وقد رأيت من المفيد أن أورد كلام الإمام الشاطبي في هذا الباب : قال الامام الشاطبي رحمه الله : ولهؤلاء الفرق خواص وعلامات في الجملة ، وعلامات في التفصيل . فأما علامات الجملة فثلاث :إحداها الفرقة التي نبه عليها قوله تعالى " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء " وقوله " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " وغير ذلك من الأدلة . قال بعض المفسرين صاروا فرقا لاتباع أهوائهم وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا ، وهو قوله "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا " ثم برأه الله منهم بقوله "لست منهم في شيء " وهم أصحاب البدع والكلام فيما لم يأذن الله فيه ولا رسوله . قال ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم يفترقوا ولم يصيروا شيعا لأنهم لم يفارقوا الدين وإنما اختلفوا فيما أذن لهم من اجتهاد الرأي والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصا . واختلفت في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به كاختلاف أبي بكر وعمر وزيد في الجد مع الأم وقول عمر وعلي في أمهات الأولاد وخلافهم في الفريضة المشتركة وخلافهم في الطلاق قبل النكاح وفي البيوع وغير ذلك مما اختلفوا فيه وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح ، أخوة الإسلام فيما بينهم قائمة فلما حدثت الأهواء المردية التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهرت العداوات وتحزب أهلها فصاروا شيعا دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التي ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه . قال فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا إنها من مسائل الإسلام . وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا إنها ليست من أمر الدين في شيء وإنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تفسير الآية .( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) . وقد تقدمت فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها . ودليل ذلك قوله تعالى " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا " فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى هذا ما قالوه . وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين . وهذه الخاصية موجودة في كل فرقة من تلك الفرق ، ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي عليه الصلاة والسلام في قوله " يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان " وأي فرقة توازي هذا إلا الفرقة التي بين أهل الإسلام وأهل الكفر . وهكذا تجد الأمر في سائر من عرف من الفرق أو من ادعى ذلك فيهم.)من كتاب الموافقات صفحة 104 - 106 من المجلد الرابع .
وكذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقى بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونوا مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى.. وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهداً بموافقته على كل ما يريده، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، بل من فعل هذا كان من جنس جنكيز خان، وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقاً ولياً، ومن خالفهم عدواً باغياً . وقال رحمه الله تعالى: ومن حالف شخصاً على أن يوالي من والاه، ويعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى، ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين، بل هؤلاء عسكر الشيطان".نقلا عن مجموع الفتاوى 28\5-9. وقال رحمه الله تعالى : كثير من الناس يخبر عن هذه الفِرَق بحكم الظن والهوى؛ فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة، ويجعل من خالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين، فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ، فمن جعل شخصاً من الأشخاص غير رسول الله من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة، كان من أهل البدع والضلال والتفرق. وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعاً لها: تصديقاً وعملاً وحباً وموالاةً لمن والاها ومعاداةً لمن عاداها، الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بُعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه. وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردونه إلى الله ورسوله، ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف، فما كان من معانيها موافقاً للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان منها مخالفاً للكتاب والسنة أبطلوه، ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، فإن اتباع الظن جهل، واتباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم . وقال أيضاً : وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله: مثل أن يقال للرجل: أنت شكيلي أو قرفندي. فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلي ولا قرفندي، والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول: لا أنا شكيلي ولا قرفندي، بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله. بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، أو إلى شيخ كالقادري والعدوي ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل: كالقيسي واليماني، وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري. فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان. فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد أن تفترق وتختلف، حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى، وقد برأ الله نبيه ممن كان هكذا.فهذا فعل أهل البدع كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم. وأما أهل السنة والجماعة؛ فهم معتصمون بحبل الله، وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه وإن كان غيره أتقى لله منه، وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، وأن يرضى بما رضي الله به ورسوله، وإن يكون المسلمون يداً واحدة، فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يضلل غيره ويكفره، وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين؛ فليس كل من أخطأ يكون كافراً ولا فاسقاً، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول والمؤمنين: (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسينا أوْ أخْطَأنا ) .وثبت في الصحيح أن الله قال: قد فعلت. وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله ؟! وهذا التفريق الذي حصل من الأمة، علمائها ومشائخها، وأمرائها وكبرائها، هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: (وَمِنَ الذينَ قالوا إنَّا نَصَارى أخَذْنا ميثاقَهُمْ فَنَسَوْا حَظّاً مِمَّا ذُكِّروا بِهِ فأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ العداوَةَ والبَغْضاءَ). فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب .
رد شبة : يعتقد البعض أن المقصود بهذه الفرق التي جاء ذكرها في الحديث الصحيح خارجة من الملة لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كلها في النار ) فقالوا هذه قرينة تدل على خروجها من الإسلام . أقول هذا غير صحيح ، فكون الرسول صلى الله عليه وسلم حكم في دخولها النار ، لا يدل لا من بعيد ولا من قريب على كفرها ، إنما على عظيم الإثم الذي ارتكبته فكان سببا في دخولها النار ،إذ لا يعتبر كل من توعده الله سبحانه بدخول النار كافراً ودليل ذلك قوله تعالى : (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) . (93) النساء فقد توعد الله قاتل النفس ظلماً بجهنم ومع ذلك فلا يعتبر ذلك الحكم تكفيراً له ، وعلى مثل هذا تتنزل المسألة ، قال الشاطبي رحمه الله تعالى : في كتابه الإعتصام وأما رواية من قال في حديثه: (كلها في النار إلا واحدة) فإنما يقتضى إنفاذ الوعيد ظاهراً، ويبقى الخلود وعدمه مسكوتاً عنه، فلا دليل فيه على شيء مما أردنا، إذ الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة المؤمنين كما يتعلق بالكفار على الجملة، وإن تبايناً في التخليد وعدمه.
خامساً : إن التفرق والاختلاف في الأمة نوع من أنواع العقاب الذي ينزله الله سبحانه على الأمة حال بعدها عن الكتاب والسنة قال سبحانه : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون ) . َ (65) الأنعام . قال الطبري في كتابه جامع القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ يَلْبِسكُمْ شِيَعًا وَيُذِيق بَعْضكُمْ بَأْس بَعْض } .يقول تعالى ذكره: أَوْ يخلطكم شِيَعًا : فِرَقًا واحدتها شيعة، وأما قوله: { يَلْبِسكُمْ } فهو من قولك : لَبِسْت عليه الأمر, إِذَا خلطت, فَأَنَا أَلْبِسهُ . وَإِنَّمَا قُلْت إِنَّ ذلك كذلك , لِأنه لا خلاف بين الْقُرَّاء في ذلك بِكسر الباء , ففي ذلك دليل ييِّن على أَنّه من لَبَسَ يَلبِس , وذلك هو معنى الخلط . وإِنَّما عني بِذَلك : أَو يخلطكم أَهواء مختلفة وأَحزابًا مفتَرقَة . وبِنحو الَذي قلنا في ذلك قَال أَهل التّأْويل أهـ . والمتأمل للآية الكريمة يجدها متعلقة بأنواع ثلاثة من العذاب وهي ، من فوقكم ، ومن تحت أرجلكم ،أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض . ولا ريب أن الاختلاط شيعاً نوع من أنواع العذاب وهو واقع في الأمة ، ولا ريب أن هذا الوصف ينطبق على تعدد الأحزاب في الأمة .وقد جاء في الحديث الصحيح قال : ( وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ). رواه مسلم في صحيحه وفي رواية ثانية من حديث جابر رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ ) .الأنعام:65. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ بوجهك))، قال:(أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال: (أعوذ بوجهك) (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا أهون أو هذا أيسر) رواه البخاري في صحيحه . قال ابن حجر: "الإعاذة المذكورة في حديث جابر وغيره مقيدة بزمان مخصوص، وهو وجود الصحابة والقرون الفاضلة، وأما بعد ذلك فيجوز وقوع ذلك فيهم" فتح الباري 8/293. وعن أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : :( سألت ربي عز وجل أربعاً فأعطاني ثلاثاً ومنعني واحدة . سألت الله عز وجل أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها . وسألت الله عز وجل أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم فأعطانيها . وسألت الله عز وجل أن لا يظهر عليهم عدواً فأعطانيها . وسألت الله عز وجل أن لا يلبسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها ) . رواه أحمد والطبراني وفيه راو لم يسم . وهذه النصوص دليل على أن التفرق في الأمة نوعاً من أنواع العذاب ويؤكد ذلك المعنى قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم ٌ ) . (63) النور .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) . أي عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته ، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قبل ، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) . أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً ( أن تصيبهم فتنة ) أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة ، ( أو يصيبهم عذاب أليم ) أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك كما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللآئي يقعن في النار يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها - قال فذلك مثلي ومثلكم أنا أخذ بحجزكم عن النار هلمّ عن النار فتغلبوني فيها ) . أخرجاه من حديث عبد الرزاق أ هـ(55/325)
سادساً:الواجب على المسلمين إتباع الجماعة المسلمة الظاهرة على الحق ، وهي جماعة واحدة لا تتعدد بعقيدتها أو منهاجها ، وإن تعدد أفرادها ، وهذا ما دلت عليه النصوص الثابتة فعن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ) . البخاري وغيره قال السدي شارح سنن ابن ماجه رحمه الله تعالى :قوله ( لا تزال طائفة) الطائفة : الجماعة من الناس والتنكير للتقليل أو التعظيم لعظم قدرهم ووفور فضلهم ويحتمل التكثير أيضا فإنهم وإن قلوا فهم الكثيرون فإن الواحد لا يساويه الألف بل هم الناس كلهم قوله(منصورين)أي بالحجج والبراهين أو بالسيوف والأسنة فعلى الأول هم أهل العلم وعلى الثاني الغزاة وإلى الأول مال المصنف فذكر الحديث في هذا الباب فإنه المنقول عن كثير من أهل العلم قال أحمد بن حنبل في هذه الطائفة إن لم يكونوا هم أهل الحديث فلا أدري من هم أخرجه الحاكم في علوم الحديث قال عياض وإنما أراد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث وقال البخاري في صحيحه هم أهل العلم قال السيوطي بعد نقله أي المجتهدون لأن المقلد لا يسمى عالما واستدل به على استمرار الاجتهاد إلى قيام الساعة انتهى قال النووي يحتمل أن تكون هذه الطائفة مفرقة في أنواع المؤمنين ممن يقوم لله من المجاهدين وفقيه ومحدث وزاهد وآمر بالمعروف وغير ذلك من أنواع الخير ولا يجب اجتماعهم في مكان واحد بل يجوز أن يكونوا مفترقين في أقطار الأرض قوله ( من خذلهم ) أي لم يعاونهم ولم ينصرهم من الخلق فإنهم منصورون بالله لما فيهم من الخير ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) أي فلا يضرهم عدم نصر الغير قوله ( حتى تقوم الساعة) أي ساعة موت المؤمنين بمجيء الريح التي تقبض روح كل مؤمن وهي الساعة في حق المؤمنين وإلا فالساعة لا تقوم إلا على شرار خلق الله .ويؤكد هذا المعنى قول الرسول في الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله : قال : (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ) . رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه , ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره . أ هـ بتصريف يسير .جاء في تحفة الأحوذي :المراد من أمتي أمة الإجابة وفي حديث عبد الله بن عمرو الآتي : كلهم في النار إلا ملة واحدة , وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم ; لأنه أخبر عن غيب وقع . قال العلقمي قال شيخنا ألف الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي في شرح هذا الحديث كتابا قال فيه : قد علم أصحاب المقالات أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد بالفرق المذمومة المختلفين في فروع الفقه من أبواب الحلال والحرام وإنما قصد بالذم من خالف أهل الحق في أصول التوحيد وفي تقدير الخير والشر , وفي شروط النبوة والرسالة وفي موالاة الصحابة ، وما جرى مجرى هذه الأبواب ، لأن المختلفين فيها قد كفر بعضهم بعضا ، بخلاف النوع الأول فإنهم اختلفوا فيه من غير تكفير ولا تفسيق للمخالف فيه ، فيرجع تأويل الحديث في افتراق الأمة إلى هذا النوع من الاختلاف . وقد حدث في آخر أيام الصحابة خلاف القدرية من معبد الجهني وأتباعه ، ثم حدث الخلاف بعد ذلك شيئا فشيئا إلى أن تكاملت الفرق الضالة اثنتين وسبعين فرقة والثالثة والسبعون هم أهل السنة والجماعة وهي الفرقة الناجية ، انتهى باختصار يسير . أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه ، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره . أ هـ وفي رواية عند الإمام أحمد وأبي داود عن معاوية بن أبي سفيان ، أخرجه أحمد وأبو داود فيه : ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة . وهذه الأحاديث مجتمعة تدلنا على معنى واحد وهو :عدم تعدد الجماعات على اعتبار العقيدة والمنهاج ، فقوله ( طائفة) و( جماعة ) و( إلا واحدة ) دليل واضح على عدم تعدد أهل الحق إلى فرق وجماعات مختلفة في العقيدة والمنهاج ، وقد جاءت الألفاظ مقيدة بتحديد الجماعة وهي : ( ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) وبالتالي فإن الجماعة الحقة موافقة لما كان عليه الرسول وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ، وقد جاءت النصوص الشرعية محذرة من مخالفة ما كان عليه الرسول وأصحابه من ذلك قوله تعالى : (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً ) . النساء ( (115ولا شك أن المقصود بسبيل المؤمنين هو سبيل الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) . (100) التوبة . وعليه فإن الطائفة المنصورة لا تتعدد كما ذكرنا من حيث تعدد الأفكار والمفاهيم ، وإن كانت تتعدد من حيث الأفراد ، والمعنى ، قد يكون في الأمة الإسلامية جماعات متعددة كتعدد الدول والأقطار ، ولكنها تجتمع على العقيدة والمنهاج ، ويكون التعاون بينها متواصلاً قائماً على المحبة والنصح ، وأما تعدد الجماعات من منطلق الفكر والمنهاج فهذا خلاف لما عليه الطائفة المنصورة ، بل هذا تفرق واختلاف مذموم والحق فيه واحد لا يتعدد ويؤكد ذلك المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله : وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزباً فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " . وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " وشبك بين أصابعه . مجموع فتاوى ابن تيمية جزء 11 .
ونخرج مما سبق بقضية يغفل عن فهمها كثير من الناس ، وهي ما يتعلق بالعمل الجماعي ، إذ تبين النصوص الصريحة وجود طائفة ظاهرة على الحق وبلا شك أن العمل ضمن هذه الطائفة واجب ، وأن كل طائفة خالفتها بمعتقد أو بمنهج فهي من الفرق الضالة التي توعدها الله سبحانه بجهنم ، وكذلك فإن اعتزال هذه الطائفة وعدم التعاون معها أو خذلها من الكبائر سواء كان ذلك على النطاق الجماعي أو الفردي ، إلا أن هذا القول قد يشكل على كثير من الناس ، فلا بد له من ضابط يميز المرء من خلاله الطائفة التي يجب أن يعمل معها ، وبين الطوائف التي يجب اعتزالها ، ونستطيع أن نميز الطائفة التي هي على الحق من غيرها بضابطين اثنين :
الأول : أن هذه الطائفة تتصف بصفة الاستمرارية ، فقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال) يقتضي وجود هذه الطائفة في كل عصر دون انقطاع ، ولا شك أن بدايتها الرعيل الأول من هذه الأمة ، وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثم من سار على نهجهم إلى يوم الدين ، وقد بينا هذا ملخصاً من خلال الأدلة المحكمة ، ويدل هذا القول على أن الجماعات المحدثة لا تتصف بصفة الاستمرارية التي تتصف بها الطائفة المنصورة وعليه فلا تكون هي المرادة من هذا الحديث .
الثاني : أنه يجب على كل مسلم أن يكون بهذه الطائفة ، فهي طائفة توحد الأمة ولا تفرقها ، على خلاف الطوائف الأخرى فهي تفرق الأمة ولا توحدها ، وحتى تتوحد الأمة لا بد من أمور تعين على التوحد ، وهذا لا يكون إلا من خلال قيام هذه الطائفة على النصوص المحكمة التي لا يراد منها إلا ظاهر اللفظ دون تأويل ودليل ذلك قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) النساء . فالآية واضحة بأنه إذا حدث نزاع بين المسلمين ، فالواجب عليهم رد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة حتى يرتفع التنازع ، وإننا نرى الفرق والأحزاب متنازعة وإن كان جميعهم يقولون بأننا نعتمد بأفهامنا على الكتاب والسنة ،ومع ذلك فالخلاف بين هذه الجماعات واضح ، والفجوة بينهم كبيرة ، والسبب في ذلك راجع إلى أن كل فرقة من هذه الفرق تعتمد على النصوص المتشابهة وتفهمها من منطلق قواعدها التي قعدت لها ، ومن هنا يأتي الخلاف بحيث تحمل كل طائفة من هذه الطوائف الأدلة الشرعية على فهمها بعيداً عن موافقة غيرها من الطوائف ، ولو ردت كل طائفة من الطوائف ما اختلفت فيه إلى ما أحكم من الكتاب والسنة ، وألحقت الفرع على الأصل لرفع الخلاف من الأمة ولتوحدت على الحق جهود المسلمين ، ولكن الحال كما قال تعالى : (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين ) .َ (119) هود
سابعاً : إن الواجب على الأمة أن تكون تحت إمرة الخليفة الشرعي وفي جماعته ويحرم على أي فرد من أفراد الأمة الخروج عن الجماعة أو مخالفتها أو الخروج عليها ، وهذا الحكم عام ،والأصل في المسلمين أن تكون لهم دولة ويكون لهم إمام ، والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ).
والأحاديث في ذلك كثيرة منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية ) . أخرجه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم : (من فارق الجماعة شبرا فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه). أخرجه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان .
ولا شك أن المقصود من هذه الجماعة ، الجماعة التي تجتمع على طاعة الإمام كما ذكر الشاطبي في ( الاعتصام 2 / 260 و ما بعدها ) : اختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في الأحاديث على خمسة أقوالٍ : أحدها : إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام، و الثاني : إنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين . و الثالث : إنها الصحابة على الخصوص .الرابع : إنها جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر . و الخامس : إنها جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير .
وكل هذه التعرفات تدل على معنى واحد وهو اتباع الحق الذي يجمع بين المسلمين ولا يفرقهم ،ولذا اختلفت عبارات العلماء في تحديد الجماعة على أقوال متعددة ترجع كلها إلى ما ذكرنا ، وإليك بعضاً من هذه الأقوال المنسوبة إلى أهل العلم : بوَّب الشيخان كلٌّ في صحيحه ، و النسائيُّ , و الترمذي ، كلٌّ في سننه ، على وجوب لزومها .فقال البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب و السنة من صحيحه : باب قوله تعالى : ( و كذلك جعلناكم أمَّةً وسَطاً ) وما أمر النبي صلى الله عليه و سلّم بلزوم الجماعة و هم أهل العلم .و قال الإمام مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه : باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ، و في كل حال ، و تحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة .و عَنوَن النسائي في سننه : قتلُ من فارق الجماعة ، و ذِكرُ الاختلاف على زياد بن عِلاقة عن عَرْفَجَةَ فيه .وعقد الترمذي في سننه باباً سمَّاه : باب ما جاء في لزوم الجماعة .قلتُ : و الجماعة التي يجب على المسلم لزومها ، و يحرم الخروج عليها ، ويستحق الوعيد من فارقها ، هم أهل الحقِّ في كل عصرٍ و مِصرٍ ، و إن قَلُّوا .قال أبو شامة المقدسي رحمه الله ( كما في شرح أصول الاعتقاد للالكائي و تاريخ دمشق لابن عساكر: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة ، فالمراد به لزوم الحق و اتِّباعه ، و إن كان المستمسك به قليلاً ، و المخالف كثيراً . ثم استدل بقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إن الجماعة ما وافق الحق ، و إن كنت وَحدَك .و في ( تاريخ دمشق ) أيضاً أنّ نعيم بن حمَّاد رحمه الله قال : إذا فسدت الجماعة ، فعليك بما كانت عليه قبل أن تفسد ، و إن كنت وحدك ، فإنَّك الجماعة حينئذٍ . و قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى في سننه ( 4 / 476 ) : و تفسير الجماعة عند أهل العلم هم أهل الفقه و العلم و الحديث.و قول الترمذي هذا موافقٌ لما تقدّم معنا قبل قليلٍ . وقال الإمام البخاريِّ رحمه الله في معنى الجماعة : هم أهل العلم .
وبهذا نتيقن بأن المقصود بالجماعة هم أهل الحق ،ولا شك بأن أهل الحق مذعنون بالطاعة والانقياد إلى أمير الجماعة ، وهو الخليفة ما لم يظهر الكفر البواح ، وعليه فلا وجود لهذه الجماعات المتنافرة المتدابرة لأنه من خرج عن طاعة الإمام إلى طاعة غيره فهو خارجي مهدور الدم فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله :: ( لا يحل دم إمرىء مسلم يشهد أن لا إله ألا الله وإني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) . رواه البخاري ومسلم
وهذا الحديث صريح الدلالة بأن الذي يفارق الجماعة يكون قد فارق دينه وإن أتى بالشهادتين ، ولا خلاف في أن المقصود بالجماعة جماعة الإمام .(55/325)
ولا يقال بأن جماعة الإمام غير موجودة اليوم ، لذا فالواجب على المسلمين أن يقيموا جماعات من أجل إعادة الخلافة . أقول إن هذا القول غير صحيح لمخالفته للنص الصريح وهو ما جاء في الحديث عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه قال : ( كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال "نعم" قلت فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال "نعم وفيه دخن" قلت ما دخنه؟ قال "قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر" قلت فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال "نعم" دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت يا رسول الله صفهم لنا قال "هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا" قلت فما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك؟ قال لتلزم جماعة المسلمين وإمامهم" قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري .
قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث :هو كناية عن لزوم جماعة المسلمين وطاعة سلاطينهم ولو عصوا . قال البيضاوي : المعنى إذا لم يكن في الأرض خليفة فعليك بالعزلة والصبر على تحمل شدة الزمان ، وعض أصل الشجرة كناية عن مكابدة المشقة كقولهم فلان يعض الحجارة من شدة الألم ، أو المراد اللزوم كقوله في الحديث الآخر " عضوا عليها بالنواجذ " ويؤيد الأول قوله في الحديث الآخر " فإن مت وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحدا منهم " وقال ابن بطال : فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك الخروج على أئمة الجور ، لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم " دعاة على أبواب جهنم " ولم يقل فيهم " تعرف وتنكر " كما قال في الأولين ، وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على غير حق ، وأمر مع ذلك بلزوم الجماعة . قال الطبري : اختلف في هذا الأمر وفي الجماعة ، فقال قوم : هو للوجوب والجماعة السواد الأعظم ، ثم ساق عن محمد بن سيرين عن أبي مسعود أنه وصى من سأله لما قتل عثمان " عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة " . وقال قوم : المراد بالجماعة الصحابة دون من بعدهم ، وقال قوم : المراد بهم أهل العلم لأن الله جعلهم حجة على الخلق والناس تبع لهم في أمر الدين . قال الطبري : والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره , فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة ، قال : وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابا فلا يتبع أحدا في الفرقة ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر ، وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث ، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها أ هـ . فتح الباري ( كتاب الفتن جزء 13 ) .
فالحديث واضح بأنه يجب على المسلمين التزام جماعة المسلمين وإمامهم ، وأنه إذا لم يكن لهم جماعة ولا إمام فالواجب عليهم اعتزال الفرق كلها ،وعدم الانتماء إلى أي جماعة من الجماعات ، وهذا واضح للغاية فقوله صلى الله عليه وسلم حين سأله حذيفة رضي الله تعالى عنه - إذا لم يكن لهم جماعة ولا إمام - يفهم منه أحد وجهين ، الأول ، أن لا يكون هنالك مسلمون أصلاً ، وهذا غير مراد ، الثاني أن يكون هنالك مسلمون ، ولكنهم جماعات متفرقة كما هو الحال اليوم ، لذا قال صلى الله عليه وسلم : ( فاعتزل تلك الفرق كلها ) . ولو كان الواجب هو العمل ضمن فرقة من هذه الفرق لقال صلى الله عليه وسلم ،فالتزم فرقة من هذه الفرق إذ القاعدة الشرعية تنص على إنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهذا ظاهر أيضاً .
وثمّ أمر آخر وهو ، أن من أبرز أسباب ضياع الخلافة الإسلامية هو التفرق والاختلاف الناتج عن التحزب ،لقوله تعالى : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين ) .َ (46) الأنفال
وعليه فلا يكون العمل لإقامة الدولة الإسلامية من خلال التحزب والتفرق ، إنما بالعمل الجماعي المنبثق عن فهم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين .
ثامناً : إن القول بتعدد الأحزاب قول محدث لا دليل عليه لا من الكتاب ، ولا من السنة ، ولم ينقل عن أحد ممن يعتد بقوله ، بل إن ما ذهبوا إليه من استدلال لغوي بأن أمة نكرة والنكرة تفيد التعدد قول مستغرب للغاية ،فإن النكرة تفيد العموم ، أي إذا قلت جاء رجل ، فيفهم من قولي أن رجلاً واحداً قد أتى ، ولا يفهم منه أنه جاء رجلان ، ولكن الذي لا يفهم هو ، حال الرجل وتعينه ، وكذلك لو قلت اشتريت ساعتين ، فلا يفهم من هذا القول إني اشتريت ثلاث ساعات ولا أربع ، بل يفهم من ذلك تحديد العدد ، وما يبهم هو الوصف والتعيين ، أضف إلى ذلك أن كلمة أمة في الآية الكريمة وهي قوله تعالى:(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ) .َ (104)آل عمران ليست موغلة بالنكارة بل هي نكرة موصوفة ، والنكرة في اللغة إذا وصفت خصصت ، فعلى سبيل المثال لو قلت : جاء رجل طويل ، يخرج من هذا الوصف كل رجل قصير ، ولو قلت جاء رجل طويل عالم ،لدل الأمر على رجل خاص فانقضى العموم ، وفي هذه الآية الكريمة بين الله سبحانه المراد بكلمة أمة ، من خلال ما أناط بها من أعمال وهي الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر، وقد مضى القول بأن هذا المعنى لا يراد منه إلا أهل العلم ،أضف إلى ذلك أن كلمة أمة تتضمن هذا المعنى وإن لم توصف ، فكيف الأمر وقد وصفت ؟ ومن باب آخر فإن هنالك فرقاً بين الحزب والجماعة وإليك الفرق :الجماعة لغة مجموعة من الناس ، وهذا المعنى يطلق على الحزب أيضاَ ، فكل لفظ من لفظي الحزب والجماعة يدل على معنى واحد ألا وهو الجماعة من الناس ، إلا أن بينهما عموماً وخصوصاً ، فقد يطلق لفظ الجماعة ويراد به الحزب ، وكذلك العكس ، فالجماعة مجموعة من الناس قد تشترك على أمر واحد ، وقد لا تشترك على خلاف الحزب فإن فيه معنى الاشتراك كما في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم : ( كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ) . أي أشتد عليه ، فيفهم من التحزب معنى الشدة ، وهو التعاضد والتناصح الذي يكون في الجماعة الواحدة وهي الحزب ، وهذا المعنى لا يشترط في الجماعة ، فقد يجتمع بعض الناس على غير تعاضد وتناصح ومع ذلك لا يخرجون عن كونهم مجتمعين ، إذن فالحزب فيه معنى الترابط وهو لازم له ، على خلاف الجماعة فقد يكون الترابط موجوداً وقد لا يكون كما مثلنا في ذلك ، فالحزب على هذا المعنى أخص من الجماعة والجماعة أعم ،والأصل في المسلمين أن يكونوا حزباً واحداً كما جاء في الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) .رواه مسلم وغيره لذا نهى الإسلام عن كل ما يحول دون تحقق هذا المعنى في المسلمين جميعاً ،ومن ذلك التفرق والاختلاف وقد جاء في الحديث ما ينهى عن التحزب الخاص في الأمة والذي يؤدي إلى تفريقها فقد أخرج الشيخان عن عاصم الأحول قال: قلت لأنس: أبلغك أن النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله قال: (لا حلف في الإسلام ) . فقال أنس بن مالك: "قد حالف النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله بين قريش والأنصار في داري ). يقول ابن الأثير رحمه الله: أصل الحلف: المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والإتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن، والقتال بين القبائل، فذلك الذي ورد عنه النهي في الإسلام بقوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله: "لا حلف في الإسلام"، وما كان منه في الجاهلية على نصرة المظلوم، وصلة الأرحام، كحلف المطيبين، وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله: "وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلاّ شدة" يريد من المعاقدة على الخير، ونصرة الحق، وبذلك يجتمع الحديثان، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام، وقيل: المحالفة كانت قبل الفتح، وقوله: "لا حلف في الإسلام" قاله زمن الفتح فكان ناسخاً. أ هـ
والمتأمل في هذا الحديث يعلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرم الحلف في الإسلام ، فقوله : ( لا حلف ) يقتضي العموم إذ جاء اللفظ نكرة في سياق النفي فدل على العموم ولا يستثنى منه إلا ما كان موافقاً لأصول الشريعة ، وهو التناصح على البر والتقوى وإصلاح ذات البين ، وغير ذلك ، وأما إن كان متعلقاً بجماعة دون جماعة فهذا لا يجوز البتة ، بل يعتبر أصحابه آثمين مفرقين للأمة ينطبق عليهم ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي : أنه قال : (من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات ، مات ميتةً جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة ، أو يدعو إلى عصبة ، أو ينصر عصبة ، فقتل فقتلة- جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برها ، وفاجرها ، ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد عهده ، فليس مني ولست منه ) . ولا يختص هذا الحكم بمن انتسب إلى جماعة أو حزب ، بل هو عام في كل من تعصب لمذهب أو شيخ أو جماعة ، أو فكر ، فهنالك الكثير من الناس لا ينتمون إلى أي حزب ، بل يحرمون ذلك ، ولكنا نراهم في الوقت ذاته يتعصبون إلى شيوخهم ، وأفكارهم التي بنيت على الاجتهاد المحتمل للصحة والخطأ ، ويضللون المخالفين لهم وإن كان الحق معهم ، وهذا بلا شك من التعصب المذموم ، وقد بينت ذلك في النقاط السابقة .
وخلاصة الأمر : إن التحزب الذي يؤدي إلى تفريق الأمة ، وخروج بعضها على بعض ، ويكون سبباً في دب العداوة والبغضاء بين الأمة الواحدة فهو تحزب محرم مذموم ، وأما إن كان تعدد الجماعات مبنياً على القواعد الثابتة غير مخالف للأصول المتفق عليها ،والتي تقوم على منهج أهل السنة والجماعة ، فلا يعتبر تفرقاً أصلاً ، بل هو تفرق باعتبار التنوع لا باعتبار التضاد ، وعليه فلا منافاة بين الأحاديث التي دلت على لزوم الجماعة ، وبين الأحاديث الدالة على تحريم التفرق والاختلاف . ، وأما استشهادهم بالآية الكريمة فضعيف خاصة وأن الآية وقعت بين آيتين ، الأولى قوله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) . والثانية قوله تعالى : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) . وكلا الآيتين قد نهت عن التفرق والاختلاف الذي هو سبب دب العداوة والبغضاء في الأمة ، وهذا الذي نراه في هذه الأحزاب اليوم نسأل الله لنا ولهم الهداية والتوفيق إنه سميع مجيب .
وكتب إبراهيم بن عبد العزيز بركات
22/محرم/1425 هـ
14/3/2004م
إن التحزب الذي يؤدي إلى تفريق الأمة ، وخروج بعضها على بعض ، ويكون سبباً في دب العداوة والبغضاء بين الأمة الواحدة فهو تحزب محرم مذموم ، وأما إن كان تعدد الجماعات مبنياً على القواعد الثابتة غير مخالف للأصول المتفق عليها ،والتي تقوم على منهج أهل السنة والجماعة ، فلا يعتبر تفرقاً أصلاً ، بل هو تفرق باعتبار التنوع لا باعتبار التضاد ، وعليه فلا منافاة بين الأحاديث التي دلت على لزوم الجماعة ، وبين الأحاديث الدالة على تحريم التفرق والاختلاف ، وإن كانت هذه الرسالة تئط مضاجع المتحزبين ، وتعكر عليهم صفو تلبيسهم على العامة ، مما يدفع المتعصبين منهم للتعرض إلى صاحبها بالظلم والتهم والاعتداء ، وهذا سلاح من لا علم عنده ،ولكن الله نسأل أن يبصر المسلمين بالحق المبين ، وينفع بها المخلصين ، ويجعلها نبراس خير لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ، وأن ينفع صاحبها بها في الدنيا والآخرة فهو حسبنا ونعم الوكيل .
المؤلف
================(55/325)
رسالة إلى حماس ومبتغي الخير
إبراهيم عبد العزيز بركات
28-08-2006
ملاحظة:تمت كتابة هذا الموضوع قبل أحداث غزة…
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،أما بعد:
فلكم كنت متردداً في كتابة هذا الموضوع بالغ الأهمية،خاصة في ظل هذه الظروف المدلهمة،فالشعب الفلسطيني يمر مرحلة حرجة للغاية، يصعب معها قراءة الأحداث المتسابقة ضمن خارطة بينة واضحة المعالم، والحديث عن الأزمة الحالية التي تمر بها حكومة حماس على الخصوص، والشعب الفلسطيني عامة،له أبعاد عميقة متشعبة المرامي،وعرة السلوك، متزاحمة الحلول التي لا تصل في كثير من الأحيان إلا إلى طرق مسدودة يحسبها الظمآن ماءً ،حتى إذا جاءها وجدها سراباً لا تزيد الأمور إلا تأزماً وتعقيداً
وقد أحببت من خلال هذه العجالة نصحاً لإخواننا في حركة حماس والمسلمين عامة أن أبين منهجاً واضحاً للتعامل مع الواقع الحالي تبرئة للذمة واحتساباً للأجر من الله سبحانه،رغم ما قد يحمله إخواننا المسلمون علينا من تجهيل وتسفيه وتضليل، لكنها ضريبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،المنطلق من نظرة واضحة بينة، لا تحول بينها النظرات الحزبية الضيقة التي جعلت على العيون غشاوة لم يعد أصحابها يرون إلا ما يحبون،وأصموا آذانهم عن سماع ما يكرهون، وأخذوا يتبعون كل مهترئ ومعيب ليستروا به عوراتهم وأنى لهم أن يخفوا الحقائق عن المبصرين ، وإن وافقهم عامة الأسواق المنبهرين بصواعق الشعرات البراقة،ورعود الخطابات العريضة التي يحسب السامع لها أن النصر من الواقع قد أصبح قاب قوسين أو أدنى، واختصاراً ندخل الموضوع من بابه لنلقي الضوء على الأحداث كما هي بعيداً عن التوهم والخيال.
لقد خاضت حماس انتخابات المجلس التشريعي،رغم تحذير كثير من العلماء لها،وثنيها عن مرادها حتى لا تخالف الحكم الشرعي البين،وتتسع دائرة الخلاف الواسعة، وتعطي تبريراً لأعداء الأمة لتحقق أهدافاً لها سعت جاهدة من أجل ترسيخ معالمها،وكنت قبل ذلك كتبت مقالاً بعنوان ( المشاركة في المجلس التشريعي خطأ فادح وجهل في الواقع الحالي ) إلا أن أخواننا حفظهم الله أصروا على موقفهم،وواصلوا زحفهم فرحين بما علمناه مسبقاً من استقرائنا لواقع الشعب الفلسطيني من حصول تأييد عام لبرنامجها الانتخابي الصوري، الذي يسقط راية فتح التي طالما حلم الشعب بسقوطها لما اقترفته أيديهم من ظلم وفساد وانحلال ،فكانت النتيجة محتمة وإن لم يتوقعها أخواننا في الحركة كما سنبينه لاحقاً إن شاء الله تعالى ،وبما أن أزمة الأمور اليوم بيد الحركة إذ هي الحكومة المنتخبة، والسلطة المنفذة نوجه إليها هذه الرسالة واضحة المقصد، بعيدة النظرة،عميقة المعنى،دقيقة العبارة ، آخذين بعين الاعتبار عدم موافقتنا لكم بدخول المجلس التشريعي، وثباتنا على ما كنا قد بيناه في رسالتنا(حكم المشاركة في المجلس التشريعي) ولكن بما أنكم أصبحتم داخله،وحملتم رايته،ووقفتم أمام أزمات بما كسبت أيديكم،نشارككم الرأي من باب النصح والتوجيه ، وتبرئة الذمة كما سبق القول آنفاً،وعليه نقول لأخواننا من خلال استقرائنا للأحداث السياسية قراءة دقيقة،-إذ المبحث هنا مبحث سياسي ،لا شرعي ،فالحكم الشرعي تكراراً واقراراً واضح لا ريب فيه - لا يوجد أمامكم إلا حلول ثلاثة لا رابع لها، أحلاها مر وهي :
أولَ : الثبات على مواقفكم ،وهذا أملنا بكم .
ثانياً : التماشي مع السياسية الدولية والرضوخ إلى الحلول الجزئية، والتنازلات المؤلمة.
ثالثاً : الانسحاب والعودة إلى ما كنتم عليه قبل.
فأما القضية الثانية، وهي التماشي مع السياسية الدولية والرضوخ إلى الحلول الجزئية، والتنازلات المؤلمة، فهي قضية محرمة من حيث الأحكام الشرعية ،وتوافق لما عليه القوم المتهمين بالتآمر على شعبهم وأمتهم، وبما أنكم لا تخالفوننا الرأي في هذه المسألة المجمع عليها ،لا نحتاج إلى عظيم تفصيل، وتطويل تبيين، لذا نقف منها عند هذا الحد .
وأما النقطة الأولى وهي التي يجب أن تثبتوا عليها ما أنتم عليه من إصرار على عدم التنازل عن أي شبر من حدود ال67 على رأسها القدس الشرقية،( وسلام على القدس الغربية وأخواتها في ال 48 ) يحتاج منكم إلى مقومات الثبات والصمود، وتحقيق الأهداف المنشودة ، وتتلخص في نقاط ثلاث :
1 : القوة الرادعة .
2 : الاكتفاء الذاتي .
3 : القوة المعنوية المنبثقة عن الإيمان والصبر .
فنحن نعلم يقيناً أن ما يسمى بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، ليس محصوراً بهذين الشعبين، بل هو صراع دولي تسنده القوة العالمية بما نتج عن اتفاقيات دولية أقرها مجلس الأمن ،فالاعتراف بدولة إسرائيل شرط أساسي للتعامل مع أي حكومة منتخبة بغض النظر عن نشأت أفكارها،وتصوراتها، وحتى يخضع المجتمع الدولي إلى إرادة حكومة حماس القائمة على عدم اعترافها بدولة إسرائيل يحتاج إلى قوة رادعة،وإلا فلن يؤثر الضعيف في القوي بما يتعارض مع مصالحه وتطلعاته ، وقوة الحكومة الحالية المؤثرة بعدوها تنحصر في نقطتين رئيسيتين،
1 : الأسلحة الخفيفة من صواريخ محدودة المسافة والتأثير،
2 : العمليات ( الاستشهادية) ولا شك أن هذه القوة ناهيكم عن عدم تأثيرها بشكل كبير يؤدي إلى قلب الأمور رأساً على عقب، فإن أخطارها على الشعب الفلسطيني وخيمة،إذ سيكون تعامل (إسرائيل) مع الحكومة تعامل دولة ضد دولة، إذ أصبح للشعب الفلسطيني بنظر المجتمع الدولي سيادة مستقلة خاصة بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، وفتح الحدود مع مصر دون سيادة إسرائيلية،وهذا لا شك أبعاده خطيرة للغاية،ولو رجعنا خطوة إلى عهد الحكومة السابقة التي تبنت مشروع السلام واعترفت بدولة إسرائيل ، وأدانت بشدة العمليات الفدائية ضد إسرائيل، وقامت بأعمال الردع من اعتقالات وغيرها،ووجهت بما نعلم بسبب قيام بعض حركات المقاومة بتنفيذ عمليات داخل العمق الإسرائيلي ، فكيف إذا كانت الحكومة هي من يتبنى المقاومة؟؟؟؟؟؟؟؟(55/325)
وحماس تعلم جيداً النتائج المترتبة على ذلك،بل أقول وبكل صدق ووضوح، إن الحكومة لا تملك القوة الرادعة لتحقيق أهدافها، ما يحملنا على مناقشة النقطة التالية وهي : الاكتفاء الذاتي :
من خلال ما نعايشه من أحداث يومية نعلم يقيناً بأن الحكومة الفلسطينية لا تمتلك الاكتفاء الذاتي، فهي عاجزة عن توفير رواتب موظفيها،بل إن مصادر تمويلها لا يتعدى المداخل التالية:
1: ما يرجع عليها من ضرائب وغيرها من خلال التنسيق مع الجانب الإسرائيلي غير المعترف به من قبل الحكومة.
2: التبرعات من الدول العربية وشعوبها،ومؤسساتها وجمعياتها... إلخ
3 : التبرعات من الدول العالمية على رأسها أمريكيا وأوروبا .
وإن أبرز هذه المصادر أمريكيا وأوروبا، وهذه المصادر الثلاثة تتوقف عند التعارض مع مصالح( الأسرة الدولية )بل هي متوقفة فعلاً: بغض النظر عن أسباب توقفها،إن كان الأمر متعلقاً بالتحويل أو غيره،وهذا ما أدخل الحكومة في مأزق كبير جعلها عاجزة عن حل أبسط المشاكل اليومية، والسؤال هو إلى متى ستبقى الحكومة ثابتة على موقفها رغم الأزمة الخانقة؟ وهذا ما يحملنا على الحديث عن النقطة الثالثة وهي : القوة المعنوية المنبثقة عن إيمان الأمة وصبرها :
عندما نتحدث عن هذه القضية نأخذ بعين الاعتبار أننا نتحدث عن شعب كامل متكامل،فيه الصغير والكبير، والصحيح والمريض...إلخ ناهيك عن الفئة المغرضة العريضة التي تعمل على إسقاط الحكومة بكل الوسائل المتاحة، فكم يصمد هذا الشعب الضعيف والمنهوك أصلاً أمام هذه المقاطعة الدولية خاصة أن حكومته لا تملك برنامجاً عملياً لإخراجه من الأزمة الخانقة دون تنازلات منها عن ثوابتها وبرنامجها الانتخابي؟؟؟؟؟؟
فلا بد من الوقوف على الحقيقة عينها، والبعد عن المكابرة والخيال، فنحن لا نعيش في منأى عن الواقع كما يزعم البعض،بل نعيش قلب الحدث،ونعاني مما يعاني منه شعبنا، وعليه أعاود القول بصراحة تامة فأقول: إن الشعب الفلسطيني لا يملك مقومات الصبر طويل المدى على مقاطعة العالم له،فهو يتجرع القهر والفقر والهوان،ولا يملك بديلاً ولو حتى نسبياً لمساعدته على الثبات والصمود .
إذن الحكومة لا تمتلك مقومات الثبات التي يحملها على التحدي والمخالفة،فهل الواجب عليها أن تنسحب من الحكومة وترجع الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً؟؟؟؟
هذا هو الحل الثالث أمام الحكومة، -وإن كنا نعتقد بأن حماس لن تتنازل عن الحكومة وقد صرح بهذا كثير من كوادرها، فمن قائل : سنقلب الطاولة رأساً على عقب ، ومنهم من قال : إن سقطت الحكومة فلن تقوم مكانها حكومة أبداً إلى غير ذلك من الأقوال - وهو حل له أبعاد خطيرة منها على سبيل المثال:
• زعزعت ثقة الناس بالإسلام وكونه لا يصلح ليكون بديلاً .
• عودة الفاسدين إلى ظلمهم وتخاذلهم وتآمرهم على شعبهم.
• التنازل عن الثوابت والأهداف العامة.
• توسع دائرة الفساد في المجتمع الفلسطيني، والتسلط على الملتزمين والتضييق عليهم . إلى غير ذلك من الأمور السيئة التي تترتب على انسحاب الحكومة.
والسؤال هو : إذا كانت كل الحلول غير ممكنة ،فما هو الحل الأمثل للخروج من هذه الضائقة ؟ أخواننا في الله هذا ما يجعلنا نتثبت من أن الأصل في حماس عدم انجرارها في اللعبة السياسية القذرة، فإن ما أصاب المجتمع الفلسطيني وعلى رأسه الحكومة بسبب مخالفتها للنهج القويم الواضح،فإن مبدأ انتخابات المجلس التشريعي يقوم على مخالفة صريحة للإسلام إذ يجعل السيادة المطلقة للشعب، وعلى الشعب أن يختار من يمثله،لا ما يمثله ،فالقوم متفقون على أن الدستور الذي ينطلق منه الحكم لا بد أن يكون وضعياً أي كفرياً والأصل في كل مسلم أن ينأى بنفسه عن هذا الطاغوت الذي أمرنا الله سبحانه بالكفر به، لا بالانقياد إليه بغض النظر عن الأسباب، ولا ننسى أخواننا في الله أن شعار المنافقين الذين خرجوا عن الحكم بما انزل الله سبحانه إلى غيره كان ( الإحسان والتوفيق ) وهو على وزن ( الإصلاح والتغيير) عذراً فنحن لا نشك في إخلاصكم وصدق نياتكم والعياذ بالله من ذلك ، ولكننا نذكركم بأحوال المنافقين كي لا تقعوا فيما وقعوا فيه .
وما نراه من حق والله سبحانه أعلى وأعلم،أن تعلنوا للناس كافة أنكم كنتم مخطئين في مشاركتكم في انتخابات المجلس التشريعي، وأنكم لم تفهموا المسألة فهماً صحيحاً ، وأن تعملوا على بناء المجتمع بناء إسلامياً على منهج السلف الصالح لتتكون لكم قاعدة إيمانية كبيرة تستطيعون من خلالها تحقيق أهدافكم ، وإلا ستدخلون المجتمع في دوامة دموية لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه، فأنتم تعلمون جيداً بخطورة أعدائكم وما يكيدون بكم ، وأنهم يتربصون بكم الدوائر، وتذكروا أن الذي أوصلكم إلى ما وصلتم إليه هو شعبكم،فلا تقلبوه عليكم ،فما كنتم متوقعين منه أن يوصلكم إلى ذلك ولا أدل على صدق ما أقول من كونكم لم تعدوا برنامجاً للتعامل مع الأمور المستجدة،بل رضيتم بأن تكونوا فصيلاً معارضاً في حكومة ( فتح) وأنتم تعلمون جيداً نتائج ذلك ،ونهاية أقول : ( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) .
والله من وراء القصد وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين .(55/325)
الجماعات الإسلامية انفصلت عن جسد الأمة وأغرقتها الحزبية
محمد عبده
حوار: عبد الله الرشيد
14/3/1428هـ الموافق له 02/04/2007م
(الجماعات الإسلامية انفصلت عن جسد الأمة، وأفكار سيد قطب كانت سبباً في ترسيخ هذا الانفصال، لقد أصبحت الجماعات الإسلامية تربي أتباعها تربية حزبية متقوقعة على الذات، وتختار نخبة من الشباب المتعلم حتى تخطط للدخول في الانتخابات).
ربما لا يكون مثل هذا النقد الموجه لأداء الجماعات الإسلامية جديداً اليوم، لكنه سيكون جديداً ومختلفاً جداً حين يصدر من شيخ ارتبط اسمه بمجلة البيان الإسلامية منذ صدورها، ولا تزال كتبه ومقالاته متداولة بين الإسلاميين الحركيين بالسعودية.
ربما يفسر البعض كلام الشيخ محمد العبدة على أنه "انشقاق" أو "تمرد" أو "انقلاب" على التيار الذي ينتمي إليه، لكن العبدة ينفي ذلك بكل هدوء وهو يضحك قائلاً: (أنا لم أكن "حزبياً" في يوم من الأيام حتى أُتّهم بمثل هذه التهم).
يشن العبدة في حديثه لشبكة (الإسلام اليوم) هجوماً عنيفاً على (مرض الحزبية) الذي انتشر في كل الجماعات الإسلامية، ويوجه سهام نقده نحو قادة تلك الجماعات الذين ساهموا في "عزل الجماعات عن الأمة، وكرسوا الحزبية بين أتباعهم"، مطالباً بأن "يتحول العمل الإسلامي إلى تيار شعبي عام، الكل يحمل فيه هم الإسلام"، ويؤكد العبدة أن الجماعات الإسلامية المشاركة في الانتخابات بالعالم العربي لم تفز بذاتها وقدراتها؛ وإنما لأن "الشعوب رأت البلاء والعذاب من الأحزاب الحاكمة، وتعبت من الفساد ونهب الأموال، وتبحث عن بديل أياً كان".
ومع أن العبدة يرى أن هناك "رغبة من قادة الجماعات بألاّ يتوجه أتباعهم نحو التعمق الثقافي حتى لا يثيروا الأسئلة المشاكسة"؛ يتحفظ العبدة على فكرة التعددية الثقافية والسياسية، وفكرة الرأي والرأي الآخر، معتبراً أنها دعوة غريبة جداً وغير مقبولة "فأمريكا نفسها لا يوجد فيها تعددية، ولا تقبل بمثل هذه الشعارات".
يذكر أن الشيخ محمد العبده الذي وُلد في بسوريا بمنطقة الزبداني قد تخرج من كلية الحقوق بجامعة دمشق، وانخرط في صفوف الحركة الإسلامية السورية أثناء تعليمه الثانوي والجامعي، ويصر العبده على أنه لم يكن منتمياً انتماء رسمياً إلى جماعة الإخوان المسلمين بسوريا آنذاك.
غادر سوريا إلى السعودية عام 1966م مدرساً بالمعاهد العلمية فيها، ثم عاد إلى بلاده خلال فترة الانقلابات، وأحداث حماة، وبقي سنتين ليغادر سوريا بعدها نهائياً سنة 1980 نظراً للملاحقة والطوق الأمني الذي فرضته أحداث تلك المرحلة، استقر في لندن، وعمل رئيساً لتحرير مجلة البيان الصادرة عن المنتدى الإسلامي منذ تأسيسها سنة 1986م وحتى عام 1993م، ويتفرغ العبده حالياً في مقر إقامته بلندن للكتابة، والبحث، والتأليف.
فإلى تفاصيل الحوار:
وجّه العبده انتقادات للجماعات الإسلامية؛ فمن خلال بعض المقالات أكدت أن "القضية اليوم ليست قضية جماعات، وإنما قضية أمة لم يعد لها كلمة مسموعة، وليس لها ثقل سياسي تفرضه على الآخرين"، وطالبت بأن "يتحول العمل الإسلامي إلى تيار شعبي، الكل يحمل هم الإسلام حتى لا تبقى الدولة جسماً منفصلاً عن الأمة" فهل تدعو إلى حل الجماعات الإسلامية وتفكيكها؟
لا أنا لا أقصد هذا، أنا أقصد أن الجماعات الإسلامية يجب أن تصلح نفسها، وتتهيأ لدور أكبر من مسألة الجماعات، فالوضع في العالم العربي والإسلامي يقتضي أن يكون هناك مشاريع أكبر من قضية جماعات، أنا لا أقصد تفكيك الجماعات أو حلها، بل أنا أؤكد أن الجماعات قامت بدور جيد ورائع في بدايتها، ولكن الآن هناك صعوبات وتحديات، فيجب أن تهيئ الجماعة نفسها لوضع أكبر وأشمل من مسألة الجماعات لنستطيع أن نواجه التحديات هذا ما أعنيه، فالجماعات الإسلامية حققت جزءاً من الأهداف التربوية، وهناك أهداف لم تحقق طبعاً، فلم يحصل تغيير في الشعوب العربية بحيث تتبنى هي الإسلام، ولا يزال المد الاشتراكي والقومي والناصري موجوداً.
* لكن ألا تعتقد أن وجود مثل هذه الامتدادات هو أمر طبيعي؟
هذا صحيح، لكن التغيير الذي نريده وإصلاح البلاد العربية هل تم شيء منه بحيث نتلمسه ونحسه؟ فقط انحصر العمل في القضايا التربوية، ولم تساهم الجماعة في قضايا اقتصادية كبرى لمصلحة الأمة مثلاً.
* كأنك تعني بكلامك هذا جماعة الإخوان المسلمين والسلفية الحركية، لكن لو طرحنا نظريتهم حول الموضوع بأن الإصلاح الاقتصادي والتغيير الجذري لا يتم إلاّ من خلال بناء قاعدة صلبة تنطلق لتصل إلى القمة بحيث تكون التربية هي المنطلق الأول للتغيير ما رأيك؟
هذه نظرية مثالية من حيث الواقع، فالقاعدة تحتاج إلى قيادة، والشباب من طلبة العلم والدعاة والعلماء هم قادة الأمة، والواقع أن الجماعات الإسلامية انفصلت عن الأمة، وأخذت جزءاً بسيطاً من الأمة وهو الشباب المتعلم، وشرعت في تربيته؛ وهذا جهد لا بأس به، لكنها انفصلت عن الأمة وعن الشعب والجماهير فأصبحوا وحدهم، والأمة لا تعرف أفراد الجماعات إلاّ على أنهم أناس طيبون ومتدينون، فلا يوجد التحام بين الجماعات والأمة الإسلامية، نحن نريد أن نردم هذه الفجوة، وأن نرسخ التلاحم بين الدعاة والعلماء وبين الأمة، والأمة ستحمل معهم عبء التغيير نحو الأفضل والأحسن، فحالتنا العربية والإسلامية حالة ضعيفة.
هل ضعف الأمة الإسلامية بشكل عام كان سبباً في أن تكون الحركات الإسلامية ضعيفة هي الأخرى؟
لا، أنا لا أتكلم عن ضعف الجماعات، أنا أتكلم عن التلاحم بين الناس، الملايين من الناس الذين يحملون الخير والود أين خدمة الجماعات لهم؟ هم فقط يخدمون قطاعاً بسيطاً من الشباب المتعلم.
الشاب المتعلم والمنتمي للجماعة أيضاً؟
نعم والمنتمي للجماعة ثم تبدأ الحزبية، ويخدموا أنفسهم فقط، فالأمة التي تريد أن تشاركهم في مشروع الإصلاح والتغيير هم بعيدون عنها.
نحن مازلنا في العموميات، فأنت لم تحدد جماعة بعينها، وهذا يدخلك في إشكالية عدم وضوح النقد، ربما يقول قائل: إنك تنتقد جماعة "ما" لتبرئ ساحة الجماعة التي تنتمي إليها؟
أنا أتكلم بشكل عام ولا أقصد جماعة بعينها، الجماعات الإسلامية فيها أخطاء كبيرة وأمراض، ولا أخص جماعة بعينها وإنما الجماعات ككل، فحين أتكلم عن مرض الحزبية فأنا لا أقصد جماعة بعينها، فهذا المرض موجود فيها جميعاً سواء قل أو كثر.
بالعودة إلى مسألة إغراق الجماعات الإسلامية في الجانب التربوي لو سلمنا بأن النظرية التربوية لدى الجماعات الإسلامية صحيحة؛ هل ترى أن العملية التربوية داخل الجماعات قد حققت أهدافها؟
هذا موضوع آخر، هل المناهج التربوية صحيحة؟ وهل تحتاج إلى تطوير وتعديل؟ هل هناك تجديد في وسائل التربية؟ وهل هناك دراسة لجدوى هذه الوسائل؟ هذه قضية أخرى، أنا أتكلم عن قضية اقتطاع جزء من المجتمع، وتربيته بمعزل عن الأمة، وهذه الإشكالية التي أود التأكيد عليها، وهذه أحد الأسباب التي تعيق تحقيق أهداف الإسلام.
لكن لو ألقيت نظرة على خطاب الجماعات الإسلامية في أي بلد عربي لوجدته أكثر الخطابات جماهيرية وشعبية واندماجاً مع الأمة إذا ما قارنته مع خطاب أي جماعة أو تيار فكري آخر، فجماعة الإخوان المسلمين في مصر مثلاً من الصعب أن تقول إنها منفصلة عن الأمة إذا رأيت جماهيريتها، وفوزها في الانتخابات، فماذا تقصد بالانفصال عن جسد الأمة؛ هل تقصد العمل السري داخل الجماعات؟
نعم العمل السري هذا جزء مما أعنيه.
لكن الحكومات تضطر الجماعات الإسلامية إلى هذا النوع من الأساليب؟
العمل السري إذا طالت مدته يفسد الأفراد بحيث تصبح شخصيتهم غير سوية، وغير مكتملة.
لكن حول قضية نزول (جماعة إسلامية) للانتخابات وفوزها أنا أعتقد أن الناس اختارتهم لأنهم رأوا البلاء والعذاب من الأحزاب الأخرى العلمانية أو اليسارية التي فقدت مصداقيتها، ونهبت البلاد العربية، فطبيعي أن الناس يتحمسون، ويصوتون للمتدينين؛ لأنهم تعبوا من الفاسدين، وكما حصل في تركيا الذين انتخبوا أردوغان انتخبوه ليس لأنه رجل متدين وإنما لأنه رجل نظيف، فالشعوب تعبت من الفساد، ونهب الأموال، وتبحث عن بديل أياً كان.
طيب ألا يعني هذا أنهم حاضرون ومتصلون بالأمة؟
حضورهم محدود، ولا توجد صلة كبيرة، الجماعات الآن تبني جسماً منفصلاً عن الأمة، وتبدأ تصنف الناس، هذا معنا وهذا ليس معنا، وقد يكون من هو خارج الجماعة أفضل ممن هو بداخلها، لكن للأسف لا يُعطى أهمية لأنه خارج هذا الجسم، وقد يكون أفضل خبرة وعلماً وعطاء، بينما خالد بن الوليد - رضي الله عنه - يُسلم في السنة السابعة، ويقود الجيوش في السنة الثامنة، فالمقصود تفعيل الطاقات والاستفادة منها، بينما هنا الحزبية تعطل الطاقات.
هل تعتقد أن الجماعات الإسلامية تنظر بدونية لما يسمى العامة؟
نعم هناك نظرة دونية للعامة من قبل الجماعات الإسلامية، وأن هؤلاء العامة لا فائدة منهم، هم يختارون نخبة من الشباب المتعلم الجامعي أو الثانوي، ثم يخططون للدخول في الانتخابات، أما هؤلاء العوام فيسوقهم واحد فقط، هكذا النظرية لدى الجماعات مع الأسف، ولذلك تجدهم حين يلتقون مع أناس من خارج الجماعة يلتقون بنوع من التشنج والحذر، لا يلتقون مع الآخرين بنوع من الراحة وسعة الصدر، ولذلك جيل الصحابة أصبح متميزاً؛ لأنهم لم يتربوا تربية فيها شيء من القهر والعبودية.
لكن الجماعات الإسلامية لديها نظرية "الحفاظ على المكتسبات"، والخوف على الأتباع أن ينخرطوا في المجتمع، وتضيع رسالتهم؟ ما رأيك في هذه النظرية؟
يعني عندهم "شوية كتاكيت" يريدون الحفاظ عليهم، هل هذا منطق؟ المفروض أن نحافظ على الأمة، إذا كنت أنت تخاف على أتباعك أن ينخرطوا مع الآخرين؛ فأي تربية هذه لا تكون فيها ثقة بالنفس، ثم إن الأصل ليس هذا الشاب الذي تخاف عليه وإنما الأصل هو الأمة، والجماعات وسيلة لظرف معين، وربما لا يكون لها دور في ظرف آخر، لكن الجماعات الآن قلبت الآية.
هل أصبحت الجماعات الإسلامية بحد ذاتها غاية؟
قادة الجماعات لا يصرحون بهذا الشيء، لكن مصطلحات مثل "الحفاظ على المكتسبات"، و"مصلحة الدعوة"، و"مصلحة الجماعة"؛ كلها تؤكد أنها أصبحت غاية بحد ذاتها في عقولهم.
صحيح أن الموضوع كبير، ولكن يمكن حصره في قضية واحدة وهي أن هناك نوعاً من الانفصال عن المجتمع، والحزبية تغذي هذا الانفصال، فننفصل عن المجتمع ثم نريد منه أن يكون معنا، فالتلاحم مع المجتمع ضرورة؛ لأن المجتمع الإسلامي المفروض أن يحمل هو هم رسالة الإسلام وليس مجموعة من الشباب فقط.
ألا تعتقد أن الجماعات من حقها أن تستفيد من أتباعها الذين ربتهم، وعرفت مواهبهم، بدلاً من أن تتعامل مع آخرين من خارجها لا تعرفهم ولا تعرف حقيقتهم؟
لكن هذا ليس من هدي الإسلام.(55/325)
الآن المجتمعات كبيرة ومتنوعة، والناس مشاربهم وأفكارهم مختلفة؟
صحيح أنا معك، لكن لو وُجد شخص أثناء العمل غير منتمٍ لهذه الجماعة؛ ويصلح لأن يكون قيادياً فهل فعلاً يُستفاد منه؟ لا، لا يُستفاد منه، ومثله أي عالم كبير أو مفكر، أو مثقف لا يُستفاد منه مادام خارج الجماعة، وهذا حصر للشاب داخل ثقافة معينة مغلقة بحيث لا يُسمح له بأن يستفيد من عالم أو مفكر آخر، ولما سُئل ابن تيمية عن هذه القضية وهل يجوز للشيخ أن يطلب من تلاميذه ألاّ يأخذوا العلم من غيره فقال: لا يجوز.
والجماعات إذا أرادت الإصلاح، وأخذت الأمور بتقوى وتجرد لله، وحرص على الأمة؛ فلابد أن يكون هناك تجديد وإصلاح من الداخل، فهناك تحديات كبيرة جداً لا يمكن لجماعة واحدة أن تواجهها، وإنما لابد للأمة الإسلامية أن يكون عندها علم، ويرفع مستواها العلمي والإيماني حتى نستطيع أن نواجه هذه التحديات.
لكن المشكلة أن كل جماعة تختزل الإسلام في رؤيتها؟
نعم وهذا نتاج من مرض الحزبية، الجماعات تقوم على تربية أتباعها تربية حزبية متقوقعة على الذات حتى لا يستفيدوا من الآخرين ممن هم خارج الجماعة.
كيف يمكن إصلاح واقع الجماعات الإسلامية وفق رؤيتك التي تؤكد فيها أنها انفصلت عن جسد الأمة؟
القضية أولاً هي قضية تربوية، كيف يمكن للمربي أن يربي أتباعه وتلاميذه على الحيادية والإخلاص، ويقول لهم خذوا من غيري حتى يتربوا على هذا المنهج.
يأخذوا من غيره مطلقاً؟
يأخذوا من غيره إذا كان صواباً.
من يحدد هذا الصواب؟
على المربي أن يربي تلاميذه، ويمدهم بالزاد العلمي والفكري والعقلي بحيث يستطيعون أن يفرقوا هم بين الصواب والخطأ، أما إذا رباهم على ألاّ قدرة لهم على التلقي ومعرفة الصواب، وأن الصواب عنده فقط وعند جماعته؛ فهذه تربية غير صحيحة، لكن يربيهم على المنهج السليم، ولا يخاف عليهم إذا قرؤوا لغيره، فلابد ألاّ تكون التربية حزبية، ويجب أن تسعى الجماعات إلى أن تتلاحم مع الأمة وجماهيريها عن طريق العلماء والوعاظ، والمثقفين والكتب.
أنا سبق وكتبت مقالاً بعنوان (تعميم التعليم) ضربت مثالين من زمن الرسول - عليه الصلاة والسلام - والخلفاء الراشدين؛ حين كانت الفروق بين الشعب والعلماء والقادة فروقاً بسيطة وليست كبيرة مثل الآن، مثلاً يعترض على عمر - رضي الله عنه - عجوز أو أعرابي، معناه أن هناك ثقافة إسلامية مشتركة، ولا توجد فجوة كبيرة بين العالم والداعية وعوام الأمة، الآن يوجد فجوة كبيرة، وضربت مثالاً ثانياً الدعوة هنا في نجد سابقاً كان هناك درس في المسجد يقيمه يومياً ما كان يسمى (المطوع)، وهذا المطوع ربما لا يكون لديه علم كثير، لكن لا بد أن يقرأ يومياً من رسائل الشيخ محمد عبدالوهاب فأصبحت الثقافة سهلة ومشتركة.
لكن هناك جهل كبير خاصة في أمور العقيدة والتوحيد بين عوام البلدان العربية الأخرى، إذن لا بد أن نرفع مستوى الأمة ونعمم التعليم، ونردم الفجوة بين العلماء والعامة.
هل هناك إنتاج ثقافي أو أطروحات فكرية ساهمت في ترسيخ هذا الانفصال بين الجماعات الإسلامية والأمة كما تقول؟
لا شك أن طبيعة تأسيس الجماعات فيها انعزال عن المجتمع، واستراتيجية الجماعات لم تكن واضحة في هذه النقطة، وأعتقد أن المصطلحات التي ذكرها سيد قطب مثل (العزلة الشعورية) فيها إبهام وغموض، وكانت لها آثار سلبية؛ فلم تكن أفكاره واضحة، وأسيء فهمها، مثل ذلك مصطلح (المجتمع الجاهلي) مصطلح غامض، ولا يصح إطلاقه هكذا، وهذه الأفكار كان لها سبب في انفصال الجماعة عن الأمة.
اتخذت الجماعات الإسلامية أشكالاً هيكلية تقليدية، هل تعتقد أن هذه الهيكلية تعيق النهوض من أجل مواجهة التحديات والاتصال بالأمة؟
الأنماط الهيكلية قد تكون مهمة في زمن من الأزمان، لكن أن تستمر الجماعات على الشكل الهرمي فهذا يولد الحزبية، فمن في الأسفل لا يعرف من هو في الأعلى، بل قد ينظر إليه بشكل مقدس لأنه لا يعرفه، لكن إن رآه ووجد منه بعض الأخطاء سقط من عينه، ربما تكون أخطاؤه بسيطة لكن اختفاء وتواري القيادات يورث هذا التقديس، وهذا حصل ورأيناه.
هناك أمر آخر وهو أن الوصول إلى القيادة داخل الجماعة لا يتم إلاّ عن طريق السمع والطاعة، والسكوت وعدم الاعتراض، أما الأعلم و الأحكم فلا يصل إلى القيادة.
ما الحل الذي تراه لهذه المشكلة؟
كما قلت في البداية أنا لا أدعو لحل أو تفكيك الجماعات، لكن أريد أن يتحول العمل الدعوي إلى أن يكون مع الناس، وبذلك نحل هذه المشكلة.
كيف يؤثر الشكل الهيكلي والنمط الحزبي في بناء فكر وثقافة الجماعة؟
نعم دعني أضرب لك مثالاً: قد تتبنى الجماعة قبل عشرين سنة كتاباً يقرؤونه ويتدارسونه، ويستمر تقريره طول هذه المدة، وربما صدرت كتب أفضل منه، وربما أثبتت الدراسات خطأ الكتاب، لكن الجماعة مستمرة في إقرار هذا الكتاب وتعليمه.
ما رأيك في تعامل الجماعات الإسلامية بشكل عام مع العلوم الإنسانية الحديثة والتي قد يكون مصدرها وأساسها من الغرب؟
المسلم المفروض عليه أن يستفيد من كل علم لا يتعارض مع منهج الإسلام، لكن إذا كان هذا العلم فعلاً يخلخل ويزلزل العقيدة فهذا لا أدعو له بحجة أني أريد الانفتاح، ولا أدعو إليه الشاب المسلم، لكن أي فكر قد يُستفاد منه في واقعنا المعاصر سواء أتى من مسلم أو من غير مسلم يجب أن نستفيد منه.
صحيح أن هناك ضعفاً في الاهتمام بعلم التاريخ والاجتماع وغيرها داخل الجماعات الإسلامية، فلابن خلدون مثلاً آراء مهمة ومع ذلك لا يُستفاد منه، أيضاً مالك بن نبي لم يستفد منه، بل على العكس كلمة واحدة من سيد قطب - رحمة الله - تنسف فكر مالك بن نبي كله!!، فهذه الجماعات تربت على أن ما يقوله سيد قطب هو الصحيح، والآن لو قلت أنا إن سيد أخطأ في كذا وكذا لن يُقبل مني ذلك، صحيح أنه يجب ألاّ نعود الشباب على النقد والتجريح، لكن إذا صدر هذا النقد من عالم متخصص لا بد أن يُعتبر.
ومع الأسف هناك رغبة داخل الجماعات بعدم توجه الفرد نحو التعمق الثقافي، حتى لا يبدأ بإثارة الأسئلة المشاكسة، يريدونه أن يتعلم أموراً بسيطة حتى يبقى مرتبطاً بالزعيم والقائد.
وهل ترى أن هذا أدى إلى عزوف المثقفين والمفكرين عن الجماعات الإسلامية؟
نعم صحيح هذا من أحد الأسباب الرئيسة، فلا تستطيع الجماعة بطريقة فكرها ومنهجها أن تستوعب مفكراً كبيراً أو مثقفاً، أضف إلى ذلك عدم وجود المشروع المتكامل لدى الجماعات، وتصبح القضية مختلطة ببعضها داخل الجماعة.
ألا ترى أن تقنيات الاتصال الحديثة أصبحت تزعزع سلطة الجماعة في السيطرة على أتباعها؟
تزعزع إيجاباً وسلباً أحياناً، فيصبح الشاب لا يُقدر أحداً حتى العلماء والدعاة، وينصرف الشاب نحو الإنترنت، والإنترنت وسيلة جيدة يُستفاد منها بحد معقول، لكن العولمة "سيئة الذكر" لها جانب اقتصادي وجانب ثقافي، والجانبان سيئان، فأصل العولمة هي من أجل الهيمنة على العالم اقتصادياً عن طريق الشركات الكبرى، والأسوأ منها الهيمنة الثقافية وفرض الثقافة على المجتمعات الأخرى، فأي شعب متحضر لا يقبل أن تُفرض عليه ثقافة أجنبية.
فهل يمكن للجماعات الإسلامية أن تواجه مثل هذه التحديات، وان تواجه العولمة، وهل الجماعات الإسلامية أصلاً ملتزمة أساساً بالمنهج الإسلامي الصحيح؟
ما هو المنهج الإسلامي الصحيح؟
هو منهج الكتاب والسنة، ومنهج السلف الصالح.
الكل يرفع شعار الكتاب والسنة؟
هل الدنيا فوضى حتى يرفع الجميع شعار الكتاب والسنة؟ هل المسألة فوضى حتى نصدق كل من يقول إنه ملتزم بالكتاب والسنة حتى ولو كان منحرفاً ومبتدعاً؟ فهل يُقبل كلامهم؟ أم أن هناك فعلاً منهج واضح وهو منهج أهل السنة في الاستدلال، وتنزيل آيات الكتاب على الواقع، وهدي الصحابة والخلفاء الراشدين، والتابعين، والفقهاء والمحدثين إلى يومنا هذا، فهل هذا المنهج ملتبس وغير واضح؟ أعتقد أنه واضح، فتفسير القرآن منضبط عند أهل السنة، بينما أهل البدع هناك فوضى وتأويل في تفسير القرآن، وهذا الشيء نفسه ينطبق على السنة، الله سبحانه أنزل ميزانين ميزان للأشياء المادية، وميزان للحق والباطل، فالقرآن فرقان تفرق به بين الحق والباطل، فلما نقول منهج الكتاب والسنة فنحن نعني هذا الشيء بشكل واضح، وأعتقد أن هذا هو الصواب، ولا صواب غيره، وهو الذي سيساعد المسلمين على النهوض، وأنا أعتقد أن هناك نقصاً داخل الجماعات في التمسك بمنهج الكتاب والسنة، فلماذا يقول بعضهم مثلاً (دعوتنا صوفية سلفية) يريد أن يجمع بين التناقض!
ولماذا تفترض التعارض بين السلفية والصوفية من وجهة نظر قائلها كما أفهمها أنه يعني أنها دعوة معنية بتصحيح العقيدة والتوحيد (سلفية)، وإحياء الإيمان والعبادة كما جاءت عن النبي - عليه الصلاة والسلام -(صوفية)؟
الموضوع هذا طويل، ودعنا من قضية المثال، لكن منهج الكتاب والسنة بالمعنى الذي فهمه به الصحابة والتابعون يحدد لنا الموقف من الفرق المنحرفة، وإن لم يكن لنا موقف لضاعت الأمة، وتميعت الأمور العقدية والفقهية، ولم نعد نعرف ما هو الصواب والخطأ، يعني خذ مثالاً على ذلك مما يُقال عن التعددية الثقافية والسياسية، هذه الدعوة غريبة جداً؛ لأنه حتى في أمريكا لا توجد تعددية، هناك ممنوعات في أمريكا، فالحزب الشيوعي غير مرخص له، ومع ذلك يأتي أناس يقولون نحن نقبل بكل شيء نقبل بالإلحاد، نقبل بالشيوعيين أن يعلنوا عن مبادئهم، فإذا كان الغرب نفسه لا يقبل بمثل هذا فكيف تأتي أنت وتميع الأمور، وتقول الرأي الآخر، نحن نقبل بالرأي الآخر وفق حدود معينة، أما خارج هذه الحدود فأنا لا أستطيع أن أقبله.
ما هي الطرق التي من خلالها تستطيع الجماعات أن تتحول لتيار شعبي كما تطالب؟
أولاً: يجب أن نركز على الدعوة العامة للناس من خلال الخطباء والوعاظ والكتاب، والتخطيط لإيجاد مرجعية عامة بين الناس من هؤلاء المؤثرين، وهذا جزء من التلاحم مع الأمة، بحيث يقتربون منك أكثر.
أيضاً خدمة الشعب والجماهير لها دور كبير في التقارب والتلاحم بين الدعاة والأمة، وتكون استجابتهم أفضل.
هناك أيضاً الجمعيات العامة سواء كانت خيرية أو اجتماعية، ومن خلالها يتم التواصل مع المجتمع بدلاً من أن تلتقي مع عدد محدود، هذه الجمعيات تتيح لك التواصل مع الأمة ككل.
دعني أسألك سؤالاً أخيراً، هناك من يقول أن الشيخ محمد العبده لم يطرح مثل هذا النقد الحاد للجماعات الإسلامية إلاّ بعد خلافات حصلت بينه وبين قادة الجماعة التي ينتمي إليها مارأيك؟
هذا ليس صحيح طبعاً، كلامي هو نتيجة لتأمل الواقع، وهو تأمل قديم، وهو نصيحة للمسلمين حتى ننتقل إلى مرحلة أفضل من المرحلة التي كنا فيها، وكلامي هو نتيجة معايشة وتجربة في الواقع الدعوي الإسلامي، فهناك أخطاء عميقة جداً تمنع هذا العمل من أن ينجح ويتقدم، وأنا في الأصل لست حزبياً ولا أؤمن بالحزبية، لا الآن ولا من قبل، ولا أتقيد بقيود أراها تقيدني عن الإسلام الصحيح.
في حديثك تُعرّض كثيراً بجماعة الإخوان المسلمين، فهل هم المعنيون بكل هذا الكلام؟
أنا قصدت الإخوان المسلمين وقصدت غيرهم من الجماعات الإسلامية، قصدت جميع الجماعات الإسلامية بنفس المستوى سواء كانوا "إخوان" أو جماعات أخرى، وكلامي من باب النصيحة، فإن قبلوا النصيحة، وإلاّ فهو أمر راجع لهم.
لكن هل جماعة الإخوان المسلمين من يوم حسن البنا إلى الآن استطاعوا أن يقدموا نقداً داخلياً صريحاً لمسيرة الدعوة، أو اعترفوا بأخطائهم؟
أعود وأكرر أنني لا أقصد تيار الإخوان فقط وإنما جميع الجماعات الإسلامية، وكلامي هذا ليس ردة فعل أو تمرد أو انشقاق، لكني أؤمن بضرورة أن ينتقلوا سواء بقوا كجماعات أو بدونها إلى مرحلة أكبر وأقوى نحو مشروع نهضوي وتربوي متكامل للأمة ككل، بدلاً من التكتل على أساس حزبي.
http://www.islamtoday.net:
================(55/325)
الحزبية ما لها وما عليها
فضيلة الشيخ/ عبد المجيد بن محمود الريمي
المقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:
فهذه مسائل من فقه الدعوة التي تشتد الحاجة اليوم إلى بيانها وتفصيلها، وتعريف ما يقع فيها من اللبس والغموض، مما يكون له نتائج سلبية على المنهج العلمي الصحيح الملتزم فيه بالدليل والحجة دون الدعوى والتوهم والتشبع بشيء لم يعطه ذلك المتشبع، وذلك مثل ما يفعله بعض الدعاة اليوم من جعله فهمه للكتاب والسنة كفهمه وإلا فهو فهمٌ باطل.
فمن ذلك: مسألة الحزبية مفهومها لغةً وشرعاً، وما يمدح منها وما يذم، فقد كثر فيها الخلط واللبس، فأناس أجازوها بإطلاق ولو كانت كفرية زاعمين أن الإسلام لا يعارض ذلك، واشترطوا فقط أن يقول في منهجه أنه لا يعارض الإسلام، وأناس ضيقوا مفهومها حتى جعلوا العمل الجماعي الإسلامي الملتزم بمنهج أهل السنة والجماعة (السلف الصالح) حزبية حرمها الإسلام، وأناس خلطوا من هذا وذاك بين بين.
وإليك أخي هذه البحوث التي أرجو أن تساهم في توضيح هذه المسألة، والله الموفق:-
تعريف الحزبية:
قال في اللسان (ج1، ص299): " الحزب جماعة الناس، والجمع أحزاب، وحزب الرجل أصحابه وجنده الذين على رأيه، وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلق بعضهم بعضاً، وكل طائفة هواهم واحد، والحزب الصنف من الناس".
وفي القاموس: "الحزب بالكسر الورد والطائفة والسلاح وجماعة الناس، والأحزاب جمعه، وجمع كانوا تألبوا وتظاهروا على حزب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجند الرجل: أصحابه الذين على رأيه"، وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة 1/55: "الحاء والزاي والباء أصل واحد هو تجمع الشيء، فمن ذلك الحزب والجماعة من الناس قال الله - تعالى-: (( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ))، والطائفة من كل شيء حزب، يقال قرأ حزبه من القرآن".
وقال ابن سيده في المحكم 3/170: "الحزب جماعة الناس، وحزب الرجل أصحابه وجنده الذين على رأيه، وحازب القوم وتحزبوا فصاروا أحزاباً"، وفي الصحاح 1/109: "حزب الرجل أصحابه، والحزب الورد، وقد حزبت القرآن، والحزب الطائفة، وتحزبوا تجمعوا، والأحزاب الطوائف التي تجتمع على محاربة الأنبياء"، وقال في النهاية في غريب الحديث 1/376 وفيه: "اللهم اهزم الأحزاب وزلزلهم"، الأحزاب: الطوائف من الناس، جمع حزب بالكسر، وقال الراغب في مفردات غريب القرآن ص115: "الحزب جماعة فيها غلظ"، فهذا هو معنى الحزبية.
أنواع الحزبية وأحكامها:
وردت كلمة حزب في القرآن الكريم أحياناً مضافة إلى الله كما في قوله - تعالى-: (( وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ))[المائدة/56]، ومرة مضافة إلى الشيطان كما في قوله - تعالى-: (( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ )).
كما وردت في السنة كذلك، ومنها:
ما ورد في صحيح البخاري 5/205: عن عائشة رضي الله عنها أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كنَّ حزبين، فحزب فيه عائشة وحفصة وسودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ... الخ) الحديث.
أقول: وبهذا يظهر أن التحزب والحزبية ليست ممدوحة بإطلاق ولا مذمومة بإطلاق، بل لا بد من النظر في متعلقها، فإن كان على ما أمر الله به ورسوله فهي حزبية ممدوحة، وإن كان على خلاف ذلك فمذمومة، وإن كان بعضها على ما أمر الله ورسوله وبعضها على خلاف ذلك؛ مدح ما كان فيه لله ومن أجل الله وعلى ما أمر الله، وذم ما كان بخلاف ذلك كله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 11/92: (وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزباً، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك أو نقصوا مثل: التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواءٌ كان على حق أو باطل؛ فهذا من التفرق الذي ذمه الله ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرق والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان...) أهـ.
أقول: وإذا كان الأمر كما سبق أن حزب الرجل أصحابه الذي على رأيه فليس من الأخلاق الإسلامية، ولا من النصح للإسلام والمسلمين، ولا من طرق ووسائل جمع المسلمين؛ أن يرمي بعض المسلمين بعضاً بالحزبية بدون تحرج وتفصيل ما هي هذه الحزبية، فإن هذا يشبه ما يرمي به أهل البدع بعض المتمسكين بالسنة بأنهم (وهابية)، فإذا استفصله عن طبيعة هذه (الوهابية) لم يستطع أن يبين له مواضع الخطأ فيها، ولذلك: فإنك تجد اليوم فلاناً يصدر أشرطة، يحذر فيها من الحزبية، ويتبرأ من الحزبية بدون تفصيل ولا بيان، بل أحياناً يخلط الحزبية الحقة بالباطلة، ويقرن الحزبية المسلمة بالحزبية الكافرة، فيقع من تلبيس الحق بالباطل وتضليل كثير من شباب المسلمين بعضهم بعضاً، فيعادي بعضهم بعضاً، ويلمز بعضهم بعضاً، ثم في الأخير يجدون أنفسهم خاضوا معركة وهمية لا حقيقة لها، ولكن بعد ماذا؟ بعدما تفرقت القلوب؟ وطُعن في كثير من الصالحين، وانتهكت أعراضهم، برميهم بالبدع والزيغ والضلال والانحراف، والعالم الرباني هو الذي يربي أتباعه على الرحمة بالمسلمين عموماً وبأهل السنة خصوصاً، ويحرص على الاجتماع والألفة، ولو حدث بعض خلاف في الرأي والاجتهاد الذي لا نص فيه فإن هذا الخلاف لا يساوي الخلاف الذي فيه نصوص شرعية تحرمه كالنهي عن التفرق والتباغض، والعداوة المذهبية.
بل يجب التعامل مع الخلاف الاجتهادي بالرفق والرحمة بلا تنابز ولا تباغض ولا ظلم، بل يتنزل كل خلاف منزلته، ويعطي حجمه الحقيقي.
فإذاً يا أخي أوصيك: بتقوى الله، والحرص على المنهج العلمي، فلقد كنت أظن أن كثيراً من شباب الصحوة لن يحيد عن هذا، ولكن للأسف أصبح كثيرٌ من الشباب يعرف الحق بالرجال، فإذا قال لك شخص: فلان حزبي احذر منه، فقل له: هو حزبي حول ماذا؟ فإن قال: حول باطل، طولب بالدليل على البطلان، وإن قال: حول حق، قيل: فهذا من حزب الله، فإذا قال: إن فلان خرج عن جماعة الشيخ فلان إلى الحزبية، فقل له: خرج بماذا؟ وإلى ماذا؟ وما الدليل على لزوم جماعة الشيخ فلان دون جماعة المسلمين عموماً، مع إعطاء الأولولية للحق حيث كان، ويقال: كيف صار فلان ومن معه حزباً، وأنت ومن معك لستم حزباً؟ وقد تقدم تعريف الحزب لغةً وشرعاً!!
وأعجب من العجب أن بعض الناس يدعو إلى الكتاب والسنة بفهم اجتهادي معين لبعض المسائل، ويدعو آخر إلى الكتاب والسنة بفهم اجتهادي آخر لبعض المسائل، وكل واحد يريد أن يقول الكتاب والسنة وإلى الكتاب والسنة ولكن: بفهمه هو، مثل قول الخوارج: "لا حكم إلا لله"، ولكن لا يريدون حكم الله إلا أن يكون على فهمهم!!
وبعضهم يقول: إن كانت المسألة اختلاف أفهام فلا بأس، وإن كانت المسألة سنة وبدعة فلا يجوز السكوت، أو بهذا المعنى، ويجب الإنكار والبراءة ولو أدى إلى الخلاف؛ إذا كان دليله مرجوحاً، ودليلي راجح.
وأقول: نعم، بشرط أن يكون متفقاً عليه بين أهل السنة أنه بدعة، وإلا فهو قول باطل، وبشرط أيضاً أن ينظر إلى خطورة تلك البدعة فإن البدع تتفاوت مثل المعاصي، ألا ترى إلى مسائل كثيرة اختلف فيها بين السنية والبدعية، ولا يجوز القول بأن ذلك الاختلاف مدعاة للتفرق والتباغض، ولذلك أمثلة منها:
1- الاختلاف في الضم بعد الركوع هل هو سنة أم بدعة.
2- الاختلاف في تحريك الأصبع في التشهد عند من يرى أن السنة هي الإشارة دون التحريك.
3- الاختلاف في رفع اليدين في صلاة الجنازة غير الأولى.
4- الاختلاف في الجهر بالبسملة أو الإسرار.
5- الاختلاف في قنوت الفجر.
6- الاختلاف في درجات المنبر.
7- الاختلاف في الخط للصف في الصلاة.
إلى مسائل كثيرة جداً، ولا يجوز القول بأنها ميزان للاجتماع والافتراق، أو ما فيها إلا سنة أو بدعة.(55/325)
أسباب الحزبية ومظاهرها:
تقدم الكلام حول معنى الحزبية لغةً وشرعاً، وأنها لا تحمد بإطلاق ولا تذم بإطلاق، وأنها إن كانت حول حق فهي حق؛ وإن كانت حول باطل فهي باطل، ومن ثم يجب نصرة الحق وترك الباطل، إلا أنه يجب ملاحظة أمر مهم وهو أن الحزبية تكون أحياناً حول جانب من جوانب الحق مع التساهل في جانب آخر أو تركه بالكلية، بل ويصل أحياناً إلى محاربة ذلك الحق، وحرف الناس عنه بحجة أن الأهم في العمل هو ذلك الحق الذي تحزب بعض الناس له، مع اختلاف أفهام الناس في أي العمل أحق بالبدء والأهمية، فيحدث من الاختلاف في الكتاب، وضرب بعضه ببعض ما هو معلوم لكل طالب علم أن ذلك حرام لا يجوز، فمن ثم يحرم مثل هذا التحزب وإن كان حول حق ما دام يهمل حقاً آخر قال الله - تعالى-: (( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ). وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّة ))، أي خذوا بجميع شرائع الإسلام، وقال الله - تعالى-: (( فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء ))، وقال الله - تعالى- في صفة المؤمنين: (( وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (فأعط كل ذي حق حقه)، وقال: ( إنما الذي يقوم بهذا الدين من أخذه من جميع جوانبه )، فإذا انضم إلى ذلك ارتياح النفس إلى ذلك العمل، وانشراح الصدر له أثر من غيره، وظهرت جوانب إيجابية في الواقع من ذلك العمل، ازداد الإنسان اندفاعاً نحو ذلك العمل، وأحب أن الناس جميعاً يوافقون على ذلك العمل، وأنه أولى لظهور منافع فيه - وكل الشرع منافع -، وكون الإنسان يميل إلى عمل دون عمل أمرٌ لا شك فيه قال الله - تعالى-: (( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ))، وقال - تعالى-: (( وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ )).
وقد يجتهد الإنسان المسلم في عمل ما أنه أفضل الأعمال، فيكون اندفاعه إليه أكثر لرغبته في إرضاء الله بذلك العمل باعتبار أنه أفضل العمل في نظره، وهي مسألة مشهورة بين الناس، يختلفون في أفضل الأعمال، ولا يزال الناس يسألون عن أحب الأعمال إلى الله، وهذا معلوم من الدين بالضرورة، أعني وجود عمل شرعي أفضل من عمل شرعي آخر، وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله ... الحديث.
وكان أحياناً يجري خلاف بين الصحابة أي العمل أفضل كما جاء في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: كنت عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما أبالي أن أعمل عملاً صالحاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( وذلك في يوم الجمعة )، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، قال: فأنزل الله (( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ… )) الآية.
بل وأبلغ من ذلك اختصام الملأ الأعلى ففي سنن الترمذي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله الله - تعالى- لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( هل تدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ قال: في الكفارات والدرجات).
وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى ما نصه: " ومن الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبته له، ولكونه أنفع لقلبه، وأطوع لربه، يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس، ويأمرهم بذلك، والله بعث محمداً بالكتاب والحكمة، وجعله رحمةً للعباد، وهادياً لهم، يأمر كل إنسان بما هو أصلح له، فعلى كل مسلم أن يكون ناصحاً للمسلمين " يقصد أن لكل إنسان ما يصلحه، وبهذا يتبين لك: أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل، ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات البدنية كالصلاة والصيام أفضل له، والأفضل المطلق ما كان أشبه بحالة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والواقع الذي تعيشه الصحوة الإسلامية بل والتاريخ الإسلامي يشهد بهذا الاختلاف والتحزب حول عمل خيري معين من قبل كل فئة ترجح في نظرها عملاً ما أنه أفضل من غيره، فيقع من التحزب حول ذلك الفن أو العالم البارز في علم من العلوم ما هو مشهور لدى علماء الإسلام، ومع ذلك لم يقل أحد بتحريم هذه العلوم نظراً لما يقع فيها من ذلك، بل رغبوا في كل علم نافع، ونظروا إلى المصلحة الراجحة على المفسدة، وإلا فقد قال القائل:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وعلم الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين
ومن المعلوم أنه لا يجوز أن تهمل العلوم الإسلامية غير الحديثية، وأنها ليست كلها وسواس، وعَكَس ذلك آخر قال:
النحو يصلح من بلسانه لكنٌ والمرء تكرمه إذا لم يلحن
وإذا أدرت من العلوم أجلها فأجلها نفعاً مقيم الألسن
ورد عليه أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله في أبيات مبيناً في رده أن علم الدين والعقيدة هو الذي يستحق أن يكون أجل العلوم فقال:
أيها المفتدي ليطلب علماً كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تصحح أصلاً كيف أهملت أصل أصل الأصول
فقد جعل علم العقيدة هو علم أصل الأصول وهو كما قال.
وقال آخر مفضلاً الجهاد على مطلق العبادة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
إلى آخر الأبيات.
وكذلك واقع الحركة الإسلامية اليوم، فمن قائل يجب الاشتغال بالدعوة والتبليغ وليس وقت التفرغ للعلم، ومن قائل يجب التفرغ للعلم والاشتغال به فهو أفضل، ومن قال بل الجميع مطلوب، وما تتعلمه بلغه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينتظر حتى يكتمل التعلم، بل قيل له: اقرأ، وقيل له بعد ذلك: قم فأنذر، فلم يكتمل التعليم المشار إليه في قوله - تعالى-: (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي... )) حتى كمل البلاغ، فقال لهم: إنكم مسؤولون عني فماذا أنت قائلون؟ وكان ذلك في حجة الوداع، فقالوا: نشهد أنك قد بلغت، قال: "اللهم فاشهد"، ومن قائل يجب إصلاح العقيدة أولاً، ومن قائل بل الأخلاق وطهارة النفس، ومن قائل بل يجب إصلاح الجميع قال - صلى الله عليه وسلم -: ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة على أن يعبد الله وحده لا شريك له )، وقال: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) فكلاهما هدف من أهداف الرسالة، وقد قال أبو سفيان لهرقل: "إنه يقول - يعني محمد صلى الله عليه وسلم -: ( اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول أبائكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق، والعفاف والصلة)، فقد أمر بالتوحيد، وأمر بمكارم الأخلاق في الصدق والعفاف، والصلة في آن واحد.
ومن قائل يجب السعي في إصلاح القمة، ومن قائل يجب إصلاح القاعدة، ومن قائل يجب إصلاح الجميع بالطرق الشرعية قال - صلى الله عليه وسلم -: ( الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله، ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم).
فانظر كيف كان الخلاف في أفضل الأعمال قديماً وحديثاً، وكيف يتناسب مع شخص معين عمل فيريد من الناس كلهم أن يتناسبوا معه، حتى قال بعضهم: إنما يحب علم الحديث ذكران الرجال، ويكرهه إناثهم، مع العلم أن حاجة الناس إلى الجميع ملحة وظاهرة.
فكن رجلاً ذا همة كهمة أبي بكر - رضي الله عنه - حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما اجتمعن في امرئ مسلم إلا دخل الجنة)، قال ابن القيم في المدارج [ج1 ص/97]: (ثم أهل مقام إياك نعبد لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق فهم في ذلك أربعة أصناف:
الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها: أشقها على النفوس وأصعبها، قالوا لأنه أبعد الأشياء عن هواها، وهو حقيقة التعبد.
الصنف الثاني: قالوا أفضل العبادات التجرد والزهد في الدنيا، والتقلل منها غاية الإمكان، واطراح الاهتمام بها.
الصنف الثلاث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعدٍ، فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر، فرأوا خدمة الفقراء والاشتغال بمصالح الناس، وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل.
الصنف الرابع: قالوا أن أفضل العبادات العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضي ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد، وترك صلاة الليل، وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن، والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً القيام بحقوقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في حق الزوجة والأهل، والأفضل في وقت السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء، والذكر والاستغفار، والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به، والأفضل في وقت الأذان: ترك ما هو في من ورد والاشتغال بإجابة المؤذن، والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إيقاعها على أكمل وجه، والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى الجامع وإن بَعُدَ كان أفضل، والأفضل في وقت ضرورة المحتاج: المساعدة بالجاه والبدن أو المال والاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أولادك وخلوتك، والأفضل في وقت قراءة القرآن اجتماع القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله - تعالى- يخاطبك به فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من اجتماع قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك، والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الاجتهاد في التضرع، والدعاء والذكر، دون الصوم المضعف عن ذلك، والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد لاسيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعين، والأفضل في العشر الأخيرة من رمضان لزوم المسجد والخلوة، والاعتكاف، دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى أنه أفضل من الإقبال على تعليم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء، والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم عيادته وحضور جنازته وتشييعه عند موته، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتكم، والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك أداء واجب الصبر، مع خلطتك بهم دون الهرب منهم، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه، والأفضل في خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر أفضل من مخالطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فمخالطتهم حينئذ خير من اعتزالهم، والأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومتقضاه.
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته، فهو يعبد الله على وجه واحد.
وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله أين كانت، فمدار تعبده عليها، فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره، فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العبَّاد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، فهذا هو التعبد المطلق الذي لم تملُّه الرسل، ولم تقيده القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات، بل هو على مراد ربه، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه، فهذا هو المتحقق بإياك نعبد وإياك نستعين تحقق القائم بها صدقاً، ملبسه ما تهيأ، ومأكله ما تيسر، واشتغاله بما أمر الله به، في كل وقت بوقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خالياً، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم، حر مجرد، دائر مع الحق حيث دار، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه، ويدور معه حيث استقلت مضاربه، يأنس به كل محق، ويستوحش به كل مبطل، كالغيث حيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعة حتى شوكها؛ وهو موضع الغلظة على المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتهكت محارم الله، فهو لله وبالله ومع الله، قد صحب الله بلا خلق، وصحب الناس بلا نفس، بل إذا كان مع الله عزل الخلائق وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه عن الوسط وتخلى عنها، ما أغربه بين الناس وما أشد وحشته منهم، وما أعظم أنسه بالله وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه والله المستعان وعليه التكلان) أ.هـ.(55/325)
إذن يظهر لك الآن أنه إن أريد بالحزبية ميل النفس إلى ذلك العمل الصالح المعين، ومحبة من أقبل عليه من الناس؛ أن هذا - وإن كان غلطاً إذ أغفلت الجوانب الأخرى من هذا الدين -، ولكن هذا كله ليس بمقتضى لترك هذه الأعمال لكونها من الدين، ولا يقوم الدين إلا بالقيام به من جميع جوانبه، فترك هذه الأعمال العظيمة من أجل المفسدة الموهومة والضئيلة لا يجوز. والله أعلم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حكم الحزبية السياسية الديمقراطية:
في الأسطر الماضية عرفنا معنى الحزبية لغةً وشرعاً، وانقسامها إلى ما يحمد وإلى ما يذم، وكل ذلك بأدلته، وبينَّا أسباب وقوع التحزب للمذهب والرأي، وأن الذي يجب على المسلم هو اعتبار الميزان الشرعي لما يحمد في ذلك وما يذم، ولكن يبرز هاهنا سؤال بسبب ظروف الواقع وهو:
هل نعني بذلك الأحزاب السياسية التي تنشأ في ظل الحكم الديمقراطي؟
والجواب: لا نقصد ذلك، لأن الحزبية السياسية الديمقراطية محرمة في نصوص الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وإنما نعني الحزبية للمذاهب الإسلامية المشهورة، والمدارس الفكرية المعروفة، أما الأحزاب السياسية الديمقراطية فقد قال بعض الناس: يجوز هذا النوع من الحزبية بشرط أن تكون في إطار الكتاب والسنة.
فنقول هذا باطل من وجوه:-
أوجه البطلان:
الوجه الأول:
إذا صح أسلمة الديمقراطية فسيصح أسلمة الاشتراكية، وإذا صح أسلمة الاشتراكية فيصح أسلمة النصرانية، وإذا صح أسلمة النصرانية فسيصح أسلمة اليهودية والبوذية والشيوعية.. الخ، إذ ليست اليهودية والنصرانية أكثر كفراً وضلالاً من الاشتراكية، بل هي أكفر لأنها لا دينية، وحينئذ لا يبقى دين ولا ملة إلا وأمكن تأطيرها، وتصبح متفقة مع عقيدة الإسلام، وفي إطار إسلام، فلا يبقى على وجه الأرض ملة كفر، ومعلوم عند علماء المسلمين أن ذلك باطل.
الوجه الثاني:
إن كان الحكم عند هذه الأحزاب هو الكتاب والسنة، ويقال حينئذ تجوز في إطار الكتاب والسنة، فإطار الكتاب والسنة يحرم التفرق والتحزب قال الله - تعالى-: (( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ))، وقال الله - تعالى-: (( وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ))، وقال الله - تعالى-: (( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ )).
والأدلة كثيرة في هذا، فيجب أن يكونوا حزباً واحداً لا أحزاباً، وإن كان الحكم للديمقراطية، وأن للأكثرية الحكم المطلق ولو على خلاف الكتاب والسنة كما هو الواقع، فلا يجيز هذا - حينئذ - أي مسلم، وليست هذه - أيضاً - أحزاباً في إطار الكتاب والسنة.
الوجه الثالث:
بعض هذه الأحزاب تقوم على أساس الفكر الاشتراكي، وتريد تطبيقه في الواقع، وحكم الإسلام على الاشتراكية معروف، وراجع كتاب (حكم الإسلام في الاشتراكية) للشيخ عبد العزيز البدري - رحمه الله - فكيف يكون تطبيق هذا المبدأ مع معارضته للكتاب والسنة ثم يقال إنها في إطار الكتاب والسنة.
الوجه الرابع:
بعض هذه الأحزاب تقوم على أساس (قومي)، فلا يستقيم لهم حزب إلا بالقومية والنعرات الجاهلية، وقد قالوا: "لك عصر نبوة، ونبوتنا نحن القوميون هي القومية"، وقالوا: "نحن عرف من قبل موسى وعيسى ومحمد"، وقالوا: "إنه يجب على القومي أن يغار على قوميته كما يغار اليهودي على التوراة، والنصراني على الإنجيل، والمسلم على القرآن"، وجعلوا القومية هي راية الجمع لا الإسلام، وكيف يوفق بين هذه الأفكار وبين الإسلام، إن طرح هذه المبادئ يعني طرح الحزب، وبقاء هذه المبادئ يعني بقاء الحزب، وإلا فكيف تجمع هذه الأفكار مع الإسلام.
الوجه الخامس:
بعض هذه الأحزاب (وطنية) تقدس الوطن إلى حد تجعله إلهاً من دون الله، ومن أجل تقدمه وتطوره - (مع اختلاف الأفكار في تحديد ما هو التقدم والتطور) - فتبيح الربا من أجل خدمة اقتصاد البلد، وتبيح الخمر من أجل اقتصاد البلد، وتبيح دور البغايا من أجل الدخل الوطني، وتفتح الاستثمار الأجنبي والسياحة من أجل تطوير اقتصاد البلد، فيصبح التراب والريال معبوداً من دون الله، وقد قال قائلهم:
ويا وطني جعلت هواك ديناً أعيش على شعائره أميناً
وقال آخر:
هبوني ديناً يجعل العرب أمةً وسيروا بجثماني على دين برهم
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها صل ومن أجل صم
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
وقال الآخر:
وطني لو صوروه لي وثناً لهممت ألثم ذلك الوثنا
وقال آخر:
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
فكيف تستقيم هذه الأفكار في إطار الكتاب والسنة، والقضاء على هذه الأفكار يعني القضاء أفكار الحزب التي تجمَّع من أجلها، وهو إنما تجمع من أجل هذه الأفكار، فإذا تركها فسيكون حزباً آخر، وبقاء هذه الأفكار يعني إن الإسلام يرحمها ويمنعها وهو بريء منها، فيكف لهذه الأفكار أن تعايش الإسلام التعايش السلمي وهما يتقابلان الضد مع الضد، ولو كانت تلتقي مع الإسلام فما معنى المجازر التي تقع بين الحين والآخر ضد الإسلاميين من قبل هؤلاء القوميين والاشتراكيين والوطنيين!!.
الوجه السادس:
بعض هذه الأحزاب تنتمي إلى فكر غريب على الإٍسلام الصحيح مثل: الباطنية الرافضة وغلاة الصوفية، وما قامت إلا على أساس إحياء فكرها، ونشر مذهبها، إذ بدون هذه الفكر لا وجود لها، فكيف يتفق فكرها مع دين الإسلام وكيف يؤطر، وكيف يجوز للمسلم أن يسكت على هذه الأفكار والجميع يدعون إلى الإسلام، ولكن الإسلام بريء من هذه الحزبية، فدل على أن هذه الأحزاب في وادٍ، والإسلام في وادٍ، وأن الحزبية لا تجوز في الإسلام، وأن أهله حزب واحد.
الوجه السابع:
بعض هذه الأحزاب قامت على أساس الديمقراطية، متبنية للديمقراطية التي تعني السلاطة الشعبية، وحكم الشعب نفسه بنفسه، والشعب مختلف كما تراه في أحزاب متناقضة متعارضة، فكل حزب يجعل هواه وفكره هو أساس وجوده ونظرته إلى التغيير، ولا يرى الصلاح إلا فيما يراه، فينتج عن ذلك أن الشعب إن كان مسلماً فلا يجوز أن يحكم إلا بشرع الله للتخلص من فكرة البشر، والتخلص من الأهواء، إذاً فلا أحزاب، ولا أفكار مخترعة مصطنعة، فعندنا ما يكفينا قال - تعالى-: (( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ))، ومفهوم الشرط أنه إذا لم نردَّ ما تنازعنا فيه إلى الله والرسولل فليس هناك إيمان بالله وباليوم الآخر، وقد قال - تعالى-: (( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ))، وإذا كان غير مسلم فهذا شيء آخر، إنما نبحث في موضوع أحزاب تدعي الإسلام، وتحمل أفكاراً تتعارض مع الإسلام عقيدة وشريعة في مجتمع إسلامي.
الوجه الثامن:
بعض هذه الأحزاب تدعي أنها إنما قامت من أجل الإسلام، والدفاع عن القضايا الإسلامية، وتحكيم شرع الله؛ وهذا هدف نبيل، ولكن هناك ملاحظات على هذا السلوك، فيقال الهدف هو تحكيم شرع الله، والوسيلة هي الديمقراطية؛ وهي حكم الشعب للشعب، أي تحكيم الشعب، والشعب أحزاب مختلفة، فالنتيجة أن كل حزب يحكم بما يرى، والوسيلة تقضي على الهدف، والمنكر إذا غير بمنكر أكبر منه فلا يجوز، ثم أن إنشاء حزب من أجل الإسلام بين هذه الأحزاب يسلك مسلك هذه الأحزاب في ظل الإسلام فلا معنى لوجوده باسم الإسلام، لأنه سيطالب بأمرين أحلاهما مر عليه، وسيكون متعصباً متطرفاً متشدداً عندما يصرح بأحد هذين الأمرين، وهما:
- إما أن يصرح بأن الأحزاب الأخرى مثل الاشتراكية والقومية.. الخ أحزاب مرتدة لا تجوز شرعاً، ولا تقبل التأطير في إطار إطار الإسلام، وهنا لن يسمح لك بتشكيل حزب وأنت بهذا الفكر، ولا بد أن تكون ديمقراطياً.
- وإما أن تصرح بأن هذه الأحزاب ليست مرتدة وأنها مسلمة، وأنه يجوز أن ينتسب إليها الشخص، فيقال: فلا تحصر الإسلام فيك، وتكون قد حكمت بأنهم على الجادة والطريق المستقيم، وقد تقدم لك بعض أفكارهم، فتكون قد حكمت بغير حكم الله، حيث جعلت الإسلام متفقاً مع هذه الأفكار الدخيلة، وأما التذبذب والتناقض ولبس الوجهين فليس من صفة المؤمنين.
الوجه التاسع:
جميع هذه الأحزاب لا تجد الجو المناسب لنشاطها، والمكان المهيأ لها؛ إلا في إطار حكومة علمانية لا دينية تسمح لجميع الأفكار أن تعبر عن نفسها، وجميع العقائد والأديان أن تبرز نفسها، فهذا الحزب الذي يتبنى الإسلام كيف سيفعل إذا وصل دفة الحكم؟ أيكون علمانياً يسمح لجميع الأحزاب بأنشطتها؟ فليس هو حينئذ إسلامياً.
أم سيكون إسلامياً الإسلام المرن الذي لا يتعارض مع أي رأي؟ فليس هذا هو إسلام محمد، ولا داعي لدعوة الإسلام، فكل حكام المسلمين يدعونه، والواقع كما ترى، أم سيكون ديكتاتورياً على مفهوم الديمقراطيين باسم الإسلام يغدر بحلفائه وبما التزم به!!.
الوجه العاشر:
إذا قال هذا الحزب الإسلامي إن الاشتراكية ممكنة في إطار الإسلام، وكذلك سائر الأحزاب، فحقق الحزب الاشتراكي نجاحاً ساحقاً على المستوى الشعبي، فوصل إلى الحكم، وانتهت فترة حكمه ثم نزل إلى الاقتراع فنجح مرة أخرى، وهكذا فهذا الحزب الإٍسلامي ملزم بالتسليم بالنتائج كيفما كانت، بل ويعتقد أن هذا حكم إسلامي وفي إطار الإسلام.
وأما أن نقول: إن نجحنا فنحن نقول: "عاشت الديمقراطية"، وإذا لم ننجح نقول عن الديمقراطية والاشتراكية كفر وإلحاد وعمالة، فلتكن كذلك لنا ولهم، وأما "أن باءنا تجر وباءهم لا تجر" فليس هذا من العدل.
الوجه الحادي عشر:
هذه الطريقة أي طريقة الديمقراطية والحزبية والتعددية، والرأي والرأي الآخر؛ طريقة غريبة باتفاق، وهي مخالفة لشرع الله لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنشأ مجتمعاً مسلماً، ولم ينشئ مجتمعاً ديمقراطياً، ولأن القرآن والسنة حكم واحد، قال الله - تعالى-: (( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ))، واختلاف المسلمين إلى مذاهب ليس كله ممدوحاً، وليس كل خلاف جاء معتبر الاختلاف له حظ من النظر، فبعضه خلاف مذموم، ولم يزل العلماء يحذرون من الفرق والأحزاب المنحرفة المخالفة للحق، وجعل الله الوحي ميزان هذا الخلاف لمعرفة المحق من المبطل، وليس هو الشعب، وليس هو الرأي والرأي الآخر، وإنما هو الكتاب والسنة بفهم السلف قال الله - تعالى-: (( فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ))، وقال الله - تعالى-: (( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً )).
الوجه الثاني عشر:
الحزب غايته مجلس النواب، ومجلس النواب مجلس تشريعي، والأسلوب هو الديمقراطية، فهذا يعني أن المسلم لن يجني من هذه إلا خزي الدنيا والآخر، وهو - أي الحزب الإسلامي - مهدد بالحل في أي وقت كما حدث في عدد من البلدان العربية!!.
الوجه الثالث عشر:
الديمقراطية تعطي لغير المسلمين الحق في تشكيل حزب يكون كحزبك، له حق السلطة، والتولي والحكم.
الوجه الرابع عشر:
يخضع الحزب الإسلامي في ظل الديمقراطية لقانون الأحزاب، وقانون الأحزاب يلزمه بقوانين تقيده عن قول الحق وفعله، وامتثال أمر في كل وقت بحسبه، فلا يكون منهج هذا الحزب منهجاً إسلامياً، ويتضمن هذا القانون أيضاً التعايش السلمي، والحوار الديمقراطي، وإلغاء الجهاد، ولذلك جاء في بعض أهداف هذه الأحزاب العمل على تعميق مبدأ الشورى في المجتمع لضمان تداول السلطة سلمياً، وممارسة الحريات العامة والخاصة التي كلفتها الشريعة الإسلامية، وتعميق لغة الحوار والتفاهم، ونبذ أساليب العنف والتعصب المقيت.
الوجه الخامس عشر:
هذا الأسلوب يميع الولاء والبراء، وقد يؤدي بالتيار الإسلامي إلى أن يكون مع الأحزاب الأخرى في غاية التلطف، وشديد جداً مع من يخالف هذا الأسلوب من علماء المسلمين الأصوليين، وقد وقفت بعض الأحزاب الإسلامية مع الحكومات العلمانية ضد المخالفين لها في هذا المبدأ.
الوجه السادس عشر:
هذا الأسلوب يخلط الإسلام بغيره من النظم والثقافات، والله قد حمَّلنا أمانة الحفاظ على المفاهيم الإسلامية كما جاءت، وكما أرادها الله، ومن هنا نكون قد سلكنا طريقاً من طريق مَن قبلنا، وهي طريق تحريف الكلم عن مواضعه، وتبرير أخطائنا بالشبهات والحجج الواهية.
الوجه السابع عشر:
تحكيم الشعب عن طريق الاقتراع تحاكم إلى غير شرع الله، وقد سماه الله التحاكم إلى الطاغوت، كما قال: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ))، وقال الله - تعالى-: (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )).
الوجه الثامن عشر:
طرح الشريعة الإسلامية للمزايدات الحزبية يتناقض مع تعظيم شعائر الله!!.
الوجه التاسع عشر:
في الديمقراطية كلمة الحق ليس لها أثر، وإنما الأثر للأغلبية، وكلمة الله ورسوله كرأي من الآراء ليس إلا!!.
الوجه العشرون:
نظام الانتخابات البرلمانية يساوي صوت العالِم بغيره، والمسلم بغيره، والذكر بالأنثى!!.
الوجه الحادي والعشرون:
فيه تشبه بأعداء الإسلام، وقد حرم الإسلام ذلك.
الوجه الثاني والعشرون:
فيه تشويه سمعة الداعية أنه كلما نصح وخطب، أو قرأ قرآناً، أو صلى إنما يريد بذلك الدنيا والسلطة.
الوجه الثالث والعشرون:
الخسارة الوقتية والمالية من غير طائل.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه الشيخ/ عبد المجيد بن محمود الهتاري الريمي
اليمن - صنعاء ص.ب: 13272
http://www.islamselect.com المصدر :
- مسلم ج3 ص1499.
- رواه أ؛مد والطبراني، قال الألباني: صحيح، صحيح الجامع ج3/ص8.
- رواه البخاري في كتاب بد الوحي.
- رواه مسلم.
- رواه مسلم 4-ص1857 طبعة عبد الباقي - رحمه الله -.
==============(55/325)
التربية الحزبية مقابل التربية الاجتماعية
الدكتور عبد الله النفيسي
التربية الحزبية مقابل التربية الاجتماعية: من الملاحظ أن مناهج التكوين الأيديولوجي والتربوي في معظم "تنظيمات" الحركة الإسلامية لا تعني بالتربية الاجتماعية قدر عنايتها بالتربية الحزبية. نقصد أن المناهج التربوية في معظم "تنظيمات" الحركة الإسلامية ترتكز على تربية وتنشئة "العنصر الحزبي" المنتمي والمطيع والمنفذ والموالي ولاءً مطلقاً لقيادته الحزبية والحركية، ولا تهتم في مقابل ذلك بتنشئة ذات “العنصر” على التواصل الاجتماعي والفكري والنفسي والثقافي مع المحيط الحركي الذي يمثله المجتمع الأوسع. لذا نجد أن مخرجات العمليات التربوية الحاصلة في "تنظيمات" الحركة غير متوازنة.
فمن جانب نجد تطوراً إيجابياً في "العنصر" من حيث تكوينه الحزبي وقدرته على التنفيذ والوفاء بالتكاليف الحركية، ومن جهة أخرى يلاحظ عليه زمرة من التطورات السلبية التي تحتاج بدورها لمعالجة عبر مناهج جديدة. من أهم تلك التطورات السلبية في "المنتمي الإسلامي" الجديد أنه يتحول إلى حالة من "الانتظار الدائم" للأوامر والتعليمات ويفقد كل قدرة على المبادأة والمبادرة على أي مستوى من المستويات حتى على مستوى تكوين رأيه في القضايا التي يشاهد ظواهرها يومياً. هذه الثغرة في المنهاج التربوي يتضرر منها "التنظيم" الإسلامي كما يتضرر منها الإسلام من حيث هو دعوة ودين وحركة اجتماعية، أما الضرر الذي يظهر "تنظيمياً" فيتلخص ـ مع استمرار تلك السياسة التربوية ـ بتكاثر "المنفذين واللائحيين" وضمور في عدد "المبدعين والخلاقين" ومع الوقت يتحول "التنظيم" إلى آلة صماء كبيرة ضخمة متفرعة ثقيلة ذات أطراف قوية "الكاتربيلر" من الممكن أن يتحكم في توجيهها إنسان متواضع الأهلية والثقافة، إنسان بلا مبادأة ولا كاريزما ولا خيال. ولأن العملية التربوية داخل "التنظيم" تركز على "قيم التنظيم" من طاعة وولاء والتزام وفدائية ونكران للذات، وليس على "قيم المجتمع الأوسع" من حقوق وواجبات وأدوار ومصالح ومطالب، نقول لأن ذلك حاصل ويتحول "التنظيم" إلى غاية في حد ذاته ويصبح التمسك فيه وبه يعاد "المشروع الإسلامي" الذي يبشر به بمعنى يتولد شعور خفي لدى "المنتمي الإسلامي" إن الإسلام لن يعود لسابق مجده إلا من خلال "التنظيم".
من هنا يتم التركيز على نقطة "التنظيم" ومجاله، ومن هنا يصبح ازدهاره وانتشاره وبروزه "القضية الأوجب" بالتقديم على "القضية الاجتماعية العامة". ومن هنا نجد أن "المنتمي الإسلامي" يتقن موجبات الانتماء التنظيمي وتواءم معها، لكنه من جهة أخرى يتراخى في موجبات انتمائه الاجتماعي الأوسع ويفرط في "دوره العام" غير المرتبط بالتكاليف التنظيمية برغم أن هذا "الدور العام" أكثر أهمية من "الدور الخاص" المربوط بهيئات "التنظيم". وينشأ عن هذه الثغرة "التربوية" ثغرة أخرى تتعلق بمنظور "المنتمي الإسلامي" للقضايا العامة وحتى على درجة تفاعله معها. فعلى صعيد "المنظور" نلاحظ العمومية والانطباعية وكسلاً في التتبع الثقافي للقضية العامة وشيئاً من الرومانسية الحالمة المنفكة والمعبأة بالخطاب التاريخي والماضويات المكرورة والمبثوثة بين عموم الناس. وأما "درجة التفاعل" مع القضية العامة فيقررها له "التنظيم": فالأخير هو الذي يقرر "العام" من "الخاص" و"المهم" و"الأهم" وغير ذلك أيضاً. وينشأ عن هذا "الفصام" في العملية التربوية، شيء مشابه له على صعيد التعامل مع المحيط الحركي الذي يشكله المجتمع الأوسع. فـ "المنتمي الإسلامي" يتعامل مع المجتمع الأوسع بمنطق "التنظيم": مزيج من التوظيف السياسي للعلاقة وشيء من الاستعلاء الشعوري والنفسي "لقد مارس المرحوم سيد قطب في المعلم تنظيراً لهذه النقطة". لذا نجد المنتمي "الإسلامي" يأخذ من المحيط ما يفيد "التنظيم" ويدفع عن "التنظيم" ما يتفاعل في المحيط من نزوعات و"شرور". في إطار هذا "الحدب" على "التنظيم" تصبح كل قضية أخرى "ثانوية". ذلك هو جذر المشكلة في موقف "التنظيم" من العلاقات السياسية المتوازنة مع القوى الاجتماعية والسياسية المتباينة.
طبعاً عندما نتحدث عن "المنهاج التربوي" في تنظيمات الحركة الإسلامية وننتقده أو نبين أوجه القصور فيه، لا نقصد بمصطلح "المنهاج التربوي" التعاليم الأخلاقية والمناقب الإسلامية التي أحيتها الحركة الإسلامية في مجتمعنا المعاصر، إطلاقاً لا نقصد ذلك، بل نحن نحيي الدور الريادي الذي قامت به الحركة في هذا المجال. ما نقصده بـ "المنهاج التربوي" هو ما يصب في النهاية في مجال "التكوين الأيديولوجي" وتشكيل المنظورات الاجتماعية والسياسية للأفراد، أكثر من المناقبيات الفردية والأخلاقيات الخاصة بهم. ومن تفريعات هذا التكوين الأيديولوجي القاصر نلاحظ أنه يفرز لدى "المنتمي الإسلامي" العقلية المباشرة، فهو لا يهتم ولا يدرك إلا "المباشر" ولذا نجده لا يتفاعل مع القضية العامة إلا ما كان له صلة "لصيقة و مباشرة" بفضاءات المناشط التي يمارسها "التنظيم". ومن هنا نلاحظ أيضاً ضعف التمييز ـ لدى التنظيمات الإسلامية ـ في فرز المباشر من غير المباشر، القصد بين ما يؤثر عليها مباشرة وما قد يؤثر عليها أكثر ولكن بطريق غير مباشر. وتوظيفاً لهذا الثغرة نشط خصوم الحركة الفعليون في توفير "الإشباع المباشر" لها، والتركيز في محاربتها وتطويقها على الدروب والآليات "غير المباشرة" فـ "الإشباع المباشر" للحركة يتحقق من خلال توفير فرص "التعبير الديني" الصاخب والمكثف في الصحف والإذاعات ومحطات التلفاز والمناسبات الدينية والوطنية، وفي الوقت نفسه ويتوازى مع هذا جهود مكثفة "في الظل" للحؤول دون تمكين "منهج الدين" من اتخاذ القرار وتنظيم المؤسسات والوزارات والهيئات والعلاقات الدولية والعسكرية وغير ذلك من المناشط المفصلية. ومن الملاحظ أن قابليات "التنظيمات الإسلامية" للغرق في عمليات الإشباع المباشر كبيرة للغاية، ولذا بات من السهل استرضاؤها وتوظيفها سياسياً في "حروب الوكالة" وهي ـ في السياسة ـ "حروب وهمية" يخوضها الحزب ضد الحزب الآخر لخدمة "طرف ثالث" يتحكم في تفاصيل الصراع "بالريموت كونترول".
جذر كل هذا واحد: التركيز على التربية الحزبية الواحدية "البيوريتانية" (أي التطهرية) وإهمال التربية الاجتماعية ذات الجهات الأربع التي تعي الكليات "جشتالت" ولا تقف عند حد الفهم الجزئي. وحل هذا واحد: تصحيح مفاهيم التربية الحزبية في "التنظيم الإسلامي" والتركيز على فنون التربية الاجتماعية التي تستهدف خروج الجنين الإسلامي من القشرة لا النمو الحلزوني داخل القشرة.
11/09/2003
http://www.ala7rar.net المصدر:
===================(55/325)
النزعة الحزبية في العمل الإسلامي والموقف منها
د. حسن محمد
النزعة الحزبية من أهم ما يفتك بكيان العمل الإسلامي ويبعضه إلى أبعاض متناحرة. ودفعاً لشرورها، واتقاءً لمردودها السيء أبى الدين إلا أن يشدد النكير على إتيانها ودعا إلى إخاء إسلامي يسع كل أبناء الإسلام ويربطهم برابطة العقيدة ووثاق الإيمان. والحديث عنها كتابة أو محاضرة يكتسب أهميته من واقع العمل الإسلامي الذي يعيش اليوم حاله التدابر والتلاوم، متأثراً بأطر تنظيمية ضيقة، وأفكار انعزالية تصرفه عن الوجهة التعاونية التكاملية مع نظرائه وشركائه في الفهم والغاية؛ إلى النظرة الأحادية، وهذه النزعة أخطر ما فيها فساد ذات البين، وأخطر ما في فساد ذات البين حلاقة الدين كما ورد في الحديث، إضافة إلى أنها تحمل حاملها على الانزواء والانكماش خلف أسوارها، بل وتذهب به إلى قلب الموازين فيرى الحق باطلاً، والباطل حقاً، ويستمرئ تطفيف المكيال في أقواله، وظلم العباد في أحكامه، وتعميق الخصومات في علاقاته.
يقول فيها الأستاذ البنا - رحمه الله -: "بل فهمناها عداوة، وبغضاء تتعدى النظر في المصالح العامة إلى المقاطعة في كل الشؤون عامة، وخاصة، وإلى أن نرى الحق في جانب خصومنا الحزبيين باطلاً، والباطل في جانب أنصارنا الحزبيين حقاً، ونصدر من هذا الشعور في كل تصرفاتنا وصلاتنا، ويستفحل الداء، ويستشري حتى في أحرج المواقف فلا نستطيع أن نوحد صفوفنا في أي موقف قوي مهما يكن يتوقف عليه إصلاح أمرنا ومستقبل بلادنا"[1].
وسواءً أكان البنا يقصد بكلامه هذا الأحزاب العلمانية التي تكاثرت في عالمنا الإسلامي وتخاصمت على مقاعد الحكم فيه، أم فكرة التحزب ذاتها بغض النظر عن موطن نشوئها ومجال تناميها فإن الحقيقة التي لابد من تثبيتها هنا أن النزعة الحزبية من العلل التي أضحت تنخر في جسم العمل الإسلامي وأخذت تدفع بكل أفراده إلى تأسيس الموالاة والمعاداة على أساس الانتماء الحزبي، وإن المتشبع بها نراه يبلغ من الغي إلى درجة لا يبالي فيها بتقديم ما حقه التأخير، وتأخير ما حقه التقديم، وينقاد فقط لما يوحى إليه من جهة انتمائه، وعلى هذا يبني مواقفه العملية إقداماً أو إحجاماً ونصرة، أو نفرة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وكثير من أتباع المتعبدة يتبع بعض المعظمين عنده في كل ما يأمر به، وإن تضمن تحليل حرام، أو تحريم حلال"[2].
ولهذا تجده أسير حزبه يحبس نفسه بين جدران الحزب، ويحكم على عقله بالإلغاء، ولا يكلف نفسه بقراءة ما يصدر من مخالفيه في الرأي، وتسيطر عليه دائماً هواجس النفس المتربصة التي تَسِمُ الآخرين بالتآمر، ولا تظن بهم إلا ظن السوء، بل لا تطيق منهم قولاً أو فعلاً ولا تتعامل معهم إلا بالمكر والمكايدة، ويقابل هذا بمغالاة في توقير ذاته، والاعتزاز برأيه، ومواقفه حتى أنه ليعتقد أنه وحده الناجي، وأن كل من سواه هالك، وأنه وحده المخلص، وأن كل من سواه خائن متآمر، وأنه ما لم يكن هو في القيادة والقمة فإن غيره لا يصلح أن يقود، وأنه وحده المصيب وغيره المخطئ، ومن ظلمه وتقتيره في العدل والإنصاف أنه في الوقت الذي يحاول فيه تسويغ تصرفاته الحزبية بحق وبغير حق لا يسمح لنفسه ولا لغيره تسويغ أعمال الآخرين وتصرفاتهم فهو ممن قال الله - تعالى - فيهم: ]إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون[.
إن مثل هذا التفكير شائع في معظم أفراد الحركات الإسلامية إلا من رحم ربك، ولذا يصعب التحاور مع حملة هذا التفكير، ومن أم الكبائر عندهم نقد آرائهم الحزبية.
التخلص من الحزبية إخلاص للنية:
وإذا ما أردنا البراءة من الحزبية لابد من أن ندرك أن العمل الإسلامي بشتى مناشطه نوع من أنواع العبادة يشترط فيه إخلاص النية، وموافقة الكتاب والسنة، والمرء منا في الحركة الإسلامية أياً كان موقعه لابد من أن يجرد عمله لله رب العالمين، لا يعمل نصرة لحزب، ولا تأييداً لشخص، فإن من عمل عملاً تحزباً لفئة على فئة، أو لفرد على فرد فقد أحبط عمله، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإذا كان المجاهد الذي يقاتل حمية للمسلمين، أو يقاتل رياء للناس ليمدحوه، أو يقاتل لما فيه من الشجاعة، لا يكون قتاله في سبيل الله - عز وجل -، حتى يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فكيف من يكون أفضل تعلمه صناعة القتال مبنياً على أساس فاسدٍ ليعاون شخصاً مخلوقاً على شخص مخلوق، فمن عمل من ذلك كان من الجاهلية الجهلاء، والتتر الخارجين عن شريعة الإسلام، ومثل هؤلاء يستحقون العقوبة البليغة الشرعية التي تزجرهم وأمثالهم عن مثل هذا التفرق والاختلاف، حتى يكون الدين كله لله، والطاعة لله ورسوله، ويكونون قاضين بالقسط يوالون الله ورسوله، ويحبون لله، ويبغضون لله، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر"[3].
ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً أن التحالف الذي يحدث بين شخص وآخر على أن ينصر كل منهما الآخر في معاداة من يعاديه، وموالاة من يواليه نوع من المجاهدة في سبيل الشيطان، فيقول - رحمه الله -: "ومن حالف شخصاً على أن يوالي من والاه، ويعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله - تعالى -، ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين، بل هؤلاء عسكر الشيطان"[4].
وتحالف الحزبيين يقوم على هذا الفهم، وهو كما لاحظت فهم تتري وليس فهماً إسلامياً، ولضرر حامليه وخطورتهم على الصف الإسلامي يستعيذ شيخ الإسلام أن يكونوا من معسكر المجاهدين وإن وضعهم الطبيعي بما يحملونه من أفكار حزبية هو معسكر الشيطان.
والتحالف الذي يكون بين معسكر الإسلام تكون صيغته التحالفية كما وضحها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - على هذا النحو:
"عليك عهد الله وميثاقه أن توالي من والى الله ورسوله، وتعادي من عادى الله ورسوله، وتعاون على البر والتقوى، ولا تعاون على الإثم والعدوان، وإذا كان الحق معي نصرت الحق، وإذا كنت على الباطل لم تنصر الباطل، فمن التزم كان من المجاهدين في سبيل الله الذين يريدون أن يكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا"[5].
والتربية الإسلامية الصحيحة هي التي تقوم على تكريه التحزب في القلوب وعلى اقتلاعه بدل تعميقه، وعلى تقبيحه بدل تحسينه حتى تنشأ ناشئة المجاهدين، وليس في قلوبها غل للذين آمنوا إخوة متعاونين، وأحبة متآزرين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقى بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونوا مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى.. وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهداً بموافقته على كل ما يريده، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، بل من فعل هذا كان من جنس جنكيز خان، وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقاً ولياً، ومن خالفهم عدواً باغياً.. "[6].
وتمقت التربية الإسلامية عكس التربية الحزبية عقوبات الهجران التي تصدرها بعض الاتجاهات على كل من لم ينضو تحت لوائها، أو ينتقد فيها موقفاً مخالفاً لنهج الإسلام وهذا في الحقيقة نوع من الإرهاب الفكري، ومصادرة لحق الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونمط من أنماط سياسات القساوسة والرهبان الذين يصدرون صكوك الحرمان عقوبة لكل من خالفهم، وخرج على آرائهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإذا جنى شخص فلا يجوز أن يعاقب بغير العقوبة الشرعية، وليس لأحد من المتعلمين، والأستاذين أن يعاقبه بما يشاء، وليس لأحد أن يعاونه ولا يوافقه على ذلك مثل أن يأمر بهجر شخص فيهجره من غير ذنب شرعي، أو يقول: أفقدته، أو أهدرته، أو نحو ذلك، فإن هذا من جنس ما يفعله القساوسة والرهبان مع النصارى، والحزابون مع اليهود، ومن جنس ما يفعله أئمة الضلال والغواية مع أتباعهم.. "[7].
والداء الحزبي قد يتسرب إلى النفس مستغلاً فيها منافذ الخير، وحمية الحق أصلاً في استخدامها خارج ما استنفرت في سبيله، وتحويلاً لمسارها الصحيح إلى آخر منحرف يأخذ طابع الحزب أو القبيلة، أو الإقليم، بعد أن كان في الأصل نهوضاً مخلصاً لنصرة الحق وتأييده.
يقول الإمام الذهبي مبيناً خطورة المؤثرات النفسية على صفاء النية وتجردها لله: "فكم من رجل نطق بالحق، وأمر بالمعروف فيسلط الله عليه من يؤذيه لسوء قصده، وحبه للرياسة الدينية، فهذا داء خفي سار في نفوس الفقهاء، كما أنه داء سار في نفوس المنفقين.. وهو داء خفي يسري في نفوس الجند، والأمراء، والمجاهدين، فتراهم يلتقون العدو ويصطدم الجمعان وفي نفوس المجاهدين مخبئات وكمائن من الاختيال، وإظهار الشجاعة.. وينضاف إلى ذلك إخلال بالصلاة، وظلم للرعية، وشرب للمسكر، فأنى ينصرونه؟! وكيف لا يخذلونه؟! اللهم: فانصر دينك، ووفق عبادك.. "[8].
ولابد من تلقف الحق أياً كان مصدره، والكف عن ازدراء المسلمين وتحقيرهم، أو التقليل من شأنهم، وكل تربية خلاف ذلك تعد حالة مرضية تقتضي المعالجة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "تجد كثيراً من المتفقهة إذا رأى المتصوفة، أو المتعبدة لا يراهم شيئاً، ولا يعدهم إلا جهالاً وضلالاً، ولا يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شيئاً، ونرى كثيراً من المتصوفة، والمتفقرة لا يرى الشريعة ولا العلم شيئاً، بل يرى أن المتمسك بها منقطع عن الله، وأنه ليس عند أهلها مما ينفع عند الله شيئاً، وأن ما جاء به الكتاب والسنة من هذا وهذا حق، وما خالف الكتاب والسنة من هذا وهذا باطل"[9].
وكما ينبغي التحذير من التكتلات الحزبية وولاءاتها المبنية على أسس غير إسلامية لابد أيضاً من التحذير عن التحزبات القبلية والإقليمية داخل العمل الإسلامي.
روى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر قال: اقتتل غلامان غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجر: يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يا للأنصار، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هذا؟ أدعوى الجاهلية، قالوا: لا يا رسول الله، إلا أن غلامين اقتتلا فكسح أحدهما الآخر، فقال: "لا بأس، ولينصر الرجل أخاه ظالماً، أو مظلوماً، إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نصرة، وإن كان مظلوماً فلينصره".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهذان الاسمان: المهاجرون والأنصار اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة، وسماهما الله بهما كما سمانا المسلمين من قبل.. وانتساب الرجل إلى المهاجرين والأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله، ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط كالانتساب إلى القبيلة، أو الأمصار.. ثم مع هذا لما دعى كل منهما طائفته منتصراً بها أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماه دعوى الجاهلية.. فأمر بمنع الظالم وإعانة المظلوم.. "[10].
وقال أيضاً: "بل الأشياء التي يسوغ التسمي بها مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، أو إلى شيخ كالقادري، أو العدوي، ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى قبيلة، من القبائل كالقيسي، واليماني، وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادى عليها"[11].
هذا هو منهج الإسلام السوي في موقفه من التحزب الفئوي، أو القبلي، أو الإقليمي، لا يوالي ولا يعادي إلا على أساس الانتماء للإسلام والتمسك بالحق، وما عدا ذلك خلل في التفكير والمفاهيم لا يؤدي بالعمل إلا إلى الهلاك بعد الضعف والشتات...
---------------
[1] مجموعة رسائل البنا/332.
[2] اقتضاء الصراط المستقيم 1/76 77.
[3] مجموعة الفتاوى 28/ 9 5.
[4] المصدر السابق.
[5] مجموع الفتاوى 28/9 5.
[6] المصدر السابق.
[7] مجموع الفتاوى 28/ 9 5.
[8] سير أعلام النبلاء 18/192.
[9] اقتضاء الصراط المستقيم 1/77 78.
[10] اقتضاء الصراط المستقيم 1/210 211.
[11] مجموع الفتاوى 3/415.
ذو القعدة - 1419 هـ - آذار (مارس) - 1999 م
http://www.alsunnah.org المصدر:
===============(55/325)
نقد في العقلية الحزبية !!
د. عبد الحكيم الفيتوري
من المعروف أن التخلف العام ظاهرة معقدة ومتشابكة الأطراف، ولا يسهل تلمس ملامحها وفرز خيوطها، وهي تنشأ عن أسباب وعوامل متعددة وعميقة الجذور.
وفي حالات معينة تنجح بعض الجماعات في تجاوز التخلف واجتثاث أصوله، بينما تخفق جماعات أخرى في معركتها ضده، فيكتسب صفة الدوام ويبقى قائماً ومُكشراً عن أنيابه إلى أمد غير محدود، كما هو الحال مع معظم الجماعات والأحزاب المعاصرة.
وقد تناولت في المقال السابق تحت عنوان "نقد في النفسية الحزبية" ضمن ملف المراجعات الحركية عاهات النفسية الحزبية، وفي هذا المقال نعرض لمسألة التخلف الذهني التنظيمي (الإعاقة الذهنية في العقلية الحزبية) في إدارة العمل الجماعي والحزبي، فالنجاح في هذا المجال يعني توفير مخصصات أكبر لمشروعات التنمية العقلية، والنفسية، والبشرية السوية التي تحمل مرآة سوية غير مقعرة ولا محدبة! وذلك يقود إلى فهم صحيح في مختلف شؤون الحياة الدينية والدنيوية، وإلى تطوير مختلف قطاعات المجتمع والتنظيمات والدولة.
فالتعريف الطبي للعقلية المتخلفة: يشير إلى أن التخلف العقلي هو حالة توقف أو عدم اكتمال نمو الدماغ نتيجة لمرض أو إصابة قبل سن المراهقة أو بسبب عوامل جينية. أما التعريف القانوني؛ فإنه يشير إلى أن الشخص المعاق ذهنياً هو غير القادر على الاستقلالية في تدبير شؤونه بسبب حالة الإعاقة الدائمة أو توقف النمو العقلي في سن مبكرة. أما التعريف الاجتماعي؛ عرف التخلف العقلي بأنه حالة عدم اكتمال النمو العقلي بدرجة تجعل الفرد عاجزًا عن التكيف مع الآخرين مما يجعله دائماً بحاجة إلى رعاية وإشراف ودعم الآخرين.
نخلص من هذه التعريفات بـ: أن التخلف العقلي يشير إلى مستوى الأداء الوظيفي العقلي، ويصاحبه عجز في السلوك، وتخبط في الرؤى والتخطيط.
ولا ريب أن الفشل في عدم معرفة الأمراض النفسية والعقلية ومن ثم السلوكية في محيط الجماعات والأحزاب، ووضع استراتيجيات علاجية مناسبة وناجحة لمختلف هذه العاهات، هو أحد أسباب تكريس الإعاقة الذهنية والتخلف وعدم القدرة على كسر قيوده وفك أغلاله، ومن ثم القفز من فوق أسواره العالية باتجاه الحضارة والرقي إلى مبادئ الإسلام القيمة (ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)!.
ونعرض في هذا المقال لأهم مظاهر أزمة تخلف العقلية الحزبية في جانب العمل التنظيمي، حيث إنه يعتبر النظر في هذا الجانب من أهم مؤشرات تجليات الأزمة العقلية في واقع العمل الحزبي المعاصر، وهي على النحو التالي:
1- إسقاط حقيقة الشورى وآلياتها الشرعية داخل صف العمل الجماعي تحت شعارات شتى منها الحفاظ على وحدة الحزب وممتلكاته! على الرغم من إيمانها بقوله - تعالى -: (وأمرهم شورى بينهم) إلا أن هذه الممارسة من العقلية المتخلفة في واقع الأمر تقوم بعملية اغتيال كامل لعقل العضو ومصادرة قدراته، ومحاصرة كفاءاته؛ فينقلب الحزب تدريجيًا إلى متحف للعقول البشرية المحنطة!.
2- تغيب عملية النقد الحر على الرغم من أن سائر دساتير الجماعات والأحزاب ولوائحها الداخلية تنص على حرية الرأي وأهمية النقد الحر!! إلا أن هذه القيمة حفظت في السطور، أو أعطيت لمن له حق الفيتو داخل الحزب، أو أفرغت من مضامينها الأساسية واستبدلت بمعان شكلية وممارسات سطحية حتى صارت ممارسة النقد وسيلة للتسلية والأمسيات التنظيمية ليس إلا!.
3 – تحول عملية النقد داخل الأحزاب من عملية بنائية وتطويرية إلى عملية تبريرية أو تدميرية؛ تبريرية لكل الأخطاء وإن كانت فادحة فـ(ليس في الإمكان أبدع مما كان)!؛ وتدميرية لتصفية حسابات شخصية من باب (عليّ وعلى أعدائي)!
4- تهميش مقصود - مع سابق الترصد والإصرار!- لعقل وكادر العمل التنظيمي بغية تدميره واغتياله، وذلك من خلال تحكم الأقلية التنظيمية المستبدة في الأغلبية التنظيمية الصامتة - التي عادة ما تفضل الابتعاد عن كل شيء زهدًا في القيادة أو انشغالاً عنها، وربما تكون أقل وعيًا من غيرها - وعبر الشورى المزيفة ووسائل الديمقراطية الطاغوتية بـ(الانتخابات والتصويت!!) لإخفاء نزعتها السلطوية وطموحها إلى المناصب وحماية الامتيازات التنظيمية الخاصة!!
5- الشعور بالعلو الزائف على سائر خلق الله - سبحانه وتعالى -: (إن أكرمكم عند الله اتقاكم) والإيمان المفرط بالصوابية في كل شيء، وفي أي شيء (لو كان خيرًا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم)! وفي المقابل الإيمان المفرط بخطيئة جميع الجماعات والأحزاب"رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب)!
فهل من سبيل إلى مراجعة الذات والعقل والآليات التنظيمية وفق ثوابت الوحيين قبل فوات الأوان، حيث لا تنفع المراجعة ولات حين مناص!.
http://www.islamtoday.net المصدر:
================(55/325)
مفهوم «التعددية الديمقراطية» وعلاقته بالأقليات ... 2(55/325)
(55/326)
الديمقراطية ... 6(55/327)
(55/328)
رأي من يجيز العمل بمبدأ الديموقراطية : ... 86(55/329)
(55/330)
الديمقراطية دين ... 136(55/331)
(55/332)
وقائع برلمانية ... 181(55/333)
(55/334)
حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية ... 187(55/335)
(55/336)
ـ هذه هي الديمقراطية فهل أنتم منتهون ـ ... 602(55/337)
(55/338)
الديمقراطية والإسلام.. توأمان أم ضدان؟ ... 611(55/339)
(55/340)
الإسلام والديمقراطية ... 640(55/341)
(55/342)
الشورى.. والسلطة التشريعية ... 653(55/343)
(55/344)
حوار في الديمقراطية ... 660(55/345)
(55/346)
الإسلاميون وسراب الديمقراطية (عرض) ... 670(55/347)
(55/348)
رؤية اسلامية لاشكاليات مفهوم الديمقراطية ... 672(55/349)
(55/350)
إشكالية مفهوم الديمقراطية من خلال مدارسها ... 684(55/351)
(55/352)
إشكالية التعبير العملى عن الديمقراطية (1) ... 697(55/353)
(55/354)
إشكالية التعبير العملي عن الديمقراطية (2) ... 704(55/355)
(55/356)
إشكالية نتائج وإفرازات الديمقراطية (1) ... 713(55/357)
(55/358)
إشكالية نتائج وإفرازات الديمقراطية (2) ... 721(55/359)
(55/360)
مخالب الديمقراطية ... 733(55/361)
(55/362)
أسلمة الديمقراطية .. حقيقة أم وهم ؟ (1/2) ... 734(55/363)
(55/364)
الشورى .. لا الديمقراطية ... 745(55/365)
(55/366)
الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية ... 749(55/367)
(55/368)
... 773(55/369)
(55/370)
سجال الديمقراطية وأزمة الإسقاط ... 776(55/371)
(55/372)
عوائق أمام شرعية الديمقراطية ... 778(55/373)
(55/374)
أسلمة الديمقراطية .. حقيقة أم وهم ... 786(55/375)
(55/376)
مفهوم «التعددية الديمقراطية» وعلاقته بالأقليات ... 798(55/377)
(55/378)
أفكار لتوسيع دائرة الديمقراطية ... 802(55/379)
(55/380)
حكم التعددية السياسية ... 839(55/381)
(55/382)
الديموقراطية ؛ وسيلة لاحتواء التيار الإسلامي ... 852(55/383)
(55/384)
الديمقراطية .. الصنم العصري ... 859(55/385)
(55/386)
الحرية بين الإسلام والديمقراطية ... 874(55/387)
(55/388)
الديمقراطية ؛ كما تريدها وتمارسها أمريكا ... 879(55/389)
(55/390)
الديمقراطية بين الإسلاميين والعلمانيين ... 885(55/391)
(55/392)
الديمقراطية... دين أم سياسة؟! ... 887(55/393)
(55/394)
الإسلام الديمقراطي! ... 891(55/395)
(55/396)
رسالة إلى مجاهدي العراق حول الديمقراطية والانتخابات ... 895(55/397)
(55/398)
هذه هي الديمقراطية .. فهل أنتم منتهون؟ ... 900(55/399)
(55/400)
القسطية لا الديمقراطية ... 909(55/401)
(55/402)
الإسلام والديمقراطية ؛ توأمان أم ضدان؟ ... 917(55/403)
(55/404)
الإسلام والاستفادة من الديمقراطية ... 921(55/405)
(55/406)
ارتقاء المسلمين واستقرارهم في الإسلام لا في الديموقراطية ... 926(55/407)
(55/408)
أكذوبة الديمقراطية ... 933(55/409)
(55/410)
العلاقة بين الدين والديمقراطية ... 939(55/411)
(55/412)
"ديمغراطية"؛ الدكتور عصام ... 944(55/413)
(55/414)
الديمقراطية ... 948(55/415)
(55/416)
حرية الكفر؛ الركيزة المحورية للديمقراطية ... 961(55/417)
(55/418)
هدف الانتخابات في الدول الإسلامية ... 965(55/419)
(55/420)
الديمقراطية؛ مشروع استعمار أم نهضة؟! ... 967(55/421)
(55/422)
الديمقراطية القذرة ... 972(55/423)
(55/424)
الديمقراطية؛ كفر بواح ... 976(55/425)
(55/426)
عن الشورى والديمقراطية ... 986(55/427)
(55/428)
الديمقراطية؛ اسم... لا حقيقة له ... 991(55/429)
(55/430)
النظام الديمقراطي؛ نظام كفري ... 1000(55/431)
(55/432)
تلقين الموحدين الرد على شبهات الديمقراطيين ... 1014(55/433)
(55/434)
المسلمون بين مطرقة الديمقراطية وسندان الديكتاتورية ... 1017
وكما ذكرنا فإن الديمقراطية الصورية التي تطبق في بلاد المسلمين تعطي الحاكم "الشرعية" في أن يفرض ظلمه وطغيانه باسم القانون والدستور ودولة المؤسسات, وتتحمل الحكومة الوزر دائماً وتتم إقالتها وحل البرلمان كلما أصابت الأمة نكبة من النكبات أو مصيبة من المصائب, والحاكم آمن في قصره يداعب مساعداته أو حيواناته الأليفة التي يقتنيها, وقد يلجأ إلى التخلص من أقرب معاونيه ومستشاريه, لأن الكرسي لا يتسع إلا لشخص واحد, وطبقاً للقاعدة: "إنَّ الرئيس دائماً يضحي بجنوده بدلاً من أن يضحي بنفسه". ... 1020(55/435)
(55/436)
الديمقراطية بدعة العصر ... 1029(55/437)
(55/438)
الديمقراطية ... 1030(55/439)
(55/440)
مناقشة مبادئ وأسس الديمقراطية ... 1036(55/441)
(55/442)
فتوى بعض العلماء في الديمقراطية ... 1067(55/443)
(55/444)
الديمقراطية دين ... 1070(55/445)
(55/446)
الديمقراطية والشورى ... 1073(55/447)
(55/448)
استخدام الديمقراطية كمصطلح ... 1075(55/449)
(55/450)
الكلمة العربية المرادفة لكلمة الديمقراطية ... 1087(55/451)
(55/452)
حكم الشعب ليس حكم الله وإن حكم بالإسلام ... 1089(55/453)
(55/454)
الأمة تُزاول السلطة بإذن الله، وليست هي مصدر السلطة ... 1094(55/455)
(55/456)
لماذا الديمقراطية تسير بصورة مقبولة في بلاد الغرب؟! ... 1097(55/457)
(55/458)
الديموقراطية المنفصلة عن القيمة ... 1099(55/459)
(55/460)
الديموقراطية والطريق إلى التهلكة ... 1105(55/461)
(55/462)
عن التيار القومي العربي والعودة إلى الديموقراطية ... 1109(55/463)
(55/464)
العلمانية والديموقراطية بين النظرية والآلية 1- 2 ... 1113(55/465)
(55/466)
نهاية التاريخ أم نهاية الديموقراطية ؟! ... 1126(55/467)
(55/468)
ف الديموقراطية... معناها وماهيتها ... 1130(55/469)
(55/470)
ما يقره الإسلام من الديموقراطية وما يأباه ... 1131(55/471)
(55/472)
بين الديموقراطية والإسلام ... 1132(55/473)
(55/474)
الديموقراطية بين القبول والرفض ... 1133(55/475)
(55/476)
الغرب .. بين خدعة الديموقراطية وأكذوبة حريّة التعبير ... 1134(55/477)
(55/478)
بدايات السفور في العالم الإسلامي ( 6 ) : ... 1143
الكويت ... 1143(55/479)
(55/480)
الفلوجة وديموقراطية التدمير ... 1152(55/481)
(55/482)
كي لا نسقط في الهاوية ... 1155(55/483)
(55/484)
يَخافُون مِن دُميَة ! ... 1170(55/485)
(55/486)
أغيثونا.....نحن الغارقات ... 1174(55/487)
(55/488)
الصّفقة الخاسرة ... 1179(55/489)
(55/490)
من قضايا الدراسات العربية الإسلامية في الغرب ... 1185(55/491)
(55/492)
نحن والكافرون ... 1211(55/493)
(55/494)
شعب اختار فعوقب على اختياره ... 1215(55/495)
(55/496)
واقع المستغربين : ... 1218
أجساد مغلفة بالوطنية وقلوب تنضح بالقيم الغربية ... 1218(55/497)
(55/498)
ديكتامقراطية أم ديكتاتوراتية ... 1220(55/499)
(55/500)
أمريكا والانهيار الحضاري... حقيقة أم وهم؟! ... 1225(56/1)
(56/2)
نساء... لابواكي لهنّ ... 1246(56/3)
(56/4)
أفكار في مواجهة الحروب الصليبية ... 1250(56/5)
(56/6)
المسلم الجديد ... 1279(56/7)
(56/8)
ديمقراطية المستبدين..!! ... 1281(56/9)
(56/10)
ديمقراطيّة "جوانتانامو" وحريّة "أبو غريب" ... 1284(56/11)
(56/12)
نحو تصوّر إسلاميّ للديمقراطيّة ... 1287(56/13)
(56/14)
نهاية (صنم). .ديمقراطية الـ (Ca r pet Bombing) ... 1291(56/15)
(56/16)
الحريَّة بين الإسلام والديمقراطيَّة ... 1296(56/17)
(56/18)
الإصلاح السياسي والشرط الاجتماعي ... 1301(56/19)
(56/20)
أساس النهضة: وعي الواقع واحترام الهويّة ... 1303(56/21)
(56/22)
اغتيال الوعي .. وعودة الأوثان المقدسة ... 1306(56/23)
(56/24)
فلسفة المقاومة بين خيار السلاح ومشروع الإصلاح. ... 1309(56/25)
(56/26)
إيران وديموقراطيتها ... 1312(56/27)
(56/28)
أساس النهضة: وعي الواقع واحترام الهويّة ... 1315(56/29)
(56/30)
الأمة الإسلاميّة والتحدي الكبير ... 1318(56/31)
(56/32)
مراجعات أمريكيّة في جدوى الديموقراطيّة العربيّة! ... 1323(56/33)
(56/34)
ديموقراطيّة الاحتلال ... 1326(56/35)
(56/36)
سُخف الفلسفة الوضعيّة ... 1328(56/37)
(56/38)
الله.. أو الطاغوت ... 1333(56/39)
(56/40)
حول المسلم والسّلطة ... 1345(56/41)
(56/42)
أبجديّات حول خُرافة فصل الدّين عن الدّولة ... 1351(56/43)
(56/44)
المرأة المسلمة.. والنشاط السياسي! ... 1358(56/45)
(56/46)
إحلال القيم.... الانتخابات نموذجاً ... 1369(56/47)
(56/48)
مذاهب الناس في الانتخابات ... 1372(56/49)
(56/50)
من أجل حِوار حضارات لصالح البشريّة ... 1377(56/51)
(56/52)
المثقف والسلطة .. شكل العلاقة: ... 1381(56/53)
(56/54)
نقد في العقلية الحزبية!! ... 1387(56/55)
(56/56)
المشاركة في الانتخابات البرلمانية (1/2) ... 1390(56/57)
(56/58)
الاستراتيجية الأمريكية .. والأهداف الخفية ! ... 1407(56/59)
(56/60)
الحركة الإسلامية بين الشرعية والوضعية ... 1414(56/61)
(56/62)
( الدين ـ التجارة ـ الشبكات الخفية ) ... 1420(56/63)
(56/64)
صرخة حق : ... 1467
أحسنت يادكتور غازي قد تبين لي الحق (حقائق مروعة) ... 1467(56/65)
(56/66)
المؤتمر العالمي الأول حول الإسلام والقرن الواحد والعشرين ... 1471(56/67)
(56/68)
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ... 1484(56/69)
(56/70)
ماذا بعد هزيمة الطالبان ... 1493(56/71)
(56/72)
حجاب المرأة المسلمة ... 1502(56/73)
(56/74)
العنصرية والديموقراطية الأوربية في الميزان ... 1510(56/75)
(56/76)
الهند والديموقرطية الضائعة ... 1516(56/77)
(56/78)
يا أدعياء التسامح والديمقراطية من يكره من ... 1520(56/79)
(56/80)
المعارضة مبغوضة . . . والمظاهرة مرفوضة ... 1522(56/81)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (21) العقلانية
الباب الواحد والعشرون
العقلانية
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الواحد والعشرون
العقلانية(57/1)
(57/2)
العقلانية
…العقلانية - بمعني التفسير العقلاني لكل شئ في الوجود ، أو تمرير كل شئ في الوجود من قناة العقل لإثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه - مذهب قديم في البشرية ، يبرز أشد ما يبرز في الفلسفة الإغريقية القديمة ، ويمثله أشد ما يمثله سقراط و أرسطو .
