة تتجاوز كونها حرية رأي تمسّ حرية المعتقد، وقدسية المقدَّس للمسلمين قاطبة.. وكما شدد وزير الخارجية الإسبانية فالوضع العالمي لا يحتمل صراعا حضاريا؛ وعلى الغرب أن يعمل على خفض التوتر.. لأن الوضع كما نعلم جميعا متوتر لأسباب يعرف الغربيون جيدا أنها خارجة عن نطاق الاعتداء بالصورة أو بالكلمة ضد العرب والمسلمين لتتعداها إلى مشهد مشحون بالغضب جراء الهيمنة الاقتصادية، والغزو العسكري، وسفك دماء الاستقلال الوطني.
ما هو مطلوب من الغرب اليوم هو التعامل بمسؤولية تجاه أحداث فيها فخاخ للجميع.. فلا العرب والمسلمون طلاّب صراع حضاري، ولا هم أيضا جادلي الغرب في مقدّساته، وحريته الفكرية، وحرية التعبير في بلدانهم.
إنّ تحذير موراتينوس جاء في وقته؛ لأن الغضب والاستفزاز بدآ يسريان كالنار في الهشيم، في حين أن التريّث والانتباه إلى ما يحمله فخّ صراع الحضارات من كوارث على البشر أجمعين من شأنه أن يجنّب البشرية شرّ البليّة. =============(62/329)
(62/330)
صراع الحضارات ومستقبل الدعوة الإسلامية
أ. د. جعفر شيخ إدريس
قُدم هذا البحث لمؤتمر عقدته مجلة البيان بقاعة الصداقة بالخرطوم يوم 17 رجب 1423 هـ الموافق 24سبتمبر سنة 2002
هيمنة الحضارة الغربية
إذا أردنا للحديث عن صراع الحضارات أن يكون حديثا تبنى عليه مواقف فكرية وعملية فيحسن أن لا يكون حديثا عاما، بل يحسن أن نشير فيه إلى وقائع وحالات محددة. لذلك نقول:
ما الحضارات التي يقال إنها تتصارع الآن؟
لكي نجيب عن هذا السؤال يحسن أن نتفق على ما نعنيه بكلمة الحضارة، في بحثنا هذا على الأقل. الحضارة كما نستعملها هنا هي الكلمة العربية المقابلة للكلمة الانجليزية civilization . فالحضارة بحسب ما نراه هنا مكونة من جوهر ومظهر. أما الجوهر فهو معتقداتها وقيمها وأنماط السلوك الشائعة فيها، وأما مظهرها فهو انجازاتها المادية من قوة عسكرية واقتصادية، ونظم سياسية وعمران.
الحضارة بهذا المعنى مفهوم محايد، أعني أنه لا يدل بنفسه على مدح أو ذم، شأنه في ذلك شأن عبارات الأمة، والأئمة، والخُلق والدين وغير ذلك. فالأمة قد توصف بالاستقامة أو الزيغ، والأئمة قد يكونون هداة إلى الحق أو موردين لمتبوعهم إلى النار، والخُلق قد يكون حسناَ وقد يكون سيئاً، والدين قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً. وكذلك الحضارة قد توصف بالمادية أو الإيمانية، وبالقوة أو الضعف.
فما الحضارات ـ بهذا المعنى ـ التي تتصارع في عصرنا؟
لا نستطيع ـ فيما أرى ـ أن نشير في واقعنا الراهن إلى حضارة ماثلة محددة المعالم إلا حضارة واحدة هي الحضارة الغربية. وذلك أننا حين نتحدث عن الحضارة الغربية نستطيع أن نشير إلى دولٍ قائمة تتمثل فيها هذه الحضارة: فهنالك دول أوربا الغربية، والولايات المتحدة، وكندا، واستراليا ونيوزيلاندا. يجمع بين هذه الدول كونها كلها ذات نظام سياسي واحد هو الديمقراطية الليبرالية العلمانية، وأن بينها علاقات وتعاون، وأن لها تاريخاً واحداً مشتركاً، وأن الديانة النصرانية هي أكثر الديانات انتشاراً بين شعوبها. بل إن هذه الدول لتشترك شعوبها حتى في أزياء رجالها ونسائها، وفي كثير من اذواقها الأدبية والفنية. هذه الدول في مجموعها هي أقوى دول العالم اقتصاداً، وسلاحاً، وتأثيراً إعلامياً. حضارتها هذه هي الحضارة الغالبة المهيمنة على العالم.
هل نستطيع أن نقول مثل هذا عن أية حضارة أخري في واقعنا الراهن؟ كلا. نستطيع أن نشير إلى أقطارٍ أخرى إشارات سلبية بأن نقول إن حضارتها ليست غربية بالمعنى الكامل. فاليابان تشبه دول الحضارة الغربية في نظامها السياسي وفي تقدمها الاقتصادي، وتخالفها في تاريخها، وفي الدين السائد بين أهلها. وهي صديقة للغرب ومتعاونة معه لا مصارعة. وقل مثل ذلك عن الهند.
أما الصين فإنها تشبه الدول الغربية من حيث نموها الاقتصادي، بيد أنها تخالفها في نظامها السياسي والاقتصادي. لكن حتى هذين النظامين ليسا بنابعين من ثقافة صينية أو تاريخ صيني وإنما هما مستوردان من فكر غربي هو الفكر الماركسي.
مجموعة الدول التي كانت تسمى بالاتحاد السوفيتي كانت متشابهة في نظامها السياسي والاقتصادي، وكانت لها قوة عسكرية ورسالة أيدُلوجية ومطامع توسعية، فكانت هي فعلاُ المنافسة للغرب، لكنها حتى في أوج عظمتها لم تكن تمثل حضارة متميزة. أما بعد تفكك اتحادها وسقوط نظامها السياسي والاقتصادي وذهاب بريقها الأيدلوجي، فقد صارت دولاُ ضعيفة تحاول أن تتأسى بدول الحضارة الغربية في أنظمتها، كما تحاول تحسين علاقاتها بتلك الدول، ولا سيما الولايات المتحدة، طمعاً في مالها وجاهها.
ماذا بقي؟ بقيت الدول الإسلامية. هل نستطيع أن نقول إنها تمثل اليوم حضارة بالمعنى الذي وصفنا به الحضارة الغربية؟ نقول آسفين: كلا. فإنه ليس لها نظام سياسي واحد إسلامياً كان أو غير إسلامي، وليست ملتزمة كلها بالإسلام في نظمها الاقتصادية أو التعليمية أو الإعلامية أو غيرها. وليس بينها تعاون حقيقي يذكر رغم انضمامها كلها إلى عضوية المؤتمر الإسلامي.
فليس هنالك إذن حضارة إسلامية قائمة قياماً مادياً يميزها تمييزاً كاملاً عن الحضارة الغربية، ودعك أن تكون في صراع معها. نعم كانت لنا في الماضي حضارة، بل كانت الحضارة الإسلامية هي الحضارة العالمية الوحيدة إلى بداية القرن السابع عشر الميلادي، حضارة اعترف بوجودها وقوتها معاصروها، ويعترف بوجودها المؤرخون والمختصون بالدراسات الإسلامية حتى من الغربيين المعادين.(62/331)
وعليه فنستطيع أن نقول إنه ليس هنالك في واقع الأمر صراع بين حضارة غربية وأخرى إسلامية، لأنه لا توجد اليوم حضارة إسلامية بالمعنى الذي توجد به حضارة غربية، أو بالمعنى الذي كانت توجد به حضارة إسلامية. فما مشكلتنا مع الحضارة الغربية إذن؟ مشكلتنا أن الحضارة الغربية ليست راضية حتى بهذا القليل الذي تبقى لنا من الحضارة الإسلامية، بل تريد لنا ولغيرنا أن لا نكون عقبة في طريق مصالحها القيمية أو المادية، بل أن نكون تابعين في كل ذلك لها. ومع أنه لا توجد اليوم حضارة إسلامية، إلا أن الحضارة الغربية ذات حساسية بالغة من أية بادرة بعث لتلك الحضارة لسبب تاريخي. إن قادة الفكر الغربي لا ينسون، كما أن كثيرين منا لا ينسون، أن الحضارة الإسلامية كانت كما قلنا هي الحضارة العالمية حتى القرن السابع عشر الميلادي. استمع إلى المستشرق اليهودي برنارد لويس وهو يقول في شيء من شماتة:
ظل الإسلام لقرون طويلة أعظم حضارة على وجه الأرض ــ أغنى حضارة، وأقواها، وأكثرها إبداعا في كل حقل ذي بال من حقول الجهد البشري. عسكرها، أساتذتها وتجارها كانوا يتقدمون في موقع أمامي في آسيا وأفريقيا وأوروبا، ليحملوا ما رأوه الحضارة والدين للكفار البرابرة الذين كانوا يعيشون خارج حدود العالم الإسلامي.
ثم يمضي ليقول:
ثم تغير كل شيء. فالمسلمون بدلا من يغزو الدول المسيحية ويسيطروا عليها، صاروا هم الذين تغزوهم القوى المسيحية وتسيطر عليهم. مشاعر الإحباط والغضب لما عدوه مخالفا للقانون الطبيعي والشرعي ظلت تتنامى لمدة قرون، ووصلا قمتهما في أيامنا.[1]
فقادة الحضارة الغربية يخشون على حضارتهم من كل بادرة إحياء لتلك الحضارة التي كانت سائدة. ومما يزيد من خوفهم قول المختصين منهم في التاريخ الإسلامي، إن للإسلام مقدرة عجيبة على العودة كلما هُزم.
ما الإجراءات التي يجب أن تتخذ لضمان عدم عودته؟ اختلفت الإجراءات في تفاصيلها بحسب الظروف العالمية، وبحسب التكتيكات الوقتية، لكن أمرين استراتيجيين اثنين لم يتغيرا، هما ضمان عدم رجوع الأمة إلى فهم صحيح للقرآن الكريم، وضمان استمرارها ضعيفة محتاجة إلى الغرب، أي ضمان عدم توفر الشرطين اللازمين لتمكين الأمة وبالتالى لحضارتها، وهما الكتاب الهادي والسيف الناصر[2] قال تعالى:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25]
في عهد الاحتلال المباشر لبلدان العالم الإسلامي، كان أول ما فعله المستعمرون اقصاء العلم الشرعي عن المدارس والجامعات، وحصره في دوائر ضيقة روعي أن لا يكون لها علاقة بالمجتمع ولا بالعصر. وفي هذا العهد استغلت ثروات البلاد لتغذي مصانع أوربا وتقوي اقتصادها.
بعد انتهاء عصر الاستعمار والدخول في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، انشغل الغرب بعدو ماثلٍ أكبر، فلم ير بأساً من التعاون التكتيكي مع بعض حملة هذا الفهم الصحيح كما حدث في أفغانستان. لكن الهدف الاستراتيجي لم يُنس أبدا؛ فقد ظل الغرب الديمقراطي بقيادة الولايات المتحدة هو ـ إلى حد كبيرـ الذي يصنع الحكومات غير الديمقراطية ويدعمها، مراعاة لمصالحه، وخوفاً من أن تكون الديمقراطية ذريعة لوصول الإسلام إلى السلطة.
أمريكا والنظام العالمي الجديد
وبسقوط الاتحاد السوفيتي واستتباب الأمر للحضارة الغربية، دخل العالم مرحلة جديدة، مرحلة القوة العالمية الكبرى الواحدة، التي لا تدانيها من حيث إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية والتقنية والإعلامية قوة أخرى. وبدأت تظهر تبعاً لذلك معالمُ نظامٍ عالميٍ جديد، ما تزال تفاصيله محل نقاش كبير في الولايات المتحدة. لكن يمكن تلخيص اتجاهات هذا النقاش في اتجاهين كبيرين: الدعوة إلى الانفرادية، وضرورة الاستمرار في العمل ضمن الأطر العالمية السائدة.
الاتجاه الانفرادي
يرى أصحاب الاتجاه الانفرادي الذي تقوده عصبة ممن يسمون بالمحافظين الجدد، أن تستبد الولايات المتحدة باتخاذ ما تراه من قرارات وسياسات تحقق مصالحها، وتنشر قيمها من غير تقيد بأعراف ولا قوانين دولية، ولا بمؤسسات عالمية كالأمم المتحدة. وهم يعتمدون في تسويغهم لهذا الرأي وتسويقه على أمرين:(62/332)
أولهما: القوة الاقتصادية والعسكرية الهائلة للولايات المتحدة التي لم تعد تدانيها فيها قوة أخرى، هذه القوة التي جعلت الجميع يعترفون بأنه لم تعد توجد الآن إلا قوة عالمية كبرى واحدة. لكن الأعراف الدولية والقوانين العالمية السائدة حتى الآن هي ـ في رأي المحافظين الجدد ـ من مخلفات نظام عالمي قديم، اقتضتها ظروف لم يعد لها الآن وجود. ولذلك فلا جناح على الولايات المتحدة أن لا تلتزم بها مادام الأمر قد استتب لها. إن الولايات المتحدة قد بلغت من القوة شأواً لا تدانيها فيه دولة أخرى. فميزانية وزارة الدفاع هي أكبر من مجموع ميزانيات الدول الاثنتين والعشرين التي تأتي بعدها، ويقولون إنها ستكون بحلول عام خمسة بعد الألفين أكبر من مجموع ميزانيات الدفاع في كل أنحاء العالم! وإذا كانت عادٌ قد قالت فيما مضى "من أشد منا قوة؟" فإن أمريكا تقول اليوم لا أحد أشد منا قوة في الحاضر، ولم يكن أحد أشد منا قوة في الماضي. ولكن كما قال ربنا لعاد، نقول لمن أطغتهم القوة اليوم: "أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة؟"
يقول أصحاب هذا الرأي من المحافظين الجدد: إن على أمريكا أن تكون هي لا المنظمات العالمية، بل ولا حتى حُلفاؤها من الدول الغربية، التي تقرر ما هو حسن وما هو سيء بالنسبة للعالم، وأن تتصرف بحسب حكمها من غير التزام بقرارات يفرضها عليها غيرها. فلسان حالهم يقول "مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَشاد". هذا لا يعني ـ كما يقولون ـ أن لا تستشير الولايات المتحدة غيرها، وأن لا تتعاون مع من يريد التعاون معها، ولكنه يعنى يصورة حاسمة أنه لا أحد له الحق الآن في أن يلزمها بما لا تلزم به نفسها. ولئن لم تفعل هذا فسيكون مثلها كمثل جلفر Gullive r الذي تقيده أقزامُ لليبوت، كما قال أحدهم.
وثانيهما: أن عامة الأمريكان يعتقدون أنهم أصحاب رسالة عالمية. رسالتهم هي رسالة الحرية، فهم لا يرون أنفسهم بأقوى الدول فقط، وإنما هم أخيرها، بل هم خير أمة عرفها التاريخ البشري، فهم بزعمهم أكثر الناس تدينا، وأشدهم استمساكا بالأخلاق الفاضلة. نظامهم السياسي كما يرون أحسن نظام، ودستورهم أحسن وثيقة كتبت في التاريخ، ونظامهم الافتصادي أنجح نظام، وقضاؤهم أعدل قضاء، ونظامهم التعليمي أرشد نظام، ونظامهم الصحي أفيد نظام، بل وسجونهم أكثر السجون إنسانية. أمريكا هي بلد الأحرار وبلد الشجعان وبلد الفرص. وعليه فإن استبدادهم بالأمر سيكون لخير البشرية " لأن الأمريكان كما قال أحد مفكريهم هم "حداة البشرية في سيرها نحو الكمال" لا يملك المرء إلا أن يذكر مرة أخرى مقالة فرعون "مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَشاد".
ولهذا تجد زعماءهم السياسيين يستغلون فيهم هذه النزعة الرسالية وإن شئت فقل الحمية، حمية الجاهلية، فيحرضون شعبهم ـ ولا سيما العسكريين منهم ـ على التضحية من أجل هذه المُثل العليا، لا من أجل المصلحة الوطنية بالمعنى المحدود، لأنهم يعلمون أن الذي يحرك الإنسان هو الاعتقاد في مثل هذه المثل، لا مجرد الدفاع عن أرض أو مصلحة مادية.
وقد ظهر هذا جلياً في الخطاب الذي ألقاه الرئيس جورج بوش لخريجي كلية وست بوينت العسكرية. فمن العبارات التي جاءت في ذلك الخطاب، الذي أنصح بقراءته:
أن أمريكا تدافع عن الحرية، وأن العَلَم الأمريكي حيثما رُفع فلن يكون رمزاً لقوتنا فحسب ولكن للحرية. لقد كانت أهدافنا دائماً أكبر من مجرد الدفاع عن أنفسنا. إننا كلما حاربنا فإنما نحارب من اجل سلام عادل، سلام يختار الحرية الإنسانية. سندافع عن السلام ضد تهديدات الإرهابيين والحكام المستبدين. إننا نريد لغيرنا ما نريد لأنفسنا ــ أمن من العنف، خيرات الحرية، والأمل في حياة أحسن. إن محاربة الإرهاب تحتاج إلى صبر، ولكنها تحتاج أيضا إلى هدف خُلقي. إن أعداءنا اليوم كما كانوا أيام الحرب الباردة شموليون، يؤمنون بمبدأ القوة التي لا مكان فيها للعزة الإنسانية. لقد كان الوضوح الخُلقي ضرورياً في انتصارنا في الحرب الباردة. يرى بعضهم أنه ليس من الدبلوماسية، وربما كان من سوء الأدب، أن نتحدث عن الحق والباطل. لكنني أختلف معهم. نعم إن الظروف المختلفة تقتضي وسائل مختلفة لكنها لا تقتضي أخلاقاً مختلفة. إن الحقيقة الخُلقية واحدة في كل ثقافة وفي كل زمان، وفي كل مكان. إن هنالك صراعاً بين الحق والشر، وستسمى أمريكا الشر باسمه.
لكن الذي يشكو منه كثير من الأمريكان أن هذا الشعور بقيمة أمريكا وتميزها بدأ يضعف جداً في أجيال الشباب الذين هم الآن في المدارس والجامعات. فقد انتشرت بينهم انتشاراً مخيفاً فواحش الإباحية، والشذوذ الجنسي وتعاطي المخدرات، وما استتبعه ذلك من غلبة للاتجاه الفردي والسخرية بالخلق والمثل.(62/333)
دل استطلاع لبعض المدارس قبل جيل مضى بأن أكبر المشكلات التي يعاني منها الطلاب هي: عدم احترام الممتلكات، والكسل وعدم أداء الواجبات المنزلية، والحديث في الفصل وعدم الانتباه، التراشق بكور الورق المبلول بالبصاق، ترك المنافذ والأبواب مفتوحة. فلما أعيد ذلك الاستطلاع للمدارس نفسها قبل سنوات قليلة، كانت النتيجة أن أكبر المشكلات هي: الخوف من القتل العنيف بالبنادق أو السكاكين في المدرسة، الاغتصاب، المخدرات، الحمل، الإجهاض.[3]
ولهذا صار كثير من الأمريكان لا يرسلون أولادهم إلى المدارس العامة، بل يفضلون لهم التعليم المنزلي
وكثيرا ما يحزن المرء حين يرى مسلما حاز على البطاقة الخضراء فطار بها فرحا إلى أمريكا ليقذف بالبنين والبنات من أطفاله في هذا المستنقع الآسن.
ومع انتشار الثقافة الغربية، وضعف الوازع الديني بدأ هذا الفساد ينتشر في بلدان العالم كله، بما في ذلك بلادنا الإسلامية.
الاتجاه الائتلافي
أما الاتجاه الائتلافي فلا يجادل أصحابه إخوانهم الانفراديين في كون الولايات المتحدة هي القوة العالمية الكبرى الوحيدة، ولا فيما يتميز به الشعب الأمريكي من صفات، لكنهم يرون أن الانفراد غير ممكن عملياً وإن أمكن فليس في مصلحة بلادهم. ومما يذكرونه في هذا الصدد:
• أن ما صار يوصف الآن بالنظام العالمي القديم كان إلى حد كبير من صنع الولايات المتحدة، وقد كان نظاماً ناجحاً حقق لها ما تريد فما الداعي الآن للانقلاب عليه وتقويضه؟
• أن القوة الحربية للولايات المتحدة ذات علاقة وثيقة باقتصادها، واقتصادها ليس أمراً محلياً تستطيع أن تصنع فيه ما تشاء، بل له ارتباط كبير بالأمم الأخري. فالأسلحة لا ينتجها البنتاجون وإنما تنتجها شركات تجارية. لكن هذه الشركات تعتمد في استمرار حياتها على السوق العالمي، بل إن منتجاتها العالية التقانة لها الآن نصيب الأسد في ما يبيعه الاقتصاد الأمريكي في السوق العالمي. على سبيل المثال فإن مبيعات هذه الشركات من الحاسوبات الرفيعة في السوق العالمي تمثل نصف دخلها.
• أن هذا سيؤدي إلى فوضى عالمية. فإذا جاز لنا أن نبدأ بشن حرب وقائية على العراق، فلماذا لا تفعل الصين ذلك بالنسبة لتايوان، أو الهند بالنسبة لباكسان؟
• وإذا أعطينا أنفسنا حق تغيير النظم، فهل سنعطيها حق الإتيان بنظم نرضى عنها؟ ماذا إذا لم يختر الناس من نريد؟ هل نعود لعصر الاحتلال؟
كيف يكون التعامل مع المسلمين، ولا سيما العرب منهم؟
حوادث الحادي من سبتمبر أكدت للغرب، وللولايات المتحدة بالذات خطر الإسلام لأنه مهما قيل عن الخطأ الذي ارتكبه من قاموا بتلك العملية إلا أن الحقيقة تبقى أنهم شباب متدينون، وأنهم ابتغوا بعملهم الشهادة، وأنهم فعلوا ما فعلوا انتقاماً للمسلمين من ظلم الحضارة الغربية متمثلة في دولتها الكبرى وقائدتها. لذلك عاد الحديث جذعاً عن المواقف التي ينبغي أن تُتخذ لدرء الخطر الإسلامي. ومن المسائل التي ذكروها في ذلك
المسألة الأولى: محاربة ما أسموه بالفهم الحرفي للإسلام
ما أسموه بالفهم الحرفي للإسلام هو في رأيهم الذي يغذي عداوة المسلمين للحضارة الغربية. ومن هنا كثر الحديث عن الإسلام الراديكالي، وعن الوهابي وعن السلفية . يقولون إنه لا يمكن أن يقال للمسلمين تنكروا لدينكم، ولكن الذي يقال لهم هو أن يفهموه فهماً لا يجعله في صدام مع مقومات الحضارة الغربية. مشكلة المسلمين المتشددين، بحسب هذا الرأي، هي أنهم رافضون للحداثة mode r nity التي تتطلب ـ فيما تتطلب ـ أن تكون الدولة دولة علمانية تعددية. فالمطلوب من المسلمين إذن أن يفعلوا ما فعله الغرب ليكتمل لدينهم التصالح مع هذه الحداثة كما تم للمسيحية والنصرانية.
كيف يكون ذلك؟ يكون
أولاً: بأن لا يعتقد المسلمون أن نصوص دينهم صالحة لكل زمان ومكان بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، بل عليهم أن يتذكروا كما فعل الليبراليون من النصارى واليهود، أن هذه النصوص ذكرت في ظروف تاريخية وثقافية معينة، فلا يمكن أن تكون بحرفيتها مناسبة مع ظروف تاريخية وثقافية مختلفة عنها. ما الحل إذن؟ الحل هو أن نعيد تفسير هذه النصوص لتتناسب مع العصر، بأن نقول حتى عما يبدو أنه وصف لواقع كقصة قوم لوط إن هذا إنما كان كلاماً مجازياً. فلم يحدث أن دمر الله تعالى قرى أو عاقب قوما لتوجههم الجنسي. (قال أوريلى مدللا على أن القصة كانت رمزية لا حقيقية: لماذا لم يدمر الله سان فرانسسكو إذن؟)(62/334)
وثانياً: بأن يفهم المسلمون بأن الحقيقة الدينية حقيقة نسبية، لأنك إذا اعتقدت أن الحق كله معك ـ كما يعتقد المسلمون اليوم ـ فستعتقد أن مخالفيك على باطل ويستحقون لذلك أن يقتلوا، هكذا قال الرئيس السابق كلنتون في محاضرة ألقاها في جامعة جورج تاون بواشنطن بعد أحداث الحادي عشر. وهذا يعنى أن يكون الأفراد داخل الدين الواحد متسامحين مع مخالفيهم في فهم دينهم، لأن لكل إنسان الحق في أن يفهم دينه كيف شاء، وأن يرى الحقيقة من منظاره. وعلى المنتمين إلى الأديان المختلفة أن يكونوا أيضا متسامحين مع مخالفيهم معتقدين بأن كل دين يهدي إلى الحقيقة بطريقته .
وثالثاً: أن يُمنع بالقانون نشر مثل هذا الفكر وتغلق كل المؤسسات التعليمية التي تنشره، وأن يعاقب الذين يروجون له أو يمولون مؤسساته.
ومما يساعد الغرب على تحقيق هذه الأهداف أن الأفكار التي تعتمد عليها قد شاعت منذ زمان بين المثقفين المسلمين، بل بين بعض الإسلاميين منهم . فقد صار الكثيرون منا جزءاً من الحضارة الغربية في فكرهم وقيمهم وطموحاتهم السياسية وعاداتهم وتقاليدهم بل وأزيائهم الرجالية والنسائية، لأنهم صاروا يعتقدون أن الحضارة الغربية هي حضارة العصر التي لا يكون الناس متحضرين إلا بها.
المسألة الثانية: معالجة الأسباب الاجتماعية التي أدت إلى معاداة المسلمين للغرب
يرى بعض المفكرين السياسيين الغربيين أن هنالك أوضاعاً اجتماعية وسياسية بغيضة إلى الناس في العالم العربي بالذات، وأن الغرب ـ ولا سيما الولايات المتحدة ـ هو ـ في نظرهم ـ الذي يقف وراء هذه الأوضاع الظالمة ويدعمها فمن الطبيعي أن يكرهوه. ماذا نفعل إذن؟
يقول بعضهم: إن الحل واضح هو أن نعمل على تحويل أنظمة العالم العربي إلى انظمة ديمقراطية حقيقية يكون الحكم فيها للأغلبية، وتصان فيها الحريات، ويحارب فيها الفساد المالي. يقول الرئيس بوش في خطابه الشهير في كلية وست بوينت:
عندما يأتي الأمر إلى حقوق الناس رجالا ونساء وحاجاتهم فليس هنالك صدام حضارات. إن متطلبات الحرية تصدق على أفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم الإسلامي كله. إن جماهير الناس في الأمم الإسلامية يريدون ويستحقون أن يعطوا كل الحريات والفرص التي للناس في كل أمة. وعلى حكامهم أن يستجيبوا لطموحاتهم.[4]
يقول آخرون: لكن لا تنسوا أن أغلبية الناس في هذه البلاد كارهون لنا، وعليه فإن الحكومات التي يختارونها في النظام الديمقراطي ستكون معادية لنا.
يقول أصحاب الاقتراح أولاً إن هذا الامر ربما يكون كذلك في البداية، ولكن سيظهر لهذه الحكومات أن من مصلحتها ومصلحة شعوبها أن تتعاون مع الغرب وتكون صديقة له. وثانياً إنه ليس من الصعب علينا أن نأتي بحكومات أغلبية حقيقية تكون في الوقت نفسه صديقة لنا. هنالك وسائل كثيرة لتحقيق ذلك.
هذا ما يراه بعض الساسة الأمريكان أما نتنياهو ـ رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ــ فله نصيحة أخرى للولايات المتحدة. فهو ينصحها بأن تغزو العراق وتغير نظامها من غير اعتبار للأمم المتحدة، وأما بالنسبة لإيران فإنه يقول فض الله فاه
إنه بإمكان الولايات المتحدة أن تُحرض على إحداث ثورة ضد النظام الإسلامي المحافظ في إيران بأن تستغل وجود الآلاف المؤلفة من الأطباق الفضائية فيها لتوجيه برامج أمريكية قذرة كتلك التي تذيعها قناة فوكس يظهر فيها شباب وشابات حسان في حالات مختلفة من حالات العري، يعيشون حياة مادية بهيجة ويمارسون الجنس بطرق إباحية. "هذه مادة هدامة. إن الأولاد في إيران سيحبون أن تكون لهم مثل تلك الملابس الجميلة التي يرونها في تلك الأفلام. سيحبون أن تكون لهم أحواض سباحة وأساليب تلك الحياة الفاتنة[5] [6]
المسألة الثالثة: القضية الفلسطينية
قضية العلاقة مع إسرائيل قضية حساسة بالنسبة لغالبية السياسيين الأمريكيين، لكن هذا لم يمنع بعضهم من أن يقول إن موقف الولايات المتحدة المنحاز لإسرائيل هو من الأسباب الرئيسة لعداوة الشعوب الإسلامية ولا سيما العربية للولايات المتحدة. وأنه ما لم تحل هذه القضية حلا يراه العرب والمسلمون منصفا فإن هذه الكراهية ستستمر ، وسيستمر باستمرارها الإرهاب.
الفكر الأمريكي المعارض
ما ركزنا عليه حتى الآن هو الاتجاهات الشائعة او الغالبة في أمريكا، لكن أمريكا بلد شاسع لا يسود فيه اتجاه واحد سيادة كاملة، بل ما من رأي ديني أو سياسي أو اقتصادي شائع، إلا وله معارضون أشداء قلَّ عددهم أو كثر. وكثيراً ما تكون آراء الفئات المعارضة هذه أقرب إلى الهدي الإسلامي من غيرها. وإليك بعض الأمثلة
• فمنهم من يرى كما نرى أن ما يُسمى بالفهم الحرفي للنصوص الدينية هو الفهم الصحيح الأمين لها. فنحن نوافقهم في المنهج ونستطيع لذلك أن نناقشهم في نصوص كتبهم التي نراها مجانبة للصواب، لكننا لا نستطيع أن ندخل في حوار مثمر مع من كلما ناقشته في صحة نص قال إنه مجازي وأعطاه من المعاني ما يوافق هواه.(62/335)
• بل إن من هؤلاء من يدعو كما ندعو إلى تطبيق الحدود المذكورة في العهد القديم كرجم الزاني المحصن، وقتل المرتد، حتى قال أحد الصحفيين المعارضين إذا طبقنا هذه القوانين فسنقتل الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي!
• ومنهم من يرى أن العلمانية هي العدو الأكبر، ومادام المسلمون يوافقوننا على ذلك فيجب أن نعدهم أصدقاء لا أعداء في مواجهة هذا العدو.
• ومن غير المتدينين، بل من العلمانيين من يدرس عيوب المجتمع الأمريكي دراسة علمية ممتازة، ينبغي أن يتعلم منها المسلمون المبهورون بالحياة الغربية، فالعاقل من اتعظ بغيره. من هؤلاء فوكوياما في كتابه الانفراط العظيم.
• وهنالك من ينتقد الممارسة الواقعية للديمقراطية ويرى أنها قد حادت عن المفهوم الصحيح لها. إن الكتب والدراسات في هذا المجال تعد بالمئات إن لم نقل الألوف.
• وهنالك من ينتقد الرأسمالية إما أصلا أو ممارسة.
• وهنالك من لا يداهن في نقده للسياسة الأمريكية الخارجية ولا سيما فيما يتعلق بإسرائيل.
• ثم هنالك إخواننا الدعاة المسلمون الذين يهدي الله تعالى بهم ما يقدر بخمسين شخصا في كل يوم! فإذا كانت الحضارة الغربية قد غزت العالم الإسلامي، فإن الإسلام يدخل الآن قلوب الآلاف المؤلفة ممن هم في أرضها، لأن الناس يجدون فيه ما لا يجدون في حضارته رغم قوة سلطانها المادي ورغم سيطرتها وقوة تأثيرها على بقية بلدان العالم.
البعث الإسلامي الحضاري
إذا لم تكن في الأرض اليوم حضارة إسلامية قائمة فعلاً، فإن فرص بعثها ما زالت متوفرة ومشجعة. إن المسلمين ما زالوا بحمد الله تعالى قادرين على الأوبة إلى الكتاب الهادي، وقادرين على السعي لامتلاك السيف الناصر. وذلك:
أولاً: لأن انحراف الأمة عن دينها لم يكن ـ وما كان له أن يكون ـ ردة كاملة عامة عن الدين الحق. فهذا دين تكفل الله تعالى بحفظ كتابه كما تكفل بحفظ العاملين من علمائه. فإذا كان الله تعالى قد قال، وقوله الحق "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" فإن رسول صلى الله عليه وسلم قد قال ـ غير ناطق عن هوى ـ لا تزالُ طائفة من أمتي ظَاهرين على الحقِ لا يَضُرُهم من خالَفهم ولا من خَذَلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون.
ثانياً: لأنه إذا كان جوهر الحضارة ـ أو المدنية ـ وأساسها الذي يُشيَّدُ عليه بنيانها هو رسالتها، هو المعتقدات والقيم التي تستمسك وتعتز بها، فإن الجوهر والأساس الإسلامي ما يزال أقوى من منافسه العلماني الغربي. إن الإسلام يما يزال يبرهن عبر تاريخه الطويل بأنه فعلاً فطرة الله التي فطر الناس عليها. فليس على وجه الأرض دين عبر الحواجز الجغرافية والثقافات المحلية ليبقى بين المستمسكين به ـ في جملته ـ الدين الذي أنزله الله تعالى على رسول صلى الله عليه وسلم . فكتابه هو الكتاب الذي أنزل على رسوله، وصلوات الناس هي الصلوات كانت تقام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وزكاته هي الزكاة، وحجه وصيامه هما كما كانا في أشكالهما ومواقيتهما. وبالرغم مما أضيف إلى هذا الدين من بدع إلا أنه يظل رغم ذلك أكثر الأديان احتفاظاً بحقيقته، وقد كان هذا وحده مما أغرى بعض الباحثين عن الحق بالدخول فيه.
ثالثاً: وما يزال هذا الدين يؤكد هذه الحقيقة بسرعة انتشاره المذهلة حتى في موطن الحضارة الغربية. فهم يقولون إن معدل سرعة انتشاره أكبر من معدل سرعة الزيادة في سكان العالم.
رابعاً: لأنه باعتباره دين الفطرة، ما يزال هو الدين الذي يجد الناس في آيات كتابه عِلماً بالإله الحق الموصوف بكل صفات الكمال المُنَزَّه عن كل صفات النقص من الولد والوالد التي تطفح بها بعض الأديان، وهدياً بأنه هو وحده المستحق للعبادة الهادي إلى أنواعها وكيفياتها. ويجدون في آيات كتابه وأحاديث رسول صلى الله عليه وسلم عِلماً بحقيقة أنبياء الله وما كانوا عليه من كمال بشري أهَّلَهُم لأن يكونوا الأسوة التي يتأسى بها كل سالك طريق إلى الله. لكن الأديان المحرفة تجعل من بعضهم آلهة وأنى للبشر أن يتأسى بالإله؟ وتنسب إلى بعضهم جرائم يستنكف عن ارتكابها عامة عباد الله، فأنى يكونون أسوة لغيرهم؟
خامساً: ولأنه دين الفطرة فلا يجد الناس فيه تصادماً بين مقتضيات العقول التي فطرهم الله عليها، ولا مخالفة لحقائق الخلق التي يشاهدونها ويجربونها. فالعقل فيه نصير الدين لا خصيمه، كما هو حاله في بعض الأديان. والعلم التجريبي يشهد له ولا يشهد عليه كما يفعل مع بعض الأديان.
سادساً: ولأن الناس كما يجدون فيه حاجتهم إلى الإيمان الخالص والعبادة السليمة والأخلاق الحسنة فإنهم يجدون فيه هدياً لتنظيم الحياة الاجتماعية تنظيماً يتوافق مع ذلك الإيمان وتلك العبادة وهاتيك الأخلاق، ويعبر عنها ويؤكدها ويحميها؛ فهو الدين الوحيد الذي لا يحتاج إلى علمانية تكمل نقصه، أو تتصالح معه.
سابعاً: وهو الدين الذي ما يزال يشهد لأحقيته سلوك المهتدين من أبنائه. فهؤلاء هم أكثر أهل الأرض ذكراً وعبادةً لله، وأبعدهم عن مساخط الله، وأكثرهم بذلاً لأنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وأكثرهم رحمةً بصغير وتوقيراً لكبير وصلةً لرحم.(62/336)
وقد اعترف بهذه الحقيقة حتى بعض علماءِ النصارى، ومن أعجبهم بيتر كريفت أستاذ الفلسفة بكلية بوستن، الذي يحث إخوانه النصارى على أن يعدوا المسلمين أصدقاء وأعوانا لهم في حربهم ضد العلمانية التي يرى فيها العدو اللدود للدين والخطر الأكبر على الحياة الاجتماعية. يقول هذا الرجل:
لماذا ينتشر الإسلام بهذه السرعة المذهلة؟ سيسارع علماء الاجتماع وعلماء النفس والمؤرخون والاقتصاديون والديمغرافيون والسياسيون إلى تفسير ذلك النمو تفسيرا دنيويا كل بحسب تخصصه. لكن الإجابة بدهية لكل مسيحي ذي صلة بالكتاب المقدس: إن الله تعالى يفي بوعده، ويبارك أولئك الذين يطيعون أوامره ويخشونه، ويعاقب الذين لا يفعلون ذلك. إن الأمر في غاية من البساطة التي يعسر على الأساتذة الأكاديميين رؤيتها: قارن بين كميات الإجهاض، وزنا المحصنين وغير المحصنين والشذوذ بين المسلمين والنصارى. ثم قارن بين كمية العبادة.[7]
ثامناً: ولأن كثيراً من الناس في الغرب بدؤوا يشعرون بالخطر الذي تسوقهم إليه الحياة العلمانية المجردة عن الدين، خطر تمكينها للاتجاه الفردي في الناس، وإضعافها للوازع الخلقي، وعبادتها للجنس، وتحويلها الحياة إلى جهد لا معنى له ولا غاية. كل هذا يسبب للناس أنواعاً من الشقاء الروحي، فذهب الكثيرون منهم يبحثون عن دين ينقذهم فلم يجد كثير ممن عرف الإسلام منهم أكثر منه إجابة لمطالبهم الروحية والخلقية بالطريقة التي أشرنا إليها سابقاً.
وعليه فإذا كانت الحضارة الغربية قد غزت بلادنا فكرياً وخلقياً وجعلت جزءاً من الصراع بيننا وبينها صراعاً على أرضنا، وبيننا وبين أقوامنا، فإن الإسلام الآن يفعل الشيء نفسه، إنه يغزو أرض الحضارة الغربية ويجعل الصراع بينه وبينها صراعاً على أرضها وبينها وبين من كانوا بالأمس حماتها المدافعين عن حياضها.
تلك بعض فرص الدعوة إلى الإسلام وإلى بعث حضارته، وهنالك وسائل كثيرة لاستغلال هذه الفرص، لكنني لا أريد الآن الدخول في تفاصيلها، ولا في تفاصيل السعي لامتلاك السيف الناصر، فلتفاصيل كل ذلك مجال آخر. وإنما أريد أن أختم هذه المقالة بالتذكير بقواعد للعمل الإسلامي لما أرى من خطورتها ومن عدم الاهتمام الشديد بها. وهي
أولاً: أن أمر العودة للإسلام وحضارته ليس بالحمل الخفيف الذي يمكن أن ينهض به أفراد، أو تقوم به جماعة واحدة أو دولة واحدة، وإنما هو عبءٌ ثقيلٌ يجب أن تتضافر على حمله الجهود. لذلك لا بد أن يقنع كل فرد عامل للإسلام وكل جماعة وكل دولة بأن التعاون بين الساعين لتحقيق هذا الهدف أمر لازم، وأن التشاور فيما بينهم أول خطوات ذلك التعاون، ثم يأتي التنسيق وتوزيع المهام.
ثانياً: وإذا كان التعاون أمراً لازماً فيجب أن يكون السعي لبعث الحضارة الإسلامية أبعد شيء عن الحزبية. إن بعض الناس يخلط بين العمل الجماعي المنظم ـ وهو أمر لا بد منه ـ وبين الحزبية التي تحول التنظيم إلى غاية كثيراً ما يُضحى في سبيلها بالغاية التي أُنشئ من أجلها والتي كان في البداية مجرد وسيلة إليها. الحزبية أن تحصر علاقات الأخوة الإسلامية وواجباتها في من دخلوا ضمن إطار التنظيم، وأن لا يعان على عمل خير بل ولا يعترف به إلا إذا كان من منجزات الجماعة المنظمة.
ثالثاً: الالتزام الصارم الشديد بقيم العدل والصدق والأمانة والوفاء حتى في معاملة الأعداء. لأن هذه القيم قيم مطلقة لا تختص بحال دون حال. قال تعالى:
ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
قال المفسر الكبير ابن كثير: إن العدل واجب على كل أحد، مع كل أحد، في كل حال؟
لكن بعض العاملين للإسلام اليوم يحيدون عن هذه القيم لأوهي الأسباب، ويسلكون سلوك السياسيين الميكيافليين. ناسين أن هذه القيم قيم يحبها الله، وأن الالتزام بها ـ حتى مع الأعداء ـ عبادة لله. وأنك لا يمكن أن تنصر دين الله بارتكاب مساخط الله.
رابعاً: على الأفراد وعلى الجماعات غير الحكومية أن تلتزم التزاماً معلناً وصارماً بالطرق السلمية. هذا هو الذي يدل عليه شرع الله، وهو الذي ينتهي إليه كل من اتعظ بالتجارب المريرة للجماعات التي دخلت في صراعات دموية لم تكن لها بكفء. إنك لا تحمل السلاح على من أنت تحت سلطانه، وإنما الذي يشرع لك هو الدعوة مع كف الايدي وإقامة الصلاة، فإذا كانت لك أرض مستقلة وقوة مادية فآنذاك:
أذن للدين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير.
اللَّهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
أستغفر الله، وأصلى وأسلم على خاتم رسل الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
===============(62/337)
(62/338)
صراع الحضارات أو حوار الحضارات؟
يريد الغرب من المسلمين جواباً واضحاً ونهائياً عن موضوع الحضارات، وهل هم في حالة صراع أم حوار؟ تماماً كما طلب منهم سابقاً جواباً شافياً حول انتشار الإسلام بالجهاد والسيف والإكراه أم لا؟ وهل الجهاد (حرب دفاعية) أم (حرب هجومية)؟ وطلب منهم سابقاً أجوبة عديدة مثل هل يُفصل الدين عن الدنيا والدولة والسياسة أم لا؟ وهل يعترف بالعلمانية والاشتراكية والديمقراطية والحريات أم لا؟ هل يقبل بالتعددية السياسية وتداول السلطة السلمي أم لا؟ فقائمة مطالب الغرب الحاقد طويلة وتكاد لا تنتهي، ويُخطئ من يظن بأن الغرب سيتوقف عن إخراج ما في جعبته من مفاجآت إذا ما أجبناه عن آخر سؤال يسأله لنا جواباً يعجبه ويرضي غروره.
أما عن موضوع صراع الحضارات فهناك ملاحظات رئيسة لا بد من ذكرها سواء رضي الغرب أم سخط وهي:
1- إن من طرح هذه المقولة صمويل هنتنغتون وهو رجلٌ منهم وليس منا، فهم من قال هذه المقولة ولسنا نحن.
2 - إن الصراع يأخذ أشكالاً عدة منها العسكري، ومنها الفكري، والإعلامي، والاقتصادي، والثقافي، وغير ذلك.
3 - إذا كان المسلمون يخوضون صراعاً هذه الأيام فإنه من قبيل الدفاع عن النفس، ومن قبيل ردة الفعل وليس الفعل، بسبب غياب الراعي وغياب من يدير الصراع.
4 - إن الغرب ينظر إلى المسلمين نظرة مصارعين له، حتى لو جلسوا في بيوتهم، وقيدوا أرجلهم، وكموا أفواههم، لأنه يعتبر وجود المسلم الملتزم بدينه المطبق لشرع الله على نفسه، في حالة صراع مادي ومعنوي معه ومع حضارته وفساده، لأنه لا يريد أن يرى على وجه الأرض من يخالفه الرأي، ويخالف عاداته ولباسه ولغته وثقافته، لأن غروره الزائد وغطرسته المتعالية لا تطيق أن يرى النقيض يعيش ويتنفس على وجه الأرض، وهو سيدها والآمر الناهي فيها.
5 - إن المخترعات والأبنية والعمران والعلوم ليست هي المقصودة في الحضارات، وهذا ما يجعل البسطاء يعيشون حالة خلط وضياع تعميهم عن الحقيقة
==============(62/339)
(62/340)
النّعت الأعظم
د. لطف الله بن عبد العظيم خوجه(*) 17/7/1425
02/09/2004
تقوم فلسفة الوسطيّة على فكرة عامة، ذات ثلاثة اتجاهات:
- اتجاهان طرفان، فقدا جميع الخصائص الإيجابيّة للفكرة، أو جلّها، وجمعا الخصائص السلبيّة منها.
- واتجاه وسط بينهما، أخذ جميع الخصائص الإيجابيّة للفكرة، وترك السلبيّة منها(1).
ومنه يتضح أنّ الوسط والطرفين جميعاً يستظلاّن تحت فكرة واحدة، والفرق بينهما في المواقع:
- فالوسط اتخذ المكان الملائم، هو: المنتصف من كلّ الخطوط. واستظلّ بالفكرة من العمق، وقد مكّنه ذلك من رُؤية جميع الجهات والأطراف بوضوح تام واعتدال، وأتاح له التحكّم الأفضل، والاختيار الأحسن.
- وأمّا الطّرفان فاتخذا أمكنة بعيدة، عن الأحرف، فهما يستظلاّن الفكرة من أطرافها، وبذلك هما في خطر الخروج، والدخول في غيرها، كالذي بين الظل والشمس، وهو مقعد الشيطان(2).
وما أشبه الوسطيّة بالواقف على لوح من الخشب المستطيل المنصوب فوق عجلة، فإنْ أراد التوازن فعليه التوجّه نحو الوسط، وأيّ خطأ في الحساب، في أيّ من الاتجاهين، ينتج فقدان التّوازن ومن ثم السّقوط.
والسائرون على الحبال، يحملون في أيديهم عصا طويلة، من وسطها، تعينهم على التوازن وعدم السقوط.
والخيام تُنصب على الأعمدة، وأهمّها العمود الوسط، المتميّز في: حجمه، وشكله، وطوله، ومكانه.
فالوسط في كل شيء هو نقطة التوازن والاعتدال، وبه يكون الثبوت، وبه يُجتنب السقوط.
ويُحكى أنّ نملة وقعت في حلقة ملتهبة، فكانت كلّما اتّجهت ناحية أخذها لهيب النار، فجعلت تختبر كل اتجاه، فحيثما شعرت بالحرارة وهي تتقدّم، تراجعت إلى الوراء، وإذا ما شعرت بالحرارة وهي تتأخّر تقدّمت، وما زالت كذلك من كلّ اتّجاه، حتى استقرّ بها المقام في أبرد نقطة، هي أبعدها عن حرارة اللّهب من كلّ اتجاه..كانت تلك هي نقطة الوسط.
تلك هي سنّة الله تعالى الكونيّة، فالوسط هو العدل، في كلّ شيء، والطّرف هو الجور، في كل شيء.
روى الترمذي عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً... ) [البقرة: من الآية143)، قال: (عدلا).
ولله تعالى سنّة أخرى هي: السنّة الشرعيّة.(...أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ...) [الأعراف: من الآية54]، وهي شريعته وأمره. أحكامها تجري وفق قانون الوسط، كما في السنة الكونيّة تماماً، ففيها تحريض على تحرّي الوسط في كلّ شيء:
- قال تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)(3) [البقرة:238]
- وفي أثر منقطع مرسل: "خير الأمور أوساطها".