ولقد ظلت الاتجاهات الفلسفية الاغريقية التي تمثل العقلانية قسما بارزا منها - تسيطر علي الفكر الأوربي - حتي جاءت المسحية الكنسية فغيرت مجري ذلك الفكر الأوربي عدة قرون. فلم يعد العقل هو المرجع في قضايا الوجود إنما صار هو الوحي - كما تقدمه الكنيسة - وانحصرت مهمة العقل في خدمة ذلك الوحي في صورته الكنسية تلك ، ومحاولة تقديمه في ثوب " معقول "
يقول الدكتور محمد البهي في كتابه " الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي " : " كان الدين أ, النص طوال القرون الوسطي سائدا في توجيه الإنسان في سلوكه وتنظيم جماعته ، وفي فهمة للطبيعة ، وكان يقصد بالدين " المسيحية " وكان يراد من المسيحية " الكتلكة " وكانت الكثلكة تعبر عن " البابوية " والبابوية نظام كنسي ركز " السلطة العليا " باسم الله في يد الباب ، وقصر حق تفسير " الكتاب المقدس" علي الباب وأعضاء مجلسة من الطبقة الروحية الكبري ، وسوي في الاعتبار بين نص الكتاب المقدس وأفهام الكنيسة الكاثوليكية "(1)
وقد نشأت عن ذلك في الحياة الأوروبية والفكر الأوروبي مجموعة من الاختلالات عرضنا لبعضها في الفصول السابقة ، وقد نعرض لها أو لغيرها مرة أخري في هذا الفصل ، ولكنا نبادر هنا فنقول إن هذه الاختلالات لم تنشأ - كما تصور الفكر الأوروبي في مبدأ عصر النهضة - من إهمال الفلسفة والعلوم الاغريقية والالتجاء إلي الفكر " الديني " فلم يكن " الفكر الديني " من حيث المبدأ ، ولا إخضاع العقل للوحي هو مصدر الخلل في فكر العصور الوسطي في أوروبا ، إنما كان الخلل كانا في ذلك الفكر الذي قدمته الكنيسة باسم الدين ، وفي إخضاع العقل لما زعمت الكنيسة أنه الوحي ، بعد تحريفها ما حرفت منه ، وإضافتها ما أضافت إليه ، ومزج كله بعضه إلي بعض وتقديمه باسم الوحي .
والفلسفة الإغريقية التي ظنت أوروبا في عصر النهضة أن ضلالها في العصور الوسطي كان بسبب إهمالها ، وأن العلاج هو الرجوع إليها والاستمداد منها ، لم تكن هي في ذاتها برئية من الخلل ولا سليمة من العيوب ، ولا كانت في صورتها التي قدمت فلاسفة الإغريق القدامي زادا صالحا لحياة إنسانية مستقيمة راشدة ، علي الرغم من كل ما احتوته من إبداع فكري في بعض جوانبها .. وإنما ظل الفكر الأوربي في الحقيقة ينتقل من جاهلية إلي جاهلية حتي عصره الحاضر . فمن الجاهلية الإغريقية والرومانية، إلي الجاهلية الدين الكنسي المحرف في العصور الوسطي ، إلي جاهلية عصر الاحياء ، إلي جاهلية عصر " التنوير " إلي جاهلية الفلسفة الوضعية .. إلي الجاهلية المعاصرة .
وليس همنا في هذا الفصل أن نستعرض انحرافات الفكر الغربي في جاهلياته المتتابعة ، إنما يهمنا فقط أن نتابع خط العقلانية في ذلك الفكر ، ثم نخص بالحديث العقلانية المعاصرة
- - - - - - - - - - - - - - -
كانت العقلانية الاغريقية لونا من عبادة العقل وتألهيه ، وإعطائه حجما مزيفا أكبر بكثير من حقيقته ، كما كانت في الوقت نفسه لونا من تحويل الوجود كله إلي " قضايا " تجريدية مهما يكن من صفائها وتبلورها فهي بلا شك شئ مختلف عن الوجود ذاته ، حركته الموارة الدائمة ، بمقدار ما يختلف " القانون " الذي يفسر الحركة عن الحركة ذاتها ، وبمقدار ما تخلف البلورة عن السائل الذي نتجت عنه .. قضايا تعالج معالجة كاملة في الذهن بصرف النظر عن وجودها الواقعي ! وبصرف النظر عن كون وجودها الواقعي يقبل ذلك التفسير العقلاني في الواقع أو لا يقبله ، ويتمشي معه أ, يخالفه !
وكان أشد مايبدو فيه هذا الانحراف معالجة تلك الفلسفة " لقضية "الألوهية و " قضية " الكون المادي وما بينهما من علاقة ويتشعب هذا الانحراف شعبا كثيرة في وقت واحد .
فأول انحراف هو محاولة اقحام العقل فيما ليس من شأنه أن يلم به فضلا عن أن يحيط بكنهة في قضية الذات الإلهية , فمن باب احترام العقل لذاته ومعرفته لطبيعة وحدود مقدرته ، وما كان لهذا العقل أن يقتحم ميدانا ليس بطبيعته مؤهلا لاقتحامه ، ولا قدرة له علي الخوض فيه .
وإن المحدود لا يتسني له أن يحيط بغير المحدود ، والفاني لا قدرة له علي الإحاطة بحقيقة الأزل والأبد ، حيث لا بداية ولا نهاية ولا حدود . إنما يستطيع العقل أن " يتصور " ذلك لونا من التصور ، وأن يدرك أنه يمكن أن يوجد علي هذه الصورة .. أما أن يحيط " بكنهة" علي أي نحو من الانحاء فقضية أخري خارجة عن نطاق العقل ، وهي التي نقول إن احترام العقل لذاته ومعرفته لطبيعته وحدود مقدرته هي التي توجب عليه أن يتجنب الخوض فيها لأنه لن يصل فيها إلي شئ له اعتبار .
__________
(1) ص 279 من الطبعة الثامنة
وليس معني هذا أن" الدين " كله أمر خارج عن نطاق العقل ، أو أن الاعتقاد في وجود الله ومعرفة صفاته أمر لا نصيب فيه للعقل .(57/3)
كلا .. إنما يدخل العقل إلي هذا الميدان من بابن الذي هو مؤهل بطبيعته ان يدخل منه ، لا من الباب الذي لا يقدر علي فتحه ، والذي يضل فيه لو اقتحمه بغير أداتة ! يدخل من باب إدارك أثارة القدرة الإلهية والاستدلال من هذه الآثار علي وجود الله ، ومعرفة صفاته التي تفرد بها دون الخلق ، ولكن لا يدخل من باب " الكنة " الذي لا يقدر عليه ولا يصل إلي نتيجة فيه (1)
أرايت لو أنك أدخلت مفتاحا في قفل أكبر منه ، فظل يدور في القفل ويدور دون أن يصل إلي فتحة ، فهل تظل تقول إن هذا المفتاح صالح لكل شئ ، ولا بد أن تفتح به جميع الأبواب ، ولو بقيت الدهور تدير المفتاح في القفل فلا يفتح لك الباب ؟! أم تتواضع أمام الأمر الواقع ، وتقر بأن هذا المفتاح لا يصلح لذلك الباب ، وتبحث له عن مفتاح أخر يناسبه ، وتحتفظ بمفتاحك للباب الذي يحسن فتحه !
ليس العيب في القفل ولا في المفتاح ! إنما العيب في إنك أنت تحاول أن تقتحم به باب لا يقدر علي اقتحامه !.
وحين اصرت الفلسفة اليونانية - ومن تبعها بعد من فلاسفة النصاري وفلاسفة المسلمين - أن يقتحموا باب الكنة بمفتاح العقل فقد وصلوا جميعا إلي ذلك التخبط الذي يملأ كتب الفلسفة كلها من أول التاريخ إلي آخر التاريخ !
لا جرم أن تجد ارسطو ، الذي يعتبره دارسو الفلسفة اعظم " عقل " في التاريخ القديم ، يصف إلهه - بعقله - علي هذه الصورة :
يقول " العقاد " في كتاب " حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ":
" ومذهب أرسطو في الإله أ،ه كائن أزلي أبدي مطلق الكمال لا أول له ولا أخر ولا عمل له ولا إرادة . منذ كان العلم طلبا لشئ والله غني عن كل طلب ، وقد كانت الإرادة اختياربين أمرين ، والله قد اجتمع عنده الأصلح والأفضل من كل كمال فلا حاجة به إلي الاختيار بين صالح وغير صالح ولا بين فاضل ومفضول وليس مما يناسب الإله في رأي أرسطوا أن يبتدئ العمل في زمان لأنه أبدي سرمدي لا يطرأ عليه طارئ يدعوه إلي العمل ، ولا يستجد عليه من جديد في وجوده المطلق بلا أول ولا آخر ولا جديد ولا قديم ، وكل ما يناسب كماله فهو السعادة بنعمة بقائه التي لا بغية وراءها ولا نعمة فوقها ولا دونها ، ولا تخرج عن نطاقها عناية تعنيه .
" فالإله الكامل المطلق الكمال لا يعنيه أن يخلق العالم أو يخلق مادته الأولي وهي " الهيولي " .. ولكن هذه " الهيولي " قابلة للوجود يخرجها من القوة إلي الفعل شوقها إلي الوجود الذي يفيض عليها من قبل الإله ، فيدفعها هذا الشوق إلي الوجود ، ثم يدفعها من النقص إلي الكمال المستطاع في حدودها ، فتتحرك بما فيها من الشوق والقابلية ، ولا يقال عنها إنها من خلقه الله إلا أن تكون الخلقة علي هذا الاعتبار ..(2)
ويعلق العقاد - بصدق - علي هذا التصور فيقول :
" كمال مطلق لا يعمل ولا يريد
" أو كمال مطلق يوشك أن يكون هو و العدم المطلق علي حد سواء (3)
والانحراف الثاني هو تحويل الموضوع كله إلي قضايا فلسفية ذهنية بحته ، تبدأ في العقل وتنتهي في العقل ، ويثبت ما يثبت منها وينفي ما ينفي بالعقل ، فلا تمس الوجدان البشري ، ولا تؤثر في سلوك الإنسان العملي ، فتفقد قيمتها في واقع الحياة ..
إن موضوع الألوهية ليس موضوعا فلسفيا بالصورة التي تتناوله بها الفلسفة ، إنما هو موضوع ط العقدية " والرق بين الفلسفة والعقيدة أن الفلسفة تخاطب الذهن وحده ، تبدأ من هناك وتنتهي هناك .. ولا تتجاوز الذهن إلي الواقع الحي الذي يعيشه الإنسان في الأرض , أما العقيدة فتخاطب الكيان الإنساني كله / عقله وجسمه وروحه وكل شئ فيه . إنها لا تسكن كما تسكن الفكرة في الذهن ، ولا تتحرك حول نفسها في الفراغ كما تتحرك الفكرة في الذهن أن تحركت ، إنما هي دائما تدفع الإنسان إلي " سلوك " معين ينبثق منها ويتناسق معها ، وإلي " حركة " معينة وجدانية وسلوكية وفكرية في عالم الواقع .
__________
(1) سنعود غلي تفصيل هذه النقطة عند بسيط وجه النظر الإسلامية في قضية العقل والعقلانية
(2) ص 33-34 من طبعة دار الهلال بالقاهرة سنة 1969
(3) ص 34 من المرجع السابق
ومن ثم لم تكن الفلسفة قط من وسائل الهداية للبشرية ! إن غاية ما يمكن أن تصل إليه هو نوع من المتعة العقلية عند هواة هذا اللون من المتعة ، وهم بطبيعتهم محدودون ولكنها - وحدها - لم تنشئ قط أمة ولم تحرك أمة ، والقليلون الذين يجدون فيها المتعة العقلية ينتهي بهم الأمر إلي هذا المتاع الذاتي ولا زيادة . أو أن تحركوا فلا تزيد حركتهم علي محاولة إحداث هذه المتعة عند محموعة قليلة حولها . ولا زيادة إنها لا تهدف إلي إحداث " سلوك" معين في واقع حياة الناس ، ولا تملك ذلك ونظرة سريعة إلي واقع المجتمع الإغريقي الذي عاش فيه أولئك الفلاسفة والمفكرين الكبار تبين هذه الحقيقة بوضوح ، فما كانت هناك صلة علي الإطلاق بين " أفكار " هؤلاء الفلاسفة " و " واقع " الناس هؤلاء يتكلمون في " الحكمة " وفي السلوك الإنساني " كما ينبغي أن يكون " والمجتمع غارق في كل أنواع الفسق والرذيلة والفساد والظلم ولا يعني نفسه بشئ مما يملأ " أذهان " أولئك المفكرين
أما العقيدة فلها شأن أخر(57/4)
أنها تخاطب العقل فيما تخاطبه من كيان الإنسان ، ولكن لا من أجل المتعة العقلية كما تصنع الفلسفة ، بل من أجل إحداث الوعي اللازم بحقيقة الألوهية ، الذي يترتب عليه الوعي بالالتزام الواجب تجاه تلك الحقيقة .. أي الالتزام بمقام العبودية ، الذي يستلزم الحب والخشية والطاعة والاستقامة علي أمر الله
ثم إنها تخاطب الوجدان .. أو قل إنها تركز خطابها مع الوجدان - وإن كانت قط لا تهمل مخاطبة العقل - لأن الوحدان أن هو الإداة المثل لتحويل قيم العقيدة ومبادئها إلي سلوك عملي ، لأنه حي منفعل متحرك . فهو الأقدر علي تلقي الشحنة العقيدية ، هو الأقدر علي ترجمتها في صورة واقعية حية ، لأن من طبيعته أن ينفعل بما يتلقي ، ويشع من هذا الانفعال في داخل النفس يقينا اعتقاديا من جهة ، وتوجها متحركا يتناسق مع هذا اليقين من جهة أخري .
ولذلك كانت العقدية الحية دائما هي التي تنشئ الأمم وتحكم السلوك البشري ، وكانت دائما هي سبيل الهداية للبشرية ..
ويحدث ولا شك فتور في العقيدة في نفوس الأمر ونفوس الأفراد ، ويحدث ولا شك تفلت من المقتضيات السلوكية للعقيدة في صورة معاص وانحرافات ، ولكن يظل الأمر في اسوأ حالاته مختلفا عن الشأن مع الفلسفة فمع العقيدة هناك ارتباط قوي في أصله يمكن أن يطرأ عليه الضعف ، ومع الفلسفة لا يوجد ارتباط علي الإطلاق .
وموضوع الأولهية هو أصلا موضوع عقيدة .. أو هو موضوع " العقيدة " باعتبار الانسان كائنا معتقدا بطبعه ، عابدا بفطرته ، حتي أن ضلت هذه الفطرة عن طريقها السوي لسبب من الأسباب وليس معني ذلك أنه محرم علي الفلسفة - أو الفكر - أن يتناوله . ولكنه حين يتناوله علي النحو الذي تناولته به الفلسفة الإغريقية العقلانية ، وتبعها فيه فلاسفة النصاري فيما يعرف " باللاهوت" وفلاسفة المسلمين فيما يسمي " الفلسفة الإسلامية " أي التناول الذهني التجريدي الخالص ،يكون قد انحرف به عن طريقه الأصيل ، وحوله إلي " كلام " و " أفكار" لا تنشئ سلوكا واقعيا ، ولا تغير شيئا في حياة الناس … فيتحول إلي زبد لا ينفع.
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [سورة الرعد 13/17]
وأما الإنخراف الثالث الناشئ من التناول العقلاني لقضية الأوهية ، وعدم الرجوع فيها إلي المصدر اليقيني الأوحد وهو الوحي الرباني ، فهو تخبط الفلاسفة فيما بينهم وتعارض ما يقوله كل واحد منهم منع ما يقوله الآخر .
ولا عجب في ذلك ، فما دام " العقل " هو المحكم في هذه القضية ، فعقل من ؟! إن العقل المطلق أو العقل المثالي وتجريد لا وجود له في عالم الواقع ! إنما الموجود في الواقع هو عقل هذا المفكر وذاك المفكر لكل منهم طريقته الخاصة في " تعقل " الأمور ،ولكل منهم "نوازعه " الخاصة التي يحسبها بعيدة عن التأثير في عقله وهو واهم في حسابه ، ولكل منهم اهتماماته الخاصة التي تجعله يركز علي أمور ويغفل غيرها من الأمور .
ومن ثم لا تصبح تلك الفلسفة في هذه القضية بالذات أداة هداية وإنما أداة تشتيت وأداة تضليل .
وما نريد أن نتطرق لتقويم موقف تلك الفلسفة العقلانية من القضايا الأخري غير قضية الألوهية فقد يكون لها توفيقاتها في بعض جوابها الفكر البشري ، وقد تكون فائدتها الأساسية تنمية القدرة علي إدراك الكليات التي تحكم الجزئيات ، وتلك مباحث لا تبتغي في مثل بحثنا الحاضر .. ولكننا نشير إشارة موجزة هنا ، نعود إلي تفصيلها فيما بعد ، إلي أن هذه العقلانية تكاد تقف نفس الموقف من قضية أخري لا تقل خطورة في حياة الناس عن قضية الألوهية ، وهي قضية " منهج الحياة" الذي ينبغي أن يسير عليه البشر فقد تخطبت تلك " الفلسفة " (1) في تلك المسألة من اقصي اليمين إلي أقصي الشمال فضلا عن كونها حولتها إلي أحلام طوباوية أو ذهنية لا علاقة لها بواقع الحياة ، ومن ثم لا أثر لها في واقع الحياة !
__________
(1) في هذه القضية في الحقيقة تحبطت كل الفلسفات كما سيأتي ذكره فيما بعد ، ولكن كل فلسفة كان لها في تخبطها مدخلها الخاص
- - - - - - - - - - - - - - - -
من هذه الجاهلية انتقل الفكر الأوروبي إلي عصر " سيادة الدين "
وكان المفروض أن يخرج ذلك الفكر إذن من الجاهلية إلي النور ، ولكنه في الحقيقة دخل إلي ظلمات حالكة ليس فيها حتي ذلك " البريق" الذي تيمزت به الفلسفة الاغريقية في كثير من المواضع بصرف النظر عن القيمة الحقيقة لذلك البريق ، وعن كونه بريقا هاديا ام مضللا عن الطريق !
كان المفروض وقد التزم العقل بالوحي ، واستمد منه اليقين والهدي 0- في المسائل التي لا يهتدي فيها وحده ولا يستيقن فيها بمفرده - أن ينطلق الفكر في ميادينه الأصلية يبدع وينتج ، ويمد " الإنسان " بما يحتاج إليه في شئون " الخلافة " وعمارة الأرض(57/5)
ولكن الكنيسة الأوروبية افسدت ذلك كله بما أدخلته من التحريف علي الوحي الرباني المنزل من السماء لهداية البشرية علي الأرض ، وتخبطت في قضية الألوهية تخبطا من نوع جديد ، حين قالت إن الله ثلاثة أقانيم ، وإن المسيح ابن مريم عليه السلام واحد من هذه الأقانيم الثلاية ، وإنه ابن الله وفي الوقت ذاته إله ، وشريط لله في تدبير شئون الكون .
وفضلا عن ذلك - أو ربما بسبب ذلك - حجر علي العقل البشري أن يعمل وأن يفكر
فإن هذه الألغاز التي ابتدعتها المجامع المقدسة في شأن الألوهية لم تكن " معقولة ط ولا مستساغة . فما يمكن للعقل البشري أن يتصور ثلاثة أشياء هي ثلاثة وهي واحد في ذات الوقت ، وما يمكن أن يتصور أن الله سبحانه وتعالي ظل متفردا بالألوهية وتدبير شأن هذا الكون مالا يحصي من الزمان ، ثم إذا هو - فجأة- يوجد كائنا أخر ليكون شريكا له في الألوهية ومعينا له في تدبير الكون !!! تعالي الله عن ذلك علو كبيرا
ومن أجل كون هذا العبث " المقدس "! " الذي ابتدعته المجامع " المقدسة " ! وغير معقول ولا مستساغ ، فقد سخرت الكنيسة " العقل " في محاولة إخراج هذا المزيج المتنافر المتناقض في صورة "فلسفية " مستساغة ( أو هم قالوا عنها إنها مستساغة !) وفي الوقت ذاته حجرت علي العقل أن يناقشها ، لئلا تجر المناقشة إلي القول بأنها غير معقولة علي الرغم من كل الصناعة " العقلية" التي وضعت فيها !
ومن ثم نشأت في الكفر الأوروبي تلك " المسلمات" أو العقائد المفروضة فرضا التي لا يجوز مناقشتها Dogmas ،لا لأنها - في حقيقتها - من الأمورالتي ينبغي للعقل أن يسلم بها دون مناقشة ـ ولكن لأنها مناقضة للعقل ، ومفروضة عليه فرضا من قبل رجال الدين ، الذين زعموا لانفسهم حق صياغة العقائد وفرضها علي النسا بالقوة دون أن يكون لهم حق المناقشة أو الاعتراض وإلا كانوا مهرطقين مارقين ، يجوز فيهم كل حتي إهدار الدم وإزهاق الأرواح - كما مر بنا من شأن محاكم التفتيش التي قال عنه " ويلز" في كتابه " معالم تاريخ الإنسانية ( ص 902 - 903 من الترجمة العربية )
" فأصبح قساوستها وأساقفتها علي التديج رجالا مكيفين وفق مذاهب واعتقاديات حتيمة Dogma وإجراءات مكررة وثابتة .. ونظرا لأن كثير ا منهم كانوا علي الأرجح يسرون الريبة في سلامة بينان مبادئهم الضخم المحكم وصحته المطلقة لم يسمحوا بأية مناقشة فيه ، كانوا لا يحتملون اسئلة ولا يتسامحون في مخالفة ، لا لأنهم علي ثقة من عقيدتهم ، بل كانوا غير واثقين فيها
" وقد تجلي في الكنيسة عندما وافي القرن الثالث عشر ما يساورها من قلق قاتل حول الشكوك الشديدة التي تنخر بناء مدعياتها بأكلمه ، وقد تجعله أثر بعد عين ، فلم تكن تستشعر أي أطمئنان نفسي وكانت تتصيد الهراطقة في كل مكان كما تبحث العجائز الخائفات -فيما يقال - عن اللصوص تحت الأسرة وفي الدواليب قبل الهجوع في فراشهن
ومن الأدلة التاريخية التي تثبت أن النصاري - علي الرغم من تشبثهم الشديد بمقررات المجامع المقدسة بشأن قضية الألوهية - لم يكونوا يؤمنون بها في دخيله أنفسهم إلي درجة اليقين ، ماحدث من وفد نصاري نجران مع الرسو صلى الله عليه وسلم حين دعاهم - بأمر ربه - إلي المباهلة :
{فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)} [سورة آل 3/61]
فقد امتنعوا عن المباهلة وانصرفوا رغم جدالهم الشديد مع رسول الله صلي الله عليه وسمل حول بنوة عيس لله وألوهيته مع الله .. ولو كانوا علي يقين حاسم ما أمتنعوا !
وأيا كان الأمر فقد استخدمت الكنيسة كل طغيانها الروحي للحجر علي العقل .. وصنعت ذلك باسم " الدين " !
والدين الصحيح ليس في حاجة إلي شئ من ذلك الذي صنعته الكنيسة
حقيقة إ، في الدين الصحيح " مسلمات " لا تناقش ، تعتبر من أصول الإيمان كما جاء في حديث جبريل عليه السلام :
" قال : فأخبرني عن الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره (1)
__________
(1) رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وبعض هذه الأمور ليس للعقل سبيل إليها من ذات نفسه ، إنما يتعرف عليها عن طريق الوحي ، ويسلم بها تسليما ، كالإيمان بالملائكة واليوم الآخر وما يشتمل عليه من بعث ونشور وحساب وجزاء وجنة ونار .. وكان هذا كله واردا في " مسلمات "الدين الكنيسي ، ولا اعتراض عليه .
ولكن هناك فارقا أساسيا بين " مسلمات" الدين الصحيح والمسلمات الكنسية الأخري التي كانت تجبر الناس عليها إجبارا وتمنعهم من مناقشتها في أمر صحتها ، وتتهمهم بالمروق عن الدين إن خالفوها أو هموا مجرد هم بمناقشتها !(57/6)
فالمدخل إلي هذه المسلمات في الدين الصحيح هو الإيمان بالله والتعرف علي صفاته التي لا يشاركه فيها أحد، وفي مقدمتها انه هو الخالق وأنه علي كل شئ قدير ، والإيمان بالرسول المرسل صلى الله عليه وسلم وصدقه وأمانته (1)، والإيمان بأن ما يخبر به عن ربه وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكل هذه يدعي العقل دعوة صريحة إلي التفكير فيها ، والتأكد منها قبل الإيمان بها ، وخذ مثالا علي ذلك ما جاء في كتاب الله من خطاب للقوم المدعوين للإسلام :
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17)} [سورة النحل 16/17]
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)} [سورة الأحقاف 46/4]
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)} [سورة لقمان 31/11]
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سورة سبأ 34/46]
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [سورة الأنبياء 21/22]
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} [سورة المؤمنون 23/91]
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)} [سورة النساء 4/82]
فإذا آمن الإنسان - وهو مدعو للتفكير والتدبير وإعمال العقل ليؤمن - بأن الله هو الخالق وهو علي كل شئ قدير ، وآمن بصدق الرسول المرسل صلى الله عليه وسلم ، وأمن بأن ما يخبر به الرسول عن ربه وحي لا شبهة فيه ، فقد أخبره الوحي بأمور لا سبيل للعقل أن يصل إليها من تلقاء نفسه لأنها ليست مما يقع في محيط رؤيته ولا تجربته ، وطلب منه التسليم بها لأنها آتية من المصدر الحق الذي آمن بصدقه وصدق كل ما يجئ من عنده . وهي في الوقت نفسه مما لا يملك العقل دليلا حقيقيا ينفيها .. فوجب عليه أن يسلم بها وقت آمن بمقدماتها التي توصله إلي التسليم بها .
هذا شأن المسلمات في الدين الصحيح : أمور لا يملك العقل ان يستدل عليها من تلقاء نفسه ، ولا يملك في الوقت ذاته دليلا حقيقيا ينفيها ، ثم إنه لا يدعي إلي التسليم بها قبل أن يسلم بالمقدمات التي توصل إليها عن طريق التفكر والتدبر والتأمل في ملكوت السماوات والأرض .
أما المسلمات التي فرضتها الكنيسة فرضا وأرهبت الناس من مناقشتها فهي غير ذلك تماما .
فحيث يتجه العقل والتدبر والتأمل إلي الإيمان بأن الله واحد أحد ، وانه لو كان في السماوات والأرض ألهه إلا الله لفسدتا .. تقول له الكنيسة إن الله ثلاثة ، ثم تزيد الأمر تعقيدا فتقول له إن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة ، ثم تمنعه من المناقشة عن طريق الإرهاب .
وحيث يتجه العقل - بوسائل تفكيره - إلي الإيمان بأن الله الذي خلق كل شئ وقدره تقديرا هو في غني عن كل شريك لأنه( بيده ملكوت كل شئ ) ولأنه يقول للشئ ( كن فيكون ) ومن ثم فهو الجدير بالعبادة وحدة .. تقول له الكنيسة إن هناك شريكا لله هو المسيح عيسي ابن مريم عليه السلام ، هو إله مع الله ، ومعبود كذلك مع الله ثم تمنعه من المناقشة وتتهمه بالمروق إن خالف ..
وحيث يتجه العقل - بمنطقة الذاتي - إلي الإيمان بأن الله ليس في حاجة إلي اتخاذ الولد - والخلق كلهم خلقه ، خلقهم بمشيئته وهم عباد له - وليس من شأنه سبحانه أن يتخذ مالا حاجة له إلي اتخاذ ، وهو المهيمن الذي يدبر أمر الوجود كله بمفرده ، بلاكلفة عليه سبحانه ولا جهد ولا حاجة إلي معين .. تقول له الكنيسة إن الله ولدا، خلقه بمشيئته كما يخلق كل شئ بمشيئته ثم تبناه - سبحانه وتعالي عن ذلك علوا كبيرا - ليضعه بعد ذلك علي الصليب ويجرعه آلام الصلب ، فيكفر بذلك عن خطيئة لم يرتكبها ذلك الإبن إنما أرتكبها آدم وحواء قبل ذلك بزمن لا يحصيه إلا الله ! ثم تفرض عليه ذلك فرضا وتقول له هذه هي العقيدة .. ومن لم يعتقدها فقد حلت عليه لعنة السماء .
__________
(1) وهو بالنسبة للنصاري المسيح عيسي ابن مريم .(57/7)
تلك هي المسلمات التي لا يمكن التسليم بها لأن العقل يملك كل دليل ينفيها ، ولأنها لا تستند إلي شئ إلا قرارات المجامع المقدسة التي تبتدعها من عند نفسها وتزعم مجرد زعم أنها من عند الله ، بينما الناس يرون رجال الدين في تلك المجامع يتناقشون ويتحاورون ، ويختلفون فيما بينهم أشد الاختلاف ، ثم يصدرون القرار من تفكيرهم الذاتي- ولو كان وحيا سماويا لالتزموا به عقيدة ولم يجزلهم الاختلاف فيه - ثم يرون أسوأ من هذا أن الأقلية تصدر القرار أو تفرضه فرضا علي الأكثرية ثم تطرد الأكثرية بالقوة كما حدث في مجمع خلقدونية .. ولا تطردهم من المجمع فحسب ، بل تزعم كذلك أنها تطردهم من رحمة الله !
ومن أجل أن هذه المسلمات المزعومة لا يمكن للعقل التسليم بها فقد حظرت الكنيسة علي العقل أن يفكر فهيا او يناقشها ، وزعمت الناس أن التفكير فيها مناف للإيمان ، وأن الموقف الصحيح للمؤمن هو التسليم بها بغير جدال ، وتفويض الأمر فيها لا - لله ! - بل " لقداسة " الباب ومن حوله من " كبار " رجال الدين !
وفي ظل الإرهاب الفكري الذي مارسته الكنيسة انكمش نشاط العقل الأوربي وانحصر في التسليم بما تمليه الكنيسة والمجامع المقدسة ، ومحاولة التوفيق بينه وبين مقتضيات التفكير السليم ، في مغالطات " فلسفية " هي أقرب إلي التلفيق منها إلي التوفيق !
ومن ناحية أخري انصرف الفكر الأوربي عن النظر في هذا العالم وفي الحياة الدنيا بتأثير أخر من تأثيرات الدين الكنسي المحرف ، فقد أوحت المسيحية المحرفة إلي الناس بأن هذه الدنيا لا سبيل إلي إصلاحها أو تقويم معوجها لأنها ناقصة بطبيعتها . وأن الطبيعة الإنسانية ناقصة كذلك ، ولا سبيل إلي إصلاحها إلا بصرفها عن الاهتمام بالحياة الدنيا جملة ، وصرف اهتمامها إلي اليوم الآخر كما المحنا في فصل " العلمانية "، وإنه بقدر ما ينصرف الإنسان عن هذا العالم والتفكير فيه - بالرهبانية - يكون أقرب إلي الصلاح ، وأقرب إلي الفوز بملكوت الرب في العالم الآخر .
هذا اللون من التفكير صرف التفكير الأوربي عن النظر في شئون العالم الأرضي والكون المادي إلا في أضيق نطاق مستطاع . ففي أمور الحياة رضي الناس عامة - والمتدينون خاصة - بعيش الكفاف (1) ولم يتطلعوا إلي زيادة الإنتاج أو تحسينه ، لأن ذلك يخالف روح الدين ، ومن ثم لم يسعوا إلي زيادة في العلم تمكنهم من زيادة الإنتاج أو تحسينه .
كذلك لم يهتموا بزيادة معلوماتهم عن الكون المادي من حولهم من فلك أو رياضيات أو كيمياء أو فيزياء ..إلخ ، لأن الأمر - في حسهم - لا يستحق الاهتمام من ناحية ، ولأن المعلومات التي تقدمها المصادر " الدينية ط عن هذا الكون فيها كفاية لهم من ناحية أخري ، ولم تكن تلك المعلومات تعدو أن الله خلق الأشياء علي صورتها لحكمة هو يعلمها ، ولغاية هو يريديها ، وأن كل شئ يجري علي النحو الذي أراده الله منذ الأزل بلا تغيير ، وهذا في ذاته حق ولا شك ، ولكنه لا يعطي التفسير التفصيلي لظواهر الكون المادي المحيط بالإنسان ! ولا ما يحدث من التحول الدائم في الكون والحياة والإنسان !
علي هذا النحو الضيق المغلق المحصور كان الفكر الأوروبي فيما يسمي - هناك - بالعصور الوسطي المظلمة ، التي استمرت زهاء عشرة قرون ، خيم فيها علي أوروبا ظلام الجهل والانحسار والانحصار ، في ظل الطغيان الكنيسي المتعدد الألوان المتشعب الأطراف .
فلما بدأت أوروبا في عصر النهضة نتيجة احتكاكها بالمسلمين في الحروب الصليبية من ناحية ، والاتصال السلمي بمراكز العلم والثقافة في الاندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها ، كان العقل الأوروبي في حالة تشوق عنيف لاستيراد حريته في العمل ، أي حرية التفكير . ولكن ، كما اتسمت فترة العصور الوسطي المظلمة بالتطرف في إلغاء دور العقل والحجر علي حرية الفكر ، كذلك اتسمت فترة النهضة وما بعدها التطرف في الجانب الآخر ، جانب إعمال الفكر في كل شئ ، سواء كان داخلا في مجال العقل اوغير داخل فيه ، وإعمال " بحرية " لا تقبل القيد ، سواء كان القيد مشروعا أوغير مشروع !
كان عصر" الإحياء " هو عصر العودة إلي الجاهلية الإغريقية بكل انحرافاتها .. مع زيادة انحراف جديد . هو النفور من الدين ، ومحاولة إبعاده عن كل مجال من مجالات الحياة .
والحقيقة أن الحياة الأوروبية في تلك الفترة تستلزم نظرة فاحصة تفق علي التيارات والعوامل المختلفة التي كانت تمور في كيانها ، والتي تمخضت فيما بعد عن الصورة الحالية " للحضارة " الغربية .
لقد أخذت أوربا في نهضتها شيئا كثيرا من الإسلام والمسلمين ، ورفضت في الوقت ذاته أن تعتمد الإسلام دينا وعقيدة ومنهج حياة - كما بينا في الفصل السابق - وكان من جراء ذلك أثار بعيدة المدي في الحياة الأوربية إل وقتنا الحاضر .
فقد صحت أوربا من غفوتها الطويلة بالاحتكاك الحربي والسلمي بالمسلمين في الشرق والغرب .
__________
(1) ما عدا الاقطاعيين بطبيعة الحال ، ومع ذلك فقد كانت الكنيسة تساندهم - بكل جشعهم وظلمهم - لانها هي ذاتها كانت قد أصبحت من ذوات الإقطاع(57/8)
وتزعم أوروبا أنها لم تأخذ عن المسلمين إلا التراث الإغريقي الذي كانت قد أضاعته في عصورها المظلمة، فوجدته محفوظا عند المسلمين فاستردته ، وأقامت نهضتها علي أساسه .
وفي هذا الزعم شئ قليل من الحق وشئ كثير من المغالطة التي لم ينج منها إلا عدد قليل من كتاب أوربا المنصفين .
قأما أن التراث الإغرقي الذي فقدته أوروبا في عصورها المظلمة كان محفوظا عند المسلمين فيما يسمي " الفلسفة الإسلامية " وفي التراجم التي كان المسلمون قد ترجموها عن الإغريقية ، وان أوروبا استردته عن طريق التعلم في مدارس المسلمين ، وأقامت جانبا من نهضتها عليه … فهذا صحيح .
ولكن هذا التراث الإغريقي ، علي كل اعتزاز أوربا به وتعصبها له ، لم يكن صالحا - وحده - لإقامة النهضة الأوربية ، ولا أي نهضة علي الإطلاق ، باعتباره مجموعة من " الأفكار" التجريدية الذهنية المنقطعة عن واقع الحياة ، وهو - بكل لمعانة الفكري - لم يستطيع أن يداوم الحياة في بيئته الأصلية التي أنبتته ، فضلا عن أن يكون - وحده - باعث نهضة جديدة علي اتساع أوربا كلها ،وعلي اتساع العالم كله في العصر الحديث !
نعم ، يوجد في هذه الأفكار قيم ومبادئ يمكن أن تكون زاد لقوم " يرغبون" في الحياة ، ويرغبون في إقامة نهضة شاملة ، ولكنها - وحدها - لا تبعث فيهم هذه الرغبة ولا تلك .
إنما الرغبة في الحياة ، والرغبة في إقامة نهضة شاملة ، كانت هي الأثر الذي أخذته أوربا من احتكاكها بالمسلمين ، وملامستها للحياة الموارة في العالم الإسلامي ، وللنهضة الشاملة فيه .
وليس هذا فقط ..
فإن أوروبا لم تغنم من احتكاكها بالمسلمين تلك الرغبة في الحياة والحركة وإقامة النهضة الشاملة فحسب ، بل وجدت كذلك " مومقات" تلك النهضة بكاملها موجودة عند المسلمين ، فأخذت منها كل ما وسعها أخذه ، والعنصر الذي رفضته أخذه - وهو الإسلام - كان هو العنصر الوحيد القمين بترشيد تلك النهضة وإقالة أوربا من عثرتها … ولكنها رفضت - بدافع من العصبية الصليبية - فخسرت العنصر الجوهري ، وأقامت نهضة عرجاء .. هي التي يعاني منها اليوم كل سكان الأرض !
نعم ، لم تكن رغبة الحياة ورغبة النهوض وحدها هي كل ما أخذته أوربا عن المسلمين .
لقد كانت أوروبا في جهالة تامة من كل علم إلا ما تملكه الكنيسة ورجال دينها من معلومات سطحية معظمها محشو بالأخطاء
وعند المسلمين وجدوا " العلم " .. في كل مجالات العلم .. في الطب والفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء ، إلي جانب العلوم الدينية الإسلامية التي كانت تدرس - جنبا إلي جنب - في الجماعات الإسلامية .
وقد مر بنا قول " روجر بيكون " من أراد أن يتعلم ، فليتعلم العربية ، فأنها هي لغة العلم "
ونضيف هنا قوله " ألفارو القرطبي " قبل ذلك بقرون في الأندلس :
" يطرب إخواني المسيحيون بأشعار العرب وقصصهم ، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها ، بل للحصول علي أسلوب عربي صحيح رشيق ، فأين تجد اليوم علمانيا يقرأ التعليقات اللاتينية علي الكتب المقدسة ؟ وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل ؟ وأسفاه ! إن شباب المسيحيين الذين هم أبرز الناس مواهب ، ليسوا علي علم بأي أدب ولا أية لغة غير العربية ، فهم يقرأون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف ، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهضة ن وإنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب. وإنك لتراهم من الناحية الأخري يحتجون في زراية إذا ذكرت الكتب المسيحية بأن تلك المؤلفات غير جديرة بالتفاتهم ، فواحر قلباه ! لقد نسب المسيحيون لغتهم ، ولا يكاد يوجد منهم واحد في الألف قادر علي إنشاء رسالة إلي صديق بلاتينية مستقيمة ! ولكن إذا استدعي الأمر كتابة العربية ن فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة ، بل لقد يقرضون من الشعر ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم (1)
ولم يكن العلم وحده هو الذي اخذته أوروبا عن المسلمين بجانب الرغبة في الحياة والرغبة في النهوض ، وإما أخذت كذلك المنهج الذي تقيم عيه العلم ، وهو المنهج التجريبي .
__________
(1) حضارة الإسلام ، جرونيباوم ، ص 81- 82 م الترجمة العربية(57/9)
يقول بريفولت في كتاب " بناء الإنسانيةMaking of Humanity : " فالعامل القديم - كما رأينا - لم يكن للعلم فيه وجود . وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علوما أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم وأخذوها عن سواهم ، ولم تتأقلم في يوم من الأيام فتمتزج امتزاجا كليا بالثقافة اليونانية . وقد نظم اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات ولكن أساليب البحث في دأب وأناة ، وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها ، والمناهج التفصيلية للعلم ، والملاحظة الدقيقة المستمرة ، والبحث التجريبي ، كل ذلك كان غريبا تماما عن المزاج اليوناني ، أما ما ندعوه " العلم " فقد ظهر في أوروبا نتيجة لروح من البحث جديدة ، ولطرق من الاستقصاء مستحدثة ، من طرق التجربة والملاحظة والمقاييس ، ولتطور الرياضيات إلي صورة لم يعرفها اليونان .. وهذه الروح ، وتلك المناهج العلمية ، ادخلها العرب إلي العالم الأوربي (1)
كذلك لم يكن العلم وحده ولا المنهج التجريبي وحده .. يقول .. بريفولت :
" لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية ( يقصد الإسلامية ) علي العالم الحديث ، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج .. عن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في أسبانيا ، لم تنهض في عنفوانها إلا بعد وقت طويل من اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام . ولم يكن العلم وحده هو الذي أعاد أوربا إلي الحياة ، بل إن مؤثرات أخري كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلي الحياة الأوربية فإنه علي الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الأزدهار الأوربي إلا ويمكن إرجاع أصلها إلي مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة ـ، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون وأهم ما تكون ، في نشأة تلك الطاقة التي تكون من للعالم الحديث من قوة متمايزة ثابتة ، وفي المصدر القوي لازدهاره : أي في العلوم الطبيعية وروح البحث العلمي (2)
ويطول بنا الاستطراد لو رحنا نحصي بالتفصيل ما اخذته أوربا في بدء نهضتها من الإسلام والمسلمين ، ولكنا نعود إلي موضوعنا الأصيل فنقول إن أوربا اخذت ما أخذت ولكنها رفضت أن تأخذ الإسلام ذاته عقيدة ومنهج حياة ، وعادت إي الجاهلية الإغريقية والرومانية تستمد منهما بدلا من الدين الكنسي الذي لفظته ، والدين الصحيح الذي رفضت بدافع العصبية أن تدخل فيه , ومن ثم عادت - كما قلنا - إلي العقلانية اليونانية بزيادة انحراف جديد هو النفور من الدين ، والسعي إلي إخراجه من مجالات الفكر والحياة.
لقد كانت الجاهلية الإغريقية جاهلية وثنية خالصة في واقع حياتها ، ولكن " المفكرين" و " الفلاسفة " فكروا في الله سبحانه وتعالي ، وحاولوا تصوره علي قدر ما اجتهدت عقولهم ، فاهتدوا إلي وحدانيته وكماله وجلالة ولكن تشعبت بهم الظنون في متاهات لا قرار لها حين أخذوا يصفون كنه هذا الكمال وهذا الجلال كما مر بنا من تصور أرسطو .
أما جاهلية عصر الإحياء وعصر النهضة فقد سخرت " عقلها" في كيفية الاستغناء عن الله ، وإخراج موضوع الألوهية من ميادين الفكر والحياة واحدا إثر الآخر .
كان " التفكير الحر" معناه الإلحاد ! ذلك أن التفكير الديني معناه الخضوع للقيد الذي قيدت الكنيسة به العقل وحجرت عليه أن يفكر . فمعني الحرية الفكرية هو تحطيم ذلك القيد الذي يغل العقل من التفكير ، ولم يكن أمام أوربا بعد أن رفضت الإسلام إلا ذلك السبيل الواحد إلي الحرية الفكرية .. وهو الخروج علي الدين !
يقول برنتون كما سبق أن نقلنا من كلامه في كتاب " منشأ الفكر الحديث ) ( ص 103 من الترجمة العربية - ترجمة عبد الرحمن مراد )
" فالمذهب العقلي يتجه نحو إزالة الله وما فوق الطبيعة من الكون .. فإن نمو المعرفة العلمية وازدياد الاستخدام البارع للأساليب العلمية يرتبط بشدة مع نمو الوضع العقلي نحو الكون .."
ويقول عن قانون السببية الذي كشفه نيوتن :" إن السببية تهدم كل ما بنته الخرافات والإلهامات والمعتقدات الخاطئة ( يقصد المعتقدات الدينية ) في هذا العالم " ( ص 151 من المرجع السابق )
ويقول : " الاله في عرف نيوتن أشبه بصانع الساعة ولكن صانع هذه الساعة الكونية ونعني بها الكون ، لم يلبث أن شد علي رباطها إلي الأبد ، فبإمكانة أن يجعلها تعمل حتي الأبد.
" أما الرجال علي هذه الأرض فقد صممهم الإله كأجزاء من آلته الضخمة هذه ليجروا عليها . وإنه ليبدو أن ليس ثمة داع او فائدة من الصلاة إلي الإلة صانع هذه الساعة الضخمة الكونية ، الذي لا يستطيع إذا ما أراد التدخل في عمله " !!
ولنا وقفه عند هذه النصوص
__________
(1) عن كتاب " تجديد الفكر الديني " تأليف محمد اقبال ، ترجمة عباس محمود ص 250 من الترجمة العربية
(2) المصدر السابق ص 149(57/10)
إن الاتجاه الفكري النافر من الدين ، المتجه إلي الالحاد ، لم يكن رد فعل لخطأ واحد من اخطاء الكنيسة وهو الحجر علي العقل خوفا من مناقشته " المسلمات "المفروضة ، إنما كان في الحقيقة رد فعل أو نتيجة لأخطاء متعددة في وقت واحد .. فالجهالة العلمية التي عانتها أوروبا عدة قرون في ظل السيطرة الكنسية جعلت للعلم -حين بدأت أوربا تتعلم - فتنة ليست من طبيعته في الأحوال العادية وفي النفوس السوية ، فضلا عن حرب الكنيسة للعلم والعلماء في عهد النهضة - باسم الدين - جعلت طريق البحث العلمي هو طريق معاداة الدين .
إن الدين والعلم كما بينا في فصل "العلمانية " ليسا ندين متنافرين متعاديين كل منهما يسعي للسيطرة علي حساب الآخر ورغما عنه ! فنزعة العبادة ونزعة المعرفة كلتاهما نزعة فطرية ، والفطرة - في النفس السوية - لا يتنافر بعضها مع بعض ، إنما تتعاون جوانبها المختلفة لبناء الشخصية السوية المتوازنة . وقد تختل الشخصية لزيادة او نقص في أحد الجوانب بالقياس إلي حدة المفروضة ، وبالقياس إلي الجوانب الآخري في النفس ، ولكنها لا تختل قط من اجتماع جوانب الفطرة كلها في النفس ، فهذا هو الأمر الطبيعي الذي لا تستقيم النفي بدونه ، بل العكس هو الصحيح ، تختل النفس خللا مؤكدا حين يزاح جانب من جوانب الفطرة أو يضمر ليحل محله جانب آخر .
وفي العالم الإسلامي الذي استقت أوربا العلم منه ، كان هذا هو الأمر الواقع / كان الدين والعلم يعيشان معا متساندين متعاونين بلا تنازع ولا تنافر ولاخصام . بل كان العلم في حقيقة الأمر نابعا من العقدية منبثقا عنها ، يعمل في خدمتها ، ومع ذلك كان له ذلك المجال الواسع كله الذي يعمل فيه ، والحرية التي يمارسها في البحث وتحصيل النتائج وتدوينها والثمار العملية المفيدة التي تقوم عليها نهضة علمية زاهرة .
ولم يكن للعلم في نفوس المسلمين فتنة !
لا هو فتنهم عن الدين ، ولا صار في حسهم إلها مكان الله !
لانهم كانوا يتناولونه كما تتناوله الفطرة السوية ، التي تأخذ حظها من العبادة كما تأخذ حظها من المعرفة العلمية ، وتطلب هذه وتلك بلا تنافر بينهما ولا صدام !
وقد كان العالم الواحد - في كثير من الأحيان - عالما في الطب أو الفلك أو الرياضيات .. إلخ ، وعالما بالعلوم الدينية في نفس الوقت ، متبحرا في هذه وتلك ، متوازنا في ذات الوقت ، لا يصرفه الدين عن العلم ولا يصرفه العلم عن الدين
وكان الحسن بن الهيثم - علي سبيل المثال - الذي ظلت أوربا تدرس نظرياته في علم الضوء ( البصريات ) إلي بداية القرن التاسع عشر لتوفقها وتقدمها الباهر ، والذي أثبت ملاحظة كانت بالقياس إلي وقته من أعجب العجب ، وهي انحناء الشعاع الضوئي عند ملامسته جسما منحنيا وعدم سيره في خط مستقيم (1) - كان علي كل عبقريته العلمية تلك يقدم انتاجة العلمي باسم الله ، ويحمد الله ويثني عليه ويشكره علي فيض نعمة عليه !
كلا! لم يكن العلم عند المسلمين مثارا للفتنة ، لأنهم صاحبوه عدة قرون علي رزانة وروية ، فلم يفاجئوا به كما فوجئت أوربا في عصر النهضة ، ولأن نبع في حياتهم من نبع الدين فلم يثر بينه وبين الدين ذلك الخصام الذي ثار بين الدين والعلم في أوربا ، ولأن المعرفة كلها في حس المسلم نفحة ربانية يفتح بها علي عبادة ، فيكون جزاؤها في حسه مزيدا من التقرب إلي الله ، لا بعدا عنه وازورارا عن عبادته .
كذلك كان اكتشاف قانون السببية بالذات باعثا نم بواعث الإلحاد كما مر بنا من كلام " برنتون"
والمسئول في ذلك أيضا هو الكنيسة !
لقد ظلت الكنيسة تصرف الناس عن العلم عدة قرون ، وتوحي إليهم الاكتفاء بما عندها من العلم ، الذي لم يكن يتجاوز - كما قلنا - إن الله خلق الأشياء علي صورتها لحكمة يعلمها ولغاية يريدها .. أي ارجاع الأمور كلها والظواهر كلها إلي إرادة الله ومشيئة . ومن شأن الدين أن يركز دائما علي هذا المعني ، انظر إلي بعض ما جاء في القرآن الكريم في هذا الشأن .
" وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون "
__________
(1) وفسر بذلك أننا نري الشمس قبل ظهورها الحقيقي بدقائق ، ونظل نراها بعد غروبها بدقائق ! وفي القرن العشرين اكتشف انشئتين في الضوء في الكون الواسع لا يتخذ مسارا مستقيما بل ينحني حول الاجرام السماوية بفعل الجاذبية(57/11)
" هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ، ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات ، إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون . وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر . والنجوم مسخرات بأمره . أن في ذلك لآيات لقوم يعقلون . ذرا لكم في الأرض مختلفا ألوانه . إن في ذلك لآية لقوم يذكرون . وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ، وتري الفلك مواخر فيه ، ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ، وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم . وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون ، وعلامات وبالنجم هم يهتدون . أفمن يخلق كمن لا يخلق ؟ أفلا تذكرون ؟ إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . إن الله لغفور رحيم "
وحكمة ذلك واضحة . . " فالدين " يذكر الإنسان دائما بالله لكي يظل قلبه معلقا بالله في جميع حالاته ، فيحبه ويخشاه ، ويتطلع إليه في كل أمر من أموره .وبهذا وحده تصلح نفس الإنسان وتستقيم .. ولإن الإنسان عرضه دائما أن ينسي فإن الدين الصحيح يلح في تذكيره حتي لا تدركه الغفلة التي ينشأ عنها كل شر في حياة البشر علي الأرض .
ولكن هذا التركيز الشديد في الدين الصحيح علي رد الأمور كلها إلي مشيئة الله ، لم يمنع المسلمين من البحث عن " الأسباب الظاهرة " في الكون المادي وفي الحياة البشرية ، بلا تعارض في حسهم بين هذا وذاك .
ذلك أن الدين الصحيح -وقد رد كل شئ بحق إلي مشيئة الله وقدرة (1) - نبه البشر إلي أن هناك سننا كونية تعمل إرادة الله من خلالها في الكون المادي ، كما أن هناك سننا أخري تعمل تلك الإرادة من خلالها في الحياة البشرية ، ودعاهم إلي التعرف علي هذه وتلك ، الأولي ليقوموا بتعمير الأرض - وهو جزء من مهمة " الخلافة "التي خلق الإنسان من أجلها - والأخري لتكون هذه الخلافة راشدة حين يتم تعمير الأرض بمقتضي المنهج الرباني .
لقد ظل القرآن يلفت نظر الناس إلي آيات الله في الكون انتظامها ورتابتها ودقتها وانضباطها
{أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46)} [سورة الفرقان 25/45-46]
{وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [سورة يس 36/33-40]
{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21)} [سورة الذاريات 51/20-21]
وفهم المسلمون من هذه التوجيهات المتكررة أن الله يدعوهم إلي التأمل في هذا الكون من حولهم ، ليتعرفوا علي قدرة الله القادرة التي لا يعجزها شئ ، وليتعرفوا كذلك علي السنن الربانية التي أودعها في هذا الكون ، والطاقات التي سخرها لهم فيه ليقوموا بعمارة الأرض ، ويبتغوا من فضل الله
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12)} [سورة الإسراء 17/12]
{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)} [سورة الملك 67/3]
ومن ثم انطلقوا " يدرسون " هذا الكون ويتعرفون علي أسراره .. فتقدم العلم علي أيديهم تقدما ضخما ، في الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات والطب وغيرها من العلوم النظرية والتجريبية .. وأكتشفوا -من بين ما اكتشفوا - أن هناك سببا لكل شئ يحدث في الكون المادي ، من نور وظلام وكسوف وخسوف ، ورياح ومطر ، وجدب وخصب وزيادة ونقص ..إلخ
ولكن اكتشاف " السبب الظاهر " لم يكن فتنة لهم كما كان بالنسبة لنيوتن ومن بعده من " العلماء " !
فلم يجعلوه بديلا من السبب الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالي ، ولم يستغنوا به عن الله ، ولم يتصوروا أن له حتمية تقيد مشيئة الله الطليقة بحيث يعجز سبحانه عن التصرف في الكون بما يشاء ، كما توهم نيوتن ومن بعده .
__________
(1) يقول تعالي : " إنا كل شئ خلقناه بقدر " ( سورة القمر : 49 )(57/12)
إنما عرفوا أن هذا " السبب الظاهر" هو " السنة الجارية " التي تجري شئون الكون المادي من خلالها ، ومن ثم فهي ليست بديلا من الله سبحانه وتعالي ، وهي جزء من مشيئته ، ولا تعارض بين تفسير أي أمر من أمور هذا الكون بسببه الظاهر وتفسيره بأنه راجع إلي مشيئة الله ، مادام السبب الظاهر أو" السنة الجارية" من مشيئة الله ، ومن ثم فلا تعارض بين ماسموه " الطبيعة " وما سموه " ما وراء الطبيعة " بحيث يمتنع عليك الإيمان بهذه وتلك في آن واحد كما توهمت عقلانية ما بعد النهضة في أوربا ، نتيجة أن ما وراء الطبيعية في ظل السيطرة الكنسية ولحجر علي العقل كان ينفي الأسباب الظاهرة أو لا يعول عليها في تفسير أمر من أمور الكون ، وأن اكتشاف " السبب " جاء في جو من العداء للدين والكنيسة ، فوضع - من ثم - مناهضا ومعاديا لما رواء الطبيعية ، بالإضافة إلي أن القوم هناك ظلوا - في ظل الإيمان بما وراء الطبيعة علي الطريقة الكنسية - في جهل مطبق بكثير مما يحيط بهم في هذا الكون ، بينما جاء اكتشاف السبب الظاهر في وسط معلومات عن هذا الكون تبهر العقول !
كلا ! لم يفتن المسلمون باكتشاف السبب الظاهر كما فتنت أوربا في جاهلية ما بعد القرون الوسطي ، المظلمة عندهم ، بل ظلوا يكشفون كل يوم جديد من أسرار هذا الكون يحققون به تسخيرا جديدا لطاقات السماوات والأرض ، المسخرة من الله أصلا للإنسان ، والتي يحتاج تحقيق تسخيرها من قبل الإنسان إلي جهد عقلي يتعرف به علي السنن الربانية وجهد عضلي لتحويل المعرفة النظرية إلي واقع
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13]
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [سورة النحل 16/78]
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [سورة الملك 67/15]
ولم يتصور المسلمون في بلاهة تلك الجاهلية " أنه ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلي الإله صانع هذه الساعة الضخمة الكونية " لمجرد أنهم عرفوا سرا من أسرارها ، بل أحسوا - كما بينا من قبل - أن العلم نفحة ربانية يمن الله بها علي عبادة ، فينبغي أن يشكروه عليها بإقامة الصلاة لا بقطعها ، وإدامه التعبد والخشية لله . كما عرفوا أنهم مهما تعلموا من أمور الكون فعلمهم قليل ، وانهم في فقر دائم إلي الله واحتياج:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر 35/28]
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)} [سورة الإسراء 17/85]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [سورة فاطر 35/15]
كذلك لم يتصوروا في بلاهة أن الله عاجز عن التصرف في شئون الكون بمشيئته الطليقة لمجرد أنه ثبت سنته الجارية كما تصور نيوتن : " ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلي الإله صانع هذه الساعة الضخمة الكونية الذي لا يستطيع إذا ما أراد التدخل في عمله " ! ! ومن ثم لم ينكروا المعجزات كما أنكرتها عقلانية النهضة وما بعدها . إنما عرفوا أن الله سبحانه وتعالي ثبت سنته - بمشيئته الطليقة - رحمة بالإنسان ، وإعانة له علي القيام بدور الخلافة . ولكنه سبحانه وتعالي طليق المشيئة يصنع في هذا الكون ما يشاء ، لا يقيد مشيئته شئ عي الإطلاق .. و ثبوت سنته الجارية (1)فإن شاء سبحانه وتعالي أن يغير شيئا من نظام الكون - لحكمه يريدها ليظهر للناس معجزة من معجزاته ، أو يغير نظام الكون كله يوم القيامة كما أخبر عباده في كتبه المنزلية ، فلن يقف ثبوت السنة الجارية أمام مشيئة جل وعلا ، إذا السنة الجارية من مشيئته ، والسنة الخارقة من مشيئته ، وهو سبحانه يستخدم هذه السنة أو تلك وقتما يشاء وكيفما يشاء لا قيد علي مشيئته يمنعه من التصرف كيف يشاء .
و" المعجزة " كما نطلق عليها هي شئ خارق للسنة الجارية .. نعم .. ولكن " الإعجاز " في السنة الجارية هو الإعجاز في الخارقة . مصدرهما واحد وحوهرهما واحد .. هو القدرة الإلهية التي لا يعجزها شئ في السموات ولا في الأرض .. وإلا فهل خلق الحياة من الموات - الذي هو في حسنا من السنة الجارية - أقل روعة أو أقل إعجازا من شق البحث بالعصا ، أو وقف دوره الشمس لفترة من الوقت أو غير ذلك من المعجزات ؟ وهل الذي يخلق الكون كله من العدم يعجز عن تصرف جزئ في هذا الكون تقتضيه حكمته سبحانه ؟!
__________
(1) راجع في ذلك فصل " التوازن " خصائص التصور الإسلامي ومقوماته(57/13)
وكما لم تكن معرفة المسلمين المبكرة بالأسباب الظاهرة وثبوت السنة الجارية مانعا لهم من الإيمان بالمعجزات التي جاءت في الكتب المنزلة ، كذلك لم يكن إيمانهم بالمعجزات داعيا إلي الخرافة ، ولا الاعتقاد بأن الكون فوضي لا يضبطه ضابط ولا يربطه نظام و ط العلم " الذي أخرجوه هو البرهان علي ذلك ، فقد كان هذا العلم من الدقة والانضباط - بحسب المتاح في وقته من الأدوات - لدرجة شهد لها كل منصف في التاريخ وكله شاهد بأن المسلمين كانوا يتعاملون مع هذا الكون علي أساس أن هناك نظاما دقيقا يربطه ، نظاما من " الأسباب" و" النتائج " معجزة بدقته ، رائع بانضباطه
{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)} [سورة الملك 67/3]
إنما كانوا علي " التوازن" الذي علمهم أياه الإسلام
أما " عقلانية " النهضة " وما بعدها فقد خرجت علي الناس بأمور " غير معقولة ط علي الإطلاق .. من نفي لوجود الله تارة ، ومن إثبات له تارة أخري مع نفي قدرته علي التصرف ، ومن جعل السبب الظاهر بديلا من السبب الحقيقي ، ومن جعل ثبوت الاسباب الظاهرة حتميات(1) تفرض نفسها علي مشيئة الله !
- - - - - - - - - - - - - - -
…ودار الزمن دورة أخري فانتقلت أوروبا - فيما يقال - من سيادة العقل إلي سيادة الطبيعة ، حين كشف العلم مزيدا من أسرار الكون واقتنع " المفكرون" أن الأصل الذي ينبغي الرجوع إليه هو " الطبيعة " لأنها هي التي تنقش في العقل ما يتولد فيه من أفكار . فليس مصدر المعرفة إذا هو الوحي الرباني - وقد نبذوه وراءهم ظهريا سواء منه ما كان حقيقيا بلا تحريف ، وما اخترعته الكنيسة من عندها ، وقالت إنه من وحي الله - ولا هو العقل ، الذي لا ينشئ - ولا ينبغي له أن ينشئ - شيئا من عنده - إنما هو الطبيعة : هو عالم الحس .. هو الحقيقية الموضوعية ..
يقول الدكتور محمد البهي في تلخيصه الجيد الذي نقلناه من قبل عن الفلسفة الوضعية وتقديرها للطبيعة
" ومعني تقديرها للطبيعة علي هذا النحو أن الطبيعة - في نظرها - هي التي تنقش الحقيقة في ذهن الإنسان ، وهي التي توحي بها وترسم معالمها الواضحة ، هي التي تكون عقل الإنسان ، والإنسان - لهذا لا يملي عليه من خارج الطبيعة ، أي لا يملي عليه مما وراءها ، كما لا يملي عليه من ذاته الخاصة ، إذ ما يأتي من ما وراء الطبيعة خداع للحقيقة وليست (هي) حقيقة ايضا !
" وبناء علي ذلك يكون " الدين" - وهو وحي ( أي ما بعد الطبيعة ) - خداعا ! وهو وحي ذلك الموجود الذي لا يحده ولا يمثله كائن من كائنات الطبيعة هو وحي الله الخارج عن هذه الطبيعة كلية .
" وكذلك " المثالية العقلية " وهم لا يتصل بحقيقة هذا الوجود الطبيعي ، إذ هي تصورات الإنسان من ( عند ) نفسه ، من غير ان يستلم فيها الطبيعة المنثورة التي يعيش فيها وتدور حوله
" إن عقل الإنسان في منطق هذه الفلسفة - أي ما فيه من معرفة - وليد الطبيعة التي تتمثل في الوراثة والبيئة والحياة الاقتصادية والاجتماعية ، إنه مخلقو ، ولكن خالقه الوجود الحسي (2)
ولقد يفهم من هذا لأول وهلة أن العقلانية التي تتبعنا أطوارها في عصر النهضة وما بعدها قد انتهت وحل محلها طور جديد لا يمت لها بصلة .. ولكن هذا غير الواقع
لقد تغير الإله المعبود عندهم بالفعل فلم يعد هو العقل ، وإنما صار هو الطبيعة التي قال عنها دوران " الطبيعة تخلق كل شئ ولا حد لقدرتها علي الخلق"
ولكن الإله الجديد لم يقتل الإله الأول ، ولم يخرجه من الساحة ليحل محله ، إنما قيده فقط بقيوده وأخضعه لشروط ه ، وإن كان قد شد علي يديه في حرارة مؤيدتا ومؤازرا في نقطة واحدة معينة هي نفي الإله الحقيقي - سبحانه وتعالي- واخراجه نهائيا من الساحة ( نستغفر الله ) وإن اختلفت زوايا الرصد واختلف " المنطق " المستخدم فالإله الأول - العقل - ينبذه بحجة أنه " غير معقول" !! والإله الثاني - الطبيعة - ينبذه لأنه لا يدرك بالحس ولا يخضع للتجربة في المعمل !! تعالي الله عما يقولون علوا كيرا ..
إن المنهج التجريبي الذي تعلمته أوربا من المسلمين لم يؤث ثماره الظاهرة في ميدان العلم إلا في القرن التاسع عشر علي وجه التقريب ، ولكنه تحول عندهم إلي فتنة طاغية ، لأن أوروبا أخذته دون أن تأخذ اقاعدة الإيمانية التي كان يقوم عليها عند المسلمين ، وهي قاعدته الأصلية ، فكأنه نبات انتزع من بيئته انتزاعا وغرس في بيئة أخري لا تناسب الأولي ، ولا تشبهها في مكوناتها ومقوماتها ،فطال وارتفع ، ولكنه أثمر ثمارا شيطانية غير الثمار الطيبة التي كان يؤتيها من قبل .
كان المنهج التجريبي عند المسلمين نابعا من التوجيه الإسلامي الإيماني .. نابعا من مثل هذه التوجيهات :
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً (36)} [سورة الإسراء 17/36]
__________
(1) ثاب العلم أخيرا إلي أه لا توجد " حتميات" فيما سموه " قوانين الطبعية " إنما هي " احتمالات"
(2) 298-299 من كتاب " الفكر الإسلامي الحديث "(57/14)
{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ} [سورة البقرة 2/189]
{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21)} [سورة الذاريات 51/20-21]
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)} [سورة السجدة 32/27]
" تداووا . عباد الله فإن الله تعالي لم يضع داء إلا وضع له دواء ، إلا داء واحد: الهرم " وغيرها .. وغيرها .. مما جاء في الكتاب والسنة .. كثير
وكانت هذه التوجيهات - التي حولت المسلمين من أمة لا اهتمام لها بالعلم في جاهليتها إلي أمة عالمة في كل فروع العلم المتاحة لها بحسب وقتها ، وحولت العلم من الاتجاه النظري الإغريقي إلي الاتجاه العملي التجريبي - موجه إلي غايتين في آن واحد " الفكر في أيات الله في الكون للتعرف علي قدرته المعجزة من أجل إخلاص العبادة له وحده ، والفكر في تلك الآيات للتعرف علي السنن الكونية الربانية لتحقيق معني الخلافة وعمارة الأرض
ومن ثم لم تفترق الغايتان في حس المسلمين كما افترقتا - وتعارضتا - في حس أوروبا !
لم يشعر المسلمون أن تفكرهم في آيات الله في الكون من أجل إخلاص العبادة له ، مانع لهم من البحث عن السنن الكونية الربانية من أجل عمارة الأرض ولم يشعروا كذلك أن البحث عن هذه السنن من أجل عمارة الأرض مانع لهم من إخلاص العبادة لله . لأنه لا تعارض في الحقيقة . والله يقول لهم :
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [سورة القصص 28/77]
ويقول لهم :
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [سورة الملك 67/15]
فالمشي في مناكب الأرض والأكل من رزق الله - المؤدي إلي عمارة الأرض - يصحبه في التوجيه الرباني التذكير بالآخرة ، وواجب إخلاص العبادة لله من أجل النشور ، يوم يحاسب الناس علي ما عملوا في الحياة الدنيا . فلا العمل من أجل الحياة الدنيا مانع من اخلاص العبادة وتذكر النشور ، ولا تذكر النشور مانع من عمارة الأرض . وهكذا يتوازن " الإنسان " بين مطالب الجسد ومطالب الروح ، ومطالب الدنيا ومطالب الآخرة … بل هكذا في الواقع يصبح الإنسان إنسان علي الحقيقة لا حيوانا في صورة إنسان كما هو في الجاهلية المعاصرة . إنسان يسعي بكل فاعليته في واقع الأرض لعمارتها والهيمنة عليها والإنشاء والتغيير فيها بما يحقق معني الخلافة ، وهو في الوقت ذاته محكوم " بالقيم " المرتبطة بيوم النشور ، النابعة كلها من إخلاص العبادة لله ، ونبذ الأرباب المزعومة كلها ، المؤدية إلي عبادة الشيطان من سبله المتعددة :
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام 6/153]
أما في الجاهلية المعاصرة فقد سارت الأمور في طريق آخر ..
ذلك أن أوروبا استنبتت المنهج التجريبي الذي أخذته من المسلمين ، في أرض سبخة يملؤها العداء للدين والفرار من الله بدلا من الفرار إليه :
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ...} [سورة الذاريات 51/50-51]
وكانت النتيجة أن أصبح المنهج التجريبي فتنة لأوروبا ، كلما فتح عينيها علي مزيد من أسرار الكون زادوا بعدا عن الله ! أو كما يقول جوليان هكسلي في كتابه " الإنسان في العالم الحديد " إن الإنسان كان يعبد الله من قبل في عصر العجز والجهل بسبب عجزه وجهله . أما الآن وقد تعلم وسيطر علي البيئة فقد 'ن له أن يحمل علي عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر العجز والجهل علي عاتق الله .. ومن ثم يصبح هو الله !
ولم تكن الفتنة هي غرور الإنسان بنفسه وظنه أنه مستغن عن الله فحسب (1) بل كانت بالإضاقة إلي ذلك قتنة بالعلم وبالمنهج التجريبي ، فأصبحت التجربة الحسية المعملية هي " الميعار" الذي تقاس به " حقيقة " كل شئ ، ويرد إليه " صدق " كل شئ ! فما أمكن إثباته عن طريق التجربة المعملية فهو الموجود علي الحقيقة، وهو الموثوق بصدقه ، وما لا يمكن إثباته عن هذا الطريق فهو إما شئ لا وجود له وإما شئ ساقط من الحساب . ودخلت في هذا القبيل قضية الألوهية بكاملها ، بكل ما حولها من وحي ورسل وكتب وبعث ونشور وحساب وجزاء .. أو باختصار : قضية الإيمان (2)
__________
(1) يقول رب العالمين جل وعلا " كلا ! إن الإنسان ليطغي ، ان رآه ستغني
(2) مر النص من حديث جبريل عليه السلام :" قال أخبرني عن الإيمان قال أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره(57/15)
وإذا كانت عقلانية عصر النهضة وما بعدها قد اغلقت كل منافذ المعرفة إلا العقل ،/ ولكنها تركته يسرح حيث يشاء ، ويشطح كيف يشاء ، فإن " العقلانية التجريبية " التي سيطرت علي الفكر الأوروبي منذ القرن التاسع عشر ، قد اغفلت كل منافذ العقل إلا التجربة والحس ! وتلك هي اللعنة التي نجا منها الفكر الإسلامي الأصيل (1) وقت أن كان المسلمون مستقيمين علي نهج الإسلام الصحيح .
لقد كانت المسلمون - كما بينا - هم الذين أنشأوا المنهج التجريبي في البحث العلمي . ولكنهم أدركوا - بداهة - أنه ليس كل شئ يدخل المعمل للتجربة ! إنما الذي يصلح لذلك هو " المادة " والجسم " ولم يتوانوا هم في إدخال المادة والجسم معمل التجربة ، فتقدمت الفيزياء والكيمياء والطب علي أيديهم تقدما يعتبر بالنسبة إلي وقتهم فتوحات .
ولكنهم - فيما عدا القلة الشاذة التي تأثرت بالفكر الإغريقي - لم يغفلوا .
كل منافذ المعرفة غير العقل (2) ثم إنهم - قط لم يغلقوا كل منافذ العقل غير التجربة والحس
لقد أدركوا ، وصدقوا وآمنوا أن الله {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [سورة الأنعام 6/103] ومن ثم لم يجعلوا الذي يرجعون إليه في إثبات وجود الله ووحدانيته وتفرده بصفاته التي يتصف بها هو التجربة الحسية ! إلا من جانب واحد هو رؤية أثار قدرة الله في الكون ، والاستدلال منها عل كل ما تدل عليه من وجود الله ووحدانيته وتفرده . وهذا هو المنهج العلمي الصحيح الذي فاء إليه أخيرا نفرد من العلماء في الجاهلية المعاصرة في القرن العشرين (3)
ثم إن المسلمين لم تكن لديهم كنيسة تدفعهم - بتصرفاتها - إلي حماقة عدم تسمية الله باسم الصحيح ! ولا إضفاء الله علي إله آخر مزعوم أسمه الطبيعة ، أو اسمه المادة ، لمجرد الهروب من طغيان الكنيسة .. فإذا ذكر الله أشمأزت قلوبهم وإذا ذكر الإله المزعوم إذا هم يستبشرون ! وإذ ظلوا يعرفون الله باسمه الصحيح ، ويعبدونه - من ثم - العبادة الصحيحة ، فإن السبل لم تختلط عليهم ، ولم يجعلوا قضايا الوحي والرسالة واليوم الآخر قضايا تجريبية ، إنما قضيا إيمانية يسلمون بها بعد أن تتأكد عقولهم بكل وسائل الاستدلال - من وجود الله سبحانه وتعالي ، وقدرته التي لا تحدها حدود ، وتتأكد من صدق الرسول المرسل إليهم صلي الله عليهم وسلم ، ومن أن ما يخبر به عن ربه وحي لا شك في .
ولم يتعارض في حسهم الإيمان بما تدركه الحواس مع الإيمان بما لا تدركه الحواس ، أو الإيمان بالغيب ، فهذا له قناة في الفطرة وذاك له قتاة ، كلتاهما تمد الإنسان بلون من المعرفة غير الذي تمده به الأخري ، ومن مجموعها معا تتكون المعرفة اللازمة للإنسان
لم يغلقوا علي أنفسهم نافذة الغيب في سبيل تأكيد العالم المحسوس وتأكيد عرفتهم به . كما لم يغلقوا علي انفسهم نافذة المحسوس في سبيل تأكيد إيمانهم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره
وبذلك تقدموا بالمنهج التجريبي ذلك التقدم الهائل الذي أحرزوه دون ان يحتاجوا إلي مسخ الإنسان وطمس بصيرته وتعتيم روحه علي النحو الكريه الذي صنعته الجاهلية المعاصرة ، فظلت تهبط بالإنسان دركا وراء درك حتي لتوشك أن تسلمه إلي الدمار
ونريد ان نتعرف علي الموقف الصحيح للعقل والعقلانية كما يقدمه الإسلام وكما مارسه المسلمون وقت أن كانوا مستقيمين علي المنهج الصحيح
ولكنا لا نستطيع أن نختم الحديث عن عقلانية الجاهلية ، والعقلانية المعاصرة بصفة خاصة قبل أن نشير إلي قوله عجيبة وردت في كتاب من كتب سارتر ، الكاتب الوجودي المعروف ، ذات صلة بالموضوع ، ودلالة لا تحتاج إلي تعليق !
وسارتر يهودي وإن كان كثير من الناس لا يعلمون ذلك ! فقد ورد في الدستور اليهودي أن اليهودي من كانت أمه يهودية ، وأم سارتر يهودية كما ذكر هو في هذا الكتاب المشار إليه ، والذي عنوانه " تأملات في المشكلة اليهودية r eflec - tions su r la question juive والذي أنصح بقراءته كل قارئ يملك قراءته بلغته الأصلية الفرنسية - أو ترجمته بالإنجليزية بعنوان " Anti- S r mite and Jew " ذلك أنه لم يترجم إلي الغربية فيما أعلم .
…صدر هذا الكتاب عام 1946م بمناسبة الحديث عن تقسيم فلسطين وإنشاء الدولة اليهودية .. وقيمته من وجهة نظرنا إنه يعترف بأفاعيل اليهود في إفساد البشرية في أثناء محاولته الدفاع عنهم ! ذلك أن طريقته في الدفاع عن اليهود هي ن يذكر التهم الموجهة إليه ، ثم يقول إنها صحيحة ! ولكنهم معذورون في إتيانها بسبب كذا وكذا!
وسواء اقتنعت بوجاهة الأسباب أم لم تقتنع - وهي في مجموعها متهافتة لا تقنع أحد - فإنها تؤكد التهمة ولا تنفيها ! ويزيد من قيمة شهادته أنه " شاهد من أهلها" لا يتهم بالتعصب ولا التحيز ولا التقول ولا الافتئات !
__________
(1) أي الذي لم يتأثر بفكر أجنبي عن الإسلام
(2) وحتي هؤلاء لم يصلوا إلي درجة الإعريق وإن كانوا تأثروا بهم .
(3) انظر الكتاب الله يتجلي في عصر العلم " لمحموعة منا لعلماء الغربيين(57/16)
يقول : إن اليهود متهمون بتهم ثلاث كبري ، هي عبادة الذهب ، وتعرية الجسم البشري ونشر العقلانية المضادة للإلهام الديني ، ويقول إن المتهم كلها صحيحة ! ثم يروح يقدم لكل منها ما يقدم عليه من المعاذير
قال عن عبادة الذهب أن اليهود مضطهدون في كل الأرض وكل التاريخ ، وإنهم لابد ان يسعوا إلي امتلاك القوة ليقاوموا هذا الاضطهاد والوسيلة التي لجأوا إليها هي السعي إلي امتلاك الذهب وتجميعه ليكون لهم عدة وقوة !
وقال عن تعرية الجسم البشري أن اليهود متهمون بقبح اجسامهم وعدم استقامتها ! فأرادوا ان يثبتوا للبشرية أن القبح كامن في الجسم البشري ذاته لا في اجسام اليهود وحدهم ! فعملوا علي تعرية الجسم البشري ليستيقن البشر من هذه الحقيقة ! ( أرأيت إلي مدي السخف والتهافت ..؟!)
أما نشر العقلانية المضادة للالهام الديني r ationalism as against in tuition ( كما ورد في الترجمة الانجليزية ) فقد كشف فيه الغطاء دون مواربه ! قال : إنه طالما كان البشر يؤمنون بالدين ، فيسظل يقع علي اليهود تمييز مجحف علي اعتبار أنهم يهود ، أما إذا زال الدين من الأرض ، وتعامل البشر بعقولهم ، فعلق اليهود كعقل غير اليهودي ، ويؤمئذ لن يتميز اليهود بكونهم يهودا ، ولن يقع عليهم التمييز المجحف ـ وسيعيشون في سلام مع غير اليهود ( أي بعد أن يغطوا علي حقيقتهم ويندسوا في وسط البشرية مبهمين بين الجموع !!)
ومهما يكن في هذا الكلام من المغالطات المكشوفة التي قصد بها التغطية علي الأهداف الحقيقية لليهود من وراء هذه الأفعال ( وهي نشر الفساد في صفوف الأمميين لإفساد عقائدهم وأخلاقهم بالإضافة إلي سب أموالهم ، لتيسير استعبادهم للشعب الشرير ) فإن ثبوت التهمة بشهادة شاهد من أهلها أمر غني عن التعليق (1)
- - - - - - - - - - - - - - - -
ونعود الآن إلي تبين الموقف الصحيح للعقل والعقلانية كما يرسمه الإسلام
يقدر الإسلام العقل باعتباره من أكبر النعم التي أنعم بها الله علي الإنسان : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [سورة النحل 16/78]
ولكنه لا يبالغ في تقدير قيمة العقل كما كانت تفعل العقلانية الإغريقية ومن ورثها من بعد ، بحيث يجعله هو المحكم في كل شئ ، وهو المرجع الأخير لكل شئ !
فهناك أمور لا يستطيع العقل من ذات نفسه أن يصل إليها لأنها ليست في محيط تجربته ، ولا تستطيع الأدوات التي يحصل بها المعرفة وهي أدوات الحس أن تصل إليها لأنها خارجة عن نطاق المحسوس .. وأن كان في إمكان العقل أن " يعقلها " حين تبين له؛ فهذه تلقن للعقل تلقينا عن طريق الوحي ، ويكون دور العقل فيها أن يعقلها لا بطريق التجربة المباشرة ولا بطريق الحس ، ولكن عن طريق التيقن من صدق الخبر وصدق المخبر ، وهومدعو - كما أسلفنا - إلي القيام بعملية التيقن هذه بكل الوسائل التي يملكها .. وهي مؤدية إلي الغاية الصحيحة حين يستقيم العقل علي الطريق .
وهنا نقطة مهمة في الموضوع
فالعقل المجرد عن الهوي ، المتمحص لتمحيص الحائق ، المنزه عن كل شابئه تشوب التفكير أو تشوب الحكم وهم توهمته الفلسفة الإغريقية كما توهمته من بعدها كل عقلانية بالغت في تقدير دور العقل وتقدير قدراته والواقع البشري الطويل يشهد بأحد أمرين أو بهما معا في الحقيقة : أما أن هذا العقل - في صورته المجردة تلك - لم يوجد قط في واقع الأمر ، وإما أن البشرية لا تحكم عقلها في حميع أحوالها ، وكلا الأمرين صحيح ! فلا هذا العقل المطلق موجود عند أحد من البشر العاديين ولا الفلاسفة ولا المفكرين ، ولا البشرية تخضع لنداء العقل (_ علي فرض صحته) وتصيخ إليه ! إلا من رحم ربك !
والدليل - العقلي - علي الأمر الأول ، أنه لا يكاد ينطبق عقلان من عقول البشرية في تاريخها الطويل كله علي تصور واحد بجميع تفصيلاته ، ولو كانت العقول - حتي عقول الفلاسفة والمفكرين - بالصورة الوهمية التي تصورها العقلانية لتلاقت وتطابقت لأن الحق لا يتعدد
والدليل الثاني - العقلي كذلك - علي الأمر الثاني هو هذا الجنوح الدائم والتخبط الذي يمارسه البشرية وتلك الحروب المجنونة وذلك الاتباع الجنوني للهوي والشهوات ولو كانت البشرية تصيخ لنداء العقل في جميع أحوال ما جنحت ولا تخبطت ولا أصابها الجنون !
أنما الحق - الذي تشير الدلائل كلها إليه - أن العقل - في خارج ميدانية الأصيل - أداة طيعة لمن يسيطر عليه ! فإذا سيطرت عليه الروح المهتدية استقام منطقة واستقام تفكيره ن وأصبح خادما أمينا للهدي يسخر طاقاته كلها في خدمته ، وإذا سيطرت عليه الروح الضالة ، أي سيطر عليه الهوي والشهوات ، فهو خادم للضلال يسخر طاقته كلها في خدمته ، ويجادل أشد الجدل لتبرير موقفه .
__________
(1) مما بلفت النظر في هذا الكتاب أيضا قول سارتر إن تقسيم فلسطين إلي دولة عربية ودولة يهودية لن يحل المشكلة اليهودية إنما الحل هو نشر الشيوعية العالمية وهو أيضا قول لا يحتاج إلي تعليق .(57/17)
{وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54)} [سورة الكهف 18/54]
{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [سورة غافر 40/5]
{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [سورة الأعراف 7/179]
ومعرفة هذه الحقيقة عن العقل لا تنقص من قدرة كأداة للتفكير ، بل أن هناك ميادين من الفكر هي خالصة للعقل لا يشاركه فيها غيره من أدوات التلقي وأدوات تحصيل المعرفة ، كما سيجئ بيانه . وإنما معرفة هذه الحقيقة تجعلنا نحتفظ فقط في تقديرنا للقيمة النهائية للعقل ، بحيث لا نجعله هو المحكم في كل شئ ، ولا المرجع الأخير لكل شئ ! إنما ننزله منزلة الحق ، فما كان فيه هو المرجع الوحيد أو المرجع النهائي وكلناه إليه كله ، وما كان فيه قمينا أن يضل إذا ترك وحده جعلنا له الصحبة التي تمنع ضلالة وما كان عاجزا عن الوصول فيه إلي شئ لم نفحمه فيه ,.. وهذا هو منهج الإسلام
يمنح الإسلام العقل مجالا واسعا للعمل ، هو أوسع مجال سليم للعقل منحه إياه نظام من النظم أو عقيدة من العقائد ., وفي الوقت نفسه يمنعه من مجالات بعينها ويحظر عليه التفكير فيها ، أو ينكر عليه حق التفكير.
ونبدأ بالحديث عن الأخيرة لأنها - في الجاهلية المعاصرة بصفة خاصة - مظنة الحجر علي العقل بغير موجب !
يحظر الإسلام علي العقل أمورا ثلاثة : التفكير في ذات الله ، والتفكير في القدر . والتشريع من دون الله
"تفكروا في خلق ولا تفكروا في الله "
" وإذا ذكر القدر فأمسكوا "
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44)} [سورة المائدة 5/44]
وأما الأولي والثانية فالحظر فيها ليس حجرا علي " حرية الفكر " إنما هو صيانة لطاقة العقل أن تتبدد فيما لا طائل وراءه ، وإلا فلننظر في " الإنتاج البشري " كله فيما يتعلق بذات الله /، في الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي وما يسمي بالفلسفة الإسلامية وعلم الكلام .., إلي أي شئ وصل ؟! وإلي أي شئ كان قمينا أن يصل
لا شئ !
لأنه اقتحام بلا أداة .. أو بغير الأداة الصالحة للوصول
كالمفتاح الذي يدور في القفل ويدور .. والقف لا يفتح.. لأن المفتاح أضأل من أن يفتح القفل !
كما قلنا من قبل : ليس العيب في القفل ولا في المفتاح ، ولكنه في إصرارنا نحن أن نفتح القفل بغير مفتاحه !
الروح هي أداة الوصول
لا نعرف نحن كيف تصل .. ولكنها تصل ! في لحظة الإشراف .. في لحظة التوهج .. تصل ! وتحس بالوصول ! وتنعم بالوصول ! وليس معني ذلك - كما أوضحنا من قبل - أن العقل ليس له دور في عملية الإيمان . كلا ! إن له دوره المخصص له لكن الإيمان بالله شئ ، والإحاطة بكنة الذات الإلهية - وهو ما يحاوله العقل - شئ أخر لا يمكن أن نصل إليه
والذي تصل إليه الروح ليس هو الإحاطة بكنة الذات الإلهية كذلك . إنما هو القرب الذي يتلقي النور ويفيض عليه النور ، فيستغني عن " البحث " في الكنة ن الذي يحاوله العقل ولا يصل إلي شئ منه ! وهذه المشاعر يملكها كل إنسان في لحظات التوجه الصادق إلي الله . وإن كان الإنسان - بطبيعته - لا يثبت عليها كما تثبت الملائكة الإطهار .. ولا هو مطلوب منه أن يثبت عليها لأن الله لا يكلف كل نفس إلا وسعها
شكا الصحابة رضوان الله عليهم إلي رسول ال صلى الله عليه وسلم أنهم حين يكونون معه يكونون في حال ، وإذا خرجوا من عنده وانساحوا في الحياة تغيرت بهم الحال . فقال لهم رسول ا صلى الله عليه وسلم ما معناه إنهم لو ظلوا علي حالتهم التي يكونون عليها وهم في صحبته لصافحتهم الملائكة !
ذلك هو الوصول الذي تقدر عليه الروح .. ولا يستطيع العقل أن يمارسه لأنه ليس من شأنه
وأما القدر فشأنه كذلك ..ليس للعقل فيه مجال ..
إنما يحتاج الإنسان لكي يدرك كيف يجري الله قدرة ، بخيره وشره ، إن يكون علي مستوي الإله ! وذلك أمر لن يكون . فالله وحده هو المتفرد بالألوهية والعلم المحيط بالزمان والمكان والأشياء والأشخاص والأحداث
ومن ثم ضل " العقل " حيثما تكلم في القدر .. واسترح القلب المؤمن المطمئن بذكر الله
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [سورة الرعد 13/28]
ومن لم يطمئن قلبه .. وسعي "بعقله" أن يعقل القدر .. فلاي شئ وصل من خلال الفلسفة والفكر والكلام ؟!
كلا ! لم يكن حجرا علي " حرية الفكر" إنما صيانة لطاقة العقل أن تتبدد فيما لا طائل وراءه .. ومن أبي أن يلتزم بالحظر فقد إنهك عقله ، وشقي ، ولم يجد في النهاية الظل الذي يفئ إليه من لفحة الرمضاء ! وهي علي أي حال نصيحة يلتزم بها العاقل فيجد فيها الخير ، ويتجنبها من يتجنبها فيلقي جزاء المخالفة اضطرابا وحيرة ولا تستقر .
أما التشريع بغير ما انزل الله فليس الأمر فيه " نصيحة" توجه إلي الناس . إنما هي قضية كفر وإيمان
والقضية علي أي حال ذات شقين ، كلاهما يتعلق بالألوهية وما ينبغي لها في شأن التشريع(57/18)
الشق الأول من القضية هو المتعلق بمقام الألوهية : من الإله ؟ من المعبود ؟ من صاحب الأمر ؟ وهي كلها مترتبة علي سؤال أولي : نم الخالق ؟ من المدبر ؟ من المهيمن ؟ من صاحب السلطان ؟ الله أم الإنسان؟
فإذا كان الله هو الخالق والإنسان هو المخلوق ، فقد تحدد مقام الألوهية ومقام العبودية ، وأصبح صاحب الحق في أمر التشريع - كما في كل أمر آخر - هو الله الخالق لا الإنسان المخلوق.. إلا أن يأذن له صاحب الأمر
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف 7/54]
{إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)} [سورة يوسف 12/40]
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر 39/3]
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى 42/21]
وقضية الكفر والإيمان - أو قضية الجاهلية والإسلام - هي دائما هذه القضية ، مصحوبة - في الغالب - بقضية العبادة بمعني أداء الشعائر التعبدية
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة النحل 16/35]
فالأولي متعلقة بالألوهية : هل الله واحد أم آله شتي ؟ فإذا كان واحد فمن حقه أن يعبد وحده ، أي تقدم الشعائر التعبدية له وحده. والثانية متعلقة بخصيصة من خصائص الألوهية وهي الحاكمة : هل الله الذي يحكم ، فيحل ويحرم ، ويبيح ويمنع ، أم له شركاء في التشريع ، يقولون من عند أنفسهم : هذا حلال وهذا حرام ، وهذا مباح وهذا غير مباح ، بغير سلطان من الله ؟ فما دام الله واحد في أولهيته ، فالحاكمة - من ثم - له وحده لأنها خصيصة الألوهية .
والإيمان هو التوحيد في هذه وتلك ، والكفر هو الشرك في هذه أو تلك أو فيهما جميعا
وقضية الجاهلية دائما هي الاستكبار عن عبادة الله - سواء كانت العبادة هي أداء الشعائر التعبدية لله وحده ، المترتب علي الاعتقاد القلبي بوحدانية الله ، أو كانت هي التحاكم إلي شريعة الله ، المترتب كذلك علي الاعتقاد القلبي بوحدانية الله .
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [سورة غافر 40/56]
وفي الجاهليات القديمة كلها كان الناس يؤمنون بأن الله هو الخالق ، ولكنهم يشركون معه إلهه أخري يضفون عليها بعض صفات الألوهية . اما في قضية التشريع فكان كبراؤهم يتنكبون الطريق ، فيعطون لأنفسم حقا من الحقوق المتعلقة بالألوهية - هو حق الحاكمية - فيشرعون بغير سلطان من الله ، ويجعلون من أنفسهم أربابا مع الله . وأما المستضعفون فيخضعون لهؤلاء الأرباب المزيفين بحكم ما في أيديهم من السلطان القوي فيعطونهم حق التشريع ، ويستعبدون أنفسهم لهم بالخضوع لما يشرعونه من تشريع … فيشترك الذين استكبروا والذين استضعفوا في شرك العبادة ، ثم ينقسمون بعد ذلك إلي سادة وعبيد . السادة يملكون ويحكمون ، والعبيد لا يملكون ولا يحكمون ..إنما يقع عليهم الذل والهوان والضياع والبؤس كشأن كل جاهلية في الماضي .. وكل جاهلية أتية إلي قيام الساعة
أما الجاهلية المعاصرة فقد استكبرت استكبارا من نوع آخر فنفت وجود الله أصلا ، وزعمت أن الطبيعة أو المادة هي الخالق الأزلي الأبدي ذو السلطان . ولكنها في قضية التشريع سارت علي ذات النمط الذي سارت عليه كل جاهلية من قبل ، فاستأثر بالتشريع ذوو السلطان ، وخضع لهم العبيد ، فاستوي بذلك عهد الرق وعهد الإقطاع وعهد الرأسمالية وعهد الشيوعية علي خلاف في الصورة لا يقدم ولا يؤخر كثيرا في واقع الأمر (1)
هذا هو الشق الأول من قضية التشريع المتعلق بمقام الألوهية . أما الشق الآخر فهو متعلق كذلك بقضية الألوهية ولكن من جانب آخر .
كان الشق الأول من القضية : من الذي يحق له أن يشرع ، الخالق أم المخلوق ؟ أما الشق الآخر فهو : من الذي يحق له أن يشرع ، العلم الخبير أم الذين لا يعلمون ؟
والإنسان - في الجاهلية الأخيرة خاصة - يزعم أنه هو العليم الخبير ، ومن ثم فهو الذي يحق له أن يضع التشريع
وبصرف النظر عن أن الأصل في القضية هو الاستكبار عن عبادة الله فلننظر في هذا الإنسان الذي يزعم أنه هو العليم الخبير ، كيف يعالج شؤون حياته في معزل عن منهج الله !
كان العمال في الرأسمالية خاضعين للظلم الواقع عليهم من أصحاب رؤوس الأموال ، يسرقون كدحهم ويأكلون جهدهم ولا يعطونهم إلا الكفاف .. ففكر " الإنسان" في طريقه لرفع ذلك الظلم فابتدع الشيوعية .. فأزيلت الملكية الفردية كلها وأصبحت الدولة هي المالك الوحيد . فوقع الناس جميعا في الذل المهين للمالك الجديد ، يستعبدهم بلقمة الخبز ، فلا يملكون أن يفتحوا أفواههم بكلمة نقد واحدة للسيد المعبود!
__________
(1) راجع فصلي الديمقراطي والشيوعية في هذا الكتاب(57/19)
وكانت المرأة في الجاهلية الأوروبية في عهد الإقطاع مهينة محقرة ، تعير بأنها تحمل وتلد ، ولا تعطي وضعها الإنساني الكريم ، ففكر " الإنسان" في طريقه لرفع الظلم عن المرأة ورد الإنسانية المفقودة إليها ..فكيف فكر وكف قدر ؟! أخرجها من البيت وشغلها في المصنع والمكتب وجعلها تختلط مع الرجل ،فاشتغل الرجل والمرأة كلاهما بفتنة الجنس ، وفسدت الأخلاق ، وتحطمت الأسرة ،ـ وتشرد الأطفال ، وانتشر الشذوذ ، وفسدت الحياة !
وكانت الكنسية في العصور الوسطي تفسد الحياة كلها بإفساد الدين ، ففكر " الإنسان " في طريقه للإصلاح .. فكيف فكر وكيف قدر ؟ ألغي الدين كله . بل نفي وجود الله أصلا .. ثم راح يتخبط في الظلمات !
هذا هو الإنسان " العلمي الخبير!" الذي يزعم أنه شب عن الطوق ولم يعد في حاجة إلي وصاية الله ! وهذه هي طريقة تفكيره حين يضع لنفسه منهج الحياة !
إنه يقع فريسة لقصور العقل البشري ، وفريسة للهوي والشهوات !
إنما يلزم لمن يضع للإنسان منهج حياته أن يكون بادئ ذي بدء عالما بذلك " الإنسان " ليضع له منهجا علي قده ، ويلزم له أن يكون محيط العلم بماضي ذلك الإنسان وحاضره ومستقبله ، لكيلا يعالج مشكلة بمشكلة جديدة ، ولا يقوم انحرافا بانحراف جديد .. ويلزم له أن يكون منزها عن الغرض ، منزها عن الهوي والشهوات ، ليكون منهجه " موضوعيا " خالصا بالنسبة لحياة الإنسان
فهل كذلك الإنسان ؟! وهل يمكن أن يكون كذلك في يوم من الأيام !
يقول الكسس كاريل عن معرفة الإنسان بنفسه :
" وفي الحق لقد بذل الجنس البشري مجهودا جبارا لكي يعرف نفسه ، ولكنه بالرغم من أننا نملك كنزا من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعور وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان ، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسها . أننا لا نفهم الإنسان ككل . إننا نعرف علي أنه مكون من أجزاء مختلفة . وحتي هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا، فكل واحد منا مكون من مكون من الإشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة !
" وواقع الأمر أن جهلنا مطبق . فأغلب الأسئلة التي يلقيها علي أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب .." (1)
ومر بنا من نماذج القصور في رؤية الإنسان وطريقة علاجه للأمور ما يغنينا عن المزيد
إنما الله هو العليم الخبير لا الإنسان !
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [سورة الملك 67/14]
{وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)} [سورة البقرة 2/216]
{قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)} [سورة الطلاق 65/12]
{وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [سورة فاطر 35/15]
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً (28)}[سورة النساء 4/26-28]
من أي جانب إذن عالجت قضية التشريع ، فالتشريع هو حق الله تبارك وتعالي ، وليس الإنسان مأذونا ولا هو صالح لوضع منهج حياته .. إلا ما إذن الله له فيه . وسنري في النقاط التالية بأي شئ أذن الله للإنسان ، يعمل فيه عقله ويجتهد فيه .
إذا جاوزنا هذه الأمور الثلاثى ، التي نصح العقل ألا يتناولها كقضية الذات الإلهية وقضية القدر ، أو منع منعا حازما منها كقضية التشريع ، فكل المجالات الأخري مباحة للعقل ومتاحة له ، بل هو - في الإسلام - مدعو إليها دعوة صريحة ، ويعتبر مقصرا إذا لم يقم بها
وهناك خمسة مجالات رئيسية يدعي العقل للعمل فيها في ظل الإسلام :
أولا : تدبر آيات الله في الكون للتعرف علي قدرة الله المعجزة ، وتفرده بالخلق والتدبير والهيمنة والسلطان، بما يؤدي إلي إخلاص العبادة له وحده سبحانه ، وطاعته فيما أمر به وما نهي عنه
ثانيا : تدبر آيات الله في الكون للتعرف علي السنن الكونية التي يجري بها قدر الله في الكون ، لتحقيق التسخير الرباني لما في السموات وما في الأرض للإنسان ، من أجل تعمير الأرض والقيام بالخلافة بها
ثالثا : تدبر حكمة التشريع الرباني لإحسان تطبيقه علي الوجه الأكمل ، والاجتهاد فيما أذن الله فيه بالاجتهاد
رابعا : تدبر السنن الربانية التي تجري الأمور بمقتضاها في حياة البشر ، لإقامة المجتمع الإيماني الراشد الذي يريده الله .
خامسا : تدبر التاريخ
ولنقل كلمة موجزة عن كل مجال من هذه المجالات
- - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) كتاب الإنسان ذلك المجهول ص 16 من الترجمة العربية ( تعريب شقيق أسعد فريد)(57/20)
أولا : في قضية الإيمان- كما أسلفنا - يخاطب الإسلام الإنسان كله ، بكل جانب من جوانبه ويركز علي الجانب الوجداني لأن العقدية دائما تخاطب الوجدان وتحيي فيه وتتحرك به ، ولكنه يخاطب العقل كذلك في ذات الوقت ، ويستنهضه للتفكر والتدبر والتأمل ، للتتآزر جوانب الإنسان كلها للوصول إلي الحقيقة ، حقيقة الألوهية ، وما يترتب علي معرفتها من التزامات في كل مجالات الحياة والشعور والفكر والسلوك
يخاطبه ليتدبر في آيات الخلق .. خلق الكون وخلق الإنسان .. هل من خالق غير الله ؟
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ (36)} [سورة الطور 52/35-36]
{خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)} [سورة لقمان 31/10-11]
ومازال هذا التحدي قائما .. وسيظل قائما إلي أن يرث الله الأرض وما عليها .. وكل محاولات الجاهلية المعاصرة أن تزيغ عن مجابهة التحدي ، بالقول بالمصادقة تارة ، وبالخالق الذاتي تارة ، وبأي كلام تارة أخري إنما هي محاولات متهافتة لا يقبلها " العقل " لو تجرد للتفكر بغير ضغوط وبغير شهوات ! والإسلام يخاطب العقل ليتجرد في تفكره ، وليصل إلي النتيجة الموضوعية العلمية التي يدل عليها كل ما في السماوات والأرض من شئ ويتخلي عن الهوي الذي يعمي وعن الكبر الذي يضل .. فيجد الحقيقة بارزة تملأ اليقين .
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17)} [سورة النحل 16/17]
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [سورة الأنبياء 21/22]
{إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [سورة المؤمنون 23/91]
وكما يخاطبه ليستيفن من حقيقه الألوهية وتفرد الله بالخلق والتدبير .. - بطرق استدلالاته الخاصة من استقرار واستنباط وقياس ومنطق ..إلخ - يخاطب ليرتب علي يقينه ذلك ما يستتبعه من نبعات .. فإذا كان الله متصفا بتلك الصفات التي استدل عليها وتيقن منها فمن الجدير بالعبادة غيره ، ومن الجدير بالطاعة غيره؟
كذلك يخاطبه ليستيقن الحق الذي خلقت به السماوات والأرض ، وما يستتبع هذا الحق من بعث ونشور وحساب وثواب وعقاب :
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115)} [سورة المؤمنون 23/115]
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا...} [سورة ص 38/27]
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)} [سورة آل 3/190-194]
إن الله الذي صفاته هي تلك التي عرفها العقل واستيقن منها لا يمكن - عقلا - إن يخلق شيئا عبثا ، أوأن يخلق شيئا باطلا ، إنما يخلق كل شئ بالحق ، والحق يقتضي أن يكون هناك يوم يحاسب فيه الناس علي ما عملوه في الحياة الدنيا ، لأنه لا يتم الجزاء الحق في الحياة الدنيا كما يري الإنسان بنفسه .. فكم من ظالم ظل يظلم حتي مات ، وكم من مظلوم ظل مظلوما حتي مات . فلو كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف فأين الحق؟ إنما يحق الحق حين يبعث الناس فيحاسبون علي السيئة والحسنة ، ويأخذ كل إنسان جزاءه بالحق ..
وإذا كان الأمر علي هذه الصورة فإن " العقل " يقتضي أن يحسب الإنسان لهذا اليوم حسابه ، وأن يعمل من الأعمال ما يقربه من لجنة ويبعده عن النار .. وألا تفتنة اللذة العاجلة عن النعيم المقيم .
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [سورة آل 3/185](57/21)
" كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور :
وهذا الأمور كلها يخاطب فيها الوجدان - مع العقل - لتتربت عليها حركة سلوكية واقعية ، ولكن نصيب العقل فيها واضح لا يحتاج إلي تأكيد
- - - - - - - - - - - - - -
ثانيا : يوجه العقل بعد ذلك إلي تدبير آيات الله في الكون للتعرف علي أسراره . للتعرف علي خواص ذلك الكون ، لإمكان تسخيرها لعمارة الأرض .
والتسخير قائم من عند الله ابتداء :
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13]
ولكن تحقيق هذا التسخير في عالم الواقع لا يتم بمجرد رغبة الإنسان في ذلك ،فهو ليس إلها يقول للشئ كن فيكون ، إنما يتحقق هذا التسخير بجهد معين يبذله الإنسان ، جهد عقلي يتعرف به الإنسان علي أساس الكون وخواصه ، وجهد عضلي يطبق به الإنسان ثمار معرفته في صورة عمل منتج .
وكل ذلك يوجه العقل لآدائه . بل هو ميدانة الأصيل الذي تتجلي فيه كل عبقريته ، والذي لا يشاركه فيه غيره . وليس معني ذلك أنه في هذا الميدان لا يخطئ ولايتوهم ، فكثير ما يقع في الخطأ والوهم كما بين تاريخ العلوم ، ولكن معناه أن لديه أوسع فرصة ليصل إلي الحقيقة فيما قدر الله أن يكشف له من أمور هذا الكون . ولكنه يوجه إلي ذلك بعد أن يوجه إلي التعرف علي الخالق ، وعلي كل قضايا العقيدة
ولذلك حكمة واضحة
فالعقل البشري ما لم يعوقه معوق - كما كان من أمر الكنيسة الأوروبية وحجرها علي العقل أن يفكر - مفطور بطبعه علي التفكير فيما حوله ، واستنباط الطرق التي تحقق للإنسان حاجاته ، ثم تحسينها ومحاولة الوصول بها إلي أقصي حد من الاتقان والفاعلية ، من أجل الحصول علي القدر من " المتاع" الذي قدره الله للإنسان في الأرض .
{وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} [سورة البقرة 2/36]
ولكن العبرة في حياة " الإنسان " ليست بمجرد العمارة المادية للأرض ، ولا مجرد الحصول علي المتاع من أي لون ومن أي طريق إنما " الإنسان" خلق لشئ أرفع من ذلك وأسمي .. خلق لحمل " الأمانة" التي اشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال :
{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [سورة الأحزاب 33/72]
وحمل الإمانة لا يتم بمجرد العمارة المادية ولا المتاع الحسي .. إنما يتم بإقامة ذلك كله علي أساس من " القيم " .. والقيم الحقيقية هي التي حواها المنهج الرباني للحياة " وقد رأينا من دراستنا السابقة أن كل ما عداها زائف لا يلبث أن تعبث به الأعاصير " ومن ثم كان لابد من توجيه العقل أولا- والكيان الإنسان كله في الحقيقة - للتعرف علي الله والإيمان به وطاعته ، حتي إذا جاء العقل يتعرف علي الكون ، ويعمل علي تسخير طاقاته في عمارة الأرض ، كان مهتديا بالهدي الرباني ، فأقام عمارة الأرض علي أساس المنهج الرباني الذي به وحده تصلح الحياة .
وقد مر بنا في هذا الفصل وما قبله كيف صارت الأرض حين قامت عمارتها المادية علي" قيم "أخري غير القيم التي قررها الله وأمر بإقامتها في الأرض ، وحاضر الجاهلية المعاصرة غني عن الإشارة وغني عن التعليق .
فتوجيه العقل - في الإسلام - إلي التعرف علي السنن الكونية من أجل عمارة الأرض بعد توجيهه إلي الإيمان بالله ، وهو المنهج الصحيح لتنشئة " الإنسان الصالح" الذي تسعي البشرية - نظريا - إلي تنشئة ، ولكنها تخفق دائما حين تتنكب المنهج الرباني ، وتنشئ من عندها مناهج تؤدي إلي البوار .
وإن كان لن من شئ نذكر به أو نعيد التذكير به في هذا المجال ، فهو أن الأمة المسلمة -ب توجيه الإسلام -0 هي التي أنشأت المنهج التجريبي في البحث العلمي ، الذي قامت عليه كل نهضة أوروبا العلمية فيما بعد ، ولكنها تفردت في التاريخ بأنها هي التي أنشأت حضارة "إنسانية " حقيقية ، تمثل " الإنسان " كل لا جانبا واحد من جوانبه ، وتمثله متوازنا كما ينبغي للإنسان ، لا العمل في الدنيا يشغله عن الآخرة ، ولا المتاع الحسي يشغله عن المتاع الروحي المتمثل في العبادة ، وفي الجهاد لإقامة الحق والعدل في الأرض ، ولا رؤية الأسباب الظاهرة تفتنة عن السبب الحقيقي ، ولا العلم يفتنه عن الدين .. إلي آخر تلك الانحرافات التي وقعت فيها الجاهلية الأوروبية حين رفضت الهدي الرباني وجعلت " عقلها" يرسم لها الطريق !
- - - - - - - - - - - - - - - -
ثالثا : يوجه العقل في الإسلام إلي تدبر حكمة التشريع لإحسان تطبيقه ، ومن أجل الاجتهاد فيما أذن الله فيها بالاجتهاد ، وحقيقة إن هذا في الإسلام فرض كفاية لا فرض عين ، لأنه لا يتيسر لكل الناس - وإن كانوا مؤمنين - إن يتفقهوا في أحكام الدين ـ، إنما الفقهاء لهم استعداد خاص ، ويحتاجون إلي دربة خاصة لا تتاح لكل إنسان .(57/22)
ولكن فرض الكفاية معناه أن يتخصص له فريق من الأمة - ممن يحملون الاستعداد وينالون الدربة - فيسقط التكليف عن الآخرين ، فإن لم ينتدب له أحد من أفراد الأمة فهي كلها أثمة حتي تهيئ من يقوم عنها بهذا الأمر .
{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [سورة التوبة 9/122]
وأعمال العقل لتدبر حكمة التشريع أمر واضح الضرورة وواضح الحكمة فالتشريع أولا لا ينطبق انطباقا آليا علي كل حالة من الحالات التي تقع بين البشر
إنما يحتاج الأمر إلي إعمال العقل لمعرفة الحكم الذي ينبغي تطبيقه في الحالة المعينة المعروضة للحكم ، ولمعرفة الطريقة الصحيحة لتطبيقه .
ثم إن هذه التشريعة التي نزلت لتواكب حياة البشرية كلها منذ نزولها إلي قيام الساعة ، قد روعي فيها أن تواجه الثابت والمتغير في حياة الناس
فأما الثابت - الذي لا يتغير ، أو لا ينبغي أن يتغير لأن تغييره يحدث فسادا في الأرض - فقد أتت فيه الشريعة المستمدة من كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم بتفصيلات وافية تشمل الأصول والفروع والكليات والجزئيات.
وأما المتغير - الذي يجد في حياة الناس بحكم التفاعل الدائم بين العقل البشري والكون المادي وما ينشأ عن ذلك من علوم وتطبيقات وتحويرات في أنماط الحياة ، والذي أذن الله فيه بالتغيير لأن ثباته يجمد الحياة ويوقف نموها - هذا المتغير لم تتناوله الشريعة بالتفصيل - بحكم تغييره الدائم - إنما وضعت له الأسس التي ينمو نموا سليما في داخل إطارها ن وتركت للعقل المؤمن المهتدي بالهدي الرباني ، المتفقة في أمور الدين ، أن يستنبط له من الأسس الثابتة ما يناسبه في كل طور من اطواره .
لذلك كان الفقة عملا دائم النمو لا يتفق ، ولا يجوز له أن يتوقف .. لأنه إذا توقف فليس لذلك من نتيجة إلا أن تجمد الحياة أو تخرج من إطار الشريعة الربانية الحكيمة
ولقد قام العقل الإسلامي في ميدان الفقة في فترة نشاط هذه الأمة وحيويتها بجهد رائع ، ما زال يعد تراثا إنسانيا ثمينا إلي هذه اللحظة ، رغم ما أصاب الأجيال المتأخرة من الجمود ، وما أصاب الأجيال الأخيرة من الإعراض!
والذي يطلع علي هذا الفكر يدرك مدي شمول هذه الشريعة وحيويتها وقدرتها علي مواكبة النمو البشري من جهة ، ويدرك من جهة أخري ما قام به العقل الإسلامي المفكر من فتوحات في هذا الباب ، كانت كلها وليدة توجيهات الإسلام .
- - - - - - - - - - - - - - - -
رابعا : ترد في كتاب الله مجموعة من السنن التي يجري الله بها قدرة في حياة البشر ، وترد الإشارة المكررة بأن سنة الله لا تتبدل ولا تتغير ، ولا تتوقف محاباة لأحد من الخلق ، ويوجه العقل إلي تدبر هذه السنن من أجل غقامة المجتمع الصالح الذي يتمشي مع مقتضياتها ولا يصادمها .
فالحياة البشرية ابتداء ليست فوضي بلا ضبابط . إنما يضبطها نظام رباني دقيق ، يسير بحسب سنن ثابتة ، ترتب نتائج محددة علي السلوك البشري في جميع أحواله . ومن ثم يستطيع الإنسان أن يتبين السلوك الصائب الذي ينبغي أن يسلكه ، كما يتبين النتائج المتوقعة من سلوكه ، لا رجما بالغيب ، ولكن تحقيقا لسنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير .
وهذه السنن تتناول حياة الجماعة ، فهي سنن اجتماعية في غالبها . أما ما يرد بشأن الفرد فغالبا ما يكون متعلقا بالجزاء الذي يجزاه في الآخرة لقاء عمله في الدنيا ، وإن كان بعض السنن يأتي فيه ذكر المفرد كقوله تعالي :
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً " (1)" وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [سورة طه 20/124]
ونعرض هنا بعض هذه السنن علي سبيل المثال لا الحصر ، فليس همنا تتبعها واستقصاءها ، إنما التنويه بعمل العقل إزاءها .
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [سورة الروم 30/41]
{اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الرعد 13/11]
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الأنفال 8/53]
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [سورة الأنعام 6/44]
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [سورة الأنعام 6/65]
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [سورة الأعراف 7/96]
__________
(1) أي في الحياة الدنيا(57/23)
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [سورة العنكبوت 29/2-3]
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [سورة هود 11/15-16]
{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [سورة الزخرف 43/23]
{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)} [سورة غافر 40/84-85]
ونفق وقفة قصيرة عند هذه السنة الربانية :
{وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [سورة البقرة 2/124]
فقد ابتلي الله إبراهيم عليه السلام بجملة ابتلاءات صبر فيها صبرا جميلا ، وكان قمة الابتلاءات أمره - في الرؤيا - بذبح ولده الحبيب إسماعيل واستسلامه وولده للأمر الرباني :
{قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [سورة الصافات 37/102-105]
ولقد أكرمه الله جزاء نجاحه الباهر في هذه الابتلاءات فاجتباه واتخذه خليلا :
{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)} [سورة النساء 4/125]
وجعله للناس إماما .. وتلك نعمة كبري يمن الله بها علي عبادة المقربين .. فلما نال تلك الحظوة عند الله تحركت رغبته البشرية الطبيعية في أن يكون هذا العهد ماضيا في ذريته ، فيكونوا أئمة للهدي ، يهدون الناس إلي الإيمان ، فهل حابه السنة الإلهية وهو في موضع التكريم والتقريب والترحيب ؟ كلا ! لقد كان الجواب حاسما : " لا ينال عهدي الظالمين " أي أن العهد ماض فيهم إذا هم استقاموا علي الطريق ، فإذا ظلموا فلا عهد لهم عند الله . ذلك أن الله لا يمكن للناس في الأرض لأن أباءهم أو أجدادهم كانوا مؤمنين ! بل حين يكونون هم بأنفسهم مستقيمين علي الطريق .. أما الذين يؤثون العهد وراثة ، أو يرثون كتاب الله وراثة - أي يتخذونه تراثا !- فيصبح في حسهم أنه كتاب الآباء والأجداد وليس كتابهم هم ، ولاهم مكلفون بتطبيقه ، فأولئك يقول الله فيهم وفي أمثالهم :
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [سورة الأعراف 7/169-170]
والذي يعنينا من هذه السنن هنا - كما أسلفنا - هو دور العقل في تدبرها ، لا تدبرا نظريا فلسفيا يبدأ في العقل وينتهي في العقل كما كان شأن عقلانية الإغريق . إنما يتدبرها ليعمل - بوعي - علي إقامة المجتمع الصالح الذي يستحق التمكين في الأرض يمقتضي الوعد الرباني .
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً...} [سورة النور 24/55]
وليتجنب النذير الرباني :
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [سورة محمد 47/38]
والنذير الآخر
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [سورة الأنفال 8/25]
لسكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي هو قوام خيرية هذه الأمة(57/24)
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110]
فحين تسكت الأمة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصبيها الفتنة ولا تصيب الذين ظلموا وحدهم ، ولكن تصيب المجموع كله لتقصيرة في مقوم أصيل من مقومات الحياة الاجتماعية والسياسية
ولا تقتصر " التوعية " السياسية علي قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إنما تتعداها إلي التوعية بالدور التاريخي والإنساني لهذه الأمة :
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة 2/143]
والتوعية بأعداء هذه الأمة ، ومخططاتهم ضدها ، وأهدافهم من هذه المخططات ، وواجبهما إزاءهم ، وطريقة التعامل معهم في السلم والحرب ، وقضية الولاء ومع من يكون ، وما حدوده وطبيعته .. إلخ .. مما لامجال لتفصيلة هنا ، فله مباحثه الخاصة ، وإنما نتحدث هنا عن دور " العقل " في كل ذلك .. ودوره هو تدبر السنن الربانية التي يتحصل منها الوعي الاجتماعي والوعي السياسي ، وهو أمر واجب في الإسلام ليتم تنفيذ المنهج الرباني علي وجه الصحيح .
خامسا : يوجه العقل إلي دراسة التاريخ
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)} [سورة آل 3/137]
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ (1) وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)} [سورة الروم 30/9]
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [سورة الحج 22/46]
وواضح أن دراسة التاريخ المطلوب هي للعبرة لا للتسلية وتزجية الفراغ ! ولكن ينبغي أن نعرف موطن العبرة من دراسة التاريخ
أن السنن الربانية التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة ، والتي يجري قدر الله بمقتضاها في حياة البشرية ،والتي قلنا إن العقل البشري مدعو إلي تدبرها والتفكر فيا من أجل إقامة المجتمع الصالح القائم علي المنهج الرباني .. هذه السنن - بطبيعتها - نادرا ما تتحقق بتمامها في داخل عمر الفرد المحدود ، لأن السنن الاجتماعية بطبيعتها تستغرق اجيالا متوالية حتي يتم التحول الاجتماعي سواء إلي الخير أو إلي الشر ( فيما عدا القلة النادرة التي تقتضي حكمة الله فيها تحقيق سنة بكاملها في أمد قصير ، تأييد لنبي أو تمكينا لجماعة مؤمنة ، كما حدث مع الرسول صلي الله عليهم وسلم وبناء هذه الأمة الشامخة في سنوات قصار )
وأنظر مثلا إلي هذه السنة :
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [سورة الأنعام 6/44]
فالجزء الأول من هذه السنة يمثل الواقع الأوروبي في وقته الحاضر .. نسوا ما ذكروا به ، وكفروا وجحدوا ، ففتح الله عليهم أبواب كل شئ ، من قوة سياسية وقوة عسكرية وقوة علمية وقوة تكنولوجية وقوة اقتصادية .. وكل ما يمكن أن يدخل في " أبواب كل شئ " وهذا الجزء وحده من هذه السنة قد استغرق قرنين كاملين من الزمان ، ولد فيه أفراد - بل أجيال - قضوا أعمارهم في هذه الحياة ورحلوا ، ولما تتحقق بقية السنة المذكورة في الآية ،" حتي إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " ! بل توهم أناس في وقت من الأوقات أن هذه الأبواب المفتوحة ستظل مفتوحة إلي الآبد لا تغلق ولا تتهدم علي أصحابها مهما ارتكبوا من آثام !
واليوم بدا مفكرو الغرب أنفسهم يدركون أن " حضارتهم " آيلة إلي الانهيار .. وبدأو ينذرون قومهم إذا استمروا في البعد عن " القيم الروحية" كما يسمونها (2)
أن يصيبهم الدمار الذي أصاب أمما من قبلهم .. ولكن كم يستغرق ذلك من الزمان ؟ جيلا أو اجيالا كما استغرق تحقيق الجزء الأول من سنة الله !
لذلك يوجه الله " العقل " أن تتدبر التاريخ ! فالتاريخ هو المجال الواسع الذي تتحقق فيه السنن الربانية بأكملها ، سواء منها ما يتحقق في عمر الفرد وما يتحقق في عمر الأجيال . والأغلب هو الأخير !
__________
(1) أي بالتدمير عليهم لتكذيبهم.
(2) لانهم ما زالوا في جاهليتهم يكوهرون أن يذكروا الذين باسمه الصريح !(57/25)
تدبر التاريخ إذن هو في الواقع تدبر السنن الربانية في واقعها التاريخي الذي يمتد خلال القرون ، ورؤية الطريقة الواقعية التي تتحقق بها تلك السنن في حياة الأمم والأفراد ، لتتحقق العبرة الكاملة في نفوس الناس ، فيسايروا هذه السنن ولا يصادموها ، ولا يقول قائل لنفسه - علي سبيل المثال - ها أنذا قد عشت في المجتمع الفاسد عمري كله وشاركته الفساد فلا أنا أصابني الدمار ولا المجتمع الذي عشت فيه ! ولا يقول قائل لنفسه لماذا أجهد نفس في تقويم المجتمع من انحرافه الخلقي أو الفكري أو الروحي .. ما دام هذا المجتمع يملك القوة العسكرية والقوة السياسية والقوة الاقتصادية التي تستند وتنعه من الدمار ! ولا يقول قائل لنفسه : ما قيمة "القيم " ؟ وما فائدة " الدين " ؟ وما معني " الأخلاق " ؟ إذا كان يمكن للمجتمع أن يعيش متماسكا قويا بغير ذلك كله عدة قرون ؟
تلك عبرة دراسة التاريخ ..
إن التاريخ لا يدرس - من وجهة النظر الإسلامية - لتسجيل انتصارات الجيوش وانكساراتها ، ونشاة الدولة وزوالها مجردة عن القيم المصاحبة لها ، وعن مجري السنن الربانية فيها ، إنما يدرس بادئ ذي بدء لتتبع حياة " الإنسان" في حالتيه : حالة الهدي وحالة الضلال ، وما يجري خلال كل من الحاليتين من أحداث ، ونتائج تترتب علي الأحداث ، مضبوطة بالمعيار الذي لا يخطئ ، معيار السنة الربانية الحتمية التحقيق .
و" الإنسان" ابتداء هو ذلك المخلوق الذي خلقه الله من قبضة من طين الأرض ثم سواه ونفخ فيه من روحه ، لا " الحيوان " الذي ابتدعه دارون ، ولا " المادة" التي زعمها التفسير المادي للتاريخ .. ومقياس علوه وهبوطه ليس هو الانتاج المادي والعمارة المادية للأرض :
{كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا} [سورة الروم 30/9]
ولكنهم كانوا جاهلين ، لأنهم رفضوا الهدي الرباني ، وأصابهم في النهاية ما يصيب الجاهلية من الدمار ، علي الرغم من كل القوة التي يملكونها ، ومن إثارة الأرض وعمارتها .
إنما مقايس علو " الانسان " او هبوطه هو مقياس " الإنسانية " .. مقياس التزامه بالهدي الرباني الذي يحقق - وحده - إنسانية الإنسان ، والتزامه بمقتضيات الخلافة الراشدة ، أي عمارة الأرض بمقتضي المنهج الرباني لا بأي منهج سواه .
وحين يتحقق هذه الوعي التاريخي - لا في صورة فلسفية ذهنية تجريدية - ولكن في صورة وعي حركي واقعي ، يكون هذا عونا كبيرا للإنسان الراشد ، يوجه إلي السلوك الناضج المستقيم ، الذي يتحقق به الوجود الأعلي للإنسان .
- - - - - - - - - - - - - -
تلك عقلانية الإسلام .. عقلانية سليمة ناضجة تمثل الرشد البشري في أعلي حالاته
عقلانية تعطي العقل مكانة اللائق به ، بلا إفراط ولا تفريط .. فلا هي تغالي في تقدير قيمة العقل فتقحمه فيما ليس من شئونه أو تجعله المرجع الأخير لكل شئ حتي الوحي الرباني ، ولا هي تبخسه قدرة فتمنعه من مزاولة نشاطه في ميادينه الطبيعية التي يصلح لها ويحسن العمل فيها .
عقلانية تكل إلي العقل مهام خطيرة وواسعة .. تكل إليها مهمة حراسة الوحي الذي تكفل بحفظه الله " (1)من كل تأويل فاسد مضل ، وحراسة أحكام الله من الانحراف بها عن " مقاصد الشريعة " وحراسة المجتمع في الآفات الاجتماعية والسياسية والفكرية والخلقية التي تؤدي إلي تدميره .. كما تكل إليه مهمة التقدم العلمي والبحث التجريبي وعمارة الأرض .
ولكنها لا تكل إليه - ولا تسمح له - إن يحيد عن الوحي الرباني والمنهج الرباني ، ولا أن يجتهد من عنده ما لم يأذن به الله ، لأنه عندئذ بجانب الصواب ، ويحيد عن الخير ، ويمكن للفساد :
وتلك هي العقلانية المتوازنة .. أين منها عقلانية الإغريق الغابرة ، والعقلانية التجريبية التي يمارسها الغرب في جاهلية القرن التاسع عشر والقرن العشرين !
=================(57/26)
(57/27)
العقلانية
التعريف :
العقلانية مذهب(*) فكري يزعم أنه يمكن الوصول إلى معرفة طبيعة الكون والوجود عن طريق الاستدلال العقلي بدون الاستناد إلى الوحي(*) الإلهي أو التجربة البشرية وكذلك يرى إخضاع كل شيء في الوجود للعقل(*) لإثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه.
ويحاول المذهب إثبات وجود الأفكار في عقل الإنسان قبل أن يستمدها من التجربة العملية الحياتية أي أن الإدراك العقلي المجرد سابق على الإدراك المادي المجسد.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
العقلانية مذهب قديم جديد بنفس الوقت. برز في الفلسفة(*) اليونانية على يد سقراط وأرسطو، وبرز في الفلسفة الحديثة والمعاصرة على أيدي فلاسفة أثَّروا كثيراً في الفكر البشري أمثال: ديكارت وليبنتز وسبينوزا وغيرهم.
رينيه ديكارت 1596 - 1650م فيلسوف فرنسي اعتمد المنهج(*) العقلي لإثبات الوجود عامة ووجود الله على وجه أخص وذلك من مقدمة واحدة عُدت من الناحية العقلية غير قابلة للشك(*) وهي: "أنا أفكر فأنا إذن موجود".
__________
(1) قال تعالي : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ( سورة الحجر 9)
ليبنتز: 1646 - 1716م فيلسوف ألماني، قال بأن كل موجود حي وليس بين الموجودات مِنْ تفاوت في الحياة إلا بالدرجة - درجة تميز الإدراك - والدرجات أربع: مطلق الحي أي ما يسمى جماداً، والنبات فالحيوان فالإنسان.
وفي المجتمع الإسلامي نجد المعتزلة تقترب من العقلانية جزئيًّا، إذ اعتمدوا على العقل(*) وجعلوه أساس تفكيرهم ودفعهم هذا المنهج إلى تأويل(*) النصوص من الكتاب والسنة التي تخالف رأيهم. ولعل أهم مقولة لهم قولهم بسلطة العقل وقدرته على معرفة الحسن والقبيح ولو لم يرد بها شيء. ونقل المعتزلة الدين(*) إلى مجموعة من القضايا العقلية والبراهين المنطقية وذلك لتأثرهم بالفلسفة(*) اليونانية.
وقد فنَّد علماء الإسلام آراء المعتزلة في عصرهم، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل ثم جاء بعد ذلك ابن تيمية وردَّ عليهم ردًّا قويًّا في كتابه درء تعارض العقل والنقل وبيّن أن صريح العقل(*) لا يمكن أن يكون مخالفاً لصحيح النقل. وهناك من يحاول اليوم إحياء فكر المعتزلة إذ يعدونهم أهل الحرية الفكرية في الإسلام، ولا يخفى ما وراء هذه الدعوة من حرب على العقيدة الإسلامية الصحيحة، وإن لبست ثوب التجديد(*) في الإسلام أحياناً.
العقائد والأفكار:
تعتمد العقلانية على عدد من المبادئ الأساسية هي:
العقل لا الوحي(*) هو المرجع الوحيد في تفسير كل شيء في الوجود.
يمكن الوصول إلى المعرفة عن طريق الاستدلال العقلي وبدون لجوء إلى أية مقدمات تجريبية.
عدم الإيمان بالمعجزات(*) أو خوارق العادات.
العقائد الدينية ينبغي أن تختبر بمعيار عقلي.
الجذور الفكرية والعقائدية:
كانت العقلانية اليونانية لوناً من عبادة العقل وتأليهه وإعطائه حجماً أكبر بكثير من حقيقته. كما كانت في الوقت نفسه لوناً من تحويل الوجد إلى قضايا تجريدية.
وفي القرون الوسطى سيطرت الكنيسة(*) على الفلسفة الأوروبية، حيث سخَّرت العقل لإخراج تحريفها للوحي(*) الإلهي في فلسفة عقلية مسلَّمة لا يقبل مناقشتها.
وفي ظل الإرهاب الفكري الذي مارسته الكنيسة انكمش نشاط العقل الأوروبي، وانحصر فيما تمليه الكنيسة والمجامع المقدسة، واستمرت على ذلك عشرة قرون.
وفي عصر النهضة(*)، ونتيجة احتكاك أوروبا بالمسلمين - في الحروب الصليبية والاتصال بمراكز الثقافة في الأندلس وصقلية والشمال الإفريقي - أصبح العقل الأوربي في شوق شديد لاسترداد حريته في التفكير، ولكنه عاد إلى الجاهلية(*) الإغريقية ونفر من الدين(*) الكنسي، وسخَّر العقل(*) للبعد عن الله، وأصبح التفكير الحر معناه الإلحاد(*)، وذلك أن التفكير الديني معناه عندهم الخضوع للفقيد الذي قيدت به الكنيسة العقل وحجرت عليه أن يفكر.
يتضح مما سبق :
أن العقلانية مذهب(*) فكري فلسفي يزعم أن الاستدلال العقلي هو الطريق الوحيد للوصول إلى معرفة طبيعة الكون والوجود، بدون الاستناد إلى الوحي(*) الإلهي أو التجربة البشرية، وأنه لا مجال للإيمان بالمعجزات أو خوارق العادات، كما أن العقائد الدينية يمكن، بل ينبغي أن تختبر بمعيار عقلي، وهنا تكمن علله التي تجعله مناوئاً ليس فقط للفكر الإسلامي، بل أيضاً لكل دين سماوي صحيح.
-------------------------------------------------------------------------
مراجع للتوسع :
- مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب، دار الشروق - بيروت ط1407هـ.
- الموسوعة الفلسفية المختصرة، بإشراف د. زكي نجيب محمود دار القلم ، بيروت.
- قصة الفلسفة الحديثة، أحمد أمين، زكي نجيب محمود، لجنة التأليف والنشر القاهرة 1978م.
- تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم، دار المعارف - القاهرة.
- درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بتحقيق د. محمد رشاد سالم.
=============(57/28)
(57/29)
ليسوا عقلانيين .. وإنما هم أهل أهواء
الدكتور / جعفر شيخ إدريس
شاع في عصرنا اصطلاح "العقلانيين" وصفاً لأصحاب المناهج المنحرفة عن المنهج الصحيح لفهم الدين وتفسير نصوصه واستخلاص النتائج منها. وهذا مصطلح غير سديد.
أولاً: لأن فيه اعترافاً ضمنياً بأن العقل يمكن أن يكون مخالفاً للشرع؛ هذا مع أن المستعملين لهذا الاصطلاح يؤمنون بموافقة صريح المعقول لصحيح المنقول. فلماذا إذن نستعمل اصطلاحاً يتضمن تقريراً لأمر ننكره؟
ثانياً: لأننا لا نجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن إنساناً ضل بسبب عقله، وإنما نجد أن الضالين هم الذين لا يعقلون ولا يتدبرون ولا يتفكرون ولا ينظرون، وأن المهتدين هم أصحاب العقول وأولو الألباب: "أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب" [الزمر: 18].
ثالثاً: لأن هنالك فرقاً بين العقل والهوى؛ فالإنسان يضل بهواه لا بعقله، ولذلك كان السلف يسمون المعتزلة وأمثالهم أهل الأهواء لا العقلانيين كما يسميهم الآن بعض المعاصرين تقليداً لبعض المستشرقين.
رابعاً: ولأن هنالك فرقاً بين الرأي والعقل، فما كل رأي هو على مقتضى العقل حتى لو كان صاحبه مجرداً عن الهوى، وإنما الرأي رأيان: رأي صائب فهو موافق للعقل ضرورة، ورأي غالط فلا يمكن أن يكون من مستلزمات العقل.
خامساً: لأن وصف أمثال هؤلاء بالعقلانيين فيه فتنة لهم؛ فقد يزيد أحدهم غروراً فيذهب يقول متباهياً: أجل نحن العقلانيون، نحن المفكرون، وما أنتم إلا حشوية جامدون مرددون لما لا تفقهون.
سادساً: لأن أئمة أهل السنة من أمثال أبي سعيد الدارمي وابن تيمية لم يكتفوا بالكلام المجمل في أن المذهب الحق هو الموافق للعقل؛ بل بينوا ذلك بياناً مفصلاً شافياً، كما ساقوا البراهين العقلية الدالة على مخالفة أهل الأهواء لمقتضيات العقل، ودللوا على أن ما ادعوا بأنه عقليات إنما هو جهليات، ما أنزل الله بها من سلطان عقلي ولا شرعي.
سابعاً: لأن كل أمر من أمور الدين يمكن أن يُستدل عليه بدليل عقلي!
أكرر: (كل أمر) سواء كان في الاعتقاد أو في العبادات أو في المعاملات، وسواء كان في أصول الدين أو في الفروع الفقهية. وعليه فإن العقلانيين حقاً هم أصحاب المنهج الحق، مذهب أهل السنة والجماعة.
إن الاقتناع بالدليل العقلي يعتمد على أمرين: أولهما: أن يكون المخاطَب عاقلاً، فإذا لم يكن كذلك فلا سبيل إلى مجادلته أو إقناعه، وثانيهما: أن تكون مقدماته صحيحة مؤدية إلى النتيجة المبتغاة. لكن المقدمات منها ما هو بيِّن بنفسه يدرك العاقل صحته ببداهة عقله، ومنها ما يعتمد هو نفسه على دليل آخر. وهذا هو الذي يحدد طول دليلك أو قصره مع من تخاطب. قد يسلِّم من تخاطب بأول مقدمة من دليلك فيكون الدليل قصيراً، وقد يحتاج إلى أن تدلل له على صحة بعض مقدماتك، إذا كان لا يسلِّم بها فيكون الدليل طويلاً.
فمن الأدلة القرآنية القصيرة جداً دليل على وجود الخالق يقوم على مقدمتين بدهيتين لدى كل عاقل، ولا يماري فيهما إلا مكابر. وهما: أنه لا شيء يأتي من العدم المحض، ولا شيء يخلق نفسه: "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون" [الطور: 35]؛ لكن هب إنساناً زعم أن البعث أمر مستحيل كما كان بعض منكريه من العرب يدعون. ستقول له ما قرر القرآن: إن الذي خلقه أول مرة قادر على إعادته؛ لكن هذا الدليل يعتمد على تسليمه بأن الله - تعالى - هو الذي خلقه. فإذا أنكر ذلك احتجت لأن تبرهن له على وجود الخالق. قد تقول: هذه أمثلة بدهية واضحة؛ لكن ما كل مسائل الدين كذلك؛ بل منها ما نسلم به مجرد تسليم!
وأقول: لكن التسليم نفسه هو مقتضى العقل؛ فكيف يكون ذلك؟
وعلى أي شيء تبني تسليمك بأن المغرب ثلاث ركعات مثلاً؟ إنك تبنيه على أن هذا ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم . لكنك لو شئت لمددت حجتك فقلت: والرسولل صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى؛ فكل ما أمر به فهو من أمر الله، والله - تعالى - لا يقرر إلا حقاً، ولا يأمر إلا بخير: "وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا" [الأنعام: 115]. إن كل عاقل يسمع ما تقول يدرك أن مقدماتك التي ذكرت تؤدي إلى وجوب التسليم بأن المغرب ثلاث ركعات. أقول: إذا كان عاقلاً منصفاً فسيرى هذا حتى لو لم يكن يؤمن بما تؤمن به من مقدمات. وأما إذا أراد أن يسلِّم بما سلمت به فسيسألك الدليلَ على صحة بعض مقدماتك. كأن يقول لك: ما الدليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم- قال ما نسبتَ إليه؟ أو: ما الدليل على أن محمداً رسول الله؟ وهكذا. وكل هذه أسئلة عليها أدلة عقلية: إن علمتها ذكرتها لصاحبك، وإن لم تعلمها أحلته على من هو خبير بها.
قد تقول: لكن هب أن صاحبي قال: إنه لا يريد دليلاً يقوم على مثل هذه المقدمات الدينية؛ بل يريد دليلاً مباشراً!
فأقول: إن صاحبك لا يكون إذن عاقلاً. إن النتائج إنما تبنى على المقدمات التي تناسبها، والتي من شأنها أن تؤدي إليها، فإذا كان مسلِّماً بها سلَّم بالنتيجة، وإذا لم يكن مسلِّماً بها كان من حقه أن يطلب الدليل على صحتها. ليس له إلا هذا.(57/30)
قل لصاحبك هذا: ما الدليل على أن 4 × 5 =20؟ فإذا بدأ يقول لك إن 4 × 5 معناها 4 + 4 + 4 + 4 + 4 فقل له: أنا لا أريد دليلاً مبنياً على الجمع، بل دليلاً مباشراً. سيقول لك: فكرة الضرب مبنية على فكرة الجمع، وإذا كنت لا تعرف الأخيرة ولا تسلم بها فلا يمكن أن أعطيك دليلاً على الأولى. وكذلك الأمر بالنسبة لعدد ركعات المغرب؛ فإن الدليل عليها مبني على التسليم بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى الإيمان بالله.
ذلك هو موقفنا من العقل. فما موقف أصحاب الأهواء؟
لقد أجاب أئمة أهل السنة عن هذا السؤال بكثير من التفصيل فيما يتعلق بأصحاب الأهواء في عصرهم، وبقي علينا نحن أن نفعل الشيء نفسه بالنسبة لمن في عصرنا، ولا نكتفي بوصفهم بالعقلانيين للأسباب التي ذكرتها. وقد أبلى بعض مفكرينا المعاصرين في هذا بلاء حسناً، وكنتُ قد رددتُ في مقال سابق في هذه الزاوية على مفهوم بعضهم الغالط لقاعدة صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، وربما تعرضتُ في مقالات لاحقة إلى بعض دعاواهم ومبادئهم الأخرى ـ إن شاء الله تعالى - وإذا كان لبعض إخواننا القراء من اقتراحات في هذا المجال فأرجو أن لا يبخلوا علينا بها، ولهم منا الشكر، ومن الله الأجر ـ إن شاء الله.
http://www.alkashf.net المصدر:
============(57/31)
(57/32)
العقلانية المبهمة
خالد حسن
يبدو أن "العقلانية" استقرت في أدبيات عدد من المشتغلين بالفكر الإسلامي وفي قاموس عدد من الكتاب والمفكرين باعتبارها أقدر المناهج على توفير الاستفادة العلمية من التراث، وعلى النظر والاستدلال الشرعي.
وما يدعو إليه هذا الجمع من الكتاب وأهل الرأي اليوم ليس جديدا، فإن أكثر من تولى النظر في عملية النهوض بواقع العالم العربي والإسلامي، لم يتردد في أن يجعل "العقلانية" في صدارة وسائل النهوض.
والدعوة إلى العقلانية اشتركت فيها تيارات إسلامية على اختلاف اختياراتها العقدية تزايدت في الشدة والانتشار على مدى فترة استغرقت قرنا ونصفا من الزمن وامتدت من نصف القرن التاسع عشر إلى نهاية القرن العشرين. دون أن يجددوا النظر في مسألة العقلانية، من خلال تمحيص مناهجها وقيمها، حتى يتبين لهم حدود وفائها بالأهداف الإصلاحية والتغييرية التي عُلقت عليها، بل وأكثر من ذلك، ظل هؤلاء الكتاب والمفكرين في غفلة عن أولوية التمحيص الملحة.
وإلى الآن لم يتفق دعاة هذا المنهج على تعيين النصوص التراثية التي يرونها أفضل تمثيل للنموذج العقلاني.
وهنا يبدو القصور فيما دعا له كثير من أهل الرأي والفكر، حيث إنهم:
- لم يبرهنوا على جدوى استخدام الآليات العقلية المنقولة من سياق الآخر، من مفاهيم وقواعد ومناهج ونظريات.
- لم يخضعوا هذه الآليات العقلانية للنقد الشامل، حتى تتبين "قدرتها التحليلية وكفايتها الوصفية وقوتها الاستنتاجية".
- لم يتعرضوا لنقد "العقلانية المعاصرة" من حيث هي "اختيار منهجي مخصوص"، فضلا على الارتباك والتضارب في تعريف "العقلانية".
بل إنهم لم يناقشوا أصلا المعايير التي ينضبط بها تعريف للعقلانية، ومن أبرزها: معيار الفاعلية، ويتعلق بالوسائل، معيار التقويم، ويتعلق بالمقاصد، ومعيار التكامل، ويتعلق بالنفع في المقاصد والنجوع في الوسائل. والمقام لا يتسع للتفصيل فيها حتى لا نغرق في الجانب للفلسفي والاصطلاحي لمسألة "العقلانية". وينبغي التنويه إلى أن التعريف الذي كان له بالغ الأثر في نقد التراث الإسلامي، هو "التعريف الأرسطي"، وثانيهما حديث لا يقل أثرا في الخطاب الإسلامي والعربي المعاصر، وهو "التعريف الديكارتي".
إن ما يمكن قوله الآن، اعتراضا على العقلانية "المبهمة" التي تطالب بها جمهرة من الكتاب وأهل الرأي في التعامل مع التراث وآلية للاجتهاد والاستنباط، أنها مشبعة بالتجريد ونقص التوجيه ما يجعلها غير كافية، بل بحاجة إلى التغيير والتطويع والتنقيح، يمكن أن تكون مؤهلة للظفر بحقيقة وطبيعة المعرفة التراثية. خاصة وأن هذه المعرفة ليس ذات اتجاه نظري خالص كأدوات العقلانية المنقولة، وإنما لها ارتباط راسخ بما يعرف بـ"الحقيقة العملية". ذلك أنها تتصل بالقيم السلوكية وتكتسب بالتعاون مع الغير في إظهار الصواب وتحقيق الاتفاق.
والذي اندفع في عملية إنزال لمعايير العقل النظري المنقولة على مثل هذه "الحقيقة العملية" الذي تميز بها التراث، انتهى إلى أحد أمرين: إما أنه استبعد أجزاء من التراث بحجة ضآلة درجتها من العقلانية، وإما إلى حمل أجزاء منه على وجوه من التأويل تفصلها عن بقية الأجزاء الأخرى، ولا يخفى ما في هذا من تعسف وتجني.
وليت المشتغلين بتقويم التراث والداعين لتبني "العقلانية" في النظر والاستنباط والاجتهاد، تنبهوا إلى أن "النظر في النصوص التراثية يستلزم بالضرورة الالتفات إلى الوسائل الذاتية التي انبنت عليها هذه النصوص والمضامين. ".
وغالبا ما يرتبط الحديث عن "العقلانية"، في سياق الدعوة إلى التجديد، وكأنهما شرطان متلازمان، أو بما يوحي أن حركة التجديد الإسلامي المعاصرة قامت على "العقلانية المبهمة"، ونكتفي هنا بأهم الشروط النظرية والعملية التي ينبغي أن تتحقق في أي حركة تجديدية إصلاحية إسلامية، ومجموع هذه الشروط هي محصلة ما كتبه الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن والمفكر الإسلامي الشيح جعفر إدريس والمفكر والأديب د. محمد الأحمري، ونكتفي بذكر ثلاث شروط أساسية، ليست "العقلانية المبهمة" واحدة منها.
أولا: التحقق بالعمل الشرعي: وذلك يتحقق "الإنتاج الفكري التجديدي" بصفات العمل الشرعي، حتى لا تحرم من التوفيق الرباني، وهذا ردا على من فصل بين عملية الإنتاج الفكري وبين الممارسة الشرعية، حتى صار البعض منا يقسم المعرفة إلى قسمين: قسم له علاقة بالقيم العقدية مثل العلوم الشرعية والعقدية وقسم لا علاقة له بهذه القيم، مثل العلوم الرياضية والطبيعية، متجاهلا أن العلوم وشعب المعرفة، أيا كانت، ينبغي أن تخدم الحقيقة الشرعية من جهتين، إما باعتبارها كاشفة عن المقاصد الشرعية، وإما باعتبارها ضابطة للوسائل التي تمكن من الكشف عن هذه المقاصد، وهذا هو العاصم من دخول الانحرافات على مسار البحث العلمي وعلى مجرى التطبيق التقني.
ثانيا: استعمال العلم: فالتجريد إنما نتج عن "الانقطاع عن العمل" وتجاهل قيمته الفعلية في توجيه النظر والرأي، وهناك حقيقة مغيبة: أن إمكانيات البناء والتجديد النظري لا إلزام فيها إلا بالقدر الذي نلزم به أنفسنا.(57/33)
ثالثا: التوسل في النظر بمفاهيم عملية شرعية: من خلال التمكن من العلم الشرعي فهما ودراية ومنهجية في التلقي والاستدلال.
22/12/2004
http://www.alas صلى الله عليه وسلم ws :المصدر
============(57/34)
(57/35)
بروتوكولات صهيونية جديدة لتدمير الشباب المصري
نور الإسلام_ 9 مايو, 2007 م_ نشرت صحيفة "لوبوان " الفرنسية دراسة خطيرة أجرتها جامعة تل أبيب الصهيونية،تحرض فيها الشباب و الشابات الصهاينة على إلهاء الشباب المسلم المصرى عن التدين ونشر الفجور بينهم ، وتناولت الدراسة توصيات تشبه بروتوكولات حكماء صهيون التى أصدرها حاخامات الصهيونية عام 1903بهدف السيطرة على العالم سياسياً واقتصادياً وإعلامياً.
الدراسة أكدت أن النمو الديني والتربوي عند الشباب المصري تزايد إلى حد كبير وتمثل ذلك في أن أكثر من 85 % من الفتيات المصريات يرتدين الحجاب و60 % من الشباب يحملون المصاحف وهو مااعتبرته الدراسة يمثل خطراً كبيراً على أمن الكيان الصهيوني .
أرجعت الدراسة هذا الزحف الديني على قلوب الشباب إلى القنوات الفضائية الدينية التي أثرت بشكل كبير على عقول الشباب في الفترة العمرية ما بين 16 إلى 25 عامًا حيث يكون الشباب في مرحلة تكوين عقلي وتتسم عقولهم بالانفتاح ويتأثرون بالعاطفة، وأكدت الدراسة خطورة تأثرهم بالفضائيات الدينية التي أثرت عليهم بشكل كبير.
قالت الدراسة إن القنوات الفضائية لعبت دورًا له تأثير كبير في نفوس الشباب بدعوتهم إلى مكارم الأخلاق والعبادة والتقرب إلى دينهم وقراءة القرآن وشرح الآيات التي تتناول اليهود وحياتهم وطبائعهم، وهو ما يعني زيادة العداء للكيان الصهيوني الذي ربما يصل إلى حد العنف.
أضافت الدراسة إن هناك عددًا من القنوات الإسلامية التي استطاعت جذب الشباب إليها وأهمها "الناس" و"المجد" و"الرسالة" و"اقرأ"، بالإضافة إلى اسطوانات دينية تباع بأسعار زهيدة ويتبادلها الشباب. وقالت إن الشباب أقبل على هذه القنوات لأن شيوخها ومقدمي البرامج فيها تقربوا للشباب بعقولهم وتحدثوا بلغتهم وارتدوا زياً معاصراً بعيداً عن الزي الإسلامي التقليدي، كما أصبحت لغة الخطاب الديني في تناول القضايا بها الكثير من المرونة.
أوضحت الدراسة أن أكثر من 85 من الفتيات المصريات أصبحن يرتدين الحجاب ،و60% من الشباب يحمل القرآن معه أينما ذهب ،وتتسم تصرفاتهم بقدر كبير من العقلانية والتروي بخلاف ما كان عليه الشباب قبل عشر سنوات حيث كان يظهر عليه التوحش الجنسي والإقدام على الخطايا و الذنوب.
اختتمت الدراسة ببعض التوصيات للشباب الإسرائيلي المستخدم لشبكة الإنترنت وقالت لهم :
ـ أدوا واجبكم.
ـ اعملوا ما تقدرون عليه لإلهاء الشباب المصري عن حياته الدينية الجديدة.
ـ على الفتيات والشواذ الإسرائيليين إرسال صورهم وهم في أوضاع مخلة على الإنترنت للشباب المسلم المصرى.
ـ أطلبوا التعارف والصداقة على مصريين شباب عسى أن يكون لهذا نتيجة "إيجابية.
ـ من يستطع إفساد شاب مصرى مسلم فقد فاز فوزاً كبيراً.(57/36)
(57/37)
العقلانية العوراء والليبرالية العرجاء!*
فوزية الخليوي
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة
ان المتتبع لكتابات احمد البغدادي (كاتب كويتي) من التيار الليبرالي؟!! يعجب أشد العجب من عناوين مقالاته التي يخطف بريقها الأبصار والبصائر , فهو يحرص على إقحام التيار الديني فى مقالاته, والتهكم عليه بأقذى الألفاظ ؟؟؟
" حين يحل ظلام التخلف"..."سلطة الموتى"...."الجمود في التعليم الديني"... الحرية الفكرية والفكر الديني ضدان لا يلتقيان... فضل العلمانيين على أهل الإسلام.... هشاشة الفكر الديني.............
وعند النظر فيها تجدها معولمة من حيث الصياغة والمصطلحات، معولمة في محاورها ومحتوياتها ومعاييرها ,...فى تنظير فاق الكاتب فيه الكتابات الغربية المعادية للإسلام , غابت فيها قضايانا وهمومنا الا الهم الديني ؟!!! فلا يعكر رونقها فقر ولا بطالة، ولا فساد ولا ظلم، ولا ولا ...
في وقت نحن أحوج مانكون اليه من أطروحات أبناءنا...عندما انتهكت إنسانيتنا ,وجندرت نساءنا, وهشمت أوطاننا, وسلبت حرياتنا!!!!
خاصة مع انشغال البقية الباقية التي تقضى بقية أوقاتها في احتفاليات فضائية مبهرة !!!
مع تمجيده لليبرالية التي تدعو الى التسامح, والعقلانية و والفهم الواقعي لمعطيات الحياة , وتحترم الخلاف,وتؤمن بخصوصية الفرد وحرية المجتمع؟!!!!!!!
وقد وصل به الأمر الى ان يجعل من ثوابتنا الدينية , وشواهدنا التاريخية مطية له لتمرير بضاعته المزجاة ؟؟؟
الأمر الذى دأب السلف على نبذه وعاقب فاعله, فهذا:
* هارون الرشيد فقد حكي عنه العالم ابو معاوية الضرير : كنت أقرأ على أمير المؤمنين الحديث , وكنت كلما قلت قال رسول الله! قال : صلى الله على سيدي ومولاي.
حتى ذكرت حديث" التقى آدم وموسى! فقال رجل من وجوه قريش : أين التقيا؟
قال : فغضب هارون !!وقال: على بالنطع والسيف!زنديق والله يطعن في حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم ؟
قال , فما زال ابو معاوية يسكنه ويقول: كانت منه بادره ولم يفهم با أمير المؤمنين, حتى سكنه" تاريخ بغداد 14/8
ولا يقتصر هذا على المسلمين فقط , بل يشمل الذين يطبل لهم الكاتب ويزمر لهم ممن يتغنون بالحرية الغربية!!
فبعد نشر كتاب" الأساطير المؤسسه للسياسة الإسرائيلية" لروجيه جارودى تجددت الاتهامات بعنف وأقامت 15 جمعية صهيونية دعوى قضائية ضد المؤلف واتهمته فى عريضة الدعوى بالتحريض على الكراهية العنصرية والتحريض على أعمال العنف ضد اليهود وإنكار الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية وأشترك فى إقامة الدعوى جمعيات قوية مثل" الرابطة الدولية لمناهضة العنصرية والمعاداة للسامية" "والحركة المناهضة للعنصرية من اجل الصداقة بين الشعوب "
وكان مجموع العقوبات طبقا للتهمة الموجهة تقضى بحبس المؤلف 16 شهرا مع إمكانية وقف تنفيذ الحكم بسبب التقدم فى العمر إضافة إلى غرامات تصل فى مجموعها 150 ألف فرنك.
ولتلبيس مقالاته على جماهير المسلمين لما فيها حيفٍ شديد على الأدلة الشرعية والثوابت الدينية , فقد بادرت للكتابة لأبين بعضاً من مغالطات الأستاذ,وقد أقدمت على هذا الرد امتثالا لقول الله تبارك وتعالى " والذين اذا أصابهم البغي هم ينتصرون"
(1) تحريفه للشواهد التاريخية:
قال الكاتب: فى مقال سجناء الرأي فى التاريخ الأسلامى :في حادثة سقيفة بني ساعدة حيث اختلف المسلمون حول من يكون خليفة رسول ا صلى الله عليه وسلم في المسلمين ، وحدث التنازع بين مرشحي الأنصار والمهاجرين ، وهما سعد بن عبادة وأبو بكر الصديق ، وبعد نقاش حاد وطويل قدم فيه مؤيدو كل مرشح حججهم المؤيدة لصاحبهم ، بايع المسلمون أبا بكر الصديق ، ماذا كان مصير المرشح المنافس المخالف لهم في الرأي ، وفقا للمصادر التاريخية ، إن الجمع الموجود وثب على سعد ووطئوه بأقدامهم ، حتى قال قائلهم : قتلتم سعد بن عبادة !! السجن كان أرحم .
* قال شيخ الأسلام ابن تيمية عن المبايعة : ولم ينكر ذلك منهم منكر , ولا قال أحد من الصحابة : ان غير ابى بكر من المهاجرين أحق بالخلافة منه , ولم ينازع أحد فى خلافته الا بعض الأنصار طمعا ان يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير , وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بطلانه , ثم الأنصار جميعهم بايعوا ابا بكر الا سعد بن عبادة لكونه هو الذى كان الذى يطلب الولاية ( منهاج السنة النبوية 1/ 518)
وحاشا للصحابة ان يقع بينهم ما يدعيه من اقتتال بل الذى جاء فى الرواية كما ذكرها ابن سعد فى الطبقات ( 3/ 616) عن عمر : قلت لأبى بكر ابسط يدك , فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة وكان مزملاً بين ظهرانيهم , فقلت : ماله؟ فقالوا : وجع , قال قائل منهم : قتلتم سعدا , فقلت : قتل الله سعدا انا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمرنا أقوى من مبايعة أبى بكر .
(2) التشكيك بمصادر السنة:(57/38)
قال الكاتب.( مقال سلطة الموتى ): "ولا يعقل أن البخاري ومسلم أو غيرهما لم يخطئوا ، ليس فقط لأن ذلك مناف لأبسط قواعد العقل والمنطق ، بل لأنه يعارض أيضا الحديث النبوي [[ كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ]] . ولا يمكن لكتاب يتألف من عدة مجلدات أن يكون خاليا كل الخلو من أي خطأ ، مع العلم إن (( صحيح مسلم )) مثلا يتضمن أحاديث لم ترد في البخاري ، والعكس صحيح ، إضافة إلى ما تتضمنه هذه الكتب من أسماء لا يمكن عقلا أن نقبل أنهم جميعا لم يخطئوا أو ينسوا خاصة أن الحديث قد ورد إلينا بمعناه ، لا بلفظه ، كما هو الحال النص القرآني ، أو الحديث القدسي .
على الرغم من كل هذه الاحتمالات للتخطئة وهي احتمالات منطقية ، يقف صاحب العلم الشرعي الذي يدرس في كلية الشريعة أو المعهد الديني أو حامل درجة دكتورة الفلسفة ، جامدا كالصنم لا ينطق إلا وفق ما يمليه عليه هذا الكتاب أو ذاك . لم يجرؤ أحد الفقهاء أو دكاترة الشريعة إلى الآن على دراسة تلك الكتب (( الصحاح )) وتنقحيها وتنقيتها ، والبحث في تناقضاتها ، هل يعقل أن البخاري لا يخطئ ؟ أو أن ( مسلم ) لا يخطئ ؟
* قال الحافظ العلائى: ان الأمة اتفقت على ان كل ما أسنده البخارى ومسلم فى كتابيهما الصحيحين و فهو صحيح لاينظر اليه"
* وممن حكي الإجماع الحافظ ابو نصر الوائلى السجزى قال " اجمع أهل العلم الفقهاء وغيرهم على ان رجلا لو حلف بالطلاق ان جميع مافى كتاب البخارى مما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه ورسول ا صلى الله عليه وسلم قاله لاشك فيه انه لايحنث والمرأة بحالها فى حبالته" علوم الحديث (38)
* وعن حكم النظر فى أسانيدهما فقد قال علامة الهند ولى الله الدهلوى " أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على ان جميع مافيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع, وأنهما متواتران الى مصنفيهما , وأنه كل من يهون من أمرهما فهو مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين" (حجة الله البالغة 1/ 283)
(3) دفاعه عن أهل الانحراف :
* قال الكاتب .( مقال :حرية الرأي في العالم العربي :
والتيار الديني يسعى بشكل محموم ومجنون للقراءة المتصيدة ، وإساءة التفسير لمختلف الألفاظ والدلالات في أي مقال أو قصة أو رواية أو بحث ، وتحميل الألفاظ أكثر مما تحتمل ، لا لهدف سوى إيقاع الكاتب في قبضة القانون.. على سبيل المثال ما حدث في مصر على إثر نشر رواية [ وليمة لأعشاب البحر ، للروائي السوري : حيدر حيدر ]
* بعد مظاهرات دامية داخل المدينة الجامعية لجامعة الازهر, تصاعدت الأحداث مع صدور بيان مجمع البحوث الإسلامية موقعا باسم فضيلة شيخ الأزهر, وادان البيان الرواية لحيدر حيدر, واعتبرها كافرة لان بها فقرات تستهزئ بذات الله .. مثل وصفه بأنه فنان فاشل,
وتفترى على الرسول بأنه تزوج لأكثر من عشرين , وأكد التقرير ان الرواية تحرض على الخروج عن الشريعة الإسلامية وخرجت عن الآداب العامة - خروجا فادحا - بالدعوة الى الجنس غير المشروع ,وأدان التقرير تولى وزارة الثقافة نشر هذه الرواية فمن عباراته:
*.." إن رب هذه الأرض كان يزحف وهو يتسلل من عصور الرمل والشمس ببطء السلحفاة.."..
لا بد أن ربك فنان فاشل إذن..
.. " .. الله الله يا ولد يا داود.. لقد غفرت لك .. انكح كل صبيان بونة وأنا شفيعك يوم القيامة.."..
.. " وخلع الجلد المتخلف والبالي الذى خاطه الإسلام فوق جلودنا القديمة.." ..
وقال الكاتب: كل المنتمين الى التيار الديني يرفضون حرية التعبير المطلقة كممارسة عملية احتجاج بالثوابت الدينية التي صنعوها وفرضوها بالإرهاب على الآخرين, حتى التاريخ مقدس لايجوز نقده او دراسته, ومن يعارضهم في ذلك يقتلوه اغتيالا كما حدث مع فرج فودة,؟؟؟
أو يسلطوا عليه القانون غير الآدمي وينفوه ويدمروا حياته, كما حدث مع الأخ د. نصر حامد ابو زيد.
حكم على الدكتور بالردة بسبب كتاباته منها" نقد الخطاب الدينى , وطولب بالتفريق بينه وبين زوجته ,انظر مقال: نصر حامد أبو زيد ... و ( الهرمنيوطيقيا ) لسليمان الخراشى .
أما ملالي إيران فقد تجاوزوا الجميع, وحكموا بالإعدام على من ينتقد رجال الدين؟؟؟ (يقصد سلمان رشدي)
هو فتوى الخميني بإهدار دم المؤلف سلمان رشدي الهندي الأصل البريطاني الجنسية وكان أن ردت بريطانيا بتجميد علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، ووزير خارجية هولندا ألغى زيارته المقررة إلى طهران ردا على فتوى الخميني ووصفها بأنها دعوة للإرهاب . وكان سلمان رشدي مسلما ثم ارتد وأعلن ذلك وتجنس بالجنسية البريطانية.
آيات شيطانية تأليف : سلمان رشدي - عليه من الله مايستحقه ,البطلان الرئيسيان فى الرواية يرمزان إلى النبى صلى الله عليه وسلم وجبريل اللذين يصلان إلى لندن بطريقة غير قانونية ويقومان بمغامرات للتغلب على رجال الجوازات والهجرة ويعيشان بعد ذلك حياة النبى عليه الصلاة والسلام.(57/39)
..ومما يتضمنه الكتاب الكثير من الكفر والمساوئ، فممنوع على المسلم أن يحك جلده فى بعض أماكن من جسده، والحجاب أطلق عليه الماخور أو الملهى الليلي أما الشذوذ فمباح فى الإسلام. وفى الماخور 12 غانية أطلق عليهن أسماء زوجات النبى ويتمادى الكاتب فى كفره فالقرآن إيحاء من الشيطان، وبعض الصحابة فى ادعاءاته سكارى ومتشردون وفى الجملة فالرواية تهاجم حياة النبى عليه الصلاة والسلام.
وقال:المواطن ياسر الحبيب (متهم) بتوزيعه شريط كاسيت يتضمن شتما او نقدا (كما يدعي) للصحابة (لم اسمع الشريط حتى احكم عليه بل وليس من حقي أو حتى اي جهة او فرد الحكم عليه الا بعد صدور الحكم القضائي).
وان يعتقل صاحبه من قبل امن الدولة (كما صدر في الصحف) قبل الإحالة الى النيابة العامة, فهذا مخالف للقانون وشطط مابعده شطط, وخروج على دولة القانون, وقيام شريعة الغاب, ثم بعد ذلك يقوم النواب بتحريض وزير الداخلية ضد هذا المتهم, وفي الداخلية مجانين كفاية من التعصب الأعمى والأهوج, فهذا بحد ذاته جنون مابعده جنون.(من مقال (34)?
حسبما ورد فى تقرير منظمة العفو الكويتية ان ياسر الحبيب حُكم عليه غيابياً بالسجن 10 سنوات وقد وُجهت إليه تهم "سب صحابة النبي محمد، والتعرض لمذهب ديني" ومن أقواله: يتهم أم المؤمنين عائشة بالزنا صراحة وباغتيال رسول ا صلى الله عليه وسلم , يتكلم في سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه متهما إياه بالشذوذ الجنسي,ويطالب بهدم مساجد أهل السنة ,...."
(4) ينصب العداء على التيار الديني :
• طباعة الكتب الدينية تجارة مربحة لأهل هذه الصنعة، حيث لا حقوق نشر، وحيث لا جهد في إعادة النظر في هذه الكتب التراثية المملوءة بالأساطير الإسرائيلية، " من مقال كتب"
• من يحصل على شهادة علمية عالية مثل الدكتوراه يفترض فيه نظريا احترام حقوق الإنسان ... لكن يزول العجب حين نعرف أنها دكتوراه شريعة !(من مقال: فضل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على المسلمين [ 1 3
• دون ان نتجاهل دور المؤسسة الدينية المتخلفة فكريا المسماة وزارة الأوقاف في وأد الحرية الفكرية. (من مقال: أوهام الحوار الحضاري الإسلامي (1-2)
• ان الحرية الدينية التي ينص عليها القرآن الكريم, حتى لو كانت الكفر ذاته, تم وأدها بجريمة الردة.( من مقال :لا مسؤولية في حرية الفكر )
• الإرهاب الفكري تجاه المثقفين والمفكرين الليبراليين عموما والذي يمارسه الفقهاء ورجال الدين حاليا لا يتحقق إلا من خلال الاعتماد على تلك المؤلفات القديمة التي انتهت مدة صلاحيتها الفكرية . مثلا لولا بعض أحاديث الآحاد الخاصة بحد الردة والتي لا يأخذ بها ندرة الندرة من عقلاء الفقهاء ، لتم الاعتماد على الآيات القرآنية التي تقرر حرية اختيار الدين . ولما دخل المسلمون في متاهة إرهاب المثقفين ولولا ما ورد فيما يسمى بكتب الصحاح من أحاديث آحاد بعض الشروحات التي قدمها الفقهاء لما وجد الفقهاء المعاصرون الأدوات اللازمة للإرهاب الفكري (من مقال: سلطة الموتى)
• وأتحدى كل أتباع التيار الديني أن يقدموا لنا كتابا من مؤلفاتهم يتسم بالعقلانية والمنطق في شرح الأمور هذه المجتمعات لو دققنا النظر جيدا سنجدها خاضعة لأوهام العفاريت والجن وتفسير الأحلام . (من مقال: التاريخ أمامنا ... وأتحداكم)
وأنا هنا أنقل للكاتب وغيره حكم الاستهزاء بالدين, أو بشيء من القرآن, أو السنة:
كفر ناقل عن الملة كما قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65 66]
قال ابن تيمية: " بيّن أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر, يكفر به صاحبه بعد إيمانه, فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف, ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم, ولكن لم يظنوه كفراً وكان كفراً كفروا به , فإنهم لم يعتقدوا جوازه" مجموع فتاوى شيخ الإسلام 7/220 -557
------------------------
* استعرت هذا العنوان "العقلانية العوراء والليبرالية العرجاء",مقال د. نصر حامد ابو زيد , ينتقد فيه الليبراليون مع كونه واحدا منهم !! (المصدر: جريدة "المصري اليوم" بتاريخ 31 جولاى 2006 )
=================(57/40)
(57/41)
المثالية
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف :
المثالية مذهب(*) فلسفي يشمل جانباً كبيراً من المذاهب الميتافيزيقية(*) (ما بعد الطبيعة أو الغيبية) وهي اتجاه فلسفي يبحث عن مسألة الوجود (أوْ الانطولوجيا) في حين أن العقلانية اتجاه مذهبي يبحث في أصل المعرفة ويرد هذا الأصل إلى العقل فقط وينكر دور الحواس أو المعرفة القلبية أو المعرفة عن طريق الوحي(*)، وعكس العقلانية التجريبية وهذه الأخيرة تعتمد على التجربة الحسية فقط من دون العقل المجرد.
وعكس المثالية "المادية"(*). والمثالية تعطي الأولوية في الوجود للروح على أن يكون وجود المادة ثانوياً في حين أن المادية (*) تعطي الأولوية في الوجود للمادة، على أن تكون الروح انعكاساً للمادة وظلاً لها.
وتقترب المثالية كثيراً من الفلسفة لأنها تبلور مباحث الفلسفة الثلاثة الرئيسية: الحق والخير والجمال.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
ظهرت المثالية في القرن الثامن عشر الميلادي، ومن أبرز الفلاسفة الذين أثروا في المذهب، وكان لهم تأثير كبير في مجرى الفكر الأوروبي عامة:
جورج باركلي 1685 - 1753م وهو راهب(*) أيرلندي، كان على جانب كبير من النشاط والجاذبية الفطرية والقدرة على الإقناع ويعد المؤسس الحقيقي للمثالية، وكانت أفكاره ذات تأثير كبير فيمن جاء بعده من المفكرين والفلاسفة.
عمانوئيل كانت 1724 - 1804م وهو فيلسوف ألماني، ألف كتباً مشهورة أهمها نقد العقل(*) الخالص ونقد العقل العملي، وكان يعتقد أن هناك حجة أخلاقية كافية للبرهان على وجود الله هي القانون الأخلاقي.
جوهان فيشته 1762 - 1814م وهو فيلسوف ألماني، درس اللاهوت والفلسفة وتتلمذ على يد كانت وكان لخطبه الشهيرة في برلين بين عامي 1807 - 1808م عميق الأثر في إحياء بروسيا بعد هزائمها على يد نابليون بونابرت القائد الفرنسي الشهير.
جورج فلهلم هيجل 1770 - 1831م وهو فيلسوف ألماني كان من أكبر الفلاسفة تأثيراً في فلسفات(*) عدة مثل الوجودية والماركسية والذرائعية في مجال الديالكتيك (الجدل)(*) وكان يعتقد أن الوجود المادي مظهر للروح.
آرثر شوبنهور 1788 - 1860م وهو فيلسوف ألماني، تأثر كثيراً بفلسفة أفلاطون المثالية وكانت من كتبه العالم إرادة وفكرة وقد تأثر بالبوذية، لكنه لم يقبل مذهب(*) تناسخ الأرواح(*).
ت.هـ. جرين 1836 - 1924م وهو فيلسوف إنجليزي، أثر تأثيراً كبيراً في أكسفورد، واهتم بشكل خاص بالربط بين المثالية والنصرانية وبين المثالية والأفكار السياسية الحرة.
ف.هـ. برادلي 1846 - 1924م وهو فيلسوف إنجليزي، قال بأنه ينبغي علينا افتراض وجود مطلق يجاوز نطاق الفكر.
الأفكار والمعتقدات :
إن جوهر الحقيقة روحي، والروح لا تستطيع أن تدرك نفسها إلا في علاقتها بعنصر مادي موضوعي، وهذا هو علة وجود المادة أو كما قال هيجل: "الماد مظهر تتبدَّى به الروح".
إن الأرواح هي الفاعل وهي التي تملك إرادة.
إن الأشياء المادية المحسوسة ليست سوى مجموعات من الأفكار على حد تعبير باركلي أو من المعطيات الحسية على حد تعبير من جاءوا بعده. وإننا لا نستطيع أن نتصور الصفات التي ننسبها إلى الأشياء المادية مجردة من تجربتنا الحسية لها.
إن الأشياء الطبيعية التي لا يدركها الإنسان موجودة في علم الله، (باركلي).
إن معرفتنا مقتصر على الظواهر، ولا نستطيع معرفة الأشياء في ذاتها، كانت.
ترى المثالية أن الشر شيء عارض وعابر في الحياة؛ والأدب المثالي يحاول الكشف دائماً عن الطبيعة الخيرة والجميلة للإنسان.
الجذور الفكرية والعقائدية:
مؤسس المثالية جورج باركلي الفيلسوف الأيرلندي كان راهباً(*) عاش طوال حياته متشبعاً بالفكر الديني مولعاً بالفلسفة والفكر اللاهوتي، ومدافعاً عن الإيمان الديني والإدراك الفطري السليم. فضلاً عن محاولته وهو في منتصف عمره، إقامة جامعة لتخريج مبشرين بالنصرانية.
هذه الجذور الدينية العميقة كان لها أكبر الأثر في توجهه الفلسفي نحو القول بالمثالية. وأنه لا حقيقة إلا للروح ولخالقها، الله - تعالى- وأن الوجود المادي وجود ظاهري يحس به الإنسان ويدركه بعقله فقط. ويظهر الأثر المباشر لآراء باركلي في الفيلسوف كانت الألماني.
الانتشار ومواقع النفوذ :
انتشرت المثالية في أوروبا عامة وألمانيا بصفة خاصة.
يتضح مما سبق :
أن المثالية مذهب(*) فلسفي، يرى أن العقل(*) هو أساس المعرفة وأنه هو الحقيقة النهائية، فالمادة مظهر تتبدّى فيه الروح، والأرواح هي الفاعل وهي التي تملك إرادة، كما يقول المذهب النقدي عند الفيلسوف كانت.
----------------------------------------------------------------
مراجع للتوسع :
- الموسوعة الفلسفية المختصرة، ترجمة فؤاد كامل ورفاقه، دار القلم بيروت.
- تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم - دار المعارف - القاهرة.
- Dialogues between Hyla r and Philonou r by G. Be r keley, Collie r , New Yo r k 1910.
- Philosophy of r ight. G. Hegel, t صلى الله عليه وسلم T.M. Knox O.U.P. Oxfo r d. 1942.
- Hegel: A r e - examination by J.N. Findlay, London 1958.(57/42)
- Histo r y of Philosophy by F.C. Copleston Bu r ns. London 1947.
- Histo r y of Mode r n Philosophy by H. Hoffoling, London 1956.
=============(57/43)
(57/44)
نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية
د / محمد أحمد مفتي
إعداد وانتقاء سليمان الخراشي
( يؤكد " موريس دوفرجيه " أن الدميقراطية الليبرالية تعمل ضمن إطار الرأسمالية التي تعني أن السلطة لا ترتبط فقط بالانتخابات ـ كما يدعي الإجرائيون ـ وإنما برجال المال والأعمال المسيطرين على الواقع السياسي والاقتصادي في الدولة ، مما يؤكد كون الديمقراطيات الليبرالية هى " بلوتو ديمقراطيات " قائمة على سيطرة الأغنياء ، وقدرتهم على توجيه دفة المجتمع ، والتحكم في الانتخابات ونتائجها) .
(ويبدو أن المدرسة الإجرائية ـ بافتراضها العقلانية و الرشد في الأفراد ـ قد وقعت في الخطأ ذاته الذي عابته على النظرية الكلاسيكية ، كما أنها بافتراضها خلو الديمقراطية من القيم ، سعت نحو تعميم النظام الديمقراطي وإضفاء صبغة العالمية عليه ، دون النظر إلى العوامل والظروف المرتبطة بنشأة الديمقراطية وقيامها واستمرارها في المجتمعات الغربية . أضف إلى ذلك ، أن قصر قيام الديمقراطية على توفر الانتخابات ، واختزالها في حق التصويت والاختيار للمرشحين الذين يعتلون سدة الحكم ، يفرغ الديمقراطية من محتواها ، فهناك الكثير من الأنظمة التي يقوم فيها الأفراد بانتخاب الحكام دون أن تقوم فيها ديمقراطية ، بل إن بعضها أنظمة استبدادية قمعية) .
( الديمقراطية الغربية تقوم على قيم اجتماعية محددة ، فالديمقراطية نظام قائم على نظرة معينة للكون والحياة والإنسان ، وهي تحمل بعداً " عقيدياً " وترتبط بمفهومات محددة ، ومعتقدات مشتركة بين الجماعة . والديمقراطية بهذا المعنى تمثل نسقاً فلسفياً ، أو قاعدة تبنى عليها النظرة إلى المجتمع ، تستمد هذه النظرة جذورها من أفكار المدرسة الليبرالية التي يعد من أبرز مفكريها : جون لوك ، وجون ستيوارت مل ، وآدم سميث ، وديفد هيوم . ورغم اختلاف وجهات النظر بين هؤلاء المفكرين ، فإن هناك عدداً من الأمور المشتركة بينهم ، منها : النظرة ( الفردية ) للإنسان التي تجعل الفرد وحدة مستقلة قائمة بذاتها ، تتصل بغيرها لتحقيق مصالحها الذاتية ، ومن ثم فالفرد يمثل غاية البناء الاجتماعي كما أن الإنسان ـ وفقاً لهذه النظرية ـ يمتلك حقوقاً ( طبيعية ) منحت له لطبيعته الإنسانية ، بمعنى أن الإنسان لكونه إنساناً ، فإنه يمتلك حقوقاً طبيعية بمعزل عن الدولة أو المجتمع . أضف إلى ذلك أن النظرة الليبرالية للإنسان تبنى على ما يسمى بانعدام القيم المشتركة ، فلا توجد وحدة اجتماعية تحدد القيم الاجتماعية أو السلوك المقبول اجتماعياً من قبل الأفراد ، فالنظرة إلى المجتمع غائبة في الفكر الليبرالي والديمقراطية ـ وفقاً للتعريف الإيديولوجي ـ طراز معين للعيش ينبثق من إطار ذهني يبنى على عدة افتراضات ، منها : الإحساس الدائم بالرغبة في التغيير التى تحرك الأغلبية ، وتدفعهم نحو تعديل أوضاعهم الاجتماعية لتتناسب مع التغييرات الحياتية المتعددة . فالديمقراطي هو ذلك الإنسان القادر على تعديل أوضاع حياته وأفكاره ومبادئه وقيمه وفقاً للمتغيرات الاجتماعية المحيطة به . وينبع التغيير من الإيمان بأن البنى الاجتماعية لا تبنى على قواعد ثابتة ، بل هي نتاج لتفاعل الأفراد وخبراتهم واتفاقهم ، ولذلك ، فما يراه الأفراد ممثلاً للحق والعدل فهو الحق والعدل ، فالإطار الذهني الديمقراطي يبنى على الثقة المتناهية في ( العقل ) الذي يمكن الإنسان من الحياة في إطار المجتمع ( التعددي ) بتقبله لنمط حياة الآخرين ، مما يعكس قدراً كبيراً من العقلانية . أضف إلى ذلك أن ( التعددية ) تضفي على الديمقراطية الرأسمالية طابعاً خاصاً يجعلها تختلف كلية عن المجتمعات التقليدية والاشتراكية التي يفرض المجتمع فيها منظوراً جماعياً للخير العام ، كما يشير نوفاك ، هذا في حين يمتاز المجتمع التعددي بعدم وجود منظور جماعي واحد للخير والفضيلة . ولذلك ، فوجود منظور أخلاقي واحد للقيم في المجتمع يتعارض مع الفكر التعددي ، ومن ثم فأولئك الذين يرغبون في رؤية قيم عقائدية أو أخلاقية واحدة تسود في المجتمع لابد أن ينتهي بهم المطاف إلى معارضة التعددية . وبناءً عليه ، فالمجتمع الديمقراطي غير ملزم بتبني منظور أحادي للوحدة الاجتماعية ، وحين يسود أو يسعى أي منظور عقائدي أخلاقي لفرض رؤيته على المجتمع ، فإنه يصبح من المتعذر بناء مجتمع ديمقراطي ، وذلك لأن الديمقراطية تبنى على المنظور العلماني التعددي للمجتمع) .
( وبناء عليه ، فالتعددية وإمكانية الاختلاف العقيدي يعدان شرطين مسبقين لقيام مجتمع ديمقراطي ، فالمجتمع الذي لا يقر بحق أو حرية العبادة للجميع كيفما شاؤوا لا يصلح أن يكون ديمقراطياً .
وقد أكد " كرن شيلدز " أن الديمقراطية نظام سياسي علماني ، فالدين لا علاقة له بالديمقراطية ، فهو يعد مسألة فردية خاصة لا علاقة لها بالتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي :(57/45)
" فالديمقراطي يمكن أن يكون بروتستانتياً أو يهودياً ، ملحداً ، أو مؤمناً ففيما يتعلق بالدين يمكن القول إن الديمقراطية مذهب محايد يتمثل في مجموعة من المعتقدات العلمانية الصرفة . فالمفهومات الديمقراطية لا ترتبط بالبواعث الدينية أو المضادة للدين . وأي نزاع بين الدين والسياسة الديمقراطية يمكن أن يحدث فقط عند إقحام التعاليم الدينية في الشؤون السياسية ... والديمقراطي ـ نظراً لمعتقداته السياسية ـ لا يقبل ولا يرفض أي تعاليم دينية " ) .
( إن قيام الديمقراطية يرتبط بتوفر شروط أساسية أهمها " العلمانية " فالديمقراطية نظام للحياة قائم على حيادية الدولة تجاه القيم الدينية والأخلاقية انطلاقاً من قاعدة أساسية للبناء الديمقراطي تتمثل في " حرية العقيدة " أي حق الأفراد المطلق في تبني ما يشاؤون من عقائد دون تدخل من أحد ، ودونما تأثير على مسار المجتمع والدولة ، وذلك لاندراج العقيدة ضمن الخيارات الفردية التي لا يجوز للدولة التدخل فيها بحال من الأحوال .
وبناءً عليه ، فالديمقراطية نظام لاديني منبثق عن تصور عن الحياة قائم على فصل الدين عن الدنيا ، ويسعى على بناء النظام السياسي على قاعدتين : قاعدة حيادية الدولة تجاه العقيدة ، وقاعدة سيادة الأمة المترتبة عليها والتي تعني حق الأمة المطلق في تبني نظام الحياة الذي تراه مناسباً) .
( إن القول بأن الأمة هي صاحبة السيادة ومصدر السلطات في النظام الديمقراطي ، يؤكد كون الديمقراطية نظاماً " لادينياً " للحياة قائماُ على حق الأمة في تبني نظام الحياة الذي تختاره أيا كان ، على أساس أنها تمثل المرجعية العليا للأنظمة والقوانين في الدولة . ونظراً لانعدام القواعد العقيدية أو الفكرية التي تعول عليها لمعرفة الحق من الباطل ، فإن الفكر الديمقراطي الغربي لا يحدد ثوابت منطقية عقلانية للغايات الاجتماعية خارج إطار الاختيار الفردي . فالعقلانية هي انعكاس لرغبات الفرد ومصالحة الذاتية ، وليست محددات خارجية " موضوعي " للسلوك الاجتماعي للأفراد ) .
( إن سيادة الشعب التي تعد القاعدة الأساسية لأي نظام حكم ديمقراطي ، تعبر بالضرورة عن إرادة الأغلبية وسيادتها " إذ إنه من غير الممكن أن تجتمع إرادات الأمة كلها على غاية واحدة " وإذا كان بالإمكان حصول ذلك في بعض الأمور فإن تحققها في كل الأمور أمر في غاية الصعوبة
وبنا عليه ، فالسيادة في النظام الديمقراطي هي للأغلبية . يشير " سميث وليندمان " إلى أنه إذا كان لا بد لفئة ما أن تحكم الدولة فلم لا تكون الأغلبية هي تلك الفئة ؟ فالأغلبية لها حق الحكم ، ببساطة لأنها الأكثر عدداً ، فالكثرة هي التي يعتد بها عند الحديث عن حق الحكم المنوط بالأغلبية) .
(ومن ثم ، فإن أي قرار أو قانون لا تقره الأغلبية يعد لا أخلاقياً . كما أن ذلك يعني ـ من ناحية أخرى ـ أن القانون أو القرار يصبح صحيحاً من اللحظة التي تدعم فيها الأغلبية القرار ، ويفقد صحته وأخلاقيته حين لا يكون للأغلبية الحق في الحكم على القانون أو القرار) .
( أضف إلى ذلك أن ربط التشريع بالأغلبية ـ لافتراض العصمة فيها ـ يؤدي إلى تنازل الأفراد للأغلبية المسيطرة ـ حيث يجد المرء نفسه مضطراً للخضوع لقانون آخر اتفقت عليه الأغلبية رغم مناقضة القانون لمعتقداته . وهذا التنازل للأغلبية لا يصلح كمفهوم قابل للتطبيق في المجتمعات المرتكزة على العقيدة ، وذلك لأن المرء الذي يحمل اعتقاداً دينياً راسخاً يستحيل عليه أن يتنازل عنه ، خاصة إن اعتقد صحته ، في سبيل ترجيح كفة الأغلبية . ولذلك يصعب تماماً تطبيق الأسس الديمقراطية في الدول التي يعتنق أهلها ديناً عملياً مسيطراً ، فلو افترضنا أن " مجلس الأمة " قرر بناءً على قاعدة " الأغلبية " إباحة الربا ، أو إسقاط حد الرجم عن الزاني المحصن ، فهل تؤدي موافقة الأغلبية على هذه التشريعات إلى جعلها حقاً واجب التطبيق في الدولة ؟ وماذا لو وقفت الأقلية في وجه القوانين التي ترغب أكثرية المجلس في إصدارها ، أيسقط حقها لمجرد كونها أقلية ؟ إن الادعاء بعصمة الأغلبية وصحة آرائها لا يصلح مقياساً في الدول التي تحمل عقيدة كلية عن الكون والإنسان والحياة ، فالمسلم ملزم باتباع الشرع وليس بقبول رأى الأغلبية . فلو اتفق أعضاء مجلس الأمة أو الشورى على تبني رأي مخالف للشرع ، فأن هذا الرأي ـ بميزان الشرع ـ يعد رأياًَ باطلاَ ، حيث إن العبرة ليست في عدد المصوتين للقانون بل العبرة بانبثاق التشريع من الشرع الإسلامي واتفاقه معه ).(57/46)
( إذا نظرنا إلى الديمقراطية على أنها حكم الأغلبية فمن المعروف أنه في أي نظام سياسي لا يمكن اعتبار الأغلبية أغلبية سكان الدول ، وذلك من يقطن أراضي الدولة يعد مواطناً . كما أن عدد أولئك الذين يسمح لهم القانون بالتصويت أقل بكثير من عدد مواطني الدولة . كما أن عدد أولئك الذين يشاركون في التصويت بالفعل دائماً أقل من عدد الذين يسمح لهم بالتصويت ، فقيود المواطنة تحد بشكل ملحوظ من عدد الأغلبية ، فقد كانت المواطنة , وما يرتبط بها من حق الانتخاب في معظم الدول الأوربية ، مرتبط بالرجال أصحاب الأملاك . حتى حين حصلت المرأة على حق الانتخاب في القرن العشرين ، فإنه لا تزال هناك شريحة كبيرة من المواطنين لا تشارك في الانتخابات ، إما بحكم السن أو التعليم أو عدم الاهتمام ، هذا غير الأجانب الذين لا تسمح لهم الأنظمة بالمشاركة في الانتخابات .
كل ذلك يعني أن السيطرة على شئون الدولة تصبح بيد " الأقلية " وليست " الأغلبية " التي تفترضها النظرية الديمقراطية . ففي الأنظمة الغربية لا يحكم الشعب كما تفترض النظرية ، ولكن الذي يحكم هي تلك الأقلية التي تسمى " النخبة " . ومن ثم ، ففي الغرب نخبة ديمقراطية تحكم بسبب ما يتوفر لها من قدرة على التحكم في الموارد الطبيعية ومصادر الثروة والقوة ، وبحكم بعض المزيا الموروثة وغيرها من العوامل . ويؤدي التوزيع غير المتساوي للموارد إلى تحكم فئات اجتماعية معينة في الموارد وإلى السعي ـ عن طريق المؤسسات الاجتماعية . إلى ترسيخ مصالحها ومزاياها الاجتماعية لتصبح جزءاً لا يتجزأ من النظام حتى يألفها الناس ، ويعتقدون مع مرور الأيام بحق النخبة المسيطرة في الحكم .
ولذلك ، إذا أردنا تطبيق المعنى الحرفي للديمقراطية الذي هو حكم الشعب ، فإنه لن يكون هناك مكان للنخب في النظام ، ولكن ذلك يعني من ناحية أخرى أنه لن تكون هناك ديمقراطية في أي مكان في العالم) .
( إن ربط السيادة بالأمة في النظام الديمقراطي ـ وهو ما يميزه عن الأنظمة الاستبدادية التي تجعل السيادة في يد الحاكم ـ يجعل للأمة حق تبني نظام الحياة السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، مما يجعل النظام الديمقراطي يقف على طرفي نقيض مع النظام الإسلامي القائم على سيادة الشرع الإسلامي في واقع الحياة . فالشرع ـ وليس الشعب ـ هو المرجع الأعلى في النظام السياسي الإسلامي ، ومن ثم فجعل الشعب المرجع الأعلى لأنظمة الحياة يعد تعطيلاً صريحاً لسيادة الشرع وهيمنة أحكام الإسلام في الدول ، مما يؤدي إلى ظهور الكفر البواح ، وتحول الدولة إلى دار الكفر .
وقد تواترت الأدلة الشرعية المؤكدة أن السيادة للشرع وحده في الدولة الإسلامية . قال - تعالى - : (( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق )) وقال - تعالى - : (( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك )) ) .
( إن النظام الديمقراطي قائم على تبني نظرة محددة للظاهرة والممارسة السياسية وللعلاقات الاجتماعية ـ تنطلق من العلمانية كقاعدة للحياة السياسية تتمثل في بعدها السياسي في أمرين :
1 - في إقرار سيادة الأمة وحقها في تبني نظام الحياة الذي تراه مناسباً لها .
2 - وفي حيادية الدولة تجاه القيم الفردية ، أو ما يسمى بالأخلاق الخاصة . وذلك يعنى أن المجال الخاص للأفراد لا بد أن يبقى بمنأى عن التدخل الخارجي من قبل أي سلطة أخرى ، وذلك من أجل الحفاظ على الحرية الفردية التي تمثل قاعدة البناء الاجتماعي في الدولة . ولقد أدى التزام الديمقراطية ـ الليبرالية بحيادية الدولة تجاه الأخلاق والقيم إلى المناداة بتبني التعددية السياسية والفكرية في المجتمع من منطلق حرية الأفراد.
لقد كان هدف الفكر الليبرالي الديمقراطي من إعلان حيادية الدولة تجاه الأخلاق الخاصة وإقرار التعددية هو التصدي لمفهوم الدولة " الغائية " أو الحركات السياسية الغائية ، من المنطلق الديمقراطي القائم على أن وجود منظور أخلاقي واحد للقيم يتعارض مع الفكر التعددي . ومن ثم ، فالدولة الديمقراطية ملزمة بعدم فرض أو السماح بفرض منظور قيمي مشترك للجماعة ؛ وذلك لأن تبني منظورأحادي للقيم ينافي الديمقراطية) .
( فالدولة الديمقراطية لا علاقة لها " بهوية الإنسان وإيمانه وكفره ونوعية القيم التي يحملها ، فالكل سواء : عالم الدين والبغي ، والمسلم النصراني !!
يقول حيدر علي في معرض نقده للديمقراطية الإجرائية التي يرى أن الإسلاميين يقبلونها مع رفضهم للفلسفة التي تقوم عليها كنظام للحياة : " فالديمقراطية توجد ضمن شروط ومكونات معينة ، وقد تكون الإطار الذي تتفاعل فيه عمليات مثل التحديث ، وأفكار مثل الليبرالية والعلمانية " ومن ثم فاختزال الديمقراطية في انتخابات ومشاركة يقدم نظرة ناقصة لها ، وذلك لأن السؤال الذي يطرح نفسه عند بحث ظاهرة ما يسمى " الديمقراطية الإسلامية " التي ينادي بها بعضهم هو : هل الاختلاف أو التعارض حول ما يؤخذ وما يترك جوهري يؤثر على جوهرها أو أنه اختلاف ثانوي ؟(57/47)
ويجيب حيدر علي على ذلك بقوله إن " الصيغة الإسلامية للديمقراطية ... مطالبة بتكييف نفسها مع ثوابت عقدية وتحريمات ونواه دينية قد تكون عقبات أمام الديمقراطية الصحيحة ... فهناك قضايا تتقاطع مع أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان ، مثل : عقوبة الردة ، ووضعية غير المسلمين ( أهل الذمة ) ، والمرأة ، والحريات الشخصية ، وحرية الرأي والتعبير ، وطاعة ولي الأمر ، والفتنة ومخالفة الجماعة "
وبناء عليه ، فالمطالبة بإقامة نظام ديمقراطي في بلاد المسلمين تقتضي بالضرورة جعل الحرية الفردية والتعددية قواعد تبنى عليها الحياة السياسية في الدولة ، مما يؤدي إلى تناقض بين الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في واقع الحياة وإقامة القواعد الديمقراطية . وأسوق مثالاً يوضح الأمر وهو الذي أشار إليه حيدر علي ، وهو المتعلق بحد الردة ، فالردة حدها القتل لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه " ولكن قتل المرتد يعارض حرية العقيدة والرأي التي يقوم عليها النظام الديمقراطي ، لأن الدين ينظر إليه على أنه مسألة شخصية فردية خاصة ، والنظام الديمقراطي قائم على حيادية الدولة تجاه العقائد والأخلاق .
وهنا يكون المسلم أمام خيارين : فإما أن يطبق حد الردة على المرتد عن دينه من العلمانيين والشيوعيين وغيرهم ممن ينكر أحكام الإسلام ، أو يدعو إلى ما يناقضها ويخرج بذلك عن كونه ديمقراطياً يؤمن بالحرية . أو يتبنى الديمقراطية كقاعدة ، ويطوع أو يلغي الأحكام الشرعية المعارضة في نظر الآخرين لأحكام الحرية والتعددية الفكرية ؛ فيجعل الردة حقاً من حقوق الإنسان وحرية يجب صيانتها ؟!
فهذا كاتب معروف يقول : " فأنا لست مع إقامة حد الردة على من يرتد عن الإسلام " ويجعل - كذلك - اختيار الدين نوعاً من الاختيار الفردي بقوله : " أيضاً إذا بدا لإنسان أن يعتنق النصرانية مثلاُ ، فهذا لون من الاختيار يستوجب منا الحوار مع هذا الإنسان " !
ومن ثم ، فقيام الديمقراطية ـ كما يشير داريوش شايغان ـ يتطلب علمنة العقول والمؤسسات ، أي أن من شروط قيام الديمقراطية تبني العلمانية التي تعني الاعتراف بحرية العقائد والأيدلوجيات ، والسماح لها بالدعوة إلى ما تؤمن به ، من منطلق حقها المطلق في الوجود ، وفي الإيمان والدعوة إلى ما تؤمن به . وقد أشار منصور الكيخيا إلى أن قيام الديمقراطية ونجاحها يتوقف على تبني العلمانية ، " أي الاعتراف بحرية جميع العقائد والأيدلوجيات والتعايش السلمي بينها ، وإحلال الحوار بينها بدلاً من قمعها " .
كما أن قيام الديمقراطية يقتضي علمنة المؤسسات السياسية في الدولة ، فقد أكد حيدر علي أن هناك مؤسسات وأجهزة يؤدي وجودها واستمرارها إلى إعاقة الديمقراطية ؛ مثل هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والحسبة التي تقوم بمراقبة الشارع الإسلامي ، والتأكد من التزام الأفراد بأداء الصلاة أو عدم الإفطار في رمضان ، والالتزام بالزي الإسلامي ، والسلوك الإسلامي . ويضيف الكاتب قائلاً : " هذه نماذج لمؤسسات ضرورية تعمل عمل الدولة على المستوى الشعبي وبالتالي تصدر عقوبات وتتسب في مضايقات للمواطنين . وهي غالباً ما تصطدم بالحريات الشخصية وتتدخل في شؤون الآخرين " !!
ومن ثم ، فبقاء مثل هذه المؤسسات يشكل عقبة في وجه بناء مجتمع ديمقراطي تعددي ، فالديمقراطية تقتضي ليس فقط علمنة العقول بقبول الآخرين والاعتراف بهم ، وإنما تقتضي أيضاً إلغا المؤسسات الدعوية والأخلاقية التي تصطدم مع الحرية الفردية وتتدخل في حياة الأفراد الخاصة .
يتضح مما سبق أن الديمقراطية ليست إجراءات عملية شكلية تختزل صورة انتخابات دورية وتداول للسلطة وغيرها ، وإنما هي نظام للحياة قائم على شروط موضوعية جوهرها قائم على النظرة الفردية للإنسان المستمدة من الفكر الليبرالي الذي يجعل الفرد غاية البناء الاجتماعي ، والذي يؤكد انعدام " القيم المشتركة " أو الجماعية كما سبق أن بينا ، ونظام الحياة قائم على الحرية الفردية التي تعني حق المرء في اختيار ما يراه مناسباً من أفكار ، وقيم ، وأخلاق ، ودين ، وطريقة للعيش دون تدخل أي قوى خارجية ، فالمرء سيد نفسه ) .(57/48)
( سعى كثير من الكتاب والمفكرين ، من باب تقليد الثقافة الغربية ، إلى المناداة بإقرار الحرية والتعددية كقواعد للعمل السياسي في بلاد المسلمين . وقد دافع هؤلاء عن حرية الرأي ، وشرعية الاختلاف التي تقوم عليها التعددية ، وشرعية وجود تعددية حزبية . وهذه الأفكار والمعالجات التي صدرت مجاراة للفكر الغربي ، لم تبن على شرعية ولم تستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلموإنما انطلقت من واقع سياسي قائم وواقع سياسي مأمول . فعندما ابتليت بلاد المسلمين بالاستبداد السياسي ظن هؤلاء أن لا مخرج لهم ولا منجى إلا بالديمقراطية الغربية ، فحاولوا تطويع أحكام الإسلام ومبادئه لتوافق ما أقروه صراحة من الحاجة إلى الديمقراطية ، لكي لا يحبط عمل الأمة !! ولتسويغ تبني مفهومات الغرب وأحكامه ادعى بعضهم أن الشورى هي عين الديمقراطية ، ومزجها آخرون وجعلوها " شوروقراطية " وانطلق عديد من الكتاب من الادعاء بأن الإسلام لم يأت بنظام سياسي محدد ، وأن التنظيم السياسي متروك للاجتهاد البشري ، وذلك لأن الإسلام ـ في رأيهم ـ اكتفى في مجال الظاهرة السياسية بالتعميم ، حيث أتى بقواعد عامة وترك التفصيلات ولم يبينها للناس . وقد دفعهم هذا التصور إلى المناداة بتبني الديمقراطية والدعوة إليها من منطلق اندراجها تحت التفصيلات التي تركها الشرع للاجتهاد البشري .
يقترب هذا الرأي الذي يتبناه بعضهم ، كما يؤكد غودرون كريمر : " بشكل " خطر " من اتجاه علي عبد الرازق الذي عارضوه بشدة . فهم بخلافه يقولون إن الإسلام دين ودولة ، ولكنهم يعودون مثله للقول إن مسائل التنظيم السياسي متروكة للعقل البشري . إن هذه الطريقة في الفهم والتعليل أدت إلى بروز تناقض أساسي داخل الفكر الإسلامي الإصلاحي مؤداه أنه في الوقت الذي تعتبر فيه الدولة مهمة جداً لتطبيق الشريعة ، لأنها هي التي يفترض أن تقوم بذلك ، فإن أشكال التنظيم السياسي اعتبرت أموراً تقنية غير جوهرية "
ورغم هذا التناقض البين إلا أن كثيراً من الكتاب رأوا في حجة " مرونة الشريعة " فرصة للمناداة بتطبيق الديمقراطية التي تبنوها ، وجعلوها قاعدة الانطلاق لبناء الدولة الإسلامية ، بحجة أن الإسلام ترك مجال الأنظمة مفتوحاً للاجتهاد البشري ، ولأن الديمقراطية ـ في رأيهم ـ أقرب الأنظمة المعاصرة للإسلام .
لقد أدى تبني هذا الاتجاه إلى إهمال الإسلام ومعالجته للواقع في خضم اللهث وراء مفهومات الغرب ومعالجاته . كما أدى ـ كذلك إلى إغفال حقيقة ثابتة وهي أن المفهومات الغربية والمعالجات المنبثقة عنها إنما تنطلق من قاعدة فكرية محددة ، وتهدف إلى تحقيق غايات ترتبط بنظام للحياة لا يصلح للتطبيق في بلاد المسلمين .
فالتعددية السياسية التي ينادي بها بعضهم ، مثلاً ، تمثل : " جزءاً من أجزاء منظومة مفاهيمية متكاملة نشأت وترعرعت داخل النسق الفكري الغربي الليبرالي ، ومن هذه المنظومة : المجتمع المدني ، الديمقراطية ، تداول السلطة ، المشاركة السياسية ، توازن القوى ، انتشار السلطة ، صيانة الحقوق ، حقوق الأقليات ، حقوق الإنسان .."
ولقد دفع التقليد أبناء الأمة إلى استيراد قوالب فكرية جاهزة للعمل لها. ولترويجها تمت أسلمتها بأن أرجعت إلى أصول إسلامية ، أو أشير إلى أنها لا تعارض الشريعة الإسلامية ، أو أنها تتفق وروح الشريعة ، " وبعض الإسلاميين سارعوا ـ تحت ضغط أطروحات الآخرين ـ إلى إضفاء اللباس الشرعي من منطلق المقاربة أو توهم المماثلة ، وإجراء القياس مع إلغاء الفوارق الظاهرية أو عدم التنبه لها . ولكيلا تكتشف عقلية التقليد الكامنة وراء ذلك حشرت مجموعة من الآيات والأحاديث والأصول والفروع الفقهية الكامنة وراء ذلك ... وقطعت من سياقاتها لتصبح دليلاً على صحة " التعددية " بمفهومها السائد ، والإفتاء بمشروعيتها ، والموافقة على الأخذ بها " ) .
( والسؤال الذي يطرح نفسه هو : هل الدولة الإسلامية دولة قائمة على التعددية السياسية والفكرية ؟ بمعنى : هل نظام الدولة قائم على الحيادية الفكرية والعملية تجاه التيارات السياسية المختلفة ؟
الإجابة بالنفي قطعاً ، فالدولة الإسلامية دولة عقيدة ، تحمل مفهومات شرعية عن الحياة وتطبقها في الواقع ، فكيف يجوز لها أن تسمح بإقامة ما يخالف ما تدعو إليه ؟ أما فيما يتعلق بوجود جماعات في الدولة الإسلامية تدعو إلى الزندقة أو الفكر الباطني ، أو الشيوعي فهذا لا يعني إقرار شرعية وجودها أو الإذن لها بالدعوة إلى ما تدعو إليه .
وهناك فرق بين أن توجد في الدولة جماعة لا تحمل الإسلام عقيدة وشريعة ، وبين الإقرار بوجودها وإعطائها شرعية من قبل الدولة ، إما بالوقوف منها موقف المحايد ، أو السماح لها بالدعوة إلى المنكرات الفكرية التي تحملها ، وذلك لأن هذه الحيادية المزعومة لا تتفق أصلاً مع الدولة الشرعية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) .(57/49)
( هذه النظرة الديمقراطية لا تصلح في مجتمع إسلامي قائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فالعلمانية من أحكام الكفر سواء ما أطلقوا عليها المتصالحة مع الدين أو غير المتصالحة . والشيوعية تؤمن بأن الكون والإنسان والحياة مادة فلا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار؛ فالإيمان يها كفر بالله ، والسماح للحزب الشيوعي بالدعوة إلى ما يدعو إليه كفر بالله . وإقرار الأفراد من مفكرين سياسيين ، أو حزبيين إسلاميين بجواز قيام أحزاب مخالفة للشريعة الإسلامية لا يجعل وجود مثل تلك الأحزاب أمراً جائزاً في الدولة الإسلامية ، لأن الأمر الذي يعول عليه في الحكم على ما يخالف الشرع أو يوافقه إنما هو أحكام الشرع المعالجة للواقع وليس أقوال الرجال ).
( المرجع : كتاب " نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية - مواضع متفرقة منه - ) .
==============(57/50)
(57/51)
العقلانية العلمية في التراث العربي الإسلامي 2/1
الاثنين :29/04/2002
(الشبكة الإسلامية) عبد الرحمن الحاج ـ سوريا
- الكتاب: ملامح العقلانية العلمية في التراث العربي الإسلامي
- المؤلف: محمد أحمد عواد
- الناشر: الأصدقاء للنشر/ عمان
- الطبعة: الأولى 2001م
يسعى هذا الكتاب للإجابة عن السؤال: ما هي ملامح العقلانية العلمية في الفكر العربي الإسلامي منذ مطلع القرن الثاني الهجري إلى القرن الثامن الهجري؟ وتحديد هذه الفترة الزمنية يأتي من اعتبارها تتضمن أبرز ما قدمه العقل العربي الإسلامي في القطاعات المختلفة، أي الفلاسفة والعلماء المسلمين الذي وضعوا مؤلفاتهم أصلاً باللغة العربية.
أهمية هذه الدراسة كونها تدرس مدى تأثير التراث العلمي العربي الإسلامي على حقول المعرفة المختلفة للتراث برمته.
و"العلم" هنا هو المفهوم الحديث له، وهو الإدراك الإنساني للواقع المحسوس عن دليلٍ قاطع وهو بهذا المعنى يختلف عن مفهوم العلم الذي ساد في الحضارة الإسلامية التي لم تحصره بالواقع المحسوس.
يتضمن مفهوم "العقلانية" حدود عمل العقل في إطار العالم المادي الفيزيائي، واستناد العقل إلى الحس في إنتاج المعرفة، والتزام الموضوعية والفصل بين الأنساق الثلاثة: الفلسفة والدين والعلم. وإن كان ذلك لا يعني بالضرورة تعارضها.
1- العلوم التجريبية:
وقف العلماء العرب المسلمين على تراث الأمم السابقة، وبخاصة الهند وفارس والسريان واليونان، فنقلوه بأمانة، ناسبين كل فكرة إلى صاحبها ـ بعكس اليونان الذين استخدموا التراث السابق دون أن يشيروا إلى مصادرهم ـ ثم قاموا بنقده، فلم يقفوا منه موقف التابع ـ وهناك شواهد كثيرة على الأمر مثل الرازي مع جالينوس أو ابن الهيثم مع بطليموس ـ ومن ثم طوروه، وأضافوا إليه، وأسسوا حقولاً جديدة، وعلى الصعيد المنطقي التزموا بمنهج القياس المنطقي، وطبقوا الاستقراء والتمثيل، وثمة منهجين رئيسين استخدما بصورة مباشرة في العلوم الرياضية والاختبارية، وهما:
أولاً: المنهج الرياضي:
قدّم الفراعنة والبابليون إنجازات كثيرة على صعيد العلم الرياضي، وكانت تعتمد التجريب منهجاً، تسلّم اليونان هذه النتائج فطوروها، ومنذ فيثاغور بدأت تتراكم مجموعة من النظريات الرياضية المعمّمة في الحساب والهندسة، ثم جاء إقليدس، فأعاد تنظيم المادة المتراكمة في صورة نسقٍ استنباطي، فهناك ابتداءً: التعريفات ثم البديهيات فالمصادرات فالنظريات. وبهذا تشكل المنهج الرياضي في صورته الاستنباطية، وتم تطبيقه في الحساب والهندسة والميكانيكيا.
أحدث اليونان بهذه المنهجية قطيعة تامة مع مرحلة التجريب البابلية الفرعونية، وقد ورث العلماء العرب المسلمون هذه المنهجية، ولم يقبلوا بكل النتائج التي قدّمها اليونان فحاولوا تقديم حلولٍ جديدة، كما حدث في نقد المسلمة الخامسة لاقليدس، واستناداً إليه أسسوا علم الجبر والموسيقى، واستخدموه بصورة فعّالة في العلم التجريبي وبخاصة في الفلك والفيزياء، وبهذا كانوا امتداداً للمرحلة الاستنباطية اليونانية.
ثانياً: المنهج التجريبي:
استخدم العلماء العرب المسلمون هذا المنهج في الكيمياء والفيزياء والفلك والطب، وبصورة ما في الرياضيات، وقد تنبهوا إلى أنّ مستخدمه، يجب أنْ يكون مؤهلاً على الصعيد النظري. فهذه المرحلة ضرورية، تمثل شرطاً ضرورياً، وفي ضوئها يتم تحديد المشكلة، ثم تأتي مرحلة الملاحظة المباشرة للظاهرة، وجمع المعلومات عنها بواسطة الحواس، واستخدام الآلات والأدوات المختلفة.
ثم يقول العقل استناداً إلى هذه المادة الخام بتكوين فرض لحل المشكلة، ويجب ألاّ يحكم على هذا الفرض بالصدق أو الكذب قبل امتحانه، ومن هنا تأتي التجربة للحسم في صدق هذا الفرض أو كذبه، وما يثبت بالتجربة فهو صادق، ويصبح بمرتبة القاعدة أو المبدأ أو القانون العام وقد طالبوا بتكرار التجارب حتى يثبت الأمر، وقد صرّحوا بأنّ هناك إمكانية لوقوع الباحث في الخطأ، وبينوا أنّ أسبابه قد تعود إلى الموضوع أو قصور الأدوات المستخدمة أو الذات الفاعلة، وقد طبقوه بنجاح في فروع العلم التجريبي.
وصحيح أنّ هذا المنهج له جذور في التراث السابق، لكن، يعود الفضل إلى العرب المسلمين في إعادة الاعتبار إليه. وقد ركزوا بصورة خاصة على:
أ- أن التجربة هي المعيار الذي نلجأ إليه لحسم صدق القضايا العلمية الاختبارية، وقد أطلقوا عليها ألفاظاً مختلفة، مثل: الاعتبار أو الامتحان عند ابن الهيثم أو التدبير كما هو الحال عند جابر بن حيان، ولم يكتف العلماء العرب المسلمون بالتجربة الواحدة، وإنما ذهبوا إلى ضرورة التكرار بغية المزيد من التحوط في الحكم، وما أثبته التجربة عندهم يرتقي إلى مستوى القانون العام وفي علم الفلك لعبت الملاحظة العلمية دوراً حاسماً في غياب إمكانية التجارب الدقيقة، ودعموا ذلك بأجهزة كثيرة تحسن أدوات الملاحظة.(57/52)
ب- استخدم العلماء العرب المسلمون الأدوات والآلات المختلفة في تجاربهم وكانوا حريصين على تقديم وصف نظري لها، ولطرق عملها، وتطويرها، باستمرار ومن هنا نجد التقدم الكبير الذي شهده علم الفلك بدءاً من مرصد المأمون إلى مرصد أولوغ بك وهذا ما نجده مع ابن الهيثم في البصريات، أو مع أدوات الجراحة عند الزهراوي.
جـ- واهتموا في ضوء ذلك بوحدات القياس للأوزان والأطوال والمساحات، وقد تطورت صناعة الموازين لديهم بصورة ملفتة للنظر، والشاهد على ذلك، ميزان الحكمة عند الخازن.
د- ولم يكتفوا هؤلاء بهذه القضايا، وإنما طوروا جهازاً من المفاهيم على مستوى نظرية العلم، وبخاصة قضية الموضوعية، أو العدل بلغة ابن الهيثم. فقد اعتقدوا أنّ هدفهم هو بلوغ الحقيقة، ومن هنا، فقد دعوا إلى نبذ الاعتبارات الذاتية والهوى والانفعالات، والتهويمات والطقوس السحرية، وأكدوا ضرورة عدم الخضوع للسلطة المعرفية السائدة.. ومن هنا جاء نقدهم لبطليموس وإقليدس وأرسطو وغيرهم، فالحجة في آخر الأمر على البرهان والدليل بغض النظر عن القائل.
تبنى العلماء العرب المسلمون نظرة إلى العلم مخالفة تماماً للرؤية اليونانية التي كانت تفصل بين النظر والعمل، فأكدوا على هذا الجانب حتى في الرياضيات، فقد كانت الغايات العملية هي الهدف الأخير للعلم، وبهذا يكونوا قد تبنوا معظم شروط العقلانية العلمية المعاصرة، فقد نادوا بالموضوعية في العلم، ودعوا إلى تكامل الحس والعقل في الإنتاج العلمي.
لم يجد العلماء العرب المسلمون تناقضاً بين العلم وبين الإيمان بالوجود الإلهي، بل اعتبروا أنّ نتائج العلم تشهد بشكل أو بآخر للحكمة الإلهية، وهذا لا يقل من عقلانيتهم العلمية إذ ليس من شروط العقلانية العلمية إنكار وجود الله ورفض الدين، فهؤلاء العلماء بإجماع لم تكن مرجعيتهم دينية [فقط]، بمعنى أنّ العلم [الإنساني] ليس نتاجاً للفعل الإلهي، وإنما هو فعل للعقل الإنساني، وهو قابل للتعديل والتطوير، وهناك إمكانية متاحة لتصحيح الخطأ، والافتراضات يمكن التحقق من صدقها أو كذبها، والحقيقة لا تكتمل أبداً [إلا عند الله]، وإنما هي في نمو مستمر والنقد الذاتي كما يرى ابن الهيثم وغيره ركن رئيس في تطور المعرفة العلمية.
والسؤال الذي يطرح بعد هذا: ما مدى تأثير العلوم الاختبارية والرياضية في الحقول المعرفية المختلفة المعرفية المختلفة؟ فهل أسهمت في تكوين عقلانية علمية من نوع ما عند بعض المنتسبين إليها.
2- العلوم النقلية:
ومعروفٌ أنّ علم الكلام والفقه من العلوم النقلية التي تأسست منذ وقت مبكر، وقد سبقت العلوم الاختبارية من حيث التأسيس والنشأة بفعل عوامل داخلية وخارجية، وخضعت في تطورها لتأثيرات مختلفة أثرت في مسيرتها. وقد اتجه علماء الكلام المتأخرون إلى المنطق منذ القرن الخامس الهجري، ومن ثم اجتمعت لديهم النزعتان الكلامية والصورانية. وقد تأثر الفقهاء بالمنطق لكنْ، ليس بصورة مباشرة كما حدث عند علماء الكلام المتأخرين، إذ لم ينظروا أبداً إلى المنطق باعتباره منهجية ملائمة لهم على الصعيد الفقهي، ولم يتبنوا الصورانية، وإن تأثروا في أبحاثهم وخاصة على الصعيد المنهجي بالمنطق.
لم يكن علماء الكلام والفقه بعيدين عمّا يجري في حقل العلوم الاختبارية، فهناك علماء وفقهاء اكتفوا بالمراقبة أو الاستفادة بشكل جزئي، وهناك آخرون، بالضرورة، تأثروا بما يجري فيها، وهناك اختلاف بينهم في درجة التأثر، ولم يكن في هذا الحقل ما يثير حفيظة علماء الكلام أو الفقهاء ليتخذوا منه موقفاً معادياً، وذلك لسببين:
أولاً: أنّ الموضوعات التي يبحثها العلم الاختباري ليست قضايا دينية مباشرة، مثل الإلهيات.
ثانياً: أنّ المعيار الذي يلتزم به العلماء هو التجربة العلمية من حيث هي الشهادة على صدق ما يقولون، ومن هنا، فهناك إمكانية للتحقق ممّا يقولون.
في ضوء هذين السببين، تعاطف علماء الكلام والفقهاء مع العلم الاختباري إلى حد كبير، وذهب بعضهم إلى حد الاشتغال به. مثل الجاحظ وابن الجوزي، فأولهما اشتغل في علم الحيوان، وثانيهما ألف في الطب عشرة مؤلفات، وتسرّبت اللغة الطبية إلى مؤلفاته المختلفة. وقد ترك هذا الاشتغال تأثيراً على خطابهما الكلامي والفقهي، ومن ثم تشكلت عقلانية علمية تتفاوت بينهما، لكنْ، يتفق الاثنان على بعض القضايا والمبادئ، ومنها:
أولاً: اعتقد الاثنان أنّ المعرفة العلمية ممكنة، وهي نتاج لتعاون كبير بين العقل والحس، ومن هنا قبلا الاستنباط والاستقراء والتجربة كمناهج للوصول إلى المعرفة، بغض النظر عن اختلافهما عن الفلاسفة والعلماء في فهم الاستنباط.
ثانياً: اعتقد الاثنان أنّ العالم محكوم بالقوانين السببية، ومن ثم يمكن تفسير الظواهر سببياً، وعلى الرغم من أنهما كانا يعتقدان بأنّ العالم نتاج الفعل الإلهي، إلا أنهما على الصعيد التفسيري كانا يلجأان إلى الأسباب القريبة في التفسير.(57/53)
ثالثاً: شكلت الحقيقة بالنسبة للاثنين، هدفاً ينبغي الوصول إليه، ومن هنا تمسكا بالموضوعية بصورتها الحديثة، فقد نبذا الهوى والميل والعواطف والأساطير والانفعالات، وكل ما من شأنه أن يعوق الإنسان عن بلوغ الحقيقة، ونظراً إلى التجربة والخبر الصادق باعتبارهما معيارين يجب اللجوء إليهما، للتحقق من صدق المعرفة أو كذبها، فهما معياران للحقيقة، فالقضية الصادقة يجب أن يتم التثبت منها بالتجربة أو الخبر الصادق.
رابعاً: يتفق الاثنان على أنّ العقل لا يمتلك قدرات مطلقة. وأنّه على الصعيد الميتافيزيقي، يمكن للعقل أن يثبت الوجود الإلهي. وأصرّ ابن الجوزي بوضوح بالغ على أنّه يجب التوقف بعد ذلك، والاتجاه لإثبات النبوة، ومعرفة تفاصيل عالم الغيب من خلالها، فلا يمكن التحقق من صدق القضايا على هذا المستوى عقلاً، والاكتفاء بموقف السلف الذي كان يرى عدم الخوض في تأويل الآيات المتشابهات التي تتحدث عن هذا العالم، فهي من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. وهذا الحسم الذي نجده عند ابن الجوزي، ليس موجوداً عند الجاحظ، ومن هنا كان رفضه علم الكلام، فقد اعتبره محاولة من قبل علماء الدين للتفلسف، وهي مجرد آراء ظنية لا يقين فيها. وهناك بعض النصوص عند الجاحظ يقترب منها من هذا الموقف كرسالته في المعارف وأرائه في كتاب "الحيوان".
خامساً: يعتبر الاثنان الدين خطاباً متميزاً مختلفاً عن خطاب العقل [الإنساني]، فهما نسقان مختلفان في الغايات والأهداف. ولا يجوز إلغاء أحدهما لصالح الآخر وعلينا أن نفهم العقل هنا بإنتاجه العلم الرياضي والتجريبي، أمّا الإلهيات بما هي نتاج للعقل فهي موضع خلاف، إذ لا يجوز إقامة تكافؤ منطقي بين قضايا الإلهيات وقضايا العلوم الاختبارية، فهذه الأخيرة يمكن التحقق من صدقها تجريبياً والحسم بشأنها، أمّا قضايا الإلهيات فلا تخضع للحس والتجربة، ومن ثم هي آراء، وقضايا ظنية. وقصارى ما يمكن إثباته على هذا الصعيد مجرد الوجود الإلهي كما يرى ابن الجوزي. أمّا ما يتعلق بالصفات والأفعال، والقضايا الميتافيزيقية الباقية، فيجب الرجوع فيها إلى خطاب الأنبياء، الذي ثبت صدقه بالمعجزات.
3- علم الأصول:
كان الإمام الشاطبي، المتوفى في نهاية القرن الثامن الهجري، معاصراً لابن خلدون، وقد وفّر له هذا الأمر ملاحقة التطور الذي حدث في علم أصول الفقه من القرن الثالث إلى القرن الثامن الهجريين، وكان من الطبيعي أن يتأثر علماء الأصول إيجاباً أو سلباً بحركة العلوم الاختبارية، بحكم أنهم كانوا مضطرين لتحديد موقفهم من العقلانية، كما يمكن أن تظهر في القياس والإجماع، وبخاصة عند أصحاب التعليل، فالتحقق من العلة قادهم إلى العلم الاختباري وموضع القياس جعلهم يتخذون موقفاً من المنطق. وبدءاً من الغزالي تسرّب المنطق إلى هذا العلم، وباتت المؤلفات الأصولية تبدأ بمقدمة منطقية.
رفض الشاطبي إدخال المنطق الصوري إلى علم أُصول الفقه، وسجّل اعتراضات جوهرية، نجدها عند ابن تيمية وابن خلدون وغيرهما، ومن ثم لم يكتف بالرفض وإنما حشد الانتقادات الكثيرة ضد النزعة الصورانية، وهذا الموقف جاء نتيجة حتمية لموقف معرفي آخر هو الاعتقاد بأنّ للعقل حدوداً لا يجوز له أن يتجاوزها، وهي حدود هذا العالم، بمعنى أننا لان ستطيع أنْ نحصل على معرفة يقينية إلا في حدود هذا العالم، أمّا عالم الغيب أو الميتافيزيقا، فلا يمكن الوصول إلى قضايا يقينية بشأنه، ومن هنا كان إعلانه بوضوح حظر النشاط الميتافيزيقي على العقل [والاكتفاء بالنقل في هذا المجال]، ثم ذهب الشاطبي مسافةً أبعد من ذلك، فتبنى مبدأ الفصل بين الأنساق المعرفية، ورفض محاولة الاحتواء والغزو بين هذه الأنساق، فلا يجوز مثلاً تأويل الخطاب الديني باسم العلم والفلسفة أو تأويل العلم باسم الدين والفلسفة أو تأويل الفلسفة باسم الدين والعلم. [لكن هذا الفصل فصلٌ في المرجعيات دون الموضوعات].
وتتجلى العقلانية العلمية عنده بصورتها الكبيرة، في محاولة استرجاع القوانين العامة التي تحكم الشرع عن طريق الاستقراء أي مقاصد الشريعة .
لا مجال أمامنا سوى الإقرار بتكون العقلانية العلمية عند الشاطبي، لكن لا يعني هذا أن كل علماء أصول الفقه مثله، ولا نجد هذا الوضوح في خطاب المعري، وذلك لأنّ الشاطبي كان متأخراً بينما المعري عاش في القرنين الثالثو الرابع الهجريين، وعلى الرغم من ذلك نجد هناك المبادئ نفسها تقريباً، وإن كانت ليست معالجة بصورة كاملة عنده.
.......................
مراجعة: عبد الرحمن الحاج إبر
=================(57/54)
(57/55)
العقلانية العلمية في التراث العربي الإسلامي 2/2
الاثنين :29/04/2002
(الشبكة الإسلامية) عبد الرحمن الحاج إبراهيم
- الكتاب: ملامح العقلانية العلمية في التراث العربي الإسلامي
- المؤلف: محمد أحمد عواد
- الناشر: الأصدقاء للنشر/ عمان
- الطبعة: الأولى 2001م
كنا قد نشرنا من قبل الجزء الأول من قراءة هذا الكتاب ، وأنت عزيزي القاريء مع تتمة المقال .
4- الفلسفة وعلم الكلام:
هل تكون لدى الفلاسفة المسلمين عقلانية علمية من نوع ما، وللإجابة على هذا السؤال نقدم نموذجين من الفلاسفة هما:
أولاً: الفلاسفة الذين تبنوا العقلانية الصورية، فهؤلاء اعتقدوا بإجماع أنّ المنطق منهج مناسب للفيلسوف، وهو علم دقيق محايد يرتبط بقضايا الفكر، وقواعده صحيحة، ويمكن أنْ يساعدنا في ضبط تصوراتنا الفلسفية، وذهب بعضهم إلى ضرورة استخدامه أيضاً في العلوم الاختبارية، بصورة واضحة، إذ يعتبر من المسلمات الرئيسة في العلم، ومناهجه لا غنى للعالم أو الفيلسوف عنها، ولم يتوقف الأمر عند هذه الحدود، بل تجاوز بعضهم ذلك إلى حد الاعتقاد أنه كافٍ بذاته على صعيد الفلسفة.
ومعروف أنّ المنطق الأرسطي يتضمن قضايا ميتافيزيقية مضمرة فضلاً على أنّه بالقوة يدفع إلى التقليد الميتافيزيقي، فهو ابتداء مبني على نزعة واقعية في الكليات، وهذا ما لم يتنبه إليه هؤلاء الفلاسفة، فقد تصوروا أنّ نظرة أرسطية للكليات سليمة، فهو يُّقر أنها موجودة على مستوى الأذهان، لكنّ لها وجوداً بالقوة على المستوى الخارجي، وهذا الحل لم يخرجنا من النزعة الواقعية للكليات، فضلاً عن أنّ عوامل الإضافة والتركيب على مستوى العقل تدفع بهذه الكليات إلى مسافات بعيدة يصعب التحكم فيها، ومن ثم تساهم في بناء عوالم غيبية مختلفة، وهي بشكل أو بآخر مسؤولة عن نظرية الفيض بأشكالها كلها، ومقولة العقل الفعّال، ونظرية عشق العالم للإله، وحياة النجوم... الخ.
كان هؤلاء يتصورون أنّ ما وصلوا إليه صحيح من الناحية الاستنباطية، لكن إذا اعتمدنا هذا المعيار فقط، فكل القضايا الميتافيزيقية تتساوى في الصدق والكذب، إذ لا معيار يمكن أنّ يحسم بينهما، ومن هنا كانت نظرة ابن حزم النافذة بضرورة الالتزام بإمكانية رد هذه الأفكار إلى قضايا حسيّة أو عقلية بسيطة أو إلى دليل بواسطة التجربة، لكن معظم هؤلاء الفلاسفة لم يقبلوا بوجهة النظر هذه، رغم أنهم كانوا يعتقدون بإجماع بأنّ قانون السببية يحكم العالم.
لكنّ المشكلة هي في طريقة البرهنة على السبب، ومعظمهم كانوا يلجأون هنا إلى تقسيمات تحكمية لا مسوغ لها، كما هو الحال في مسألة الواجب والممكن، وبهذا أصبح عالم الأفكار لديهم مطابقاً للعالم الخارجي، وتحوّل الكلي من تعميم منهجي لغايات الفهم إلى كلي مطلق هو الأصل، وأصبحت الماهية المنجزة قانوناً صارماً خارج الزمان، وعلى الواقع أنْ يتطابق معها، مما يشكل عقبات رئيسة أمام نمو المعرفة العلمية. وقد ارتبط بهذه النزعة موقف محدد تجاه العقل، فهو يمتلك صلاحيات مطلقة في البحث في الشؤون الميتافيزيقية!
ثانياً: يختلف الفلاسفة الذين ينتمون إلى هذا الأنموذج عن الفلاسفة السابقين، فهؤلاء قبلوا المنطق كمنهجية للفيلسوف، لكنهم لم يقبلوا النتائج التي أُنجزت فلسفياً من الفلاسفة السابقين، بل يعتقدون أنهم لم يلتزموا كثيراً بالمبادئ المنطقية وخالفوها، التأويل أحياناً وقد نبّه ابن رشد تحديداً إلى أنهم انطلقوا من عالم ما بعد الطبيعة إلى الطبيعة، أي من عالم الأفكار لبناء عالم الوقائع، وهذا ليس صحيحاً، فالأصل أن تكون مبنية استناداً إلى عالم الوقائع، لكن قبل ابن باجة وابن رشد المنطق دون القيام بأية عملية تقويمية له، اقتناعاً منهم بصدق الصورة الأرسطية، ولم يأخذ الاثنان بمحاولة ابن حزم الذي أجرى تعديلاً جريئاً له في ضوء تبنيه للنظرة الإسمية، ومن ثم على مستوى نظرية الحد لم يعد ابن حزم يسعى للبحث عن الماهيات، والكليات عنده أسماء لا غير، وتميز هؤلاء الفلاسفة بمسألتين، فرقتا بينهم وبين السابقين:ـ
أولاً: لم يمنحوا العقل صلاحيات مطلقة للبحث في الشؤون الميتافيزيقية وفرض ابن حزم الحظر المطلق عليه، أمّا ابن باجة وابن رشد فقبلا فيما يبدو تحديداً جزئياً له، إذ في ضوء هذا نفسر رفضهما لنظرية الفيض والعقول.
ثانياً: تبنى هؤلاء الفلاسفة مبدأ الفصل بين الدين والعقل، فهما نسقان مختلفان من حيث المبدأ، ولم يقبلوا بتأويل الفارابي أو الإلغاء السينوي المشرقي، واختلفوا في تصوير طبيعة العلاقة التي يجب أن تقوم بينهما بعد الفصل، فقد أعطى ابن حزم دوراً محدداً للعقل في الخطاب الشرعي وتجاوز ابن رشد الحدود عندما منح العقل صلاحيات مطلقة في تأويل النص باعتبار أنّ أهل البرهان هم الأقدر على فهمه، وقد رفض الموقف الرشدي من اللاحقين مثل الشاطبي وابن تيمية.(57/56)
يعتبر هذان المبدءان من المبادئ الرئيسة في العقلانية العلمية، وهو الذي دفعنا إلى تمييزهم عن السابقين فهم حقاً تبنوا العقلانية الصورية، لكنهم رفضوا التأويل الفلسفي الذي قدمه السابقون، وتجاوز ابن حزم الآخرين بصورة خاصة، ويمكن اعتباره نموذجاً لوحده على العقلانية العلمية بين الفلاسفة، وذلك بتبنيه عدداً من القضايا الرئيسة فيها، وهذه القضايا الحزمية هي:
أولاً: قَبِلَ ابن حزم مكتسبات العقلانية الصورانية، وبخاصة المنطق ومبدأ السببية، وهو يقبل هذا الأخير بصورة تامة، فكل التفسيرات عنده سببية، أمّا المنطق فهناك ضرورة في إعادة بناءه من جديد، في ضوء النظرة الاسمية للكليات، ويقبل القياس من حيث هو آلية للبرهان.
ثانياً: الفصلُ بين عالم الغيب وعالم الإنسان، والإنسان لا يستطيع معرفة قضايا عالم الغيب، وإنما مجاله الخاص به هو عالم الإنسان، لذلك نادى بحظر النشاط الميتافيزيقي على العقل بصورة تامة.
ثالثاً: المعرفة ممكنة، لكن يجب أنْ يدعمها دليل، بمعنى أنّ القضية الصادقة لابد أن يدعمها على الأقل دليل واحد من الأدلة العلمية الأربعة وهي:
1- أوائل الحس. 2- أوائل العقل. 3- التجربة. 4- الخبر الصادق.
وكلُّ قضية مركبة يجب أن يكون بإمكاننا تحليلها إلى قضايا بسيطة مدعومة بهذه الأدلة، فإذا لم يتوافر هذا الشرط، فالقضية كاذبة.
رابعاً: الفصل بين الدين والعقل، ولا يجوز إلغاء أحد الطرفين لمصلحة الآخر، فهما نسقان مختلفان، ودور العقل في الخطاب الديني لا يتعدى المساندة والفهم والتمييز.
خامساً: رفض كل القضايا الأسطورية التي لا دليل عليها مثل عقول النجوم، وأفعال السحر.
تصور هذه القضايا الصورة الأولى للعقلانية العلمية في الفلسفة الإسلامية، ونحن لا ندعي كمالها، وإنما ستتطور، عند اللاحقين وهي تشهد بأنّ حقل الفلسفة قد تأثر بالعلوم الاختبارية والعقلانية العلمية عند ابن حزم هي نتاج مباشر لهذا التأثير.
5- المعرفة العلمية:
رفض ابن تيمية وابن خلدون الفلسفة المستندة إلى المنطق الصوري كمنهجية للفيلسوف، وهذا الرفض هو موقف فلسفي وينبع من فلسفة مارسها الاثنان، وإن لم يعطيا لها اسماً، ووجدنا أنّ التسمية المناسبة لهذه الفلسفة هي "العقلانية العلمية".
فكلاهما نادى بأنّ الأساس الأخير للمعرفة هو العقل، لكنّ هذا العقل ليس العقل الذي نجده في العقلانية الكلامية أو العقلانية الصورية، وإنما العقلُ كما نجده في المعرفة العلمية، ومن ثم هي فلسفة تتحدد بعلاقاتها بالعلم ابتداءً، فهي تقبل قضايا العلم الصادقة، والمنهجيّة المتبعة فيه، وتستثمرها في حقول مختلفة باعتبارها المنهجية الأمثل للبحث، وعلى الصعيد المنطقي تلتزمُ بمنطق لا يخالف مبادئ المعرفة العلمية، وتلتزم بمبادئ ستة رئيسية، تكون البنية العميقة لهذا الخطاب، وهي:
أولاً: مبدأ مصادر المعرفة الأربعة:
ذهب الاثنان إلى أنّ المعرفة هي نتاج تكامل بين الحس والعقل وما يبنى عليها مثل التجربة والأخبار الصادقة، وهذه هي مصارد المعرفة العلمية، ومصادر كل معرفة صادقة ممكنة، وبهذا قال الجاحظ، وابن الجوزي، والشاطبي والمعري وابن حزم وغيرهم كثيرون.
ثانياً: مبدأ حظر النشاط الميتافيزيقي على العقل:
يذهب الاثنان إلى أنّ موضوع المعرفة [الإنسانية] هو العالم المادي الذي نصل إليه بالحس والعقل والتجارب، وينبني على هذا أنّ مجال العقل الذي تظهر فيه فعاليته هو هذا العالم. فالمعرفة ممكنة للإنسان لهذا العالم، ويمكن أنْ نصل إلى قضايا صادقة بشأنه. وينبني على هذه المسألة قضيتان:
أ- هناك عالمان على الصعيد الأنطولوجي، هما: عالم السماء [الغيب] وعالم الإنسان.
ب- حدود مجال العقل وفعاليته هي عالم الإنسان، أمّا عالم السماء فلا يستطيع العقل أنْ يقدم معرفة يقينية بشأنه، لأنه يقع خارج مجال فعاليته.
ومن ثم نادى الاثنان بضرورة الفصل المنهجي بين العالمين، وتقييد مجال العقل في هذا العالم، وحظر النشاط الميتافيزيقي عليه، وبهذا نادى ابن حزم وابن خلدون، والشاطبي والمعري.
ثالثاً: مبدأ ضرورة الموضوعية في المعرفة:
ذهب الاثنان إلى أنّ عالم الإنسان يخضع لمبدأ السببية، فهناك أسباب ومسببات على الصعيد الأنطولوجي، وعلينا الوصول إلى التفسيرات السببية على الصعيد المعرفي. ويجب من ثم أن يصل الآخرون إلى النتائج ذاتها، لأنّ المعرفة بطبيعتها غير ذاتية، والمعرفة العلمية بالذات تتسم بهذه السمة فهناك إمكانيةٌ للتحقق من نتائجها من قبل آخرين، أمّا المعرفة الذاتية التي تبقى حبيسة ذات العارف، فلا تستحق أن تسمى معرفة، وهذه هي الموضوعية في المعرفة.
رابعاً: مبدأ الفصل بين عالم السماء والإنسان:
يذهب الاثنان إلى أنّ عالم السماء لا يمكن معرفة تفاصيله بالعقل، وقصارى ما يمكن الوصول إليه هو إثبات الوجود الإلهي، أمّا ماهية هذا الوجود وصفاته فلا يمكن معرفتها بالعقل، وهي عموماً موضوع الدين. وبهذا قال الشاطبي وابن الجوزي.
خامساً: مبدأ الفصل بين الأنساق الثلاثة:(57/57)
نادى الاثنان بضرورة التمييز بين أنساق ثلاثة: الفلسفة والعلم والدين فهناك اختلافات بين هذه الأنساق في الموضوعات والوسائل والغايات، ويجب إلا يتم إلغاء أحدِها لصالح الاثنين الآخرين. بمعنى أنّه لا يجوز تحميل الخطاب الديني تأويلات فلسفية لا تمت له بصلة أو نقوم بتأويله علمياً، إذ ليس الدين من حيث المبدأ علماً [بالمعنى الوضعي] أو فلسفة، وهذا يعني بصورة أخرى الاعتراف بشرعية الأنساق الثلاثة وهذا ما نجده عند ابن حزم وابن رشد وابن الجوزي والشاطبي.
سادساً: مبدأ الالتزام بالروح العلمية:
يذهب الاثنان إلى أنّ هدف المعرفة من حيث المبدأ بلوغ الحقيقة بغض النظر عن الأهواء والانفعالات الذاتية. ومن ثم دعا الاثنان إلى ضرورة نبذ الاعتبارات الأسطورية والسلطوية والمصالح الذاتية، والأهواء والخرافات وكل ما من شأنه أنْ يقف حائلاً دون بلوغ الحقيقة.
والعمدة في آخر المطاق على الدليل، أمّا التصوف فقد قبله الاثنان شريطة أن لا يخالف ما هو معلوم بالتجربة أو بنصوص الدين المقدسة [الثابتة]، ويجب أن يبقى تجربة ذاتية، تتعلق بالعابد نفسه، وهذه التجربة هناك صعوبة في التعبير عنها لغوياً ومن ثم تحويلها إلى معرفة ممكنة، وبهذا قال ابن الجوزي أيضاً.
وقف ابن تيمية وابن خلدون على العلوم الاختبارية في عصرهما، وأدركا بوضوح بالغ طبيعة المعرفة العلمية، من حيث هي نتاج إنساني، ليس مصدره العقل الفعال أو الله [تعالى] أو أية قوة كونية أخرى. وهي ليست ثابتة بصورة مطلقة، وإنما قابلة للتعديل والتطوير، في ضوء تحسن أدواتنا، ووسائلنا وقيامها ابتداءً على أوليات الحس والعقل، والتجارب المستندة إليها. وأنّ المعيار الحاسم في قبول القضية العلمية هو التجربة، فهي القادرة على التحقق من صدق فروضنا، فما ثبت بالتجربة يجب قبوله والاعتراف به، وما عدا ذلك يبقى في دائرة الفرض الذي لم يتحقق، ومن ثم لا نستطيع الحكم عليه بالصدق، وبهذا تقدمت المعرفة العلمية، وحصل الاتفاق بين المشتغلين فيها، وفي ضوء هذا الوعي حاكم الاثنان الخطاب الفلسفي السائد، فقضاياه لا يمكن أنْ نتحقق من صدقها مثل قضايا العلم الاختباري [السبيل الوحيد لها هو النقل]، فهم قد حكموا معايير المعرفة العلمية في نقد الخطاب الفلسفي، ومن ثم قادهم هذا إلى نقدِ المنهج المنطقي باعتباره الأداة التي أَنتجت المعرفة الفلسفية.
انطلق الاثنان من التسليم بحقل العلوم الاختبارية والدفاع عنه، ومن داخله قام الاثنان بنقد الخطاب الفلسفي ومنهجه، فالخطاب الفلسفي يجبُ أنْ لا يُناقض المعرفة العلمية، وعليه أنْ يتبنى معاييرها. وفي ضوء هذا النقد تبنى الاثنان فلسفةً تلتزم بقواعد العلم وتنطلق منه، ومن هنا، كان المنطق الاسمي امتداداً للمعرفة العلمية، فالتسمية والتدليل هما الامتداد الطبيعي للمنهجية العلمية، فهما يُقدمان لنا معرفةً نسبيةً حول تجاربنا عن عادات الموجود بلغة ابن تيمية. والعلمُ قد حققَّ إنجازاته بفضل هذه المنهجية التي تلتزمُ بالعالَمِ المُعطى كحقلٍ للمعرفة العلمية، فهو لا يحدثنا عن عالمٍ مفارق، ولا يدَّعي أنَّ بإمكانه معرفة تفاصيل هذا العالم، ومن هنا علينا الالتزام بهذا على الصعيد الفلسفي، بمعنى أنَّ علينا أنْ نلتزمَ بالعالم كموضوع للمعرفة الفلسفية، وأنْ نُسلمَ بحدود العقل في إطار حدو هذا العالم، وفرضُ حظر النشاط الميتافيزيقي على العقل، وبهذا كانت الفلسفةُ التي تبناها الاثنان من إنجاز العقل النظري أو الفلسفي، والتأسيس الفلسفي بهذا النهج قد تم انطلاقاً من معطيات العقل النظري.
لم يكتفِ الاثنان بالنتيجة السابقة، وإنما انطلقا بعد ذلك إلى معالجة الخطاب الديني، وبالطبع كان من الممكن لهما أنْ يتوقفا عند حدود إنتاج العقل الفلسفي، ومتابعة النشاط الفلسفي على هذا المستوى. لكنْ هناك خطابٌ موجود وهو الدين، وبالنسبة لهما هذه الفلسفة لا تناقض الدين أساساً، بمعنى إذا انطلقنا من داخل الخطاب الديني، فهذه الفلسفة لا تناقضه، ومن ثم لا مشكلة على هذا الصعيد، وإنما المشكلة هي: هل يخالف الدين قواعد العقل الفلسفي الذي يقوم على التسمية والدليل والبرهان،، أي إذا انطلقنا من داخل حقل العقل الفلسفي إلى الدين؟
إذا حكمنَّا معايير العقل النظري في الخطاب الديني فلا مهرب من هذا التناقض، فعالم الغيب الذي يتحدث عنه الدين، لا يمكن أنْ يختبر على صعيد العقل الفلسفي [الوضعي]، ومن ثم أخذَ الاثنان بضرورة الفصل [أو التمييز] بين الخطابين، ومن ثم الاعتراف بشرعيتهما، وضرورة أنْ لا تحاكم القضية إلاّ في ضورة معايير النسق الذي تنتمي إليه. ومن ثم الإيمانُ بالغيب قضيةٌ صادقةٌ على صعيد العقل النقلي، ولا يجوز تطبيق معايير العقل الفلسفي [الوضعي] عليها.(57/58)
لم يُقبلْ الخطاب الديني اعتباطاً، فقد قام الاثنان بتسويغه عقلياً، أمّا ابن خلدون فقد لجأ إلى نظرية الاتصال، وأمَّا ابن تيمية فقد دعا إلى ضرورة دراسة ظاهرة النبوة ابتداءً، فالنبوة ليست محصورة بالنبي محمد ( r )، وإنما هي ظاهرة موجودة عند آخرين [قبله]، ومن ثم يمكن دراسة هذه الظاهرة درساً علمياً، والنبوة تثبت بالمعجزة، وهناك شهادات لا يمكن الطعن فيها على وجود هذه المعجزات، ومن ثم لا مهرب لنا من قبولها. فإذا سلّمنا بذلك، فتلك هي بداية شرعية الخطاب الديني الذي قبل على أساسه. فإذا سلمنا بشرعية هذا الخطاب فعلينا فيما بعد أنْ لا نحاكمه إلاّ في ضوء المعايير التي يقدمها، تمثل الصورة السابقة، مبادئ العقلانية العلمية الستة التي قبلها الاثنان، وهذه الصورة هي الأكمل عبر ستة قرون، وصحيح أنّ بعض هذه المبادئ وجد عند السابقين، لكنها لم توجد بصورة مكتملة عند أحدهم، ولم تعالج بصورة كافية.
لا يعني هذا بالطبع أنّ هذه المبادئ هي كل مبادئ العقلانية العلمية، الموجودة لدينا في الوقت الحاضر، وإنما لا شك في أنهم قد تقدموا في هذا المجال وقطعوا فيه أشواطاً طويلة جداً ولم تقف جهودهما عند حدود إدراك مبادئ العقلانية العلمية، وإنما انخرط الاثنان في الممارسة العلمية بصورة مباشرة، فاشتغل ابن تيمية في إعادة بناء علم المنطق على أسس جديدة، أمّا ابن خلدون فأعاد تأسيس علم التاريخ، واكتشف علماً جديداً هو علم العمران.
كانت القضية الرئيسة التي انطلق منها ابن تيمية في إصلاح المنطق هي إعادة النظر في الكليات، فاستناداً إلى أفلاطون يوجد للكليات وجود موضوعي مفارق للذات. وقد تنبه أرسطو إلى هذا الأمر، وقام بنقده، لكنه أعطى الكلي أيضاً وجوداً واقعياً وإن كان مختلفاً عن الوجود الأفلاطوني، فهو يتحدث عن وجود بالقوة للكلي، ويجعله مكافئاً للصورة، وهي محايثة للمادة، وهذه الحلول الأرسطية لم تخرج عن دائرة التصور الواقعي للكلي، وقد تبنى الفلاسفة الإسلاميون التصور الأرسطي من الكندي حتى ابن رشد باستثناء ابن حزم. الذي كان له موقف مختلف عنهم. وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت للموقف الأرسطي من الكلي، إلا أنّ الفلاسفة الإسلاميين اعتقدوا بصواب الموقف الأرسطي، وقد رفض ابن تيمية وابن خلدون هذا الأمر تماماً، فالكليات لا وجود لها إلا في الذهن، والكلي الذي ليس له أصل في عالم الحس يجب رفضه، والكائنات الميتافيزيقية التي وصل إليها الفلاسفة، هي كليات لا أساس لها في عالم الحس، ومن ثم يجب رفضها لأنه ليست من وظيفة العقل إدارتها. وقد بُنيت نظرية المعرفة الأرسطية على أساس موقفه من الكلي، فالمعرفة تصورات نصل إليها بالتعريف بالحد، والذي يصور ماهية الشيء المعرّف، وتصديقات نصل إليها بالقياس.
وقد أنكر ابن تيمية ذلك تماماً، فالحد لا يصور ماهية الشيء وإنما وظيفته اسمية تماماً، بمعنى أنه مثل الاسم وظيفته التمييز بين الأشياء، والماهية تقوم على التمييز بين الصفات الذاتية والصفات العرضية للشيء، وهذا التقسيم مفتعل فلا يوجد معيار حاسم على هذا المستوى. أمّا القياس، فقد شدّد ابن تيمية على أنّ ما نصل إليه من معرفة بواسطته يمكن أن نصل إليه دون ذلك، والشروط الموضوعية له يجب إعادة النظر فيها، وقد طوّر ابن تيمية هذا الأمر إلى نظرية الاستلزام. وقد تبنى ابن خلدون القضايا الرئيسة التي أثارها ابن تيمية، فهو لم يكن منشغلاً في إعادة بناء العقل النظري مثل ابن تيمية، وإنما كان مشغولاً في إعادة بناء العقل العملي استناداً إلى البنية النظرية ذاتها.
أمّا ابن خلدون، فقد أعاد اعتبار لعلم التاريخ، فبعد أنْ كان ملحقاً بالعلوم النقلية، قام بإرجاعه إلى حظيرة العلوم العقلية، وانشغل في المعاير التي يجب اللجوء إليها للتحقق من صدق الواقعة التاريخية، ولم يكتف بموازين الجرح والتعديل. وإنما بين أنّ المهمة الأولى يجب أن تكون مطابقة الخبر للقوانين التي تحكم الحياة الاجتماعية، والعلم الذي يبحث في هذه القوانين هو علم العمران، لكنّ هذا العلم لم يقم بتأسيسه السابقون، ومن ثم ندب نفسه أيضاً لإنجاز هذا الأمر، ومن هنا، أسس ابن خلدون علم العمران، ليكون مساعداً لعلم التاريخ، ومن الجدير بالذكر أنّ القوانين الاجتماعية يمكن الوصول إليها عبر الملاحظات والتجارب. ويمكن النظر إلى "المقدمة" باعتبارها تمثل الممارسة العلمية الحقيقية لابن خلدون. ونحن لا ندعي اكتمال هذه التجربة، ولكن ما يهمنا هو الروح العلمية التي تحلى بها والعقلانية العلمية التي وجهت خطابه في هذا المجال.
لا شك أنّ ابن تيمية وابن خلدون قد تأثرا بالعلوم الاختبارية، وأنّ العقلانية العلمية التي حكمت خطابهما جاءت بفعل هذا التأثير بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وهي نتاج تطور مستمر خلال القرون السبعة السابقة. وهي تمثل الصيغة الأكمل في تراثنا.
-==================(57/59)
(57/60)
تجديد البعد العقلي
أ.د. عبدالكريم بكار
الحمد لله حمد الشاكرين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فإن الشخصية مركّب فذ من الجسد والروح والنفس والعقل ، ولها بعدٌ اجتماعي عظيم الأثر في وجودها . وإن كل نمو إيجابي في أي جانب من جوانبها ينعكس عليها جميعاً ، كما أن أي خلل يصيب أي جانب منها يعود بالضرر عليها جميعاً .
يستمد الاهتمام بالبعد العقلي نوعاً من التميز من خلال أن التفكير الجيد شرط لتنمية كل شيء في الحياة : التربية والاجتماع والاقتصاد والسياسة والعلاقات ...
ويعد أي تطوير لأي جانب من جوانب الشخصية بالغ الأهمية ؛ حيث إن الرؤية الإسلامية تؤسس مقولة : ( الإنسان أولاً ) . أضف إلى هذا أن التقدم المادي والعضوي قد يكون محدداً بأسوار تجعل المضي فيه أمراً عسيراً أو مستحيلاً ، على حين أن أمداء النمو أمام البعد العقلي والروحي فسيحة جداً .
إن العقل البشري نعمة عظمى من الله جل وعلا وله قدرات هائلة ، هي أكثر مما يظن . ويمكن القول : إنه أشبه بعملاق نائم ! وقد دلّت الدراسات النفسية والتربوية ، وأبحاث الكيمياء والفيزياء والرياضيات أن ما تم استخدامه من إمكانات العقل لا يزيد على 1% من إمكاناته الحقيقية . الحاسب الآلي (كراي) حاسوب عملاق يزن سبعة أطنان ، فإذا عمل بطاقة 400 مليون معادلة في الثانية مدة مئة عام ، فإنه لن ينجز سوى ما يمكن للدماغ البشري أن ينجزه في دقيقة واحدة ] فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ [ [المؤمنون : 14] .
يمكن القول : إن لـ (العقل) شكلاً ومضموناً ؛ فشكله تلك القدرات والإمكانات التي زوّد الله تعالى بها أدمغتنا ، مثل القدرة على خزن المعلومات واسترجاعها ، ومثل القدرة على التخيل والتحليل والتركيب ... وهذه متفاوتة بين الأشخاص متساوية على نطاق الأمم .
ومضمون العقل منه ما يعود إلى مجموعة المبادئ الفطرية العالمية التي لا تختلف بين شخص وآخر ، مثل إدراك عدم إمكانية اجتماع الضدين ، وإدراك أن الكل أكبر من الجزء ، وإدراك استحالة القيام بعمل خارج دائرتي الزمان والمكان .
ومنه ما يعود إلى شيء مكتسب مرتبط بالثقافة السائدة ، وهذا في الحقيقة يتشكل من مجموعة المفاهيم المترابطة والراسخة التي يحاول الناس من خلالها استيعاب الواقع الموضوعي وتنظيمه وتكييفه مع حاجاتهم ... وهذا النوع من المضمون مطلّ بالضرورة على مبادئ التفكير الفطرية ومرتبط بها .
العقل من خلال شكله ومضمونه ينتج شيئاً نسميه : (العقلانية) . وبما أن (الثقافة) تختلف في مبادئها وقيمها وجمالياتها ورمزياتها بين أمة وأخرى ، فإن المتوقع من العقلانية أن تتسم بطابع النسبية ، بسبب الدور البالغ للثقافة في تكوينها . ولذا فليس ثمة عقلانية صافية أو محايدة أو مطلقة . ولعلنا نستشف هذا من النسق القرآني ؛ فهو إذا جمع بين الحكمة والتي هي مركّب من الذكاء والمعرفة والإرادة والكتاب في موطن واحد ، يقدّم الكتاب أولاً ، وكأنه يرمي إلى ضرورة تأطير (الحكمة) بالكتاب (الوحي) حتى تكتسب نوعاً من المرجعية ، وحتى تتخلص من النسبية التي تضفيها عليها الثقافة .
إن بُنانا الفكرية ليست معصومة من رياح التغيير العاتية ؛ فهي باعتبارٍ مّا انعكاس لما يجدّ من نظريات وآراء علمية واجتهادية مبثوثة في جميع مجالات الحياة ؛ ولذا فإن علينا أن نمتلك أعلى درجة من اليقظة والحذر حتى نصون عقولنا من البرمجات الثقافية والبيئية التي تحول دون استيعاب الواقع على النحو الصحيح ، ودون التطوير البعيد المدى الذي نحتاجه .
شروط للتجديد :
إن التجديد في أي جانب من جوانب الحياة ، يتضمن دائماً نوعاً من التخلي عن بعض المألوفات ، كما يرتب تكاليف جديدة ، ويتطلب ضبطاً أكثر للذات ، ولهذا كله كان شاقاً على النفس .
إن أول شرط من شروط التجديد : هو معرفة (الثوابت) على نحو جيد ، والتفريق بينها وبين (المتغيرات) وتتجلى الثوابت في الغاية الكبرى للوجود الإنساني ، وفي المبادئ والقيم العليا التي نؤمن بها ، إلى جانب الأحكام القطعية الواقعة
خارج نطاق الاجتهاد . إن التجديد المستمر كبير التكلفة ، ومفتاح معايشته هو أن يكون في داخل المرء (جوهر) يستعصي على التغيير ، ويمثل الفلك الذي تدور فيه جميع المتغيرات ، وتخدمه .
والشرط الثاني : هو امتلاك ما يكفي من الخيال والوعي للإحساس بالنهاية التي نرنو إليها .
والشرط الثالث للتجديد : أن يوقن المرء أن في إمكانه أن يغير عاداته الفكرية والنفسية والسلوكية ، وذلك يتوقف على القدرة على مجاهدة الأهواء والأوهام والكسل الذهني ، والإخلاد إلى المألوفات .
إن التجديد للبعد العقلي يتم بالتخلص من طرق التفكير الخاطئة ، وباكتشاف الإمكانات ، والآفاق التي تزيد في كفاءة تصوراتنا ، وتحسّن مستوى محاكمتنا العقلية ؛ ولعلي أسوق من ذلك ما يسمح به الوقت على النحو الآتي :(57/61)
يدّعي معظم الناس أنهم قادرون على عزل أفكارهم عن مشاعرهم ، وأن بإمكانهم أن يحملوا مشاعر تعاطفية نحو أمر ما على الرغم من كونهم يحملون أفكاراً سيئة عنه . والحقيقة أن أفكارنا ومشاعرنا ، تتناوب التأثير والتأثر في معظم الوقت ، وهناك توافق بينها . والنجاح المتوالي يوجِدُ حالة نفسية تظلل جميع حياة الفرد ، وتجعله يعتقد أنه ناجح فعلاً . ويحدث العكس عندما تتوالى أحداث الإخفاق على الإنسان . في كلتا الحالتين تبدو الصورة التي نكونها عن أنفسنا كأنها الصورة الوحيدة الصحيحة ، ونتصرف بعد ذلك على هدي من معطياتها . والحقيقة أن الأمر ليس كذلك ؛ فحين يزور خمسة من الناس مكاناً لا يعرفونه من قبلُ ، فالمألوف أن تكون لهم حياله وجهات نظر متعددة ، وسيكون بعضها أكثر مطابقة للحقيقة من بعضها الآخر . كثير من الناجحين في وظائفهم أصيبوا بأمراض مزمنة كقرحة المعدة حرمتهم نعمة الاستمتاع بالحياة ، وكثير منهم خسروا أنفسهم ، بما أهملوه من شأن آخرتهم .... وبعض من أخفق في دراسته يملك إمكانية هائلة للنمو الحر والنجاح في ميدان تجاري أو وظيفي أو اجتماعي ... ولذا فإن من الحيوي ألا نعتقد أن النجاح الذي حققناه في أي مجال هو الذروة التي لا ذروة بعدها ؛ فالمهم ليس الصعود إلى القمة ، وإنما كم يمكن البقاء عليها ، وألاّ يمكن أن نكون واهمين في تصورنا للقمة ، وأن تكون الحقيقة غير ذلك ؟
في المقابل حالات الانكسار والهزائم التي نمر بها لا تعني نهاية العالم ، بمقدار ما تعني أن علينا أن نفكر بطريقة جديدة ، وأن نبحث عن مجالات جديدة .
ولذا كان من الضروري أن يسأل الواحد منا نفسه : كيف أستطيع أن أفكر في هذا الأمر بطريقة أخرى ؟ وكيف يستطيع غيري أن ينظر إليه ؟ وما وجهات النظر الأخرى حياله ؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تشكل تمريناً عقلياً يحسن أن نجرّبه من وقت إلى آخر .
إن الذي يحول بيننا وبين رؤية الخيارات العديدة المغايرة لما نعتقده ونفضله هو ما استقر في نفوسنا من الانحياز إلى مشاعرنا ومألوفاتنا وطرق تفكيرنا ، وهذا الانحياز مصدر كبير من مصادر الحرمان من التجديد ، والحرمان من مشاركة غيرنا في رؤية الأشياء على نحو أكثر رحابة .
2- النظرة المتعمقة :
إن العقل الذي وهبه الله جل وعلا لنا يتمتع بقدرات هائلة كما ذكرنا لكنه يظل في النهاية محدوداً . وأكثر الأفكار التي نمتلكها هو وليد التجربة وثمرة المعاناة ، أي هو خبرة حياتية متولدة من اشتباك منظومات المعارف والرموز والمبادئ إلى جانب ألاعيب الهوى وأنماط السلطة وأشكال تحقيق المصلحة والاهتمام بالذات ... ولذا فيجب ألا نعتبرها دائماً نهائية ، فصدق الأفكار يظل مرتهناً لما تسفر عنه نتائج إنزالها إلى الميدان العملي الذي كثيراً ما يفقدها تماسكها ويعيد إنتاجها من جديد على وجه الإثراء والتوسيع ، أو على وجه الانتهاك والتأويل . وهذا يعني أن علينا ألا ننتظر الفوز برؤية نهائية ، نسترشد بها في مواصلة البناء وتخطي العقبات ؛ فالأعمال العقلية المتزايدة ، لا تؤدي بالضرورة إلى تقدم عقلاني مطرد ؛ فالنكوص والتراجع من الأمور الواردة بكثرة في هذا الميدان ؛ بل إن للتقدم العقلي مفرزات جانبية شديدة الخطورة ، ولا سيما إذا ما تأتى للعقل أن يتحرر من القيود والقيم الأخلاقية ؛ ثم إن المسيرة الحضارية لا تمضي على هدي أفكار ومخططات يتخيلها مثقفون حالمون متفائلون بمستقبل البشرية على صعيد الفهم والعلم والحوار والرشد والنمو الصحيح ، وإحقاق الحق ، وتجسيد القيم النبيلة ... فهناك أيضاً المصالح والأهواء والشهوات والقصور الذاتي والظروف المعاكسة ... وكل ذلك يجعل من ميادين الحياة مصانع سيئة لإنتاج الأفكار وتطبيقها . وهذا يعني أن علينا حتى نستمر في التجديد العقلي أن نسعى دائماً إلى تفحّص برامجنا وقراءة أحوالنا ، وإقامة علاقات نقدية مع ذواتنا وإنتاجاتنا ؛ حيث النقص شيء ملازم لنا . وليس المطلوب أن تصبح المحاكمة العقلية لدينا كاملة ، وإنما مداومة فضح الممارسات الفكرية الخاطئة ، وكشف زغل أعمال العقل ؛ فالكمال في كل شأن ليس شيئاً نستحوذ عليه ، وإنما هو شيء نناهزه ، ونحاول الاقتراب منه . وما لم نتعامل مع منتجاتنا الفكرية والمعرفية ، ومع تجاربنا وأحداث العالم من حولنا على هذا النحو ، فإن كثيراً من مكتسباتنا الفكرية والنهضوية يمكن أن يتعرض للخطر ، أو يصبح موضع تساؤل .
3- التفكير المتوازن :
تجديد البعد العقلي يتطلب أن يدرب الواحد منا نفسه على التفكير المنهجي المتكامل الذي يستجيب لكل ما يطلبه النجاح في الوصول إلى نتائج جيدة ، وأحكام صائبة . وإذا أراد الواحد منا أن يفكر في موضوعٍ مّا فعليه أن يفعل الآتي :
أ- أن يجهز المعلومات التي تتعلق بموضوعه . ولا بد أن يكون على وعي بنوعية المعلومات المتاحة ؛ إذ إن هناك طبقتين من المعلومات : طبقة المعلومات الحيادية التي تمثل الحقائق الثابتة التي انقطع حولها النزاع ، وطبقة المعلومات المعتقَدة لبعض الأشخاص ، والتي هي أقرب إلى أن تكون رؤى شخصية لهم .(57/62)
المعلومات الثابتة تمثل معطيات يجب احترامها خلال عملية التفكير . أما المعلومات الأخرى فتساعدنا على إضاءة القضية وتحسّن اختيارنا فيها .
ب- لدى كل واحد منا عواطف حول القضية موضع البحث ، ونحن نحاول عدم الاعتراف بها ، وأحياناً لا نكون على وعي بها ، ومن ثَمّ فإنها تؤثر في التفكير ، وتوجهه على نحو غير سويّ . المطلوب أن نُخرِج عواطفنا إيجابية كانت أم سلبية إلى منطقة الوعي ، ونعترف بها ، ثم نحاول إبعادها عن دائرة التفكير .
ج- لا بد أن نعطي وقتاً للتفكير الناقد الذي يركز على سلبيات القضية موضع النظر . والتفكير الناقد هو تفكير منطقي ، لكنه سلبي ، وهو كثيراً ما يكون مبنياً على حقائق وصادقاً ، وإن كان لا يشترط أن يكون منصفاً دائماً . وعلينا أن نتذكر أن التفكير هو على مستوى مّا تفكير بنائي ؛ حيث لا يستغني أي عمل جيد عن المراجعة وإعادة النظر ، وفي ذلك شكل من أشكال نموّه . وهذا لا يُنسينا أيضاً أن النقد شديد الإغراء ؛ حيث إنه يمنح صاحبه تفوقاً سريعاً على النظراء ، ولذا فينبغي الحذر من الانزلاق إليه بحيث نبدو أننا لا نحسن غيره . ولعل خير ضمانة لذلك هو أن يظل التفكير النقدي على علاقة جدلية بتفاعلات القضايا التي نوجهه إليها .
د- في مقابل التفكير الناقد ، هناك التفكير الإيجابي ، وهو التفكير الذي يركز على الإيجابيات ؛ ففي حالة التفكير في إقامة مشروع تجاري مثلاً يُبرز التفكير الإيجابي كلّ الأدلة والمعطيات التي تؤكد احتمالات الربح ويتم إسدال الستار على كل ما يشير إلى احتمالات الخسارة . تبرز قيمة التفكير الإيجابي حين يستطيع الكشف عن الإيجابيات الخفية للقضية . والحقيقة أن الناجحين ينتبهون دائماً إلى جوانب النفع الخفية ، وبذلك يسبقون غيرهم . إن من الثابت أنه لا يُغلق باب حتى يفتح باب آخر ، لكن قصورنا الثقافي والتربوي يجعلنا نُشغَل بالباب الذي أُغلق عن الباب الذي فُتح ! ومع هذا فلا بد من القول : إن الخط الفاصل بين التفكير الإيجابي والاندفاع المتفائل المتهور ، هو خط ضيق ، ولذا فإمكانات الخلط بينهما ستظل متوفرة دائماً .
هـ- لا بد بعد هذا أن نستخدم التفكير الإبداعي الذي يحاول أن يستخرج من معطيات ناقصة حلولاً جيدة ، أو رؤى ناضجة . ولا بد من القول : إن أكثر التفكير الذي نتشبع به في بيئاتنا الثقافية مهيّأ لمعالجة المعلومات ، مثل المنطق والإحصاء والرياضيات ، وتنسيق المعارف ... أما التفكير الإبداعي ، فإنه يحاول إيجاد أشكال جديدة تضاف إلى ما لدينا من تراكيب ندرك من خلالها المحيط . التفكير المبدع يحتاج إلى الوقت ؛ والعجلة هي عدوه الأول . وقد تعودنا أن نقبل أو نتشبث بالحل الذي يظهر لنا لأول وهلة ؛ مع أن الثابت أننا حين نمعن التفكير فإن الأفكار الجيدة لا ترد إلى الذهن أولاً وإنما في آخر المطاف . والمطلوب هو أن نوفر الوقت لاستخراج أكبر قدر ممكن من الرؤى والحلول والاحتمالات ، ثم نعكف على اختيار الأكثر مناسبة لاحتياجاتنا وإمكاناتنا .
التفكير المعوجّ :
إننا حين نمارس التفكير في أي موضوع ، نستخدم في الحقيقة عدداً من العناصر البالغة التعقيد ، مثل مبادئنا العقلية ، وثقافتنا العامة ، وعاداتنا الفكرية والنفسية ، بالإضافة إلى المعلومات المتعلقة بالمسألة موضع التفكير ؛ ثم إننا لا نستخدم كل ذلك في فراغ ، فهناك دائماً ضغوط واعتبارات ظرفية واجتماعية ، تكتنف تفكيرنا في الأمور . وبما أن كل ما ذكرناه لا يكون في العادة كاملاً ولا نقياً ، فإن علينا ألا نتوقع أن يكون باستطاعتنا دائماً النجاح في الوصول إلى تصورات وأحكام راشدة . ولذا فإننا سنظل بحاجة إلى محاصرة أنماط التفكير الخاطئة على نحو ما يصنع الفلاح حين يزيل الأعشاب الضارة من أرضه قبل أن يلقي بذوره .
وفي اعتقادي أن الفائدة من تعلم طرق تفكير جديدة ، ستظل محدودة ما لم نتمكن من تعرية الممارسات التفكيرية الخاطئة والتضييق عليها إلى أبعد حد ممكن . وهي في الحقيقة أشكال وألوان ؛ ويمكن أن نسلط الضوء على بعضها على وجه السرعة .
1- المسلَّمات الثقافية :
نحن إذ نفكر ننطلق من مبادئ ومسلّمات ثقافية ، وتلك المسلّمات ، لا تؤمّن تسايل عمليات التفكير فحسب ، وإنما تريح العقل من عناء البحث والتمحيص أيضاً ، أي تؤمّن له نوعاً من العطالة والسكون ، ومن هنا تنبع جاذبيتها وخطورتها في آن واحد . لو فتشنا في عقولنا لعثرنا على مخزون ضخم من المسلّمات المتعلقة بالناس والأفكار والأحداث . وتصنيفاتُ الأمم والشعوب بعضها لبعض نموذج حي على ذلك : فالشعب الفلاني محتال ، والشعب الفلاني كسول ، والشعب الفلاني ماهر.. ووسائل الإعلام في الغرب (العقلاني) تقترب من أن تصم كل مسلم بالتطرف والإرهاب ؛ مهما تكن درجة التزامه . أما العرب في نظرها فهم شعوب مهووسة بالتبذير والجنس ، تتخبط في الجهل ، وتعشق الفوضى ... وتلك الصور الذهنية ، تشكل مشاعر الناس ، وتوجه سلوكهم ، وتنظم ردود أفعالهم .(57/63)
إنسان القرن الحادي والعشرين مع أنه يتحدث باستفاضة عن العولمة ، والقرية الكونية ، وتلاقح الثقافات إلا أنه غير قادر على الانعتاق من كثير من المسلّمات الثقافية المتخلّفة ، فهناك انجذاب شديد نحو الإقليمية والعنصرية والطائفية ، أي هناك انسحاب من عالمية الرؤية والثقافة والإحساس المشترك في الوقت الذي تتسع فيه عالمية التجارة ، ويتسايل انتقال المعلومات والأشياء !
2- إسقاط المعلومات غير الملائمة :
حين نكوّن اعتقاداً ما فإن القوى غير الواعية فينا تحشد على نحو غير مرئي كل الأدلة والبراهين التي تقوّيه ، وتجعله غير قابل للنقاش ؛ وحين تأتينا معلومات تناقض ما انتهينا إليه ، فإن أكثرنا يحاول الإفلات من التغييرات التي تقتضيها المعلومات الجديدة بأساليب شتى . وعلى سبيل المثال إذا بلغنا عن شخص نثق به ، ونحترمه احتراماً شديداً أنه كان في حياته عاقاً لوالديه ، فإننا عوضاً عن أن نحاول التحقق من تلك المعلومة والتغيير في نظرتنا عند ثبوتها ، فإننا نسلك مسالك عديدة حيالها ، كلها غير سويّ : فقد نقول : إن الذين رووا ذلك حاقدون عليه . وقد نقول : إن أبويه توفيا وهو صغير قبل أن يُكلّف . وقد نقول : إن أبويه كانا يعاملانه بقسوة ؛ فله نوع من العذر فيما فعله . وقد نقول : إن عقوقه لهما كان لمصلحتهما لأنهما لم يكونا على معرفة بها ... وهكذا فإن المعلومة المناقضة لما نعرفه عن فلان تُعامَل بإهمال شديد ، ومن ثَمّ فإنه لا يتم تخزينها ، ويصبح الأمر كما لو أن العقل ليس فيه ( خانة ) مستعدة لقبول المعلومة المشوّشة . وهذه الحالة بعيدة الأثر في تشويه المركّب العقلي لكثير من الناس . وأعتقد أن كثيراً من بطء تقدمنا في فهم التاريخ يعود إلى هذه المسألة .
3- الضلال في تفسير الظواهر :
لو تساءلنا : هل الضلال الذي ينشأ من اختراع أمور لا أصل لها أعظم ، أو الضلال الذي ينشأ من تفسير أمور موجودة تفسيراً خاطئاً ؟
لكان الجواب من غير تردد : أن الضلال الذي يجتاح حياتنا الفكرية من وراء التفسيرات الخاطئة أعظم بكثير من الضلال الذي ينشأ من الكذب الصراح . نجد في خبراتنا اليومية من يقول : إن فلاناً متفوق ؛ لأن أباه لا يكلّفه أي شيء ، فهو متفرغ للدراسة . وفلان منحرف ؛ لأنه نشأ يتيماً ، فلم يتلق التربية المناسبة . والبلد الفلاني ثري ؛ لأن فيه أنهاراً غزيرة . والشعوب الإسلامية متخلفة ؛ لأنها تقع تحت ضغوط مؤامرة كبرى ... ولو أجَلنا النظر في هذه التفسيرات لوجدنا أنها جميعاً محتملة ، وليست قطعية ، فهناك طلاب أثرياء ، ومفرّغون للدراسة ، ومع ذلك يرسبون . وهناك أعداد ضخمة من الأيتام ذوي السلوك الحسن والسيرة الحميدة ، وهناك وهناك ...
إن تفسير الظواهر الكبرى بعامل واحد من أكثر الأخطاء الفكرية انتشاراً ، وهو الذي يقبع خلف عدد ، لا ينتهي من التصورات والأحكام العوجاء والظالمة .
4- تأثير الهالة :
قدرة الناس على مناقشة الأفكار ومعرفة مزايا الأشياء على نحو دقيق محدودة ، ولذا فإنهم يتشبثون بأي شيء يمكن أن يساعدهم على استيعاب ما يرغبون في استيعابه . وحين يتفوق إنسان في مجال ما فإنه يكوّن لنفسه (هالة) ويترك انطباعاً بالجدارة والثقة لدى الآخرين . وبتأثير تلك الهالة ينسى الناس جوهرية (الاختصاص) ويسألون المعجبين بهم عن أشياء ليس هناك أي دليل على تفوقهم في معرفتها . وصار من المألوف اليوم أن يُقبل الناس على استخدام نوع من الصابون أو العطر أو معجون الأسنان ... لأن النجم الفلاني يستخدمه ، أو ظهر في إعلان عنه . وطالما سُئل رياضيون وفنانون عن قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية ، وطالما انفعل الناس بأجوبتهم أكثر من انفعالهم بأجوبة بعض المختصين !
وفي عصرنا الحاضر صار للحقيقة العلمية هالة كبيرة ؛ فنحن نحترمها أشد الاحترام ، ونحاول الاستفادة من مؤشراتها ، لكن كما أن من السهل على أي واحد أن يتاجر بعملة زائفة ، فمن السهل أيضاً أن يتاجر بعض الناس بالحقائق العلمية .
وقد وقع كثير من الناس ضحية لتناول أدوية وعقاقير تخلصهم من السمنة أو الصلع أو غير ذلك ... حيث بُهروا بالشرح العلمي لميزاتها وخصائصها . هذا كله يدعونا إلى أن نتعلم المزيد عن كيفية ( تقويم المعلومات ) الواردة إلينا ، وأن نسأل أهل الذكر في كل علم وفن .
5- المبالغة :
نحن لا ندرك الأشياء بطريقة مباشرة ، وإنما عبر وسيط ثقافي وفكري ونفسي أيضاً ، مما يجعل رؤيتنا لها قابلة للكثير من الخصوصية ، ومن ثَمّ للكثير من الانحراف . المبالغة مرض واسع الانتشار ؛ والبنية التحتية له بنية فكرية شعورية ؛ فالإدراك القاصر ، وضعف المحاكمة العقلية ، مما يدفع إلى المبالغة على النحو الذي تدفع إليه المصالح والأهواء والأمراض النفسية ، والانطباعات الخاصة والخاطئة .
وللمبالغة تجليات كثيرة ، نستعرض بعضها من أجل تسليط الوعي عليها :
بعض الناس يميلون إلى تضخيم كل الأشياء ، وكأنها (مجموعة كوارث) فهم يتوقعون الأسوأ دائماً ، فأي ألم مفاجئ يصيب الواحد منهم ، هو دليل على وجود مرض خطير ، وأي خطأ يقع فيه يمكن أن يحرمه من وظيفته !(57/64)
- هناك من يميل إلى (تعميم الافتراض) فلأن شيئاً ما قد وقع فهذا يعني أنه سيقع دائماً ؛ فإذا نسي موظف عنده تنفيذ أحد طلباته ، قال له : إنك تنسى دائماً ما أطلبه منك . وإذا تبين له أن إحدى الإذاعات كذبت في خبر من الأخبار ، حكم بأن تلك الإذاعة لا تصدق أبداً !
- تتجلى المبالغة في بعض الأحيان في صورة قراءة لما في عقول الآخرين ؛ حيث يعتقد بعض الناس أنه يملك شفافية خاصة لمعرفة ما يدور في أذهان العباد ، وما تنطوي عليه سرائرهم ، فإذا توجهت إليه شركة بسؤال ظنّ أنها سألته ؛ لأنها لم تعثر على شخص آخر بإمكانه أن يجيب عن أسئلتها . وإذا واجه مشكلة ، ولم يتدخل فيها أحد من أصدقائه ؛ فذاك ليس لأنهم يريدون المحافظة على خصوصيته ، وإنما بسبب إهمالهم له ، أو شماتتهم به ، وإذا نصحه شخص بنصيحة ، فذاك ليس بقصد إصلاحه ، وإنما بقصد تحطيمه أمام نفسه ، وهكذا ...
- تترجم المبالغة في بعض الأحيان شكلاً من أشكال عدم الاتزان ؛ فترى بعض الأشخاص يتحولون من النقيض إلى نقيضه بسرعة البرق ؛ فبسبب كلمة أو حركة يمكن لأي شيء أن ينقلب رأساً على عقب . ويبدو أن هذا النوع من المبالغة ، هو في الأصل ظاهرة نسوية [1] ، لكن للرجال أيضاً نصيبهم منها ، وطالما سمعنا من يقول : إن كنت تستطيع أن تقول ذلك فهذا يعني أن علاقتنا لا تعني أي شيء . ومن يقول : خطأ واحد يفسد الأمر كله .
- كثيراً ما تتجلى المبالغة في ظاهرة الإسراف في المدح والذم ، وهذه الظاهرة عالمية ، لكن يمكن أن نقول هذه المرة : إنها ظاهرة عربية في المقام الأول ؛ فنحن من أكثر أمم الأرض تمادياً في المدح خاصة وقد تجاوزت المبالغة في المديح لدى بعض الناس مرحلة الكذب الصراح إلى مرحلة الكذب المركب والمعقد ، والذي يحتاج إلى منهاج خاص من أجل كشفه !
وأعتقد بعد هذا وذاك أن تحسن مستوى التفكير لدينا سيظل مرتبطاً بمدى ما يسود حياتنا من مناقشة ومصارحة ، وبمدى ما تحرزه الأمة من تقدم على الصعد الإنسانية المختلفة .
إن تجديد البعد العقلي ، يحتمل الكثير من الكلام ، لكن الوقت المتاح لا يسمح بأكثر مما قلناه ، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لما هو خير وأبقى .
_________
(1) ورد في الحديث الشريف : (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ، ثم رأت منك شيئاً قالت : ما رأيت منك خيراً قط) .
================(57/65)
(57/66)
المعتزلة
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف:
المعتزلة فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي، وقد اعتمدت على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة والقدرية (*) والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
• اختلفت رؤية العلماء في ظهور الاعتزال، واتجهت هذه الرؤية وجهتين:
ـ الوجهة الأولى: أن الاعتزال حصل نتيجة النقاش في مسائل عقدية دينية كالحكم على مرتكب الكبيرة (*)، والحديث في القدر، بمعنى هل يقدر العبد على فعله أو لا يقدر، ومن رأي أصحاب هذا الاتجاه أن اسم المعتزلة أطلق عليهم لعدة أسباب:
1 ـ أنهم اعتزلوا المسلمين بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين
2 ـ أنهم عرفوا بالمعتزلة بعد أن اعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري وشكل حقلة خاصة به لقوله بالمنزلة بين المنزلتين فقال الحسن: "اعتزلنا واصل".
3 ـ أو أنهم قالوا بوجوب اعتزال مرتكب الكبيرة ومقاطعته .
ـ والوجهة الثانية: أن الاعتزال نشأ بسبب سياسي حيث أن المعتزلة من شيعة علي رضي الله عنه اعتزلوا الحسن عندما تنازل لمعاوية، أو أنهم وقفوا موقف الحياد بين شيعة علي ومعاوية فاعتزلوا الفريقين.
• أما القاضي عبد الجبار الهمذاني ـ مؤرخ المعتزلة ـ فيزعم أن الاعتزال ليس مذهباً جديداً أو فرقة طارئة أو طائفة أو أمراً مستحدثاً، وإنما هو استمرار لما كان عليه الرسو صلى الله عليه وسلم وصحابته، وقد لحقهم هذا الاسم بسبب اعتزالهم الشر لقوله تعالى: (وأعتزلكم وما تدعون) ولقول الرسو صلى الله عليه وسلم : (من اعتزل الشر سقط في الخير).
• والواقع أن نشأة الاعتزال كان ثمرة تطور تاريخي لمبادئ فكرية وعقدية وليدة النظر العقلي المجرد في النصوص الدينية وقد نتج ذلك عن التأثر بالفلسفة اليونانية والهندية والعقائد اليهودية والنصرانية لما سنرى في فقرة (الجذور الفكرية والعقائدية) .
• قبل بروز المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء، كان هناك جدل (*) ديني فكري بدأ بمقولات جدلية كانت هي الأسس الأولى للفكر المعتزلي وهذه المقولات نوجزها مع أصحابها بما يلي:
ـ مقولة أن الإنسان حر مختار بشكل مطلق، وهو الذي يخلق أفعاله بنفسه قالها: معبد الجهني، الذي خرج على عبد الملك بن مروان مع عبد الرحمن بن الأشعث .. وقد قتله الحجاج عام 80هـ بعد فشل الحركة .
ـ وكذلك قالها غيلان الدمشقي في عهد عمر بن عبد العزيز وقتله هشام بن عبد الملك .
ـ ومقولة خلق القرآن ونفي الصفات، قالها الجهم بن صفوان، وقد قتله سلم بن أحوز في مرو عام 128هـ .
ـ وممن قال بنفي الصفات أيضاً: الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري والي الكوفة .
• ثم برزت المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء الغزال (80هـ ـ 131هـ) الذي كان تلميذاً للحسن البصري، ثم اعتزل حلقة الحسن بعد قوله بأن مرتكب الكبيرة (*) في منزلة بين المنزلتين (أي ليس مؤمناً ولا كافراً) وأنه مخلد في النار إذا لم يتب قبل الموت، وقد عاش في أيام عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك، والفرقة المعتزلية التي تنسب إليه تسمى: الواصيلة.
• ولاعتماد المعتزلة على العقل في فهم العقائد وتقصيهم لمسائل جزئية فقد انقسموا إلى طوائف مع اتفاقهم على المبادئ الرئيسة الخمسة ـ التي سنذكرها لاحقاً ـ وكل طائفة من هذه الطوائف جاءت ببدع جديدة تميزها عن الطائفة الأخرى .. وسمت نفسها باسم صاحبها الذي أخذت عنه .
• وفي العهد العباسي برز المعتزلة في عهد المأمون حيث اعتنق الاعتزال عن طريق بشر المريسي وثمامة بن أشرس وأحمد بن أبي دؤاد وهو أحد رؤوس بدعة الاعتزال في عصره ورأس فتنة خلق القرآن، وكان قاضياً للقضاة في عهد المعتصم.
ـ في فتنة خلق القرآن امتحن الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض الرضوخ لأوامر المأمون والإقرار بهذه البدعة، فسجن وعذب وضرب بالسياط في عهد المعتصم بعد وفاة المأمون وبقي في السجن لمدة عامين ونصف ثم أعيد إلى منزله وبقي فيه طيلة خلافة المعتصم ثم ابنه الواثق .
ـ لما تولى المتوكل الخلافة عام 232هـ انتصر لأهل السنة (*) وأكرم الإمام أحمد وأنهى عهد سيطرة المعتزلة على الحكم ومحاولة فرض عقائدهم بالقوة خلال أربعة عشر عاماً .
• في عهد دولة بني بويه عام 334 هـ في بلاد فارس ـ وكانت دولة شيعية ـ توطدت العلاقة بين الشيعة (*) والمعتزلة وارتفع شأن الاعتزال أكثر في ظل هذه الدولة فعين القاضي عبد الجبار رأس المعتزلة في عصره قاضياً لقضاء الري عام 360هـ بأمر من الصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة البويهي ، وهو من الروافض (*) المعتزلة، يقول فيه الذهبي: " وكان شيعيًّا معتزليًّا مبتدعاً " ويقول المقريزي: " إن مذهب الاعتزال فشا تحت ظل الدولة البويهية في العراق وخراسان وما وراء النهر "(57/67)
• وممن برز في هذا العهد: الشريف المرتضى الذي قال عنه الذهبي: " وكان من الأذكياء والأولياء المتبحرين في الكلام والاعتزال والأدب والشعر لكنه إمامي جلد ".
• بعد ذلك كاد أن ينتهي الاعتزال كفكر مستقل إلا ما تبنته منه بعض الفرق كالشيعة وغيرهم .
• عاد فكر الاعتزال من جديد في الوقت الحاضر، على يد بعض الكتاب والمفكرين، الذين يمثلون المدرسة العقلانية الجديدة وهذا ما سنبسطه عند الحديث عن فكر الاعتزال الحديث .
• ومن أبرز مفكري المعتزلة منذ تأسيسها على يد واصل بن عطاء وحتى اندثارها وتحللها في المذاهب الأخرى كالشيعة والأشعرية والماتريدية ما يلي:
ـ أبو الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف (135 ـ226 هـ) مولى عبد القيس وشيخ المعتزلة والمناظر عنها. أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء، طالع كثيراً من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة، فقد تأثر بأرسطو وأنبادقليس من فلاسفة اليونان، وقال بأن " الله عالم بعلم وعلمه ذاته، وقادر بقدرة وقدرته ذاته … " انظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص 76 . وتسمى طائفة الهذيلية .
ـ إبراهيم بن يسار بن هانئ النظام (توفي سنة 231هـ) وكان في الأصل على دين البراهمة (*) وقد تأثر أيضاً بالفلسفة اليونانية مثل بقية المعتزلة .. وقال:بأن المتولدات من أفعال الله تعالى، وتسمى طائفته النظامية .
ـ بشر بن المعتمر (توفي سنة 226 هـ) وهو من علماء المعتزلة، وهو الذي أحدث القول بالتولد وأفرط فيه فقال: إن كل المتولدات من فعل الإنسان فهو يصح أن يفعل الألوان والطعوم والرؤية والروائح وتسمى طائفته البشرية.
ـ معمر بن عباد السلمي (توفي سنة 220 هـ) وهو من أعظم القدرية (*) فرية في تدقيق القول بنفي الصفات ونفي القدر (*) خيره وشره من الله وتسمى طائفته: المعمرية .
ـ عيسى بن صبيح المكنى بأبي موسى الملقب بالمردار (توفي سنة 226هـ) وكان يقال له: راهب المعتزلة، وقد عرف عنه التوسع في التكفير (*) حتى كفر الأمة بأسرها بما فيها المعتزلة، وتسمى طائفته المردارية .
ـ ثمامة بن أشرس النميري (توفي سنة 213هـ)، كان جامعاً بين قلة الدين وخلاعة النفس، مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار إذا مات على فسقه من غير توبة . وهو في حال حياته في منزلة بين المنزلتين . وكان زعيم القدرية في زمان المأمون والمعتصم والواثق وقيل إنه الذي أغرى المأمون ودعاه إلى الاعتزال، وتسمى طائفته الثمامية .
ـ عمرو بن بحر: أبو عثمان الجاحظ (توفي سنة 256هـ) وهو من كبار كتاب المعتزلة، ومن المطلعين على كتب الفلاسفة، ونظراً لبلاغته في الكتابة الأدبية استطاع أن يدس أفكاره المعتزلية في كتاباته كما يدس السم في الدسم مثل، البيان والتبيين، وتسمى فرقته الجاحظية .
ـ أبو الحسين بن أبي عمر الخياط (توفي سنة 300هـ) من معتزلة بغداد و بدعته التي تفرد بها قوله بأن المعدوم جسم، والشيء المعدوم قبل وجوده جسم، وهو تصريح بقدم العالم، وهو بهذا يخالف جميع المعتزلة وتسمى فرقته الخياطية .
ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني (توفي سنة 414هـ) فهو من متأخري المعتزلة، قاضي قضاة الري وأعمالها، وأعظم شيوخ المعتزلة في عصره، وقد أرخ للمعتزلة وقنن مبادئهم وأصولهم الفكرية والعقدية.
المبادئ والأفكار:
• جاءت المعتزلة في بدايتها بفكرتين مبتدعتين:
ـ الأولى: القول بأن الإنسان مختار بشكل مطلق في كل ما يفعل، فهو يخلق أفعاله بنفسه، ولذلك كان التكليف، ومن أبرز من قال ذلك غيلان الدمشقي، الذي أخذ يدعو إلى مقولته هذه في عهد عمر بن عبد العزيز . حتى عهد هشام بن عبد الملك، فكانت نهايته أن قتله هشام بسبب ذلك .
ـ الثانية: القول بأن مرتكب الكبيرة (*) ليس مؤمناً ولا كافراً ولكنه فاسق فهو بمنزلة بين المنزلتين، هذه حاله في الدنيا أما في الآخرة فهو لا يدخل الجنة لأنه لم يعمل بعمل أهل الجنة بل هو خالد مخلد في النار، ولا مانع عندهم من تسميته مسلماً باعتباره يظهر الإسلام وينطق بالشهادتين ولكنه لا يسمى مؤمناً.
• ثم حرر المعتزلة مذهبهم في خمسة أصول:
1 ـ التوحيد .
2 ـ العدل .
3 ـ الوعد والوعيد .
4 ـ المنزلة بين المنزلتين .
5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
1 ـ التوحيد: وخلاصته برأيهم، هو أن الله تعالى منزه عن الشبيه والمماثل (ليس كمثله شيء) ولا ينازعه أحد في سلطانه ولا يجري عليه شيء مما يجري على الناس. وهذا حق ولكنهم بنوا عليه نتائج باطلة منها: استحالة رؤية الله تعالى لاقتضاء ذلك نفي الصفات، وأن الصفات ليست شيئاً غير الذات، وإلا تعدد القدماء في نظرهم، لذلك يعدون من نفاة الصفات وبنوا على ذلك أيضاَ أن القرآن مخلوق لله سبحانه وتعالى لنفيهم عنه سبحانه صفة الكلام.(57/68)
2 ـ العدل: ومعناه برأيهم أن الله لا يخلق أفعال العباد، ولا يحب الفساد، بل إن العباد يفعلون ما أمروا به وينتهون عما نهوا عنه بالقدرة التي جعلها الله لهم وركبها فيهم وأنه لم يأمر إلا بما أراد ولم ينه إلا عما كره، وأنه ولي كل حسنة أمر بها، بريء من كل سيئة نهى عنها، لم يكلفهم ما لا يطيقون ولا أراد منهم ما لا يقدرون عليه . وذلك لخلطهم بين إرادة الله تعالى الكونية (*) وإرادته الشرعية (*) .
3 ـ الوعد والوعيد: ويعني أن يجازي الله المحسن إحساناً ويجازي المسيء سوءاً، ولا يغفر لمرتكب الكبيرة (*) إلا أن يتوب .
4 ـ المنزلة بين المنزلتين: وتعني أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر فليس بمؤمن ولا كافر . وقد قرر هذا واصل بن عطاء شيخ المعتزلة .
5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فقد قرروا وجوب ذلك على المؤمنين نشراً لدعوة الإسلام وهداية للضالين وإرشاداً للغاوين كل بما يستطيع: فذو البيان ببيانه، والعالم بعلمه، وذو السيف بسيفه وهكذا . ومن حقيقة هذا الأصل أنهم يقولون بوجوب الخروج على الحاكم إذا خالف وانحرف عن الحق .
• ومن مبادئ المعتزلة الاعتماد على العقل (*) كليًّا في الاستدلال لعقائدهم وكان من آثار اعتمادهم على العقل في معرفة حقائق الأشياء وإدراك العقائد، أنهم كانوا يحكمون بحسن الأشياء وقبحها عقلاً فقالوا كما جاء في الملل والنحل للشهرستاني: " المعارف كلها معقولة بالفعل، واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع أي قبل إرسال الرسل، والحسن والقبيح (*) صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح " .
ـ ولاعتمادهم على العقل أيضاً أوَّلوا الصفات بما يلائم عقولهم الكلية، كصفات الاستواء واليد والعين وكذلك صفات المحبة والرضى والغضب والسخط ومن المعلوم أن المعتزلة تنفي كل الصفات لا أكثرها .
ـ ولاعتمادهم على العقل أيضاً، طعن كبراؤهم في أكابر الصحابة وشنعوا عليهم ورموهم بالكذب، فقد زعم واصل بن عطاء: أن إحدى الطائفتين يوم الجمل فاسقة، إما طائفة علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر والحسن والحسين وأبي أيوب الأنصاري أو طائفة عائشة والزبير، وردوا شهادة هؤلاء الصحابة فقالوا: لا تقبل شهادتهم .
ـ وسبب اختلاف المعتزلة فيما بينهم وتعدد طوائفهم هو اعتمادهم على العقل فقط ـ كما نوهنا ـ وإعراضهم عن النصوص الصحيحة من الكتاب والسنة، ورفضهم الإتباع بدون بحث واستقصاء وقاعدتهم التي يستندون إليها في ذلك:
" كل مكلف مطالب بما يؤديه إليه اجتهاده في أصول الدين "، فيكفي وفق مذهبهم أن يختلف التلميذ مع شيخه في مسألة ليكون هذا التلميذ صاحب فرقة قائمة، وما هذه الفرق التي عددناها آنفاً إلا نتيجة اختلاف تلاميذ مع شيوخهم، فأبو الهذيل العلاف له فرقة، خالفه تلميذه النظام فكانت له فرقة، فخالفه تلميذه الجاحظ فكانت له فرقة، والجبائي له فرقة، فخالفه ابنه أبو هاشم عبد السلام فكانت له فرقة أيضاَ وهكذا .
ـ وهكذا نجد أن المعتزلة قد حولوا الدين إلى مجموعة من القضايا العقلية والبراهين المنطقية، وذلك لتأثرهم بالفلسفة (*) اليونانية عامة وبالمنطق (*) الصوري الأوسطي خاصة .
• وقد فند علماء الإسلام آراء المعتزلة في عصرهم، فمنهم أبو الحسن الأشعري الذي كان منهم، ثم خرج من فرقتهم ورد عليهم متبعاً أسلوبهم في الجدال (*) والحوار .. ثم جاء الإمام أحمد بن حنبل الذي اكتوى بنار فتنتهم المتعلقة بخلق القرآن ووقف في وجه هذه الفتنة بحزم وشجاعة نادرتين .
ـ ومن الردود قوية الحجة، بارعة الأسلوب، رد شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عليهم في كتابه القيم: درء تعارض العقل والنقل فقد تتبع آراءهم وأفكارهم واحدة واحدة ورد عليها ردًّا مفحماً .. وبين أن صريح العقل لا يكمن أن يكون مخالفاً لصحيح النقل .
• وقد ذُكر في هذا الحديث أكثر من مرة أن المعتزلة اعتمدوا على العقل (*) في تعاملهم مع نصوص الموحي (*)، وقد يتوهم أحد أن الإسلام ضد العقل ويسعى للحجر عليه . ولكن هذا يرده دعوة الإسلام إلى التفكر في خلق السموات والأرض والتركيز على استعمال العقل في اكتشاف الخير والشر وغير ذلك مما هو معروف ومشهور مما دعا العقاد إلى أن يؤلف كتاباً بعنوان: التفكر فريضة إسلامية، ولهذا فإن من انحرافات المعتزلة هو استعمالهم العقل في غير مجاله: في أمور غيبية مما تقع خارج الحس ولا يمكن محاكمتها محاكمة عقلية صحيحة، كما أنهم بنوا عدداً من القضايا على مقدمات معينة فكانت النتائج ليست صحيحة على إطلاقها وهو أمر لا يسلّم به دائماً حتى لو اتبعت نفس الأساليب التي استعملوها في الاستنباط والنظر العقلي: مثل نفيهم الصفات عن الله اعتماداً على قوله تعالى: (ليس كمثله شيء). وكان الصحيح أن لا تنفى عنه الصفات التي أثبتها لنفسه سبحانه وتعالى ولكن تفهم الآية على أن صفاته سبحانه وتعالى لا تماثل صفات المخلوقين.
وقد حدد العلماء مجال استعمال العقل بعدد من الضوابط منها:
ـ أن لا يتعارض مع النصوص الصحيحة .
ـ أن لا يكون استعمال العقل في القضايا الغيبية التي يعتبر الوحي هو المصدر الصحيح والوحيد لمعرفتها.(57/69)
ـ أن يقدم النقل على العقل في الأمور التي لم تتضح حكمتها " وهو ما يعرف بالأمور التوقيفية".
ولا شك أن احترام الإسلام للعقل وتشجيعه للنظر والفكر لا يقدمه على النصوص الشرعية الصحيحة . خاصة أن العقول متغيرة وتختلف وتتأثر بمؤثرات كثيرة تجعلها لا تصلح لأن تكون الحكم المطلق في كل الأمور . ومن المعروف أن مصدر المعرفة في الفكر الإسلامي يتكون من:
1 ـ الحواس وما يقع في مجالها من الأمور الملموسة من الموجودات .
2 ـ العقل (*) وما يستطيع أن يصل إليه من خلال ما تسعفه به الحواس والمعلومات التي يمكن مشاهدتها واختبارها وما يلحق ذلك من عمليات عقلية تعتمد في جملتها على ثقافة الفرد ومجتمعه وغير ذلك من المؤثرات .
3 ـ الوحي (*) من كتاب وسنة حيث هو المصدر الوحيد والصحيح للأمور الغيبية، وما لا تستطيع أن تدركه الحواس، وما أعده الله في الدار الآخرة، وما أرسل من الرسل إلخ …
وهكذا يظهر أنه لا بد من تكامل العقل والنقل في التعامل مع النصوص الشرعية كل فيما يخصه وبالشروط التي حددها العلماء.
الجذور الفكرية والعقائدية:
• هناك رواية ترجع الفكر المعتزلي في نفي الصفات إلى أصول يهودية فلسفية فالجعد بن درهم أخذ فكره عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي.
وقيل: إن مناقشات الجهم بن صفوان مع فرقة السمنية ـ وهي فرقة هندية تؤمن بالتناسخ (*) ـ قد أدت إلى تشكيكه في دينه وابتداعه لنفي الصفات .
• إن فكر يوحنا الدمشقي وأقواله تعد مورداً من موارد الفكر الاعتزالي، إذ أنه كان يقول بالأصلح ونفي الصفات الأزلية حرية الإرادة الإنسانية .
ـ ونفي القدر عند المعتزلة الذي ظهر على يد الجهني وغيلان الدمشقي، قيل إنهما أخذاه عن نصراني يدعى أبو يونس سنسويه وقد أخذ عمرو بن عبيد صاحب واصل بن عطاء فكرة نفي القدر عن معبد الجهني .
ـ تأثر المعتزلة بفلاسفة (*) اليونان في موضوع الذات والصفات، فمن ذلك قول أنبادقليس الفيلسوف اليوناني: "إن الباري تعالى لم يزل هويته فقط وهو العلم المحض وهو الإرادة المحضة وهو الجود والعزة، والقدرة والعدل والخير والحق، لا أن هناك قوى مسماة بهذه الأسماء بل هي هو، وهو هذه كلها" انظر الملل والنحل ج 2/ ص58.
وكذلك قول أرسطوطاليس في بعض كتبه "إن الباري علم كله، قدره كله، حياة كله، بصر كله".
فأخذ العلاف وهو من شيوخ المعتزله هذه الأفكار وقال: إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته، قادر بقدرة وقدرته ذاته، حي بحياة وحياته ذاته.
ـ وأخذ النظام من ملاحدة الفلاسفة قوله بإبطال الجزء الذي لا يتجرأ، ثم بنى عليه قوله بالطفرة، أي أن الجسم يمكن أن يكون في مكان (أ) ثم يصبح في مكان (ج) دون أن يمر في (ب) .
وهذا من عجائبه حتى قيل: إن من عجائب الدنيا: " طفرة النظام وكسب الأشعري " .
ـ وإن أحمد بن خابط والفضل الحدثي وهما من أصحاب النظام قد طالعا كتب الفلاسفة ومزجا الفكر الفلسفي مع الفكر النصراني مع الفكر الهندي وقالا بما يلي:
1 ـ إن المسيح (*) هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة.
2 ـ إن المسيح تدرع بالجسد الجسماني وهو الكلمة القديمة المتجسدة.
3 ـ القول بالتناسخ (*).
4 ـ حملا كل ما ورد في الخبر عن رؤية الله تعالى على رؤية العقل الأول هو أول مبتدع وهو العقل الفعال الذي منه تفيض الصور على الموجودات .
• يؤكد العلماء تأثير الفلسفة (*) اليونانية على فكر المعتزلة بما قام به الجاحظ وهو من مصنفي المعتزلة ومفكريهم فقد طالع كثيراً من كتب الفلاسفة وتمذهب بمذهبهم ـ حتى إنه خلط وروج كثيراً من مقالاتهم بعبارته البليغة .
ـ ومنهم من يرجع فكر المعتزلة إلى الجذور الفكرية والعقدية في العراق ـ حيث نشأ المعتزلة ـ الذي يسكنه عدة فرق تنتهي إلى طوائف مختلفة، فبعضهم ينتهي إلى الكلدان وبعضهم إلى الفرس وبعضهم نصارى وبعضهم يهود وبعضهم مجوس (*). وقد دخل هؤلاء في الإسلام وبعضهم قد فهمه على ضوء معلوماته القديمة وخلفيته الثقافية والدينية.
الفكر الاعتزالي الحديث:
• يحاول بعض الكتاب والمفكرين في الوقت الحاضر إحياء فكر المعتزلة من جديد بعد أن عفى عليه الزمن أو كاد .. فألبسوه ثوباً جديداً، وأطلقوا عليه أسماء جديدة مثل … العقلانية أو التنوير أو التجديد (*) أو التحرر الفكري أو التطور أو المعاصرة أو التيار الديني المستنير أو اليسار الإسلامي ..
ـ وقد قوّى هذه النزعة التأثر بالفكر الغربي العقلاني المادي، وحاولوا تفسير النصوص الشرعية وفق العقل (*) الإنساني .. فلجأوا إلى التأويل (*) كما لجأت المعتزلة من قبل ثم أخذوا يتلمسون في مصادر الفكر الإسلامي ما يدعم تصورهم، فوجدوا في المعتزلة بغيتهم فأنكروا المعجزات (*) المادية .. وما تفسير الشيخ محمد عبده لإهلاك أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري الذي حملته الطير الأبابيل .. إلا من هذا القبيل .(57/70)
• وأهم مبدأ معتزلي سار عليه المتأثرون بالفكر المعتزلي الجدد هو ذاك الذي يزعم أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة، حتى لو كانت هذه الحقيقة غيبية شرعية، أي أنهم أخضعوا كل عقيدة وكل فكر للعقل البشري القاصر .
• وأخطر ما في هذا الفكر الاعتزالي .. محاولة تغيير الأحكام الشرعية التي ورد فيها النص اليقيني من الكتاب والسنة .. مثل عقوبة المرتد، وفرضية الجهاد (*)، والحدود، وغير ذلك .. فضلاً عن موضوع الحجاب وتعدد الزوجات، والطلاق والإرث .. إلخ .. وطلب أصحاب هذا الفكر إعادة النظر في ذلك كله .. وتحكيم العقل في هذه المواضيع . ومن الواضح أن هذا العقل الذي يريدون تحكيمه هو عقل متأثر بما يقوله الفكر الغربي حول هذه القضايا في الوقت الحاضر .
• ومن دعاة الفكر الاعتزالي الحديث سعد زغلول الذي نادى بنزع الحجاب عن المرأة المصرية وقاسم أمين مؤلف كتاب تحرير المرأة و المرأة الجديدة، ولطفي السيد الذي أطلقوا عليه: " أستاذ الجيل " وطه حسين الذي أسموه "عميد الأدب العربي " وهؤلاء كلهم أفضوا إلى ما قدموا . هذا في البلاد العربية .
أما في القارة الهندية فظهر السير أحمد خان، الذي منح لقب سير من قبل الاستعمار (*) البريطاني . وهو يرى أن القرآن الكريم لا السنة النبوية هو أساس التشريع وأحلّ الربا البسيط في المعاملات التجارية . ورفض عقوبة الرجم والحرابة، ونفى شرعية الجهاد لنشر الدين (*)، وهذا الأخير قال به لإرضاء الإنجليز لأنهم عانوا كثيراً من جهاد المسلمين الهنود لهم .