وأبلغ من ذلك: جعل الوسط صفة الأمّة. في قوله تعالى:
- قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً...)[البقرة: من الآية143].
فالوسط نعت الأمّة الأعظم، وشعارها الأكبر، ولم يأت في النّصوص وسط بين من و من، بل أُطلق أنّ هذا الدّين وسط، وأهله وسط، فصار هو المقياس للاتّزان والتوازن، والارتكاز ونقطة الجمع، فكلّ ما خرج عنه فهو طرف، وبتعبير القرآن: (على حرف)، وهذه قاعدة كليّة عامة.
فحين نزول الوحي إلى انقطاعه لم يكن ثمّة تطرّف مؤسّس في شكل فرقة أو مذهب، إلا أفراداً لم يجدوا معيناً على الغلوّ، كالمتبتّلين، فتابوا واستقاموا، ثم لما ظهرت المِلل والمذاهب المتطرّفة، أي التي بعدت عن الوسط، صار أهل العلم والإيمان يقولون: أهل السّنة والجماعة وسط بين فرقة كذا وكذا، في القضيّة الفلانيّة.
فأعملوا قاعدة: "كل ما خرج عن نصوص الكتاب والسّنة فهو طرف". فحمَوْا روح الدّين وشريعته.
فلولا أنّ النصوص الشرعيّة تؤسّس للوسط، وتبني أمّة وسطاً، لما بقيت وسطيّة في الأمّة، بعدما ظهرت وانتشرت الفرق والمذاهب الجانحة، فكان من نعمة الله تعالى على هذه الأمّة أنْ جعل شريعتها وسطاً، وحفظ لها هذه الشريعة: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9]، ليحفظ لها وسطيّتها، فلا تضيع بين المحدثات.
وفي كل زمان لا بد من جماعة وطائفة ملتزمة محافظة على هذا الأصل الكبير، ولن تزول أبداّ إلا عند قرب الساعة، قال صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من الأمّة على الحق ظاهرين". وتلك بشرى لجميع أهل الإسلام، بحفظ دينهم الوسط، كما هو دون تحريف، وبوجود طائفة تعمل به، وتعلو به ظاهرة على غيرها.
* * *
أسئلة حول الوسطيّة:
(1) قال الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}، كيف هي شهادة الأمّة على الناس، والنبيّ على الأمّة، وما علاقة الشهادة بالوسطيّة؟.
(2) أين الوسطيّة؟، ومن يمثلها، في هذا الواقع الإسلاميّ، حيث المسلمون متفرقون، كلّ يدعي أنّه الوسط والمقياس؟، وما علامة الوسطيّة؟، وهل في النصوص تحديد للعلامة، وتحديد لمن يمثل الوسطيّة؟.
(3) هل الوسطيّة تتفق مع الدّعوة إلى السّلام العالمي، والتعايش السّلمي بين الأديان؟.. وكيف يمكن تحقيق الوسطيّة في التعامل مع المخالفين في الملّة، والمخالفين في السّنة؟.(62/341)
(4) هل من الوسطيّة إلغاء مصطلحات: الإيمان، والكفر.. والولاء والبراء.. والسّنة والبدعة..وحجاب المرأة.. والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر..والجهاد. بأحكامها ومعانيها؟.
(5) هل من الوسطيّة اعتقاد أنّ الحقّ واحد غير متعدد؟.. وأين موقع الوسطيّة في المذهب الذي يقرّر أن الحقيقة نسبيّة متعدّدة، ولا حقيقة مطلقة؟.
(6) هل التطرّف إلى ناحية يبرّر التطرّف إلى الناحية المضادّة؟.. وهل يمكن القضاء على التطرّف بالوسطيّة وحدها، من دون الحاجة إلى تطرّف مضادّ؟.. وهل ثمّة فرق في هذا بين حكم الشريعة وقوانين النفس؟:
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
(1) الوسط يمثل من كل شيء: نقطة المنتصف. فهو إذن من الشيء، وموقعه الوسط، وبمثل هذا قال أهل اللغة:
- قال ابن فارس: "الواو والسين والطاء: بناء صحيح يدل على العدل والنصف. وأعدل الشيء: أوسطه ووسطه. قال تعالى: (أمة وسطا)" [في معجم مقاييس اللغة (6/108)].
- وفي لسان العرب (15/294): " (ومن الناس من يعبد الله على حرف)، أي على شكّ، فهو على طرف من دينه، غير متوسط فيه ولا متمكّن، فلما كان وسط الشيء أفضله وأعدله: جاز أنْ يقع صفة. ومثل ذلك قوله تعالى وتقدس: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)، أي عدلاً. فهذا تفسير الوسط وحقيقة معناه، وأنه اسم لما بين طرفي الشيء، وهو منه".
(2) قال ابن الأثير [النهاية 5/184]: "(خير الأمور أوساطها): في هذا الحديث كل خصلة محمودة لها طرفان مذمومان، فإن السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كل وصف مذموم، وتجنبه بالتعري منه، والبعد منه، فكلما ازداد منه بعدا، ازداد منه تعريا، وأبعد الجهات والمقادير والمعاني من كل طرفين وسطهما، هو غاية البعد منهما، فإذا كان في الوسط فقد بعد عن الأطراف بقدر الإمكان". ملحوظة: عند قوله: "تعريا" حصل تصحيف في لسان العرب 15/296 حيث كتب "تقربا".
(3) قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)، أي أمة عدلا، لتشهدوا للأنبياء على أممهم، إذا ادعوا أن أنبياءهم ما بلغوهم، كما في الأثر، وليشهد بعضكم على بعض بعد الموت بالخير والشر: (من أثنيتم عليه خيرا، وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا، وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض) رواه مسلم ، في هذه الآية دليل صحة الإجماع، ووجوب الحكم به؛ لأنهم إذا كانوا عدولا شهدوا على الناس، فكل عصر شهيد على من بعده. ذكره القرطبي 2/156
=============(62/342)
(62/343)
ماذا قال فوكوياما آنفا؟
ادريس الكنبوري 11/1/1423
25/03/2002
في عصر هيمنة الاقتصاد الأمريكي ونمط الإنتاج الأمريكي،فإن الأفكارتتحول إلى سلعة تخضع لنفس قوانين البضائع، والقاعدة في هذا النمط الرأسمالي هي الإثارة وتحريك الغرائز، وهي نفسها مواصفات الاقتصاد الأمريكي الحديث، فعن طريق الإثارة وتحريك الغرائز يتم إقناع المستهلك بأهمية السّلعة وبعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، أصبحت أكثر الأفكار انتشارًا وقبولاً وسط الأمريكيين والأوربيين هي تلك التي تحترم هذه القاعدة،وتعمل على إثارة القارئ المتلقي وحفز غرائزه الحيوانية التي تقدس البقاء، لذلك لاغرابة أن نجد أكثرالكتابات انتشارًا كتابات أولئك الذين يقرعون جرس الإنذار من الخطر الإسلامي العالمي، ومن بين هذه الكتابات كتابات " صامويل هانتنغتون" و" فرانسيس فوكوياما" و " توماس فريدمان".
اندفع " فرانسيس فوكوياما"، الياباني الأصل الأمريكي الجنسية والموطن، إلى الواجهة في بداية التسعينيات, إثر طرح نظريته حول "نهاية التاريخ و الإنسان الأخير" في مقال طويل بإحدى المجلات الأمريكية، ومافتئ هذا المقال أن أصبح كتابًا وا سع الانتشار بسبب الأفكارالواردة فيه.
وبالرغم من أن هذه النظرية لم تكن جديدة حتى ذلك الوقت، إلا أن بعثها من جديد على يد "فوكوياما" في ظروف دولية دقيقة اتسمت بانهيار المعسكر الشيوعي بعد سبعة عقود من المواجهة الصامتة مع العالم الرأسمالي الذي تقوده الولايات المتحدة، منحها قوة التأثير وسحر المناسبة، فقد قال " بنهاية التاريخ" فيلسوف فرنسي من القرن الثامن عشر هو " الكسندر كوجيف " ، كما أن الفيلسوف الألماني "فريدريك هيجل" قال بها، غير أن هذين الرجلين أبقيا نظريتهما حبيسة كتاباتهما الفلسفية النظرية، بينما وظفها " فوكوياما" سياسيًا في مرحلة عالمية دقيقة، كما أن هذا الياباني وجد بين يديه آلة قوية لم تكن متوفرة للفرنسي " الكسندر كوجيف" والألماني "هيجل"، وهذه الآلة هي بكلمة واحدة: الإعلام.
ونظرية "نهاية التاريخ" كما صاغها "فوكوياما" قبل عشرسنوات شائعة ومعروفة، حتى ليبدو مملا ً التذكير بها في هذا المقال، ويمكن تلخيصها في جملتين: بعد انهيار الشيوعية فإن الليبرالية الرأسمالية هي التي ستهيمن على مقاليد الأمور في العالم، ولم يتحدث "فوكوياما" في كتابه مطولا عن الإسلام، ولكنه اكتفى بالقول إن الإسلام لايمتلك القدرات الذاتية ليكون نموذجًا منافسًا، وهذه هي النقطة التي انطلق منها "صامويل هانتنغتون" في نظريته حول "صدام الحضارات"، إذ قال بالعكس، ورأى أن الإسلام والكونفوشيوسية قادران على أن يشكلا نموذجًا منافسا للحضارة الغربية، ومن ثم فإن سيناريو "صدام الحضارات" يبدو غير ممكن تجنبه. وينبغي التذكير بأن نظرية "صدام الحضارات" أنهت نظرية نهاية التاريخ وأثبتت فشلها بالنسبة للثقافة الأمريكية، وهذه أيضًا قاعدة في منظومة التداول الاقتصادي, ذلك أن العملة الحقيقية تطرد العملة الزائفة، إلى أن يثبت زيف الأولى، وهكذا وفق مبدأ المنافسة الرأسمالية. لكن "فوكوياما" عاد قبل أسابيع بمقال نشره في"نيوزويك" الأمريكية، ليكتب عن الفاشية الإسلامية، والحركة الإسلامية في العالم الإسلامي، ويعيد التذكير بنظريته مع إدخال تعديل عليها يجعلها مقبولة اليوم بعد تجاوزها، وما أضافه إليها في حقيقة الأمر "قوضها" من الأساس، فقد بدأ بالقول: إن النموذج الحضاري الغربي أصبح هو النموذج الأوحد بغير منافس بسبب زوال الشيوعية، وانتهى إلى القول بأن هذا النموذج يواجه تحديًا جديدًا هو الإسلام بسبب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إن هذا يؤكد أن النظرية لم تكن مؤسسة على قاعدة صلبة، وإنما كانت رد فعل سياسيًا وإيديولوجيا استجابة لشروط معينة، ولم يكن مفاجئًا أن تتلقى تلك النظرية ضربة قاضية أخرى بعد الحادي عشر من سبتمبر من طرف الكثير من المفكرين الأمريكيين أنفسهم، وكتب الأمريكي ذو الأصل العربي فريد زكريا في "نيوزيك" مقالاً تحت عنوان "نهاية نهاية التاريخ" The end of the end of Histo r y عدد 24سبتمبر2001.(62/344)
انطلق "فوكوياما" من أن فرضيته حول "نهاية التاريخ" ما زالت صحيحة رغم الأحداث التي تلت الحادي عشر من سبتمبر، فالحداثة التي تمثلها الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات المتطورة ستبقى القوة المسيطرة، ولكنه يقع في تناقض حاد وسط المقال حين يقول :"سيكون من السذاجة الشديدة الظن بأن الثقافة الأمريكية الشعبية مهما كانت درجة إغرائها ستسود العالم قريبا",ويستدرك قائلا:" إن هجمات الحادي عشر من سبتمبر تمثل حركة ارتجاعية عميقة يائسة ضد العالم الحديث الذي يبدو كأنه قطار شحن سريع لمن لا يريد ركوبه"، ويضيف: "لكننا بحاجة لأن ننظر بجدية إلى التحدي الذي نواجهه، وذلك لأن وجود حركة تملك القوة لإحداث خراب هائل في العالم الحديث حتى وإن مثلت عددًا قليلاً من الناس فحسب يطرح أسئلة حقيقية حول قدرة حضارتنا على البقاء"، ويعبر "فوكوياما" عن خشيته من أن تتحول التكنولوجيا ذاتها ضد الغرب بشكل لايستطيع هذا الأخير وقفها، وهو ما أصبح يشكو منه الكثيرون في الغرب، إلى درجة أن "توماس فريدمان" كتب قبل أيام يدعو إلى وضع نظام يقضي بأن يركب مسافرو الطائرات حفاة عراة حتى لا تتسرب الأسلحة والمتفجرات إلى الطائرات !!
إن اعتبار هجمات سبتمبر حركة ارتجاعية عنيفة ويائسة ضد العالم الحديث لايعبر عن الحقيقة كاملة، ولكنه يعكس وهمًا لدى "فوكوياما" عن أن خط التطور العالمي كان يسير بشكل مستقيم قبل وقوع الارتجاع، أي أن ما دعاه بـ"الحداثة" التي تمثلها الولايات المتحدة كانت ذات اتجاه عالمي واحد، وهو مالم يقل به أحد، فقد تعرضت هذه الحداثة المزعومة إلى عدة ضربات قاتلة حتى من داخل البيت الأوروبي المسيحي الحداثي نفسه، بسبب الغطرسة الأمريكية ونزعة الانفراد بالهيمنة، فقد تلقت أمريكا قبل الهجمات ضربات على يد أوروبا نفسها عندما لم تصوت عليها هذه الأخيرة في لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وهي المرة الأولى التي تجد أمريكا نفسها خارج هذه اللجنة، وتعرضت لانتقادات واسعة بسبب إصرارها على مشروع "الدرع الصاروخي"، وبسبب التجسس على الدول الأوروبية، ثم بسبب عدم توقيعها على اتفاقية "كيوتو" الخاصة بالحد من الارتفاع الحراري الناتج عن تضخم الغازات الصناعية في الكون، رغم توقيع دول كاليابان وروسيا ممن رفضوا التوقيع قبلها. وقبل أسابيع قليلة فقط من الحادي عشر من سبتمبر كشفت الولايات المتحدة عن وجهها الحقيقي كدولة عنصرية بغيضة حين انسحبت تضامنا مع الكيان الصهيوني العنصري من مؤتمر "دوربان" حول العنصرية الذي انعقد في جنوب افريقيا، هذا علاوة على تأييدها المطلق للاحتلال الصهيوني لفلسطين وجرائمه ضد الشعب الفلسطيني إبان الانتفاضة، واستعمالها حق الفيتو ضد قرار إرسال قوات دولية لحماية الفلسطينيين مرتين متتاليتين في ظرف شهور قليلة، وتوجيه الأسلحة المتطورة إلى الجيش الصهيوني للقضاء على الانتفاضة، في ذات الوقت الذي تدعو فيه إلى التفاوض والسلام. فهذه المواقف الشاذة التي تجمعت في خلال سنة واحدة فقط كانت كفيلة بأن تضع الولايات المتحدة في قفص الاتهام أمام أعين العالم كله، وأن تعزلها تدريجيا، لولا أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ويذهب الكثير من المحللين حتى الأمريكيين منهم إلى أن هذه الأحداث أنقذت الولايات المتحدة في لحظة دقيقة، حتى إنها لو لم تقع لصنعتها، ذلك أن الفوائد التي جنتها من وراء تلك الأحداث تفوق بكثير الأضرار التي ترتبت عنها، فقد أعادت التفاف أوروبا حول سياستها، وأحدثت تقاربًا روسيا معها، وأوصلت قواتها إلى منطقة بحر قزوين, وأدخلتها إلى دهاليز الأسرار النووية الباكستانية لقد حققت في شهر واحد ما عجزت عنه منذ الحرب العالمية الثانية خلال نصف قرن.
الحداثة
يتحدث "فوكوياما" عن الحداثة وكأنها قالب جامد وموحد، معتقدا أن الحداثة في صورتها الغربية والأمريكية هي الوحيدة السائدة, بينما ينسى ـ وهو ياباني - النموذج الياباني للحداثة الاقتصادية والسياسية والثقافية المغاير للنموذج المذكور, إن الحداثة الغربية عمومًا والأمريكية خصوصًا تأسست على العلمانية في الأصل، بل هناك من يقول من الغربيين إن انخراط أوروبا في العلمانية كان بداية الدخول في الحداثة، أي أن العلمانية والحداثة وجهان لعملة واحدة، بينما انطلقت الحداثة اليابانية من تفجير القيم الكونفوشيوسية، أي الدينية، لامن تجاوزها، أو من القطع معها، وحتى في داخل الحداثة الغربية فهناك حداثات لاحداثة واحدة، وهي تسير بسرعات متفاوتة من موقع لآخر، كما أن الصراع بينها قائم، ويمكن هنا أن نستشهد بمثال واحد فقط، وهوالرفض الأوروبي لتحرير الثقافة والاتصال ضمن الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة "الغات" بسبب الخشية من هيمنة النموذج الحداثي الأمريكي.(62/345)
ويرد " فوكوياما" على تصريحات "جورج بوش" الرئيس الأمريكي التي قال فيها بأن الحرب ضد الإرهاب التي أعلنتها واشنطن ضد أفغانستان ليست حربًا ضد الإسلام، ويقول إن الصراع ضد الإرهاب فيه مسائل حضارية واضحة تلعب دورًا فيه . وفي حقيقة الأمر، فإن "فوكوياما" يلتقي مع "بوش"، حتى وإن كان هذا الأخير لا يقول نفس الكلام،لأنه يفعله، فقد رسمت الإدارة الأمريكية خطة واسعة ضد التعليم الديني في البلدان العربية والإسلامية، وضغطت وتضغط على باكستان وتركيا واليمن ومصر والسعودية وغيرها لتغيير المناهج التعليمية الإسلامية ومحاربة المدارس الدينية وكتاتيب تحفيظ القرآن، معتبرة أن ما تسميه "بالتطرف والإرهاب" يأتي من هذه المؤسسات والمدارس، أي من الأفكار والقناعات التي تغذيها، وهذا بالتحديد مايقوله "فوكوياما". إن هذا الأخير لا يعبر سوى عن قناعات ومواقف الإدارة الأمريكية منذ أن طرح نظريته حول " نهاية التاريخ"، فهو واحد من المثقفين الأمريكيين الذين يحاولون إيجاد التبرير الايديولوجي والفكري لقرارات هذه الإدارة، وهو بالتالي نموذج مثقف السلطة والحكم في الولايات المتحدة ، إن " فوكوياما" يدعو بصريح العبارة إلى شن حرب شعواء ضد هذه العناصر الثابتة في الحضارة الإسلامية بهدف القضاء على بذور"الإرهاب"، وهي دعوة يسانده فيها الكثيرون في أوروبا وأمريكا، بل يطبقها كما سبق القول رئيس الإدارة الأمريكية "جورج بوش"، ولكن أليس هذا إرهابًا حضاريًا متطورًا؟ أليس هذا محاولة جديدة لإبادة ثقافة أمة بكاملها، بعد إبادة شعوب بكاملها مع ثقافاتها في أمريكا؟! وهل من حق المسلمين أن يطالبوا مثلا بتغيير المناهج الأمريكية والأوروبية لأنها مليئة بالأفكار الاستشراقية الخاطئة عن الإسلام والشرق؟ إن الكيان الصهيوني يحشو مناهجه التعليمية بدعوات عدوانية إلى إبادة "الأغيار" وذبْح الفلسطينيين وقتل العرب وإفراغ فلسطين، ماذا سيكون موقف الغرب كله لو قام العرب والمسلمون مطالبين بحذف هذه المناهج؟.
تنطلق أفكار "فوكوياما" وأمثاله من رؤية استعمارية خطيرة تعتبر الغرب " أعلى نموذج" وصلته الإنسانية، والآخرين " أدناها "، وهي رؤية ناتجة عن عقدة "التفوق الغربي" و"التمركز الحضاري"حول الذات، لكنها تؤشر إلى صراع حضاري كبير يدفع ثمنه الغرب نفسه، يقال: " إن الامبراطوريات عندما تتسع ولا تجد أمامها ما تتوسع إليه تلتف حول نفسها لتأكل أطرافها"، وقال ابن خلدون قبل أكثر من عشرة قرون" إن الحضارة عندما تصل درجة أكبر من المدنية والرفاه تنقلب إلى التوحش والإغارة، فيكون في ذلك نهايتها، فهل يكون "فوكوياما" وغيره أداة هدم الحضارة الأمريكية بدفعها إلى هذا الحد غير المقبول من التوحش والسطوعلىالشعوب الأخرى؟.
خراب الحداثة الغربية
تعني عبارة "العالم الحديث" في مقال "فرانسيس فوكوياما" عالم الغرب الحديث منذ بروزه على المسرح العالمي في القرن الخامس عشر الميلادي. هذا هو التاريخ "الرسمي" لنشأة الحداثة الغربية في عرف المؤرخين والمثقفين الغربيين وغير الغربيين، و" فوكوياما" مقتنع بأن انخراط العالم غير الغربي وغير المسيحي في العصر يمر بالضرورة عبر اعتناق الحداثة وقيمها وقناعاتها. وهو يدافع عن فكرة مفادها أن استمرار الحداثة رهين بمحاربة "الإرهاب"، وبعبارة أخرى: يجب أن تبقى الحداثة ليبقى الغرب، أو أن يبقى الغرب لتبقى الحداثة. ومن أجل ذلك ينبغي أن تستمر سياسة الإبادة الغربية تجاه الشعوب الأخرى وثقافاتها. لكن لننظر أولا إلى جذور الحداثة الغربية في القرن الخامس عشر لنعرف جيدا الثمن الذي يجب دفعه من طرف شعوب العالم كي تستمر? .(62/346)
عندما هبط كولومبوس على شواطئ أمريكا سنة 1492 ? لنتذكر أن هذا هو تاريخ خروج المسلمين من الأندلس ? كان يوجد حوالي أربعمائة مليون نسمة على وجه الأرض، عشرون منهم يعيشون في الأمريكتين (خمسة وعشرون مليون في المكسيك وجميعهم من الهنود الحمر)، وبعد ومائة وخمسين سنة لم يبق من هؤلاء سوى عشرة ملايين ?مليون فقط في المكسيك?، لقد قضى القتل الجماعي على أزيد من 90 إلى 100 ألف في جامايكا ?، في إبادة جماعية ضخمة من طرف الأوروبيين الغزاة حاملي "الحداثة" إلى الشعوب الأصلية "البدائية"، حتى إن الناس كانوا ينتحرون لكي لا تصل إليهم أيدي الأوروبيين، وكانت الأمهات يقتلن أطفالهن قبل أن يقتلهم الغزاة البيض. وفي إفريقيا قضى الأوروبيون على نحو ستين مليون نسمة من ثمانين مليون نسمة هم عدد سكان افريقيا في ذلك الوقت، وتحول الباقون إلى عبيد في خدمة الأوروبيين المتحضرين. لكن الأوروبيين (الذين سيصبح جزء منهم أمريكيين فيما بعد) لم يقضوا على البشر والحجر فقط، بل دكوا الحضارات والثقافات. في القرن الخامس عشر كان هناك حوالي أربعة آلاف ثقافة مختلفة، ألف منها موجودة في الأمريكتين قبل غزو البيض، وبعد مرور خمسة قرون لم تعد هناك سوى خمسمائة ثقافة إنسانية منها مائة فقط في الأمريكتين، وهذا يعني القضاء على 88 في المائة تقريبًا من التنوع الثقافي في العالم. المبرر الذي يسوقه الأوروبيون دائما هو أن هؤلاء كانوا من الشعوب المتوحشة التي تعيش على القتل والغصب وسفك الدماء، وأن ثقافاتهم غير صالحة لإنتاج حضارات ؟!
لنقارن هذه الأرقام المرعبة بالرقم الصغير جدًا الذي يدعيه اليهود حينما يروجون أطروحة (الهولوكوست) والإبادة الجماعية، والذي يصل بالكاد إلى رقم خمسة ملايين، ومع ذلك يتحرك الغرب كله، ضد هذه الإبادة "اللاإنسانية"، كأن الإبادات الأخرى إنسانية. هذه هي الحداثة الغربية اليهودية المسيحية!!. كلمة "متوحشة" اختفت اليوم لتحل محلها كلمة "إرهابيون"، وتحت هذه الكلمة الأخيرة تمت إبادة ملايين البشر من أمريكا اللاتينية إلى أمريكا الوسطى وآسيا والعراق وأفغانستان ؟!
وفي حقيقة الأمر، فقد آمن الغرب بصراع الحضارات، ومارسها منذ مئات السنين، حتى لا نعتقد بأن صراع الحضارات لم يبدأ سوى مع "صامويل هانغتغتون"، فهذا الأخير لم يبتكر شيئا، ولكن ابتكر "المقولة" فقط، إن إبادة ملايين السكان في القرون الأخيرة كان الهدف منه اجتثات الحضارات غير الغربية، وقتل الملونين، حتى تبقى الطريق سالكة أمام الغرب شعبًا وثقافة وحضارة دون غيره?
العلمانية والديمقراطية والمسيحية
يقول "فوكوياما" في مقاله:" إن الديمقراطية الحديثة نسخة علمانية للمبدأ المسيحي في المساواة الإنسانية عالميًا، إلا أن المؤسسات الغربية كالأساليب العلمية، التي وإن كانت قد اكتشفت في أوروبا فإن لها تطبيقات عالمية" هذه الكلمات الخطيرة تعري حقيقة نظرة الغرب إلى العالم وإلى نفسه. إن أطروحة المركزية الغربية أو التمركز الغربي حول الذات واضحة في هذه الفقرة، ومن الخطر تصديق هذه المقولات التي تسعى إلى تنميط العالم وقولبته وفق قالب الغرب المسيحي- واليهودي (والاثنان مترابطان في اللاوعي الغربي حول الحضارة الغربية والحداثة).
إن أطروحة المركزية الغربية غارقة في العنصرية، لأنها تركز على أن الغرب هو السيد الوصي الذي بإمكانه إصدار الوصفات الطبية للعلاج، ولقد ترسخت هذه الأطروحة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مع فلاسفة الغرب والمستشرقين والمؤرخين الغربيين، وراج في فترة معينة أن شعوب المناطق الساخنة المسلمون في الجزيرة العربية لا يستطيعون إنشاء حضارة بسبب المعطيات المناخية والصحراء، كما هو الحال مع شعوب المناطق الباردة في أوروبا?، دون أن يتساءل هؤلاء كيف انبعث الإسلام من هناك وبنى الحضارة.وتغيرت هذه المقولة الطبيعية لتترك مكانها للمقولة العرقية، فجاء الفيلسوف الألماني "هيجل" وقال بأن خط التطور الكوني يسير نحو الكمال في النموذج البروسي الألماني?، ومهد بذلك لأطروحة التفوق "الآري" والنازية، ثم جاء "كارل ماركس"، ودافع عن الاستعمار في الهند الصينية والجزائر لأنه سيخرج هذه الشعوب في اعتقاده من البدائية والتوحش إلى الرأسمالية المتطورة التي هي الحلقة الأخيرة ما قبل الشيوعية، وجاء آخرون ووضعوا العالم الإسلامي والعالم الثالث عمومًا خارج الغرب الرأسمالي تحت "نمط الإنتاج الآسيوي" أو الشرقي المتخلف، والذي يقابل "نمط الإنتاج الرأسمالي" أو الغربي. ولم تتوقف هذه الأطروحات المركزية في الغرب، وظلت تغذي الثقافة الغربية وتحاول إجراء "غسيل مخ" لمثقفي الشعوب غير الغربية، ونجحت في ذلك إلى أبعد الحدود للأسف?!(62/347)
أما أطروحة "فوكوياما" الحالية حول الترابط العضوي بين الديمقراطية والرأسمالية والمسيحية، من جهة، وبين المسيحية والعلمانية من جهة ثانية، فهي ليست جديدة. ففي بداية القرن العشرين نشر "ماكس فيبر" كتابه المعروف"الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية"، ومفاد أطروحة "فيبر" أن البلدان الأكثر تقدما منذ القرن الثامن عشر هي البلدان التي اعتنقت المسيحية البروتستانتية، وبخاصة الفرقة الكالفينية ضمن الديانة البروتستانتية، وسبب ذلك عنده ميل هذه الديانة نحو العقلانية في السياسة والاقتصاد، وذهب "فيبر" أبعد من ذلك ليقول بأن نشأة الرأسمالية لم تكن بسبب الثروات الضخمة التي حصلت عليها أوروبا عبر نهب الشعوب الفقيرة، بل بسبب الأخلاق البروتستانتية التي تقدس العمل والكسب والاجتهاد، والسؤال هو: هل من الضروري أن تؤدي قيم العمل والكسب والاجتهاد إلى الرأسمالية المتوحشة؟
وحين يشير " فوكوياما" إلى الارتباط بين المسيحية والديمقراطية والرأسمالية ينسى لماذا فشلت المسيحية في عشرين قرنًا مضت في إبداع الديمقراطية والرأسمالية?، ولماذا تأخر ذلك إلى القرن الثامن عشر؟
ثم إن الفكر الغربي الحديث يؤسس لمرجعية الديمقراطية في أثينا اليونانية، والكلمة ذاتها لها جذور في اللغة الإغريقية وتعني "حكم الشعب نفسه بنفسه"، فلماذا نشأت الديمقراطية في أثينا الوثنية، وهي غير مسيحية؟!
يتبين إذن أن أفكار "فوكوياما" هذه مهزوزة منذ البداية، وهي أقرب إلى الكليشيهات الجاهزة للتسويق أكثر من كونها أطروحات متماسكة لها ما يسندها، لكن "فوكوياما" يبني على هذه المغالطات مغالطة أخرى، وهي أن المؤسسات والمبادئ الغربية مثلها مثل الأساليب العلمية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، وهذه أطروحة واضح عوارها ولا تستحق الرد، لأنها ترد على نفسها؟!
ديمقراطية خارج الدين، أو ديمقراطية اللادين
إن الفكرة الرئيسية التي تدور حولها أطروحة "فوكوياما" هذه هي أن الديمقراطية الغربية ذات قيم كونية تستعصي على الخصوصيات، لأنها تتجاوزها، ومرجع هذه الأطروحة يوجد في فلسفة التمركز الغربي حول الذات التي تقول بأن ما هو صالح للغرب صالح لغير الغرب. إن الديمقراطية ليست شرا كلها، ولم يقل المسلمون بذلك، سوى فئات معزولة عزلها جمودها عن التطور ومسايرة السنن، لكن حتى هؤلاء كان لمواقفهم تلك ما يبررها، فقد نشر الغرب حول مفهوم الديمقراطية ظلالا من الايديولوجية والعلمانية بحيث إن الكلمة لم تعد تعني الآليات السياسية والمسطرية لتنظيم الحياة السياسية، بل صارت محشوة بقيم ومضامين جعلت الكثيرين يعتقدون أن الديمقراطية تؤدي أوتوماتيكيا إلى السقوط في الغربنة وتحولت ٌإلى "دين"، ودليل ذلك أن الغرب لم يقبل بأي تطبيق للديمقراطية في آسيا وإفريقيا والعالم الثالث عمومًا خارج ما هو مطبق لديه، وهو ما يعني أن الغرب يرفض باستمرار أن يكون الدين جزءاً من الحياة الديمقراطية، أو الناظم للممارسات الديمقراطية في هذه البلدان، فالغرب ينظر إلى الديمقراطية على اعتبار أنها لا تتم إلا في مجتمع حقق درجة نوعية من العلمانية، وطرد الدين من السياسة.
غير أن هذا الكلام هو مجرد كلام نظري فقط، لأن الواقع هو أن الغرب يرفض الديمقراطية في العالم الثالث، سواء عبر أو من دون علمانية، فهو لا يرفض أن تتدين هذه الشعوب أو أن لا تتدين، ولكن يرفض أن تأخذ بزمام الحياة السياسية السليمة وأن يكون لها حضور فاعل في الحضارة المعاصرة، لأن ذلك يمس بمصالحه، ويفتح أعين هذه الشعوب على حقيقة النهب الغربي المستمر لها، وهذا ما يدعو إليه الرئيس الأمريكي الأسبق "ريتشارد نيكسون" في كتابه "الفرصة السانحة" الذي صدر في أوائل التسعينيات علانية، فهو يقول إن الديمقراطية في العالم الإسلامي إذا تم ترك الحبل على الغارب ستكون لمصلحة المتطرفين?، وينادي صراحة بالحفاظ على الوضع القائم في العالم الإسلامي، أي وضع عدم الاستقرار السياسي، ويجب التذكير بأن نيكسون كان ينظر إلى سقوط الاتحاد السوفياتي كفرصة سانحة للولايات المتحدة لبسط سيطرتها على العالم الإسلامي.إن وجود العدوالصهيوني في قلب العالم الإسلامي وحده كفيل بدفع الغرب إلى منع الديمقراطية فيه، فمن يضمن ألاّ يصل إلى السلطة أعداء إسرائيل؟ ومن يضمن ألاّ يصل إلى السلطة أعداء الغرب ليتحكموا في منابع النفط؟ إن هذه هي الأسباب الحقيقية لامتناع الديمقراطية في العالم الإسلامي، وليس تلك الآراء السخيفة التي ترد هذه الموانع إلى الدين أو الثقافة أو التقاليد، فهذه الآراء مجرد تبرير لتظل الديموقراطية في العالم العربي والإسلامي ذلك المستحيل غيرالممكن، وغيرالممكن المستحيل ، لسبب بسيط هو أن الغرب يعرف جيدا أن اقتلاع الإسلام مستحيل، وهكذا يرتبط مستحيل بآخر، لا يذهب الإسلام ، ولا تأتي الديموقراطية، وتبقى الخصومات بين المسلمين لتشل قوتهم وتفتح للغرب المنافذ وتعطل السير: هذا"علماني"، وهذا "طالباني".(62/348)
إن العدو الأول والأخير للديمقراطية في العالم الثالث هو الغرب نفسه، إن تاريخ إفريقيا وأمريكا الوسطى وأمريكا اللاتينية وآسيا والعالم الإسلامي مليء بالأدلة التي تثبت تورط الغرب في قتل أي بروز للديمقراطية في هذه البلدا، ويورد " ناعوم تشومسكي" في كتابه "ردع الديمقراطية" عشرات الأدلة التي تبين أن أيادي واشنطن ملطخة بالدماء لمنع الشعوب من حق تقرير مصيرها، حتى وإنه يكتب ساخرا بأن الذي خرج فائزًا في انتخابات نيكاراغو في 1987 هما "جورج بوش" و "رونالد ريغان"؟!، لأن الأول كان مدير الاستخبارات الأمريكية، وكان الثاني رئيسًا في البيت الأبيض، ويضيف تشومسكي بأن الناخبين ذهبوا إلى صناديق ااقتراع "وفوهات المسدسات موجهة إلى رؤوسهم" وإجهاض الديمقراطية في الجزائر وتركيا شاهدان على ذلك أيضا.
===========(62/349)
(62/350)
أين الثقافة في ملتقى المثقفين العرب؟!
د. محمد مورو* 20/5/1424
20/07/2003
إذا كان المثقف - أو من المفروض أن يكون - هو ضمير المجتمع، وهو بمثابة زرقاء اليمامة يرى المخاطر المحيطة بقومه قبل حدوثها بوقت كاف لتداركها، أي قبل أن يراها الناس العاديون.
وعليه بالطبع أن يحذر من تلك المخاطر، ويقوم بواجبه التحريضي لمواجهتها، وتحصين مواقع قومه الثقافية حتى لا تهزم من داخلها...
أما إذا انهزم المثقف، أو خان أو تخلى عن واجبه؛ فإن الخسارة تكون كبيرة جداً، لأن الهزيمة الثقافية مقدمة بالطبع لهزيمة عسكرية وسياسية وحضارية.
وإذا كان (جان بول سارتر) يقول: إن مهمة المثقفين الأولى هي إزعاج السلطات والطغاة، فأي طغيان أكثر من الطغيان الأمريكي والإسرائيلي؟ وأي سلطة أبشع من السلطات التي تنفذ الأجندة الأمريكية؟! فإذا تحول المثقفون أنفسهم إلى أبواق للقيم الأمريكية، ومبررين ومبشرين للأجندة الأمريكية؛ فهذه هي الكارثة بعينها.
هذا الكلام بمناسبة ما قيل وما صدر وما حدث فيما سمي بمؤتمر الثقافة العربية الذي انعقد أوائل شهر "يوليو" 2003 في القاهرة بدعوة من المجلس الأعلى للثقافة في مصر تحت عنوان " نحو خطاب ثقافي جديد، من تحديات الحاضر إلى أفاق المستقبل"، وقد حضره حوالي مئة مثقف عربي ومصري، تم استدعاؤهم للحضور فجأة وبدون مقدمات، مما أثار حفيظة أمثال الأديب الجزائري (الطاهر وطار)، الذي وصف المسألة بأنها نوع من الاستدعاء البوليسي لأداء مهمة محددة سلفاً، الأمر الذي يوحي بوجود أجندة مسبقة على هوى الأمريكان، أو لذر الرماد في عيونهم إذا أخذنا بالتفسير البريء.
تجاهل ثقافة المقاومة
انعقد المؤتمر للبحث عن خطاب ثقافي عربي جديد، ولا أحد بالطبع ضد التجديد، ولكن التجديد غير التغريب، غير التخريب، معنى أن يكون التجديد من الداخل وعن طريق هضم المواد المضافة، وليس إلصاقها أو قطع الشجرة من جذورها، وزرع شجرة جديدة سترفضها التربة حتماً.
فالتجديد عملية مستمرة وشاقة من الداخل، وليست مجرد قص ولصق، وإذا كان لابد من تجديد؛ فإن التجديد إزاحة تلك الوجوه الثقافية العربية المسيطرة على الساحة والمتورطة مع السلطات المستبدة، أو الدالفة في دم مثقفين آخرين، دفعوا حياتهم أو أعمارهم ثمناً لمواقفهم، وهكذا فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وهذا كان العيب القاتل في مثل هذا المؤتمر الذي ترعاه مؤسسة رسمية مصرية "تمنح وتمنع طبعاً".
مجرد القراءة في عناوين الندوات أو الموائد المستديرة التي عقدت في إطار المؤتمر يحدد الهدف من المسألة، كانت العناوين: "حرية الإبداع"، "تجديد الخطاب الديني"، "النظام الإقليمي العربي والنظام العالمي"، المشروع الثقافي العربي المستقبلي"، "الثقافة العربية في عصر مجتمع المعرفة"، مع ملاحظة غياب عناوين، مثل: "ثقافة المقاومة"، "المواجهة الثقافية للمشروع الأمريكي والإسرائيلي"، "دور المثقف في التحريض على مواجهة الاحتلال"، وهي عناوين ضرورية ومشروعة في زمن يقوم فيه الإسرائيليون بالقتل والقهر لشعبنا في فلسطين يومياً، وعلى مدى الساعة، ولا يمكن لمثقف أن يتجاهل ذلك، وكذلك الوجود الاحتلالي الأمريكي في العراق، والقواعد الأمريكية في عدد كبير من الدول العربية، مع ملاحظة تجاهل ذلك؛ نجد أن عناوين ومحاور الحوار كلها تدور في إطار الأجندة الأمريكية التي بشر بها (كولن باول)، وباتت معروفة ومشهورة، وحتى لو كان ذلك خطأ غير مقصود، أو أن تلك هي مطالب المثقفين العرب قبل أن تظهر أجندة باول، بمعنى أن باول تبنى خطاب ومطالب المثقفين العرب، أو أراد أن يحرقها بتبنيه لها؛ فكان من الضروري مراعاة الظرف الذي تمر به الأمة الآن، وأن تتجه الأطروحات حول تلك العناوين ذاتها، اتجاهاً يدعم مقاومة الاحتلال الأمريكي والإسرائيلي، فيكون تجديد الخطاب الديني باتجاه التأكيد على الجهاد والصمود والمواجهة ورفض الاحتلال، باعتبارها واجبات شرعية، وأن يكون المشروع الثقافي العربي مشروع المقاومة، وأن تكون المعرفة في خدمة قضايا النضال، والانفتاح على العالم في اتجاه التحالف مع القطاعات الكبرى في الشعوب المتضررة من العولمة والأمركة وهكذا...، ولكن الاتجاه كان تفكيكياً وعسكرياً على طول الخط، اللهم إلا من بعض الاستنارات القليلة التي لا تشكل تياراً أو ظاهرة وتم تحجيمها وتهميشها.
وهكذا جاءت المداخلات والأبحاث إما من باب كلمات حق يراد بها باطل، أو كلمات حق في غير مجالها ولا زمانها ولا مكانها، أو هجوم صريح واضح على الهوية والدين والمقاومة والثوابت والدعوة للانبطاح أمام الأخر الأمريكي والصهيوني تحديداً، أو غيرها من الأمور المريبة.
أعمدة ثقافية مستبدة(62/351)
ومرة أخرى نقول: جاء بالمؤتمر بعض الأمور الهامشية الإيجابية، حتى لا نُتهم بأننا لا نرى إلا الأشياء السوداء، وهذا بدهي، لأنه ليس هناك شيء ساقط 100% حتى ولو من باب ورق التوت المهم هو التوجه الرئيسي والمحصلة أو المجرى الرئيسي للمؤتمر، وبدهي أن توصيات المؤتمر جاء بها بعض الأشياء الصحيحة؛ ولكن ضاعت في متاهة الدعوة إلى هدم الذات والقضاء على الهوية وتدمير الدين والتخلي عن الثوابت.
على كل حال فمن الأشياء الجيدة في المؤتمر نقد السلطات المستبدة، ولكن القائمين على المؤتمر وكثير من الحضور هم أنفسهم الأعمدة الثقافية لتلك السلطات المستبدة! فهل تناسوا ذلك؟!.
أم أنهم جاؤوا كنوع من تبييض وجوه السلطة -المصرية- مثلاً، أو تنفيس عن أسئلة باتت مشرعة وبقوة في الشارع العربي، أو إحداث نوع من المناهضة الثقافية تعفي السلطة من عبء مواجهة أسئلة المرحلة؟.
أم نوع من الخاطبة -بلا طلب للأسف- للآخر الأمريكي والإسرائيلي؟
أم بالونة اختبار لأفكار يراد تطبيقها، فيكون المؤتمر فرصة لإطلاقها، ومن ثم معرفة رد الفعل عليها؟.
أضاليل وافتراءات
في مؤتمر الثقافة العربية في القاهرة -قلب العروبة والإسلام- جاءت أطروحات مثل: أن الفقه الإسلامي هو سبب الإرهاب، المطالبة بعدم الالتزام بفقهاء السنة الأربعة، حذف كلمة الكفار من المصطلح الإسلامي (كيف يكون ذلك إلا بتغيير القرآن ذاته؟!)؛ لأن كلمة الكفار فيها عنصرية، تغيير آية "كنتم خير أمة أخرجت للناس"؛ لأن بها دعوة للاستعلاء، الدعوة إلى تدخل الغرب وأمريكا في تجديد الخطاب الديني؛ لأننا لن نستطيع أن نفعل ذلك بأنفسنا.
واللافت للنظر أن المؤتمر اهتم أيما اهتمام بضرورة عدم معاداة الآخر، واعتبار ذلك محصلة للتعليم الديني في رأي البعض وآيات القرآن الكريم في رأي البعض الآخر، والغريب أن هؤلاء يتناسون أننا نحن الذين نتعرض لعنف وكراهية وتزمت الآخر الأمريكي والإسرائيلي!.
فمن الذي ينهب من؟!، ومن الذي يحتل من؟!، وهل لنا 1/2 مليون جندي مثلا يحتل بلادهم؟!، وهل فلسطين هي التي اغتصبت أمريكا مثلا؟!، وهل تنتشر قوات بلادنا وجنودنا في 60 دولة حول العالم مثلما تفعل أمريكا؟!، من الذي حدثت له المذابح طوال السنوات الماضية؟! وكذا الدعوة إلى تعاون الحضارات، وليس صراع الحضارات...، فمن الذي يفرض الصراع، ومن يرسل القوات والطائرات وحاملات الطائرات وصواريخ كروز على من؟!
وفي النهاية؛ فإن التجديد بالضرورة لا يعني الانبطاح !!
* رئيس تحرير مجلة المختار الإسلامي
=============(62/352)
(62/353)
الاستراتيجية الأمريكية .. والأهداف الخفية !
بدر بن سليمان العامر 18/12/1423
19/02/2003
نقصد بالاستراتيجية الأمريكية تلك السياسة الدولية التي تديرها أمريكا، ويقف معها قوى أخرى تشكل حلفاً ( غربياً ) متشابك الأهداف والمطامع؛ لصياغة واقع ومستقبل العالم المعاصر.
هذا التحالف يشهد في الواقع المعاصر نشوة وقوة وتقارباً بعد سقوط المنظومة الشيوعية الشمولية، وإن كانت أمريكا هي الراعية الرسمية والتي ستنال نصيب الأسد من هذا التحالف، إلا أن الدول الغربية والتي تجمعها مع أمريكا قواسم مشتركة كثيرة - وخاصة بريطانيا - تقدر أن الانضواء تحت أمريكا في الوقت الحاضر خيار لا بد منه؛ حتى لا تنفرد أمريكا بالنصيب الأكبر من هذه الاستراتيجية المتشعبة الأهداف والمطامع والوسائل .
بدأت إرهاصات هذه الاستراتيجية للمراقبين مما يدور في أروقة السياسة والفكر والإعلام الغربي، منذ أن بدأ الإعلان عن النظام العالمي الجديد، ومناقشة المخاطر التي تعوق انصياع العالم أجمع لهذه الاستراتيجية .
وينظر الغرب إلى العالم الإسلامي نظرة خاصة، فهو يشكل جزءاً من الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، وبين الإسلام والمسيحية، ويمتلك مقومات السبق الحضاري، والريادة الفكرية، ولذا ظهرت النظريات المتضاربة في استشراف مستقبل هذا الصراع، سواء مع العالم الإسلامي أو مع غيره من الأمم والحضارات ، فظهرت نظرية ( نهاية التاريخ ) لفرانسيس فوكوياما، التي قامت على حتمية تاريخية تماماً كما هي الفكرة الشيوعية التي رأت أن العالم يسير حتماً في سيرورته التاريخية صوب الشيوعية.
تشير نظرية "فوكوياما" إلى أن العالم سيقف على أعتاب (الليبرالية) الغربية، وبالأخص القيم الأمريكية التي يراد لها أن (تعولم) في وقت الانفراد الأمريكي في قيادة البشرية، وتلك هي المحطة النهائية في تاريخ الصراع البشري، أي أن نهاية تاريخ الصراع ستفضي إلى انتصار نهائي للرأسمالية الليبرالية.
وفي مقابل هذه النظرية ظهرت نظرية (صراع الحضارات) ، وهي تعتقد جازمة أن مستقبل الأيام سيشهد صراعاً قوياً بين الحضارات الإنسانية ، وهي نظرية تجيش الوعي والنفس الغربية للترقب بحذر شديد حول هذه الحضارات المرشحة للصراع .
ولما للعالم الإسلامي من مقومات حضارية، تاريخية وسكانية وعقدية، وجغرافية، ومقومات حضارية كبيرة، فإن الغرب جعل محور الاهتمام بهذه البقعة جزءاً من سياسته الطامحة إلى استعمار العالم من خلال المؤسسات الأممية التي يسيطر عليها بعد الحرب العالمية الثانية .
في خضم هذا الترقب والتوجس والاستعداد، جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي أسرعت بشكل كبير ، بل طوت الأيام لتجعل العالم في واقع قلق ومضطرب، ولتقنع أهل السياسة في الغرب بصحة ما سطرته أيدي ضاربي الطبول للصراع الحضاري، وخاصة أن المكلوم من الضربة قائد الغرب وحادي مسيرته ( أمريكا ) الذي تلقى صفعة قوية جعلته كالثور الهائج الذي لا يلوي على شيء، فراح يصب جام غضبه على أرض أفغانستان المسلمة، ويمطرها بوابل كبير من الحمم والقذائف راح ضحيتها آلاف من الدماء البريئة لمجرد الانتقام!