ـ وجاء تلميذه سيد أمير علي الذي أحلّ زواج المسلمة بالكتابي وأحل الاختلاط بين الرجل والمرأة .
ـ ومن هؤلاء أيضاً مفكرون علمانيون، لم يعرف عنهم الالتزام بالإسلام .. مثل زكي نجيب محمود صاحب (الوضعية المنطقية) وهي من الفلسفة (*) الوضعية الحديثة التي تنكر كل أمر غيبي .. فهو يزعم أن الاعتزال جزء من التراث ويجب أن نحييه، وعلى أبناء العصر أن يقفوا موقف المعتزلة من المشكلات القائمة (انظر كتاب تجديد الفكر العربي ص 123) .
ـ ومن هؤلاء أحمد أمين صاحب المؤلفات التاريخية والأدبية مثل فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام، فهو يتباكى على موت المعتزلة في التاريخ القديم وكأن من مصلحة الإسلام بقاؤهم، ويقول في كتابه: ضحى الإسلام: " في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة " (ج3 ص207).
ـ ومن المعاصرين الأحياء الذين يسيرون في ركب الدعوة الإسلامية من ينادي بالمنهج (*) العقلي الاعتزالي في تطوير العقيدة والشريعة مثل الدكتور محمد فتحي عثمان في كتابه الفكر الإسلامي والتطور .. والدكتور حسن الترابي في دعوته إلى تجديد أصول الفقه حيث يقول: " إن إقامة أحكام الإسلام في عصرنا تحتاج إلى اجتهاد (*) عقلي كبير، وللعقل (*) سبيل إلى ذلك لا يسع عاقل إنكاره، والاجتهاد الذي نحتاج إليه ليس اجتهاداً في الفروع وحدها وإنما هو اجتهاد في الأصول أيضاً " (انظر كتاب المعتزلة بين القديم والحديث ص 138) .
ـ وهناك كتاب كثيرون معاصرون، ومفكرون إسلاميون يسيرون على المنهج نفسه ويدعون إلى أن يكون للعقل دور كبير في الاجتهاد (*) وتطويره، وتقييم الأحكام الشرعية، وحتى الحوادث التاريخية .. ومن هؤلاء فهمي هويدي ومحمد عمارة ـ صاحب النصيب الأكبر في إحياء تراث المعتزلة والدفاع عنه ـ وخالد محمد خالد و محمد سليم العوا، وغيرهم . ولا شك بأهمية الاجتهاد وتحكيم العقل في التعامل مع الشريعة الإسلامية (*) ولكن ينبغي أن يكون ذلك في إطار نصوصها الثابتة وبدوافع ذاتية وليس نتيجة ضغوط أجنبية وتأثيرات خارجية لا تقف عند حد، وإذا انجرف المسلمون في هذا الاتجاه ـ اتجاه ترويض الإسلام بمستجدات الحياة والتأثير الأجنبي بدلاً من ترويض كل ذلك لمنهج الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ فستصبح النتيجة أن لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من الشريعة إلا رسمها ويحصل للإسلام ما حصل للرسالات السابقة التي حرفت بسبب إتباع الأهواء والآراء حتى أصبحت لا تمت إلى أصولها بأي صلة .
ويتضح مما سبق:
أن حركة المعتزلة كانت نتيجة لتفاعل بعض المفكرين المسلمين في العصور الإسلامية مع الفلسفات السائدة في المجتمعات التي اتصل بها المسلمون . وكانت هذه الحركة نوع من ردة الفعل التي حاولت أن تعرض الإسلام وتصوغ مقولاته العقائدية والفكرية بنفس الأفكار والمناهج الوافدة وذلك دفاعاً ع الإسلام ضد ملاحدة تلك الحضارات بالأسلوب الذي يفهمونه . ولكن هذا التوجه قاد إلى مخالفات كثيرة وتجاوزات مرفوضة كما فعل المعتزلة في إنكار الصفات الإلهية تنزيهاً لله سبحانه عن مشابهة المخلوقين .
ومن الواضح أيضاً أن أتباع المعتزلة الجدد وقعوا فيما وقع فيه أسلافهم، وذلك أن ما يعرضون الآن من اجتهادات إنما الهدف منها أن يظهر الإسلام بالمظهر المقبول عند أتباع الحضارة الغربية والدفاع عن نظامه العام قولاً بأنه إنْ لم يكن أحسن من معطيات الحضارة الغربية فهو ليس بأقل منها .(57/71)
ولذا فلا بد أن يتعلم الخلف من أخطاء سلفهم ويعلموا أن عزة الإسلام وظهوره على الدين كله هي في تميز منهجه وتفرد شريعته واعتباره المرجع الذي تقاس عليه الفلسفات والحضارات في الإطار الذي يمثله الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح في شمولهما وكمالهما.
-----------------------------
مراجع للتوسع:
ـ الملل والنحل للشهرستاني.
ـ الفرق بين الفرق للبغدادي.
ـ مقالات الإسلاميين للأشعري.
ـ القاضي عبد الجبار الهمداني للدكتور عبد الكريم عثمان.
ـ ابن تيمية للشيخ محمد أبي زهرة.
ـ درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية.
ـ البداية والنهاية لابن كثير.
ـ المعتزلة بين القديم والحديث لمحمد العبدة وطارق عبد الحليم.
ـ ضحى الإسلام لأحمد أمين.
ـ تجديد الفكر العربي لزكي نجيب محمود.
ـ دراسات في الفرق والعقائد لعرفات عبد الحميد.
ـ الدعوة إلى التجديد في منهج النقد، عصام البشير (بحث مقدم لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لنيل درجة الماجستير).
ـ عقائد السلف لعلي سامي النشار.
ـ محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة، سليمان بن صالح الخراشي.
ـ حوار هادئ مع الشيخ الغزالي. سلمان بن فهد العودة.
ـ منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، د. فهد الرومي.
ـ العصريون معتزلة اليوم ـ يوسف كمال.
ـ العصرانية في حياتنا الاجتماعية. د. عبد الرحمن بن زيد الزنيدي.
ـ العصرانيون. محمد حامد الناصر.
ـ دراسات في السيرة. محمد سرور زين العابدين.
ـ تنبيه الأنام لمخالفة شلتوت الإسلام. الشيخ عبد الله بن يابس.
ـ مفهوم تجديد الدين. بسطامي محمد سعيد.
ـ تجديد أصول الفقه. د.حسن الترابي.
ـ غزو من الداخل، جمال سلطان.
ـ مجلة كلية أصول الدين جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
ـ "المدرسة العقلية الحديثة وصلتها بالقديمة" د. ناصر العقل. العدد الثالث سنة 1400هـ.
==============(57/72)
(57/73)
الانطباعية (التأثرية)
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف :
الانطباعية مذهب(*) أدبي فني، ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في فرنسا، وهو يعتبر الإحساس، والانطباع الشخصي الأساس في التعبير الفني والأدبي، لا المفهوم العقلاني للأمور. ويرجع ذلك إلى أن أي عمل فني بحث لابد أن يمر بنفس الفنان أولاً، وعملية المرور هذه هي التي توحي بالانطباع أو التأثير الذي يدفع الفنان إلى التعبير عنه.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
= أطلقت الانطباعية في البداية على مدرسة في التصوير ترى أن الرسام يجب أن يعبر في تجرد وبساطة عن الانطباع الذي ارتسم فيه حسيّاً، بصرف النظر عن كل المعايير العلمية، وبخاصة في ميدان النقد الأدبي، فالمهم هو الانطباع الذي يضفيه الضوء مثلاً على الموضوع لا الموضوع نفسه.
ومن أهم شخصياتها:
- أناتول فرانس 1844 - 1924م - الأديب الفرنسي، وهو يعد رائد الانطباع في الأدب، بعد أن انتقل المصطلح من الرسم إلى الأدب، ويرى أن قيمة أي عمل أدبي تكمن في نوعية الانطباعات التي يتركها في نفس القارىء وهذا الانطباع هو الدليل الوحيد على الوجود الحي للعمل الأدبي.
- إنطونان بروست: ويعد من أبرع من جسد الانطباعية الأدبية فهو حين يصف مشهداً أو ينقل أحاسيسه إزاء مشهد، تتجسد أمامنا لوحة انطباعية.
الأفكار والمعتقدات:
= طالما أن قيمة أي عمل أدبي تكمن في نوعية الانطباعات التي يتركها في نفس القارىء، فإن على الأديب أن يضع هذه الحقيقة نصب عينيه، لأن الانطباع هو الدليل الوحيد على الوجود الحي للعمل الأدبي.
= إن الفنان يحس أو يتأثر أولاً، ثم ينقل هذا الانطباع أو التأثير عن طريق التعبير. ولا يكترث للمعايير المتبعة للنقد الأدبي.
= الانطباعية تقول: (أنا أحس إذن أنا موجود) بدلاً من العقلانية التي تقول على لسان ديكارت: (أنا أفكر إذن أنا موجود).
= كل معرفة لم يسبقها إحساس بها لا تجدي..
= المضمون هو المهم لا الشكل الفني عند الأديب الانطباعي في نقل انطباعه الذاتي للآخرين.
= العالم الخارجي مجرد تجربة خاصة وأحاسيس شخصية وليس واقعاً موضوعيًّا موجوداً بشكل مستقل عن حواس الفرد.
= من النقد الذي وجه للانطباعيين أنهم جروا وراء التسجيل الحرفي للانطباع ونسوا القيمة الجمالية التي تحتم وجود الشكل الفني في العمل الأدبي.
= وأن أدب الاعترافات والخطابات الأدبية اللذين أدت إليهما الانطباعية، حيث يعبر فيهما الأدباء عن مكنونات صدورهم، تحولا إلى مجرد مرآة لحياة الأديب الداخلية، أي أن هؤلاء ينظرون للأدب على أنه مجرد ترجمة ذاتية أو سيرة شخصية للأديب.
= وهكذا فقد أصبح النقد الأدبي والتذوق الفني مجرد تعبير عن الانفعالات الشخصية والأحاسيس الذاتية التي يثيرها العمل الأدبي في الناقد.
= والفرق بين الانطباعية الشكلية والانطباعية الأدبية هو أن الانطباعية الشكلية تهتم بالشكل (تسليط الضوء على الإطار الخارجي)، بينما تهتم الانطباعية الأدبية بالمضمون الأدبي من خلال تأثير الأديب الانطباعي على القارىء.
الجذور الفكرية والعقائدية:
= إن العالم الحديث وما يتضمنه من أنانية فردية، وذاتية غير أخلاقية هو الذي أفرز مذهب الانطباعية حيث فرض على الفرد العزلة، فأصبحت أفكاره تدور حول ذاته، وليس العالم عنده سوى مجموعة من المؤثرات الحسية العصبية، والانطباعات والأحوال النفسية، ولا يهمه الاهتمام بالعالم وإصلاحه أو تغييره إلى الأفضل.
الانتشار وأماكن النفوذ:
بدأت الانطباعية في فرنسا، ثم انتشرت في أوروبا.. وهي اتجاه يدخل في جميع المدارس الأدبية ، حيث الانطباع عنصر أولي في أي عمل فني، ولكنه ليس كل شيء.. ولذلك اندثرت عندما اقتصرت على فكرة أن الانطباع هو الهدف الوحيد والمادة الخام التي يتشكل منها أي عمل فني.
ويتضح مما سبق :
أن الانطباعية أو التأثيرية مذهب(*) أدبي فني ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في فرنسا، ومضمونه اعتبار الانطباع الشخصي والإحساس، بمثابة الأساس في التعبير الفني والأدبي، بحيث تكمن قيمة العمل الأدبي في نوعية الانطباعات التي يتركها هذا العمل في نفس القارىء، الأمر الذي يستلزم تبني الأديب أو الفنان لهذه الحقيقة، فالإحساس وليس العقل(*) والتفكير، هو معيار وجود الإنسان وفق هذا المذهب، وكل معرفة لا يسبقها إحساس بها فهي معرفة غير مجدية، والعبرة بمضمون العمل الفني وليس بشكله، ولا يعبأ هذا المذهب بإصلاح أحوال الناس أو تغيير العالم إلى الأفضل. ومن هنا كانت الثغرات الأخلاقية والاجتماعية في هذا المذهب الأدبي ذات أثر كبير على كل من يطلع على نتاجه دون أن يكون ملماً سلفاً بفكرته تلك ولأن الفنان الانطباعي غير ملتزم إلا بالرؤية الحسية وتصوير ما انطبع على حواسه حتى لو لم يره الآخرون، وحتى لو عارضت انطباعاته القيم السامية وأدت من ثم للإضرار بالناس.
--------------------------------------------------------------
مراجع للتوسع :
- الأدب المقارن ، د. محمد غنيمي هلال - دار الثقافة - بيروت.(57/74)
- المدخل إلى النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال - القاهرة 1959م.
- الانطباعية، تأليف موريس سيرولا - ترجمة هنري زغيب - منشورات عويدات.
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، د. نبيل راغب - مكتبة مصر.
- النقد الجمالي، أندريه ريشار - ترجمة هنري زغيب (سلسلة زدني علماً).
- الجمالية الفوضوية، أندريه رستسلر - ترجمة هنري زغيب (سلسلة زدني علماً).
- الفن الانطباعي، موريس سيرولا - (سلسلة زدني علماً ).
- J. Leyma r ie, L'Imp r essionmisme. Pa r is 1959. 2 Vol.
- G. Moo r e, Mode r n Painting, London - New Yo r k - 1893.
==============(57/75)
(57/76)
مهلا أيها الإستراتيجيون
محمد جلال القصاص
ما هي رؤيتكم للمستقبل ؟ كيف سيكون الحال إن صار الأمر بأيديكم ؟ هناك ملفات ساخنة على الساحة كيف ستتعاملون معها ؟ ما هي ( أجندتكم ) لكذا وكذا ...؟
أسئلة قديمة حديثة تُلقى علينا كل يوم . . . ثرثرة يُدندن بها المنافقون وبعض الطيبين ، أسئلة تستبطن إظهار عجز الإسلاميين وبيان أنهم لا يعرفون شيئا خارج يومهم ، وبالتالي لا يصلحون لقيادة الأمة .
ويذهب بعض الإستراتيجيون يعرض أفكارا ( إسلامية ) للتعامل مع القضايا الحالية والمستقبلية ، وكلامهم ـ أعني إستراتيجيو اليوم ـ إسلامي الأطر غربي المحتوى . يتعامل مع الواقع بنظريات وأفكار غربية غير أنها ترتدي مسوحا إسلامية . وسبب هذا كله هو أننا بعد لم نزل داخل دائرة الحصر الوهمي ، لم تزل التصورات الإسلامية عند البعض مغبَّشة ، تحتاج من يجليها .
إن المجتمع المسلم ينشأ ويتعامل مع غيره ومع أفراده بآلية تختلف تماما عما هو عند كل الأمم الأخرى .
وليستبين قولي دعني ألقي الضوء على ( ورطة ) تاريخية أكبر مما نحن فيه اليوم وكيف تعامل الإسلام معها .
فتح مكة وما تلاه من أحداث . كان ورطة بكل المقاييس العقلانية . . الإستراتيجية ، فمعلوم أن قريشا لم تكن ذات ثقل عسكري بالنسبة لباقي الجزيرة العربية .. لم تكن تمثل واحد بالألف من القوى العسكرية الموجودة بالجزيرة العربية ، فضلا عن الفرس في الشرق وموالهم من العرب ـ المناذرة ـ والروم في الغرب والشمال ومواليهم من العرب ـ الغساسنة ـ ، والأحباش في الجنوب . وكان الصراع من بعيد يبدوا وكأنه بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش ، وكانت كل هذه القوى ينتظرون ماذا سيحصل بينه وبين قومه .
وانظر ما ذا جرى
أقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة ـ وأنهى الصراع بينه وبين قريش بضم قريش للإسلام ، وأرسل رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ــ أبا بكر ومن بعده علي بن أبي طالب إلى الناس يوم الحج ليُعْلموا الناس أن الله بريء من عهود [1] المشركين ورسوله ، وأنها أربعة أشهر وبعدها الإسلام أو السيف .
وبهذا أصبح الناس في الجزيرة العربية وخارج الجزيرة العربية إما مسلمون وإما محاربون ، وهذا يعني ــ بلا أي تكلف ـــ إعلان الحرب على جميع مَن بأقطارها حتى يدخلوا في الإسلام إن كانوا مشركين أو يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ــ إن كانوا ممن أباح الإسلام أخذ الجزية منهم ــ .
وأنا أطالب كل ( استراتيجي ) أن يجلس مع نفسه ويدرس خريطة القبائل العربية ـ وهي متاحة في اسطوانة شركة حرف للسيرة النبوية ـ والقوى المحيطة بالجزيرة ، وقوة المسلمين مع الأخذ في الاعتبار أن معظمهم كان حديث عهد بإسلام ثم ينظر هل كان هناك في قرار إعلان الحرب على كل مَن بأقطارها عقلانية ؟!
حدث نوع من الاعتراض ( العقلي ) على هذا القرار . وانظر كيف عالجت البعثة المحمدية هذه الأحاجيج العقلية .
استحضر بعض الطيبين ــ ( الواقعيين ) ــ عدد قوات العدو ، وكيف أنهم كالسِّوار حول المعصم و المدينة المنورة بلا أسوار ولا حصون ولا عدد ولا عتاد ، خافوا وتحدثوا يتمنونَ نوعُ سياسة حتى تقوى الشوكة وتكون قوة تواجه هذه القوى ، فجاء القران يُُذكرهم بأن العدد ــ يوم حُنَين ــ لم يغن عنهم شيئا . قال الله تعالى : { لََقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ التوبة: 25] .
فما هم إلا ستارا لقدر الله ، فقط يبذلوا ما يستطيعون من أسباب والله يُسدد رميهم ويَجبر كسرهم : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ }[ التوبة : 14].
والسياق يفيد بأن هزيمتهم وعذابهم وخذيهم متوقف فقط على مجرد الشروع في قتالهم بطريقة الشرط وجواب الشرط ، فالمعنى كما يقول القرطبي في تفسيره ( إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين )[2] ؛ ولهذا المعنى شاهدٌ صريح في السنة الصحيحة ، فعند مسلم من حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ــ قال : ( وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا فَقُلْتُ رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً قَالَ اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عصاك )[3] .
وهو ما كان ، فقد كَسَحُوا البر الأصفر وركبوا البحر الأخضر وذبحوا كسرى وحَصَروا قيصر في بضع سنين ، ولم يمض قرن من الزمان إلا وهم يركعون ويسجدون على أبواب باريس والقسطنطينية والصين وفي أعماق أفريقيا . فمن كان يصدق ومن كان يتصور ؟!(57/77)
واستحضرت بعض النفوس حال المنطقة بعد إعلان حالة الحرب الشاملة على مَن بأقطارها ، وكيف أنها ربما تكون كارثة اقتصادية ، فإعلان النفير العام على المشركين ومنعهم من القدوم إلى الحج ــ وفيه كانت تعقد أسواق التجارة ــ يعني وقف حركة الملاحة البرية مما يؤدي إلا تعطيل التجارة و خراب الأسواق وهذا يعني ــ ولا شك ــ توقف الحياة الاقتصادية .
ووسوس الشيطان يُخوف النفوس الضعيفة التي لم تتخلص كُلَّيةً من أغلال الأسباب المادية الظاهرة من الفقر ويصور لها حالَها وقد حلّ بها الفقر وجاع الولد ونفقت الدواب وكسدت البضاعة وبارت التجارة .
فأتى الجواب بأن هذه كلها من أسباب الرزق ، وليس كل أسباب الرزق ، وأن الله هو وحده مسبب الأسباب ، هو الذي يقبض ويبسط ، إن شاء أغنى وأقنى[4] وإن شاء قبض المال وحلّ الفقر ــ ولا يظلم ربك أحدا ــ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }[ التوبة: 28]
وقد كان . فقد أسلم العرب وجاءوا إلى الحج ببضائعهم وتجارتهم مسلمين ، وأُخذت خزائن الفرس ، وذُلَّتْ الروم ودفعت الجزية فكان مصدر ُ رزق وسيع لعباد الله الذين آمنوا بالغيب واتبعوا ما أمرهم الله به .
وقد فهم أبو بكر الصديق الدرس ، فلم تُرهبه العرب حين ارتدت جميعها إلا قريتين أو ثلاث ، ولم يجلس يحسب ما عندهم من عدد وعتاد وما عند المسلمين من عدد وعتاد ويبحث عن حلول استراتيجية ... ( ذكية ) للخروج من الورطة ، بل قالها صريحة مدوية " وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلملَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ "[5]
لم يصغ لأقوال ( العقلانيين ) بل قاتل بمن أطاعه من عصاه . متبعا سنة النبي صلى الله عليه وسلم . ولم يمض عامين إلا والمسلمون في المدائن وعلى أبواب أوروبا ، وأفريقيا . وحقا (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ }[ التوبة : 14].
إن أجندة الإسلام لا تحمل سوى شيئا واحدا وهو تعبيد الناس لله ، حتى لا تكون فتنه ويكون الدين لله ، هذا كل ما نعرفه . وكيف سيتم إدارة شئون العباد والبلاد فيما بعد ؟ تنبثق كلها من العقيدة وهي فروع على ثوابت محكمات في شريعتنا . والمنهج الذي جعل الأميين يقودون العالم ويؤسسون أعظم دولة في التاريخ يجعل نسلهم اليوم يفعلون فعالهم ، فالمنهج واحد إن وجد من يحمله .
ولكنها عقول كبلتها أغلال الثقافات الغربية . وليتها تدبرت وتأملت في سيرة نبيها وفي مسيرة دينها عبر التاريخ .
-----------------------
[1] انظر تفسير الطبري للآية الثانية من سورة التوبة .
[2] راجع ــ إن شئت ـ تفسير القرطبي للآية 14 من سورة التوبة .
[3] مسلم . كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها / 5109 ، ويثلغوا رأسي أي أَيْ : يَشْدَخُوهُ وَيَشُجُّوهُ , كَمَا يُشْدَخ الْخُبْز , أَيْ : يُكْسَر . وقوله تعالى : { وَاغْزُهُمْ نُغْزِك } بضم النون أَيْ : نُعِينك . راجع ــ إن شئت ـــ شرح النووي للحديث .
[4] أقنى تعني وفرة المال مع عدم الحاجة لبيعه ، أي يقيم عند صاحبه ، وهذا من تمام النعمة .
[5] البخاري . كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة / 6741، واللفظ له ، وعند مسلم كتاب الإيمان / 29 وغيرهما .
==============(57/78)
(57/79)
المعتزلة..ماهيتهم..عقائدهم..المعتزلة الجدد
تاريخ الفتوى : …16 ذو الحجة 1424 / 08-02-2004
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم
السؤال:ما الفرق بين كل من أهل السنة,والمرجئة,والمعتزلة,والأشاعرة,الماتريدية؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد سبق الفرق بين أهل السنة وبين الأشاعرة والماتريدية في الفتوى رقم:
10400 16542 10346
وأما الفرق بينهم وبين المعتزلة فيتضح ذلك ببيان عقيدة المعتزلة، وهذه نبذه مختصرة عنهم وعن عقيدتهم، ومن أراد التوسع فليراجع كتب العقائد كشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز وكتب شيخ الإسلام كالعقيدة التدمرية، ودرء تعارض العقل والنقل .. وسموا المعتزلة لأن واصل بن عطاء اعتزل مجلس الحسن البصري وقدر أن مرتكب الكبيرة كالزنا وشرب الخمر لا مؤمن ولا كافر في الدنيا بل هو في منزلة بين المنزلتين كالمسافر بين بلدين لاينسب لإحداهما. وأما في الآخرة فهو مخلد في النار إن لم يتب. وقيل سموا بذلك لأنهم أوجبوا اعتزال مرتكب الكبيرة ومقاطعته.
ثم حرروا مذهبهم في خمسة أصول وهي:
الأول التوحيد: ويقصدون به نفي صفات الله، وقالوا: إن الصفات ليست شيئاً غير الذات وإلا تعدد القدماء في نظرهم، ولذلك نفوا رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وقالوا بخلق القرآن إلى غير ذلك من الضلال.
الثاني العدل : ويقصدون به أن الله لايخلق أفعال العباد ولايريد الفساد بل العباد هم الذين يفعلونها بالقدرة التي جعلها الله فيهم، وأنه لا يأمر إلا بما يريد ولا ينهى إلا عما يكره، ولم يهتدوا إلى التفريق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، ولوا اهتدوا إلى ذلك لعلموا أن الله يريد الكفر والفساد بالإرادة الكونية لحكمة يعلمها سبحانه، ولا يريدها بالإرادة الشرعية. وبين الإرادتين فوارق من أهمها أن الإرادة الكونية لا تلازمها المحبة، وأما الإرادة الشرعية فإنها تلازمها المحبة. فلا يريد الله شيئاً إرادة شرعية إلا وهو يحبه سبحانه.
الثالث الوعد والوعيد: ويقصدون به أن الله يجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته ولايغفر لمرتكب الكبيرة، فعدله يقتضي ذلك وهو أنه لا يغفر له، ومن ثم أنكروا الشفاعة لأهل الكبائر.
الرابع المنزلة بين المنزلتين: في حق مرتكب الكبيرة. وقد سبق بيان هذا.
الخامس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ويقصدون به وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هذا الأصل قالوا بوجوب الخروج على الحاكم إذا خالف وانحرف عن الحق؛ ولو لم يكن ما ارتكبه كفراً بواحاً. ومن مبادئ المعتزلة الاعتماد على العقل كلياً وتقديمه على النقل في مسائل العقائد وغيرها. والقول بأن النقل الصحيح يعارض العقل الصريح دعوى مفتعلة منقوضة من أساسها، بل الشرع والعقل يتوافقان ولله الحمد والمنة، وعند توهم التعارض يقدم النقل لأنه عن المعصوم.
وللأسف الشديد يحاول بعض الكتاب والمفكرين إحياء الاعتزال من جديد بعد أن عفى عليه الزمن أو كاد، فألبسوه ثوباً جديداً وأطلقوا عليه أسماء جديدة مثل: العقلانية، والتنوير، والتجديد، والتحرر الفكري، والمعاصرة، والتيار الديني المستنير ونحو ذلك. ولكن تصدى لهم أهل السنة والجماعة وفضحوهم وبينوا عوارهم ولله الحمد والمنة. كما تصدى أهل الحق لأسلافهم من قبل.
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
==============(57/80)
(57/81)
الفكر الاعتزالي يهدف إلى تفريق الأمة وتمزيقها
تاريخ الفتوى : …11 رمضان 1424 / 06-11-2003
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته توجد في محيطنا جماعة يسمون أنفسهم (المعتزلة)، وقد تطور الأمر بهم إلى أنهم يصفون أهل السنة والجماعة ومن يخالفهم في الرأي بأنهم منافقون وأنهم بين منزلتين، وفي الحقيقة إنني ضقت ذرعا بهم وأحيانا أتصور بأنني سوف أضربهم أو أي تصرف آخر، فماذا تنصحوننا وكيف الرد عليهم؟ وجزاكم الله كل خير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالمعتزلة: فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي، تأثرت بكتب الفلاسفة وآرائهم فقدمت المعقول على المنقول في فهم العقيدة، وابتلوا الناس بعقائدهم بقوة السلطان فضلوا وأضلوا ومن أسمائها: القدرية، والعدلية، والمقتصدة، والوعيدية....
قام مذهبهم على خمسة أصول: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد فند علماء الإسلام آراءهم في عصرهم، فمنهم أبو الحسن الأشعري الذي كان منهم ثم خرج، ورد عليهم متبعاً أسلوبهم في الجدال والحوار، ثم الإمام أحمد الذي اكتوى بنار فتنتهم المتعلقة بخلق القرآن، ثم جاء شيخ الإسلام ابن تيمية فرد عليهم متتبعاً آراءهم في كتبه بعامة، وفي كتابه المحكم "درء تعارض العقل والنقل" بخاصة.
ويحاول بعض الكتاب والمفكرين المعاصرين إحياء هذا الفكر من جديد طمعاً في تفريق الأمة، وتشكيكها في أصولها، وتمكين أعدائها منها.
وهؤلاء أطلقوا عليها أسماء جديدة، مثل العقلانية أو التنوير أو التجديد أو التيار الديني المستنير أو المعاصرة.. وأخطر ما في هذا الفكر الاعتزالي، محاولة تغيير الأحكام الشرعية التي ورد فيها النص اليقيني من الكتاب والسنة، مثل عقوبة المرتد، وفرضية الجهاد، والحدود، والطلاق، والميراث، والحجاب....
ومن أشهر الكتب التي كشفت هؤلاء وردت عليهم أقوالهم وأفكارهم:
محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة، تأليف سليمان خراشي.
العصريون معتزلة اليوم، تأليف يوسف كمال.
العصرانيون، تأليف محمد الناصر.
المدرسة العقلية الحديثة وصلتها بالقديمة، تأليف د. ناصر العقل، مجلة كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامي، العدد3، سنة 1400هـ
وننصح السائل بقراءة هذه الكتب للوقوف على أفكار هؤلاء ومعتقداتهم للتمكن من مناقشتهم والرد عليهم إن كان أهلاً لذلك، وإن لم يتمكن من ذلك فيسعه تمثل ما ورد عن ابن عمر رض الله عنه عندما نقل إليه عن القدرية قولهم: أن لا قدر وأن الأمر أنف. ، قال رضي الله عنه: أخبرهم أني بريء منهم، وأنهم مني براء. ، فأمثال هؤلاء ليس لهم دواء إلا الهجر حتى يتوبوا.
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
==============(57/82)
(57/83)
الحوار مع الآخر خدعة عصرية
محمد جلال القصاص
لا أتكلم عن الحوار داخل الصف الإسلامي ـ مع أنه غير موجود على أرض الواقع ـ ، وإنما أتكلم عن الحوار مع ( الآخر ) الذي لا يدين دين الحق ، من الذين أوتوا الكتاب .
يتداعى لهذا الحوار ثلة من المفكرين ، الذين يرفعون شعارات ( العقلانية ) , ويلبسون حُلَّة التفكير ، وقد دارت منه جولات منذ بدأ في نهاية القرن التاسع عشر في لبنان على يد محمد عبده بالتعاون مع عدد من القساوسة والأحبار . وبعد قرن أو يزيد من الزمن على بدء هذا الحوار بين الثقافات أو الحضارات ـ كما يسمونه ـ يتبين لكل متدبر أنها خدعة عصرية وقع في شراكها كثير من العقلانيين ، وأرى نفرا من الشرعيين ينزلقون .
ويتضح ذلك من أمور :
أولا : مادة الحوار .
مادة الحوار هي ثوابت الإسلام ، مثل الجهاد . . جهاد دفع أم جهاد طلب ؟ ، والكافر الذي يعيش في بلاد المسلمين مواطن من الدرجة الأولى أم ذمي يتقيد بقيود ؟ ، والمرأة في الإسلام ما بالها ترث النصف وتُؤمر بالجلوس في البيت ويُنكح عليها ؟ ...
ولم نسمع مرة أن نفرا ، بل أحدا ، ممن جلسوا أو كتبوا في هذه الحوارات طرح ثوابت النصرانية للنقاش ، كالتثليث ، والفداء ، وعبادة ( طاعة ) الأحبار والرهبان من دون الله ، والكفر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم بل جملة الطرح دفاعي تسويغي . يُذكرك بجلسات التحقيق بين مجرم مذنب وبريء مجني عليه .
ويحتجون علينا بأننا أمرنا بمحاورة أهل الكتاب ومجادلتهم بالتي هي أحسن ، وهو بترٌ للنص ، وخروجٌ عن السياق القولي الفعلي للدعوة الإسلامية.
الآية تقول : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل:125 ]
فهنا حديث عن دعوة ( الآخر ) إلى الإيمان بالله ورسوله ، وسياق الدعوة الفعلي والقولي يُبين أن طريقة الحوار التي أدارها النبي صلى الله عليه وسلم مع ( الآخر ) كانت دعوة إلى الإسلام ليس إلا { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران64 ]
ولم تكن يوما نَبْشاً عن نقاط الاتفاق للالتقاء عليها ، من باب خدمة الإنسانية والحملة على الفساد ، لم يفعل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستضعف في مكة . فهو وإن استفاد من أعراف الجاهلية إلا أنه ظل ينبذها ويصفها بما هي أهله . . . يحافظ على الصورة الصحيحة للجاهلية في حس مريديه .
ثانيا : من المسلم به أن الإسلام له شمولية تطال كل الأشياء { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام:من الآية 38 ] ، وله خصوصية تامة في الحكم على الأشياء بالصحة أو الفساد .وله خصوصية في معالجة القضايا ، فمن أين نأتي بتوصيف مشترك للفساد ؟!
وتدبر : ( في الجاهلية الأولى كان المال دولة بين الأغنياء ... قِلَّة غنية وكَثرة بالكاد تجد قوت يومها ، وفي الجاهلية الأولى كانت الحروب تأكل الرجال على ناقة أو لأن فرسا سبقت أختها ، وفي الجاهلية الأولى كان الزنا وكانت الخمر وكان وأد البنات وبيع الأحرار . وكان الشرك الأكبر ( شرك النسك وشرك الطاعة ) ...
ولم تخل الجاهلية من المصلحين ، الذين يسعون في إصلاح ذات البين لحقن الدماء ورفع الظلم عن الضعفاء .
وحين بعث رسول ا صلى الله عليه وسلم لم يضع يده في يد أحد من هؤلاء .
بكلمات أخر : رغم أن الدعوة الإسلامية كانت تدعوا لمثل ما كان يدعو إليه المصلحون من مكارم الأخلاق إلا أنها لم تضع يدها في يد أحد من هؤلاء . ذلك لأنه وإن اتحدت الأهداف فإن المنطلقات متغايرة . فهؤلاء دوافعهم شتى .. تدفعهم المروءة ويدفعهم الثناء الحسن ويدفعهم عرف الآباء ، أما المسلمون فيدفعهم طاعة الله ورسوله ـ ولا ينبغي أن يكون لهم دافع غير ذلك ـ . وهؤلاء تقف أهدافهم عند إصلاح الدنيا والمسلمون يصلحون الدنيا للآخرة . وشتان .)[1]
ثالثا : مَن يتحاورون .
الملاحظ أن الحوار يكون مع رجال الدين ، ومع المنظّرين للكفر والإلحاد ، وهؤلاء هم الملأ ، وهؤلاء هم الذين يفتعلون الشبهات حول الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ، هم الذي يقولون على الله الكذب وهم يعلمون ، هم الذين يعرفون الكتاب كما يعرفون أبناءهم ، وغني عن الذكر أن كفر هذا الفصيل من الكافرين ليس جهلا ، وكيف وهم يدرسون الإسلام عشرات السنيين ، وإنما عنادا واستكبارا .
والسؤال : لماذا لا يكون الحوار مع جميع النصارى عامتهم وخاصتهم ، وهو الصحيح المفهوم من معنى الدعوة في الإسلام . يكون عوام الناس هم المستهدفون بالحوار . يفتحوا لنا قنوات للعرض الإسلام على عوامهم وخواصهم سواء .(57/84)
ومن يتدبر في تشريع الجهاد في الإسلام يجد أنه يستهدف إزالة الحواجز التي تحيل دون محاورة عوام الناس ، أو بالأدق دعوتهم للإسلام ، وهذه الحواجز ليست إلا الملأ الذين استكبروا في الأرض بغير الحق من أرباب السلطان والمفكرين . هم هم بأم أعينهم من نُدعى للحوار معهم اليوم .
ومن يتدبر يجد أن عامة الناس تبع لهؤلاء يُنصتون لهم ويسيرون خلفهم ، ويصدقونهم في كذبهم ، ولا ينفكون عنهم إلا حين يستأصلهم الجهاد .
نعم هناك حالات خيِّرة منصفة تنطق بالحق وتريد الخير ، ولكنها ليست فاعلة ، لا تأثير لها على مجريات الأحداث في بلاد الكفر وتبقى الحالات الخيِّرة فردية لا تقدم ولا تأخر ، وليست هي التي ندعى للحوار معها .
كما أن ثمرة الحوار التي يتذرع بها من يسيغ الحوار مع ( الآخر ) لا تأتي إلا من بث مفاهيم الإسلام وتصوراته داخل صفوف الكافرين الخلفية ، أعني عوام الناس ، ولا سبيل للوصول لهؤلاء وعلى رأسهم هؤلاء الذين يكتمون الحق وهم يعلمون ، ومن له أدنى إطلاع على حال الناس في الغرب الكافر أو الشرق الملحد يعرف أن من يقرأ منهم عن الإسلام إنما يقرأ من كتابات قومه ومفكريه ، ويَنظر إلينا من عل . ولا سبيل للوصول لهؤلاء إلا في المناسبات أو الأحداث الجسام كحادث ( سب صلى الله عليه وسلم ) وقد أهدرنا الفرصة ووأدناها قبل أن تمشي على قدميها . وجاءت أختها في إثرها فلم نلتفت إليها .!
رابعا : استُخدم الحوار بهذه الطريقة في إعطاء شرعية للنصرانية ، فمن الملاحظ أن ( الآخر ) يحرص أشد الحرص على أن ينتزع من المسلمين اعترافا بالنصرانية ، ويعترف المتحاور الإسلامي ويخلط بين الاعتراف بالوجود والاعتراف بالشرعية ، ويضع هذا مكان ذلك ، والقوم يسوِّقون هذا الاعتراف في المناطق التي يمارسون فيها التنصير ، فيتكلمون إلى من ينصرونهم بأن الإسلام يعترف بنا ولا يتنكر لنا ، وهذا فلان وفلان من ( علماء ) الإسلام يتكلم بهذا الكلام ، واستشهاد النصارى بهذا الأمر كثير جدا ،ومن يحاورهم في غرف البالتوك أو في الواقع أو ينصت لحواراتهم يجد من هذا الكثير .
خامسا : يُستخدم هذا الأمر في إقصاء بعض أفراد الصحوة الإسلامية ووصفهم بالتشدد والرجعية والجمود والتطرف ..الخ . وأنهم مفرطون خارجون على علمائهم .
أليست المآلات معتبرة شرعا ؟!
فلم يتغافل العقلانيون عن هذا ؟!
إن الحوار بهذه الطريقة في وقت إلتَحمت فيه الصفوف في أكثر من مكان على أرض المسلمين ، وانحاز فيه مفكرو الغرب إلى السلاطين وراحوا يدعمونهم ويَؤُذونهم بيانات ومقالات وأبحاث تفيد بحتمية صراع الحضارات وضرورة إنشاء ( الإسلام المدني الديمقراطي ) . . الخ ، وفي وقت بدأت فيه رماح الكفر تتكسر أمر لم يعد يُقبل بحال ، فآثاره تأتي على غير طرفيه ، ويحرم أن يتعاقد رجلان على ما يضار به غيرهم .
سادسا : نحن بحاجة إلى حوار إسلامي يبحث عن تفعيل أكثر للصحوة الإسلامية ، والاستفادة من طاقاتها ، والخروج من حالة التأرجح في المكان ، ويلقي ( كلمة في وحدة الكلمة ) بين أبناء الملة وأهل القبلة ممن رضي بالله ربا وبالإسلام دينا كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وامتثله أصحابه رضوان الله عليهم . فوفروا جهدكم لهذا .
--------------------------------
[1] من مقال ( دعوة لإعادة النظر في الأهداف والمنطلقات ) للكاتب ، موقع المسلم ركن المقالات الشرعية . وموقع صيد الفوائد .
===============(57/85)
(57/86)
تعديل مرمى الجمرات كشَفَهُمْ
محمد جلال القصاص
يتداعى لرمي الجمرات يوم الثاني عشر من ذي الحجة ـ ثاني أيام التشريق وهو يوم التعجيل ـ الأقوياءُ ، وترفع على رؤوس كثيرٍ الرايات وتتعالى تحتها الصيحات ، كأنه يوم من أيام العرب ، فتسمع عند الجمرات الصيحات والنداءات وترى إرساليات ( تقاتل ) مجتمعة من أجل الوصول إلى الحوض والرمي من قريب ، وقد حدث أن مات فريق من الحجيج في هذا الموقف .
وبعد موت الحجيج من أثر التدافع يومَ التعجيل تكلم ثلاثة من الناس . طيبون وانتهازيون مجرمون وغافلون . وأنا هنا لا أبحث المسألة من ناحية فقهية ، وإنما أقرأ العقول وأنظر في الدوافع والمآلات .
الطيِّبون هالهم موت إخوانهم وراحوا يبحثون عن الأسباب فقائل من حَمْلِ البعض للأمتعة حين الرمي ، وقائل من تواجد الضعفاء والنساء ، وقائل من ضيق المكان . . الخ ، وطالبَ بعضُ هؤلاء ـ في هذا السياق ـ بإعادة النظر في توقيت الرمي والإذن به قبل الزوال للضعفاء وذوي الحاجات . كما هو الحال في الدفع من ( جَمْع ) [1] . هؤلاء هم الطيبون .
أما الخبثاء المجرمون ، فهم القاعدون للشريعة بكل طريق ، رموا بسهامهم علماءَ الملة والدين
فحصروا الأمر في أن سبب هذا التدافع هو التشدد في تحديد الرمي بما بعد الزوال ، وتكلموا بضرورة تطوير الفتوى فقد تطور الزمان ولم يعد الأمر على ما كان ، وهو تفريع على أصل يستمسكون به ويدعون إليه ، وهو أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان ـ هكذا بإطلاق ـ وهو كلام يستبطن بل يدعوا صراحة إلى تغيير الثوابت لتسير على هوى الناس في هذا الزمان[2] . وكأنها فرصة لتشويه منهج السلف الصالح ـ الصحابة والتابعين ـ من خلال الغارة على العلماء الربانيين .
والعجب أن هؤلاء يدَّعون العقلانية في أطروحاتهم ، والعقل يقول أن دفع علماء الأمة للإجماع على جواز الرمي قبل الزوال ليس حلا للمشكلة ، بل هو زحزحةٌ لها ، فبدل أن يكون التدافع ظهرا سيكون فجرا .
والغافلون هم من راحوا ينظرون لمشهد التدافع وقت الزوال يوم الثاني عشر دون سياقه العام وهالَهُم موت الناس من التدافع ، وبعَجَلَة وسطحية في التفكير انقلبوا إلى الشريعة واستحضروا قاعدة فقهية ( المشقة تجلب التيسير )[3] وراحوا يعملونها ويطالبون غيرهم بإعمالها وصولا لإجماع على الرمي في كل حين قبل الزوال وبعده .
وهم غافلون .
غافلون عن أن السبب في التدافع ليس هو وقت الرمي ، فالوقت ممتد حتى للمتعجل إلى الغروب ومن نوى التعجيل لا يضره إن أتى عليه الليل وهو في مِنى قد حبسه عذر ، والتزاحم ينحصر في ساعتين فقط أو أقل بعد الزوال وبعدها يصير الأمر مقبولا ومحتملا حتى للضعفاء وذوي الأعذار ، وغافلون عن أن زحزحة وقت الرمي لما قبل الزوال هي زحزحة لوقت التزاحم وليس حلا لها ، وهم غافلون عن أن هناك حلولا أخرى بديلة يجب أن نسير إليها قبل القول بتغير الفتوى أو تعديلها .
وهم غافلون عن أن دعواهم تتوافق مع المجرمين . في التوقيت وفي الثمرة وإن اختلفوا في المنطلق ، فهم وإن لم يتكلموا بتسفيه العلماء الذين لم يُعملوا هذه القاعدة الفقهية ( المشقة تجلب التيسير ) لكن كلامهم يشير من قريب إلى أن علمائنا دون مستوى الفتوى وتغيب عنهم القواعد البسيطة التي فطن إليها هؤلاء ، ومن المعلوم بالضرورة عند الأصوليين أن الحرام نوعان ، حرام لذاته وحرام لغيره ، فقد يعتري الأمرَ أمرٌ فيقلب حكمه الشرعي ، وهو أمر مسلم به ، فالنوازل تحتاج للتروي والتدقيق في المآلات والأهداف .ليرى هل السؤال على ظاهرة أم أنه مطية لشيء آخر؟[4] .
وهم غافلون عن أنهم ليس لهم أن يتحدثوا لعوام الناس دون الرجوع لأشياخهم من الربانيين وبحث الفتوى معهم أو بالأحرى ترك الفتوى لهم . وهذه أم المصائب التي ابتلينا بها اليوم ، صحفيون وكَتبَة وصغارٌ من طلبة العلم يتكلمون فيما يتوقف فيه أمثال ابن باز وابن عثيمين[5] .
وأعظهم بواحدة أن لا يعودوا للتحدث للعامة في المذكرات والبرامج والمقالات في أمر كهذا دون الرجوع للعلماء الربانيين ، فالأمر دين ويتسبب في إثارة العامة وتجريئها على ولاة أمرها من العلماء .وقد قال الله { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : 83 ] ، وأحسب أن كثيرين ممن يتكلمون ليسوا من الذين يستنبطونه منا.
وتعديل الجمرات كشفهم جميعا
حدث في هذا العام حسن تدبير وإدارة لموقع الرمي فقد اتسع المكان وزالت كثير من أسباب التدافع المفضي للموت ، ويتكلم أهل الشأن بأن هذه مرحلة أولى تتبعها مراحل .فقد كشف تعديل الجمرات أنه لم تكن هناك ضرورة تقتضي تعديل الفتوى ـ وتعديل الفتوى ليس حلا حتى وإن لم يحدث هذا التطوير في الجمرات كما قدمتُ ـ ، وكشفَ أن الذين في قلوبهم مرض متربصون بعلمائنا وأئمتنا ينتهزون أي فرصة للانقضاض على الشريعة في شخص هؤلاء ـ حفظهم الله ـ .(57/87)
وكشفَ تعديل الجمرات بأننا في حاجة لخطوات أخر في اتجاه مساكن منى والمزدلفة وتطوير وسائل التنقل بين المشاعر ، لإقامة محطات مترو وبناية عمائر وغير ذلك مما قد يساهم في زيادة عدد الحجاج والمتسبب في الفعل كالفاعل ، وما نراه أن هناك كرما في النفقة على المشاعر .
وكشفَ تعديل المرمى صغار المفتين من طلبة العلم فقد أبان سطحيتهم وعجلتهم ، وأنهم لم يزيدوا على الشوشرة على العلماء وبلبلة أفكار العامة ومساندة المجرمين من حيث لا يشعرون ، وأنا أرشدهم لما هو خير لهم من هذا ، وهو التواجد بين الحملات وإلقاء الدروس ، وليس فقط إلقاء الدروس وإنما مدارستها مع الناس . ويستطيع كل فرد أن يزور في اليوم الواحد خمسا أو ستا من مخيمات الوافدين ( حجاج الداخل فئة 1500إلى 200 ريال وكذا كثير من مخيمات حجاج الخارج ) ويعرفهم بربهم سبحانه وتعالى ،وأن لا يكتفوا بتوزيع المنشورات ، فما شاهدته بعيني أن كثيرا من الحجاج يتلقى بضعا من المنشورات التي تشرح الحج لجهات خيرية مختلفة ، وكثيرون لا يقرءون أيا منها وإنما يبحثون عن من يحدثهم بما فيها ، فمعروف ومسلم به أننا أمة لا تقرأ ، ولو اعتمدت الجهات الخيرية مشكورة هذا المبدأ ، حتى ولو كان بالأجر بأن تتكفل بحج عدد من طلاب العلم وتوزعهم بين الحجيج ، وقبل ذلك تعطيهم دورة تدربيهم على يد العلماء الربانيين حتى يتفقوا جملة على ما سيقولونه للناس ، فهذا من وجهة نظري ـ وأنا مطلع على حال الحجاج وعيني ترقب جيدا ـ أرجى لهم ، وأحسب أنه لا توجد عواقب رسميه أمام هذا المطلب ، وأحسب أنه أوفر ماديا من هذا الكم الكبير من المطبوعات . وأحسب أن كثيرين من طلبة العلم يتطوعون دون أجر . فهل من مشمر ؟
--------------------------------
[1] في جواز الدفع من جمع ـ مزدلفة ـ نص صريح ، وهو إذن النبي صلى الله عليه وسلم لبعض ذوي الحاجات وفعل نفر من الصحابة رضوان الله عليهم ، وهو ما لا نجده في الرمي قبل الزوال فقد كانوا جميعهم ملتزمين بالزوال كبداية للرمي ، وذوي الحجات يوكلون أو يتأخرون .
[2] وهذا الكلام يتعارض مع صحيح العقل فمن المسلم به أن المفاهيم والتصورات هي التي تُشَكِل الواقع وليس الواقع هو الذي يشكل المفاهيم والتصورات .
[3] نص على هذه القاعدة الشيخ بن عثيمين ـ رحمه الله ـ في ( القواعد الفقهية ) .
[4] مما يذكر هنا كنموذج معاصر على ذكاء المفتي أن الشيخ بن عثيمين ـ رحمه الله سأله أحدهم سؤالا: ما قولكم فيمن لا يرى حجية حديث الآحاد وهو يتكلم بالحلول والاتحاد ويتطاول على بعض الصحابة والتابعين بل والأنبياء . ففطن الشيخ للمراد وأجاب عن شيء آخر غير المسئول عنه أخرس به وساوس الشيطان في صدر السائل ومن يتبعه ، تكلم بأن الاختلاف في بعض الأمور العقدية بين علماء السلف موجود من زمن فمنهم من قال بتأويل الأسماء والصفات كابن الجوزي والنووي ـ رحمهم الله ـ ومنهم من تكلم في وجود الجنة والنار ..الى آخر ما ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ .
[5] ذكر الشيخ ناصر العمر ـ حفظه الله ـ في محاضرة له أن احد الناس سأل بن باز سؤالا في الحج ، فأجاب بأن هذه المسألة تحتاج لنظر ، يقول الشيخ ناصر العمر فالتفت إلى صاحبي وقال لي ( متعجبا من جهالته وجرئته على الفتوى قياسا بالشيخ ابن باز رحمه الله ) : ابن باز يحتاج لنظر في مثل هذه المسألة وأنا لو سألت فيها لأفتيت من فوري !!
==============(57/88)
(57/89)
فلسفة الفكر السلفي
عزيز محمد أبوخلف
السلف والعقل
السلف هم الصحابة والتابعون ومن سار على نهجهم الأصيل. لكن هذه الأصالة ما لبثت ان تعرضت للتشويه والتحريف بعد دخول أفكار اليونان إلى حقل المعرفة الإسلامي. أدى ذلك إلى تطور علم الكلام الذي يبحث في عقائد الإسلام من زاوية خاصة، وتغيرت وجهته ليعتمد منطق اليونان وعلومهم الطبيعية. ثم ثارت تساؤلات حول ما إذا كان السلف يدركون هذه الأفكار الجديدة المرتكزة على أثارة من العقل، وعلى أساس من تقديس علوم اليونان ومنطقهم.
لا شك ان هذا تساؤل يعكس اهتزاز الثقة بالنفس وشعورها بالعجز أمام الفكر الدخيل. وما كان تساؤل كهذا ليُثار لو ترسخت فكرة استقلال العقائد الاسلامية عن مثل هذه العلوم، وعدم حاجتها إليها. وهذه فكرة عظيمة مثيرة للانتباه، لأن العقائد، وهي تتسم باليقين والثبات، لا حاجة لها في ان ترتبط بعلوم تجريبية وعقلية سمتها الأساسية التحول والتغير والنسبية. ولو جرى إدراك ذلك لتبين للمفكرين في علم الكلام وجود المطلق والنسبي، وان البحث العقلي الخالص والتجريبي لا ثبات لهما على أرضية موضوعية. وربما كان وجه التاريخ ليتغير، ذلك ان العلم كان سيكون بأيدٍ امينة ترعاه وتستغله في صالح البشرية جمعاء.
كبائر علم الكلام
علم الكلام، الذي نصب نفسه مقرراً لعقائد الدين ومدافعاً عنها، اعتمد نظريات اليونان من الجوهر الفرد وحدوث الأجسام ومنطق ارسطو من بعد، ليقيم البراهين على إثبات الخالق، ومن ثم ليدلل على عقائد الإسلام الأخرى وما يتعلق بالذات الإلهية بشكل خاص. وفي خضم هذا البحث الشائك اضطر إلى ان يتسلح بسلاح متطور مبتكر هو التأويل والمجاز، لينسف أي نص يتعارض مع أفكاره، مفرغاً اياه من مضمونه ومحتواه الحقيقي، ليصير إلى معنى يوافق ما تقرر في علم الكلام هذا. وبذلك فقد يكون علم الكلام سبق الفلاسفة المعاصرين في الحرب على النص، وان الحقيقة لا تكون كامنة في الألفاظ على حد زعمهم. لكن الزعم بأن النصوص الدينية مفرغة من الحقيقة دونه خرط القتاد، وهو ابعد ما يكون عن عيونهم!.
علم الكلام اذن ارتكب كبيرتين فكريتين: أولاهما ربطه العقائد بالعلوم المتحولة المتغيرة، وثانيهما تفريغ النصوص من محتواها بالمجاز والتأويل لصالح هذه العلوم المتقلبة. والأخذ بالتأويل والمجاز يعني تقرير معنى غير ما يفيده ظاهر النص، وهذا المعنى يتوافق مع معطيات علمية أو عقلية معينة، والنتيجة هي صرف النص عما أريد له. وفي غياب الثقة بالنصوص الدينية فلا مفر من التأويل أو التفويض، والتفويض يكافئ القول بأن الله أعلم بمراده. وهذا لازم حتى لمن يتقيد بالقطعي الثبوت والدلالة في العقيدة، كما عند الكلاميين، وكما عند بعض المعاصرين كالعلامة النبهاني إمام التحريريين، وإن كان هذا الأخير غير ملزم بالنظريات العلمية والمنطقية، لأن العقل العقائدي عنده بمثابة تأشيرة الدخول في الإيمان وحسب.
الإعجاز العلمي يقدس العلم التجريبي
ولكن هل التاريخ يعيد نفسه؟ لو أمكن ذلك لوفر هذا على علماء النظرية النسبية البحث في السفر عبر الماضي، ليركزوا جهودهم على السفر عبر المستقبل. لكن هذا لا يمنع من تكرار بعض الوجوه في أنساق متشابهة. فقد حصل ما يشبه ذلك في الإعجاز العلمي الذي يضفي القداسة على اكتشافات العلماء التجريبيين بربطها بالنصوص القرآنية والنبوية. وهذا تقديس ضمني من قبل أهل الإعجاز العلمي للعلم التجريبي، بل هو إضفاء صفة المطلق على هذا العلم. ولكنهم مع ذلك يقولون انهم يرومون إثبات ان القرآن من عند الله، ومن ثم إثبات عقائد الإسلام بشكل علمي. وربما عليهم ان يحتاطوا بالقول ان ما توصلوا إليه اجتهادي، لكن في هذه الحالة يكونون قد ربطوا متحولاً بمتحول.
وقد سبقهم الفيلسوف كانط عندما جعل من فيزياء نيوتن علماً مطلقاً، متخذاً اياها الأساس في فلسفته العقلانية. ثم ما لبث ان تقزم هذا العلم المطلق أمام نسبية اينشتاين ليصير حالة خاصة منها. ثم ظهرت المفاجأة الأخرى بظهور ميكانيكا الكم لتقرر ان ما يجري على مستوى النظريات السابقة هو حالة خاصة مما يجري في عالم الذر، ولا تجري ملاحظته بسبب العدد الكبير من الجسيمات المجهرية في هذا العالم العياني. ولا ندري ماذا تخبئ لنا نظرية الأوتار الفائقة التي تقول بأن كل شيء هو نتاج نغمات راقصة لأوتار ذات مقاس متناه في الصغر، وأنها تتحرك في أبعاد مخفية.
فلسفة نقصان عقل المرأة
ولم يقف الأمر عند ربط العقائد بعلوم اليونان وعلوم العصر المتحولة، بل استمر سلاح التأويل في العمل، وبصور مختلفة. فكلما اصطدم نص مع فكرة سائدة من الحضارة الغربية صار اللجوء إلى التأويل متسارعاً، لأنه لا بد ان تكون السيادة للآخر، ولفكر الآخر. وهذا يعني ان النص الديني لا يحمل معناه في ظاهره، أو ان المعنى هو غير ما يفهمه المفسرون والمشايخ والمفكرون الدينيون.(57/90)
وهذا ما حصل مثلاً في تأويل حديث ناقصات عقل ودين، الذي تصدى العقليون والوعاظ للدفاع عنه بأنه مجرد مداعبة أو ممازحة أو هزار، لأن الرسول لا يمكن ان يقصد اهانة النساء يوم العيد. والرسولل على أية حال اعظم شأناً من ان يهين النساء أو الرجال في يوم العيد أو غيره!. ولو تأمل هؤلاء قليلاً وكانت لديهم الثقة في النصوص لما اضطروا إلى سلاح التأويل القديم الجديد، ولأدركوا ان نقصان عقل المرأة المشار إليه في الحديث ليس نقصاً في المرأة، وان وراءه فلسفة عظيمة، تُظهر تفرد هذا الدين فيما قرره من معايير متناسبة مع فطرة البشر.
فلسفة قدم النوع
قرر شيخ الاسلام ابن تيمية، بناء على النصوص القرآنية والنبوية، ان هذا الكون خُلق من مادة سابقة عليه، وفي مدة سابقة عليه أيضاً، وانه لا يمكن ان يكون أول مخلوق. وهذه فكرة عظيمة المعنى، إذ لا سبيل إلى تقدير فترة في الزمان على أنها تمثل أول مخلوق، لأن هذا يتضمن القول بتحديد أزلية الخالق وتقييد أفعاله. وهذا ما يعبر عنه بقدم النوع، ومعناه ان الله لم يزل فاعلاً إذا شاء. وفي هذا النص معان فلسفية عظيمة منها ان ما ينطبق على الخلق لا ينطبق على الخالق، وانه لا بد من جعل النصوص هي المرجعية لتفكيرنا وليس العكس كما حصل في علم الكلام، وانه ليس في النصوص ما يخالف العقل، فالواجب عرضها بدون حرج ولا خجل، بل بكل ثقة، وترك الأمر للعقول تفكر فيها بعيداً عن الأفكار الدخيلة وعن الثقة المهزوزة أمام هذه الأفكار.
وكان علم الكلام قد قرر ان المادة لا تفنى وانه يعاد تشكيلها، وتبعه في ذلك الإعجاز العلمي بناء على قانون حفظ المادة والطاقة. وارادوا بذلك ان يؤكدوا على ان الله خلق هذا الكون من عدم، ولذلك تبنى الإعجاز العلمي نظرية الانفجار العظيم، وان الكون قد نشأ عن انفجار ضخم لكون متناه في الصغر، عندها ابتدأ الزمان والمكان. هذا مع العلم ان هناك نظريات أخرى حول الكون تخالف ذلك. كما ان العلم يتساءل وحالة الانفجار العظيم هذا: وماذا قبل؟ على شاكلة السؤال المألوف وماذا بعد؟ يتساءلون عن الزمان والمكان، وأين حصل الانفجار هذا، وغير ذلك من التساؤلات المثيرة.
خاتمة
لقد رأينا كيف ان أهل الإسلام حرفوا نصوصه وأولوها لصالح الفكر الآخر في جانب، ولصالح تقديس العلم التجريبي وجعله مطلقاً من جانب آخر، مع ان العلماء التجريبيين انفسهم لا يقرون بثباته ولا بمطلقيته. وقد أدى التأويل إلى تفريغ الكثير من النصوص من محتواها الحقيقي، مثل النصوص التي تخبر عن ان الرب يقوم بأفعال معينة، مثل الاستواء على العرش والنزول واجابة الدعاء وغيرها. بل ان اعتماد النظريات العلمية والآراء العقلية قد ادى إلى الخجل من ذكر مثل هذه النصوص احياناً، أو تفويض معانيها أو تحويرها لتناسب تلك الأفكار.
وظاهر التأويل أنه اعتذار عن صاحب القول بأنه لم يقصد ما قاله وان ما قصده هو هذا الرأي المُؤوَّل، لأن قوله يعارض أفكاراً أخرى موجودة يضع المؤولون ثقتهم فيها اكثر من نصوص الدين. ولكن احترام النصوص يقتضي تقديمها بدون خجل أو حرج، ثم نرى أي شيء في العلوم يناقض أفكار هذا الدين، ثم نناقشها.
------------------------------
(*) باحث - جامعة الملك سعود
amkhalaf@ksu.edu.sa
=================(57/91)
(57/92)
تعقيب على مقال الأستاذ / زين العابدين الركابي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، وصلى الله على أفضل المصطفين
محمد وعلى آله وصحبه ومن تعبد أما بعد :
فمما لا شك فيه عند المسلمين أن (الفيء) هو المال المأخوذ من الكفار من غير قتال،ولا إيجاف خيل ولا ركاب ، وقد سماه الله فيئاً لأنه مما أفاءه الله على المسلمين ، فرجع إليهم من الكفار، قال تعالى : (( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) (الحشر:6) .
وذلك أن المال إنما خلقه الله لعباده لكي يستعينوا به على طاعته ، ولما بقي على تلك العبادة الخالصة المسلمون ؛ صاروا هم الأحق بتملك المال، كما قال تعالى : (( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) (لأعراف: من الآية32).
قال ابن كثير في تفسيره (2/283) : ( أي هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وإن شركهم فيها الكفار حباً في الدنيا فهي لهم خاصة يوم القيامة) ا.هـ .
ومن هنا نستنبط بأن الأحق بالمال هم المسلمون، فإذا انتقل بيد الكفار وبقي معهم ،وأقبلت جحافل الإيمان لقتالهم ـ باستثناء الذميين والمعاهدين والمستأمنين ـ ولم يقفوا أمامهم للقتال وتركوا أموالهم خوفاً فعندئذٍ يفيء المال ويرجع إلى مستحقه الأصل وصاحبه الأحق وهم المسلمون ولذا قال الله : (( وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ )) لأن المال الذي بيد الكافر لا يستحقه بعلة كفره بالله فماله عليه عذاب ووبال لأنه يستخدمه فيما يسخطه ـ عز وجل ـ وهذا بنص القرآن وتأمل قوله تعالى : (( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)) (التوبة:55) .
يتضح لك أنه بقدر ما يجمعه الكفار من حطام الدنيا فإنه عليهم عذاب،بل لو أنفقوا أموالهم تلك في أمورهم المعيشية أو في مصالح خيرية بحتة لا تضر بشريعة الإسلام ، فإن مالهم كذلك ضائع ولن يجزوا به إلا النار، قال تعالى : (( مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) (آل عمران:117) .
وسبب ظلمهم لأنفسهم أنهم كفروا بربهم فلم يتقبل منهم نفقاتهم قال تعالى : (( وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)) (التوبة:54) .
فما بالك إذا كانوا ينفقون أموالهم حرباً على المسلمين ، وصداً عن سبيل المؤمنين ، كحال الكفار الحربيين، فإن أموالهم تلك لن يجنوا منها إلا العلقم المر، والحسرات المتتاليات، قال تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)) (لأنفال:36) .
لهذا كان الأحق بالمال من عبد الله ووحده ، وإذا كان بيد الكفار فهو طارئ عليهم ولا يستحقونه لأنهم قد غصبوه من المسلمين أو صار بيدهم بغير حق شرعي يبيحه لهم،وقد مضت شريعتنا وبينت قاعدة فقهية عظيمة بأنه( ليس لعرق ظالم حق) وهي نصُّ حديث في جامع الترمذي (1378) وقال : (حديث حسن غريب) ، وسنن أبي داود(3073) والنسائي في الكبرى (3/405) ، وحسَّنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام (باب الغصب)وكذا الألباني في إرواء الغليل (5/355) وللحديث طرق عديدة وقد تلقاه بالقبول فقهاء الأمصار/ انظر: التمهيد لابن عبد البر:(22/280ـ 284)
وعليه فلو أتى المسلمون إلى ديار الكفار الحربيين ولم يقفوا لقتالهم فإن المال كله يرجع بيد أصحابه الأصلاء وهم المسلمون وذلك بنصِّ القرآن ـ والحمد لله على جزيل عطائه ـ ويقارب هذه المسألة تمثيلاً الأرض المملوكة فكثيراً ما تكون أحب للإنسان من ماله المخزون، وقد يتملكها الكفار ولكنها سترجع في العاقبة إلى من يستحقها ، قال تعالى : (( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) (لأعراف: من الآية128) .(57/93)
فتعين المصير والعاقبة في الأرض إلى المسلمين المتقين ، قال تعالى: (( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)) (الانبياء:105) . تلك خلاصة مجملة لحقيقة مسألة الفيء ، والتي ذكرها العلماء في كتبهم بمثل هذا التوضيح.
وقد اطلعت مؤخراً على مقالة كتبها الأستاذ / زين العابدين الركابي ، بعنوان (تحريف مفهوم الجهاد /عصم الله النص القرآني من التحريف فعمد الغلاة إلى تحريف المعنى) وفيها من المغالطات الفقهية،والمجازفات السلوكية ما لو قرأها المنصف لخرج بذلك،ولا غرابة فنحن في زمن.
خلا لك الجو فَبِيْضِي واصْفُرِي ونَقِّرِيْ ما شئت أن تنقِّرِي
ولكن... ليس على كل حال ، فالمراقبون للكتابات في الأوساط الفكرية كُثُر، ويقع بعضها في الشباك (فلابد يوماً أن تصادي فاصبري) .
والعبث الفكري لا ينجح كل مرة ، وتبيين الحق أمر واجب وفرض علينا ، حتى نحفظ تراثنا الإسلامي من تشكيك المشككين، والحمد لله.. فإن:
الحق شمس والعيون نواظر لكنها تخفى على العميان
وبداية... فإني لا أريد من الأستاذ الركابي أن يتشنج معي ، في تقبل هذا التعقيب كما تشنج مع غيري، ومنهم رأي الداعية الذي بثه في مقاله (تحريف مفهوم الجهاد)، والذي سأذكره بعد قليل .
إنني أتمنى للركابي كل خير وبر وتوفيق ... فلست من دعاة الفرقة والاختلاف، بل من دعاة السنة والجماعة والائتلاف، و ليتنا جميعاً إن بدا قولنا خطأً مغايراً للكتاب والسنة بالفهم الصحيح الموافق لمراد الله ورسوله، أن نتراجع كما تراجع بعض علمائنا ـ رحمهم الله ـ عندما وقعوا في بعض الأخطاء فبان لهم أن قولهم خلاف الصواب... ، والله من وراء القصد.
* كثيراً ما يدعو الأستاذ /الركابي إلى تبني المنهج الموضوعي ، والتفكير العلمي الرصين مع الإنصاف والاعتدال، وقد ذكر شيئاً من ذلك في كتابه (( الأدمغة المفخخة)) قائلاً : ( تعالوا نبني هذا العالم الهادئ الآمن بما قل وكثر من العمل والتفكير والتعبير بالفكرة الرضية الندية...وبالكلمة الداعية إلى الله اللطيف الودود السلام، وإلى العدل والإنصاف والاعتدال.. وبالسلوك المتسامح.. وبالفعل الرفيق المسالم ، وبالأدمغة النظيفة.. من التفكير في الإثم والعدوان الملأى بمفاهيم السلام والأمن والمرحمة ومحبة الخير والأمن للإنسان..كل إنسان) انظر( صـ 13) .
ويحاول الركابي أن يطرح رؤيته الفكرية مع الكفار حيث علق على قوله تعالى :
(( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (الممتحنة:7) .
بقوله : (فهذه الآيات دعوة صريحة إلى الإيناس والإيلاف وفتح باب الاحتمالات الحسنة..) انظر( صـ 63) .
والحاصل أن الإنسان سيخرج بخلفية معينة عن هذا الكاتب بأنه متزن في الطرح، متوافق مع ما كتب آنفاً.
والآن... بين يدي مقالة الأستاذ الركابي: (تحريف مفهوم الجهاد) والتي ضمنها في كتابه الأخير(الأدمغة المفخخة) من (صـ 28إلى صـ 35) وفي هذا المقال اختيارات موفقة ، وتحليلات طيبة ، ومعالجة جيدة لبعض مظاهر العنف، إلا أن فيه من الأخطاء الواضحة والمغايرة للصواب ما هو ظاهر، كما أنَّ فيه الاستخفاف ببعض آراء العلماء ـ وإن لم يذكرها في ثنايا مقاله ويَعْزُهَا لأصحابها ـ ما يقف له شعر القارئ مستغرباً عمَّا انطبع في ذهنه بأن الركابي يناقش المسائل التي يخالفها بكل موضوعية وأدب ، مع الفهم الصحيح.
وفي هذا التعقيب لن أناقش جميع ما يؤخذ على الركابي في مقاله حيث أتى بمغالطات عدة كان من ضمنها تنصله من ذكر جهاد الطلب (انظر ص 32 ـ 33 ـ 34 في مقاله آنف الذكر) واشتراطه بأن يكون الجهاد للدفاع فقط ، ولا شك أنَّ هذا غلط ظاهر، وقول غير صحيح فإنَّ أئمة الإسلام قد أطبقوا على استنكار هذه الدعوى وأفردوها بكتب ومؤلفات عدَّة فلتراجع في مواطنها.
وسأقتصر في هذا التعقيب على مناقشة رأيٍ طرحه الركابي كان متشنجاً في نقاشه،ونصه ـ :
)) ومنذ قريب سمعت رجلاً داعية يقول : )معنى الفيء : أن الأصل في المال هو للمسلمين ولذلك يجب أن ينتقل من الطارئين عليه، أي غير المسلمين إلى أصحابه الأصلاء وهم المسلمون) وهذه جهالة، بل حمق، بل جنون. فالله ليس هو رب هذا المتكلم فحسب، بل هو رب غير المسلمين كذلك : رب اليهودي والنصراني والوثني والملحد، رب كل إنسان، ولقد تجلى الرب على البشر الذين خلقهم بصفة الربوبية فأمدهم جميعاً بعطائه الجزيل : (( كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)) (الاسراء:20).(57/94)
وبمقتضى مقولة : إن أصل الأموال والخيرات للمسلمين وإنها يجب أن تفيء أو تعود إليهم ، يجوز أو يحل نهب أموال غير المسلمين وسرقتها واغتصابها ومصادرتها، وعلى هذا يمكن لمسلم حاسد طامع ـ مثلاً ـ أن يستولي على بيت فخم جميل لإنسان غير مسلم، وحين يقاضيه صاحب البيت يدعي : أن أصل الملكية له هو لا لصاحب البيت!!.أي تفكير تافه..أي جنون.. أي انحطاط خلقي هذا؟!...ا.هـ ( انظرصـ31ـ32 )
وفي هذا الكلام السابق يتضح منه التهكم بهذا الداعية حين ذكر السبب الذي سُمِّيَ به الفيء بهذا الاسم، ولي معه عدة وقفات:
الوقفة الأولى : أما ما نقله الركابي عن هذا الداعية ، فإنه كلام صحيح لا غبار عليه، وهو عين ما ذكره الفقهاء في كتبهم فهذا الداعية لم يأت بجديد، أو أنه عارض الكتاب والسنة،وما ذكره فهو استنباط من ظاهر الآية وأحاديث المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقد قعّدَ الفقهاء قاعدة فقهية جليلة وذكرها الإمام أبو الحسن الكرخي ـ رحمه الله ـ في أصوله بقوله : (الأصل أنَّ من ساعده الظاهر فالقول قوله والبينة على من يدعي خلاف الظاهر) أصول الكرخي صـ110 بواسطة الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية للشيخ/البورنو صـ180 ، فلا عبرة بقول الركابي ما لم يستدل على نقده بدليل واضح وبرهان قاطع يدفع ذلك الظاهر ويرده.
ولو ذكر الركابي حقيقة أخرى علَّل بها سبب تسمية الفيء بذلك فقد يكون له وجه بالقبول ، إلَّا أنه قد تحمس برد ذلك السبب بكل سخرية وتهكم ، بل بنى على ذلك التعليل أحكاماً ألزم بها مخالفه، لم يقلها ولم تخطر على باله، وسيأتي بيانها ـ إن شاء الله ـ.
الوقفة الثانية : في هذه السطور سأذكر ـ بعون الله ـ شيئاً من كلام الفقهاء الذين سبقوا هذا الداعية بهذا التأصيل والتعليل من مئات السنين وأبين بأنه لم يفتئت على دين الله ـ عز وجل ـ، بل لم يأت بجديد في ذلك إلا أنه قد قال بمثل ما قالوا به، وحيث أنَّ كلامهم في ذلك كثير، وقد يطول ذكره فإني سأقتصر في النقل على كلام لأحد الأئمة المجتهدين ثم أعقبه بالعزو إلى أحد علماء كل مذهب ذكر ذلك ، ذاكراً المرجع ورقم المجلد والصفحة، ومن أراد مراجعة ذلك فليرجع إلى مدوناتهم ، ليتبين للركابي أنَّ هذا القول قال به أئمة المذاهب، وعلماء الإسلام ، ولم يقل به هذا الداعية المسكين فقط!
فلنعط القوس باريها ، ولنخل بين المطي وحاديها، ولنذكر كلام العلماء ورأيهم في الذي اعتبره الركابي (جهالة ـ بل حمق ـ بل جنون) !! والله المستعان.
)أ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ما نصه:
) وسمي الفيء فيئاً ، لأن الله أفاءه على المسلمين ، أي رده عليهم من الكفار؛ فإن الأصل أن الله ـ تعالى ـ ، إنما خلق الأموال إعانة على عبادته ، لأنه إنما خلق الخلق لعبادته فالكافرون به أباح أنفسهم التي لم يعبدوه بها ، وأموالهم التي لم يستعينوا بها على عبادته، لعباده المؤمنين الذين يعبدونه ، وأفاء إليهم ما يستحقونه ، كما يعاد على الرجل ما غصب من ميراثه وإن لم يكن قبضه قبل ذلك) مجموع الفتاوى(28/276)
وهنا ـ تأمل ـ فإن ابن تيمية يعتبر أن الكافر كأنه غصب المال من المسلمين باستشهاده و تشبيهه بما لو غصب من الرجل ميراثه ثم عاد إليه وإن لم يكن قبضه قبل ذلك.
وقال كذلك ـ يرحمه الله ـ ( وما لم يقاتلوا عليه فهو فيء ،لأن الله أفاءه على المسلمين ، فإنه خلق الخلق لعبادته ، وأحل لهم الطيبات ، ليأكلوا طيباً ، ويعملوا صالحاً ، والكفار عبدوا غيره، فصاروا غير مستحقين للمال، فأباح للمؤمنين أن يعبدوه وأن يسترقوا أنفسهم ، وأن يسترجعوا الأموال منهم ، فإذا أعادها الله إلى المؤمنين منهم فقد فاءت ، أي رجعت إلى مستحقيها) مجموع الفتاوى (28/562)
وبمثله قال ابن القيم في عدة الصابرين (صـ312ـ 313) ، ووافقهم الزركشي ـ الحنبلي ـ في شرحه على مختصر الخرقي (4/145)، والشربيني ـ الشافعي ـ في مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج (4/145)، وأبو العباس القرطبي ـ المالكي ـ في المفهم شرح صحيح مسلم(3/557)،والقاضي ابن العربي ـ المالكي ـ في أحكام القرآن(4/1770) ـ (2/855)، والقاضي أبو السعود ـ الحنفي ـ في إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم(8/227) فليرجع إليها في مواضعها.(57/95)
وليعلم أن هذا كله في المحاربين من الكفار للمسلمين بأن آذوهم كما آذى بنو النضير محمداً صلى الله عليه وسلم ، فخرج لقتالهم، أومن أرادهم المسلمون بجهاد الطلب ليحرروا الناس من عبودية الطاغوت ويزيلوا العوائق التي تحول بينهم وبين سماع دين الحق ، ويهدوهم إلى عبودية الله ـ عز وجل ـ فلو فر الكفار ولم يقاتلوا المسلمين فإن مالهم يرجع فيئاً للمسلمين، فتأصيل العلماء لهذا المبدأ جارٍ على هذه الأطر والضوابط ، ولهذا ذكر العلماء أنَّ الكافر إذا أسلم فإنَّ تملكه صحيح ولا يجبر بالخروج عنه، و لم يقل أحد منهم بأنه يجوز للمسلم أن يسرق أو ينهب مال الكافر إذا كان ذمياً أو معاهداً أو مستأمناً، كما فهم ذلك الأستاذ الركابي ـ هداه الله ـ وجعله لازماً ومقتضى لمن يقول بأن الفيء أصله للمسلمين فإذا انتقل من الكفار فقد رجع إلى من يستحقه وهم المسلمون ، وعلى هذا فعندما ذكر الركابي أنه بمقتضى هذا القول (يمكن لمسلم حاسد طامع أن يستولي على بيت فخم جميل لإنسان غير مسلم ، وحين يقاضيه صاحب البيت يدعي أن أصل الملكية له هو لا لصاحب البيت... لأن أصل الأموال والخيرات للمسلمين) فهذا الذي ذكره الركابي هو في الحقيقة فهم ساقط ، وقول لم يقله أحد لا من المتقدمين ولا من المعاصرين ، فهولازم لا يلزم ، وقول يستسفهه من كان قليل العلم والمعرفة فضلاً عن علماء أفذاذ ، فلتتق الله أيها الأستاذ، ولا تلبس الحق بالباطل، وصدق من قال:
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
واعلم أنك ستسأل يوم الدين عما كتبت:
فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه
* والآن فقد بان واتضح أن هذا القول الذي قذفه الأستاذ بأبشع الألفاظ وأقذع العبارات؛ هو عين قول الفقهاء المتمكنين ومن مذاهب شتى، ليعلم الجميع أن الأقوال التي رماها الركابي في نقد هذا القول يدل على مقدار عقل صاحبه، وكيف أنه يناقش الكلام السابق ذكره بهذه العقلية المتشنجة ـ ويا للأسف ـ وهذا عين ما ابتلينا به في هذا العصر حيث يطلق كثير من المفكرين الكلام على عواهنه جزافاً بلا تأصيل أو ربط، لأنها فكرة دندنت في رؤوسهم فصبوها في مقالاتهم دون مراجعة لكلام العلماء المتخصصين ولم يلقوا بالاً في خاطرهم ، بأنه قد يعتريها الخطأ والانحراف ، وهذا ما ابتلي به الركابي فأطلق هذه العبارات الشديدة والتي خرجت عن حيز العقلانية (والسلوك المتسامح) و(فتح باب الاحتمالات الحسنة)التي يبني بدعواه مقالاته عليها!
ولو كلف الدكتور نفسه بأن يجهد عينيه قليلاً للجولان بالنظر في بطون الكتب الفقهية لوجد ما يسند قول هذا الداعية ولوجد له سابقاً من مئات السنين.
خاصة أني ومن خلال مطالعتي لكتابات الأستاذ الركابي، وجدت أنه إذا رأى قولاً يراه الصواب فإنه يأتي بما يسند قوله ذاك،من آراء العلماء المتقدمين مثل/ ابن تيمية، وابن المُنَيِّر، والقرافي، وابن كثير، فلم لا يبحث عمن يسند قوله من العلماء السابقين بأن من قال هذا القول فإنه صاحب جهالة وحمق وجنون، ويقيني أنه لن يجد ما يعزز فكرته التي طرحها في مقاله.
فإن زعم الأستاذ بأنه لم يكن يدري بأن العلماء السابقين قالوا بمثل هذا القول الذي نقده أو قريباً منه، فإن هذه رزية ؛ فكيف يتحدث في مسألة شرعية فقهية،ولم يقلب صفحات التراث الفقهي الضخم الذي خلفه لنا علماؤنا.
ورحم الله أبا العباس بن تيمية ـ حين قال ـ ( العلم إما نقل مُصَدَّق،أو استدلال مُحَقَّق، وما سوى ذلك فباطل مزَوَّق) مجموع الفتاوى.
وليت أن الأستاذ الركابي عرض نقده ذاك على بعض الفقهاء المتخصصين،حتى يعلم جرم ما قاله وأن فهمه كان مخالفاً للصواب، ومن جميل كلام ابن المقفع قوله:
)لا ينبغي للمرء أن يعتد بعلمه ورأيه ما لم يذاكره ذووا الألباب ، و لم يجامعوه عليه، فإنه لا يستكمل علم الأشياء بالعقل الفرد) الأدب الصغير(صـ73) .
و يؤسفني ـ والله ـ أن يفحش الأستاذ الركابي بالنقد للكلام السابق بعبارات يظن أنه إذا قالها فسيفرض رأيه بالقوة ، ويقتنع الناس بكلامه ذاك لأنه قول (جنون)،وأخشى أن يكون الركابي قد أخذ منزع (الإسبارطيين) والذين يحققون أفعالهم وأقوالهم بالقوة والعنف، بغض النظر عن البحث في مسائل الدين ، وعقلانية السلوك والأخلاق!! والله المستعان.
الوقفة الثالثة : وأما عن استدلال الركابي بقوله تعالى : (( كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)) (الاسراء:20) .
فإنه استدلال في غير موضعه....
نعم ؛ تكفل الله بالرزق والعطاء لكل أحد من بني الإنسان بل حتى الحيوانات تكفل برزقها ـ عز وجل ـ ،ودليله قوله تعالى : (( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) (هود:6) .(57/96)
ولكن العطاء والإمداد والرزق كله من الأبواب الكونية القدرية العامة ، والتي تعطى للمسلم والكافر، فإذا جاءنا حكم بمقتضى الأمر الشرعي الديني بأخذ أموال الكفار إذا لم يثبتوا لقتال المسلمين، فإنّه لا تعارض عندئذٍ بين الأوامر الكونية القدرية وبين الأوامر الشرعية الدينية ، وكذلك بين العطاء الكوني القدري (مثل أن يرزق الكافر المال) وبين العطاء الشرعي الديني (مثل الأمر بأخذ أموال الكفار المحاربين إذا قهرناهم وأخذنا منهم مالهم ولم يثبتوا لقتالنا) وهذه مسألة شرحت بإسهاب في كتب التوحيد والعقائد ، فليرجع إليها من أراد تفصيلها .
وختاماً / فما أجمل ما قاله الإمام ابن حجر العسقلاني:
(( العبد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف)) فتح الباري (13/67)
ولعل الأستاذ الركابي يراجع ما كتبه في ذلك فإنَّ (الرجوع إلى الحق من جملة الدين) كما قال الإمام العيني ـ رحمه الله ـ في عمدة القاري (1/66) وكثيراً ما يركز الركابي بأنه( يفتح باب الاحتمالات الحسنة ولو مع الكفار)فليت ذلك كان مصروفاً إلى إخوانه الدعاة المسلمين قبل غيرهم من ملل الكفر.
سائلاً المولى ـ عزَّ وجلَّ ـ أن يغفر لي ، وللركابي، ولجميع منْ نبَّه على خطئي وتقصيري ، ومن الله الحول والطول ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
تمَّ بحمد الله ظهر يوم الأحد الموافق 21/11/1425هـ
==============(57/97)
(57/98)
لماذا لا يعجل الله تعالى بهلاك الكفار ؟ ولماذا المسلمون في تأخر ؟
سؤال:
لماذا لا يعاقب الله المسيحيين واليهود ? لماذا المسلمون في تأخر والمسيحيون واليهود في تطور ؟.
الجواب:
الحمد لله
أولاً :
لعلَّ الأخ السائل أراد بالعقوبة في سؤاله العذاب والإهلاك ؛ لأن لفظ العقوبة أعم من العذاب ، والكفار يعاقبهم الله تعالى على كفرهم بالمعيشة الضنك ، وبظلمة القلوب وقسوتها ، ومن يُرى منهم على حال حسنة ونعيم في طعامه ولباسه ومسكنه فإنما هو ظاهر الأمر لا حقيقة بواطنهم وقلوبهم ، ويشترك العاصي مع الكافر في هذا الباب .
وأما تأخير العذاب والإهلاك لمن كفر بالله تعالى : فقد ذكر الله تعالى في كتابه حِكَماً كثيرة لذلك ، ومنها :
1. أنه تعالى غفور رحيم ، وإنما يؤخر إهلاكهم لأجل أن يتوبوا ويُسلموا .
قال الله تعالى : ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ) الكهف/58 .
قال الإمام الطبري - رحمه الله - :
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : وربك الساتر يا محمد على ذنوب عباده بعفوه عنهم إذا تابوا منها .
( ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا ) هؤلاء المعرضين عن آياته إذا ذكروا بها بما كسبوا من الذنوب والآثام .
( لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ) ولكنه لرحمته بخلقه غير فاعل ذلك بهم إلى ميقاتهم وآجالهم .
" تفسير الطبري " ( 18 / 52 ) .
2. أن من صفاته تعالى الحلم ، ومن أسمائه الحسنى الحليم ، فهو لا يعجل بالعقوبة ، بل يمهل لخلقه من غير إهمال ، ولن تفوته عقوبتهم لو أراد ، كما هو الحال في البشر .
أ. قال الشيخ الشنقيطي - رحمه الله - :
قوله تعالى : { لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب } الآية .
بيَّن في هذه الآية الكريمة : أنه لو يؤاخذ الناس بما كسبوا من الذنوب ، كالكفر والمعاصي ، لعجَّل لهم العذاب ، لشناعة ما يرتكبونه ، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة ، فهو يمهل ولا يهمل" . أضواء البيان " ( 4 / 164 ) .
ب. وقال - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) النحل/61 - :
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه لو عاجل الخلق بالعقوبة لأهلك جميع من في الأرض ، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة ؛ لأن العجلة من شأن من يخاف فوات الفرصة ، ورب السموات والأرض لا يفوته شيء أراده .
وذكر هذا المعنى في غير هذا الموضع ، كقوله في آخر سورة فاطر : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ) فاطر/45 الآية ، وقوله : ( وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب ) الكهف/ 58 ، الآية .
وأشار بقوله : ( ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى ) إلى أنه تعالى يمهل ولا يهمل .
" أضواء البيان " ( 3 / 263 ) .
3. أن عذاب الكفار حاصل ولا شك في الآخرة ، وأن التأخير فيه إنما لأنه لم يحن وقته الذي قدَّره الله تعالى عليهم ، وهو يوم القيامة .
قال الله تعالى : ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) هود/110 .
وقال تعالى : ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) طه/129 .
وقال تعالى : ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا ) الكهف/58 .
وقال تعالى : ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ ) إبراهيم/42 .
أ. قال البغوي - رحمه الله - :
( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) فيه تقديم وتأخير، تقديره : ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجلٌ مسمّى ، والكلمة : الحُكم بتأخير العذاب عنهم ، أي : ولولا حكمٌ سبق بتأخير العذاب عنهم وأجلٌ مسمى ، وهو القيامة .
( لَكَانَ لِزَاماً ) أي : لكان العذاب لازماً لهم ، كما لزم القرون الماضية الكافرة .
" تفسير البغوي " ( 5 / 302 ) .
ب. وقال ابن كثير - رحمه الله - :
قال تعالى : ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) أي : لولا الكلمة السابقة من الله بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد : لعجل لهم العقوبة في الدنيا سريعاً .
" تفسير ابن كثير " ( 7 / 195 ) .
ج. وقال الشيخ السعدي - رحمه الله - :
( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) بتأخيرهم ، وعدم معاجلتهم بالعذاب .(57/99)
( لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) بإحلال العقوبة بالظالم ، ولكنه تعالى اقتضت حكمته أن أخَّر القضاء بينهم إلى يوم القيامة . " تفسير السعدي " ( ص 390 ) .
د. وقال الشنقيطي - رحمه الله - :
قوله تعالى : { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاٍ } الآية .
بيَّن جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه وإن لم يجعل لهم العذاب في الحال : فليس غافلاً عنهم ولا تاركاً عذابهم ، بل هو تعالى جاعل لهم موعداً يعذبهم فيه ، لا يتأخر العذاب عنه ، ولا يتقدم . " أضواء البيان " ( 4 / 164 ، 165 ) .
4. وأما من كفر نعمة ربه , ولم يتعرض لرحمته ، وأصر على كفره وعناده ، فإن في تأخير العذاب عنه زيادة في إثمه ، حتى يوافي ربه العزيز المنتقم ، وقد ازداد إثمه ، وأحاط به جرمه ، وانقطع عذره ، وذهبت حجته :
قال الله تعالى : ( فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَام ٍ) ابراهيم/47 وقال تعالى : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) آل عمران/178 .
وقال تعالى : ( فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ) مريم/85 .
أ. قال الإمام الطبري - رحمه الله - :
وتأويل قوله : ( إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ) : إنما نؤخر آجالهم فنطيلها ليزدادوا إثماً ، يقول : يكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم وتكثر .
( وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) يقول : ولهؤلاء الذين كفروا بالله ورسوله في الآخرة عقوبة لهم مهينة مذلة .
" تفسير الطبري " ( 7 / 423 ) .
ب. وقال الطبري - أيضاً - :
وقوله ( فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ) يقول عزّ ذكره : فلا تعجل على هؤلاء الكافرين بطلب العذاب لهم والهلاك يا محمد .
( إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ) يقول : فإنما نؤخر إهلاكهم ليزدادوا إثماً ، ونحن نعدّ أعمالهم كلها ونحصيها حتى أنفاسهم لنجازيهم على جميعها ، ولم نترك تعجيل هلاكهم لخير أردناه بهم .
" تفسير الطبري " ( 18 / 252 ) .
فيا له من وعيد وتخويف ، وياله من بأس وانتقام ، حين يعد الجبار الجليل ، للمجرم الآبق ما يستحقه على جرمه ، حين لا مفر له ولا مهرب .
روى البخاري (4686) ومسلم (2583) عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ثُمَّ قَرَأَ { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } .
ثانياً :
وأما الأمر الآخر وهو تأخر المسلمين وتقدم الكفار في أسباب المعاش ، وعلوم الدنيا : فاعلم أن أمر تطورهم وتقدمهم لا يتعدى الأمور الدنيوية ، وأما العلم الحقيقي ، وهو العلم بالله والدار الآخرة فهم في معزل عنه . قال الله تعالى : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) الروم/7 .
وهذا أيضا من تمام حجة الله تعالى عليهم ؛ أن أعطاهم الأسباب التي تمكنهم من العلم النافع لهم ، وتدلهم على الدين الحق ، فشغلوها بأمر الدنيا ، ولم ينتفعوا بها فيما ينجيهم عنده ، ويصلح لهم أمر آخرتهم ، فينصلح تبعا له أمر دنياهم ـ أيضا ـ . قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) الاحقاف/26 ولهذا قال الله تعالى ، ناهيا عباده عن الاغترار بما عندهم من أسباب الدنيا ، وزينتها وزخرفها ، : ( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) آل عمران/196 ، 197 .
قال الشوكاني رحمه الله :
( لا يَغُرَّنَّكَ ) خطاب للنبي r والمراد تثبيته على ما هو عليه ، كقوله تعالى ( يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنوا آمِنوا ) وخطاب لكل أحدٍ ، وهذه الآية متضمنة لقبح حال الكفار بعد ذكر حسن حال المؤمنين ، والمعنى : لا يغرنك ما هم فيه من تقلبهم في البلاد بالأسفار للتجارة التي يتوسعون بها في معاشهم ، فهو متاع قليل يتمتعون به في هذه الدار ثم مصيرهم إلى جهنم ، فقوله : ( مَتَاعٌ ) خبر مبتدأ محذوف : أي : هو متاع قليل لا اعتداد به بالنسبة إلى ثواب الله سبحانه .
( وَمَأْوَاهُم ) أي : ما يأوون إليه .
والتقلب في البلاد : الاضطراب في الأسفار إلى الأمكنة ، ومثله قوله تعالى ( فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُم فِي البِلاَدِ ) والمتاع ما يعجل الانتفاع به ، وسمَّاه " قليلاً " لأنه فانٍ ، وكلُّ فانٍ وإن كان كثيراً فهو قليل .(57/100)
وقوله ( وَبِئْسَ المَصِيرُ ) ما مهدوا لأنفسهم في جهنم بكفرهم ، أو ما مهد الله لهم من النار ، فالمخصوص بالذم محذوف : وهو هذا المقدر .
" فتح القدير " ( 1 / 622 ، 623 ) .
واعلم ـ أخانا الكريم ـ أن الله تعالى قد جعل لعمارة الأرض ، والتمكن من خيرها ، والانتفاع بما فيها ، وبلوغ أسباب القوة ، سننا كونية ، هي جارية على العباد كلهم ؛ فمن أخذ بأسباب القوة بلغها ، بإذن ربه ، لكن الشأن فيمن يبلغ ذلك ، كما شرع له ربه ، ثم يستعمله فيما يوصله ، ويوصل العباد إلى مرضاة ربه . قال الله تعالى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) الاسراء/18-20 .
ثم إن من حكم الله تعالى في تيسير أسباب المعاش ، وزينة الدنيا لهؤلاء الكفار ، أن من أحسن منهم في شيء ، تمتع بما عنده من الدنيا ، جزاء حسنته ، حتى إذا وافى ربه يوم القيامة ، لم يكن له عند الله حسنة يجازى بها .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً ؛ يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا ، وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ . وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا ، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا ) رواه مسلم (2808) .
ولهذا قال شداد بن أوس رضي الله عنه : ( إن الدنيا عرض حاضر ، يأكل منها البر والفاجر ، والآخرة وعد صادق ، يحكم فيها ملك قاهر ، ولكل بنون ؛ فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ) صفة الصفوة (1/709) .
على أننا ـ أيضا ـ ننبه هنا إلى أن ذلك لا يعني أن يترك المؤمنون أسباب القوة ، يتمتع بها الكفار ، ويصدون الناس بها عن سبيل الله ، بل إن المؤمن مأمور بعمارة الأرض على منهج ربه عز وجل . قال الله تعالى : ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) هود/61 ، وأمر الله تعالى عباده بالأخذ بأسباب القوة ، كل القوة ، في مواجهة عدوهم : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ) الأنفال/من الآية60
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله : ( أي : كل ما تقدرون عليه ، من القوة العقلية والبدنية ، وأنواع الأسلحة ونحو ذلك ، مما يعين على قتالهم . فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع ، والرشاشات ، والبنادق ، والطيارات الجوية ، والمراكب البرية والبحرية ، والقلاع ، والخنادق ، وآلات الدفاع ، والرأي والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم ، وتعلم الرمي ، والشجاعة والتدبير . ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « ألا إن القوة الرمي » [ رواه مسلم (1917) ] .
ومن ذلك : الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال ، ولهذا قال تعالى : ( ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) ؛ وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان ، وهي إرهاب الأعداء ، والحكم يدور مع علته . فإذا كان شيء موجودا أكثر إرهابا منها ، كالسيارات البرية والهوائية ، المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد ، كانت مأمورا بالاستعداد بها ، والسعي لتحصيلها ، حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلم الصناعة ، وجب ذلك ، لأن « ما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب » ) .
وانظر جواب السؤال رقم : ( 33679 ) لتقف على بعض ما في حياة الكفار من هموم وغموم وشقاء .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
=============(57/101)
(57/102)
مقاربة الحقيقة
أ.د. عبدالكريم بكار
ركز الله جل وعلا في فطرة الإنسان حب التساؤل والتطلع إلى معرفة المجهول . وتاريخ الإنسانية حافل بالجهود التي يحاول الناس من خلالها الخروج من العماء و ( اللاتكوّن ) . والإنسان إذ يحاول التعرف على الوسط الذي يعيش فيه يسعى إلى فهم ذاته وتيسير حركته واستثمار طاقاته ، وهو في سبيل ذلك مطالب بأن يعرف الكثير الكثير من الحقائق ، وذلك لا يتم إلا بامتلاك المنهج والأدوات الملائمة . إن مما هو مألوف أن نجد بعض الحقائق يبدي طواعية من غير حدود ، حتى إذا حاولت القبض عليه واستيعابه تأبّى على التشكل على نحو ما نجده في المادة الهلامية . وهذا ما يخدع كثيراً من الناس ؛ حيث يكون قبضهم إذا يظنون أنهم قبضوا على ما يشبه السراب .
ولعلِّي أسلط الضوء على هذه المسألة المهمة من خلال النقاط الآتية :
1 - إدراك الإنسان للمحسوسات والمجسَّمات أسهل بكثير من إدراكه للمعنويات والعقليات ؛ فنحن نكاد لا نبذل جهداً يذكر في التعرف على لون ثوب أو مساحة غرفة أو وزن هاتف ، أما إذا تحدثنا عن شجاعة شخص أو أثر الرخاء في حياة شعب ، أو أثر اليتم في حياة طفل ومستقبله ، فإننا سنختلف اختلافاً بيناً في ذلك ؛ حيث يكون التعامل مع عناصر غير ملموسة ، وبعضها غامض جداً يصعب الحدس به .
دعونا نقول : إن ( الحقيقة ) ليست ذات جوهر واحد ، أو ذات طبقة واحدة ، وإنما هي ذات طبقات عدة ، بعضها فوق بعض ، وكلما صرنا للبحث في طبقة أعمق احتجنا في إدراكها والتعامل معها إلى أسلوب جديد أو وسيلة جديدة ، ووجدنا أنفسنا على أرض هشة ؛ حيث يشتد النقص في وسائل المعرفة ، كما يزداد الاعتماد على عناصر ذات طابع يكاد يكون شخصياً .
حين نرى ( قلماً ) فإننا نعرف سماته الظاهرة لأول وهلة ؛ فإذا أردنا أن نعرف ( ثمنه ) وجدنا أنفسنا بحاجة إلى درجة من الخبرة التجارية وأسعار الأقلام في السوق ؛ فإذا تجاوزنا ذلك إلى معرفة المواد التي صُنع منها القلم ومقدار كل منها والتقنية المستخدمة فيها وجدنا أنفسنا أمام معضلة كبرى ، ووجدنا أن الاقتراب من ذلك يتطلب وجود مختبرات متطورة وتجارب كثيرة وخبرات متخصصة وراقية ؛ ومع كل ذلك ففي الغالب تكون النتائج متواضعة ، وإلا لأمكن اقتباس أسرار التقنية المتقدمة بسهولة . ونحن في كل هذا نتعامل مع شيء محسوس ، لكننا تجاوزنا ما يوقفنا عليه النظر العابر إلى طبقات أعمق من الحقيقة .
2 - في المسائل الصغيرة والمحدودة نستخدم الحواس والأخبار المتواترة والمستفيضة ، ونصل إلى أحكام قطعية أو شبه قطعية ، وذلك كحكمنا بأن زيداً من الناس موجود معنا في هذه الحجرة ، وكإيماننا بوجود بلد اسمه ( الصين ) وشخص مضى اسمه : حاتم الطائي أو الذهبي . ونحن لا نستخدم في إدراك هذا النوع من الحقائق والمعارف مقدمات أو عناصر ذهنية ؛ ومن هنا حصلنا على معرفة يقينية أو شبه يقينية .
أما إذا أردنا الاقتراب من قضية أو حقيقة ذات بنية مركبة فإن الأمر سيكون مختلفاً جداً . وتكون البنية مركبة إذا ساهم في تشكلها عدد من الروافد المتباينة أوالمتقاربة ؛ وذلك كما إذا أردنا الوقوف على ما جرى في معركة من المعارك ، والآثار الرمزية والاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عنها . في مثل هذه الحالة يكون من غير الممكن فهم هذه الحقيقة أو الحقائق المركبة على نحو مباشر ؛ ولا بد من استخدام وسيط معرفي ، يسميه بعض الباحثين اليوم بـ ( الإشكالية ) . هذه الإشكالية مكونة من عدد من العناصر ، أهمها معتقداتنا ، بالإضافة إلى الخلفية الثقافية العامة أو ما كان يسمى بـ ( الأهلية ) ثم المعلومات المتوفرة حول القضية موضع البحث . فالطبيب الذي لا يؤمن بوجود ( الجن ) أو الذي لا يرى ( الإصابة بالعين ) سوف يُبعد كل ما يتعلق بهذين الأمرين عند التشخيص والعلاج لكل المرضى الذين يراجعونه ، والذي خبرته في الاقتصاد معدومة يمكن أن يصدِّق من يقول له : إن ثروته يمكن أن تتضاعف كل سنة مائة مرة إذا هو دفع ماله إليه .
والذي لا يعرف الاحتياطات التي تقوم بها الدول النووية نحو السلاح النووي فإنه يمكن إذا رأى قنبلة في صحراء أن يصدِّق من يقنعه بأنها قنبلة نووية ، وهكذا .
الإنسان وهو يستخدم هذا الوسيط المعرفي في استيعاب الواقع الموضوعي لا ينتهي في أكثر الأحيان إلا إلى نتائج ظنية ؛ وذلك لأن صلابة الرأي نابعة من صلابة المقدمات التي ولَّدته . وعند النظر في خلفياتنا الثقافية ومعلوماتنا حول القضايا التي نحاول فهمها نجد أنها كثيراً ما تكون قاصرة وقابلة للجدل والنقد ؛ وهذا ما يجعل تعاملنا مع القضايا المركبة والمعقدة منطوياً على نوع من ( الاجتهاد ) الذي يحتمل الخطأ والصواب .
3 - كثيراً ما نشكو من نقص المعلومات التي تساعدنا على فهم بعض الأمور ، وكثيراً ما نجد أنفسنا بلا حول ولا طول تجاه الوقوف على بعض الدوافع لبعض التصرفات ، أو تجاه تقدير الآثار المترتبة عليه ، أو تكوين صورة جيدة عن واقعة تاريخية معينة ، وفي هذه الحالة نلجأ إلى ( التفلسف ) ، وليس من المبالغة القول :(57/103)
إنه ما يمر على الواحد منا يوم دون أن يستخدم في كلامه وتأملاته نوعاً من التفلسف من أجل التغلب على ما نواجهه من نقص في عتادنا المعرفي .
نحن نستخدم ( التعليل ) في كثير من الأحيان من أجل جعل تصرفاتنا وأقوالنا تبدو منطقية ومنسجمة ، ونستخدم ( القياس ) لسد الفراغات التي تركها الاستقراء الناقص ، أو حيث يكون الاستقراء التام مستحيلاً ، ونستخدم ( التقنين ) من أجل تسهيل التعامل مع الأفكار والأشياء والمواد . والسنن الواردة في القرآن الكريم والسنن النبوية تهدف إلى مساعدتنا على أخذ العبر والوصول إلى مستخلصات مركزة حول الماضي والمستقبل . حين نمارس ( التحليل ) فإننا نرمي إلى تفكيك المعطيات المعقدة بغية النفاذ إلى جوهرها ، وإتاحة الفرصة لأدمغتنا كي تتعامل معها بكفاءة . وحين نتوقع حدوث بعض الأمور ، ونهجس بالمستقبل فإننا نقوم بعملية استكشاف للعلاقات بين الأسباب والمسببات ، ونفعل ذلك بغية إيجاد نوع من الاستمرارية الشعورية والظرفية ، وتوفير منطقة عيش آمنة وملائمة لحركتنا .
إن كل هذه الممارسات الذهنية والمعرفية ما هي سوى طرق لترويض الحقائق ، ومناهزة استيعابها . وهي لا تعدو أن تكون ضروباً من ( المقاربة ) لما نبتغيه . وهي جميعاً تعمل خارج منطقة اليقين والصواب القطعي . وفي هذه العمليات التي أشرنا إليها يقع الكثير من المجازفة والتعسف والتجاوز . وتقدُّم الوعي الإسلامي ولا سيما على الصعيد الشعبي ضعيف جداً في هذا الحقل ؛ بل إن كثيراً من الصفوة من ذوي الثقافة العليا يسلكون مسلك العامة في بعض الأحيان حيال التعامل مع معطيات التفلسف والنظر العقلي . مع أن من الواضح أن ( الفلسفة ) لا تمنحنا الدقة ، ولا تساعدنا على التحديد ، وإنما تزيد في درجة شفافيتنا ، وتساعدنا على رسم الاتجاهات والتعامل مع المسائل الكلية .
4 - في البنية العميقة للمعرفة الإسلامية مرونة فكرية كبيرة ، نحن اليوم في أَمسّ الحاجة إلى التشبع بها وتمثلِها في عمليات الاستنباط والاختلاف والتقويم المختلفة . ومن الملاحظ أن الفكر الحداثي الغربي يقوم اليوم على ركائز غاية في التطرف ؛ فهو شديد التأرجح بين الشك المطلق واليقين المطلق ؛ بين العقلانية المطلقة وبين جحود أي ثابت من الثوابت ، وقد تأثر بهذا كثير من الرؤى الحضارية المعاصرة في بلاد المسلمين .
أما الرؤية الإسلامية في هذا المجال ، فإنها تقوم على ( الوسطية ) المبصرة ؛ فهناك اليقين ، والظن القوي والظن الضعيف ، والشك القوي والشك الضعيف .
والاقتراب من الحقيقة متفاوت ، كما أن التورط في الخطأ متنوع ، وحين وضع الأصوليون قواعد تفسير النصوص لاحظوا هذا المعنى بدقة متناهية ؛ ولذا ذهبوا إلى أن النص قد يكون ظني الدلالة ، فيقبل آنذاك التأويل والفهم المتعدد .
ولاحظوا على سبيل المثال أن الأمر قد لا يفيد الوجوب ، بل قد ينصرف عند وجود قرينة إلى الإرشاد أو الندب أو الإباحة ، كما أن النهي قد يفيد مجرد الكراهة ، وليس الحرمة . العلاقة بين المقدمات والنتائج والأسباب والمسببات في كثير من الآداب الغربية تميل اليوم إلى ( التصلب ) حيث يحاول كثيرون هناك إضفاء معنى التلازم والاطراد على الارتباط القائم بين حدث وآخر .
وقد بات كثيرون لدينا يستخدمون عبارات الجزم والتأكيد فيما تأبى طبيعته ذلك . وقد كان من أدب علماء المسلمين أن يقولوا عقب بسط آرائهم واستنتاجاتهم :
« والله أعلم » ليشعروا القارئ باحتمالية ما ذهبوا إليه وعدم استحواذه على اليقين .
وكان من لطيف ما قرروه قولهم : « مذهبنا صواب يحتمل الخطأ ، ومذهب غيرنا خطأ يحتمل الصواب » ولو أنهم قالوا : « مذهبنا صواب يحتمل الخطأ ، ومذهب غيرنا صواب يحتمل الخطأ » لما أبعدوا النجعة ؛ حيث يرى بعض الأصوليين أن كل مجتهد مصيب . ومن أدب المسلم وصفاء اعتقاده أن يقول إذا تحدث عن شيء مستقبلي : « إن شاء الله » و « بإذن الله » ليذكّر السامعين أن الأمر كله لله ، وليشعرهم بوجود علاقة لينة بين ما نراه أسباباً ، وما نراه مسببات . إن كل ما نصل إليه من مقولات وطروحات يظل أغلبياً يحتمل الكثير من الشذوذ ، كما يحتمل الوهم والغلط ؛ وما ذلك إلا لأن إمكانات التجريب في عالم الفكر والشأن الإنساني عامة محدودة ومعقدة ؛ مما يجعل كل براهيننا على ما نقوله ذات وزن نسبي ومدلولات ترجيحية ، ليس أكثر . وإن من أهم سمات الرجل العقلاني أنه لا يستمسك بآراء وأفكار ليس لديه ما يكفي من البراهين عليها .
==============(57/104)
(57/105)
حصان طروادة
ماجد بن محمد الجهني
الظهران
من رحم المعاناة الفكرية والتخبط الروحي أطل برأسه منذ أعوام سلفت ، وهو الباحث عن الشهرة واللاهث خلف الأضواء يقوده إلى ذلك خواء روحي ، وتسطيح عقلي فهو يفكر في الوصول إلى الأضواء على طريقة الأعرابي الذي بال في بئر زمزم ولما شكاه الناس إلى أبي جعفر المنصور برر بمقولته الشهيرة : إنني إنما أردت من ذلك أن يعرفني الناس.
كان مفتوناً بكل غريب ، وسيرته ملئت بالأعاجيب ، لا تفتر همته عن البحث عن مواطن الشهرة حتى لو كانت على رأس جبل وعر تسلقه قد يكلفه حياته ، وقد كان سريعاً إلى نبذ وتسفيه كل رأي مخالف لا يوافق رأيه ، ولم يكن في يوم من الأيام صادراً عن وعي وتأمل ونظر صحيح فيما يخص اعتقاداته وأقواله الباطلة ، وكلما أظهر شيئاً من مكنونات نفسه أمام عالم وجد حجراً يلقمه الصمت والانزواء على مكنونات حقد تراكم مع الأيام ليصبح كيراً أسودا ينفخه باسم الحرية والتعبير عن الذات والانتقال إلى الفكر التنويري ، وهو ولاشك ظاهرةٌ مرضيةٌ جمعت بين النرجسية المفرطة والبلاهة الموغلة في أتون الأنا المقيتة.
إنه زمنٌ غريب وعجيب والأيام حبلى بكل جديد ، ولعل صورة بلعام بن باعوراء لها من النسخ ما يمكنها من تكرار ذاتها عبر كل زمان ولعمر الحق إن الله ماقص علينا قصته إلا لحكمة بالغة نتلو من خلالها وعبر القرآن العظيم لكل الأجيال صوراً للزيغ لتحذر من أتون حمأته وتربأ بنفسها عن منسم وطأته.
هذه بداية قصة مرض نفسي نشاهدها عبر حياتنا اليومية في صورة بعض الآدميين يمشون بيننا ويتنفسون الهواء الذي نتنفسه وهم ولاشك قد قرأوا ومر بهم من الآيات والنذر ما مر بنا ، ولكن نظرتهم للحياة نظره مليئة بالاضطراب والشك ، متذبذبة بين الحيرة واليقين ، وقد اختلطت عليها الأمور حتى صار الحق باطلاً والباطل حقاً والثابت متحولاً والمتحول ثابتاً وكل ذلك يصاحبه عقلٌ بلقعٌ من العقلانية وإن ادعوها وروحٌ خالية من الروحانية وآدمية خلت من الإنسانية وإن سنوها ديناً جديداً يبشرون به البشرية من وراء حجاب غليظ من المرض والتخبط وسوء الفطرة والفهم ، وهذه كلها ولاشك من نتاج الهوى والشهوات ، وهي مما يلقيه الشيطان في النفوس الموغلة في تتبع الشبهات.
إنني أعتقدُ أن مثل هؤلاء المرضى هم الذين يفرح بهم المستعمرُ أشد الفرح ، وهم الذين يعدهم لليالي التي يحتاج إليهم فيها ولذا يسعى دوما إلى تلميعهم وتقديمهم في صورة الفكر الراقي ، والمنهج التنويري الذي يسعى من خلاله إلى غرس معاني الديموقراطية فهم حصان طروادة الجامح إلى نيل أعلى المطامح وإن كان على حساب الدين والأخلاق والفطرة السليمة .
لست بدعاً من الناس ولن آتي بجديد إن قلتُ :إن الأمةَ اليوم تمتحن على صعيد مستواها الفردي والجماعي وهي ولاشك تمر بمرحلة مخاض عسير تتبين فيه معادن الرجال ، وتُعرض فيه الأفكار والرؤى والتصورات على محك القرآن والسنة ، وهانحن نرى التجليات النورانية للمعاني الإيمانية في تلكم الآية القرآنية التي طالما تلوناها ورددناها ( أم حسب الذين في قلوبهم مرضٌ أن لن يخرج اللهُ أضغانهم ) ، وأيم الله لقد أخرجت قلوبٌ كثيرة أضغانها وأبانت عن صفحة السوء المندرجة تحت عباءة تنويرهم المزعوم وهانحن نسمع بمن يتمنى أن يكون قرداً ليفعل أفعال القرود ، وهانحن نبتلى بمن يرى الحياد بين الأديان ليدشن لنا في خاتمة تخريفاته ديناً جديداً يسمونه الإنسانية والروحانية.
السؤال الذي يفرض نفسه ونرفعُ به أصواتنا : متى نرى أو نسمع عن محاكمة مثل هؤلاء المرضى على تجاوزاتهم التي تطال أغلى ما يملكه المسلم؟ ثم ألا يُعد أصحاب هذه الأفكار الخطيرة ممن يحرضون على العنف والإرهاب ومن ثم يجب أن يحاكموا؟ ، وكيف للمرء أن يثق في وسائل إعلامية رفعت مثل هؤلاء الجهلة إلى مقام ليس لهم في الوقت الذي تتجاهل فيه كبار المفكرين والنابهين وهي التي تدعي العدل مع الجميع والبعد عن الأحادية ؟ هذه أسئلة لازلت أنتظر جوابها؟؟؟.
نُشر في جريدة المحايد
عدد الخميس 30شعبان 1425هـ
=============(57/106)
(57/107)
ارتباط النفاق بالعقلانية والإصلاح
محمد جلال القصاص
للشريعة الإسلامية خصوصية تكاد تكون مطلقة ، تطال كل شيء ، المعاني اللغوية للألفاظ ، والمفاهيم والتصورات .
نعم قد تتقاطع مع غيرها أحيانا إلا أنها بجملتها تظل مستقلة[1] ، فالصلاة في اللغة غير الصلاة في الشرع وإن تقاطعت المعاني ، والصوم في اللغة غير الصوم في الشرع وإن تقاطعت المعاني ، والآذان في اللغة غير الآذان في الشرع وإن تقاطعت المعاني . وكذا مفهوم النصر والهزيمة في الشرع غير مفهومه عند الجاهلية وإن تقاطعت المعاني .
هذه الخصوصية تتصادم مع ما يكن في صدور المنافقين ، فمن يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل قريشا ، ويهاجم بني سليم[2] ـ وهم فرسان ذوي عدد ـ ويرسل السرايا لنجد وطيئ وغطفان ودومة الجندل ـ وهم ألوف مؤلفة ـ ويراسل الملوك بما يشبه التهديد ( أسلم تسلم ) ، ويخرج للروم يرابط في أرضهم ، وكل هذا ولم يَبْنِ أسوارا حول المدينة ، ولم يتخذ تلك الاحتياطات التي يتكلم بها ( استراتيجيو ) اليوم . من يقول بهذا ؟
قد كان يعتمد على أسباب أخرى يطلب بها النصر ويدفع بها الهزيمة .
يتعارض هذا مع ما يكن في صدور المنافقين ، أولئك الذين يحسبون الأمر بحسابات أخرى عقلية وحسية ، ولا ترى أعينهم إلا تحت أقدامهم ، ولا يثقون إلا بما في أيديهم . وتدبر :
في العام الخامس من الهجرة تحزبت الأحزاب من شمال مضر وجنوبها ، بتحريض من يهود ، وزحفت على المدينة كالجراد المنتشر . عدد المقاتلين ثلاثة أضعاف ـ أو يزيد ـ مَن بالمدينة من الرجال والنساء ،سُليم بفرسانها ، وقريشٌ تعضُّ على أضراسها غيظا على أبنائها وأشرافها ، وغطفان بطَمََعها وحمقها وكثرة عددها ، وأفاعي يهود سوداء صلعاء سمينة طويلة حقود في جحورها تدور عيونها ... تبحث عن ثغرة وتنتظر فرصة لتغدر كعادتها ، هنالك كان قول المؤمنين : { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً }[ الأحزاب:من الآية 22] ، وكان قول المنافقين { مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً }[ الأحزاب : 12]
وهم يحفرون الخندق ، راح رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يدك الكدية بالمعول ويكبر ويكبرون ، ويبشر بفتح الفرس والروم ، ويصدق المؤمنون ، ويتغامز المنافقون : ( يعدنا فتح فارس والروم ، وقد حصرنا ها هنا ، حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته ، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا )[3] قد كان المنافقون عقلانيون ، أو قد كان العقلانيون هم المنافقون ، ينظرون للأمور بعقلانية ، لم يفهموا أن للشريعة خصوصية ، وأن هناك خصوصية للشريعة في الأسباب التي تبذل لطلب النصر ودفع الهزيمة . إنهم المنافقون ... العقلانيون .
والأمور لا تسير بتلك العقلانية ، والأشياء لا تحصل بتلك الأسباب التي يتكلم بها العبيد ، قد صدق الله ورسوله ، وأنجز الله وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، وفتحت فارس بنطحة أو نطحتين ، وخرجت الروم ذات القرون من الشام . ومكن الله لأوليائه .
وقفوا يومَ بدر بين المشركين ـ بدعوى أنهم مضطرين ـ ونظروا للفريقين ، بنظرة المنافق الذي يحسب الأمور بعقله ، ويغيب عنه التوكل على الله ، وأن للشريعة خصوصية في طلب النصر ودفع الهزيمة ، فقالوا قولتهم التي سجلها عليهم القرآن ( غرّ هؤلاء دينهم ) { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[الأنفال :من الآية 49][4]
وقفوا يسخرون من عقول المسلمين وتفكيرهم الذي جعلهم يقدمون على يوم كيوم بدر .[5]
وفي العام السادس من الهجرة والحرب لم تضع أوزارها ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمرا ، وكان الذهاب إلى مكة بلا سلاح ولا عتاد وفي ذلك الحين والحرب لم تضع أوزارها وقريش لم تثأر لأشرافها وأبنائها يخالف ما تمليه العقول على أصحابها فقد قتل أشرافهم وأذل بالأسر رجالهم وأخذ أموالهم ، وهم قد غدروا به وتنكروا لأعرافهم هم قبل أعراف غيرهم فلم يرقبوا فيه إلا ولا ذمة ، وهم قد جاءوه بالأمس في المدينة طلبا لثأرهم في يوم أحد ويوم الخندق ، واليوم يذهب إليهم محرما ؟! بلا سلاح ولا عتاد ؟!
من يقول بهذا ؟
أي عقل يقبل هذا ؟![6](57/108)
راح رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يستنفرهم ، ويعظهم بالله ويذكرهم ، ولكن المنافقين كانوا ـ ولا زالوا ـ عقلانيين ، واقعيين . . . يقيسون الأمر بعقولهم القاصرة ، فقالوا قولتهم قَالَوا : " نذهب معه إلى قوم قد جاءوه فقتلوا أصحابه فنقاتلهم ! فاعتلوا بالشغل " [7] وهذا قول الله تعالى { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً . )بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً } [ الفتح: 12،11]
نعم وكانوا قوما بورا .
ورأى المنافقون مرات عدّة أن الأمور لا تسير بحساباتهم ، ولا تقاس بعقولهم ، فمسبب الأسباب ـ سبحانه وتعالى ـ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، رأوا ذلك رأي العين في يوم الفرقان حين التقى الجمعان ، حزب الرحمن وحزب الشيطان ، ورأوه في يوم الأحزاب ، وفي يوم الحديبية . ولكن المنافقين لا يفقهون .
في يوم العسرة ، جيش المسلمين ثلاثين ألفا ، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا يريدون الروم ، ولم تفهم عقلية المنافق الدرس مع أنها سمعته عدة مرات نظريا ورأته بعينها عدة مرات ، لم تفهم لأنها لا ترى إلا الأسباب الحسية التي في أيديها . وراحت تتكلم ثانية ، تشكك في النصر على الروم تقول : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال . وقد كان جلاد بني الأصفر أقل من جلاد العرب ، بل لم يجالدون ، وما فهم المنافقون . بل عادوا يسخرون ويستهزئون .
ونفر ممن يخالطون المؤمنين حين يرون حركة الإسلام بهذه الخصوصية المطلقة يحسبون أنها ضرب من اللاعقلانية والعجلة وسوء التخطيط ، كإخوانهم الذين نافقوا في عهد النبوة . وتراهم في كل حين يسألون :
إن تولى الإسلاميون الحكم ثارت عليهم الدنيا . فكيف سيتعاملون ؟
وإن تولى الإسلاميون الحكم حاصرتنا الأمم ورمتنا عن قوس واحدة . فكيف ؟
وإن تولى الإسلاميون الحكم ثارت الأقليات طلبا لثأرها . فكيف ؟
يصرون أن يحاكموننا إلى أعراف الجاهلية . إلى المفاهيم الدنيوية الدنية .
وأعراف الجاهلية لا نعرفها ، ونؤمن تماما بأن هناك خصوصية للشريعة الإسلامية في كل شيء .
ارتباط النفاق بالإصلاح :
يقول الله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [ البقرة:11]
كانوا يوالون الكافرين ، ويتلطفون في الحديث معهم ، ويكشفون عوارات المسلمين لهم يقولون : ( إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب )[8] ويقسمون أنهم مصلحون ، أو ـ كما يقول السياق ـ أنهم هم المصلحون . ينشرون الفساد في المجتمع يدعون بذلك الإصلاح (فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض, وإظهار أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح, قلبا للحقائق ) كما يقول الشيخ السعدي رحمه الله وهو يفسر الآية .
وتركوا التحاكم إلى الله ورسوله ، وراحوا يقسمون بالله أنهم ما فعلوا ذلك إلا إحسانا وتوفيقا . { فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } (النساء:62)
إحسانا إلى المتخاصمين وتوفيقا بينهم . لا يريدون شوشرة ، ولا مجاهدة ، يريدون أمنا في الأنفس والمال ، وكلنا يريد ذلك ، ولكنهم لا يبصرون إلا تحت أقدامهم .
هم كانوا صادقين عند أنفسهم في أنهم يريدون توفيقا وإصلاحا ، وإخوانهم اليوم ، أولئك الذين تحاكموا إلى الطاغوت وهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يقولون ذات القولة ، يريدون الإصلاح ( التعايش ) ( السلام العالمي ) الإحسان والتوفيق ، بطريق وسط لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ن يأخذون من هذا ويأخذون من ذاك ، ولن يرضى هذا ولن يرضى ذاك .
والعجيب ، والغريب ، والمريب أن كل الدعوات المشبوهة اليوم ترفع شعار الإصلاح . أتاتورك بالأمس ( جمعية الإصلاح والترقي ) ، و محمد عبده كان شعاره ( الإصلاح ) ، إصلاح الدين وإصلاح السياسة وإصلاح الأدب . وما أصلح بل أفسد وتقنطر حتى عبر عليه الكافر لثوابتنا الشرعية ن فعرى نساءنا باسم ( الإصلاح ) وغرّب الشريعة باسم ( الإصلاح ) .
المنافقون الأول كانوا يدعون الإصلاح . قال تعالى " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون "[ البقرة :12،11 ] وقال تعالى " إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون " [ الأعراف : 30](57/109)
والغريب أن كل الدعوات التي خرجت في واقعنا المعاصر ترتدي ثوب الإصلاح ، ترفع كلمة المنافقون الأول ، جمعية الإصلاح والترقي التي ترأسها أتاتورك في توركيا ، دعوة الإصلاح التي نادى بها محمد عبده في مصر ، وغير ذلك كثير .
ولا نعرف أن هناك أحدا يقول[9] بعدم القبول لشرع الله .. ولا أحدا يجاهر برَد الشرع .بل الكل يدعي أنه على الطريق المستقيم .
لذا فالعبرة بالأفعال لا بالأقوال . الفعلُ أقوى في الدلالة على المراد من القول . وإن اختلف قول وفعل فلا عبرة بأقوالٍ كذبتها الأفعال .
فمن قبل ادعى قوم المحبة فجُعل الإتباع شرطاً لصحة دعواهم ." قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " [ العمران : 31 ] ، "ونطقت نفوس مريضة بالإيمان فكُذبت ، قال تعالى :" ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين "[ البقرة : 8 ] .ونطق لسانهم بالصلاح ، ونطق فعالهم بالفساد فكان القول قول الفعال لا قول اللسان . قال الله :" وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون .ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون "[ البقر : 11 ، 12 ]
---------------------------------------
[1] للكاتب محاضرة مسجلة بعنوان ( خصوصية الشريعة الإسلامية في المفاهيم والتصورات والمعاني اللغوية للألفاظ ) ومفرغة في الصفحة الخاصة بموقع صيد الفوائد .
[2] غزا النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بني سليم بعد سبعة آيام فقط من رجوعه من بدر ، وأقام في ديارهم على مائهم ( الكُدْرِ وتعرف أيضا باسم قَرْقَرة الكدر ، والقرقرة الأرض الملساء ، والكدر طير في ألوانها كُدْرةٌ عرف بها ذلك الماء ) ثلاثة أيام ـ قيام المنتصر ـ فتفرقوا في الشعاب ولم يخرجوا له ، وكانوا أكثر عددا وأتم عدة من قريش . أنظر إن شئت ـ سيرة ابن هشام 3/220 ، و الروض الأنف / 220
[3] الطبري عند تفسير الآية 12 من سورة الأحزاب .
[4] راجع سبب النزول عن ابن كثير والقرطبي والطبري والسعدي وغيرهم.
[5] انظر تفسير السعدي لهذه الآية ، فقد أورد كلاما طيبا .
[6] أكثر ما يلفت نظري في مسير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم الحديبية محرمين بلا عتاد ، هو هذا التوكل العجيب على الله رب العالمين ، هذه الثقة بالله .
[7] الطبري تفسير الآية 11 من سورة الفتح
[8] كما يقول ابن جرير الطبري في بيان سبب نزول الآية .
[9] أتكلم عن المنتسبين للدين . وإلا فهناك الملا حدة يجهرون بالكفر .
===============(57/110)
(57/111)
أهانوا المصحف..؟
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
في "غوانتنامو" أهانوا المصحف..!!.
رموه في المرحاض..!!.
يستفزون به إيمان السجناء.!!.
تحدٍ في خصومة غير عادلة..؟!.
من قبل أهانوا بلاد المسلمين: احتلوها حربا، أذلوها قسرا.
أبادوا خلقا: صغارا، وشيوخا، ونساءا..
دمروا: بيوتا، طرقا، مدارس، مستشفيات، قرى، مدنًا..
حرقوا: شجرا، وبشرا، وأرضا، ورجالا..
دنسوا المساجد، قصفوها، وهدموها، وقتلوا من لجأ إليها: ضعيفا، كسيرا، شيخا كبيرا..
كل ذلك فعلوه أمام أعين جميع المسلمين، ولما لم يجدوا ردا، بل سكوتا، رعبا وخوفا، واسترضاء وحبا: طغوا، وعتوا عتوا كبيرا؛ فأهانوا المسلم، والمسلمة. واعتدوا على نفسيهما.. على عرضيهما، على المحرم منهما: عروا هذا، واستخفوا به، فصوروه كذلك.. وتلك اقتحموا بيتها، خدرها..جروها من يدها، ورجلها، ثم سجنوها واغتصبوها.
فعلوا ذلك كله، فما رأوا ؟!!..
ما رأوا إلا خيرا..!!.. لم يروا من الشر شيئا.
فاجترءوا على أكبر من ذلك: اجترءوا على أعظم مقدس.. على كتاب الله.. على كلام الله.. على القرآن الكريم.. على القرآن العظيم.. المجيد.. على السبع المثاني..؟!!.
أهانوا البلاد، ثم سكانها، ثم مقدساتها، ثم إيمانها، ثم قرآنها.. فماذا بقي ؟.
حتى نبيها r سبوه، وشتموه، وقالوا فيه القول الأكبر، فماذا بقي..؟.
بقي مسجد الكعبة، ومسجد المدينة، والمرقد الشريف..!!.
* * *
ليس غريبا على محارب للإسلام أن يهين المصحف، فإن المحاربين هكذا يفعلون، كما قال تعالى:
- {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون}.
وفي غزوة تبوك استهزأ جمع من المنافقين بالقراء، فقالوا: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء: أرغب بطونا، وأكذب ألسنا، وأجبن عند اللقاء)، فأنزل الله تعالى قوله:
- {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبؤهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون* ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبا الله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين}.
فالمستهزء بشعائر الله تعالى، كالقرآن العظيم، إما محارب، وإما منافق، وكلاهما مجرم، وقد نهى الله تعالى المؤمنين عن ولاء الكافرين، وكان مما علل به حكمه هذا: أنهم يستهزءون بدين المسلمين. فقال:
- { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين * وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون}.
فهذا اختبار.. صدق الانتماء، يضاد الرضى بالانتقاص.
فكل من انتمى لفكر، أو لعقيدة، أو مذهب، أو دولة، أو جنس..كل رابط جامع. وكان صادق الانتماء، فلا يرضى أبدا، في أي حال من الأحوال: أن يمس جانب هذا الانتماء بأي شيء فيه: انتقاص، أو سخرية، أو استهزاء، أو إهانة. فإن رضي بشيء من ذلك، فذلك علامة انحلال الرابط، وبطلان الانتماء. فلا يمكن الجمع بين الانتماء إلى رابط، والرضى بانتقاص ذلك الرابط.
وهذا أمر متفق عليه بين جميع العقلاء، فكل جماعة وأمة تنبذ من يقبل الانتقاص من شعائرها، وعلامتها:
- إن كان من أبنائها، حاسبته، وعاقبته.
- وإن كان من أعدائها، تبرأت منه، فإن قدرت أعلنت عليه الحرب.
هذا لأنها في نظرها مقدسة، المساس بها يضر الجماعة كلها، يضر بقاءها، ووجودها، فإنه مشروط بسلامة شعائرها، التي تميزها، فإذا انتهكت الشعائر، انحل وبطل الرابط، فبطلت الجماعة والأمة.
وإذا صحت هذه القاعدة في سائر الروابط، التي يخترعها بنوا البشر: فإنها في الرابطة التي شرعها الله تعالى أصح وأوجب؛ لأن الحامل عليها داعيان، أحدهما أقوى وأشد من الآخر:
- الأول: الجبلة البشرية، التي تحب الاجتماع؛ فلأجله تبحث عن شيء تجتمع عليه.
- الثاني: الأمر الإلهي، الواجب اتباعه، الآمر بالاجتماع على شعائره.
فالدين رابط يحل محل كل الروابط، وهو أقوى منها كلها، ويغني عنها، ويتفق مع جبلة البشر في حب الالتفاف حول رابطة، وبهذا يجتمع الداعيان.
فالله تعالى خاطب المؤمنين فنهاهم أن يتخذوا اليهود والنصارى والكفار أولياء، وعلل أمره هذا بعلل، منها:
أنهم ينتهكون رابطتهم، بالاستهزاء، واللعب بشعائرهم.
وغايتهم من هذا الاستهزاء والسخرية أمران:
- الأول: تهوين شعائر الدين في نفوس المسلمين.
- الثاني: التنفيس عما يعتلجه صدورهم من الغيظ والكراهية تجاه الإسلام.
والأول مقنن مقصود، يراد به صرف المسلمين عن دينهم، فإن الشيء المنتقص المهان لا وزن له ولا قدر؛ لذا كان من الخطر الكبير السكوت، إذ يفضي إلى انحلال الرابطة، التي هي الدين، لو تهاون المؤمنون، فلم يتخذوا إجراء حاسما:
- أصله وأوله: البراء منهم؛ بمعنى بغض دينهم، وبغض المحاربين منهم، وعدم نصرتهم على المسلمين.
- وفرعه: الرد عليهم بما يناسب حالهم، من إقامة الحد على من كان منهم تحت المسلمين، أو عدّه محاربا.(57/112)
إذ قبل التهوين والانتقاص يفضي إلى تسلل المسلمين إلى روابط أخرى، ولن تكون إلا روابط جاهلية.
إن تأمل هذا المعنى يفيد جدا في فهم: لم كان البراء من الكافرين أهم أمور الدين..؟.
* * *
لقد جاء استنكار المسلمين متأخرا، فحوادث إهانة المصحف لم تكن وليدة الأيام الأخيرة، بل منذ سنة وزيادة، حكى ذلك السجناء في: أبو غريب، وغوانتنامو، وأفغانستان. والذي حصل أن الخبر هذه المرة جاء في مجلة نيوزويك الأمريكية المرموقة، فكان هذا إقرار منهم بصدق الحادثة، فأهاج المسلمين، وما تحرك الخواص إلا بعد أن تحرك العوام، الذين خرجوا غاضبين لكتاب ربهم، فقتل منهم من قتل، حينذاك تحرك من كان يجب أن يتحرك أولا.!!. مما ينبؤك أن الداء الذي بالمسلمين ليس في العوام فحسب، بل الخواص كذلك، فإنه في مواقف كثيرة يكون للعوام مواقف نصرة وعزة للإسلام أكثر مما للخواص..!!.
العوام تأخذهم العاطفة بصدق الإيمان، بينما الخواص يحبسهم العقل بقيد الوهم والخطأ في الحسبان.. ومنه يعلم أن العاطفة ليست مذمومة في كل حال، كما أن العقلانية قد تكون سبب البلاء والخذلان.
بادرت المجلة إلى التراجع عن الخبر، وادعاء أنها أخطأت، وأن الخبر ليس بصحيح..!!.
هكذا قالوا: لكن الخبر توارد من مصادر عديدة، ورأينا ذلك عند اقتحام الجنود المساجد المطهرة في العراق.. وإننا هنا لنسجل موقفا للإسلام، كيف يتعامل مع مخالفيه؛ فإنه لم يعهد عن المسلمين أن أهانوا توراة اليهود ولا إنجيل النصارى.. وما سمعنا، ولا بلغنا أن المجاهدين: رموا بالكتاب المقدس في القمامة أو المراحيض.
فتحوا بلدانا كثيرة، فلم يتعرضوا لأديان أهلها بإساءة، ولا لمعابدهم بتخريب أو هدم، إنما تركوا لهم حرية أن يتعبدوا كيفما شاءوا، بشرط ألا يعلنوا بها في بلاد الإسلام.
هذا مع أن الإسلام يقرر بطلان كل تلك الأديان، بما فيها اليهودية والنصرانية، وأنها قد حرفت، وبدلت، يقر مع ذلك حسن رعاية أهلها، وكتابهم، ومعابدهم..
فانظر كيف نعاملهم، وكيف يعاملوننا، مع أن ديننا هو الحق، ودينهم هو الباطل ..!!.
ألا يقدم هذا دليلا على صحة الإسلام وبطلان اليهودية والنصرانية؛ إذ الإسلام لما كان من عند الله عصم أتباعه من الظلم، ولما كانت اليهودية والنصرانية محرفتين، عبث بها الأحبار والرهبان، ملئت بالهوى، فأطلقت أيدي أبنائها ظلما، وعتوا.. فكنا نحن وهم كما قال الشاعر:
ملكنا فكان العفو منا سجية *** فلما ملكتم سال بالدمّ أبطح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا *** وكل إناء بالذي فيه ينضح
فالمسلمون رحمة، وغيرهم عذاب ونقمة، قال تعالى: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
===============(57/113)
(57/114)
دكتور يطالب جهات حكومية بإيقاف أعمالها من أجل .....
الحمدُ للهِ وبعدُ ؛
" سدُّ الذرائعِ " قاعدةٌ شرعيةٌ عظيمةٌ ... نقل الإجماعُ عليها الإمامُ الشاطبي في " الموافقاتِ " (4/194 - 201) ... استدل شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ عليها في " الفتاوى الكبرى " (3/256) بأربعةٍ وعشرين وجهاً ... وتلميذه ابنُ القيمِ أيضاً استدل عليها في " إعلامِ الموقعين " (3/147 - 171) بتسعةٍ وتسعين دليلاً [ نقلا من كتابِ : " قيادة المرأة للسيارةِ بين الحق والباطل ] ... وليس المقامُ مقامَ بسطٍ وتفصيلٍ لها هنا .
الذي يهمنا في المقالِ : " ما قيمةُ قاعدةِ " سدِّ الذارائعِ " عند الليبراليين ؟
قاعدةُ " سدِّ الذرائعِ " يجعلها الليبراليون محط سخريةٍ ، والذي يتتبعُ مقالاتهم ومنتدياتهم يجدُ الدليل على ذلك ، وكما عودنا الشيخ الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي - بارك اللهُ في قلمهِ - كتب مقالاً في عمودهِ الأسبوعي " تأملات " في ملحقِ الرسالةِ من جريدةِ " المدينةِ " يتنزلُ مع الساخرين من قاعدةِ " سدِّ الذرائعِ " بشواهدها من واقعِ الحياةِ اليوميةِ التي نعيشها .
تعالوا نتأملُ في مقالِ الدكتورِ سعيدِ بنِ ناصر - حفظهُ اللهُ - .
تأملات
أريحونا من سد الذرائع
سعيد بن ناصر
من عامين تقريباً وهناك حملة على مسألة (سد الذرائع) ويدور مجملها حول أنها ليست مشروعة ومخالفة للعقل والمنطق, وفيها اتهام للنيات, وحكم على القضايا بمجرد التخمين الغيبي, إلى آخر ما هنالك من أقوال تعتمد على العاطفة والوجدان أكثر مما تعتمد على الحجة والبرهان, وتستهدف تصفية الحساب قبل أن تستهدف تحري الصواب.
وإذا كانت قضية سد الذرائع خطيرة ومزعجة لبعض الفئات فإنه بناءً على رأيهم واقتراحهم يمكن الطلب من جهات عديدة إيقاف جملة من أعمالها لأنها مبنية - في أغلبها - على سد الذرائع :
أولاً : مطالبة وزارة الصحة إيقاف حملات تطعيم المواليد والأطفال؛ لأن ذلك مبني على سد ذريعة العدوى والأمراض, ولأن التطعيم يتضمن تشكيكاً في الناس ونياتهم, وتشكيكاً في قدرتهم على حفظ أطفالهم, ويتضمن الكلام عن أمرً غيبي لم يقع بعد ولا ندري أيقع أم لا.
ثانياً : مطالبة الجمارك عدم تفتيش القادمين من المنافذ الحدودية لأن ذلك التفتيش مبني على سد ذريعة تهريب الممنوعات من مخدرات وأسلحة وأفلام , ولأن في ذلك التفتيش اتهاماً للناس وتشكيكاً في نواياهم , واتهاماً لكل المسافرين وتخميناً غيبياً بلا حجة ولا برهان.
ثالثاً : مناشدة الجيش إيقاف التدريبات والمناورات وصفقات التسليح, لأننا لسنا في حرب والحمد لله, وكل ما ذكر قائم على سد ذريعة العدوان, وهذا مجرد تخمين غيبي, وفيه اتهام لنيات الدول الأخرى .
رابعاً : المطالبة بإيقاف مراقبة المرور للطرق, بالرادار وغيره؛ لأن ذلك مبني على سد ذرائع الحوادث, ويتضمن اتهاماً صريحاً لعقليات سائقي السيارات, وحكماً عليهم بمجرد الظن والتوقع.
خامساً : مناشدة رجال الأمن في المطارات التوقف عن تفتيش المسافرين, لأن ذلك مبني على سد ذريعة الاختطاف والإرهاب, وهذا التفتيش يتضمن اتهاماً لنيات الناس وأخلاقهم , والإحصائيات تؤكد أنه من بين عشرات الملايين من المسافرين كل عام لايوجد بينهم مختطف ولا إرهابي إلا نادراً, فلماذا الاستمرار في التفتيش سداً لذريعة الإرهاب؟!
سادساً : مطالبة الجهات المعنية بإيقاف فحص ما قبل الزواج المبني على سد ذريعة انتقال الأمراض إلى الأبناء, وهي حالات قليلة بالنسبة لأعداد المتزوجين.
سابعاً : مطالبة المدارس والجامعات بإلغاء المراقبة على الطلاب وقت الاختبار, لأن ذلك مبني على سد ذريعة الغش, وفيه اتهام لأخلاق الطلاب وضمائرهم. إلى غير ذلك من الأمثلة الحياتية الكثيرة, القائمة على منع الفساد والضرر بمنع ذرائعه ووسائله الموصلة إليه.
ومن المعلوم - عقلاً - أن التفريق في الحكم بين المتساويات دليل على ضعف النظر والإدراك, أو قوة الهوى, أو على الأمرين معاً, والعجيب أن هذه الأحوال المتناقضة عقلاً وواقعاً تصدر من أشخاص يدّعون العقلانية وعمق النظر(ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) .
جزاكَ اللهُ خيراً يا دكتور سعيد بن ناصر
مقالٌ رائعٌ وفي الصميمِ
كتبه
عَبْد اللَّه بن محمد زُقَيْل
==============(57/115)
(57/116)
نسوا الله فأنساهم أنفسهم
أ.د. عبدالكريم بكار
يقول الله جل وعلا : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } [الحشر : 19] .
هذه آية جليلة الشأن في كتاب الله تعالى وهي تضع أيدينا على حقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود ، وتمنحنا استبصاراً بشأننا العام ، لا يليق بنا أن نتجاوزه دون أن يملأ حياتنا بمعنى جديد !
ولعلنا في الصفحات التالية نقتبس من نور هذه الآية :
1- إن نسيان الله تعالى يكون على مستويين : مستوى ضعف صلة المسلم به ، وتبلد أحاسيسه ومشاعره نحو خالقه جل وعلا ومستوى الإعراض عن هديه واستدبار منهجه .
وفي إطار المستوى الأول نجد أن لدينا الكثير الكثير من النصوص التي تحث المسلم على أن يكون كثير الذكر والمراقبة لله تعالى حتى يصل إلى مرحلة الحب له وفرح الوعي به ، والاستئناس بذكره ، وقد قال سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [الأحزاب : 41-42] وقال : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [العنكبوت : 45] .
وفي الحديث الصحيح : (مثل الذي يذكر ربه ولا يذكره كمثل الحي والميت) [1] ولو رجعنا إلى ما حثت عليه النصوص من الذكر ، مما يسمى بعمل اليوم والليلة لوجدنا أن الالتزام بذلك يجعل المسلم لا يكاد ينفك عن تسبيح وتحميد وتهليل واستغفار وتضرع ودعاء ، ما دام مستيقظاً . إن كثرة ذكر لله تعالى تولّد لدى المسلم الحياءَ منه وحبه ، وتنشّطه للسعي في مرضاته ، كما تملأ قلبه بالطمأنينة والأمان والسعادة ؛ لينعم بكل ذلك في أجواء الحياة المادية الصاخبة .
إن الفكر يرسم المسار ، ويرشد إلى الطريق الأصلح للحركة والعمل ، لكنه لا يكون أبداً منبعاً للطاقة والعزيمة والإرادة الصلبة ، وإن الصلة بالله تعالى والتي هي لباب كل عبادة هي التي تمدنا بكل ذلك ، وإن المعاناة التي يشعر بها المسلم اليوم من جراء الانفصال بين قيمه وسلوكه ، لم تتجذر في حياة كثير من المسلمين إلا بسبب ما يشعرون به من العجز عن الارتفاع إلى أفق المنهج الذي يؤمنون به ؛ وذلك العجز لم يترسخ ، ويتأصل إلا بسبب نضوب ينابيع المشاعر الإيمانية في داخلنا !
إن تيار الشهوات والمغريات الذي يجتاج كل ما يجده أمامه اليوم ، لا يقاوم إلا بتيار روحي فياض ، يعب منه المسلمون ما يسمو بهم عن أوحال الملذات والمتع الدنيوية ، ويعوضهم عن نشوتها . ولذا فإن (أدب الوقت) يقتضي من المربين والعلماء الناصحين وأهل الفضل ، التوجيهَ إلى إثراء حياة الشباب والناشئة بالأعمال الروحية وعلى رأسها الذكر حتى لا يقعوا في مصيدة النسيان واللهو والإعراض عن الله تعالى .
إن مما صار شائعاً أن ترى بعض العاملين في حقل الدعوة ، وقد شُغلوا بضروب من أعمال الخير ، لكن الجانب الروحي لديهم صار ذابلاً ، وأقرب إلى الجفاف بسبب إفراغ طاقاتهم في السعي إلى تحقيق أهداف عامة ، كنفع الناس ، أو الدعوة إلى الله تعالى دون أن يستحضروا النية ، ودون أن يطبعوا على ذلك اسم الله تعالى ودون أن يعطروه بشذى من الصلة به ، والإحساس العميق بالامتثال لأمره .
وكانت نتيجة ذلك أن فقدت تلك الأنشطة نكهتها وتأثيرها ، وقصّرت عن بلوغ أهدافها ، بل صار تسرب حظوظ النفس إليها أمراً قريباً ووارداً . إن البنية العميقة للثقافة الإسلامية متمحورة على نحو أساسي حول تعظيم الله ومرضاته ، وإن المسلم إذا فقد قوة الشعور بالارتباط بذلك ، لن يسعى في إعمار الأرض ، وإذا فعل ذلك فإن عمله لن يكون له أدنى تميز ، وسيخبط ، ويرتع كما يفعل غيره !
2- هناك مستوى آخر من نسيان الله جل شأنه يتمثل في تخطيط شؤون الحياة بعيداً عن الاهتداء بكلماته ، والتقيد بالقيود التي فرضها على حركة عباده . وهذا في الحقيقة هو النسيان الأكبر .
وعند تقليب النظر في واقع أمة الإسلام اليوم نجد أن نسبة محدودة من المنسوبين لهذه الأمة تلتزم على نحو كلي بفعل الواجبات ، وترك المحرمات . وبما أن الإحصاء حول أي شيء ليس مرغوباً فيه ، فإننا لا نعرف ، ولا نحزر الاتجاه الذي تسير فيه تلك النسبة المحدودة من الملتزمين : هل هو النمو ، أو هو الانكماش والانحسار ؛ لكن من الواضح أن العديد من القيم والأخلاق الإسلامية العتيدة بدأ يفقد التأثير في ضبط السلوك ، وتكوين المواقف ؛ لأسباب عديدة ، ليس هنا موضع ذكرها . وحين تسمع لكلام كثير من ذوي النفوذ والثقافة في الساحات الإسلامية لا تجد في أحاديثهم وخطابهم العام ما يدل في الشكل أو في الروح على أنهم على شيء من ذكر الله والدار الآخرة ، أو أنهم متأثرون بشيء من منهجيات هذا الدين وأدبياته ، على الرغم من أنهم يُذكرون في عداد المسلمين !(57/117)
وإن مما يلاحظ في هذا السياق أن تطوراً مريعاً قد اجتاح لغة الخطاب لدينا خلال السنوات العشر الماضية ، فقد كانت لدينا قيم موضوعية ثابتة ، على من يستحق الثناء أن يتخلق بها ، وقد كان الناس يقولون : فلان طيب (ابن حلال) خلوق ، صالح ، مستقيم ، تقي ، متواضع .. أما اليوم فإن ألفاظ المديح تتمحور حول عدد من المزايا الشخصية المرتكزة على مهارات معينة ، وعلى علاقات اجتماعية واسعة ، هي أشبه بما على (مندوبي المبيعات) أن يتقنوه ! وصار يقال :
فلان ناجح ، شاطر ، اجتماعي (دبلوماسي) حَرِك ، مَرِن ، أثبت ذاته ، وحقق وجوده .
وفي اعتقادي أن مثل هذا التطور سوف يجعل المجتمع يموج باللصوص والمرتشين والمحتالين ما دام النجاح ، لا الفلاح ، هو المنظم الخفي للتراتيبية الاجتماعية ! وقد نعد هذا من أسوأ ما شاهدناه من أشكال التطور الأخلاقي والاجتماعي والتربوي ، وسوف تكون له آثار بعيدة المدى في البنية الأساسية للشخصية المسلمة على مدى عقود عديدة قادمة !
3- إن الآية الكريمة صريحة في أن نسيان الله تعالى كان سبباً مباشراً في جعل المرء ينسى نفسه ، وكأن الذي يضيّع نفسه في عاجلها وآجلها ، يضيّع الدنيا فتلفه المشكلات من كل صوب ، ويضيع الآخرة بخسران النجاة والفوز بالجنة .
إن نسيان النفس ليس على درجة واحدة ، وإن الضرر الذي سيلحق الناس سيكون بالتالي متفاوتاً ، وعلى مقدار النسيان والتضييع لأمر الله تعالى سيكون التضييع للنفس والدنيا والآخرة .
إن خسران الآخرة للذين ينسون الله ، واضح المعالم ، ويستوي في معرفته العامة لدينا والخاصة ، لكن التضييع لأمر الدنيا هو الذي يحتاج إلى نوع من البيان ، ولعلنا نجلوه في النقطتين التاليتين :
- إن عصر المعلومات الذي يظلنا الآن سيكون والله أعلم أقصر العصور الحضارية ، وسوف يعقبه عصر آخر ، هو عصر (الفلسفة) وبحث المسائل الكلية ، وستطرح الأسئلة الكبرى : من أين جئنا ، ولماذا نحن هنا ، وإلى أين المصير ، ما حدود الطبيعة البشرية ، وما ماهية الخير والشر .. ؟ وإنما نقول ذلك ؛ لأن قراءة التعاقبات التاريخية ، تنبئنا أنه حين تصل حالة مّا إلى حدود متقدمة ، تبزغ من الطبيعة البشرية حالة مضادة لها ؛ فحين تشتد العقلانية أو التقنيّة في أمة ، فإن أشواقاً تنبعث لكسرها ، فينبثق من العقلانيّ العاطفيّ ، ومن التقنيّ الفلسفيّ والفكريّ ، إنه أحد مظاهر سُنّة التوازن التي بثها الخالق جل وعلا في هذا الكون !
ولذا فإن الهمجيّين وسوقة السوقة وحدهم ، هم الذين لا يتشوّفون إلى معرفة مصيرهم النهائي ، وإلى معرفة الغايات الكبرى للوجود !
حين تصير البشرية إلى هذه المرحلة ، سيكتشف الذين نسوا الله ، أنهم لا يملكون أي جواب جازم ، أو مُقْنع على الأسئلة الكبرى المثارة بإلحاح ، بل سيجد الغرب على نحو خاص أنه قد أحرق كل سفن العودة إلى (الوحي) الذي يُعد المصدر الوحيد الذي يجيب على تلك الأسئلة .
وقد كان (أينشتاين) يقول : (إن حضارتنا تملك معدات كاملة ، ولكنها تفقد الإحساس بالأهداف الكبرى) ! .
إن كل إصلاح لشؤون البيئة والاقتصاد ، وإن أي نوع من المحافظة على منجزات البشرية ، سيقتضي من اليوم فصاعداً تقدماً ملحوظاً على صعيد (الإنسان) وما لم يحدث هذا التقدم ، فإن كل شيء سيكون في مهب الريح ! !
والملاحظ بقوة أن الحضارة الحديثة بصبغتها المادية ، قد نقلت مجال السيطرة من الإنسان إلى الأشياء ، حيث أضعفت إرادة البشر ، وأحاطتها بكل ما يخل بتوازنها ، وهذا يعني أن الحضارة الغربية ببنيتها الحاضرة ليست مؤهلة للنهوض بالإنسان .
إذا كنا نعتقد أن الطبيعة البشرية واحدة ، فهذا يعني أن غايات وجودها يجب أن تكون واحدة ، وهذا هو منطوق الوحي ، وهذا ما لا يبصره الإنسان العلماني اليوم ! !
لن تكون الأسئلة المثارة أصيلة إلا إذا كان لها أجوبة موجودة عند جهة مّا وهذه الجهة لن تكون أبداً الإنسان ، فمن تكون إذن ؟ ؟
إن العقل البشري خلقه الله تعالى ليكون في الأصل عقلاً عملياً ، وهو في عمله يشبه (الحاسوب) ، وهو كالحاسوب لا يستطيع إدخال تحسينات جوهرية على المدخلات التي يُغذى بها ، وسيكون الأمر مضحكاً إذا عمدنا إلى تشغيل العقل البشري وتحسين طروحاته وعمله بشيء من منتجاته التي تولى تنظيمها الفلاسفة ، وهم الذين لم يفلحوا في الاتفاق على أي شيء ! ! . إن كل شيء اليوم يتقدم إلا الإنسان فإنه في تدهور مستمر ، وإن مما يثير الفَزَع أنه على مدار التاريخ كان التقدم المادي والعمراني مشفوعاً بانخفاض في وتائر التدين والسمات الإنسانية الأصيلة ، مما يدل على أن الإنسان لا يستطيع أن يوازن بين مطالبه الروحية والجسدية ، دون عون من خالقه .
ولكن المؤسف مرة أخرى أننا لا نريد أن نعترف بذلك ؛ لأن ذلك يقتضي منا تغييراً هائلاً ، نحن غير مستعدين الآن لدفع تكاليفه !
إن نسيان الله تعالى قد أفسد النسيج الإنساني كله ، وحين يفسد النسيج العام ، فلن يكون ثمة فائدة تذكر من وراء التعليم والتدريب والتربية ، وكيف يمكن إصلاح خبز أو كعك أو فطير فسد طحينه ؟ !(57/118)
إن ضعف الإنسان على مدار التاريخ كان من عوامل استمرار بقائه ، أما اليوم فقد اجتمع له القوة الغاشمة مع الطيش الشديد ، وهذا ما سيسبب الكوارث ما لم يحدث انعطاف كبير في اتجاه الرشد والهداية والتدين المبصر الأصيل .
ب - إن المهمة الأساسية للرسل عليهم السلام أن يبصّروا الناس بما يجب عليهم تجاه خالقهم ، وأن يذكّروهم الدار الآخرة ومطالب الفوز فيها : { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ } [غافر : 15] .
ومهمة المصلحين إذا ما أرادوا الاستجابة لدعوتهم أن يُنضحوا من التعاليم الإسلامية ما يمزجونه بالخيال الخصب والخبرة البشرية والملاحظات الذكية ، من أجل توفير الظروف التي تجعل الناس أقرب إلى الالتزام . وإن هذه الدنيا دار ابتلاء ، ولذا فإن علينا دائماً أن نختار ما يصلح أحوالنا ، وإن لكل عصر اختياراته واجتهاداته . والمشكلة أن الفضائل والقيم والنظم لا تتفق بعضها مع بعض اتفاقاً كلياً ، بل إن إقامة كثير منها قد يتطلب التضحية ببعضها الآخر : إذا اخترنا الحرية الفردية ، فقد يقتضي ذلك التضحية بشكل تنظيمي نحن في أمس الحاجة إليه ، وإذا اخترنا العدالة ، فقد نُرغَم على التضحية بالرحمة ، وإذا اخترنا المساواة ، فقد نضحي بقدر معين من الحرية الفردية ..
ومن وجه آخر هل يصح أن نعذب أطفالاً كي ننتزع منهم معلومات عن خونة أو مجرمين خطرين ؟ وهل للمرء أن يقاوم حاكماً ظالماً ، ولو أدى ذلك إلى مقتل والديه أو أطفاله ؟ ؟
كل هذا لا يستطيع العقل أن يعطي أجوبة واضحة وقاطعة عنه . وننتهي من هذا إلى أن كل مجتمع يحتاج إلى مقدار مّا من تلك الفضائل والنظم ، كي يجعل حياته متوازنة ومتسقة ، فكيف يتم تحديد ذلك المقدار ؟
إن المنهج الرباني لا يحدد لنا على نحو دقيق القدر المطلوب من التماثل الاجتماعي ، ولا القدر المطلوب من الحرية الفردية ، أو العدل أو الرحمة .. لكنه يضيق دوائر الاختيار ، ومساحات البحث والاجتهاد ؛ والفارق بين المهتدي بنور الله والمحروم منه كالفارق بين من يبحث عن إبرة في صحراء ، ومن يبحث عنها في غرفة . على الجميع أن يبحث ، ولكن حظوظ العثور على المطلوب متفاوتة تفاوتاً عظيماً ، كما أن إمكانات الوقوع في الخطأ ، هي الأخرى متفاوتة كذلك .
إن العقل بطبيعة تركيبه لا يستطيع أن يعمل في أي مجال : فلسفي أو تنظيمي أو تقني إلا إذا أُسعف بإطار توجيهي يهيئ له مقدمات ، وبعض المدخلات الضرورية ، وإن المنهج الرباني عقيدةً وشريعةً هو الذي يوفر ذلك الإطار .
في مجال التربية الاجتماعية مثلاً نجد أن الشريعة الغراء حددت لنا محاور أساسية ، يجب أن ترتكز عليها أنشطتنا التربوية ، وهي ما سماه أهل الأصل بالكليات أو الضرورات الخمس ، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال ، وقد تكفّل الفقه الإسلامي بتوفير الأحكام والأدبيات التي ترسم حدود الحركة التربوية في ظل هذه المحاور الخمسة ، كما وضحت المرتبية التي يجب اتباعها عند ضرورة التضحية ببعضها لحفظ الآخر ، على ما هو واضح في كتب الأصول والفقه ؛ فالشأن التربوي لدينا على علاته أفضل مما هو موجود لدى دول كثيرة متقدمة عمرانياً ؛ وذلك بسبب وجود هذا الإطار التوجيهي ، وهذا كله مع أن أكثر الشعوب الإسلامية تعاني من أوضاع معيشية قاسية ، والجرائم بأنواعها لدينا أقل ، والتماسك الأسري والاجتماعي أفضل .
إن محنة العقل الذي نسي الله لم يحن أوانها بعدُ ، ولكن إذا وصل النمو الاقتصادي إلى حدوده القصوى ، وانتشرت البطالة ، وعم ضنك العيش ، فسوف يرى كل المعرضين عن دين الله أن الليبرالية والرأسمالية ليست أفضل ما أنتجه العقل البشري ، وأن الخلاص يتطلب مراجعة جذرية ، من أجل العودة إلى سبيل الرشاد .
الإنجازات الحضارية وسعادة الأفراد ، ووحدة الكيان الحضاري ، كل ذلك سيكون على حافة الهاوية إذا لم يضئ كل منعطفات الطريق شعاع من الغاية الكبرى ، وإذا لم تتلفع جميعاً بهدي من هدي الله ؛ والله غالب على أمره .
_______________
(1) أخرجه البخاري .
=================(57/119)
(57/120)
مآلات الخطاب المدني
ابراهيم السكران
iosak r an@yahoo.com
مدخل:
عشية وداع التسعينات حفل الداخل الإسلامي من خلال مطبوعاته وندواته الخاصة بنقاش غزير ومعالجات متنوعة حول "الحاجة إلى التجديد" و "مشروعية المراجعة" وكان ثمة ترحيب متلهف بأية أطروحات أو استضافات في هذا السياق, وكانت تلك الأطروحات في مجملها أطروحات منتمية تتحاكم للمعايير الشرعية وتطرح "التجديد" مستهدفة تعزيز الحضور الإسلامي وامتداده إلى مناطق جديدة, لا التجديد بهدف إزاحة المحتوى الديني أو تقليص وجوده.
إلا أنه وبعد أحداث سبتمبر 2001م بدأت نغمة الخطاب التجديدي تتغير حميميتها وإن بقيت تدور ضمن شروط الداخل الإسلامي, ولم يعلن سقوط بغداد مطلع العام 2003م إلا وقد سقطت كثير من رايات الانتماء وانسحبت كثير من تلك الأصوات التجديدية من الداخل الإسلامي إلى معسكر مختلف تماماً.
صحيح أنه لاتزال هناك شخصيات تجديدية تحتفظ برزانتها الشرعية واستقلالها السياسي وينتصب أمامها المرء بإجلال صادق -وهم كثير ولله الحمد- إلا أننا يجب أن نعترف وبكل وضوح أنه قد تطور الأمر بكثير من أقلام الخطاب المدني إلى مآلات مؤلمة تكاد عيون المراقب تبيض من الحزن وهو يشاهد جموحها المتنامي.
كثير من تلك الطاقات الشبابية المفعمة التي بدأت مشوارها بلغة دعوية دافئة أصبحت اليوم -ويالشديد الأسف- تتبنى مواقف علمانية صريحة, وتمارس التحييد العملي لدور النص في الحياة العامة, وانهمكت في مناهضة الفتاوى الدينية والتشغيب عليها, وانجرت إلى لعب دور كتاب البلاط فأراقت كرامتها ودبجت المديح, وأصبحت تتبرم باللغة الإيمانية وتستسذجها وتتحاشى البعد الغيبي في تفسير الأحداث, بل وصل بعضهم الى التصريح باعتراضات تعكس قلقاً عميقاً حول أسئلة وجودية كبرى, واستبدلت هذه الشريحة بمرجعية "الدليل" مرجعية "الرخصة" أينما وجدت بغض النظر هل تحقق المراد الإلهي أم لا؟ وتحولت من كونها مهمومة بتنمية الخطاب الإسلامي إلى الوشاية السياسية ضده, والتعليق خلف كل حدث أمني بلغة تحريضية ضد كل ماهو "إسلامي", وغدت مولعة بالربط الجائر بين أحداث العنف والمؤسسات الدعوية, وبالغت في الاستخفاف بكل منجز تراثي, وتحتفي بالأدبيات الفرانكفونية في إعادة التفسير السياسي للتراث وأنه حصيلة صراعات المصالح وتوازنات القوى وليس مدفوعاً بأية دوافع أخلاقية أو دينية, بل ووصل بعضهم إلى اعتياد اللمز في مرويات السنة النبوية وخصوصاً مصادرها ذات الوزن التاريخي واعتبارها مصدر التشوش الاجتماعي المعاصر.
وفي مقابل كل هذا الإجحاف في طرف النص والتراث والمؤسسات الإسلامية تجد اللغةَ الناعمةَ البشوشة في التعامل مع خصوم الحل الإسلامي، وحقهم في الحرية والتعبير, والتفهمَ الودودَ للدراسات التجديفية والروايات العبثية, والتصفيقَ المستمرَّ لكل ماهو "غربي" بطريقة لايفعلها الغربي ذاته, وعَرْضَ الأعلام الغربية بلغة تفخيمية وقورة, وإسقاطَ التجارب العلمانية في التاريخ الأوروبي على مجتمعنا بشكل لايليق بشاب مسلم -كصراع الكنيسة مع العلم والثورة الفرنسية وعصر الأنوار ونحوها- والتركيز على أخطاء المقاومة أكثر من أخطاء المحتل, والمطالبة المستمرة بمواجهة المشروع العسكري الغربي بورود السلام الغاندية.. إلى آخر سلسلة التطورات الموجعة والتي سنشير لها في المناقشات القادمة.
ويستطيع المراقب بكل بساطة أن يقرأ في الخط البياني لهذه المضاعفات المتنامية دور التابلويد الإلكتروني في تصعيد هذا الانحراف, بمعنى أن أكثر هذه التورمات تضخمت داخل هذا الخطاب في سياق التفاعلات الحادة والاستفزاز المتبادل مع المنتديات الإنترنتية المتخصصة في الإسفاف والتجني والمتقنعة بلبوس الاحتساب الفكري, بحيث صار الخطاب المدني الجديد تدفعه مشاعر النكاية والعناد ضد البغي الإلكتروني إلى الامعان في مناقضة الرؤية الإسلامية, ولاأظن عاقلاً ينتقم من رب خصمه لكن هذا ماجرى للأسف!
على أية حال.. أظن أن أبسط مقتضيات الوفاء والحب لهؤلاء الشباب هو المبادرة بالمصارحة بمخاطر هذه التطورات, علنا نستعيد وعينا في زحام السجال, ونستيقظ من أن تتجارى بنا مغاضبة الخصوم ومشاحنة الفرقاء إلى خدش علاقتنا بالله ورسوله وخسارة رأسمالنا الحقيقي.
ولا سيما أن هذا الخطاب الجديد خطاب نشط ومتنامٍ في أوساط الشباب المولعين بالثقافة وذوي المنزع الفكري, ويحظى بحفاوة المؤسسات الاعلامية من صحف وفضائيات وغيرها, حيث ستظل فرص الشاشة والعمود الصحفي مشهداً خلاباً لاتقاومه غريزة تحقيق الذات المتوقدة بداية العمر فيرضخ المثقف/الشاب لشروطها ليحتفظ بها.(57/121)
هذه المشهد الأليم يفرض قراءته وتأمله, ومن ثم تحليل الفروض الداخلية لهذا الخطاب التي قادته إلى هذه المآلات الموحشة, بهدف إرضاء الله سبحانه وتعالى, وتواصياً بالحق مع كثير من متابعي هذا الاتجاه, وتعزيزاً للثقة الدعوية في الأوساط التربوية والعلمية للاتجاه الإسلامي أمام سلاطة هذا الخطاب وتجريحه المستمر ودعايته المضادة, ونشاطه في التعبئة الإعلامية وتأليب المؤسسات الأمنية ضد العمل الدعوي والتربوي الإسلامي.
والواقع أن هذا الخطاب المدني الجديد يصفه بعض مراقبيه بتصنيفات لايرضاها منتجوا هذا الخطاب ويعدونها "شتيمة خصوم" أكثر من كونها "تصنيفاً إجرائياً" لذلك آثرنا أن نقفز هذه التصنيفات, ونتعرف إلى هذا الخطاب من خلال معجم مفاهيمه المحورية التي تشكل نسيجه الخاص, كمفهوم الحضارة والانفتاح والآخر والتسامح والنسبية والاستنارة والنهضة والمواطنة والأنسنة ونبذ الأدلجة والإقصاء والوصاية والتسييس والدوغمائية والراديكالية... الخ
حيث تحولت هذه المفاهيم من أدوات دلالية محضة إلى "لافتات فكرية" تدفع باتجاهٍ مشترَك ذي قسمات خاصة, حيث تم شحنها بدلالات جديدة ضمن سياق سجالنا المحلي بحيث صارت تحمل مضموناً مذهبياً مترابطاً أكثر من كونها مجرد تقنيات تفسيرية حرة.
ولم نتجاوز تلك التصنيفات إلا بهدف تحاشي اللبس وسوء الفهم, إذ غرضنا هاهنا الاجتهاد في تقديم مناقشة علمية مختصرة للشبكة المفاهيمية التي تغذي هذا الخطاب وتمده بمنظوره الخاص, وليس هدف هذه الورقة النقدية -يعلم الله ذلك- التجريح والإيذاء, أو إسقاط شخصيات بعينها, او الانحياز لجبهة ما, وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للتجرد ويعيننا على تجنب الهوى والتحامل.
ومما يعنينا الإشارة إليه هنا بشكل خاص أننا تجاوزنا التمثيل أو ذكر شخصيات بعينها من هذا الخطاب؛ تفادياً للتعميم، ذلك أننا سنناقش تصورات عامة يتفاوت كتّاب هذا التيار تفاوتاً كبيراً في تبنيها والاقتراب أو الابتعاد عنها, فمستقل من هذه الظواهر ومستكثر, فحشر الأسماء وإقحامها في سياق واحد يوهم اشتراكها في التفاصيل, الأمر الذي يتناقض مع فريضة القسط ومقتضيات الإنصاف.
وقد قسمت هذه الورقة إلى جزئين, أولهما: في قياس علاقة هذا الخطاب المدني بأصول الوحي, والجزء الثاني: في قياس علاقة هذا الخطاب المدني بالفكر الحديث, فهذا هو الجزء الأول منهما وسيتبعه باذن الله الجزء الثاني, ونبتدئ الجزء الأول بعرض موجز حول السياق التاريخي لهذه الظاهرة, وهذا هو أوان الشروع في المقصود.
قسمات الانقلاب المعياري:
آل الخطاب المدني -ضمن ديناميكية تطوراته المؤلمة التي أشرنا اليها- إلى حالة انقلاب معياري، حتى بتنا اليوم وكأننا نشهد "إعادة تقييم" جذرية وشاملة تمس العناصر الجوهرية لرؤيتنا الفكرية, فأمامنا اليوم حالة انقلاب حاد في "جدول القيم" لانستطيع أن نغض أبصارنا عنه أو أن نتجاهله, حتى أصبح "هرم الأولويات" يقف مقلوباً على رأسه!
لقد طالت هذه الانقلابات المفاهيمية: الموقف من التراث, والموقف من الغرب, والموقف من المؤسسات الدعوية, والموقف من خصوم الحل الإسلامي, والموقف من واقع مجتمعنا المعاصر, والموقف من الدولة العربية الحديثة... بما يعني أن إبرة البوصلة الفكرية قد فقدت قوتها المغناطيسية السابقة تماماً, وكأن دخان سبتمبر قد مد ذراعه إلينا وقلب ساعة الرمل ليعيد دبيبنا إلى الوراء.
لقد تم إنزال التراث من كابينة القيادة إلى قفص الاتهام! فبعد أن كانت هذه الشريحة الشبابية تنظر إلى "التراث الإسلامي" باعتباره النموذج المشع الذي تستلهم منه المثل والقيم وينتصب أمامه المرء بسكينة الانتماء أصبح بعض هؤلاء الشباب ينظرون إلى التراث باعتباره ألبوم التصرفات البدائية المخجلة الذي لايجب أن يفتح إلا مع ابتسامة اعتذار, مع استخفاف عميق بمواقف رجالاته وأعلامه.
وفي أحسن الأحوال أصبح لايقبل من التراث الإسلامي الضخم أي دور إلا أن يزودنا بالأسانيد والحيثيات التي تؤكد نتائج "عصر الأنوار" ليس إلا!
ولذلك يدعو كثير من منتجي هذا الخطاب إلى قراءة "نصوص الوحي" ونصوص "التراث الإسلامي" قراءة مدنية, بمعنى قراءة "موجهة" تبحث داخل هذه النصوص عن أية مضامين تدعم "المدنية" ثم تؤَوِّل مايتعارض معها, وتصبح فرادة الفقيه داخل هذا الاتجاه تابعة لقدرته في توفير الغطاء الشرعي لمنتجات الحضارة وبحسب إمكانياته في تأويل ما يتعارض معها وتخريجه بشتى المخارج, بدل أن تكون الدعوة إلى قراءة الوحي قراءة "صادقة" تتجرد للبحث الدقيق عن المراد الإلهي!
بمعنى آخر: تحويل الوحي من "حاكم على الحضارة" إلى مجرد "محام عن منتجاتها" يبررها ويرافع عنها ولايقبل منه دور غير ذلك! وليس يخفى أن الحكم نوع من السيادة، أما المحاماة عن الغير فحالة تبع يقاس نجاحها بإمكانيات التبرير والتسويغ.(57/122)
والسؤال المؤلم الذي يفرض نفسه هاهنا: ماهي المساهمة الحقيقية التي يمكن أن نقدمها للعالم اذا كان قصارى مانقوله للغرب هو أن ممارساتكم وسلوكياتكم يمكن تخريجها على بعض الاقوال الفقهية لدينا, أويحتمل أن تدل عليها بعض الادلة؟ هم يمارسون هذه الممارسات قبل أن يعرفونا أصلاً.
كما قفزت صورة الغرب من شارع الانحطاط إلى منصة الأستاذ القديس الذي لايراجع فيما يقول, وإذا لم نقتنع بما يقوله فذلك لعيب في فهمنا نحن لا لعيب فيه هو لا سمح الله!
وبعد أن كان بعض هؤلاء الشباب يتشرفون بالانتماء للاتجاه الإسلامي ويبرزونه كهوية شخصية في الحياة العامة، أصبح بعضهم ينظر إليه باعتباره عبئاً على المجتمع ليس يبهجهم كثيراً تناميه وتغلغله الاجتماعي!
النماذج التفسيرية للظاهرة:
لازال العاملون للإسلام تتقوس حواجب تساؤلاتهم المندهشة أمام هذه الكارثة الفكرية, ويتساءلون بإلحاح مالذي حدث بالضبط ياترى؟
والحقيقة أن كل خطاب فكري ينطلق من "فروض أساسية" تنبثق عنها التطبيقات و تتحاكم إليها الإشكاليات, سواءً سميت بفروض أساسية أو قيمة مركزية أو "باراديجم" أو "إبستيما" أو غيرها من الاصطلاحات الانثروبولوجية, والتي يعبر عنها في العلوم الشرعية بمصطلح "الأصل" أو "الكلي", ومنه قولهم "أصول المذهب الفلاني" أي أسسه الضمنية التي تتفرع عنها ماصدقاته.
وقد أشار الإمام ابن تيمية في ملاحظة مبدعة إلى دور استكشاف الكليات والأصول في الاستيعاب والاطمئنان العلمي كما يقول رحمه الله: (فإن معرفة أصول الأشياء ومبادئها.., من أعظم العلوم نفعاً, إذ المرء ما لم يحط علماً بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة).
والواقع أن المراقبين والنقاد طرحوا تفسيرات كثيرة لظاهرة الانقلاب المعياري هذه التي أشرنا إليها, ومحاولات متعددة لاستكشاف النواة الجوهرية التي انبثقت عنها تطبيقات ومواقف وإحداثيات هذا الخطاب المدني المتطرف, فبعض النقاد يرى أن السبب هو "الانبهار بالغرب", والواقع ان الانبهار بالغرب أحد النتائج وليس العامل الحاسم كما سيأتي توضيح ذلك.
وبعض النقاد اعتقد أن الجذر الدفين في هذه الظاهرة هو "العقلانية"، والواقع أن هذه الظاهرة ليس لديها نظرية فعلية في "مصادر المعرفة" بحيث تقدم ما دل عليه العقل وترد ما عارضه, بل هي تارة مع العقل وتارة مع النص وتارة مع الذوق الشخصي وتارة مع المألوف وتارة ضد هذه كلها, فهي تدور مع المنتج الحضاري الجديد بغض النظر عن علاقته بمصادر المعرفة, وأعتقد أن تكوين "منظومة عقلانية متماسكة" أكبر بكثير من قدرات هذه الظاهرة وكتابها أساساً.
وبعض النقاد اعتقد أن هذه الظاهرة هي امتداد تاريخي لمدرسة "المعتزلة"، والواقع أن هذا التفسير قد أبعد النجعة كثيراً, فمدرسة المعتزلة هي مدرسة دينية متزمتة أخرجت الفساق من الإسلام, وشرعت للمنابذة المسلحة لأئمة الجور, وناضلت الفلسفة الإغريقية بنفس أدواتها, ووصفهم كثيراً من المحققين في علم الفرق بأنهم أصحاب إرادات أي أصحاب نسك وعبادة, وكان لديهم نتاج عقلاني منظم. وإنما سبب زيغهم غلوهم في التنقير بالعقول في الغيبيات وتقديمها على مضامين المرويات, حتى نتجت عن ذلك أصولهم الخمسة المعروفة, لا لأنهم أعرضوا عن الشرائع وانبهروا بأمة من أمم الكفر. فالمعتزلة مدرسة غلو لامدرسة تساهل, بل إن المعتزلة أشرف بكثير من الخطاب الفرانكفوني المعاصر الذي يحاول الوصول إلى تناقضات داخلية في التراث الإسلامي بهدف تحييد الوحي جملةً عن الحياة العامة.
في تقديري أن النواة الخفية التي انطلقت منها كل هذه التحولات الجذرية والحادة في المواقف والرؤى هي "المغالاة في قيمة المدنية والحضارة", فالغلو في الحضارة والمدنية الدنيوية وتحويلها إلى القضية الأولوية وغاية الغايات هو الجذر الرئيسي التي ابتدأت منه كل هذه الانقلابات المفاهيمية, بمعنى أن النموذج التفسيري الذي يقدم إجابة دقيقة حول تطبيقات هذه الظاهرة هو ما يمكن تسميته "غائية الحضارة" و "مركزية المدنية".(57/123)
فيمكن القول بكل اختصار أن "الغلو المدني" ينبوع الانحراف الثقافي, حيث يستتبع التحييد العملي للوحي لأنه لايدفع باتجاه المدنية الدنيوية ويتعارض مع كثير من منتجاتها, ويورث الاستخفاف بالتراث الإسلامي لتضمنه جهاز مفاهيمي شرعي يزهد في الدنيا ويربط الإنسان بالآخرة, ويثمر لدى الشاب تعظيماً نفسياً للثقافة الغربية الحديثة لتفوقها المدني على غيرها من الأمم المعاصرة, فيصبح مأخوذاً بعرض منجزاتها, ويتضايق من عرض ثغرات الثقافة الغربية ويميل لتفهمها وإعطائها معنى إيجابيا أو محايداً على الأقل وتسويغها في جنب محاسنها, ويبدأ الشاب في الابتعاد التدريجي عن العاملين للإسلام لانهماكهم بالدعوة بما تتضمنه من تعميق الإيمان في الناس والتفقه في معاني الوحي, ويصبح أساس العلاقة مع الآخر ليس مبنياً على "أساس ديني" بحيث يوالى الآخر بقدر ما فيه من موالاة الوحي والقرون المفضلة, وينافى بقدر مافيه من منافاة الوحي والقرون المفضلة, بل يصبح أساس الولاء تجاه الآخر "أساساً مدنياً" مبنياً على مقدار السعي المشترك لعمارة الدنيا بغض النظر عن حجم الانتهاكات لحمى الشريعة والفضيلة, فيغتفر لصاحب المنجز المدني -سواءً كان مؤلفاً أم اتجاهاً فكرياً أم مجتمعاً معاصراً- كل انحرافاته الدينية وتتفهم في بحر حسناته المدنية, بينما ينظر بعين الامتهان إلى صاحب المنجز الشرعي -سواءً كان مؤلفاً أم اتجاهاً فكرياً أم مجتمعاً معاصراً- مادام أنه غارق في القصور المدني.
وحاول أن تتأمل في لوحة العزوف الدعوي الحزينة المعاصرة, وتتبع خيوط الارتباك الفكري الذي أصاب بعضاً من شباب المجتمع المسلم اليوم, وسترى أن تلك الخيوط جميعاً تلتقي عند عقدة "المغالاة في قيمة المدنية والحضارة" فتصدر عنها وترتد إليها.
وسرح طرفك حيث شئت في الأطياف الفكرية التي تعج بها الحياة الحديثة وسترى أن الميسم الذي منح هذه الأطياف جميعاً ألوانها المتباينة هو "الموقف من الحضارة", فأخبرني ماهي الدرجة التي تحتلها "قيمة الحضارة المدنية" في سلم القيم عندك أخبرك أين تقع على خريطة الجبهات الفكرية المعاصرة.
فنحن إذا تتبعنا تطبيقات هذا الخطاب الجديد ومواقفه وآراءه وصيغ علاقاته وإحداثيات مواقعه التي اختارها على الخريطة الفكرية فسنتوصل حتماً -كما سبقت الإشارة لذلك- إلى أن القيمة المركزية التي تسيطر عليه وتجعله يدعم موقفاً ما أو يعارضه, أو يثمن قضية ما أو يحط منها, فسنجدها بكل تأكيد "مركزية المدنية", وبناءً على مركزية المدنية فقد تحددت صيغ العلاقات مع المجتمع والتراث والغرب والدولة العربية الحديثة على أساس القرب والبعد من "التمدن المادي".
فبمجرد أن يتشرب الشاب المسلم فكرة الغلو في قيمة المدنية والحضارة والعمارة والنهضة المادية فإن هرم الأولويات وخريطة القيم تنقلب عنده رأساً على عقب, فمن يرى أن الأولوية والقيمة المركزية في سلم القيم هي "تشييد المدنية الدنيوية" فإن الثقافة الغربية في ميزانه ستكون النموذج المتفوق, بينما سيكون عصر القرون المفضلة والحركة الإسلامية المعاصرة نموذج الإخفاق والفشل الذي يجب الاعتذار عنه.
أما من يرى أن الأولوية والقيمة المركزية في سلم القيم هي "التزكية" وتشييد المستقبل الأخروي وأن المدنية الدنيوية مجرد وسيلة, فإن التراث الإسلامي ومن بعده الحركة الإسلامية سيكونان نموذج الفرادة والتميز, بينما ستكون الثقافة الغربية نموذج الانحطاط والتخلف.
ينابيع الغلو المدني:
هذا الخطاب الذي تطور بطريقة مؤلمة ووصل إلى حالة "غلو مدني" تتعارض مع أصول الوحي, اكتنفته أربعة ظروف رئيسية شكلت أضلاع الوعاء الجوهري لتناميه, ألا وهي: مناخ سبتمبر, والضخ الفرانكفوني, وحفاوة وسائل الاعلام, ورد الفعل تجاه البغي الإلكتروني.
فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تعرض الاتجاه الإسلامي إلى حالة محاكمة عالمية شرسة حدت من انسيابه ودويه وتراجعت معها شعبيته الاجتماعية بشكل ملموس. وفي ظل هذا الفراغ الجزئي الذي خلفه انكماش الحالة الإسلامية، برزت أبحاث المدرسة الفرانكفونية/المغاربية كإجابة جديدة نجحت في استغلال الظرف الأمني الحالي وحققت اكتساحاً استثنائياً في فترة قصيرة.
ويبدوا أن هذا الرواج السريع سيكون مؤقتاً ريثما يستعيد الاتجاه الإسلامي عافيته الأمنية, إذ لو كانت "المدرسة الفرانكفونية" تتكئ على عبقرية طروحاتها الخاصة لكان متحفها عامراً منذ الثمانينات وليس بعد العام 2001م! وإنما رواجها بعد كسادها كان تبعاً لزلزال الظرف السياسي السبتمبري الذي قلب توازنات القوى رأساً على عقب, وسمح لكثير من الأفكار السياسية المتشنجة أن تبتسم فوق الطاولات المستديرة.
على أية حال فإن كثيراً من الشباب الإسلامي الذي أقبل على منتجات المدرسة الفرانكفونية في معارض الكتب وأمام رفوف الوحدة والساقي والجمل لم ينته من التهام تلك الكتابات إلا وقد تشرب "المفاهيم الضمنية" الحاكمة لتلك الكتابات, أو بمعنى آخر "المنطق الداخلي" لهذه الدراسات, وعلى رأس تلك المفاهيم مركزية المدنية وغائية الحضارة.(57/124)
أولئك الشباب الذين كانو يقرؤون أيام "أزمة الخليج" مجلة المجتمع ومجلة البيان والمودودي وسيد قطب والندوي ومحمد قطب ومحمد الغزالي وفتحي يكن ومحمد أحمد الراشد وجمال سلطان وبالكاد فهمي هويدي ومحمد عمارة, وتكتظ أدراج سياراتهم بكاسيتات العودة والحوالي.. أصبحو "عشية سبتمبر" يقرؤون للمدرسة الفرانكفونية/المغاربية التي كان أشهر عمالقتها محمد عابد الجابري وعبدالله العروي ومحمد أركون وعبدالمجيد الشرفي وعبدالمجيد الصغير, بالإضافة إلى مشارقة محدودين كانو قريبين من هذا الاتجاه كحسن حنفي وخليل عبدالكريم ونصر حامد أبو زيد وعبدالجواد ياسين وطيب تيزيني وحسين مروة وعلي حرب وبرهان غليون وفراس السواح .. وأضرابهم.
هذه الشريحة من الشباب الإسلامي اصطدمت في مقاعد المدرسة الفرانكفونية/المغاربية بـ "سؤال الحضارة" , وبات من نافل القول أن نشير إلى أن الصدمة كانت قاسية وشرسة جداً, لدرجة إحداث ارتجاجات فكرية وفقدان للتماسك الثقافي لدى كثير من هؤلاء القراء.
هذه الشريحة الشبابية -ذات الخلفية الدعوية الإسلامية- حاولت بادئ الأمر أن تقدم إجابة عن "سؤال الحضارة" ترضي الطرفين فتتلافى الاصطدام بانتمائها العميق الذي يشدها, وتتودد للذوق الفكري الذي تقرأ له بعد أن خضعت لسطوة خطابه, لكنها قبل أن تجيب فكرت كما يفكر خصمها وتبنت منطلقاته.
هذه الشريحة الشبابية لم تستوعب أبداً -حتى هذه اللحظة- أن المدرسة الفرانكفونية/المغاربية أعادت تشكيل منطقها تماماً, وأعادت صياغة نمط تفكيرها وطريقة تعاطيها للأمور, وأسلوب نظرها للوقائع, وتقييمها للأحداث, من خلال امتصاص أدواتها الخاصة للقراءة والتفسير والملاحظة, وإعادة ترتيب الهرم الداخلي للقيم, وإعادة رسم الجدول الذهني للأولويات.
السؤال الذي يملي نفسه في هذا الموضع: مالفرق بين العلمانية العربية ما قبل (1984م) والعلمانية العربية ما بعد (1984م) ؟
فالعام 1984م هو العام الذي احتضن واقعة صدور أول حلقة من سلسلة "نقد العقل العربي" للمفكر المغربي ذائع الصيت محمد عابد الجابري والذي دشن العهد الجديد لتلمود العلمانية العربية التوفيقية, حيث مثلت الحلقات الأربع من هذه السلسلة والتي نشرت تباعاً بعنوان (تكوين العقل العربي, بنية العقل العربي, العقل السياسي العربي, العقل الأخلاقي العربي) الاكتمال المنهجي النهائي لمجموعة الدراسات المبعثرة التي سبقتها كمدونة "نحن والتراث" له.
ولذلك اعتبر بعض المؤرخين الليبراليين أنه إذا كان "الطهطاوي" هو مؤسس تجربة النهضة العربية الأولى, فإن "الجابري" مؤسس تجربة النهضة العربية الثانية, كما يقول ذلك عالم الاجتماع والناشط المعروف سعد الدين إبراهيم.
بل إن أشهر ناقد صارم لمشروع الجابري والذي كاد يذهب شطر عمره في تتبع شواهده ونقوله وما بين فواصله -وهو المفكر العربي المعروف جورج طرابيشي- يعترف ليس بأثر الجابري في مريديه وتلاميذه فهذا حدث تاريخي يتكرر, ولكن بسطوة الجابري المذهلة في أقرانه التي لم يفلت ناقده طرابيشي منها حين قرأ له أول مرة, ونفوذ المفكر في أقرانه ومجايليه استثناء عزيز في مدونة التاريخ, إذ المعاصرة حجاب.
والحقيقة أن وزن الجابري وكونه منعَطَف يكاد يكون محل إجماع بين المعاصرين, وهذا يعني أن تأريخ ظاهرة العلمانية/التوفيقية بالجابري ليس كثيراً بالقياس إلى وزنه وقدرته على اختراق الحواجز الخرسانية التي عانتها الخطابات التي جايلته من كافة التيارات.
أو بمعنى آخر: مالفرق بين مدرسة صادق جلال العظم وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا ومحمد أحمد خلف الله ونظائرهم, وبين مدرسة الجابري وأركون وحسن حنفي ونظائرهم؟
بمعنى ماسر الجاذبية في دراسات العلمانية العربية الحديثة التي خلبت أذهان الشباب الإسلامي وجعلته يقبل بنهم على هذا اللون من الدراسات والأبحاث؟
الحقيقة أن الفرق الأساسي هو التحول من "الاستهداف المباشر للشريعة" إلى "إعادة تفسير التراث" من خلال الأدوات التي تطرحها العلوم الإنسانية الحديثة, أو بشكل آخر القفز من الإشكالية الأنطولوجية إلى الإشكالية الإبستمولوجية.
هذا الفارق هو بالضبط مصدر الجاذبية والإثارة لدى القارئ الإسلامي, وهي اللغة التي يفهمها جيداً,
لقد امتص وتشرب هؤلاء الشباب بصورة ضمنية كثيراً من المفاهيم المشبعة ببنية علمانية مضمرة, أو التي تدفع باتجاه تعزيز التصورات العلمانية, مثل مفهوم: عصر التدوين, والتنصيص السياسي, والعقل المستقيل, والأرثوذكسية الإسلامية, والنص كمنتج ثقافي, وميثية القرآن, وغيرها من أدوات التفكير العلماني.(57/125)
على أية حال تظل المدرسة الفرانكفونية/المغاربية المعاصرة هي الأكثر تعبيراً عن هذا الشكل من الخطاب, واهتمامها بموضوعيها الرئيسين -إعادة تأويل التراث والتحليل الانثروبولوجي للحركة الإسلامية- كان مصدر الجاذبية والإغراء الذي حقق لها النفاذ إلى أسوار الداخل الإسلامي, ذلك أن الحقول والموضوعات ذات الاهتمام المشترك تمثل دوماً لغة مفهومة ومشتركة, ونقطة تعارف والتقاء, تتحول غالباً إلى حالة تلقٍّ تتحدد بوصلة نفوذها طبقاً لميزان القوى المعرفية, لتنتهي بحالة استعمار ثقافي.
والحقيقة أن لحظة انتقال هذه الشريحة الشبابية بين المدرستين لم تكن مجرد لحظة تفاعل طبيعي مع رافد ثقافي معين, بل شهدت ارتجاجات فكرية مذهلة كانت نتيجة لصدمة انقلاب السؤال المركزي بين المدرستين.
فالسؤال المركزي في مدرسة الفكر الإسلامي كان سؤال "انتصار الإسلام" ويدخل في ذلك سائر ما تم تطويره من "مفاهيم دعوية" تشكل نسيج هذا الفكر: كمفهوم الحل الإسلامي, وتحكيم الشريعة, والتزكية الإيمانية, والعمل الجماعي, وفقه الواقع, والتعدد التنظيمي, والعمل التربوي, وإنكار المنكرات, وتوعية الجاليات, وتفعيل المساجد, والأمن الفكري, وحراسة الفضيلة, والإعلام الإسلامي, وتضميد جراحات المسلمين, وإعداد القوة, ونحوها من المفاهيم الإسلامية وصيغ العلاقات العريقة في هذا الخطاب.
أما السؤال المركزي للمدرسة الفرانكفونية فقد كان "سؤال الحضارة" ومن ثم محاسبة التراث, والإتجاه الإسلامي, والمجتمع العربي, والدولة العربية الحديثة: على أساس الاقتراب والابتعاد عن "النموذج الغربي الحديث", حيث كان النموذج الغربي الحديث هو المعيار الضمني غير المعلن, وإن كان النص المغاربي في كثير من الأحيان يتظاهر بخلاف ذلك.
هذه الصدمة بخطاب المدرسة الفرانكفونية, وسطوة جهازها المفاهيمي, واكتظاظ لغتها الباذخة, وترسانة شواهدها التراثية, ومايتناثر على جنبات نصوصها من أعلام أوروبية رنانة, وما تحيل إليه من تجربة غربية منتصرة, وما تنطوي عليه بعض فقراتها من هالة الغموض المبهر, وشحنها المستمر والمضمر ضد كل ما هو "لا غربي": نجحت في اختطاف التفكير المتوازن, وتصديع الانتماء الدعوي, وإخضاع القارئ لمنطلقاتها الضمنية, والاستسلام لزواياها الخاصة في النظر والقراءة وتقييم الأمور, والتفكير في العالم من خلال شبكتها المفاهيمية ذاتها.
مما جعل انتقال هذه الشريحة الشبابية -موضع الدراسة- بين المدرستين ليس انتقالاً خطياً تراكمياً من مدرسة إلى التي تليها, بقدر ماكان استقالة فكرية غير ودية من معسكر سابق وتسجيل لعضوية جديدة في المعسكر المقابل.
أزعم أن الجزء الأكبر من فاتورة الارتباك الفكري لدى هذه الشريحة الشبابية المحلية تتحمله الإجابات الخاطئة عن سؤال الحضارة, والتي كانت نتيجة الاصطدام ببريق الخطاب الفرانكفوني تحت ضغوط الحادي عشر من سبتمبر والتي كان وسطنا الثقافي فيها أشبه بالمسافر اللاهث الذي يتعلق بأقرب حافلة لايهددها قراصنة البيت الأبيض, بغض النظر هل كانت تلك الحافلة ستبلغه غايته أم ستنعطف به إلى غاية أخرى.
ويجب أن نعترف أن نزول الخطاب الإسلامي من "أعواد المنبر" فترة التسعينات إلى "قفص الاتهام" بعد سبتمبر بدد شيئاً من جاذبيته الاجتماعية, وفتح المجال لتسويق خطابات أخرى لاتتكئ على نجاحها الخاص, بقدر ما تتكئ على غياب منافسها العنيد.
وهذا يعني -كما سبق- أن الخطاب الإسلامي المعاصر سيسترد عافيته وموقعه الاجتماعي الريادي بمجرد تجاوز هذه الأزمة والتخلص من الآثار الأمنية الحادة لحادثة سبتمبر, تماماً كما أننا نشاهد الهياج والصخب والإدانات العشوائية كأعراض طبيعية تصاحب الوهلة الأولى للحادث المروري ثم تعود الأمور إلى مجاريها وتكمل المسيرة طريقها بمجرد تجاوز آثار الدهشة الأولية.
وقد علَّمنا التاريخ دوماً أن الكساد المرتبط بظروف سياسية ينتهي بنهايتها, ولذلك فإن الجزيرة العربية التي ارتدت لظروف موت الرسول استعاد الخطاب الإسلامي موقعه فيها مباشرة بعد استقرار الخلافة على يد الصديق.
وعلى أية حال ومهما كانت ظاهرة الغلو المدني ظاهرة مؤقتة بحكم كونها مرتبطة بخلفيات حادث أمني فإننا مع ذلك يجب أن نبادر إلى تحليلها وتفكيك بنيتها الداخلية والإجابة على الأسئلة التي تشغلها وتملأ بها مقالاتها الصحفية وسجالاتها الإلكترونية وتعليقاتها الفضائية, ذلك أننا نفترض أولاً وقبل كل شئ أن ثمة عوامل موضوعية منحت هذه التساؤلات المشبوبة معنى معيناً في لحظةٍ تاريخيةٍ ما, وعليه فلا يجوز أن نعاملها باللامبالاة الباردة.
قانون المتوالية الفكرية:
حين تطالع الكتب المعنية بتأريخ الأفكار والمذاهب والمقالات الفلسفية المنقولة عن سائر الأمم فإنك كثيراً ما تصيبك الدهشة من غرابة بعض الأفكار والمقالات في صورتها النهائية وتناقضها مع بدهياتٍ ظاهرة, فيأخذك التساؤل: كيف وصل أصحابها إلى مثل هذه القناعة الغريبة؟! وكيف غابت عنهم الأمور الواضحة؟!(57/126)
الواقع أن كثيراً من الأفكار والمقالات الممجوجة في صورتها النهائية, أو المتناقضة مع أبجديات الوحي والعقلانية إنما بدأت بالتزام "مبدأ نظري" معين دون الاستكشاف المسبق لكافة آثاره النهائية ولوازمه ومؤداه, وفي ثنايا سجالات الفرقاء ينجرف صاحب المقالة إلى الالتزام التدريجي لمقتضيات هذا المبدأ بهدف الاحتفاظ بعنصر الاطراد وعدم التناقض, فيتجارى به ذلك حتى يصل إلى مستشنعات ما ظن أنه سيصل إليها يوماً ما, وهو ما يمكن تسميته قانون "المتوالية الفكرية".
وقد كان الإمام ابن تيمية كثيراً ما يشير إلى هذه الظاهرة العلمية لتطور الأفكار في ثنايا مناقشاته للمقالات الفلسفية كما يعبر مثلاً بدقة بالغة فيقول:
(فاحتاجوا أن يطردوا أصول أقوالهم التي احتجوا بها لتسلم عن النقص والفساد, فوقعوا في أنواع من رد معاني الأخبار الإلهية وتكذيب الأحاديث النبوية) درء التعارض (7/106)
والواقع أن "قانون المتوالية الفكرية" كنموذج تفسيري سيساعدنا كثيرا في فهم تطورات ظاهرة الخطاب المدني وكيف بدأت بإشكاليات تجديدية اجتهادية مشكورة ثم انتهى كثير من كتابها إلى مآلات مؤلمة مذمومة, فجمهور هؤلاء الشباب حين بدأ في قراءة إنتاجات المدرسة الفرانكفونية كان مدفوعاً في البداية بمقصد حسن نبيل وهو تنمية إمكانياته التحليلية وامتلاك الأدوات الفكرية بهدف تعزيز الخطاب الإسلامي ودعم حجيته, ولم يفرغ كثير منهم من ازدراد هذه الأبحاث إلا وقد انقسموا فريقين:
فأما الأول فتيقظ لبطلان الأساس الضمني الذي انبنت عليه هذه الأبحاث وهو غائية الحضارة أو مركزية المدنية, فانبنى على ذلك بطلان أكثر النتائج التي تضمنتها هذه الأبحاث من تبخيس التراث وتوقير الغرب, ومن ثم التنبه للأداتين الأثيرتين في هذه المدرسة لتهشيم التراث وهما أداتي (التسييس والمديونية).
أما أداة "التسييس" فتعني إعادة التفسير السياسي للنظريات الشرعية وتحركات أعلام التراث ومحاولة ربطها بصراعات سياسية تحت شعار الأنسنة, أما أداة "المديونية" فتعني محاولة ربط سائر المفاهيم والأصول الشرعية التي صاغها فقهاء التراث بالثقافات السابقة للإسلام وتصويرها كمجرد اقتراض ثقافي من الثقافة الهرمسية أو الغنوصية أو الفارسية أو اليونانية.
أما الفريق الآخر -وهم الأكثر- فقد استسلم لاشعورياً للأساس الضمني في هذه الأبحاث وهو مركزية المدنية لكنه حاول -بحسن نية أيضاً- أن يذب عن دينه وتراثه وأمته بإثبات أن الوحي والتراث يتضمنان أولوية المدنية والحضارة أصلاً, ومن ثم تحول إلى هاجس التفسير المدني للتراث فأخذ يبحث داخل مضامين الوحي والتراث عن أية مشاهد تتوافق مع المدنية الحديثة, وانساق في نقد كل ما لا يتوافق معها داخل التراث, وأصبح مهموماً بمعاتبة الإسلاميين للظهور بمظهر مدني يتناسب مع الذوق المدني الحديث.
وبطبيعة الحال فمع كل عمليات إعادة التأويل التي مارسها هذا الخطاب على الوحي والتراث بما تتضمنه من استحضار واستبعاد موجَّه لنصوص وأعلام معينين بهدف التوافق مع الصيغة المدنية الحديثة, فإن طبيعة الوحي والتراث في ذاتها تأبَّت على ذلك وبقي المضمون الجوهري للوحي حياً لا يمكن تعتيمه, فمع كل النصوص التي ابتسروها مثلاً عن ابن رشد أو الشاطبي أو ابن خلدون أو ابن حزم أو غيرهم فقد بقيت نصوص هؤلاء ذاتها تنقض النتائج النهائية لهذه المدرسة, فضلاً عن صورة القرون المفضلة, بل فضلاً عن نصوص الوحي ذاتها, وسنحاول إيراد شئ من ذلك في موضع لاحق.
بل لقد أصبحت صورة الخطاب صورة تلفيقية باهتة تعاني في تركيبها الداخلي من هشاشة معرفية عميقة نتيجة كونها تعتمد على الانتقائية والتغييب دون منهجية أو معايير واضحة يمكن التحاكم اليها, بمعنى أنها أصبحت خليطاً من النتائج القابلة لإثبات العكس, فيستطيع خصوم الرؤية الإسلامية إضحاك القارئ عليها بكل بساطة, فالآيات الكثيرة في بيان مركزية الآخرة وذم الدنيا والرفاه, واللغة الغيبية في التعامل مع الظواهر, والمقياس الديني لصيغ العلاقات, وبيان انحطاط الكافر وأنه في منزلة الأنعام والدواب, واعتبار علوم الكفار علوماً ظاهرية, وشكل الحدود الجنائية الصريحة, وغيرها كثير لا تستطيع أن تقاومها كل تعسفات الخطاب المدني في إعادة تفسير التراث.
والمقصود هاهنا الإشارة إلى تطورات هذا الخطاب المدني الجديد وأن أكثر انحرافاته النهائية كانت مضاعفات يجمح بعضها ببعض, مع تفاوتهم فيها تفاوتاً هائلاً.(57/127)
فبداية كثير من هؤلاء الكتاب -شهادةً لله- كانت بداية حسنة وهي أنهم رأوا أنه لا يمكن نشر رسالتنا الإسلامية وعزة مجتمعنا إلا بالإمكانيات والقدرات الحديثة, ثم تجارى بهم البحث في الحضارة والنهضة والإمكانيات الحديثة حتى جعلوها غاية في حد ذاتها بشكل عملي ضمني, ثم لما رأوا نقد الغرب يحوْل كثيراً بين الشاب وبين الحضارة الغربية ويهز مرجعيتها بالغوا في التماس المعاذير لانحرافات الحضارة الغربية, وتلمسو الأدلة التي توافق ما هم عليه, ثم لما انهمكوا في تكييف الأحكام وفق نتائج الغرب اصطدموا بكثير من المفاهيم الشرعية ذات المنزع الديني/الغيبي كالإيمانيات والشعائر والأحكام الشرعية التفصيلية والتصورات الغيبية ونحوها, فحاول الكثير منهم جعل كل هذه الشرائع مقصودها النهائي أصلاً عمارة الأرض وإقامة الحضارة, وهكذا بدأت هذه المفاهيم الشرعية تتناقص قيمتها في ظل "وسيليتها" المحضة, وتتضخم قيمة المدنية الغربية بحكم تحقيقها للمقصد النهائي وهو الحضارة, ثم تطور الأمر من الانبهار بالحضارة الغربية المعاصرة إلى محاسبة الحركة الإسلامية والقسوة عليها طبقاً للاقتراب والابتعاد عن الحضارة الغربية المعاصرة, ونشأ عن ذلك ظواهر انفصال وانشقاق ترتب عليها الابتعاد عن مقابس الإيمان والتخول بالذكرى، فأخذت جذوة الإيمان تخبو يوماً بعد يوم, وارتخى الانقياد وفقدت العبودية معناها.
ثم تطور الأمر بشكل أكثر سوءاً، وأصبح البعض يلتمس العوائق في مضامين الشريعة ذاتها, حتى وصل بعضهم إلى أن المشكلة في "السنة النبوية" وأنها صرفت الناس عن قضية الحضارة إلى الإغراق في التفاصيل الصغيرة, وهكذا يتسلسل الأمر من سيئ إلى أسوأ.
وكنتيجة مباشرة للمظالم الإنترنتية التي واجهها هؤلاء الكتاب في بدايات كتاباتهم -كنسبة لوازم لم يلتزموها وتضليلهم بها أو ربطهم بجهات خارجية فريةً وبهتاناً- فإن كثيراً منهم قادته مناكفة الخصوم تدريجياً إلى الانقلاب على الرؤية الإسلامية والرغبة الدفينة الملحة في تأكيد المباينة بمناسبة وبلا مناسبة, حتى آل الأمر بكلا الفريقين المتباغيين إلى الاستقواء بأحد جناحي السلطة ضد الفريق الآخر.
والحقيقة أن وقوع بعض المنتسبين للاحتساب في بعض البغي هو مما جرت به سنة التاريخ, وقد أشار إلى ذلك الإمام ابن تيمية في كثير من كتبه, ومنه قوله:
(وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم, وإما على نوع من المبتدعة, بزيادة على ما أمر الله به, وهو الإسراف المذكور في قولهم:ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا) الفتاوى (14/483)
بل وطائفة من هؤلاء يشنع أحياناً فيما ليس معه فيه برهان, بل قد يكون الراجح مع من خالفه, كما قال الامام ابن تيمية في واقعة مشابهة:
(وطائفة ممن يقول بأن النبي "رأى ربه بعينه" يكفرون من خالفهم, لماظنوا أنه قد جاء في ذلك أحاديث صحيحة, كما فعل "أبوالحسن علي بن شكر" فإنه سريع إلى تكفير من يخالفه فيما يدعيه من السنة, وقد يكون مخطئا فيه, إما لاحتجاجه بأحاديث ضعيفة, أو بأحاديث صحيحة لكن لا تدل على مقصوده)الفتاوى 16/433
ولكن العاقل لاينحرف عن الشرع انتقاماً من أخطاء بعض المنتسبين له, فإنه ما ضر إلا نفسه, وإنما كمال الإيمان أن ينظر العاقل في النصيحة ويستغفر لمن أخطأ عليه, ويراجع علاقته بربه فإن كان على صواب مضى وإن كان على خطأ أناب.
ثم إن مما زاد في تأجيج هذا الجموح الشبابي حفاوة كثير من المؤسسات الإعلامية بذلك مدفوعة بتصفية حسابات قديمة مع ما تسميه الإسلام السياسي, ومن يتصور أن المؤسسات الاعلامية مجرد مناخ معرفي بحت فهو يعيش وهماً كبيراً, فالمؤسسات الإعلامية كائنات سياسية لها أجندتها الخاصة وانحيازاتها العميقة, ولكن لها أدواتها الخاصة في الاستقطاب والتوظيف بما يتناغم مع بنيتها مثل: منصب كاتب عمود صحفي, أو مشرف صفحة الرأي, أو مقدم تلفزيوني, أو معد برامج, أو ضيفاً دائماً يوضع تحت اسمه خبير في الجماعات الإسلامية, ونحوها من المناصب الإعلامية التي تخطف لب الشاب في عصر الشاشة.
وبعد هذا العرض الموجز حول السياق التاريخي لهذه الظاهرة سننتقل إلى المناقشة الموضوعية لإشكاليات هذا الخطاب وعلاقتها بأصول الوحي, وسنحاول أن نركز على استعراض "حقائق الوحي" التي أضاعها هذا الخطاب وضمرت فيه وغابت في زحمة جموحه المدني.
وظيفة الإنسان:
ما هي وظيفة الإنسان؟ هذا هو السؤال/المدخل الذي تعود إليه الاختلافات الجوهرية للاتجاهات الفكرية كما سبق أن أشرنا, وهناك اتجاهان رئيسيان في الجواب على هذا السؤال:
أولهما هو "الاتجاه المدني" ويرى أن وظيفة خلق الإنسان هي "العمارة" وكل ماسوى ذلك وسيلة لها, فالوحي والشرائع والعبادات إنما هي وسائل لتحقيق العمارة والحضارة والمدنية, فالعمارة هي الغاية الجوهرية والأولوية الرئيسية للإنسان, وانبنى على ذلك أن اشتغل هذا الخطاب بقضية التمدن وتوجيه كافة المعطيات الأخرى إليها والتسامح في كل ماسواها, ومن ثم تقييم المجتمعات والثقافات والشخصيات بحسب منزلتها في هذه "المدنية" الدنيوية.(57/128)
و"المدنية" بحسب هذا الاتجاه مفهوم شامل يدخل فيها كل ما يدفع باتجاه تحقيق الرفاه البشري وسعادة الجنس الإنساني في كافة ميادين الحياة الدنيوية, والتقدم في العلوم الفلسفية والإنسانية والطبيعية والفنون, ونحوها.
أما الاتجاه الثاني وهو "الاتجاه الشرعي" فيرى أن وظيفة الإنسان هي "العبودية" بمعنى أن الله خلق الإنسان وأرسل الرسل وأنزل الكتب لتدل الناس على الله وعبادته, وبيان دقائق ما ينبغي له سبحانه وما لا ينبغي في معاملته جل وعلا, وبيان قواعد تنظيم حقوق العباد, وأن كل ما في هذه الدنيا إنما هو متاع ولعب ولهو, فيجب أن يستعان بما يحتاج منها على عبودية الله, وكل ما لم يعن على عبودية الله ولم يؤد إلى هذا الغرض فهو دائر بين مرتبتين لا ثالث لهما: إما محرم يجب الكف عنه، وإما فضول يشرع الزهد فيه.
فالعمارة والحضارة والمدنية مجرد وسيلة لإظهار الدين وإقامة الشعائر والشرائع, فلا يحمد من هذه المدنية إلا ما حقق هذه الغاية, وتتلخص منزلة المدنية بكل اختصار في المبدأ الأصولي الشهير المعروف بـ"بمقدمة الواجب" والذي ينص على أن: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، وعليه فإنه إذا تم بدونه فلا يجب.
وحين تكلم الإمام ابن تيمية عن "وظيفة الدولة" حسب التصور الإسلامي في كتابه "السياسة الشرعية" قدم تلخيصاً هاماً يكشف وسيلية المدنية وكونها مرتبطة بالغاية الدينية, كما يقول الإمام ابن تيمية:
(فالمقصود الواجب بالولايات:
1- إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا.
2-إصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم).
و"العبودية" بحسب هذا الاتجاه نظام من الشُّعَب التدريجية الشاملة أعلاها قول لاإله الا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق, فتبتدئ بإفراد الله وتجريد القلب له ويليها الفرائض العينية ثم الفروض الكفائية التي يتحقق بها نفع الناس في مصالحهم العامة.
واذا تزاحمت شعبتان من شعب العبودية فلايقدم مايتعلق بالشأن المدني مطلقاً, بل ثمة قواعد شرعية دقيقة في المفاضلة والموازنة بين مراتب الاهتمامات والأعمال والشؤون العامة, ككون رعاية الفضيلة مقدمة على الحرية الفنية, وتقديم الفرض العيني على الكفائي, وتقديم النفع المتعدي على النفع الخاص, وتقديم الواجب على المندوب, ونحو ذلك.
ولذلك فإن جمهور الأعمال العبادية المحضة تندرج في "الأحكام التكليفية" باعتبارها الصورة النهائية للمراد الإلهي, وجمهور الأعمال المدنية الدنيوية تندرج في "الأحكام الوضعية" كالسبب والعلة والشرط والمانع باعتبارها وسيلة للحكم التكليفي.
ومن ثم ينبني على هذه الرؤية تقييم المجتمعات والثقافات والشخصيات بحسب منزلتها في هذه "العبودية".
وتفريعاً على اختلاف هذين الاتجاهين في تحديد الوسيلة والغاية انبنت أكثر الفروق الهائلة والتفاصيل اللانهائية من الآثار, واستتبع ذلك تفاوتاً كبيراً في المواقف, فكل قضية فكرية يختلف فيها الناس تجد فريقاً لحظ أثر هذا الموقف على العبودية والفضيلة فاتخذ موقفا معينا, بينما الفريق الآخر لحظ علاقة هذه القضية بالحضارة والمدنية فاتخذ موقفاً مغايراً, فكل فريق معني بغايته ومقصده النهائي.
والحقيقة أن كتاب الله سبحانه وتعالى لم يجعل هذه القضية عائمة أو محتملة أو نسبية, بل حسمها بشكل يقيني واضح صريح وكشف الغاية من خلق الإنسان بلغة حاصرة فقال سبحانه وتعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]
وبين سبحانه أنه إنما بدأ خلق الإنسان في هذه الدنيا ثم بعثه بعد موته ليحاسبه على هذه الغاية وهي القيام بالعبودية كما قال سبحانه:
{إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} [يونس:4]
وفي كثير من المواضع ينبه سبحانه وتعالى بين ثنايا الآيات على أن وظيفة الخلق وغايته إنما هي ابتلاء الناس في هذه العبودية كما قال سبحانه:
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2].
وحسن العمل هذه الآية ونظائرها هو الإيمان والعمل الصالح على حسب درجاته الشرعية, ولو كانت عمارة الأرض بالحضارة والتمدن والعلوم الدنيوية هي المقصود الأولوي بحسن العمل لما أرسل الله الرسل في التاريخ البشري أصلاً, لأن الله سبحانه قد أثبت تميز تلك الأمم أصلاً في عمارة الأرض وعمق علمها بالدنيا, كما قال تعالى عن الأمم السابقة:
{كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9]
وقال عن علمهم المدني:
{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]
وبين سبحانه وتعالى وظيفة النبوات والكتب السماوية والشرائع وأنها كلها تهدف لتأكيد عبادة الله والاستعداد للحياة المستقبلية بعد الموت, وليست المنافسة العالمية في المدنية والحضارة الدنيوية, كما قال تعالى عن وظيفة الرسل:(57/129)
{ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ..الآية} [النحل:36]
وذكر سبحانه السؤال الإلهي عن تحقيق هذه الغاية فقال سبحانه:
{يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا} [الأنعام:130]
وقال سبحانه مبيناً وظيفة الشرائع:
{ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة:5]
وغير ذلك كثير من محكمات الوحي التي كشفت بشكل حاسم غاية خلق الإنسان, والذي يعنينا هاهنا ذكر بعض الشواهد لا استقراؤها.
غائية الحضارة في سلم الوحي:
بكل وضوح وصراحة, وبلا مجاملة ولا مداورة ولا التفاف .. "الحضارة" بالمعنى الشائع -والتي هي العلوم المدنية الدنيوية لخلق الرفاه البشري- هي قيمة ذات مرتبة تبعية في الوحي الإلهي, وليست الغاية ولا الأولوية الرئيسية أو القضية المركزية كما نحب أن نتظاهر بذلك, أعلم أن هذا الأمر يزعج الكثيرين, بل ويؤلمهم, لأنهم يريدون بالكثير من حسن النية كسب تعاطف النخب المثقفة تجاه الإسلام, لكن هذه هي الحقيقة.
إننا يجب أن نكسب انتماء الناس إلى الإسلام والقرآن والنبي محمد كما هم في ذاتهم, أي كما كانوا فعلاً لا كما جعلناهم نحن عبر عمليات إعادة التصنيع والتشكيل طبقاً لميول المستهلك, الإسلام في نسخته الحقيقية الصادقة لا الإسلام الذي يميل إلى سماعه المخاطبون, النبي محمد كما عاش فعلاً بين حرَّات طابة لا صورة النبي المصممة للذوق الفرانكفوني.
والشواهد وأوجه الدلالة التي تبرهن أن المدنية الدنيوية ذات قيمة ثانوية باعتبارها مجرد وسيلة لنصرة الإسلام وتحقيق شرائعه تابعة لهذا الهدف, وليست غاية في حد ذاتها أو مجالاً لمنافسة الشعوب والأمم في امتلاك الدنيا, هي شواهد تفوق الحصر.
لقد جاء القرآن بشكل واضح بتأسيس "مركزية الآخرة" في مقابل "مركزية الدنيا", هذا الأمر واضح في القرآن بشكل يخجلنا أن نورد شواهده, ولكننا كثيراً ما نحب أن نتجاهل ذلك, ونتعسف في قلب هرم الاهتمامات القرآني.
تدفعنا كثيراً محاولة إرضاء الآخرين إلى عرض القرآن باعتبار أن رسالته الأساسية "العمران المادي"! والحقيقة أننا نكذب على القرآن, ونضعه في موقع لم يأت ليضع نفسه فيه.
لا.. أبداً.. لم يأت القرآن بألوية العمارة المادية, بل جاء لعكس ذلك تماماً, جاء ليؤسس مركزية الآخرة في مقابل مركزية الدنيا, جاء القرآن ليحول الدنيا من "غاية" إلى مجرد "وسيلة".
بل إن بيان القرآن لخطر الدنيا في إضلال الناس عن الله أكثر من بيانه لوجوب عمرانها أصلاً, فالدنيا في التصور القرآني مجرد "وسيلة" خطرة يجب التعامل معها بحذر خوفاً من أن تجرفنا عن الحياة المستقبلية اللانهائية في الدار الآخرة.
إن أبرز مبادئ العقلانية تقديم المصلحة المؤبدة على المصلحة المؤقتة, ولذلك جاء القرآن بالتأكيد على هذه الحقيقة العقلية وتعزيز مقتضاها فقدم سعادة الآخرة الباقية المؤبدة على متعة الدنيا الفانية المؤقتة.
كثير من النخب المثقفة يشعر بالتبرم حين يسمع كلام القرآن في ذم الدنيا, لأنهم يخشون أن ينصرف الناس عن هذه الوسيلة فنبقى مجتمعاً ضعيفاً, وهذا نوع من الاستدراك على الله!
ولذلك كان وسيظل ينبوع الانحراف الثقافي بكل اختصار: الانبهار بالمظاهر المادية من عمران ومدنية وحضارة دنيوية, والزهد في مضامين الوحي من العلوم الإلهية وحقائق الإيمان والغيبيات ومعاملة الله سبحانه تعالى.
كثيراً ما يشير القرآن إلى أن كل ما على هذه البسيطة من موارد وإمكانيات ليس المراد بها رفاه الجنس الإنساني, وإنما المراد بها ابتلاء الناس وامتحانهم هل يؤمنون ويقبلون على الله أم يعرضون عنه؟ كما قال تعالى:
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:7].
وكشف تعالى عن وظيفة المعايش المدنية والتمكين السياسي فقال سبحانه:
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف:10]
بل ويشير تعالى إلى عظمة هذا التمكين المدني وعمقه فيقول تعالى:
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26]
فانظر كيف عرض الله سبحانه وتعالى "المعايش المدنية" باعتبارها "نعمة" من الله لابتلاء الناس, لا أنها هي المطلب الشرعي الرئيس, ثم يؤكد تعالى على الغاية الشعائرية والحسبوية من نعمة التمكين السياسي في موضع آخر فيقول سبحانه:
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} [الحج:41](57/130)
وحين يعرض الله الصورة الراقية للمؤمن يؤكد أنه ذلك الرجل الذي لا يشغله النشاط الاقتصادي عن الغاية الحقيقية العبادية, وأن الدنيا في يده لاتعظيم لها في قلبه, لأن نظره الحقيقي مربوط بلحظة لقاء الله, فيقول تعالى:
{رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37]
وينبه الله تعالى في مواضع كثيرة من الوحي على أن المنزلة والمكانة الحقيقية عند الله ليست بالمظاهر المدنية المادية, ولا بالإمكانيات الاقتصادية والديموغرافية, فقال سبحانه:
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37]
وما ذلك كله إلا لتفاهة الممتلكات المادية في "ميزان الله" فهل يا ترى ستكون موازيننا تابعة لميزانه سبحانه وتعالى, أم ستكون لنا موازيننا الخاصة؟!
وقد كشف الله في مواضع كثيرة تفاهة هذه المظاهر المادية من وجوه متعددة, فلاتخلوا طائفة من آيات القرآن إلا وفيها التنبيه على حقارة الدنيا وأنها مجرد لعب, ولهو, ومتاع, وزينة, ونحوها من الألقاب, والجامع بين هذه الأوصاف كلها هو كونها "لذة مؤقتة".
ويكشف الوحي في مواضع متعددة عن قانون الانحراف في التاريخ, حيث يكاد القرآن أن يربط كل مظهر من مظاهر الخلل العقدي والأخلاقي به, ألا وهو "الانبهار بالمظاهر المادية" وتعظيمها وامتلاء القلب بالتعلق بها, وتأمل في واقع الناس اليوم وستجد دقة هذا الناموس القرآني, حيث تكاد أن تجد كل "ضلال فكري" أو "انحراف سلوكي" إنما منشؤه تعظيم الدنيا, كما في قوله تعالى:
{ كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:20-21]
ولذلك كثرت موازنة القرآن بين المنجز الدنيوي والمنجز الأخروي, كقوله تعالى:
{أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [القصص:61]
ويبين سبحانه أن هناك طريقين: طريق الإنجاز الدنيوي وطريق الإنجاز الأخروي, كما قال تعالى:
{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا} [الشورى:20]
وفي ثلاث آيات عجيبة من سورة الاسراء شرح سبحانه وتعالى معالم هذين الطريقين, فقال عن طريق الانجاز الدنيوي:
{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)}
ثم في الآية التي تليها وضح طريق الانجاز الأخروي فقال سبحانه:
{ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)}
ثم في الآية الثالثة عقب على المشهدين كليهما بهذا التعقيب البليغ:
{ كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)}
وفي لغة حاصرة يبين تعالى أن كل ما في هذه الحياة الدنيا إنما هو متاع وأن الموارد الحقيقية غير الناضبة إنما هي في الآخرة, كما قال تعالى:
{فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الشورى:36]
ويقول تعالى أيضاً:
{وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص:60]
وفي موضع آخر يصف الدنيا بأنها لعب ولهو في مقابل الحياة المستقبلية الحقيقية فيقول تعالى:
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [الأنعام:32]
وفي مشهد انتقاص من تلك الشخصيات التي امتلأت قلوبها فرحاً ولهجاً بالمنجزات والممتلكات المادية يقول تعالى:
{وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} [الرعد:26]
ويشير تعالى إلى أن كل هذه الممتلكات المادية سيودعها أصحابها مع أول خطوة في طريق الحياة المستقبلية فيقول تعالى:
{وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94]
ونظائر هذه المعاني في كلام الله وكلام رسوله لايكاد يحصيها العاد, ولاتخفى على مسلم ولله الحمد, وإنما أردنا الإشارة إلى شواهد من معانيها الكلية والقدر المشترك الذي تواردت عليه, أما أعيان أدلتها فلا سبيل إلى استيعابها أصلاً.
موقف النبوات من الحضارات:(57/131)
أرشيف التاريخ البشري حافل بالكثير من التجارب الحضارية والمدنية بحسب سياقها التاريخي, فالمدنية لا تقاس بما بعدها من تطورات بل بظرفها التاريخي والإطار المعرفي الحاكم للحظتها الزمنية, فالإبداع المدني حكم نسبي يكتسب وزنه من حجم المسافة التي يقطعها في لحظة تاريخيةٍ ما, وسواء كانت قراءتنا لتاريخ الحضارات قراءة خطية أم قراءة قطائعية فإنه سيظل السابق شرطاً للوجود التاريخي للاحق بشكل يكشفه التسلسل التراتبي للأسئلة وإجاباتها.
وبهذا الاعتبار فإن المؤرخين الموسوعيين سجلوا لحظات التراكم المدني في الحضارات السابقة, كالحضارة السومرية والإغريقية والرومانية والمصرية والفارسية والهندية والصينية وانتهاء بالحضارة الغربية الحديثة, ورصدوا ما فيها من الفلسفة والمنطق والفنون والعمارة والنقوش وغيرها.
ولا زالت بعض آثار تلك الحضارات وعجائبها شاخصة اليوم في المتاحف العالمية والمشاهد السياحية, بل إن بعض نظرياتها تدرس إلى اليوم في العلوم الحديثة أو هي كالمسلمات التحتية لنظريات أخرى, ولذلك لا تكاد تجد علماً من العلوم المعاصرة إلا ويدرس في المدخل إليه جذوره في الحضارات السابقة, وفتوحه الجوهرية التي أفضت إلى تطوره الحديث, ولا سيما الربط بالحضارة اليونانية لتميزها العقلي من جهة وللانحيازات الغربية إليها من جهة أخرى.
وفي الواقع أن بعض الشباب المسلم لازال يتساءل بحرقة: ما الموقف الشرعي المنشود إزاء الحضارة المعاصرة؟ وما الجواب الحاسم تجاه هذه الإشكالية؟
والحقيقة أن من تأمل وتدبر صادقاً متجرداً تعامل الأنبياء مع المنجزات الحضارية ومخزون العلوم والفنون المدنية في عصورهم انكشف له منهج التعامل الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى لنا في موقفنا تجاه الحضارة المعاصرة, وهذا الموضع تسكب عنده العبرات, وهو كافٍ بذاته للدلالة على المقصود, ويغني عن كل تفاصيل هذه المقالة برمتها.
ف صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس وفي عصره أربع إمبراطوريات اقتسمت العالم: الرومانية والفارسية والهندية والصينية, فالأولى امتدت لأوروبا والثانية حاضرة في الشرق الأدنى, والأخريان شبه معزولتين, وكانت معاهد العلوم فيها شامخة, فضلاً عن مخزون حضاري متراكم من الحضارة الإغريقية والمصرية.
بل إن العلوم المدنية قبيل مبعث صلى الله عليه وسلم بلغت شأواً عالياً في دقائق المعقولات كقوانين العقل الجوهرية كقانون الهوية والتناقض والثالث المرفوع, ونظرية الدولة وتقسيم أشكال اسناد السلطة, ودقائق الهندسة وحساب الدوال الرياضية, وفنون العمارة والمسرح والشعر والأدب, وأصول الطب, والمسافات الفلكية, وغيرها كثير وإنما هذه نماذج تكشف مستويات البحث المدني.
ومع ذلك كله فإن الله سبحانه وتعالى لما بعث نبيه في جزيرة العرب لم يبعثه ليقول للناس: يا معشر العرب أنتم تعانون من التخلف المدني ويجب عليكم أن تتجاوزوا جفوة عروبتكم وتتعلموا من الأمم المتقدمة, ولم يقل لهم: يجب عليكم أولاً أن تقفوا موقف التلميذ أمام علوم المنطق والطب والفلك والفلسفة ونحوها ثم تدعوا الناس, ولم يقل لهم: اعرفوا قدر أنفسكم أمام الحضارات الأخرى, ولم يقل لهم: يجب أن تشاركوا الأسرة الدولية في سعادة الجنس الإنساني عبر الإبداع الابستمولوجي!
بل إن الله أخبر نبيه بعكس ذلك تماماً, فقد أخبر نبيه عن القيمة المنحطة في ميزان الله لكل تلك المدنيات التي عاصرت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم , ووصفها القرآن بالضلال بكل ماتضمنته قوتهم وعلومهم وفنونهم ومدنيتهم, بل وأخبرنا تعالى أنه يبغضهم ويمقتهم ويكرههم سبحانه وتعالى, سواء كانوا أدباء العرب, أم فلاسفة أثينا, أم أطباء الصين, أم حكماء الهند, أم غيرهم.
كما روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث عياض المجاشعي أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته:
« إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم, عربهم وعجمهم, إلا بقايا من أهل الكتاب, وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك »
فمع كل مايوجد على هذه الأرض من العلوم المدنية والفلاسفة والأدباء فإنهم لا وزن لهم في ميزان الله سبحانه وتعالى سواء في ذلك عربهم وعجمهم, ولم يستثن إلا طائفة قليلة من الناس بسبب ما كان لديهم من بقايا النبوات وبعض من أثارة الوحي, فبقايا النبوات وما تضمنته من العلوم والمعارف الإلهية هي نوافذ التنوير الحقيقي في الأرض, وليس التنوير هو الإغراق الفلسفي والمدني, وشاهدُ هذه الخطبة النبوية في كتاب الله قوله تعالى:
{كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم:1]
فحَكم الله تعالى على كل البشرية قبيل مبعث صلى الله عليه وسلم بأنها في "ظلمات" وأن التنوير الذي تحتاجه هو "نور الوحي" كما يقول تعالى في موضع آخر:
{هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ} [الحديد:9]
وأكد تعالى في موضع آخر أن التوير الحقيقي هو نور الوحي كما قال تعالى:(57/132)
{ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ} [المائدة:16]
وسيبقى من أعرض عن هذا الوحي مرتكساً في ظلماته مهما أوتي من العلوم المدنية, كما قال تعالى:
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:39]
والى هذا التنوير المستمد من الوحي أشار الامام ابن تيمية في قوله:
(وعند المسلمين من "العلوم الإلهية" الموروثة عن خاتم المرسلين ماملأ العالم نورا وهدى) الفتاوى 2/84
فتأمل في خطبة صلى الله عليه وسلم السابقة كيف نفخ في أصحابه الشموخ بـ"العلوم الإلهية" فوق المدنيات الصغيرة بالنسبة لجلال المعرفة الإلهية, ونبه أصحابه إلى التنوير الحقيقي وهو نور الوحي, وربى أصحابه على أن تلك المجتمعات المتمدنة يحتاجونكم أضعاف ما تحتاجونهم, فهم إنما يملكون الوسائل وأنتم تعرفون الغايات, وشتان بين منزلة الوسيلة والغاية.
بل إن من طالع موسوعة "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" للمؤرخ العراقي الشهير جواد علي(1987م) والتي صنفها في زهاء عشرة مجلدات, ورأى ما كان في الجزيرة العربية من ألوان الآداب والفنون والحكمة العقلية ثم قارنها بتقييم القرآن لهذه "الحالة العربية" قبل البعثة فسيعلم يقيناً منزلة مظاهر الدنيا وعلومها وفنونها ومدنيتها في ميزان الله, فمع كل ما كشفته تلك الموسوعة التاريخية المذهلة من إبداع عقلي وأدبي عند العرب فإن الله سبحانه وتعالى يصف الواقع العربي بالضلال المبين كما يقول تعالى:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]
يصفهم بذلك برغم أن فيهم الأدباء والشعراء والخطباء والفروسية وأخلاقيات المروءة وكرم الضيافة, بل كان فيهم حكماء تناقل الناس حكمتهم إلى يومنا هذا كقس بن ساعدة وأكثم بن صيفي وغيرهم.
بل إن ما يراه العرب قامة الإبداع الفني وصاحب أهم الروائع الأدبية يصف صلى الله عليه وسلم بقوله:
« امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار » خرجه أحمد من حديث أبي هريرة.
وهذا الانتقاص والاستعلاء الشرعي على المنجزات الحضارية والفنية قبيل مبعث صلى الله عليه وسلم ليس ذماً لتلك المنجزات لذاتها, وإنما لأن أصحابها لم يتزكوا ويتنوروا بالوحي والعلوم الإلهية, فلم يصلوا إلى الرقي والسمو الحقيقي وهو مرتبة العبودية, وإنما بقوا في حضيض المنافسة الدنيوية.
فيالله العجب.. ما أتفه علوم الدنيا وقوتها في ميزان الله سبحانه وتعالى بالنسبة لمضامين الوحي.
والحقيقة أن هذا الموقف النبوي من أدق ما يبين أن الانتفاع بما لدى الغير لا يقتضي الانبهار بهم, وأن الذم لواقعهم لا يتعارض مع الاستفادة من الحكمة التي هي ضالة المؤمن, وسنحاول إيضاح ذلك في فقرة لاحقة.
والمقصود هاهنا أن من تأمل هذا الموضع ونظائره انكشف له منهج التعامل الذي يحبه الله ويريده من المسلم إزاء الحضارات الأخرى, وهذا المنهج بكل اختصار هو: أن ينتفع بما لديها مما يعزز غايته كما انتفع النبي وأصحابه, لكن لا يقع في تعظيمها والانبهار بها مع ضلالها عن الإسلام بل يعي تخلفها وانحطاطها وظلاميتها كما وعى ذلك النبي وأصحابه, وحاجتها للتنوير الحقيقي الذي لا يكون إلا بانشراح الصدر بهذا الإسلام كما قال تعالى:
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22]
بل إنه لاتخلو أمة من الأمم التي بعث الله إليها رسله من الإبداع الدنيوي في أحد فنون المدنية, ومع ذلك كله فقد بعث الله الأنبياء ليخرجوهم من الظلمات إلى النور, والقارئ للحظات النبوات في القرآن يشاهد دوماً كيف أن القرآن يصور الأمم بأنهم في الضلال والظلمات والانحطاط برغم قوتهم وإمكانياتهم ومظاهر المادية التي بيدهم, ويؤكد أنبياؤهم لهم حاجتهم إلى أنوار الوحي.
ومن دقق النظر في لحظات ومشاهد بعث الرسل والأنبياء إلى الأمم فإنه سيتضح له لازم خطير يلزم الرؤية التي أخذ بها غلاة الخطاب المدني, فإذا كانت "المدنية المادية" هي الأولوية الراقية فإن هذا يلزم عليه أن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل والأنبياء بالقضايا الهامشية والثانوية ولم يرسلهم بالشؤون العظيمة! فأي إزراء بالرسل أكثر من ذلك؟!
والواقع أنه إذا كان أحكم الحاكمين إنما اصطفى هؤلاء الرسل والأنبياء وفضلهم على العالمين وجعلهم نماذج السمو والشرف فوق الإنسانية جمعاء فإن هذا يقتضي أنه أرسلهم بأهم المطالب, وأن أهم المطالب إنما تستخلص من مشروعاتهم التغييرية.
وهذا اللازم الخطير يتفاوت غلاة المدنية في موقفهم تجاهه, فبعضهم لايتفطن له أصلاً, وهذا كثير في من يطلق أقوالاً لايتفطن للوازمها, وقد أشار المحققون إلى كثير من ذلك, كما قال الإمام ابن تيمية:
(الشعور مراتب, وقد يشعر الإنسان بالشيء ولا يشعر بغالب لوازمه, ثم قد يشعر ببعض اللوازم دون بعض) درء التعارض 10/121(57/133)
وبعضهم قد يتفطن لهذا اللازم لكنه يتأوله ويحاول أن يجد له المخارج, كما قال الإمام ابن تيمية:
(يجوز أن يلزم قوله لوازم لا يتفطن للزومها, ولو تفطن لكان إما أن يلتزمها, أو لا يلتزمها بل يرجع عن الملزوم, أو لا يرجع عنه ويعتقد أنها غير لوازم) الفتاوى 35/288
فبعضهم إذا تفطن لهذا اللازم يتأوله فيقول إن الأنبياء "حالة خاصة" لايجوز القياس عليها, أو أن الأنبياء مسددون من الله بخلافنا نحن, أو أن الأنبياء لهم ظروفهم التاريخية ونحو هذه التسويغات, فهذا يسد باب الاقتداء من أصله, ويلغي وظيفة النبوة أصلاً, بل مؤداه أنه لامعنى لقراءة سيرة صلى الله عليه وسلم ولاثمرة من تتبع أحواله, مع أن الله تعالى يقول عن الأنبياء:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]
وبعض غلاة المدنية يتفطن لهذا اللازم ويلتزمه -نسأل الله العافية- فيشير في ثنايا عباراته إلى أن البشرية لم تأت بشئ قبل هذه الحضارة المعاصرة, وأن الناس كانوا في ظلام وتخلف وانحطاط وهمجية وأساطير قبل هذا النموذج الإنساني الفريد, وأن المصلحين قبل هذه المعجزة الحضارية المعاصرة لم ينجحوا في صناعة الحياة الراقية المستنيرة كما نشاهد اليوم.
ومن تأمل أمثال هذه المقالات والأفكار تأكد له أن "الغلو المدني ينبوع الانحراف الثقافي", وأن المغالاة في قضية الحضارة المادية هي المسؤول الأول عن هذا الخلل الكارثي.
الافتتان بالقوة المادية لخصوم الرسل:
كاد أن يكون جوهر الصراع القرآني أساساً بين "المظاهر المادية" و "المبدأ الديني" أو ما يسميه القرآن الدنيا/الآخرة, ومن أشد مايفتن الناس عن حقائق الوحي أنه يغلب على الرسل وأتباعهم من العاملين للدين المشغوفين بتبليغ هذا الوحي أنهم لا يملكون مظاهر القوة المادية الباذخة التي يتمتع بالاستحواذ على مفاصلها غير المسلمين.
وهذا "قانون تاريخي" وسنة كونية متكررة لاينتهي العجب من تأمل أرشيفها الطاعن في العمر, فجمهور المبلغين عن الله منذ فجر النبوات وحتى لحظة العمل الإسلامي المعاصر يواجهون دوماً "قوى مادية" تفوقهم وتفتن الناس عن اتباع الوحي الذي معهم, إذ لو كان الأنبياء وأتباعهم يتمتعون بالموارد المادية والميزانيات الضخمة لما تخلف عن مساجدهم فرد واحد.
تأمل في تجارب الأنبياء وما انطوت عليه من الخبرات الدعوية ستجدها تكاد أن تكون جميعاً تمثالاً ناطقاً للصراع بين داعي "الوحي الإلهي" و فتنة "القوة المادية", وستجد افتتان الناس بالقوة المادية يخلب ألبابهم ويعشي أبصارهم ويصرفهم عن الانصياع والاستسلام للوحي, وستجد العاملين للدين يعانون الأمرَّين من افتتان الناس بالمظاهر المادية.
فالرسول الأول نوح عليه السلام قال له قومه بكل صراحة مادية:
{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ, وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} [هود:27]
واستمر هذا الاحساس حاضراً في مشاعرهم تجاه المؤمنين بالوحي حتى تحولت عندهم إلى حجة وبرهان يتعللون به كما قال تعالى عنهم في سورة الشعراء:
{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111]
وما إن أقلعت السماء وغيض الماء وطوى النسيان أجيال نوح إلا وكانت "عاد الأولى" قد استلمت زمام الخلافة في الأرض كما قال تعالى عنهم:
{وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف:69]
فعمروا جنوب الجزيرة العربية في منطقة الأحقاف وإرم, وكانوا يتمتعون بقوة مادية مذهلة فكانت لهم بنية جسدية استثنائية, وكثافة سكانية, مكنتهم من الترف المعيشي وفنون العمارة, والانفراد بالجبروت العسكري على العالم, وهذه القوة المادية ورطتهم في الغرور وصرفتهم عن الإيمان بلقاء الله والاستسلام للوحي, كما يحكي تعالى عن قوتهم الجسدية في سورة الأعراف:
{وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ, وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف:69]
ويؤكد تعالى بنيتهم الجسدية الاستثنائية في سورة الفجر:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ, إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ, الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [6-8]
ويصف القرآن قصورهم ومنشآتهم الضخمة وبطشهم العسكري في سورة الشعراء فيقول سبحانه:
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ, وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ, وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [128-130]
هذه المظاهر المادية حجبت عيونهم بعصابة الزهو, حتى تساءلوا أمام نبي الله ذلك السؤال المنتفش بالغرور المجوف فقالوا بكل غطرسة سياسية: "من أشد منا قوة؟"
كما حكى الله سبحانه مقالتهم هذه:
{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ , وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟} [فصلت:15]
بالله عليك.. أعد التأمل في تساؤلهم المغرور "من أشد منا قوة؟"
ثم انظر إلى جواب جبار السموات والأرض بعظمته الإلهية إذ يرد عليهم قائلاً سبحانه:(57/134)
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً!}
إمكانياتهم المادية طاشت بهم فوق طواويس الغرور, فألقو رزانة الإيمان وكذبوا بلقاء الله بكل بجاحة, وقالوا مستهترين:
{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ , هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون:35-36]
وكانت "الطبقة المترفة" في قوم عاد -كما هو قانون التاريخ- أشد المعارضين لدعوة الوحي, كما قال تعالى عنهم في سورة المؤمنون:
{وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون:33]
ولم تغرب شمس عاد في كارثة أعاصيرها المعروفة التي دامت أسبوعاً إلا وكانت حضارة المدائن في الحجر شمال الجزيرة العربية قد بزغت وأعادت مسلسل الغرور بمظاهر القوة المدنية المادية.
فقد تمتعت ثمود أيضاً بالخلافة في الأرض بعد قوم عاد, وأوغلوا هم أيضاً في فنون النحت والعمارة, وبعض آثارهم الباقية اليوم شاهدة بما غاب من مدنيتهم, وقد قال تعالى عن خلافتهم وقصورهم:
{وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ, وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا, وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف:74]
وقال تعالى في سورة الشعراء واصفاً رفاههم ونحتهم:
{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ, فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ, وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ, وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء:146-149]
وكان إبداعهم في نحت الجبال يوفر لهم استقراراً أمنياً كما أشار تعالى في سورة الحجر بقوله:
{وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} [الحجر:82]
وقال تعالى مشيراً إلى عمارتهم للدنيا:
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]
فغرتهم إمكانياتهم المادية, وتفوقهم المدني على مجايليهم, ونظروا بمعيار المظاهر, فجحدوا الوحي الذي أتى به نبي الله صالح عليه السلام, واستنكروا أصلاً أن يختص من لم يتميز بمظهر مادي بالوحي والنبوة, كما قال تعالى في سورة القمر:
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ, فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ, أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر:23-25]
ولكن.. وكما هي السنة الكونية وقانون التاريخ, فقد كان المتبنون لمضايقة نبي الله صالح هم الكبراء وأصحاب المظاهر المادية, وكان أنصاره ضعفاء الناس, كما ينقل الله لنا هذا الحوار في سورة الأعراف:
{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ, قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون} [الأعراف:75-76]
وبمناسبة الحديث عن الامكانيات المادية لعاد وثمود أتذكر ملاحظة مبدعة لعلامة التأريخ "ابن خلدون" ذكرها في مقدمته حيث يقول:
(مباني الدولة وهياكلها العظيمة إنما تكون على نسبة قوة الدولة في أصلها، لأنها لا تتم إلا بكثرة الفعلة واجتماع الأيدي على العمل والتعاون فيه, فإذا كانت الدولة عظيمة فسيحة الجوانب, كثيرة الممالك والرعايا، كان الفعلة كثيرين جداً, وحشروا من آفاق الدولة وأقطارها، فتم العمل على أعظم هياكله, ألا ترى إلى مصانع قوم عاد وثمود, وما قصه القرآن عنهما, وانظر بالمشاهدة إيوان كسرى وما اقتدر فيه الفرس, حتى إنه عزم الرشيد على هدمه وتخريبه فتكاءد عنه، وشرع فيه ثم أدركه العجز، فانظر كيف تقتدر دولة على بناء لا تستطيع أخرى على هدمه, مع بون ما بين الهدم والبناء في السهولة)
على أية حال.. ما إن نعق غراب الجزيرة العربية فوق خرائب عاد وثمود بكل مظاهر قوتيهما, إلا وكان نبي الله موسى بين أهرام مصر يواجه هذه المرة "الحضارة الفرعونية" بكامل وزنها التاريخي وإمكانياتها الإمبراطورية, ليتكرر من جديد مسلسل طغيان القوة المدنية وغرورها أمام الوحي.
تربع فرعون فوق "المكتب البيضاوي" لإدارة العالم كما صور ذلك الداخل الملكي بقوله تعالى في سورة غافر:
{يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ} [غافر:29]
وتباهى فرعون عالياً بإمكانياته السياسية كما قال تعالى عنه في سورة الزخرف:
{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:51](57/135)
ولاينقضي العجب من عمق فهم نبي الله موسى وملاحظته كيف فتنت الحضارة الفرعونية وقوتها المدنية الناس, وكيف صرفتهم عن الاستسلام للوحي تلك المقاييس المادية المركوزة في النفوس البشرية, فيعبر كليم الله موسى عن هذا القانون التاريخي لأعظم تحدٍّ يواجه الدعوات كما في قوله تعالى:
{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} [يونس:88]
وحين أرسل الله موسى إلى المجتمع المصري المتقدم لم يقل له أيقظ قومك ليستفيدوا من الحضارة المصرية, بل أرسله لينورهم بالوحي من ظلمات حضارتهم, كما قال تعالى:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ} [إبراهيم:5]
بل إن الله سبحانه وتعالى -طبقاً لميزانه سبحانه- فضل بني اسرائيل بما معهم من العلوم الإلهية على الفراعنة بما معهم من الحضارة, كما قال تعالى:
{ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلنهم على العالمين} [الجاثية:16]
فاذا تأمل القارئ هذا الموضع وكيف كان سبب تفضيل بني إسرائيل أنوار النبوة والكتاب, وكيف لم تفلح حضارة الفراعنة في إخراجهم من الظلمات, استبان له "الميزان الإلهي" لتقييم المجتمعات والثقافات والشخصيات والحضارات والمدنيات, وميزان المسلم تبع لميزان الله جل وعلا.
ولم يكن الحال جديداً بالنسبة لنبينا صلى الله عليه وسلم فقد كان الجاحدون لنبوته والوحي الذي معه يتعلقون في الإعراض عنه بضعفه المادي, وأنه لا يتمتع بمظاهر القوة والرفاه كما يتمتع بها بعض اللامعين في منطقة الحجاز, ورأوا أنه لا يليق الخضوع لنبي إلا إن كان من أشراف الطبقة الارستقراطية في عاصمتي الحجاز وهما مكة والطائف كما قال تعالى عنهم في سورة الزخرف:
{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]
يعنون بالرجلين الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي.
وبكل صراحة ووضوح واجهوه بأنه لا يملك "ثروة مادية" يستحق بها أن يتبعوه كما ساق تعالى احتجاجهم في سورة الفرقان بقولهم:
{أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ , أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان:8]
وبعد هذه الآية مباشرة يعقب سبحانه وتعالى على هذا الاحتجاج المادي الرخيص بكونه لايعجزه سبحانه ذلك ولكنه أراد اختبارهم وامتحانهم فقال سبحانه وتعالى:
{تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا} [الفرقان:10]
ولكن الله سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن ينبه نبيه ويحذره أن لا يفتتن بتعلقهم بالماديات, ويعيد تذكير نبيه بالقانون التاريخي للدعوات وهو الصراع بين الوحي والمادة, وتحدي الإيمان للمظاهر المدنية, كما قال سبحانه في سورة هود:
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} [هود:12]
بل ولقن الله سبحانه نبيه محمداً أن يقول لقريش بكل صراحة ووضوح أنه لايملك القوة المادية والكنوز والخزائن التي هي معيارهم ومقياسهم, وإنما هو داعية إلى الوحي, كما قال تعالى لنبيه:
{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ, وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ, وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ, إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50]
فانظر كيف فتنوا عن اتباع النبي بكونه لايملك مظاهر مادية يستحق بها الخضوع, بل انظر ما هو أعجب من ذلك وهو أن يكون هذا هو جوهر الاختبار الإلهي لهم وهو الانخلاع من التعلق بالماديات والانصياع للوحي, ولذلك نبه الله نبيه ألا يضيق صدره ببعض الوحي نتيجة كونه لا يملك المظاهر المادية التي هي معيارهم في الانقياد, وأن الله سبحانه لن يجيبهم إلى ما طلبوا فيما وضعوه من مقاييس مادية للاتباع, فإما أن يختاروا طريق الوحي أو طريق المادة!
والحقيقة أن صلى الله عليه وسلم لو كان يتربع على عرش القوة والإمكانيات لما تخلف من خصومه أحد, لا للحق الأخروي الذي معه ولكن للقوة الدنيوية التي بيديه, وأي معنى لاختبار وامتحان وابتلاء في اتباع القوي المسيطر؟
ولذلك لما كان نبي الله سليمان عليه السلام "ملكاً" في الأرض بيده كل أدوات النفوذ لم يتخلف عن الإيمان به أحد لا من الجن ولا من الانس بل كانوا طوع إشارته وأمره, ولذلك لما تلكأت بلقيس ملكة سبأ في الخضوع وأرادت أن تصانعه بالهدايا الضخمة في قولها:
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]
هددها نبي الله سليمان بتسيير ألوية الجيوش الجرارة كما يقول عليه السلام:
{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُم بِهَا} [النمل:37]
فجاءته وقد خلبتها الدهشة من روعة المنشآت الزجاجية التي رأتها فاستسلمت لنبي الله كما يحكي الله سبحانه وتعالى:(57/136)
{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44]
هذا القانون التاريخي للرسالات السماوية -وهو افتتان الناس بالمظاهر المادية لخصوم الرسل- يعرفه كل من شدا طرفاً من "تاريخ النبوات", فدعاة الوحي غالباً في ضعف مادي وليس في صفهم إلا ضعفاء الناس, بينما اللامعون والكبراء وأصحاب النفوذ يضايقونهم.
ولذلك لما كان هرقل مطلعاً على "تاريخ النبوات" سأل سؤالاً ذا دلالة بليغة وعقب عليه بتعليق أذكى وأدهى, فكما في الصحيحين أن هرقل قال لأبي سفيان:
(وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه, وهم أتباع الرسل)
دلالة جدلية المدنية/الخيرية:
القارئ للتاريخ الإسلامي المبكر يلاحظ أن "البعد المدني" بدأ في التصاعد حتى بلغ ذروته في أواسط تاريخ الإسلام, فعصر صلى الله عليه وسلم كان عصراً يتميز بالبساطة والمحدودية المدنية, وقد كان صلى الله عليه وسلم يقلق على أصحابه أن يكون فارق الإمكانيات المادية بين المجتمع المسلم والكافر مثار شبهة على إيمانهم, وفي تلك القصة التي نقلها عمر بن الخطاب عن الأثاث الداخلي لبيت صلى الله عليه وسلم وموقف عمر منه ورد فعل صلى الله عليه وسلم تجاه ذلك دلالات بليغة في رسم المشهد, حيث روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب أنه قال:
(رفعت رأسي في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أُهباً ثلاثة, فلما رأيت أثر الحصير في جنبه قلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله, فاستوى النبي جالسا ثم قال: « أفي شك أنت يا بن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا »)
وما إن انتهى عصر النبوة وبدأ عصر الخلافة الراشدة إلا وفتحت الفتوح ومصرت الأمصار وانهالت الأموال وازداد تنظيم الدولة الإسلامية واستحداث الأجهزة الادارية كالدواوين والعشور والعطاء ونحوها.
وبعد عصر الخلافة الراشدة وتدشين الملك الأموي والملك العباسي انفجرت المعارف والعلوم العقلية والفلسفية والتجريبية, وازدهرت حركة الترجمة وبنيت لها المعاهد المتخصصة, وتنافست المؤسسات السياسية في اقتناء الكتب وعقد مجالس العلوم والمناظرات وتقريب المبدعين, وصنفت الموسوعات الكبرى في شتى الفنون والتي لا زالت مرجعاً إلى اليوم.
وهكذا فإن القارئ لتاريخ الإسلام المبكر يلاحظ كيف كان التقدم المدني يزداد مع تقدم التاريخ, فالملك العباسي أكثر تمدناً مادياً من الملك الأموي, والملك الأموي أكثر تمدناً مادياً من عصر الخلافة الراشدة, وعصر الخلافة الراشدة أكثر تمدناً مادياً من عصر النبوة.
فإذا جئنا نقارن هذه الصورة المتنامية في قيمتها المدنية -بحسب الواقع التاريخي- بالقيمة الدينية -بحسب الميزان الشرعي- وجدنا أن هذه المعادلة التاريخية بعكس الميزان الشرعي تماماً, فهناك تناقض جدلي بين معدل المدنية ومعدل الخيرية, فبينما الخط البياني لمنسوب المدنية يتصاعد فإن الخط البياني لمنسوب الخيرية يتناقص.
وتراجع الخيرية كمعطى يدخل في "محكمات الشريعة" حيث ثبت عن صلى الله عليه وسلم ثبوتاً قطعياً لايتطرق اليه الظن وليس من مسائل الاجتهاد, فقد ذكر غير وحد من أئمة المتخصصين في فن الحديث -كابن حجر والسيوطي وغيرهم- أن حديث "خير الناس قرني" حديث متواتر, حيث رواه عن صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر صحابياً وتناقله عن كل منهم جمع, وقد نص على ذلك المتأخرون الذين أفردوا أعيان الأحاديث المتواترة بتصنيف خاص, وقد خرج جملة من مرويات هذا الحديث البخاري ومسلم, بل أصول دواوين السنة كلها قد خرجت طرفاً من هذه الأحاديث, ومن ذلك مارواه الشيخان أن صلى الله عليه وسلم قال:
« خيرُ أُمتي القرنُ الذي بعثتُ فيه، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يَلونهم »
وفي الصحيح أيضاً عن عائشة قالت : سأل رجل النبيَّ: أيُّ الناس خير؟ فقال صلى الله عليه وسلم
« القرنُ الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث »
وهذا المعنى الدال على تراجع الخيرية في تلك المرحلة التاريخية ليس متوقفاً أصلاً على هذا الحديث المتواتر, بل هو قدر مشترك بين شواهد شرعية كثيرة ومستفيضة, كما روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً).
ومن ذلك أيضاً ماروى مسلم في صحيحه عن أبي بردة عن أبيه قال:(57/137)
صلينا المغرب مع رسول الله ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء, قال: فجلسنا فخرج علينا فقال (ما زلتم هاهنا؟) قلنا: يارسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء, قال:(أحسنتم أو أصبتم) قال: فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا مما يرفع رأسه إلى السماء فقال: (النجوم أمنة للسماء, فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد, وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون, وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)
فجعل صلى الله عليه وسلم لحظة وجوده صمام أمان للمجتمع ينقص المجتمع بفقده, وجعل الصحابة من بعده صمام أمان للتابعين فإذا ذهب الصحابة نقص المجتمع بفقدهم, وشبه ذلك كله بكون بقاء النجوم أمان للسماء فإذا انكدرت النجوم كما يكون ذلك في الانقلابات الكونية الكبرى التي تسبق القيامة فإن السماء تكون قد انفطرت وانشقت كما جاء في سورة التكوير والانفطار والانشقاق وغيرها.
وقد كشف صلى الله عليه وسلم الأثر الذي تورثه هذه القرون المفضلة في البركة والنصر والظفر على حسب فضلها, كما روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري وجابر وغيرهم أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال :
(يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس, فيقال لهم: فيكم من رأى رسول ا صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون نعم, فيفتح لهم به, ثم يغزو فئام من الناس, فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول ا صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون نعم, فيفتح لهم به, ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول ا صلى الله عليه وسلم فيقولون: نعم فيفتح لهم به)
ولولا أن لتلك القرون مزيةً وفضلاً في نفسها لما كان مجرد الانتساب إليها سبباً في البركة وتحقيق النصر.
والشاهد من ذلك كله أن البرهان التاريخي قد أثبت لنا أن المدنية تتصاعد, والبرهان الشرعي قد أثبت لنا أن الخيرية تتناقص, وهذه المعادلة الدقيقة من أعظم البراهين على أن الحضارة والمدنية المادية ليست هي المقياس الإلهي لقيمة المجتمعات والأمم, إذ لو كانت الحضارة -بمعناها الشائع- هي المقصد الأساسي للشريعة لكان العصر العباسي الذي ازدهرت فيه العلوم العقلية والتجريبية أفضل من عصر الصحابة, ولكان عصر الصحابة الذي توسعت فيه الدولة ونظمها خير من عصر النبوة التي كانت فيها حياة محمد وخاصةِ أصحابِه قوتاً كفافاً.
وبعض غلاة المدنية يصرح ويقول: بأن عصر المأمون العباسي أرقى وأفضل من عصر أبي بكر الذي تم فيه الاستيلاء على السلطة في حادثة السقيفة, وهذا التفضيل المصادم للوحي انعكاس للمغالاة في قيمة الحضارة المادية والزهد في مضامين العلوم الالهية, وهو مما يؤكد أن "الغلو المدني ينبوع الانحراف الثقافي" كما سبقت الاشارة.
يهمنا التذكير هاهنا بأن هذه المعادلة التي أشرنا إليها لا نعني أنها قانون كوني مطرد, بمعنى أنه ليس كل تطور مدني ينبني عليه تراجع شرعي, بل هي واقعة عين تاريخية أردنا استكشاف دلالاتها, والدرس الجوهري فيها بالنسبة لنا هو أنه طبقاً لتصوراتنا الإسلامية الخاصة فإن الخيرية مرتبطة بالجوهر الإيماني والأخلاقي, وليس المظاهر المدنية والمادية.
التعلق بآية العمارة والاستخلاف:
بعض غلاة المدنية حين يتحدثون عن أولوية المدنية والحضارة المادية يستدلون كثيراً بآيتي العمارة والاستخلاف, ويعولون عليهما كثيراً في تأسيس رؤيتهم, فيستدلون بقوله تعالى:
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]
وبعضهم يستدل بقوله تعالى:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]
والواقع أن الخلل في هذا الاستدلال ناشئ عن تغييب عدة معطيات, منها:
1. أن معنى قوله تعالى في الآية "واستعمركم فيها" أي جعلكم عُمَّاراً في الأرض, فمعنى العمارة هاهنا لم يأت على أساس كونه مطلب شرعي, بل غاية ما فيه أنه جاء على أساس كونه نعمة كونية تستحق مقابلتها بالعبودية, وهذا معنى ظاهر في الآية لا يحتاج إلى كبير عناء لفهمه, فقد جاء في سياق الامتنان لا في سياق الحث والطلب, فنبيهم يأمرهم بالتوحيد مذكراً لهم بأن الله تعالى خلقهم من هذه الأرض وجعلهم يعمرونها, فأين هذا المعنى من كل ما بنى عليه غلاة المدنية من الدلالات والتهويلات.
ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى "واستعمركم فيها" إنما وردت في قوم ثمود في مدائن الحجر بين تبوك والمدينة, وقوم ثمود لم يقصروا أصلاً في العمارة المادية, ومع ذلك عاقبهم الله بكارثة مرعبة قص الله خبرها في كتابه.
2. أنه على التسليم بأن العمارة في الآية السابقة جاءت بمعنى الطلب, فإن العمارة في كتاب الله نوعان: عمارة إيمانية وعمارة مادية, وكلاهما مطلوبان, ولكن أشرف هذين النوعين -بل هو الذي جاء مصرحاً بطلبه- إنما هو عمارة الأرض بالإيمان, كما قال تعالى:(57/138)
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]
فهذه هي أشرف مراتب العمارة, والتي حرم منها من لم يستنيروا بنور النبوات كما قال تعالى:
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة:17]
فمن لم يعمر الأرض بالإيمان فلا زال في ظلمات وتيه وانحطاط ولم يبلغ التنوير الحقيقي.
ومما يبين هذا ويوضحه أن العمارة ضدها "الخراب", وقد بين تعالى أن أقبح أنواع الخراب هو خراب الأرض من الإيمان, كما قال تعالى:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114]
3.أن الله تعالى ضرب لنا المثل بأمم كثيرة أبدعت في "العمارة المادية" ومع ذلك عرض الله تعالى أخبارها في سياق الذم لما أفلست في "العمارة الإيمانية" كما قال تعالى:
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9]
والمتأمل في الحضارة المعاصرة اليوم يجد هذه الصورة حية جذلة، فقد تفننت في العمارة المادية وأفلست في العمارة الإيمانية.
4.أنه لو فرض أن لفظ "العمارة" في هذه الآية دال على الحث على المدنية والحضارة, فإن هرم الأولويات وسلم القيم في الشريعة لا يستمد من آية واحدة صريحة, وإنما يستمد من مجموع استيعاب تصرفات الشارع وخلاصة توازنات النصوص, فكيف وهذه الآية أصلاً آية محتملة الدلالة ويقابلها مئات المحكمات الدالة على أولوية الإيمان والفرائض والفضيلة وأنها هي النور الحقيقي والعمارة الشريفة وأن كل ما سواها من الدنيا إنما هي مجرد وسائل.
وأما "آية الاستخلاف" فإن كثيراً من غلاة المدنية يستشهدون بقوله تعالى (إني جاعل في الأرض خليفة) على مفهوم "خلافة الانسان", فيشيرون دوماً الى أن الله تعالى جعل "آدم" خليفة عنه في الأرض, والذي يعني نيابة الانسان عن الله في عمارة الأرض, والمتأمل في دلالات هذه الخلافة في سياق الخطاب المدني يجدهم يستشهدون بهذه الآية في سياقين, أولهما: أولوية العمارة, وثانيهما: مركزية الانسان.
والواقع أن هذا الاستدلال بهذه الآية غيب عدة معطيات جوهرية سنشير لبعضها:
1-أن الراجح في تفسير معنى "الخليفة" في هذه الآية ليس كون آدم خليفة ينوب عن الله, وإنما معناه "خلافة الآدميين بعضهم بعضاً" بمعنى أن جنس الآدميين يتداولون الخلافة ووراثة الأرض, وقد أكد هذا الترجيح كثير من المحققين.
والحيثيات التي تبرهن رجحان هذه الفهم متعددة تتبين بتأمل سياق هذه الآية ذاتها, وباستيعاب مجمل نصوص الشارع واستخلاص مراده من مفهوم "خلافة الآدميين".
فمن هذه الحيثيات التي تؤكد هذا التفسير: أن الخلافة والنيابة لاتكون إلا عن "غائب" والله سبحانه وتعالى ليس بغائب بل هو شهيد رقيب وهذا مقتضى قيوميته سبحانه وتعالى, فلاخليفة عنه سبحانه ولانائب يقوم مقامه جل وعلا, وقد أشار الحق تبارك وتعالى الى ذلك بقوله سبحانه:
{وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } الآية [يونس: 61]
وقال سبحانه وتعالى:
(مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [المجادلة : 7]
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه قرب الله منهم وشهوده وعدم غيابه وأثر ذلك على السلوك التعبدي كما في الصحيحين أن صلى الله عليه وسلم قال:
(أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لاتدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)
ولذلك قال الامام ابن تيمية:
(والله لا يجوز له خليفة.., والخليفة أنما يكون عند عدم المستخلف, بموت أو غيبة, ويكون لحاجة المستخلف إلى الاستخلاف, وسمي خليفة لأنه خلف عن الغزو, وهو قائم خلفه, وكل هذه المعانى منتفية في حق الله تعالى, وهو منزه عنها)الفتاوى 35/45
فإذا كان الله سبحانه شهيداً رقيباً ليس بغائب فلايكون غيره خليفة عنه إذ الخلافة لاتكون إلا عن غائب, وقد دل على استعمال الخليفة عن الغائب كثير من النصوص كقوله تعالى:
{ وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142] .
فأمره أن يخلفه بعد غيابه, وكذلك قوله تعالى:
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} [الفتح: 15]
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة أن صلى الله عليه وسلم قال:
(كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي)
فالنبي الذي يخلف نبياً آخر لايكون الا بعد هلاك الأول وغيابه, صلى الله عليهم وسلم.(57/139)
وفي صحيح مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال:
(من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا, ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)
فجعل القيام بشؤون أسرة المجاهد خلافة بسبب غياب المجاهد.
وقد كان من هدي صلى الله عليه وسلم إذا غاب عن المدينة إما لجهاد أو حج ونحوه فإنه يستخلف على المدينة, كما استخلف ابن أم مكتوم وعلى بن أبى طالب وغيرهم, وهذا بسبب غيابه, فإذا حضر r زال وصف الخلافة عن خليفته لزوال سببها وهو الغياب.
بل إن النصوص الشرعية أثبتت عكس المعنى المرجوح تماماً, فأثبتت أن الله سبحانه وتعالى هو الخليفة الذي يخلف الانسان في غيبته, لا أن الانسان هو الذي يخلف ربه, حيث روى الامام مسلم من حديث ابن عمر أن صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر قال:
(اللهم أنت الصاحب في السفر, والخليفة في الأهل).
وهذا الفهم للآية يسنده تتبع الآيات الأخرى التي استخدمت مفهوم "الخليفة" إذ القرآن الذي هو كلام الله يفسر بعضه بعضاً, وكثيراً ماتكون الدلالات المجملة في موضع معين تكشفها الدلالات المبينة في موضع آخر, وهذا المعنى وهو كون "جنس الآدميين يخلف بعضهم بعضاً" مبثوث شائع في كتاب الله في مواضع كثيرة منها قوله تعالى:
{ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف : 129] .
فكانت هذه الخلافة بعد هلاك من قبلهم, ومثل هذا المعنى قوله تعالى:
(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ)
والمتأمل في جمهور آيات "خلافة الانسان" يجدها تشير الى معنى "البعدية" أو التعاقب, بحيث أن هذه الخلافة كانت بعد من سبق من الناس, فهي تشير الى تداول الخلافة بين بني آدم لا الخلافة عن الله, وسنشير الى بعض نماذج الآيات التي دلت على مفهوم "تداول الخلافة" والتعاقب عليها, فمن ذلك قوله تعالى:
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ} [يونس: 14].
ومثله قوله تعالى:
{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [مريم: 59].
ومثله قوله سبحانه وتعالى:
(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}
ومثله قوله سبحانه:
{ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ)
فهذه الآيات كلها تشير الى معنى البعدية الدال على مفهوم التعاقب.
وكذلك قال سبحانه وتعالى:
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ } [الأنعام: 165]
وقال سبحانه وتعالى:
{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [النمل: 62].
فهذه الشواهد المبينة من الوحي تكشف الدلالة المجملة في قوله تعالى "إني جاعل في الأرض خليفة" وأن المراد تداول الخلافة والتعاقب عليها بين جنس الآدميين, لا الخلافة عن الله سبحانه وتعالى.
ثم إن مما يؤكد أن معنى "خليفة" هاهنا كان الالتفات فيه الى جنس الآدميين وليس مجرد آدم عليه السلام, أنه لو كان المراد "آدم" لما صح أن تقول الملائكة:
{قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]
ذلك أن آدم عليه السلام ليس بمفسد في الأرض ولايسفك الدماء, فتبين أنهم عنوا جنس الآدميين.
والحقيقة أن من أكثر ماشوش على بعض متأخري المفسرين في فهم دلالة "خليفة" هو ورودها بصيغة المفرد, بينما الخلائف بصيغة الجمع, والواقع أن اللفظ المفرد إذا كان "اسم جنس" فإنه يكثر اطلاقه في كلام العرب مع أن المراد به الجمع, وهو نمط أسلوبي مطروق استعمله القرآن في غير موضع.
ومن ذلك أن الله تعالى لما ذكر نعيم الجنة قال سبحانه "في جنات ونهر" فذكر النهر بصيغة الاسم المفرد مع أن المراد به الجمع, فلايجوز الاستدلال بهذه الآية مثلاً على أنه ليس في القرآن الا نهر واحد, وذلك لقوله تعالى(فيها أنهار من ماء غير آسن)
2-أنه على التسليم بصحة القول المرجوح الذي اختاره بعض متأخري المفسرين وهو أن معنى "خليفة" هاهنا أي "خليفة عن الله" فإن هؤلاء المفسرين الذين مالوا الى هذا القول المرجوح لم يجعلوا مضمون هذه الخلافة هي عمارة الأرض مادياً, بل جعلوا مضمون هذه الخلافة "إقامة دين الله" كما قال البغوي مثلاً:
(والصحيح أنه خليفة الله في أرضه: لإقامة أحكامه وتنفيذ قضاياه)
والخلافة في تنفيذ أوامر الله واقامة أحكامه مؤداها أن معنى الخلافة هاهنا آل إلى معنى العمارة الايمانية, لامعنى العمارة المادية, فلاجديد في هذه الدلالة.
وبكل اختصار فان احتمالات الدلالة في هذه الآية ثلاث دلالات -وليعذرنا القارئ على الدخول في تفصيلات فنية اضطررنا اليها بسبب كثرة استدلال غلاة المدنية بهذه الآية- وهذه الدلالات الثلاث هي:
إما أن يكون "خليفة" على وزن فعيلة بمعنى مفعول, أي مخلوف, فيكون جنس بني آدم يخلف بعضهم بعضاً, وهذا هو الفهم الراجح لللآية.
وإما أن يكون "خليفة" على وزن فعيلة بمعنى فاعل, أي خالف لمن قبله, فيكون آدم قد خلف خلقاً سكنوا الأرض قبله, كما ذهب اليه طائفة من السلف.
أو يكون خليفة عن الله أي نائباً عنه في إقامة حكم الله.(57/140)
فعلى كل هذه الاحتمالات الثلاث لللآية -راجحها ومرجوحها-فإنها لاتدل على ماركبه عليها غلاة المدنية من دلالات حول مركزية العمارة المادية وغائية الحضارة وكونها جوهر وظيفة الانسان.
3-أما الاستدلال بهذه الآية على "تكريم جنس الانسان" باعتباره خليفة الله بغض النظر عن هويته الدينية وعبوديته, فهذه مصادمة لمعطيات الوحي.
فإن خلافة الانسان -سواء كان المعنى خلافة الآدميين بعضهم أم خلافة الانسان عن الله- ليس لها الشرف المطلق كما يتصور غلاة المدنية, بل شرفها ورفعتها مرتبط بتحقيق العبودية, فأما إذا أعرض الانسان عن الوحي فانه يسلب شرف هذه الخلافة, ولذلك قال تعالى مبيناً دور الاعراض عن الوحي في سلب شرف الخلافة:
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا}
وذكر الله سبحانه شيئاً من أخبار التاريخ وكيف كان سبحانه يسلب الأمة شرف الخلافة في الأرض اذا أعرضت عن النبوات والوحي, ويمنحه أمة أخرى كما قال تعالى:
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ, ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}
فبينت هذه الآية جوهر وظيفة الاستخلاف وهي الابتلاء بالايمان والعمل الصالح واتباع الرسل بعد ما سلب الله الأمم السابقة ذلك بسبب اعراضها, وهذا المعنى حول وظيفة الاستخلاف بينته آيات أخرى أيضاً كما قال تعالى:
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ)
ولذلك فان الأمة التي تحقق العبودية هي الأمة التي استوعبت معنى الاستخلاف وخلافة الانسان, كما قال تعالى:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55]
فهذه هي الخلافة الشرعية الايمانية المحمودة من كل الوجوه, وهي التي تكون بالايمان والعمل الصالح والاستنارة بنور النبوات وتمكين الدين, لاأنها مجرد العمارة المادية.
والواقع أن الاستشهاد بهذه الآية على تكريم "جنس الانسان" بغض النظر عن هويته الدينية يعبر عن انتقائية حادة تتضمن طمس بقية مضامين الوحي التي تكشف دور الهوية الدينية في تشكيل معيار التقييم والعلاقات, وسنعرض لهذه القضية تفصيلاً في فقرة "أنسنة العلاقات".
وخلاصة الأمر أن هاتين الآيتين -أعني آيتي العمارة والاستخلاف- تتعلل بهما أكثر شعارات الخطاب المدني المتطرف, وكثير منهم يحاول أن يلتمس نسباً الى الشريعة عبر التكلف في تأويلهما, وجعلهما أرضية لتبيئة مفاهيم التطرف المدني, وقد استكشفنا سوياً حجم التعسف والاجحاف الجائر في تأويل الآيتين ذاتهما, فضلاً عن مصادمة هذا التأويل لبقية معطيات الوحي, وثمة استشهادات شرعية أخرى يرددها بعض غلاة المدنية, وسنشير لهذه الاستشهادات ونناقشها في مواضعها في الفقرات القادمة.
الإسلاميون ضد الحضارة؟
يتردد كثيراً في أدبيات غلاة المدنية أن الحركات الإسلامية حركات عدمية ضد الحضارة والمدنية والتحديث, وأنها مجرد حركات هوية لا حركات نهضوية, وأنه ليس لديها إلا آلية الممانعة ومقاومة التغيير, وأنها حركات انفصالية عزلوية تدعو للتقوقع والانكفاء على الذات, وأنها ضد الاستفادة من المنجزات المدنية الحديثة, ونحو هذا الكلام الذي -بصراحة شديدة- صار مستهلكاً هذه الأيام ويعاني نوعاً من السماجة.
وهذه الدردشة الصحفية المبتذلة لا تخلو إما أن يكون صاحبها لم يقرأ للاتجاه الإسلامي جيداً وإنما هي ألفاظ أعجبه حسن حداثتها فتلقفها ورددها, مع أنها بالمناسبة شعارات قديمة رددها الفكر العربي منذ عدة عقود وإنما استوردها الداخل المحلي مؤخراً.
وإما أن يكون هذا الكلام مدفوعاً باستراتيجية سجالية بأن يحاول الكاتب التدليس على الموقف الإسلامي وتصعيده وتصويره بشكل سلبي بهدف تيسير إسقاطه والرد عليه, فيكون هذا الكاتب يصارع أشباحاً لاحقيقة لها وإنما هي صورة خلقها ليرد عليها كطواحين الهواء.
وفي كثير من الأحيان حين تفتش في دوافع هذا الكلام تكتشف أن الكاتب إنما يحاول تضميد جرح غرزه موقف شخصي لا صلة له بالاعتبارات الموضوعية للقضية أصلاً, وانما الظاهرة الاسلامية في هذه الحالة غرض للنكاية لاأكثر.(57/141)
على أية حال.. الخطوط العامة لموقف الإسلاميين من الحضارة والمثاقفة عموماً والحضارة الغربية على وجه الخصوص واضحة ليست بالأغاليط, صحيح أن ثمة اجتهادات متفاوتة في بعض التفاصيل, لكن الكليات المنهجية لجماهير الإسلاميين المعاصرين مشتركة لا تكاد تخطئها العين المنصفة, ويتلخص هذا الموقف في ثلاث ركائز هي في حقيقتها "تمييزات منهجية" لمستويات التعاطي والقراءة, ومن استوعب هذه التمييزات المنهجية الثلاث استوعب جيداً الموقف الإسلامي المعاصر من الحضارة والمثاقفة عموماً والحضارة الغربية خصوصاً, وهذه التمييزات المنهجية كالتالي:
-الركيزة الأولى: التمييز بين الحضارة كغاية والحضارة كوسيلة:
فالحضارة عند غلاة المدنية مطلب مطلق يريدون منها أن تهب رياحها وتبحر في كل اتجاه بلا شروط تفرض من الخارج في ظل الحرية الشخصية إلى درجة غياب المعنى وغموض الغاية, أما الحضارة في التصور الشرعي فهي حضارة موجهة بهدف "تحقيق العبودية" بما تتضمنه من إظهار الدين والقيام بالشعائر والشرائع, فالحضارة المنشودة هي الحضارة المنضبطة بقيود الشريعة والهادفة لنصر الإسلام وتحقيق قيمه ومضامينه, وتأخذ قضايا وجزئيات الحضارة قيمتها التفصيلية بحسب مؤداها إلى هذه الغاية.
ولذلك فإن الشارع لم يوظف مفهوم الحضارة ولا المدنية وإنما وظف مفهوم "القوة" و"العلو" كقوله تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} وقول صلى الله عليه وسلم (ألا إن القوة الرمي) وقوله تعالى {وأنتم الأعلون} وقول صلى الله عليه وسلم (اليد العليا خير من اليد السفلى). ومن المعلوم أن الطاقة التخييلية التي تتضمنها ايحاءات مفهوم الحضارة والمدنية ليست كالدلالات التي يضخها مفهوم القوة, فالقوة مفهوم خادم للمبدأ ومرتبط به, أما الحضارة فمفهوم موحي بالمتعة والرفاه.
والمراد من ذلك أن الحضارة والتمدن عند الإسلاميين "مطلب" لكنها ليست هي المطلب الرئيس ولا المطلب الجوهري لهذه الحياة, بل هي مجرد وسيلة لتحقيق الغاية الحقيقية التي هي العبودية.
-الركيزة الثانية: التمييز بين الوجه العلمي والفلسفي والسياسي:
غلاة المدنية يدعون إلى الإقبال الشغوف واحتضان المنجز الغربي بكامل صوره وكأنه معطى مصمت لا يتفاوت, ويتضايقون من الصرامة في الفحص والاختبار ويعدونها لوناً من التعنت والعدمية ورفض المثاقفة, ولذلك يدعون عملياً إلى التسامح والتغاضي عن الثغرات, أو يلتمسون لها المعاذير والتسويغات وينبشون لها الآراء الشاذة لتتكئ عليها, أما الإسلاميون فيفرقون بشكل واضح بين الوجوه الثلاثة الرئيسية للحضارة الغربية, فيتفاوت تقييمهم وصرامتهم وتدقيقهم في الاختبار والفحص بحسبها.
فأما الوجه الأول فهو "الوجه العلمي" المحض بما يدخل فيه من منتجات تجريبية وعلوم طبيعية وتصنيع وتكنولوجيا ونظم اتصال وحوسبة ونحوها من المنتجات التي يغلب عليها أن تكون "أدوات" أو "وسائل" محضة بحيث تستطيع كل ثقافة أن توجهها بحسب قيمها, فهذه حكمة مشتركة, وصواب الفكر الغربي فيها أكثر من ضلاله.
بل إن المجتمع الغربي اليوم لم ينفرد بها فهناك أمم أخرى تشارك في هذا الانتاج التقني ان لم تكن أكثر تفوقاً, وعلى وجه الخصوص اليابان والصين والهند, وتعتبر ظاهرة التلزيم (outsou r cing) من أهم الظواهر التي كشفت تحولات التركز في الخبرة التقنية العالمية, بحيث صارت تعهدات التصنيع الخارجي في مناطق العمالة الرخيصة تخلق أقطاب خبرة تكنولوجية جديدة ليست في العواصم الغربية.
ووجه أغلبية الصواب في هذا الباب أن هذه المنتجات مستمدة من القوانين الكونية المحضة التي أودعها الله الطبيعة, فهي حظ مشترك لاتتفاوت كثيراً بسبب الخلفية الدينية.
والواقع أن الإسلاميين بجميع أطيافهم سبقوا غيرهم من الطبقات الثقافية إلى الانتفاع بها, بل وكتب كثير من السلفيين أن حقائق العلوم الطبيعية حقائق شرعية, بل لايوجد علم من العلوم المعاصرة على وجه العالم اليوم خدمه أصحابه برمجياً مثل العلوم الشرعية, وصورة الشاب المتدين في كليات الطب والهندسة والحاسوب ونحوها ليست صورة طبيعية فقط بل هي صورة نمطية راسخة في الوعي الشعبي, حتى أن الفرانكفوني المتطرف محمد أركون أشار إلى ذلك في غير موضع من دراساته, إضافة الى ظاهرة الاقبال الاسلامي على الدورات التدريبية في ادارة الذات وعلم النجاح والبرمجة اللغوية وغيرها, فلا أدري ما وجه المزايدة على الإسلاميين والقول بأنهم ضد المثاقفة والاستفادة من المنجزات؟
وأما الوجه الثاني فهو "الوجه الفلسفي" للحضارة الغربية بما يتضمنه من تصورات عن الأسئلة الأنطولوجية والإكسيولوجية والإبستمولوجية وما بعدها من حقول الفلسفة الكبرى, كحقيقة الحياة, ومفهوم السعادة, ووظيفة الدنيا, وكنه الإنسان, ومستقبل البشرية بعد فنائها, والعالم العلوي, ومرجعية الأخلاق, وإطلاقيتها ونسبيتها, ومصادر المعرفة والتي هي البنية التحتية للفلسفة, ونحوها.
فهذا الوجه ضلال الفكر الغربي فيه أكثر من صوابه, خصوصاً في الأسئلة الكبرى, أما التفاصيل والجزئيات فقد يكون بعضها مشتركاً وبعضها متناقضاً مع الوحي.(57/142)
بل إن القارئ المسلم لايكاد يجد فيها نتائج مبرهنة يسعد بها ويحملها كرسالة اجتماعية, بل كل فيلسوف ينقض ما قاله سابقه, وغاية القارئ في هذه الأبواب ليس أن يبني تصوراته وعقيدته بشكل صحيح فتكون له إضافة في ذاته, بل غايته أن يحصل له مران ذهني ودربة على السجال والجدل والرد والتفنيد, في مقابل أن يخسر فضيلة الحسم واليقين والتي هي من أهم أسباب الإمامة في الدين كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.
فيمتلئ القارئ بالارتياب والحيرة واللاحسم في كل شئ, حتى يصل إلى مرحلة عدمية لا يستطيع فيها أن يجزم بشئ من معطيات الشريعة, وهذه ظاهرة مشاهدة, والارتياب والحيرة والتردد في الأصول الكبرى من شعب النفاق والعياذ بالله, كما قال تعالى: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}.
ولذلك تجد عامة غلاة المدنية الذين اقتربوا من هذه الدراسات الفلسفية يرددون "الأهم هو طرح الأسئلة وليس الإجابات" أو قولهم "إلى المزيد من طرح الأسئلة" ونحو هذه العبارات التي هي كالمخدر يسلون به أنفسهم عن عدم الوصول لنتيجة, حتى أصبح شائعاً لدى المؤرخين للفلسفة قولهم "الفلسفة تقدم الأسئلة بما يفوق تقديم الإجابات".
وسبب ذلك أن المضامين الرئيسية المكتوبة في هذه الحقول إما لائكية محضة وهو الأكثر, وإما كتابية محرفة وهو الأقل, بل هو النادر, على أن من ورث فيهم شيئاً من الكتابية المحرفة خير ممن بقي على اللائكية الخالصة, فإن بركة بقايا النبوات وما فيها من النور خير من العمى التام, فالمتمسك بالمسيحية المحرفة أشرف وأرفع في ميزان الله من الكافر المحض, فنصوص الوحي متضافرة على تفضيل الكتابيين على الدهرية الملاحدة, وهذا من بركة بقايا النبوات التي بأيديهم, فالكتابي خير من المجوسي, والمجوسي خير من الملحد, لأن المجوسي معه شبهة كتاب والملحد لا كتاب له, ولذلك قال الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: (أضل أهل الملل مثل جهال النصارى وسامرة اليهود: أعلم من الفلاسفة, وأهدى وأحكم, وأتبع للحق).
وقال الإمام ابن تيمية أيضاً: (ومن المعلوم أن المشرك إذا تمجَّس, والمجوسي إذا تهوَّد, حسنت حاله بالنسبة إلى ما كان فيه قبل ذلك).
ومما يجدر الإشارة إليه أن هذا الوجه الفلسفي ليس هو الوجه المتقدم في الحضارة الغربية أصلاً, بل هو الوجه الظلامي المتخلف المنحط, برغم محاولات كثير من غلاة المدنية الزعم بأن التطور الغربي انعكاس لفلسفته, وهذا مجرد أمنية تاريخية.
والواقع أن التفوق المدني الغربي اليوم عائد للثورة الصناعية في المرحلة السابقة, ثم الثورة التكنولوجية ونظم الاتصال والمعلوماتية حالياً, وهذه كلها نتاج عرق المعامل والتمويلات السياسية الضخمة لمراكز البحوث, وغاية الفلسفة أن تكون تفسيراً استرجاعياً لما حدث, فهي دوماً تفسير لاحق للأحداث تحاول اعطاءها المعنى بعد أن تقع, فأفضل حالاتها أن تكون "حكيم بعد الحادث", وهذا سبب تراجع أهميتها المعرفية.
بل إن من أسباب تراجع أهميتها المعرفية عدم قدرتها على خلق "قوانين مطردة" تحقق لها العلمية، ولذلك فهي تعاني من عقدة نقص تاريخية قديمة أمام العلوم الطبيعية التي تفرض احترامها المعرفي بسبب ما تحمله من القوانين العلمية المنظمة, ولذلك كثرت الصيحات الغربية في الفترة الأخيرة بإعلان موت الفلسفة, وانجفلت التطلعات الثقافية إلى العلوم الإنسانية، ولا سيما بعد أن قدمت لها البنيوية شبه اطراد عبر استعارة النموذج الألسني كما أشار إلى ذلك تحديداً كلود ليفي شتراوس وغيره.
وسبب هذا الوهم حول عظمة الفلسفة أن كثيراً من مثقفي غلاة المدنية تأثروا بالكتابات التعليمية عن "قصة الفلسفة" والتي صورت التاريخ البشري كنتاج مباشر لأفكار بضعة عشر فيلسوفاً على مر التاريخ, وكأن التاريخ الإنساني عموماً والتاريخ الأوروبي خصوصاً مركبة يتربع في كابينتها طائفة من الفلاسفة يخلف بعضهم بعضاً يشيرون للمجتمعات أن تذهب يمنة أو يسرة!
والواقع أن الكتب الفلسفية ذات الطابع التعليمي عبثت بتفكير غلاة المدنية كثيراً, فهذه الصورة المرتسمة في أذهانهم وهْم طريف يغيِّب دور العوامل التاريخية الجوهرية في صناعة الماضي والحاضر, كدور القيادات السياسية والخبراء والأعمال الأدبية الكبرى والعواطف الشعبية, فضلاً عن دور الإعلام الحديث ونظم الاتصال وتوازنات القوى والشركات المتعددة الجنسيات ومتغيرات الموارد ونحوها.
بل هذه الرؤية المدرسية الساذجة غيب دور النبوات في تشكيل التاريخ, ولذلك تنبه المؤرخ الشهير توينبي إلى دور النبوات كعامل رئيس في صناعة التاريخ فقال (التحول الديني كان حقيقة مبدأ كل شيء في التاريخ الانكليزي).
وقبل توينبي نبه على هذه العامل الحاسم ابن خلدون في مواضع كثيرة من المقدمة ومنها قوله:
(الدول العامة الاستيلاء، العظيمة الملك, أصلها الدين, إما من نبوة أو دعوة حق).
وقال الإمام ابن تيمية في الصارم المسلول:(57/143)
(ليس في الأرض مملكة قائمة إلا بنبوة أو آثار نبوة, وإن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات, ولا يستريبن العاقل في الأقوام الذين درست النبوة فيهم كالبراهمة والمجوس).
وهذا التفاوت بين الإبداع العلمي والانحطاط الفلسفي هو الغالب على الأمم التي اعتنت بالمدنية وأعرضت عن النبوات, فهو شأن تاريخي متكرر أصلاً, ولذلك لما كانت الحضارة الاغريقية مفلسة من مضامين الوحي غنية بالعلوم المدنية تشكلت فيها ذات الصورة, ويلخص الإمام ابن تيمية هذا المشهد بقوله:
(فإن القوم-أي الفلاسفة- لا يعرفون الله, بل هم أبعد عن معرفته من كفار اليهود والنصارى بكثير, لكن لهم معرفة جيدة بالأمور الطبيعية, وهذا بحر علمهم وله تفرغوا, وفيه ضيعوا زمانهم, وأما معرفة الله تعالى فحظهم منها مبخوس جداً, وأما ملائكته وأنبياؤه وكتبه ورسله والمعاد فلا يعرفون ذلك ألبتة)
وقال الإمام ابن تيمية أيضاً عن رمز الفلسفة اليونانية:
(وأرسطو المعلم الأول من أجهل الناس برب العالمين إلى الغاية)
والحديث عن هذه الإشكاليات الفلسفية يطول ومن الأفضل أن نرجئه إلى الجزء الثاني الذي هو عن علاقة الخطاب المدني بالفكر الحديث لكونه أكثر مناسبة.
والمهم هاهنا أن نشير إلى أن هذا الباب الفلسفي تجد عموم الإسلاميين فيه حذرين أشد الحذر, لأنهم ولله الحمد موقنون أن مضامين وتصورات الوحي أهدى وأحكم.
بل إن كثيراً من حقائق الوحي في هذا الباب الفلسفي لا تعرفها الفلسفة الغربية المعاصرة أصلاً, أو لديها حوله معلومات مشوهة, كباب الإلهيات, وما يتضمنه من معرفة الله وما ينبغي له معرفة صحيحة, والعوالم الغيبية وتقدير كل شئ في اللوح المحفوظ, وجريان السنن الطبيعية بغايات إلهية, وأثر العبادة في النواميس الكونية, وحركة القلب بالتزكية كالتوكل والافتقار والضراعة, ونحو هذه المعاني التي هي التنوير الحقيقي, كما قال تعالى في هذه المقارنة بين تنوير الوحي وظلامية ما يعارضه:
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}[الأنعام:122]
و قد أشار الامام ابن تيمية الى هذا التنوير المستمد من الوحي فقال:
(وعند المسلمين من "العلوم الإلهية" الموروثة عن خاتم المرسلين ماملأ العالم نورا وهدى)الفتاوى 2/84
وأما الوجه الثالث فهو "الوجه السياسي" للحضارة الغربية وهو الوجه الكالح بكل معنى الكلمة, فالمؤسسة السياسية الغربية مؤسسة إمبريالية استعمارية تمتص ثروات الأمم الأخرى, وليس لديها أية حواجز أخلاقية أمام مصالحها, فهي ديمقراطية شفافة في السياسة الداخلية, ديكتاتورية معتمة في السياسة الخارجية.
والمؤسسة السياسية الغربية هي التي خلقت أبشع النماذج الدموية في التاريخ, وهي المسؤولة عن تطوير أدوات الابادة البشرية الشاملة, والمعتقلات اللاإنسانية, وقصف المدن الكاملة بما فيها من المدنيين, كيف تبرأ تلك الحضارة من عقدة الذنب وهي تتذكر عصر العنصريات والقوميات والنازية وهيروشيما ونجازاكي واستعمار الدول العربية وغوانتنامو وأبو غريب, والأسلحة النووية والغازات السامة, وإيقاف تحقيقات الفساد لأجل مصالح قومية عليا, بل وسن تشريعات حرمان المسلمة من حجابها, ورعاية مؤسسات صحفية تسخر بنبي يؤمن به شطر العالم.
على أية حال.. هذه الوجوه الرئيسية الثلاثة للحضارة الغربية إنما هي نماذج فقط, وتبقى هناك حقول أخرى لا يتسع هذا الجزء لتفصيلها كالعلوم الإنسانية والفنون ونحوها, وهذه النماذج كافية في الدلالة على المقصود بأن الإسلاميين لديهم موقف تفصيلي يميز المفيد من الضار وليس كما يتصوره غلاة المدنية.
-الركيزة الثالثة:التمييز بين الانتفاع والانبهار:
غلاة المدنية يتوهمون أن هناك تلازم بين الانتفاع والانبهار, وأنه لكي نستفيد من الحضارة الغربية يجب أن تمتلئ أشداقنا بتأوهات التعجب, وأن نفغر أفواهنا ونحن نسوق فلسفتهم, وأن نحوط أسماءهم وأعلامهم بهالة التعبيرات الخارقة, ولذلك يطلق بعضهم عبارة "المعجزة الغربية" أو "معجزة الحداثة" ونحوها.
وتفريعاً على ذلك ينظرون إلى أي ذم أو انتقاص لواقع الحضارة الغربية على أنه رفض للانتفاع بما لديها من صواب! ويتبرمون بأي تعبير ديني في توصيف الحضارة الغربية كوصفها بالضلال والفجور والفواحش والكفر وأمثالها من التعبيرات الشرعية, ذلك أن هذه المفاهيم وأمثالها مشبعة بحمولة دينية وهم يريدون التعامل بلغة مدنية تستبعد المحتوى الديني من التقييم.
والواقع أن عدم فهم غلاة المدنية للموقف الشرعي إزاء الحضارات هو سبب عدم فهمهم للموقف الإسلامي المعاصر من الحضارة الغربية, فليس في الشريعة تلازم مطلق بين الانتفاع من الآخر والانبهار به, بل الموقف الشرعي بخلاف ذلك أصلاً.(57/144)
ف صلى الله عليه وسلم استفاد من الحضارة المعاصرة له في الخندق ومشروعية الغيلة والتبادل التجاري وافتدى الأسير الكافر بتعليم المسلمين وراسلهم واتخذ خاتماً لمراسلته كما هي عادتهم وقبل هداياهم كما قبل هدية ملك أيلة والقبط وأكل من طعامهم ولبس من منسوجاتهم وشارك يهود خيبر في نخيلهم وغير ذلك من أوجه التواصل الشرعي لكنه مع ذلك كله بين ضلالهم وانحطاطهم وظلاميتهم بسبب إعراضهم عن نور الوحي, كما قا صلى الله عليه وسلم عن الفترة التي سبقت بعثته: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم الا بقايا من أهل الكتاب) رواه مسلم.
وقال تعالى:
{كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}
وقال سبحانه وتعالى:
{هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ}
فبين سبحانه أن هذه الأمم التي عاصرته كلهم في ظلمات, وأنهم هم الظلاميون الذي يحتاجون التنوير الحقيقي الذي هو نور الوحي.
هذه التمييزات المنهجية الثلاثة وهي: التمييز بين الحضارة كغاية والحضارة كوسيلة, والتمييز بين الوجه العلمي والفلسفي والسياسي للحضارة المعاصرة, والتمييز بين الانتفاع والانبهار, هي المفتاح الرئيس لفهم موقف الإسلاميين المعاصرين من الحضارة المعاصرة, ومن استوعبها علم قطعاً جهل من يقول ان الإسلاميين ضد الحضارة والمثاقفة والتحديث, واستبان له أن لدى الإسلاميين موقفاً تفصيلياً منظماً مستمداً من خلاصة توازنات نصوص الشريعة.
أما كثرة تذمر غلاة المدنية وشكواهم من الارتياب الاجتماعي ضد الثقافة الغربية وضعف الثقة بدعاتها وتشنج بعض الناس ضد المنتج الغربي فالمسؤول الحقيقي عنه ليس الإسلاميين وانما النزق التغريبي الذي تبناه بعض غلاة المدنية حتى قال الأول: يجب أن نأخذ ما لدى الغربيين بحلوه ومره وخيره وشره, وحتى قال الآخر: الحضارة الغربية كقصر فخم يجب أن لاننشغل بسلة مهملاته الصغيرة, فمثل هذه الطيش وانعدام التماسك أمام المنجز الغربي هو الذي أقلق الهوية الإسلامية واستفز توربينات الممانعة الشعبية, إذ لو رأى الناس في تلك النخب الثقافية موقفاً عقلانياً رزيناً إزاء منتجات الفكر الغربي يبدي غيرته على قيم الإيمان والفضيلة لما احتاجوا أن يعبروا عن رفضهم بهذه الصورة التي ينتقدها غلاة المدنية.
ماوراء أنسنة التراث:
المعركة اليوم معركة "تفسير" بالدرجة الأولى, تدور حول السؤالين التاليين: كيف نفهم النص؟ وكيف نفهم حملة النص؟
فتفسير النص, وتفسير التاريخ, كادا أن يكونا محور الجدل الثقافي المعاصر, وكاد أن يكون السجال الفكري يدور حول "النماذج التفسيرية" وتقنيات التأويل.
وفي المرحلة الفكرية السابقة -كماسبقت الإشارة لذلك- كانت النخبة الثقافية المأزومة مع الإسلام ودعاته تطرح نقداً وتهجماً على مضامين الرؤية الإسلامية ذاتها, فهناك سيل كبير من المقالات والكتب التي انتقدت التصورات الإسلامية صراحة كتحكيم الشريعة والحجاب والجهاد وغيرها من المفاهيم والقيم القرآنية وكانت المفاجأة أن الاتجاه الإسلامي يزداد صلابة, ويتأكد لقواعده الشبابية جدية عداء هذه النخب الثقافية المأزومة للإسلام والوحي والتعاليم النبوية.
لقد شعرت هذه النخب الثقافية المأزومة بكل وضوح بافلاس رصيدها الشعبي, بل ومعاناتها من حالة نبذ اجتماعي حاولت ان تتغلب عليه من خلال انخراطها في مشروعات السلطة, والتضحية بأية مضامين تدفع باتجاه الاستقلالية السياسية, بل وفي بعض الأحيان يصل الأمر -ولشديد الأسف- الى اعتبار هذا الاستقواء غير النزيه نوعاً من الحذاقة في ادارة الاختلاف الفكري.
ونتيجة لهذا النبذ الاجتماعي فقد تحولت النخب الثقافية المأزومة إلى خيار ثقافي آخر, حيث هجرت إعادة مضغ النقد الممجوج حول الحاكمية والحجاب والجهاد والتعدد وأحكام الذميين ونحوها إلى محاولة تهتيك الوشائج بين القواعد الشبابية الإسلامية وبين نماذجها الملهمة التراثية والمعاصرة وذلك من خلال خطاب الأنسنة.
والأنسنة في الخطاب العربي اليوم توظف في سياقين, فأما السياق الأول فهو "أنسنة العلاقات" بمعنى أن تكون علاقاتنا ونظرتنا إلى العالم اليوم هي علاقات مدنية مبنية على القيم الإنسانية المشتركة, لا على أساس الهوية الدينية, وهذه سنعرض لها في الفقرة اللاحقة.
أما السياق الآخر فهو "أنسنة التراث" بمعنى إعادة تفسير التراث وولادة مفاهيمه الجوهرية وحراكها الداخلي تفسيراً تستبعد فيه أية دوافع أخلاقية أو دينية أو قناعات ذاتية, ويبحث فيه عن الدوافع المادية سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم عرقية أم غيرها, عبر التوسل بالجهاز المفاهيمي الأنثروبولوجي تحت شعار التسلح بأدوات العلوم الانسانية المعاصرة, وبعض الفرانكفونيين العرب حين يتحدث عن توظيف أدوات العلوم الانسانية المعاصرة يضيف الى ذلك فاصلاً تاريخياً وهو قوله "العلوم الإنسانية ما بعد العام 1950م" ولا أدري لماذا هذا التاريخ التوقيفي, لكن هذه هي الدعوى على اية حال.(57/145)
بمعنى أن تفسر تشكلات التراث على أنها مدفوعة بصراع سلطة أو مزاحمة سيادة أو احتفاظ بالجمهور أو أهداف بزنسية أو صفقات تسويقية, فمن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب مروراً بالشافعي وانتهاء بالدعاة المعاصرين تفسر كافة تمظهرات الخطاب على أنها مجرد موازنات سياسية وحسابات اجتماعية محضة.
وهكذا تنطلق صافرة الأنسنة في لحظة إطلاق رصاصة الموت في دماغ التفسير الأخلاقي والديني, فحين تجمع الوقائع بطريقة موجهة وتربط بدوافع سياسية وخلفيات اجتماعية تذوي منزلة رموز الإسلام, وتسقط الثقة بمايقولون, ويزدرى ما يحملون, وينظر لمواقفهم البطولية على أنها مجرد استماته في حظوظ النفس, وهكذا ينقطع عن المنابع وُرَّادها, وتموت وظيفتها في القيام بدورها في شحن الشاب وتزويده بالمضامين الإسلامية.
الأنسنة في الخطاب العربي المعاصر لم تستوعب مفهوم الأنسنة فعلاً كما هو في ذاته, صحيح أن هناك في المقابل مبالغات ساذجة في تصوير التاريخ ترنسندنتالياً باعتباره مجرد معطيات متعالية لا صلة له بالتركيب البشري, لكن هذا لا يعني الانقلاب للجهة الأخرى.
العلمانيون العرب يتبرمون كثيراً من إمكانية اعتبار الدين والأخلاق والإيمان محركاً للتاريخ, بل يعتبرون التاريخ محكوم دوماً بدوافع غريزية محضة, إما مادية أو سيادية أو غيرها, أما الخطاب الديني والأخلاقي فهما مجرد بنية فوقية معلنة تخفي الدوافع التحتية الحقيقية.
لقد بلغت الأنسنة العربية مراحل مزرية تستدعي الرثاء, فحرب أبي بكر للمرتدين هي محاولة مادية لتمويل الخزينة, وعثمان وعلي مجرد طامحين للسلطة, والفتوح الإسلامية كلها حركات إمبراطورية توسعية, والشافعي مهجوس بشكل مضمر بعرقلة نفوذ السلطة السياسية لسلطته العلمية, ومحمد بن عبدالوهاب مسعور بالمزيد من الجغرافيا, وآباء الحركة الإسلامية الروّاد يسعون بشكل مكشوف للوصول للسلطة, والدعاة المعاصرون كلهم يبحثون عن بريق الإعلام والقنوات الفضائية.
حالة الافلاس في الخطاب العربي المعاصر تستدعي النظر بعين الرحمة والإشفاق والشكر لله على تجاوز هذه النظرة المرضية الهوسية للآخرين, أتساءل أحياناً لماذا لايفكر العلمانيون العرب بأن هؤلاء الرموز قد يكونون مدفوعين بدوافع روحية وأخلاقية؟ خصوصاً أن كثيراً منهم ضحى بحريته أو روحه التي بين جنبيه, لكن ربما أن من لم يتذوق الدافع الأخلاقي في نفسه فلا يمكن أن يقرأه في تصرفات الآخرين.
فضلاً عن أن هذا التفسير لدى العلمانيين العرب ينم عن جهل مطبق بمفهوم الأنسنة ذاته, فمقتضى الأنسنة هو النظر إلى الإنسان بما هو إنسان, ولاشك أن من أقوى مكونات الإنسان المكون الديني والأخلاقي والروحاني, فاستحضار بقية مكونات الإنسان وتغييب بعضها الآخر هل يستحق أن يسمى أنسنة أم يسمى اختزالاً للإنسان؟
وباختصار شديد تحولت تقنيات الأنسنة إلى خطاب "سوء ظن" منهجي منظم, بدلاً من أن يكون مجرد زلة سلوكية, ويسمى في النهاية -وبكل بجاحة- خطاباً تفسيرياً علمياً! ولذلك فمن المشاهد اليوم أن من انهمك في مشروعات إعادة قراءة التراث المهجوسة بافتراض الدوافع السياسية في كل حدث فإنه يمتلئ قلبه بالغل على القرون المفضلة, وقد قال تعالى:
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
ولو جئنا نختبر ذلك العصاب في التفسير المادي لواقع الحركة الإسلامية فإنه حتماً سيفلس في تقديم إجابة دقيقة على الكثير من الظواهر.
خذ مثلاً: مالذي يدفع الإسلاميين المعاصرين إلى ترك الفرص الاستثمارية في المؤسسات الربوية وتحمل كلفة المصرفية الإسلامية؟ مالذي يدفع الشابة المؤمنة الرقيقة إلى ارتداء الحجاب وتحمل نظرات الاستخفاف في الأماكن العامة؟ مالذي يدفع شاباً في زهرة العمر إلى التضحية بمجتمع الرفاه الذي يتقاطر اليه الوافدون والمقيمون ويتوجه لجبال شعثاء ينشد غناء الموت؟ مالذي يدفع رجالاً تشابكت مسؤولياتهم الاجتماعية والأسرية إلى التنازل في الظل عن جزء من رواتبهم المحدودة لطباعة تفسير أو توزيع شريط قرآن؟ مالذي يدفع فتى في غمرة سني اللهو واللعب إلى أن يدع مغاني أقرانه ويمد اليك مع ابتسامته الغضة تمرة تفطير عند إشارة مرور؟
وهكذا دواليك, مشاهد كثيرة تمردت على نظريات الأنسنة العلمانية, وأفلست محاولاتها التفسيرية البائسة في قراءة هذه الظواهر, لا زالت هذه المدرسة غير قادرة على استيعاب أثر الإيمان في النفوس بما يجعل الدين محركاً للتاريخ, فلم يصلوا إلى ما وصل إليه هرقل بحكمته الرومية حين أدرك ماذا تصنع "بشاشة الإيمان" إذا تسللت إلى القلوب, وذلك فيما روى البخاري أن هرقل قال لأبي سفيان:
{وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا, وَكَذَلِكَ الإيمان حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ}(57/146)
ويمكن للقارئ أن يضع المدارس التفسيرية في اطار تاريخي أو هيكل عام يمكننا من تصور اتجاهاتها العامة, حيث يمكن القول -بشئ من التجوز- أن المدارس التفسيرية مرت بثلاث مراحل "مرحلة المؤلف" و "مرحلة النص" و "مرحلة القارئ" , فمرحلة المؤلف كان التركيز فيها على خلفيات منتج النص وسياقه الذي يتحرك فيه, واندرج فيها المدارس النفسية والاجتماعية ونحوها.