الاستراتيجية الأمريكية في العالم العربي والإسلامي ضخمة ومتشعبة ولها مطامح ومطامع كبيرة ، ولعلي ألخص أبرز أهدافها في:
المد الإسلامي ... والترقب الغربي :
يشكل بزوغ ظاهرة المد الإسلامي الكبير هاجسا كبيرا للغرب عامة ، ولأمريكا خاصة، ولذا عني المفكرين والكتاب والمثقفين الغربيين برصد هذه الظاهرة في وقت مبكر، ولا تعجب أن كاتباً مشهوراً معروفاً في أوساط المثقفين الإسلاميين وهو ( برنارد لويس )، وهو مستشرق يهودي الديانة بريطاني الجنسية، أمريكي الشعور، مقتنع جدا بالسياسة الأمريكية في الشرق الأدنى؛ لأنه أحد المنظرين لهذه السياسة في الجامعات الأمريكية .
هذا الكاتب الذي يبلغ من العمر الآن ستاً وثمانين سنة ، كتب في التوجهات الإسلامية وموقف الحركات الإسلامية من الديمقراطية ونقدها نقداً شديداً ، وجاب العالم الإسلامي كله، ومرّ على جامعاته ومعاهده وكل مناطق التوجيه الفكري فيه، ويمثل مثالاً قوياً لحركة الرصد للحركات الإسلامية والظاهرة الصحوية الإسلامية، وخلق سياسة عامة في الغرب - هو وغيره من المفكرين - لكيفية التعامل معها .
لقد ارتاح ( برنارد لويس ) كثيرا لأحداث الحادي عشر من سبتمبر وبزوغ ابن لادن في الواقع؛ لأنه يرى أنه يشكل هو وطالبان الصوت الشاعري البليغ المعبر عن الغضب الإسلامي، فهو يبرهن على صحة نظريته في وجوب التدخل الأمريكي والغربي في الشرق الأوسط للوقوف أمام هذا المد الإسلامي وإحلال النظم الديمقراطية فيه .(62/354)
إن الموقف الأمريكي من الحركات الإسلامية، سواء الجهادية منها أو الدعوية أو الإغاثية أو المؤسسات الخيرية، أو المناهج التعليمية بدا واضحاً بجلاء بعد الحادي عشر من سبتمبر، وأسهمت وسائل الإعلام الغربية في بيان هذا الموقف من خلال الدعوات الصريحة إلى مقاومة هذه الجماعات وتهديم مؤسساتها، ولو أدى الأمر إلى التدخل المباشر في مناطق العالم الإسلامي بحجة الحرب على ( الإرهاب ) الذي رصدت له أمريكا الميزانيات الضخمة وحددت له فترة زمنية تصل إلى عشر سنوات من الحرب الضروس على هذه التوجهات، والتي تدعي بزعمها أنها تشكل خطراً على الأمن العالمي والإنساني .
فمواجهة المد الإسلامي جزء من الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة ، وهو لا شك يحتاج إلى إفراده بالكتابة لبيان السبل التي أعدتها أمريكا وبدأت في تنفيذها في العالم الإسلامي اليوم .
إن أمريكا ومن خلال حربها على الإرهاب تنظر إلى الحركات الإسلامية على النحو الآتي :
1- الحركات الجهادية التي تستخدم القوة والحرب، تواجه مباشرة بحرب مضادة وقضاء مبرم .. واستئصال .
2- الحركات الإسلامية الدعوية التي تشكل البنية التحتية للحركة الإسلامية المعاصرة بصقورها وحمائمها، تعاملها الاستراتيجية الأمريكية من خلال التحجيم وتجفيف المنابع والحصار الأمني والرصد والتخطيط .
3- المؤسسات الإغاثية الإسلامية الداخليه والخارجية، تسعى الاستراتيجية الأمريكية إلى محاصرتها مادياً، وتجميد أموالها ومنع تدفقها المالي وتصعيب تحركها في الداخل والخارج .
4- أما الدعاة المفكرون والعلماء، فترى أمريكا انهم يشكلون حادي المواجهة مع الغرب من خلال بث الأفكار الإسلامية، وتعميق الولاء للأمة ودينها، وهؤلاء ستتعامل معهم أمريكا بالحرب الإعلامية وتضييق فرص الحضور الإعلامي والتأثير الجماعي على الأمة الإسلامية، ولا تعجب أن أمريكا الآن تحضر لندوات مع علماء العالم الإسلامي لمناقشة الأفكار التي يلقونها على مستمعيهم، والتحكم في المصطلحات الإسلامية وتغيير مدلولاتها بما يتوافق مع الاستراتيجية الأمريكية، حتى وصل الحال إلى مناقشة إعطاء المرأة فرصة لإلقاء خطبة الجمعة، وأن يكون منبر الجمعة منبراً اجتماعياً تطرق فيه مشاكل المجتمع مع مناقشة المصلين للإمام دون انفراده بالإلقاء والآخرون يستمعون إليه !
5- المناهج التعليمية: وهي تشكل بناء أفكار الأمة الإسلامية، وقد تصاعدت النداءات الأمريكية والغربية وخاصة بعد أحداث 11/9 إلى تغييرها، وحذف كل ما يتعلق بعلاقة المسلمين مع الآخرين، وحذف مفهوم ( الجهاد ) من المناهج وصياغتها بصورة تتوافق مع الحياة المعاصرة الغربية .
التدخل الأمريكي .. لإقامة الديمقراطية :
ينظر الغرب عامة، وأمريكا خاصة إلى أن العالم الإسلامي عالم تغيب فيه القيم الإنسانية؛ بسبب وجود أنظمة الحكم المستبدة، وأن الديمقراطية - كما يفهمها الرجل الغربي - غائبة عن الوجود في العالم الإسلامي ، وقد ألَّف (برنارد لويس) كتاباً اعتبر بمثابة البيان الناطق باسم المفكرين الغربيين، تحت شعار ( إقامة الديمقراطية في الشرق الأوسط ) وقد كان الكتاب بعنوان ( ماذا كان الخطأ: التأثير الغربي والتجاوب الشرق أوسطي ) وهو يتحدث عن الفشل الذريع الذي وقع فيه العرب والمسلمون في اللحاق بالحداثة الغربية، وسقطوا في دوامة العنف والحقد والغضب .
في مقابل إعلان الفشل الإسلامي في اللحاق بالحداثة الغربية، فإن ( لويس ) يعتبر أن دولة إسرائيل وتركيا هما الدولتان النموذج في الشرق الأوسط في مقابل التفكك العربي والفوضى العارمة في دول العالم العربي والإسلامي .
هذا التصور عن الشرق الأوسط يعد ذريعة إلى المطالبة الصريحة بالتدخل المباشر في العالم الإسلامي وإقامة الديمقراطية بالقسر، وهذه المطالب لم تكن ردة فعل لما حدث في 11 / 9 وإنما قدمت كمشروعات في زمن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، وقد سمي المشروع باسم ( القرن الأمريكي الجديد ) حيث وجهت رسالة إلى الرئيس الأمريكي قي شباط ( فبراير ) 2002 تطالبه باتخاذ ضربة عسكرية وإشعاعية لإطاحة بالنظام العراقي.
ولقد كان من ضمن الموقعين على العريضة كتاب متشددون إضافة إلى برنارد لويس ورامسفيلد وولفوفيتز، وأناس قد وصلوا إلى مناصب قيادية في حكومة الرئيس بوش، أمثال "دوغلاس فايت" مساعد وزير الدفاع ، "وإليوت إبرامز" الذي تسلم مؤخرا منصب المستشار الرئاسي الخاص لشؤون الشرق الأوسط "وزالماي خليل زاده" ورئيس المجلس الاستشاري للدفاع "ريتشارد بيرل" ووزير الخارجية المساعد "ريتشارد بولتن" .
العراق ... أولاً :
بدأت هذه الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق والعالم الإسلامي من العراق لتغيير أنماط الحكم، وما يتبعه من تغيير البنية الفكرية والثقافية والاقتصادية في تلك الدول، وبالأخص في دول الخليج العربي، ومما يذكر في هذا الصدد أن ( برنارد لويس ) عمل على إقناع الإدارة الأمريكية إلى تحويل وجهة أولوياتها إلى العراق، وساهم في تصعيد الوضع بين أمريكا والعراق.(62/355)
إن الأمر الذي رشح العراق لأن يكون نقطة البداية في تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية هي مضاعفات حرب الخليج الثانية، واعتبار العراق خارجاً عن المنظومة الدولية، والضرب على وتر امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، واتخاذ وضع العراق السياسي ذريعة إلى التدخل المباشر لتحطيم هذه الدولة وإحلال نظام ( القرضائي ) يكون وسيلة إلى الضغط السياسي والعسكري على دول المنطقة الإسلامية والعربية كافة !
إن ( برنارد لويس ) وغيره من الساسة والمفكرين الغربيين يرون أن العالم الإسلامي قد وصل إلى درجة من التخلف تستلزم من يرتب لهم أوضاعهم الداخلية والمدنية، وينقلهم إلى واقع يرفعهم عن سلطة الظلمة الفاسدين! وهذا ما سيحدث -على قول لويس وجماعته- بشكل تدريجي ينقل العرب من واقعهم إلى الديمقراطية الغربية .
ويذهب لويس إلى أبعد من ذلك، حيث يرى أن من يعارض التدخل الأمريكي العسكري يرفض الديمقراطية في المنطقة !! وهو بهذا يواصل مسيرته من خدمة بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، إلى خدمة الإمبراطورية الأمريكية الجديدة، آملا في الوصول إلى ما عجزت عنه بريطانيا وفرنسا !
الحرب من أجل النفط !
المطامع الغربية في العالم الإسلامي كثيرة، ومن أهم هذه المطامع هي تربع العالم الإسلامي على احتياطي ضخم من النفط يشكل مادة الحياة الصناعية المعاصرة، وهو لا شك مطمع أمريكي، حيث سيأتي هؤلاء إلى العالم الإسلامي لنهب مكشوف للثروات من نفط ومشتقاته، وغاز وغيره .
إن نشطاء منظمات السلام الغربية، وهم يقومون بمعارضة الحرب المرتقبة على العراق، يرفعون شعارات تحمل مدلولات كبيرة: ( لا لسفك الدماء من أجل النفط )، فهم يدركون الهدف الذي تسعى إليه أمريكا من شن الحرب على العراق، ومن ثم على دول المنطقة جميعاً إلا من قَبِل كافة الشروط وأعلن الولاء التام ولم يغرد خارج السرب الليبرالي الغربي، وهو لا شك هدف مستقل وكبير تسعى إليه أمريكا وحلفاؤها .
شن الحرب على العراق ستكمل (طوق النفط) كله، وسيجعل إيران في موقف صعب، وسينسحب هذا الوضع ليمتد من دول الخليج إلى بحر قزوين وآسيا الوسطى وأفغانستان، وهذا يتوافق مع وضع إيران في ( محور الشر ) الذي تصورته أمريكا واستهدفته في حربها الاستراتيجية القائمة !
هذا الوضع الأمني للنفط سيصنع سياسة نفطية جديدة، تقوم على إفقاد الدول النفطية القدرة على تحديد سعر عادل للنفط، وضمان احتكار أمريكا للاستثمار في حقول النفط، وإلغاء كل العقود التي وقعتها هذه الدول مع أوروبا وروسيا ! وهذا سيتساوق مع وجود عسكري أمريكي دائم في هذه المنطقة من العالم، وهو لا شك يشكل عودة عصور الاستعمار من جديد !
إن ( الحرب على الإرهاب ) والذي يشكل شعاراً للاستراتيجية الأمريكية سيعيد الناس إلى عصور الاستعمار، واحتكار الأسواق المالية والموارد الأولية كما كان الوضع قبل عصر الاستقلال ، وستفرض سياسة أمركة السوق بالقصر والعنف!
إسرائيل .. الولد المدلل : من يحميه ؟
سبقت الإشارة إلى أن الغرب يعتبر إسرائيل ربيبته في المنطقة، فهي في رأيه تشكل الدولة الديمقراطية المثالية في عالم متخلف حضاريا ومدنيا وسياسيا، ولذا فإن وضع إسرائيل التي يجمعها بالغرب قواسم حضارية ودينية مشتركة، تمثل المجتمع المدني الحقيقي، ولذا فإن حمايتها من واجبات الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وهذا جزء من أهداف توجيه الضربة المرتقبة إلى العراق وتدمير قوته العسكرية التي لم يكن تدميرها كافياً بقدر كبير بعد غزو العراق للكويت في عام 90، فالعراق يشكل خطرا حقيقيا على إسرائيل في ظل نظام البعث، فكيف لو تمكنت الأصولية الإسلامية من الإمساك بزمام الحكم في الدول الإسلامية، الأمر سيصبح خطيراً جداً على إسرائيل، ولذا كان من واجب الغرب أن يوازي في حربه على ( الإرهاب )، وبين تفكيك القوى التي تشكل الخطر على إسرائيل، قبل أن يتمكن المد الإسلامي من الحكم في تلك البلاد!
إن إزالة الخطر العربي على إسرائيل من المهمات التي توجه إليها ( برنارد لويس ) مع الإدارة الأمريكية، وركز في خطاباته على الخطر على الغرب في حالة حصول ( الإرهابيين الإسلاميين ) على أسلحة الدمار الشامل سواء في العراق أم في سوريا أو في إيران، وأنه لا يجوز لأمريكا أن تبدي الضعف تجاه العرب والمسلمين وقد قال مسؤول أمريكي في مجلة نيويوركر: إن لويس صرف المخاوف من إثارة غضب الشارع العربي بالقول: ( لا شيء مهم في ذلك الجزء من العالم سوى الإرادة الحازمة والقوة ) .
وهو مع ذلك يرى أن إسرائيل قد استعجلت في الانسحاب من جنوب لبنان، وقدمت دلالة ضعف دفع الفلسطينيين إلى إطلاق الانتفاضة الثانية
==============(62/356)
(62/357)
العمل الإسلامي:
مرحلة مجتمعية من النخبوية إلى المجتمعية ومن الهرمية إلى الشبكية
إبراهيم غرايبة 23/12/1423
24/02/2003
بدأ العمل الإسلامي والنهضوي فرديا ثم تحول إلى مؤسسي، والمطلوب اليوم أن يتحول من النخبوي والتنظيمي إلى مجتمعي تؤديه الأمة كلها، فالتحدي هنا أن تقوم المؤسسات والحكومات والجماعات بنقل الخبرات التي لديها إلى المجتمع كله، وأن تشاركها الأمة المسؤوليات والأدوار والأعمال، وهنا تؤدي الشبكية إلى ربط الأعمال وتنسيقها، وسد الثغرات، ودعم الحلقات الضعيفة وتقويتها.
ونشاهد اليوم لدى الأمة الكثير من المظاهر والإنجازات التي تدل على إمكانية نقل الدعوة والإصلاح والهم العام من نخبة إسلامية في أعلى هرم الأمة إلى الأمة كلها، فالمساجد اليوم تمتلئ بالرواد من الناس الذين لا ينسق وجودهم في الصلوات والدروس جماعة ما كما كان الأمر قبل عشرين سنة أو أكثر، حين بدأت الصحوة الإسلامية بالنمو والانتشار، ولكن الإقبال على المساجد حالة مجتمعية عامة، والأمر نفسه ينطبق على رحلات الحج والعمرة والحجاب والأشرطة الكاسيت والإعلام وغيرها من البرامج التي بدأت نخبوية تقوم عليها وتنسقها جماعة إسلامية منظمة وصارت اليوم حالة مجتمعية عامة.
وامتدت الصحوة الإسلامية إلى دول وأقطار ليس فيها وجود لجماعات إسلامية منظمة، كما شملت فئات من المجتمع ليس من بينها في العادة من ينتظمون في الجماعات الإسلامية.
وقامت مؤسسات استثمارية تجارية لا علاقة لها بحكومة أو جماعة مستمدة أساساً من إقبال الناس ورغبتهم بتطبيق الشريعة الإسلامية، مثل البنوك الإسلامية التي تزيد موجوداتها على المائة وخمسين مليار دولار، وشركات التأمين الإسلامية.
ويقابل هذه الحالة صورة أخرى مردها إلى عدم رعاية الصحوة الإسلامية وترشيدها واستثمارها على نحو إيجابي، ونعني التطرف والتدين المنقوص المشوه والإرهاب المنسوب إلى الإسلام، ولا نقلل من شأن هذه المشكلات، ولكننا نعتقد أنه يمكن تحويل هؤلاء المتدينين إلى أعمدة في الإنتاج والإصلاح والاستقرار بدلاً من استدراجهم ليكونوا أعداء لبلادهم، ومصدر إعاقة للنهوض والتنمية.
فأبناء الصحوة الإسلامية والمتدينون أغلبهم من المتعلمين والمثقفين الذين تخرجوا من الجامعات في بلادهم وفي الدول لغربية المتقدمة، هم يرون في الدعوة الإسلامية مصدر حراك للمجتمع يصلحه وينميه، ويمتلكون رؤى برامج في الإصلاح يتحمسون لها، فالتدين يعطي الدافع والحماس لمشروعات حياتية وتنموية تقلل كثيراً من تكاليفها وتجعلها منسجمة مع ضمائرهم وتطلعاتهم.
إن الحكومات والمؤسسات يمكن أن تجد في الدعوة الإسلامية مورداً كبيراً لو استثمر استثماراً صحيحاً، فإنه سيخفض كثيراً من النفقات والجهود المبذولة مع فاعلية ونجاح أكبر في تحيق الأهداف، وبخاصة في مكافحة الجريمة والإدمان والتفكك الأسري، وبرامج العمل التطوعي، والتعليم المستمر، وتأهيل الأسر والمجتمعات المحلية وبرامج البلديات والنقابات، وغير ذلك كثير مما يمكن تفعيله، والحصول على أفضل النتائج بأقل التكاليف.
ويقدم تقرير "الحالة الدينية في مصر" الصادر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية مداخل متقدمة و مهمة لفهم حراك المجتمع العربي وتفاعلاته، وبخاصة أن مصر تمثل قلب الوطن العربي وبارومتر حياته العامة والسياسية.
لقد أصبح موضوع العلاقة بين الدين والحياة العامة أهم الموضوعات التي شغلت بها دراسات العلوم السياسية في الجامعات ومراكز البحوث والدراسات والمؤتمرات والندوات فضلاً عن الصحافة والإعلام، وقد كانت معظم الصراعات والحروب في السنوات العشر الأخيرة يشغل الدين موقع القلب فيها، وكانت الدراسة الشهيرة لـ "صمويل هنتنغتون" عن صراع الحضارات التي نشرت في مجلة الشؤون الخارجية الأميركية قد أثارت جدالاً واسعاً لم يتوقف حتى اليوم.
إن النظرة العلمية إلى الحالة الدينية يجب ألا تستغرقها ظاهرة الأصولية الإسلامية، فقد تنامت أيضاً الأصولية المسيحية واليهودية وربما الأصوليات الأخرى، كما بدا واضحاً في الانتخابات الهندية حيث نجحت الأصولية الهندوسية أكثر من أية فترة سابقة، وحتى الأصولية الشاملة لا تمثل إلا جزءاً قليلاً من الظاهرة الدينية، إذ إن المؤسسات الدينية التقليدية كوزارات الأوقاف والأزهر في مصر والكنائس تؤدي دوراً متنامياً في الحياة العامة.
والعودة إلى الدين تحولت إلى ظاهرة اجتماعية، قد تكون مسألة الفنانات المتحجبات واحدة من تجلياتها الإعلامية التي امتلكت دوياً إعلامياً ولكنها تتعدى ذلك إلى أوساط اجتماعية عديدة، ويلاحظ في مدينة عمان كيف تنتشر مساجد في أحياء مقتصرة على الأغنياء، تمتلئ بالمصلين في جميع الأوقات، ولعل من أطرف المشاهد في هذه المساجد هي مجيء نساء غير محجبات للصلاة في هذه المساجد، وربما يكون هذا الاتجاه يحمل بعداً نفسياً وسلوكياً للبحث عن الشخصية والهوية وعن توازنات نفسية وثقافية جديرة بالبحث والتفكير.(62/358)
ولكن من أهم ما يجب الالتفات إليه في فهم الظاهرة الإسلامية بشكل خاص والدينية بشكل عام هي التحول المجتمعي الذي يجري في العالم العربي والإسلامي، وكيف انتقل الهم النهضوي والإصلاحي من عمل فردي بدأ في القرن التاسع عشر أو ما قبله بقليل، أو في بدايات القرن العشرين، ثم تبلورت المشروعات الدعوية والإصلاحية في حركات وجماعات إسلامية كجماعة الإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية في دول القارة الهندية، وحزب الرفاه في تركيا والجماعات السلفية والصوفية.
وما يحدث اليوم هو تحول في التدين والعمل الإسلامي من كونه عمل جماعات وحركات إلى عمل مؤسسي ومجتمعي تؤديه الأمة بأسرها، وقد يضلل أفهامنا ويستدرجنا إلى مواقع غير صحيحة ذلك التناول الإعلامي الذي يتعامل مع الظاهرة الإسلامية باعتبارها فقط عملاً حركياً منظماً تنسقه جماعات إسلامية بعضها معتدل وأخرى متطرفة دون ملاحظة تذكر لدور المجتمع أو المؤسسات الرسمية والأهلية.
ويمكن التقاط مجموعة من التعاملات المؤسسية والاستثمارية مع الظاهرة الإسلامية بعيداً عن عمل الجماعات والحركات الإسلامية، مثل البنوك الإسلامية، وقد أنشأ مؤخراً البنك العربي أكبر وأهم البنوك العربية بنكاً إسلامياً "البنك العربي الإسلامي الدولي" وشركات التأمين الإسلامية، وشركات الحج والعمرة، والمحلات التجارية المرتبطة بالسلوك الإسلامي كالحجاب والكاسيت، والأمر يتعدى الملاحظات السابقة بكثير إذا أعدنا النظر والتفكير في دور وزارات الأوقاف والمساجد والجامعات والمدارس ومحطات الإذاعة والتلفزيون والإنتاج السينمائي والتلفزيوني فسنجد أن جهوداً كبيرة تبذل للدعوة الإسلامية وينفق عليها مئات الملايين، وهي أعمال ستؤدي مراجعتها وإصلاحها إلى حالة حضارية متقدمة.
ويسجل مركز الدراسات السياسية ملاحظات واستنتاجات مهمة متعلقة بدراسة الظاهرة الإسلامية، منها أن الدراسات الأكاديمية والصحفية كانت معنية أكثر شيء بسياسات الحركة الإسلامية تجاه الدولة أو دراستها كحركة اجتماعية، وركزت هذه المعالجات على ظواهر العنف السياسي دون غيرها، ويمكن القول مع قدر من التحوط إن الدراسات في هذا الحقل ما تزال تقع في دائرة العلوم السياسية، ولم توظف مناهج علم الاجتماع أو التحليل الثقافي.
ومن هنا فإن الظاهرة الإسلامية تفتقر إلى المعلومات الدقيقة الشاملة، ولا تتلاءم دراساتها مع طبيعة الظاهرة ولا مع فهم المجتمع، وتحكمها صورة نمطية يغلب عليها السجال والهجاء والشغل بما يسمى "الإسلام السياسي"، وتعاني من العمومية والتكرار ولا تستند إلى ممارسة تحليلية عميقة.
حالة الانبعاث الديني لا تقتصر على العالم الإسلامي، فالعالم كله يشهد بعثا دينيا يؤثر على الحياة العامة والثقافة، ويعيد تشكيل الدول والمجتمعات، فإلى جانب العالم الإسلامي حيث تمثل الحركة والاتجاهات الإسلامية القوة الشعبية الفاعلة والغالبة، تقوم في أوروبا صراعات دينية قومية مثل الكروات والصرب، الصرب والبوسنة، الصرب والألبان، والكاثوليك والبروتستنت في إيرلندا، وتحتل الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة مكانة مؤثرة في الحياة السياسية والعامة، وينسب إليها نجاح الرئيس الأمريكي بوش وبرامجه ومواقفه، وتمتلك شبكة واسعة من الكنائس والجامعات ومحطات التلفزة والشركات والجمعيات، وفي الهند تغلبت الأصولية الهندوسية على حزب المؤتمر العريق الذي ظل يحكم الهند منذ تأسيسها، وفي أمريكا اللاتينية قام دعاة التحرر من رجال الدين الكاثوليكي بمحاولات للإصلاح الاجتماعي والسياسي، مثل مؤتمر مدبللين للأساقفة الكاثوليك عام 1968، ومؤتمر يوبليا عام 1979، وكانت الكنيسة في أوروبا الشرقية أهم خصم سياسي للشيوعية ولعبت دوراً مهماً في إسقاطها، وفي سيريلانكا يدور صراع بين البوذيين "السنهال" والهندوس "التاميل"، والصراع بين المسلمين والهندوس في الهند لم يتوقف، وفي الصين أخذت انتفاضة المسلمين بُعداً جديداً، حيث تقوم الحكومة الصينية بإعدام العشرات منهم بعد أكثر من نصف قرن من التعايش المعقول نسبياً، وهي أحداث تمثل نموذجاً وليست شاملة، وتدل على القوة الكامنة للدين، كما تكشف ضعف العديد من الأمم والدول.
إن الدولة ظاهرة حديثة جداً، ولم تكن الدول السيادية في مطلع القرن العشرين تتجاوز العشرين دولة، لكنها اليوم حوالي مائتا دولة، أي أنها تضاعفت خلال مائة سنة عشرة أضعاف، وهي اليوم تواجه تحدياً حقيقياً يهدد مصيرها واستمرار سيادتها وطبيعتها ووظائفها، وتقدم الحركات الدينية في معظم أنحاء العالم شعوراً جديداً بالهوية والانتماء وتجمع مساعي الشعوب نحو الإصلاح وحياة أفضل، بعدما فشلت معظم الدول والحكومات في تحقيق الرفاه لمواطنيها.(62/359)
وقد أضافت العولمة وتقنيات الاتصال فرصاً وتحديات جديدة، حيث بدأت الدول تتخلى بسرعة عن كثير من وظائفها وسيادتها لصالح الشركات والمجتمع الأهلي أو للقوى والمنظمات الخارجية كالأمم المتحدة، وحلف الأطلسي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية أو للشركات العالمية الكبرى التي تحولت بسرعة فائقة إلى دول وإمبراطوريات عملاقة.
يرى "جون اسبوزيتو" الأستاذ بجامعة جورجتاون أن مشروعات ووعود النخب السياسية بالتنمية وحياة أفضل لم تتحقق، وارتبط هذا الفشل بالعلمانية، وكان المشهد الذي آلت إليه الدول والمجتمعات يدعو إلى ردود فعل عكسية وغاضبة وبحث عن وسائل وأطر أخرى للإصلاح غير تلك التي سادت طوال هذا القرن، حيث تكونت مجتمعات تستفيد فيها أقلية ضئيلة عدداً من كل مزايا الحضارة الحديثة، وترزح الأغلبية في بؤس وفقر، وكان هذا الغنى الفاحش والفقر المدقع على درجة من التجاور والاحتكاك، تؤدي إلى المواجهة المستمرة.
ويقدم ممثلو الحركات الدينية أنفسهم على أنهم سيحققون مجتمعاً أكثر أصالة وعدالة اجتماعية، ويدافعون عن الفقراء والمضطهدين، وقد جذبت هذه الحركات مهنيين ومثقفين وأساتذة وعلماء تخرجوا من أفضل الجامعات وأهمها في بلادهم وفي أوروبا وأمريكا، كما تستخدم بفاعلية التقنية الحديثة ووسائلها الإعلامية في التأثير والاتصال على نحو يبشر بمهارة قيادية وتقنية تؤهلها لقيادة المجتمعات والدول.
فالمجتمعات تبحث بحرقة عن أصالتها وهويتها، ولا يكفي القول إن الفقر والبطالة والتهميش هي الأسباب الوحيدة المحركة للبعث الديني، وسيظل الدين والثقافة لها وزنها في التنمية.
وقد عرضت مجلة اليونسكو في أحد أعدادها صورتين متجاورتين ومعبرتين، في الصورة الأولى ترقص مجموعات من الهنود الحمر بملابسهم التقليدية، وفي الصورة الثانية يقف آلاف الروس في طابور طويل ينتظرون فرصة الدخول إلى مطعم مكدونالدز للوجبات السريعة، والصورتان ضمن حوار مع المفكر الهندي "سميتو كوتاري" أحد اثنين أسسا مركز لوكايان لتعزيز التبادل بين المثقفين في الهند والعالم، حيث يعرض كوتاري في ذلك الحوار أنماطاً وأمثلة مما يجري في العالم من سلب ممتلكات الآخرين المادية والمعنوية دون مراعاة واعتبار للعلاقة بين الدين والثقافة وبين التنمية، فقد أدى استخراج الموارد الطبيعية إلى تهميش الملايين في تلك المناطق وضياع هويتهم الثقافية.
وفي الهند تمتلك 42 عائلة أكثر مما يمتلكه 150 مليون مواطن هندي، والشاهد في الأمثلة ليس فقط في الفجوة المتسعة بين الفقراء والأغنياء، ولكن في انقراض أفكار وثقافات كانت تحقق للناس قدراً كبيراً من احتياجاتهم كالزراعة والبناء وفق النظام التعاوني، فيستطيع الناس أن يحصلوا على بيوتهم وأقواتهم بمجهودهم دون نفقات مالية، والتدمير الذي حدث ليس فقط في النظام الاقتصادي، ولكن الثقافة المصاحبة لهذا النظام تعرضت للانهيار.
إن الحكومات والمؤسسات الأهلية تمتلك في الدين مورداً كبيراً، لو استثمر بشكل صحيح فإنه سيخفض جزءاً كبيراً من أعباء الناس الاقتصادية والاجتماعية، وتستطيع الحكومات لو أرادت أن تحول المتدينين من أعداء لمجتمعهم وبلادهم إلى أعمدة مهمة في الاستقرار والإنتاج
=============(62/360)
(62/361)
حول نهاية التاريخ وسقوط الإيديولوجيات
أ.د عماد الدين خليل 24/1/1428
12/02/2007
أما نهاية التاريخ التي قال بها المنظر الأمريكي (فرنسيس فوكوياما) فلا تعدو أن تكون افتراضاً، وهو إذا أحلناه على قوانين الحركة التاريخية نفسها يغدو افتراضاً مستحيلاً...
ذلك أن البشرية فُطرت على التغاير والتنوع والاختلاف، وهي معطيات تعكس نفسها على مرآة التاريخ حيناً، والجغرافيا حيناً آخر، وبصيغ شتى قد تبدأ بلون البشرة واللغة، والعادات والتقاليد الأولية، وتنتهي بالنشاط أو الفعل الحضاري بمفهومه الشامل.. وكل المحاولات التي جرت لإلغاء هذه الحقيقة أو تجاوزها، أو القفز عليها، آلت إلى الفشل.
و( فوكوياما) نفسه عاد، بعد سنوات من إصداره كتابه المعروف، لكي يغير ويبدل في بنيته الأساسية، ولكي يعطي المجال للتغاير المحتوم بين الأمم والجماعات والشعوب.
لقد قالها القرآن الكريم بوضوح: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [سورة هود: 118] - إلاّ من رحم ربك- ولذلك خلقهم، أي خلقهم للتغاير والتنوع والاختلاف، وهي من بين جملة من الشروط التي تعين على تحريك الحياة البشرية ودفعها إلى الأمام، وتطهيرها من السكون والفساد: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [سورة البقرة: من الآية 251].
في يوم ما حلمت الشيوعية بنهاية التاريخ على طريقتها الخاصة، تستلم البروليتاريا مقاليد السلطان، وتستوي الأمم والشعوب تحت مظلة شيوعية يستوي فيها الجميع، وتذوب خصوصيات وفواصل الأمم والطبقات والشعوب، ويغيب العمق التاريخي، والإرث الحضاري، و لا يتبقى هناك سوى نماذج مكررة تنتظر فرصتها للمأكل والمسكن والجنس.. فماذا كانت النتيجة؟
واليوم يحاول منظر أمريكي كفرنسيس فوكوياما أن يعيد المقولة نفسها، ولكن تحت مظلة الرأسمالية وبقيادة الدولة الكبرى والأقوى: الولايات المتحدة الأمريكية. وهرول المخدوعون بهذا الإدعاء يلقون أرديتهم وخصوصياتهم وإرثهم الثقافي ودينهم وعقيدتهم، وهم يتصورون أن الانتماء للمظلة الجديدة سيمنحهم الخبز والدفء والملذة والأمان.
وفي اعتقادي: فإن نظرية نهاية التاريخ وُلدت كي تموت؛ لأنها ترتطم ابتداء بقوانين التاريخ نفسه!
وأما سقوط الإيديولوجيات الذي أكدته معطيات القرن الأخير الموشك على الانصرام: إذ تهاوت نظرية الرجل الأبيض، والاستعماريات الغربية الكبرى، والشوفينيات العملاقة، والوجودية ذات الإغراء .. والشيوعية السوفيتية الأممية و .. فإنه لا يعني - بالضرورة- عدم قدرة الأيديولوجية أو العقيدة الأكثر انسجاماً مع مطالب الإنسان، على التواصل والديمومة والبقاء.. بل على العكس تماماً: إن سقوط الإيديولوجيات الوضعية يؤكد ضرورة الإيديولوجية الدينية؛ لأنها الوحيدة التي لا تأسرها نسبيات الزمن والمكان، أو تصوغها عقول بشرية، مهما جدت واجتهدت فإنها عرضة للخطأ والقصور والانحياز.. لأنها تفتقد- ابتداء- القدرة الشمولية، والرؤية الموضوعية العادلة، للوجود والمصير.
والعولمة هي إفراز طبيعي تماماً لجملة من الشروط والعوامل التي شكلت الحضارة الغربية المادية عبر القرون الثلاثة الأخيرة.. وهي مزيج مرتبط الوشائج من كل المؤثرات والمعطيات التي تنطوي عليها هذه الحضارة: التفوق العلمي في سياقيه الصرف والتطبيقي، والقدرة العسكرية بتقنياتها الهائلة المتمخضة عن ذلك التفوق.. والإمكانات الاقتصادية الأسطورية.. والمركزية الأوروبية المنسحبة، أو المهاجرة إلى القارة الجديدة، ورؤية الرجل الأبيض للشعوب الأخرى، والعقلية الاستعمارية الباحثة عن تسخير الأيدي والعقول العاملة الأكثر رخصاً وعطاءً، وعن الخامات التي تديم قدرتها على العمل والاستمرار، والأسواق التي تلتهم إنتاجها.. أضف إلى ذلك نبضها الديني الذي لا يزال يخفق تحت أردية العلمانية والإلحاد وينتظر الفرصة للرد على أولئك الذين تحدوه يوماً، وإنزال العقاب بهم.
هذه كلها تجتمع اليوم لكي تشكل منطوق العولمة بفرضياته ومعطياته معاً.. بل إن نظرية نهاية التاريخ نفسها، وبموازاتها نظرية صراع الحضارات لصمويل هنتنجتن وغيرهما من التنظيرات الفكرية تصب هي الأخرى في بؤرة العولمة.
ولنتذكر اللدغة التي تلقتها المنظومة الشرق أقصوية التي طمحت إلى قدر من الاستقلالية في نشاطها الاقتصادي والمالي... إذ سنجد أن الخاسر الوحيد في لعبة العولمة، أو دولابها الأسطوري هي الشعوب الأضعف، مهما كانت مطالبها عادلة ومحقة.
إن خط الغنى والفقر الذي سبق وأن تحدث عنه المفكر الجزائري مالك بن نبي -رحمه الله- والذي يمتد على محور طنجة- جاكرتا، فيفصل العالم إلى شمال وجنوب.. لن يكون بمقدور العولمة أن تلغيه بوعودها الخادعة، بل على العكس، وكما هو واضح عبر معطيات العقد الأخير، ستزيده عمقاً، وسيكون عبور الخنادق الموغلة بين الطرفين أمراً مستحيلاً
=============(62/362)
(62/363)
شبابٌ حائِر
د. عبد الكريم بكار 26/12/1426
26/01/2006
ليست الحيرة شرًا محضًا؛ فالجزم في حالات الغموض والأوضاع المتنازع في شأنها يعبر عن الجهل وضعف الوعي، لكن ذلك يجب أن يظل محدودًا بمستويات معينة، وإلا أصبح عامل شلل ومصدر يأس وإحباط.
لدى الشباب همة وتطلّع وطموح ورؤى وأحلام... وكل هذا أساسي في كل المراحل العمرية؛ لكن محدودية الخبرة وضعف المعرفة بحدود الواقع ومدى ممانعة المجالات المتاحة... تجعل الفواصل بين الممكن والمستحيل غير مدركة، وهذا يؤدي إلى السقوط في الكثير من الأوهام، ويُحدث بالتالي الكثير من الصدمات النفسية والانعكاسات السلبية. هل كل هذا طبيعي، وشيء لابد منه، أم أن هناك خللاً ما يجعل ذلك شيئًا خارجًا عما ينبغي أن يكون؟ وما أسباب هذه الوضعية الصعبة؟ وكيف يمكن التخفيف من لأوائها؟ هذا ما أريد أن أتحدث عنه؛ ولكن دعوني أشرح أولاً ما قصدته من حيرة الشباب عبر المفردات الآتية:
كثير من شبابنا حائر بين الماضي والحاضر، فهو دائم المقارنة بين ما عرفه عن الماضي المجيد والحضارة الإسلامية الزاهية، وبين واقع مفعم بالمغريات والإنجازات التقنية وألوان المرفهات، لكن شوكة الأمة فيه مخضودة، وراياتها منكسة، وهي عالة على أعدائها في جلّ ما تستهلكه، وتتنعم به حتى طباعة المصاحف وتشييد المآذن، فإن الأمة تعتمد فيهما على العتاد الذي صنعه أعداؤها أو منافسوها، شبابنا حائر بين الركون إلى ماضٍ يمده بالاعتزاز والكبرياء وبالطمأنينة والانتماء، لكنه لا يساعده في الحصول على وظيفة مرموقة، كما لا يساعد الأمة على بناء حاملة طائرات أو صناعة حاسوب صغير، وبين حاضر يجافي -أو هكذا يشعر الشباب على الأقل- مضامين الإيمان، ويبتعد كثيرًا عن متطلبات التقوى والصلاح والسعي إلى الآخرة، لكن القوى التي تشكّل هذا الواقع هي التي تأتي بالجديد، وتطوّر القديم، وتمنحه التصريح "بالولوج إلى ساحات الشهرة والمال والنفوذ والسرور". الشباب حائر في أمره بين المضي مع قلبه وبين الاستسلام لمصالحه، وهنا يأتي من يقول له: لا تناقضَ بين الولاء للماضي والانتفاع بالحاضر، وهو يقتنع بهذا لكنه عند التنفيذ العملي يجد نفسه مثل الذي يمشي على حبل مشدود، يخشى أن يسقط ذات اليمين أو ذات الشمال، وكلما مضى في مسيرته وجد أن الكلام سهل، وأن الممارسة وحدها هي التي تكشف عن الصعوبات والتحديات.
كثير من الشباب الصالح حائر في اختيار التخصص والعمل الذي يشبع من خلاله رغباته وحاجاته، ويحقق مصالحه، وفي الوقت نفسه يخدم من خلاله دينه وأمته ودعوته. في الإغراق في التخصص يجد مزية الإتقان والنجاح، ويجني الثروة، ويشعر بالتفوق. وفي التخصص الشرعي وممارسة العمل الدعوي يجد أنه يعمل لآخرته، ويستجيب لأشواق روحه وتطلعات قلبه، كما أن النجاح في العمل الدعوي قد يجعل منه شخصية عامة، يُشار إليها بالبنان، وتخفق خلفها النعال، كثير من الشباب يشعر بالندم وشيء من الإحباط لأنه درس تخصصًا، لا يحبه، ولا يجد نفسه فيه. وكثير منهم يغبطون غيرهم على تخصصاتهم، في الوقت الذي يكونون فيه موضع غبطة وحسد من غيرهم. وبعض الشباب درس شيئًا، ثم تركه، وصار يعمل في مجالٍ، لا يمت إليه بأي صلة. ومن هنا فإن كثيرًا من الشباب يتمنى لو أنه يستطيع التخصص في أكثر من مجال، والسعي فيما يعمر دنياه وآخرته.
شباب كثيرون حائرون ومترددون بين العمل الفردي والعمل الجماعي، ومنهم سمعوا كثيرًا عن إنجازات الجماعات والمجموعات، كما سمعوا كثيرًا عن عقم الأعمال الفردية والصغيرة وقلة جدواها في مواجهة الطغيان العالمي والمشروعات والمخططات والإمكانات العملاقة؛ كما أنهم سمعوا عن أخطاء الجماعات وسلبياتها وأمراضها وانشقاقاتها... مما يضعف الرغبة في العمل معها. وهم أيضًا يرون أفرادًا كثيرين ينجزون للأمة الكثير من الأعمال العظيمة دون أن يكون لهم ارتباط بأي جماعة أو تنظيم. ومن المؤسف أن هذه الوضعية تنشر في بعض البيئات الإسلامية معادلة الاستهجان والاستخفاف المتبادل، فأبناء الجماعات ينظرون إلى الشاب الذي يعمل بمفرده نظرة مشوبة بالاستغراب: كيف غابت عنه فضائل العمل الجماعي؟ وكيف نسي الآثار الواردة في التحذير من الفرقة والابتعاد عن الجماعة؟ والشاب الذي يعمل على نحو منفرد، ينظر فيرى ذهابًا وإيابًا لشباب كثيرين حوله، ويرى صولات وجولات، ثم يقول في نفسه ما قاله الأول: "أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا". فمن هو يا ترى المصيب ومن هو المخطئ؟!(62/364)
حيرة كثير من الشباب من نوع آخر: أنهم سمعوا من يقول: نحن نعيش صحوة إسلامية حقيقية وشاملة، والشواهد عليها كثيرة وكثيرة جدًا. ولهذا فنحن في خيرٍ، يشوبه بعض الشر. وسمعوا أيضًا من يقول: لم نمر في مرحلة أسوأ من المرحلة التي نعيش فيها اليوم، وقد لا تشبهها إلا مرحلة احتلال التتار لكثير من بلاد المسلمين، ولهذا فنحن في شر، يشوبه بعض الخير، والعولمة فعلت فعلها فينا؛ إذ فكّكت عرى وحدتنا، وضيّعت شبابنا، وأغوت بناتنا ونساءنا، وليس أمامنا سوى الانطواء والاعتزال وإغلاق النوافذ والأبواب، ونتيجة كل هذا اضطرب عريض في تقييم الواقع، حتى إنك لترى أهل المجلس الواحد، وقد انتقلوا من المبالغة في ذم زماننا وأوضاعنا إلى مديحه ومديحها دون الشعور بالوقوع في أي تناقض!
ما أسباب هذه الحيرة، وكيف نعالجها؟
الشباب حائر في أشياء كثيرة جدًا، وهذه حقيقة. والحقيقة الثانية هي أن قدرًا من هذه الحقيقة يُعدّ شيئًا طبيعيًا، فنحن البشر مهما بلغنا من العلم تظل معارفنا ومدركاتنا محدودة، كما أن مقدرتنا على الجمع بين الحقائق المتقاطعة ووزن المعطيات المتباينة أيضًا محدودة، وينتج من كل هذا نوع من الخوف من القرارات التي تتعلق بالمستقبل، ومع الخوف يكون التردّد وتكون الحيرة.
ما أسباب حيرة الشباب في تقويم الماضي وتقويم الأوضاع الحاضرة؟ وكيف يمكن التخفيف من حدة هذه الحيرة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه.
1- كل تصوراتنا، وكل الأحكام التي نصدرها في أي مسألة من المسائل، وحول أي قضية من القضايا، تعتمد على التعريفات والمصطلحات التي نستخدمها أثناء عمليات التفكير. وعلى سبيل المثال، فإننا حين نقول: إننا في حال هزيمة وضعف، أو في شرٍ غالب يشوبه بعض الخير، فإنّ علينا أن نتساءل: ما الذي نقصده بالهزيمة والضعف بالنسبة إلى أمة الإسلام؟ هل نقصد أننا لا نسيطر على العالم فلذلك نحن ضعفاء؟ أو نقصد أنّ لنا أرضًا مغتصبة في فلسطين لا نستطيع تحريرها، فلهذا نشعر بالضعف؟ أو نقصد أن صوتنا في المحافل الدولية خافت؟ أم نقصد أن سلوك معظم المسلمين لا يتطابق مع تعاليم الإسلام، ومن هنا تأتي غلبة الشر؟ أم ماذا نريد؟
واضح أن هذه التساؤلات نابعة من تصورنا لأضدادها، أي أن الذي يطرح هذه التساؤلات يتصور أن غلبة الخير علينا، وأن حكمنا لأنفسنا بالنصر والغلبة، إنما يكونان إذا تطابقت سلوكات معظم المسلمين مع تعاليم الإسلام على نحو كامل، وإذا تحكّمنا في القرارات العالمية، وبسطنا نفوذنا على أراضينا وثرواتنا، والحقيقة أن كل تصوّر من هذه التصورات يرتبط بعدد كبير من التعريفات والمصطلحات التي تحتاج إلى تحرير وإلى مراجعة وتدقيق. نحو مثلاً حين نقول: إننا في عصر من أزهى عصور الإسلام نقارنه مع عصور سلفت، ساد فيها الجهل والتقليد، وانتشر فيها الفقر، كما انتشرت الخرافة والعقائد الفاسدة، ومع كل هذا ينتشر الانحراف السلوكي والخروج على تعاليم الإسلام بالجملة والمفرق. أما اليوم فالأمر قد تحسّن في كثير من هذه الأشياء. أما مسألة الغلبة والسيطرة، فالعالم اليوم ليس عبارة عن قلعة كبرى، والمنتصر هو الذي يستولي على مفاتيحها، الأمر ليس كذلك، اليابان وألمانيا مقيدتان في مسائل إنتاج السلاح بسبب هزيمتهما العسكرية في الحرب العالمية الثانية، وهما لا تشعران بالذلة والتبعية؛ لأنهما تسيطران في مجالات أخرى، مثل: الاقتصاد والتقنية.. الدول الغربية كافة مرتبكة ارتباكاً عظيماً في الشأن الاجتماعي، حيث المعاناة الشديدة من التفكك الأسري، ومن انتشار الجريمة الفردية والمنظمة، وهي تعاني أكثر وأكثر من فقدان الأهداف الكبرى والغايات النهائية للحياة. والهند -مثلاً- يبلغ عدد سكانها قريباً من خمس سكان العالم، وليس لها نفوذ دولي، لكن لها نفوذ اقتصادي متصاعد. العالم الإسلامي من جهته يتمتع بمواقع إستراتيجية كثيرة، ويتحكم بالطاقة، ولديه مشكلات اجتماعية أقل مما لدى غيره، والأهم من كل ذلك أنه يملك مرجعية للتقنين والتشريع وتوجيه القيم، كما يملك معايير واضحة للخير والشر والحق والباطل، كما يملك رؤية واضحة لما ينبغي أن تكون عليه علاقة الإنسان بالله سبحانه وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وإذا كان لدينا جرح نازف في فلسطين العزيزة، فهناك عشرات الملايين من الأميال المربعة التي تحت سيطرة المسلمين... إذاً علينا أن ندرك أن مسألة التعريف هي مسألة في غاية الأهمية، وعلى الشباب قبل أن يندفعوا في إطلاق الأحكام الحضارية الكبرى أن يتأملوا وأن يسمعوا من أهل العلم والخبرة والفهم الصحيح. كل أمم الأرض لديها ميزان، ولديها مشكلات، وينبغي أن يكون اتجاه تفكيرنا ليس نحو اليأس والإحباط، ولكن نحو التعلم من الآخرين من أجل تكثير الخير الذي لدينا.(62/365)
2- انقسام الموجهين، وغلوّ بعضهم في الانحياز إلى رؤية اجتهادية محدودة من أهم الأسباب التي توقع الشباب في الحيرة والاضطراب، ومن المؤسف هنا أن أقول: إن كثيرين ممن يتولون توجيه الشباب وتوعيتهم، ينظرون إلى رؤاهم وتوجهاتهم الخاصة على أنها قطعية وصائبة على نحو حاسم، أي لا ينظرون إليها على أنها نابعة من اجتهاد وخبرة خاصة، فإذا كان الموجّه سوداويّ المزاج متشائماً أو مأزوماً، فإنه يسلك كل سبيل حتى يلقي في روع الشباب بأن الأمة في أسوأ حال، وليس من حيلة سوى انتظار المهدي! وإذا كان ينتمي إلى جماعة معينة فإنه يزهّق الشباب في العمل الفردي، ويجعل العمل الجماعي هو سفينة نوح لأمة مشرفة على الغرق! وإذا كان الموجّه متشبعاً بمنهج إصلاحي معين، كالإصلاح عن طريق التربية الروحية أو نشر العلم الشرعي، أو العمل في الميدان السياسي.. فإنه يغمط باقي المناهج حقها، ويحمل الشباب على الإيمان بوجود منهج واحد للإصلاح هو منهجه! وكثير من الشباب -مع الأسف- لا يملك المعيار الذي يفرق من خلاله بين ما هو حقيقة متفق عليها وبين ما هو رؤية شخصية، وخاصة أن كثيراً منهم لا يملك قوة الفكر وقوة الروح التي يتمكن بها من النظر الثقافي والتربوي والمنهجي الذي نشأ فيه، مع أنه يرى في صندوقه الكثير من الأشياء التي لا تعجبه، لكنه يخاف من الخروج من الصندوق أو البحث عن بديل أو المطالبة بالإصلاح؛ لأن الذين أشرفوا على تربيته جعلوا منه مقلداً وتابعاً من الطراز الرفيع.