والمرحلة الثانية كانت مرحلة النص وكان التركيز فيها على بنية النص ذاته بغض النظر عن السياق التاريخي, وقد أثر في الدفع بهذه المرحلة إلى الوجود بحوث العالم الألسني دي سوسير الذي توفي مطلع القرن الماضي وذلك في كتابه عن علم اللغة العام والذي جمع من محاضراته بعد وفاته وركز فيها على التفريق بين المحور السنكروني والدياكروني, فكان هذا التمييز المنهجي بين المحورين الآني والتطوري هو النافذة التي انبثق منها التفكير البنيوي, معززاً بإنتاجات المدرسة الشكلانية الروسية, وسرعان ما انتشر هذا النموذج الألسني إلى بقية العلوم الإنسانية وخصوصاً على يد أنثروبولوجيا شتراوس وكتاباته حول الأشكال الأولية للقرابة, ثم جاك لاكان في التحليل النفسي وألتوسير في تأويل الماركسية, ووصل هذا النموذج البحثي إلى ذروة جاذبيته حين قاربه مؤرخ الأفكار الشهير ميشال فوكو في آركيولوجياته حول التطورات الإبستيمية للتاريخ الأوروبي وذلك في كتابه ذائع الصيت الكلمات والأشياء.
صحيح أن فوكو كان يتملص من بنيويته بعد خبوها لاحقاً, لكن الباحثين والمؤرخين جرت عادتهم على اعتبار هذا الرباعي وهم شتراوس ولاكان وألتوسير وفوكو أبرز تطبيقات البنيوية, كما نجد ذلك عند روجيه جارودي في كتابه "البنيوية فلسفة موت الانسان", وعند كريزويل في "عصر البنيوية", بل حتى عند المؤرخين النقاد العرب كصلاح فضل وغيرهم, وأهم دارسي فوكو في كتابهما "ميشال فوكو مسيرة فلسفية" مالوا الى تبني هذه البنيوية المرحلية في خطاب فوكو.
وربما كانت ثورة الطلاب في فرنسا نهاية الستينات -بحسب مؤرخة البنيوية كريزويل- هي الإعلان الرسمي لنهاية البنيوية والتي هي رمز عصر النص وبداية عصر جديد تحول فيه الاهتمام إلى "القارئ" بمعنى البحث في دلالات الخطاب, لا على أساس المؤلف ولا على أساس النص, بل طبقا لوعي القارئ, فشاعت -بدرجة أقل- تفكيكية جاك دريدا ومفاهيم الغراماتولوجيا, وانتعشت جماليات الاستقبال ونظرية التلقي على يد هولب, وبلغ هذا المنهج ذروته التفتيتية في شعار "النص رياضياً يساوي عدد القراء".
وفي بحر السبعينات, وعلى مائدة مستديرة في الكوليج دي فرانس, تمتم مؤرخ الأفكار المعروف "ميشال فوكو" في توطئة محاضرته عن النظريات التفسيرية عند الثلاثي (نيتشة, فرويد, ماركس) بحلم حالت المنية دون تحقيقه, وذلك حين قال:
(الحقيقة أن هاته الأفكار التي أعرضها عليكم تخفي من ورائها حلماً: وهو أن نتمكن ذات يوم من وضع نوع من الموسوعة التي تضم جميع "تقنيات التأويل" التي أمكننا معرفتها ابتداء من النحاة الإغريق إلى أيامنا هاته, وإني أظن أن هاته المدونة الضخمة التي تضم جميع تقنيات التأويل, لم يكتب منها حتى الآن إلا فصول قليلة).
والحقيقة أن من يتأمل في كثير من التقنيات التفسيرية الحديثة التي سلطت على التراث يلاحظ دورانها كثيراً حول مفهوم "السلطة" سواء كانت سلطة السيادة أو إرادة السلطة كما في الاتجاهات النيتشوية, أو سلطة المال أو البعد الاقتصادي أو البنية التحتية المتعلقة بأنماط الإنتاج كما في التفسير الماركسي, أو سلطة الليبيدو الفرويدي أم غيرها.
ويلاحظ القارئ "الهادئ" أن هذه التقنيات التفسيرية الباحثة عن دور السلطة في تشكيل النص لم يكن وهجها بسبب "عبقريتها" وإنما كان وهجها بسبب "تطرفها", فدور السلطة والمال والجنس وغيرها من الدوافع في تشكيل النص والتاريخ هي معطيات معروفة مسبقاً وليست جديدة, وإنما الذي صنع لها هذا الدوي والزخم إنما هو التطرف في جعلها العامل الحاسم.
فالوحي الإلهي ومن بعده علماء التراث كشفوا عن هذه السلطات وغيرها بشكل مبكر ولكنهم "أعطوها حجمها" ولم يبالغوا في تتبع تشكلات التاريخ بناء عليها, وهذا انعكاس لبنية الاعتدال الشرعي, وبنية الغلو الغربي.
ففي الحديث الشهير الذي رواه الترمذي وغيره وصححه غير واحد من الحفاظ أن صلى الله عليه وسلم قال:
«مَا ذئبان جَائِعَانِ أُرسِلاَ في زريبة غَنَمٍ بأفسَدَ لها مِنْ حِرصِ المرء على المال والشَّرَف لدينهِ»
فبين صلى الله عليه وسلم سلطة الشرف وسلطة المال في تشكيل شخصية الفرد, وقبل هذا الحديث فقد أشار القرآن إلى دور هاتين السلطتين فقد حكى الله عن أصحاب الشمال قولهم:
{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ, هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلك في موضع آخر إلى سلطة المال وسلطة الغريزة الجنسية, فقا صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن عمر:
« ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصِيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إِليه ».(57/147)
وتكلم علماء السلوك الإسلامي كثيراً حول "قوادح التجرد" وأسهبوا في ذكر هذه السلطات التي تؤثر على المعرفة وتخلق التحيزات الداخلية, كسلطة الآباء وسلطة مشاكلة الأصحاب وسلطة الجاه وغيرها كثير, ومن ذلك ماذكره بشكل تفصيلي منظم الإمام ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة.
بل إن الناقد السعودي المعروف عبدالله الغذامي في كتابه الخطيئة والتكفير حين شرح أسس السيميولوجيا نقل نقلاً عن الإمام أبي حامد الغزالي وقارنه بما وصلت إليه السيميولوجيا الحديثة ثم ذكر أنه يبدو أن السيميولوجيا الحديثة لم تكد تتقدم شيئاً بعد الغزالي!
وما نقله الغذامي عن الغزالي مبثوث عند غيره من علماء التراث, وأحياناً بشكل أكثر تفصيلاً.
والمقصود هاهنا ذكر أن أكثر هذه التقنيات التفسيرية الحديثة لم تأخذ دويها الاعلامي بسبب جدتها بقدر ما هو مغالاتها في تحويل الدافع الطبيعي إلى عامل حاسم ومطلق يجيب على كل الظواهر.
وقد سبقت الاشارة الى أن الأداتين المفضلتين في خطاب أنسنة التراث هما أداتي التسييس والمديونية, بل كادا أن يكونا محور تلك الأطروحات التفسيرية كلها, بحيث تؤول اليهما كل تلك النتائج.
والجدير بالذكر أن الأصول الرئيسية لتلك التأويلات هي أصلاً اطروحات استشراقية مبكرة رددها كبار المستشرقين أمثال شاخت ونللينو وجولدزيهر وغيرهم, وإنما كان الدور الجوهري الذي لعبه الفرانكفونيون العرب هو دور "الشراح" الذين أعادوا صياغة وترتيب تلك النتائج, وأكثروا من التنويع عليها, وغالب الاضافة لدى الشراح العرب إنما هي استلهام النماذج الاستشراقية في تطبيقات جديدة, أو اكتشاف شواهد جديدة لتلك النظريات التفسيرية, أما التخلص من طوق تلك الآليات الاستشراقية واستكشاف دور "النص" في تشكيل الحياة العامة للتاريخ الاسلامي فهو نادر فيهم.
والواقع أن أداة "المديونية" بمعنى تتبع حضور الآخر في الذات, أي استكشاف أثر الثقافات السابقة على الثقافة اللاحقة هي في أصلها جزء من منظومة الأدوات العلمية لتحليل الخطاب, وقد وظفها المبدعون في التراث الاسلامي بشكل رائع ولكن دون مغالاة ولاتعسف ولاتكلف, بل باعتبارها عامل ضمن شبكة عوامل مركبة, لا باعتبارها العامل الحاسم, ولابتكلف رد كل شئ اليها.
فالدراسات الاستشراقية -وتبعاً لذلك شراحها من الفرانكفونيين العرب- تحاول رد كل مفاهيم التراث الاسلامي التشريعية والسلوكية الى الثقافات السابقة للاسلام وتصوير التراث كحالة اقتراض ثقافي, ويستبعدون الوحي من أن يكون منبعاً لتلك التصورات.
بينما لم يكن علماء التراث الاسلامي بهذه المغالاة والتطرف, بل تحدثوا كثيراً عن ماكان الأئمة يسمونه "علوم الأوائل" وانتقدوا استمداد بعض مفاهيم علم الكلام وأصول الفقه والتصوف منها, ولكنهم لم يشطبوا الوحي والنص من دوره الجوهري في تشكيل التراث, وهذا يؤكد ماسبقت الاشارة اليه من الفارق بين بنية الاعتدال الاسلامي وبنية الغلو المعرفي الغربي.
وهذه المقارنة تكشف بجلاء أن مالدى هذه التفسيرات الاستشراقية وشراحها العرب من الحق فقد قرره علماء التراث الاسلامي, وماأضافوا الى ذلك فأغلبه فروض واحتمالات باطلة, تستند في غالبها الى التشابه الفيلولوجي لا إلى المستند التاريخي.
ومن أكثر أسباب هذا الضلال الاستشراقي غياب الوعي بمعطيين أساسيين, أولهما: دور النبوات وبقايا الكتب السماوية في تشكيل ثقافات الأمم السابقة للاسلام, وثانيهما: حجم المفاهيم المشتركة بين الكتب السماوية كما في الصحيح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال (الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد).
وتبعاً لهذين المعطيين فإن جزءاً كبيراً من ظاهرة التشابه المفاهيمي بين ثقافات الأمم المتأثرة بالنبوات ليس نتيجة اقتراض ثقافي بينها, بقدر ماهو انعكاس لمصدر متقارب المفاهيم, بل يصل أحياناً لحد التطابق.
وأما أداة "التسييس" وهي التنقير عن الخلفيات السياسية للخطاب التراثي فأكثرها افتراضات وتهويلات وسوء ظن, وحين نتأمل في ظاهرة التفسير المادي/السياسي للتراث فاننا نشعر بالألم من حالة "التناقض التفسيري" الذي يقع فيه غلاة المدنية.
ففي قراءة التراث يميلون الى تقديم قراءة تاريخانية تحيل الافكار الى خلفيات السياق الاجتماعي والسياسي, فيفسر علم الفقه بصراعات القوى, وعلم العقيدة بمعارك المذاهب, وعلم الحديث بطلب السوق, وعلم التفسير بالموروث الثقافي, وهكذا.
بينما في قراءة الفكر الغربي لاتتم قراءته بمنظور تاريخاني يكشف البعد الذاتي, بل تتم قراءته بنيوياً باعتباره مجرد نسق ثقافي نقي متعالٍ, ومعزول عن الخلفيات والدوافع البشرية والسياسية والعنصرية, فيصور باعتباره مجرد فلسفة تستهدف الاستنارة والسلام الانساني وسعادة البشرية.
ومقارنة هذين المشهدين تشي بالتناقض المذهل في نظرية التفسير, فلايمكن تصور أن تكون حضارة كاملة تقرأ تاريخانياً, وحضارة أخرى تقرأ بنيوياً, فتفاوت التقنية التأويلية بهذا التناقض الحاد يكشف عن انحيازات نفسية عميقة أكثر من كون الخطاب رؤية معرفية.(57/148)
والمتأمل في خطاب غلاة المدنية واللغة التي يعبرون بها عن منجزات الفلسفة الغربية والهالة التي يحيطون بها الأعلام الأوروبية ينكشف له هذا الانحياز النفسي بشكل واضح, فالتصور المطروح عن الفكر الغربي ليس "تصور علمي" معني بقراءة وتفسير الحالة الغربية كنسيج اجتماعي أو شبكة معقدة تمتزج فيها السياسة والمصالح والافكار والاخلاق والتيارات, بل تقدم صورة الفكر الغربي بلغة مناقبية وعبارات وجدانية هي أقرب الى الهيام منها الى القراءة المعرفية, فخطاب غلاة المدنية عن الغرب هو خطاب تبشيري وليس كما يزعمون من أنه خطاب تحليلي.
بل ويصل التطرف في تطويب الغرب -بمعنى تحويله الى طوبى- عند بعض غلاة المدنية الى مستويات أكثر من ذلك, فبعض غلاة المدنية اذا أخذ يتحدث عن المجتمع الغربي كأنه يصف "مدينة فاضلة" تتحقق على الأرض, فتأخذك التساؤلات أين هذا المجتمع المثالي الرومانسي الخالي من النزوات البشرية الذي يتحدث عنه هذا الكاتب؟
لتكتشف بعد ذلك أن هذا الكاتب حين يتحدث عن المجتمع الغربي فإن ذهنه يمر بثلاث مراحل: ففي البداية يركِّب "الصورة المثالية" الحالمة في ذهنه, ثم ينسبها لهذا "المجتمع الغربي", ثم يحاكم المجتمعات الأخرى عن عدم وصولها لهذا المستوى الغربي المتقدم؟!
فالمجتمع الغربي يطابق المثال الذهني الطوباوي المفترض, وليس هو الواقع الغربي الذي نعرفه جغرافياً وفكرياً, بمعنى أنه تحول الغرب الى "مقولة مرجعية" تستحضر لأغراض التقييم والقياس ومحاكمة التجارب البشرية الأخرى, أكثر من كونها للدلالة على حضارة معينة معروفة جغرافياً وفكرياً ولها سياقاتها الخاصة.
وهذه السيرورة الذهنية تشابه الى حد كبير بعض متفقهة المدنية الذين إذا لم يستحسنوا بذوقهم المحض شيئاً قالو: هذا لاينسجم مع الشريعة. فنسبوا ذوقهم للشريعة, ثم حاكمو الوقائع على أساس مخالفتها لهذه الشريعة التي زعموها.
وحتى لايكون الكلام تجريدياً أذكر أن أحد كتاب الغلو المدني أفرد عدة مقالات يتحدث فيها عن ظاهرة "القبيلة" في المجتمع العربي والمحلي خصوصاً, وخلع عليها كل ألقاب الذم التي حملها قاموسه, ثم أخذ يتحسر بسبب أن ثقافتنا تحمل جذور العنصرية بخلاف الثقافة الغربية الخالية من هذه العنصريات.
فلاأدري عن أي غرب يتحدث هذا الكاتب؟ فالصراعات الكبرى في الثقافة الأوروبية كانت تدور حول تمايزات الأعراق الغربية, وقد أشعلت على أساسها حروب كبرى, وقامت على اساسها مشروعات دول, والولايات المتحدة التي ينظر اليها غلاة المدنية باعتبارها نموذج المساواة لم يصل الى سدة الحكم فيها طوال عمرها الرئاسي لارجل أسود ولا أنثى حتى هذه الساعة, ومع ذلك كله فإن هذا الكاتب يحاكمنا الى هذه الثقافة زاعماً نقاءها الاثني, فهذا مما يدل على أنه ركب صورة ذهنية مثالية ثم نسبها للمجتمع الغربي ثم أخذ يحاكم المواقف اليها.
بمعنى أن الغرب تحول عند بعض غلاة المدنية الى صورة متخيلة غير موجودة هي أشبه بالمطلق والمتعالي منها بالواقعي والانساني, وعليه فيبدوا أن غلاة المدنية هم الذين بحاجة الى أنسنة تصوراتهم عن الغرب, بمعنى كشف البعد الانساني والذاتي في مضامين الفكرة الغربية, لاقراءتها باعتبارها فكرة سماوية مجردة عن السياق التاريخي.
والحقيقة أن هذا الانبهار المرضي فضلاً عن كونه متصادم مع الوحي والواقع, فانه مضر أيضاً بالنفسية المسلمة, فان الاعتماد على جاهزية المنتج الغربي يسبب تسلل الشلل الى امكانيات الانتاج, ولذلك فان تجارب النهوض الآسيوية كلها كانت تؤكد أهمية عنصر "الثقة بالذات" في نجاح التنمية.
وبعض غلاة المدنية قد أغلق الباب بينه وبين نقاد الثقافة الغربية, عن طريق مسلمة مسبقة وهي أن "نقد الثقافة الغربية ناشئ عن الجهل بها" فكلما رأى ناقداً للثقافة الغربية افترض أنه ينقدها بسبب أنه لايعرفها.
وهذا تصور غير صحيح بتاتاً, بل إن رموز نقد الفكر الغربي هم أكثر اطلاعاً من كثير من المبشرين بالفكر الغربي, وسأضرب مثلاً هنا بأربعة مشروعات ضخمة: وهي مشروع فيلسوف المغرب "د.طه عبدالرحمن" لاعادة تقويم التراث وحق الاختلاف الفكري والفلسفي وتأصيل الفلسفة واستكشاف العلاقات الدقيقة بين الألسنية والمنطق, ومشروع "د.ابويعرب المرزوقي" لربط جذر المشكلة الفلسفية والفكرية بالفلسفة الاسمية في صورتها التيمية/الخلدونية, ومشروع "د.عبدالوهاب المسيري" لدراسة ظاهرة العلمانية الشاملة -أو مايمكن تسميتها بظاهرة المادية- في التصور الغربي, ومشروع "د.ادوارد سعيد" لتتبع تجليات "ارادة الهيمنة" في البنية التحتية للمنتج الثقافي الغربي كظاهرة الاستشراق والسرديات الكبرى في التاريخ الغربي.
فهؤلاء الرموز الأربعة لنقد الفكر الغربي ليسوا جهالاً به, بل هم أخبر به من كثير من المبشرين بالغرب من غلاة المدنية, ومع ذلك فهؤلاء الرموز الأربعة لديهم موقف صارم غير ودي تجاه الثقافة الغربية, وهذا مما يكشف أن نقد الثقافة الغربية ليس انعكاساً للجهل بها.(57/149)
وبعض غلاة المدنية يستنكر هذا النقد الاسلامي للثقافة الغربية, وينعى على الاسلاميين غياب انبهارهم بمعجزة الحداثة الغربية, ويردد أن المجتمع الغربي ليس فيه مما يخالف الاخلاق الا المشكلة الجنسية فقط, بينما يتمتع المجتمع الغربي بأخلاقيات العمل كالصدق والأمانة ونحوها, وأن المجتمع الغربي استطاع أن يمؤسس العدل والأخلاق, فالاسلاميون كمن دخل قصراً فخماً فاشتغل بالنظر الى سلة المهملات وترك جمال القصر وابداعه, وهذه الفكرة منتشرة كثيراً عند غلاة المدنية.
والحقيقة أن هذا المثل المضروب مثل مضلل خادع, وإنما المجتمع الغربي كقصر فخم المظاهر لكن أساساته مهددة بالانهيار, فهل من العقلانية أن نستغرق في جمال مظاهره ونستنفر الناس لدخوله, أم أن نحذر الناس من انهياره الوشيك؟
ومما يكشف ذلك أن الثقافة الغربية تعاني من اضطراب حاد على صعيد الالهيات, فغالب الناس في ذلك المجتمع يعاني من تشوش عميق في هذا الأساس الجوهري, أما أغلب النخب المثقفة فهي إما لائكية أو أن قضية الدين عندها قضية مؤجلة غير محسومة, فالعالم الغربي نتيجة عدم تشرفه بالايمان بنبوة صلى الله عليه وسلم لايزال محروماً من التصورات الصحيحة الدقيقة عن الله والمعاد والنبوات والعالم العلوي والمستقبل بعد الموت ونحوها من المطالب العالية.
فهذا السؤال الجوهري وهو: ماذا خسر الغرب حين كفر بنبوة محمد؟ لايزال غائباً عن كثير من المثقفين المسلمين وللأسف.
فالمجتمع الغربي حين كفر بنبوة صلى الله عليه وسلم خسر تحقيق مستقبل جيد بعد فناء البشرية وأصبح مهدداً بمخاطر كارثة جهنم, وخسر التعرف على محتوى الوحي, وهي تلك المعلومات الثمينة التي حملها آخر رسول أرسله خالق الكون الينا.
ولذا لم يستوعب كثير من مثقفي وفلاسفة الغرب مادلت عليه العلوم الالهية من أن هرم الأولويات هو عمارة النفوس بالله, بتألهه والتعلق به, وتجريد الذات لمراده ومحبوباته.
كما أن المجتمع الغربي لم يهتد لكثير من أصول وتفاصيل العدل التي كشفها الوحي, فلم يهتد الى كارثية الربا والميسر والمسكرات والفواحش, ولم تتطور عقليته التشريعية الى معرفة كثير من تفاصيل نظام الاثبات والقضاء الشرعي والحدود الجنائية وقواعد العلاقات الأسرية التي دل عليها الوحي, بل لم يهتد الى كثير من سنن الفطرة في الطهارة وازالة الأدران والتي نبهنا اليها الوحي .
بل إن المجتمع الغربي يعاني من "ظاهرة الوثنية" التي هي أحط مستويات التخلف, وكثير من غلاة المدنية لايتنبه لظاهرة الوثنية في المجتمع الغربي نتيجة كونه يعتقد أن الوثنية هي السجود لصنم فقط, بينما مفهوم الوثنية في القرآن أوسع من ذلك نتيجة سعة مفهوم العبودية, فإن الانصياع التام للهوى الشخصي واللذة الخاصة عبادة للهوى, ولذلك قال تعالى:
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (23) سورة الجاثية
وقال سبحانه:
(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا}
وتبعاً لتأليه الهوى فان الانسان الخاضع لمتطلبات المادة خضوعاً تاماً جعله صلى الله عليه وسلم عبداً للمال, فقال كما في الصحيح (تعس عبدالدينار, تعس عبدالدرهم).
فهذه النصوص تبين وجهاً من وجوه الوثنية وهو تأليه الهوى وعبودية المادة.
فكم هو مؤلم أن يغيب عن مفكر مسلم حجم انتهاكات الشريعة في الحضارة الغربية, ويرى أنه ليس في المجتمع الغربي الا مشكلة "الجنس" فقط, والواقع أن التدقيق في مثل هذه المقالات يكشف أن كثيراً من ذلك ناتج عن المغالاة في قيمة الحضارة المادية, والزهد في قيمة العلوم الالهية الموروثة عن الرسل, وهذا مما يؤكد أن الغلو المدني ينبوع الانحراف الثقافي.
ومع ذلك فلو سلمنا لغلاة المدنية بأنه ليس في المجتمع الغربي من تقصير الا الفوضى الجنسية, كاتخاذ الأخدان والسفاح وسن تشريعات زواج المثليين, فان ذلك كافٍ في كشف انحطاط وظلامية وتخلف هذا المجتمع, وحاجته الماسة والسريعة للتنوير بالعلوم الالهية, فظاهرة المثلية والشذوذ ليست مجرد سلة مهملات صغيرة بل هي أحد موجبات الغضب الالهي العام, ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى عاقب قرية سدوم باهلاكها هلاكاً عاماً لما انتشرت فيها ظاهرة المثليين, كما قال تعالى:
{ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ, مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}
وقال سبحانه عنهم أيضاً:
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ, فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ, إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ, وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ, إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}(57/150)
فاذا كانت ظاهرة المثلية تستوجب هذا الغضب الالهي العارم فكيف يجوز تهوين الأمر وعرضه باعتباره مشكلة محدودة مع أن المجتمع الغربي بلغ بالمثلية تنظيمها تشريعياً وحفظ حقوق منحرفيها, ولم يناهض ظاهرة المثلية في المجتمع الغربي الا المؤسسة الكنسية نتيجة ماتبقى لديها من نور النبوات, ومع ذلك فان بعض الكنائس أطفأت ماتبقى من هذا النور الطفيف واعلنت احترامها لهذه الظاهرة المنحرفة.
أما القول بأن المجتمع الغربي استطاع أن يمؤسس العدل والأخلاق, فانه كما استطاع أن يمؤسس بعض هذه, فإنه أيضاً استطاع وبكفاءة أن يمؤسس كثيراً من تطبيقات الرذيلة والجريمة والظلم, ويوفر لها أرقى الامكانيات التكنولوجية.
أما مايشيعه غلاة المدنية من تشبع المجتمع الغربي بأخلاقيات الصدق والأمانة في العمل التجاري, فان بعض ذلك موجود حقيقة كما هو موجود في غيرهم من الأمم, ولكن كثيراً منه ليس صدقاً وأمانة يبتغى بها وجه الله وليس نابعاً من الاخلاص لخالق الكون سبحانه, بقدر ماإنها "مصداقية تسويقية" مدفوعة بحسابات الربح والخسارة المادية ومهارات "الماركيتنج".
ويكشف ذلك احصائيات حجم الاختلاسات والسطو المنظم وفنون الجريمة في المجتمع الغربي, والذي تعرضه دوماً الدراسات الاجتماعية باسهاب, وتقتبس منه الصحافة أحياناً بعض النماذج, وهذا مما يؤكد أيضاً حاجة الغرب الى العلوم الالهية لتصحيح الدوافع.
ومن أوجه التناقض التفسيري الذي سبقت الاشارة اليه عند غلاة المدنية أنهم يرون أن التفسير السياسي لمفاهيم التراث وافتراض أن ثمة صفقات خفية بين رموز التراث والسلطة هو خطاب علمي متنور مستوعب للأدوات الانثروبولوجية, أما نقد الكتاب المعاصرين فهو دخول في النيات وتنقيب عما في القلوب وشق عما في الصدور, فاتهام نيات أئمة القرون المفضلة يعتبر خطاباً علمياً, أما اتهام الكتاب التجديفيين والروائيين العبثيين فهو دخول في النيات, فأي تناقض أبشع من ذلك.
وخلاصة الأمر من هذه الفقرة أن أضخم المخاطر من أنسنة التراث -بمعنى تفسيره مادياً- هو إساءة الظن به واسقاط قيمته, وبالتالي انفصال الشاب المسلم عن "النماذج الملهمة" والتي تغذيه بالإيمان والقيم, فيعرض عن التفاعل مع أخبار القرون المفضلة في عبوديتهم وعلمهم وزهدهم وجهادهم, حتى يذبل إيمانه وتذوي حيويته الدعوية, فانبتات الجذور استسلام للعاصفة.
أنسنة العلاقات:
من أهم المقولات عند غلاة المدنية قولهم (يجب أن نعمل للإنسان بما هو إنسان, بغض النظر عن هويته وعقيدته ودينه) ويرددون كثيرا لفظ "الإنسان" بصيغة مطلقة بدون إضافات تقيد أو تخصص, ويحمل بعضهم شعار "الأخوة الإنسانية" او "الآدمية المشتركة" أو "المذهب الإنساني" ونحوها من اللافتات التي تدور حول هذا المعنى.
والواقع أن هذه الدعوة -وإن كان البعض يرددها بحسن نية- إلا أنها تضمر سلخ الأوصاف القرآنية القطعية التي ميز الله على أساسها بين الناس وفاوت في العلاقات طبقاً للتفاوت فيها, كوصف المؤمن والمسلم والفاسق والكافر والمشرك والمنافق, ووضع هؤلاء جميعاً في مرتبة واحدة بناء على اشتراكهم في الإنسانية, ليصبح المسلم واليهودي والوثني على حد سواء لا فرق بينهم طالما أنهم يعملون لسعادة الإنسانية والسلام البشري!
يا ترى كم من الآيات يجب أن ننزعها من المصحف ليمكن للمرء تقبل هذه الدعوة؟ إن مجرد التأمل في هذه الدعوة وتصور مآلاتها ومؤداها كافٍ لردع المسلم -الذي يقدر الله حق قدره- عنها والتبرؤ منها.
لقد بين كتاب الله بشكل جلي واضح أن الإنسان إذا أعرض عن الإسلام والوحي فقد تكريمه الفطري الكوني الذي ذكره تعالى في قوله {ولقد كرمنا بني آدم} وأصبح مهاناً منحطاً في نظر الله ونظر أهل الإيمان, ولذلك لم تأت الشريعة بالمدح والتعظيم المطلق لـ"الإنسان" كما يتوهم بعض غلاة المدنية, بل إن القرآن بين في مواضع كثيرة ذم "الإنسان" إذا فقد شرف الإيمان ومن ذلك قوله تعالى:
{قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ}[عبس:17]
وقوله تعالى:
{وَكَانَ الإنسان كَفُورًا} [الإسراء:67]
وقوله تعالى:
{إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:15]
وقوله تعالى:
{إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُود}
وقوله تعالى:
{كَلا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى}
ومن تدبر المواضع القرآنية التي ورد فيها مفهوم "الإنسان" وجد أن الله سبحانه وتعالى يذم جنس الإنسان بمذام متنوعة ثم يستثني من عموم هذا الذم أهل الإيمان.
ومن ذلك أن الله تعالى تعالى أقسم بالزمان على أن الإنسان في خسارة تامة كما قال تعالى:
{وَالْعَصْرِ, إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ}
ثم أتبعها باستثناء أهل الإيمان من هذه الخسارة فقال:
{إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
وذم الله جنس الإنسان بصفة الهلع والجزع والشح ثم استثنى أهل الإيمان كما قال تعالى:
{إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعًا, إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا, وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا, إِلا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19-22].(57/151)
وذم الله جنس الإنسان بصفة القنوط والجحود والبطر ثم استثنى أهل الإيمان كما قال تعالى:
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ, وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ, إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}
وذم الله جنس الانسان بصفة الظلم والجهل, ثم أعقب ذلك بالتمييز التفصيلي في جنس هذا الانسان الظلوم الجهول على أساس الموقف الديني فقال تعالى:
(وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا, لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}
وهذا المعنى المتضمن ذم جنس "الانسان" ثم استثناء أهل الايمان له نظائر كثيرة في كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم , بل إن الله هدد الإنسان تهديداً مدوياً بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}
ولذلك لما سمع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رجلاً يقرأ هذه الآية قال: (غره والله جهله) والذي يبدوا أن عمر استنبط هذا المعنى من الآيات التي وصفت "الانسان" بالجهل كما سبقت الاشارة لبعض تلك الآيات.
فكيف يقال بعد ذلك أن الله كرم "الإنسان" وفضل "الإنسان" بغض النظر عن هويته الدينية, وأن الأديان لا تؤثر في كرامة الإنسان إيجاباً ولا سلباً, وأننا يجب أن نعمل لمفهوم "الإنسان" بغض النظر عن عقيدته, أو قول بعضهم لا تجعلوا الرأي الشخصي يفرق بين أبناء آدم, أليس في ذلك مشاقة لكلام الله سبحانه وتعالى الصريح؟
ومن الإنصاف أن نقول أن بعض الكتاب الذين يرددون هذه المقولة لم يتنبهوا لمضامينها المصادمة للميزان الإلهي, ولم تخطر ببالهم الآيات القرآنية في ذم الإنسان إذا فقد الإيمان.
وأتذكر أحد الكتاب المأخوذين بقضية الحضارة كان يردد في فترة سابقة: أن الإسلام السياسي همش "الإنسان" بينما القرآن كرمه وأعلى قدره, فكان يحاول أن يزاحم في قضية التأصيل ذاتها, ثم لما اصطدم بسيل الآيات القرآنية في منزلة غير المؤمن, تحولت نغمته السابقة وأصبح يردد: للأسف أن الإنسان في نصوصنا الدينية منزوٍ مهمش لا قيمة له, فتحول من إدانة الإسلاميين المعاصرين إلى إدانة نصوص الكتاب والسنة.
هذه الإلماحة السابقة إنما هي إشارة مختصرة لصلة هذا المذهب الإنساني بأصول الوحي, أما صلته بالواقع فالمذهب الإنساني في الحقيقة رؤية رومانسية حالمة, إذ لا يوجد أصلاً دولة من الدول اليوم شرقيها وغربيها تعمل للإنسان المطلق, بل تجدها تميز في الجنس الإنساني إما على أساس وطني أو قومي أو عرقي أو غير ذلك من المقاييس, فكيف نتقبل تمييز هذه الأمم بين المواطن وغير المواطن, ولا نقبل تمييز الله بين المسلم والكافر؟!
ومن أهم الآثار السلبية لهذه الدعوة أنها تضيع الثواب والأجر عند الله للعامل, فبدلاً من أن يعمل الإنسان لنفع المسلمين مبتغياً الثواب عند الله, يصبح يعمل لنفع الناس مسلمهم وكافرهم بهدف إنساني محض لا بهدف التقرب لله.
ومن قدر له أن يعايش بعض الغربيين ولو لفترة محدودة, ويحاورهم حول تصوراتهم عن غاية الحياة, ومعنى السعادة, ووظيفة المال, وقيمة الإيمان, وتفاصيل نظامهم الاجتماعي, فستتأكد له الصورة التي رسمها القرآن عن شخصية الكافر.
من رأى أولئك الكفار لاهثين في لجام الملاذ, منكبّين على الموائد, لايبالون مأتاها ومخرجها, ولا يرفعون رأساً بطيباتها من خبائثها, ويتضاحكون عالياً في ليلة غاب عنها القمر, ولم يستعدوا للقاء الله طرفة عين, فسيفريه العجب فرياً وهو ينظر إليهم ويتذكر قوله وتعالى في سورة محمد:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ}
فعلاً والله.. ألا ماأعظم هذا التشبيه الإلهي, أرأيت كيف تغيب رؤوس الأنعام في قلال العشب لا ترفع أعناقها إلا لتعود مرة أخرى, ليست مهمومة بلقاء الله, ولاتفكر في خالق ولا نبي ولا وحي ولا عبادة ولا بعث ولا حساب ولا عذاب ولا مستقبل أخروي حتى يفجؤها يومٌ يقتص فيه للشاة الجلحاء من الشاة القرناء, فتلك حياة الكافر.
وانظر إلى كتاب الله كيف يعيد سبحانه هذا التصوير والتشبيه بالأنعام مرة أخرى, مشيراً إلى علة ذلك وهي استغراق هؤلاء المساكين عقولهم وحواسهم في تدبير معاشهم الحاضر والإعراض عن الاستدلال بها على الله والاستعداد للقائه في الحياة المستقبلية القريبة, بل جعلهم هذه المرة في مرتبة أحط من مرتبة الأنعام كما قال سبحانه في سورة الأعراف:
{لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا, وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا, وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا, أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ, بَلْ هُمْ أَضَلُّ, أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}(57/152)
ويأتي سبحانه مرة ثالثة بذات التشبيه, وذات التعليل, وذات المرتبة, فيقول سبحانه في سورة الفرقان:
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ, إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ, بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا}
بل زاد سبحانه وتعالى في بيان دناءة وخسة مرتبتهم فجعلهم سبحانه في مرتبة أسوأ الدواب فقال في سورة الأنفال:
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}
وقال في موضع آخر من الأنفال:
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}
وفي موضع آخر من كتاب الله شبه الله سبحانه وتعالى نوعاً من الكفار بأرذل من ذلك فقال سبحانه في سورة الجمعة:
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ}
وضرب الله سبحانه مثلاً آخر أشد بشاعة لنوع آخر من الكفار وهم الذين بلغوا مرتبة من العلوم ولكنها لم تقدهم إلى الإيمان بالله, فشبههم بما هو أقبح من كل ماسبق, فقال سبحانه في سورة الأعراف:
{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}
فكل من أعرض عن هذا الإسلام ونور الوحي فهو في هذه المرتبة المنحطة, ولذلك وصفهم الله بالرجس لما تبرمت صدورهم عن قبول الإسلام, كما قال سبحانه في سورة الأنعام:
{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام , وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء, كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}
وذكر الله عنهم هذا الرجس أيضاً في سورة يونس أيضاً فقال سبحانه:
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ, وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}
فيالله العجب, كيف صار كثير من الأذكياء في مرتبة الأنعام والدواب في المعيار الإلهي؟! بل جعل بعض هذه أحياناً أشرف منهم! آيات قرآنية كأنها ضرب من الخيال في عصر الأنثربولوجيا الفرانكفونية, لكنها حقائق الوحي..
هذا بعض من صورة "الكافر" في كتاب الله, وهذه مرتبة الكافر في المعايير الإلهية, وهي فقط نماذج أوردتها للمقارنة بفكرة المذهب الإنساني الذي لا يفرق في جنس الإنسان على أساس الإيمان والكفر, ليتبين حجم التناقض والهوة التي ارتكبها هذا المذهب البائس.
فكم هو شعور عاصف بالألم حين يكتشف الإنسان أن معاييره غير تابعة للمعيار الإلهي, فيتفاجأ بمشاعره وأحاسيسه الداخلية تعظِّم من قد حطَّ الله منزلته, وتستهين بمن رفع الله شأنه!
فكيف نكرم من قد أهانه الله, والله تعالى يقول:
{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء}.
يتيبس الذهول في نظرات المرء حين يرتطم بكارثة معاييره وموازينه الشخصية وهي تتعارض مع معايير وموازين جبار السموات والأرض.
وإن كانت تلك المعايير والموازين الشخصية في كثير من الأحيان معايير مضمرة غير معلنة, لكنها حقيقة غامضة تتنكر في زي التمدن, وتمتح من نبع الهوى, وتظهر آثارها في خلجات الترحيب واستبشار الوجوه.
هذه حقائق الوحي, وهذا حكم الله وقراره, وهذا قضاء جبار السموات والأرض, إن كنا فعلاً نؤمن بالله, ونفخر بمضامين كلامه سبحانه, ونلتزم بمقرراته, ونقدره حق قدره.
أما التحرج من حقائق الوحي, والتدسس عنها مجاملةً لوسائل الاعلام, وتربيتاً على أكتاف الذوق الجماهيري الحديث, فلن تغير من حقائق الوحي شيئاً إلا إن استطعت أن تحجب الشمس بكف أرعشها الخجل.
أفيكون ربنا سبحانه أهون الناظرين إلينا فنجاملهم على حساب وحيه وحكمه وقضائه سبحانه, كيف ونحن نقرأ معيار صريح الإيمان (ثم لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت)؟!
ومما انبنى على هذا "الميزان الإنساني" أن بعض غلاة المدنية إذا تعرض لبعض الشخصيات غير المسلمة ذات الوزن التاريخي إما بسبب منجز معرفي أو بسبب نزعة سلمية فإن بعضهم يتجرأ ويجزم بأنه في "الجنة" وأنه لا يمكن أن يدخل "النار" حتى لو كفر بالإسلام.
ومن الإنصاف أن أذكر أن ثمة فئة من غير المسلمين صادقة في أحاسيسها ومشاعرها, ومخلصة في بذلها لا تطلب مصلحة, ولا حمية لقومها, ولا رياء وظهوراً, ولا حباً في الذكر الحسن, ولا جاهاً عند الناس, ولا طلبا لاحترام الآخرين, وإنما هي نزعة إنسانية رؤوفة محضة من بقايا الفطرة الربانية فيهم, وهذه الفئة المتجردة من حظوظ النفس -وان كانت محدودة عزيزة الوجود بطبيعة الحال- إلا أنه ماذا ستنفعها كل أخلاق الدنيا طالما أنها كافرة بـ "نبوة محمد" r؟! ماذا تنفع الإنسان كل أعمال الدنيا إذا كانت نفسه لم تعمرها الضراعة والإخبات ولم تتزك بالعلم بالله ومعاملته سبحانه وتعالى؟!(57/153)
هذا "أبوطالب" لم يؤذِ مسلماً واحداً, بل كان أذاه للكفار, فقد كان سنداً لرسول الله صلى الله وسلم في دعوته فنصره وحامى عنه, وتلطف له وأحبه, بل لقد كان في نفسه يعلم صدق خبر محمد عن نبوته, وبذل جاهه وشيئاً من سمعته في سبيل الذود عنه, بل وأوذي فيه, وما تطاول الكفار على صلى الله عليه وسلم حتى مات ابوطالب, ومع ذلك هو في ضحضاح من نار, بل لقد نهى الله ابن أخيه صلى الله عليه وسلم الذي انتفع بحمايته من أن يدعوا له, ولم يجعل ذلك أبسط الوفاء له! وماذاك إلا لأنه أعرض عن الانصياع التام لحكم الوحي.
وهذا عبدالله بن جُدعان ملأ الجزيرة العربية بالأعمال الإنسانية المحضة من إغاثة الملهوفين وإيواء الضعفة ومع ذلك لم ينفعه ذلك لأنه لم ينكسر يوماً بين يدي الله كما روى الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين, فهل ذاك نافعه؟ فقال صلى الله عليه وسلم
(لا ينفعه, إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)
وهذا حاتم الطائي كان يتعشق الإحسان للناس في جزيرة قاحلة, ويبذل من ماله الخاص ليطعم الجائع ويكسو العاري, ومع ذلك لم ينفعه ذلك في ميزان الله لا لشيء إلا لأنه لم يؤمن بالوحي, فقد روى أصحاب السير أنه لما وصلت "سبايا طيء" وقفت ابنة حاتم الطائي وقالت لرسول ا صلى الله عليه وسلم : إن أبي كان يحمي الذمار, ويفك العاني, ويشبع الجائع, ويكسو العاري, ولم يرد طالب حاجة قط, أنا ابنة حاتم طيء, فقال رسول الله :
(يا جارية هذه صفة المؤمنين حقاً, ولو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه..)
فليس لأعماله وزن في ميزان الله لأن "قبول هذه الأعمال معذوق بالإيمان" كما يعبر ابن كثير رحمه الله ..
لن يغني هؤلاء الإنسانيين -على قلتهم- أنهم مؤمنون بالله, أو أنهم لم يشركوا بالله في عبادته, أو أنهم قدموا نفعاً للبشرية -كما يقوله بعض المفكرين- طالما أنهم لم يؤمنوا بـ"نبوة محمد" صلى الله عليه وسلم . ولذلك قال مفسر المعتزلة العلامة جارالله الزمخشري:
(من لم يجمع بين الإيمانين: الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر)
وقد دل على ذلك قوله تعالى في سورة الفتح:
{وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا}
فمن لم يجمع الإيمانين فهو كافر.
وقد علل الله سبحانه حبوط كثير من الأعمال بالكفر بـ"نبوة محمد" r وقرنها بالكفر به سبحانه كما قال تعالى:
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ}
وقال تعالى أيضاً:
{فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ}
فلو فرضنا عملاً إنسانياً محضاً لايريد به صاحبه مالاً ولا منصباً ولا جاهاً ولا ظهوراً ولا شهرةً ولا تصدراً ولا رياسةً ولا طلباً للذكر الحسن عند الناس ولا أي مصلحة مادية أو معنوية فان ذلك كله -على فرض وجوده- لاينفع صاحبه طالما أنه كافر بنبوةمحمد صلى الله عليه وسلم , فأعمال الكفار كلها حابطة في ميزان الله بمجرد أن يعرضوا عن شيء من مضامين الوحي كما قال تعالى في سورة محمد:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ, ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}
وقد شبه الله حبوط أعمال الكفار تشبيهات ذات دلالة بليغة فشبهها سبحانه تارة بالهباء كما قال سبحانه في سورة الفرقان:
{وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا}
وكشفت هذه الآية أن هذه الأعمال التي جاء بها الكفار يوم القيامة هي "أعمال محمودة" في ذاتها وحسنة في أصلها, لكن الله لم يقبلها منهم ولم تنفعهم, ولو لم تكن محمودة في ذاتها لم يجعلها هباءً, بل لجعلها وبالاً, فإن الآثام تحتسب على الكافر ولا تذهب هباء, وإنما الذي يذهب هباء هو العمل المحمود في أصله لكنه لم يقبل لفوات شرط القبول.
وفي موضع آخر جعل الله أعمال الكفار كالرماد المتطاير كما قال في سورة ابراهيم:
{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}
وجعلها في موضع آخر كالسراب الزائف كما قال في سورة النور:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}
ومما هو لصيق الصلة بهذه الرؤية أنك تجد غلاة المدنية يتحدثون عن خيرية العالم المعاصر, وجمال الإنسانية المعاصرة, ونحو ذلك, ويعتبرون الحديث عن حجم الضلال "نظرة سوداوية" منعكسة عن رؤية همجية ونحو ذلك.
والواقع أن الحديث عن غلبة الفساد والضلال على العالم هي رؤية قرآنية تضافرت آيات القرآن على تأكيدها, ومن ذلك قوله تعالى:
{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]
وقوله سبحانه:
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116](57/154)
وقال سبحانه وتعالى:
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20]
وجاءت كثير من آيات القرآن بنسبة أوصاف من الذم إلى أكثر الناس, فقال تعالى:
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وقال سبحانه {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} وقال سبحانه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} وقال سبحانه {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ}
بل إن الله سبحانه وتعالى ذكر أنه لو آخذ الناس بكل ذنوبهم لما بقي أحد كما قال تعالى:
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}
وقال سبحانه في موضع آخر:
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [ فاطر:41-45]
ونحو هذه الآيات الكثيرة التي تكشف غلبة الضلال والفساد في جنس الإنسان بما يتناقض مع الرؤية الحالمة التي يروجها بعض غلاة المدنية.
وخلاصة الأمر أن مفهوم الأنسنة في هذا السياق ينطوي على استبعاد المضمون الديني من صياغة علاقاتنا بالآخرين, وهذا انحراف عن الوحي يؤول بصاحبه إلى مآلات خطيرة, نسأل الله أن يعفو عنا جميعاً.
خصوم الدعوات كمعطى تاريخي:
كثير من غلاة المدنية يميلون إلى تصوير الواقع الثقافي اليوم باعتباره مجرد "اختلاف فكري" ويحاولون دوماً تغييب "الدافع الديني" كعامل فاعل في رسم المسافات بين الفرقاء, صحيح أن هناك مساحة واسعة من الاختلاف الفكري هي "اختلاف اجتهادي" لايجوز شرعاً تصعيده إلى معاقد الولاء والمفاصلة, وصحيح أيضاً أن ثمة نزراً من المتسرعين المنتسبين للإسلاميين تحت أقنعة إلكترونية مستعارة يفسقون ويضللون على أساس مسائل اجتهادية, هذا ما لا يجوز إنكاره.
ولكن عين الباطل سحب هذه التصور على كافة هذا الاختلاف بأريحية صالون ثقافي أو عرض أكاديمي, وتصور أن كافة الاختلاف الفكري اليوم إنما هو مجرد "اجتهادات ثقافية".
ومما بنوا على ذلك أنه يجب أن ننظر للكتاب المنتسبين للإسلام اليوم نظرة واحدة, ولايقبل التمييز والتفاوت بينهم على أسس دينية, فكل من انتسب للإسلام وجبت موالاته سواء كان معروفاً بالتقوى والفقه في الدين ونصر الإسلام أم كان معروفاً بالإعراض عن الوحي والقدح في قطعيات الشريعة, فكلهم مسلمون ومايطرحونه مجرد اجتهادات فكرية, ولذلك يتضايق غلاة المدنية من استحضار المفاهيم الشرعية كمفهوم الإفساد في الأرض ومفهوم النفاق ونحوها من المفاهيم أثناء بحث الشأن الثقافي.
والواقع أن هذه الرؤية تتضمن تغييب الكثير من معطيات الوحي, وسنشير إلى بعض ذلك:
فأولاً وقبل كل شئ يجب أن نقر أن ثمة قانون تاريخي وهو أنه لا يخلو زمان من وجود ظاهرة "خصوم الدين" ممن يجاهرون بمشاقة الله ورسوله, وقد كشف القرآن الكريم عن هذا القانون التاريخي كما قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِين}
وبين سبحانه نوعي الأعداء بقوله سبحانه:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ }
وهؤلاء الخصوم المحادين للدعوات الإلهية لا تكاد تخلوا منهم بقعة من الأرض كما قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا}
فهذه ظاهرة دل عليها الوحي وأكدها التاريخ, فلا يجوز اعتبار القضية كلها قضية فكرية لا صلة لها بالموقف من الدين والوحي.
ولكن مع يقيننا بهذه الظاهرة التاريخية الشرعية فإنه لا يجوز ربط التصنيفات الفكرية المحدثة بهذا الوصف الشرعي مطلقاً, فثمة في الساحة اليوم تصنيفات فكرية متعددة بعضها مستقى من مذاهب غربية وبعضها الآخر مستوحى من تجارب تراثية, وهناك جدل في إلحاق التكفير أو التفسيق أو عداوة الإسلام بمثل هذه الألقاب, والواقع أن هذه التصنيفات الفكرية هي ألقاب محدثة أصلاً لا يعلق عليها مدح ولا ذم شرعي مطلق, وإنما المدح والذم الشرعي المطلق يكون بالأوصاف الشرعية التي علق الله ورسوله عليها الأحكام, في تفاصيل منظمة في باب الأسماء والأحكام من علم أصول الدين.
فالمدح والذم المطلق إنما يعلق باسم المحسن والمؤمن والمسلم والفاسق ومن في قلبه مرض والفاجر والمشرك والكافر والمنافق ونحوها, وتعيينها في الشخص المعين يكون باستفراغ الوسع في سبر تحقق الشروط وانتفاء الموانع.
ولا يقال طبعاً إنه لا يمكن الجزم بمعرفة الإيمان مثلاً ونحوه من الأعمال القلبية, وأننا لم نؤمر بالتنقيب عن قلوب الناس, فإن الإيمان ونحوه من الأعمال القلبية له نوعان من الأحكام: أحكام أخروية كالجزم بمصير المعين في جنة أونار, فهذا إلى الله.
وأحكام دنيوية كالموالاة والشهادة له بالخير فهذا يعرف في الدنيا وتعلق عليه أحكامه بالنظر إلى آثاره والتوسم في أماراته وآياته في الشخص المعين, ولذلك قال تعالى:(57/155)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الْكُفَّارِ}
فدل على إمكانية معرفة ظاهر الإيمان في الشخص المعين بالتوسم في أماراته, لا بالتنقيب عما استتر من مكنوناته.
ومما ينبغي التنبه له أن الولاء في الشريعة ليس على درجة واحدة كما يتوهمه غلاة المدنية, بمعنى ليس درجة واحدة يستوي فيها كل مسلم, بل الولاء للمسلمين درجات, فيتفاوت بحسب مافي المسلم من الإيمان والعمل الصالح وموالاة الوحي والقرون المفضلة, وهو نظير كون البراء والمعاداة تتفاوت بحسب ما في الكافر من مسالمة ومحادة ونحوها.
وهذا المعنى ظاهر في آيات القرآن وتصرفات صلى الله عليه وسلم وفقهاء أصحابه, وقد دلت على ذلك آيات "عامة" يدخل فيها المسلم وغيره, وليست مختصة بالكافر, فقد ذكر الله سبحانه أن المؤمن والفاسق وإن كانا يشملهما اسم الإيمان لكنهما لايكونان في منزلة واحدة كما قال تعالى:
{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ}
وقال تعالى في سورة الجاثية:
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}
وقال تعالى في سورة ص:
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ}
ثم قال بعدها:
{أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}
ومن المعلوم أن مطلق الفسق واجتراح السيئات والإفساد في الأرض والفجور كلها لا تخرج المسلم بمطلقها من الإسلام، فيبقى صاحبها مشمولاً بهذا التمييز في المنزلة والمكانة عند الله, وميزان المسلم تبع لميزان الله تعالى.
وتفاوت الولاء فرع عن تفاوت المنزلة الدينية الظاهرة, ولذلك فإن الله تعالى فاوت الولاء بحسب منزلة المؤمن فقال سبحانه:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ, وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}
فانظر كيف جعل صيغة العلاقات تتفاوت بحسب التفاوت في درجة الإيمان والمجاهدة, فمن آمن وهاجر كانت له الموالاة التامة, ومن آمن ولم يهاجر نقصت ولايته بقدره, فكيف بمن اشتغل بإثارة المشتبهات وتزيين الفنون الغربية وتسويغ ما تضمنته من الفواحش والقيم المنحطة.
وهكذا كانت سيرة صلى الله عليه وسلم وهديه في التعامل مع المسلمين في عصره فإنه يزيد في موالاة المسلم بحسب قيامه بشعائر الدين الظاهرة, وينقص في موالاته للمسلم بقدر نقصه في أمر الله.
ولذلك هجر صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه خمسين ليلة -كما في البخاري ومسلم- حتى قال الطبري: (قصة كعب بن مالك أصل في هجران أهل المعاصي).
ولما قالت زينب للنبي صلى الله عليه وسلم "أنا أعطي تلك اليهودية" تعيب بذلك صفية, هجرها النبي زهاء شهرين فقد روى الامام ابوداود عن عائشة قالت:
(اعتل بعير لصفية بنت حيي, وعند زينب فضل ظهر, فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم لزينب: أعطيها بعيرا, فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية؟! فغضب رسول ا صلى الله عليه وسلم , فهجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر)
والحقيقة أن التطبيقات الخاطئة في فهم تصرفات صلى الله عليه وسلم وسلوكياته في سيرته, خصوصاً في مثل هذه القضايا, يجب أن لا تدعونا للانقلاب على هذا الأصل كله, فقد كان هذا منهج أئمة القرون المفضلة فقد استفاض عنهم تفاوت الولاء بحسب قيام المسلم بالكتاب والسنة, ونقص موالاته بحسب ابتعاده عنها, وقد لخص الغزالي القدر المشترك في هذه الأخبار المستفيضة فقال في عبارته الجميلة:
(طرق السلف اختلفت في إظهار البغض مع أهل المعاصي، وكلهم اتفقوا على إظهار البغض للظَّلَمة والمبتدعة، وكل من عصى معصية متعدية إلى غيره).
ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه أن الصحابي الجليل عبدالله بن عمر لما أخبره يحيى بن يعمر عن قوم أنكروا القدر قال ابن عمر: (إذا رجعت إليهم فقل لهم: ابن عمر يقول لكم: إنه منكم بريء، وأنتم منه براء).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :(57/156)
(وأما إذا أظهر الرجل المنكرات: وجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره ، فلا يسلم عليه، ولا يرد عليه السلام، إذا كان الفاعل لذلك متمكناً من ذلك من غير مفسدة راجحة, وينبغي لأهل الخير والدين أن يهجروه ميتاً كما هجروه حياً، إذا كان في ذلك كف لأمثاله من المجرمين, فيتركون تشييع جنازته، كما ترك النبى صلى الله عليه وسلم على غير واحد من أهل الجرائم ، وكما قيل لسمرة ابن جندب : إن ابنك مات البارحة، فقال : لو مات لم أصل عليه ، يعني لأنه أعان على قتل نفسه فيكون كقاتل نفسه، وقد ترك النبي الصلاة على قاتل نفسه, وكذلك هجر الصحابة الثلاثة الذين ظهر ذنبهم في ترك الجهاد الواجب حتى تاب الله عليهم ، فإذا أظهر التوبة أظهر له الخير).
فسائر ما روي من جنس هذه المواقف التي اتخذها صلى الله عليه وسلم وفقهاء أصحابه وأئمة القرون المفضلة إنما هو نوع من "البراء الأصغر" الذي يدور مع علته وجوداً وعدماً, وهو مرتبط أيضاً بالمصلحة الشرعية فإذا عارضته مفسدة راجحة لم يكن محموداً.
وانعكاساً لتفاوت الولاء بحسب تفاوت المنزلة, فإن العقوبة على التعرض للمؤمنين تتفاوت بحسب تفاوت منازلهم أيضاً, فهو مطرد منعكس, فمن عادى ولياً لله ليس كمن عادى مسلماً فاجراً, ولذلك قال تعالى في الحديث القدسي (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب).
على أية حال .. فإن تفاوت الموالاة وتفاوت المعاداة هما فرع عن الأصل العظيم الذي ينتظم الشريعة كلها, وهو أصل العدل والقسط, فالشريعة لا تسوي بين المختلفين كما أنها لا تفرق بين متماثلين, وهو معنى الميزان الذي ذكره الله سبحانه في عدة موضع من القرآن, كقوله تعالى:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}
وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ}
وقوله تعالى: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}
وهذه النصوص الشرعية تكشف سقوط دعوى غلاة المدنية حين قالوا أن البراء لايكون إلا من الكافر أو من الكافر المحارب, أو أن الولاء للمسلمين لا يتفاوت.
على أنه لو لم ترد تلك النصوص الخاصة في البراء الأصغر, فإن الاستدلال بالنصوص الواردة في البراء الأكبر على البراء الأصغر كافٍ في بيان الحق, وهو من ضرب الأمثال التي أشار القرآن إلى كونها تبيانا لكل شئ, فهو استدلال ببعض المعنى لا أنه قياس شمول ولا قياس أولى, فيؤخذ من جزء الحكم بقدر ما تحقق من جزء العلة إذا لم يوجد ما يعارضها.
وهذا النوع من الاستدلال كان من منهج صلى الله عليه وسلم وفقهاء أصحابه وعموم أئمة القرون المفضلة, فكانوا يستدلون بما نزل في الشرك الأكبر على الأصغر, ويستدلون بما نزل في عقوبات الكفار بأوصاف معينة على من شاركهم من المسلمين في عين ذلك الوصف.
ففي سنن الترمذي عن أبى واقد الليثى أن النبي وأصحابه لما مروا بالكفار وهم يتبركون بشجرة ذات أنواط طلب بعض الصحابة أن يكون لهم شجرة يتبركون بها, فهذا التبرك الذي طلبوه كان شركاً أصغر, ومع ذلك فقد نهاهم صلى الله عليه وسلم واستدل بآية نزلت في الشرك الأكبر فقال صلى الله عليه:
(قلتم و الذى نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم ءالهة قال أنكم تجهلون)
ولما رأى الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رجلاً من المسلمين في يده خيط يستعمله كتميمة, قطعه وتلا قوله تعالى (ومايؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) فاستدل بما نزل في الأكبر على الأصغر بجامع بعض المعنى.
ولما سئل ترجمان القرآن عبدالله ابن عباس عن قوله تعالى في سورة البقرة (فلاتجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) قال : هو كقول الرجل "لولا الله وأنت" ففسرها بقادح أصغر, برغم كونها في القادح الأكبر, لاشتراكهما في أصل التفات القلب لغير الله.
وعندما مر علي بن أبي طالب بقوم يلعبون الشطرنج على وجه محرم يفضي لترك الواجب الشرعي نهاهم وتلا قوله تعالى (ماهذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) فاستدل بآية في الشرك على المعصية بجامع شدة التعلق المفضي لانتقاص قدر الله جل وعلا.
وفي قوله تعالى (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) قال غير واحد من السلف كعلي بن أبي طالب والضحاك وغيرهم هم "الحرورية", برغم كون الآية نزلت قبل أن يخلق الحرورية أصلاً, وذلك منه رضي الله عنه استدلال بمانزل في الأكبر على الأصغر, بجامع بعض المعنى.
وهذا الوجه من الاستدلال بما نزل في الأكبر على الأصغر بجامع اشتراكهما في أصل المعنى شائع مستفيض في فقه القرون المفضلة, ومن طالع التفاسير الأثرية المعنية بنقل تأويل النبي وأصحابه والتابعين رأى كثرة ما فيها من هذا الضرب من الاستدلال.(57/157)
وكثير من الكتاب اليوم يظنون أن "النفاق" الذي تحدث الله عنه في القرآن وأسهب في تصويره إنما هو النفاق المحض الذي هو إبطان الكفر وإظهار الإسلام, وتبعاً لذلك يستبعدون وجوده ويستعظمون استحضار هذا المصطلح الشرعي, ويهولون على من ينبس به.
والواقع أن النفاق ليس محصوراً في النفاق المحض, فإن النفاق المحض الخالص قليل في المسلمين اليوم ولله الحمد, حتى أن حذيفة -وهو أعلم الصحابة بأسرار النفاق- قال كما روى البخاري في الصحيح عنه: (إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم , فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان).
ولكن هناك ما هو غير النفاق المحض وهو أن يقع الإنسان في "شعبة" من شعب النفاق -نسأل الله السلامة والعافية- فربما تجارت بالإنسان فأهلكته وربما أدركه لطف الله جل وعلا.
ولذلك روى البخاري أن صلى الله عليه وسلم قال في شعب النفاق العملي (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا, ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه "شعبة من النفاق" حتى يدعها..الحديث)
وشعب النفاق تكون في الوقوع في عمل من أعمال المنافقين, كما قال صلى الله عليه وسلم (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على "شعبة من نفاق" )
ولذلك فرق الله في القرآن كثيراً بين اسم "المنافق المطلق" وبين المسلم الذي "في قلبه مرض" أي شعبة من النفاق, وعطفهم على بعضهم في كثير من المواضع مبيناً اشتراكهم في بعض شعب النفاق, كما قال تعالى:
{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ}
وقال تعالى أيضا:
{لئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ..الآية}
وقد علق الإمام ابن كثير على الآية الأولى وهي قول المنافقين ومن فيهم شعبة نفاق حين ادلهمت الأزمة الأمنية: "ماوعدنا الله ورسوله إلا غرورا" تعليقاً مشبعاً بالبلاغة حيث قال:
(أما المنافق فنجم نفاقه، والذي في قلبه شبهة أو حسِيْكَة ضَعُف حاله فتنفس بما يجده من الوسواس في نفسه؛ لضعف إيمانه وشدة ما هو فيه من ضيق الحال).
وشعب النفاق كما هي شعب الإيمان كلاهما يعرف بالتوسم في الأمارات والأحوال والآيات والعلامات كما قال تعالى في سورة محمد:
{وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}
وأشار صلى الله عليه وسلم إلى بعض أمارات شعب النفاق وشعب الإيمان في صحيح البخاري فقال: (آية الإيمان حب الأنصار, وآية النفاق بغض الأنصار)
وهذه العلامات والآيات تورث التهمة, فتقوى وتضعف بحسبها, وقد كان الصحابة -خلا حذيفة- لايعلمون أسماء المنافقين تعييناً, بل كان صلى الله عليه وسلم لايعرف بعضهم كما قال تعالى (لاتعلمهم نحن نعلمهم), وإنما كان الصحابة يعلمون كثيراً منهم بحسب هذه الأمارات فيكون فيهم متهماً بذلك, ولذلك فإن كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلف عن الغزاة في قصته الشهيرة ذكر أنه لم يجد في المدينة إلا من كان متهما ومغموزاً بالنفاق, كما روى البخاري عن كعب أنه قال:
(فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول ا صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق)
أي مطعونا عليه في دينه ومتهما بالنفاق, كما ذكر غير واحد من شراح الصحيح.
ومن تدبر شعب النفاق التي ذكرها الله في مواضع متفرقة من القرآن خصوصاً مطلع البقرة والتوبة والأنفال ونحوها من السور المدنية علم سر قلق الصحابة من النفاق, فالصحابة لم تكن خشيتهم الأساسية أن يبطنوا الكفر ويظهروا الإسلام, فهذا أمر ظاهر, وإنما كانوا يخشون أن يقع أحدهم في شعبة من شعب النفاق الدقيقة, ولذلك وصف التابعي الجليل ابن أبي مليكة حالهم فقال كما في صحيح البخاري:
(أدركت ثلاثين من أصحاب صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه)
ومما يبين ويوضح أن قلقهم الأساسي لم يكن من النفاق الخالص وإنما كان من شعب النفاق تتمة هذا الأثر حيث يقول ابن أبي مليكة:
(ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل)
فتبين أنهم عنوا نقص الإيمان الكامل بما يعارضه من شعب النفاق, وإنما كانت خشيتهم من شعب النفاق لأن شعب النفاق قد تتجارى بالإنسان حتى تهلكه, فيزداد وارد هذه الشعب حتى يضعف المحل عن احتمالها فيخرج منه نور الإيمان والعياذ بالله, كما قال تعالى:
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}
وجاء نظير هذا المعنى في التوبة فقال تعالى:
{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ}
ثم إن شعب النفاق إذا نقلت المرء إلى اسم النفاق المطلق فإن هذا النفاق التام يتفاوت أيضاً بحسب شدة صاحبه في مناهضة وبغض أمر الله ورسوله, فهناك المنافق وهناك من مرد على النفاق, كما يقال شيطان وشيطان مريد, كما قال تعالى:
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}(57/158)
ومن أعظم شعب النفاق التبرم بمرجعية الوحي, وازدراء القرون المفضلة, واللهج بذكر الكفار وامتلاء القلب بتعظيمهم, هذه كلها من شعب النفاق, والتي يقاربها كثير من الكتاب اليوم فمستقل ومستكثر.
وحتى لا يكون الكلام تجريدياً نذكر بعض الأمثلة, فحين يكتب أحد رموز الفرانكفونية المشهورين عدة دراسات يقول فيها أن "القرآن أسطوري البنية" ويحاول في دراسات كثيرة أن يربط القرآن بالثقافات السابقة للإسلام ويتكلم عن حجم الاقتراض الثقافي, أو حين يكتب باحث شهير آخر في رسالته الجامعية بأن القصص الفني في القرآن هي مجرد "أساطير" لا حقيقة لها وأنه يجوز نقدها تاريخياً, أو حين يقول رائد التغريب المطلق بأن "حديث الكتب السماوية عن إبراهيم وموسى لا تعني مصداقية الوجود التاريخي", أو حين يكتب باحث آخر بأن "القرآن منتج ثقافي" كحصيلة التفاعل مع البيئة العربية, مع محاولاتهم المستمرة لربط القرآن بالموروث الديني عند ورقة بن نوفل أو بحيرى الراهب أو غيره, ونحو ذلك.
فهل يشك باحث صادق امتلأ قلبه بتعظيم الله وقدره حق قدره أن هذا كله من شعب النفاق؟! هل يشك إنسان يعظم الله أكثر من تعظيم الذوق الحديث بأن هذه المقالات من "الإفساد في الأرض" ومن "الفجور" الذي قال الله عنه:
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ, أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}
فمالفرق بين هذا النمط من الباحثين الذين يربطون القرآن بالأساطير السابقة للإسلام وبين قول كفار قريش:
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا, فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا}
وهي ذات نظرية كفار قريش حين زعموا أن القرآن مأخوذ من غلام مسيحي اسمه "جبر" كان يبيع عند الصفا وهو عبد لابن الحضرمي, كما ذكر ذلك ابن اسحاق في السيرة, ونص الله على مقالتهم تلك وأشار بوجه دقيق إلى بطلانها نتيجة استحالة التواصل اللغوي, فقال سبحانه:
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ, لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}
وقريب من هذه الأقول الشنيعة قول أحد الباحثين "أن الشريعة والسلف اعتقلانا, فيجب أن ننطلق من البرهان أي العقل المطلق" فهذا معنى مخيف, لا يتسامح تجاهه إلا من ضعف قدر الله في قلبه.
وكثير من هؤلاء المثقفين المأزومين تجاه "النص المؤسس" كما يسميه بعضهم يغمغمون في العبارة ويراوغون ويرسلون كلاماً مشتبها حول مقدسات الوحي وَجَلاً من حميَّة الناس لدينهم, ولا يوجلون من الله وهم ينتهكون حرمته, ولو كان لدى القارئ المسلم فسحة أكثر من ذلك لرأيت تصريحاً أكثر بجاحة وأشنع, وهذه أيضاً من شعب النفاق فقد أخبرنا الله سبحانه أن الخوف من الجمهور أكثر من الخوف الله من شعب النفاق كما قال سبحانه:
{لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ}
وجاء نظير هذا المعنى في سورة النساء فقال سبحانه:
{إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}
وقد أمرنا الله أن نعرض عن هذا الضرب ولا نواليه, كما قال تعالى :
{وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ}
بل إن دعوتهم إلى تجاوز فهم القرون المفضلة الذي اعتقلنا -كما يزعمون- هو مما أيقظنا الشارع إلى حدوثه وحذرنا من أهله فقد روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
«سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم».
وأمارة هذا الضرب من الناس اتباع المتشابهات وترك المحكمات والشغف بالتفسير الغريب على طبيعة الوحي وسيرة النبي وأصحابه, كما قال تعالى:
{هُوَ الَذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ}
وفي الصحيحين أن صلى الله عليه وسلم أكد هذه الأمارة التي ذكرتها الآية فقال صلى الله عليه وسلم
(فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)
وذكر ذلك النبي صلى الله عليه في سياق آخر كما روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
« ما من نبي بعثه الله تعالى في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب ، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف: يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل »(57/159)
والمقصود من هذا كله أن الباحث العاقل المنصف المتجرد إذا تأمل نصوص الوحي الإلهي ورأى أن الشارع اعتبر خيانة الأمانة وفجور الخصومة وترك تحديث النفس بالجهاد وبغض الأنصار والارتياب في وعد الله ونحوها كلها من "شعب النفاق" فإنه لايشك طرفة عين أن التبرم بمرجعية الوحي, والإزراء بفهم القرون المفضلة, واللهج بتعظيم الكفار, وربط القرآن بالأساطير السابقة للإسلام, واعتبار الشريعة والسلف قد اعتقلانا, أنها كلها شعب من النفاق أشد وأبشع, ولا موقع للمجاملة في مثل هذه القضايا.
وبعض الناس يرى أن هذا فيه شيء من المبالغة, والحقيقة أن ما سبق من الآيات يكشف أن ما ذكرنا دون ما جاءت به الآيات أصلاً, ومع ذلك سأضرب لذلك مثلاً أتمنى أن يوضح الصورة أكثر: إذا كان مجرد "الجهر بالصوت" عند رسول ا صلى الله عليه وسلم يتصادم مع توقيره بما يصل إلى "حبوط العمل" كله كما قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَاتشعرون}
فكيف سيكون شأن من ينقر ويقمش ويجمع ساقط المرويات ليهز ثقة القارئ في القرآن والسنة؟
شتيمة الدوغمائية:
يلاحظ المتابع لخطاب غلاة المدنية ولعهم المبالغ فيه بذكر "النسبية" واتهام المخالفين لهم بمصطلحات الوثوقية والدوغمائية واليقينية ونحوها.
والنسبية في المسائل الاجتهادية حق لا مرية فيه أقره الشارع في حديث "لايصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة", ولكن المؤلم في خطاب غلاة المدنية أن بعضهم يتحدث نظرياً عن النسبية فيما دون القطعيات, ولكنك تكتشف أن هذه النسبية لا تتوقف أصلاً, بل تمتد وتمتد يوماً بعد يوم, فكل من خالف في قطعي من قطعيات الوحي سواء كان متقدماً أم معاصراً تجد من يبرر له ذلك بشعار النسبية.
ومن واقع تجربة مرة فإن أكثر من قرأت له من غلاة المدنية عن النسبية وجدته في بادئ الأمر يتحدث عن النسبية في الاجتهاديات، وهذا مستوى محمود لا شك فيه, إلا أنه بعد فترة يقفز إلى تطبيق النسبية في كل شئ, فكثير من غلاة المدنية يجعلون كل شئ "نظراً شخصيا محضاً", ولا يجعلون لمعطى من المعطيات الشرعية -مهما كان قطعيته وحسمه وصراحته ووضوحه- شأنا يستحق الجزم واليقين المطلق.
ومما بنوا على أصل النسبية أنهم يسمون الغيرة على الشريعة والفضيلة "توتراً" ويطلقون على الداعية الذي يغضب ويتمعر وجهه إذا انتهكت الأصول الشرعية "متوتراً" أو يسمونه "نزقاً" ونحو هذه الأوصاف والعيوب.
ومما بنوا على أصل النسبية أيضاً التبرم بالحديث عن "شرف هذه الأمة" وفضلها على سائر الأمم, وينزعجون كثيراً من الحديث عن اجتباء هذه الأمة واصطفائها وحب الله لها, ويرونه لوناً من الوهم والتضليل والوثوقية.
ومما بنوا على أصل النسبية أيضاً أنهم يسمون إنكار المنكرات الشرعية ونهي المقصر "إقصاءً", ولذلك يتباهى كثير من غلاة المدنية ببرودهم أمام مظاهر التقصير الديني باعتبارها "حرية شخصية", ويجعلون سجية "التواصي" التي شرفها الله "وصاية" ويكثرون من تنقصها.
فإذا تأمل القارئ هذه الظاهرة اعتصره الألم وهو يرى محامد الوحي تتحول إلى مذامّ بألاعيب الألفاظ وتزويق المفردات.
والحقيقة أن من راقب مآلات النسبية رأى أنها الطريق الذي يقود المرء خطوة خطوة إلى "العدمية" المحضة التي لا تكاد تثبت شيئاً, وتجعلك غير قادر على الحماس لأي معطى شرعي, وتسلب المرء فضيلة اليقين وتقحمه في كهوف الارتياب والحيرة والتردد.
ولذلك فإن جبريل حين جلس إلى صلى الله عليه وسلم وسأله في ذلك المجلس الذي قررت فيه أصول الدين الثلاث الإحسان والإيمان والإسلام, جعل أشرف هذه المراتب هي "الاحسان" وعرف الإحسان باليقين الحاسم الذي ليس دونه أدنى تردد, بحيث لا يوجد في قلب المرء إلا هذه الحقيقة, فقال "الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه", فجعل الإحسان هو امتلاء القلب بحقيقة الألوهية بحيث كأنه يشاهد الله عياناً, والواقع أن من لهث خلف سراب النسبية فقد أغلق الباب بينه وبين هذه المنزلة التي هي أشرف منازل الدين, فبدل أن يجاهد نفسه لتستيقن أصبح يجاهد نفسه لترتاب.
والحقيقة أن التأمل في سيرة صلى الله عليه وسلم يكشف لنا بكل وضوح أن الحماس والغيرة على الشريعة والغضب لله ورسوله من المقامات المحمودة وليس توتراً ولا نزقاً ولا وصاية ولا إقصاء.
فمن ذلك ماروى البخاري في صحيحه من حديث عائشة أن النبي لما رأى قرام التصاوير يستعملونه ستراً تلون وجهه من الغضب.
وروى البخاري أيضاً من حديث ابن مسعود في حديث الذي يتأخر عن صلاة الغداة (لطول الصلاة) قال ابن مسعود: فما رأيت النبي أشد غضباً في موعظة منه.
وروى البخاري أيضاً من حديث زيد بن خالد الجهني في الذي سأله عن ضالة الإبل قال "فغضب رسول الله حتى احمرت وجنتاه, أو احمر وجهه" ثم قال: (ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها حتى يلقاها ربها).
وروى البخاري أيضاً من حديث ابن عمر أن النبي لما رأى القذاة في المسجد "تغيظ".(57/160)
وغيرها كثير وإنما أردنا المثال لا الاستيعاب, حيث تبين هذه الأحاديث غيرة صلى الله عليه وسلم وغضبه لله في مسائل من الأصول ومسائل من الفروع, فغضب من تطويل الصلاة ومن تعليق الصور ومن التقاط ضالة الإبل ومن القذاة في المسجد وغيرها.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يخطب في شؤون الإسلام ببرود معرفي كما يتصور غلاة المدنية, بل كانت تظهر عليه آثار الغضب والغيره, ففي صحيح مسلم من حديث جابر قال:
(كان رسول ا صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه, وعلا صوته, واشتد غضبه, حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم, ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى)
فكيف يقال بعد ذلك إن الغيرة على محكمات الإيمان والشريعة والفضيلة والغضب لله ورسوله من التوتر والنزق الوصاية والإقصاء ونحوها من الشتائم؟
فالغضب لله ورسوله ليس انتقاماً شخصياً, وشهوة تسلط على الناس, بل هو من أسمى مقامات الإيمان التي تعكس عمق تشرب القلب لحب الله ورسوله.
أما التباهي والافتخار بالبرود واللامبالاة والسلبية أمام مظاهر التقصير الديني باعتبارها "حرية شخصية" فهذا مرض ينبغي على الإنسان معالجته لا قيمة راقية يدعى إليها, فقد كان من أسباب لعن بني إسرائيل هو برودهم وسلبيتهم إزاء مظاهر التقصير الديني, كما قال تعالى:
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ* كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة:78-79]
ومن أهم وسائل سلامة المجتمع من كوارث الغضب الإلهي وجود نخبة تغار على الحرمات الشرعية, كما قال تعالى:
{فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}
وأما اجتباء هذه الأمة واصطفاؤها وخيريتها وتشريفها بالشهادة على الناس فهو من محكمات الوحي, كما قال تعالى:
{ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } [ الحج : 78]
وقال سبحانه وتعالى أيضاً:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]
وهذه النصوص مجرد شواهد فقط, وإلا فالكتاب والسنة مليئة بنظائر ذلك, بحيث أن من تأملها وتدبرها علم قطعية القدر المشترك بينها وبطلان ما يعارضها من مفاهيم الغلو المدني.
تعظيم الذهنيات:
غلاة المدنية يعظمون "المعاني الذهنية" القائمة على النظر والفكر والرأي والتجريد وعويص المعاني ودقائق المفاهيم وإمكانيات الخطاب وثروة المفردات, ويفتحون لها الصوالين الفكرية والاستضافات الثقافية, ويتحدثون كثيراً عن "لذة المعرفة" ويتلذذون بها لذة حقيقية لا مصطنعة, ويملكهم العجب من المتمكنين في هذه الحقول المعرفية, ويجعلونها معيار التقييم في النظر إلى الناس والأفراد, وينزلون الناس منازلهم بحسب براعتهم في هذا الباب وحدة نظرهم.
أما "المعاني السلوكية" القائمة على تزكية النفوس, وتطهير إراداتها, ونهيها عن الهوى, وكفها عن الشهوات, وردعها عن غرائزها, ودقائق معاملة الله سبحانه وتعالى, وما يليق به سبحانه وما لا يليق به, والطريق إلى عبوديته, والإخبات بين يديه, والتضرع له سبحانه, وطول القنوت في محراب الافتقار, وسائر الشعائر ومقامات الإيمان ومدارج التعبد, فينظرون إليها باعتبارها قيمة شخصية لا يطربهم الحديث عنها والتنافس فيها, ولا يعجبهم إقحامها في المجالس.
وما ذاك إلا لأن القوم أصحاب نظر لا أصحاب عمل, وأصحاب ذهنيات لا أصحاب إرادات, فمنزلة العقل -الذي هو مَلِك الفهم- عندهم مقدمة على منزلة القلب -الذي هو ملك الجوارح- بل لا منزلة للقلب بجانب العقل أصلاً.
ولذلك فإن المعظم وصاحب الجاه عندهم ومن ينصاعون لسلطته وينحنون لرياسته ويتفانون في إكرامه وتوقيره وتبجيله والتباهي بلقائه إنما هو صاحب الباع في المعارف النظرية والذهنية والعقلية, ومن يملك القدرات الفكرية والإمكانيات الفلسفية.
أما ذلك الشخص التقي الذي حباه الله بالعلم به سبحانه وتعالى, وقوة الإرادة بالانكباب على عبوديته والاستعلاء على داعي الهوى والغريزة, والإقبال على كتابه, وإفناء الساعات في مناجاته, لكن ليس له باع في الذهنيات والمعارف العقلية فينظرون إليه كشخص بسيط ساذج, ويسمونه في كثير من الأحيان "درويشاً" استخفافاً به وزهداً في حاله, وفي أحيان كثيرة ينظرون إلى ربانيته واستغراقه في معاني العلم بالله سبحانه كتعبيرٍ عن فشله في المعارف الفكرية ودقائق النظر وأبواب العقليات.(57/161)
وأصل هذه الحالة تعود إلى إشكالية فلسفية طرحت منذ أيام الفلسفة اليونانية ولا زالت حية كفلسفة ضمنية وإن كانت غير معلنة في شكل نظري منظم, وهذه الإشكالية الفلسفية يلخصها التساؤل التالي: (بماذا يكون كمال النفس الإنسانية؟)
والواقع أن الفلسفة اليونانية القديمة قدمت إجابة مبكرة على هذه الإشكالية لخصتها في عبارتها الدارجة وهي أن (كمال النفس الإنسانية يكون بالعلم بالمجهولات والإحاطة بالمعقولات).
والفلاسفة المتقدمون يتكلمون كثيراً عن أقسام اللذات وحقيقتها, وقد انتقل ذلك إلى علماء الكلام الإسلامي, وقد صنف عمدة متأخري الأشاعرة الإمام فخر الدين الرازي -صاحب مفاتيح الغيب والمحصول والمباحث المشرقية ونحوها مما أصبح مرجع كثير من المتأخرين- كتاباً تكلم فيه عن أقسام اللذات وجعلها ثلاثة أقسام, وذكر منها "اللذة العقلية" وشرح شيئاً من حقيقتها وأسبابها.
وهذه العبارة الفلسفية وهي كون (كمال النفس الإنسانية يكون بالعلم بالمجهولات والإحاطة بالمعقولات) تلقاها فلاسفة الإسلام المتقدمين كالفارابي وابن سينا ومن بعدهم عن الفلسفة اليونانية, وكثر تناقلهم وتداولهم لها بنصها كمسلمة فلسفية يبنى عليها ما بعدها.
ولا يزال جماهير المفكرين والمشتغلين بالشأن الفلسفي إلى اليوم يعظمون المعرفة المحضة والمعاني العقلية والعلمية المجردة ويرونها أعلى الكمالات, وينزلون صاحبها بحسب منزلته فيها وتضلعه منها, سواء كان هذا التصرف معلناً, أم تتم ممارسته بشكل منهجي منظم وإن كان غير مصرح به, فقيمة الإنسان داخل هذه النخب بحسب معرفته العقلية والمدنية.
وقد ناقش المحققون من علماء الشريعة هذه الفلسفة على ضوء أصول الوحي الإلهي, وكشفوا تعارض هذه الفلسفة مع المنظور القرآني لكمال النفس الإنسانية, حيث بنيت هذه الرؤية على أساسين, أولهما أن الكمال بمجرد العلم والمعرفة, وثانيهما أن أكمل العلوم هي المعارف العقلية والمدنية.
وهذان الأساسان كلاهما أساسان باطلان مصادمان لأصول الوحي, فأما الأساس الأول فإن الكمال في القرآن ليس بمجرد العلم ولكن بالعمل بالعلم, وأما الأساس الثاني فإن أكمل العلوم ليس المعارف العقلية والمدنية وإنما العلوم الإلهية بما تتضمنه من العلم بالله وكتبه والمعاد ونحوها من المعاني والمضامين الراقية السامية.
ويتلخص الرد على هذه الفلسفة كلها بآية واحدة من كتاب الله وهي قوله تعالى:
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ, وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)
فهذه الآية تضمنت جملتين أولهما بينت أشرف العلوم وهو العلم بالألوهية, وثانيهما بينت أشرف الأعمال وهو العبودية, ودلالة هذه الآية بطريقة ضرب الأمثال التي هي منهج القرآن في الدلالة والبيان.
وهذه الفكرة الفلسفية كان لها آثار ضخمة في بنية الفلسفة القديمة والحديثة, بل تكاد أن تجدها كالنواة الإبستيمية المضمرة في كثير من الأطروحات الفكرية المعاصرة, ولذلك قال الإمام ابن تيمية في درء التعارض:
(ونفس المقدمة الهائلة التي جعلوها غاية مطلوبهم وهو أن "كمال النفس في مجرد العلم بالمعقولات" مقدمة باطلة)
وقدم الإمام ابن تيمية ضمن مناقشته لهذه الفلسفة تحليلاً للأساسات الداخلية لهذه الفكرة, حيث يقول في درء التعارض:
(وضلالهم من وجوه: منها ظنهم أن الكمال في مجرد العلم, والثاني:ظنهم أن ما حصل لهم علم, والثالث:ظنهم أن ذلك العلم هو الذي يكمل النفس, وكل من هذه المقدمات كاذبة)
ثم أخذ في تفاصيل ذلك, والذي يعنينا الاشارة اليه هنا أنه نتيجةً لهذه الرؤية الضمنية في بنية خطاب غلاة المدنية فقد تراجعت قيمة العبودية وسلوكيات الفضيلة والعفة, ويشير الإمام ابن تيمية لذلك في الصفدية بقوله:
(فنفس عبادة الله وحده ومحبته وتعظيمه هو من أعظم كمال النفس وسعادتها, لا أن سعادتها في مجرد العلم الخالي عن حب وعبادة وتأله)
وعلى أية حال فإن منزلتي "النظر والعمل" كلاهما مطلبان شرعيان نبهت عليهما فاتحة الكتاب, ولم تأت الشريعة بذم أصلهما, ولكنها جاءت بتهذيبهما وتكميلهما, وتبيين مراتبهما, وإنما يقدم النظر مطلقاً جمهور الفلاسفة, ويقدم العمل مطلقاً جمهور الصوفية, وكلاهما لون من الانحراف, ولذلك قال الإمام ابن تيمية:
(وكل واحد من طريقي النظر والتجرد: طريق فيه منفعة عظيمة وفائدة جسيمة, بل كل منهما واجب لا بد منه, ولا تتم السعادة إلا به, والقرآن كله يدعو إلى النظر والاعتبار والتفكر, وإلى التزكية والزهد والعبادة, وقد ذكر القرآن صلاح القوة النظرية العلمية, والقوة الإرادية العملية, في غير موضع, كقوله تعالى{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} فالهدى كمال العلم, ودين الحق كمال العمل, وكقوله سبحانه أيضاً {أولي الأيدي والأبصار}) الفتاوى2/59(57/162)
وهاهنا ملحظ طريف جداً من دقائق الحكمة الشرعية المتعاضدة مع الحكمة الكونية, ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد ابتلى كل طائفة من عباده من جنس غريزتها وهواها المركوز فيها, فاختبرها الله شرعاً بما يوافق واقعها كوناً, فمن حباه الله بالقدرات العقلية الباذخة ابتلاه سبحانه وامتحنه بالاستسلام والانقياد والخضوع للوحي والعمل بما فيه إذ العمل شاق على أمثال هذه النفوس.
ومن آتاه الله قوة الإرادة اختبره الله سبحانه وتعالى باتباع البرهان والحجة وعدم المغالاة في الرهبنة تحقيقاً للذة روحية غريزية, إذ حبس النفس عن الاسترسال في الروحانيات فوق ما أمر الله شاق على أمثال هذه النفوس.
فابتلى الله الأذكياء وأصحاب العقول بحمل النفس إلى العبودية, وابتلى الله الروحانيين وأصحاب العبادة بحبس التعبد على هدي صلى الله عليه وسلم واقتصاده وسنته, وقد نبهت على ذلك خاتمة الفاتحة بمثالي "المغضوب عليهم" و "الضالين" ودلت عليهما أبلغ دلالة على طريق ضرب المثل.
ومن تأمل هذه الإشكالية الفلسفية, واتجاهات الناس فيها نظرياً وعملياً, انكشف له سر ذلك الزهد العميق لدى غلاة المدنية في قيمة "التفقه في الوحي", في مقابل الشغف والتفاني في الاطلاع على "العلوم المدنية" وتعظيم صاحبها, بل جعل فقه الشريعة أدنى المراتب باعتباره لا يدرس أموراً معقولة ولا مدنية, وإنما قصاراه أن يدرس تفاصيل الأمور العملية, كما قال الإمام ابن تيمية في الصفدية:
(وأما العلم النظري فجعلوه هو الغاية, بناء على أن كمال النفس في العلم, فرأوا "الفقه" هو العلم العملي, فجعلوه أدنى المراتب)
وقد كشف لنا القرآن عن هذه النزوة البشرية, ونبهنا إلى أن ننظر إلى العلوم الإلهية باعتبارها أعظم من كل ما على الأرض من العلوم والمظاهر المدنية, بل ونبه ربنا على مقام "الفرح والاغتباط بالقرآن" كما في قوله تعالى في سورة يونس:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ, وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ, وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ, قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ, فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ, هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}
فجعل هذا "القرآن" من أعظم الممتلكات التي تستدعي الفرحة والسرور, كما قال ربنا تماماً في هذه الآية "فبذلك فليفرحوا".
وقد لاحظ القارئ الأول "أبي بن كعب" رضي الله هذا المعنى العظيم الذي تضمنته هذه الآية, فحين روى أبي بن كعب للتابعين قصته المعروفة التي جاء فيها أن الله سبحانه أمر نبيه محمداً أن يقرأ على أبي بن كعب سورة بعينها من القرآن, سأله التابعي الجليل عبدالرحمن بن أبزى قائلاً: (يا أبا المنذر، فَفَرحت بذلك؟) فقال أبي بن كعب: (وما يمنعني عن ذلك والله سبحانه يقول:"قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) كما خرجه أحمد في مسنده عنه.
ولذلك ذكر العلامة الراغب الأصفهاني أنه لم يرخّص في الفرح إلاّ في هذه الآية في سورة يونس!
وفي كثير من المواضع في القرآن يقارن تعالى بين قيمة الوحي وقيمة الممتلكات الدنيوية, وينبه المؤمنين بهذا الوحي إلى مضامينه أعظم مما يرونه من المظاهر الدنيوية كقوله تعالى:
(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ, لاتَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ)
وسننتقل إلى إشكاليتين وثيقتي الصلة بتعظيم الذهنيات وهما التعليل المادي للشريعة والانفعال الوجداني بالوحي, وسنعالجهما في الفقرتين اللاحقتين.
التعليل المادي للشريعة
كثير من غلاة المدنية في محاولتهم لتكريس أهمية الشأن المدني يحاولون ربط الشعائر والشرائع بالحضارة, فتراهم يقولون إن غاية الشعائر هي تهذيب "الأخلاق الاجتماعية" وغاية التشريع هو "سياسة المصالح العامة".
وقد شاركهم مثل هذا الطرح بعض المنتسبين للاتجاه الإسلامي -بحسن نية- حيث كان مقصودهم تقريب الإسلام إلى النخب الثقافية التغريبية, فتكلموا في مقاصد الشريعة على هذا الأساس, وكان من أكثر الأسباب التي ساعدتهم على هذا الوهم فهمهم غير الدقيق لعبارات بعض متأخري الأصوليين في علم مقاصد الشريعة وعلم السياسة الشرعية حول المصلحة والضروريات الخمس ونحوها.
ومن كتب من المنتسبين للفكر الإسلامي متابعاً لهذه الاتجاهات إنما حمله على ذلك أنه رأى في ظاهر هذه الفكرة تعظيماً للشريعة وحمداً لها, ولم يتنبه لآثارها ومآلاتها ولوازمها.
ومن مقتضيات هذه الرؤية -التي وصل إليها كثير من غلاة المدنية- أنهم لما رأوا بعض المجتمعات غير المسلمة تهتم ببعض الأخلاق الاجتماعية وسياسة المصالح العامة شعروا أن هذه المجتمعات حققت مقصود الإسلام وإن لم تسلك وسائله, والعبرة بالغايات لا بالوسائل, بل إن بعضهم يردد العبارة الدارجة رأيت في الغرب إسلاماً بلا مسلمين, أي أنه رأى مقاصد الإسلام وإن لم يسلم هؤلاء, فتراجعت قيمة المأمورات والمنهيات الإلهية, لما اختزلت مقاصدها في الشأن الاجتماعي والمادي.(57/163)
بل إنهم كثيراً ما يشيرون إلى أن فقهاء الإسلام المتقدمين والمعاصرين إنما اشتغلوا بتفاصيل المأمورات والمنهيات الواردة في نصوص الوحي, بينما الأمم المتقدمة حققت المقاصد دون هذا الإغراق في هذه التفاصيل, فكان مؤدى هذه الفكرة الزهد العميق في فقه الوحي, والانبهار بالمجتمعات الكافرة.
ومن آثار هذه الرؤية, أن تراجعت قيمة تفاصيل الوحي, ولذلك كتب بعض غلاة المدنية بأن الإنسان المهذب في سلوكه الاجتماعي لكنه لا يعبد الله أفضل من الشخص العابد لكن في سلوكه بعض الفظاظة, لأن الأول حقق المقصد والثاني حقق الوسيلة, والمقصد مقدم على الوسيلة.
بل إن بعض من امتهن التجديف في الشرعيات وصلت أسئلته واستشكالاته الجريئة إلى "الكبائر" فلا زلت أتذكر ماكتبه أحدهم حول دور التطور الحديث في رفع المحظورات وضرب لذلك مثلاً بأن "تحريم الخمر" إنما كان مقصوده الشرعي حفظ صحة البدن وضبط تصرفات العقل, فمع تطور الآليات التشريعية والأجهزة الصحية ومعامل الإنتاج والنظم الجنائية فإنه يمكن ضبط ذلك والسماح بقيود معينة بما يمكن معه تحقيق مصلحة الخمر التي أشارت اليها الآية "ومنافع للناس" مع درء المفسدة التي يتغيا الشارع درءها.
وكتب بعضهم يقول: أن المقصد الشرعي من تحريم المعاشرة خارج مؤسسة الزواج إنما هو حفظ النسب والنسل, فعليه فإنه لما تطورت تقنيات التحليل الطبي الحديثة لكشف النسب وتطورت نظم الرعاية الاجتماعية للطفل, فإن مقتضى ذلك مشروعية العلاقات غير المشروعة بين الجنسين, لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً, ولن تتحقق مفسدة اختلاط النسب وضياع النسل.
وهذه النماذج السابقة وإن كانت نماذج متطرفة ولم يكتب لها الانتشار بسبب بشاعة صورتها النهائية, إلا أنها مما يكشف المآلات الخطرة التي يؤول إليها ربط الشعائر والشرائع بمجرد مقاصد مادية أو اجتماعية أو مدنية ونحوها, والغفلة عن المقاصد الأولية التي نبه إليها الوحي.
وأساس هذه الانحرافات كلها هو الضلال في فهم مقصود الشارع بالشعائر والشرائع, واختزال تلك المقاصد كلها في المصلحة الاجتماعية والمدنية والمادية, حتى إذا تحققت بعض تلك المقاصد الاجتماعية من غير طريق الشريعة لم يعد أولئك يعقلون معنى للعبادات والتشريعات الإلهية, وسنشير إلى جملة من المقاصد بشكل مختصر إذ المقصود المثال وليس الاستيعاب, والمثال كافٍ في التنبيه على جنس هذه النظائر.
فأما العبادات الظاهرة والباطنة -مثال الظاهرة الصلاة ومثال الباطنة التوكل- فإنها أولاً وقبل كل شئ ليست في أصل تشريعها أساساً مجرد "وسائل" لغيرها, بل هي في ذاتها غايات ومقاصد مطلوبة مرغوبة محبوبة لله سبحانه وتعالى, فإن الله يحب أن يرى عبده يسجد ويقنت ويركع ويطوف ويعلي ذكره ويوقن به ويخلص له ويحبه ويرضى بقضائه, فإن الله تعالى تبعاً لألوهيته سبحانه يحب أن يرى العبودية من عبده.
فمقصود الله الأولي من تشريع هذه العبادات الظاهرة والباطنة أنه يحبها جل وعلا ويحب منا أن نقوم بها, ولذلك لما ذكر الله الطهارة قال {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وتر يحب الوتر).
أما المقصود الأولي للعبد من القيام بهذه الأعمال فهو تحصيل رحمة الله كما قال تعالى {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
أما ما ورد من دور العبادات في تهذيب الأخلاق كقوله تعالى{إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}
فغاية الدلالة في هذه الآية ونظائرها أن الأثر السلوكي إنما هو مجرد أثر يدخل في جملة المقاصد والحكم المحمودة لاأنه علة التشريع الأساسية, وفرق بين العلة والأثر, ثم إن هذه الآية وأمثالها بينت أن الأثر السلوكي لايقتصر على الأخلاق الاجتماعية فقط, بل يدخل في ذلك دخولاً أولياً سلوكيات الايمان كمحاذرة الفواحش والمنكرات.
ولو كانت السلوكيات الاجتماعية هي علة التشريع الجوهرية من هذه العبادات لما كلف الله العباد بهذه الشعائر وتفاصيلها مع أننا نرى الكثير من الناس فيه سلوك اجتماعي حسن من دون هذه الشعائر, حتى أن الله ذكر عن بعض كفار اليهود أمانتهم مع كفرهم كما في قوله تعالى (ومن أهل من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك), بل لكان تكليف الله للخلق بهذه الشعائر لمجرد السلوك الاجتماعي تطويل للطريق وعبث ينزه الله عنه.
ثم يلي كونها أحوال مطلوبة في ذاتها مقاصد أخرى, وأعظم وأهم مقاصد الشعائر الظاهرة "تزكية النفوس" بمقامات الإيمان كالتضرع والخضوع والتذلل والافتقار والمناجاة والتمسكن ومناشدة الله والانطراح بين يديه واللجأ اليه وامتلاء القلب بحمده وشكره.
وهذه الغاية الجليلة وهي تزكية النفوس وعمارة القلوب بالله تشمل الشعائر والتشريعات, فإن أصول المأمورات وأصول المحرمات كلها تثمر للقلب طهارة وزكاة وسلامة هي من أعظم المبتغيات الإلهية, وسنذكر نماذج لذلك.(57/164)
فمن ذلك أن الله تعالى حين شرع الصيام لم تكن غايته الجوهرية "الحِمية الصحية" كما يقوله غلاة المدنية ممن يجعلون التشريعات مبنية لمقاصد مادية محضة, بل إن هدفه الجوهري ما يورثه للقلب من التقوى كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
وحين ذكر تشريع الزكاة والصدقة ربطها بالتزكية فقال :
{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}
وحين ذكر الله تشريع الجهاد بين مايثمره للقلب من تمحيص وتزكية فقال تعالى:
{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}
وحين ذكر تشريعات الأسرة قال عن عضل الأولياء مولياتهم:
{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ}
وحين ذكر أدبيات الاستئذان قال سبحانه:
{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}
وحين ذكر أصول الفضيلة كغض البصر وضبط الغريزة ذكر أثرها في التزكية فقال:
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ}
وقال عن أخلاقيات الحجاب:
{ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}
وحين ذكر تشريعات القضاء والشهادات قال سبحانه:
}وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}
ومن تدبر هذه النصوص -وأمثالها كثير- علم قطعاً أن من أعظم غايات ومقاصد التشريع تزكية النفوس وعمارة القلوب بالله, أما تهذيب الأخلاق الاجتماعية وإقامة المصالح العامة فهي من جملة غاياتها ومقاصدها التي يحبها الله, لكن لايجوز اختزالها فيها وقصرها عليها, فضلاً عن تقديمها على أصل الإيمان والفرائض.
وغلاة المدنية لايكادون يرفعون رأساً بهذا المقصد الحيوي الجليل, بل ويعدون من ينبه عليه مجرد واعظ سطحي لايعقل الإشكاليات الفكرية والفلسفية والمدنية, فكم هو مؤلم أن تكون أعظم المبتغيات الإلهية قيمة هامشية لدى المثقف المسلم, بل إن الله سبحانه بين أنه أرسل الرسل إلى الأمم ثم عاقب عليها ألوان الأزمات كل ذلك بهدف أن تتضرع تلك الأمم إلى الله, ذلك المقام وتلك الكسرة التي يحبها الله من عبده كما قال سبحانه في سورة الأنعام:
{وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}
وأكد هذا المقصد الإلهي في الآية التي تليها فقال سبحانه:
{فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ}
بل إن الله سبحانه ما أرسل الأنبياء إلا لهذه الغاية وهي أن يقف الإنسان موقف الضراعة بين يدي الله كما قال سبحانه في سورة الأعراف:
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}
ويرسل الله العقوبات على الأمم ليذكرهم سبحانه بمقصد التضرع إليه كما قال سبحانه في سورة المؤمنون:
{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}
ولذلك فإن أول شعور وإحساس يغمر الإنسان حين يؤمن بهذا الوحي هو "الإخبات" له كما قال تعالى في سورة الحج:
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ}
وكشف لنا سبحانه أنه لا قيمة للأمم بدون هذا التضرع كما قال سبحانه:
{قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم}
هذه المعاني الجليلة التي يريدها الله من العباد, والتي هي الهدف من خلق الإنسان أصلاً, وهي زبدة مشروع الرسالات منذ بدء الخليقة, لا يجوز تغييبها واختزال الشرائع بغايات مادية محضة.
وحين يتذكر الإنسان مقصود الله سبحانه بالضراعة والإخبات, وحب الله سبحانه وتعالى لهذه الحال الإيمانية, وكيف أرسل الرسل ووالى النعماء والضراء طلباً لها من عباده, فإنه لابد أن يتذكر معها دوماً قصة تضرع صلى الله عليه وسلم حتى أشفق عليه أبوبكر من شدة اجتهاده في الضراعة.
حديث عجيب, يهتف فيه محمد بربه, ويشفق عليه ابوبكر, وصادف أن الذي رأى ذلك المشهد ورواه هو عمر بن الخطاب, الرجال الثلاثة في تاريخ الإسلام!
ففي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه قال:(57/165)
(لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف, وأصحابه ثلاث مائة وتسعة عشر رجلاً, فاستقبل نبي الله القبلة, ثم مد يديه, فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني, اللهم آت ما وعدتني, اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض, فما زال يهتف بربه, ماداً يديه, مستقبل القبلة, حتى سقط رداؤه عن منكبيه, فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه, فألقاه على منكبيه, ثم التزمه من ورائه, وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك, فإنه سينجز لك ما وعدك, فأنزل الله عز وجل: إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين..)
ولذلك لما كانت "تزكية النفوس" هي المدار الذي تدور عليه الأعمال فإن الله جعل المفاضلة بين الناس بحسب ما قام في هذه القلوب من معاني الإيمان, وجعل سبحانه أصل المؤاخذة يتعلق بكسب القلب كما قال تعالى:
{وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225]
وانعكاساً لذلك جعل التغيير والإصلاح يبدأ بإصلاح هذه القلوب وعمارتها بمعاني الإيمان, كما قال تعالى:
{إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}
فإذا انتهت هذه الدنيا وبدأت الحياة المستقبلية المؤبدة فإن الله سبحانه وتعالى إنما يزن هذه القلوب والنفوس وما في الصدور, كما قال تعالى:
{أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ* وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}
ومن أعظم غايات التشريع التي تغيب عن غلاة المدنية مقصد "ابتلاء التسليم والامتثال" فإن المؤمن يتلقى للتنفيذ, أما من في قلبه مرض فتجده معرضاً عن الأمر أو باحثاً عن التسويغات, ولذلك فإن الله تعالى حين ذكر اختلاف الشرائع بين الأمم بيَّن أن المقصود منها إنما هو "اختبار الانقياد" كما قال تعالى:
{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم}
وحين حرم الله الصيد على المحرم ابتلى الله أصحاب محمد بصيد قريب من يديهم وقت الحظر ليختبر تسليمهم وانقيادهم كما قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94]
وقريب من ذلك حين ابتلى الله بني اسرائيل بصيد قريب من يديهم وقت الحظر فقال تعالى:
{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ}
وعبر تعالى عن مقصد اختبار التسليم والانقياد تعبيراً عاماً شاملاً فقال سبحانه:
{ثم جعلناكم خلائف من بعدهم لننظر كيف تعملون}
وهذه الفكرة التي يرددها غلاة المدنية حول غاية الشعائر والشرائع لها صلة بالأساس الفلسفي الذي أشرنا إليه في فقرة سابقة والمتعلق بجوهر كمال النفس الإنسانية, فكل اتجاه فكري أو فلسفي يربط مقصود الشريعة طبقاً لرؤيته حول كمال النفس الإنسانية, لاطبقاً لدلالات القرآن حول مقاصد الشريعة.
وقد قدم الإمام ابن تيمية مناقشة رائعة لهذه الإشكالية توقف فيها عند مشهدين: المشهد الفلسفي, ومشهد متأخري الأصوليين, وبين ما في هذين من قصور في تحليل غاية التشريع, وبرغم طول النص إلا أننا نحتاجه لأهميته:
(وكثير من الناس يقصر نظره عن معرفة ما يحبه الله ورسوله من مصالح القلوب والنفوس ومفاسدها, وما ينفعها من حقائق الإيمان, وما يضرها من الغفلة والشهوة, فتجد كثيراً من هؤلاء في كثير من الأحكام لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن, وغاية كثير منهم إذا تعدى ذلك أن ينظر إلى "سياسة النفس وتهذيب الأخلاق" بمبلغهم من العلم, كما يذكر مثل ذلك المتفلسفة وأمثالهم؛ فإنهم يتكلمون في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق بمبلغهم من علم الفلسفة, وما ضموا إليه مما ظنوه من الشريعة, وهم في غاية ما ينتهون إليه دون اليهود والنصارى بكثير, وقوم من الخائضين في "أصول الفقه" وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة, إذا تكلموا في المناسبة وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم, ورأوا أن المصلحة "نوعان" أخروية ودنيوية: جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم؛ وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر, وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وأحوال القلوب وأعمالها: كمحبة الله وخشيته وإخلاص الدين له والتوكل عليه والرجا لرحمته ودعائه وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة, وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود, وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران, وحقوق المسلمين بعضهم على بعض, وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه, حفظا للأحوال السنية وتهذيب الأخلاق, ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح, فهكذا من جعل تحريم الخمر والميسر لمجرد أكل المال بالباطل؛ والنفع الذي كان فيهما بمجرد أخذ المال) مختصراً(57/166)
على أية حال..فمع يقيننا بأن الشعائر كالصلوات والصيام والنسك والذكر والنحر ونحوها طريق لتزكية النفوس وتهذيب أخلاقها وتنقيتها وتطهيرها من شوائب المادة التي تعلق بالافئدة, ولكن أيضاً ينبغي الوعي بأن الإسراف في تأكيد مقاصدها السلوكية يورث ضعف قيمتها, إذ يحولها إلى وسائل صرفة وأدوات محضة يمكن الاستغناء عنها بغيرها ما دام أن المراد والهدف النهائي هو تزكية النفس وتنقيتها, بمعنى أن الإنسان إذا وصل لـ"صفاء الروح" بأي طريق كان فقد حقق المقصود الالهي, دون أن يتعنى سلوك هذه الشعائر والالتزام بها, وهذه الفكرة الساذجة قد انطلت على بعض المتصوفة وعثر فيها كثير من غلاة المدنية.
وقد لاحظ الإمام ابواسماعيل الهروي(481هـ) ملاحظة مبدعة تستثير الدهشة حول دور الخلل في تعليل الأحكام في إضعاف قيمة الحكم الشرعي بما يترتب عليه انكماش الدافعية, حيث يقول رحمه الله في كتابه المعروف منازل السائرين:
(تعظيم الأمر والنهي: هو أن لا يعارضا بترخص جاف, ولا يعرضا لتشديد غال, ولا يحملا على علة توهن الانقياد) منازل السائرين,81
فربط الشعائر بعلل سلوكية محضة, أو ربط التشريعات بحكم اجتماعية محضة: من أعظم ما يوهن الدافع لها, والسبب في ذلك أن نظر الإنسان دوماً يتشوف للغايات ولا يكترث بالوسائل, وهذه اللفتة أكدتها الظواهر المشاهدة والتجارب الحية, فما إن يستغرق المثقف في علل الشعائر وحكم التشريعات حتى تراه بعد ذلك غير مكترث بها, بل وينعى على من اشتغل بتتبع تفصيلات الوحي, وينظر الى ذلك كنوع من السذاجة في فهم أعماق الشريعة.
وقد حلل الامام ابن القيم هذه اللقطة المبدعة لأبي اسماعيل الهروي وهي "حمل الأمر والنهي على علة توهن الانقياد" حيث يقول في كتابه المدارج:
(وقوله: "ولا يحملا على علة توهن الانقياد" يريد أن لا يتأول في الأمر والنهي علة تعود عليهما بالإبطال, كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بايقاع العداوة والبغضاء والتعرض للفساد, فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه كما قيل:
أدرها فما التحريم فيها لذاتها * ولكن لأسباب تضمنها السكر
إذا لم يكن سكر يضل عن الهدى* فسيان ماء في الزجاجة أو خمر
وقد بلغ هذا بأقوام إلى الانسلاخ من الدين جملة, ومن العلل التي توهن الانقياد: أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر, فيضعف انقياد العبد إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم, ولهذا كانت طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور, وفي بعض الآثار القديمة: يا بني إسرائيل لا تقولوا لم أمر ربنا, ولكن قولوا بم أمر ربنا. وأيضا: فإنه إذا لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته لم يكن منقادا للأمر, وأقل درجاته أن يضعف انقياده له. وأيضا: فإنه إذا نظر إلى حكم العبادات والتكاليف مثلا, وجعل العلة فيها هي جمعية القلب والإقبال به على الله, فقال أنا أشتغل بالمقصود عن الوسيلة, فاشتغل بجمعيته وخلوته عن أوراد العبادات, فعطلها وترك الانقياد بحمله الأمر على العلة التي أذهبت انقياده, وكل هذا من ترك تعظم الأمر والنهي, وقد دخل من هذا الفساد على كثير من الطوائف ما لا يعلمه إلا الله, فما يدري ما أوهنت العلل الفاسدة من الانقياد إلا الله, فكم عطلت لله من أمر, وأباحت من نهى, وحرمت من مباح, وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها) مدارج السالكين 2/297
ومما يوضح ذلك ويبينه أن الملك الذي يصدر أمره إلى أحد مؤسسات دولته بتحقيق "هدف" معين عبر "قانون"معين، لا يرضيه أن يصلو إلى ذات الهدف مع مخالفة قانونه الذي فرضه عليهم. فكذلك ملك الملوك من باب أولى -ولله المثل الأعلى- لا يرضيه أن ندع ما شرعه لنا من الشعائر ووسائل التزكية, بل إن الالتزام بهذه الوسائل الإلهية جزء من عملية التزكية ذاتها, فإن من تعبد لله بالغاية التي أرادها والوسيلة التي شرعها جميعاً, خير وأحب إلى الله ممن تعبده بالغاية واستكبر عن وسائله سبحانه.
ومما يدخل في مأزق "التعليل المادي للشريعة" استدلال بعض غلاة المدنية بقوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} على أن المراد بها العدل السياسي وتداول السلطة ونحوها, وأن وظيفة الانبياء جاءت أساساً لمقاومة الاستبداد السياسي.
والحقيقة أن العدل السياسي إنما هو جزء من معنى الآية, وهو جزء شريف ولا شك, لكنه ليس هو المعنى الأولوي أصلاً, فضلاً عن أن يكون هو المعنى المطابق.
وهذا يشابه من فسر قوله تعالى (والميزان) بأنه المنطق العقلي, وهذا كله إما تفسير للنص بجزء المعنى الذي ليس هو أشرف معانيه, وإما إقحام معنى في الآية لا تدل عليه.(57/167)
فإن القسط في القرآن هو العدل وضده الظلم, وذلك ليس مختصاً بالعدل السياسي أو مناهضة الاستبداد, بل هو شامل للعدل العام والخاص, فكل مأمورات الشريعة نوع من العدل, وكل منهيات الشريعة نوع من الظلم, فالشريعة أصلاً كلها أمثال مضروبة للقيام بالقسط, ورأس القسط والعدل في الشريعة هو تجريد القلب من كل ما سوى الله وعدم التفاته لغيره, كما قال تعالى: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين}.
والتفات القلب لغير الله قد يكون بصرف عبادة تامة فتكون وثنية كبرى كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}, وقد يكون التفات القلب إلى طلب الجاه بين الناس فهذا أطلق النبي عليه اصطلاح "الشرك الأصغر" كما قال في الرياء (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. فسئل عنه فقال: الرياء).
فكل التفات للقلب لغير الله سواء كان بعبادة غير الله أو بميل القلب إلى ثناء المخلوقين: فهو ظلم يعارض القسط الذي جاءت به الانبياء.
وليس المقصود -حاشا لله- التزهيد في منزلة الاحتساب السياسي والتصدي للعدل العام, وإنما المقصود بيان منزلته في الإسلام وأنه دون الإيمان والفرائض, وإلا فإن التصدي للقيام بالعدل العام من أشرف معاني هذه الآية ولذلك جعل صلى الله عليه وسلم من ضحى بنفسه من أجل العدل العام من "سادة الشهداء" والسيادة في الشهادة أمر زائد على مجرد الشهادة, كما في الحديث الذي رواه الحاكم بسند حسن أن صلى الله عليه وسلم قال:
(سيد الشهداء حمزة، و رجل قام إلى إمام جائر فأمره و نهاه فقتله)
ووجه كونه "شهيداً" أن التصدي للعدل العام من أفضل منازل "الجهاد" كما روى أهل السنن وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري، وجابر, وأبي أمامة، وطارق بن شهاب وغيرهم أن صلى الله عليه وسلم قال:
(أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)
وفي رواية (أحب الجهاد إلى الله كلمة حق تقال لإمام جائر).
وقد كان من أسباب عقوبة أهل "مدين" مظالم الأموال العامة, ولذلك قام فيهم نبيهم شعيب بهذا الأمر, كما قال تعالى:
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}
كما كان من أسباب غضب الله على فرعون استعلاؤه السياسي واستضعافه للناس كما قال تعالى:
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ}
وقد لخص الإمام أبو حامد الغزالي في الإحياء منهج القرون المفضلة في ذلك فقال:
(واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض، بل كل من أمر بحروف فإن كان الوالي راضياً فذاك، وإن كان ساخطاً له: فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه, فكيف يحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه, ويدل على ذلك عادة السلف في الإنكار على الأئمة).
على أنه من الملاحظ في خطاب غلاة المدنية غياب حديثهم عن منكرات المظالم العامة أصلاً, وإنما غالب مادة حديثهم تدور حول: الحريات السلوكية والإبداع الثقافي واتهام التراث وربط المؤسسات الدعوية بالعنف والتصفيق للمنجز الغربي ونحوها من القضايا, وسبب غياب الحديث عن منكرات المظالم العامة ما ينطوي عليه من إحراجات يفضلون تحاشيها.
وفريضة الإنصاف تقتضينا أن نقول أن من تصدى للقيام بالعدل العام -ابتغاء وجه الله- وإن كان لديه غلو في بعض جوانب المدنية إلا أنه أشرف وأنزه وأجلّ من المنهمكين في لمز السنة واتهام التراث وتبجيل الغرب والتأليب ضد العمل الدعوي وتصيُّد زلات المحتسبين والتشنيع على الفتاوى الدينية وتلميع النظم ونحوها من القضايا الصحفية البائسة, فأين هذا من ذاك؟!
والذي يعنينا الإشارة إليه هاهنا أن تبيين منزلة الاحتساب السياسي والتصدي للعدل العام وأنه دون الإيمان والفضيلة والفرائض لا يخدش في قيمته ولايغض من شأنه, وإنما الذي يوهن قيمته وينفر الناس عنه -لو أردنا المصارحة- إنما هو مغالاة بعض المنتسبين له فيه, حتى قادهم ذلك إلى الإزراء بأئمة الهدى والمحققين من أهل العلم والفضل, والحط على بعض القرون المفضلة, واتهام جماهير فقهاء السلف بمداهنة السلطة العباسية, ولمز مصادر التراث الإسلامي وأنها اشتغلت بالهوامش, ونحو ذلك مما كان هدفه حشد الاهتمام بالاحتساب السياسي.
حيث ظن بعض هؤلاء المنتسبين لقضيتي "العدل والشورى" أن تفريغ الاهتمام من قضايا الالهيات وتفاصيل التشريع التي اعتنت بها القرون المفضلة سيقود تلقائياً إلى الانخراط في مشروعات التصدي للعدل العام وتداول السلطة ودسترة النظام السياسي ونحو ذلك من القضايا, والحقيقة أن هذا الأسلوب كثيراً ما يأتي بنقيض المقصود فيجعل الشاب المسلم المعظِّم للسلف يرتاب بمثل هذه الدعوات ويزهد فيها أساساً, وهذه نتيجة طبيعية فإن الغلو كثيراً ما يأتي بنتائج عكسية.(57/168)
والمغالاة في قضية التصدي للعدل العام حملت بعضهم إلى مآلات كارثية, حتى أن بعض المنتسبين لهذا الاتجاه أصبح يصرح بأن مقصود النبوة إنما هو إقامة العدل الدنيوي ونحو ذلك, وهذا فهم مغلوط له نتائج خطرة, سبق أن أشرنا اليها, وقد أشار لذلك الإمام ابن تيمية في الصفدية:
(ومما يبين فاسد قولهم-أي الفلاسفة- أنهم يزعمون أن المقصود بالرسالة إنما هو إقامة عدل الدنيا)
والغاية من هذه الاشارة المختصرة تأكيد قضيتين متوازيتين لايمكن فصلهما, أولهما: أن التصدي للعدل العام منزلة من أشرف منازل الجهاد, وثانيهما: أن حشد الاهتمام بالاحتساب السياسي لايكون عن طريق الازراء بأئمة القرون المفضلة ولا باختزال الشريعة في هذه القضية.
وأقرب مثل يوضح ذلك أن المجاهد في سبيل الله اذا غالى في "قضية الجهاد" بحيث قدمه على العناية بأصول الايمان أو الفرائض أو استخف بالصحابة أو التابعين أو تابعيهم لأجله بحيث صار يملأ قلوب مستمعيه بالغل للقرون المفضلة فان رايته الجهادية تصبح راية مذمومة ينفر منها الشاب المسلم أكثر من كونها تجذبه.
الانفعال الوجداني بالإيمان:
يلاحظ المتابع أن بعض غلاة المدنية إذا قدر لأحدهم أن يتعاطى مع بعض نصوص الوحي فإنما يميل إلى التعامل معها كخطاب معرفي بحت يتضمن قضايا معرفية محضة, وليس كخطاب إيماني حي يتضمن رسالة, ولذلك ينفرون من مظاهر الانفعال الوجداني أمام القرآن, كالإطراق المخبت واستكانة الجوارح وذرف الدموع واقشعرار أطراف الجسد, وينظر بعضهم إلى هذه الحالات الإيمانية باعتبارها نزعة طهرية مبالغ فيها أقرب إلى سذاجة الوعاظ منها إلى الرزانة المعرفية.
وهذا التصور ناشئ بسبب الجهل بمراد الله من الإنسان حين يقرأ كلامه سبحانه وتعالى, وماهي الحالة الأسمى والأرقى أمام الوحي, إن مجرد استشعار أن الوحي إنما هو "كلام إله" كافٍ لهز المؤمن من أعماقه, وقد حكى الله لنا في صور مشرقة جذابة أحوال أهل الإيمان وكيف كانت انفعالاتهم الوجدانية أمام الوحي, تلك الصور كانت تحمل ثناء ضمنياً على تلك الحال, فلما ذكر الله مسيرة الأنبياء عقب بذكر حالهم إذا سمعوا آيات الوحي حيث يقول تعالى:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}
فهذه الآية تصور "جنس الأنبياء" لا بعضهم وهم أكمل البشرية وأشرفها, وهم الأرقى بالتنوير الحقيقي, وهم الأسمى عن الظلاميات الحقيقية, فانظر كيف يستقبلون آيات الوحي بالخرور إلى الأرض ساجدين وباكين, فأي انفعال وجداني أعظم من ذلك؟
ويصف تعالى في مشهد آخر صورة الخرور والبكاء فيقول تعالى:
{وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:109]
ويصف تعالى مشهداً آخر لأهل الإيمان وهم يستقبلون آيات الوحي فيقول تعالى:
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة:83]
ويعتبر تعالى أن الانفعال الوجداني بالوحي من سلوكيات العلم والمعرفة الحقيقية كما يقول تعالى:
{قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء:107]
ويصف تعالى مرة أخرى أثر القرآن الجسدي وليس الوجداني فقط فيقول تعالى:
{ اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ}
بل إن الله سبحانه وتعالى يجعل هذه التأثر النفسي أمام الوحي من مقتضيات وآثار الإيمان التي إن غابت فإنما تدل على ضمور الإيمان, إن لم يكن ذهاب أصله, كما قال تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
وكما هي عادة القرآن فإنه اذا ذكر حالا محمودة, فإنه يذكر ضدها ويذمها تتمة للبيان واستكمالاً للدلالة, ولذلك يقول تعالى:
{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]
بل إن الله ضرب لنا مثلاً للتأثر بالوحي من تدبره وتأمله امتلأ خجلاً من حاله وحياء من الله, فإن الله تعالى ذكر أن أشد أنواع الجمادات وهي الجبال والحجارة لو أنزل عليها هذا القرآن لتأثرت وانفعلت به, حيث يقول تعالى:
{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله}
ويقول تعالى:
{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]
وقال تعالى:
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد:31] .(57/169)
بل إن الشجر ذاته يتأثر بذكر الله, ففي صحيح البخاري من حديث ابن عمر وجابر كليهما أن صلى الله عليه وسلم لما انتقل إلى المنبر حَنّ الجذع وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يُسَكَّن, وذلك من شدة فقده للذكر والوحي من رسول الله, حتى أن الحسن البصري لما جلس مرة يروي هذا الحديث لأصحابه بكي ثم قال: (أنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه من جذع شجرة).
بل إن هذا التأثر النفسي والوجداني لا ينحصر فقط في الاستماع للوحي, بل إن المؤمن لا يملك نفسه أمام سائر حقائق الإيمان, فالمؤمن قد يسيطر عليه الحزن والبكاء نتيجة فوات "عمل صالح" يتقرب به إلى الله, وهذا الموضع لا يعقله غلاة المدنية, فلو شاهدوا رجلاً يبكي لفوات عبادة من العبادات لامتلؤوا انتقاصاً له, مع أن الله تعالى يحكي لنا طرفاً من أحوال الصحابة وكيف يتأثرون لفوات عمل صالح فيقول تعالى:
{وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]
فإذا كان ذلك كذلك فكيف يليق بنا أن نستمع للوحي وحقائق الإيمان ببرود معرفي محض؟! وكيف يليق بنا أن نتعامل مع الانفعال الوجداني بالوحي والإيمان باعتباره لوناً من السذاجة الوعظية؟ الواقع أنه لم تفقد هذه الأحوال العظيمة قيمتها إلا بسبب تعظيم المدنية الدنيوية وعلومها المادية, ويكفي للعاقل أن يقرأ هذا العرض الإلهي:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ, وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}
مأزق التعظيم النظري للكلي:
غلاة المدنية يكثرون من ذم الحفاوة بالجزئيات وتفاصيل الشريعة, وحين يناضل الفقيه الشرعي أو المفكر المسلم من أجل مسألة شرعية فإنهم يجابهونه بأننا يجب أن نرتفع عن الجزئيات ونهتم بالكليات, وأن المهم ليس أعيان المسائل وإنما المهم الأصول العامة, وأننا يجب ألا نغرق في الخاص ونهمل العام, ونحو هذه العبارات, وبعضهم يحاول أن يسند هذه الفكرة بنصوص تراثية من علم مقاصد الشريعة حول أهمية "الكليات الشرعية" وخصوصاً من رائد المقاصد الإمام الشاطبي رحمه الله.
والحقيقة أنه هذه النظرة للعلاقة بين الجزئي والكلي تنطوي على إهدار شئ من معطيات الوحي, بل تحولت إلى آلية منظمة لابتلاع المفردات الشرعية وتغييبها باسم العناية بالكلي والعام ونحوه.
ومن أهم أوجه الخلل في هذه الرؤية أنها غيبت دور الجزئي في حفظ الكلي, فافترضت أن الجزئي نقيض للكلي, والواقع أن الجزئي هو التحقق الواقعي للكلي, فكل تطبيق واقعي يحمل في مضامينه معنى الكلي, إذ الكلي انما هو القدر المشترك المستخلص من استبعاد العارض والطارئ وإبقاء المعنى المشترك.
فإذا عظمنا الكلي وغيبنا تطبيقاته تحول هذا التعظيم إلى تعظيم نظري شكلي لا حقيقة له, ولنضرب على ذلك مثلاً, فإنك تجد بعض الكتاب يقول لك يجب أن نهتم بالفضيلة كقيمة كلية كبرى لا أن نهتم بتطبيقاتها الجزئية, ثم يفتت كل الآليات التي تعزز هذه القيمة ويتسامح في فتح كل الذرائع التي تعارض هذه القيمة, ويدعي بعد ذلك أنه ينظر إلى "الفضيلة" كقيمة لا كتطبيقات, فهذا إنما حفاظه على كلي الفضيلة حفاظ نظري شكلاني غير حقيقي.
ومن ادعى تعظيم كلي "الدعوة والبلاغ" ولكنه استهان بقيمة أفراد وآحاد وسائل الدعوة الشرعية, فهذا إنما تعظيمه للدعوة تعظيم نظري غير حقيقي.
وعليه فكلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لجزئيات الشريعة كان أكثر تعظيماً للكليات الضمنية فيها, وكلما كان الإنسان مستهيناً بجزئيات الشريعة كان أكثر استهانة بالكلي المتضمن فيها, فلا طريق لتعظيم الكلي إلا بتعظيم جزئياته وتطبيقاته, وبذلك يتبين أن دعاوى تعظيم الكلي التي يرددها غلاة المدنية إنما هي وسيلة لتفريغ الكلي من محتواه باسم تعظيمه.
وقد شرح الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات "دور الجزئي في إقامة الكلي" وذلك في فصل خاص عقده لهذه المسألة وساق فيه الأدلة, ومن ذلك قوله رحمه الله:
(فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي.., وحين كان ذلك كذلك: دل على أن الجزئيات داخلة مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها)
ثم أشار الشاطبي إلى كون الكلي إنما هو مجرد "مفهوم نظري" ولذلك كان جمهور المناطقة يؤكدون أن الكلي إنما يوجد في الذهن أما ما هو خارج الذهن فإنما هو تطبيقاته, وهذا يعني أن من عظم الكلي دون تطبيقاته فإنما عظم مفهوماً نظرياً ذهنياً محضاً لا واقع فعلياً له, كما يقول الشاطبي في الاستدلال لهذه القضية:(57/170)
(ومنها: أن الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي لم يصح الأمر بالكلي من أصله, لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه, لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات, فتوجُّه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى تكليف ما لا يطاق, وذلك ممنوع الوقوع, فإذا كان لا يحصل إلا بحصول الجزئيات فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات, وأيضا: فإن المقصود بالكلي هنا أن تجرى أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف, وإهمال القصد في الجزئيات يرجع إلى إهمال القصد في الكلي, فإنه مع الإهمال لا يجري كلياً)
ومن وجه آخر فان المتأمل في أخبار أهل الكتاب التي ساقها الله في القرآن يلاحظ أن أهل الكتاب كانوا يعظمون ويقدسون كتبهم السماوية, ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى ذمهم وعابهم, لأن تعظيمهم وتقديسهم لتلك الكتب السماوية إنما كان تقديساً نظرياً وتعظيماً شكلانياً لا حقيقة له ولا أثر تطبيقي فعلي, فلم ينفعهم ذلك.
فليس المراد إذن "تقديس النص" شكلياً, أو تقديس المفاهيم نظرياً, وإنما إقامة الحقائق والمعاني واقعاً حياً معاشاً.
ولذلك روى أحمد وغيره أن صلى الله عليه وسلم حين قال لأصحابه: (يوشك أن يرفع العلم) قال له زياد بن لبيد: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونُقْرئه أبناءنا، ويُقْرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم
( ثكلتك أمك يا ابن لبيد! إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أوليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى، فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله, ثم قرأ: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ)
فكشف صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل زياد بن لبيد -وهو أنصاري مهاجري- أن القضية ليست في وجود النص وحفظ ألفاظه, وإنما في إقامته واقعاً حياً معاشاً على الأرض, وإقامته لا تكون إلا بإقامة تفاصيله وتطبيقاته.
والمقصود أن مراعاة الجزئي هي الطريق لإقامة الكلي, وإنما يعاب الجزئي إذا صادم الكلي, أما إذا لم يصادمه ولم يعارضه فإن إهدارَه إهدارٌ للكلي كما سبق بيانه.
فكرة السلم المطلق:
بعض غلاة المدنية يردد فكرة السلم المطلق, ويدعو إلى مواجهة مشروعات الاحتلال العسكري الصريحة بلغة الحب ورحابة الصدر الأعزل ونحو ذلك من الافكار الحالمة المستلهمة من نموذج الحكيم الهندي المعروف "المهاتما غاندي", وبعضهم يبالغ في تبجيل غاندي وعرضه كمخلص.
والحقيقة أن شريعة الله سبحانه وتعالى أرقى وأحكم من شريعة غاندي, وهذا الموضع موضع خطير على الإيمان لتضمنه المعارضة العملية لمحكمات الوحي, فإن الله سبحانه وتعالى شرع البر للمسالم والإثخان للمعتدي, وقد أمرنا الله بذلك كما في قوله تعالى:
{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}
وفي موضعين من كتاب الله تعالى في سورتي التوبة والتحريم أمرنا سبحانه أمراً صريحاً بالغلظة للمعتدين فقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73 ، والتحريم:9]
وأمرنا سبحانه بالإثخان في قوله تعالى:
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ}
وأمر سبحانه الملائكة بقوله:
{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]
وأمر سبحانه بالتشريد للمعتدين فقال سبحانه:
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال:57]
بل إن الله سبحانه وتعالى نهانا إذا نشبت المعركة مع المعتدي أن نبدأ الدعوة للسلام وإنهاء الحرب إذا كنا نحن الطرف الأقوى فقال تعالى {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون} وهذا توجيه إلهي صريح لا تستطيع كل تعسفات النظرية السلمية أن تفرغه من محتواه.
فإذا كان جبار السموات والأرض -كما في الآيات السابقة- يحثنا على مواجهة المحتل والمعتدي بالإثخان والغلظة وضرب الرقاب والتشريد في الأرض وعدم البدء بالدعوة للسلام, ويحببنا في هذه الأعمال الشريفة ويثيبنا عليها, فكيف يتجرأ عاقل ويستدرك على الله جل وعلا ويرى أن رأي رجل هندوسي وثني أحكم وأرقى؟!
والله ولو امتلأ القلب بتوقير الله وقدره حق قدره لامتنع أصلاً أن يزاحم حكم الله بحكم رجل هندوسي, ولا يرتاب عاقل أن هذا الموطن الذي يقدم فيه حكم غير الله أن فيه شعبة من شعب النفاق التي حذر الله المسلم من الوقوع فيها, كما في قوله تعالى {فليحذر الذين يخالفون عن أمره}.
هذا طبعاً من حيث علاقة فكرة السلم المطلق بنصوص الوحي, أما علاقتها بالواقع فهي فكرة رومانسية طريفة, ذلك أن جمهور الأمم المعاصرة اليوم تمجد أبطالها القوميين ذوي البسالة في المعارك الكبرى, وترفعهم بحسب عبقريتهم في ازهاق الأعداء وصناعة الانتصارات القتالية الحاسمة, وتبني لهم النصب التذكارية في مراكز المدن, وهذا أمر مشاهد معلوم.(57/171)
ومواجهة المحتل بالإثخان والتشريد ونحوها لا تعني الإخلال بأخلاقيات الجهاد الشرعي, كاستهداف أمن البلدان الإسلامية, أو انتهاك فريضة الله في المعاهَد والمستأمَن ومن له شبهة أمان, فهذا انحراف عن الجهاد الشرعي الشريف لا يخالف في ذلك أحد من فقهاء الإسلام المتقدمين أو المعاصرين ولله الحمد, وإنما الموفق من أخذ الكتاب كله ولم يقع في تبعيضه, فعمل بشريعة الإثخان والتشريد وراعى حقوق معصومي الدماء من المسلمين والمعاهدين والمستأمنين ومن لهم شبهة أمان, فإن التحرز في الدماء عنوان الديانة.
بل ما أقرب أن يقال -والعلم عند الله- أنه ما استطال أهل الأهواء اليوم على الدعوة إلا بشؤم معصية الله في انتهاك أخلاقيات الجهاد الشرعي, فبعد أن كان أهل الدعوة في منعة لا يرقى إليهم الشك أصبح الكثير منهم اليوم موضع الارتياب والرقابة, وتسلط عليهم كثير من أهل الباطل بالتعيير والتشنيع, وما أكثر ما تتسبب معصية فردية في ابتلاء عام يطال الأخيار وأفاضل الناس, ولذلك لما عصى الرماة هدي الله في الجهاد سلط الله الكفار حتى نالوا من رسول الله وكبار أصحابه, فكسرت رَبَاعِيتُه وشُجّ في وجهه، ودخل في وجنته الشريفة حلقتان من حلق المغفر، كما قال تعالى: {وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون}
وفي وقعة حنين لما تسربت معصية العجب إلى بعض الأفراد ابتلى الله المسلمين أفاضلهم ومن دونهم فضاقت عليهم الأرض بما رحبت كما قال تعالى: {ويوم حنين اذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت}.
فهذه العمليات المنحرفة التي استهدفت أمن البلدان الإسلامية واستهترت بضوابط الشريعة في عصمة الدماء, تسببت في تشويه الجهاد الملتزم بأخلاقيات الجهاد الشرعي وقيمه السامية, حتى أصبحت لا تكاد ترى من ينبس باسمه خوفاً من أن يجر بتهمة الإرهاب, وجرأت كثيراً من السفهاء على أن يستهينوا بشئ من مضامين الوحي ما كانوا يتجرؤون على الإعلان بمثلها, فأي شؤم لتلك العمليات أكثر من ذلك.
فهذه سنة كونية لآثار المعاصي على الدعوات لا يستوعبها العقل المادي وإنما يعقلها من امتلأ قلبه يقيناً بالآثار الغيبية, نسأل الله الكريم أن يتوب علينا جميعاً بواسع مغفرته ولا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
فكرة الكفر السياسي:
بعض غلاة المدنية في محاولتهم لاستبعاد صيغة العلاقة الدينية مع الحضارة الغربية يقولون: لا يمكن لنا أن نتعامل مع الغرب بذات الأدوات والصيغ الدينية التي حملها الوحي تجاه الكفار, ذلك أن الواقع الغربي المعاصر يختلف جذريا عن الكفار قبل هذا العصر, فالكفار في سابق العصور كانوا يناهضون النبوات والدعوات بدوافع دينية محضة, أما المؤسسة السياسية الغربية في هذا العصر فهي تتحرك وتخطط بدوافع مصلحية لا دينية محضة, فهي تراقب الحراك الإسلامي بدوافع إمبريالية لا دوافع عقائدية, بمعنى آخر إنه "كفر سياسي" وليس في حقيقته "كفر عقدي".
وهم يظنون بذلك أن هذا التصور ينبني عليه استبعاد القراءة الدينية والتعامل الديني مع المجتمع الغربي, وأن علينا ان نواجه الدوافع المصلحية بدوافع مصلحية مماثلة, لا أن نواجه الدوافع المصلحية بموقف ديني أو عقائدي.
والواقع أن منشأ الخلل في هذه الأطروحة ليس في تصور دوافع المؤسسة السياسية الغربية المعاصرة, وإنما في الآثار التي توهموا أنها تنبني على هذا التصور!
فالمؤسسة السياسية الغربية هي مؤسسة كولونيالية/استعمارية ليس في ذلك شك, لكن هل من قاوم الدين باعتباره يهدد مصالحه لا نقف منه موقف ديني؟
هذا التصور المختل نابع من الجهل بدلالات القرآن حول دوافع الكفار أساساً, فجمهور الكفار الذين تحدث الله عنهم وقص لنا خبرهم وشرع لنا مناضلتهم وكشف لنا سوء مصيرهم لم يكونوا مدفوعين أصلاً بقناعات دينية محضة, بل إنما قاوموا النبوات والدعوات واتباع الرسل لأنهم رأوا في الدين ما يهدد "مصالحهم" الدنيوية, كمصلحة الاحتفاظ بالنفوذ والرياسة, أو تهديد مصادر الثروة, أو الحمية للآباء, أو الحسد العرقي, أو غيرها.
ومع ذلك كله فقد اتخذ القرآن منهم موقفاً دينياً برغم أنهم مدفوعون في كفرهم بدوافع مصلحية مادية, بل إن هذا هو جوهر الابتلاء الديني بين الإيمان والكفر، وهو التنازل عن شهوات الدنيا ومصالحها من أجل الدين!
وانظر إلى رموز الكفار في القرآن الكريم تجد ذلك واضحا بيناً, فهذا فرعون وقارون وأهل الكتاب وأبو جهل وغيرهم إنما كانت دوافعهم للكفر دوافع مادية بحتة وليست دوافع عقائدية.
وفي نص مطول ومبدع لابن القيم حاول فيه تحليل دوافع الانحراف على ضوء القرآن نجتزئ منه هذا المقطع:
(قيام مانع: وهو إما حسد أو كبر, وذلك مانع إبليس من الانقياد للأمر, وبه تخلف الإيمان عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله وعرفوا صحة نبوته, وهو الذي منع عبد الله بن أبي من الإيمان, وبه تخلف الإيمان عن أبي جهل وسائر المشركين, فإنهم لم يكونوا يرتابون في صدقه وأن الحق معه, لكن حملهم الكبر والحسد على الكفر, وبه تخلف الإيمان عن أمية وأضرابه ممن كان عنده علم بنبوة محمد.(57/172)
السبب الرابع: مانع الرياسة والملك, وان لم يقم بصاحبه حسد ولا تكبر عن الانقياد للحق, لكن لا يمكنه أن يجتمع له الانقياد وملكه ورياسته فيضن بملكه ورياسته, كحال هرقل وأضرابه من ملوك الكفار, الذين علموا نبوته وصدقه وأقروا بها باطناُ, وأحبوا الدخول في دينه, لكن خافوا على ملكهم, وهذا داء أرباب الملك والولاية والرياسة, وهو داء فرعون وقومه ولهذا قالوا: أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون.
السبب الخامس: مانع الشهوة والمال, وهو الذي منع كثيراُ من أهل الكتاب من الإيمان خوفاً من بطلان مأكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم, وقد كان كفار قريش يصدون الرجل عن الإيمان بحسب شهوته, فيدخلون عليه منها, فكانوا يقولون لمن يحب الزنا أن محمداً يحرم الزنا ويحرم الخمر, وبه صدوا الأعشى الشاعر عن الإسلام, وقد فاوضت غير واحد من أهل الكتاب في الإسلام وصحته, فكان آخر ما كلمني به أحدهم: أنا لا أترك الخمر وأشربها آمنا فإذا أسلمت حلتم بيني وبينها وجلدتموني على شربها, وقال آخر منهم بعد أن عرف ما قلت له: لي أقارب أرباب أموال وإني إن أسلمت لم يصل إلي منها شيء, وأنا أؤمل أن أرثهم أو كما قال, ولا ريب أن هذا القدر في نفوس خلق كثير من الكفار فتتفق قوة داعي الشهوة والمال وضعف داعي الإيمان, فيجيب داعي الشهوة والمال.
السبب السادس: محبة الأهل والأقارب والعشيرة، يرى أنه اذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم وأخرجوه من بين أظهرهم, وهذا سبب بقاء خلف كثير على الكفر بين قومهم وأهاليهم وعشائرهم.
السبب السابع: محبة الدار والوطن, وإن لم يكن له بها عشيرة ولا أقارب لكن يرى أن في متابعة الرسول خروجه عن داره ووطنه إلى دار الغربة والنوى, فيضن بوطنه.
السبب الثامن: تخيل أن في الإسلام ومتابعة الرسول إزراءُ وطعناُ منه على آبائه وأجداده وذماُ لهم, وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام, استعظموا آباءهم وأجدادهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال وأن يختاروا خلاف ما اختار أولئك لأنفسهم, ورأوا انهم إن أسلموا سفهوا أحلام أولئك وضللوا عقولهم ورموهم بأقبح القبائح وهو الكفر والشرك, ولهذا قال أعداء الله لأبي طالب عند الموت: ترغب عن ملة عبد المطلب؟, فكان آخر ما كلمهم به: هو على ملة عبد المطلب)
سلطة الغموض:
كثير من الشباب المنبهر بأطروحات غلاة المدنية إذا دخلت معه في حوار حول أعماق قناعاته اكتشفت أنه مأخوذ بلغة الخطاب وغموضه المبهر أكثر من حقائقه وبرهنته, وسلطة الغموض على شريحة من القراء هي في الحقيقة ظاهرة معرفية قديمة لا يمكن إنكارها.
ولذلك تجد بعض الكتاب يميل إلى التحذلق والتقعر في الكتابة وعدم القصد إلى المعاني مباشرة, حيث يشعر أن طرح الفكرة في قالب مباشر يبدد وهجها, وأن وضع الفكرة في طرق ملتوية يبهر القارئ ويجعله يذعن للنتيجة.
وهذا الإذعان والخضوع للغموض ناشئ عن عدة أسباب, منها أن بعض القراء يسلم لتلك النتائج لظنه أن عدم فهمه فرع عن عبقرية الخطاب وأنه فوق إمكانياته, ومنها أن بعضهم يعجبه أن يتميز عن جمهور الناس بشئ ما, فلذلك تبتهج نفسه بالخطاب المعقد حيث يحقق له فرادة شخصية.
وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى هذه الظاهرة في درء التعارض فقال:
(وكذلك الأدلة التي فيها دقة وغموض وخفاء: قد ينتفع بها من تعودت نفسه الفكرة في الأمور الدقيقة, ومن يكون تلقيه للعلم عن الطرق الخفية التي لا يفهمها أكثر الناس أحب إليه من تلقيه له من الطرق الواضحة التي يشركه فيها الجمهور, ومثل هذا موجود في المطاعم والمشارب والملابس والعادات لما في النفوس من حب الرياسة, فهذه الطرق الطويلة الغامضة التي تتضمن تقسيمات أو تلازمات أو إدراج جزئيات تحت كليات, قد ينتفع بها من هذا الوجه في حق طائفة من الناظرين والمناظرين, وإن كان غير هؤلاء من أهل الفطر السليمة والأذهان المستقيمة لا يحتاج اليها, بل إذا ذكرت عنده مجها سمعه ونفر عنها عقله, ورأى المطلوب أقرب وأيسر من أن يحتاج إلى هذا)
فبعض القراء يكون قد اعتاد التعقيد فيصبح يتفاعل معه أكثر من الصياغة المباشرة, وبعض القراء يحب التعقيد لما يمنحه من الزهو الداخلي, كما يقول الإمام ابن تيمية في الرد على المنطقيين:
(وبعض الناس: يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له, لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة, فإذا كان الدليل قليل المقدمات, أو كانت جلية, لم تفرح نفسه به.., فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم, أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته, لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم, فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات)(57/173)
والحقيقة أنه لا يذعن أمام سلطة الغموض والتعقيد إلا القارئ ضعيف الشخصية, أما القارئ الواثق فإنه يعتبر التعقيد والغموض عياً في الكاتب لا ضعفاً في القارئ, ومن المؤسف أن سلطة الغموض من أشد الأمور تأثيراً على بعض القراء, خصوصاً من يتحاشى التهمة بعدم الفهم, فيظهر المشاكلة حذراً من الانتقاص, ويظهر ذلك خصوصاً في المصطلحات المعربة, أو الاصطلاحات المنقولة بتعابير وعرة غير موحية بدلالاتها, مع ما ينضاف إلى ذلك من تهويل المتحدثين بها, وفي حالة مشابهة يقول الإمام ابن تيمية في درء التعارض:
(ولكن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة, وصاروا يدخلون فيها من المعاني ما ليس هو المفهوم منها في لغات الأمم, ثم ركبوها وألفوها تأليفا طويلا بنوا بعضه على بعض, وعظموا قولهم وهولوه في نفوس من لم يفهمه, ولا ريب أن فيه دقة وغموضاً لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة, فإذا دخل معهم الطالب وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته, فأخذ يعترض عليهم, قالوا له: أنت لا تفهم هذا, وهذا لا يصلح لك, فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية يحملها على أن تسلم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده, وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل)
ومما هو شديد الصلة بذلك أن كثيراً من غلاة المدنية إذا عبر لهم عن "المعنى المعين" باصطلاح شرعي أو تراثي استخفوا به واستعلوا عليه, وإذا عبر لهم عن ذات المعنى باصطلاح فكري حديث أو تعبير فرانكفوني معرب خضعوا للمعنى المتضمن به, لامتلاء قلوبهم بتعظيم المدنية الحديثة, وتبعية تفكيرهم لقوالب المعاني أكثر من المعاني ذاتها, وقد رصد الإمام ابن تيمية هذه الظاهرة وهي سلطة المصطلح ونفوذه الضخم على التفكير وكيف تسلبه القراءة الموضوعية الهادئة كما يقول في منهاج السنة:
(وكثير ممن قد تعود عبارة معينة إن لم يخاطب بها لم يفهم ولم يظهر له صحة القول وفساده, وربما نسب المخاطب إلى أنه لا يفهم ما يقول, وأكثر الخائضين في الكلام والفلسفة من هذا الضرب, ترى أحدهم يذكر له المعاني الصحيحة بالنصوص الشرعية فلا يقبلونها لظنهم أن في عبارتهم من المعاني ما ليس في تلك, فإذا أخذ المعنى الذي دل عليه الشرع وصيغ بلغتهم وبين به بطلان قولهم المناقض للمعنى الشرعي خضعوا لذلك)
وبرغم يقيننا أن الخطاب الغامض المعقد قد يكون أحياناً حالة غير سوية, إلا أنه لا يمكن إنكار أن بعض القراء قد يستفيد منه في شحذ ذهنه وصقل إمكانياته التحليلية والجدلية وقدرات التفنيد ونحوها, وهذا أمر مشاهد, ولذلك قال الإمام ابن تيمية في الرد على المنطقيين:
(فإن النظر في العلوم الدقيقة يفتق الذهن, ويدربه ويقويه على العلم, فيصير مثل كثرة الرمي بالنشاب وركوب الخيل, تعين على قوة الرمي والركوب وإن لم يكن ذلك وقت قتال, وهذا مقصد حسن, ولهذا كان كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة: كالجبر, والمقابلة, وعويص الفرايض والوصايا والدور, لشحذ الذهن, فإنه علم صحيح في نفسه, ولهذا يسمى الرياضي, فإن لفظ الرياضة يستعمل في ثلاثة انواع: في رياضة الأبدان بالحركة والمشي كما يذكر ذلك الأطباء وغيرهم, وفي رياضة النفوس بالأخلاق الحسنة المعتدلة والآداب المحمودة, وفي رياضة الأذهان بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور الغامضة)
هل أضاع المسلمون دنياهم؟
بعض غلاة المدنية يرى أن كل ما نحن فيه اليوم من هوان وضعة إنما منشؤه غفلة المجتمع المسلم عن بناء الدنيا, بل إن بعض غلاة المدنية يقول بصراحة "المسلمون اليوم عمروا آخرتهم وأضاعوا دنياهم", وبعضهم يقول: تطرق الخلل للمسلمين من جهة ضعف دنياهم لا من جهة ضعف دينهم, وبعضهم يقول: المسلمون اليوم بالغوا في شأن الآخرة حتى تخلفوا, ونحو هذه العبارات. وهذا التصور ناشئ عن مركزية المدنية والغلو فيها.
واذا عرضنا هذا التصور على أصول الوحي تبين كم فيه من إهدار لحقائق القرآن, فحب الدنيا والعناية بها هما أصلاً غريزة مركوزة في النفس البشرية ويستحيل بحسب سنن التاريخ أن تتحول الأمم الكثيرة إلى ظاهرة زهد شمولي مطْبِق كما يتصور غلاة المدنية عن واقع المجتمع المسلم, وقد كشف القرآن عن هذه الغريزة البشرية في قوله تعالى:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ}
وقال تعالى:
{كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}
وقال تعالى:
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16]
بل إن أزكى النفوس البشرية التي تلقت التزكية النبوية مباشرة طالما عانت من مجاهدة "إيثار الدنيا" ونبهها القرآن في كثير من المواضع إلى التفاتها إلى الدنيا برغم اشتغالها التام بالعبادة والجهاد, فقال تعالى للصحابة المجاهدين حين اندفعوا يجمعون الغنيمة:
{مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152](57/174)
فبالله عليك تأمل كيف يقول ذلك لهم, وينبههم إلى التفاتهم إلى الدنيا, وهم في حالة قد جمعوا فيها بين مشهد التضحية ومقام الصحبة.
وقال لهم حين مالت نفوسهم للسلم والفداء:
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]
وقال لهم حين استثقل بعضهم مشقة الجهاد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة:38]
وقال لهم حين انتهوا من نسكهم وأخذوا يدعون الله ويلجأون اليه:
{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} [البقرة:200]
فإذا كان "تعظيم الدنيا" غريزة مركوزة في النفس البشرية, وإذا كانت أزكى النفوس البشرية ومن تلقت التربية النبوية لم تسلم من التفات القلب إلى الدنيا واحتجاب حظ الآخرة في بعض المواطن, بل وهي في أعظم المواطن كالجهاد والحج, فكيف يقول غلاة المدنية أن المسلمين اليوم عمروا آخرتهم وزهدوا في دنياهم حتى تخلفوا؟
ثم إنه لو صح أن المسلمين اليوم عمروا آخرتهم -كما يقوله بعض غلاة المدنية- فإن نتيجة ذلك ليس ضياع الدنيا, بل النصر والتمكين وانهمار بركات الموارد الطبيعية, وهذا المعنى الغيبي لا يستوعبه العقل المادي, وإنما يعقله قلب المؤمن الذي امتلأ يقيناً بصدق الوعود الربانية, ومن قال بخلاف ذلك فقد عارض محكمات الوحي, وسيأتي الإشارة إلى شواهد ذلك.
تأجيل نتائج الاستقامة:
يحاول كثير من غلاة المدنية أن يجعلوا المأمورات والمنهيات الشرعية مرتبطة بالجنة والسلامة من النار فقط, ولا علاقة لها بسعادتنا وظفرنا وسلامتنا الدنيوية, فالدين لبناء الآخرة والمدنية لبناء الدنيا, أو كما يقول بعضهم: الدين شرط للنجاة الأخروية لا للنجاح الدنيوي, ولذلك يشعر بعضهم أن المجتمع الغربي ليس بحاجة فعلية إلى الإسلام لإصلاح دنياه, وإنما يحتاج الإسلام فقط لينجو من النار, وتبعاً لذلك يعبر بعضهم عن المجتمع الغربي بأنه الإسلام بلا مسلمين.
والواقع أن هذا جهل مؤلم بمضامين الوحي ودلالاته على الآثار الدنيوية للالتزام الديني, فقد دلت محكمات الوحي على خمسة آثار دنيوية للاستقامة الدينية وهي:
التمكين السياسي في الأرض, واستقرار الأمن في البلاد, والرخاء الاقتصادي, والطمأنينة النفسية, والسلامة من كوارث الغضب الإلهي.