وللحديث صلة.
===========(62/366)
(62/367)
عولمة الغضب1
الشيخ الدكتور/ عبد العزيز كامل
منذ زمن ليس بالطويل، يلحظ من يراقب العلاقة بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني، أن هناك استدراجاً واستغضاباً واستفزازاً متعمداً للمسلمين، يتنامى ويتنوع بصورة مطردة، في شكل غزوات عسكرية، أو حملات ثقافية وإعلامية، أو محاصرات اقتصادية، وأخيراً... تهجمات دينية. وأصبحنا لا نكاد نرى مكاناً في العالم الإسلامي غير مستهدف بجل أو كل تلك التحديات.
وتتجاوز حملة الاستغضاب والاستدراج لتخرج من النطاق الجغرافي للعالم الإسلامي لتنتقل إلى المسلمين المواطنين أو المستوطنين في أكثر بلدان العالم الغربي بغرض إشعار كل مسلم في العالم أنه تحت المواجهة، بشكل أو بآخر، إما أمنياً أو اقتصادياً أو حضارياً أو عسكرياً أو سياسياً أو ثقافياً..!
من اللافت للنظر أيضاً أن من يستغضبون عموم المسلمين اليوم، ليسوا من أبناء طائفة واحدة من النصارى، حتى يقال إن بينهم وبين المسلمين ثأراً أو قضية، ولكن عداء أولئك يصدر من جميع طوائفهم، بروتستانتية كانت أو كاثوليكية أو أرثوذكسية، مع قدر غير قليل من التعاون الجلي والخفي مع اليهود؛ فهؤلاء جميعاً مع اختلاف بعضهم مع بعض إلى حد أنهم يلعن بعضهم بعضاً، ويكفِّر بعضهم بعضاً؛ إلا أنهم يجتمعون في هذا المسار، مسار التحدي والاستكبار على المسلمين. فمن جرائم البروتستانت المتواترة والمتكاثرة من الأمريكيين والبريطانيين والأستراليين والدانماركيين والنرويجيين، إلى جحود الكاثوليك من الفرنسيين والإيطاليين والأسبان، إلى أحقاد الأرثوذكس من الروس والصرب، إلى تعاون كل هؤلاء وتواطئهم مع حثالات اليهود في الشرق والغرب؛ فالهجمة اليوم عامة، وهي مستأنفة تمثل امتداداً لهجمات استعمارية بروتستانتية وكاثوليكية وأرثوذكسية ويهودية طالت غالب أوطان المسلمين على مدى ما مضى من قرن ونصف. والآن تمتد لتشمل العالم الإسلامي دفعة واحدة لإغضابه دفعة واحدة، ودفعه إلى الارتباك والارتجال.. طمعاً ـ ربما ـ في إحداث (فوضى خلاَّقة) دولية.!...
إنها عولمة من نوع جديد: عولمة للغضب.. تهدف إلى تدويل الغضب الإسلامي بعد إيقاظه!
لقد نجحت عولمة الغضب في صهر العالم الإسلامي كله في بوتقة غضبية واحدة، بعد تلك الجريمة النكراء الشنعاء التي تطاول فيها سفهاء الروم من سكان أوروبا على النبي الكريم المرسل إلينا وإليهم وإلى الناس أجمعين صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً ـ فلأول مرة في التاريخ المعاصر، تحدث على مستوى المسلمين (انتفاضة عالمية) تعم كل مكان في الأرض، لتشمل كل نَسَمَة مسلمة تشهد لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة، ولأول مرة يجري التعامل مع (العالم الإسلامي) على أنه شيء واحد، في مقابل (العالم الغربي)، فتصدر التصريحات وتلقى البيانات وتوجه الكلمات والوساطات إلى: (العالم الإسلامي) وليس إلى بلد معين أو منظمة معينة أو تجمع إقليمي معين؛ فهل كان هذا مقصوداً..؟! هل أراد هؤلاء أن يكرسوا هذا التقابل المتناقض بين (عالمين)، ليكون ذلك من الآن فصاعداً لغة التخاطب بين العالم الإسلامي والعالم الغربي؟!
لقد عاش العرب والمسلمون في السنوات الأخيرة وهم يتصورون أن الصراع اختُصر مع أمريكا وحليفتها (إسرائيل) وأن الغرب ليس أمريكا فقط، فإذا هم اليوم (يفاجَؤون) بأن الغرب عالم واحد وموقف واحد، ويناصر بعضه بعضاً {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73]
فهل نحن بصدد دخول عملي في (عولمة) للصراع مع المسلمين، أو ما يطلقون عليه صراع الحضارات؟! وهل هو تدشين مبكر لملاحم عالمية جديدة لا يعلم مداها إلا الله..؟!
الذين بشروا بـ (صراع الحضارات) يعلمون أن هذا الصراع، هو تاريخ البشرية في الماضي والحاضر والمستقبل؛ حيث كان جزء كبير منه صراعاً بين الحق والباطل، ولهذا لم يكن صراع الحضارات أو الثقافات أو الأديان شراً كله، بل كان في أحيان كثيرة طريقاً وحيداً، يُكْرَه عليه المؤمنون لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإفاضة البلاغ للعالمين، ودفع شر الأشرار وبأس الكفار بجهاد وجلاد الأخيار {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
والفساد اليوم يهدد الأرض كلها بحماقات الغرب المحادِّ لله ورسله... فساد في الاعتقاد وفساد في الأخلاق وفساد في الإعلام وفساد في المجتمعات وفساد في الأسر وفساد في العلاقات وفساد في البيئة، ومع هذا يراد (عولمة) كل هذا الفساد بالقوة؛ لأنه يمثل نموذج الحضارة الأخير الذي ينبغي إخضاع كل الحضارات له، ولو أدى ذلك إلى صدامها وصراعها.
أليس هذا ما تؤمن به وتدعو إليه وتسير فيه الصقور والنسور الحاكمة في أمريكا وبريطانيا وأستراليا وفرنسا وإيطاليا... وأخيراً.. (الدجاج المتوحش) في كل من الدانمرك والنرويج وإسبانيا...؟!
دعك من الشعوب، في التهائها وغفلاتها، فهي تُستَغَل وتُستغفَل من كبرائها وزعمائها، لتساق إلى أتون مواجهة، قد لا ترضى بها ولا توافقها عليها.(62/368)
لقد تنامى التحذير من تفجير (صدام الحضارات) بعد الأحداث الأخيرة التي اندلعت في العالم بسبب الرسوم المسيئة، ونحن في حاجة إلى أن نعيد قراءة الأطروحة، أو النظرية المسماة بذلك الاسم، لنتدبر شأننا، وننظر إلى مواضع خطانا، ونحكم بعين البصيرة على هذه النظرية الخطيرة التي احتفى بها الغرب، أهي أسطر في كتاب فكري... أو تخطيط لانقلاب كوني؟
?صراع الحضارات: نظرية أم إستراتيجية؟
صاحب هذه النظرية: (صموئيل هنتنجتون) أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد الأمريكية، وقد صاغ أطروحته لأول مرة في شكل مقالة نشرت في صيف عام 1993 م في دورية (فوريجن أفيرز)، وكان ذلك بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة التي رأى الغرب بعدها أن عدوه الشيوعي قد توارى، ليبدأ البحث عن عدو جديد، ثم ألَّف هنتنجتون كتاباً في الموضوع ذاته بعنوان (صدام الحضارات... إعادة صنع النظام العالمي) والعنوان نفسه يشي بأن الأمر ليس مجرد نظرية، بل هو إستراتيجية (عملية). فقد تضمن أفكاراً هي أقرب إلى الخطط، وفرضيات يراد تحويلها إلى حتميات.
ولْنُعِد التأمل في أهم مرتكزات ومنطلقات ذلك الكتاب/النظرية/الإستراتيجية:
1 ـ الدين هو أهم العوامل التي تميز بين الحضارات، وهو العامل الأهم في صراعات المستقبل.
2 ـ القرارات التي تصدر عن المنظمات الدولية ينبغي أن تخدم مصالح الغرب، ولكنها تقدم في صورة إرادة المجتمع الدولي.
3 ـ المجتمعات الإسلامية لا تحدد هويتها إلا بالإسلام (الأصولي)، ورفض العلمانية الغربية هو أكبر الحقائق الاجتماعية في بلاد المسلمين طوال القرن العشرين.
4 ـ الكتل الاقتصادية الإقليمية المتنافسة هي صيغة الاقتصاد العالمي في المستقبل.
5 ـ الصراعات العسكرية بين الحضارات الإسلامية والغربية استمرت عدة قرون وسوف تستمر وتزداد في المستقبل، وقد تكون أكثر قساوة.
6 ـ الازدياد السكاني للعالم الإسلامي سيسبب المشاكل لأوروبا بسبب الهجرات المتزايدة صوب الغرب.
7 ـ أطراف العالم الإسلامي هي مناطق صدام بين الإسلام وغيره من الأديان: في الجنوب (جنوب السودان ـ نيجيريا ـ الصومال ـ إريتريا ـ إثيوبيا) في الشمال: (البوسنة ـ كوسوفا ـ ألبانيا «مع الصرب» ـ أرمينيا «مع أذربيجان» ـ روسيا مع «أفغانستان» ـ باكستان «مع الهند» ـ الفلبين «مع الجنوب الإسلامي الفلبيني»، فحدود العالم الإسلامي حدود دامية.
8 ـ حروب المستقبل ستشهد تحالفاً وتضامناً بين حضارات ضد حضارات.
9 ـ الحضارة الغربية تعيش مرحلة القمة الآن، اقتصادياً وعسكرياً.
10 ـ الغرب سيسيطر على بقية العالم عن طريق المؤسسات الدولية.
ثم يخلص الكاتب إلى توصيات، قال إن على الغرب أن يتبناها لمواجهة صراعات المستقبل. وقد قسم السياسات الموصى بها إلى قسمين:
سياسة على المدى الطويل، وسياسة على المدى القصير.
أما على المدى القصير، فقد قدم التوصيات التالية:
ـ على الغرب أن يسعى إلى تعاون أوثق داخل دول الحضارة الغربية، وخاصة بين دول أوروبا وأمريكا الشمالية.
ـ ضرورة السعي لدمج دول شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية في المجتمع الغربي واستغلال التقارب الثقافي (الديني) في هذا.
ـ السعي للحفاظ على علاقات تعاونية أوثق بين كل من روسيا واليابان.
ـ منع تطور الصراعات المحلية داخل الحضارة الغربية إلى صراعات كبيرة.
ـ العمل على الحد من توسع القوة العسكرية للدول الإسلامية والكونفوشية (الصين وكوريا وفيتنام واليابان).
ـ عدم السعي إلى تخفيض القوة العسكرية الغربية، مع أهمية الاحتفاظ بقوة عسكرية في شرق وجنوب آسيا (إندونيسيا ـ باكستان ـ أفغانستان ـ الخليج).
ـ استغلال الخلافات بين الدول الإسلامية والكنفوشية والهندوسية.
ـ دعم الجماعات المتعاطفة مع القيم والمصالح الغربية (الليبراليين) في دول الحضارات الأخرى.
ـ تقوية دور المؤسسات الدولية التي تعكس مصالح الغرب وقيمه وتمنحها الشرعية.
أما على المدى الطويل، فملخص مقترحات «هنتنجتون» هو:
أن على الحضارة الغربية أن تحتفظ بقوتها العسكرية والاقتصادية، وتعمل في الوقت نفسه على مقاومة محاولات الحضارات الأخرى في السعي للحصول على أسباب القوة الاقتصادية والعسكرية، مع أهمية أن تفهم دول الحضارة الغربية المنطلقات الدينية والفلسفية التي تدفع الحضارات نحو مصالحها.(62/369)
عندما نعيد قراءة أحداث الأعوام القليلة الماضية، وخاصة منذ بدأت الألفية الثالثة، نكاد نرى مجموع أفكار صراع الحضارات في خلفية الأحداث جميعاً، وخاصة فيما يتعلق بالعالم الإسلامي أو ما اصطلحت أمريكا على تسميته مؤخراً بـ «الشرق الأوسط الكبير»، حيث اندلعت حروب عسكرية، ودشنت حملات أمنية وإعلامية، وهجمات ثقافية على خلفيات حضارية أو دينية صريحة مثل: اجتياح أفغانستان وما تبعه من دعم لعصابة الإفساد الحاكمة هناك، والتواطؤ في الجرائم اللاإنسانية التي ارتكبت في سجن يانجي، وبعده في معتقل جوانتنامو، ثم ما حدث في العراق ولا يزال يحدث بعد الغزو الذي استند الى كذب صريح على العالم كله، أدخل العراق بعده في دوامة الفوضى الشاملة، وكذلك ما تسرب من أنباء عن مقتل ما لا يقل عن 120 ألفاً من المدنيين أثناء غزو العراق، وقبلهم 20 ألفاً من القتلى المدنيين في غزو أفغانستان، وقبلهم قتل ما يزيد عن مليون طفل عراقي أثناء الحصار، ولا ننسى قضية الشيشان التي قايضوا عليها روسيا، وبلاد البلقان المسلمة التي طردوا منها الصرب ليحتلها (ناتو) الغرب، والسودان المستهدف بالتقسيم المصلحي بين الفرقاء الغربيين، وفلسطين التي يستكثرون عليها بعدما يقرب من ستة عقود من الاحتلال، مجرد سلطة (حكم ذاتي) نظيف ونزيه اختاره الشعب، لا لشيء إلا لأنه يحمل قضية (الإسلام) في برنامجه الانتخابي (الديمقراطي).
وكانت أحداث أزمة (الرسوم المسيئة) للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم ما تلاها وواكبها من نشر صور ولقطات إذلال وامتهان كرامة الإنسان على يد الأمريكيين والبريطانيين في السجون والثكنات العسكرية في العراق، آخر حلقات ذلك المسلسل الهجومي الصِدامي المتواصل.
? ليست مصادفات:
لا يمكن لعاقل أن يفسر ذلك التسلسل العدائي بالمصادفات أو محض الاتفاق، ولا يمكن كذلك أن يتفهم ذلك الإجماع المتواطئ ـ مؤخراً ـ من أكثر دول الغرب على العناد والاستفزاز بإعادة نشر الرسوم المسيئة، والإصرار على عدم الاعتذار بصورة واضحة، إيغالاً في التحدي الجماعي لمجموع شعوب العالم الإسلامي؛ حتى إن مسؤولي الاتحاد الأوروبي، عدُّوا مقاطعة الدانمرك اقتصادياً، مقاطعة لدول الاتحاد الأوروبي كلها. وتوحيد أوروبا لموقفها يجيء لتعجيز أو تشتيت الموقف الإسلامي الموحد، بتكثير عدد الدول التي سيتعين على المسلمين مقاطعتها اقتصادياً بسبب اتخاذ موقف الدانمرك نفسه أو الوقوف معها.
يساورني شك يكاد يقترب من اليقين، بأن تحريك فتنة الأزمة الأخيرة، إنما تلعب فيه أصابع ماهرة في خبثها، وبعيدة في مراميها، ولا أستبعد منها اليهود وإن كنت لا أُغفل غلاة النصارى من ذوي الاتجاه اليميني الديني الإنجيلي، ومنم الحزب الحاكم في الدانمارك، بمعنى أن الأحداث ليست مجرد تفاعلات وتداعيات؛ فالفريقان اللذان يكادان يتطابقان في أهدافهما ووسائلهما وعقائدهما، يتركان كل حين آثاراً تشير إلى تعمد التصعيد.
وعلى وجه الخصوص فإن بصمات اليهود ـ قتلة الأنبياء ـ في الحملة على سيد الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لا تكاد تخطئها العين، وهناك قرائن واضحة تدل على أن ظل اليهود ليس بعيداً عن أجواء تلك الأزمة؛
فالصحيفة الدانماركية التي تولت كبر هذه الفتنة ونفخت في كيرها ـ وهي صحيفة (يولاند بوسطن) ـ يتوسط عنوانها الرسمي نجمة داوود اليهودية بلون أصفر يميزها عن الحروف الإنجليزية في الكلمتين المكتوبتين باللون الأسود، مع شيء من التحوير في تلك النجمة،
وإذا صح أن رئيس تحرير الصحيفة الدانماركية وكذا رئيس تحرير الصحيفة النرويجية اللتين نشرتا الرسوم الشائنة، هما من أعضاء المؤتمر اليهودي العالمي الذي يدير شؤون الفتن في العالم، يكون الكثير من ملامح ومعالم الصورة قد بدأ يتضح.
ويتضح أكثر إذا عُلم أنهما من الناشطين مع مركز (سايمون فيزنتال) اليهودي في أمريكا، والمختص بوضع الاستراتيجيات الدولية لخدمة أهداف اليهود والدفاع عنها.(62/370)
إن أول من بدأ جرائم الاعتداء العلني على شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السنوات الأخيرة هم اليهود، حيث أقدمت امرأة يهودية إسرائيلية على نشر رسوم لها، رسمت فيها ـ قاتَلها اللهُ ولعنَها ـ صورةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة خنزير، وكتبت على جسده باللغة العربية اسم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسمحت بعض الصحف بنشرها، لتنشر بعد ذلك في بعض صحف العالم، وقد ثارت وقتها ضجة من الاحتجاج الإسلامي في أنحاء متفرقة من العالم، وكعادته انبرى بعض الغربيين يؤيدون والبعض الآخر يفلسفون، وآخرون يعتذرون، ليسكِّنوا الحمية ويميِّعوا القضية، وكان على رأس هؤلاء وقتها الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، لكن بلاد كلينتون نفسها ـ الولايات المتحدة ـ تسلمت من اليهود راية التحدي لمقدسات المسلمين بعد ذلك، عندما أقدم جنودها مرات متعددة على دعس المصحف الشريف وتمزيقه بل... التبول عليه (قاتلهم الله ولعنهم). ثم جاء حمار بشري في شكل وزير إيطالي هو (ربرتو كالديرولي) وزير (الإصلاح) في إيطاليا ليرتدي قميصاً عليه الرسوم المسيئة متحدياً جميع المسلمين في العالم، وقبل ذلك كان أحد مهاويس أمريكا وهو الصحفي (ريتش لوري) قد طالب بضرب مكة بقنبلة نووية! وذلك في مقال نشرته له مجلة (ناشيونال ريفيو)، وقد كرر الدعوة نفسها السيناتور الأمريكي (توم تانكريدو)!! وكأن القوم يتناوبون على امتهان مقدساتنا ودوس كرامتنا.
وفي تناغم أخير مع السلوك الشائن في أمريكا وأوروبا، أقدم مجند يهودي إسرائيلي ـ بعد جريمة الدانمارك ـ على كتابة شتائم نابية على جدران أحد المساجد في إحدى مدن فلسطين في 15 فبراير 2006، يسب فيها رسول - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ وقحة؛ فلما ثار المواطنون المسلمون وتظاهر بعضهم احتجاجاً؛ تدخلت الشرطة الإسرائيلية، فأطلقت عليهم النيران الحية! ثم تكررت الفعلة الشنعاء بعد ذلك بثلاثة أيام من جندي آخر في مسجد آخر!!
إن هذه الشرارات الصغيرة الحقيرة، هي التي تنشئ النيران الكبيرة الخطيرة، وهذا هو ما يراهن عليه مشعلو الفتن وسماسرة الحروب؛ فقد يصدر تصريح، أو يبدر تصرف أو ينشر مقال أو رسم أو مشهد مسيء، فإذا هو يضيء سماء العالم الاسلامي بوهج الغضب وشهب التثوير، وهم يعلمون أننا لسنا بحمير حتى نستغضَب فلا نغضب أو نستثار فلا نثور.
إن هؤلاء الساعين الى إيقاد نار الحروب يريدونها محرقة عالمية، ولولا أن الله ـ تعالى ـ يطفئ من نارهم ما يشاء، لقلنا: على الأرض العفاء، منذ زمن طويل {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64]، إننا لا نستند في ترجيح تعمد الاستغضاب الصهيوني ـ يهودياً كان أو نصرانياً ـ إلى ظن أو تخمين، بل نستند الى يقين نطق به القرآن المبين، في قول الله ـ تعالى ـ عن عداوتهم وجراءتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى الدين الذي جاء به، كفراً وحسداً، لا جهلاً وغفلة: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46]، وهم لن يطعنوا في ديننا فقط؛ بل سيقاتلوننا عليه في حروب دينية صريحة، كما حدث كثيراً في التاريخ {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. ولليهود والمشركين الدور الأساس في ذلك: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82]؛ فهم العدو الأول للمسلمين في الزمان كله والمكان كله، منذ مبعث النبي الخاتم - صلى الله عليه وسلم -.
ولا نستطيع هنا أن نتجاهل أن الحزب الحاكم في مملكة الدانمارك هو حزب يميني ديني بروتستانتي متشدد، والصحيفة التي أشعلت الفتنة هي صحيفة صادرة عنه.
وهذه الحملة المشتركة بقيادة المغضوب عليهم للضالين قد تجر العالم ـ كما جروه من قبل إلى صدامات دولية، تكون ساحتها على أرض المسلمين، وبأموال المسلمين، وأرواح المسلمين.
?الأحقاد الدينية ... على درب المحرقة الكبرى:(62/371)
لا تزال البشرية في البدايات المبكرة للألفية الثالثة، التي يعتقد المتشددون الإنجيليون وغلاة البروتستانت ـ تبعاً لعقائد يهودية ـ أنها لا بد أن تشهد بداية النهاية لأيام (العامة) أو الكفار أو الكُفريم أو (الجويم) بتعبير التوراة المحرفة التي يقرؤونها ويتعبدون بها، حيث ستأتي بعد أيام (العامة) تلك، أيام (الخاصة) التي تخص الشعوب المختارة وحدها من الأنجلوساكسون وحلفائهم من اليهود، لضمان سيادتهم على العالم لألف سنة قادمة؛ وهذا هو جوهر (العقيدة الألفية)، التي ترجمت في السنوات الأخيرة إلى برامج عملية، وإستراتيجية عالمية للولايات المتحدة، أطلقوا عليها مشروع (القرن الأمريكي) أو (إمبراطورية القرن الحادي والعشرين). ليبدأ هذا القرن أمريكياً يهودياً غربياً، تمهيداً لـ (الأيام الأخيرة) أو بالتعبير العبري التوراتي (أحريت أياميم) والذي ستعقبه مرحلة (يوم هدين) بالعبرانية أو (يوم الدين) بالعربية. ولا بد ـ قبل أن يأتي (يوم هدِّين) أو يوم القيامة الكبرى ـ من التمهيد للألف السعيد بإقامة قيامة صغرى، تكون سبباً في هلاك غالبية سكان الأرض، أو بالتحديد: (ثلثا سكان العالم)(1) من غيرهم. والأسباب التي ستؤدي لإقامة هذه القيامة الصغرى عندهم لا تُنتظر، بل تُدبر وتصنع!!
هل نفتري عليهم....؟! هل نبالغ في تقدير خطورة أحلامهم التدميرية الإرهابية العالمية..؟! لا... وسأذكر بعض الأدلة من كتبهم (المقدسة) بنصوصها وتأويلاتها التي تصنع وجداناً عدائياً لسائر البشر، وخاصة ـ أكرر ـ: (وخاصة): العرب والمسلمين والكنفوش (الصينيون والكوريون والفيتناميون واليابانيون)(2) الذين تجمعهم عند هؤلاء تسمية التوراة: (يأجوج ومأجوج) حيث سيتكتل هؤلاء في الأيام الأخيرة ـ كما يعتقدون ـ في (محور الشر) الذي ينطلق من الشرق لينازل محور الخير أو العالم الغربي، في وسط العالم أو (الشرق الأوسط) وبالتحديد في (فلسطين) التي أرادوا محو اسمها لتصبح فقط (إسرائيل) كما سمتها التوراة المحرفة.
* تقول التوراة التي يدين بها أكثر من ملياري نصراني، ونحو (16) مليون يهودي في عالم اليوم:
(في الأيام الأخيرة، عندما تتجمع إسرائيل من الأمم، سوف تتسبب في أمرٍ ما، هذا ما سوف يحدث، إنني سوف أضع صنارة في أفواه القوى المؤتلفة).
* وجاء فيها أيضاً: (بعد أيام كثيرة، تُفتقد في السنين الأخيرة، تأتي إلى الأرض المستردة من السيف، المجموعة من جبال إسرائيل التي كانت خربة للذين أخرجوا من الشعوب وسكنوا آمنين كلهم، وتصعد وتأتي كزوبعة، وتكون كسحابة تغشى الأرض أنت وكل جيوشك، وشعوب كثيرون معك).
* وجاء فيها: (ويكون في ذلك اليوم، يوم مجيء جوج على أرض إسرائيل... يقول السيد الرب: يكون سيف كل واحد على أخيه، وأعقبه بالوباء وبالدم، وأمطر عليه وعلى جيشه وعلى الشعوب الكثيرة الذين معه مطراً جارفاً وحجارة برد عظيم وناراً وكبريتاً)(3).
3 أما التلمود الذي يمثل شروح التوراة، والذي يعد عند التوراتيين أقدس من التوراة نفسها فيقول: (قبل أن يحكم اليهود نهائياً، لا بد من قيام حرب بين الأمم، يهلك خلالها ثلثا العالم، ويبقون سبع سنين، يحرقون الأسلحة التي اكتسبوها بعد النصر)(4).
3 وجاء في بروتوكولات حكماء صهيون: (إن القتال المتأخر بيننا سيكون ذا طبيعة مقهورة، لم ير العالم لها مثيلاً من قبل، والوقت متأخر بالنسبة لعباقرتهم)(5).
3 أما الإنجيل الذي يدين به نصارى العالم بكل طوائفهم، فإنه يزيد في تحديد المعلومات عن هذا الصدام الأخير، فيشير إلى موقع المعركة الكبرى، أو المحرقة الكبرى ويشير الى اسمها ووصفها؛ فقد جاء فيه ـ كما يقولون على لسان عيسى ـ عليه السلام ـ وهو يصف مجيئه المفاجئ في آخر الزمان تمهيداً للألف السعيد: (ها أنا آتي كلص، طوبى لمن يسهر ويحفظ ثيابه لئلاَّ يمشي عرياناً فيروا عريته، يجمعهم إلى الموضع الذي يدعى بالعبرانية هرمجدُّون)(6).
لن أطيل في تفصيل هذه المعتقدات الأشبه بالخرافات؛ فقد فصلت فيها في بعض كتبي2، وبينت أنها وإن كانت أشبه بالأساطير، إلا أنها أساطير مدججة بالجيوش والأساطيل، تقف وراءها أحلاف عظمى، تملك القوة ولا تملك الحكمة، ولها ترسانات ضخمة من كل أسلحة الدمار التقليدي وغير التقليدي. وهذه الأساطير ينظر لتفعيلها العديد من المفكرين والاستراتيجيين الذين يغلِّفون أفكارهم الخرافية بأغلفة أكاديمية، تتحدث عن احتمالات وسيناريوهات الحرب العالمية الثالثة، التي أثبتت الحربان العالميتان قبلها، زيادة احتمال وقوعها.(62/372)
لا أريد أيضاً أن يُفهَم من كلامي أني أجزم أن أحداث فتنة (الرسوم المسيئة) بالذات، والتي أرجح تدبير وتنسيق المواقف فيها؛ قد جاءت كلها على خلفية تلك المعتقدات، لكني أؤكد، أن ما حدث وما يمكن أن يحدث هو مقدمة شحن لعواطف الدين والعقيدة عند الشعوب المستهدفة بصدام الحضارات أو الثقافات، وهذه الأحداث فرصة سانحة، لن يفوِّتها الحاقدون على البشر، المعظمون لأنفسهم والمقدسون لذواتهم دون بقية الخلق: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18]، هؤلاء البشر ممن خلق الله، ينحدرون مع الأيام، استجابة للشيطان، حتى يصبحوا جزءاً أصيلاً من رعيته، المكونة من أتباعه وذريته، وصدق الله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ} [الأعراف: 179].
وهذه الأنعام التي تطاولت على خير الأنام محمد ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ تستكثر كبراً وعتواً، أن يمس أحد «مقدساتهم» وثوابتهم، وعلى رأسها «حرية التعبير» التي تستلزم عندهم «حرية التعيير»، وتتضمن حرية التغيير بالقوة وغير القوة لثوابت ومقدسات الغير!
أما ثوابتهم هم، ومقدساتهم هم، ومسلَّماتهم هم؛ فالويل، ثم الويل لمن يتعداها أو يعاديها، وأبرز مثال على ذلك ما يسمونه: (معاداة السامية)(1)... وما ينتج عنها مما يصفونه بـ (المحرقة الكبرى) أو (الهولوكست)، التي تتكسر عندها كل أدوات التعبير، ولا تقبل عند المساس بها التأسفات أو المعاذير!
?من يجرؤ على الكلام؟
بهذا العنوان، صدر كتاب عام 1985 لمؤلفه السيناتور الأمريكي السابق: (بول فندلي) ذكر فيه أن هناك إرهاباً يمارس على حرية النقد والتعبير، يمارسه اليهود وأشياعهم داخل الأروقة السياسية في أمريكا، يقدح في كل دعاوى الحرية والديمقراطية في الغرب؛ فهي حرية ذات حدود مرسومة، وسقوف معلومة، يحرم تخطِّيها، ويجرَّم من يقع فيها.
فدعاوى الغربيين اليوم أن حرية التعبير والرأي عندهم لا حدود لها، يدحضها سلوكهم عند أي تصرف أو سلوك أو تفكير أو تعبير يتعرض بالعداء لـ (السامية)!
ومن أبرز التجليات المجسدة لقضية (معاداة السامية)، قضية المحرقة اليهودية، أو (الهولوكست). والهولوكست، كلمة يونانية، تعني (القربان الكامل) إشارة إلى القرابين التي كانت تُقَدَّم تعبُّداً، كي تُحرق في المعابد بشكل كامل، حيث لا ينال أحد من البشر منها شيئاً. وقد أشاع اليهود هذا التعبير كمصطلح يرمز إلى ما حدث لهم على يد الزعيم الألماني (أدولف هتلر)، حيث صوَّروا ما فعله ضدهم من انتقام وحرق في السجون أنه أكبر محرقة في التاريخ.
لقد مارس اليهود كمّاً كبيراً من التهويل والتزييف لحقائق تلك المحرقة، بغرض تضخيم أموال التعويضات التي طلبوها ـ ولا يزالون ـ عوضاً عما لحق بهم من (أعداء السامية). وفلسفة (الهولوكست) أو المحرقة اليهودية، كانت تنطوي على إبراز حقيقة مفادها أن (المسيحيين) يكرهون اليهود، وعليهم أن يثبتوا عكس ذلك، ولن يثبت عكس ذلك إلا بدفع التعويضات والتجاوز عن مساءلة اليهود وفق أي قوانين أو معايير دولية أو محلية في أي بلد يسكنونها؛ لأنه (يكفيهم) ما كابدوه من تعنت هتلر معهم، حيث لم يدفعه إلى ذلك إلا (معاداة السامية)!
إنهم يقولون: إن العالم كله يكرههم ويريد قتلهم، ولهذا فيجب ألا تكون الأمم المتحدة عوناً مع العالم عليهم. وتماشياً مع هذا الابتزاز اليهودي فإن الصحافة في العالم الغربي، تصور دولة اليهود دائماً على أنها محاصرة ومضطهدة من طوفان عدائي محيط بها، يريد إدخالها في محرقة أخرى(2).
وبالرغم من حداثة حادثة المحرقة اليهودية نسبياً في التاريخ؛ فقد استطاع اليهود أن يحرِّفوا و يزيِّفوا تفاصيلها، ثم يجعلوا هذا التزييف والتحريف أمراً ثابتاً بل مقدساً، لا ينبغي لأحد أن يشكك فيه أو حتى يناقشه وإلا كان معادياً للسامية، ومن ثم معرضاً نفسه للعقوبات القانونية. لقد عبثوا بالأرقام الدالة على عدد الذين أحرقهم هتلر؛ فالمحققون الأكاديميون والمحايدون أثبتوا ـ وفقاً لمصادر اليهود أنفسهم ـ أنه كان في أوروبا كلها في الفترة التي حدثت فيها المحرقة، ثلاثة ملايين وعشرة آلاف وسبعمائة واثنان وعشرون يهودياً فقط (722.010.3) بمن فيهم يهود ألمانيا، فكيف يتم حرق ستة ملايين يهودي على يد هتلر داخل حدود ألمانيا..؟!(62/373)
واليهود يغالطون، فيتحدثون عن (ضحايا) المحرقة، فيدخلون فيها كل يهودي «تأذى» من تلك المحرقة، ولو كان ذلك بدموع ذرفها، أو دولارات خسرها، فيوصلونهم إلى ستة ملايين!! ويردد العالم «الحر» بغبائه ذلك الدجل، لا بل يحاسب بقية العالم بمقتضاه!! وقد أشاع اليهود أيضاً أن سكان فلسطين من الإسرائيليين، أكثرهم من الناجين من المحرقة! فهم على هذا يستحقون هم وأولادهم وأحفادهم من العالم كله والعالم الغربي على وجه الخصوص، ألاَّ يقطع عنهم المعونات والتعويضات، وألاَّ يتردد في معاقبة من يعاديهم بشتى أنواع العقوبات.
لقد قتل هتلر من الغجر والشيوعيين أكثر مما قتل من اليهود، بل تسبب في الحرب العالمية الثانية التي قُتل فيها نحو خمسين مليوناً من البشر، منهم 17 مليون سوفييتي، وتسعة ملايين ألماني، وعشرات الملايين من السلافيين والغجر والبولنديين ومختلف دول آسيا وأفريقيا، ولم يتحدث أحد عن هذه المحرقة الحقيقية التي لم يكن ظل اليهود بعيداً عنها.
? معاداة السامية، وشجاعة الجبناء:
صدرت في العديد من الدول الأوروبية قوانين تحرم وتجرم كل من يشكك في الرواية اليهودية عن (الهولوكست) بل كل من يحاول كشف الحقيقة عنها، (من هذه الدول فرنسا الحرة) التي لاحقت بموجب هذا القانون المفكر الفرنسي (روجيه جارودي) الذي أعلن إسلامه عام 1981م؛ فقد اتُّهم بمعاداة السامية بسبب تشكيكه في المحرقة، وإثباته أن عدد الضحايا اليهود في المحرقة، يبلغ 900 ألف إلى مليون ومئتي ألف، وليسوا ستة ملايين كما يدعي اليهود، لقد حوكم جارودي وحكم عليه بالسجن، وصودر كتابه الذي تجرأ فيه على الكلام وهو كتاب: (الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل)!
ـ وحوكم كاتب سويدي آخر، وهو (رينيه لويس) بمقتضى القانون السويدي الذي يحرم معاداة السامية؛ لأنه شكك في قصة المحرقة، وحُكم عليه بالسجن لمدة 17 عاماً، ولا يزال في سجنه حتى اليوم.
ـ واعتقل الكاتب البلجيكي (سيغفريد فيريبكيه) في أحد مطارات هولندا، بسبب تشكيكه في المذكرات التي تُدَرَّس في الكثير من مدارس الدول الأوروبية عن المحرقة.
ـ وفي عام 2000 م، صدر كتاب في الولايات المتحدة الأمريكية للكاتب الأمريكي (فينكلشتاين) اسماه (صناعة الهولوكست)، فضح فيه الممارسات اليهودية التي تتاجر بما وصفه (الآلام الإنسانية) لإشباع أغراض مادية، فثارت ضجة بسبب الكتاب، حتى إنه كان الموضوع الأول الذي وضع للنقاش في احتفالات أوروبا (السنوية) بـ (عيد المحرقة)!
ـ وحوكم الكاتب الألماني (أرنست ذوندل) في 15 نوفمبر 2005، بتهمة التشكيك في المحرقة، وطرد من كندا بسبب نفيه وقوع ما يسمى بـ (أفران الغاز).
ـ وفي 16 نوفمبر 2005، تم ترحيل عالم الكيمياء الألماني (جيرمان رودلف) من أمريكا إلى ألمانيا؛ لأنه أعد بحثاً كيميائياً أثبت فيه أن صنف الغاز الذي تحدث اليهود أن هتلر استخدمه ضدهم في أفران الغاز الحارقة، غير موجود أصلاً بالخواص التي ذكرها اليهود، وقد حكم على هذا الباحث بالسجن لمدة عام وشهرين، عقاباً له، لا على حرية الرأي فحسب، بل على حرية التفكير والبحث!
ـ واعتقل المؤرخ البريطاني (ديفيد ارفنج) في النمسا، وهو في طريقه لإلقاء محاضرة في إحدى جامعاتها، بتهمة أنه سبق أن ألقى محاضرة هناك عام 1989م، شكك فيها في المحرقة، وكان قد ألف كتاباً بعنوان (حروب هتلر) في الموضوع نفسه، وقد بدأت محاكمته مؤخراً في 20/2/2006، وهو في العام السابع والستين من عمره، مما جعله يتراجع عن آرائه في محاولة منه لتفادي هذا الحكم، وحكم عليه رغم ذلك بالسجن ثلاث سنوات!
في مقابل ذلك، كانت السويد قد دعت الكاتب الهندي المرتد (سلمان رشدي) صاحب كتاب (آيات شيطانية) لزيارة عاصمتها، وعندما جاء احتفت به كل وسائل الإعلام، وأتاحت له كامل الحرية في مخاطبة الشعب السويدي النصراني عن آرائه في الدين الإسلامي، بينما حجبت تلك (الحرية) نفسها عن ضيف آخر في التوقيت نفسه، وهو الكاتب الفرنسي المعروف بالعداء للصهيونيين (فوريسون) ومنعته من المحاضرة، بل سمحت ـ من باب حرية التعبير ـ بالتظاهر ضده!!(62/374)
الذين تحدثوا عن جرم التشكيك في حرق اليهود؛ لم يتحدثوا عن مئات الملايين التي أبادها الأمريكيون ـ حلفاء اليهود وأشباههم ـ فقد أبادوا نحو ستين مليوناً من الهنود الحمر في الأمريكتين الشمالية والجنوبية، وأبادوا في عملية إحلال العبيد من الأفارقة مكانهم، أكثر من مائة مليون أفريقي، قضوا في عمليات الحشر الوحشي في سفن الشحن التجارية، ومع هذا لم يتحدث أحد عن هذا (الهولوكست) الأمريكي، بل تحدثوا عن أمريكا «محررة» العبيد!! ويتحدثون اليوم عن (حرية التعبير) التي يُستثنى منها التعرض لليهود، ويريدون ـ وهذا هو الأدهى ـ (عولمة) القوانين القاضية بتجريم التشكيك في المحرقة، فعلى عادة الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة في محاسبة ومعاقبة كل من يخالف سياساتها ويتعرض لمصالحها ومصالح ربيبتها وحبيبتها (إسرائيل) بإصدار القوانين في ذلك، وعلى غرار (قانون محاسبة سورية) و (قانون محاسبة السودان) و (قانون محاسبة إيران) وأخيراُ (قانون محاسبة مصر)!... صدر في أكتوبر عام 2002 قانون في الولايات لمحاسبة ومعاقبة كل من يعادي اليهود، ويحمل القانون اسم (قانون محاسبة أعداء السامية).
ولم يتوقف الأمر على تصدُّر أمريكا لحماية (جناب) إسرائيل من التعدي أو التحدي، ولو بفكرة أو تصريح أو كتاب أو مقال على مستوى العالم، حتى دفعت الأمم المتحدة... (ممثلة العالم) في طريق إصدار قانون مماثل، ففي أول نوفمبر من عام 2005، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً ينص على رفض الأمم المتحدة لأي إنكار لحقيقة المحرقة كحدث تاريخي، سواء بشكل كلي أو جزئي، واعتبر القرار مثل هذا التصرف أمراً ممنوعاً ويعرض صاحبه للمساءلة، ودعا القرار إلى ضرورة (تثقيف) شعوب العالم عن المحرقة، واختار يوم 27 يناير من كل عام ليكون يوماً عالمياً لتخليد ذكرى ضحايا المحرقة!!
وفي السياق نفسه، أقامت الحكومة الإسرائيلية في 19 مارس 2005، معرضاً في تل أبيب عن المحرقة، ودعت إليه آلافاً من الشخصيات، من رموز الفكر والسياسة والفن، وقد لبوا الدعوة، وكان على رأسهم (الأمين) العام للأمم المتحدة: كوفي أنان، الذي عبر عن تضامن العالم الذي يمثله، مع اليهود!
?وماذا بعد...؟
إن (عولمة الغضب) تسير في اتجاهات متعددة وليس في الاتجاه الإسلامي فقط؛ فإصرار الخبثاء من فجار الكفار على المزيد من استغضاب المسلمين كل حين، يبدو أنه يلعب على أوتار الأفعال المحسوبة، بانتظار ردات الفعل غير المحسوبة، ليبدو المسلمون في النهاية هم المجرمون، وهم الإرهابيون، وهم الفوضويون، وتثور في المقابل موجات غضب مضادة في الغرب، تنعكس مزيداً من التضييق على المسلمين، ومحاربة لهم في أمنهم واستقرارهم ومقدساتهم ومقدراتهم، يمكن استغلالها ـ وهذا هو الأخطر ـ في تدبير (فوضى خلاَّقة) على مستوى العالم، لا يوجد من المسلمين من هو مستعد لمواجهتها وإحباط كيدها.
لكننا لا نريد أن يظل أعداؤنا وأعداء الإنسانية أشباحاً وهمية؛ فالجرم موجود، والفاعلون معروفون، والشركاء مستعلنون، وإذا كان البرلمان الأوروبي قد أعلن في 15/2/2006 تضامنه مع الدانمارك واعتبر أن استمرار مقاطعتها، هو مقاطعة للاتحاد الأوروبي كله، إرهاباً وإرعاباً للمسلمين وكسراًً للحصار الاقتصادي ضد من أجرموا في حقهم؛ فعلى المسلمين أن يقولوا كلمتهم بلسان إسلامي واحد، ويقولوا إن الاعتداء على مقام نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو اعتداء على كل مسلم في أعز شيء عنده، ومن ثم، فإن كل مسلم من حقه، بل من واجبه رد الاعتداء، في حدود المشروع والمقدور؛ لأن من أَمِن العقوبة أساء الأدب، وأي إساءة للأدب أسوأ من التطاول على سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -؟ والمقاطعة الاقتصادية هي أحد الحقوق أو الواجبات في نصرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهي يجب أن تؤدي دورها كاملاً، كما أدت الإساءة ـ كما أراد أصحابها ـ دورها كاملاً.
لكن المقاطعة وحدها لا ينبغي أن تكون آخر المطاف في ظل إصرار المعتدين على إفشالها وإرباكها، وقد أفاض العلماء والدعاة والمفكرون في تعديد الأشكال والأنواع التي تندرج تحت صنف مواجهة التحدي، لكن تحدياً آخر لم يتطرق إليه أحد فيما أعلم، وهو من سينظم هذه المواجهة، سواء كانت مقاطعة اقتصادية أو غيرها مما تفرضه تداعيات الأزمة أو ما يمكن أن يأتي بعدها؟ من سيضع ضوابطها، ويحدد أوقاتها، ويتابع فعالياتها؟ في ضوء الفرقة والشتات الذي تعانيه الأمة على مستوى نخبها قبل شعوبها؟!(62/375)
إن هذا هو التحدي الأكبر الذي تواجهه النخب العلمية والدعوية والفكرية والسياسية في الأمة، وإذا كانت تلك النخب غير قادرة اليوم على أن توحد صفوفها ـ ولا أقول رأيها ـ لتقود الشعوب في وجه مثل هذه التحديات الجديدة الكبرى، فلتترك الجماهير المسلمة تعبر عن مكنون الخير في الأمة في مواجهة التحدي؛ ولتدع لها (حرية التعبير) لكن بالضوابط والشروط بحيث لا تخرج عن الشريعة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد أثبتت تجارب السنوات القليلة الماضية أن (الفطرة) التي تحرك تلك الجماهير، هي أذكى وأجدى من كثير من التنظير الناشئ عن حسابات حزبية أو آنية أو أمنية؛ فـ (عولمة الغضب) لا نتوقع لها نهاية قريبة... حتى لو انتهت أزمة الرسوم المسيئة
============(62/376)
(62/377)
حصار القطاع الخيري لمصلحة من ؟
د.سليمان بن حمد العودة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره . .
إخوة الإسلام، ديننا دين المحبة والرحمة والإحسان ، وأخلاقنا وبذلنا للمحتاج يتجاوز الإنسان إلى الحيوان " في كل كبد رطبةٍ أجر "، بل يتجاوز المسلمين إلى الكفار لتأليفهم ودعوتهم للإسلام ( والمؤلفة قلوبهم ) مصرفٌ من مصارف الزكاة .
ومنذ شع نور الإسلام ونزل القرآن داعياً للبر والإحسان والنفقة والصدقة ، وبساطُ المسغبة يُطوى ، وتباشير الفرحة تعلو وجوه اليتامى والأيامى والأرامل والمحتاجين، فلا يبأس محتاج ، ولا يتلوى جائع ، ولا يقتل الهمُّ والغمُّ مديناً أو معسراً.
بل مرت في تاريخنا الإسلامي أوقات كان يُطاف بالصدقات والزكوات فلا تجدُ لها آخذاً ، إذ استغنى الناسُ بما يُعطون من حقوقهم وأعطياتهم .
وفي تاريخنا المعاصر ، ورغم النكبات والجوائح وكثرة الرزايا والضحايا ، وانتشار الفقر ، واتساع مساحة الجهل إلا أن العمل الخيري ـ بمؤسساته وهيئاته المختلفة ـ كان نقطة ضوء وإشعاع خير وسط هذا الظلم والظلام الدامس .
أجل لقد كان العملُ الخيري الإسلامي هو كفَّ الرحمة التي امتدت على كل أرض وتجوب كلَّ قطر ، تمسح دموع اليتامى ، وتبدد أحزان الثكالى ، وتقتلع مآسي الأرامل وترعى الأطفال وتُعلم الجهلة ، وتنقذ الغرقى في أتون الشرك والوثنية أو براثن الخرافة والبدعة ، وكانت هذه المؤسسات الخيرية واسطة خير ، ومستشاراً ناصحاً لرجال المالِ والأعمال ، إذ تتكفل بإيصال نفقاتهم إلى المحتاجين وتُسهم في تحقيق الخيرية نيابة عنهم .
لا يُقال ذلك عاطفةً ولا تخرصاً ، ولا وهماً ولا ادعاءً ، بل إن لغة الأرقام تكشف عن إحصاءات وإن تطلعنا إلى المزيد منها فهي تسرُّ الصديق وتغيض الأعداء، وعلى سبيل المثال لا الحصر بلغت قيمة نفقات بعض المؤسسات الخيرية الإسلامية وفي مدة محدودة كما يلي : "بناء المساجد بلغت تكاليفها مائة وستةً وعشرين مليون دولار، المشاريع التعليمية وبلغت تكاليفها مائة وثلاثة وثلاثين مليون دولار، المنح الدراسية بلغت أكثر من خمسة وأربعين مليون دولار ، الإغاثة الفردية بلغت تكاليفها مائتان وخمسة وثمانون مليون دولار ، المخيمات الطبية أكثر من ستة وعشرين مليون دولار ، آبار ومياه شرب ستة وثلاثون مليون دولار ، وجبات إفطار الصائمين أكثر من أكثر من ستة وأربعين مليون دولار ، أما المراكز الاجتماعية (غير التعليمية) فقد بلغت تكاليفها أكثر من ثلاثة وستين مليون دولار .
وبالجملة فقد زادت تكاليف هذه المشاريع وغيرها عن ثمانمائة وثلاثة وستين مليون دولار" (د. محمد السلومي : القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب ص585) .
إخوة الإيمان : ما جرم من يتعرض لهذا الخير المتدفق ، وكيف الحال إذا تعرض لهذه المسيرة الحضارية من يزعمون أنهم رعاة حقوق الإنسان ، ورواد الحضارة وحماةُ العدل في هذا الزمان ؟
لقد كشف المخبوء وتعرت القيم ، وانكشف عوارُ المجرمين، وأُحيطت هذه المؤسسات الخيرية بسياج من الحصار، واتهمت زوراً وبهتاناً بالإرهاب، وإذا قدر لهذا الحصار الظالم أن ينجح فستكون الكارثة بأهل الأرض فادحةً ، كم ستكون الصدمة؟ وأيُّ شقاء سيحل بالبشرية إذا حيل بينها وبين هذا الخير؟ والعالمون وغيرُ العالمين يدركون كم هي بعيدةٌ هذه الأعمال الإغاثية عن الإرهاب المزعوم ؟!
وهُنا يُقال: كم تُصدم البشرية البعيدة عن هدي القرآن بمخرجات هذه الحضارة النكدة التي لم يقتصر نكدُها على شعوبها ، بل تحاول أن يكون النكد سمةً لهذا الكون؟ وخاصة لأهل الإسلام .
إن على المسلمين ألا يستجيبوا لهذه الصيحات المُرجفة ، ولا يستسلموا للدعاوى الخاطئة الكاذبة ، وألا يقعوا ضحية للإعلام المزيف ، والتي أوجدت فتنةً دجالية تشبه إلى حد ما فتنة الدجال الأكبر ـ كما يقال ـ .
أجل إن الحكم على هذه المؤسسات الخيرية الإسلامية واتهامها بالإرهاب ظلمٌ بيِّن ، فليس في قاموسها ولا عندها وقتُ له ، إن الذين يشتغلون بتلبية الحاجات الأساسية للناس في إشباع بطونهم، وتقديم دوائهم، وتوفير غطائهم، وإزاحة ركام الأسى والألم من طريقهم، هؤلاء لديهم من الطهارة وسلامة المقصد ونزاهة الهدف وشرف تحمل الأعباء وطلب الأجر ما يسموا بهم عن الإرهاب ، تلك البضاعة المزجاة التي صُدرت للمسلمين ثُم اتهموا بها .(62/378)
معاشر المسلمين، إن علينا أن ندرك المخطط والهدف من الاتهام، فأعداؤنا يغيضهم أن يتقدم الإسلام بمدِّه الحضاري ، وأن يفتح قلوب الناس عبر عدة وسائل في الدعوة والإغاثة ، وحين أحسوا بالمنافسة ، ورأوا الناتج للداخلين في الإسلام لم يكن لديهم من وسيلة إلا أن يطعنوا بهذه الأعمال الخيرية بُغية الحدِّ منها ، وكان (الإرهاب) هو الدعوى المقدمة والمدخل الواسع للاتهام والإسقاط ، وقد صدر مؤخراً كتابٌ قيمٌ يعالجُ هذه التهمة بأسلوب علمي ، ويعرض بلغة الأرقام ما يكشف عن إرهاب القوم الحقيقي، والكتاب بعنوان (القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب) لمؤلفه د.محمد بن عبدالله السلومي ، وهو من إصدارات مجلة البيان ، والكتاب جديرٌ بالقراءة والتأمل للعلماء والدعاة ورجال المال والأعمال والعاملين في المؤسسات الخيرية الإسلامية وسواهم .
وزان الكتاب مقدمة لمعالي الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشيخ صالح الحصين ، والذي شخّص في مقدمته أهداف الغرب في هذه الهجمة على (الجهاد) والمؤسسات الخيرية والقيم والمبادئ الإسلامية، فقال : قبل سنوات عُني أحد الباحثين بوضع فرضية أدخلها في حاسوبه الشخصي وظلَّ يرصد الأحداث وتصريحات السياسيين التي لها صلة بهذه الفرضية ، وكان يُدهش كيف أن الوقائع ظلت تؤيد فرضيته ، لقد بنى هذه الفرضية بشكل هرم كُتب على ثلثه الأعلى الجهاد وعلى ثلثه الأوسط المؤسسات الخيرية والمؤسسات المالية ، وعلى قاعدته القيمُ والمبادئ ، وقد افترض أن الغارة على الإسلام ـ في صراع الحضارات ـ سوف يكون هدفها الأول الجهاد ، وهدفها الأخير القيم والمبادئ مروراً بالمؤسسات الخيرية والمالية (مقدمة كتاب القطاع الخيري ص7) .
أما مؤلف الكتاب فيعرض في مقدمة الكتاب لعمق هذه الظاهرة المُتهمة للأعمال الخيرية الإسلامية ، وأبعادها والتخطيط لها فيقول : لقد وُلدت مشوهةً بإسقاط مبكرٍ ، ورغم ذلك كانت قضية عملاقةً تزداد يوماً بعد يوم وسنةً بعد سنة حتى تأكد أنها معركةٌ طويلة الأجل ، وأنها انطلقت من استراتيجيات وليست من طوارئ أو ردود فعلٍ لأزمات طارئة ، بل إنها كانت مسبوقة بتخطيط ومتبوعة بقوةِ تنفيذ ، وقد تعمدتُ التكرار في إبراز القوة الدينية والأصولية الأمريكية والأدوار والأقوال المتطرفة لرجال الدين النصارى ، كما أبرزت نمو وتكاثر المناهج والمدارس والجامعات الدينية في أمريكا، وذلك في مواضع كثيرة من الكتاب لأهميتها في كشف حقيقة الحملة ودوافعها وأهدافها (المقدمة ص14، 15) ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" (التوبة/ 32-33) .
أيها الإخوة المؤمنون القطاع الخيري رئة يتنفس بها الخيرون وأصحاب الأموال والمناشط الخيريةُ دوحة غناء يستظل بظلها المحتاجون والفقراء، ومن أعظم جرائم العصر أن توأد هذه النبتةُ المباركة ، أو تجف منابعها ، ومن أبرز معالم الشقوة أن يقف الملأ لهذا النهر الجاري بالمرصاد ، ومن المُذل المخزي أن يستجيب الراشدون وأهلُ الإسلام لهذه الممارسات المستفزة فيُصدِّقوا التهمة بالإرهاب ، ويتواروا خجلاً بأعطياتهم ومساعداتهم للمؤسسات الإسلامية والهيئات الإغاثية ، أو يتحسسوا من متابعة حساباتهم أو كشف أرصدتهم وحوالاتهم ، وهل في عرف دين أو حضارة أو قيم أو مبادئ عالية أن يُمنع عطاءُ فقير أو علاجُ مريض أو تنفيسُ مكروب أو نحوها من أعمال الخير ؟
بل على المسلمين كافة والموسرين منهم خاصة أن يدركوا حجم الإعانات والمساعدات وأعدادَ الهيئات والمنظمات الغربية التي تقوم بدورها بكل صراحة وراحة، وعليهم أن يعلموا أن عدداً من هذه المنظمات والهيئات الإغاثية تُمارس الإرهاب بشكلٍ أو بآخر ، وتلقى من الدعم الرسمي والشعبي ما يفوق الخيال ، وإليكم شيئاً من البيان عن منظمات القوم وهيئاتهم وإرهابهم ؟
كشف تقرير بريطاني معلومات مهمةً وخطيرة عن مراكز تدريب في أمريكا تخرج إرهابيين متخصصين نفذوا عشرات العمليات التي فاقت ضحاياها في العدد والوحشية ضحايا عمليات 11 سبتمبر ، وتفجيرات السفارتين الأمريكيتين في أفريقيا دون أن يتحدث عنها أحد!!
وجاء في تقرير نشرته صحيفة (الجارديان البريطانية) الحديث عن مركز لتدريب الإرهاب، وتعجب الكاتب من وجود هذه المراكز في أرض الدولة التي تدَّعي محاربة الإرهاب ، بينما هي ترعاه وتموله (القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب/150).
أما المنظمات (غير الربحية) فقد تشكل في أمريكا ما يزيد عن مليون ونصف المليون جمعية ومنظمة كلُّها مُعفاة من الضرائب ، بل لها حقُّ الحصول على نسبة كبيرة من الضرائب المستحقة على الشركات والأفراد والمنشآت (السابق/439) .
بل تشير لغة الأرقامِ المُقارنة أن المنظمات الخيرية في كل أقطار العالم العربي لا يتجاوز مجموع المنظمات الخيرية في ولايتين فقط من الولايات المتحدة الأمريكية (السابق/441) .(62/379)
إخوة الإسلام، أما عن الدعم المقدم لهذه الجمعيات الأمريكية من الأفراد فقد بلغ تبرعُ أكبر ثلاثة متبرعين في أمريكا في عام من الأعوام أكثر من إحدى عشر مليار دولار حسب إحصائية كتاب (عطاء أمريكا 144) (السابق/449) .
وثمة دعمٌ آخر أهمُّ مما سبق ـ إنه المؤسسات الوقفية ـ وهذه تقوم بدعم المؤسسات والمنظمات وجمعيات القطاع غير الربحي ، وهذه المؤسسات الوقفية يزيد رأس مالها على سبعة وسبعين مليار دولار (السابق/448) .
إنها أرقام وإحصاءات خيالية ومخيفة، ومع أن القوم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله وستكون عليهم حسرة . . إلا أنهم شرقوا بمؤسساتنا وهيئاتنا الخيرية، وهي رقمٌ صغير إلى جانب أرقامهم ، وما زالوا ولن يزالوا يترصدون لها، ولئن كان أمراً طبيعياً وقوفهم لمناشطنا ومحاولاتهم وقف مدِّ إسلامنا ، وإطفاء نور الإسلام كما أخبرنا الله عنهم " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمُّ نوره ولو كره الكافرون " .
فليس طبيعياً أن نستجيب لهم ، وأن نصدق تهمهم ، بل علينا أن نكاثرهم وننافسهم في عمل الخير ، ولئن كنا نألم ويألمون فنحن نرجوا من الله ما لا يرجون ، ولئن كانت نتيجة نفقتِهم حسرة وندامة ، فنحن عاقبةُ أمرنا في النفقة خلفٌ ونماءٌ وبركة وسعادة ، وبعدٌ عن الخوف والحزن ، فلا خوف على المنفقين المؤمنين ولا هم يحزنون .
أيها الإخوة المسلمون : وهنا يبرز سؤال مهم ، بل عدة أسئلة تقول : محاصرة القطاع الخيري لماذا؟ ولمصلحة من؟ وما المخرج؟ وما النداء الموجه للمسلمين عامة والموسرين والعاملين بالقطاع الخيري خاصة .
وإلى أن أجيب عن هذه الأسئلة في خطبةٍ قادمة ـ بمشيئة الله ـ أختم حديث اليوم بالقول : والعجبُ لا ينتهي والدعم للعمل الخيري الغربي لا يقف عند حدِّ دعم كبار الأثرياء ، ولا عند دعم المؤسسات الوقفية الغربية ذات الأرصدة الضخمة ، بل يصل في قمته إلى دعم الرئيس الأمريكي ومؤازرته ، وفي كلمة (بوش) التي انتظرها العالمُ في الذكرى الأولى لأحداث الحادي عشر من سبتمبر ركّز في كلمته وبشكل لافتٍ للنظر على أهمية العمل الخيري الأمريكي ـ في الوقت الذي تعلن فيه الحربُ على المؤسسات الخيرية الإسلامية ـ ومما قاله ـ في هذا الصدد ـ وقد سألني عدد لا يحصى من جميع أنحاء البلاد، كيف يمكنني أن أساعد في الحرب على الإرهاب؟ والجواب (كما يقول بوش)، هو : "تغلبوا على الشرِّ بأعمال الخير ، أحبوا جاراً ، تواصلوا مع شخص يُعاني من حاجة ، أطعموا جائعاً ، علموا طفلاً القراءة ، أو شاركوا في الجهود المحلية للتأهب لحالات الطوارئ" (القطاع الخيري/518) .
هكذا إخوة الإسلام ينادي الغرب بأعمال الخير ، وتستحثُّ الساسةُ شعوبهم للمساهمة ، ولئن كان هذا من حقهم ، أليس هذا تناقضاً صارخاً؟ أليس استغفالاً للمسلمين، بل وقهراً لكرامتهم، واعتداءً على قيمهم وإسلامهم حين يمارس الغربُ الضغط على مؤسساتهم ويحاصرون إنفاقهم؟ وصدق الشاعر حين قال :
بلادُ المسلمين بلاد خيرٍ *** به شهد المؤيِّد والمُشيح
ألا يا من يُعكِّر ما وردْنا *** خسِرت منبعُ أمتنا طفوح
هو الإسلام غوثٌ للناس يسمو *** به عقلٌ وتسعد فيه روح
رويدك لو خضعنا للدعاوى *** لما فتحت أمتنا الفتوح
ولا سمحت بدين الله (صينٌ) *** ولا شفيت بمنهجه الجروح
(د. العشماوي ، انظر : القطاع الخيري/583)
حصار القطاع الخيري . . لماذا ؟ وكيف المخرج ؟
إخوة الإسلام : هذا الحديث مُتممٌ لحديثٍ قبله عن القطاع الخيري ومحاصرته ، وإجابةٌ على تساؤلات : محاصرة القطاع الخيري لماذا؟ ولمصلحة مَنْ؟ وما المخرج؟.
وهو حديثٌ عن الدوافع والأهداف ، وكشفٌ للحقائق بلغةِ الأرقام ، وبيان للمخرج من الحصار ، ونداءٌ للمسلمين عامة ، وللموسرين والعاملين في القطاع الخيري خاصة .
وفي البداية لا بد من التأكيد على هويّة المحاصرين للعمل الخيري وقطاعاته المختلفة ، فمن هؤلاء ؟ .
إنهم : السائحون على الكوارث ، الراقصون على الأزمات ، هم المتطرفون ، الأصوليون الإنجيليون ، والواقعون تحت قبضة الصهاينة المفسدين أصحاب المطامع الشخصية ، عبءُ البشرية ومصدرُ قلاقلها ونكدِها ، والمفاخرون بتدمير العالم وتحجيم فرص الخير لمصالحهم الخاصة .
إن تطاول هؤلاء الأعداء على القطاع الخيري هو جزءٌ من حملةٍ مسعورة هدفها في النهاية القضاء على الإسلام ، وتدميرٌ إمكانات المسلمين . . ومن تصريحات القوم وكلماتهم هُوجم الإسلام ، والقرآن ، والرسولل عليه الصلاة والسلام ودونكم البيان، فقد قال القِس ( فرانكلين جراهام ) في مناسبة حفلِ تنصيب الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش : " إن الإسلام دينٌ شرير سيءٌ جداً " ، وهو الذي قال : " إن الإرهاب جزءٌ لا يتجزأ من تعاليم الإسلام " ( القطاع الخيري : 503 ) .
وقال منظر صراع الحضارات ( صموئيل هنتنجتون ): " إن المشكلة الفعلية ليست الأصولية الإسلامية ، إنه الإسلام نفسُه بحضارته المختلفة ، وبأتباعه الذين يعتقدون بتفوق حضارتهم في نفس الوقت الذي نراهم مهووسين فيه بتخلف قوتهم" (السابق : 510) .(62/380)
وقال ( جيري فالويل ) في برنامجه التلفزيوني أمام العالم كلِّه : " إن الرسولمحمدا صلى الله عليه وسلم إرهابي " (السابق : 514 ونسبها إلى مصادرها ) .
ونحن لا نحتاج إلى مزيد نقولٍ لنؤكد حقدَ وعداوة القومِ للإسلام والمسلمين والله يقول عنهم (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (الممتحنة:2) ويقول : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) (النساء: من الآية89) ، ولكنا نذكر ذلك لنرفع اللثام عن الدعوى المُغرضة بمحاربة الإرهاب ومطاردة الأصولية ، فالأمر أبعدُ من هذا وأعمق ، وإنما جُعل (الإرهابُ) قِناعاً خادعاً أمام البسطاء، واستطاع الغربُ وأذنابُهم بحملةٍ ظالمة مُظلة تمريرَ مشاريعهم المُفسدة ، وتبرير حروبهم المدمرة ، وتجفيف المنابع الإسلامية . . وكلُّ ذلك باسم (الحملة على الإرهاب) هذا ( القميص المُفترى ) والذي فُصِّل ونُسج في بلاد الغرب ، وأُلبسه المسلمون زوراً وبهتاناً ، وما أكلَ الذئبُ يوسف عليه السلام ، وما صدَّق يعقوبُ عليه السلام الفِرية بمجرد قطرات دمٍ كاذبةٍ نُثرت على قميص الغلام ؟ ! .
إنها (دعوى الإرهاب) فريةٌ أبى الله إلا أن يكشفها وستنكشف أكثر مع مرور الزمن . . لكن وماذا ينفع النائمين إذا استيقظوا على مكرِ الأعداء وهم يجوسون خلال الديار ، وأيُّ خسارة إذا تنبه الغافلون وقد سرق اللصوص نفائس الكرماء ؟ .
لا بد أن ندرك أن (الإرهاب) في مصطلح الغرب (يعني عداوة أمريكا) فكل من حارب أو عادى أمريكا فهو (إرهابي) .
ولا بد أن ندرك كذلك أن من أهداف الغرب الاستراتيجيةِ ضرب العمل الإسلامي باسم (محاربة الإرهاب) وما محاصرة القطاع الخيري إلا أسلوب من أساليب تطويق العمل الإسلامي .
ومن أهداف الغرب محاصرة التعليم الديني ، والتدخل في تغيير المناهج الدراسية في بلاد المسلمين ، فثمة مطالب أمريكية بإلغاء مناهج التعليم الديني في الوطن العربي، بل ثمة أبحاث وباحثون متخصصون في دراسة الشرق الأوسط أوصوا بضرورة إلغاء التعليم الديني في المنطقة العربية . . (القطاع الخيري : ص236) .
وفي هذا السياق طالب رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي السيناتور (جوزيف بيدن) بإبلاغ (السعودية) بضرورة التوقف عن دعم المدارس الدينية التابعة لها (السابق : 237) ، وحينها انتقد وزير الداخلية هذه التصريحات كما نشرت صحيفة عكاظ (السابق : 237) ، فإن لم يحصل الإلغاء فعلى الأقل تشويه هذه المناهج ، وتفريغها من محتواها وطمس معالم الجهاد ، والولاء والبراء ونسخ عداوة الكفار المؤصلة في المناهج . . إلى غير ذلك من قيم إسلامية لا تُرضي الغرب.
ومن أهداف حملة الإرهاب (المزعومة) إضعافُ ومحاصرة القضية الفلسطينية ، وذلك من أجل ضمان أمن ورفاهية إسرائيل ، وفي أمريكا تم إغلاق أكبر المؤسسات الإسلامية الداعمة لفلسطين ، ثم تبع ذلك إقفالٌ لمؤسسات مماثلة في أوربا ، ثم تطور الغرب في محاصرته للمقاومة الإسلامية في فلسطين حين أعلنت (واشنطون) أن حركتي (حماس) (والجهاد) منظمتان إرهابيتان ، وبالتالي جمّدت أموالهما ، واستباحت دماء أعضائهما على الأقل من وجهة النظر الإسرائيلية ، بل ضغطت (أمريكا) على دول الاتحاد الأوربي لتبني موقفها من المقاومة الإسلامية وقد كان . . ومن هنا جاز لبعض المتابعين أن يربطوا بين حصار القطاع الخيري ، وحصار المقاومة .
والهدف : هو خنقُ الانتفاضة والقضاء على المقاومة المشروعة ، وتأمين إسرائيل (د. السلومي : القطاع الخيري: 286 ، 291) . أما (اليهود) في فلسطين فمع إرهابهم وتطرفهم فالغرب يدعمهم مادياً ومعنوياً، وهم في نظرهم يدافعون عن أنفسهم، وتلك آفة من آفات الكيل بأكثر من ميزان؟
أيها المسلمون أهدافٌ كثيرة ودوافعُ متعددة يمكن أن تُحصى وتُعلم من مُخططات القوم وتصريحاتهم ولكنها في النهاية تصُب في محاربة الإسلام الحق ، ومحاصرة المسلمين .
ولذا ينبغي أن يُعلم أن الإرهاب في نظر الغرب يعني (عداوة أمريكا ، والتعرض لشيء من أهدافها) وأن (الإرهابيين) في نظر الغرب (هم الرافضون لسياسات أمريكا الكارهون لمبادئها) .
وإذا عرفنا هذا وأدركناه استطعنا أن نفهم السرَّ في محاصرة الدعوة الإسلامية والقطاع الخيري ، فهي وسيلةٌ لتجفيف المنابع في ظنهم ، وهو أسلوب من أساليب الحصار الاقتصادي ، سبقهم إليه كفارُ قريش في حصار المسلمين ودعوتهم بمكة في شعب أبي طالب ، وكما خرج المسلمون حينها منتصرين كذلك ينبغي أن يخرج المسلمون اليوم، وهذا يستدعي إيماناً وصبراً وتفكيراً وتخطيطاً حاضراً ومستقبلاً ، فمكرُ أولئك يبور ، وكيد الشيطان ضعيف ، ويأبى اللهُ إلا أن يتمَّ نوره ، والعاقبةُ للتقوى والمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين .(62/381)
إن (تقوى الله) من أعظم المخارج لهذه الأزمة كيف لا ؟! واللهُ يحكمُ ولا معقب لحكمه ويقول : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (الطلاق: من الآية2) ، والتقوى فرقان بين الحق والباطل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً) (الأنفال: من الآية29).
ومن مخارج الأزمة التخطيطُ والعمل الدؤوب والتفكيرُ المستمر في الآليات والأساليب ، وفقهُ الواقع ومعرفة المداخل والمخارج وعدم إتاحة الفرصة للمتربصين لاختراق هذه الجمعيات والمؤسسات الإسلامية ، أو الفصل بينها وبين حكومات بلادها ، ومن ثم محاربتُها من الداخل ، فالأعداء قديماً وحديثاً بارعون في سياسة (فرِّق تسد) .
ومن المخارج تطويرُ العمل الخيري ، والتفكير في وجود مؤسسات وقفية داعمة له ، وتطوير مخرجاته من كونه أو بعضه مجرد عطاء استهلاكي إلى كونه عطاءً إنتاجياً، يُعلم الفقير كيف يستثمر وقته وينفع نفسه وأمتَه.
ولا بد مع هذا من تنسيق وتشاور وتكامل بين المؤسسات في تطوير الأداء ووضع استراتيجيات بعيدة المدى لمواجهة الهجمات التي تُشن على الإسلام ومؤسساته ولا بد كذلك من ترويج العمل التطوعي الشعبي ، وذلك من خلال تشجيع إنشاء جمعيات تطوعية متخصصة في جميع أوجه العمل الخيري ، وإذا ركّز أعداؤنا على (عولمة فكرهم) فنحن أولى (بالعالمية) منهم .
ولا بد من التفكير والعمل على وجود مشاريع استثمارية في البلاد الفقيرة يكون ريعها للدعوة والإغاثة في هذه البلاد ، ويُقطع الطريق على محاصرة الحوالات للخارج .
وأخيراً يحتاج القطاع الخيري إلى وسائل إعلام تعمم فكرته وتُدافع عنه، وتكشف الأنشطة المعادية له .
الحمد لله وحده نصر عبده وأعزَّ جنده وهزم الأحزاب وحده .
إخوة الإسلام ومرةً أخرى ، وثالثة : محاصرةُ القطاع الخيري لماذا؟ ولمصلحة مَنْ؟ .
إنه استخفاف بشرائع السماء ، واعتداءٌ على قيم أهل الأرض إلا من نُكست فطرته وخَبُثت طويتُه ، ومرّغ في الوحل قيمه ومبادئَه ، هو اعتداءٌ صارخ على دعوة القرآن للبر والإحسان ، بل تسفيه لدعوات الأنبياء ـ عليهم السلام ـ الناهية عن الظلم والعدوان . .
محاصرة القطاع الخيري مؤشر إلى فساد الأرض ، وتعميق الجهل وزيادة حجم الكوارث ، وارتفاع أصوات البكاء والعويل .
إن ثمة حقيقةً لا بد أن تُدرك وهي : أن الطغاة والمفسدين في الأرض يشعلون الحرائق هنا وهناك ، ونحن ـ معاشر المسلمين ـ نطفئ ما استطعنا من هذه الحرائق وغيرنا يوسعون دائرة الكوارث في كل حين ، ونحن نجتهد في تخفيف معاناةِ المتضررين منها . . أليس ذلك جرمٌ يَشهد على عُنف هذه الحضارة وويلاتها على البشرية، والجرمُ يتضاعف إذا مُنع إطفاء الحريق ، وصدر القرار الأرعن باتهام من يحدُّ من الكوارث ويُنقذ المصابين ؟ .
وهنا تُوجه رسالةٌ إلى عقلاء ومفكري القوم مفادها أن ما يمارسه صنَّاع القرار في بلادهم سببٌ لتدمير حضارتهم هم قبل تدمير الآخرين ، وهو موجبٌ لكره العالم لهم ، وحين لم يغب عنا وجود ( 1.500.000) منظمة غير حكومية في بلادكم
و(90) مليون متطوع و(80) مليون أصولي جديد (المسيحيون المولودون من جديد ، (32000) مؤسسة وقفية (القطاع الخيري ص554) فماذا صنعنا نحن المسلمين لمحاربتها أو محاصرتها ؟ .
أما النداءُ الموجه للمسلمين عامة فهو إدراك طبيعة المعركة ومساحة الحصار ، وتعانقِ عدوان اليهود والنصارى للمسلمين ، وعلى كلِّ واحدٍ من المسلمين أن يُشمِّر عن ساعدِ الجدِّ ، وألا يشتغل بالقول : ماذا صنع المسلمون لمواجهة هذا الحصار ؟ بل ينبغي أن يكون الشعار والسؤال المطروح [ ماذا صنعت للدعوة وللإسلام، وما حجم مساهمتي في الدفاع عن قضايا المسلمين ] وعلى كل مسلم أن يستشعر أنه إنما يُقدم لنفسه ، فالله غنيٌ عنا ، وهو قادرٌ وحده على إهلاك الظالمين ، وإتمام نور الإسلام ، ولكن ليبلوا بعضكم ببعض، وأن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم .
أجل إن الله أغيرُ لدينهِ وحرماتهِ منا ولكن (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (آل عمران: من الآية179).
وثمة رسالةٌ توجه للجنود المجهولين العاملين في القطاع الخيري ملؤها الإعزاز والإكبار لمجهوداتكم ، فكم سهرتم والناسُ نيام ، وكم سافرتم وتحملتم المخاطر ، وغيركم آمنون مقيمون بين أهليهم وأبنائهم . . تحيةً لكم حين تخططون ، وتحية لكم حين تنفذون ، وما أشدّ فرحتكم حين يدعم الآخرون مشاريعكم وكأن كلَّ درهم هديةٌ لكم ، مع أنه يحملكم مزيداً من المسؤولية والعناء .(62/382)
وهمسةٌ في آذانكم تقول : اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله ، ومعها أخرى تقول : وإلى مزيد من التفكير والتخطيط المستقبلي ، والتحدي في قدرتكم على فتح آفاق جديدة للعمل الخيري ، وعلى تجييش الناس للعمل ودعم القطاعات الخيرية ، وإياكم أن يستفزكم الذين لا يوقنون ، أو يُوهن من عزيمتكم المثبطون والشانئون والمرجفون حتى وإن كانوا من أبناءِ جلدتكم ومن أقرب الناس إليكم واسمعوا لنصح الناصحين المخلصين، ففرقٌ بين هؤلاء وبين الشائنين والمرجفين.
أيها المسلمون جميعاً ولا يسوغ لنا بحال أن نعطل السنة النبوية في الجمع في المساجد للمحتاجين وإغاثة الملهوفين ، ورسول ا صلى الله عليه وسلم ما زال يحث المسلمين ويستصرخهم لسدِّ حاجة ( وفد مُضر ) حتى جمع لهم من المال والمتاع ما أذهب البؤس عنهم وغيّر حالهم وسدَّ حاجتهم ، ولكم في رسول الله أسوة حسنة .
وعلى العلماء وطلبة العلم والدعاة والأئمة والخطباء والمعلمين والموظفين أن يقوموا بدورهم بجمع التبرعات، وأن يكونوا واسطة خير بين أصحاب المال والعاملين في القطاع الخيري، فالدالُّ على الخير كفاعله.
أيها الموسرون من المسلمين ، المال نعمة وزينة وهو امتحان وفتنة وفي أموالكم حق معلوم للسائل والمحروم ، وتغبطون إن كنتم ممن قال الله عنهم : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) (الإنسان:8-12).
يا معاشر الأغنياء صائح السماء ينادي : " اللهم أعطِ منفقاً خلفاً وأعطِ ممسكاً تلفاً " وصارخ الأرض يصيح : من يغيث الملهوف ، من يداوي الجراح ، من يحي الموتى بالعلم والإيمان . . وهنيئاً لأموالكم إن لبت دعوة المنادي.
هل سمعتم بإنفاق الأثرياء من غير المسلمين وأحدهم (موناهن) الأمريكي تبرع بكل ثروته لصالح (الكاثوليك) وصاحب مؤسسة (بل غينس) أوقف أكثر من (24) مليار دولار عام 2000 لجمعياتهم الخيرية (القطاع الخيري/577) .
أيكون هؤلاء أسبق إلى الخير منكم ، وأفقه بحاجة المحتاجين من فقرائكم ؟ هل هم أكثر منكم أجراً أم أهدى سبيلاً ؟ كلا ثم كلا ، إذن فليكن في صدقاتكم وزكواتكم ردءٌ للإسلام ونصرة للمظلومين من المسلمين.
معاشر الأغنياء : لا داعي للقلق والخوف الوهمي في النفقة ، فالشيطان يعدكم الفقر والله يعدكم مغفرةً منه وفضلاً .
إن ما تنفقون حجابٌ لأموالكم من الهلكة ، ولجلودكم من النار ، وعلاج لأنفسكم من البخل والشح ، هل غاب عنكم أن من تدعمون يمثلون خطَّ الدفاع الأول عنكم وعن إسلامكم ، وأن الجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس في القرآن الكريم ، وفي السنة : " من جهز غازياً فقد غزا " ومن يبخل فإنما يبخل على نفسه ، والله الغني وأنتم الفقراء ، وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم .
معاشر المسلمين : تصوروا ضخامة الكارثة وشدة الحاجة على لسان الشاعر الفحل حين يقول :
هنالك في العراء ترى نساءً *** وأطفالاً ونائحة تنوح
تُحدِّث عن بيوتهم الشظايا *** ويروي قصة الظلم النُّزوح
ألوفٌ في أتون الحرب تشوى *** كأن الأرض تحتهم صفيح
إذا هربوا تلقتهم صقيع *** وإن لم يهربوا حُفِر الضريح
أتنسبُنا إلى الإرهاب زوراً *** وفي عينيك إرهابٌ صريح
نُغيث من اعتديت عليه ظلماً *** ومن تقسوا عليه وتستبيح
أفعلُ الخير إرهابٌ لماذا ؟ *** وقد نادى إلى الخير المسيح
رويدك لو خضعنا للدَّعاوى *** لما فُتحت لأمتنا الفتوح
ولا سَمِعت بدين الله صينٌ *** ولا شُفيت بمنهجه الجروح
بلاد المسلمين بلادُ خيرٍ *** به شهد المؤيِّد والمُشيح
ألا يا من يُعكِّر ما وردنا *** خسِرت فنبع أمتنا طفوح
هو الإسلام غوثُ الناس يسمو *** به عقلٌ وتسعدُ فيه روح
[من قصيدة للدكتور/عبدالرحمن العشماوي (القطاع الخيري/581-583) ].
المصدر موقع المسلم
=============(62/383)
(62/384)
هكذا كنا ..... هكذا أصبحنا
د. نهى قاطرجي
إذا كانت قراءة تاريخ الأمم والشعوب مفيدة من أجل الاطلاع على أخبارهم وأخذ العبر منها، على اعتبار المثل المعروف "التاريخ يعيد نفسه"، فإن قراءة التاريخ الإسلامي تفيد في استرجاع أسباب القوة المطلوبة لقيادة العالم من جديد، وهذا يتطلب كما هو معروف امتلاك الشروط الموضوعية التي وضعها الله عز وجل في اطار سنن ونواميس ثابتة لا تتغير .
ومما يؤكد على أن الإسلام هو المؤهل لهذه المهمة أمران: الأول صراع الحضارات التي ركّزت عليه الدول الغربية مدركة من خلاله أن الإسلام بما يمثله من تكامل ورقي هو العدو الوحيد لها، والثاني الفساد والعدوان على الناس وعلى الأموال والأعراض التي انتهجته تلك الدول مطبقة بذلك لسُنة الأفول التي جعلها الله عقاباً للمخالفين ، قال تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا" .
هذا وقد أكّد كثير من المفكرين القدامى والمحدثين على حقيقة هذه السنن، فقال ابن خلدون في هذا المجال: "العدوان على الناس في أموالهم وحَرُمِهِم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم ... يفضي إلى الخلل والفساد دفعة واحدة وتنتقض الدولة سريعاً بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتفاض" .
وقال المفكر الغربي "برتراند رسل" : إن بقاء السيادة إلى الأبد ليس قانوناً من قوانين الطبيعة واعتقد أن الرجل الأبيض لن يلقى أياماً رضية كتلك التي لقيها خلال أربعة قرون .
من هنا فإن إجراء مقارنة بسيطة بين ماضي المسلمين وحاضرهم أمر ضروري من أجل ادراك سنن الله عز وجل في النصر، والخلاص من الثقافة الانهزامية التي تتهم الإسلام بالنقص والتخلف، بينما الحقيقة كما قال المفكر "محمد أسد" أن الإسلام كان وسيبقى كاملاً بنفسه، إلا أن ما نحتاج إليه فعلاً، "هو إصلاح موقفنا من الدين، لمعالجة كسلنا وغرورنا وقصر نظرنا وبكلمة واحدة، معالجة مساوئنا نحن لا المساوئ المزعومة في الإسلام، ولكي نصل إلى احياء أسلامي فإننا لا نحتاج إلى أن نبحث عن مبادئ جديدة في السلوك نأتي بها من الخارج، إننا نحتاج فقط إلى أن نرجع إلى تلك المبادئ القديمة المهجورة فنطبقها من جديد" .
ومن الاختلافات التي يمكن تسجيلها بين مسلمو اليوم ومسلمو الأمس ما يلي :
1- التمسك بالوحي الإلهي: الذي عنى به المسلمون الأوائل كل ما جاء به الرسو صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي، إن كان ما ورد في القرآن الكريم أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، والتي بذل المسلمون من أجل حفظها من التحريف والتدليس الغالي والرخيص من المال والوقت والجهد، وأوجدوا لأجلها العلوم الشرعية مثل علم مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل، كل هذا تطبيقاً لشرع الله عز وجل الذي أورد في محكم تنزيله : " ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ".
وهذه الوحدة في مصادر الشريعة لم تعجب بعض المستغربين من أبناء المسلمين اليوم الذين دعوا إلى الفصل بين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فتقبلوا الأول على أن يتعاملوا مع نصوصه معاملة تاريخية، ورفضوا الآخر بحجة ضعف الأحاديث والتشكيك بالرجال، يقول "جمال البنا" في هذا المجال: إن النهوض بالإسلام يكون بالعودة "إلى القرآن الكريم مباشرة، دون تقيّد بتفسيرات المفسِّرين، وضبط السُنة بمعايير من القرآن إذ ثبت أن السند لا يمكن أن يكون معياراً لأنه جزء من عملية الوضع التى فشت فى الحديث فلم يبق إلا الاحتكام إلى القرآن. ولما كانت السُنة مبينة للقرآن، فمن البديهى أنها تلتزم
بالقرآن. وأخيراً عدم الالتزام بالأحكام الفقهية التى وضعها أئمة المذاهب الأربعة أو غيرهم" .
من هنا كانت الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد الذي أرادوا من وراءه إعادة قراءة النصوص القرآنية قراءة جديدة بعيدة عن أدوات الاجتهاد وهي العلم بالكتاب والسنة واللغة العربية والإجماع الذي يمثل هوية الإسلام والمقاصد الشرعية من حفظ للنفس والعقل والدين والعرض والمال .
وكان من أهم الاجتهادات المعاصرة التي خرجوا بها: إشاعة الفكر العلماني الذي لا يتعارض مع الدين ،بزعمهم، بل يتعارض مع تسييس الدين، لأن الإسلام لم يرد للأنبياء أن يكونوا ملوكاً أو مؤسسي دول وإنما أرادوهم دعاة، دورهم التبليغ ، وجردهم من كل سلطة .
وكان منها أيضاً اعطاء المرأة حريتها المزعومة، ومنع التعدد الزوجات، ورفض الحجاب، وإباحة الربا، ووقف عقوبات الجلد والصلب وقطع الأيدين .
2- الاعتزاز بالتاريخ القيادي: الذي يشهد على تفوق المسلمين عسكرياً، ويشهد على ذلك انتصاراتهم وفتوحاتهم التي وصلت إلى الحدود الفرنسية، وكان من أبرز هذه الانتصارات، انتصارهم على البريطانيين في الشام وعلى القوط النصارى في الأندلس، وعلى الصليبيين في فلسطين والتي انتهت باستعادة الأقصى على يد صلاح الدين .(62/385)
أما اليوم فلقد كان من نتائج اتفاق الأمم كلها على تقسيم التركة العثمانية وتفتيت المسلمين إلى دويلات صغيرة مستعمرة، أن نسي المسلمون تاريخهم ورجالهم، وافتخروا بدور المستعمرين وبطولاتهم، حتى أن أحدهم أشاد بالمستعمر الفرنسي "نابليون" لمصر والحملة الفرنسية عليها التي أيقظتها وجعلتها ترى نفسها في مرآة الغرب .
وكان من نتائجه أيضاً وجود جيل من المسلمين المشككين بصلاحية الإسلام للحكم، فاعتبر أحدهم أن "صلاحية الغرب للحكم والقيادة، وتوجيه ركب الحضارة حقيقة لا ينبغي أن نكابر فيها، أو نتجاهلها، وأن انتصار الغرب على الشرق حكم القدر، وناموس الكون، وتدرج التاريخ، لا فائدة من مواجهته ومقاومته،أو مقارعته بالحجة والبرهان ، أو بالسيف والسنان، ولا بد لنا من الخضوع أمامه وقبوله على علاته، إذا كان له علات " .
كما نصح الآخر بعدم مقاومة الاستعمار الأمريكي، ووصف هذه المقاومة بأفضل وصفة للانتحار الجماعي وغير ذلك من الطروحات الانهزامية .
3- بناء الحضارة الإسلامية: التي قدّمت للمجتمع البشري المآثر والانجازات والعلوم، وهذا باعتراف كثير من المفكرين والعلماء الغربيين المنصفين أمثال المستشرقة "زنعريد هونكه" التي ألّفت كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب"، و"جوستاف لوبون" مؤلف كتاب "حضارة العرب" و"ول ديورت" مؤلف "قصة الحضارة" الذي قال: "إن "روجر بيكون" و"وينلو"
وغيرهما من الأوروبيين بعد ثلاثماية عام يعتمدون بحوث ابن الهيثم لاختراع المجهر المراقب"، وقال أيضاً:"وأكبر ظننا أننا لولا ابن الهيثم لما سمع الناس قط بروجر بيكون" .
هذه الحضارة العريقة التي حاول الأوروبيون طمسها وسرقوا منها مئات الكتب العلمية العربية من العصور الوسطى بعد ترجمتها إلى لغاتهم، ونسبوها إلى علمائهم أو المترجمين منهم، كشف حقيقتها" الدكتور فؤاد سزكين خبير التراث العربي والإسلامي المعروف عن أكثر من مئة سرقة كتاب علمي عربي مهم وأرجعها إلى المؤلفين الحقيقيين من المسلمين".
وفي العودة للأسباب التي ساهمت في نجاح المسلمين قديماً في بناء الحضارة الإسلامية نجدها في كونهم ربطوها بالعقيدة الإسلامية، فإذا دققنا النظر وتعمقنا في دراسة هذه الحضارة وجدنا شيئاً واحداً يهيمن عليها الوصول إلى الله ونيل رضاه، وما وظيفة الإنسان الأولى والأخيرة في هذه الحياة إلا تحقيق هذا الهدف .
بينما نجد مسلمو اليوم، إلا من رُحِم، يربطون أسباب الحضارة بناطحات السحاب وبالاختراعات التكنولجية والأقمار الصناعية ويروها أيضاً في حرية مزعومة، وفي أجساد عارية وثروات طائلة .
إن الاختلاف بين نظرة القدامى والمحدثين إلى الحضارة تعود لاختلافهم في مقاييس هذه الحضارة، فمقياسها في الإسلام "روح وقلب ومقياسها في الغرب حديد وصلب، ومقياسها في الإسلام مدى ايمان الفرد والجماعة وكيفية جهادها للرسالة التي تحملها، والدعوة التي تحضنها، ومقياسها في الغرب مدى مادية الفرد والجماعة ومستوى غناها ومنطقة نفوذها وسيطرتها وصلاحية اختلالها واستغلالها، مقياسها في الإسلام الإيثار وإنكار الذات ومقاييسها في الغرب الإثرة وتعبد الذات، ومقايسها ف الإسلام البر والمساواة ومقياسها في الغرب الأنانية واللامبالاة".
أخيراً كثيرة جداً هي الفروقات بين مسلمو اليوم ومسلمو الأمس ولا يمكن لأحد الادعاء بأنه يمكن حصرها في عجالة، إلا أن من أبرز هذه الفروقات وأهمها :
- تمسك المسلمون القدامى بفضيلة الجهاد التي عرفوا فيها عزهم وعز أمتهم بينما صار الجهاد اليوم فريضة غائبة أو ممنوعة أو مؤقتة إلى حين تحقيق المكاسب السياسية والمادية .
- تكاتف المسلمين وتعاونهم حتى كانوا كالبنيان المرصوص، وكان ما يجمعهم هو أخوة الإسلام التي دعمها الرسو صلى الله عليه وسلم وفضّلها على أخوة الدم وكان يقول " إنما المؤمنون اخوة" ، بينما نجد أن الرابط بين كثير من المسلمين اليوم هو أخوة الوطن والقومية والمذهبية .
- أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر الذي فهمه المسلمون الأوائل قوام الدين، والذي تركه مسلمو اليوم تحت حجة الحرية الشخصية وترك التدخل بشؤون الآخرين حتى حدث ما حذر منه الإمام الغزالي عندما قال: إن قوام الدين بقيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو طوى بساط الدين واهمل علمه لتعطلت النبوة ، ولاضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت
الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، واتسع الخرق ، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد" .
إن ما ينقص المسلم اليوم من أجل الاستفادة من تجارب الماضي وإحياء الإسلام من جديد أن يرفع رأسه عالياً كما قال "محمد أسد"، وعليه أن "يتحقق أنه متميز، وأنه مختلف عن سائر الناس، وأن يكون عظيم الفخر لأنه كذلك ، ويجب عليه أن يكدّ ليحتفظ بهذا الفارق، على أنه صفة غالية، وأن يعلم هذا الفارق على الناس بشجاعة بدلاً من أن يعتذر منه، بينما هو يحاول أن يذوب في مناطق ثقافية أخرى" .
==========(62/386)
(62/387)
حرب الأفكار بين بأس الأمريكان ويأسهم
د.عبدالعزيز بن مصطفى كامل
خلف كل مواجهة ميدانية، أو منازلة عسكرية، صغرت أم كبرت، صراع بين فكرة وفكرة، أو بين عقيدة وعقيدة، أو رؤية ورؤية، تعكس كل منها مصلحة أو مطمعاً أو رغبة في العلو بالحق أو بالباطل، وهذه كلها تنتهي إلى تنازع بين قناعات وقناعات وبين مناهج ومناهج؛ إذ لا يمكن أن تتحرك الإرادات على أرض الواقع دون دوافع في العقول والقلوب والضمائر، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قول الله ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40]. وقال ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251]، والمعنى من الآيتين: لولا دفعُ اللِه بأسَ المشركين بممانعة وجهاد الموحِّدين، وحكمهم بالوحي المنزَّل، لزاد الفساد واستحكم الظلم، وحُرِم العباد من عبادتهم لربِّ العباد. فالتدافع هو الأصل بين سبيل الأبرار والفجار، ليس في ميادين المعارك العسكرية فقط، بل قبل ذلك في ساحات المواجهة الفكرية، وحقيقته صراع بين من يحملون المنهج السوي من أتباع الرسل، وبين من يحتمون بسواها من ملل الجهالات والمقالات والأهواء. قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}. [إبراهيم: 13 ـ 14]
ولكن الصراعات تكون أيضاً بين باطل وباطل، وقد يكون ذلك خيراً لأهل الإيمان، كما كان الصراع بين الفرس والروم، حيث أنْهَك كلٌ منهما الآخر، لتَسهُل المهمة بعد ذلك على عباد الله الموحدين في الانتصار عليهما.
صراعات عصرنا ليست استثناء في كون أصلها صراعاً بين عقيدة وعقيدة، أو فكر وفكر؛ فتطورات وتفاعلات الأحداث في النزاعات الكبرى، أكَّدت دائماً أنه كان خلف كل نزاع عسكري أو سياسي منها، اختلاف منهجي وفكري. ولو تأملنا في الحروب الدولية الكبيرة، لوجدناها تعكس ذلك بوضوح صريح؛ فالحرب العالمية الأولى كانت في حقيقتها صراعاً بين الأفكار والرؤى والأيديولوجيات التي تحولت إلى أزمات، حيث كانت الأفكار الشيوعية قد بدأت في التبلور في بدايات القرن العشرين، لتفجر الثورة الروسية التي تصدرت لمقاومة الأفكار الرأسمالية التي كانت تتحرك بها أطماع الغرب.