فكيف يقال بعد ذلك أن الدين لبناء الآخرة فقط والمدنية لبناء الدنيا, أو أن المجتمع الغربي لا يحتاج الإسلام لإصلاح دنياه؟!
فقد أخبرنا الله خبراً قاطعاً لا يحتمل النسبيات وأشكال التأويل أن "الاستقامة تورث التمكين والأمن" كما قال تعالى:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55]
وأكد تعالى هذا الوعد الرباني في محكمات كثيرة كقوله تعالى:
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ} [القصص:5-6]
ومن شدة اهتمام الله بهذا الوعد الرباني أخبرنا عن تتابع الأنبياء والكتب السماوية على تأكيده كما قال تعالى:
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]
وقال تعالى عن وعده لأنبيائه السابقين:
{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} [الصافات:171 -173]
وربط الله سبحانه وتعالى النصر العسكري على الأعداء بعمارة الآخرة, لا أن عمارتها سبب للهزيمة, كما قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7]
وقال تعالى:
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40]
وقال تعالى:
{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:5]
وقال تعالى:
{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}
والمنطوق المصرح به في مثل هذه الآيات أن من نصر الله نصره الله, أما المفهوم الذي تضمنته فهو أن من لم ينصر الله فإن الله سيخذله, وهذا المفهوم ليس مجرد استنباط بل هو منصوص في محكمات أخرى, كقوله تعالى:
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].
وقال تعالى:(57/175)
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}
وقوله تعالى:
{وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}
فحين يقرأ المؤمن هذه المحكمات وكيف يثنيها الله سبحانه وتعالى مرة بعد أخرى فإنه يشعر بالأسى والألم وهو يسمع بعض الشباب المسلم يردد أن المسلمين عمروا آخرتهم وأهملوا دنياهم.
كما دلت شواهد الوحي الكثيرة على أن الاستقامة الدينية تخلق الرخاء الاقتصادي وازدهار الموارد الطبيعية, كما في قوله تعالى:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}
وأيقظ الله العقل المادي ونبهه على أن الاستقامة تورث الرزق بطريق لا يتنبه له المرء ولا يمكن حسابه بالحسابات المادية المحضة فقال تعالى في لفتة دقيقة:
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً, وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}
وهذا شأن عام في الأمم السابقة فقد قال تعالى لأهل الكتابين:
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}
وقال نوح لقومه:
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً, يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً, وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}.
وقال هود لقومه:
{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ}
فهذه محكمات الوحي الصريح تتابعت على لسان الأنبياء تؤكد أن الاستقامة الدينية من أعظم أسباب الرخاء الاقتصادي وغنى الموارد, وأنا أسوق هذه الآيات، أدرك تماماً أن "العقل المادي" الذي تشبع بالثقافة الغربية الحديثة لايطيق ولا يستوعب هذه الوعود الإلهية, ولا يفكر إلا في الآليات الملموسة, والواجب إزاء ذلك أن لا ننجرف مع هذه العقول وتكوينها المتصادم مع مقتضيات الإيمان, وإنما الواجب أن نسعى قدر المستطاع إلى تنويرها بالوحي ودلالتها إلى تزكية النفوس حتى تستطيع عقولها أن تترقى من ماديتها السطحية فتوقن بوعد الله سبحانه وتعالى, فمن ذا سيكون أصدق وأبر وعداً من الله جل وعلا؟ ولذلك قال تعالى:
{وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟}
وقد دلت شواهد الوحي أيضاً على أن الخلل الديني من أهم أسباب الكوارث العظيمة الناشئة عن الغضب الإلهي, وهذه الحقيقة يتبرم بها كثيراً غلاة المدنية ويحاولون تحييدها, ويتضايقون من تفسير الكوارث على أنها عقوبات إلهية, ويحاولون دوماً أن يجعلوا الخلل الديني عقوبته أخروية فقط, أما الدنيا فمربوطة بقوانين طبيعية لا صلة لها بهذه التفسيرات الغيبية, وبعضهم يتجارى به التطرف ويسمي ذلك "تفسيراً ميثولوجياً" أي أسطورياً خرافياً.
والواقع أن هذا التصور يتضمن إهداراً وتضييعاً لأحد الركائز القرآنية في تصور التاريخ, فقد كشف القرآن في محكمات صريحة عن أن الخلل الديني له عقوبتان دنيوية وأخروية وقد ذكر سبحانه نوعي العقوبة كما في قوله تعالى:
{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [آل عمران:56]
وأشار في موضع آخر إلى نوعي العذاب بقوله:
{لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ}
ومن هذه العقوبات الدنيوية الكوارث الطبيعية وغلاء الأسعار وشح الموارد وانفراط الأمن وغيرها كثير كما قال تعالى:
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم:41]
ويضرب الله لنا مثلاً عن دور الانحراف الديني في رفع الرغد والأمن كما يقول تعالى:
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}
فهانحن نرى أن العقوبات الدنيوية إزاء الانحراف الديني ليست تفسيراً ميثولوجياً أو خرافياً, بل هي أحد المكونات الرئيسية لحركة التاريخ في التصور القرآني.
وبعض غلاة المدنية يردد دعوى مفادها أن (المعاجلة بالعقوبة استثناء لا ظاهرة تاريخية)، والحقيقة أن إهلاك الأمم المتجبرة المعرضة عن الوحي وطاعة الله ورسوله ومعاجلتها بالعقوبة ليس استثناء في مدونة التاريخ, أو حادثة شاذة خارقة للعادة, بل إن المعطيات التاريخية التي يقدمها القرآن تكشف أنه ظاهرة تاريخية فعلية! كما قال تعالى:
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [ الإسراء: 17]
ويذكر الله الأمم السابقة وكيف شملهم بنوعي العقوبة الدنيوية والأخروية فيقول تعالى:(57/176)
{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ, فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ}
ثم إن تلك الشعوب السابقة في التاريخ الإنساني كانت تمتلك إمكانيات مدنية وقوة اقتصادية وموارد هائلة ومع ذلك حين سخط الله عليها عاجلها بالعقوبة الدنيوية بسبب ذنوبهم كما قال تعالى:
{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} [الأنعام:6]
ويسرد القرآن شيئاً من عقوبات الأمم السابقة فيقول:
{فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا, وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ, وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ, وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا}
وانظر إلى مشهد الخراب المروع الذي يصوره القرآن وهو يقول:
{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45]
فهذه الرؤية التي يتصورها غلاة المدنية تتضمن أن الإيمان والعمل الصالح والعبودية ليس لها آثار اجتماعية خارجية منفصلة, بل آثارها ذاتية خاصة, وهذا تصور مناقض للمحكمات السابقة, وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى شيء من ذلك فقال في الصفدية:
(فقد علم بالاضطرار من النقل المتواتر, والتجارب المعروفة, أن الأعمال الصالحة توجب أمورا منفصلة من الخيرات في الدنيا, وأن الأعمال الفاسدة توجب نقيض ذلك, وأن الله تعالى عذب أهل الشرك والفواحش والظلم,كقوم عاد وثمود ولوط وأهل مدين وفرعون, بالعذاب المنفصل والمشاهد, الخارج عن نفوسهم, وأكرم أهل العدل والصلاح بالكرامات الموجودة في المشاهدة, وهذا أمر تقر به جميع الأمم, فكيف يقال إن العبادات والطاعات ليس مقصودها إلا ما يوجد في النفس من صلاح الخُلُق؟)
فإذا كانت الاستقامة الدينية تتعلق بها كل هذه النتائج الدنيوية الحيوية فهل يجوز للمسلم بعد ذلك أن يقول أن المسلمين عمروا آخرتهم وأضاعوا دنياهم, أو أن الدين شرط للنجاة لا النهضة؟
ومما هو شديد الصلة بهذه النظرة أن بعض غلاة المدنية يتحاشون النظر إلى قوة الكفار على أنها نوع من الإملاء والاستدراج الإلهي لهم, ويميلون إلى النظر اليها باعتبارها نتاج طبيعي لدأبهم وتفانيهم يستحقون نتائجه, لا أنهم مستكثرون من أسباب العقاب الإلهي!
والواقع أن من أظهر قوانين التاريخ التي سطرها لنا الوحي "قانون الإملاء والاستدراج الإلهي" , فالقوة المادية وتعملق الإمكانيات التي بأيدي الكفار هي نوع من ذلك كما قال سبحانه:
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ*وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}
وقال تعالى عمن يكذب بهذا الوحي:
{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}
وقد قص الله علينا طرفاً من ألوان هذا الإملاء والاستدراج الذي ترتجف له قلوب المؤمنين, فقال تعالى:
{فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:55]
بل تأمل في هذا المشهد المخيف حين يخبر تعالى بأنه يزيد للمعرض كل شئ ثم يباغته بالعقوبة, كما قال تعالى:
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً}
وقال سبحانه وتعالى:
{فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}
كما أن بعض غلاة المدنية يقول: هؤلاء خطباء المنابر يعدوننا منذ آماد بأن الله سيهلك الكفار وسينصر الإسلام ولم نر شيئاً! بل لا يزال الكفار في تقدم والمسلمون في تراجع, ويذكر الإسلاميون أن البيع مبارك والربا ماحق ولم نر الاقتصاد الغربي الربوي إلا يتعاظم واقتصاداتنا تنهار.
والحقيقة المؤلمة هي أن هذا الوعد بانتصار الإسلام والوعيد بسقوط الكفر ليست قضية فكرية يتبناها الإسلاميون, بل هي وعد ووعيد إلهي, وقد نبه الله سبحانه وتعالى رسله واتباع الرسل إلى أنهم سيواجهون مثل هذا الاعتراض المبطن بالسخرية من وعد الله ووعيده الدنيوي, كما قال تعالى:
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ}
والاستخفاف بوعد الله من شعب النفاق الخطيرة على الإيمان كما قال تعالى:
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا}
ولشدة تأثير هذا الكلام في أتباع الرسل فقد أكد تعالى على وعده فقال:
{فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}(57/177)
ولا سيما أن وعد الله ووعيده كثيراً ما يتحقق في اللحظات الحرجة أو في المشهد الأخير حين يستكمل الله سبحانه وتعالى سنة الابتلاء والتمحيص ويمر المؤمن بساعات الشدة كما قال تعالى:
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا}
ونبه سبحانه على أن المؤمن قد يمد الله في حياته حتى يشاهد العاقبة بكاملها وقد يتوفاه الله قبل ذلك لكن الله لا يخلف وعده كما نبه تعالى على ذلك في ثلاثة مواضع من كتابه فقال:
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}
وقال سبحانه وتعالى:
{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}
وقال سبحانه وتعالى:
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}
ونبه الله عباده المؤمنين الى أن هذا الامهال الالهي له حكم كبرى وليس عجزاً من الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى:
{ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ} [النور: 57]
ولشدة الافتتان باستمرار الكفار في تقلبهم في قوتهم أشار القرآن الى عدم الاغترار بهذه الحال فقال تعالى:
{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران: 196].
ولذلك كله فقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نجيب على مثل هذا السؤال المتضمن استبطاء الوعد والوعيد بأن المسألة "مسألة وقت" كما قال تعالى:
{قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى}
نفوذ المخاطبين:
الحقيقة أن من تأمل كافة تلك القضايا التي ناقشناها في الفقرات السابقة فسيلاحظ أن بعض المنتسبين للدعوة قد قارب بعضها بحسن نية وتحت وطأة الرغبة الملحة في هداية الناس وتأليف قلوبهم وتحبيبهم في الخير والتودد لهم والدخول إلى قلوبهم من جهة ما تهواه, والمرجو أن يكون أمثال هؤلاء الدعاة تحت مظلة العذر الإلهي والكرم الرباني.
ولكن المأمول دوماً هو التواصي بالحق والتواصي بالصبر, حتى لا يقع الداعية في هوة التحرج من حقائق الوحي, أو التدسس عنها مجاملةً لوسائل الاعلام, أو تربيتاً على أكتاف الذوق الجماهيري الحديث.
ولطالما اشتد عجبي وأنا أتأمل آيات القرآن من كثرة تنبيه الله سبحانه لنبيه من مخاطر الوقوع تحت "سلطة الجماهير", والحقيقة أن الكثيرين يظنون أن الصراع مع الهوى هو صراع مع هوى النفس الشخصي فقط, ولكن هناك ما هو أقوى على العامل للإسلام من ذلك, إنه الصراع مع أهواء المخاطبين, والرغبة في الاستحواذ على رضاهم وكسب تعاطفهم مع الإسلام.
لا أشد على العامل للإسلام من تلك الفتنة التي حذر الله منها نبيه وهي فتنة استمالة المدعوين, والرضوخ لهوى المكلفين, والانصياع لضغوط مألوفاتهم, وتوجيه التعاليم الإلهية بالشكل الذي يرتاحون به ويميلون اليه.
فالضعف البشري في تأويل النص باتجاه رضا الناس حقيقة لا يكاد يفلت منها داعية إلى الله, ولو لم تكن هذه الفتنة بهذه الخطورة لكانت كثرة تحذير الله لنبيه منها عبث ينزه القرآن عنه, فكثرة التنبيه فرع عن شدة الخطورة, وتثنية التحذير مرة بعد أخرى انعكاس لدحض الطريق ومزلة الأقدام.
ولا سيما إذا كان التحذير والتنبيه موجها إلى أكمل من أدى أمانة الرسالة على وجهها, فكيف بمن يليه في المنزلة والتسديد.
انظر مثلاً كيف صور الله الجماهير المتلقية وهي تحاول استمالة النبي عن مقررات الوحي وتعده بأن تنساق خلفه وتنصره فقال سبحانه في سورة الاسراء:
{وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً}
إنهم على استعداد تام للاتباع والانخراط في جملة المسلمين ولكن بشرط واحد, شرط واحد فقط, إنه "تبديل" بعض هذا الوحي الذي لاتروق لهم مضامينه!
وقد كشف القرآن في الآية التي تليها مباشرة أن هذا الاستسلام لنفوذ المخاطبين كان خطراً فعلياً على صلى الله عليه وسلم لولا العصمة الإلهية ولذلك قال تعالى:
{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا}
فإذا كان نفوذ المخاطبين كاد أن يبلغ تأثيره سيد المرسلين لولا العصمة الربانية فكيف يأمن من بعده ذلك؟
وقد أشار القرآن إلى هذا الإلحاح بتبديل الوحي كما قال سبحانه في سورة يونس:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ, قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ, قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي, إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}
وكرر الله ذات التنبيه إلى خطورة "سلطة المخاطبين" فقال في سورة المائدة:
{وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ}(57/178)
مع أن هذه الآية تحكي صفقة على "بعض الوحي" وليس "كل الوحي" إنما هي مجرد "تحوير" بعض الأحكام والتصورات فقط, ولكن الله سبحانه وتعالى مع كل ذلك نبه نبيه وحذره وسمى ذلك "فتنة", وقد أجمع أرباب الطريق إلى الله على أن "الفتنة" موضع الابتلاء والامتحان والاختبار.
وليس المطلوب فقط هو الامتناع عن التنازل عن بعض مضامين الوحي, بل نحن مطالبون بقدر زائد على ذلك, وهو الفخر بهذه المضامين, والشموخ بها, وعدم التحرج منها, كما قال سبحانه في مطلع الأعراف:
{كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ}
وجعل الرضا بالحكم الإلهي وتصورات الوحي والخلوص من التحرج منها معيار "الإيمان" كما قال سبحانه:
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}
ففي هذه الآية أكد هذا الشرط للإيمان بأنواع من الأدوات الألسنية لترسيخ المعنى كالقسم والنفي والتعقيب والتكرار والاسم المطلق وغيرها من الصيغ اللغوية للتأكيد مما هو مبسوط في مطولات المفسرين.
وهكذا تمضي آيات القرآن تثنّي مرة بعد مرة هذا التنبيه للنبي r عن خطورة ضغوط أهواء المخاطبين كما قال سبحانه في سورة المائدة:
{وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ}
وفي لغة تحذير مدوِّية يضطرب لها قلب القارئ يقول سبحانه:
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ}
هذا التأكيد الإلهي البليغ المتكرر حول الصراع الشرس بين هذين القطبين "هوى المكلفين" و "كتاب الله" وأثر ذلك على الداعية المبلغ عن الله سبحانه ليس مجرد ملحوظة فكرية تُحتسى في مقهى مسائي, بل هي قاعدة عميقة نابعة من عظمة العلم الإلهي بسنن الدعوة وتبليغ الدين.
ويعيد سبحانه وتعالى ذات التأكيد على تعارض هذين القطبين "الهوى البشري" و "الوحي الإلهي" فيقول سبحانه في سورة القصص:
{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ}
ويشير سبحانه إلى ذات التعارض فيقول في سورة الشورى:
{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ}
والمواضع التي نبه الله نبيه فيها إلى خطورة سلطة المخاطبين, وضخامة نفوذهم على الداعية كثيرة جداً, ومن تدبر هذه المواضع, وقلَّب وجوه معانيها, ورأى ما فيها من تكرر الإشارة إلى مشقة مواجهة الهوى البشري على رسول ا صلى الله عليه وسلم , وتحذير الله سبحانه من الاستجابة لضغط أهواء الناس في تغييب بعض حقائق الوحي, ورأى كثرة ربط الله سبحانه بين النقيضين أهواء المكلفين وكتاب الله: انكشف له سر تعقيب الله سبحانه بذكر "الصبر" بعد ذكر "اتباع الوحي" وذلك في قوله سبحانه في سورة يونس:
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ}
فعلاً.. ما أحوج من أراد أن يجمع الوحي كله إلى "مقام الصبر", الصبر على تعارض الوحي مع الهوى البشري, الصبر على تثاقل النفوس وتمنعها بحبال مألوفاتها, الصبر على الإلحاح النفسي الرهيب الذي يدفع الداعية إلى تلبية ما ينتظره الجمهور منه وإن كان لا ينسجم مع ما تمليه آيات الوحي.
وإن لم يعتصم العامل للإسلام بمقام "الصبر" فسيقع حتماً في سوق النصوص تجاه مراعي الشهوات الأرضية, بدل أن تعرج به هي في مدارات العبودية.
وأحياناً كثيرة لا يقع العامل للإسلام تحت ضغط الرغبة في هداية الناس, بل يقع ضحية تحاشي السخرية والاستهزاء, ذلك أنَّ من الملاحظ عند بعض غلاة المدنية أنهم يضعون كثيراً من المفاهيم والمصطلحات الدينية والتراثية الجادة في قالب ساخر أثناء أطروحاتهم النقدية, والواقع أن السخرية والاستهزاء من أمضى أدوات النفوذ والتأثير على الآخرين, ذلك أنها من أشد الأمور إيلاما لأصحاب المروءة, فتحجزهم عن كثير من المواقف تحاشياً أن يقعوا في مثار سخرية أو موضع استخفاف, ولذلك نبه الله الرسل والمصلحين على استغلال خصوم الدعوات الإلهية لهذه السلطة, فقال تعالى:
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ}
وقال تعالى:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ, وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
وأحياناً أخرى يواجه المصلحون جور الاتهامات السياسية, وأنهم يسعون للنفوذ السياسي ولعبة السلطة, والاستحواذ على الجمهور, ونحوها من الاتهامات التي تؤثر على سلوك العامل للإسلام في كثير من الأحيان, وقد نبه القرآن أيضاً على ذلك, وبين أن خصوم الدعوات الإلهية سيلوكون هذه الاتهامات السياسية, ولذلك اعتبر قوم فرعون أن موسى مجرد "طامح سياسي" يخطط للاستيلاء على أرض الوطن, كما نقل الله قولهم:
{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى}
وذكروا أن موسى وهارون يهدفان للسلطة كما نقل الله قولهم:(57/179)
{وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 78 ]
الشجن الأخير
عزيزي القارئ..صدقني ليس المقام مقام تحليلات فكرية باردة, ولا موضع استمتاع باسترسالات ذهنية تقدم على طبق مجاور لفنجان قهوة, لا يا صاحبي..كم أتمنى أن تشعر أن الأمر جلل, وأن ثمة ما يستدعي الجدية في النظر للموضوع.
يتبرم البعض ويتنمر فوق حواجبه عبوس الضجر حين يتمتم له العاملون للإسلام بمفصلية هذا الموضوع, وحدة الخيارات المطروحة فيه, وأن الرأي فيه مخوف مشرف إما على حافة الهاوية أو سلم النجاة, ويرمي هذا الطرح بأنه لون من النياحة والتباكي بلا جنازة أصلاً, أو على كثيب توهموه لحداً.
هذا "القرآن" ليس مجرد مخزون معرفي أو تراتيل طقوسية بل هو رسالة إلهية تحمل "قضية" هي فوق كل قضية, حتى قطعت بها أواصر موصولة, وسلت لها سيوف مغمدة, وسقطت لها عروش شامخة, وصعد بها رويعي الغنم مرتقى صعباً.
كم هو مؤلم أن يصبح الإبداع اليوم -في نظر كثير من المثقفين- هو أن لا تكثر من القرآن والسنة في كتاباتك, وأن لا تنير مقالاتك بذكر الله سبحانه وتعالى وبركة آياته وهدايتها, وإنما الإبداع هو الاستعراض بحشو مقالاتك بذكر فلان وفلان من الأسماء الفرانكفونية الرنانة, ومن هو دون الله من كلام المخلوقين, فتستبشر لك الوجوه وتحتفي بك النفوس.
بالله عليك تأمل في نفرة كثير من غلاة المدنية من النصوص الدينية وابتهاجهم بذكر الأعلام الغربية وقارنها بقوله تعالى في سورة الزمر:
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}
ويقول سبحانه في سورة الحج:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ}
الحقيقة أن "الصدود عن الوحي" والتبرم به مؤشر خطير على أن ثمة "شعبة نفاق" خفية في القلب تستدعي المبادرة إلى تنظيفه قبل أن يفوت الأوان, كما قال تعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61]
فالمصدرية الفكرية لون مما يجب إفراد الله فيه بالحكم, وإفراد الله بالحكم والطاعة أس العبودية والخضوع, وتدبر كيف حكى الله لنا حال الكفار في تعظيمهم من هو دون الله والشغف بذكره والتبرم بذكر الله, وقل في نفسك: ألا ما أشبه الليلة بالبارحة.
وفي ختام هذه الورقة النقدية يهمني كثيراً أن أؤكد مجدداً وبشكل خاص على أن هدف هذه الورقة ليس التزهيد في شأن اعداد القوة واتخاذ الامكانيات الحديثة, ولا تحريم الطيبات والرفاه.
وانما الباعث الجوهري على كتابة هذه الورقة تنامي الخلل في ترتيب الأولويات عند قطاع واسع من المثقفين بما ترتب عليه تضييع كثير من حقائق الوحي والاساءة لمشروع النهضة ذاته, حتى صارت العلوم المدنية هي الغاية والعلوم الالهية مجرد وسيلة تابعة لها, مع أن حقائق القرآن جاءت بعكس ذلك تماماً وجعلت العلوم الالهية هي الأصل وغيرها تابع خادم لها.
فهذه الفقرات السابقة لم يكن الهدف منها اسقاط قيمة المدنية أو الغاء أهمية الحضارة أو ترسيخ حالة الاستهلاك والتبعية في مجتمعاتنا المسلمة, وانما كانت مجرد مساهمة في اعادة ترتيب أولويات المثقف المسلم, وكشف تصورنا الاسلامي "المختلف" لمفهوم الحضارة والمدنية والتقدم والنهضة والتحديث, بهدف اعادة الاعتبار وكشف أولوية التزكية وشرف العلوم الالهية الموروثة عن خاتم الرسل, وحاجتنا اليها أولاً ثم حاجة العالم المعاصر اليها ثانياً.
أما استفراغ الوسع والاستطاعة في اعداد القوة واتخاذ الوسائل والامكانيات فهذا واجب شرعي محكم لاخلاف فيه, فالمسلمون اليوم بحاجة ماسة الى الامكانيات الحديثة لابلاغ الرسالة الاسلامية ولتحقيق الغاية الالهية الشريفة التي ذكرها الله في ثلاثة مواضع من كتابه في سورة التوبة والفتح والصف وهي قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق "ليظهره" على الدين كله)
ومثل هذه الغاية الالهية الشريفة لاتتحقق الا باتخاذ الوسائل الشرعية من اعداد القوة والامكانيات, ولذلك قال تعالى:
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [ الأنفال : 60 ].
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر:
(أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر, وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: اليد العليا خير من اليد السفلى, واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة)
ولكن استفراغ الوسع والاستطاعة في اعداد القوة واتخاذ الأسباب والامكانيات لايعني الركون اليها وتعلق القلب بها, ولذلك لما قال نبي الله لوط لقومه:
{ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}(57/180)
علق صلى الله عليه وسلم على ذلك تعليقاً بليغاً, حيث روى الترمذي وغيره بسند حسن عن أبي هريرة عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحمة الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد -يعني: الله عز وجل - فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه) .
كما ان الاستمتاع بالطيبات مما جاءت الشريعة بتقريره كما قال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ }.
ولذلك روى الامام مسلم في صحيحه أن صلى الله عليه وسلم قال:
(أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) وقال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)
ويمكن تلخيص هذه الاشكالية عبر تقسيم العلاقة بالممتلكات الدنيوية إلى ثلاثة مراتب رئيسية:
إما أن يكون الاهتمام ببناء الدنيا مربوطاً بغاية نصرة الاسلام وتحقيق قيمه, وإما أن يكون لمجرد اشباع احتياجات الانسان, وإما أن يكون بهدف المباهاة والمفاخرة والترف والمنافسة الدنيوية ونحوها.
فهذه المراتب الثلاث لخصها صلى الله عليه وسلم ووصف كل مرتبة بوصف بليغ جامع وذلك في حديث الخيل الشهير, فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال:
(الخيل ثلاثة: فهي لرجل أجر, ولرجل ستر, ولرجل وزر. فأما التي هي له أجر: فالرجل يتخذها في سبيل الله ويعدها له, فلا تغيب شيئا في بطونها إلا كتب الله له أجرا, ولو رعاها في مرج ما أكلت من شيء إلا كتب الله له بها أجرا, ولو سقاها من نهر كان له بكل قطرة تغيبها في بطونها أجر, حتى ذكر الأجر في أبوالها وأرواثها, ولو استنت شرفا أو شرفين كتب له بكل خطوة تخطوها أجر. وأما الذي هي له ستر: فالرجل يتخذها تكرما وتجملا, ولا ينسى حق ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها, وأما الذي عليه وزر: فالذي يتخذها أشرا وبطرا وبذخا ورياء الناس, فذاك الذي هي عليه وزر)
فهذا الحديث العظيم غني بالدروس والمعاني, وهو يختصر في عبارات موجزة كل ماأرادت هذه الورقة أن تقوله وزيادة, ويهمنا فيه الاشارة الى فضل الممتلكات والامكانيات الدنيوية حين توجه الى نصرة الاسلام ويبتغى بها وجه الله, حتى أن الإنسان يؤجر على تفاصيل حركاتها التي تقع منها أثناء فعل الطاعة وإن لم يقصد الانسان تلك التفاصيل, وقد أشار الى ذلك غير واحد من شراح الصحيحين, في مقابل بؤس وتفاهة تلك الممتلكات والامكانيات اذا اتخذت للمنافسة الدنيوية.
ويمكن اجمال بعض الغايات والنتائج التي سعت اليها هذه الورقة في الخطوط التالية:
-أن العبودية هي الغاية الكبرى, أما العلوم المدنية فهي وسيلة تابعة لها.
-أن التنوير الحقيقي هو الاستنارة بالعلوم الالهية التي تضمنها الوحي, وأن الظلامية والانحطاط الرئيسي هو الحرمان من أنوار الوحي مهما بلغت درجة العلوم المدنية.
-أن اشرف مراتب العمارة هي العمارة الايمانية, وأن جوهر وظيفة الاستخلاف هو تمكين الدين.
-أن الغلو المدني هو ينبوع الانحراف الثقافي وجذر التخبطات الفكرية المعاصرة.
-أن الاسلاميين ليسوا ضد المثاقفة, ولكن لديهم موقف تفصيلي يفرق بين الانتفاع والانبهار, ويفرق بين مستويات الانتاج في الحضارات الأخرى.
-أن خطاب أنسنة التراث آل الى تغييب دور النص في تشكيل التراث, ورد العلوم الاسلامية الى عنصرين: الثقافات السابقة وصراعات المصالح, بما ترتب عليه انفصال الشاب المسلم عن نماذجه الملهمة.
-أن المغالاة في مفهوم الانسان آلت الى طمس المعايير القرآنية في التمييز على أساس الهوية الدينية.
- أن التبرم بمرجعية الوحي, والإزراء بالقرون المفضلة, واللهج بتعظيم الكفار, من أكثر شعب النفاق المعاصرة التي تستدعي التحصين الايماني.
-أن المغالاة في النسبية يقود الى العدمية, بما يترتب عليه خسارة فضيلة اليقين ومنزلة الاحسان, والاغراق في الارتياب والحيرة واللاحسم.
-أن الغضب لله ورسوله اذا انتهكت محارمهما قيمة محمودة وليس توتراً ولانزقاً ولا دوغمائية ولاوصاية ولااقصاء.
-ان الاستغراق في ربط الشعائر بعلل سلوكية محضة, أو ربط التشريعات بحكم اجتماعية محضة, من أعظم أسباب توهين الانقياد وذبول الدافعية.
-أن تعظيم الكلي مع تجميد تطبيقاته يؤول الى تعظيم شكلي نظري لاحقيقة له, لأن الجزئي معتبر في اقامة الكلي.
-أن الاستقامة الدينية ليست لمجرد السلامة من النار, بل لها آثار دنيوية كبرى في جلب الخيرات ودفع الكوارث.
-أن الضعف البشري في تأويل النص باتجاه رضا الناس حقيقة لايستهان بسطوتها على العامل للاسلام الشغوف باستمالة المدعوين.
-أن استفراغ الوسع والاستطاعة في اعداد القوة واتخاذ الامكانيات من الواجبات الشرعية المحكمة.(57/181)
وسائر المعاني التي تمت الاشارة اليها في هذه الخاتمة حول أهمية اعداد القوة سبقت الاشارة اليها متناثرة في سياق الفقرات السابقة, وانما أعدتها للتأكيد على هذه القضية واحترازاً مسبقاً من سوء الفهم, وهذه هي آخر فقرة حول علاقة الخطاب المدني المتطرف بأصول الوحي, ولم يكن القصد هو استيعاب ظواهر الخلل في الخطاب المدني المتطرف وانما ذكر نماذج يتبين بها ماهو من جنسها, وعسى أن يكون لنا لقاء قريب في الجزء الثاني الذي هو عن علاقة الخطاب المدني المتطرف بالفكر الحديث.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الاثنين 10/06/1428هـ
ابراهيم السكران
==============(57/182)
(57/183)
مناهجنا .. آخر الحصون
مناهج التعليم الديني في العالم الإسلامي
كمال حبيب
عرف العالم الإسلامي منذ وجوده الأول المدارس الدينية التي قامت بتفسير القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، صحيح أن ذلك بدأ بشكل فردي حيث كان الصحابة يقومون ينقل ما سمعوه عن صلى الله عليه وسلم شفاهة ثم جاء التابعون من بعدهم لنقل ما أثر عن الصحابة ثم تكونت المدارس الفقهية واللغوية والأدبية ، وكان كل نشاط العقل المسلم يدور حول الإسلام والقرآن والسنة ، علماء التفسير والبيان والسنة والجرح والتعديل جميعهم كان نشاطهم العقلي والفكري يستلهم الإسلام ويدور حوله من أجل بيانه وشرحه والحفاظ عليه ، ولم تكن المدارس الفقهية أو اللغوية أو الحديثية أو البيانية ، ذات بيان ولها رسوم مقررة ، لكنها في أغلبها عمل تطوعي وأهلي ومجتمعي .
فأبو حنيفة مثلاً كان تاجراً لكنه متوافر على تأسيس مدرسة فقهية عريقة تعود بجذورها إلى الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان يحكم ويقضي ويجتهد ؛ هذه المدرسة الفقهية هي تلامذته الذين نقلوا العلم عنه « كأبي يوسف » و « محمد بن الحسن الشيباني » وغيرهم من المجتهدين والعلماء والقضاة ، ثم تبلور في النهاية « المذهب الحنفي » الذي هو طريقة في المنهج لفهم الشريعة ، وكذا الشافعي وكذا « الإمام مالك » إمام أهل المدينة بلا منازع ثم الإمام « أحمد بن حنبل » .
وكان يحدث في هذه المدارس الإسلامية تلاقح فكري وقواعد في الفهم والاجتهاد وهي آية في التضلع الفكري والعلمي العقلي بمعناه الواسع ؛ فالنشاط العقلي والفكري للحضارة الإسلامية هو بالأساس نشاط حول الإسلام وعلومه ، وهذا الذي مثل النسق المعرفي الإسلامي بالأساس ، ثم ظهرت جماعات من شذاذ الفكر الذين تلوثوا بالفكر اليوناني الوثني ، والأفكار النصرانية والخوارجية البدعية ، وكان ذلك في الواقع جزءاً من محاولة العدوان على الفكر الإسلامي الأصيل ، لكن هذا الفكر الشاذ ظل هامشياً ، وكان أهله محاصرين بحكم الشعور الإسلامي العام وبحكم علو الشريعة فكراً وسلطة . كما أن طبيعة العصر التي لم تكن تحقق التواصل ، وكان كل عالم يعيش وحده ، وهو ما جعل آثار هذا التفكير محدودة وليس لها واقع في حياة الأمة والناس ؛ لكنه مع نهاية القرن السابع عشر ومع هزيمة الدولة العثمانية عسكرياً أمام الجيوش النصرانية الغربية ، بدأت السفارات إلى الغرب ، وبدأ استقدام متخصصين في العلوم البحتة ذات الطابع العسكري بالأساس ، ولأول مرة جرى استقدام غير مسلمين للتخطيط والتدريس في الجيوش الإسلامية ؛ كما بدأ إرسال المبعوثين ، وهنا جرى أول اختراق حقيقي للعالم الإسلامي ؛ حيث تكونت البذور الأولى داخل المؤسسات الإسلامية والتي تحمل أشواقاً لعالم الأعداء ، وتؤمن أن تقليدهم في القيم والأفكار يمكن أن يحقق النهوض للعالم الإسلامي ، ثم صار الإيمان بهذا الفكر الوافد قيمة للعمل من أجل تحطيم العالم الإسلامي وليس النهوض به .
ومن المثير أن يكون الجيل الأول من العلمانيين في العالم الإسلامي قد اشتد عوده وقويت شوكته في مؤسسات الدولة العثمانية حاملة راية الإسلام في هذا الوقت ، بل إن السلاطين أنفسهم كانوا من الذين حملوا الترويج لهذه الأفكار منذ منتصف القرن التاسع عشر . نعم كانت هناك ضغوط غربية من الخارج ! لكن نمط التعليم الغربي اخترق أعلى مؤسسات الدولة كما حدث في الدولة الأموية والعباسية والتي جرى اختراق مؤسسة صنع القرار فيها عبر تبني الخلفاء والملوك للمذاهب القدرية و الباطنية ، وتسلط على مؤسسة الخلافة ذاتها المعتزلة والمبتدعة . ثم انتقل الأمر من عاصمة الإسلام إلى مصر ؛ حيث رحل طلاب العلم إلى أوروبا في كافة الشُّعَب لكن أخطرهم كان « رفاعة الطهطاوي » إمام أول هذه البعثات ، وجاء من بعده « محمد عبده » ومن قبله « الأفغاني » وتأسست مدرسة يمكن وصفها بالمصطلحات المعاصرة « مدرسة التفسير الاستعماري للإسلام » . ومن المدهش أن يكون سعد زغلول ، و قاسم أمين ، و علي عبد الرازق وغيرهم تلامذة في هذه المدرسة التي كانت وثيقة الصلة بالإنجليز . لكن التعليم الإسلامي استرد عافيته بهبة الأمة من أجل الدفاع عن دينها وإسلامها وتعليمها .
تدمير الأزهر :
وظل الأزهر في مصر المدرسة التي تحمي التعليم الديني ، وكان لها تقاليد صارمة علمية في الضبط والتحرير والإنتاج العلمي ، ثم ظهرت مدرسة « دار العلوم » التي تخرج فيها الشيخ حسن البنا ، والأستاذ سيد قطب ، ودار القضاء الشرعي التي تخرج فيها الشيخ جاد الحق ، وكان القصد منها ضرب الأزهر ، لكنه ظل قوياً .
ثم جاء انقلاب يوليو وأصدر قانون « تطوير الأزهر » حيث فصل أوقافه عنه ، واستولت عليها وزارة الأوقاف ، كما جعل شيخه تابعاً لوزير يساري في هذا الوقت هو كمال رفعت ، وأدخل التعليم المدني فيه مثل الطب وغيره بقصد تخريج كوادر دعوية لمواجهة التبشير .(57/184)
وهنا أصبحت المؤسسة الأزهرية التي هي بالأساس مؤسسة أهلية علمية لها أوقافها المستقلة وتمارس الاجتهاد ، ولها تقاليدها بعيداً عن يد الدولة أصبحت في قبضة الدولة ، وحدثني « الشيخ الشعراوي » الذي كان يعمل مديراً لمكتب الشيخ حسن مأمون شيخ الأزهر أنه أي الشيخ حسن مأمون لم يكن يستطيع أن ينقل الفراش من مكتبه ؛ أي نزعت من الأزهر كل أسلحته ، وصار شيخ الأزهر الذي كان يمثل ضمير الأمة كلها مجرد موظف لدى المؤسسة الحاكمة لا يخرج قيد أنملة عما تطلب منه رغم أن العلماء في التقاليد الإسلامية هم بالأساس مراقبون للسلطة وضابطون لسلوكها ، وهم معبرون عن الأمة من مواجهة السلطة .
ثم مضى التطوير قدماً حالياً حيث جرى تقصير مدة الدراسة في الفترة الثانوية لتصبح ثلاث سنوات بدلاً من أربع مثل الثانوية العامة ، وتم إلغاء دراسة المذاهب الفقهية تماماً والتي هي حافظة لطريقة فهم الشريعة وهي ناقلتها عبر الأجيال ، ثم منع الطلاب الراغبون من خارج الأزهر من الالتحاق به وكانوا يمثلون دماءاً فيه لتجديد روح الأزهر وشبابه ، ثم رفع سن القبول في المرحلة الابتدائية ، وتضاءلت دراسة القرآن الكريم ؛ كما حوصرت الكتاتيب ، وضعف مستوى طلاب العلوم الشرعية والقسم الأدبي ، رغم أن الشيخ الشعراوي قال لي : إن إصلاح الأزهر يكون عن طريق دعم القسم الأدبي والتخلي عن القسم العلمي تماماً للتعليم العام فدعاة الأزهر هم خريجو العلوم الشرعية بالأساس ؛ وكل ذلك يجري في إطار ما أطلق عليه : « علمنة الأزهر » أي نزع صفة كونه معهداً لتدريس العلوم الشرعية وتخريج متخصصين في العلوم الشرعية الإسلامية .
وخالف الأزهر عبر شيخه الحالي أعز تقاليده في تحمل الاختلاف الفقهي ، فحوصر المخالفون لشيخ الأزهر وحوكموا وعزلوا وشردوا في الآفاق ، وظن شيخه أن المركز الذي منحته السلطة له يتيح له أن يستخدم سلطة الإكراه في مواجهة خصومه رغم أن سلطة العلماء بالأساس هي سلطة معنوية لا تستند إلى الإكراه ؛ والمتأمل في الاجتماع الإسلامي يلاحظ بوضوح أن السلطة السياسية كانت تعمد إلى فرض الرأي الواحد عبر القوة بينما كان العلماء يعمدون إلى إعطاء الفرصة لكافة الآراء الاجتهادية لا يحتكرها عالم واحد أو مجتهد واحد ؛ وموقف الإمام مالك رحمه الله في هذه المسألة واضح حين عرض عليه المنصور أن يجعل من « الموطأ » دستوراً فقهياً موحداً للأمة لكنه رفض .
كان كل ذلك يتم في إطار علمنة ثقافة الأمة وتحطيم هويتها عبر مصطلحات مثل « تجفيف الينابيع » ؛ فبما أن الأزهر رصيد لتخريج علماء الدين فليجفف ، وطالما أن الطلبة الذين يرغبون في الالتحاق به من خارجه يشتبه في أن يكونوا متطرفين فليمنعوا ، وهكذا .
وطالما أن مادة الدين في التعلم العام يمكن أن تكون مصدراً لتدين الشباب فلتجعل مادة للثقافة المشتركة مع غير المسلمين حفاظاً على الوحدة الوطنية . لم يكن كل ذلك تحت قصف النيران الخارجية أو في إطار خطة مفروضة من الخارج ، بل كان من يقومون بكل هذا ينكرون أن يكون للخارج أي تدخل في فرض أجندته التي تريد أن تفرض التبعية الثقافية على عالمنا الإسلامي وخاصة دول القلب والمركز فيه ، لكن أحداث سبتمبر جاءت لتقلب الأمور رأساً على عقب .
ما بعد سبتمبر والقصف الأمريكي لمناهج التعليم :
كما هو معلوم أن العقل الأمريكي ذي الطابع البراجماتي لا يملك القدرة على الغوص في الأمور لفهمها وتحليلها وهو يعتمد منهج التجريب فيما ينهيه إليه أقرب نظرة له أو أقرب طرفة عين عقلية ، فإن ثبت خطأه جرب غيره ، وهكذا .. وهذا وصناع القرار فيه اتهموا « بغير بينة » ما يطلق عليهم « فوكوياما » الأصوليين ، وفي ظن الأمريكيين أن هؤلاء الأصوليين إسلاميون درسوا علوم الشريعة ؛ وإذن فالمدارس الدينية في باكستان هي التي أخرجت طالبان والمدارس الدينية في السعودية هي التي تخرج أصوليين ، ومناهج التعليم الديني هي التي تحفظ للإسلام قوامه ؛ إذن تجب محاصرة هذه المدارس والمناهج ، والضغط من أجل ذلك ، ومن هنا فما كانت تقوم به الحكومات المحلية في السابق على استحياء أصبحت أمريكا رأساً هي التي تقوم بذلك ، وهي تقوم به بعصبية شديدة وانفعال وقلة خبرة تحت تأثير ضربة سبتمبر ، وهي تجهل أنها تدخل في قلب الوجود الإسلامي وفي قلب هوية الأمة ، وهو ما يعد عدواناً قاسياً وخطيراً يصل إلى حد الحرب . بيد أن أمريكا لم تكتف بذلك ، بل إن مسؤولين كباراً في وزارة الخارجية اقترحوا تمويل أئمة المسلمين الذين يعارضون الإرهاب على حد زعمهم ويؤيدون الحرية الدينية . وقالت وكيلة وزارة الخارجية للشؤون العالمية أمام اجتماع « لجنة الحريات الدينية » المعنية بمتابعة الحالة الدينية في العالم وفق الرؤية الأمريكية :(57/185)
« يتحدث كثير من المسلمين عن معارضة الإرهاب لكن ذلك غير كاف ، وعلينا أن نواصل القيام بالمزيد لحث المسلمين في الخارج على التحدث علناً عن قيم دينهم التي تعلي من شأن الحياة ، وأوضحت أنه « يجب التفكير خارج الإطار التقليدي وتوظيف وسائل خلاقة للنهوض بالحرية الدينية ، وهنا علينا التفكير في تمويل علماء مسلمين وأئمة وأصوات أخرى للمسلمين » وزادت توضيحاً بالقول :
« علينا أن نضم المزيد من علماء المسلمين إلى برامج التبادل الثقافي والأكاديمي التي تمولها أمريكا ، إننا نريد الوصول إلى جمهور أكبر في المجتمعات الإسلامية ؛ وذلك بهدف دعم أصوات التسامح في الدول الأخرى وعودة الناس للتسامح » .
أي أن أمريكا تريد من المسلمين « إعلاء القيم الدينية التي تحافظ على قيمة الحياة » ويستبطن هذا المعنى إلغاء كل ما يتصل بالقتال في القرآن الكريم والسنة النبوية باعتبار أن آيات القتال في التصور الأمريكي تهدد حياة الآخرين ، كما أن إعلاء قيمة الحياة تعني منع العمليات الاستشهادية في الأراضي المحتلة ضد الصهاينة باعتبار أن اليهودي في التصور الأمريكي هو إنسان محفوظ الدم والحياة ؛ لأنه لم يعتد على أرض لهم بل هو صورتهم في الاعتداء على الآخرين . وأفكار التسامح تعني إلغاء كل ما يتصل بمفهوم الولاء والبراء والتمايز على أساس العقيدة ؛ فهم ينظرون « للإنسان » من وجهة نظرهم باعتبار الإنسان الغربي ابن الحضارة الأمريكية والغربية أو التي تصله بها آصرة الثقافة والدين كاليهود .
وهم يروجون لفكرة « الإنسان الكوني » أي الإنسان الذي لا يشعر بأي انتماء خاص لدين أو لوطن أو لعقيدة أو لقضية ، وحين يكون إنسان « العالم الإسلامي »
أو الإنسان الشرق أوسطي « كما يزعمون بهذه الحالة فإنه سيكون نهباً وعبداً لكل ما يطلب منه .
وتبقى العقيدة الإسلامية والدين الإسلامي هي حصانة العالم الإسلامي في مواجهة الهيمنة الأمريكية الثقافية .
إن أمريكا تسعى اليوم عبر التدخل في مناهج التعليم الديني على وجه الخصوص للتأثير على الأجيال القادمة للأمة الإسلامية ، أي أنها تعمل للسيطرة على المستقبل في العالم الإسلامي ، وهي تشعر أنها لا يمكنها السيطرة على هذا المستقبل إلا عن طريق السيطرة على عقول شبابه وأبنائه ، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق العبث بمناهج التعليم الديني خاصة .
إن الأمة الإسلامية بحكم صفتها هي أمة روحها هو الدين وتاريخها وثقافتها ونشاطها كله بالأساس حول الدين ، ونزع دينها أو التلاعب به من قبل قوة خارجية هو خطر لا يمكن الاستهانة به أو التقليل من شأنه ؛ لأنه خطر وقصف موجه إلى العقل والروح ، هو قصف موجه إلى الجذور ، وهو خطر يستهدف اغتيال الأمة ، ونحن نثق أن الله « غالب على أمره » وحافط دينه ] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ ( الحجر : 9 ) وأن هجمة أمريكا ومكرها سيمتد إلىها ] وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [ ( الأنعام : 123 ) .
لكن الأمة كلها بحاجة إلى تدبر طبيعة الحرب التي تواجهها : إنها حرب صليبية ، الإجلاب فيها بالخيل والرجل من جانب ، وبالغزو الفكري والثقافي لهدم قواعد الأمة وأسسها من ناحية أخرى .
أمريكا وتغيير خصائص الشعوب :
دارسو السياسة الخارجية الأمريكية يعلمون أنها تعتمد على المدرسة السلوكية وما بعد السلوكية ، وهي في جوهرها تقوم على ما يعرف بـ « الخصائص القومية للشعوب » أي تغيير الطبيعة القومية والنفسية للشعوب ، وقد نجحت في ذلك مع ألمانيا و اليابان بعد الحرب العالمية الثانية ، وهي تشن حرباً نفسية على العالم الإسلامي عن طريق محاولة تغيير خصائصه ؛ لكن العقيدة الإسلامية هي التي تحفظه وتقف به صلباً أمام موجات العولمة الحديثة كما وقفت أمام موجات الحرب الصليبية والتبشير والاستشراق والاستعمار « الاستخراب » ومن ثم فالحرب الحضارية بين أمريكا والغرب من جهة والعالم الإسلامي من جهة أخرى هي حرب عقيدية حول الأساس وحول القضايا الثابتة ، وهي حرب تضرب في الجذور ، وسوف تسعى أمريكا بشكل أساسي لتجنيد العملاء ، لكنهم هذه المرة من قلب المحتل الذي تريد أن تحطمه كما قال « زويمر » من قبل : « الشجرة لا يقطعها إلا أحد أبنائها » فالعملاء لن يكونوا يساريين أو علمانيين ؛ لكنهم سيكونون من علماء الدين والمتخصصين في العلوم الشرعية من المفتين والقضاة والرؤوس في علوم الإسلام ، وأمريكا سوف تمنح وتعطي وتغري وتخاتل وتبدو كالمسيخ الدجال الذي يتلاعب بظواهر الأشياء ويقلب المسميات ويصور للناس أنه يملك الجنة والنار ، وهي تقول :
« من ليس معنا فهو ضدنا » ؛ لذا فالأمر خطير ؛ وليحذر كل امرئ وخاصة العلماء من فتنة أمريكية عمياء ، القابض فيها على دينه وعلى الحق كالقابض على الجمر . إن الدهشة سوف تلجمنا إذا علمنا أن مؤسسة تسمى « كير » تتبع المخابرات المركزية الأمريكية هي التي تقوم بالتخطيط للمناهج في وزارة التربية والتعليم المصرية .(57/186)
والدهشة ستمسك بتلابيبنا إذا علمنا أن وفد الـ F . B . I قد التقى شيخ الأزهر ، ووفود الكونجرس تلتقيه للاطمئنان على مناهج الأزهر .
ونورد ما قاله وزير التعليم المصري في حوار مع إحدى الصحف قال :
« المناهج الدينية تتم صياغتها بإشراف شيخ الأزهر وهو رجل لا يستطيع أحد التشكيك في استنارته وتقدمه ، وهو يعلن مسؤوليته دائماً عن كل ما يدرس من تربية دينية داخل وزارة التربية والتعليم ، وشارك بنفسه في دورة تدريبية لمدرسي التربية الدينية بالوزارة ؛ وبالفعل تم تغيير الكثير من هذه المناهج حتى يمكن صياغة عقل الإنسان الجديد غير المتطرف ؛ وذلك لأننا نعتقد أن العقل هو جوهر الإسلام وعشرات الآيات تحض على العقلانية وإعمال العقل والفكر وقبول الآخر والتسامح والأخلاق والتكامل والرحمة » وهذا بالفعل هو ما تريده أمريكا ، ونحن نندهش ونتساءل : وهل كانت الوزارة قبل هذا الوزير ومنذ وجدت وزارة التعليم في داهية عمياء بلا عقل ولا فكر ولا قبول الآخر ولا التسامح معه ؟ وهل كان الطلاب لا يعرفون كل هذا ؟ لكنها الأجندة الأمريكية الجديدة ، حين يرتبط العقل والتسامح بها فإنها تعني عقلاً خاصاً وتسامحاً خاصاً تجاه أعداء هذه الأمة وتجاه تاريخها . ومن الإنسان غير المتطرف ؟ « أي الإنسان الأمريكي ، الإنسان الشرق أوسطي الذي لا يشعر بالهوية ولا يعترف بالقيم وإنما يؤمن فقط بالمصلحة إنسان البراجماتية والنفعية .
وتدرك أمريكا ويدرك الغرب معها أن التعليم في أوروبا كان المدخل للسيطرة على الفرد وعلى الأمة ، وكان أساس بناء الدولة القومية العلمانية في أوروبا ؛ ففكرة العلاقة بين الهيمنة والتعليم في الغرب أساسية ؛ لذا فهم يحاولون الهيمنة والسيطرة
والإخضاع عبر التعليم ، عبر تغيير مناهج التعليم الديني في مصر والسعودية وباكستان و اليمن ؛ وعبر القضاء على المدارس الدينية والجمعيات الخيرية التي تدعمها .
وذلك يعني محاولة تدجين المجتمع الأهلي الإسلامي الذي يمثل قاعدة نبض الأمة وحيويتها .
ويغري أمريكا بهذا صداقتها لهذه البلدان ؛ لأنها تحاول توظيف هذه الصداقة عبر ترويج فكرة السلام ، في اختراق وتسميم هذه المجتمعات الإسلامية .
وهنا فالخطر داهم على الأمة حكاماً وشعوباً ؛ ولذا يجب على الكل أن يستيقظ ويرفض المساومة على الثوابت أو التلاعب بالعقائد ، وعلى الجميع أن يعرف أن روح الأمة أقوى من كل شيء ، والحمد لله أن هذه الهجمة الأمريكية واكبت في الأمة حياة ووعياً مؤثراً ، وأجيالاً جديدة حية تدرك وتسعى .
] وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [ ( يوسف : 21 ) .
==============(57/187)
(57/188)
تطوير الخطاب الديني
اسم المعد : نصر بن محمد بن رواق الصنقري
مصري الجنسية ..خريج كلية الآداب والتربية شعبة اللغة العربية ..جامعة الإسكندرية
إمام وخطيب مسجد قباء محافظة مرسى مطروح( يعمل مدرساً للمرحلة الثانوية )
من مؤلفاته : الموسوعة في تربية الأجيال المسلمة مجلد ضخم طبعة دار الإيمان بالإسكندرية موجود في الأسواق
ومن مؤلفاته تحت الطبع : تطويرالخطاب الدين / الفتور الأسباب والعلاج / التفسير المعاصر
الرسالة التي بين أيديكم الآن هي رد على الصرخة التي ينادي بها البعض من وجوب التطوير في الخطاب الديني وهم يقصدون من وراء ذلك تغييره في واقع الأمر بحيث يتناسب وتوجهات الغرب ( الذي يطلقون عليه الغير )
من هذا المنطلق كان حتماً أن نبين التطوير الحق من التطوير المفترى الذي يريد دعاته مسخ الهوية الإسلامية
وهذا العمل المتواضع مرسل إليكم عسى أن يكون لبنة في صرح حائط الصد الشرعي ضد محاولات الغرب والشرق للنيل من إسلامنا الحنيف تحت دعاوى براقة قد ينخدع بها البعض ويركض ورائها آخرون ولما لموقعكم الأغر من قبول ومصداقية عند غالبية المتجولين في النت فقد فضلنا إرساله إليكم ....والله من وراء قصد السبيل
تطوير الخطاب الديني
مقدمة
إن الحمد لله تعالى ، نحمده سبحانه حمد من أعطي فشكر ، و أوذي فصبر ، و لما قدر عفا وغفر ، وأيقن أن النار من مستصغر الشرر ، وأن الآخرة على المجرمين هي أدهى وأمر ، وأن الجنة قرار ومستقر لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم استغفر .
ونشهد ألا إله إلا الله ذو العرش المجيد ، فعال لما يريد ، بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما وهو على كل شيء شهيد .
اللهم صل على عبدك و نبيك الذي بعثته بالدعوة المحمدية ، وهديت به الإنسانية ، وأنرت به أفكار البشرية ، وزلزلت به كيان الوثنية ، ذي الوجه الأقمر ، والجبين الأزهر ، قائد الغر المحجلين يوم البعث العظيم ، محمد بن عبد الله ـ بأبي هو وأمي ـ صل اللهم عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ...............أما بعد .....!!.
فقد طرحت في الفترة الماضية دعوة رسمية إلى ما وصف بـ (تجديد الخطاب الديني) ، ولأن الدعوة صدرت من مراجع رسمية عليا فقد تلقفتها أجهزة الإعلام بسرعة ومعها بعض المؤسسات والأجهزة الأخرى ، وروجت لها من خلال مقالات وتعليقات وندوات واجتماعات ، غير أن ظروف طرح هذه الدعوة والسياق الذي جرت فيه تكشف عن أبعادها الحقيقية التي تكشف بدورها عما يتعرض له الإسلام والفكر الإسلامي وما يراد به في هذه الفترة .
حيث تواكب صدور هذه الدعوة مع تحرك غربي جارف لفرض ما أُسمي بالإصلاح أو التطوير الديني على المسلمين والإسلام كوسيلة مزعومة لعلاج التطرف والإرهاب الذي قيل إنه ينشأ بين ظهرانيهم نتيجة لمناهج التعليم الديني الخاطئة ومفاهيم الدعوة والفكر المعوجة.
وفي مقابل هذه الأخطاء الإسلامية المدعاة بدأت دوائر الغرب السياسية والثقافية وحتى الكنسية والأمنية والاستخباراتية تطرح مفاهيمها الخاصة لإصلاح الإسلام ديناً وفكراً ، وهي العملية التي احتلت مركز الصدارة وسط الحملة العسكرية السياسية على ما أسموه بالإرهاب ، وظهرت في هذا الصدد سياسات ملموسة تمثلت في إصدار التوجيهات التي لا تُرد لأنظمة هنا وهناك في بلاد إسلامية بغلق المعاهد الدينية الإسلامية ، أو ضمها إلى نظام التعليم غير الديني ، أو فرض تبني مناهج هذا التعليم الأخير ، أو تغيير مناهجها بالكامل لإدخال محتوى «دنيوي» عليها ليحل محل المحتوى الديني .
وكانت الهجمة على نظام التعليم الديني الإسلامي بأكمله ، وعلى مناهجه ومحتواه وأهدافه مفهومة في إطار الهدف الأكبر وهو تغيير عقل المسلمين وتغيير بنية الإسلام نفسه باعتبار ذلك النظام الوسيلة التي يتواصل بها الدين وينقل عبر الأجيال ، والأداة التي توجه الدعوة الإسلامية وترسخ لهذا الدين في بنية المجتمعات الثقافية والفكرية والشعورية .
وترافق مع هذا التحرك طرح غربي آخر يدعو إلى نشر وتعميم أو بالأصح فرض وإدخال تجارب جديدة وضعت نتائجها نماذج «للإسلام الإصلاحي» بحيث تصبح هي الأنظمة المسيطرة والموجهة والوحيدة السارية في سائر البلدان الإسلامية ، ومما ذكر في هذا الصدد ما أسمِيَ بالتجربة الأتاتوركية التي ابتدعت «الإسلام العصري العلماني» وهو الذي يراه الغرب النموذج الوحيد الصالح الآن لإعماله في البلاد الإسلامية بغرض نقلها من التخلف إلى الحداثة ، وإدماجها في العولمة أو النظام العالمي الجديد ، وإنقاذها بالطبع من التطرف والإرهاب .(57/189)
وعلى رغم توافر مثل هذه المخاوف لدي المسلمين ـ وخاصة العلماء العاملين ـ إلا أن ذلك لم يمنعهم من القناعة بضرورة الاجتهاد لتجديد قطاعات الحياة الإسلامية ، وأيضاً ضرورة الربط بين التجديد والاجتهاد بمدلولاته الواسعة . ويعتبرون أن غياب التجديد يضع الأمة في حرج شديد لجهة تعطل مصالحها ، مما تأباه مقاصد الشريعة ذاتها ، وإن احتفظوا بثوابتها وأصولها وتحفظوا على المساس بها ، باعتبار أن التجديد والاجتهاد يقتصران على فقه الشريعة وآليات فهمهما. أما أصول الدين من قرآن وسُنة وبالجملة كل ما هو قطعي يقيني لا يجوز إنكاره أو مخالفته أو تغييره ، فهي محفوظة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها .
يقول تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(1)
وضرورة الفصل بين مرامي تجديد الخطاب الديني وأصل الشريعة لازم ، فالدمج بينهما ، كما أسلفنا ، تعطيل للتجديد وغلق لأبواب الاجتهاد . فالخطاب الديني وسيلة توصيل المعنى الذي قصده الشارع إلى المخاطب به وهنا تبرز الدعوة إلى المجادلة بالتي هي أحسن كما فسرها المحدثون من السلف بالقدرة على الإقناع ولإقامة الحجج والبراهين ، يقول تعالى : {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(2) ، وقال تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(3) ، فالإخلاص وحده غير كاف لأداء وظيفة الدعوة بل يلزم معه العلم والاحاطة بواقع الناس وحاجاتهم .يقول تعالى : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(4) .
وفي ظل تعرض العالم الإسلامي لتحديات معاصرة كثيفة وخطيرة يكون تجديد الخطاب الديني ضرورة ملحة لا لخدمة أغراض الولايات المتحدة أو الغرب في تقويض مناهجنا التعليمية أو إضعاف عقيدتنا الدينية وإكساب الأمة حيوية افتقدتها في ظل سباق رهيب يدور لاستلاب زمام ريادة في الدنيا كنا أسبق في مضمارها ولدينا الفرصة لاستعادتها ببذل الجهد وليس بالأماني وحدها .
ولذلك لو نظرنا إلى عالمنا الإسلامي اليوم سنجد عجباً ، فنحن اليوم يكثر فينا الخطباء ، ويغيب عنا الفقهاء ، بالمعني العام لكلمة الفقه ، لا نزال نفتقد الكوادر البشرية المسلمة المتخصصة والمدربة ، على الرغم من هذا التاريخ العريق في الدعوة ومسؤولية البلاغ المبين .
كما أن خطابنا في معظمه لا يزال داخليا ، لم نستطع أن نصل به إلي مرحلة الخطاب العام والعالمي ، علما بأن الخطاب الإسلامي توجه إلي الناس جميعا منذ اللحظة الأولي لبدء الوحي …يقول تعالى : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } (5)، ويقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (6)
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ( رضي الله عنهما ) قَالَ : إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ . فَقَالُوا : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ بِمَ فَضَّلَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ؟. قَالَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ...الْآيَة}َ ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ (7).
قال الحسن البصري ـ رحمة الله ـ ليس الإيمان التحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ، ولهذا قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة . قيل : يا رسول الله ، ما إخلاصها؟ قال: أن يحجره عن محارم الله تعالى(8) .
هذا ما أسعفتنا به الذاكرة لنقدم به لموضوع الخطاب الديني والذي نسأل الله تبارك وتعالى أن ينال رضاكم ، و إلا فنحن لم نسطره طمعاً أو رهباً ، بل سطرناه ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة ، فما فيه من الحق والتوفيق فمن الله و0حده ، وما فيه من باطل أو خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه ....................................وكتب :نصر بن محمد بن رواق الصنقري.
المبحث الأول
ما المقصود بتطوير الخطاب الديني ؟ وكيف يتم ؟
تمهيد
إذا كان القصد من مشروع تطوير الخطاب الديني هو القضاء على العنف ودفع عجلة التقدم فالأصوب والأسلم هو التحول عن منهج معالجة النتائج إلى منهج معالجة الأسباب.(57/190)
والواقع أننا نرى أن مشروع تطوير الخطاب الديني الذي يطرحه العالم الغربي اليوم لاسيما أمريكا كما لو كان تعبيرا عن تحولها إلى منهج معالجة الأسباب هو في حقيقته استمرار لمنهج معالجة النتائج ، حيث أن الخطاب الديني الحالي الذي يصفونه بأنه " متسم بالتشدد " هو في ذاته نتيجة لأسباب أخرى تتصل بالظلم والفساد وانحسار العدالة والهيمنة وغياب احترام كرامة الإنسان ـ هذا برغم التحفظ الذي أبديناه في مقدمه عملنا ـ . وهذا يقتضي أن يطوَر الخطاب الديني بمعالجة أسباب تشدده وليس من خلال تغيير مضمونه الذي من شأنه أن يكثف من ضغوط الهيمنة والإحساس باستخفاف الغرب بكرامة العربي والمسلم.
ورد في مقال للأستاذ خالد أبو الفتوح قوله : " فالأمر بلا تعقيد أن لأمريكا مصالح في هذه المنطقة، وأن شعوبها ـ بوضعها الحالي ـ تعد معامل تفريخ لمن يهددون أمن أمريكا ، وعلى وجه التحديد فإن «المدارس الدينية في العالم الإسلامي تجند المتشددين الشبان» بحسب تعبير وزير الحرب الأمريكي رامسفيلد في مذكرة منسوبة إليه(9)، كما أن هذا الواقع يعرقل التعايش والتعاون بين هذه الشعوب وأصدقاء أمريكا وحلفائها في المنطقة، وعلى رأسهم (إسرائيل).
? فما السبيل إلى التغيير المنشود؟
ثم يستطرد قائلاً : تعالوا نرتب الأوراق بالمنطق الأمريكاني :
? الإسلام بقيمه ومبادئه يمثل خطراً على أمريكا ، وليس الأمر أمر (قوىً أصولية) يراد التخلص منها.
? وهذه القيم والمبادئ هي التي تفرخ بعض من نشؤوا في المنطقة وتدفعهم للقيام بأعمال خطرة على أمريكا ومصالحها وأصدقائها وحلفائها.
? وهؤلاء يتشربون هذه القيم والمبادئ الخطرة عبر منظومة معقدة من المفاهيم المبثوثة في مناهج التعليم والمواعظ الدينية ، ويغذيها أحيانًا إعلام غير مسؤول ، إضافة إلى عادات اجتماعية متوارثة ترسخ هذا النمط من القيم والمبادئ والسلوكيات .
? فهناك ثلاثة عوامل رئيسة تساهم في تشكيل العقلية العربية والإسلامية : الإعلام ، والتعليم ، و(الخطاب الديني) ، والأخير هو أخطرها لما يحمله من احترام و(تقديس) لدى فئات كثيرة ، ولكونه يصل إلى جميع الطبقات ويخاطب جميع المستويات .
? و(الخطاب الديني) هو جزء من الهوية والتكوين الروحي والفكري والنفسي والاجتماعي لهذه الشعوب ، فمن غير الممكن مصادمته وإسقاطه كلية بشكل فج ومباشر ، خاصة إذا جاءت هذه المصادمة ممن هم خارج إطاره .
? ومن الملاحظ أن هذا التكوين تشكل عبر سنين طويلة ؛ فمن غير المتوقع إعادة تشكيله عبر الميكروويف من غير احتراق ، ولكن أيضًا فإن المصالح الحيوية لأمريكا والإدارة القاطرة التي تقودها لا يحتملان الانتظار أمام النار الهادئة(10) .
ثم يواصل الكاتب حديثه قائلاً : " الملامح التي لوحظت على هذه الحملة ، وهي في نظري ما يأتي:
? أن هذه الدعوة ظهرت في البلاد التي يقوى فيها النفوذ الأمريكي ، مع وجود نشاط ملحوظ في البلدان التي تعد تاريخيًا مرجعيات العالم الإسلامي .
? وأنها جاءت اتساقًا مع خطة تطوير مناهج التعليم التي أملتها وأوعزت بها قوى خارجية معينة ، مستغلة أحداثًا وظروفًا معروفة ، فجاءت هذه الحملة استكمالاً لمخطط إعادة تشكيل العقلية المسلمة.
? الالتباس المتعمد في هذه الدعوة ، فعلى عادة العلمانيين والتغريبيين في الإيهام والغموض عندما يتعلق الأمر بخطوة يصعب على الجماهير هضمها ، جاءت الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني ، فكلمة (الخطاب) تحتمل أن يكون المقصود بها (مضمون) الخطاب ومحتواه ، وتحتمل أن يكون المقصود بها (شكل) الخطاب بما يتضمنه هذا الشكل من أساليب ووسائل عرض المضمون .
ولا شك أن مقصود مروجي هذه الدعوة هو تجديد مضمون الخطاب الديني ، أي (تجديد) القيم والتصورات والمبادئ التي يحتويها هذا الخطاب ، ولا يخفى على القارئ ما تتضمنه كلمة (تجديد) من معانٍ تشمل كون هذه القيم والمبادئ والتصورات أصبحت بالية ولا تصلح لهذا العصر . (11)
وكمثال على ما نقول نورد ما ذكره الكاتب المصري أحمد عبد المعطي حجازي(12) في معرض إيضاحه للمقصود بكلمة (الخطاب) أن هذا العصر الذي نعيش فيه هو عصر العلم الذي نرجع إليه في كل أمر من أمور حياتنا ، أو أن هذا ما ينبغي أن نفعله ، فنقرأ ، ونفهم ، نناقش ، ونجرب ، نحلل ، ونقارن لنعرف الأسباب ، ونتوقع النتائج ، ونفسر ما يحدث في الطبيعة والنفس ، والجسم ، والمجتمع .(57/191)
نعرف الآن مثلاً أن الزلزال يقع نتيجة لتصدع طبقات الأرض وتحركها ، وليس لأن المدن شريرة أو لأن الآلهة ثائرة غضبى ، ونعرف أن الجنون مرض يصيب العقل وله أسباب مختلفة وصور شتى وطرق في العلاج تتعدد بتعدد أسبابه وأنواعه ، وليس حلولاً لجن أو شيطان في جسد المريض كما كان يعتقد الناس من قبل ، وكما يعتقد كثيرون منهم حتى اليوم ، وهذا هو الخطاب الذي يتفق مع روح العصر ، لأنه يتفق مع العلم ، أي مع العقل والتجربة» ، «ونحن إذن أمام مصدرين للمعرفة: العقل الذي نفسر به الظواهر ، ونتتبع التحولات ، وننتقل من السبب إلى النتيجة ، يبدو لنا العالم مفهومًا ، ونشعر بقدرتنا على التحكم فيه والسيطرة عليه ، والنص الذي يعتقد النصوصيون الحرفيون فئران الكتب وحفارو القبور أنه علم سابق على كل علم وأن كل معرفة جديدة صادرة عنه ومتضمنة فيه ، فالأسلاف لم يتركوا شيئا للأخلاف ، ولا جديد تحت الشمس !»(13)
ونلاحظ أن غموض هذا العنوان (تجديد الخطاب الديني) لهذه الدعوة وهو في الواقع (هدم القيم والثوابت والتصورات الإسلامية واستبدالها) أفادهم ـ فوق التعمية على مقصدهم الحقيقي ـ تورط بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية من علماء أو دعاة في الترويج لها ظنًا منهم أن المقصود هو تجديد الوسائل والأساليب، وهذا التورط أعطى غطاءً مناسبًا لأصحاب الدعوة الأصليين من متبجحي العلمانيين، حتى وإن همش فيما بعد هؤلاء العلماء والدعاة.(14)
وفي المقابل: يتضمن مشروع خطة تطوير الخطاب الديني في مصر والدول العربية دورات تدريبية مكثفة في القاهرة وواشنطن.. حيث من المقرر أن يلتحق بدورات واشنطن ما بين 500 إلى 600 من الدعاة ، وذلك بعد الانتهاء من الدورات التدريبية في مصر.. وفي هذا الإطار كانت وزارة الأوقاف قد انتهت من دورة أخرى لعدد من الدعاة بالاشتراك مع الهيئة الإنجيلية بالقاهرة.. كانت مدتها أكثر من 3 أشهر ، حيث تم اختيار الدعاة بدقة متناهية للإقامة في أحد فنادق القاهرة بمشاركة عدد مماثل من القساوسة ، وكان نظام الدورة يعتمد على ورش عمل بين الأئمة والقساوسة لإعداد أبحاث علمية في قضايا شتى ثم مناقشتها مع الخبراء والمفكرين الليبراليين ؛ وذلك بهدف كسر الحاجز الديني وتغيير الفكرة الذهنية عن الآخر من خلال المشاركة بين القس والخطيب ، ومن ثم فإن النتيجة من هذه المشاركة ستكون في صالح الإدارة الأمريكية.. على اعتبار أنها الموجه الرئيسي لهذه الأفكار.
ومن وجهة نظر الإدارة الأمريكية فإن مثل هذه الدورات ، ومن خلال مشاركة عدد من رجال الدين الكبار الذين يرفضون الإرهاب ولديهم تفسير عقلاني للدين ، تسعى لترسيخ مفردات الخطاب الديني الجديد وليس موضوعاته فقط ـ خاصة ما ورد في القرآن أو السنة ـ ؛ لأنه وفق رؤيتهم فإن هذه المفردات هي التي تشكل السلوك العام والتفصيلي الذي يلتزم به الأفراد..(15)
وإذا كان وعي الأمة - أي أمة - يُقاس بقدرتها على: الاستفادة من ماضيها ، واستيعاب حاضرها ، واستشراف مستقبلها ؛ فإن قياس أمتنا - والحال هكذا - لن يكون مشرِّفاً ؛ إذ نرى الأمة غارقة فيما حدث.. متخبطة فيما يحدث.. جاهلة بما سيحدث... وهو ما يدفعنا لطرح قضية «التغيير القادم»، على نطاق واسع ، يصل الماضي بالحاضر ، ويعرض في أثناء ذلك صورتين للمستقبل:
أولاهما: رُسمت بأيدي الأعداء في دهاليز المخابرات وأروقة الوزارات.
والثانية: وضعنا لمساتها الأولى ، وفق رؤية إسلامية ، نستمد معالمها من كتاب الله عز وجل ، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ، مع الإقرار بأن ما يعرض للأمة في مرحلتها الآنية ؛ يستدعي تضافر جهود صفوة علماء الأمة ومفكريها ؛ للفرار من جحر الضب ، والحذر من لدغة الأفعى ، كما حثنا النبي عليه الصلاة والسلام.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ " ، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟! . "قَالَ : فَمَنْ ؟!!" (16).
ومن هنا انطلقت دعوة التجديد للخطاب الديني لتكون الذراع الداخلي للتحرك الخارجي ومن هنا جاء غموضها وإبهامها وعدم وضوحها المتعمد (هل هي تجديد في اللغة واللهجة، أم في المضمون ؟ وهل يمكن الفصل بين الاثنين ؟ وهل هي تغيير في المصطلح ؟ وهل لا يؤدي تغيير المصطلح إلى تغيير المفاهيم ؟).
ومصطلح التغيير ـ بسبب الملابسات المذكورة أنفا ـ استُعمل جسراً ووسيلة لتمرير أفكار معينة ورؤى محددة ، وتحيزات فكرية وعملية معروفة ، بل استُعمل لفرض هذه الأفكار والتحيزات بشكل خفي أو جلي ، كما أنه استُعمل بصورة إيجابية ، في بعض الأحيان .(57/192)
وبالطبع ؛ كانت الاستجابة لهذه التحديات مختلفة باختلاف العقائد والأفكار والرؤى والانتماءات والأفهام والعلوم ، وكل فرد أو طائفة أن يأخذ قضية التغيير مستدعياً معها التاريخ والتراث والهوية ـ للقبول أو للانتقاء أو للرفض ـ ؛ بحسب المشرب والمعتقد الذي ينطوي عليه ، والأفكار التي يؤمن بها.
فينظر إلى مسألة التغيير من عدة جوانب :
أحدهما : علماني حداثي فقضية التغيير سوف تكون وفق هذا النموذج ليست مجرد مطلب، بل (مذهباً) ينطوي على استيراد جاهز يُصبغ بصبغة محلية أو أقليمية أو عربية ؛ في عملية ممنهجة مكرسة ينتهي وصفها الإجمالي ويتلخص في أنها : استعارة غريبة يسعى وكلاء الغرب إلى استنباتها في الواقع الإقليمي والمحلي بأي شكل من الأشكال ؛ طمعاً منهم في تحقيق الفردوس (التكنوقراطي) أو النعيم (الليبرالي) ، أو جنة الخلد (الديمقراطية) -.. ونحو ذلك مما يتم التعبير عنه في الفلسفات والكنايات والتحليلات العلمانية بشكل أو بآخر .
الثاني: موقف المتقبل لقضية التغيير، بل والمعتنق لمذهب (التغيير) مع شيء من التحفظ :
وهو موقف العصرانيين من المسلمين ، والذين يؤمنون بالإسلام ولكن بطريقة عصرانية تأتي تحت مسميات وأوصاف مختلفة ؛ (العقلانية الإسلامية) ، (المسلم المعاصر) ، (الوسطية العصرانية) ، (المحايد العصراني) إلى آخر ما هنالك .
وبالجملة ؛ فإن كثيراً من أصحاب هذا الاتجاه يتركون حيزاً واسعاً للقيم الإنسانية والأخلاقية المطلقة، بل للقيم الدينية ما دامت لا تُرى واحدية المنهج ، أو تعتقد الصفاء ، أو نجاة طائفة معينة ، ولديهم قابلية شديدة لدعوة التغيير التي يرون فيها جسراً يقودهم إلى الضفة الأخرى ، والتي يحلمون أن تكون فيها أدوات التحضر والنهضة (17).
وهناك قاسم مشترك بين هؤلاء والصنف الذي قبله ، وهو شغفهم بالتغيير ، وانفتاحهم نحوه ، واستهدافهم جميعاً «المنهج»، غير أن الصنف الأول يستهدف (المنهج العام) الإسلام بعمومه وشموله وكماله ، والصنف الثاني يستهدف (المنهج الخاص) منهج أهل السنة والجماعة على وجه الخصوص .
كما أن هناك فارقاً جوهرياً بين الموقفين ، وهو أن الأول منهما شمولي كلي على الرغم من أن أصحابه يعلنون بصورة دائمة أنهم لا يؤمنون بأي مطلقات أو كليات .
أما الثاني (العصراني) فهو جزئي بالنسبة إلى موقفه من الإسلام ، وكلي في رغبة تغيير مفهومات منهج أهل السنة والجماعة وتطبيقاته .
الثالث: موقف الرافض لقضية التغيير أو المتحفظ إزاءها بشدة :
خوفاً من تبعاته وآثاره ، وحذراً من مخاطره وسلبياته ، وهو موقف فئة صادقة الانتماء للدين والأمة ، حريصة على عزتها ومكانتها ، ولكنها بسبب الثبات المطلق تتشبث بالقديم حتى لمجرد قدمه أحياناً، وتنفر من الجديد وخاصة في عالم الأفكار والرؤى ، حتى لمجرد جدته أحياناً .
الرابع: موقف المتقبل لقضية التغيير بشروط وضوابط شرعية وعقلية ومصلحية :
وهو موقف جمهور العلماء والدعاة ، وخاصة علماء الصحوة ، ورجالات الثقافة والفكر والأدب وغيرهم من أصحاب التخصصات التي يستند أصحابها على مبدأ الخصوصية العقدية والعبادية والفكرية والثقافية والمنهجية والتطبيقية العملية ، وهو المبدأ القائم على قاعدة : (الإسلام عقيدة وعبادة ، وأعمال وأخلاق ، وشعيرة وشريعة ، ودين ودولة ، ومصحف وسيف ، وأصالة وحضارة ) .
ولعل من الممكن ذكر أهم العناصر الرئيسة المستشفة من أقوالهم وتصريحاتهم ومقالاتهم في قضية التغيير كما يلي:
1- التغيير بمفهومه القرآني يبدأ من الداخل: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم}(18)، تغيير المعتقدات والأفكار الفاسدة التي تؤدي إلى دين فاسد ، أو دنيا فاجرة ؛ بمعتقدات صحيحة قويمة سليمة ، وتغيير المشاعر و الإيرادات السلبية ، وإحلال أخرى إيجابية مكانها ، وتغيير المسالك والأعمال الخاطئة (دينياً أو دنيوياً) ، وإيجاد البديل الصالح .
2- الدعوة إلى التغيير مطلوبة معقولة وذات مصلحة إذا صدرت من صادقي الانتماء للأمة ، ولكنها ستكون متهمة ومشكوك فيها إذا جاءت متناغمة ومتعاطفة مع حملات الأعداء ووكلائهم .
3- التغيير عملية إصلاحية كبرى ، ومع ذلك يجب ألا يتحول التغيير إلى مذهب معتنق وعقيدة متبعة ؛ لأن ذلك سيؤدي إلى التغييرات المطردة نوعاً وكماً ، في كل شيء ، وهذا يعني العدمية وعدم الثبات ، وإبطال القواعد والأصول والكليات والثوابت ، وهذا ما يسعى إليه الأعداء والمتأثرون بهم ، أو العاملون لصالحهم ، فهناك فرق بين كون التغيير مطلباً يُستدعى عند الحاجة إليه ؛ لتحقيق مصلحة أو دفع مفسدة، وكونه مذهباً يستعمل في كل آن ، ويستدعى في كل حين ولكل قضية.(57/193)
4- إن دعوات التغيير المصوبة نحو القضايا الثقافية والمناهج التعليمية والدينية والمسائل الشرعية ؛ أسهل تناولاً وأخف تبعة ، فهي الجدار القصير الذي يمكن لكل أحد أن يتسلقه ، والملاحظ أن دعاة التغيير لا يذكرون شيئاً عن الأمور الأكثر سخونة والأشد عمقاً ، والأقوى تأثيراً ، فمناهج التعليم تخرج الإنسان الصالح والمؤمن التقي ، والفاسد الشقي ، كل حسب فهمه ومقدار أخذه وقناعته ، ولكن المظالم العامة والانتهاكات للحقوق ، والطبقية المناطقية ، والعنصرية القبلية، والأسرية والفئوية، والرشوة والفساد ، والواسطة وإضاعة الحقوق والمماطلة والاحتكار ، والطبقية المالية المتباينة ، والربا وأشباهها لا يذكرها دعاة التغيير ؛ مع أنها هي التي تدمر البلاد وتفسد العباد ، وتوجد البغض والشنآن بين الراعي والرعية ، وبين الرعية نفسها ، وفي ذلك نصوص صريحة من كلام ربنا تعالى ، وكلام نبينا صلى الله عليه وسلم ، ومن تجارب الأمم والشعوب والدول .
5 - إن كل صاحب رأي ثاقب وعلم واسع وإطلاع جيد على نصوص الكتاب والسنة ، والأخبار والحوادث التاريخية ؛ يجد أن كل غاز يتخذ ما يشاء من ذرائع للاحتلال والعدوان ، فها هو العراق لم يكن لديه أسلحة دمار شامل ، وها هي سوريا لا توجد فيها مناهج تعليم ترتكز على قضايا الكفر والإيمان ، وعقيدة الولاء والبراء ـ التي يسميها بعض الجاهلين الانفصال عن الآخر ـ . وها هي إندونيسيا لا يوجد فيها شيء من هذا ، وها هو المغرب كذلك .
بل كل هذه البلدان غيرت وجهة الثقافة والتعليم من الإسلامي الصريح ؛ ليكون أشبه بالتعليم الغربي ، وأخرجت المرأة من عرشها المصون ، وحصنها المنيع ومكانتها الراقية ؛ لتتشبه بالغربية في العمل والاختلاط والسفر والسهر والرياضة واللعب ، ومع ذلك احتُلت العراق ، وسوريا تحت مطرقة التهديد ، وفصلت تيمور عن إندونيسيا ، والصحراء المغربية ما زالت شوكة في حلق أهل المغرب ؛ إضافة إلى سبتة ومليلية.
6 - التغيير الثقافي والفكري بالطريقة الأمريكية يستهدف إيجاد «غلام أحمد ميرزا القادياني»، ومفتي الهند في عهد الاستعمار «إسماعيل بن الوجيه المراد أبادي» المشهور باللندني ، نسبة إلى لندن التي عاش فيها وتزوج فيها ، وكان يقال له لماذا لا تحج فيقول: «أنا لا أعتقد في الجدران» ، فجعلوه مفتياً بدل عالم السنة والحديث الشيخ «إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي» (19).
7- التغيير بالصيغة الأمريكية والعلمانية عملية شاملة بل (مذهب) متبع ، ودعاة التغيير المتناغمون مع الطرح الأمريكي معروفون ، ليس فيهم من يوثق بعلمه الشرعي ، ولا حميته الإيمانية ، ولا الفهم الجيد ولا العلم الصحيح ولا الإدراك المتكامل ، بل فيهم من أهل الأهواء والأمراض الفكرية ما يستوجب الحَجْر عليه حتى الشفاء من دائه ، ونحو ذلك من أقوال ومواقف صادرة من طائفة مغموسة بالأهواء ؛ مغموسة بالإشكالات الفكرية والعملية ، منتسبة إلى البلدان الإسلامية اسماً ورسماً ، وللغرب حقيقة ومضموناً .
8 - عملية التغيير التي تدعو إليها شرائح الاستعارة الفكرية ، عملية خطيرة ذات أبعاد شمولية متكاملة ـ وفق التصورات الأمريكية وليس وفق شروط محلية أو وطنية ولا دينية ـ هذه العملية قد تتم ـ إلا أن يشاء الله ـ ربما بصورة متدرجة ، وسينال الوضع الديني والتعليمي والخيري والمرأة أكبر النصيب في البداية ، ثم إن تواصلت ـ في ظل سكوت أهل الحق والغيرة على الأمة ومصالحها ومقوماتها - فستصل إلى التخوم الخطيرة ، المستهدفة أصلاً ، وسينتج عن ذلك من الصراع الاجتماعي والثقافي ـ وربما المادي ـ ما لا يعلم مداه إلا الله ، فهذه طبيعة التغييرات العصرانية والعلمانية التي تمت في بلدان عديدة من بلاد المسلمين ، وما زال الجميع يكتوي بنيرانها إلى اليوم ، بل أصبح من يدعو للتدين ولو بصيغه الوعظية ، في مقام المتهم والممنوع ، و الأمثلة عديدة من ديوان المأساة العلمانية المليء بالمآسي والقهر والظلم والعدوان.
وبناءً على هذا يرى أهل العلم والإيمان أن الدخول في هذا المعترك ـ الذي أقل ما يقال فيه أنه ملتبس وغامض ـ ينطوي على أمور مشبوهة في منطلقاتها ومآلاتها، وهم يعارضون دعوات التغيير الأمريكي ومعهم حجج قوية، وشواهد صارخة، وبراهين واضحة، ويمكن للمنصف ـ حتى وإن خالفهم ـ أن يتفهم موقفهم هذا وأن يقدره، فهؤلاء الدعاة والعلماء والمثقفون المسلمون أصدق مواقف، وأكثر انتماءً للأمة وفيهم علماء الشريعة ، وأهل الفتوى ، وأرباب الدعوة وأهل الصلاح ، وهم الأقدر على تقدير مصلحة الأمة من أولئك الذين قام بهم سوق المزايدة ، وراجت بهم بضاعة المناكدة ، وغرقوا في الوهم واللبس والوهن والخور .(57/194)
9 - ومع ذلك فهذا الصنف لا يعارض التغيير الإيجابي النافع ؛ لأنهم يرون أنه لا يعارض (التغيير) الإصلاحي إلا جامد ، ولا يقاومه إلا يابس أو يائس ، أو مستفيد من الأوضاع الفاسدة ، أو خائف من نتائج الإصلاح الحقيقي ، والمراد هنا الإصلاح القائم على شروط الأمة وخصائصها وموقوماتها ، والمتجه نحو مصالحها الحقيقية حالاً ومآلاً ، وليس (مذهب التغيير) الذي يملى علينا ليتم وفق المصلحة الأمريكية ، كما يمارسه الحاقدون على الثقافة الإسلامية وأدبياتها المسلكية المعبرة عنها ؛ كالأنشطة الإسلامية في المدارس ، والتسجيلات الإسلامية، والمنابر الدعوية ، والمدرسين الدعاة ، والأنشطة غير المنهجية في المدارس . والكارهون لحجاب المرأة وعفتها وصيانتها ومكانتها .
10 - أختم هنا بذكر نموذج التغيير الذي تطلبه أمريكا وترغب فيه ، بل وربما تلزم به ، ومعالم هذا التغيير (الأمريكي) المنهجي والشرعي والتعليمي والاجتماعي يصب لصالح اليهود أولاً وأخيراً ، ولن يكون هو نهاية المطالب ، ولا غاية الرضا عند هؤلاء وأولئك ، فحتى لو أُعطوا ما يطلبون فلن يرضوا ولن يقبلوا ؛ لأنه لا حد للجشع اليهودي ولا سقف للمطالب الصليبية ، وصدق العليم الخبير : {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}(20) ، وقال تعالى : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}(21) ، والأمر تجاوز مجرد التصريح أو إثارة ما أسمي بمفهوم الإسلام المعدل إلى الدخول في التفاصيل؛ فللإسلام المعدل ملاحق تنفيذ؛ فقد أرفقت الإدارة الأمريكية بمنهاج «الإسلام المعدل» ملاحق تنص على حذف مجموعة من الأحكام الإسلامية المتعلقة بالجهاد والحث على كراهية المشركين واليهود، وبالإضافة إلى تلك الأحكام تطالب الإدارة الأمريكية بضرورة منع تحفيظ القرآن الكريم للأطفال الصغار؛ لأن ذلك بمثابة «غسيل مخ» وفرض توجه فكري محدد لا يستطيعون تمييزه في هذه السن المبكرة»
ولكن مما يؤسف له أن عدداً من النخب الثقافية والإدارية لديها الاستعداد ـ خوفاً أو طمعاً ـ لقبول خطة التغيير كاملة أو مجزأة ، وهناك من يطالب بالإسراع في ذلك تحت حجة أن لنا في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية قدوة ، وهؤلاء هم التفسير الواقعي لقول الله ـ تعالى ـ: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ}(22) .
ومع ذلك فلن تزيد هذه المطالب الأمة إلا قوة في دينها، ومعرفة أكثر بعدوِّها، ويقيناً بوعد الله لها، {لَن يَضُرُّوكُمْ إلاَّ أَذًى وَإن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ}(23) .
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}(24).
المبحث الثاني
ما هو التغيير المطلوب؟!!
الواقع بعدما استعرضنا هذه المقدمة التي لا بد منها لنفهم الأبعاد من وراء هذه الهجمة الشرسة على العالمين العربي والإسلامي ، تبقى المسألة تحتاج إلى طرح آخر فحواه : ما هو التغيير المطلوب ؟ وبذا نعلن الرغبة في التغيير من منطلق شرعي علمي مؤصل ، وإن كنا نوافق الكثيرين ممن ذهب إلى أن التغيير المطلوب ما كان له أن يبرز في هذه الآونة ، ولا في مثل هذه الظروف لئلا يفهم فهماً سقيماً ، وينظر إليه على أنه مجرد نتاج للضغوط الخارجية ، وتنازل أمام مطالب الأعداء السادية لا عن قناعة ورغبة حقيقية !.
ولا شك أن وجهة النظر هذه معتبرة جداً ، ويجب ألاَّ تُغفل أو يُغفل عنها ونحن بدورنا يحدونا الأمل بالرغم من ذلك أن يُفهم الهدف من طرحنا ، وأنه لله تعالى وأننا لا نبتغي أن نكون فيه مجرد أبواق تردد مزاعم أعداء هذا الدين القويم ، أو أننا نريد مخالفة أهل الخير والرؤى الصائبة من أتباع ديننا العظيم .
وإذا كانت قد بذلت جهود مباركة -ولا تزال تبذل- من أجل عودة الناس إلى دينهم وعقيدتهم ، وحيث حققت هذه الجهود _ بعد توفيق الله _ تلك الآثار الإيجابية التي نراها من عودة الأمة إلى الله جماعات وآحادا ، رجالاً وركباناً ، فإن واجب العلماء وطلاب العلم والدعاة أن يوجهوا جل اهتمامهم لتربية هذه الجموع ، ويبينوا لهم الطريق الصحيح ، لئلا تغرق السفينة بمن فيها ، فإن العبرة ليست (بالكم)! ولكن (بالكيف)!!.(57/195)
يقول الدكتور البوطي : "فلتعلم أن المسلم الذي لا يلتزم جهد استطاعته بأحكام الإسلام ، أو يلتزم ولا يكون مدفوعاً إلى ذلك طلباً لمرضاة الله تعالى وحده ، لا يكون عمله في الدعوة ، إن هو قام بها ، إلا كمن يفتح صنابير مياه على حوض ترك مصرف المياه مفتوحاً في قعره . قد يتجمع شيء من الماء فيه ، ولكنه آيل إلى الذهاب والضياع"(25) .
ثم يواصل قوله : " لقد كانت مهمة الدعوة إلى الإسلام من الفروض الكفائية ،كما قال العلماء ، يوم كانت المجتمعات الإسلامية ، تسير قدماً في طريق الإسلام ، بدفع من اتجاهها الذي وضعت نفسها فيه ، دون أن يكون على الطريق أو عن يمنه أو يساره ، من يتربص بها الدوائر ، ويختلق لها العقبات ، ويصدها عن الوصول إلى الغاية بنيران الشهوات والأهواء.
أما اليوم ، وقد جندت كل امكانات الدنيا ، من مال وطاقة ونساء وفكر ، في سبيل الصد عن صراط الله والوصول إلى مرضاته ، فقد أصبحت مهمة الدعوة الإسلامية فرضاً من الفروض العينية ، يخاطب به كل مسلم صادق مع الله في إسلامه ، ولم تعد مقتصرة على ثلة من الناس ، مهما بلغ شأنهم ومهما كانت أهميتهم "(26).
ونحن وإن اختلفنا مع سماحته فيما ذهب إليه ، إلا إننا نوافقه في المقصود منه !.
حيث بين أن الخطب جلل والغاية كريمة فلا بد أن تبذل في سبيلها كل الطاقات والامكانات المتاحة ، ويبقى أن ذلك كله مداره على الفروض الكفائية كما بين ذلك المولى تبارك وتعالى في قوله : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (27) .
فضل الدعوة إلى الله أهميتها :
والدعوة إلى الله فضلها عظيم فهي مهمة الرسل والأنبياء، وهم أشرف الخلق وأكرمهم على الله ، وهم الذين اختارهم الله لهداية البشر ، والعلماء هم ورثة الأنبياء ، وقيامهم بالدعوة أعظم تشريف لهم.. قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(28)، ومن فضل الدعوة إلى الله أن : [من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة كان له من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً](29) .
والدعوة إلى الله هي التي من أجلها شرّف الله بها أمة الإسلام جميعاً فجعلها بذلك خير أمة أخرجت للناس ، لأنها حملت رسالة الله إلى العالمين ، وجاهدت بها كل الأمم فهم خير الناس للناس.
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ـ حفظة الله ـ : فالمقصود والهدف الأعظم من الدعوة هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور وإرشادهم إلى الحق حتى يأخذوا به وينجوا من النار، وينجوا من غضب الله ، وإخراج الكافر من ظلمة الكفر إلى النور والهدى ، وإخراج الجاهل من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، والعاصي من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة ، هذا هو المقصود من الدعوة كما قال جل وعلا: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ } (30) .
أركان الدعوة .. أو فلنقل أركان الخطاب الديني :
لقد توصلت من خلال الاستقراء والبحث ، ولا أجزم أنه الكامل أو الشامل ، أن الخطاب الديني يرتكز على خمس أسس رئيسة من فوقها يعلو بناء الخطاب ويشتد عوده ، وتظهر فائدته ، وترسخ في عقول وأفئدة الأجيال قيمه ودواعيه وهي :ـ
( أ ) الخطيب ، أو الداعية .
(ب) المخاطب ، أو المدعو وثقافته .
(ج) وسيلة الخطاب ، أو الدعوة منهاجها .
( د ) نوعيه الخطاب ، أو كيفيته( مراعاة المكان والزمان ).
( هـ) العائد من الخطاب ، أو الهدف من الدعوة .
أولاً : الخطيب أو الدعية :
===============
هذا هو الركن الأول ، والهام في هذا البناء . بدونه لا يرتفع للخطاب بناء ، ولا ترسخ له أسس ، وإن أهمل شأنه كنا بالخطاب كمن يحرث في الماء .
ومن هنا وجب العمل الدؤوب لإعداد العلماء والدعاة الربانيين، الذين يجمعون بين المعرفة الإسلامية، والرؤية العصرية، مع الغيرة الإيمانية والأخلاق الربانية ؛ لأن المسلمين أحوج ما يكونون اليوم إلى الداعية البصير، والعالم المتمكن ، الذي إذا استقضى قضى بحق ، وإذا استفتى أفتى على بينة ، وإذا دعا إلى الله دعا على بصيرة.
مبحث
الشروط الواجب توافرها في الخطيب الداعية
ما هي الشروط الواجب توافرها في هذا الخطيب الداعية ؟.
1. أن يكون مهموماً بدعوته ، مخلصاً لها ، صادقاً في قصده .
والإخلاص أمر عسير شاق على النفس ، صعب عليها، يحتاج صاحبه إلى مجاهدة عظيمة، ويحتاج العبد معه إلى مراقبة للخطرات والحركات، والواردات التي ترد على قلبه، فيحتاج إلى كثرة تضرع لله عز وجل .
يقول أويس القرني رحمه الله(31):'إذا قمت فادعو الله يصلح لك قلبك ونيتك ، فلن تعالج شيئاً أشد عليك منهما' .(57/196)
و من الأمور الدالة على أهمية الإخلاص ، وعظيم منزلته : أنه حقيقة الإسلام الذي بعث الله عز وجل به المرسلين عليهم الصلاة والسلام : كما ذكر الشيخ تقي ابن تيمية ( رحمه الله) ، فقال : ' إذ الإسلام هو الاستسلام لله لا غيره كما قال الله تعالى:
} ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا....{ (32). يقول: فمن لم يستسلم لله ؛ فقد استكبر ، ومن استسلم لله ولغيره ؛ فقد أشرك ، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام والإسلام ضد الشرك والكبر'(33) .
ويستلزم إخلاص النية لله في الدعوة وفي كل طاعة وقربة ، فلا يدعو لطلب جاه ولا محمدة ، ومتى دخل شيء من هذه الشوائب النية خرج الإخلاص المشروط لقبول العمل ، ومتى حصل الصدق في القصد وتحقق الإخلاص ؛ أثمر ذلك عزيمة صادقة وإرادة ماضية ، فلا يتوانى الداعي الصادق عن المضي في إيصال الحق والخير للناس يبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة ، يتعلم ويعلم ، ويتوخى الحق أينما كان (34).
الإخلاص في الكتاب والسنة:
تارة: يأمر الله عز وجل به، كقوله:} فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ... {(35).
وتارة: يخبر أنه دعاء الله لخلقه:} وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ... {(36).
وتارة: يخبر أن الجنة لا تصلح إلا لأهله، كما قال:} إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(37) {.
وتارة: يخبرنا بمواضع أنه لن ينجو من شَرِكِ إبليس إلا من كان مُخلِصاً لله عز وجل، كما قال:} إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (38){. بعدما توعد أنه سيضل الخلق أجمعين ، ويستهويهم بوساوسه وخواطره ، وإضلاله وتزيينه.
وأما ما ورد في السنة فكثير، ومن ذلك:
ما جاء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّy قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ ـ يعني يريد الأجر من الله عز وجل ، ويريد أن يُذكر يقال: فلان مجاهد - مَالَهُ ؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [ لَا شَيْءَ لَهُ] فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [ لَا شَيْءَ لَهُ] ثُمَّ قَالَ: [ إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ](39).
وجاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ y قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ] (40).
فالأعمال التي تختلط فيها الإرادات ، ويتلفت صاحبها يمنة ويسرة يريد ما عند الله ، ويريد ما عند المخلوقين ؛ هذه الله غني عنها ، ولا يعبأ بها ، ولا يقيم لها وزنًا.
وجاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ y مرفوعاً إلى صلى الله عليه وسلم ما يبين أن محل نظر الله عز وجل إلى قلب العبد ، وهو محل الإخلاص ، والقصد والنية ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ] وفي لفظ: [ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ] (41).
وحديث: [ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ...] (42). شاهد واضح في الدلالة على هذا المعنى ، ونحن لو أردنا أن نستقصي الآيات والأحاديث التي تدل على أهمية الإخلاص ، ومنزلته، وعظيم أثره ؛ لما كفى لاستيعابها هذه الأطروحة ، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق (43).
2 . من شروط الخطيب الداعية أن يكون حكيماً عليماً حليماً .
أولاً : الحكمة :
نستطيع القول أن الدعوة حتى تكون مؤثرة ومثمرة لابد أن تكون بحكمة ، أسأل الله أن يحسن لنا المقاصد والنيات ، وأن يوفقنا للحكمة في أقوالنا وأفعالنا ، ونياتنا ، إنه نعم المولى ونعم النصير. ولما للحكمة من مكانة عظيمة من الكتاب والسنة ، ولحاجة الأمة حاضراً ومستقبلاً إليها في كل شؤونها ، فكان حتماً ولا بد أن نعرض لها توضيحاً وتفصيلاً ، مستندين في ذلك إلى الكتاب والسنة ، وآراء السلف الصالح .
قال الله - جل وعلا -: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}(44 ) . وقال ـ سبحانه ـ : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (45) .
قالوا في الحكمة : إتقان العلم والعمل، وبعبارة أخرى: معرفة الحق والعمل به .(57/197)
وفسرت الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة ، أي: بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض ، ولا يغلط في العلل والأسباب .
وقال صاحب مختار الصحاح : "وصاحب الحكمة والحكيم المتقن للأمور"(46) .
وقال ابن منظور :" وقيل: الحَكِيمُ ذو الحِكمة ، والحِكْمَةُ عبارة عن معرفة أَفضل الأَشياء بأَفضل العلوم . ويقال لمَنْ يُحْسِنُ دقائق الصِّناعات ويُتقنها: حَكِيمٌ " (47) .
وقال الطبري : "ليست بالنبوة ولكنه القرآن والعلم والفقه ، وقال آخرون معنى الحكمة الإصابة في القول والفعل" (48) .
وقال ابن كثير :
قال إبراهيم النخعي: الحكمة: الفهم.
وقال السدي : الحكمة النبوة .
وقال أبو مالك: الحكمة: السنة.
وقال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل.
والصحيح أن الحكمة ـ كما قاله الجمهور ـ لا تختص بالنبوة ، بل هي أعم ، وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع ، كما جاء في بعض الأحاديث (49).
وقال الألوسي : "إن فيها تسعة وعشرين قولاً لأهل العلم ، قريب بعضها من بعض ، وعد بعضهم الأكثر منها اصطلاحاً واقتصاراً على ما رآه القائل فرداً مهماً من الحكمة ، و إلا فهي في الأصل: مصدر من الإحكام ، وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها"(50)
وقال سيد قطب -رحمه الله- حيث فسر الحكمة بأنها: " القصد والاعتدال ، وإدراك العلل والغايات ، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال " (51).
يقول الدكتور ناصر العمر ـ حفظة الله ـ : " ونستطيع أن نقول : إن المفسرين فسروا الحكمة بتفسيرين : الأول: النبوة.
الثاني: العلم والإتقان ، والتوفيق، والبصيرة ، والعمل الصائب ، ومنع الظلم ، ووضع الشيء
في موضعه ، وكلها معان متقاربة "(52).
أما في السنة فقد وردت الحكمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قَالَ : ضَمَّنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلمإِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ (53).
قال البخاري: الحكمة: الإصابة في غير النبوة.
وقال ابن حجر: واختلف المراد بالحكمة هنا:
فقيل: الإصابة في القول.
وقيل: الفهم عن الله.
وقيل: ما يشهد العقل بصحته.
وقيل: نور يفرق به بين الإلهام والوسواس.
وقيل: سرعة الجواب بالصواب.
ومنهم من فسر الحكمة هنا بالقرآن (54).
- وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :"لا حسد إلا في اثنتين ، رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ، وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها" (55).
والحكمة هنا فسرت بالقرآن ، كما وردت في حديث آخر. (56)
يقول الدكتور ناصر العمر ـ حفظه الله ـ : " هناك عدة تعريفات أخرى للحكمة وهي لا تخرج عن معنى التعريفات السابقة ، ولكن ذكرها يزيد الأمر وضوحا ، ومن ذلك:
1- قيل: هي وضع الشيء في موضعه (57).
2- وقال ابن القيم: وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك ، إنها: معرفة الحق والعمل به ، والإصابة في القول والعمل ، وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن ، والفقه في شرائع الإسلام ، وحقائق الإيمان (58).
3- وقال رشيد رضا: الحكمة: العلم الصحيح ، الذي يبعث الإرادة إلى العمل النافع الذي هو الخير (59).
4- قال الرازي: حكم الحكمة والعقل ، هو الحكم الصادق المبرأ من الزيغ والخلل ، وحكم الحسن والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة " (60)(61).
ثانياً : العلم :
يقول تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}(62) ، ويقول تعالى : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(63) . وقال تبارك وتعالى : { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }(64 ) .
أما السنة فعَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ فَقَالَ مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي ؟ . فَقَالَ : ابْنَ أَبْزَى .قَالَ :وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى ؟!. قَالَ : مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا .قَالَ : فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى ؟!. قَالَ : إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ . قَالَ عُمَرُ : أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ r قَدْ قَالَ : [ إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ ] (65).
ـ و عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [ فَقِيهٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ ](66) .(57/198)
ـ وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلميَقُولُ : [ ... إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ] (67) .
والواقع إننا لو استرسلنا في الأدلة لما وسعنا المقام ولكن يكفي ما أشرنا إليه ، والخطيب الداعية لابد أن يجمع مع العلم ثقافة واسعة في جميع المجالات ، وهي: الثقافة الدينية ، واللغوية ، والتاريخية ، والإنسانية ، والعلمية ، وأن يكون كذلك على دراية بما يدور من حوله من أحداث التي يطلق عليها البعض فقه الواقع ، أو(الثقافة الواقعية) ، بشرط ألا يطغى هذا الجانب على غيره من الجوانب ، ولا يكون عاجزاً في المسائل الشرعية أو الدينية ، بينما هو أستاذ في جانب الواقع فهذا منفصل عن واقعه وإن كان يعيش فيه ؛ لأن المعرفة الواقعية التي لا يضبطها شرع ولا يحدها دين تكون أحياناً وبالاً ، ومصيبة على صاحبها!.
ومن الأشياء التي أعجبتني "وأنا بصدد هذه الرسالة " أطروحة لفضيلة الدكتور ناصر العمر ـ حفظة الله ـ بعنوان "فقه الواقع " ، وجدتها شافية وكافيه ، واقتطعت منها ما يلي : ـ " فقه الواقع : هو علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة ، من العوامل المؤثرة في المجتمعات ، والقوى المهيمنة على الدول ، والأفكار الموجهة لزعزعة العقيدة ، والسبل المشروعة لحماية الأمة ورقيها في الحاضر والمستقبل " (68).
ثم يستطرد قائلاً : " فهذا العلم يحتاج إلى قدرة فائقة على المتابعة ، والبحث في كل جديد ، فهو يختلف عن كثير من العلوم ، لذا يلزم المتخصص أن يكون لديه دأب لا يكل في متابعة الأحداث ، ودراسة أحوال الأمم والشعوب ، فلو انقطع عنه فترة من الزمن أثر على تحصيله ، وقدرته في فهم مجريات الأحداث وتقويمها. فهو أشبه بالطبيب الذي يلزمه أن يتابع كل جديد في مهنته ، فلو أن طبيبا تخرج في الجامعة منذ عشر سنوات ، بقي يعالج الناس من خلال دراسته الماضية ، دون النظر لما استجد من مخترعات في وسائل العلاج ، وما اكتشف من أدوية ، لأصبح طبيبا متخلفا عن الركب ، فجديد اليوم يصبح قديما في الغد وهكذا.
ولا أبالغ إذا قلت: إن الذي ينقطع عن متابعة الأحداث بضعة أشهر يحتاج إلى فترة مكثفة ليتمكن من ملاحقة الأحداث من جديد ، وبخاصة في عصرنا الحاضر ، الذي أصبح فيه العالم كقرية ، ما يقع في شرقه يؤثر يوميا في غربه ، وإذا وقع حادث ذو بال في أمريكا أثر على أسواق اليابان في اليوم نفسه ، وارتفاع الأسهم في (وول ستريت) بلندن ، يؤثر على قيمة الفول في البرازيل " (69).
الآثار الإيجابية لفقه الواقع :
قال الدكتور ناصر العمر ـ حفظة الله ـ : " هناك آثار إيجابية عظيمة لفقه الواقع ، فمن الخطأ تصور القضية مجرد مزيد من الثقافة ، أو إشباع غريزة حب الاستطلاع ، فالموضوع أهم من ذلك وأخطر ، بل لا أعدو الحقيقة إذا قلت: إن مستقبل الأمة قد يتوقف على مدى فقه الواقع والتعامل معه ، فقد تتخذ مواقف مصيرية - لم تبن على أسس علمية - تؤدي بحياة الأمة إلى مهاوي الردى ، وكم من موقف اتخذ في حياة أمتنا المعاصرة ، لم يستمد من شريعتنا أذاقنا الذل والهوان " (70).
ثم يسرد هذه الآثار بشكل يصلح لموضوعنا تماماً فيقول: من آثار فقه الواقع :
?إحكام الفتوى وإتقانها . ?الدعوة إلى الله بحكمة وعلى بصيرة .
?الوصول إلى النتائج السليمة واتخاذ المواقف الصحيحة . ?التربية الشاملة المتكاملة . ?بعد النظر وحسن التخطيط . ?إبطال كيد الأعداء ، وفضح خططهم .
?حماية العلماء . ?الشعور بالمسئولية والتغلب على المعوقات .
وبعدما جمعت كل ما ذكره ـ حفظه الله ـ إجمالاً سأعرض له بشيء من التفصيل .
?إحكام الفتوى وإتقانها .
أشار ابن القيم -رحمه الله- إلى أهمية فقه الواقع للمفتي ، (71) والحكم على الشيء فرع عن تصوره ، كما قرر العلماء.
والمفتي يجب أن يعنى بهذه المسألة عناية خاصة ، وبالذات في الفتاوى المتعلقة بالمسائل المستجدة المعاصرة، ولذا نجد عدم ثقة كثير من الناس في بعض الفتاوى الصادرة من بعض طلاب العلم ، لأنها لم تبن على فقه دقيق للواقع المعاصر.
بينما نجد أن الفتاوى التي تصدر من علمائنا مبنية على تصور تام للأوضاع الجارية ، وفقه عميق للمستجدات ، تكتسب أهمية قصوى ، ولا تدع مجالا لطاعن أو مخالف.
ولذا فإن الفتوى تحتاج - في كثير المسائل - إلى فقه الأصول ، وفقه الفروع ، وفقه الواقع ، وإذا اختل ركن من هذه الأركان تداعت الفتوى ، وانهدّ جانبها.
ولا شك أن الفتوى إذا كانت محكمة ومتقنة لها أثر إيجابي في حياة الأمة حاضرا ومستقبلا ، ولن يتم ذلك إلا باستكمال شروط الفتوى التي حددها العلماء ، ومنها اكتمال التصور عن المسألة ، وهو فقه الواقع في المسائل المعاصرة.
? الدعوة إلى الله بحكمة وعلى بصيرة
من الملفت للنظر في عصرنا الحاضر وقوع بعض الجماعات الإسلامية والدعاة إلى الله في أخطاء أساسية في منهجهم ، وأسلوب دعوتهم.(57/199)
وإذا تأملنا في أسباب ذلك نلمس أن أغلب هؤلاء على صنفين:
إما دعاة لديهم إدراك لواقعهم ، ولكنه لم يبن على أصول شرعية متكاملة ، نظرا لتقصير هؤلاء الدعاة في بناء دعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة ، فوقعوا في أخطاء فادحة ، دفع أتباعهم ثمنها غاليا ، ولم يحققوا أهدافهم التي أعلنوها ، وهي إقامة حكم الله في الأرض ، نظرا للخلل في المنهج.
وآخرون لديهم علم شرعي ، ومنهجهم سليم في الجملة ، ولكنهم لا يفقهون الواقع ، ولا يتعاملون مع المرحلة التي يعيشونها ، فتخبطوا في أسلوب دعوتهم ، وتعجلوا الشيء قبل أوانه ، ولا يفرقون بين المنهج والأسلوب ، وإن كان الأسلوب فرعا عن المنهج ، فكانت النتيجة سلبية ، وذات أثر محدود.
ومن أجل التخلص من هذه السلبيات والأخطاء ، لا بد أن تكون الدعوة إلى الله مبينة على أسس شرعية ، مستمدة من الكتاب والسنة وفقه سلف الأمة ، ومن ذلك فقه الواقع ، وبهذا نجنب الدعوة وأتباعها المزالق والمخاطر والانحراف ، ونحقق قول ربنا (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(72) .
? الوصول إلى النتائج السليمة واتخاذ المواقف الصحيحة .
المواقف التي لا تبنى على النتائج السليمة المستمدة من المقومات الصحيحة ، آثارها خطيرة على الفرد والمجتمع ، والمجتمع الإسلامي يتخبط في مواقفه منذ سنوات طويلة ولا يزال ، ومن أسباب هذا التخبط المقدمات التي بنيت عليها هذه المواقف ، فأكثرها مواقف انفعالية أو وقتية ، تفتقر إلى الدراسة والتحليل ، وأحيانا تكون مبنية على دراسة قاصرة ، تكون نتائجها غير سليمة ، فيتخذ القرار الخاطئ .
وفقه الواقع يحول دون الفوضى والتخبط ، ويصبح لدى من يملك القرار تصورا متكاملا عن القضية ، مما يمكنه من اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب ، دون قصور أو ارتجال.
? التربية الشاملة المتكاملة .
مما يلحظ على كثير من الجماعات المعاصرة عدم شموليتها واهتماماتها الجزئية ، فهذه جماعة تعني بالتربية الروحية ، وأخرى بالتربية الفكرية ، وثالثة تربي أفرادها تربية عسكرية ، والرابعة تعني بالتربية الإسلامية السياسية ، وهلم جرا.
وقد تأملت في أسباب ذلك فأتضح لي أن أهم سبب لهذا الواقع: تصور كل جماعة أن الخلل في الأمة سببه قصورها في هذا الجانب دون غيره ، فجعلت هدفها الأساسي : استكمال هذا النقص وسد الخلل ، وكما ذكرت في الأثر الثالث: ما بني على مقدمة خاطئة فنتيجته خاطئة.
والمتأمل لواقع الأمة الإسلامية المعاصرة يدرك أن سبب تأخر أمتنا وتخلفها ناتج من عوامل عدة: روحية ، وعلمية ، وسياسية ، وجهادية ، وعقدية ، واقتصادية ، وهذا التصور الشمولي للواقع يجعل الدعاة يرسمون منهج دعوتهم بشمولية متكاملة ، بعيدا عن التجزئة والفردية.
وهكذا كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يربي صحابته ، ويبني المجتمع المسلم ، مجتمعا متكاملا ، بعيدا عن روحية الصوفية ، وسياسة العلمانيين: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً)(73) .
? بعد النظر وحسن التخطيط .
إن أمتنا بأمس الحاجة إلى التخطيط الدقيق ، الذي يبني مجدها ، ويقيها - بإذن الله - مصارع السوء ، وكل تخطيط لا يبنى على فهم عميق لمجريات الأحداث ، وتصور متكامل للواقع في جميع جوانبه ، سيكون تخبطا لا تخطيطا.
والأوضاع التي مرت بها بلاد المسلمين ، والمحن التي نعيشها كشفت عن تأخرنا عن أعدائنا في كثير من أمورنا ، حتى أصبحنا عالة عليهم في كثير من شئون حياتنا.
وفي الوقت الذي يخطط فيه أعداؤنا لما بعد مائة سنة أو تزيد ، نجد الفشل الذريع في تخطيط المسلمين لعشر سنوات أو أقل من ذلك.
وفقه الواقع في جوانبه المتعددة يعطي تكاملا في الرؤية ، وبعدا في النظر ، وهي من بدهيات التخطيط الدقيق لمستقبل الأمة ، وتطلعات الأجيال.
وهذا التخطيط يشمل جميع مناحي الحياة: الدعوية ، والعلمية ، والاقتصادية ، والعسكرية ، وغيرها ، حتى نكون كما أراد لنا ربنا (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(74) ، أمة قوية البنيان مرهوبة الجانب ، تخضع لها الأمم والممالك ، وتذل لها الجبابرة والملوك (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)(75) .
وبهذا نحمي المسلمين ، ونوجد المهابة لهم في نفوس أعدائهم ، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم " نصرت بالرعب مسيرة شهر " (76) وصدق الله العظيم: (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)(77).
? إبطال كيد الأعداء ، وفضح خططهم .(57/200)
لقد فضح القرآن الكريم خطط المشركين (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)(78). وكشف عن مكائد اليهود والنصارى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)(79). (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ)(80).
وأماط اللثام عن دسائس المنافقين: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)(81). (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ)(82).
ومن ثمرات فقه الواقع كشف سبل المجرمين بشتى أشكالهم وأنواعهم ، وكشف خططهم مؤذن بإبطال كيدهم ، ورد تدبيرهم إلى نحورهم ، والعناية بهذا الجانب حماية للمسلمين ، ورد لكيد الظالمين (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)(83).
? حماية العلماء .
وفقه الواقع حماية للعلماء من وجهين:
1- فالعلمانيون يكيدون لعلماء الأمة ، ويسعون لتشويه صورتهم أمام العامة ، بما يثيرونه من قضايا ، وما يطرحونه من خلافات في مسائل علمية ، مما يظهر أمام العامة وكأنه تناقض في الفتوى ، وضعف في العلم ، وهم يراهنون على إبعاد العامة عن علماء الأمة ، لأنهم يدركون أن العلماء هم السد المنيع ضد مؤامراتهم ومخططاتهم ، فإذا ظفروا بالعامة كسبوا الرهان ، ففقه الواقع كشف لهؤلاء ، وفضح لمآربهم ، وحماية بالتالي لعلماء الإسلام ودرع الأمة.
2- وفقه الواقع حماية للعلماء من الخاصة ، فعندما تكون الفتوى مبنية على تصور للواقع ، وعلم بفروع المسألة وأصولها ، لا يدع مجالا لطاعن أو مخالف ، مما يكسب الفتوى احترامها وقوتها ، وتتلقى بالقبول من لدن طلاب العلم والعامة ، وهذا ولا شك يقوي صلة طلاب العلم بعلمائهم ، ويقطع الطريق على من يستغل الأخطاء والعثرات لإبعاد شباب الأمة عن علمائها ، وبهذا نحمي جانب العلماء ، ونزيد من مكانتهم في نفوس العامة والخاصة ، لتكون لهم الريادة والقيادة العلمية في توجيه الأمة ، وتبصيرها في شئون دينها ودنياها ، كما كانوا - وسيظلون بإذن الله - على مر الأجيال وتعاقب العصور.
? الشعور بالمسئولية والتغلب على المعوقات .
عندما نغفل عن واقعنا ، ونكتفي بتلمس ظواهر الأمور دونما إدراك لحقائقها ، قد نغفل عما يكاد لهذه الأمة ويحاك لها ، وبالتالي سننشغل عن العمل الإيجابي الجاد ، وقد ينصرف طالب العلم إلى أمور جانبية ظنا منه أن الأمور تسير على خير ، وأن ليس هناك ما يكدر صفوها ، أو يهدد كيان الأمة ومستقبلها.
ولكن عندما نفقه الواقع على حقيقته ، دون إفراط أو تفريط ، سندرك جهود الأعداء في الداخل والخارج لضرب الأمة في أعز ما تملكه ، وهو دينها ، وهنا نكون على مستوى المسئولية ، وتزول الغشاوة التي تضعف رؤيتنا ، وتنتهي المعاذير التي يرددها كثير من الناس ، بدعوى أن الأمور بخير ، وأننا أحسن من غيرنا ، ونحن -ولا شك- بحمد الله وفضله أحسن من غيرنا ، ولكن استمرار هذا القول ، دون عمل أي جهد للمحافظة على هذا "الخير" و"الحسن" قد يؤدي إلى فقدانه وزواله (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(84) .
وفقه الواقع بالتالي عامل مساعد للتغلب على المعوقات التي تواجهنا عندما نقوم بما أوجب الله علينا ، فإدراكنا لقوله تعالى: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(85) ، وفقهنا لقوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ)(86). ومعرفتنا بما لاقاه رسول ا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من عقبات في طريق دعوتهم ، كل ذلك سيزيد من إيماننا بأن العاقبة للمتقين ، مهما طال الطريق وتعددت المعوقات.
وفي الوقت نفسه ففقهنا لما عليه أعداؤنا ، وما يكابدونه من مشاق في تحقيق أهدافهم الباطلة ومآربهم الخبيثة ، يزيد من تحملنا في سبيل أهدافنا السامية ، وغاياتنا النبيلة (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)(87). (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)(88) وبهذا تتحول المشاق والعقبات إلى لذة تتنعم بها ، بدل العنت والشقاء ، كما تلذذ أسلافنا بالجهاد في سبيل الله ، وبهذا نكون أو لا نكون(89).
ثالثاً : الحلم .(57/201)
لين الجانب ( الحلم ): يجب على الخطيب الداعية أن تتوفر فيه الطبيعة الرحيمة ، الهينة ، اللينة ، المعدة لأن تتجمع عليها القلوب ، وتتألف حولها النفوس ، فالناس في حاجة إلى كنف رحيم ، وإلى رعاية فائقة ، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ودّ يسعهم ، وحلم لا يضيق بجهلهم ، وضعفهم ونقصهم.. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ، ويحمل همومهم ، ويجدون عنده دائمًا الاهتمام ، والعطف والسماحة ، والود .
يقول تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } (90) . ويقول تعالى : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(91) .
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : [ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ ] (92).
عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ ـ رضي الله عنه ـ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : [ مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ ](93) .
يقول الحكيم الترمذي : " فالحلم : سعة الخلق ، وإذا توسع المرء في أخلاقه ولم يكن له علم افتقد الهدى وضل ؛ لأن توسعه يرمي به إلى نهمات النفس ، فيحتاج إلى علم يقف به على الحدود ، وإذا كان له علم ولم يكن هناك حلم ساء خلقه وتكبر بعلمه ؛ لأن العلم له حلاوة ، ولكل حلاوة شره فتضيق أخلاقه ، ويرمي به ضيقه إلى شره النفس وحدتها فيكون صاحب عنف وخرق في الأمور فيضيع علمه " (94) .
عن عطاء قال : ثم ما آوى شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم (95).
وقيل : الحلم أرفع من العقل لأن الله تعالى تسمى بالحلم ولم يتسم بالعقل !.
وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ قال : " ما سمعت الله نحل عباده شيئا أقل من الحلم " ، قال : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ }(96) ، وقال : {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}(97) (98).
فالحلم سعة الخلق ، والعقل عقال عن التعدي في أخلاقه ، والواسع في أخلاقه حر عن رق النفس ؛ ولذلك قال عيسى ـ عليه السلام ـ لبني إسرائيل : لا عبيد أنقياء ، ولا أحرار كرماء . لا يشهد كريم أينما انقاد .
والحليم يحتمل أثقال الأمر والنهي بلا كبد ولا مجاهدة ، فكان إبراهيم ـ عليه السلام ـ ممن احتمل الأثقال ، ابتلي بالنار ، وابتلي بالهجرة والغربة ، وابتلي بسارة ، وابتلي بالختان ، وابتلي بذبح الولد ؛ فجاد بنفسه وولده ، فقال الله تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} (99) (100).
3. من شروط الخطيب الداعية أن يكون عاملاً بعلمه ( أي قدوة حسنة ).
إن القدوة من أهم الأسس التي تؤدي إلى حسن التربية للمدعو.. نعم إنه يحتاج ابتداء لإيمان عميق ، تام ، متجدد.. وبحاجة إلى تطبيق ما يدعو إليه على نفسه ؛ حتى تكون حياته الشخصية وسلوكه موافقين لما تقتضيه تربيته لأخيه ، ولكي يتشرب هذا المدعو منذ بدايته بالمبادئ الإسلامية ، وبالخلق القرآني القويم . ولسان الحال أبلغ من لسان المقال ، فليكن كالكتاب المفتوح الذي يقرأ فيه الناس معاني الإسلام ؛ فيقبلون عليها ، وينجذبون إليها. نداؤه كما قال شعيب (عليه السلام) لقومه:} وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ{ (101) .
عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلميَقُولُ : [ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ] (102) .
وكان الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ يقول:" عالم عامل معلم يدعى كبيراً في ملكوت السماوات"(103).
وقال الشيخ عبد العزيز بن بازـ رحمه الله ـ : "ومن الأخلاق والأوصاف التي ينبغي ، بل يجب أن يكون عليها الداعية ، العمل بدعوته ، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه ، ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه ، أو ينهى عن شيء ثم يرتكبه ، هذه حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك ، أما المؤمنون الرابحون فهم دعاة الحق يعملون به وينشطون فيه ويسارعون إليه ، ويبتعدون عما ينهون عنه قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(104) (105) .(57/202)
هذه الآية العظيمة تبين لنا أن الداعي إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى الله بلسانه ، ويدعو إلى الله بأفعاله أيضاً ، ولهذا قال بعده "وعمل صالحاً"، فهو داعية إلى الله باللسان ، وداعية بالعمل ولا أحسن قولاً من هذا الصنف من الناس: هم الدعاة إلى الله بأقوالهم الطيبة ، وهم يوجهون الناس بالأقوال والأعمال ، فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم .
وهكذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى الله بالأقوال والأعمال ، والسيرة.. وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون بالأقوال ، ولاسيما العامة وأرباب العلوم القاصرة فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والآمال الصالحة ، ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها ، فالداعي إلى الله عز وجل من أهم المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة ، وذا عمل صالح ، وذا خلق فاضل حتى يقتدي بفعاله وأقواله"(106) .
4. من شروط الخطيب الداعية الصبر وتحمل المشاق في سبيل الدعوة :
الصبر هو مكابدة النفس على الطاعات وكفها عن السيئات والاحتساب على البلاء. ولا يخفى ما للصبر من أهمية بالغة في حياة المسلم عامة ، وفي مسيرة الدعوة والدعاة خاصة ، ويكفي دلالة على أهمية الصبر وفضله وعظيم مكانته: أنه مناط الأعمال كلها ؛ إذ الأعمال إما طاعة أو معصية ، وكل طاعة فإنما تتحقق بالصبر ، وكل صبر على الطاعة فهو صبر عن المعصية ؛ لأن ترك المعصية طاعة ، وترك الطاعة معصية ، ولهذا ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه العزيز أنواعًا من الطاعات و القربات ثم سماها صبرًا تنويهًا بأن الصبر سبيل تحقيقها ، من مثل قوله تعالى : } الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّار ِ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ{ (107)
فذكر الله الوفاء بالعهود ، وصلة الأرحام ، وخشية الله ، والخوف من يوم الحساب ، والصبر لله عز وجل لا لشيء آخر، وإقام الصلاة ، والإنفاق سرًا وعلانية ، ودفع السيئة بالحسنة .. ثم سمى كل ذلك صبرًا لأنها لا تتم إلا به .
* أنواع الصبر :
?الصبر على طاعة الله عز وجل .
?والصبر عن المعصية .
?والصبر على الأقدار .
وأكمل هذه الأنواع الصبر على الطاعة ، قال ابن القيم رحمه الله :'والصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، فإن مصلحة فعل الطاعات أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية ، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية' (108).
يقول الدكتور / عبد الكريم زيدان : والصبر بأنواعه إنما هو بالله بمعنى أن المسلم يؤمن بأن صبره إنما يكون بعون الله ، فالله هو المصبر له ، قال تعالى : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ } (127) سورة النحل ، وصبر المسلم لله أي أن المسلم يصبر طاعة ومرضاة له فالباعث على صبره محبه الله وطلب مرضاته وهذا النوع من الصبر وهو يشمل الصبر على الطاعة وعن المعصية أكمل من الصبر على الابتلاء لأن في الأول اختيار وإيثار ومحبة ، أما الثاني فهو صبر ضرورة ولا اختيار للصابر (109).
والصبر في حياة الدعاة يشمل هذه الأنواع الثلاثة ، ونركز الحديث هنا على النوع الثالث من أنواع الصبر ، وهو الصبر على ما يلقاه الدعاة في سبيل الدعوة ولازم هذا الصبر .
* لوازم الصبر في مجال الدعوة :
للصبر في مجال الدعوة وفي حياة الدعاة لوازم كثيرة ، بتحققها يتحقق الصبر على أكمل وجوهه ، ومن أهم لوازم الصبر :
تحمل عنت المدعوين وجحودهم وكيدهم وصدودهم: وكيد المناوئين ملازم لكل دعوة إصلاح ، وهذا جلي في قول الله لرسول صلى الله عليه وسلم :} يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ { (110). والعصمة هنا هي: الحفظ والرعاية والتعهد ، فمن بلّغ عن الله فلابد أن يكاد ، وعليه بالتحمل وعدم الفتور عن الدعوة ؛ لأنه لابد أن يصيبه ما يكره إما في النفس ، أو المال ، أو العرض ، أو غير ذلك ، وقال تعالى على لسان لقمان الحكيم :} يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ { (111). ولو أن الدعاة لم يتحملوا ما يصيبهم من أذى في سبيل الله ؛ لم يستمروا في أداء واجبهم ، فمتقضى الصبر: التحمل والثبات والاستمرار .(57/203)
ترك العجلة في الوصول إلى ثمار الدعوة ، وترك استعجال الاستجابة : فمن الثوابت الراسخة في مسائل الدعوة ، ومما ينبغي أن يعيه الدعاة : أن على الدعاة أن يولوا جانب التبليغ وإيصال الحق للمدعو كل الاهتمام بإقامة الحجة وإيضاح الدليل والبرهان والاستمالة لا أن يشغلوا أنفسهم بغير ذلك ؛ لأن الهداية بيد الله : } وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا... {(112).
ولقد كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في مكة وكان ذلك دأبه مع قلة المؤمنين يومئذ ، وكانوا كما قال عمار (رضي الله عنه) : " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلموَمَا مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ" (113).
ومما يدل على أن ترك الاستعجال من لوازم الصبر: ما ورد عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلموَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ فَقَالَ : [ قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ فِرْقَتَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَحَضْرَمُوتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ] (114) .
ويؤخذ من الحديث أن لله عز وجل سننًا نافذة لا تتخلف ولا تتبدل ، وما على الدعاة إلا إبلاغ الحق والخير للناس لتكون لهم المعذرة إلى ربهم ، والله يهدي ببركة هذه الدعوة من يشاء.
الاستمرار في الدعوة والمداومة عليها دون كلل ولا ملل ولا تذمر ولا تبرم : فدينه هو الحق المبين وللحق غلبة وهيبة وقوة ، تسكب في فؤاد الداعي أملاً لا ينقطع ، فيكون أبعد الناس عن اليأس والإحباط ، والدعاة وهم يرون الحق في قوته وظهوره وعلوه يستمدون من الله يقينًا فوق يقينهم ؛ فإذا هم ماضون في الدعوة بعزيمة نافذة وكما قالت الرسل ، وقد نالت منهم طوائف المكذبين الجاحدين فقالوا : }وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ { (115).
ولقد كان صلى الله عليه وسلم ينال منه عتاة المشركين ومع ذلك يمضي في دعوته قدمًا مثابرًا محتسبًا صابرًا ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: [اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ] (116).
* أثر الصبر في نجاح الداعي : للصبر أثره الحميد في نجاح الداعي وتحقق غايته وهي : دلالة الناس على الخير, وسبله ، وصبر الداعي يكون في تحمل ما يلقاه من صدود وجحود ، وما يكاد له في سبيل منعه ، أو عرقلته من محاولات ودسائس ، وما تنشر حوله من إشاعات وأكاذيب واتهامات ، ولقد واجه صلى الله عليه وسلم كل هذه الألوان الموحشة من كنود الناس وصدودهم وفجورهم ، فصبر وصابر ورابط حتى بلغت دعوته الآفاق صلى الله عليه وسلم
وكان عليه الصلاة والسلام حين يواجههم بالصبر الجميل ، ويقابل إيذاءهم بالتحمل والحلم والاحتساب كان يصارحهم بذلك ، وأنه ماض فيما هو فيه ، وأن هذا العدوان لن يثنيه عن الحق الذي آمن به ! فبعد أن أغروه بزخرف الدنيا وزهرتها ، وهم يودون صرفه عن الدعوة وشجونها قال لهم : [ ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني رسولاً وأنزل عليّ كتابًا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم] (117).
وفي هذا منهاج للدعاة والسائرين في طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وفيه بيان لما ينبغي أن يكون عليه الداعي في مضي العزيمة والحلم والاعتزاز بالحق ، وأن الدعاة لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن الدعوة إلى الله ، ولا تغريهم زخارف الدنيا ، وفي هذا ولا ريب يكمن السر الذي تثمر به الدعوة .(57/204)
لقد كان صلى الله عليه وسلم قمة في صبره ، قدوة في مصابرته ، وتحمله وحلمه ، فهو أصبر الناس على جفوة الناس وجحودهم ، وأصبر الناس بعده هم أمثلهم طريقة ، وأكثرهم عزيمة ، وأقربهم إلى المنهاج النبوي ، ومصداق ذلك ما ورد عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ: [الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ] (118).
* ومن فوائد هذا الحديث: أن الابتلاء سنة في حياة المسلم ، وفي حياة الدعاة على الأخص ، قال تعالى : } الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ{ (119) .
* ومن فوائد الحديث أيضًا: أن البلاء يكفر السيئات ، ويرفع الدرجات ، وهذا هو مبتغى الدعاة ، وعفو الله أوسع . إن الصبر كما أنه من عوامل نجاح الدعاة هو أيضًا زادهم وعدتهم ، به تزكو نفوسهم وتطهر أفئدتهم ، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الصبر والإنابة (120) .
5. من شروط الخطيب الداعية الحرص على هداية من يدعوه:
الواجب الخامس الذي يجب توفره في الداعي إلى الله أن يكون حريصاً على هداية من يدعوه فإذا كان من يدعوه كافراً كان حريصاً على إيمانه ساعياً في ذلك بكل سبيل ، وقد كان سيد الدعاة والمهتدين وهو نبينا صلى الله عليه وسلمليحزن أشد الحزن حتى يكاد يقتله الغم أسفاً على نفور الناس من دعوته..
يقول تعالى معزياً ومعاتباً له : {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}(121).
وقد وصفه تعالى بالحرص على هداية الناس. قال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (122).. وقال تعالى: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} (123) ..
والداعي إذا كان حريصاً على هداية من يدعوه سعى إلى ذلك بكل سبيل ولم يدخر وسعاً في إيصال الحق له ، واستخدم معه كل وسيلة ناجعة ، وأزال كل عقبة تصده عن الحق.
وأما إذا اتصف بضد ذلك أهمل في دعوة من يدعوه ، ولم يكترث لهدايته أو ضلاله..
وإذا كان من تدعوه مسلماً وكنت حريصاً على أن يهتدي للحق الذي تدعوه إليه ، وللمعروف الذي تأمره به ، حملك هذا على إخلاص النية ، وبذل قصارى الجهد ، والفرح بهداية من تدعوه ، والحزن إذا لم يستجب لك .
مبحث
ثقافة المدعو
ثانياً : المخاطب ، أو المدعو وثقافته .
المدعو : هو من يراد دعوته وهم الناس جميعاً بوجه عام وأهل الإسلام بوجه خاص .
والمدعو نوعان : أ) فردي . ب ) جماعي .
وهذا القسمان ينقسمان بدورهما إلي قسمين :
1. قسم آمن بالرسالة
2. وقسم كفر بها ...وهذا القسم ينقسم إلى نوعين :
أ ] كفار معلنون لكفرهم .
ب] كفار غير معلنين ( وهم المنافقون ).
وهذه الأنواع تحتاج جميعها إلى خطاب ديني متناسب مع كل نوع ، ومطابق لمقتضى حاله ، ويؤدي المراد منه ، ويحقق الأهداف المرجوة .
وقد أنزل الله سبحانه وتعالى الأحكام التي يجب اتباعها مع كل قسم من هذه الأقسام ، ورسم رسول ا صلى الله عليه وسلم السياسة الشرعية الواجبة في دعوة هذه الأقسام إلى الله وكيفية التعامل مع كل قسم منهم.
تمهيد : عالمية الرسالة:
رسالة الإسلام رسالة للعالمين قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } (124).. وقال تعالى: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } (125).. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(126)..
وقال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} (127)، ومن أجل ذلك فالبشر جميعاً مدعون إلى هذا الدين ، والناس جميعاً هم أمة الدعوة الذين أرسل إليهم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم
ومن ثم فهذه هي الأصول العامة والسياسة الشرعية في الدعوة والمعاملة مع هذه الأقسام:
أولاً: الأصول الشرعية في دعوة الكفار الأصليين للإسلام:
من الكفار الأصليين من بلغه دعوة الإسلام على الوجه الصحيح ، ومنهم بلغته دعوة الإسلام بصورة مشوهة ، ومنهم من لم تبلغه دعوة الإسلام..
ومن الكفار الأصليين أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، والوثنيون والمجوس وغيرهم من أتباع هذه الملل الكثيرة ، ومنهم من لا ينتمي لدين أصلاً.
والأصول التي يجب اتباعها مع هؤلاء جميعاً هي:(57/205)
1) إبلاغ دعوة الإسلام على وجهها الصحيح بلاغاً يقطع العذر:
الأصل الأول في دعوة المسلمين إلى الإسلام أن يبلغوا هذه الدعوة على وجهها الصحيح بلاغاً يقطع العذر كما جاءت في كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، ولا تقوم الحجة عليهم إلا بهذا.. قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (128).. وقال تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} (129)..
ولا يكون البلاغ مبيناً قاطعاً للعذر إلا:
أ) إذا فهموه بلغتهم أو تمكنوا من العربية تمكناً يجعلهم يفهمون معانيها كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (130)..
فالواجب على أمة الإسلام الذين أخرجهم الله للناس أن يبلغوهم دين الله باللسان الذي يفهمونه ثم يعلموهم العربية ليفهموا عن الله ورسوله..
قال الشيخ عبد العزيز بن باز (رحمه الله ): "أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ، ومن لهم القدرة الواسعة ، فعليهم من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار حسب الإمكان بالطرق الممكنة وباللغات الحية التي ينطق بها الناس، يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها، باللغة العربية وبغيرها"(131).
ب) إبطال شبهات الكفار، ودفع باطلهم:
ويجب أن تدحض كل حجج الكفار و شبهاتهم حول دينهم الباطل ، وكل دين غير الإسلام فباطل كما قال تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه}(132).. وقال تعالى: {قل فلله الحجة البالغة}(133).. وقال تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً}(134)..
ومن أجل ذلك أبطل الله في القرآن كل ما احتج به الكفار على اختلاف عقائدهم في احتجاجهم لدينهم الباطل ، فقد رد الله على اليهود مزاعمهم ، وعلى النصارى ضلالهم وشبههم، وعلى مشركي العرب في جميع ما عارضوا به الإسلام ، وعلى ما احتجوا به على ما هم عليه من الشرك والضلال.
2) لا يبدأ مع الكافر الأصلي إلا بالتوحيد ثم الأهم فالأهم:
يجب البدء مع الكافر الأصلي الذي لم يدخل الإسلام بالتوحيد لأنه أساس الدين ، وجميع الأحكام ترجع إليه ، ولا يصح العمل الصالح إلا به ولذلك كان كل رسول أول ما يدعو قومه يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه وتعالى.
إذ هو الفارق بين المسلم والكافر ، وجميع أعمال الدين ترجع إلى التوحيد ، وتبنى عليه ، فلا يصح عمل صالح للعبد إلا بتحقيق التوحيد لله ، وجميع الأعمال الصالحة تكون باطلة إذا لم يكن فاعلها موحداً لله سبحانه وتعالى كما قال جل وعلا في عمل المشركين والكفار: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب} (135)..
وقال تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد}(136).
وقال تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} (137)..
وقد أمر صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل عندما أرسله داعياً إلى أهل اليمن أن يبدأ بالتوحيد ثم بالصلاة ، ثم بالزكاة فقد قال صلى الله عليه وسلم [إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا ، فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم فإذا أقروا بذلك فخذ منهم ، وتوق كرائم أموال الناس] (138) .
قال ابن حجر في الفتح: "بدأ بالشهادتين لأنهما أصل الدين ، الذي لا يصح شيء إلا بهما ، فمن كان غير موحد فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين، ومن كان موحداً فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار والوحدانية".
وقال: "يبدأ بالأهم فالأهم ، وذلك من التلطف في الخطاب لأنه لو طالبهم بالجميع لأول مرة لم يأمن النفرة" (139).
3) عرض الدعوة على الكفار باللين ، والحكمة ، والموعظة الحسنة ، والجدال بالحسنى:
في مقام عرض دعوة الإسلام على الكفار، وإن كانوا من المجرمين العتاة، والجبابرة الطغاة يجب اتخاذ اللين والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى سبيلاً إلى عرض الدعوة، وقد فصلنا الحديث في هذا الجانب سلفاً بما لا يحتاج إلى زيادة ، ولأهمية الدعوة باللين ننظر إلى وصية الله لموسى وهارون أن يعرضا الدعوة على فرعون باللين.. قال تعالى: {إذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى } (140).
فمع طغيانه وقتله لذكور بني إسرائيل،واستحيائه لنساءهم ، وسومهم رسولهم سوء العذاب إلا أن الله أمر الرسول ـ عليه السلام ـ أن يكون ليناً في عرض الدعوة عليه ، ولعل اللين أن ينفعه فيتذكر ويخشى.
4) وجوب رد إساءتهم وعدم السكوت على طعنهم في الدين:(57/206)
لا يجوز للداعي إلى الله الذي يعرض دعوته باللين والحكمة على الكفار أن يأخذ جانب اللين مع الذين يردون رداً سيئاً ، ويطعنون في الدين الحق ، ويسبون رسول ا صلى الله عليه وسلم ، أو يعيبون شريعة الله ، بل يجب الرد المناسب عليهم والانتصار منهم لقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} (141) .
فالظالمون منهم يجب الرد بما يتناسب مع هجومهم وتهجمهم على الإسلام وطعنهم فيه. قال تعالى: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}(142).. ولذلك جاء في كثير من آيات القرآن الرد والزجر الشديد على المعاندين من الكفار: كبيان فضائحهم ، وكشف مخازيهم ووصفهم بفقدان العقل والفهم ، والاستهزاء بحالهم ومآلهم ، وتحقير آلهتهم، وتهديدهم بعذاب الدنيا والآخرة.
5) قبول الكافر أخاً في الإسلام مهما سلف منه في الكفر:
يجب أن يقبل الكافر أخاً في الدين إذا انتقل من الكفر إلى الإسلام ، فلا يعير بدينه السابق ، ولا بما كان عليه من الكفر والشرك ، ولا يذكر بماضيه إلا أن يكون على وجه حمد الله وشكره وفضله عليه كما قال تعالى عن المشركين: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ، ونفصل الآيات لقوم يعلمون}(143).
* أصول في دعوة المرتد:
المرتد: هو كل من رجع عن الإسلام بعد دخوله فيه ، وللمرتد أحكام خاصة في الدعوة منها:
1) لا حكم بالردة إلا من عالم بالإسلام:
لا يجوز الحكم على مسلم بالردة إلا إذا أعلن بنفسه هو أنه راجع عن الإسلام أو أن يكون قوله أو فعله كفراً مخرجاً من الملة ، ولا يحكم عليه بالردة إلا عالم بالإسلام وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم [من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه] (144)..
2) يجب التفريق بين مقالة الكفر والكافر:
ليس كل من وقع في الكفر يكون كافراً فربما وقع جهلاً أو تأولاً ولذلك يجب الرد على المخالف ، وإقامة الحجة بيان المقالة الخاطئة ، دون الحكم على قائلها حتى يتبين أنه قد اختار الكفر ، أو أقيمت عليه الحجة البالغة التي تقطع عذره..
* أصول في دعوة المنافق:
المنافق: هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ، وهذه بعض الأصول الشرعية في دعوته للإسلام:
1) لا يحكم على شخص أنه منافق نفاقاً اعتقادياً إلا ببرهان لا يقبل النقض أنه يبطن الكفر ، ويظهر الإسلام كذباً..
2) المنافق يدعى إلى الإسلام ، ويوعظ ، ويذكر بالله ، ويجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة ، ويغلظ عليه عند مخالفة الأمر الشرعي. قال تعالى:{أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} (145) ، وقال تعالى : {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} (146).
قال ابن كثير: "قال تعالى {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} هذا الضرب من الناس هم المنافقون ، والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك فإنه لا تخفى عليه خافية فاكتف به يا محمد فيهم فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم، ولهذا قال له {فأعرض عنهم} أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم {وعظهم} أي واتهمهم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر {وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} أي وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم" (147).
ثانياً: الدعوة بين المسلمين:
للدعوة إلى الله بين المسلمين ميدانان هما:
أ) التربية والتعليم.
ب) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكل ميدان من هذين الميدانين أصوله وقواعده.
أ) قواعد في التربية على الإسلام وتعليمه:
التربية وهي التزكية والتعليم ، هي مهمة النبي في المؤمنين قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}(148)..
والتربية هي تنشأة الإنسان وبناؤه.. قال رسول صلى الله عليه وسلم [ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه] (149) .
وهذه أهم قواعد التربية والتزكية:
1) تصور النموذج المثالي للإنسان الكامل والعبد الصالح:
يجب أولاً أن يتضح أمام المربي والمعلم النموذج والمثال الذي يجب أن يربى على غراره ، وهذا النموذج قد جاء وصفه التفصيلي في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى منها أول سورة المؤمنون.. قال تعالى: {قد أفلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون* والذين هم عن اللغو معرضون* والذين هم للزكاة فاعلون* والذين هم لفروجهم حافظون* إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين* فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون* والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون* والذين هم على صلواتهم يحافظون}(150).
وفي غيرها من سور القرآن كمطلع سورة البقرة ، والآيات الأولى من سورة الأنفال ، وسورة الحجرات بكمالها ، والآيات من سورة الإسراء من قوله تعالى: {لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً} ، ..إلى قوله: {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً} (151)..
ولا شك أن القرآن كله قد فصل صفات النموذج الطيب للمؤمن الصالح الذي يحبه الله ويرضاه..(57/207)
وقد كان رسولنا r هو الإنسان الكامل والنموذج والقدوة والأسوة الذي أمر المسلمون جميعاً بالتأسي به {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}(152)..
فهو النموذج الكامل للتأسي، وقد كان خلقه القرآن كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: [كان خلق رسول ا صلى الله عليه وسلم القرآن] (153) .
وكذلك صور القرآن النماذج السيئة من المجرمين والكافرين والمنافقين. قال تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}(154)..
2) التعليم الدائم:
يجب على الداعي إلى الله ، ومعلم الخير أن يعتمد لنفسه ومن يعلمهم نظام التعليم الدائم من المهد إلى اللحد ، والمسلم الحق هو من يزداد في دينه كل يوم علماً وعباده {وقل رب زدني علماً} (155) ، وعلم الدين لا يحاط به ، والقرآن لا يشبع منه العلماء ، وفضل العلم خير من فضل العبادة.
3) أخذ العلم والعمل جميعاً:
يجب أخذ العلم والعمل جميعاً ، وعدم إفراد العلم عن العمل لأن هذا مدعاة لأن يقول المسلم ما لا يفعل ، وأن يصبح العلم حجة على صاحبه لا حجة له ، وقد كان منهج الصحابة في التعلم أخذ العلم والعمل جميعاً فقد كان منهم من حفظ سورة البقرة في عدة سنوات ليحفظ السورة وليعلمها، وليعمل بها كما قال الأعمش : (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن) (156) فتأخذ العلم والعمل جميعاً ، وهذا لمن جاوز مرحلة الصغر وسنوات الحفظ الذهبية.
4) اغتنام سني الحفظ الذهبية عند الصغير:
تعليم الصغار يجب أن يكون بالحفظ أولاً اغتناماً لسنوات الحفظ الذهبية وهي من الثالثة إلى العشرين تقريباً.. وقد كان منهج التابعين وتابعيهم تحفيظ الصغير القرآن الكريم أولاً ثم السنة ، ثم متون العلوم المختلفة (المتون هي كليات العلوم وقضاياها الأساسية وكثيراً ما تكون نظماً).. ثم في الكبر يعتني بعد ذلك بالفهم والتعلم والتفقه فيما يكون قد حفظه.
5) تعلم الحق قبل الباطل، والتحصن بجواب الشبهة قبل ورودها:
من قواعد التعليم تعلم الحق قبل تعليم الباطل ، لأن السابق إلى الذهن يتمكن منه ويستقر فيه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم [ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه] (157) والفطرة هي التوحيد. قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله}(158).
فيجب تعليم الصغار كلمة التوحيد ، وتنشئتهم على الفضيلة ، والخلق الطيب قبل إطلاعهم على أنواع الشرك والكفر ، ومعرفة الرذيلة..
ثم يجب تعلم جواب الشبهة قبل ورودها تحصناً منها ، كما كان الله سبحانه وتعالى يعلم المسلمين ما يقولونه جواباً لشبهات الكفار قبل أن يلقيها الكفار. قال تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} (159) فأخبرهم بقول المشركين سبحانه ، قبل أن يقولوه ليعلمهم جوابه. وقال تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب..} (160)وهذا كثير في القرآن.
6) التربية بالأسوة:
يجب أن تكون الدعوة إلى الله بالأسوة الصالحة ، قبل أن تكون بالتعلم والقدوة الحسنة أبلغ في الدعوة .. فالعالم العامل المربي يدعو بسيرته وأخلاقه وأعماله أكثر مما يدعو بأقواله.. والرسولل المربي r قد أثر في سلوك أصحابه بأخلاقه وشمائله أعظم من تأثيره بأقواله ومواعظه..
7) الحلم بالتحلم:
هناك فارق كبير بين التعليم والتربية ، فالتعليم يكون بنقل العلم بأي وسيلة من وسائل النقل ، ولكن اكتساب الأخلاق لا يكون بمجرد معرفتها وتعلمها بل بوجوب التعود عليها والتخلق بها كما قال صلى الله عليه وسلم [إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم](161).
فلا بد للمربي أن يهيء من يربيهم على التعود على أخلاق الإسلام ولا يكتفي بتلقينها وتعليمها لهم.
8) التدرج في التعليم (تعليم صغار العلم قبل كباره):
من القواعد الهامة في التربية والتعليم أن يكون التعليم متدرجاً فيبدأ بصغار العلم قبل كباره ، وبسهله قبل صعبه ومشكله، قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الناس وبما كنتم تدرسون}(162) .
قال: مربين تعلمون الناس بصغار العلم قبل كباره..
9) التقويم المستمر:
من قواعد التربية و التعليم أن يكون التقويم مستمراً ولو كان في حال الكبر ، فكل من وقع منه خطأ ، أو ارتكب منكراً يجب تقويمه بالتقويم المناسب فقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو سيد المعلمين والمربين لأبي ذر (رضي الله عنه): [إنك امرؤ فيك جاهلية]!! لما رآه يعير رجلاً بأمه قائلاً له: [يا ابن السوداء]!! فقال: يا رسول الله على كبر سني!! فقال: [نعم] (163) . ووعظ رسول ا صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل مع حبه له ، موعظة غضب فيها الرسو صلى الله عليه وسلم قائلاً له: [يا معاذ أفتان أنت!!] (164).