وجاءت الحرب العالمية الثانية، لتشعل صراعاً جديداً بين أفكار النازية (1)، والفاشية (2) من جهة؛ والرأسمالية الليبرالية من جهة ثانية، ثم أعقبتها الحرب الباردة، التي امتدت إلى نهاية القرن العشرين، وكانت صراعاً بين فكرة الليبرالية الرأسمالية أيضاً، والماركسية الشيوعية.
لكن ما كان يميز كل تلك الصراعات بشِقَّيْها الفكري والعسكري، أنها كانت بين باطل وباطل، من طوائف الضلال المختلفة من كتابيين وملحدين ووثنيين، وما قد يلحق ببعضهم من فئام الجهلة أو المنافقين في بلاد المسلمين.
أما اليوم، فالصراع الدولي الناشب في ميادين متعددة على أرض العالم الإسلامي يمثل نوعاً آخر، لم يكن للبشرية عهد به منذ قرون؛ إذ يتضح يوماً بعد يوم أنه صراع واضح بين الحق الصريح والباطل الصارخ، أي بين حق الإسلام، وباطل الأعداء، الذين تأتي الصهيونية الأمريكية ـ بشِقَّيْها: اليهودي والنصراني ـ في مقدمتهم، حيث أطلقت الولايات المتحدة حربها التي سمتها (الحرب العالمية على الإرهاب) بعد أن لعبت بمصطلح (الإرهاب) لكي يكون مرادفاً للإسلام شيئاً فشيئاً، ولكي يكون هذا المصطلح صالحاً لأن يطلق على أشخاص دون أشخاص، ودول دون دول، وجماعات دون جماعات، وممارسات دون ممارسات، كما عُرف ذلك من مواقف الأمريكيين وحلفائهم من الإرهاب الصهيوني في فلسطين، والروسي في الشيشان، وإرهاب عملاء أمريكا في كل مكان، وكذلك إرهاب أمريكا نفسها في أفغانستان والعراق والصومال والسودان ولبنان، وغيرها مما قد يأتي بعدها.
وعندما شنت الولايات المتحدة حربها العالمية على ما أسمته (الإرهاب)، جعلت جزءاً رئيساً من هذه الحرب الصليبية، مواجهات فكرية، تستهدف حضارة وثقافة وقيم الأمة الإسلامية، وقد استلزم ذلك أن يبدأ الأمريكيون عملية تضليل كبرى، لصرف المسلمين عن أُصول دينهم، وأُسس شريعتهم وعقيدتهم، لتَحُل محلها ما يُسمونه (قيم الغرب) الداعية إلى (الليبرالية) بجميع أنواعها في السياسة والاقتصاد والاجتماع والدين والثقافة والإعلام.(62/388)
وقد تكاثرت في السنوات الأخيرة نداءات المخططين والمنظرين والمتنفذين في الغرب بضرورة إشعال وتوسيع وتطوير (حرب الأفكار) ضد العالم الإسلامي، وقد كان أول من أطلق هذا المصطلح، ووضع له الأساس الفكري القاضي الأمريكي (لويس باول)، في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وكان يريد من نشره وتفعيله، مواجهة الأيديولوجيات المعارضة والمعادية للرأسمالية، وتحمس لفكرته أحد اليمينيين المتطرفين وهو (وليام كورز) فأسس مراكز للأبحاث لهذا الغرض.
لكن وزير الحرب الأمريكي المُقال المهزوم (دونالد رامسفيلد) هو أول من أطلق شرارة (حرب الأفكار) ضمن ما أسمته أمريكا (الحرب على الإرهاب) وذلك عندما دعا في مقابلة صحفية في خريف عام 2003م إلى شن تلك الحرب وظل يردد الكلام عن أهميتها، حتى أواخر بقائه في منصبه، وقد أدلى بحديث إلى صحيفة الواشنطن بوست في (27 /3/2006م) قال فيه: (نخوض حرب أفكار، مثلما نخوض حرباً عسكرية، ونؤمن إيماناً قوياً بأن أفكارنا لا مثيل لها) وأردف قائلاً: (إن تلك الحرب تستهدف تغيير المدارك، وإن من المحتم الفوز فيها وعدم الاعتماد على القوة العسكرية وحدها )
وعجيب أن يكون المسؤول الأول عن وضع الخطط العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية في أوج هياجها واستعلائها، هو نفسه المتابع الرسمي لتلك الحرب الفكرية، حيث عقد مزاوجة لافتة بين ما هو عسكري وبين ما هو فكري، مؤسساً بذلك لحملةٍ صليبيةٍ فكرية، موازية للحملة الصليبية العسكرية، وقد أفصح عن ذلك المسؤول العسكري (المدني) عن الغرض المبيت لتلك الحرب فقال في تصريح له في أكتوبر 2003م: (نريد لشعوب الشرق الأوسط أن يكون إسلامها كإسلام الشعوب المسلمة في شرق أوروبا) يقصد مسلمي البوسنة وألبانيا، الذين ذاب غالبيتهم ـ إلا من رحم الله ـ في قاع الحياة الأوروبية المادية، حتى صار الدين بالنسبة لأكثرهم مجرد انتماء تاريخي، لولا المحنة التي تعرضوا لها على يد النصارى الصرب فأيقظت فيهم الحنين للدين بعد أن أُبعدوا عنه.
ما صرَّح به رامسفيلد لم يكن أحلاماً شخصية، ولا مجرد أمانٍ أمريكية، بل هو توجه صليبي عام، يستهدف الإسلام بالتغيير، والمسلمين بالتغرير، وقد تبين ذلك من الحملة شبه المنظمة على شعائر الإسلام وشرائعه وحرماته ومقدساته في معظم بلدان أوروبا في الآونة الأخيرة.
وفيما يخص (حرب الأفكار) تتابعت التصريحات والإيضاحات التي تحكي أبعاد تلك الحرب المعلنة، من قوىً غربية عديدة معادية، وليس من أمريكا فقط، وكان آخر ذلك ما أدلى به «الذيل المهزوز» )توني بلير) رئيس الوزراء البريطاني، في كلمات ذات مغزى خلال مؤتمر صحفي عقده في 17 /4 /2007م، قال فيه: (إن الوقت قد حان لتتوحد إدارات الحكومة البريطانية، من أجل تحقيق النصر في حرب الأفكار) وأضاف ذلك المستقيل المهزوم: (إذا كنتم تريدون أن تنقلوا الحرب إلى أرض الأعداء، فعليكم أن تهزموا أفكارهم ودعايتهم إلى جانب هزيمة مخططاتهم).
أما زعيم المهزوزين المهزومين (بوش)، فكان قد قال في خطاب له في أعقاب هجوم سبتمبر: (نحن نحارب في جبهات مختلفة عسكرية واقتصادية وسياسية وفكرية، ونحن واثقون بأننا سننتصر في كل جبهة) وقد نصت الورقة الرئيسية لاستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة على أن أحد أهم أدوات أمريكا في نشر مبادئها في الشرق الأوسط هو (شن حرب أفكار) مع اللجوء للخيار العسكري عند الحاجة إليه.
وبعد هذا التقرير لم تهدأ مراكز الأبحاث ومعاهد التفكير المحسوبة أو القريبة من إدارة بوش في إصدار التقارير التي تصب كلها في كيفية إدارة تلك الحرب بكفاءة، وأشهرها بالطبع التقارير الصادرة عن (معهد راند للأبحاث) حيث أصدر ذلك المعهد عدداً من التقارير الخاصة بتحديد الأهداف والوسائل الخاصة بمواجهة المد الإسلامي عموماً، والتوجه السني المقاوم خصوصاً.
كان من الطبيعي في ظل التوافق على أهمية (حرب الأفكار) أن توضع لها السياسات، وتستخلص التجارب، وهذا ما حدا بوزيرة الخارجية الأمريكية (كونداليزا رايس) أن تحدد منذ البداية الملامح الرئيسة لتلك الحرب، وذلك عندما كانت ـ حينها ـ مستشارة للأمن القومي الأمريكي؛ إذ قالت في كلمة ألقتها في معهد السلام الأمريكي في صيف 2002م: (لا بد من اتباع أساليب الحرب الباردة نفسها ضد الشيوعية لمواجهة أفكار (الكراهية والموت) في الشرق الأوسط). وهي تتحين الفرص كل فترة لإبداء قناعتها بخطورة تلك الحرب وضَرورة السير فيها إلى النهاية؛ فقد قالت في مقالة لها في صحيفة الواشنطن بوست في ديسمبر 2005: (إننا ضالعون في حرب أفكار أكثر مما نحن منخرطون في حرب «جيوش»). وقد صرحت في مناسبة أُخرى بأن الهدف الأكبر للمواجهة الفكرية المزمعة، هو ـ تحديداً ـ الانتصار لفكر (الليبرالية الأمريكية الجديدة)، حيث قالت: (إن المهمة الأساسية في حرب الأفكار، تتعلق بالترويج للقيم الأمريكية المتمثلة في الحرية والديموقراطية ونظام السوق الحر).(62/389)
إن هذه التصريحات تدل بوضوح، على أن ما تسمى بـ (القيم الغربية)، النابعة من خلفيات يهودية ونصرانية محرفة، لم تعد تأبه بندٍّ منافس سوى (القيم الإسلامية) الشاملة للمبادئ والسلوك، والمستمدة من الوحي الصحيح والدين القويم؛ حيث أصبحت هذه القيم مع من يحملها، في مواجهة حرب لا هوادة فيها على كل أرض، وفي كل ميدان، وضمن كل مجال، أي (في جهات مختلفة عسكرية واقتصادية وسياسية وفكرية) كما قال بوش في تصريحه المذكور آنفاً.
وقد نص تقرير لجنة التحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م على ذلك التوجه، حيث جاء فيه: (إن العدو الرئيسي لأمريكا هو تيار إسلامي راديكالي متطرف، تعود مرجعيته إلى أفكار ابن تيمية وسيد قطب... ولا يوجد مجال للتصالح مع هذا التيار، ولا بد من عزله وتصفيته تماماً، لكن لا بد أولاً من منازلته في ميدان حرب الأفكار من أجل كسب الغالبية المحايدة التي يمكن أن تتحول إلى متعاطفة معه).
وحتى لا يتبادر إلى أذهان بعضنا أن مقصودهم بـ (التيار الإسلامي الراديكالي) هو التيار القتالي أو المقاوم للهيمنة الغربية والذي يوصم دوماً بـ (الإرهاب)، فإن على من يتوهم ذلك أن يطالع تقرير مؤسسة الأبحاث الأمريكية (راند) الأخير، الخاص بإنشاء توجهات أو تجمعات تُمثل (الإسلام المعتدل) حيث وضع ذلك التقرير المعايير التي يحدد من خلالها الفرق بين المعتدلين والمتطرفين (3).
وأهم سمات الاعتدال في نظر من أعدوا التقرير: (القبول بالديمقراطية) وهذا يعني رفض مبدأ الدولة الإسلامية، و (القبول بالمصادر غير المتعصبة في تشريع القوانين) بما يعني إلغاء مصدرية ومرجعية الشريعة، و (نبذ العنف إلا في حالة «الحرب العادلة») أي التخلي عن الجهاد والمقاومة، و (احترام حقوق النساء والأقليات) وهو ما يستدعي إحلال المفاهيم الغربية محل الإسلامية فيما يتعلق بالنساء وغير المسلمين.
وقد حدد تقرير لجنة التحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر هدفاً جوهرياً من أهداف (حرب الأفكار) عندما نص على أنه (لا بد من منازلة التيار غير المعتدل في ميدان حرب الأفكار من أجل كسب الغالبية المحايدة التي يمكن أن تتحول إلى متعاطفة معه).
«كسب الغالبية» إذن؛ هو الهدف والرهان الاستراتيجي، للاستيلاء على القلوب والعقول، والوصول إلى ذلك لا يكون إلا عبر تحركات تكتيكية يكون (الدولار) فيها هو الوقود المحرك لأفكارهم والمحرق لأفكار غيرهم، وهذا ما ذهب إليه تقرير مؤسسة راند السابق الصادر في (18/4/2005 ) بعنوان (قلوب وعقول ودولارات) والذي نص على أهمية مزاحمة (العدو) على عقول الناس وقلوبهم، عن طريق تسخير الدولار، في تغيير الأفكار، باتجاه العلمنة والأمركة واللبرلة.
أي باختصار: (تغيير الإسلام) في فهم واعتقاد متبعيه. لهذا فإن الحرب الأمريكية الراهنة على العالم الإسلامي، ستبقى في جوهرها ـ وإن سكنت المدافع ـ حرب أفكار، ولذلك فمن غير المتوقع أن تتوقف بشكل نهائي، أو ترتبط بتغيرات سياسية عندنا أو عندهم، لارتباط تلك الحرب بمعايير رضاهم عنا وعن عقائدنا ومبادئنا وأفكارنا، وهذا الذي لن يحصل، ما دام المسلمون مسلمين، والنصارى نصارى واليهود يهوداً: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، فالمعركة بيننا وبينهم ستظل دائماً معركة على الثوابت، بين ما عندنا من منهج الحق والهدى، وما عندهم من أفكار الغي والهوى.
يأسهم في طيات بأسهم:
الإمكانات التي رصدت ولا تزال ترصد لإدارة (حرب الأفكار) لا تكاد تصدق، ولا ندري كيف صدق الأمريكيون وغيرهم من اليهود والنصارى أنفسهم في أنهم يمكن لهم أن يغيروا ديننا، كما غيروا دينهم؟ ولكن صدق ربنا إذ قال: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89].
ومن يلاحظ إصرار الأمريكيين وحلفائهم على المضي في حرب الأفكار؛ ربما يظن أنهم يملكون مزيد ثقة فيما عندهم، أما نحن فيقيننا أنهم ليس لديهم من يقين إلا ما يقبع خلف الشك والحقد الدفين: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55].
لذلك فإنهم حتى وإن دعا بعضهم إلى حوار في بعض الأحيان، فإن حوارهم المقترح هو نفسه جزء من حرب الأفكار؛ إذ ليس لدى أكثرهم وهم يحاوروننا رغبة في الإنصات أو الإنصاف، إنما يستمعون ـ إذا استمعوا ـ لنُخرج ما عندنا كي يُلقوا عليه ما عندهم.(62/390)
لقد طالَبَ الكاتب الأمريكي الأشهر اليوم في العالم (توماس فريدمان) بما أسماه (حوار الأفكار) بين الولايات المتحدة وبين شعوب العالم العربي والإسلامي، بعد أن لاحظ أن أمريكا تفقد مصداقيتها بشكل مقلق بين تلك الشعوب، ولكن: هل يقصد فريدمان الحوار حقاً؟ إنه مع دعوته «البريئة» للحوار، لم يستطع أن يخفي ما وراءها من مآرب وأسرار؛ فليس إضاعة الأوقات وتمرير المخططات هو فقط المراد من هذا الحوار، وإنما استغلال أرضية الحوار لتأسيس مزيد من الركائز الحامية لمصالح أمريكا وحلفائها وعملائها. ولهذا اشترط أن يلتزم العرب مع أمريكا ـ في ظل ذلك الحوار ـ بثلاثة أمور، وهي:
1 ـ استمرار تزويد أمريكا بالنفط.
2 ـ الحفاظ على انخفاض سقف أسعاره.
3 ـ تحسين المعاملة مع إسرائيل.
وقال: (إذا حصلنا من العرب على هذه الأمور الثلاثة، فلسنا معنيين بشيء من أمورهم حتى ولو كان يتنافى مع الأفكار الأمريكية المعلن)
إن الالتزام العربي الذي يطالب به فريدمان، هو لضمان استمرار قوة وقدرة أمريكا وحليفتها في مقابل ضعفنا وعجزنا، ومع ذلك تظل حرب الأفكار معلنة حتى تحت شعار الحوار.
لقد طالب توماس فريدمان أيضاً في دعوته للحوار، بأن تكثف أمريكا سياسة تغيير الأفكار بين شعوب الشرق الأوسط، واقترح عليها مثلاً أن تمنح خمسين ألف تأشيرة دراسية لطلاب عرب للقدوم إليها، ليكونوا هدفاً للتأثير الفكري المباشر!!
ما هي المهام التي يمكن أن يكلف بها خمسون ألفاً من العملاء الفكريين لأمريكا، إذا عادوا منها وقد رضعوا لَبَنها وأُتخموا بلحمها، وسمنوا بسمومها؟ وهل هذا يسمى حوار أفكار، أم تجنيد أنصار؟!
في إطار المقترحات في (حرب الأفكار) أيضاً، كان مدير الاتصالات في البيت الأبيض (تاكر إسكيو) قد وضع خطة لنشر الأفكار والمفاهيم و (القيم) الأمريكية، كُللت وقتها بتأسيس (قناة الحرة) الأمريكية اللاكنة بالعربية، وكذلك (إذاعة سوا) من أجل مخاطبة العرب بألسنةٍ أمريكية ناطقة بالعربية.
وقد قال (تاكر) عند تأسيسه لهذه الوسائل الحربية الفكرية: (إننا نملك المال، ونملك الخبرة، ونملك الأفكار، ولن يستطيع أحد أن يقف أمامنا). لكن التجربة أثبتت أن الأمريكيين وإن كانوا يملكون المال والخبرة، فإنهم لا يملكون الحكمة والفكرة، ولذلك ظلت وسائلهم فاشلة، ولم تجذب إلا المجاذيب، ولم تفتن إلا المفتونين الذين يصدقون دعايات أمريكا في مزاعم الحرية والديموقراطية واحترام الإنسان!
إن مئات الملايين من الدولارات التي أُنفقت ولا تزال تُنفق لإطفاء نور الوحي؛ لم تزده إلا وهجاً وضياء؛ فهناك عدد من مراكز الأبحاث المتخصصة في شؤون الشرق الإسلامي المسمى بـ (الشرق الأوسط) مثل مركز (امريكان أنترابرايز) الذي يهيمن عليه المحافظون اليهود الجدد، ومعهد (بروكنجر)، ومعهد (كارنيجي)، ومعهد (الشرق الأوسط) الذي يعرِّف منطقة الشرق الأوسط بالأراضي الممتدة من أفغانستان إلى المغرب العربي، وهذه المراكز تُرصَد لها ميزانيات بالملايين سنوياً؛ لأنهم لا ينتظرون منها أرباحاً، إلا إثبات النجاح في اختراق حصوننا، من الداخل أو الخارج!
وقد رُصد لمعهد الشرق الأوسط وحده، ميزانية تصل إلى مليون دولار سنوياً، وهي ميزانية تجيء من أرباح وقفية، وقفتها على ذلك المركز شركات عديدة كبرى مثل: (أرامكو)، (كوكا كولا)، (شل)، (بوينج)، و (الشركة الكويتية للنفط)، ويرأس المعهد (إدوارد ووكر) السفير الأمريكي السابق في (تل أبيب) ومصر، لكنَّ نتائج جهود تلك المراكز تعكس حتى الآن الفشل والخيبة والخذلان. وصدق الله: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ *} [الأنفال: 36].
? اعترافات الحسرة:
لقد بدؤوا يعترفون بخسارة (حرب الأفكار) مثلما خسروا حرب الحديد والنار، في بقاع عديدة من العالم الإسلامي، وقد اعترف رامسفيلد نفسه ـ مُشعل (حرب الأفكار) ـ في تصريح له في 16 فبراير 2006م، بأن أمريكا تخسر حربها الدعائية والفكرية ضد (المتشددين) الإسلاميين، وأضاف: (ينبغي إيجاد وسائل أخرى بديلة لكسب قلوب وعقول الناس في العالم الإسلامي، حيث نجح المتشددون في تسميم الأفكار عن أمريكا).
وكذلك أقرَّ تقرير أعدَّته هيئة استشارية تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، أن أمريكا عجزت عن إقناع العالم الإسلامي باستراتيجيتها الدبلوماسية والعسكرية، وهو ما اعتبره التقرير خسارة لما يسمى (حرب الأفكار)، وقال التقرير الذي قُدم في نوفمبر 2004م: (إنه لا أحد يصدِّق وعود أمريكا عن الحرية والديمقراطية)، وبين أن تدخلات أمريكا في العديد من بقاع العالم الإسلامي، رفعت من أسهم القوى المناوئة لها.(62/391)
وقد صرح (مارك جنزبيرج) السفير الأمريكي السابق في المغرب، وأحد الخبراء الأمريكيين المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط بأن أمريكا تواجه هزيمة في حرب الأفكار، رغم ضخامة الإمكانات المرصودة لها، وقال في حديث له نشرته صحيفة (الواشنطن بوست): (نحن نُهزم في حرب الأفكار لسببين: الأول: أننا تركنا الساحة للمتشددين الإسلاميين ليزاحمونا بما عندهم، والثاني: أننا لم نساعد حلفاءنا بالقدر الكافي في مواجهة هؤلاء المتشددين)
ومؤخراً صدر للبنتاجون تقرير ـ كان سرياً ـ عن نتائج الحرب الأمريكية العالمية على ما تسميه بالإرهاب، اشتمل على انتقادات حادة لإدارة بوش لهذه الحرب، وقد أعد التقرير (المجلس العلمي للدفاع) في البنتاجون، واختص هذا التقرير بوضع تصور عن كيفية كسب حرب الأفكار ضد ما أسماه: (الجماعات المعادية لأمريكا)، ونصت خلاصة التقرير على ضرورة العمل على إجراء تحول في الاتصالات الاستراتيجية للولايات المتحدة بعد أن فشلت في إيصال رسالتها في الداخل والخارج عن أهمية الحرب على الإرهاب، وبدأت تخسر معركة الأفكار أيضاً. وأكد التقرير على أن أساليب إدارة بوش كانت فاشلة في إدارة تلك الحرب بشِقَّيْها العسكري والفكري، وأشار إلى أن جموع الشعوب الإسلامية لا تكره أمريكا لذاتها، ولا تكره الحرية التي تنادي بها؛ ولكنها تكره سياستها التي يحركها بوش وفريقه منذ بداية الألفية الثالثة، وعبَّر التقرير أيضاً عن القلق من حالة الارتباك الحادة التي وضعت أمريكا نفسها فيها عندما سلكت تكتيكات خاطئة لمحاربة الإرهاب، تسببت في الوصول إلى خلل جسيم في استراتيجية تلك الحرب، وجاء فيه: (إن الولايات المتحدة قد تورطت في صراع عالمي بين الأجيال بشأن المعتقدات والأفكار، لم يعد قاصراً على مواجهة بين الإسلام والغرب فقط، بل بين الغرب وبقية العالم. ولأجل كسب هذه المعركة العالمية الخاصة بالأفكار ينبغي اعتماد سياسة جديدة للعلاقات تعتمد على التعامل مع الواقع كما هو على الأرض، لا كما يريد ساسة أمريكا).
لكن مع تلك الهزيمة التي تبدو جسيمة في هذه الحرب الفكرية، قياساً بما رُصد لها من إمكانات، وما رُسم لها من توقعات، فلا يزال هناك إصرار وعناد على مواصلة (حرب الأفكار) ولو بأساليب أُخرى.
وقد صدر في فبراير من العام الماضي، التقرير الدوري للبنتاجون ـ والذي (يصدر كل أربع سنوات) ـ كُشف فيه عن أن الحرب ضد (الإرهاب) بشِقَّيْها: الفكري والعسكري هي حرب طويلة، وأنها يمكن أن تستمر لثلاثين عاماً أخرى، وأنها تمثل المرتكز الأكبر في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لسنوات عديدة قادمة، وأكَّد التقرير على أن العالم كله هو ساحة تلك الحرب، وليس بلداً واحداً، أو قارةً بعينها. وفي منتصف عام 2006م صدر كتاب بعنوان: (الخطوات العشر لإنزال الهزيمة بالإرهاب العالمي) من تأليف (هارلان أُولمان) كبير المستشارين في مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية بواشنطن وصاحب استراتيجية (الصدمة والذهول) التي أشار بها في غزو العراق، والتي حوَّلها إلى كتاب بالعنوان ذاته، وقد ركَّز ضمن خُطُواته العشر على أهمية الاستمرار في (حرب الأفكار) باعتبارها الحل الوحيد لتجاوز التحدي الناشئ عن توليد المبادئ الإسلامية لأجيال جهادية جديدة، في ساحات جديدة لا يمكن احتواؤها، ولا اختراقها بسهولة.
? عولمة حرب الأفكار:
في محاولة للتغطية على الفشل المتصاعد في مخططات وخطوات حرب الأفكار، لجأت الولايات المتحدة إلى محاولة عولمتها بدلاً من الاكتفاء بأمركتها؛ حيث اتجهت في الآونة الأخيرة إلى تقسيم الساحة الدولية إلى قسمين: قسم: يمثل (القيم) الغربية، وقسم: يمثل القيم الإسلامية، مثلما كان حال تقسيم العالم إبَّان الحرب الباردة إلى عالمين: (شيوعي ورأسمالي). والواضح أن هناك محاولة لتشكيل تكتل فكري غربي ضد العالم الإسلامي على غرار التكتلات الاقتصادية والتحالفات العسكرية، وقد أطلق بوش الأرعن أيضاً شرارة هذا الشر، ورفع شارته عندما تحدث في شهر مايو عام 2006م، عن خطر ما أسماه (الفاشية الإسلامية)، حيث اعتبرها وريثة النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والشيوعية الروسية التي كافحها العالم الرأسمالي خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، إلى حين سقوط الاتحاد السوفييتي، وبعدها ذكر بوش ما وصفه بـ (الفاشية الإسلامية) ست مرات خلال ثلاثة أسابيع في خطبه وتصريحاته، قبل انتخابات التجديد النصفي لعام 2006م، حيث كانت عينه وعين نائبه (ديك تشيني) على فوز حزبهما في انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2008م، والتي تمنيا لو يفوز فيها مرشح الجمهوريين لاستكمال ما بدأه تحالف الإنجيليين واليهود المحافظين.
وقد تحدث بوش في كلمته التي تكلم فيها عن ما أسماه (الفاشية الإسلامية) عن ضرورة حشد العالم في مواجهتها؛ لأنها ـ كما قال ـ: (تجسد عدداُ هائلاً ممتداً في أنحاء العالم، يمثل خطراُ أشد من خطر موسوليني وهتلر وستالين معاُ)!(62/392)
يعتبر المنظرون الفكريون في إدارة بوش أن (الفاشية الإسلامية) تشمل السنة والشيعة معاً، وخاصة أن إيران برهنت على عدائها عندما شنت هجوماً على (الدولة العبرية) من خلال أنصارها في لبنان صيف 2006م. وهو ما يدل في نظرهم على أن الخطر الإسلامي يتحول من خطر مجموعة من الحركات والنخب الفكرية إلى خطر أنظمة وحكومات تحمل فكر العداء والحرب ضد مطامح الغرب.
ويهدف ترويج مصطلح الفاشية الإسلامية إلى إقناع الأمريكيين والعالم بوجود خطر كبير، يستدعي ضرورة البقاء العسكري في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي، وضرورة استمرار الحرب العالمية على (الإرهاب) بشِقَّيْها: العسكري والفكري.
? نقاط للتأمل:
- حرب الأفكار التي تشنها الولايات المتحدة وحُلفاؤها، هي في النهاية حربٌ لحساب الفكر الليبرالي الرأسمالي، الذي انتهى إليه نصارى الغرب بعد ثورتهم على الدين، وتعتبر (الليبرالية الأمريكية الجديدة) آخر صيغ هذا الفكر الذي يقوم على الترويج له في بلادنا تيار (الليبراليين الجدد).
- الفكر الليبرالي مع تحلله من الثوابت والعقائد، إلا أن انحداره من خلفيات عقائدية، يهودية ونصرانية منحرفة، جعل معركته مع الإسلام ذات خلفيات دينية وهذا يُفسره تشبث كثير من المتنفذين السياسيين الغربيين بشعارات الدين، رغم علْمانيتهم وليبراليتهم.
- حرب الأفكار ـ بناءً على ما سبق ـ هي تسمية أُخرى لصراع الثقافات، الذي يظهر أنه قد بدأ قبل (صراع الحضارات) الذي بشَّر به أو دعا إليه المفكر اليهودي (صمويل هنتجتون)، والذي سمَّاه المفكر الفلسطيني (إدوارد سعيد) بـ (صراع الأُصوليات). وبما أنَّ الأُصوليات، هي خُلاصات العقائد، فإنَّ الصراع يتمحض مع الوقت بين العقائد الباطلة كلِّها، والعقيدة الإسلامية الصحيحة.
- الصراع بين الصحيح والمحرَّف من العقائد، هو جوهر (حرب الأفكار) الراهنة، والإسلام (غير المحرَّف) يُمثله في أنصع صورةٍ منهج أهل السنة والجماعة، ولهذا فإن حَمَلة هذا المنهج هم المستهدفون الأوائل في حرب الأفكار، مرةً باسم الأُصوليين، ومرةً باسم السلفيين، ومرةً ثالثة باسم الوهابيين، ولهذا نجد تقارير (معهد راند) وغيرها، تصبُّ في اتجاه تجييش العالم بكُفاره ومنافقيه ومرتديه ومبتدعيه ضدَّ أنصار هذا المنهج، الذي يمثل الدين الصحيح.
- حرب الأفكار) تعكس شمول المواجهة مع أمة الإسلام، وكما يحشد الغرب لحروبه العسكرية الجيوش والمعدات والإمكانيات، فإنه يجهز لحروبه الفكرية جهود العشرات من مراكز التفكير ومعاهد الأبحاث، مستدعياً تجاربه التاريخية ـ وبخاصةٍ مع الشيوعية ـ ومحاولاً في الوقت ذاته تجنيد طابور خامس من المرتزقة الفكريين في بلاد العرب والمسلمين، بحيث يكونون رديفاً لجيش الباحثين والمفكرين في تلك المراكز الفكرية الغربية، ولعل تقرير (مؤسسة راند) الأخير، عن إنشاء شبكات أو جماعات لتيار (الإسلام المعتدل) أو (الإسلام العلماني)، يؤكد هذا التوجه.
- مع كل ما يبدو من إشاراتٍ على الهزيمة الأمريكية والغربية في (حرب الأفكار) فإنَّ هذا لا ينبغي أن يصرفنا عن استشعار خطرها، والاستمرار في تطوير الأساليب للتصدي لها، باعتبارها أدقَّ وأخطر من الحرب العسكرية؛ لأن حرب الأفكار بالمعنى الذي سبق استعراضه، هي حرب باردة جديدة، وهي أخطر من الحروب الساخنة؛ لأنها تستهدف ما في العقول والقلوب، بينما تستهدف الأُخرى ما تحت الأيدي والأرجل، ولأن الحروب الساخنة يمكن أن تتوقف أو تبرد، ولكن صراع الفكر والمناهج، يظل مستعراً.
والذي نعتقده، أنَّ الإسلام العظيم، عظمته ذاتية، ولذلك فإنه يسجل بخلوص الولاء له أمجادًا لأهله وحامليه، كما يسجل انتصارات ومعجزات عسكرية ـ بإذن الله ـ بأدنى الإمكانات المادية المستطاعة، كالذي هو حاصلٌ في العراق وأفغانستان وغيرهما، وبدون سندٍ ولا مددٍ لأنصاره إلا من الولي النصير سبحانه؛ فإنه سوف يحرز انتصارات أُخرى مماثلة في (حرب الأفكار) بعونٍ من الواحد القهار، مكور الليل على النهار.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.[يوسف: 21]
----------------------------
(1) النازية: من كلمة (nazi)، وهي اختصار للحروف الأولى من عبارة (حزب العمل الاشتراكي الألماني)، وقد نشأ هذا الحزب كردِّ فعل للأزمات التي واجهت ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، كي يواجه الفساد الاقتصادي، ويُوحد العمال، ويعيد الكبرياء الوطني لألمانيا، وقد التحق به هتلر، وتدرج فيه، حتى صار زعيماً له، ووجه سياسة الحزب نحو إقامة دولة ألمانية قوية وموحدة، تقوم على أساس تفوق العنصر الآري، ولهذا تعالى الألمان في ظلِّ النازية على الأجناس الأخرى، وحاولوا السيطرة على الشعوب المجاورة تحت زعامة هتلر، وقد نجح هتلر بالفعل في اجتياح العديد من بلدان أوروبا، بالتحالف مع الفاشية (الإيطالية)، ولكن بقية الأوروبيين ومعهم الأمريكيون والروس، اجتمعوا ضد ألمانيا وحلفائها وهزموهم في الحرب العالمية الثانية.(62/393)
(2) الفاشية: مصطلح الفاشية (fascism) مشتق من الكلمة الإيطالية (fasces)، وهي تعني الحارس أو الحامي، وفي أواخر القرن التاسع عشر، بدأ استعمال هذه الكلمة للإشارة إلى مجموعة من الثوريين الاشتراكيين، وقد شكَّل (بنيتو موسوليني) جماعة برلمانية مسلحة عام 1919م من الفاشية، وكانت معادية للرأسمالية، وتحالف الفاشيون بزعامة موسوليني مع النازيين بزعامة هتلر لتحدي الرأسمالية الليبرالية، ولهذا اقترنت الفاشية بالدكتاتورية، وعندما أصبح موسوليني رئيساً لوزراء إيطاليا، أقام الحكومة على حزب واحد هو الحزب الفاشي، وتمكنت هذه الحكومة من إسقاط العديد من النظم الرأسمالية الديموقراطية في أوروبا، لكن الحرب العالمية الثانية شهدت سقوط الفاشية، كما شهدت سقوط النازية، وبقي الصراع فقط بين الشيوعية والرأسمالية، حتى انتهاء الحرب الباردة، وتفرُّد الرأسمالية بزعامة العالم تحت قيادة أمريكا، التي أحلًّت الإسلام نِدّاً بديلاً للندِّ الشيوعي المهزوم.
(3) سبق لمجلة البيان أن عرضت ذلك التقرير الأخير في العدد (236).
==============(62/394)
(62/395)
بشائر الهزيمة الأمريكية وتحديات ما بعد أمريكا
د.عبدالعزيز بن مصطفى كامل
في الحياة من حولنا، وفي المستجدات التي تمور بها الدنيا أمامنا، نرى آيات وآيات، تكون قبل وقوعها شبيهة بالمستحيلات، وتبدو بعد حدوثها قريبة من وقوع المعجزات، ولكن إلفَ الإنسان للشيء الباهر بعد وقوعه يقلل من الانبهار به، ويحدُّ من وقع الشعور بأن المعجزة معجزة والآية آية، حتى تبدو الأمور التي كانت بالأمس أشبه بالخوارق، أموراً عادية، بل ربما تجد من يجادل في عظمتها وفي جليل دلالتها.
خذ مثلاً أصناف وأشكال المخترعات التي تموج بها الحياة في عصرنا.. إنها كانت قبل قرن واحد، أو عدة عقود، من الأحلام والأوهام التي ربما رُمي من زعم قدرة البشر على صنعها بالخرافة والدّجل، فلما وُجدت ورآها الناس وعايشوها خرجت عن وصف الإعجاز الخيالي إلى الإنجاز الاعتيادي، فالإنسان المعاصر صار يهيم في الهواء، ويطير على سطح الماء، ويتنقل صوته وصورته عبر الفضاء، وربما نسي هذا الإنسان أن يسبِّح اسم ربه الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى، والذي علم الإنسان ما لم يعلم.
قسْ على ذلك المستجدات الحادثة على خريطة التاريخ المعاصر، وقارنْها بما كان عليه الحال، لا نقول قبل قرون، بل قبل عقود.. لا بل قبل سنين، ترَ عجباً!
* فمن كان يصدق أن تشهد السنون القلائل الماضية، عودة الاستعمار واستهداف العالم الإسلامي بغارات جديدة، تستهدف صراحةً أوطان المسلمين في عصر شعارات التعايش السلمي، والتفاهم الأممي والمنظمات الدولية المصنوعة من أجل (السلام العالمي)؟
* من كان يتخيل أن تبدأ الجولة الاستعمارية الجديدة من الشرق، باجتياح الروس لأفغانستان، ليتّحد العالم الإسلامي بعدها ـ بلا قيادة واحدة ـ ضد الاتحاد السوفييتي حتى تكون ثمرة هذا الاتحاد الإسلامي إسقاط الاتحاد الإلحادي، الذي يُعدّ الكيان الأكبر في التاريخ الذي قام على فكرة إنكار وجود إله للكون؟!
? ومن كان يظن أن تتزامن مع هذه الملحمة نهضة وصحوة إسلامية عالمية، ظلّت تتزايد وتتفاعل حتى أصبحت بالفعل تجديداً جديداً على رأس مئة عام، تصديقاً لخبر المعصوم ؟
* ومن كان يتصور أن دولة اليهود التي حازت ترسانات السلاح من كل نوع، تعجز عن قهر فتية فلسطين شبه العزّل، بعد أن هزم اليهود في حروب ثلاثة متوالية جيوش العرب مجتمعة؟
* ومن كان يخمِّن أن يبدأ مع ذلك مسلسل سقوط الأصنام القومية، والزعامات الثورية والدمى العلمانية، شرقية كانت أو غربية، لتسلِّم الأمة قيادها من جديد لقادة غير متوّجين من الإسلاميين، في مجال الفكر والفقه، والنظر السياسي والتنظير الإستراتيجي والعسكري في كل ميادين المجابهة الكبيرة التي تولى العلمانيون عنها يوم الزحف؟
* ومن كان يحدث نفسه، أن يأتي الدور بهذه السرعة على القطب الثاني الذي أصبح قطباً وحيداً في قيادة العالم (أمريكا) لتدخل هي الأخرى في ركب الدول الاستعمارية بعدما ظن الناس أن عهود الاستعمار قد ولّت إلى غير رجعة، وليتحول (النظام الدولي الجديد) الذي دعا إليه بوش الأب، إلى استعمار عالمي جديد في عهد بوش الابن، ولتدخل الدنيا مع مجيئه بوتيرة متسارعة إلى مقدمات صراع الحضارات الذي يريدون له أن يفضي إلى نهاية التاريخ!
* إن في ذلك لآية:
أطلْتُ ـ نوعاً ما ـ فيما سبق ـ في التعريج على الذكريات أو التذكيرات ؛ لأنبِّه إلى أننا نمرُّ بحدث جلل، وكائنة عظيمة، أخشى أن تذهب كثرة الإمساس فيها بالإحساس بها، والتهيؤ لتبعاتها، ألا وهي: الهزيمة الجسمية التي بدأت تلوح بوادرها في الأفق القريب لأعتى قوة في التاريخ، مدعومة بتحالف دولي، وتواطؤ عالمي، حيث تجيء مقدمات تلك الهزيمة ـ ويا للعجب! ـ على يد أناس لا يجمع بينهم ـ بعد الإسلام ـ إلا الحصار والإفقار والمطاردة والاستضعاف، في أرض طال أسرها في سجن البعث لتخرج منه إلى فضاء الفوضى بلا جيش ولا شرطة ولا سلطة.
كل الشواهد تدل على أن الولايات المتحدة مقبلة على الإدبار من العراق تجللها الفضيحة والعار، في هزيمة مركبة، وتحوُّلٍ حضاري عسكري، من شأنه أن يغير مجرى تاريخ العالم.
لقد تحدث العالم كثيراً عن تورط الولايات المتحدة في حرب «فيتنام»، وكيف أن شعب ذلك البلد الصغير الفقير، استطاع أن يجبر ثاني قوة في العالم على الانسحاب تحت وقع ضرباته ولسعاته. وقد سجلت الشعوب بطولات هذا الشعب الثائر ـ رغم وثنيته وشيوعيته ـ لا لشيء، إلا لأنه لم يخنع ولم يخضع، بل هبَّ لردِّ العدوان وصد الغارة، وعُدّ هذا في وقته من الكفاح المشروع الذي تكتلت بسببه قوى عالمية وإقليمية للوقوف مع المعتدى عليه ضد المعتدين، فالفيتاميون ـ بخلاف العراقيين ـ كانت لهم حكومة معترف بها وثوار يدعمونها، ومعسكر شرقي كامل يقف خلفها يضم الاتحاد السوفييتي والصين والدول الشيوعية.(62/396)
لكن انظر إلى العراق اليوم: ما هو ذلك المعسكر الدولي الذي يقف مع المقاومين فيه..؟! من هي تلك الكتلة الشرقية أو الغربية أو التحالف الذي يرمي بثقله معهم..؟! من هي تلك المنظمات الدولية التي تنصفهم أو العربية التي تنصرهم؟ وما حجم الهيئات أو التجمعات أو حتى الجماعات الإسلامية التي تقف معهم، ولا تقف ضدهم..؟!
إن المقاومين في العراق ـ ومنذ بدأ العدوان ـ بدؤوا وحدهم يقاتلون باسم الله من كفر بالله واعتدى على خلق الله، فلم يجدوا نصيراً أو معيناً سوى الله، ثم بعض الشرائح القليلة في الأمة، ومع هذا.. نرى الأعداء المتجبرين يتورطون ثم يرتبكون ثم يتراجعون.. وها هم اليوم يتنادون بحتمية الخروج، ويتقاذفون التهم في التسبب بتلك الورطة الكبرى!!
إن هذا ـ وأيم اللهِ ـ آية من الآيات، تزيد أهل الإيمان إيماناً بموعود الله الذي قال: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]، نعم! إن الفئة القليلة التي لا يزيد عددها عن بضعة عشرات من الآلاف في مواجهة مئة وستين ألفاً من الأمريكيين مع من معهم من الحلفاء، ونحو مئة ألف من العراقيين المنهزمين الذين يلتحقون بالجيش أو الشرطة التي ركبها ودرّبها وخطط لها المحتل على عينه ولأجل مصلحته، كل هؤلاء في مواجهة نُزَّاغ مفرقين، بلا صولة ولا دولة، ولا كيان سياسي ولا جيش عسكري ولا مصدر اقتصادي... واللهِ {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [النحل: 13].
ونحن نقول: إذا قدَّر الله للكيان القاهر (أمريكا) أن يُقهَر على أيدي المستضعفين من المؤمنين، فستكون هذه هي المرة الثانية في أقل من عقد ونصف، التي يرى العالم فيها خيرية أمة محمد صلى الله عليه وسلم رأي العين، بعد أن يكون الله ـ تعالى ـ قد جعل على أيديها إذلال أكبر قوتين في التاريخ المعاصر، وهما:
الاتحاد السوفييتي والاتحاد الأمريكي، دون أن يكون لأمتنا أي اتحاد، ليكون ذلك آية للمؤمنين، وليكون تجديداً لعهد الفخار والاقتدار الذي أسقط فيه المسلمون الأوائل إمبراطوريتي الفرس والروم في أقل من خمسة وعشرين عاماً، ليصدق بهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : «مثل أمتي مثل المطر، لا يُدرَى أوله خير أم آخره»(1).
ولكن دون ذلك وقبل اكتماله تضحيات وتحديات، فلم يكن انتصار المؤمنين يوماً بلا مقابل، ولم يكن اندحار الكافرين بلا ثمن باهظ من الدماء والأشلاء وجيش جرّار من الأسرى والسجناء والشهداء، ولكن مع الفارق العظيم بين من يضحون لأجل الله، ومن يصدون عن سبيل الله ويصبحون ويمسون في حرب مع الله ومع أولياء الله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104].
وابتغاء القوم، وتتبع مكائدهم، والوقوف في وجه طوفانهم، لم يكن بالأمر السهل أو اليسير التكاليف، فلنكن على ذكر ـ حتى لا ننسى ـ كيف سار المجاهدون في مشوار (ابتغاء القوم) دون وهن، رغم الألم والتنكيل والتخذيل، حتى قام من وسط ركام الهزيمة أولئك القوم الذين يردون اليوم الهزيمة على من أراد أن يلحقها بعموم المسلمين.
* أمريكا: نصر رخيص... وهزيمة باهظة:
بات معلوماً للعالم أن إزاحة صدام حسين لم تكن سبباً وحيداً في فكرة غزو العراق، بدليل أن الأمريكيين لم يصبهم ضرره قبل الحرب، ولم يؤرقهم خطره بعدها، وأصبح واضحاً أن أسلحة الدمار الشامل (المزعومة) التي فُرض لأجلها الحصار الشامل على العراق لأكثر من عقد كامل، لم تكن هي الأخرى سبباً حقيقياً لتلك الحرب، وظهر أيضاً أن أحداث سبتمبر، وما ادعي بعدها من تواطؤ صدام مع القاعدة، كان مجرد هراء، بدليل أن قرار الغزو قد اتخذ قبل تلك الأحداث كما قال ذلك «فويزلي كلارك» المرشح الديمقراطي السابق للرئاسة الأمريكية في كتاب (النصر في الحروب الحديثة)، وقد كان «كلارك» قائداً عاماً لقوات الحلف الأطلسي الذي تسيطر عليه أمريكا. ويدل أيضاً على أن قرار الغزو قد اتخذ قبل أحداث سبتمبر تصريحات وزير الخزانة الأمريكي الأسبق (بول أونيل) الذي قال في كتابه (ثمن الولاء): إن قرار الغزو اتخذته الإدارة الأمريكية قبل ضربات القاعدة، وهو ما يذكر أيضاً بالتقارير المتعددة التي أشارت إلى أن قرار ضرب أفغانستان قد اتخذ قبل هذه الضربات، بل حدث فعلياً أن استهدفت بصواريخ كروز في نهايات عهد «بيل كلينتون».
وقد تبين أن للغزو أهدافاً أخرى، لم تكن خافية على المراقبين والمهتمين، وعلى رأسها ضم النفط المخزون في العراق إلى جانب النفط في قزوين بالقرب من أفغانستان، إلى نفط الخليج، ريثما يتم بطريقة أو بأخرى الاستيلاء على مخزون نفط إيران، إضافة إلى هدف رئيس آخر وراء الغزو وهو تأمين مستقبل (إسرائيل) أو بالأحرى (نصف إسرائيل) من تهديدات على شاكلة توعدات صدام لها بالحرق عندما قال: «سأحرق نصف إسرائيل»! ومن تهديداته بتحرير القدس، عندما أعد لتحريرها كما أشيع جيشاً باسمها يبلغ قوامه نصف مليون متطوع!(62/397)
أما الهدف الأبعد من وراء ذلك فهو ما تواتر عن عزم الإدارة الأمريكية الجديدة ذات القيادة المزدوجة من الإنجيليين النصارى والمحافظين اليهود الجدد، على البدء الفعلي في تنفيذ مشروع بوش الأب عن (إمبراطورية القرن الحادي والعشرين) الذي اختاروا الشرق الأوسط ليكون ساحة ابتدائية لتنفيذه، واختاروا العراق ليكون نقطة انطلاق للوصول إليه، فيصبح ذلك المشروع الإمبراطوري على هذا هو الهدف الرئيسي الجامع في داخله لكل الأهداف الفرعية والجزئية.
ومشروع بهذه الضخامة والجسامة، كان يستحق أن تحشد الولايات المتحدة لأجله الحشود، وترصد الميزانيات، وتستنفر الحلفاء، حتى تكشف أنها أنفقت للاستعداد للغزو قبل أن يبدأ أربعمائة وخمسين مليار دولار.
وكتم العالم أنفاسه بانتظار أن ينتحر مغول العصر على أبواب بغداد ـ كما توعد صدام ـ ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وتسببت عمليات (الصدمة والترويع) التي بدأت بها الحرب في إصابة العالم الإسلامي كله ـ لا العراق فحسب ـ بالصدمة والترويع، وجعلت الأنظمة والحكومات ـ بل الشعوب ـ تتحسس الأرض من تحتها، وتتحسب للدور الآتي عليها، بعد أن أنجز الأمريكيون نصراً خاطفاً في حرب سريعة ضد ما كان يشكِّل أقوى قوة عربية في المنطقة، استطاعت أن تذل كبرياء زعماء الثورة «الإسلامية» الإيرانية التي كانت تستعد للوثوب على دول الجوار!
وانفتحت شهية الأمريكيين، وانطلقوا مسارعين إلى تأمين الفريسة وإعدادها كوجبة شهية تتبعها وجبات، وإنجازٍ سهلٍ يقود إلى إنجازات، وتتابعت الخطوات:
* فور احتلال بغداد أصدر الأمريكيون المحتلون قرارات بتفكيك كل أجهزة الدولة العراقية البعثية، من جيش وشرطة ووزارات واستخبارات.
* شرعوا في تكوين أجهزة بديلة عميلة عبر مراحل متعددة، كان أولها الإعلان عن إنشاء مجلس الحكم الانتقالي برئاسة اليهودي الأمريكي (جاي جارنر)، ثم خلفه الاستخباراتي العريق (بول بريمر) الذي عمل على اجتذاب كل العناصر المأجورة ليشكل بها وضعاً جديداً.
* أُعلن عن تشكيل مجلس للوزراء دون وزارات، بحيث يُختار الأشخاص أولاً، لينشئ كل وزير وزارته بالتعاون مع مستشار أمريكي، هو الوزير الحقيقي الذي يؤسس سياسات الاحتلال في «وزارة التحرير»!
* نظراً لأهمية تأمين هذا المشروع التآمري الوليد، كان لا بد من إنشاء جهاز شرطة عميل، يسهر على أمن الأمريكيين مضحياً بمستقبل العراق وأهله.
* تزامن مع ذلك سعي آخر لإنشاء جيش جديد، قوامه مئتا ألف جندي، لا لحماية الثغور والدفاع عن الحدود من الخارج؛ بل لتنفيذ العمليات المشتركة مع الأمريكيين ضد المقاومة في الداخل.
* ولإضفاء الشرعية على هذه التمثيلية، أعلن الاحتلال تشكيل لجنة «قانونية» لصياغة دستور عراقي جديد، وضع أسسه وفق التصور الأمريكي، اليهودي العراقي (نوح فيلدمان) ذو الجنسية الإسرائيلية الأمريكية المشتركة ليضمن هذا الدستور ألا يكون العراق إسلامياً.. لا ولا عربياً، بل عراق عراك طائفي، ونزاع مذهبي يضمن بقاء بنائه هشّاً ومفتقراً للاحتلال، ومهيّأ لأعاصير «الفوضى الخلاَّقة» التي تريد أمريكا اللعب عليها.
* ثم عُين الرافضي العلماني الجاسوس، الجامع بين تلك الظلمات الثلاث «إياد علاوي»؛ ليكون أول رئيس لمجلس وزراء معيَّن من قِبَل الاحتلال، ثم عُين (غازي الياور)؛ ليكون أول رئيس للعراق «المستقل» في ظل الاحتلال!
* مع الوقت شرع الاحتلال في تجسيد التقسيم الطائفي، فأعلن عن تنظيم انتخابات على أسس طائفية، اضطر معها السُّنة أن يقاطعوا الانتخابات، لتكون النتيجة تشكيل وزارة جديدة، غالبيتها من الشيعة المشايعين للأمريكيين والرافضين لأي تعاون إلا معهم أو مع إيران.
وفي ظل هذه القفزات المتسارعة لتثبيت الاحتلال بدعوى الاستقلال، وجد العراقيون الشرفاء أن العدو ليس واحداً، بل هم مجموع من متحالف من الألداء، ومع أن مقاومة هذا الأخطبوط بدأت مبكرةً في أسرع إفاقة بعد أكبر مصيبة، إلا أن المجاهدين المقاومين بدت أمامهم تحديات وعقبات كان لا بد من مواجهتها جميعاً؛ لأن إهمال شيء منها سيعني إخفاق المشروع المقاوم برمّته.
لقد وجدوا أنفسهم أمام واجب مركَّب، يحوي داخله العديد من الواجبات التي لن ينتدب أحد لحلِّها، ما لم يقفوا هم بأنفسهم لأجلها، متوكلين محتسبين، فأمامهم قوى الاحتلال الذي قال قادته: إنهم جاؤوا ليبقوا، وضمن ذلك تحديات كبيرة:
منها: الإصرار على محاولات إضفاء الشرعية على هذا الاحتلال من خلال حكومات عميلة تتكلم باسم العراقيين، وتتصرف لمصالح أجنبية أو شخصية أو طائفية.
ومنها: جهود إسباغ الشرعية عربياً وإسلامياً على حكومة الاحتلال عبر إقامة العلاقات وإنشاء السفارات.
ومنها: شبح التقسيم الذي وضعت بذوره في ثنايا الدستور الذي أصرت أمريكا وعملاؤها على تمريره.
ومنها: إشكالية التنسيق بين الخطط العسكرية والمشاريع السياسية، والتصدي لمحاولة الاحتلال وعزل كل منهما عن الآخر.
ومنها: إيجاد مواطئ أقدام ونقاط ارتكاز تنطلق منها المقاومة وتفيء إليها، مع ما يحتاجه ذلك من جهود مطلوبة لإدارة هذه النقاط أو المناطق التي يمكن السيطرة عليها.(62/398)
وقد جابهت المقاومة هذه التحديات بتحركات، تطورت عبر مراحل، سلمت كل منها إلى الأخرى، فبدأت بُعيد الغزو بمناوشة المحتلين؛ لتكوين الخبرات وتنشئة العناصر القادرة على المواجهة، ثم بدأت بتنظيم هجومات تكتيكية ضمن حالة الدفع العام للصائل المعتدي، ورتبت بعدها للانتقال إلى خطة الهجوم الإستراتيجي الذي يحوّل الخصم إلى موقع الدفاع، ثم جرى العمل وفق سياسة استنزاف العدو وإفقاده القدرة على الدفاع، لينتقل المجاهدون بعد ذلك إلى تكثيف المطاردة والإنهاك؛ لحرمان المعتدي مستقبلاً من الظهور بمظهر المنتصر، أو حتى المنسحب انسحاباً آمناً، أما المتعاونون مع الأعداء فقد اعتمد المجاهدون سياسة إفقادهم التوازن، ببثِّ الخوف في أوساط كل من يتعاون مع الأمريكيين في الداخل، مع إرباك مخططات إسباغ الشرعية من الخارج، وفوق كل هذا نجح المجاهدون في نقل جزء من المعركة إلى الداخل الأمريكي، عن طريق اتِّباع سياسة إعلامية تركز على إعادة تصدير إستراتيجية «الصدمة والترويع» ـ التي عانى منها الشعب العراقي في أول الحرب ـ إلى الشعب الأمريكي نفسه، وذلك بإصدار البيانات وبثّ الأفلام الحية عن العمليات الناجحة، وهو ما أوجد انقساماً في الرأي العام الأمريكي تجاه جدوى الحرب، سرعان ما تحول إلى شقاق حول مشروعية تلك الحرب ومسوّغاتها.
ومع هذا النجاح في تشكيك الأمريكيين في قدراتهم وقوتهم، ظهرت أيضاً بوادر تفكيك التحالف الدولي المتعاون مع الأمريكيين، بإجبار العديد من الدول على سحب قواتها أو الشروع في ذلك، فحتى الآن؛ انسحبت أكثر من 15 دولة من التحالف، وأعلنت كلٌّ من إيطاليا وبولندا وهندوراس وغيرها عن نيتها على الانسحاب، وهو ما تسبب في ردع دول أخرى كانت ترتب لإرسال قوات مساعدة.
ليس معنى ما ذكرناه عن إنجازات المقاومة أن يُظن أن أهل السنة في العراق يملكون قدرات خارقة، أو إمكانات خرافية، بل على العكس، فسقوط النظام البعثي جعل الطائفة السنية في العراق هي الأكثر تضرراً، بفعل الأحقاد الطائفية الرافضية من جهة، والعنصرية العلمانية الكردية من جهة أخرى، والاستغلال الأمريكي لهذين الطرفين الكارهين من جهة ثالثة، إضافة إلى أن حلّ مؤسسات الدولة كان في غير مصلحة السنة الذين كانوا يمثلون ـ كطائفة ـ غالبية الحكومة العراقية، وهذه الأسباب مجتمعة دفعت المقاومة إلى العمل السري، فكان هذا عاملاً إضافياً في صعوبة مهمتهم، والمقصود هنا أن هذه المقاومة عملت في ظروف استثنائية غير طبيعية، ومع هذا أحرزت ـ بفضل الله ـ نجاحات قياسية في حجمها وفي وقتها وفي أثرها القريب والبعيد، فحقاً إن في ذلك لآية.
* إن المقاومة ـ مع هذا ـ ليست كياناً واحداً، ولا حتى فصائل متحدة ذات سياسات واحدة واجتهادات واحدة في كل الأحوال، فهي وإن كان قوامها أهل الدين والالتزام من العراقيين الذين أحيا الله فيهم روحاً جديدة بعد الغزو، إلا أن فيهم فئات من الجيش العراقي المنحل وكذا رجال من الاستخبارات السابقة وأبناء العشائر، وبعض الحزبيين البعثيين، مع بعض العناصر القومية والوطنية المستقلة، إضافة إلى شريحة ليست بالهينة من العرب القادمين من خارج العراق؛ فكيف تناسق أداء هذا الفريق المتنوع ليوصل إلى هذه النتائج المبهرة في أقل من ثلاث سنوات، بل كيف انبعث بعد كابوس البعث عشرات الآلاف من الأحرار المجاهدين، بعد أن كنا لا نسمع خلال سني صدام عن صوت معارض أو رمز مجاهد.
لقد تكاثَرَ الحديث في الآونة الأخيرة عن حتمية الانسحاب الأمريكي من العراق، وعندما يذكر «الانسحاب» فلا بد أن يُعلم أن هذا هو مجرد تلطيف في العبارة لحقيقة الاعتراف بالهزيمة، سواء كان هذا الانسحاب آجلاً أو عاجلاً؛ لأن خطة الغزو أصلاً كانت موضوعة لبقاء دائم في العراق، وهو ما كشفت عنه صحيفة الجمهورية التركية في أوائل عام (2004م)، حيث ذكرت أن الولايات المتحدة بنت سبع قواعد عسكرية دائمة في العراق لوجود دائم.
* أبعاد الهزيمة: شواهد ومشاهد:
هناك عدد من الملامح المتفرقة، تصنع بمجموعها الصورة الكاملة لما وصل إليه الوضع في العراق، على المستوى القريب والمتوسط، ومن أبرزها:
* المستوى الذي وصل إليه حجم الخسائر البشرية الأمريكية في الحرب، وهو الأمر الذي يجيء في مقدمة الأسباب التي تذهب بصبر الأمريكيين [1] حكومة وشعباً على الاستمرار الطويل في تلك الحرب، فالإعلام الأمريكي ـ رغم عدم دقّته وحياده في نقل الأنباء المتعلقة بالحرب في العراق ـ يبث على الشعب الأمريكي كل يوم أنباء القتلى والجرحى والمخطوفين والمفقودين والهاربين وصرعى الأمراض البيئية والنفسية والعقلية على ساحة الصراع في العراق، وقد وصل حجم الخسائر البشرية المعلن عنها نحو (2500) من الجنود الأمريكيين، وأصيب نحو عشرة آلاف جندي، هذا مع تأكيد الملاحظة بأن الإعلام الرسمي الأمريكي لا يذكر من الضحايا إلا من يحملون الجنسية الأمريكية، دون ذكر الراغبين في الحصول عليها من المرتزقة والمتطوعين.(62/399)
* الاقتصاد الأمريكي المنهك بعد أحداث سبتمبر، زادته حرب العراق إنهاكاً، بحيث لم يعد يحتمل إطالة أمد هذه الحرب، فالمقاومة كلّفت المحتل تكاليف باهظة بلغت حتى شهر سبتمبر 2005م (700) مليار دولار في أقل من ثلاث سنوات فقط، في حين أن حرب فيتنام بكاملها التي استمرت 18 سنة كلفت الاقتصاد الأمريكي (600) مليار دولار، وهذه التكاليف أثّرت سلباً على انتعاش الاقتصاد الأمريكي الذي سيصبح العجز فيه مضاعفاً على امتداد السنوات العشر القادمة، بحسب توقعات مكتب الميزانية في الكونجرس في أغسطس (2005م)، وقد بلغ عجز الميزانية (442) مليار دولار، وهو مستوى قياسي ستضطر الحكومة معه إلى إلغاء الكثير من برامج التنمية المجتمعية والاقتصادية والإسكان.
* أما الخسارة (الحضارية) فلا يمكن أن تُقّدر بثمن، حيث تستنفد أمريكا رصيدها من شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، كلما طارت الأنباء بفظائع الممارسات الأمريكية في احتلالها العراق، فإضافة إلى ما سرّبته صحيفة «لانسيت الطبية» البريطانية منذ عدة شهور عن وصول عدد القتلى من المدنيين العراقيين أثناء الغزو إلى (120) ألف قتيل بخلاف العسكريين، وإضافة إلى ما سمعه العالم ورآه عن فظائع سجن «أبو غريب» والسجون العراقية التابعة للاحتلال، وكذلك ما سبق الاحتلال من موت ما لا يقل عن مليون و نصف من أطفال العراق بسبب الحصار الاقتصادي، فإن الفضائح لا تزال تتوالى عن «الانتصار» الأمريكي لحقوق الإنسان في العراق، حيث تواترت الأنباء عن أن الولايات المتحدة استعملت بعد الغزو القنابل العنقودية، والأسلحة المزودة باليورانيوم والفسفور الأبيض، والقنابل الثقيلة التي تُعدّ قنابل نووية صغيرة، والأسلحة الكيماوية، وهو ما يعني باختصار أن الولايات المتحدة استعملت في العراق (من أجل تحريره من صدام حسين) أسلحة الدمار الشامل، وهو أصبح يمثل كارثة على ذلك الشعب، بحيث أصبحت حالات الإصابة بالسرطان تتفشى بشكل مخيف، وصل إلى (40) ألف حالة إصابة بسرطان الدم أو الجلد، وأكثرها بين الأطفال.
* وقد أوقعت هذه الفظائع الإعلام الأمريكي في ربكة، جعلته في حيرة بين الإصرار على ما اشتهر عنه من الشفافية والحيادية؛ لتأكيد قيم الحرية وحقوق الإنسان، وبين أن يكذب ويتحرى الكذب ـ على مذهب رامسفيلد ـ فتكون النتيجة هزيمة إعلامية أمريكية تضاف إلى الهزيمة العسكرية والاقتصادية والحضارية!
لكن المأزق يبدو أنه أصعب مما نتصور، إلى درجة أن جورج بوش فكَّر جدياً ـ كما كشف مؤخراً ـ في محاولة قصف مقرّ قناة الجزيرة في قطر، كعمل يائس مجنون، يحكي عمق الأزمة الإعلامية الأمريكية، وجاء لجوء وزارة الدفاع إلى إعادة تشغيل جهاز «التضليل الإعلامي» في البنتاجون بتكلفة (300) مليون دولار، تأكيداً جديداً على أن الإعلام الأمريكي أصبح غير قادر على حجب الحقيقة التي تحكي أبعاد الهزيمة.
* مع اهتزاز الأوضاع بسبب الحرب في العراق، عسكرياً واقتصادياً وإعلامياً؛ فقد كان لزاماً أن ينعكس ذلك على الداخل الأمريكي من الناحية الأمنية، فالإدارة الإمريكية التي استنفرت نحو مليون جندي أمريكي؛ لإدارة ما تسميه أمريكا «الحرب العالمية على الإرهاب» في العراق وأفغانستان والعديد من القواعد في بلدان العالم، أوجدت ضغطاً أمنياً يمكن أن يتحول إلى ضعف في مواجهة أي طارئ حادّ، وهو ما صرح به مؤخراً وزير الأمن الأمريكي عندما قال: إن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمّل ضربات أخرى على شاكلة أحداث سبتمبر.
* كلما ازداد التورط الأمريكي في العراق، شعر حلفاء أمريكا بأنها ستغرقهم معها في المستنقع العراقي، وهذا يعمِّق هوة خلاف الأحلاف، ويؤدي إلى تسارع وتيرة تفكيك التحالف الدولي مع أمريكا، لا على مستوى العراق فحسب، بل على المستوى العالمي، في ما يسمى بـ «الحرب على الإرهاب»، حيث صارت عمليات الانتقام تطال حلفاء أمريكا داخل أراضيهم، لا على أرض العراق فحسب، كما حدث في لندن وإسبانيا وتركيا، وهو ما كان سبباً مباشراً في انسحاب جيوش دول عديدة من التحالف، واستعداد أخرى للانسحاب.
* بل إن تخالف التحالف بدأ يسري داخل أوروبا، بل داخل البلد الأوروبي الواحد، كما حدث في بريطانيا، عندما اتهم عمدة لندن رئيس الوزراء «توني بلير» بأنه هو السبب الحقيقي في تفجيرات لندن.
* ومما يزيد في أرق الجميع ـ أمريكا وحلفائها في العراق وخارجه ـ ما تبثّه التحليلات عن تضاعف قدرات المقاومة، وزيادة إمكاناتها كمّاً وكيفاً، وهو ما ينعكس زيادة في نوعية العمليات وتأثيرها؛ فالتقارير تؤكد أن المقاومة ستزداد قوتها بفعل عوامل كثيرة، على عكس ما يراهن عليه بعضهم من انحسارها وانكسارها، وقد ذكرت بعض الدراسات أن المقاومة ستصل أعدادها إلى الضعف، في الفترة الممتدة من شهر يناير (2006م)، إلى سبتمبر من العام نفسه، وهو الوقت الذي ستتهيأ فيه القوات الأمريكية للانسحاب، وهذا ما جعل الباحث الاستراتيجي «إنتوني كوردسمان» يحدد السقف الزمني للوجود العسكري الأمريكي في العراق بعام ونصف، إن لم يكن أقل!(62/400)
* هذه المخاوف المستقبلية لها ما يسوغها من الوقائع السابقة واللاحقة على أرض الصراع في العراق، فالقوات الأمريكية ومن يتحالف معها، تتعرض في العراق إلى ما يقارب (2100) عملية كل شهر، كما صرح دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي، أي: ما يعادل (70) عملية كل يوم، ينفّذها ما يقارب خمسين ألفاً من المقاومين، منهم نحو عشرين ألفاً من المتطوعين العرب، وهو ما جعل العراق في نظر الاستخبارات الأمريكية والدولية؛ أخطر من أفغانستان أيام طالبان، لاتِّساع حدوده، وتعدد الدول المجاورة له.
* التقارير تثبت في المقابل ضعف أو عجز الشرطة والجيش العراقيين المكلفين بمقاومة المقاومة عن أداء مهامهما، فبحسب صحيفة «النيويورك تايمز» الصادرة في 21 يوليو 2005م، فإن (50%) من قوى الأمن العراقي، لا تزال تحت التدريب، والنسبة الباقية لا تستطيع وحدها إنجاز أي مهمة دون مساندة أمريكية.
* يراقب الأمريكيون والأوروبيون والإسرائيليون بتوجس بالغ، تأثّر قطاعات شعبية في بلدان عربية، بانتصارات المقاومة وإنجازاتها، وهو ما قد يزيد من حالات التوتر التي بدأت بالفعل تشكل هاجساً أمنياً خطيراً، وبخاصة في الدول المحيطة بـ «إسرائيل» التي كان تأمينها هدفاً رئيساً من أسباب غزو العراق، وهذا عامل محيّر للأمريكيين، لا يدرون ما الحل فيه: أيظلون في المنطقة ليدافعوا بالنيابة عن «أمن إسرائيل»؟ أم يغادرونها ويتركون اليهود يلاقون مصيرهم وحدهم؟
* كان طبيعياً أن يقود كل ما سبق إلى زيادة خصوم الحكومة الأمريكية في الداخل، وقد استغل الديمقراطيون بوجه خاص ورطات بوش في العراق، كي يضغطوا باتجاه المطالبة بانسحاب سريع، وهو ما يزيد من حالة الحرج التي يتعرض لها بوش وإدارته، حتى أصبح يخرج إلى الإعلام بكثرة مدافعاً أو محذراً أو مبرراً أو رافضاً أو مصدراً للقرارات والتصريحات التي يحاول أن يدفع بها الحملة عليه وعلى إدارته، وهناك الكثير ممن كانوا يؤيدون قرار الحرب سحبوا موافقتهم، منهم المرشح الديمقراطي للرئاسة في الانتخابات السابقة (جون كيري)، والرئيس السابق (بيل كلينتون)، وقد اتهم جورج بوش زعيم الديمقراطيين في مجلس النواب في شهادة أمام الكونجرس بأنه يعرض الأمن القومي الأمريكي للخطر، فقال: «مستقبل جيشنا في خطر... إن جنودنا وعائلاتهم يحمّلون فوق طاقاتهم، وأصبح الناس يتحدثون أن الجيش الأمريكي هزم»!
* وقد تضافرت كل هذه العوامل في إيصال إنذار مبكر إلى «جورج بوش»، بأن هزيمة أمريكا قد تكون كارثية على يديه، وهو الذي كان يتفاخر مع أنصاره من الإنجيليين والمحافظين الجدد بإطلاق مشروعات على امتداد العالم مكانياً، وعلى امتداد القرن زمانياً، انطلاقاً من الشرق الأوسط «الكبير»!
هبطت شعبية «بوش» بشكل كبير في الشهور الأخيرة، فنزلت إلى معدل (42%) بحسب الاستطلاع الذي أجرته صحيفة (نيويورك تايمز) وشبكة ((C.B.S نيوز، ولم يكن هناك تفسير لهذا الهبوط الحاد، إلا الارتفاع الحاد في معدل خسائر أمريكا بشرياً واقتصادياً وإعلامياً.
كل هذه الأمور وغيرها من مظاهر ودلائل الهزيمة، جعلت المشروع الأمريكي برمّته في العراق في مهب الريح، وقد بدا هذا باعتراف «جورج بوش» الصريح مؤخراً في 17/12/2005م بأن: «قرار الحرب قد اتخذ بناء على معلومات استخباراتية خاطئة»! وهو اعتراف يعني بلفظ آخر، أن هناك خطأ ما تسبب في خسارة الحرب!
ويحاول الأمريكيون التغطية على بوادر الهزيمة، بالإعلان عن إجراء (حوارات) مع بعض رموز المقاومة. وفي محاولة لحفظ ماء الوجه؛ يركزون على ما يعدونه «نجاح» التجربة الديمقراطية العراق عبر الانتخابات، وهي تلك التجربة التي فاضت رائحتها من بلاغات الشكوى المتبادلة من التزوير والتزييف التي يحاول بها الفرقاء في العراق إثبات أن الشعب يقف معهم. وفي شكل آخر من أشكال التغطية على النتائج المخيبة لآمال الأمريكيين، جُرّت الجامعة العربية للتحرك ضمن ما سُمي بـ «مؤتمر الوفاق الوطني» الذي يحاول الأمريكيون من خلاله إسباغ شرعية عربية على العملاء العائدين إلى العراق على ظهور الدبابات الأمريكية، مع أن هؤلاء أنفسهم يستشعرون الخطر كلما علت الأصوات بضرورة الانسحاب، إلى درجة المطالبة ببقاء الاحتلال والتحذير من تعريض العراق للخطر إذا وقع هذا الانسحاب في وقت قريب.
والعجيب أن هذا نفسه ما يحس به الأمريكيون، حيث يصرحون بأن هذا الانسحاب لو تم مبكراً لكان هزيمة مشتركة للأمريكيين، ولحلفائهم العراقيين في وقت واحد.(62/401)
وقد كرّر جورج بوش ذلك في الفترة الأخيرة، وقال ردّاً على من يطالبونه بالانسحاب السريع: «إن الانسحاب الفوري خطأ جسيم، وسيؤدي إلى انتصار الإرهاب، وهزيمة أمريكا»! والمعنى نفسه صرَّح به «جيفري وايت» المحلل السابق في وكالة الاستخبارات الأمريكية، حيث قال: «لا نستطيع أن نسيطر سوى على الأرض التي نقف عليها، وإذا غادرنا العراق، فسوف تسقط في أيدي المسلحين»، وكذلك قال «رامسفيلد» في زيارته الأخيرة للعراق في 12/12/2005م: «الانسحاب السريع من العراق، هو أقصر الطرق إلى الهزيمة،»! ولكن الأعجب في استعمال لفظ «الهزيمة» على ألسنة «جورج بوش» و«رامسفيلد» وغيرهما من المسؤولين الأمريكيين أن التصريح بها وباحتمالات وقوعها؛ يجيء بعد أن كان «جورج بوش» قد أعلن من فوق بارجة أمريكية في 2/5/2003 ـ أي بعد انتهاء العمليات العسكرية بشهرين، انتصار أمريكا في حربها ضد العراق!
ولكن بعد مرور ما يزيد على عامين ـ وبالتحديد في أول شهر ديسمبر من عام 2005 ـ تصدر حكومة بوش ما أسمته: «إستراتيجية صنع النصر في العراق»!!، وقد جاء فيها ـ كما نشر على موقع الخارجية الأمريكية ـ: «إن الهزيمة في العراق، ستشجع الإرهابيين على توسعة رقعة نشاطهم، والنجاح في العراق سيوجه ضربة حاسمة إلى الإرهابيين تشلّ قواهم، إن مصير الشرق الأوسط الكبير، الذي سيكون له تأثير عميق ودائم على الأمن الأمريكي؛ هو الآن في كفة الميزان»!
* الانسحاب أو بالأصح: (الهزيمة) بدأت فعالياتها من الآن، فقد صرح موفق الربيعي مستشار الأمن الوطني العراقي، بأن ما يقرب من (25%)، أي نحو ثلاثين ألفاً من القوات الأمريكية بالعراق، ستنسحب في أوائل عام 2006م.
هناك حالة من الإحباط واليأس، لم يستطع الأمريكيون كتمها، حتى «دونالد رامسفيلد» الذي تعوَّد الناس على ظهوره متبختراً مازحاً أمام الشاشات في أعقاب حرب أفغانستان، وأثناء حرب العراق، لا يُرى الآن إلا متجهماً عابساً، وقد اعترف في تصريح له في شهر يونيو (2005م) بأن المقاومة في العراق عندها من الإمكانيات أن تستمر لاثني عشر عاماً في محاربة أمريكا، وقد كرر قائده الميداني ورئيس الأركان السابق في العراق «مايرز» الكلامَ نفسه، إلا أن أحد الجنرالات الأمريكيين المتقاعدين ـ وهو «باري ماكفراي» ـ قد فاجأ الجميع بكلام أخطر من تصريحات «رامسفليد» وقائده «مايرز»، حيث قال ـ بحسب موقع الجزيرة على الإنترنت في 19/7/2005م ـ: «إن الأعمال المسلحة ستبلغ ذروتها في العراق خلال الشهور التسعة الأولى من عام (2006م)، وبعدها سيكون الانسحاب الأمريكي أمراً لا مفرّ منه»!
هناك من السيناريوهات ما هو أكثر خطورة عند الأمريكيين من كل ما سبق، وهو أن لا يستطيع الأمريكيون الانسحاب من العراق في الوقت الذي يريدون، وذلك عندما يثبت عجزهم عن تثبيت الأقدام الخشبية لـ «جيش الدفاع» العراقي المكون من الميلشيات الكردية العلمانية والشيعية الرافضية، وعندها قد تضطر أمريكا اضطراراً للبقاء القسري، متلقية الضربات الموجعة التي يختار المجاهدون زمانها ومكانها، وعندها لن يستطيع «جيش الأشباح» ـ كما وصفه الكاتب «باتريك كوك» ـ أن يدافع عن الأمريكيين، كما لا يستطيع الأمريكيون أن يدافعوا عنه؛ لأن قسماً كبيراً من ضباط هذا الجيش ـ كما يقول الكاتب ـ يتسلمون رواتب جنود وهمييين، جالسين في البيوت، أو غير موجودين أصلاً، فإحدى الوحدات التي يفترض أن يكون فيها عشرون ألف رجل، لا يعدو العدد الحقيقي فيها (300) رجل فقط، والولايات المتحدة التي تتحدث عما يقرب من (150) ألف عراقي في قوات الأمن، لا يزيد عددهم في الحقيقة عن (40) ألفاً فقط!
* ماذا تعني هزيمة أمريكا؟
سيكون لهذه الهزيمة عندما تحدث ـ وهي لا بد أن تحدث بإذن الله ـ ستعني أموراً كثيرة وكبيرة:
* ستعني أن المشاريع ذات الطبيعة الكونية العالمية، مثل: «مشروع الإمبراطورية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين» للإنجيليين الأمريكيين النصارى، ومشروع «القرن الأمريكي الجديد» للمحافظين اليهود الجدد في أمريكا، قد توقفا أو تعرقلا إلى أجل غير مسمّى، وربما أُلغيا بالمرة، بعد أن أنسى المجاهدون في العراق عصابة «الأبواش» وساوس الشيطان.
* ستعني أن أحلام اليهود ـ من المحافظين الجدد أنفسهم ـ في تسلّم دفة الحكم في أمريكا، في مهب الأعاصير؛ نظراً للإحباط الذريع في العراق أولى محطات التآمر العالمي ليهود أمريكا في القرن الجديد.
* ستعني أيضاً، أن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» سوف يرفع إلى رفٍّ صغير في البنتاجون أو البيت الأسود؛ لأن منصة إطلاق هذا المشروع في العراق قد احترقت.
* ستعني أن دولة اليهود التي لا يغيب ظلّها عن كل تلك المؤامرات الدولية ستصبح عما قريب في مواجهة حقيقية مع خطر حقيقي، يختلف مع المخاطر الوهمية الماضية، مثل: الناصرية، والقومية، والبعث العراقي، والبعث السوري، والثورة الإيرانية.
* ستعني أن حاجز الرعب الغربي قد انهدم، وسيف الإرهاب الأمريكي قد انخرم، وبكسر هذين الحاجزين سيكون ما دونهما أهون منهما بإذن الله.(62/402)
* ستعني أن خيرية الأمة الإسلامية ستتجلى من الآن فصاعداً، في شعوبها، لا في دولها وأنظمتها، فالشعب في العراق هو الذي يدافع عن العراق وعن كرامة الأمة كلها، والشعب في فلسطين هو الذي يدافع عن فلسطين وعن كرامة الأمة كلها، والشعب في أفغانستان هو الذي يدافع عن أفغانستان وعن كرامة الأمة كلها، وكذا يقال، وسيقال عن بقية الأمة بشعوبها في أكثر أوطانها.
* ستعني أن عصر القطبية الواحدة آيل للأفول، وسوف تبرز أقطاب أخرى قريباً ـ بإذن الله ـ سيكون منها: القطب الإسلامي العالمي، مُسقِط القطبين قبله، وما ذلك على الله بعزيز؛ فسنن الله الكونية ماضية إلى غاياتها الحكيمة، وفق محكمات السنن الشرعية الدينية؛ لأن امتثال أحكام الله الشرعية، هو الطريق الوحيد لتحقيق أحكام الله القدرية، حتى لو ظنها الناس معجزات أو خوارق لا يمكن أن تتحقق {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
تحدثت عن الآيات... وتبقى بقية عن التحديات:
فإلى عدد قادم بإذن الله.
تحديات ما بعد أمريكا
* يخطئ كثيراً من يظن أن الصراع الدائر في العراق، شأن يخص العراقيين وحدهم، أو يخص المجاهدين هناك فقط، وهذا الخطأ يعود لأمرين جوهريين :
أولهما: أن المحتل الأمريكي الذي جاء إلى المنطقة لمطامع إمبراطورية بذرائع نشر الحرية والديمقراطية انطلاقاً من العراق ؛ أراد تحويل هذا البلد إلى قاعدة عسكرية يمكن الوثوب منها إلى دول الجوار القريب والبعيد للهيمنة عليها بصورة أو بأخرى؛ فالخطر هنا لم يكن قاصراً على العراق.
والأمر الثاني: أن المحتل الأمريكي أعلن مراراً على ألسنة ساسته بأن العراق أصبح الساحة الرئيسية لما تسميه أمريكا بالحرب (العالمية) على الإرهاب! وهو ما يعني أن تلك الحرب يمكن أن تنتقل إلى ساحات أخرى في بلدان أخرى، يقع عليها الاستهداف الخبيث بخطة إبليس المسماة بـ (الفوضى الخلاقة) التي يريد الأمريكيون تكرارها في كل بلد يريدون أن ينقلوا إليه مركز الحرب العالمية على الإسلام، المتسترة وراء الحرب على الإرهاب.
المجاهدون في العراق، أو ما يصطلح على تسميتهم في الإعلام العربي بـ (الجماعات المسلحة)، وما يصطلح في الإعلام الأمريكي والغربي على تسميتهم بالإرهابيين أو المتمردين، هؤلاء قاموا بقدر كبير من الواجب التاريخي في التصدي للهجمة الأمريكية، من الناحية العسكرية الميدانية على الوجه الذي فصلت الكلام عنه في الحلقة السابقة من هذا المقال، وهو الأمر الذي رأيت فيه ـ ولا أزال ـ معجزة تاريخية، وآية ربانية تمر بنا وأكثرنا عنها معرضون أو غافلون.
إلا أن تلك الإنجازات الضخمة والنتائج الجبارة التي ألجأت قوة عظمى بحجم الولايات المتحدة إلى التسليم «العملي» بالهزيمة باتخاذ قرار الانسحاب بعد أقل من ثلاث سنوات من الغزو تتهددها تحديات، يمكن أن تفرغ الإنجاز الضخم من محتواه، وتحوِّل النتائج المبهرة من صورتها الإيجابية إلى صور أخرى سلبية، وهذا المحظور الخطير؛ يمكن أن يقع ـ ونسأل الله ألا يقع ـ إذا حدثت محاذير أساسية، يمكن اختصارها فيما يلي:
1 ـ إذا لجأ الأمريكيون إلى خيار (الأرض المحروقة ) عند انسحابهم المخزي المهزوم، بإشعال حرب أهلية، طائفية وعنصرية، يمكن أن تؤدي إلى إحراق ما تبقى من العراق، إذا استجاب لها أقوام دون تقدير للظرف التاريخي الخطر، والمنعطف الحضاري الحساس.
2 ـ إذا أصيب بعض المقاومين بداء نشوة النصر، فراحوا يسارعون إلى جمع الغنائم واقتسامها في شكل مواقف متعجلة، وقرارات منفردة من شأنها أن تمكن الأعداء من استعادة التوازن، أو تمكِّن بعض الفرقاء من اختطاف النصر، واقتطاف الثمار.
3 ـ إذا استمرت الأنظمة في الدول العربية والإسلامية في خذلان العراقيين والسير في ركاب الأمريكيين، لينوبوا عنهم ـ بعد الانسحاب ـ في أداء مهمة أمريكا المستحيلة في العراق، وهي تقوية العملاء وحمايتهم وإضفاء الشرعية على حكومتهم.
4 ـ إذا استمر أكثر الإسلاميين في رفع أيديهم عن التحدي الذي تواجهه الأمة في العراق عقائدياً وحضارياً ـ حيث يتربص به العلمانيون ليسلخوه عن الإسلام، والفرس ليعزلوه عن العروبة، وأمريكا والغرب واليهود ليردوه إلى عصور ما قبل الحضارة.
والضرورة تقضي ـ ونحن على مشارف الاستبشار بالنصر الجديد ـ ألا يسمح الغيورون على الأمة وحرماتها في العراق وخارجه؛ أن يتحول هذا الانتصار إلى انكسار؛ فكم في التاريخ من نجاحات لم يحفظها أهلها فتحولت إلى إخفاقات؛ فما حدث في أُحُد، كُبِّرت صور عديدة منه في الشام وإفريقيا والأندلس، وكُررت في عصرنا في حرب رمضان وحرب أفغانستان. ولكن أوضاع الأمة هذه المرة لا تحتمل مثل هذه التحولات الحادة، فالخصم ضخم، والمشوار طويل، والجراح كثيرة.
* لكن الفرصة سانحة:(62/403)
نعم!... فهناك متسع من الحظ لأن تغالب الأمة هذه التحديات، وتمارس خيريتها مرة أخرى فتستنقذ العالم من غول المغول الجدد، والصليبيين المعاصرين في حملاتهم المتجهة ـ كما هي العادة في التاريخ ـ نحو شرقنا العربي الإسلامي بغرض إنشاء إمبراطورية جديدة من إمبراطوريات الشر، وقد ساق الله بأقداره الحكيمة الأمور إلى تناغم عجيب بين أداء الفداء الأسطوري للمقاومين في العراق، مع الغباء الاستثنائي للتخطيط الأمريكي الذي يتخبط في ورطاته، ويتورط في تخطيطاته من مرحلة إلى مرحلة وفق إستراتيجية هلامية، اتفقت عليها النخبة الحاكمة في أمريكا.
هذه الإستراتيجية، كانت تقوم ـ حتى الانتخابات الأمريكية الأخيرة ـ على أمور ثلاثة أساسية وهي:
• البقاء في العراق حتى تحقيق مصالح أمريكا الاقتصادية وتأكيد هيبتها السياسية.
• الانتهاء من هزيمة من تسميهم أمريكا بـ (المتمردين) كجزء رئيس من الحرب العالمية على (الإرهاب)
• تثبيت حكومة موالية للأمريكان، يمكن من خلالها مواصلة تحقيق الأهداف الأمريكية، والادعاء بتحقيق الديمقراطية والحرية للشعب العراقي.
وهذه الإستراتيجية التي تبدو منطقية لدى الأمريكيين، هي في الحقيقة غير عملية؛ لأنها تستند إلى عدة افتراضات وهمية:
الوهم الأول منها: هو افتراض أن الوجود الأمريكي سيظل ممكناً رغم فداحة الخسائر حتى تحقق أمريكا مصالحها وتؤكد هيبتها وتثبت عملائها.
والوهم الثاني: هو توقع أن يوافق أحرار العراق على قرار أمريكا بالاستقرار في بلادهم دون أن يضاعف هبّتهم لرد الصاع صاعين في وجه الغزاة ومن يشابههم.
والوهم الثالث: هو افتراض سهولة القضاء على المقاومة عسكرياً، أو تدجينها والتغرير بها سياسياً.
والوهم الرابع: هو افتراض وجود القابلية للممارسة الديمقراطية في البنية الطائفية والعنصرية العراقية، التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تقدم النموذج المحتذى ـ كما يحلم الأمريكان ـ في نشر ما يسمى بقيم الحرية والتعددية وقبول الآخر؛ فالطائفية والعنصرية في العراق جبرية قهرية تاريخية، لا يحيّدها أو يحد من أثرها إلا التوازن بين الأقوياء، ولا يزيل أوضارها إلا أخوّة الدين.
وعليه، فإن إستراتيجية أمريكا للانتصار في العراق هي إستراتيجية مفلسة سلفاً، لاستنادها إلى تلك الأوهام والافتراضات الخاطئة، وقد بدت أمام العالم مؤشرات إقبال الولايات المتحدة على مواجهة أسوأ النتائج المترتبة على انهيار إستراتيجيتها في العراق، وهذا وإن كان يحمل في طياته من المبشرات والتطمينات ما يحمل، وبخاصة فيما يتعلق بتسريع وتيرة الانسحاب المهزوم، إلا أنه يشير في الوقت نفسه إلى الكثير من المحاذير؛ لأن أمريكا التي ستواجه أسوأ النتائج، لا شك أنها وعملاءها سيُقْدِمون على أسوأ الحيل وأنذل التوجهات والإجراءات، للتغطية على النتائج الكارثية لهزيمتهم التاريخية في العراق.
والمتوقع أن يترجم هذا إلى عدد من التحديات الجديدة التي ستتوجب مواجهتها على الصعيد العراقي الخاص، والعربي الإسلامي العام.
ويمكننا أن نصنف هذه التحديات إلى مستويات عديدة، باعتبار أن تحديات ما بعد الانسحاب، لن تأتي من أمريكا وحدها، وإنما من أطراف عديدة، يمكن تفصيلها على الوجه التالي:
أولاً: أمريكا وخيارات الانتقام:
* قد تلجأ الولايات المتحدة إلى سيناريو اليابان بدلاً من سيناريو فيتنام؛ ففي مواجهة الهزيمة في فيتنام اكتفت أمريكا بالانسحاب الذليل دون ضجة أو انتقام، بينما أفرطت في الانتقام في حالة اليابان حتى استعملت القنابل النووية، كي تستعيد هيبتها وتفرض احترامها على من تجرؤوا بالهجوم عليها في سيناريو (هاربر). وفي حالة الهزيمة في العراق؛ لن تلجأ الولايات المتحدة إلى مثل هذه الخيارات المجنونة ـ في اعتقادي ـ إلا في حالة واحدة، وهي الحالة التي يمكن أن يُُعلن فيها عن إقامة دولة إسلامية سنية سلفية جهادية بعد الانسحاب، تصلح لأن تكون قاعدة امتداد إسلامي عالمي جديد، فعندها سيكون هذا بمثابة إعلان حرب على أمريكا والغرب، ولن تكون المعالجة هنا تقليدية عقلانية، بل ستكون شمشونية جنونية.
* اعتماد مبدأ (الفوضى الخلاَّقة) قد يكون خيار الأمريكيين في آخر الحرب كما كان خيارهم في أولها؛ فالولايات المتحدة التي تعمدت فك كل الأربطة في جسم الدولة العراقية بُعَيْد الغزو، لتغرقها في فوضى يمكن النفاذ فيها إلى كل الأهداف الأمريكية؛سوف تلجأ إلى هذا الخيار إذا رأت فيه تحقيقاً لشيء من مصالحها، ضاربة عرض الحائط بمبادئ الديمقراطية والإصلاح والتعمير.
وخيار (الفوضى الخلاَّقة) يمكن تنفيذه بتسعير أتون الحرب الأهلية، لا بين الشيعة والسُّنة فحسب بل بين العرب والأكراد، وبين العلمانيين والإسلاميين، بل بين الإسلاميين الذي يُدعون (معتدلين) وإخوانهم الموصوفين بـ (المتشددين)، والحرب الأهلية يمكن أن تندلع إذا تركت أمريكا أرض العراق وهي واقعة تحت سيطرة الشيعة والأكراد وحدهم دون السنة العرب، أو تحت سيطرة العلمانيين دون بقية طوائف المتدينين، أو إذا تركت العراق بدون حكومة أصلاً.(62/404)
* سيناريو إشعال الحرب الأهلية، قد يدفع باتجاه المخطط القديم بغرض التقسيم، حيث سيطالب الشيعة بجنوب العراق ـ وفقاً لترتيبات ما يسمى بـ (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) وسينفصل الأكراد (رسمياً) بالشمال، بعد أن استقلوا به عملياً منذ فرض الحظر الجوي على شمال العراق بعد حرب الكويت؛ وهنا قد يضطر أهل السنة إلى وضع أيديهم على ما يبقى من الكعكة العراقية في الوسط، أو ما يبقى من ذلك الوسط، بعد أن يكون الشيعة قد فصلوه وفصَّلوا أجزاء منه لصالح الجنوب الشيعي.
* الأمريكيون سيلجؤون حتماً إلى إعمال مبدأ (فرق تسد) بين الفصائل الجهادية السنية العراقية وبين العناصر المشتغلة بالسياسة من سنة العراق. أما تفريقها بين فصائل المجاهدين أنفسهم، فقد بدأته أمريكا بفتح قنوات اتصال مع المقربين من بعض الفصائل الجهادية، مع الترويج إعلامياً للتفريق بين ما يسمى (المقاومة الشريفة) و (المقاومة غير الشريفة)! والتفريق بين (الراديكاليين) و (الواقعيين) من السياسيين، وبينـ (المعتدلين) و (المتشددين) من الإسلاميين، وغير ذلك من التقسيمات الخبيثة التي بدأت أمريكا في استغلالها أسوأ استغلال.
* ستغير الولايات المتحدة في ولاءاتها بحسب مصالحها؛ فهي وإن كانت قد استهلكت الورقة الدينية الشيعية في معظم ما مضى من زمن الاحتلال، إلا أنها قد تُحل الشيعة العلمانيين محل الشيعة المتدينين، ليكون رهانها على تغيير البنية الثقافية للشعب العراقي أوقع وأقرب، والأخطر من ذلك، أن تضم إلى ذلك شرائح من السنة المتميعين أو العلمانيين فتجعل بعضهم رؤوساً في نظام الحكم تنطح بهم المقاومة التي قد تفاجأ ـ كما كان عهد الاستعمار دائماً ـ بخلفاء الاستعمار وحلفائه، الذين لا يرقبون في مؤمن إلاَّ ولا ذمة.
* ستضطر الولايات المتحدة إلى إنهاء حملتها العسكرية في يوم من الأيام القريبة المنظورة ـ بإذن الله ـ تحت وقع الضربات الجهادية، ولكن حرب الدمار والاستعمار، كانت تعقبها دائماً حرب الأفكار، وقد صار مصطلح «حرب الأفكار» مستقراً في إستراتيجية المواجهة الأمريكية للمد الإسلامي، وهو وإن كان لم يفعَّل إلى الآن بالصورة المخطط لها، إلا أن المتوقع أن يشهد العراق، وتشهد الكثير من دول العالم الإسلامي، هجمة ثقافية وإعلامية تحاول يائسة تشويه صورة المنتصر النبيل وتقديمه على أنه عدو للحضارة، وطارد للتقدم، وعاشق للتخلف. ولن يألو المنافقون جهداً في تقديم وقود تلك الحرب، من خلال مراكز أبحاثهم ووسائل إعلامهم ومنابر أفكارهم المقروءة والمسموعة والمشاهدة، لتكون الحرب هذه المرة ليست موجهة فقط إلى المفردات الشاذة التي ذللوها على ألسنة الجهلة من العامة، كاالإرهاب والتطرف والأصولية، بل ستوجه إلى الإسلام نفسه تحت مسمى مواجهة السلفية والوهابية والعقيدة السنية.
* إن هذه التحديات الجسام، تحتاج إلى مئات العقول المفكرة، والقلوب النيرة والكفاءات القديرة كي تنتدب لمواجهة ما قد تخبئه الأيام لا على مستوى العراقيين فحسب، بل على مستوى الأمة كلها بالأقرب منها فالأقرب؛ فمن غير المقبول أن نكون شركاء في إجهاض النصر وتبخر الحلم وفقدان الفرصة، بترك هذه التحديات تمضي لغايتها. وبما أن العثور على الحلول لا يُنال بمجرد الآمال، فإن ذوي الرأي وأصحاب الفقه وأرباب التخصصات الدينية والسياسية والإستراتيجية والإعلامية في الأمة مدعوون اليوم بإلحاح إلى تقديم المستطاع من الرأي والمشورة، والتسديد والتقريب والنصيحة، إلى أصحاب القرار الإسلامي في العراق باعتبارهم نواباً عن الأمة في مواجهة الملمات التي تحيق بجزء من جسدها على أرض الرافدين، علماً بأن عاماً أو أكثر قد يمضي حتى ينتهي الاحتلال، وتبدأ مشكلات ما بعد الاحتلال.
هناك معضلات معقدة، لا يصلح لها إلا أهلها من أصحاب التخصص في الفتاوى الفقهية أو التنظيرات العسكرية والإستراتيجية، ولكن هناك عمومات، تحكمها المبادئ المستقرة في الفهم الإسلامي قد تضيع ـ مع بداهتها ـ في زحمة التفصيلات والتفريعات وهي تحتاج فقط إلى حسن التقدير، مع حسن التقديم.
ولعل ما يتبادر إلى الذهن منها ـ فيما يتعلق بالتحديات على المستوى الأمريكي ـ ما يلي:
* يمكن تضييق خيارات أمريكا في الانتقام، بشد اللُّحمة، وتقريب الهوة بين فصائل المجاهدين من جهة، وبين عموم الشعب من جهة أخرى حتى لا تتمكن أمريكا وأولياؤها من عزل المقاومة وتصويرها بصورة الخروج عن الصف العراقي. والبداية في توحيد الصف العراقي ـ ولو في حدها الأدنى ـ لن تكون إلا من المجاهدين؛ فهم الأقدر على مجاهدة شياطين الفرقة وغربان البين، والشعب سيكون تبعاً لهم إذا اتحدت كلمتهم، وبقية الأمة ستكون مع خيارهم، وعندها سيظهر الانتقام الأمريكي ـ إذا حدث ـ على أنه انتقام من الشعب، يمكن أن يضاف إلى سجلات الإجرام بانتظار إجراء مماثل من المعاملة بالمثل.(62/405)
* هناك متسع من الوقت لتفويت فرصة (الفوضى الخلاَّقة) التي قد تترجم إلى حرب أهلية؛ وذلك باجتماع الرؤوس الكبيرة من سنة العراق عرباً وأكراداً على إستراتيجية موحدة لما بعد الانسحاب ولو في خطوطها العريضة، استباقاً للتحرش الأمريكي الذي يراهن على إشعال المواقف وإذكاء الفتنة، وكذلك فإن الاتفاق على آلية للتحاور والتفاهم من الآن، أمر لا بد منه ديناً وعقلاً؛ لأن الشح المطاع، والهوى المتبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، قد يغرق السفينة بركابها وربانها.
* خطر التقسيم لا يمكن دفعه إلا بمدافعة الواقفين وراءه؛ فلو علم كل ساعٍٍ في التقسيم أن ثمن سعيه سيكون وبالاً عليه لرجع وارتدع؛ فكم من مَرَدَة ردتهم المخاوف والحسابات الدقيقة للمستقبل، عن أحلام التفرد والتمرد. قال الله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ثم قال بعدها: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] وهم المنافقون الممالئون للكافرين. ومن الخير أن يتواكب النصح مع الردع، بإقناع الفرقاء بأن العراق الموحد قوة للجميع؛ وتمزيقه إضعاف للجميع، فدعاة التقسيم لن يقفوا عن حد ثلاث دويلات للأكراد والسنة والشيعة، بل قد يسعون إلى مزيد من التفتيت حتى يصل الأمر ـ لا قدر الله ـ إلى أن نسمع عن الإمارات العراقية «المتحدة»، مع الولايات الأمريكية المتحدة!!
*** حرب الأفكار الأمريكية، لا بد من الإعداد لمواجهتها من الآن بأفكار إسلامية، وهذا الواجب ألصق بخارج العراق منه بداخله؛ فالمستهدَفون بهذه الحرب ليسوا العراقيين المشغولين في المعركة فقط، لكن المستهدَف هو الأمة كلها، ولهذا يتكاثر من الآن نشاط المراكز البحثية المشبوهة، والقنوات الفضائية الفوضوية لخوض غمار تلك الحرب التي يتوقع أن تستعر أكثر بعد الانسحاب، لإلهاء الناس عن فضيحة الهزيمة التاريخية لأمريكا. من واجب الباحثين والإعلاميين الإسلاميين، أن يرصدوا فعاليات تلك الحرب ـ حرب الأفكار ـ ليتمكنوا من صدها قبل أن تؤتي ثمارها المرة؛ فهذا واجب إسلامي عام، لا يحتاج إلى ساحات تدريب أو ميادين رماية.
ثانياً: إيران واللعب بالنيران:
هيام الفرس بعبادة النار قديماً، قد ترك آثاره فيما يبدو على تكوين مَنْ لم يتطهر بالكامل من أدران تلك النيران الفارسية الجاهلية الماضية؛ فالثورة والثأر والتثوير، كلها مفردات جاهزة للإنتاج والتصدير، في ظل معتقدات التشيع الفارسي التي حولت هذه السلوكيات الدخيلة إلى قربى إلى الله، وزلفى إلى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانضمام الطبيعة الفارسية إلى العقيدة الشيعية، جعل مذهبهم ناراً على نار بدلاً من أن يكون نوراً على نور.
وقد أخرجت دوافع الثارات التاريخية القديمة أصحاب القرار في إيران عن كثير من فرضيات العقل والمنطق، فضلاً عن مقتضيات الدين والمصلحة، فراحوا يُحنون ظهورهم أمام العدو الكافر الظاهر ليمر من فوقها إلى اقتحام حرمات المسلمين ومقدراتهم في كل من أفغانستان والعراق، وسوف يكتب التاريخ بحروف سوداء تلك المواقف النكراء التي كرر بها هؤلاء سلوك أشياعهم وأجدادهم من أمثال نصير «الدين» الطوسي، ومؤيد «الدين» العلقمي الذين جعلوا من الدين ستاراً يخفي التآمر مع أعداء الدين.
وإذا كنا لا نزال نذكر مواقفهم في الموالاة الصريحة لـ «الشيطان الأكبر» قبل وأثناء وبعد غزو أفغانستان والعراق، فإننا ـ وبكل مرارة ـ نتوقع الأسوأ بعد أن تمضي سحابة الاحتلال السوداء الهوجاء.
إذا كانت القوات الأمريكية وشريكتها البريطانية، وغيرهما من الشركاء والحلفاء يفكرون من اليوم في كيفية الهروب الآمن من العراق؛ فالقوات الإيرانية الأجنبية ـ تحت رايات وطنية ـ لا بد أنها تستعد من اليوم للحلول مكانها، والحؤول دون رجوعها، لتستفرد هي بالقصعة العراقية؛ وقد تمهد الأمر من الآن لإيران بعدما تمكن شيعة العراق الموالين لها من السيطرة على معظم كيان الجيش والشرطة. ولا نظن أن هذا الإنجاز الذي توافر للشيعة في كل من إيران والعراق، سيسهل التفريط فيه عند عموم الطائفة المتطلعة إلى استكمال الهلال (الخضيب) من أفغانستان إلى لبنان، مروراً بإمارات الخليج والعراق وسورية، ولهذا فإن ذلك يمثل تحدياً عظيماً من تحديات ما بعد الهزيمة الأميركية، ليس لأهل السنة في العراق فحسب، بل لأهل السنة في العالم أجمع، هؤلاء الذين لم يجمعهم ـ إلى الآن ـ إلا التفرق والتنازع، دون ما مرجعية علمية موحدة، أو قيادة سياسية واحدة.
قد تسارع إيران في مساندة خيار التقسيم كخطوة أولى، لتضمن مشايعة الجنوب الشيعي لها، وانضواءه تحت لوائها، وجيش الغدر المسمى بـ (فيلق بدر) جاهز من الآن ليكون الجهاز العسكري لدولة المجلس الأعلى «للثورة الإسلامية» في العراق، بقيادة عبد العزيز الحكيم، وحزب الدعوة، جاهز لإدارة الجهاز السياسي فيها.(62/406)
وسيناريو التغلغل الشيعي على الصعيد السياسي أو العسكري، قد أسس له منذ البداية خميني العراق «الإيراني» السيستاني، فهو الذي دفع بالشيعة إلى الانخراط بقوة في العمل السياسي والعسكري في ظل الاحتلال الذي لن يقتصر في المستقبل ـ على ما يبدو ـ على جزر الإمارات العربية، بل يريد الامتداد للسيطرة على بعض العواصم العربية، بالتواطؤ مع الأمريكيين حيناً، وبالانفراد عنهم أحياناً.
اختراق إيران للعراق، والذي سيكون ـ إن وقع ـ اختراقاً للخليج كله، وسوف ينعش ثورات التشيع في أكثر دول المنطقة؛ حيث سنسمع عن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في أكثر من عاصمة عربية، بل وغير عربية، وهو ما سيؤسس ـ إذا سارت الأمور على حسب مخططات بروتوكولات حكماء قم إلى مدٍّ رافضي خطير، يطال العقيدة والدين، بعدما يهدد الأوطان والمقدرات؛ وهنا قد تقع الشعوب الإسلامية السنية بين فكي كماشة الفرس والروم!
وعلى غرار الجهد المطلوب لمواجهة التحديات الأمريكية، تتأكد الحاجة لجهود مضاعفة لمواجهة التحديات الإيرانية، ولعل من المعالم البارزة في هذا الصدد أن يجري استحضار الحقائق التالية:
1 ـ ليس كل الشيعة من أهل القناعات الدينية؛ فهناك شرائح منهم علمانية، ولكن الديني والعلماني في إيران، مشبع بروح فارسية، تستبطن العداء للعرب، وبخاصة السنة منهم، ولذلك فلن يكون لشيعة العراق العرب مهما توهموا كبير وزن في إدارة شؤون العراق إذا ما تمكنت إيران هناك، ولهذا فإن الحاجة ماسة إلى شىء من التأليف وتقريب الآراء بين العرب السنة والعرب الشيعة في العراق، لا على خلفية عنصرية ضد الفرس؛ فذلك ليس من الإسلام، بل على خلفية المصلحة العامة التي يحتاج إليها الطرفان في مواجهة التوغل الإيراني القادم.
والذي نعرفه أن شيعة العراق من غير الفرس، أقل خبثاً وأدنى قرباً من السنة هناك، بفعل عوامل التعايش والتجاور والمصاهرة، وبخاصة العامة منهم؛ حيث يعتقد أنه يسهل كسبهم أو تحييدهم إذا افتضح استغلال الإيرانيين لهم.
2 ـ لأن شيعة العراق منهم المتدينون المتشددون، ومنهم العلمانيون والليبراليون؛ فإن رهان أمريكا منذ البداية كان على الشيعة العلمانيين، وبخاصة الليبراليين الذين رأت أنها يمكنها من خلال تمكينهم أن تدعي النجاح في إحلال قيم الحرية والديمقراطية في العراق، كنموذج أول في الشرق الأوسط.
ومن غير المستبعد أن تتدخل أمريكا بشكل ما، لإفساد الطبخة التي أنضجها الدينيون المتشددون في الانتخابات الأخيرة، لتعيد العلمانيين الليبراليين من أمثال العلاوي والجلبي إلى سُدَّة الحكم، وهذا ـ إن وقع ـ سيكون مقدمة صِدام مصالح آخر بين أمريكا وإيران على أرض العراق، وبوسع السنة أن يستفيدوا من هذا التناقض، وهم وحدهم الأقدر على اغتنام هذه الفرص.
3 ـ من الممكن أن يجد شيعة العراق العرب أنفسهم في خيار يدفعهم إلى التقرب من جديد إلى أهل السنة؛ وذلك عندما يكتشفون حقيقة الطمع الإيراني والجشع الأمريكي، وهنا... فعلى سنة العراق ـ وبخاصة العلماء والدعاة ـ أن يحسنوا استثمار هذه الفرصة إذا سنحت، من خلال إعلان المبادرات المشتركة لحقن الدماء وإيقاف الشحناء، والانتقال ـ أو بالأحرى ـ الرجوع إلى صيغة التعايش التاريخية المعروفة عن شعب العراق حتى يهدي الله من يشاء إلى صراط مستقيم.
ولا شك أن هذا الخيار قد يكون فيه الخير للطرفين؛ فالسنة ليسوا في حاجة إلى تكثير الأعداء، والشيعة ليسوا في حاجة إلى مزيد من الاستعداء لقوم بدا أنهم أولو بأس شديد إذا جاسوا خلال الديار.
ثالثاً: العراق: عراك ما بعد المعركة:
* معركة العراقيين مع الأمريكيين مع شراستها وفظاعتها، ستبدو بعد انتهائها بسيطة في تركيبها المنطقي، سهلة في حسابات الخسائر والمكاسب؛ فهذا صائل معتدٍ، جاء للقتال من أجل مطامحه ومصالحه الخارجية، فلما تهددت بسبب ذلك مصالحه الخارجية والداخلية، انزوى ورجع القهقرى، والطرف الآخر أبناء وطن معتدىً عليه، انتدب شرفاؤه للدفاع عنه مع من فاؤوا إليهم من مهاجرين و أنصار، تسابقوا إلى الفداء بالأرواح والأموال والدماء.
لكن الأمر سيختلف، والمنطق سيتعقد، والحسابات سترتبك، إذا ما تغيرت معالم المواجهة في الميدان العراقي بعد الانسحاب الأمريكي، سواء بفعل الأمريكيين الراغبين في إغراق أو إحراق العراق من بعدهم، أو بفعل الفرقاء المتشاكسين الذين سيحاول كل منهم أن يؤسس لواقع جديد، يخدم الشريحة التابعة له، ولهذا فإن ألواناً جديدة من التحديات على الساحة العراقية، ربما يتوالى ظهورها على مسرح الأحداث هناك، وهو ما يستدعي إعادة النظر في بعض الاجتهادات وربما الاستراتيجيات لمواجهة هذه المتغيرات بما يحفظ ما تحقق من مكاسب على صعيد المواجهة الكبرى مع أمريكا.
ومن التحديات المتوقع بروزها على المستوى العراقي ما يأتي:(62/407)
* سيرحل الأمريكيون دون أن تكون مشكلات العراق قد حُلَّت، والمرجح أن يستمر التوتر وربما القتال لإعادة رسم الخريطة الجديدة، والتحدي الذي سيواجه أهل السنة بعد الانسحاب، سيكون ـ على الأرجح ـ متعدد الأوجه، فمن ناحية سيكتشف أهل السنة أنهم الحلقة الأضعف على الساحة السياسية، بينما تكمن قوتهم في ميدان القدرة القتالية، وهي لا تكفي على كل حال لبناء مستقبل آمن للأجيال، ومن ناحية أخرى فإن أمور القتال نفسها تميل الطبيعة البشرية إلى النفور من طول التضحية فيها بلا أفق منظور، ومن ناحية ثالثة فإن طبيعة القتال بعد انسحاب الأمريكيين ستتغير، وسوف تفقد الكثير من شرعيتها في نظر الناس داخل العراق وخارجه، حتى ولو كانت ضد الوكلاء الرسميين للأمريكيين.
* هناك ندرة ملحوظة في المرجعيات العلمية الدينية عند أهل السنة في العراق في مقابل فائض كبير في المرجعيات الدينية الشيعية داخل العراق وخارجه، ومع تداعيات الأحداث بعد الانسحاب، وفي ظل تغير الأوراق سيحتاج العراقيون السنة إلى من يقودهم في الملمات، ويفتي لهم في المعضلات، ويتكلم باسمهم جميعاً كلاماً مفهوماً ومسؤولاً، وهذا تحدٍّ ماثلٌ للعيان من الآن، ويتفرع عنه تحد آخر، وهي احتمالات انتشار أفكار الغلو والابتداع، سواء من جهة التشدد الخارجي، أو التسيب الإرجائي أو لوثات التصوف أو التشيع، وكلها اتجاهات يمكن أن تنتعش وتنتشر في بيئة فكرية كبيئة العراق، التي لا تزال بكراً عذراء على الساحة السنية، بينما هي ثيب شمطاء على الساحة الشيعية، ولا شك أن الفوضى وعدم الاستقرار من الناحية السياسية، كثيراً ما ينعكس على النواحي الفكرية.
* هناك تضخم في الخبرة القتالية والعسكرية الميدانية على حساب الخبرات السياسية والاستراتيجية، والمشروع السياسي للمجاهدين لا يزال غير واضح المعالم، وإذا وضح عند بعضٍ فإن بعضاً آخر قد لا يوافق عليه، والخطورة هنا أن ينعكس هذا الضعف في الخبرة على التعاطي مع الأحداث، فتنطلق المبادرات، والاجتهادات الشخصية في النوازل الكبرى، دون الرجوع إلى أهل الشأن في مجالات الاجتهاد الشرعي والسياسي والاستراتيجي والإعلامي والاقتصادي.
* هزيمة أمريكا في العراق، لا تعني تراجعها عن أطماعها فيه أو في بقية بلدان العالم الإسلامي؛ فالخطط يمكن أن تتغير، بل قد تلجأ أمريكا إلى تعويض فشلها في العراق باقتحام ساحات أخرى، لاختلاس نجاحات رخيصة في أماكن ضعيفة، ولهذا لا ينبغي النظر إلى هزيمتها في العراق على أنها نهاية المطاف.
قد تنجح أمريكا في جلب قوات عربية وإسلامية، لتكون المعركة في العراق عربية عربية، وهذا سيناريو خطير، لا بد من التنبه له والاستعداد لإبطاله، وخاصة إذا أخذ شكل قوات لحفظ السلام أو إعادة النظام أو غير ذلك من الشعارات الخداعة التي يمكن أن تحقن بها أمريكا دماء جنودها، لتريق دماء المسلمين بعضهم ببعض.
* الساحة في العراق مهيأة لتفحش وتوحش ظاهرة العملاء الخونة، سراق الجهود وقطَّاف الثمرات وخدم الأعداء، وهؤلاء يقتضي الأمر إحكام أمر التعامل معهم فقهياً أولاً ثم عملياً، حتى لا تتكرر مصائبهم التي ألحقوها بالجهاد في فلسطين، عندما تحولوا إلى سرطان خبيث بيد الصهاينة.
* إذا كان المشروع السياسي أمراً مهماً في مواكبة المشروع الجهادي، فإن هناك مشاريع أخرى دعوية وتنموية واجتماعية وإعلامية، سيكون تفعيلها وتقويتها إسناداً مستقبلياً لأهل السنة في العراق واستمراراً لدورهم المركزي في إفشال مخططات الهيمنة والإفساد من الداخل والخارج، وهذا الأمر بحد ذاته ينشئ دوراً لكل راغب في الاستجابة لواجب النصرة، وكل مشتاق للشراكة في صنع النصر، من داخل العراق أو من خارجه؛ فمن غير المقبول أن يتداعى يهود العالم لمساندة إخوانهم المغتصبين في فلسطين، ويتخاذل أهل الإسلام عن نصرة من ينافحون عن عموم المسلمين {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].
ومما يخشى منه أيضاً، أن يقفز إلى عجلة توجيه السفينة قدامى القوميين أو البعثيين أو اليساريين، ليزايدوا على الإسلاميين.
* استمرار عمليات الجهاد ستكتنفها مصاعب جمة، إذا أُلجئ الأمريكيون إلى التحصن خارج المدن، في انسحاب شكلي لا حقيقي، ومع أن هذا في حد ذاته لا ينفي حقيقة الهزيمة الأمريكية، إلا أنه سيقلل من شأن الانتصار العراقي؛ حيث سيظل العراق يبدو في حكم الاحتلال مع إظهار مظاهر الاستقلال، وستزداد مهمة المجاهدين صعوبة إذا ما صدَّر لهم الأمريكيون عملاءهم ووكلاءهم المتسمين بأسماء المسلمين، وسيكون الأمر أصعب وأصعب، إذا كان الوكلاء والعملاء، من المنسوبين لأهل السنة من داخل العراق أو خارجه؛ حيث سيسهل على الأمريكيين أن يصوروا النصر العراقي بصورة الهزيمة التي أثمرت قتالاً بين أبناء الوطن الواحد والمصير الواحد.(62/408)
? قد يلجأ الأمريكيون إلى حيلة اللعب بورقة الإسلام المعتدل في مواجهة الإسلام المتشدد، وهي استراتجية يبدو أن الولايات المتحدة ماضية في تشجيعها في عدد من البلدان العربية والإسلامية، وفي حالة العراق، فإن هذا الاعتدال سيبدو أمام المجاهدين في صورة الانتقال من نهج إلى نهج، بل ربما من ملة إلى ملة، وهو ما قد يفتح أبواباً أخرى من الفتن.
المواجهة لا الهروب:
عوَّدنا المجاهدون من أهل السنة في العراق، على الإقدام لا الإحجام، وعلى المجابهة لا الهروب من المواجهة، وأملنا أن تثبت الأقدام في مهمة الإقدام على مواجهة تلك التحديات قبل فوات الأوان؛ فالهروب منها أو تأجيلها لن يقلل من أهميتها، ولن ينفي خطورتها، على أنَّا لا يمكن أن نحمِّل المجاهدين، أو حتى عموم العراقيين مسؤولية المواجهة وحدهم لكل تلك التحديات؛ فالنازلة ليست خاصة بهم وحدهم، كما أسلفت في صدر المقال، وإنما هي عامة لكافة الأمة، وهي ينبغي أن توزع على الجميع ـ أعني التحديات ـ في صورة واجبات كفائية وعينية وفروض وقتية ومستقبلية، كل بحسب قدرته واستطاعته، مع تأكيد التذكير بأن المجاهدين الأبرار، قد قاموا عن الأمة، بما أزاح عن مجموعها الإثم وإزالة العار، فلا أقل من أن تقوم بقية صلحاء الأمة بقسطهم من الواجبات في مجابهة التحديات.
فعلى كل ذي رأي وخبرة واختصاص، من أصحاب الأقلام أو المنابر أو القدرات العلمية أو البحثية أو المالية، في كل ميدان يحتاج إليه أن يسارعوا للقيام بواجب النصرة، والمشاركة في صنع النصر، ولن يعدم حريص الوسيلة لإيصال النصيحة وتقديم العون وتيسير المنفعة، لمن يمسكون الآن بدفة تغيير التاريخ وتصحيح المسار.
ومع الاعتراف بأن التحديات المقبلة أكبر من قدرات قطاع إسلامي واحد في داخل العراق أو خارجه، لتفرعها وتنوعها، فإن ذلك لا ينبغي أن يصد عن التقريب والتسديد بحسب الاستطاعة، ولو كانت البداية ـ كما يحدث الآن ـ محاولة رصد أهم تلك التحديات، والبدء في دراستها، وتمييز الحقيقي منها والوهمي، والنظري والعملي، ثم وضع الأسس العريضة لمواجهتها، بتضافر الجهود بين المختصين والمجربين والمراقبين.
وهذه بعض المعالم العامة في هذا الموضوع:
* لا بد من السعي المكثف لبناء برنامج سياسي لأهل السنة، يراعي تعدد الاجتهادات والسيناريوهات واختلاف الخيارات؛ فالقتال لن يستمر إلى الأبد في العراق، واستغلال مدة ما قبل الانسحاب للوصول إلى صورة واضحة في ذلك، أوْلى من ضرب الأخماس في الأسداس عندما تخلو العراق من الأمريكيين، وتقع فريسة بين خلفائهم أو عملائهم الذين لا بد أنهم قد أعدوا عدتهم ورتبوا صفوفهم منذ زمن.
< لا مناص من الاجتماع على كلمة سواء بين فصائل أهل السنة، سواء المجاهدون منهم أو السياسيون، فكل منها درع للآخر وردء، ولن يتعوض الضعف السياسي الظاهر في أهل السنة إلا بذلك، وكثير من مسائل الاختلاف بينهم ـ على ما نرى ـ هى مسائل اجتهادية، والاجتماع ـ ولو على أمر مرجوح ـ خير من الافتراق أو التنازع.
* وضع أسس شرعية محكمة، وقواعد قتالية معلنة، من شأنه أن يخفف من هاجس فقدان أو نقصان مشروعية القتال بعد الانسحاب، إذا دعت الضرورة إليه، فلا بد من التحديد الواضح للشرائح التي يمكن أن تكون هدفاً للجهاد من الخونة والمرتدين والجواسيس ونحوهم، مع بذل أقصى ما يمكن من الخدمة الإعلامية لهذه الأسس القتالية، بما يزيل الغموض ويدفع الظنون عن غايات الجهاد السامية.
* المرجعية العلمية ـ بفهم أهل السنة ـ قضية بنائية في غاية الأهمية لا تقل في أهميتها عن بناء القوى السياسية والعسكرية {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ} [التوبة: 122] وندرة المرجعيات العلمية المشهورة في العراق تحتاج إلى معالجة لا يكفيها المدى القريب، ولكن الضرورة تقضي بألا تؤجل وظائف هذه المرجعية حتى وجودها؛ فمن خارج العراق يمكن أن تدرس كبار المسائل، وتبحث دقائق النوازل بالتواصل العلمي الذي تيسرت أسبابه في عصرنا، وإن كان هذا لا يغني عن أن تنتدب طائفة من أهل السنة العراقيين لتعويض هذا النقص، لمعادلته بما هو حادث مع الطوائف الأخرى.
--------------------------------
[1] المحرر : للشيخ ـ حفظه الله ـ رسالة بعنوان ( أمريكا وإسرائيل وعقدة الدم ) ، يشرح فيها أهمية العنصر البشري عند اليهود وإخوانهم الأمريكان . بكلام لم يسبق إليه ـ فيما أعلم و أنا من المتابعين ـ وهو منشور في مكتبة صيد الفوائد قسم قضايا معاصرة . (محمد جلال)
=================(62/409)
(62/410)
الحقيقة الكامنة
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أكاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام
ما الذي حرك الترسانة الغربية بأقلامها وجنودها ومؤسساتها السياسية والاقتصادية باتجاه العالم الإسلامي؟، وإن لم تكن الحرب المزعومة على الإرهاب، فهل الموقع الإستراتيجي الذي يتمتع به العالم الإسلامي؟...
(المد الإسلامي هو اتجاه عام وليس اتجاها متطرفا، هو دين منفتح وليس معزولا) هذه العبارة جاءت على لسان صامويل هنتنجتون، فالصحوة الإسلامية في نظره ترى نفسها على أنها يقظة شاملة في كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية.
أعداد هائلة من المسلمين عادت إلى دينها لأنها أيقنت أنه مصدر هويتها وماهيتها واستقرارها وشرعيتها ونموها وقوتها، لقد قرر المسلمون أن يجدوا الحل لا في الأيديولوجيات الغربية التي ثبت فشلها، بل في الإسلام، ففي حين قبلوا بالمعطيات الحضارية الغربية وأقبلوا على فهم أبجدياتها، رفضوا التعاطي مع ثقافتها وقيمها في حال تعارض مفرداتها مع معطيات الدين الإسلامي، لقد أرادوا أن يتطوروا ولكن ليس بالضرورة أن يستغربوا.
لقد أكدت كارين آرمسترونج هذا التوجه الإسلامي في كتابها المعنون بـ(الإسلام) حيث قالت: (في الغرب المعاصر، قمنا بوضع حدود فاصلة بين الدين وبين السياسة، أما في الإسلام، فإن المسلمين، فقد أوكل لهم كتابهم المقدس، القرآن، مهمة تتمثل في إيجاد مجتمع عادل متساو في كل أركانه، بحيث يعامل الضعفاء بكل احترام، وسيعمل بناؤهم لمجتمع كهذا واستقرارهم فيه على منحهم صلة حميمة بكل ما هو مقدس في حياتهم لأنهم سيعيشون وفقا لوصيته وإرادته، بالتالي فالدولة الإسلامية لم تكن معزولة عن الروحانيات ولكنها كانت تمثل العقيدة نفسها).
إن الاختلاف بين الثقافة الرأسمالية والاشتراكية كان مثار اهتمام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فقد جاء في دراسة لها عن الرؤية الإسلامية للاقتصاد: (تختلف المفاهيم الإسلامية عن الرأسمالية في أنها تعارض كنز الثروات، وعن الاشتراكية من حيث إنها تنكر حقوق الملكية، بما فيها ملكية وسائل الإنتاج، فالمجتمع الإسلامي الصحيح ليس بأي حال من الأحوال حلبة تتصارع فيها المصالح المختلفة وتتناحر، بل إنه مكان تسوده العلاقات المنسجمة التي يمكن تحقيقها والوصول إليها من خلال الإحساس بالمسؤوليات المشتركة، ولا بد لحقوق الأفراد أن تكون متوازنة مع مصالح المجتمع بأكمله على نحو متساو..).
إن استهداف القوى الغربية للإسلام كطريقة بديلة للحياة الغربية صريح ومكشوف منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وقبل أحداث 11 سبتمبر، ووفقا لما ذكره صامويل هنتنجتون: (فإن واحدا من أكبر مسؤولي إدارة كلينتون أشار إلى الإسلام على أنه المنافس العالمي للغرب) كما أكد هنتنجتون نفسه: (أن الصراع بين الغرب والإسلام أمر مفروغ منه، فطالما بقي الإسلام هو الإسلام، والغرب هو الغرب فإن الصراع الرئيسي بين حضارتين عظيمتين وطريقتين مختلفتين في الحياة سيبقى يميز علاقتهما في المستقبل) كما قال: (إنه بصرف النظر عن آراء المسلمين السياسية فإن المسلمين يؤمنون بوجود اختلافات أساسية بين ثقافاتهم والثقافة الغربية).. إنه يرى أن المسلمين سواء كانوا ملتزمين بتعاليم دينهم أم لا، فهم مختلفون والصراع معهم أمر مفروغ منه!.
الحقيقة أن العداء الغربي للإسلام لا يجد مبرراته في قيم هذا الدين وأهدافه، ولا من التطرف الذي ألصق به دون غيره، فالتطرف سمة عامة شملت معظم الأديان، وكان التطرف الإسلامي آخر الداخلين في دائرته، وهذا ما أكدته آرمسترونج بقولها: (إن الإعلام الغربي يثير انطباعات بأن التشدد والتزمت الديني الذي يتسم بالعنف ويسمى التعصب، هو ظاهرة إسلامية بحتة،لكن الحقيقة هي أن التعصب ظاهرة عالمية طفت على السطح في كل الأديان الرئيسية، فهناك تعصب يهودي، وتعصب مسيحي، وتعصب هندوسي، وتعصب بوذي بل وتعصب كونفوشي) وتضيف أنه (من بين الديانات الثلاث - اليهودية والمسيحية والإسلام - كان الإسلام آخر الأديان التي ظهر فيها التيار المتعصب أواخر الستينات والسبعينات، وفي ذلك الوقت، كان التعصب قد أخذ من المسيحيين واليهود كل مأخذ..).
إذا كان الحال كما تقول آرمسترونج وهو كذلك، فالتعصب، أو الحرب على الإرهاب ليس السبب الرئيسي وراء التدخل السافر للحكومة الأمريكية،وحلفائها، في الشؤون الداخلية لدول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي!.
يقينا يؤمن المسلمون أن الاختلاف بين المفاهيم الثقافية للأمم أمر وارد، وهم لا يعتقدون أن هذا الاختلاف كان سببا في حد ذاته لنشوب النزاع والحروب على الأقل في المفهوم الإسلامي، فدينهم نظم علاقتهم بالآخر تنظيما لا يجوز لهم الخروج عنه لغيره، وإلا عد ذلك خروجا عن السياق الإسلامي يستوجب العقوبة، لقد وصل الأمر بسمو هذا الدين أن أوجب على الأبناء بر الوالدين، مهما كانت أديانهم، ولو كانا يجاهدان أبناءهم لإخراجهم من الإسلام، قال تعالى: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا، واتبع سبيل من أناب إلي) لقمان / 15.(62/411)
إذاً ما الذي حرك الترسانة الغربية بأقلامها وجنودها ومؤسساتها السياسية والاقتصادية باتجاه العالم الإسلامي؟، وإن لم تكن الحرب المزعومة على الإرهاب، فهل الموقع الإستراتيجي الذي يتمتع به العالم الإسلامي في قلب العالم هو السبب؟ هل سيطرته على الممرات المائية الهامة، هي المحرك الأساسي لأطماعها؟ أم هل هي الموارد الطبيعية التي تزخر بها تلك الأراضي؟ أم إن ما تتمتع به هذه الشعوب من خصوبة، تعد في المفهوم الغربي خصوبة مفرطة يجب كبح جماحها؟.
لقد أكدت دراسات غربية للتركيب السكاني للعالم خلال العقود الماضية الخطورة الكامنة خلف تكاثر العالم الإسلامي مقارنة بانخفاض المواليد في العالم الغربي، وإليكم بعض هذه النتائج، ففي عام 1990م، شكل المسلمون 12.4%، من سكان العالم، استمرت هذه الزيادة لتصل إلى 15.3%،عام 1970م، و16.5% عام 1980م، و17.1%عام 1985م، و19.2% عام 2000م، ومن المتوقع أن يصل تعدادهم عام 2025م إلى ما نسبته 30% من سكان العالم !! في حين نصت هذه الدراسة إلى أن العالم الغربي المسيحي في تناقص مستمر، ففي عام 1900 م، وصل تعدادهم إلى ما نسبته 29.7% عام 1984م، و29.3% عام 2000م، ومن المتوقع أن يتقلص تعداد سكان العالم المسيحي الغربي في عام 2025م ليصل إلى 25%، أي إنه في 2025م وفقا لهذه الإحصاءات فإن سكان العالم المسلمين سيفوق عددهم سكان العالم المسيحيين.
يكفي للاستدلال على أن تكاثر المسلمين بمفهومهم المختلف للحياة يدخل في نطاق اهتماماتهم، الإشارة إلى أن إجازة الأمومة في بعض الدول الغربية تعتمد على عدد الأطفال فتزيد بزيادة عدد الأطفال، وهي فيها مدفوعة الأجر 100%، بل إن بعض تلك الدول منحت الآباء إجازة أبوة ليتمكن الآباء من تقديم العون المادي والمعنوي للأم ووليدها، في حين نسمعهم بين الحين والآخر يعملون على نشر فلسفة تحديد النسل في الأوساط الإسلامية، ويسخرون في سبيل ذلك كل الطاقات البشرية والمادية، بل وقد تفرض بكل وسائل الضغط على بعض سياسات العالم الإسلامي!.
أعتقد أننا نعلم يقينا أن ما وجه للمملكة العربية السعودية مؤخراً من قبل وزارة خارجية أمريكا في التقرير السادس حول وضع الحرية الدينية في العالم، من اتهامات بزعم انتهاكها للحريات الدينية، القصد الحقيقي من ورائه ينصب في صراع الحضارات الذي أشار إليه هنتنجتون، ولا علاقة له البتة بعناوينه الرئيسية المعلنة.
وأختم حديثي اليوم بقول هنتنجتون الذي جاء فيه: (إن المشكلة بالنسبة للغرب ليست في التطرف الإسلامي، بل في الإسلام كطريقة مختلفة للحياة اقتنع المسلمون بسموها وتفوقها على غيرها)!.
- - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الخامس والعشرون ... 2
حوار الحضارات أم صراعها ؟ ... 2(62/412)
(62/413)
حوار الحضارات بين الحقيقة و الخداع ... 2(62/414)
(62/415)
خرافة حوار الحضارات ومكافحة الفقر ... 15(62/416)
(62/417)
الإساءة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بين طاغوت الأمم المتحدة وأكذوبة حوار الحضارات!! ... 19(62/418)
(62/419)
صراع الحضارات أو حوار الحضارات؟ ... 24(62/420)
(62/421)
وقف مؤسسات الحوار الحضاري ومسؤولياتها… ... 25(62/422)
(62/423)
الإسلام وتوطيد العلاقات الإنسانية بين المجتمعات… ... 27(62/424)
(62/425)
الإسلام وعلاقات الأفراد والمجتمعات… ... 29(62/426)
(62/427)
هل حوار الحضارات ممكن، وكيف؟ ... 33(62/428)
(62/429)
حوار الحضارات .. خيار منهجي ... 36(62/430)
(62/431)
حوار الحضارات شروطه ونطاقه ... 38(62/432)
(62/433)
الإسلام وترسيخ ثقافة الحوار الحضاري ... 44(62/434)
(62/435)
هل حوار الحضارات ممكن، وكيف؟ ... 47(62/436)
(62/437)
حوار الحضارات خلل في الدائرة الأضعف ... 51(62/438)
(62/439)
حوار الحضارات: الإشكالية في الفكر لا السلوك ... 55(62/440)
(62/441)
(حوار الحضارات) .. والتساؤلات المشروعة ... 60(62/442)
(62/443)
الدكتور محمد عمارة في حوار معه: ... 62
المسلمون امام حرب العولمة ..عسكرية وقيمية ... 62(62/444)
(62/445)
الشباب والغرب بين الأصالة والمعاصرة ... 73(62/446)
(62/447)
مستقبل حوار الحضارات ... 83(62/448)
(62/449)
حوار الحضارات الجذور والتاريخ ... 86(62/450)
(62/451)
توحيدُ الكَلِمة على كلمةِ التوحيد ... 90(62/452)
(62/453)
( مصطلح : الإسلام السياسي ) .. ... 119(62/454)
(62/455)
الإسلام والآخر الحوار هو الحل ... 126(62/456)
(62/457)
اعترافات الدكتور محمد عماره .. ! ... 228(62/458)
(62/459)
وماذا عن حوار الحضارات؟! ... 234(62/460)
(62/461)
حوار الحضارات.. ثلاث رؤى غربية ... 235(62/462)
(62/463)
ثلاث رؤى غربية ... 239(62/464)
(62/465)
الرؤية الاستشراقية القديمة ... 240(62/466)
(62/467)
الرؤية الاستشراقية المعدلة ... 242(62/468)
(62/469)
الرؤية المدنية الشعبية القاعدية ... 244(62/470)
(62/471)
نحو حوار حضاري بين القوى المدنية ... 247(62/472)
(62/473)
الاقتصاد.. ديناميت صراع الحضارات ... 248(62/474)
(62/475)
حوار الحضارات.. مصالحة أم مصالح؟ ... 254(62/476)
(62/477)
حوار الحضارات.. نظرات وخطرات* ... 262(62/478)
(62/479)
الغرب والشريعة الإسلامية .. التأثير والتأثر ... 279(62/480)
(62/481)
المنطلق الأول: عالمية البناء الحضاري ... 281
استئناف حوار الحضارات رهن بحل تلك المعضلة ... 281(62/482)
(62/483)
المنطلق الثاني: التسليم بأن الحكمة ضالة المؤمن ... 287(62/484)
(62/485)
المنطلق الثالث: كل حضارة نالها جانب من هداية الله ... 289(62/486)
(62/487)
المنطلق الرابع: بين الاستسلام للآخر والتأكيد على الذات ... 290(62/488)
(62/489)
المنطلق الخامس: حتمية اتصال الحضارات وتلاقحها ... 291(62/490)
(62/491)
ما بعد الأحداث.. حوار الحضارات ترف أم ضرورة؟ ... 292(62/492)
(62/493)
حوار الحضارات أم صراع الثقافات ... 299(62/494)
(62/495)
حوار الحضارات ... 308(62/496)
(62/497)
حوار الحضارات خطابٌ لاهوتي يواجه فقدان التوازن الحضاري ... 310(62/498)
(62/499)
واقض (حوار الحضارات) ... 314(62/500)
(63/1)
نظريتنا حول حوار الحضارات ... 319(63/2)
(63/3)
حوار الحضارات ..وفتح جسور التطبيع ... 321(63/4)
(63/5)
من صدام الحضارات إلى حوار الحضارات )..... ... 322(63/6)
(63/7)
لإسلام ودوره في مشروع حوار الحضارات ... ... 333(63/8)
(63/9)
حوار الحضارات مفهوم ملفق وغارق في الالتباس ... 337(63/10)
(63/11)
حوار الحضارات كما ينبغي ... 341(63/12)
(63/13)
الاتحاد الأوروبي وإشكاليات الحوار مع الإسلاميين ... 346(63/14)
(63/15)
الحوار بين الحضارات ... 350(63/16)
(63/17)
إقالة العثرات في حوار الحضارات ... 358(63/18)
(63/19)
فتح قنوات الحوار ... 364(63/20)
(63/21)
مجلة الدعوة: حوار عن الحوار ... 366(63/22)
(63/23)
الحوار...مأزق النظرية وإشكالية الممارسة ... 377(63/24)
(63/25)
الحرب غير المقدسة "الإرهاب باسم الإسلام" ... 381(63/26)
(63/27)
كراهية الغرب للمسلمين .. متى تنتهي ؟ ... 389(63/28)
(63/29)
المطلوب تحرك جميع المؤسسات الإسلامية لتصحيح الصورة في الخارج ... 393(63/30)
(63/31)
لقاء الشيخ سلمان العودة مع موقع الساخر الإلكتروني ... 398(63/32)
(63/33)
قيم حضارية ... 434(63/34)
(63/35)
صراع الحضارات أكذوبة غربية ... 499(63/36)
(63/37)
تحالف عسكرى استراتيجى على أرضية صراع الحضارات ضد العرب والمسلمين ... 505(63/38)
(63/39)
أمريكا والإسلام السياسي ... 509(63/40)
(63/41)
بيان المثقفين الأمريكان ..الدوافع والأهداف ... 514(63/42)
(63/43)
أبو نورة وأنا .. وصراع الحضارات ... 519(63/44)
(63/45)
صراع الحضارات أم هيمنة الحضارة الغربية؟ ... 523(63/46)
(63/47)
صراع الحضارات مرة أخرى ... 531(63/48)
(63/49)
الفخ في صراع الحضارات ... 539(63/50)
(63/51)
صراع الحضارات ومستقبل الدعوة الإسلامية ... 541(63/52)
(63/53)
صراع الحضارات أو حوار الحضارات؟ ... 557(63/54)
(63/55)
النّعت الأعظم ... 558(63/56)
(63/57)
ماذا قال فوكوياما آنفا؟ ... 562(63/58)
(63/59)
أين الثقافة في ملتقى المثقفين العرب؟! ... 573(63/60)
(63/61)
الاستراتيجية الأمريكية .. والأهداف الخفية ! ... 577(63/62)
(63/63)
العمل الإسلامي: ... 584
مرحلة مجتمعية من النخبوية إلى المجتمعية ومن الهرمية إلى الشبكية ... 584(63/64)
(63/65)
حول نهاية التاريخ وسقوط الإيديولوجيات ... 590(63/66)
(63/67)
شبابٌ حائِر ... 593(63/68)
(63/69)
عولمة الغضب1 ... 598(63/70)
(63/71)
حصار القطاع الخيري لمصلحة من ؟ ... 615(63/72)
(63/73)
هكذا كنا ..... هكذا أصبحنا ... 629(63/74)
(63/75)
حرب الأفكار بين بأس الأمريكان ويأسهم ... 634(63/76)
(63/77)
بشائر الهزيمة الأمريكية وتحديات ما بعد أمريكا ... 648(63/78)
(63/79)
الحقيقة الكامنة ... 681(63/80)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (26)
الرد على الجفري
الباب السادس والعشرون
الرد على الجفري
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب السادس والعشرون
الرد على الجفري(64/1)
(64/2)
الرد على البوطي في دفاعه عن ضلالات الجفري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :
فقد جاءتني رسالة من الشام وفي آخرها مقال للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي كتبه بعد لقاء تم بينه وبين أحد علماء الشام جاءه يسأله عن بعض بلاوى الشيخ (( الجفري )) فانبرى للدفاع عن هذا ( الأفاك ) ،متهما للشيخ السائل بتهم ما أنزل الله بها من سلطان ، وقد عدت لموقعه ونقلت المقال من موقعه وهذه صفحتها :
(( http://www.bouti.com/bouti_monthly37.htm ))
وهذا نص المقال :
((( ضرام تشهير لا يراد به وجه الله
كلمة الشهر - أيار/مايو
قال وقيل.. في ضرام تشهير لا يراد به وجه الله
قال لي، يستثيرني للتشهير برجل أحسب أنه من العلماء العاملين والصالحين الذين وضع الله لهم القبول في الأرض:
* ألا ترى؟ إنه يروي بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
قلت: في إحياء علوم الدين أحاديث موضوعة وضعيفة، فهل في ذلك ما يبعث الريبة في فضل الإمام الغزالي وعلوّ مكانته وجلالة قدره، والنفع العظيم الذي حققه لأجيال المسلمين بفضل كتابه هذا.. وهل في ذلك ما يدعو إلى تصنيفه لها في قائمة من قال رسول الله عنهم: ((من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) والتشهير به بين النار على هذا الأساس؟
قال: وربما نسب الحديث إلى البخاري ومسلم، وهو ليس فيهما ولا في أحدهما؟
قلت: وهل أنت مبّرأ من هذا الوهم؟ دعك من هذا الشيخ الذي تسألني عنه. أنني تعرضت أكثر من مرة لهذا الوهم، نسبت الحديث إلى البخاري، ثم تبين أنه في ابن ماجة وأبي داود.. وقد وفقني الله من بعدُ، فصححت الخطأ الذي وقعت فيه. ولكني لم أكذب - بحمد الله تعالى - من جراء هذا الوهم على رسول الله قط... وهذا بالضبط هو ما قد تعرض له هذا الشيخ.
* قال: وكثيراً ما يتحدث عن الهواتف التي يزعم أن في الصالحين من يتلقاها عن الله باسم الدين.
قلت: الحديث التاريخي عن تلقي بعض الصالحين لهواتف طرقت أسماعهم، واقع وموجود في بطون كتب التاريخ وكتب المناقب والتراجم، على اختلافها، بوسعك أن تطلع على الكثير منها في كتاب ((حلية الأولياء)) و((صفة الصفوة)) و((الرسالة القشيرية)) وتاريخ ابن عساكر. ولاشك أن تجاهل ورودها في هذه الكتب وأمثالها مكابرة في إنكار واقع معروف. وإني لأذكر الآن بعضاً من هذه الأخبار التي رويت عن كثير من الصالحين المشهود لهم بالصلاح والتقوى. من ذلك ما رواه ابن عساكر في تاريخه، في ترجمة عبد الله بن المبارك. قال يروي عنه: ((كنت يوماً في بستان وأنا شاب مع جماعة من أترابي، فأكلنا وشربنا، وكنت مولعاً بالعزف على العود، فقمت في الليل واستهواني الحال، وأخذت العود لأعزف عليه. فسمعت هاتفاً ينبثق من العود قائلاً: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 57/16] فضربت العود بالعود وكسرته.. إ لخ.
إذن فورود الأخبار عن هذه الهواتف حقيقة تاريخية لا وجه لإنكارها. ولا ضير في روايتها، فإن وافقت الشرع فبها ونعمت، وإن خالفته وجب استنكارها والتحذير من الاعتماد عليها والأخذ بها.
ثم قلت له: فهل رأيت فيما يرويه الشيخ من أخبار الهواتف إقراراً منه على ما قد يخالف منها كتاب الله وسنة نبيه؟
* قال: وإنه يقول بشدّ الرحال لزيارة القبور.
قلت: وهذا ما يقوله أيضاً أئمة المذاهب الأربعة وسائر أهل السنة والجماعة، إنهم جميعاً يقولون بمشروعية شدّ الرحال لزيارة الصالحين أحياء وأمواتاً، وفي مقدمتهم زيارة قبر رسول ا صلى الله عليه وسلم ، بآدابها المعروفة.
لعلك ممن يخطئ في فهم قول رسول ا صلى الله عليه وسلم : ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) فتتوهم أن رسول ا صلى الله عليه وسلم نهى عن شد الرحال إلى هدف ما أياً كان، إلا إلى هذه المساجد الثلاثة، ويترتب على هذا الوهم حرمة شد الرحال لزيارة الأرحام والصالحين وللتجارة وطلب العلم والجهاد في سبيل الله.
إن الاستثناء هنا مفرغ أي حذف المستثنى منه، وفي هذه ا لحال يجب تقدير المستثنى منه من جنس المستثنى، كما هو معلوم لسائر طلاب اللغة العربية، فتقدير الحديث ((لا تشدّ الرحال إلى المساجد إلا إلى ثلاثة منها)) والمعنى أن سائر المساجد في الفضل سواء إلا هذه المساجد، فلا وجه لتفصيل بعضها على بعض في زيارة أو اعتكاف.
* قال: وإنه يقول بمشروعية تعظيم القبور والسجود عليها.
قلت له: هل سمعته يقول هذا، أو قرأت ذلك في شيء مما كتبه بخطّ يده؟ قال: لا. قلت: فعلى أيّ شيء تعتمد في نقلك لهذه الرواية عنه؟ قال: على كلام بعض الناس عنه.
قلت: ولكني سمعت مثل ما قد سمعت، فاتجهت إليه بالسؤال عن ذلك قبل أن أتسرع بالحكم عليه والتشهير به، فتبرأ إلى الله من هذا العمل وممن تُقِرًّ به، وأكد كفر من يفعله مختاراً.
* قال: وإنه يدعي أن رسول الله حيّ في قبره موصول الخير والفائدة إلى أمته.(64/3)