وكل هذا يدل على أن الكبير في الفضل أو السن يجب تنبيهه إذا خالف شيئاً من الحق ، وكذلك غضب r على عمر عندما خاصم الصديق وقال: [أما أنتم بتاركي لي صاحبي] (165) .(57/208)
10) تعليم الناس ما ينفعهم ويحتاجون إليه:
قال العلامة عبد الرحمن بن حسن (رحمه الله) : "وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله -يعني الإمام محمد بن عبد الوهاب- لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم وعباداتهم ، ومعاملاتهم مما لا غنى لهم عن معرفته" (166).
وإذا سأل العامي عن أمور لا يحتاج إليها فإنه ينبغي للمعلم أن يفتح له باباً إلى ما يهمه. قال الإمام محمد بن عبد الوهاب ( رحمه الله ) : "وينبغي للعالم إذا سأله العامي عما يحتاج إليه ، أو سأله عما غيره أهم منه ، أن يفتح له باباً إلى المهم ، ولا يحقر عن التعليم من يظنه أبعد الناس عنه ، ولا يستبعد فضل الله عليه" (167) .
11) تعليم الناس على قدر أفهامهم:
وينبغي للعالم أن يخاطب الناس كلاً على قدر فهمه..
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب ( رحمه الله ) : "فينبغي للمعلم أن يعلم أن الإنسان على قدر فهمه ، وإن كان ممن يقرأ القرآن ، أو عرف أنه ذكي فيعلم أصل الدين وأدلته والشرك وأدلته ، ويقرأ عليه القرآن ويجتهد أن يفهم القرآن فهم قلب ، وإن كان رجلاً متوسطاً ذكر له بعض هذا ، وإن كان مثل غالب الناس ، ضعيف الفهم ، فيصرح له بحق الله على العبيد ، مثل ما ذكر صلى الله عليه وسلم على المسلم ، وحق الأرحام ، وحق الوالدين ، وأعظم من ذلك حق النبي صلى الله عليه وسلم " (168 ) .
12) عدم تضييع الزمان في إبطال الشبه الواضحة البطلان:
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب ( رحمه الله ) : "إن الشبهة إذا كانت واضحة البطلان لا عذر لصاحبها فإن - معه في إبطالها تضييع للزمان وإتعاب للحيوان مع أن ذلك لا يردعه عن بدعته.. وكان السلف لا يخوضون مع أهل الباطل في رد باطلهم عنهم" (169) .
أما إذا كانت الشبهة قد أشكلت على المتعلم أو الناس واحتاجوا إلى إبطالها وجب حينئذ على أهل العلم ردها وتفنيدها وإبطالها بالحجج الدامغة لئلا تستقر في صدورهم فتورث الشك والاضطراب أو الحيرة والارتياب.
ب) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الميدان الثاني من ميادين الدعوة إلى الله وهو من فروض الكفايات على الأمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه ، بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن".
ولكنه واجب عيني على أولى الأمر من المسلمين وهم الأمراء العلماء كما قال شيخ الإسلام أيضاً: "ويجب على كل أولي الأمر وهم علماء كل طائفة ومشايخها أن يقوموا على عامتهم ، ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر" (170) .
والمعروف: هو كل ما يحبه الله ويرضاه ويأمر به.
والمنكر: يعم كل ما كرهه الله ونهى عنه.
وهذه أهم قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
1) لا تأمر بمعروف ولا تنه عن منكر إلا بعد العلم بما تأمر به وتنهى عنه:
لا يجوز لمن يأمر بالمعروف أن يقدم على ذلك إلا إذا علم أن ما يأمر به هو من المعروف حقاً ، ولا ينهى عن منكر إلا إذا علم أن ما ينهى عنه هو من المنكر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : "والله سبحانه وتعالى قد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر به.. والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته فمن لم يعلمه لا يمكنه النهي عنه" (171).
وقال النووي (رحمه الله) : " ثم أنه إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه ، وذلك يختلف باختلاف الشيء ، فإن كان من الواجبات الظاهرة ، والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام و الزنا ، الخمر ونحوها ، فكل المسلمين علماء بها.
وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ، ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ، ولا لهم إنكاره ، بل ذلك للعلماء ".
ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه أما المختلف فيه فلا إنكار فيه ، لأن على أحد المذهبين : كل مجتهد مصيب ، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم .
وعلى المذهب الآخر: المصيب واحد ، والمخطئ غير متعين لنا والإثم مرفوع عنه ، لكن إن ندبه - على جهة النصيحة - إلى الخروج من الخلاف ، فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف ، إذا لم يلزم منه إخلال بسنة ، أو وقوع في خلاف آخر.
وذكر القاضي أبو الحسن الماوردي البصري الشافعي في كتابه الأحكام السلطانية خلافاً بين العلماء في أن من قلده السلطان الحسبة هل له أن يحمل الناس على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء إذا كان المحتسب من أهل الاجتهاد ، أم لا يغير ما كان على مذهب غيره.. والأصح أنه لا يغير لما ذكرناه.
ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين.. ولا ينكر محتسب ولا غيره ، وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً ، أو إجماعاً أو قياساً جلياً . والله أعلم (172).
2) اتخاذ إحدى مراتب الإنكار اتباعاً للحكمة والقدرة:(57/209)
وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم [من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان] (173)..
فالإنكار باليد أعلى درجات الإنكار وهو (لأولي الأيدي والأبصار) أهل القوة والتمكن والقدرة فمن لم يستطع لسبب أو آخر تحول إلى الإنكار باللسان ، ذماً للمنكر وأهله ، وبياناً لفساده ، وتحذيراً منه ، فإن لم يستطع تحول إلى الإنكار بقلبه بغضاً للمنكر وأهله ، ومفارقة لمجالسهم كما قال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}(174).
ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات ، بل هو ثابت لآحاد المسلمين وعليه إجماع المسلمين فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم ، وهذا إجماع من الأمة على ذلك وأدلة القرآن والسنة شاهدة بذلك.." أ.هـ (175).
3) وجوب اتباع المصالح الشرعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ومما يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يعلم المصالح والمفاسد الشرعية التي تترتب على أمره ونهيه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : "وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد.
فإن الأمر والنهي - وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة- فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح ، أو يحصل من المفاسد أكثر ، لم يكن مأموراً به ، بل يكون حراماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.
لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، ولن تعوز النصوص من يكون خبيراً بدلالاتها على الأحكام.
ومن هذا الباب ترك صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي سلول وأمثاله من أئمة النفاق والفجور، لما لهم من أعوان فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم ، وبنفور الناس إذا سمعوا أن رسول ا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه ، ولهذا لما خطب الناس في قضية الإفك بما خطبهم به ، واعتذر عنه ، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه ، حمي له سعد بن عبادة ، مع حسن إيمانه وصدقه - وتعصب لكلٍ منهم قبيلته حتى كادت تكون فتنة"(176) .
4) وجوب إخلاص النية والبعد عن الهوى:
يجب على من يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عمله لله خالصاً ، وأن يكون صواباً ، وألا يتبع هواه ، ويأمر أو ينهى لحظ نفسه ، وذلك أن الضلال في الدين عظيم ، ومن فقد الإخلاص ، ولم يتحر الصواب أوقعه الشيطان في الهوى ، ومن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: "و اتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات"
فإن أهل الكتاب اتبعوا أهواءهم فضلوا. قال تعالى عنهم {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين}(177) .
ولذلك نهى نبينا أن يتبع أهواء أهل الكتاب ، قال تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير} (178).
فاتباع الهوى هو الذي أفسد الديانات السابقة ، وأوجد الفرقة بين أهل الدين الواحد ، وهو الذي خرج به من خرج عن موجب الكتاب والسنة وسماهم علماء الإسلام أهل الأهواء..
فيجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون باعثه إخلاص النية ، وعمله على الكتاب والسنة وأن يجانب الهوى ، وإتباع الهوى هو أن يحب ويبغض بدافع من هواه لا إتباعاً للأمر والنهي.
5) الرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يجب أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر رفيقاً كما قال صلى الله عليه وسلم [ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه] (179).
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم [إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف].
ولهذا قيل: [ليكن أمرك بالمعروف معروفاً ونهيك عن المنكر غير منكر] (180) .
هذا وينظر كذلك إلى المبحث الخاص بالصفات التي يجب أن يتحلى بها الخطيب الداعي في دعوته إلى الله والتي سبق لنا أن سردناها بشي من التفصيل ..
مبحث
الدعوة الفردية
المراد بالدعوة الفردية : دعوة الأفراد ، أي: دعوة الناس منفردين ، فالفردية هنا من حيث المدعو ، ويقابل هذا : دعوة الناس مجتمعين من خلال الدروس والمحاضرات ؛ و لا نريد به العمل الفردي الذي يقابله العمل الجماعي.
فضل الدعوة إلى الله: وردت أحاديث كثيرة في فضل الدعوة الله تبارك وتعالى نذكر شيئاً منها:(57/210)
* عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمقَالَ: [ مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا...] رواه مسلم .
* وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلميَوْمَ خَيْبَرَ لِعَلِيّ : [ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ] رواه البخاري ومسلم .
فوائد الدعوة الفردية
? تربي الأفراد تربية متكاملة ، فلا تقتصر على جانب واحد وتهمل الباقي ، وهذا ما يسمى بالشمولية في التربية ؛ ولأن الدعوة الجماعية لا يمكن أن تتتبع أخطاء الأفراد خطأً خطأ ، بل نجد أن الدعوة الفردية من خلالها يمكن التنبيه على كثير من الأخطاء التي يقع فيها الأفراد ، وبهذا يمكن استكمال التربية.
?بالدعوة الفردية يمكن متابعة التطبيق العملي للتوجيهات الملقاة على الأفراد.
? بالدعوة الفردية يمكن الرد على كثير من الشبهات التي تُلْقى على مسامع الأفراد ، والتي لا يمكن التحدث بها في الدعوة الجماعية .
?بالدعوة الفردية يمكن غرس المبادئ الإسلامية الصحيحة ، والتحدث عنها بكل جدية ووضوح ، إذا جاء الوقت المناسب لكل مبدأ .
?بالدعوة الفردية يمكن إيصال الحق إلى الذين نفروا - أو نُفِّرُوا - عن سماعه ، وعن مجالسة أهله.
?إن هذا النوع من أنواع الدعوة طريقة سريعة لكسب أكبر عدد من أنصار الدين .
?يمكن متابعة الأفراد متابعة دقيقة ، بخلاف الدعوة الجماعية فإنه لا يمكن متابعتهم.
? هذا النوع من أنواع الدعوة لا يحتاج إلى غزارة علم بقدر ما يحتاج إلى حكمة في الدعوة ، فيمكن أن يقوم به أفراد محبون للدعوة .
? الدعوة الفردية لا تحتاج إلى كثير معاناة فهي سهلة ، ويمكن أن يقوم بها كل داعية من خلال عمله ، فالطالب في مدرسته ، أو كليته ، والموظف في مكتبه ، والعامل في مصنعه ...وهكذا .
حالات الدعوة الفردية: هناك بعض الحالات تستلزم من الداعية أن يستخدم فيها الدعوة الفردية ؛ لأن الدعوة الجماعية لا تجدي في مثل تلك الحالات ، وإن كانت الدعوة الجماعية أيسر ، وروادها أكثر ، وسنذكر بعض هذه الحالات التي يجب استخدام الدعوة الفردية فيها:
? المكانة الاجتماعية للمدعو:إن بعض الأفراد يكون معتزاً بوضعه الاجتماعي ويرى أنه لو خالط عامة الناس في تجمعاتهم لذهبت تلك المكانة التي يتمتع بها، وهذا لا يكون إلا لأنه غير ملتزم بالشرع التزاماً كاملاً، ففي مثل هذه الحالة يجب أن يستخدم الداعية الدعوة الفردية.
?جليس السوء : إن البيئة التي يعيش فيها المدعو لها تأثير على شخصيته ، فمن خالط جلساء السوء ؛ انحرفوا به عن الجادة ، فالمرء على دين خليله ؛ ولذلك فمن كانت هذه حالته فإنه يصعب التأثير عليه ؛ نظراً لتكاتف رفقة السوء عليه ، ولقلة حيائهم ، ومجاهرتهم برد الحق ، وتفاخرهم بارتكاب المعاصي والآثام . ففي هذه الحالة يجب الانفراد بالمدعو بعيداً عن هذه الرفقة السيئة حتى يمكن التأثير عليه إن شاء الله تعالى .
?الحالة النفسية للمدعو: إن من الأسباب العائقة عن الهداية نفور المنحرفين من الدعاة والمتمسكين بالدين ، فهؤلاء يصعب دعوتهم إلى محاضرات عامة ، فيلزم على الداعية أن يستخدم معهم الدعوة الفردية حتى يبين لهم الحق ، ثم إن هداهم الله تعالى يمكن أن ينخرطوا ضمن الدروس العامة.
? معالجة جوانب النقص في الأفراد : قد يكون عند بعض الأفراد جوانب نقص ، أو عيوب شخصية ، ولهذا لا يمكن أن تعالج هذه الأمور ضمن الدعوة الجماعية ، بل يجب أن يستخدم الداعية الدعوة الفردية لمناقشة المدعو ، وتبصيره بهذه الأمور .
أطوار الدعوة الفردية: هناك مراحل ينبغي أن تمر فيها الدعوة الفردية إذا أراد الداعية أن تؤتي دعوته ثمرتها . وهذه المراحل تختلف من مدعو إلى آخر ، فمنهم من يتدرج معه حسب ما سطرناه ها هنا - وهذا أمر اجتهادي - ومنهم من يمكن أن يتجاوز بعض الأطوار. وهذا الأمر راجع إلى الداعية نفسه ، فهو الذي يختار كيف يتعامل مع مدعوه ، فمتى عرف أنه لا بد أن يمر مع المدعو بكل الأطوار مر معه ، ومتى عرف أنه يمكن أن يتجاوز أي طور من الأطوار التي سنذكرها ، فلا يضيع الوقت فيما لا فائدة فيه .
وإليك هذه الأطوار:
* الطور الأول: أن يوجد الداعية صلة تعارف مع المدعو بحيث يشعره بأنه مهتم به ، وذلك بتفقده ما بين الحين والآخر ، والسؤال عنه إذا غاب ، وزيارته إذا مرض هذا كله قبل أن يفتح عليه باب الدعوة ، حتى إذا صارت القلوب متقاربة ، والأرواح متآلفة ، ووجد التهيوء من المدعو لتقبل دعوة الداعية طرق الكلام فيما يريد ، وليعلم الداعية أنه بقدر نجاحه في هذا الطور مع المدعو يكون التأثير والاستجابة للدعوة ، وأي تسرُّع في هذا الطور قد يحدث النفرة من المدعو.(57/211)
* الطور الثاني: على الداعية أن يعمل على تقوية الإيمان عند المدعو ؛ وذلك أن أصل الإيمان في الغالب موجود إلا أنه تتفاوت نسب الضعف من شخص إلى آخر . وإذا أراد الداعية أن يعالج هذه القضية فعليه أن لا يدخل في الحديث عن الإيمان مباشرة بل عليه أن يستغل الأحداث بمختلف أنواعها ، وأن يربطها بالأدلة الواردة في القرآن والسنة، فمثلاً: حصل مولود لشخص ، فيبدأ الداعية بالكلام حول خلق الله لأبينا آدم ، ثم كيف أن الله جعل ذريته من ماءٍ مهين ، وكيف جعل رحم المرأة مكاناً لنشوء الجنين ، وكيف أوصل له غذاءه طيلة تسعة أشهر ، ثم كيف خرج ... إلى آخر ذلك. مع ربط جميع المراحل بالقرآن والسنة ، فإنه ما ينتهي من كلامه- إن شاء الله - إلا وقد بدأ الإيمان بالازدياد عند المدعو ، مما يجعله متقبلاً لكل ما يلقى عليه ، فإذا شعر الداعية بأن المدعو بدأ يتأثر بكلامه ، وارتفع نوعاً ما ، انتقل به إلى الطور الثالث .
* الطور الثالث: يبدأ الداعية في إعطاء التوجيهات للمدعو التي من شأنها أن تصلح من عبادة المدعو وسلوكه ومظهره ، فلربما كان في عبادته كثير من الأخطاء ، أو أنه لا يصلي الصلوات في جماعة والمسجد منه قريب ، وكذلك يعرفه على العبادات المفروضة ، فيعلمه كيفية الوضوء ، وكيفية الصلاة ، ويأمره بالابتعاد عن السبل التي توصله إلى سخط الله عز وجل.
وأما إذا كان محافظاً على الجماعة ، ولكن عنده بعض التقصير فليعمل الداعية على تبصير المدعو بالمعتقد السليم الذي هو معتقد السلف الصالح رضوان الله عليهم .
ويحسن بالداعية أن يبدأ بإهداء وإعارة بعض الكتب والأشرطة النافعة في مجال العقيدة والإيمان، والترغيب والترهيب ... الخ.
ويعرفه على بعض الشباب الصالحين، ويأمر الشباب الملتزم بالإحاطة بهذا الفرد حتى لا يترك مجالاً لقرناء السوء من اجتذابه مرة أخرى . وبهذا نضمن بإذن الله تعالى استمرارية استقامة المدعو .
* الطور الرابع: يبدأ الداعية بتوضيح شمولية الإسلام ، وأنه ليس مقصوراً فقط في الصلاة والصوم ، بل إن الإسلام يجب أن يحكم في كل صغيرة وكبيرة . وبهذا يكون المدعو في هذا الطور قد حول جميع حركاته وسكناته وفق شرع الله عز وجل.
* الطور الخامس: وفيه يوضح للمدعو أن الإسلام ليس معناه أن نكون مؤدين للعبادات متخلقين بالأخلاق الفاضلة وإلى هنا ننتهي،
بل يجب أن يوضح له أن الإسلام دين جماعي ، نظام حياة وحكم وتشريع ، عقيدة وأخلاق ، ودولة وجهاد ، وأمة واحدة ، وأن المسلم لا يمكن أن يكون آخذاً للإسلام من جميع جوانبه إلا إذا فهم هذا الفهم السليم . فإذا فهمنا هذا الفهم السليم للإسلام ، فإنه سيملي علينا مسئوليات وواجبات يجب أن نقوم بتأديتها امتثالاً لأمر الله حتى يقوم المجتمع على القواعد الصحيحة للإسلام في جميع النواحي السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ...الخ.
* الطور السادس: يوضح للمدعو ما يستوجبه الواقع الذي تمر به الدعوة إلى الله، وأنها محتاجة إلى تكاتف الجهود ، ولَمِّ الشمل ، ووحدة الصف ، والعلم حتى يتمكن المسلمون من إعادة الخلافة الإسلامية التي كاد لها أعداء الله من الداخل والخارج حتى أطاحوا بها . ومنذ ذلك الحين والمسلمون يعيشون في هذا الذل والهوان حتى صار أعداؤهم لا يبالون بهم وهذا كله نتيجة أن المسلمين رضوا بدنياهم ، وابتعدوا عن العمل بكتاب الله ، وعن سنة نبيهم ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ، ولهذا يَقُولُ صلى الله عليه وسلم [ إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ](181) . فإذا أردنا العزة والتمكين ، وتغيير الأحوال إلى الأصلح ، وإقامة الدولة الإسلامية ، فعلينا أن نبدأ بإصلاح أنفسنا وأهلينا ومجتمعنا ؛ لأن الله يقول:} إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ { (182).
* الطور السابع: يحمس المدعو لطلب العلم ؛ لأنه لا يمكن أن يعبد الله كما أمر سبحانه إلا بالعلم ، فيُرَغِّب المدعو بمجالسة العلماء العاملين من أهل السنة والجماعة ، أصحاب المنهج السليم ، ويشعره إذا وجدت محاضرات ، أو جلسات خاصة سواء كان ذلك بالمرور عليه ، أو بالهاتف كما يحثه على اقتناء الكتب النافعة ، وكذا الأشرطة والمجلات ... الخ .
وينبه المدعو إلى أن خير السبل هي سبيل رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وهي سبيل العلم وتربية المجتمع مع تصفيته ، وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها . وأنه مهما حاول المحاولون الذين ابتعدوا عن هذا المنهج أن يعيدوا الخلافة الإسلامية ، فإنما مثلهم مثل من يبني بناية على شفا جرف هار يوشك أن يقع(183).
مبحث
'أساليب الدعوة ووسائلها '
ثالثاً : وسيلة الخطاب ، أو الدعوة منهاجها .
==========================
تمهيد :(57/212)
قد تكون المشكلة اليوم ، هي الخلل في معادلة الدعوة والعمل الإسلامي ، الذي حال دون نمو الاختصاصات ، والتنبه لها بشكل مبكر ، والعجز عن استشراف المستقبل والتحديات المحيطة ، والإبقاء على الوسائل البدائية في الدعوة والبلاغ المبين ، والتوهم بأن الوسائل من الثوابت والمقدسات ، التي لا يجوز تطويرها أو حتى مراجعتها ودراسة جدواها ، وبذلك أصيبت أجهزة الدعوة على يد أصحابها أكثر مما أصيبت على يد أعدائها ، وبدأ دور الإسلام يتضاءل ويتراجع ، وينفصل عن الحياة إلي درجة يمكن أن نقول معها ، إن المنبر انفصل عن المصلين في داخل المسجد ، قبل أن ينفصل عن صياغة المجتمع خارج المسجد ، فافتقدنا فاعلية ما نملك !!.
قال سيد قطب (رحمه الله) :' يجب أن يعرف أصحاب هذا الدين جيدًا أنه كما أن هذا الدين رباني ، فإن منهجه في العمل منهج رباني كذلك ، متوافق في طبيعته ، وإنه لا يمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في العمل ! .
فالدعاة حين يدعون الناس إلى الله بالخروج من طاعة غير الله إلى طاعته وحده ، ورفض شرائع العبد والتزام شرعه وحده ، يشعرون بتناقض ـ حين يكون إحساسهم مرهفًا ـ بين ما يدعون الناس إليه وما يبتدعونه لأنفسهم من وسائل الوصول ، إذ يكون الهدف ربانيًا والطريقة بشرية ! .
أما حين تكون الطريقة أيضًا ربانية ؛ فإن الانسجام بينها وبين الغاية يصبح حقيقة واقعة. كذلك يشعر الدعاة ـ حين يكون فهمهم ربانيًا ـ أنهم موصولون وأنهم سائرون على قدم الرهط الكريم من الأنبياء والرسل ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ فتمتليء أرواحهم بالأنس ، ونفوسهم بالبهجة ، ويستهينون بالصعاب حين يرون في الأفق البعيد موكب السادة العظماء عليهم الصلاة والسلام.
إذن لو أردنا معرفة المنهج فإننا لا نستطيع معرفته إلا من خلال الأسلوب النبوي في تربية ذلك الجيل السامق الفريد ، وأسلوب الصحابة والتابعين بإحسان ، ومن التجارب ، فالحكمة ضالة المؤمن يأخذها من أي وعاء خرجت ، أما كيفية الاستقاء فالمرجع فيها هو القرآن ، والسيرة الكريمة في مكة والمدينة ، والسنة عمومًا. فتؤخذ النصوص بجملتها وتكون أساسًا لمنهج تربوي تفصيلي ، دون طمس لأي جانب ، ودون إبراز لجانب على حساب جانب ، فلا نريد أن نعلي من شأن الجانب الروحي على حساب الجانب الفكري ، والعملي ، والحركي الجهادي ، ولا هذا على ذاك بل خطوط متوازية متكاملة تكوّن تلك الشخصية المتكاملة .
ولذا سوف يدور هذا المبحث حول عدد من النقاط نجملها ثم نفصل الحديث عنها لاحقاً ونسأل الله العلي القدير التوفيق والسداد وهي :
?المنابر المتاحة والتقصير الواضح . ? مراعاة مقتضى حال المدعو .
? اللغة . ?انتهاز الفرص .
?أشغال الناس عن الفكرة الباطلة بالفكرة الصحيحة . ?البعد عن التعصب المقيت.
?المنابر المتاحة والتقصير الواضح :
فلو أحصينا عدد منابر الجمعة اليوم في العالم الإسلامي ، التي يبدأ بناء مساجدها إلي جوار أول بيت في القرية ، ويمتد إلي كل حي في المدينة - وخطبة الجمعة والسعي إليها ، والسماع لها دون لغو أو انصراف من فروض الدين - لأدركنا أهمية المواقع والوسائل الخطابية التي نمتلكها ، وما يمكن أن تفعله في العالم لو كنا في مستوى المسؤولية المنوطة بنا ، واستشعرنا التحدي الذي يواجهنا … والمنبر ، بعض أشياء المسجد ، ووسائله ، فإذا أضفنا إلي ذلك المحراب وعطاءه خمس مرات يوميا ، يتلو المعجزة البيانية على عقول وقلوب الأمة ، وشعيرة الأذان التي تعلن بالمرتكزات الأساسية للعقيدة والرسالة الخاتمة ، تنادي الناس وتوقظ النيام كلما كادوا يغفلون ، لأدركنا أي تخاذل في الخطاب ، وأي عطالة فكرية نعيشها ، الأمر الذي يقتضي أن نؤدب على معاصينا أكثر مما نحن فيه .
ولعل بعض وسائل وأساليب الخطاب الإسلامي المعاصر ، تؤثر سلبا على مسار الدعوة الإسلامية ومواقف الناس منها ، وذلك عندما يكون سيئا ، أو جاهلا ، أو غبيا ، أو ساذجا ، فيسيء إلي الإسلام وعظمته ، ويزهد الناس فيه ، ويخوفهم منه ، يجعلهم يتوهمون أن حالتهم أفضل مما يدعون إليه .
لذلك نقول : إن الخطاب الإسلامي المعاصر لم يتمكن من استيعاب أقرب الناس إليه ، أو أكثرهم استعدادا للتجاوب معه ، وهم جمهور المسجد ، علاوة عن كسب الآخرين … فهو خطاب أقرب إلي السلبية ، والجزئية ، والأحادية ، والارتجال ، والحماس ، والذاتية ، منه إلى التفاعل مع هموم الأمة .
ولذا لو نظرنا إلى عالمنا الإسلامي اليوم سنجد عجباً ، فنحن اليوم يكثر فينا الخطباء ، ويغيب عنا الفقهاء ، بالمعني العام لكلمة الفقه ، لا نزال نفتقد الكوادر البشرية المسلمة المتخصصة والمدربة ، على الرغم من هذا التاريخ العريق في الدعوة ومسؤولية البلاغ المبين .(57/213)
لقد استطاع المسلمون في جيل القدوة أن يوظفوا كل الإمكانيات المتاحة للخطاب ، فوقفوا على أعلى مكان ، ورفعوا أصواتهم إلي القدر المستطاع لإيصال صوت الإسلام بالأذان … ووقف الرجال من حول الرسو صلى الله عليه وسلم يبلغون صورته وتعاليمه إلى أسماع لم يصلها الكلام ، سواء كان ذلك في الخطبة ، أو الدرس ، أو الصلاة … استخدموا كل ما هو متاح في البيئة المحيطة بهم من الوسائل الممكنة ، وكانوا في مستوى إسلامهم وعصرهم … لكن للأسف ، توقف المسلمون ، وتطورت وسائل الإعلام على أيدي غيرهم .
? مراعاة مقتضى حال المدعو :
لقد كان الرسو صلى الله عليه وسلم يتخول الناس بالموعظة مخافة السامة … عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ(184)y يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلميَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا(185).
وكان يحذر أصحابه الذين يطيلون في العبادة حتى تشق على الناس ، من فتنتهم عن دينهم … عَنْ جَابِرٍ y قَالَ كَانَ مُعَاذٌy يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ، ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ . فَقَالُوا لَهُ : أَنَافَقْتَ يَا فُلَانُ؟!. قَالَ : لَا وَاللَّهِ ، وَلَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمفَلَأُخْبِرَنَّهُ ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمفَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ(186) نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ ، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ ، ثُمَّ أَتَى فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ . فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمعَلَى مُعَاذٍ فَقَالَ : [ يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ اقْرَأْ بِكَذَا وَاقْرَأْ بِكَذَا ] قَالَ : سُفْيَانُ فَقُلْتُ لِعَمْرٍو : إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ حَدَّثَنَا عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . فَقَالَ عَمْرٌو: نَحْوَ هَذَا (187).
وكان الإمام علي رضي الله عنه يوصي بمخاطبة الناس على قدر عقولهم ويقول مستنكرا : « أتحبون أن يكذب الله ورسوله » ؟ !(188).
وتعريف البلاغة - كما هو معلوم - هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال (189)… فأين واقع الإعلام الإسلامي من حال المتلقي ؟!.
ومع ذلك ، لا نزال في دعوتنا وخطابنا الإسلامي ، إن صح التعبير ، نلقي الكلام على عواهنه دون أية دراية بمقتضى الحال ، حتى أصبح عندنا : كل مقال يصلح لكل مقام ، وكل إنسان يصلح لكل عمل ، وكأننا نعيش غربة الميراث الثقافي الإسلامي ، وكيفية الإفادة منه ، وغربة العصر وفهمه ، وكيفية التعامل معه .
? اللغة :
إن عالمية الرسالة تقتضي عالمية الخطاب ، وعالمية الخطاب لا تبلغ مداها المطلوب ما لم تكن عندنا القدرة أولا على فهم العالم بعقائده ، وثقافاته ، وتاريخه ، وحاضره ، ومشكلاته ، وتطلعاته ، وفهم الكيفيات والآليات التي يتم من خلالها تشكيل الرأي العام ، وشروط تغيره ، والتأثير عليه ، كأمور لا بد منها لتحديد المداخل الحقيقية للخطاب ، كما لا بد لنا من التمكن من لغات الخطاب العالمية لنكون في مستوى التكليف في قوله تعالي : « وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم » (190)… فاللغة هي المفتاح الأول ، ووسيلة الفهم بأحوال المخاطب.
?انتهاز الفرص :
فاستغلال الحوادث التي تمر علينا ، مهمة كبيرة من مهام التربية ، ووسيلة من وسائل الخطاب الناجح ، ينطبع أثرها في نفس المدعو ، فلا يزول أثرها بسهولة . فالخطيب الفطن لا يترك الأحداث تذهب سدى بغير عبرة وبغير توجيه ، وإنما يستغلها لتربية النفوس وصقلها وتهذيبها . و كان القرآن ينزل مع الأحداث ، فيؤثر في النفوس أبلغ التأثير.
?أشغال الناس عن الفكرة الباطلة بالفكرة الصحيحة .(57/214)
من وسائل الدعوة الناجحة لفت النظر إلى الأخطاء من طرف خفي ، وإن كان الداعية مخطئًا فليسلِّم بخطئه ، ولا يواجه من معه باللوم والتعنيف عندما يخطئون ، فإنَّ ذلك يضر ولا يجدي ، والداعية لا يستنكف عن مجاهدة نفسه فيما يحب ويكره ، فإن كنت مخطئًا فقل: 'إني أرى هذا الرأي فقد أكون مخطئًا' أو أرجو منك أن تصحح خطئي إن كنت مخطئًا ، فكثيرًا ما أخطيء ، فهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول:'رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبي' ويتجنب الداعية النصح في مكان عام بين الناس ، ولكن يجعل نصيحته سرًا ، فإنها أبلغ في التأثير.
?البعد عن التعصب المقيت : من وسائل الدعوة الناجعة و المؤثرة ، والتي يغفل عنها الكثيرون ، وينبغي أن يعلم أن التعصب صفة ذميمة ، تحمل الإنسان على إتباع الهوى ، وتدفعه إلى الميل عن جادة الصواب ، وتحجب عينيه عن رؤية الحق ، فيخبط خبط عشواء ، وقد ذمَّ العلماء التعصب وحاربوه، وهذه بعض عباراتهم في ذلك :
قال أبو نُعيم :( قاتل الله التعصب ما أشنع إخساره في الميزان ) (191).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله ، فهو من عمل الجاهلية ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ] (192) .
وقال الشوكاني :[ والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً ، فبصيرته عمياء وأذنه عن سماع الحق صماء ، يدفع الحق ، وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل ، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق ، غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح ، وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم ، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع ، فإنه صار بها باب الحق مرتجاً ، وطريق الإنصاف مستوعرة ، والأمر لله سبحانه والهداية منه
يأبى الفتى إلا إتباع الهوى ومنهج الحق له واضح ]( 193)
وقال الشوكاني أيضاً :[ فعليك أيها العامل بالكتاب والسنة ، المبرأ من التعصب والتعسف ، أن تورد عليهم حجج الله ، وتقيم عليهم براهينه ، فإنه ربما انقاد لك منهم ، من لم يستحكم داء التقليد في قلبه ، وأما من قد استحكم في قلبه هذا الداء ، فلو أوردت عليه كل حجة ، وأقمت عليه كل برهان ، لما أعارك إلا أذناً صماء ، وعيناً عمياء ، ولكنك قد قمت بواجب البيان الذي أوجبه عليك القرآن ، والهداية بيد الخلَّاق العليم :( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (194)].
وقال العلامة ابن القيم :[ ومنها الدعاء بدعوى الجاهلية ، والتعزي بعزائهم ، كالدعاء إلى القبائل والعصبية لها وللأنساب ، ومثله التعصب للمذاهب والطرائق والمشايخ ، وتفضيل بعضها على بعض ، بالهوى والعصبية ، وكونه منتسباً إليه ، فيدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي عليه ، ويزن الناس به ، كل هذا من دعوى الجاهلية ] (195).
وقال الزرقاني :[ واعلم أن هناك أفراداً ، بل أقواماً تعصبوا لآرائهم ومذاهبهم ، وزعموا أن من خالف هذه الآراء والمذاهب ، كان مبتدعاً متبعاً لهواه ، ولو كان متأولاً تأويلاً سائغاً ، يتسع له الدليل والبرهان كان رأيهم ومذهبهم هو المقياس والميزان ، أو كأنه الكتاب والسنة والإسلام ، وهكذا استزلهم الشيطان ، وأعماهم الغرور ، ولقد نجم عن هذه الغلطة الشنيعة ، أن تفرق كثير من المسلمين شيعاً وأحزاباً ، وكانوا حرباً على بعضهم وأعداءً ، وغاب عنهم أن الكتاب والسنة والإسلام ، أوسع من مذاهبهم وآرائهم ، وأن مذاهبهم وآرائهم أضيق من الكتاب والسنة والإسلام ، وأن في ميدان الحنيفية السمحة ، متسعاً لحرية الأفكار ، واختلاف الأنظار ، ما دام الجميع معتصماً بحبل من الله ، ثم غاب عنهم أن الله تعالى يقول:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا )(196). ويقول جل ذكره :( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (197). ويقول تقدست أسماؤه : ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ )(198).(57/215)
لمثل هذا نربأ بأنفسنا وبإخواننا أن نتهم مسلماً بالكفر أو البدعة والهوى ، لمجرد أنه خالفنا في رأي إسلامي نظري ، فإن الترامي بالكفر والبدعة من أشنع الأمور ، ولقد قرر علماؤنا أن الكلمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعين وجهاً ، ثم احتملت الإيمان من وجه واحد ، حملت على أحسن المحامل ، وهو الإيمان وهذا موضوع مفروغ منه ، ومن التدليل عليه ، لكن يفت في عضدنا غفلة كثير من إخواننا المسلمين ، عن هذا الأدب الإسلامي العظيم الذي يحفظ الوحدة ، ويحمي الأخوة ، ويظهر الإسلام بصورته الحسنة ، ووجهه الجميل من السماحة واليسر ، واتساعه لكافة الاختلافات الفكرية ، والمنازع المذهبية والمصالح البشرية ، ما دامت معتصمة بالكتاب والسنة ، على وجه من الوجوه الصحيحة التي يحتملها النظر السديد ، والتأويل الرشيد ، ولقد حدث مثل هذا الاختلاف على عهد رسول الله بين أصحابه ، فما تنازعوا من أجله ، بل أخذ كل برأيه ، وهو يحترم الآخر ورأيه ، وأقرهم الرسو صلى الله عليه وسلم على ذلك ، ولم يُعِبْ أحداً منهم على رغم أنه يترتب على بعض هذه الاختلافات أن ترك بعضهم الصلاة في وقتها اجتهاداً منه… ] (199) .
وقال الإمام ابن عبد الهادي الحنبلي :( وما تحلى طالب العلم بأحسن من الإنصاف وترك التعصب ) (200).
وقال العلامة ابن القيم في نونيته :
وتعرَّ من ثوبين من يلبسهم يلقى الردى بمذمةٍ وهوان
ثوب من الجهل المركب فوقه ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحلَّ بالإنصاف أفخر حلة زينت بها الأعطاف والكتفان
واجعل شعارك خشية الرحمن مع نصح الرسول فحبذ الأمران(201)
? كسب قلوب الناس :
فإن كسب قلوب الناس ليكونوا بعد ذلك للدعوة محبين وإليها مقبلين ولجندها مناصرين من الموضوعات المهمة التي ينبغي أن يوليها الدعاة عنايتهم واهتمامهم .. وأن يكون لها نصيب كبير من تفكيرهم وتخطيطهم ..
وتأتي أهمية هذا الموضوع من جوانب عدة منها :
أولاً : أن كسب قلوب الناس طريق ووسيلة إلى تقبلهم الحق وبعض الناس معرض عن دعوة الله لعدم انسجامه مع الداعية نتيجة لبعض تصرفاته الخاطئة وقد ثبت عن صلى الله عليه وسلم أنه قال (( يا أيها الناس إن منكم منفرين ))(202) .
ثانياً: صنف من الدعاة لا يهتم بمعاملة الناس ولا يبالي بموقف الناس منه ولهذا نشأت بينه وبينهم هوة كبيرة حالت دون تبليغ دعوة الله في الوقت الذي نجد فيه بعضاً من أصحاب الأفكار المنحرفة أوجدوا لأفكارهم أتباعاً ولمبادئهم جنوداً وأنصاراً لأنهم عرفوا كيف يتعاملون مع الناس فكسبوا قلوبهم وحركوا نفوسهم إلى ما لديهم من باطل .
ثالثاً : أن كسب الدعاة لقلوب الناس يبدد الجهود المضنية لأعداء الدين على اختلاف مشاربهم وتباين نحلهم والتي يبذلونها في تشويه صورة دعاة الحق بما يبثونه من إشاعات وافتراءات كاذبة عبر وسائل الإعلام المختلفة.. فمعاملة الداعية للناس معاملة الأب الشفيق الرحيم الذي يحرص عليهم كما يحرص على نفسه ويحب لهم ما يحب لها يسد الأبواب أمام أهل الباطل فلا يستطيعون النيل منه أو إثارة الشبهات حوله..
رابعاً: حاجة الدعوة للتفاعل مع الناس ، وهذا التفاعل لن يثمر الثمار المرجوة منه إلا إذا أخذنا بأساليب كسب القلوب التي سنها لنا الرسول صلى الله عليه وسلم وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه قال: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" (203)
خامساً: أن قيام الدعاة بكسب قلوب الناس من حولهم يزيد في ترابط أفراد المجتمع المسلم ، ويجعلهم أفراداً متراحمين متعاطفين وهذا مطلب شرعي في حد ذاته: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(204) .
وهنا سؤال كبير فحواه كيف نكسب القلوب ؟!!
للإجابة عن هذا السؤال نطرح مجموعة من الوسائل لكسب ود الناس وحبهم ، وقد استقينا بعضها من رسالة للأخ / مازن بن عبد الكريم الفريح جزاه الله خيراً .
? الوسيلة الأولى: خدمة الناس وقضاء حوائجهم :
جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ، والميل إلى من يسعى في قضاء حاجاتها ؛ ولذلك قيل:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
وأولى الناس بالكسب هم أهلك وأقرباؤك ؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"(205). وعندما سئلت عائشة- رضي الله عنها- : مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلميَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ ؟ .قَالَتْ : كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ (206).(57/216)
ومنا من لا يبالي بكسب قلوب أقرب الناس إليه كوالديه وزوجته وأقربائه فتجد قلوبهم مثخنة بالكره أو بالضغينة عليه لتقصيره في حقهم ، وانشغاله عن أداء واجباته تجاههم . ومن أصناف الناس الذين نحتاج لكسبهم ولهم الأفضلية على غيرهم الجيران لقوله صلى الله عليه وسلم"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ". "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ "(207).وقوله في النساء : " وإن أعوج ما فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا وأي إكرام أكبر من دعوتهم إلى الهدى والتقى ؛ بل قال عليه أفضل الصلاة والسلام-: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو قال لجاره ما يحب لنفسه"(208) . ولذلك ينبغي أن نتحبب إلى الجار فنبدأه بالسلام ونعوده في المرض ، ونعزيه في المصيبة ، ونهنئه في الفرح ونصفح عن زلته ، ولا نتطلع إلى عورته ، ونستر ما انكشف منها ، ونهتم بالإهداء إليه وزيارته ، وصنع المعروف معه، وعدم إيذائه.. وقد نفى الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان الكامل عن الذي يؤذي جاره فقال:" والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن" ، قال قائل : من هو يا رسول الله ؟ قال:" الذي لا يأمن جاره بوائقه"(209)(210).
?الوسيلة الثانية: السماحة في المعاملة
يوجز الرسول( صلى الله عليه وسلم )أصول المعاملة التي يدخل فيها المسلم إلى قلوب الناس ويكسب ودهم وحبهم فيقول : "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى" وفي رواية "وإذا قضى" . فالسماحة في البيع : ألا يكون البائع شحيحاً بسلعته ، مغالياً في الربح ، فظاً في معاملة الناس .
والسماحة في الشراء أن يكون المشتري سهلا مع البائع فلا يكثر من المساومة ؛ بل يكون كريم النفس وبالأخص إذا كان المشتري غنيا والبائع فقيراً معدماً. والسماحة في الاقتضاء : أي عند طلب الرجل حقه أو دينه فانه يطلبه برفق ولين.. وربما تجاوز عن المعسر أو أنظره كما في حديث أبي هريرة مرفوعا :" كان رجل يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه" والسماحة في القضاء : هو الوفاء بكل ما عليه من دين أو حقوق على أحسن وجه في الوقت الموعود وانظر كيف دخل الرسو صلى الله عليه وسلم إلى قلب هذا الرجل الذي روى قصته الإمام البخاري في صحيحه عن أبى هريرة قال: ( أن رجلاً أتى صلى الله عليه وسلم فتقاضاه فأغلظ فهمّ به أصحابه فقال صلى الله عليه وسلم دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً ثم قال أعطوه سناً مثل سنه قالوا يا رسول الله لا نجد إلا أفضل من سنه فقال أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء ) فقال الرجل ( أوفيتني أوفى الله بك ) .
ومن السماحة في المعاملة : عدم التشديد في محاسبة من قصر في حقك . فعن أنس قال (خدمت رسول ا صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي : أف قط ولا قال لشيء فعلته لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا )
يقول الشيخ / عبد الرحمن عبد الخالق :
ومن الوسائل : الدعوة إلى الطعام، واستخدام الولاء القبلي كما فعله سعد بن عبادة، وأسيد بن حضير، فقد دعا كل منهما قبيلته -وهو شيخها- فدخلوا جميعاً في الإسلام في ليلة واحدة.
ومن الوسائل النافعة: حمل الدعوة مع التجارة، فقد دخل بدعوة التجار المسلمين أمم وشعوب كثيرة، وكذلك السياحة، والمراسلات، والمناظرات، واستغلال المناسبات الاجتماعية كحفلات الزواج، والجنائز ... هذا عدا عن الدروس العلمية، والخطابة، وإنشاء الشعر والأدب .
والخلاصة: أنه يمكن لكل أحد أن يدعو إلى الله ، وأن يبلغ الحق، وينشر الخير حتى ولو كان ممن لا يستطيع أن يحفظ العلم ويؤديه كما سمعه، فإنه يستطيع أن ينشر الكتاب، والشريط ويدل على الخير، وأن يكثر سواد الدعاة إلى الله بمصاحبتهم فضلاً عما ينفعه الله به من صحبتهم (211) .
مبحث
مكان وزمان الدعوة
رابعاً : نوعيه الخطاب ، أو ( مكانه وزمانه) .
==========================
من المهم أن يدرك الداعية أن مكان الدعوة وزمانها له تأثيره الواضح في توجيه خطابه ، وإن غفل عن هذين الجانبين الهامين سوف يفشل فشلاً ذريعاً في الوصول إلى عقول وقلوب المخاطبين ، وسوف يكون خاطبه سقيماً عقيماًً ، فنجد مثلاً في العهد المكي يمكث صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة يدعو بدون أن يفكر هو ولا أصحابه في رفع السيوف ـ التي تحت سيطرتهم ـ في وجه أعدائهم رغم الدواعي الكثيرة التي تدفعهم نحو ذلك .(57/217)
يقول أبو الحسن الندوي ـ رحمه الله ـ : " هذا والرسول صلى الله عليه وسلم يغذي أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ، ويخضعهم أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم عن طهارة بدن وخشوع قلب . وخضوع جسم وحضور عقل ، فيزدادون كل يوم سمو روح ونقاء قلب ونظافة خلق وتحريراً من سلطان الماديات ومقاومة للشهوات ونزوعاً إلى رب الأرض والسموات ، ويأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل وقهر النفس ، لقد رضعوا حب الحرب وكأنهم ولدوا مع السيف ، وهم من أمة ، من أيامها حرب بسوس وداحس والغبراء ، وما يوم الفجار ببعيد . ولكن الرسول يقهر طبيعتهم الحربية ويكبح نخوتهم العربية ، ويقول لهم : { كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ }(212) فانقهروا لأمره وكفوا أيديهم ، وتحملوا من قريش ما تسيل منه النفوس في غير جبن وفي غير عجز ، ولم يسجل التاريخ حادثة دافع فيها مسلم في مكة عن نفسه بالسيف مع كثرة الدواعي الطبيعة إلى ذلك وقوتها" (213) .
أولاً : مراعاة المكان والزمان : مما تقدم يتضح أن مكان وزمان الخطاب مهمان عند الداعية ، فلابد من مرعاه المكان الذي يوجه إليه الخطاب ـ وأقصد تحديد المجتمع وتركيبته ـ والزمان الذي يحوي هذا الخطاب ، وعندما نقول تجديد الخطاب الديني أي تغيير أساليبه حسب المجتمعات التي يتوجه إليها فهذا أمر يكاد يكون ثابتا منذ بداية الدعوة الإسلامية لأننا حتى إذا نظرنا إلى التشريع في وقت نزول القرآن نجد أن الله ـ تبارك وتعالى ـ في الفترة المكية كان يوجه معظم آيات القرآن إلى ترسيخ العقيدة ولم تتعرض الآيات التي نزلت في مكة للتشريع المدني بالصورة الواسعة كما حدث في الفترة المدنية في القرآن الذي نزل في المدينة ، وما ذاك إلا مراعاة للظرف الزماني والمكاني الذي يتوجه إليه الخطاب ، ومن هنا وجب على الداعية ملاحظة ذلك ومراعاته .
وهذا الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ كان له فقه في العراق وعندما جاء إلى مصر غيره وهذا حسب تغير المكان فما بالنا بتغير الزمان خاصة ونحن لدينا تغيرات مذهلة تحتاج إلى تجديد يتواكب معها فنحن في حاجة ماسة منذ فترة طويلة للتجديد لكننا لابد أن نرفض الطلب من أعدائنا في هذا الشأن وفي هذا الوقت وهذا الظرف أيضاً .
ثانياً : التدرج مع المدعوين :
من الأمر التي نغفلها في نوعية الخطاب أو كيفيته هو التدرج مع المدعوين وهذا الأسلوب الدعوي ، وإن كان قديماً ، غير أنه مهمل لا يلتفت إليه مما يجعل الدعوة إليه وتفضيله يشكل تطوراً وتجديداً ، فالمسألة ليست ابتداع كل ما لم يكن بقدر ما هي نفض الغبار عن أمور راسخة أصلاً ولكنها ربما مهملة .
وهناك أحكام جرى عليها التدرج في التشريع وما هذا إلا نوع من الخطاب يراعى الملاءمة بين الخطاب الديني والبشر الموجه إليهم فعلى سبيل المثال «الخمر» لم تحرم مرة واحدة ، وكان أول ما نزل فيها قول الله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (214) وكان المقصود من أن يباين الله ويعارض أمرين هما الرزق الحسن والسكر أن يتفهم كل ذي عقل ناضج أن في الخمر شيئا يكرهه الله سبحانه وتعالى ، بعد ذلك سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها : فبين أنها مع كونها تنفع بعض الناس لكن ضررها أكثر من نفعها {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا }(215) ، بعد ذلك حدث أن دخل أحد المسلمين الصلاة إماما وصلى بالناس وقرأ سورة «الكافرون» وأخطأ في قوله تعالى «لا أعبد ما تعبدون» وقال «أعبد ما تعبدون» لأنه كان سكرانا فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } (216)(57/218)
وكان هذا تعويدا للمسلمين على أن ينقطعوا عن شرب الخمر حتى يستطيعوا فيما بعد الامتناع عنها نهائيا ثم جاء الأمر الإلهي الأخير {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (217)، وهذا يبين أن الخطاب الديني كان ملائما حتى في عصر نزول القرآن وعصر التشريع الذي كان موجودا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لحال المخاطبين، وهذه الملائمة من الأمور التي تستدعيها ظروف الدعوة الإسلامية وظروف الخطاب الديني فليس من المتصور توجيه خطاب عال المستوى إلى قوم أميين مثلا ، وإنما يجب توجيه الخطاب إليهم بالأسلوب الذي يلائم ثقافتهم ومعارفهم فالأساس الأول من أسس الدعوة الإسلامية إن تكون المخاطبة بالقدر الملائم لحال المخاطب ـ وقد سبق لنا تفصيل ذلك في موضعه بما لا يحتاج منا إلى مراجعة ـ غير أننا نلفت النظر إلى أهمية التدرج الذي يصلح لمجتمعات هذا العصر الذي انتشرت فيه المعاصي بشكل غير مسبوق ، وأصبحت المعاصي في كل درب ، وعلى كل طريق ، وبأبخس الأثمان ، مصداقاً لقوله تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(218) .
ثالثاً : عدم استعجال قطف الثمرة :
وهذا البند ربما يكون امتداداً لأحد بنود شروط الخطيب وهو الصبر ، غير أننا هنا ننوه على العجلة وعدم التريث ، ففي الصبر مجالات حددناها هناك ، وهنا التسرع والعجلة في قطف الثمر وأحياناً قبل أن ينضج ويؤتي أكله ؛ فتكون النتيجة هي الخسارة .
فعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ y قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، فَقُلْنَا : أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ؟ أَلَا تَدْعُو لَنَا ؟ ، فَقَالَ : " قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ " (219) .
والواقع أن بعض الدعاة لديهم نوع من الحماس الزائد مما يدفعهم للتعجل واستبطاء النتائج ، وهذا لا شك خلاف الكيفية التي يجب أن نخاطب بها الناس فالله تبارك وتعالى يقول في كتابه الكريم : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } (220) .
رابعاً : توخي الحذر والمداراة على الدعوة والخطاب :
ولكم ضاعت دعوة أصحابها غير مبالين بما يحاك لها ، ويشعرونك أن الأمور هكذا يجب أن تسير فإن أصيبت الدعوة قالوا : هذا قضاء الله وقدره ، ولكن الواقع يقول أنهم لم يحسنوا تدبر أمر الدعوة ، ولم يكونوا على مستوى المسؤولية الملقاة على عواتقهم ، لابد أن تنازع القدر بالقدر ـ كما قال بعض أهل العلم ـ ننازع الجهل بالعلم، والفقر بالمال، والمرض بالعلاج، والفوضى بالتخطيط، والتعطيل ننازعه بالمكاشفة، والتعبئة . ولابد من تحديد المسئولية بدقة، كلنا مسئولون ـ لا شك ـ عما يقع لنا على مستوى الأمة، لكن درجة المسئولية تتفاوت: فليست مسئولية الفرد العادي كمسئولية العالم، أو مسئولية الحاكم، أو مسئولية المفكر، كل إنسان يتحمل من المسئولية بقدر طاقته . أما تحميل المسئولية لجهة معينة: الحكام، أو العلماء، فهذا أيضاً من المهارب النفسية التي نلجأ إليها للخروج من أزمة معينة ، ونخرج نحن أبرياء . وقد نحتج بالحديث الضعيف الذي رواه أبو نعيم: [صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس العلماء والأمراء ] وهذا الحديث لا يصح سنداً، ولا متنا . وبناءاً على تحديد المسئولية؛ نكون جميعاً مطالبون بالعمل على الخروج من الأزمة، كل في مجال اختصاصه: كل متخصص في مجال يقدم ورقة، ويرفع راية، و يخط طريقة، و يجر وراءه من يستطيع (221) .
ولكي نكون أكثر تحديداً في هذا الجانب نسوق إليكم صنع صلى الله عليه وسلم في الهجرة ـ رغم أنه موعود بالنصر والتمكين ـ فهاهو r يستبقي أبا بكر y للصحبة ، ويشجع على بن أبي طالبy للمبيت في فراشه ، ويخرج متجهاً إلى اليمن لا إلى المدينة رغم أن وجهته المدينة ، ويبقى في الغار ثلاثة أيام حتى يخف عليه الطلب ، وكل ذلك أخذاً بالأسباب وحفاظاً على الدعوة ، ولكي يكون ذلك لنا أسوة .
خامساً : الهدف من الخطاب الديني :
==================== تربية جيل معلَّم(57/219)
يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ : " المنهج الإسلامي المنبثق من هذا الدين ليس نظاماً تاريخياً لفترة من فترات التاريخ، كما انه ليس نظاماً محلياً لمجموعة من البشر في جيل من الأجيال، ولا في بيئة من البيئات.. إنما هو المنهج الثابت الذي ارتضاه الله لحياة البشر المتجددة، لتبقى هذه الحياة دائرة حول المحور الذي ارتضى الله أن تدور عليه أبداً، وداخل الإطار الذي ارتضى الله أن تظل داخله أبداً، ولتبقى هذه الحياة مكيفة بالصورة العليا التي أكرم الله فيها الإنسان عن العبودية لغير الله..
وهذا المنهج حقيقة كونية قائمة بإزاء البشرية المتجددة قيام النواميس الكونية الدائمة. التي تعمل في جسم الكون منذ نشأته، والتي تعمل فيه اليوم وغداً، والتي يلقى البشر من جراء المخالفة عنها، والاصطدام بها، ما يلقون من آلام ودمار ونكال! "(222) .
فإذا كان الإسلام بمنهجه خالداً ، ولن يرث الله الأرض إلا به فهذا يقتضي منا أن ندعوا إليه على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة ، وأن نرسم الأهداف قبل المضي في دعوتنا ، فإذا رسمنا الأهداف بدقة وبدأنا الطريق إليها، فسنجد أننا بعد عقد، أو عقدين من الزمان ـ أمام أمة قد دبت فيها الحياة بصورة صحيحة، وعرف المرء فيها سبيله، وأدرك كل إنسان ما هو الدور الذي ينتظر منه، واتجه إليه بقدر ما يستطيع، و ركز على ما يحسن، وأفرغ جهده في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل . وحينئذ تكون الأمة قد قامت بواجب الجهاد على كافة المجالات، والأصعدة، و أصبحت أهلاً لأن يتحقق فيها قول الله عز وجل:
} وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [40] { سورة الحج .
والخلاصة هي : إعداد جيل مربى ومعلم :
خصائص التربية الناجحة:
لا يمكن أن تكون التربية ناجحة إلا إذا كانت شاملة، ولا تكون شاملة إلا إذا تمتعت بخصائص، منها:
* ربانية المنهج؛ إذ إن المناهج البشرية خاضعة للخطأ والزلل، عرضة للانتقادات، كونها صادرة عن إنسان متأثر ببيئة معينة، فتبقى مناهجه ضمن إطار بيئته، أما المنهج الرباني فهو عام لكل البشر، على اختلاف ألوانهم وألسنتهم، وتفاوت طباعهم، وتعدد آرائهم.
* إنسانية النزعة؛ ليست مقتصرة على شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم، أو تخدم مصالح جماعة معينة أو مجتمع بمفرده، فكلما كانت التربية إنسانية كان نفعها أعم وأشمل.
* عملية التطبيق؛ غير مغرقة في خيالات كاذبة أو فلسفيات مادية عقلية، بل هي تربية قابلة للعمل والتطبيق.
* ذاتية المنطلق؛ نابعة من الشعور بالنفس والآخرين، لا تحتاج إلى رقابة مادية محسوسة، فرقابة صاحب المنهج وهو الله الرب المربي كافية ومغنية عن كل الرقابات المادية مهما كانت دقتها عالية.
* اجتماعية المحتوى؛ ليس فيها من الأنانية القاتلة، ولا الأثرة المهلكة، بل هي تربية التعاون والتكامل، وتربية التكاتف والتكافل.
غايات التربية المنشودة:
إيجاد جيل يحمل الصفات الآتية:
• العلم النافع.
• العمل الصالح.
• الخُلُق القويم.
والطريق إلى ذلك تهذيب النفوس، وتثقيف العقول، وبناء الأمم.
فالتربية في مجملها: الإنسان في جوانبه الجسمية، والعقلية، والعلمية، واللغوية، والوجدانية، والاجتماعية، والدينية، وتوجيهه نحو الصلاح، والوصول به إلى الكمال.
الاهتمام بحامل التربية:
تقدم المجتمعات ونجاحها من نجاح التربية فيها.
من الأمور التي اجتمع عليها المربون إقرارهم بأهمية التربية بوصفها عاملاً رئيساً في توجيه الأفراد نحو أهداف المجتمعات، ولكي نصل إلى أهدافنا ونحقق ما نصبوا إليه و حقاً نبتغيه لا بد من بعض الأمور الهامة وهي:
أولاً: أن أمر العودة للإسلام وحضارته ليس بالحمل الخفيف الذي يمكن أن ينهض به أفراد، أو تقوم به جماعة واحدة أو دولة واحدة، وإنما هو عبءٌ ثقيلٌ يجب أن تتضافر على حمله الجهود. لذلك لا بد أن يقنع كل فرد عامل للإسلام وكل جماعة وكل دولة بأن التعاون بين الساعين لتحقيق هذا الهدف أمر لازم، وأن التشاور فيما بينهم أول خطوات ذلك التعاون، ثم يأتي التنسيق وتوزيع المهام.
ثانياً: وإذا كان التعاون أمراً لازماً فيجب أن يكون السعي لبعث الحضارة الإسلامية أبعد شيء عن الحزبية. إن بعض الناس يخلط بين العمل الجماعي المنظم ـ وهو أمر لا بد منه ـ وبين الحزبية التي تحول التنظيم إلى غاية كثيراً ما يُضحى في سبيلها بالغاية التي أُنشئ من أجلها والتي كان في البداية مجرد وسيلة إليها. الحزبية أن تحصر علاقات الأخوة الإسلامية وواجباتها في من دخلوا ضمن إطار التنظيم، وأن لا يعان على عمل خير بل ولا يعترف به إلا إذا كان من منجزات الجماعة المنظمة.
ثالثاً: الالتزام الصارم الشديد بقيم العدل والصدق والأمانة والوفاء حتى في معاملة الأعداء. لأن هذه القيم قيم مطلقة لا تختص بحال دون حال. قال تعالى:
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (8) سورة المائدة
قال ابن كثير: إن العدل واجب على كل أحد، مع كل أحد، في كل حال؟(57/220)
لكن بعض العاملين للإسلام اليوم يحيدون عن هذه القيم لأوهي الأسباب، ويسلكون سلوك السياسيين الميكيافليين. ناسين أن هذه القيم قيم يحبها الله، وأن الالتزام بها ـ حتى مع الأعداء ـ عبادة لله. وأنك لا يمكن أن تنصر دين الله بارتكاب مساخط الله.
رابعاً: على الأفراد وعلى الجماعات غير الحكومية أن تلتزم التزاماً معلناً وصارماً بالطرق السلمية. هذا هو الذي يدل عليه شرع الله، وهو الذي ينتهي إليه كل من اتعظ بالتجارب المريرة للجماعات التي دخلت في صراعات دموية لم تكن لها بكفء. (223) إنك لا تحمل السلاح على من أنت تحت سلطانه، وإنما الذي يشرع لك هو الدعوة مع كف الأيدي وإقامة الصلاة، فإذا كانت لك أرض مستقلة وقوة مادية فآنذاك:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (39) سورة الحج
اللَّهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
البعث الإسلامي الحضاري
إذا لم يكن في الأرض اليوم إسلام قائم فعلاً، فإن فرص بعثه ما زالت متوفرة ومشجعة. إن المسلمين ما زالوا بحمد الله تعالى قادرين على الأوبة إلى الكتاب الهادي، وقادرين على السعي لامتلاك السيف الناصر. وذلك:
أولاً: لأن انحراف الأمة عن دينها لم يكن ـ وما كان له أن يكون ـ ردة كاملة عامة عن الدين الحق. فهذا دين تكفل الله تعالى بحفظ كتابه كما تكفل بحفظ العاملين من علمائه. فإذا كان الله تعالى قد قال، وقوله الحق "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" فإن رسول صلى الله عليه وسلم قد قال ـ غير ناطق عن هوى ـ لا تزالُ طائفة من أمتي ظَاهرين على الحقِ لا يَضُرُهم من خالَفهم ولا من خَذَلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون.
ثانياً: لأنه إذا كان جوهر الحضارة ـ أو المدنية ـ وأساسها الذي يُشيَّدُ عليه بنيانها هو رسالتها، هو المعتقدات والقيم التي تستمسك وتعتز بها، فإن الجوهر والأساس الإسلامي ما يزال أقوى من منافسه العلماني الغربي. إن الإسلام ما يزال يبرهن عبر تاريخه الطويل بأنه فعلاً فطرة الله التي فطر الناس عليها. فليس على وجه الأرض دين عبر الحواجز الجغرافية والثقافات المحلية ليبقى بين المستمسكين به ـ في جملته ـ الدين الذي أنزله الله تعالى على رسول صلى الله عليه وسلم . فكتابه هو الكتاب الذي أنزل على رسوله، وصلوات الناس هي الصلوات كانت تقام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وزكاته هي الزكاة، وحجه وصيامه هما كما كانا في أشكالهما ومواقيتهما. وبالرغم مما أضيف إلى هذا الدين من بدع إلا أنه يظل رغم ذلك أكثر الأديان احتفاظاً بحقيقته، وقد كان هذا وحده مما أغرى بعض الباحثين عن الحق بالدخول فيه.
ثالثاً: وما يزال هذا الدين يؤكد هذه الحقيقة بسرعة انتشاره المذهلة حتى في موطن الحضارة الغربية. فهم يقولون إن معدل سرعة انتشاره أكبر من معدل سرعة الزيادة في سكان العالم.
رابعاً: لأنه باعتباره دين الفطرة، ما يزال هو الدين الذي يجد الناس في آيات كتابه عِلماً بالإله الحق الموصوف بكل صفات الكمال المُنَزَّه عن كل صفات النقص من الولد والوالد التي تطفح بها بعض الأديان، وهدياً بأنه هو وحده المستحق للعبادة الهادي إلى أنواعها وكيفياتها. ويجدون في آيات كتابه وأحاديث رسول صلى الله عليه وسلم عِلماً بحقيقة أنبياء الله وما كانوا عليه من كمال بشري أهَّلَهُم لأن يكونوا الأسوة التي يتأسى بها كل سالك طريق إلى الله. لكن الأديان المحرفة تجعل من بعضهم آلهة وأنى للبشر أن يتأسى بالإله؟ وتنسب إلى بعضهم جرائم يستنكف عن ارتكابها عامة عباد الله، فأنى يكونون أسوة لغيرهم؟
خامساً: ولأنه دين الفطرة فلا يجد الناس فيه تصادماً بين مقتضيات العقول التي فطرهم الله عليها، ولا مخالفة لحقائق الخلق التي يشاهدونها ويجربونها. فالعقل فيه نصير الدين لا خصيمه، كما هو حاله في بعض الأديان. والعلم التجريبي يشهد له ولا يشهد عليه كما يفعل مع بعض الأديان.
سادساً: ولأن الناس كما يجدون فيه حاجتهم إلى الإيمان الخالص والعبادة السليمة والأخلاق الحسنة فإنهم يجدون فيه هدياً لتنظيم الحياة الاجتماعية تنظيماً يتوافق مع ذلك الإيمان وتلك العبادة وهاتيك الأخلاق، ويعبر عنها ويؤكدها ويحميها؛ فهو الدين الوحيد الذي لا يحتاج إلى علمانية تكمل نقصه، أو تتصالح معه.
سابعاً: وهو الدين الذي ما يزال يشهد لأحقيته سلوك المهتدين من أبنائه. فهؤلاء هم أكثر أهل الأرض ذكراً وعبادةً لله، وأبعدهم عن مساخط الله، وأكثرهم بذلاً لأنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وأكثرهم رحمةً بصغير وتوقيراً لكبير وصلةً لرحم.
وقد اعترف بهذه الحقيقة حتى بعض علماءِ النصارى، ومن أعجبهم بيتر كريفت أستاذ الفلسفة بكلية بوستن، الذي يحث إخوانه النصارى على أن يعدوا المسلمين أصدقاء وأعوانا لهم في حربهم ضد العلمانية التي يرى فيها العدو اللدود للدين والخطر الأكبر على الحياة الاجتماعية. يقول هذا الرجل:(57/221)
لماذا ينتشر الإسلام بهذه السرعة المذهلة؟ سيسارع علماء الاجتماع وعلماء النفس والمؤرخون والاقتصاديون والديمغرافيون والسياسيون إلى تفسير ذلك النمو تفسيرا دنيويا كل بحسب تخصصه. لكن الإجابة بدهية لكل مسيحي ذي صلة بالكتاب المقدس: إن الله تعالى يفي بوعده، ويبارك أولئك الذين يطيعون أوامره ويخشونه، ويعاقب الذين لا يفعلون ذلك. إن الأمر في غاية من البساطة التي يعسر على الأساتذة الأكاديميين رؤيتها: قارن بين كميات الإجهاض، وزنا المحصنين وغير المحصنين والشذوذ بين المسلمين والنصارى. ثم قارن بين كمية العبادة.
ثامناً: ولأن كثيراً من الناس في الغرب بدؤوا يشعرون بالخطر الذي تسوقهم إليه الحياة العلمانية المجردة عن الدين، خطر تمكينها للاتجاه الفردي في الناس، وإضعافها للوازع الخلقي، وعبادتها للجنس، وتحويلها الحياة إلى جهد لا معنى له ولا غاية. كل هذا يسبب للناس أنواعاً من الشقاء الروحي، فذهب الكثيرون منهم يبحثون عن دين ينقذهم فلم يجد كثير ممن عرف الإسلام منهم أكثر منه إجابة لمطالبهم الروحية والخلقية بالطريقة التي أشرنا إليها سابقاً.
وَأخيراً.. هكذا فَلنَدعُ إلى الإسلاَم
*ندعو إليه بعد أن نتحلى به عقيدة، وخلقاً، وسلوكاً، ولا ننسى أن نغذي أفئدتنا خلال ذلك، بأسباب الرغبة في ثواب الله والرهبة من عقابه، والمراقبة الدائمة له.
* ندعو إليه من منطلق الشفقة على عباد الله جميعاً، كي لا يقعوا غداً في آلام كاوية من الندامة التي لا تغنيهم شيئاً. فإن رب العالمين جل جلاله ما دعا عباده إلى دينه هذا، إلا رحمة بهم وحباً لإسعادهم، فأولى بك وأنت جندي تدعو الناس بدعوته، ألا تدفعك إلى ذلك إلا الرحمة والشفقة والغيرة عليهم.
* ندعو العقول عن طريق الحجة والبرهان، إلى اليقين بعقائد الإسلام، وندعو النفوس عن طريق منهاج التزكية النفسية إلى الالتزام بسلوك الإسلام، ولن ننجح في ذلك إلا بعد أن نبدأ فنزكي نحن نفوسنا من أوضارها وأمراضها جهد استطاعتنا.
* نركل من طريق ما بيننا وبين الآخرين كل عصبياتنا وأنانياتنا ورغباتنا في الانتصار للذات، حتى تتاح الفرصة لهم أيضاً أن يفعلوا مثل ذلك فينجوا عصبياتهم وأنانيتهم عن الطريق حتى تنفذ إليهم كلمة
* لا تخلط بأعمال الدعوة شوائب المعوقات، وزوائد الشهوات والأهواء، ولا نشغل بال الناشئة بها، فإنها لا توقعهم إلا في رهق لا جدوى منه، ولا تعود إليهم إلا ببلابل فكرية تورث الفتنة ولا تحقق الخير.
* سلاح الداعي إلى الله أولاً: العلم بكتاب الله وسنة رسوله وما أجمع عليه سلف هذه الأمة. ثانياً: العاطفة الإسلامية التي غذيت بالعلم وارتبطت بحدوده. فمن حمل لواء الدعوة إلى الله بدفع من عاطفته وحدها لا يسلم من الوقوع في غواية أو إغواء. ومن حمل لواءها بدافع من علمه المجرد، لا يعدو أن يكون مفتياً يضع أمام الناس قائمة أحكام الحلال والحرام. وتعليم الأحكام، يختلف عن الدعوة إلى الإسلام.
* شعار العبد الذي أخلص في الدعوة إلى الله، هو قوله عز وجل:(فذكر،إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر) فهو يؤدي بعمله وظيفة كلفه الله بها. أما هداية الناس واستجابتهم له فشيء مناطه الإرادة الربانية التي يتم على أساسها تدبير الأمور.
* سلاح القائم بدعوة الله، كثير ذكر ودعاء، وتضرع وبكاء، وكثير استغفار في الأسحار، وتلاوة للقرآن. وحراسة دائمة للقلب الا تسيطر عليه الأهواء.
وكل التدابير الأخرى، على أهميتها، إنما يأتي وراء ذلك.
* وأخيراً، مقياس القرب إلى النجاح، أمام الداعي إلى الله، هو قول الله عز وجل(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)فبقدر ما تشيع الاستقامة ويتوفر الصدق والأخلاق في حياة الأفراد، تنهض دعامة جديدة بتوفيق الله في بناء المجتمع الإسلامي المنشود.
والله المستعان وعليه الاتكال.
مراجع البحث
ـ أولاً : القرآن الكريم وعلومه .
ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي دار الشعب مصر
ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير ط دار الفكر بيروت .
ـ روح المعاني للألوسي دار الفكر بيروت .
ـ تفسير فتح القدير للشوكاني ط دار الحديث .
ـ مناهل العرفان للزرقاني ط دار إحياء الكتب العلمية
ـ ثانياً : الحديث الشريف وعلومه.
ـ صحيح البخاري ط دار ابن كثير .
ـ صحيح مسلم ط دار إحياء التراث.
ـ سنن ابن ماجة ط دار الفكر.
ـ سنن الترمذي ط دار الفكر بيروت.
ـ سنن أبي داوود ط دار الفكر بيروت .
ـ سنن النسائي ط دار الكتب العلمية .
ـ مسند الإمام أحمد ط دار إحياء التراث .
ـ موطأ الإمام مالك ط دار إحياء التراث .
ـ سنن الدارمي دار الكتاب العربي بيروت
ـ المستدرك للحاكم دار الكتب العلمية بيروت.
ـ فتح الباري في شرح صحيح البخاري للعسقلاني. ط الريان
ـ شرح النووي على صحيح مسلم . ط دار الغد العربي
ـ عون المعبود في شرح سنن أبي داوود . ط دار الفكر بيروت
ـ فيض القدير شرح الجامع الصغير لعبد الرؤوف المناوي المكتبة
التجارية الكبرى .
ـ نوادر الأصول في أحاديث الرسول لأبي عبد الله الحكيم الترمذي
دار الجيل بيروت
ـ ثالثاً : كتب متخصصة :(57/222)
ـ 'صفات الدعاة' للدكتور/ عبد الرب بن نواب الدين.
ـ مجموع الفتاوى لابن تيمية .
ـ سير أعلام النبلاء للذهبي مؤسسة الرسالة بيروت
ـ إعلام الموقعين لابن القيم دار الحديث
ـ الدعوة الفردية وأهميتها في تربية الأجيال رسالة للشيخ/عقيل ا بن
محمد بن زيد المقطري
ـ أصول الدعوة للدكتور : عبد الكريم زيدان ط مؤسسة الرسالة .
ـ أصول الدعوة لعبد الرحمن عبد الخالق الكويت.
ـ هكذا الدعوة رسالة للبوطي سوريا .
ـ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي ط مكتبة
السنة .
ـ رابعاً : الدوريات والنشرات والمجلات والصحف
ـ جريدة الأهرام المصرية .
ـ جريدة الأسبوع المستقلة المصرية .
ـ صحيفة الحياة تصدر في لندن .
هذا مضافاً إليه مراجع أخرى تجدوننا قد أشرنا إليها داخل البحث
فهرس البحث
1
1
6
7
12
19
21
22
22
22
23
…تطوير الخطاب الديني
مقدمة
المبحث الأول
ما المقصود بتطوير الخطاب الديني ؟ وكيف يتم ؟
فما السبيل إلى التغيير المنشود؟
جوانب التغيير
المبحث الثاني ما هو التغيير المطلوب؟
أركان الدعوة أو الخطاب الديني .
الخطيب أو الدعية.
مبحث
الشروط الواجب توافرها في الخطيب الداعية.
أن يكون مهموماً بدعوته ، مخلصاً لها ، صادقاً في قصده.
الإخلاص في الكتاب والسنة.
…25
31
31
32
33
34
35
38
40
…من شروط الخطيب الداعية أن يكون حكيماً عليماً حليماً .
آثار فقه الواقع .
إحكام الفتوى وإتقانها.
الدعوة إلى الله بحكمة وعلى بصيرة
الوصول إلى النتائج السليمة واتخاذ المواقف الصحيحة.
التربية الشاملة المتكاملة.
بعد النظر وحسن التخطيط .
إبطال كيد الأعداء ، وفضح خططهم.
حماية العلماء.
الشعور بالمسئولية والتغلب على المعوقات .
من شروط الخطيب الداعية أن يكون عاملاً بعلمه .
من شروط الخطيب الداعية الصبر وتحمل المشاق في سبيل الدعوة.
تابع فهرس البحث
41
42
45
47
49
50
…أنواع الصبر.
لوازم الصبر في مجال الدعوة.
ـ تحمل عنت الم دعوين وجحودهم وكيدهم وصدودهم.
ـ ترك العجلة في الوصول إلى ثمار الدعوة ، وترك استعجال الاستجابة.
ـ الاستمرار في الدعوة والمداومة عليها دون كلل ولا ملل ولا تذمر ولا تبرم.
أثر الصبر في نجاح الداعي.
من شروط الخطيب الداعية الحرص على هداية من يدعوه.
مبحث
ثقافة المدعو
المخاطب أو المدعو وثقافته .
الأصول الشرعية في دعوة الكفار الأصليين للإسلام.
إبلاغ دعوة الإسلام على وجهها الصحيح
إبطال شبهات الكفار، ودفع باطلهم
لا يبدأ مع الكافر الأصلي إلا بالتوحيد
عرض الدعوة على الكفار باللين.
وجوب رد إساءتهم.
قبول الكافر أخاً في الإسلام مهما سلف منه في الكفر.
…54
54
55
60
65
67
70
72
73
75
76
79
84
88
89
92
94
99
…أصول في دعوة المرتد.
أصول في دعوة المنافق.
الدعوة بين المسلمين
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مبحث الدعوة الفردية
أطوار الدعوة الفردية.
مبحث
'أساليب الدعوة ووسائلها '
ـ ثالثاً : وسيلة الخطاب ، أو الدعوة
منهاجها.
ـ المنابر المتاحة والتقصير الواضح
مراعاة مقتضى حال المدعو.
اللغة.
انتهاز الفرص .
كسب قلوب الناس.
مبحث مكان وزمان الدعوة
ـ رابعاً : نوعيه الخطاب ، أو
( مكانه وزمانه).
خامساً : الهدف من الخطاب الديني.
تربية جيل معلَّم.
والخلاصة: إعداد جيل مربى ومعلم .
البعث الإسلامي الحضاري.
وَأخيراً.. هكذا فَلنَدعُ إلى الإسلاَم
=================(57/223)
(57/224)
الإسلام وأمريكا
القاهرة 9 /شوال / 1426ه
موسى بن محمد بن هجاد الزهراني
من يتابع الأخبار هذه الأيام يكاد يصعق مما يسمع من تسلط الكفار على رقاب المسلمين ، وانتقائهم الدول التي يريدون احتلالها بعناية فأقة ورسم خطط إقامة الحرب عليها والتصريح بذلك في وسائل إعلامها وإزجاء التهم الفاجرة المزورة المبررة لحربهم على تلك الدول الإسلامية لكونها إسلامية فحسب .. ونحن .. نحن ولله الحمد كأهل الكهف أيقاظ رقود ! .
كل ما يهمنا هو التشبث بالدنيا بمخالبنا وأطراف أسناننا والاستماتة - هذه الأيام - في سبيل الحصول عليها عن طريق المساهمات حلّت أم حَرُمّت ! وتهافت شبابنا وبناتنا على تقليد الكفار ؛ تقليد المغلوب للغالب في كل شيء والله ؛ حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلوه .
افتُعلت قضية أبراج أمريكا ، وألصقت بمجموعة من الموتى المسلمين الذين عُلقت صورهم في كل مكان من مطارات العالم ، واهتز العالم كله لهذا الحدث ، وتنفس العقلاء منا الصعداء خوفاً من أن تُقْدم هذه الرعناء على غزو بلاد الإسلام .. وعلموا ما لم يعلم السذج الأغبياء والمغفلون منا .. فكان ما توقعوه .. فقامت دولة عادٍ فضربت أفغانستان والحصيلة .. خمسون ألف قتيلٍ مسلمٍ .. دمهم هدر لأنه أريق بأيدٍ نجسة كُتب عليها " أمريكا" ! ، التي يجوز لها ما يحرم على غيرها .. ووجد فينا من يصفق لها نفاقاً أو غباءً أو بلاهةً أو جبناً وخوراً .. ثم انقلبت أمريكا الرعناء على من صنعته على عينها ، حاكم العراق .. _ الذي أمرته قبل أربعة عشر عاماً بغزو الكويت لتدخل رغماً عن أنوف من لهم أنوف يرغبون أن يشمخوا بها ! وتعقد مع الكويت اتفاقية حماية لمائه عام _ وخاب من استرعى الذئب على الغنم ! ... انقلبت عليه فكالت ضده التهم حتى أقنعت الناس بأن يناموا ويطأطئوا رؤوسهم إذا ضُرب العراق .. وضُربَ العراقُ .. وسالت أنهار الدماء حتى هذه الساعة ! وعدنا نحن إلى لهونا وغفلتنا وعاد الماجون إلى مجونهم والعابثون إلى عبثهم .. وعادُ عُبَّادُ أمريكا إلى السجود لها ! والتسبيح بحمدها والدفاع عنها .. ويدعي بعد ذلك أنه مسلم ! ثم .. قرأنا أمس 7/ شوال / 1426ه في أول صفحة في ( عكاظ ) " رامسفيلد يضع خطةً عسكرية لضرب سوريا منذ أكثر من سنة " .. يخطط القوم لأهدافهم ، وشباب الإسلام يخططون كل صيف لإيجار عقولهم في خمارّات العالم ، وفنادقها ، على الشيطان وحزبه !! أو يخططون لضرب الإسلام باسم الإسلام ! وكلٌ في فلك يسبحون ..ثم يتكلم الرئيس السوري اليوم بكلام رصين _ مع التحفظ على بعضه _ فقامت الدنيا ولم تقعد .. لماذا أيها الرئيس لا تقف مكتوف اليدين .. وتقول آمين ! على كل ما نقوله ونتهمك به ؟ ! ..
لا ترفعوا رأسا ، فإن حسامنا *** بإزالة الرأس العزيزة مُغرم
لا ترفعوا كفّا ، فإن عيوننا *** مبثوثة ، والقيد قيد أدهم
لا تنطقوا حرفا ففي قنوننا *** أنّ الثغور الناطقات تكمم
وإذا ضربناكم فلا تتحركوا *** وإذا سحقناكم فلا تتألّموا
وإذا أجعناكم فلا تتذمروا *** وإذا ظلمناكم فلا تتظلّموا
نلقي الطعام لكم ، فإن قلنا : كلوا *** فكلوا ،وإلا بالصيام استعصموا
عربٌ وأجمل ما لديكم أنكم *** سلمتمونا أمركم وغفلتموا
ماذا دهاكم ؟تطلبون حقوقكم *** طلب الحقوق من الضعيف محرّم
نحن الذين نقول ، أما أنتموا *** فالغافلون الصامتون النوّم
الأرض ، كل الأرض مسرحنا الذي *** تجري الفصول عليه وهو مقسّم
نجري الشخوص كما نشاء ونشتهي *** الدَور يملى والمشاهد ترسم
لن تستريح قلوبنا إلا إذا *** لم يبق في الأرض الفسيحة مسلم (1)
لقد نجحت أمريكا في الإيقاع بين سوريا ولبنان نجاحاً لم تحلم به من قبل .. جاءت نتائجه أسرع من سنا البرق ! .
قتلوا القتيل ووضعوا دمه في عنق من حركتهم أياديهم وجعلتهم مسمار جحا .. أتدرون ما مسمار جحا ؟! إنها قصه لطيفة اسألوا جداتكم عنها لتعلموا ما أعني ! .
ثم .. كأنني بالطائرات والدبابات والقاذفات من كل حدب وصوب تنهال على سوريا حتى تمحى من الخريطة .. فتصبح - مكانها - لبنانَ ( أمريكيةً ) كبيرةً !! .
والله لن يتحرك أحدٌ من أتباع صلى الله عليه وسلم خوفاً من أتباع المسيح عليه السلام ... على صفاء منهجا ، ونسخه لمنهجهم وخبث منهجهم وتلوثه بوساخات اليهود وقذارتهم ، والخوف كل الخوف من غزو الدولة التي ستلي سوريا في قائمة أمريكا !! اللهم كذّبْ ضني واحمنا منهم ! .
لكنني أقول لو حلمت أمريكا مجرد حلم في منامها !! وأحلامها حقيقة لا كأحلام العرب والمسلمين أضغاث أحلام ! لو حلمت باستهداف من وضعتها في المرتبة الثالثة في حربها الصليبية _ كما صرح زعيم كفرها بذلك _ فأنني أقسم بالله الذي رفع السموات بلا عمدٍ ، قسماً لا أستثني فيه أن نهايتها ستكون عند استيقاظها من حلمها ، فلدينا أناس يحبون بل يعشقون الدفاع عن الإسلام ومقدساته كعشق المدمنين من أولئك لما أدمنوه ! { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }هود81" ..(57/225)
إن إجابةً على السؤال الضخم الذي يسأله الأغبياء ! والعقلاء منا توضح معالم الطريق الذي غشيه الضباب .. لماذا تفعل أمريكا هذه الأفاعيل الكبيرة الفاجرة .. رغم هشاشة ذرائعها وأدلتها ؟ ما السبب الذي ضربت لأجله أفغانستان ؟ ما السبب الذي ضربت لأجله العراق ؟ ما السبب الذي ستضرب لأجله سوريا ؟ لماذا فرضت عقوبتها على السودان ؟ ما سر اهتمامها بدرافور ؟ ما سر ترحيبها بعلاقات باكستان مع دولة اليهود ؟ ما سر هذا الاهتمام الكبير بلبنان على كثرة مشاكلها ؟ ما سر اهتمامها بالهند ؟ .. ما .. و ما .. ..
أسئلة كثيرة يضمها سؤال واحد .. لماذا فعلت أمريكا كل هذا ؟!
الجواب " نبؤات توراثية تلمودية .. تنص على ذلك ، ترمي إلى حماية إسرائيل صاحبة المفاعل النووي والرؤوس النووية الكثيرة . وأمريكا هي حامية الحمى اليهودي المقدس ، وحق لنا أن نسأل نحن أيضاً ..
كانت أمريكا فيما مضى تخجل من التصريح بعنايتها ببنتها اللقيطة إسرائيل ، أما اليوم فدفاعها عنها أصبح مشهوراً رغم أنوفنا .. ألديكم اعتراض ؟! .
أيهما أخطر أسلحة صدام الوهمية التي أقامت الحرب على العراق والتي لا يوجد لها حقيقة إلاَّ في رؤوس الأمريكان ؟ أم مفاعل ديمونة الإسرائيلي الهدية القيمة التي قدمتها فرنسا لإسرائيل ؟! .
أين تهديدات أمريكا لكوريا الشمالية ؟ لم نعد نسمع لها صدى منذ أكثر من عام ؟! ألأن كوريا التي لا عقيدة لها أرغمت أنف أمريكا وداستها تحت أقدامها ومسحت الأرض بشموخ أمريكا المزعوم ؟ حتى ركضت نحوها تخطب ودها ! عجيب ..
غضبت أمريكا من تصريحات بشار الأسد التي يدافع فيها عن بلاده أن يصيبها ما أصاب العراق ؛ فانتفضت أمريكا .. وفرنسا .. وهيئة اللمم " الأمم " سبق قلم .. انتفضت غضباً من هذا الكلام البري المسكين ؟ .
على أن أطول لسان _ في نظري والله تعالى أعلم _ يتطاول على أمريكا هو لسان الأعجوبة " شافيز" في فنزويلا !! حتى أنه اليوم تعهد بأن يجعل اتفاقية منظمة التجارة العالمية التي تبنتها أمريكا موءودة لا ذكر لها ! في حين كانت _ تلك الاتفاقية _ كليلة القدر بالنسبة للعرب فرحوا بها حتى تشققت أشداقهم من شدة الفرح بها .. وسيدفعون ثمنها غالياُ جداً !
لِمَ لمْ تَقطع أمريكا لسان (شافيز ) الطويل الذي يسيل باللعنات على أمريكا كلما سنحت له فرصة وقوف أمام الميكرفون في وسائل إعلامه ؟!
ألم تعلم بأن أمريكا صنيعة الصهيونية العالمية .. وأيدي اليهود ألم تعلم بجرائمها التي ارتكبتها عبر التاريخ .. اسمع :_ !
(كان يظن كثير من الناس بسبب الإعلام المزيف لسنوات عديدة بأن أمريكا هي فعلاً دولة الديمقراطية ودولة الحرية وأنها راعية السلام ، فتبين ولله الحمد من خلال غزوها الصليبي لبلاد العراق كذب ذلكم الادّعاء ، وتبين زيف ديمقراطيتها وحريتها .
وقد آن الأوان أن نقلب بعض أوراق التاريخ ونُخرج ما يجهله الكثيرون عن هذه الدولة الطاغية المعتدية من خلال عرض سريع لبعض جرائمها عبر التاريخ .
إن أمريكا عدوّة الإنسانية ، ليس المسلمين فحسب بل من كل ملة ، اسألوا :
أفريقيا السوداء .
واسألوا اليابان .
واسألوا أمريكا الجنوبية ، الذين يجزّرون بعشرات الملايين .
أرقامٌ خيالية ، وأعداد مذهلة ،ووفيات فوق حسابات البشر ( قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ).
طريقة القتل عند الأمريكان :
طريقتهم طريقة وحشية وليست إنسانية فهم يصبون وابلاً من أطنان القنابل على الأبرياء وكأنهم يصبونها على جبال صماء ، وصدق الله حيث يقول ( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ) .
.. في اليابان :
في ليلة من ليالي عام 1366ه في الحرب العالمية الثانية دمرت 334 طائرة أمريكية ما مساحته 16 ميلاً مربعاً من طوكيو ، بإسقاط القنابل الحارقة ، وقتلت مائة ألف شخص في يوم واحد ، وشردت مليون نسمة ، ولاحَظَ أحدُ كبار الجنرالات بارتياح أن الرجال والنساء والأطفال اليابانيين قد أُحرقوا ، وتم غليُهم وخَبزُهم حتى الموت ، وكانت الحرارة شديدة جداً حتى إن الماء قد وصل في القنوات درجة الغليان ، وذابت الهياكل المعدنية ، وتفجر الناس في ألسنة من اللهب وتعرضت أثناء الحرب حوالي أربعٍ وستين64 مدينة يابانية للدمار ، واستعملوا ضدهم الأسلحة النووية ولذلك فإن اليابان لا تزال حتى اليوم تعاني من آثارها . وألقت قنبلتين نوويتين فوق مدينتي هيروشيما ونجازاكي ، وقال بعدها الرئيس الأمريكي هاري ترومان وهو يكنّ في ضميره الثقافة الأمريكية : "العالم الآن في متناول أيدينا" .
.. وفي الصين وكوريا وفيتنام وكمبوديا :
وما بين عام 1371ه وعام 1392ه ذبحت الولايات المتحدة في تقدير معتدل زهاء عشرة ملايين صيني وكوري وفيتنامي وكمبودي وتشير أحد التقديرات إلى مقتل مليوني كوري شمالي في الحرب الكورية ، وكثير منهم قتلوا في الحرائق العاصفة في بيونغ يانغ ومدن رئيسة أخرى .(57/226)
وفي منتصف عام 1382ه سببت حرب فيتنام مقتل 160 ألف شخص ، وتعذيب وتشويه 700 ألف شخص ، واغتصاب 31 ألف امرأة ، ونُزعت أحشاء 3.000 شخص وهم أحياء ، وأحرق 4.000 حتى الموت ، وهوجمت ستٍ وأربعين 46 قرية بالمواد الكيماوية السامة .
هذه هي أمريكا وهذه بعض أفعالها لمن يجهلها .
.. وجرائم وجرائم :
وأدى القصف الأمريكي "لهانوي" في فترة أعياد الميلاد عام 1391ه إلى إصابة أكثر من 30 ألف طفل بالصمم الدائم . وقتل الجيش الأمريكي المدرب في غواتيمالا أكثر من 150 ألف فلاح ما بين عام 1385ه و عام 1406ه . وقاموا بإبادة ملايين الهنود الحمر يصل عددهم في بعض الإحصائيات إلى أكثر من مائة مليون وهم السكان الأصليون لأمريكا وبعدها أصدرت قراراً بتقديم مكافأة مقدارها 40 جنيهاً مقابل كل فروة مسلوخة من رأس هندي أحمر ، و40 جنيهاً مقابل أسر كل واحد منهم ، وبعد خمسة عشر عاماً ارتفعت المكافأة إلى 100 جنيه و50 جنيه مقابل فروة رأس امرأة أو فروة رأس طفل ، هذه هي الحضارة الأمريكية .
وأصدرت بعد ذلك قانوناً بإزاحة الهنود من أماكنهم إلى غربي الولايات المتحدة وذلك لإعطاء أراضيهم للمهاجرين وكان ذلك عام 1245 ه ، وهُجّر إلى المناطق الجديدة أكثر من 70.000 ألف هندي فمات كثير منهم في الطريق الشاق الطويل ، وعرفت هذه الرحلة تاريخياً برحلة الدموع .
وفي عام 1763م أمر قائد أمريكي برمي بطانيات كانت تستخدم في مصحات علاج الجدري إلى الهنود الحمر بهدف نشر المرض بينهم مما أدى إلى انتشار الوباء الذي نتج عنه موت الملايين ، ونتج عن ذلك شبه فناء للسكان الأصليين في القارة الأمريكية .
إنها حرب جرثومية بكل ما في الكلمة من معنى ، ونُشر مرض الجدري من جراء أسلحة الحرب الجرثومية وكان أخطر ما فيه أنه لم يكن لهذا المرض أي وجود في القارتين الأمريكتين ، والمجرمون الذين استخدموا هذه الأسلحة الجرثومية يعلمون بأنه سيفتك إلى حد الإبادة بالهنود الحمر ورغم ذلك استخدموه فكانت هذه الحادثة هي أول وأكبر استخدام لأسلحة الدمار الشامل ضد الهنود الحمر .
وفي إحدى المعارك قتلت أمريكا فيها خلال ثلاثة أيام فقط خمسةً واربعين45.000 ألفاً من الأفريقيين السود ما بين قتيل وجريح ومفقود وأسير .
أمريكا أكثر من استخدم أسلحة الدمار الشامل :
فقد استخدمت الأسلحة الكيماوية في الحرب الفيتنامية وقتل مئات آلاف من الفيتناميين. وأمريكا أول من استخدم الأسلحة النووية في تاريخ البشرية . وأمريكا أول من صنع الأسلحة الهيدروجينية . وأمريكا أول من صنع الأسلحة النيوترونية .
هذه جرائم الطاغية الباغية رأس الكفر أمريكا في حق غير المسلمين ، وهذا ما لطخته أمريكا في أيديها القذرة النجسة ، وهذه بعض جرائمها وأرقامها الخيالية فهي لا تراعي لذي حَرم حرمته ، ولا لحر حريته ، ولا للإنسان إنسانيته .
أما جرائمهم في دماء المسلمين فحدث ولا حرج :
فملفاتهم سوداء من دماء المسلمين ، ودم المسلم دم وحشي في قاموس أمريكا ، ليس له حرمة البتة ، بل هو في نظر أمريكا أخس من الكلاب النجسة ، ولذلك فإنهم يصورون الإسلام بأبشع الصور فالإسلام عند أمريكا عبارة عن نتوء شاذ ليس من المعتقدات القديمة ولا الجديدة ، بل هو من ظلمات البيئة العربية . وقد ثبت أنهم يقولون عن الرسو صلى الله عليه وسلم أنه رجل شاذ ، وتزوج عدة مرات للوصول إلى السلطة ، ومثل هذه الادعاءات الملعونة تدرس لديهم في مناهجهم الدراسية وقد أنتجوا أكثر من 700 فيلم يسئ للإسلام والمسلمين ، ويزيف دور المرأة في الإسلام ، ومن ذلك إلحاق أعمال الإرهاب والعنف بالعرب والمسلمين ، فقد قاموا مؤخراً بإنتاج فيلم عدائي تكلفته 150 مليون دولار ، يلحق الكثير من التهم بالمسلمين ويكيلها لهم كيلاً ، ويرى الرئيس السابق نكسون أنه ليس هناك من شعب حتى ولا الصين الشعبية له صورة سلبية في ضمير الأمريكيين بالقدر الذي للعالم الإسلامي .
وهذه بعض جرائم أمريكا الديمقراطية في قتلهم الوحشي الشنيع ضد المسلمين :
لقد قُتل أكثر من مليون طفل عراقي ، بسبب قصف الطائرات الأمريكية للعراق وحصارها الظالم له خلال أكثر من عشر سنوات ، وأصيب الآلاف من الأطفال الرضع في العراق بالعمى لقلة الأنسولين ، وهبط عمر العراقيين 20 سنة للرجال و11 سنة للنساء ، بسبب الحصار والقصف الأمريكي ، وأكثر من نصف مليون حالة وفاة بالقتل الإشعاعي . وقد رفع أحد المحامين النصارى الأمريكيين دعوى على الرئيس الأمريكي جورج بوش - الأب - يطالب فيها بمحاكمته على أنه مجرم حرب ، بسبب ما أحدثه في العراق من قتل وتدمير .
وارتكب الأمريكان المجازر البشعة في حرب الخليج الثانية ضد العراق فقد استخدمت أمريكا متفجرات الضغط الحراري وهو سلاح زنته 1500 رطل . وكان مقدار ما ألقي على العراق من اليورانيوم المنضب أربعين طناً ، وألقي من القنابل الحارقة ما بين 60 إلى80 ألف قنبلة قتل بسببها 28 ألف عراقي .
وقتل الآلاف من الشيوخ والنساء والأطفال الفلسطينيين بالسلاح الأمريكي .(57/227)
وقتل الآلاف من اللبنانيين واللاجئين الفلسطينيين في المجازر التي قامت بها إسرائيل بحماية ومباركة أمريكية .
وما بين تاريخ 1412و1414ه قتل الجيش الأمريكي الآلاف من الصوماليين أثناء غزوهم للصومال .
وفي عام 1419ه شنت أمريكا هجوماً عنيفاً بصواريخ كروز على السودان وأفغانستان ، وقصفوا خلاله معمل الشفاء للدواء في السودان ، وقتلوا أكثر من مائتين وحتى هذه الساعة لا يوجد سبب واحد ومعلن للفجوة بين أمريكا والسودان غير الإسلام والقضاء على السودان ، بصفته كيانا عربياً أفريقياً إسلامياً موحداً ، ولأجل ذلك كثفت أمريكا جهودها وسعت للالتقاء بجميع المعارضين "الميرغني والصادق المهدي وجون قارنق" وألّبت جميع جيرانها ضدها ، ودعمت حركة التمرد وبعض الدول المحيطة بها ، والعجيب أن أمريكا تسعى بكل طاقاتها للضغط على العرب من أجل السلام مع إسرائيل ، وفي نفس الوقت تقف بكل إمكانياتها في عرقلة السلام في السودان من خلال توظيف النصارى في الجنوب ، والذي تصل نسبتهم إلى 5% من السكان فقط ، ويأتي القرار الأمريكي المشئوم يدين السودان ، ثم تأتي الصواريخ الأمريكية لتقصف مصنع الشفاء للأدوية ، وهي لا تملك أدلة تستدل بها ، وهل يقبل المنطق أن هذا المصنع يهدد الأمن الأمريكي ؟ إن الهدف الحقيقي لضرب السودان هو العنجهية الأمريكية ، وإضعاف السودان اقتصادياً والضغط عليها سياسياً .
وقتل في أفغانستان خلال ثلاثة أشهر فقط نتيجة القصف الأمريكي ما لا يقل عن 50.000 أفغاني جُلّهم- إن لم يكونوا كلهم - من المدنيين . وتسبب حصارهم لأفغانستان في قتل أكثر من 15.000 طفل أفغاني .
وحصارها على ليبيا ، إذ أدى هذا الحصار الغاشم إلى كوارث كبرى ، وفواجع عظمى ، إذ بعد خمسة أشهر فقط من بداية الحظر الجوي والحصار ، بلغت خسائر ليبيا ما يزيد على 2 مليار دولار .
وقتل عسكريو إندونيسيا أكثر من مليون شخص بدعم أمريكي .
وأما معاملتهم للأسرى فأسوء معاملة ، فالإنسانية معدومة لديهم ، والقيم الأخلاقية ليس لهم فيها ناقة ولا جمل ، وقد تمثلت في أمريكا أعظم أنواع الإرهاب المنظم وبلغ فيهم الاضطهاد والإرهاب مبلغاً لم يشهد مثله في عالمنا الحاضر ، بل وعلى مر التاريخ المتقدم ، لقد خالفوا الأديان والشرائع بل والقوانين الوضعية . لقد حرص الأمريكيون على إظهار التشفي من هؤلاء الأسرى في (غونتناموا )في كل مناسبة حتى بلغ بهم الحال أن يتركوا هؤلاء الأسرى في مقاعدهم لأكثر من يوم ونصف بلا أي حراك ، ومن دون تمكينهم من استخدام دورات المياه ، ثم يعلنون ذلك لمجرد التشفي والتهكم والسخرية من هؤلاء الأسرى ، كما توضح الصور أن الأمريكيين حرصوا على تعطيل كافة الحواس : السمع والبصر بل وحتى الفم والأنف وضع عليها أغطية كثيفة ، والمتأمل للصور يشعر بأن الأسرى يفتقدون حتى الإحساس بالمكان وربما الزمان ومن الواضح خلال تصريحات المسؤولين الأمريكيين أنهم لن يترددوا في استخدام أي وسيلة يتم من خلالها إهانة وتحطيم هؤلاء الأسرى . فهم بذلك خالفوا كل الأديان والشرائع وخالفوا أيضاً القوانين الوهمية فإن من الاتفاقات القانونية أن إجبار أسير الحرب على الإدلاء باعترافاته هو عمل إرهابي .
هذه هي أمريكا لمن لا يعرفها وهذه بعض إنجازاتها .
أين أمة المليار من هذه الثيران الهائجة والوحوش الشريرة والمواقف الفضيعة ؟
أين العقلانية ؟
أين الإنسانية ؟
أين القيم الأخلاقية ؟
بل أين القوانين الدولية والأعراف المرتسمة ؟
أليس فيهم رجل رشيد ؟
حقاً إن هذه جرائم وحشية ! وأفعال شيطانية ! وتصرفات حيوانية صامته .
إن أمريكا لا تلتزم لا بقانون ولا بأعراف ولا بمواثيق ، وإنما تسعى لمصالحها الذاتية وهيمنتها الشخصية دون مراعاة لروابط دولية ، فهي كانت تنادي بالديمقراطية ولما وقعت عليها الهجمات في الحادي عشر من سبتمبر تلاشت الديمقراطية المزعومة .
إن أمريكا تدعي مكافحة الإرهاب ! وقد سبق ذكر القوائم في أعمالها ومشاريعها الإرهابية ، وقد اتخذت أمريكا من هذا المصطلح وهو ما تسميه هي مكافحة الإرهاب غطاء لها في ضرب المسلمين ومنشئاتهم تحت هذا المسمى .
ولذلك فإن قانون الإرهاب ، وضع على المسلمين وبالتالي امتد إلى الإسلام ، والعجيب أن الإحصائيات الرسمية وتقارير الخارجية الأمريكية تذكر أن أخطر أحداث الإرهاب والتخريب هو ما وقع في أوكلاهوما الذي قتل وأصيب فيه 700 شخص ونسب هذا العمل أولاً إلى إرهابيين في الشرق الأوسط ثم ظهر أن الجانين وليس الإرهابيين ! اثنان من الأمريكيين البيض المسيحيين الأصوليين ونشرت أسماؤهما .(57/228)
إن أمريكا تتسم بالأحادية والطمع والهمجية والتدخل الساخر في شؤون الدول الداخلية وغير احترام لدينهم بل وقوانينهم ، فهي تُشرّع بالغداة وتنسخ بالعشي ليس لديها قانون منضبط ، فهي تنتهك القوانين والاتفاقيات ، فلسان حالها يقول لا نُسأل عما نفعل وهم يسألون ! ونأخذ ما نشاء وندع ما نشاء وننتهك حقوق ما نشاء ، ولا معقب لحكمنا ، يقول ممثل إحدى الولايات في مجلس الشيوخ الأمريكي وهو يلقي خطابه قال فيه : "إن الله لم يهيئ الشعوب الناطقة بالإنجليزية لكي تتأمل نفسها بكسل ودون طائل ، لقد جعل الله منا أساتذة العالم ! كي نتمكن من نشر النظام حيث تكون الفوضى ، وجعلنا جديرين بالحكم لكي نتمكن من إدارة الشعوب البربرية الهرمة ، وبدون هذه القوة ، ستعم العالم مرة أخرى البربرية والظلام ، وقد اختار الله الشعب الأمريكي دون سائر الأجناس كشعب مختار يقود العالم أخيراً إلى تجديد ذاته" .
وإنه لمن الأمر المرير والجرم الكبير ، ما قامت به السياسة الأمريكية الغاشمة والتي أسست على الإرهاب والعنف والتطرف ، من قصف وحشي على إخواننا في العراق هذه الأيام والأيام الماضية ، والتي أهلكوا فيها الحرث والنسل وأبادوا الرجال والنساء والشيوخ والأطفال ، بل وحتى الحيوان البهيمي بل وحتى اليابس والأخضر .
إن قتل الإبادة جريمة كبرى وبلية عظمى ، وحتى القانون الدولي لا يقره بل يعتبره جريمة ، ولكن المشكلة أن منظمة الأمم يسيطر عليها اليهود الأمريكيون ، وسيطرتهم عليها قديمة ولا تحتاج إلى أدلة وبراهين) .
أقسم بالله قسماً آخر .. لن ينصرنا الله تعالى أبداً إلاَّ إذا رجعنا إلى ديننا دون خجل واعتززنا به وبحمله وجاهرنا بدعوة الناس وإليه وإذا رجعنا إلى احتضان القرآن الكريم وضمه إلى صدورنا وقراءة آياته قراءة شغوف بها يرجوا الامتثال لأوامر منزله سبحانه وتعالى وإن كلفه ذلك زهق روحه !!
وإذا كان الله تعالى ورسول صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من أهلنا وأموالنا وأنفسنا ومن الدنيا جميعا ومن الماء البارد على الظمأ .وإذا أطعنا من ولاّه الله أمرنا في طاعة الله وشددنا أزره ورغبنّاه في الآخرة وأنها خيرٌ وأبقى .. وأشعرناه أنَّا جنوده الذين يحبون الموت في سبيل من خلق السموات والأرض وبيده ملكوت كل شيء .. يؤتي الملك من يشاء ويمنعه ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء .. بيده الخير .. وهو على كل شيء قدير .. عندها .. يحق لنا أن نرفع الرأس ، ونستبشر بنصر الله تعالى ؛ لأننا حينئذٍ نستحقه .. ف{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً }النساء40.. لكننا .. أو أقروا ما يصّور لنا حالنا اليوم بالحرف الواحد .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ». فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ « بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ».
اللهم نصرنا الذي وعدتنا .. كف عنا كف المعتدي واحم ديار المسلمين، وبلاد الحرمين خاصة يا جبار السموات والأرض .
==============(57/229)
(57/230)
العفيفة ..
للشيخ / عبدالعزيز السويدان
الحمد لله القائلِ في كتابه الكريم : (( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا و أخرجوا من ديارهم و أوذوا في سبيلي و قاتلوا و قتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم و لأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله و الله عنده حسن الثواب ))
كانت تمشي في السوق مِشيةً مثيرةً متكسّرة ، مزهوّةً بقوامها و عباءتِها الجميلةِ المُخَصَّرَةِ الجذّابةِ جداً ، والتي أبرزت معالِمَ جِسْمِها ، وأضفتْ على قَوامِها نُعومةً ورِقّة .. ولا فُستان سهرة !! ، فمرّت بأختٍ لها من النساء ، فتحسّرت تلك الأخرى و هي ترى ما تلبّست به أختُها من معالمِ الفتنةِ و الإغراءِ و جذْبِ الأنظار ، فخافت عليها من عقاب الله ، نعم .. خافت عليها من عقابِ الله ، و أشفقت عليها من سَخَطِه ، فلم تستطع إلاّ أن تُبادِرَها قائلةً لها : ( يا أختي .. يا أختي تستّري ستر اللهُ عليَّ و عليك في الدنيا و الآخرة ) ، فسبحان من أوقع كلامَها في سويداءِ قلبِ تلك المرأة ، فطأطأت رأسَها و قالت : ( إلى هذه الدرجة !!؟؟ ) ، قالت : ( إي و الله .. ألا ترين نظراتِ الرجال ؟ ) ، فتلفّتت حولها فما هو إلاّ كما قالت ، ثم التفتت إليها و قالت : ( أتدرين أنكِ أوّلُ واحدة تقول لي مثلَ هذا الكلام ؟.. لا أمِّي ، ولا أبي ، ولا أَحَدَ من أهلي ، ولا حتى صديقاتي قدّموا إليَّ هذه الملاحظة !! ) ، (ربما استحوْا مِنْكِ ؟) ، (لا بالعكس .. هم ينتقدون بعض الفساتين إللّي ألبسْها ، وبعضَ الألوان إللّي اختارها ، لكن العباءة .. ولا مرّة .. ، حتّى اللِّي ما يَلْبَسون نوعيّة هاذي العباءة ولا مرّة قالوا شيْ !! ) ، ( تتوقعين إنّ هاذي العباءة حرام ؟؟) ، ( يا أختي أنا متأكّدة إنها حرام .. لأن هاذي العباءة صُمِّمَت أصلاً لتُعطي إللي تلبسها نعومة وجمال وإثارة ، وهاذي الأمور.. يجب على المرأة أن تسترها .. ولاّ تُظهِرْها وتمشي بها بين الرجال ؟؟) ، ( لكن ..أنا ما أقصد إظهارها للرجال) ، ( أنا عارفة ياأختي ..لكن الأثم أحياناً يكون على القصد السّيّء ، وأحيناً يكون على العمل نفسِه ولو لم يكن القصد سيّء ) ، ( سبحان الله ..صحيح هذا الكلام ؟؟!!) ، ( نعم ، شوفي يا أختي .. ، هاذي العباءة واللهِ ما فيها خير ، وما تجيب إلاّ الشرّ.. ، وأحلفْ لِك إنّ الرِّجال ، يحترمون المرأة اللي تلبس عباية الرأس العاديّة ، أكثرْ من اللي تلبس العباءة المخصّرة أوالمغربية أو مثلَها من أنواع العِبيّ ، حتّى الفسّاق أهلُ المعاكسات ما يَجْرَئون على إزعاجها ، ثم لاتنسين ياأختي .. إنّ هناك رب ، وحساب ، وجنّة ونار.. الله يجعلني وياكِ من أهل الجنة ، ويِبْعِدْني وإياكِ عن أهل النار ) ، ( والله كلامِك صحيح ..الله يجزيكِ خير.. الله يجزيكِ خير ..استغفر الله العظيم وأتوب إليه ، استغفر الله العظيم وأتوب إليه )
( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين * وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين)[ 83 ، 84 المائدة ]
أختي الكريمة .. مشهدُ النّصيحةِ هذا .. بوِدِّي لو يتكرّر ، بوِدّي لو تنصحُ كلُّ مسلمةٍ أختَها ، بوِدّي لو تنصحين أنتِ كلَّ مسلمةٍ.. سواءً كنتِ امرأةً متزوجة ، أو كنتِ طالبةً في المدرسةِ ، أو في الكلية ، تنصحين من ترين أنها تستدعي النُّصحَ من أَخَواتِكِ المؤمنات ، فالمؤمنون والمؤمنات ، كما قال الله تعالى ، أولياء يتعاونون على البر والتقوى ( و المؤمنون والمؤمناتُ بعضُهم أولياءُ بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاةَ ويُطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيزٌ حكيم )(57/231)
أختي العفيفة .. حتّى متى نُسْرِفُ على أنفسنا ؟ ، استمعي إلى ما قالته أمُّ سلمة رضي الله عنها .. ، قالت (استيقظَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الليل وهو يقول: لا إلهَ إلا اللّه!! ، ماذا أُنْزِلَ الليلةَ منَ الفتن؟ ، ماذا أُنزِلَ من الخزائن ؟ من يوقظُ صواحبَ الحُجُرات؟ [ يقصِد زوجاتِه صلى الله عليه وسلم ] كم من كاسيةٍ في الدنيا عاريةٌ يومَ القيامة) ، ولاحظي لفظة ( كم من ) في قوله : (كم من كاسيةٍ في الدنيا عاريةٌ يوم القيامة ) فهذه اللَّفْظة تعني الكَثْرة ، يعني : أن النساءَ العارياتِ يوم القيامة كثيراتٌ جدّاً ( نسأل الله السِّتْرَ والسلامة ) ، إذن فالمسألة ليست زِيّاً تلبسينه وانتهى الأمر .. ، لا ، ليس بهذه البساطة !! ، هناك مراقبةٌ لكل فِعْل ، وتسجيلٌ لكل حركة ، ومحاسبة ، وعقاب ، وثواب ، ولذلك .. انظري كيف كان إيمانُ الصحابيات وشدّةُ تأثِّرِهِنَّ بالأحاديث ، يقول الزُّهري : وكانت هند بنتُ الحارث(رضي الله عنها) ، وهي التي روت الحديث عن أم سلمة ، كانت لها أزرارٌ في كُمَّيْها بين أصابعها ، والمعنى ، أنها كانت تخشى أن يبدو من جَسَدِها شيء بِسَببِ سَعةِ كُمَّيْها ، فكانت تُزرِّرُ ذلك لئلا يبدوَ منه شيءٌ ، خوفاً من أن تدخلَ في قولِه صلى الله عليه وسلم (كاسيةٍ في الدنيا عاريةٌ يوم القيامة) ، .
قال الحافظ بنُ حجر في شرحه للحديث : أنه صلى الله عليه وسلم حذّر النساء من لِباس الرقيقِ من الثيابِ الواصفةِ لأجسامهن ، لئلا يَعْرَيْنَ في الآخرة ، واخْتلَفَ العلماءُ في المُرادِ بقوله: «كاسية وعارية» ، وإن كانت المحصِّلةُ وخيمةً على أيِّ حال ، اختلفوا على أوجه ، أحَدُها : كاسيةٌ في الدنيا بالثياب لوجود الغِنَى ، عاريةٌ في الآخرة من الثَّواب ، لعدم العمل على طاعة الله وتركِ مساخطه في الدنيا ، ثانيها : كاسيةٌ بالثياب نعم .. لكنها ثيابٌ شفافةٌ أو رقيقةٌ أوضيِّقة تُبدي مفاتِنَها ، فتُعاقَبُ في الآخرة بالعُري جزاءً على ذلك ، ثالثها : كاسيةٌ جسدَها ، لكنها تشُدُّ خمارَها من ورائها ، فيبدو صدرُها ، فتصير عاريةً ، فتُعاقب في الآخرة ، الحاصل أنّ اللفظة.. وإن وَرَدَتْ في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن العبرة بعموم اللفظ ، قال العلماء : فأراد صلى الله عليه وسلم تحذيرَ أزواجِه من ذلك كلِّه، وكذا تحذيرَ غيرِهن مّمن بَلَغه ذلك ، ولذلك تقول أم سلمة (رضي الله عنها) « لَمَّا نَزَلَتْ { يُدَنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ} خَرَجَ نِسَاءُ الأنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُؤوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ مِنَ الأكْسِيَةِ». وهو ما حَمَل عائشةَ(رضي الله عنه) لأن تُثنيَ على نساء الأنصارِ بذلك وتقولُ فيما ورد : (( إن نساءَ قريشٍ لَفُضَلاء ، ولكني واللهِ ما رأيتُ أفضلَ من نساء الأنصارِ أشدَّ تصديقاً بكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل ، يعني لمّا نَزَلت آياتُ الأمرِ بالحجاب ، بادرْن إلى الالتزامِ بالحجابِ كلُّهُنّ بلا استثناء مباشرةً دون تردد ، تقول : ما منهن امرأة .. ما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرْطها [ وهو الكساءُ من الصوف ] يعني استترْن بتلك الأكسية ، فأصبحن يصلين الصبح معتجِرات [ أي بتلك الأكسية ] كأن على رؤوسهن الغِربان» .
أختي الكريمة .. أنا وأنتِ نتّفق أنّ اللهُ تعالى هو الأعلمُ بعبادِه كما جاء في الآية: ( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ) ، فهو سبحانه يعلم ، أنّ المرأةَ هي أضرُّ فتنةٍ على الرجال ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( ما تركت بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء ) ، ولذلك صحّ أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( المرأةُ عورة إذا خرجت [ يعني من بيتها ] استشرفها الشيطان ) [أي زينها في نظر الرجال ليفتنهم بها ] ولذلك قال الأمام بن المبارك : ( المرأة عورة ، وأقربُ ما تكونُ إلى الله في قَعْرِ بيتها ، فإذا خرجت استشرفها الشيطان.) ، واللهُ تعالى يعلم أيضاً ، أنّ من طبيعةِ الفسّاقِ والمنافقين أذيّةَ النساء المفرِّطاتِ بالحجاب ، لأنّ الاستهانةَ بالحجاب ، أو بهيئةِ الحجاب ، يدعو السِّفلةَ والفُسَّاقَ المتسكّعين في الأسواق والطرقات ، إلى التّعرُّضِ و الأذى و النظر بشهوة ، وهذا من الفساد !! و الله لا يحبُّ الفساد ، فقال تعالى مُرْشداً وآمراً : ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين [يعني من قِبَلِ الفُسّاق] وكان الله غفوراً رحيما ) ، فكانت تلك الاستجابةُ العظيمةُ من نساءِ الصّحابة كما وصفت أمُّ المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها .
أختي العفيفة .. ونحن نسير نحو حالٍ أرشد ، ومستوىً إيمانيٍّ أفضل ، سنقفُ أنا وأنتِ اليوم إن شاء الله تعالى وقَفَاتٍ مهمّة ، ونحاول أن نتأمّلَ عند كلِّ وَقْفَة ، ونوضِّحَ بعضَ المفاهيمَ والثّوابتَ المهمّة ، ثم نُقرِّرُ سويّاً [إن شاء الله] أهمّيّةَ العنايةِ بها ، وهكذا نصنعُ عند كلِّ وقفة .. حتى نَصِلَ إلى بَرِّ الأمانِ.
الوقفةُ الأولى :
(عِلَّةُ الحياة)(57/232)
طالما قرأنا قوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ) لكننا لم نتأمّل بشكلٍ جاد في مدى مطابقة واقعنا لهذه الآية العظيمة ، ربما لو سألتُكِ : ما العِلَّةُ من إيجادكِ في هذه الحياة ؟ لبادرْتِ قائلةً بكل بساطة: لعبادة الله تعالى .. ، أليس كذلك ؟ ، أقول بلى هو كذلك .. ، لكنْ هذه الإجابةُ السطحيّة ليست مقصودةً في هذا المقام ، فلسنا في مدرسةٍ ولا في قاعةِ امتحان.. ، إذن ما المقصود من السؤال ؟ ، المقصود من السؤال هو استشعار أبعادِ الإجابةِ الآنفة .. ، لعبادة الله تعالى ، استشعار مقتضياتِها ، استشعار معناها الحقيقي ، استشعار الجانب العملي الواسع لمفهومِ العبادة .. ، هل يا تُرَى يَقْتَصِرُ مفهومُ العبادةِ في أذهاننا على الصلاةِ و الزكاةِ والصومِ والحج ، أم إنّ للعبادةِ مفهوماً أوسع ؟؟ ، ومَن أفصحُ وأصدقُ من القرآن ليُجِيبَ على هذا التّساؤل .. يقول الله تعالى : ( قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) ، لاحظي الجمع بين الصلاة والحياة ، صلاتي..ثم قال .. ومحياي ، فكلاهما للهِ رب العالمين ، فلئِن تَبَادَرَ إلى الذّهن عند ذِكْرِ العبادة.. "الصلاة" .. فلا تحْجِزِي دونها الحياةَ بأكْمَلِها .. فإنها أيضاً للهِ رب العالمين ، الصلاةُ لله ، والحياةُ لله ، بل حتّى المماتُ لله!! ، والحياة ..(57/233)
أختي الكريمة .. تشمل كلَّ نشاطٍ تقومين به في حياتِكِ ، حتى إماطةُ الأذى عن الطريق ، الذي بعتبِرُهُ مُعظَمُ الناس مُجرَّدَ سلوكٍ حضاريّ.. هو أيضاً لله ، أي أنّه عبادة كما صح في الحديث ، بل حتى المشاعرُ وخوالجُ القلب كلُّها عبادات يجب أن تُصْرف لله لاشريك له ، فالحبُّ والبغض ، والموالاة والمعاداة ، والخوف والرجاء ، والرغبةُ والرهبة ، والخضوعُ والتوكل .. كل هذه المشاعرِ القلبية عباداتٌ عظيمة ، وليس الصلاة والصوم فقط ، ويجب أن تكون كلُّها خالصةً لله ، ولا تتصوَّري أنّ هناك تعقيداً أو صعوبةً في هذا المفهوم أو في ممارسته ، أبداً..أبداً ..الأمر فقط يحتاجْ إلى حضور قلب ونيّة ، فمُمارسةْ هذا المفهومِ الشّامل إذاً ، هي العبادةُ بعينها ، بل إنّ العبدَ [وأقصدْ بالعبد ، الرّجُل والمرأة على حدٍّ سَواء] العبد ، لا يكونُ عبداً حُرّاً من كلِّ قيْد ، …حُرّاً من كلِّ قيْد ، من كلِّ قيد أقول .. ، حتى يُجَرِّدَ هذه المشاعرَ القلبيةَ للهِ وحدَه لا شريكَ له ، فلا يجمع بين المتضادّات في قلبه ولا في سلوكه ، فيزعُمُ إخلاصَ المحبةِ للهِ مثلاً .. يقول : (أنا أحبُّ الله وحده لاشريك له ، وأنا مُخلِص في حُبِّي لربّي [وإخلاصُ المحبّةِ أعظمُ عبادة] ثم بعدَ كُلِّ هذا التعبير الجازم والتأكيد على محبّةِ الله.. يُجاهِرُ بمعصيته ..!! ، كيف؟ ، ويباهي بها .. ، ويُصِرُّ عليها..كيف؟ ، أين إخلاصُ المحبَّةِ للهِ إذن ، أين ؟؟ ، لأن المتعارفَ عليه .. أنّ مِن مقتضياتِ المحبّةِ الكاملةِ الخالصة .. طاعةَ المحبوب ، إذا أحببتِ بإخلاص .. ما الذي تحرصين عليه ..؟ إرضاءُ من تُحِبِّين أم إسخاطُه ؟؟ ، طاعتُه أم معصيتُه ؟؟ ، ثم بِناءً على محبّتِكِ لله .. من وماذا تحبين ؟ ، فإذا كان الجواب : لأنّي أُحِبُّ الله ، فإنّي أحبُّ ما يحبّه الله !! ، .. نقول هذا الكلام جميل ..!! لكن إذا كان في قلبِكِ مكانٌ للفسقةِ ، والعُصاةِ المجاهرين بالمعاصي ، فتحبّين المطربة الفلانية ، وتُعجَبين بالمطرب أو الممثّل الفلاني ، فينبغي مراجعةُ كلامِكِ السابق ، فالتناقض ، والازدواجيّة بين ضِدّين أمْرٌ مرفوض ، فإنّ المُحِبَّ الصّادق ، لا يَخلِطُ في محبّتِه بين حبيبِهِ ومن يُسخِطُ حبيبَه ، فالعبرة إذن ليست في محبّةِ اللهِ عزّ وجلّ .. ، فكلٌّ يدّعي محبّةَ الله ، ولكنّ العبرةَ في محبَّةِ ما يُحِبُّ اللهُ جلّ وعلا من الأعمال ، والهيئات[ أي الأشكال] ، والأقوال ، ... ولذلك امتحن الله الناسَ رجالاً ونساءً بهذه العبادةِ العُظمى قائلاً : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ، فالاتباع ، والخضوعُ لأمر اللهِ ورسولِه ، هو برهانُ المحبّة ، وقال تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكنُ ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربّصوا حتى يأتيَ الله بأمره و الله لا يهدي القوم الفاسقين ) ، وواللهِ يا أختي .. إنّ السعادةَ الحقيقة ، لا السعادةَ الوهميةَ الآنيَّةَ الخادعة..لا .. ، هذه يشترك فيها معظمُ الناس ، العصاة ، الفجرة ، بل حتّى الكُفّار ، يضحكون مِلءَ أفواههم اليوم ، ويحسَبون أنّهم سُعداء .. ثم يقطِّعُهُم البكاءُ من الغد !! ، لا ..لا.. ، أنا أتكلّم عن شيءٍ آخر ، أنا أتكلّم عن السعادة الحقيقية ، سعادةِ الإيمان ، السعادة التي تجدينها عندما تنفرِدِين بنفسِك ، ما معكِ أحدٌ إلاّ الله .. ، فَتَشْعُرينَ بسعادةِ مناجاتِه والأُنسِ به تبارك في عُلاه ، ولا تجدين ما يُنَغِّصُ عليكِ هذا الأُنسَ والانشراح من أنواعِ المعاصي ، ويتحقّقُ اتّصالٌ مُباشر بينَ قلبِكِ وبين من تُحبِّين بكُلِّ صدقٍ وإخلاص ، اتّصالٌ مباشرٌ بين قلبِكِ وبين الله ، هذه هي السّعادةُ التي أعنيها ، السعادة الممتدّة عبر هذه الحياةِ القصيرة إلى ما بَعْدَ هذه الحياة ، السعادة الأزليّة التي لا تنتهي ، لا تنتهي ، فهي معكِ حيثُما كُنتِ ، وحيثُما تقلّبَ بِكِ الزّمان ، في السّرّاءِ والضّرّاء ، في الغِنى والفقر ، في الصِحّة والمرَض ، إنّه السّرور الذي تجدينه في الحياة ، وأثناءَ الاحتضارِ عند توديعِ الحياة ، وبعد الموتِ وأنتِ لِوَحدِكِ في القبر ، وعند النشور في يومِ العرْضِ الأكبر ، يومِ الحساب ، كما قال اللهُ تعالى مُبشّراً : ( فأمّا من أوتي كتابه بيمينِه فسوف يُحاسَب حساباً يسيراً وينقلِبُ إلى أهلِهِ مسروراً) هذا السرور وهذه السعادة .. ، لا تتحقق إلاّ بتجريدِ العبوديّةِ كلِّها لله تعالى كما ذكَرْتُ آنِفاً ، فالحياةُ الطّيّبة ، التي هي حياةُ الطُّمأنينة ، وراحةِ البال ، وراحةِ الضمير ، لا يُمكِن أن تتحقق إلاّ بتجريد المشاعرِ والأفعالِ لله تعالى ، كما قال تعالى : ( من عمل صالحاً ممن ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياةً طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) ، نعم .. حياةً طيبةً في الدنيا ، و حياةً أطيبَ منها في الآخرة ، والآن أعود وأسأل .. هل تصوّرتِ هذا المفهومَ الواسعَ للعبادة لمّا أجبْتِ على السؤالِ(57/234)
المتقدِّم ، لمّا سألتُكِ فقُلْتُ: ما العِلَّةُ من إيجادِك ؟ فقلتِ : عبادةَ الله ، هل تصوّرتِ هذا المفهومَ الواسعَ للعبادة لمّا أجبْتِ على السؤال ؟ ، فإن كانت الإجابة ( لا..لم أتصوّر هذا المفهومَ الواسع ) فيلْزَمُكِ استدراكُ الخلل ، واستكمالُ مفهوم العبادة بشكلٍ شاملٍ وعمليّ ، ومحسوس ، راجعي أختي ..راجعي ، راجعي مدى مطابقةِ سلوكيّاتِك لما يحتويهِ قلبُكِ من مشاعرِ العبادة ، عسى اللهُ أن يُعِينَكِ ويأخُذَ بيدِكِ ، .. وأمّا إن كانت الإجابة ( نعم .. كنت أتصور هذا المفهوم ) ..فالحمد لله إذن ، ولْنَنْطلِقْ في طريقنا نحو التطبيق العملي .. وهو السلوك ..
الوقفة الثانية :
( السلوك )
السلوك أختي الكريمة .. هو مصداق ما في القلب مِن أعمال ، ولأنّ أعمالَ القلب أصلُ مَيْدانِها.. أصلُ مكانِها القلب ، فهي إذن خفيّة مستترة ، القلب .. لا أحَدَ يستطيعُ أن يَشْهَدَ بما فيه من صِدْق ، وإخلاص ، ومحبّةٍ لله ، وخضوع ، ورهبة ، وخشية ، وتعظيم ، وغيرِها من الأعمالِ القلبية ، فالسبيلُ الوحيد إذن لمعرفةِ قيامِ أعمالِ القلب هذه وحقيقتِها ما هي؟ .
هي عَمَلُ الأركان ، عملُ الجوارح ، فالقلبُ إذا أخلص العبادةَ لله ، فاض ذلك الإخلاصُ على أركان الجسدِ كلِّه ، فيتحرك الجسد بما يُمليهِ عليه قلبُ المخلصِ المحبِ الله ، فالسلوك إذن .. ، ماذا تقولين ، ماذا تفعلين ، ماذا تلبسين ، كيف تتعاملين مع نصوصِ القرآن وأوامرِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وإرشاداتِه ، .. هذا السلوك ، هو انعكاسٌ حيٌّ ظاهرٌ محسوس لما استتر في القلب من إيمان ، ومشاعر ، وتعظيم وإجلال لله تبارك وتعالى ، والآن .. هل يُمكن أن تتصوَّري وجودَ صدْقٍ وإخلاص وحبٍّ لله ، ورهبةٍ وخشيةٍ منه ، وتعظيمٍ له ، في قلْبِ من إذا غادرت البلادَ ، وهي على مَتْنِ الطائرةِ بعْدُ ، لم تَمَسَّ قدمُها الأرضَ التي هي مُسافِرةٌ إليها ، كان من سلوكِها أنْ خلعت العباءةَ والحجاب ، ثم طوتْهُما ، كأن لم تكن بينها وبينَهما مودّة ، وحشرتْهما في شنطتها ، كَمَنْ يُخْفي عَيْباً !! ، ثم خرجت أمام أعينِ الناس مُسْفرةً عن كلِّ زينة !! ، أسألُكِ بكُلِّ أمانةٍ أُختي الكريمة ، هل يُمكن أن تتصوَّرِي صدْقاً وإخلاصاً للهِ في قلْبِ من تسلُكُ هذا السلوك ؟؟ ، هل يُمكن أن تتصوَّري تعظيماً للهِ وإجلالاً لأمره ونهيه في قلبِها؟؟ ، هل يُمكن أن تتصوَّري حُبّاً لما يُحِبُّه الله في قلبها ؟؟ ، هل يُمكن أن تتصوَّري ذلك ..
أُختاه يا بِنتَ الجزيرةِ ربما *** غَطَّى على عينيكِ فِكْرٌ أحمر
ولَرُبمَّا خدَعَتْكِ عَلمانيّةٌ *** ولَرُبمَّا أغراكِ ذِئبٌ أغبر
أُختاه يا بِنتَ الجزيرةِ هكذا *** وخنادقُ الباغينَ حولَكِ تُحفر
أو هكذا والحربُ تَضْرِبُ دَفَّها *** يُلقَى بيانُكِ بالسفور ويُنشَرُ
أو هكذا والملحدون تجمّعوا مِن *** حولِنا والطّامعون تجمهروا
أنسيتِ فاطمةَ التي لِحِجابها *** خَضَعَتْ فرنسا والعُصاةُ توتّروا
أنسيتِها .. أنسيتِ كيف تحدّثت *** عنها الوسائلُ كيف عَزَّ المَخْبَرُ
قد كنتِ أوْلَى أن تكوني قُدْوةً *** تدعو إلى إسلامِها وتُبشِّرُ
قد كنتِ أوْلَى أن تكوني للتُّقى *** رمْزاً يَجِلُّ به العَفافُ ويفْخرُ
أوّاهُ يا بِنتَ الجزيرةِ هكذا *** تتمرّدين لبِئسَ هذا المنظرُ
إنّ التِزامَكِ بالحجابِ تماسُكٌ *** والسّعيُ في نزْعِ الحجابِ تدهْورُ
إنّ التِزامَكِ بالحجابِ تقدُّمٌ *** والسّعيُ في نزْعِ الحجابِ تأخُّرُ
ماذا نقولُ لكعبةِ الله التي *** بالثَّوْبِ طُولَ زمانها تتستّر(57/235)
فَنَزْعُ الحِجاب ، والتّفريطُ في الالتزامْ بهيئةِ الحجابِ الرّبّانيّةِ الشّرْعيّة ، هذا السلوكُ المَشين ، سلمكِ اللهُ منه ، سلوكٌ عمليّ .. ولا يُمكن أن ينعَزِلَ السلوكُ عمّا يُكِنُّه القلب ، إذِ القلب .. هو الذي يُفرِزُ السلوك ، هذه هي الحقيقةُ الناصعة مهما كابرَ المُكابِر ، وهو مصداقُ قوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا إنّ في الجسد مُضغةً إذا صَلَحت صلح الجسدُ كلُّه وإذا فسدت فسد الجسدُ كلُّه ألا وهي القلب ) ، وأذكِّرُ هنا.. أننا قد اتّفقنا أنا وأنتِ من قبْلُ على مفهومِ العبادةِ الواسع والشّامل ، وأنّكِ تَعينه وتفهمينه جيّداً ، القضية أختي ليست صلاة وصوم فقط ، لا .. ، القضية أكبر وأبعدُ من ذلك ، إنّ العبادة تسليمٌ واستسلام ، تسليمٌ بربوبيَّةِ الله.. أنّه هو الخالق ، الرّزّاق ، مالكُ كلِّ شيء ، له وحدَه حقُّ الأمرِ و النهي كما جاء في الآية ( ألا له الخلق والأمر) ، هذا أوّلاً ، ومن ثَمّ .. ، استسلامٌ لأمره (سمِعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) وهذا ثانياً ، فالإستسلام ، الذي يعني السّمع والطّاعة ، هو نتيجةٌ حتْميّةٌ لإيماننا الكامل بربوبيّته ، ولذلك .. تريْنَ اللهَ عزّ وجلّ يُقسِم بذاتِه العظيمةِ جلّ وعلا .. ، يقسِمُ بذاتِه المقدّسة على هذا الأمر ، ولا يقسِمُ اللهُ بذاته إلاّ على أمرٍ عظيمٍ جدّاً ، وهذا الأمرُ العظيم هو صِدْقُ استسلامي واستسلامِكِ لأحكامِه وأوامرِه عزّ وجلّ ، قال تعالى : ( فلا وربِكَ [ ما الذي يُقسِمُ به اللهُ هُنا ؟ يُقْسِمُ بذاتِه سبحانه ] فلا وربِكَ لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليما) ، وتأمّلي أيّتها الفاضلة(أسْعَدَكِ اللهُ بطاعتِه) تأمّلِي في قوله تعالى : ( ويسلموا تسليما ) فلم يقل : ( ويسلّموا ) فقط ، لا.. ، بل أتى بالمفعولِ المطلق الذي هو المصدرُ هنا ( تسليما ) والذي يفيد التّوكيدَ الجازم على فَرَضِيّةِ التسليم لأحكام الله جلّ وعلا ، باطِناً وظاهِرا ، فقال مؤكِّداً وجازماً : ( ويسلّموا تسليما ) ، وإنّ من التسليم للهِ تعالى ، أن تشعُرَ المسلمة بالحياءِ من اللهِ خالقِها ، تشعُر بالحياء باطِناً وظاهِرا ، فالحياءُ في أصلِهِ شعورٌ قلبيّ ، لكنْ يظهرُ أثرُه على السّلوك بشكلٍ واضح ، الحياء .. يظهرُ أثرُه على السّلوك بشكلٍ واضح ، وهو عبادةٌ عظيمةٌ جدّاً جدّاً ، بيّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولِه : ( الحياءُ والإيمانُ قُرِنا جميعاً فإذا رُفِعَ أحدُهُما رُفِعَ الآخر ) ، سبحان الله !! ..إذا رُفِعَ الإيمان رُفِعَ الحياء ، وإذا رُفِعَ الحياء رُفِعَ الإيمان ، .. والآن .. هل من الحياء أن تخرُجَ المرأةُ المسلمةُ الموحِّدة في حفْلاتِ الزّواج ، أو أيَّةِ مناسَبَة ، بأزياء تكشِفُ مفاتِنَها أمام النساء ..؟؟ ، هل من الحياء أن تخرُجَ بفستان قصير فوق الركبة ، وآخر مشقوقِ الجنبين يُظهِرُ فخِذَيْها ، وآخر يكشِفُ صدرَها .. نِصْفَه أو أكثرَ من ذلك ، أو يكشِفُ كلَّ ظهرِها ، أو تخرج بفستانٍ ضيّق يُحجِّمُ مفاتِنَها ، أو غيرِها من الأزياءِ التي لا تليقُ بالمرأةِ العفيفة ، هل من الحياء .. الذي هو دليل الإيمان .. أن تخرُجَ المرأةُ بمِثلِ هذه الأزياء ..؟؟ ، أَوَ هكذا تسوقُنا الأهواءُ والشّهواتُ سَوْقَ النِّعاج..! ، نركُضُ وراء الموُضة بلا شعور !! ، نركضْ وراءَها رَكْضَ العُميان !! ، نركض وراء الموُضة بلا اعتبار لدين ولا أخلاق ولا حياء!! ، أين تميّزُ المسلمة عن غيرِها من نساءِ الكُفْرِ والإباحيّة ؟ ، أمّ سلمة (رضي الله عنها) ، أمّ سلمة التي ينبغي أن تكونَ قُدْوةً لكِ ولكلِّ مسلمة ، لمّا سمِعت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول : ( من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظرِ الله إليه يوم القيامة ) ، جاءت إليه تسألُهُ باهتمامٍ شديد ( فكيف يصنعُ النساءُ بذيولهنّ [ أي بطرفِ الفستان أو الثّوب ] ، قال : (يرخين شِبْراً ) ، فقالت : ( إذن تنكشفُ أقدامهنّ !!) ، قال : ( يُرخين ذراعاً ولا يزدن ) ، الله أكبر .. انظري .. ، انظري .. ، ما الذي أقلق أمَّ سلمة (رضي الله عنها) ؟؟ ، انكشافُ القدمين !! ، ..كيف تنكشفُ القدمان .. هذا هو الذي أقلقها ؟!! ، ..هل لكِ أن تتصوّري حياءً مثْلَ هذا الحياء أختي المسلمة ؟؟ ، ولمّا نعود إلى أصلِ الحكم الفقهي ، أقول : نعم .. ، نعم .. هناك من تحتجّ ببعضِ أقوالِ العلماء مِن أنّ حدودَ عورةِ المرأةِ أمام المرأة من السُّرّةِ إلى الرّكبة ، وهو قولٌ مَبْنِيٌّ على أن الأصل ، اشتراكُ المرأةِ مع الرّجلِ في الأحكام إلاّ ما خُصّت به المرأة ، فلمّا لم يأتِ بيانٌ خاصٌّ بالمرأةِ في حدودِ عورتِها بالنّسبةِ للمرأة ، قاس أصحابُ هذا القولِ على الحكمِ بالنسبة للرجال ، فقالوا : عورةُ المرأةِ أمام المرأة من السّرّةِ إلى الركبة أيضاً ، وقيّد بعضُهم جوازَ النّظرِ بأمْنِ الفتنة ، يعني إذا لم يكن هناك فتنة ، فيجوزُ لها أن تنظرَ سِوى ما بينَ السّرّةِ والرّكبة ، واستدرك بعضُ العلماء على هذا القول بالتّفريق بين (حكمِ(57/236)
النّظر وحكمِ اللّباس) ، فقالوا : هناك أحكامٌ للنّظرِ وأحكامٌ لِلّباس ، فجوازُ نظرِ المرأةِ إلى صدرِ المرأةِ مثلاً ، لا يستلزِمُ جوازَ تكشُّفِها وارتداءِها ملابسَ الفاسقات ، فإنّ التّشبُّهَ بالفاسقاتِ بِلُبْسِ ملابِسِهِنّ الخليعةِ الفاضحةِ ، حرامٌ قطْعاً ، وإنّما أجزْنا النّظرَ لما تقتضيه حاجةُ المرأةِ من كشْفِ الثّديِ للرَّضاعِ حالَ اجتماعِها بالنساءِ وما شابه ذلك ، وعلى أيِّ حال ..أختي الكريمة ، فهناك قولٌ فقهيٌّ قويّ يذهبُ إلى أنّ حدودَ عورةِ المرأةِ بالنّسبةِ للمرأةِ ، هي كما هي بالنّسبةِ للمحارم ، أي مواضعُ الزّينةِ مِن جسدِ المرأة ، وهي كالتالي : الشعر ، الذي هو موضعُ التّاج ، والنحر ، الذي هو موضعُ القِلادة ، واليدان والذراعان حتى العَضُدَيْن ، موضعُ الخاتَم و الأَسورةِ والدُّملُج ، والقدمان حتّى أسفلَ السّاقين ، موضِعُ الخَلْخال ، أمّا ما وراءَ هذه الحدودِ ، فحرامٌ كشفُهُ على الإطلاقِ ، سِوى للزّوج ، واستدلّوا على ذلك بالآيةِ الكريمة (وقل للمؤمناتِ يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ، ، ولا يبدين زينتهنّ [ أي زينتَهُنّ ذاتَها ويأتي تَبَعاً مواضعُ زينتِهِنّ ] إلاّ لبعولتِهِنّ أو آبائهِنّ أو آباءِ بعولتهِنّ ، ، إلى قولِه : أو نسائهن ) ، فجَمَعَ في حدود ما يجوزُ أن تُبدِيَه المرأةُ من أجزاءِ جسدِها ، جَمَعَ بين المحارمِ والنساءِ ، فحُكْمُهُما واحد ، .. ولذلك نرى نهْياً من الرّسولِ صلى الله عليه وسلم للرّجالِ أن يسمحْنَ لزوجاتِهِنّ أن يدخُلْنَ الحمّامَ الخاصّ بالنِّساء [ والمقصود : هو ذلك الحمّامُ الجماعي الخاصّ ، إمّا للرجالِ أو للنساء ، والذي يُخَصَّصُ في بعضِ البلاد من أجل غَسْلِ الجسد ، أشْبَهَ بالحمام التُّرْكي ، ويُخْشَى أن يكونَ فيه كشْفٌ للعورات ] ، قال صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليومِ الآخِر فلا يُدخِلُ حليلتَه الحمّام ) ، رواه النَّسائي والتِّرْمذيّ وحسّنه ، وفي حديثِ أبي أيوبٍ (رضي الله عنه) بلفظ : (من كان يؤمن بالله واليومِ الآخِر من نسائكُم فلا يَدخُلِ الحمّام ) ، وعن أبي المُلَيْحِ الهُذَلِيّ ، أنّ نساءً من أهلِ حِمْص ، أو من أهلِ الشّام ، دخلْنَ على عائشةَ (رضي الله عنها) ، فقالت : ( أنتُنّ اللاتي يَدخُلْنَ نساؤكُنّ الحمّامات ؟! ، سمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما مِنِ امرأةٍ تضعُ ثيابَها في غيرِ بيتِ زوجِها إلاّ هَتَكَتِ السِّتْرَ بينها وبين ربِّها ) رواه التِّرمذيُّ وهو صحيح ، فتلك الآية ، وتلك الآثار تدُلُّ على أنّ الحياءَ لباسٌ للمسلمةِ لا تنزِعُهُ عنها ، سواءً أمام الرجال ، أو أمام النِّساء ، فالأزياءُ الخليعة التي يلبَسُها بعضُ النساء ، أو كثيرٌ من النساء في الحفَلات ، ويتباهيْن بها وبخلاعَتِها وتعريتِها لأجسادهن ، تناقِضُ الحياء ، ولا تليق أبداً بالمرأةِ المؤمنة ، ..(57/237)
ظاهرةٌ أخرى تتعلقُ بالسلوكِ النّابعِ من مقدار إيمانِ المسلمةِ بحديثِ الرّسولِ( صلى الله عليه وسلم ) ، إنّها ظاهرةُ السّفرِ بدونِ محرم ، فما هو مقدارُ إيمانُكِ أختي المسلمة بحديثِ النّبيِ( صلى الله عليه وسلم ) الذي يقولُ فيه : ( لا تُسافرُ المرأةُ إلاّ مع ذي محرم ) رواه أحمد والبيهقي بسندٍ صحيح ، ولا تغترِّي أختي العفيفةُ ببعضِ الآراءِ الغريبةِ المُتساهلة ، الآراءِ التي لا تستندُ إلى دليل ، كالرّأيِ الذي يُجيزُ للمرأة السفرَ مع مجموعةٍ مأمونةٍ من النّساء ، فالحكمُ الشّرعي لا يؤخذُ من الآراءِ العقلانيّة التي تَأَثَّرَ أصحابُها بضغطِ الواقع وكثرةِ الأهواء فحرِصَوا على أن يُنشِئوا فِقْهاً يُناسبُ أمزجةَ النّاسِ ولو خالَفَ الدّليل ، فالحكمُ الشرعيّ لا يُؤخَذُ من تلك الآراء ، أُختي في الله ..إنّ الأمرَ دين ، والدِّين .. هو أعظمُ وأغلى شيءٍ يملِكُهُ الإنسان ، فلا يُؤخذُ مِن أصحابِ المناهجِ التي ترى أنّ التّيسيرَ ، في قولِه( صلى الله عليه وسلم ) : ( يسِّروا ولا تُعسِّروا ) هو في اتّباعِ الأقوالِ الضّعيفةِ والآراءِ الشّاذّة ، هؤلاءِ لن يرفعوا عنكِ الإثمَ باتّباعِكِ لأقوالِهِم ، وإنّما يَعتصِمُ المسلمُ بالكتابِ والسنّةِ في مثلِ هذه الأمور ولو خالَفَ رغبةَ النّفس ، ومِن ثَمّ يطلُبُ البراءةَ لدينِه ، ولقد أعْفَىَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً من الجهادِ في سبيل الله من أجلِ أن يُسافرَ مع زوجتِه إلى الحج ، ولو كان سفرُ المرأةِ لوحدِها مع النساءِ مُباحاً لرخّص لها النّبيُّ صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فعن ابن عباس: « أَنَّه سَمِعَ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَقُولُ: لاَ يَخْلُونَّ رَجَلٌ بِامْرَأةِ إلاَّ وَمَعَها ذو مَحْرَمٍ وَلاَ تُسَافِرُ الْمَرْأةُ إِلاَّ مع ذِي مَحْرَمِ» ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وإِنِّي اكْتُتِبْتُ في غَزْوَةِ كَذَا وكذا ، قَالَ: « فَانْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ». متفقٌ على صحّته ، فإذا كان الرّجلُ يُعفَى من الجهاد من أجْلِ السّفرِ مع زوجته ، فكيف تُبيحُ المُسلِمةُ لِنَفْسِها السّفر بلا محرم بلا سبب أو لأدنى سبب ؟ ، وإذا كان الشّارعُ قد نهى المسلمةَ عن سفرِ الطّاعةِ ، كالحج مثلاً ، بدونِ محرم .. فكيف بغيرِهِ من الأسفار العادية للنُّزهة أو للزيارة ..؟ ، جاءَ عند الداّرَقطني من حديث بنِ عبّاس أنه( صلى الله عليه وسلم ) قال: «لاَ تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إِلاَّ وَمَعَهَا زَوْجٌ» صححه أبو عوانة .
الحاصل أختي الكريمة ، أن السلوك مهما كان.. هو مِصداقُ ما في القلب مِن أعمال ، ولا يُمكن لأحدٍ أن يفرِّقَ بين السلوك وبين ما يُكِنُّه القلب ، ولذلك جمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين الأمرين في ميزانِ الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبِكم وأعمالِكم) رواه أحمد ومسلم وبن ماجة ، (ينظرُ إلى قلوبكم وأعمالكم).. إذن لا انفصال بين عمل القلب وعمل الجارحةِ في ميزانِ الله تبارك وتعالى .
ألا تتّفقين معي إذن أختي الكريمة ، في أنّ السّلوكَ .. هو مصداقُ ما في القلب مِن أعمال؟؟ ، وأنّ كُلَّ عمَلٍ صغيرٍ وكبيرٍ تقومين به ، وكُلَّ مَظْهرٍ تَخرُجين به ، بِحَسَبِ قُرْبِه أو بُعْدِهِ مِن دينِ الله .. إنّما هو انعكاسٌ (حيٌّ ، ظاهرٌ ، محسوس) لما استتر في قَلْبِكِ من إيمان ومشاعرَ حُبٍّ وتعظيمٍ وإجلالٍ لله تبارك وتعالى ؟؟ ، إذا قُلْتِ كلاّ لا أتّفِقُ معَك !! ، قُلْتُ استعيني باللهِ ، واسأليهِ الهدايةَ والرّشاد ، وراجعي كتابَ الله ، راجعيه ..فإنّه مليءٌ بالأدِلّةِ ، مليءٌ بالأدِلّةِ على هذه الحقيقة ، أمّا إنْ كانت إجابَتُكِ : بلى أتّفِقُ معكَ ..[ وهو ما أتوقّعُه إن شاءَ الله] قُلْتُ : الحمدُ للهِ .. عسى اللهُ أن يُثَبِّتَ قلبي وقلبَكِ على الحقَّ ، فإنّ الثّباتَ على الحقِّ والاستقامةَ عليهِ نعمةٌ عظيمة ، والثّباتُ على الحقّ ، يقودُنا للوقفةِ الثّالثةِ التي تُعْنَى بِرعايةِ الحقّ وحِفْظِه ، ووِقايَةِ القلب مِن أسبابِ الزّيغِ والانحراف .. ،
الوقفةُ الثالثة:
(قُطّاعُ الطّريق ..!!)
ربما سمِعتِ ، أو قَرَأتِ يوماً ما تحذيرَ البعضِ للمرأةِ المسلمة بأنّها مستهدَفة .. ، فهل أنتِ فِعلاً مُستَهدفة ؟ ، وما معنى مُستهدفة ؟ ، وما الدّليلُ على هذا الاستهداف ؟ ، أم أنّ موضوعَ الاستهداف ، كما يقول بعضُ كُتّابِ الصُّحف وبعضُ المثقّفين ، موضوعاً وهمِيّاً لا حقيقةَ له ؟؟ ، ويُلحِقونَه بما يُسمُّونه نظريّةَ المُؤامَرة !! ، .. فدعينا نتناولُ هذه التّساؤلات :
هل أنتِ فِعْلاً مُسْتهدَفة .. وما الدّليل على ذلك؟(57/238)
والجواب : بدونِ فلسفةٍ طويلة ، ولا كلامٍ عَقْلانيٍّ فارغ ، هناكَ اسْتِهْدافٌ عام ، وهناكَ اسْتِهْدافٌ خاص ، أمّا الدّليل على الاستِهداف العام ، فهو ما نطَقَ به القُرآنُ الكريم وحذّر منه في أكثرَ مِن آية ، قال تعالى : {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }. إنما يدعو حزبه ، يعني شيعتَه ، ومن تابعَهُ إلى طاعته والقَبولِ منه ، والكفرِ بالله ، لِيَكُونُوا منْ أصحَابِ السَّعِيرِ ، وقال تعالى : {يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } ، فنحن جميعاً مُستهدفون مِن قِبَلِ الشّيطانِ وأعوانِه ، بل إنّ القرآنَ بَيّنَ هذا الاستهدافَ الشّيطاني على لسانِ عدوِّنا اللّدودِ ذاتِه لمّا قال : {قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } ، وهناك آياتٌ أُخرى كثيرةٌ مُشابهة لا يتّسِعُ المَقامُ لذِكرِها ، .. ثم إنّ للشيطان أعواناً ، ولذلك حذّر النّبيُّ( صلى الله عليه وسلم ) في أكثرَ مِن حديث ، مِن أن يكونَ المسلمُ عوناً للشيطانِ على أخيه ، فيقول أحياناً( صلى الله عليه وسلم ) : ((لاَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا أعوانَ الشيطان)) ، ويقولُ أحياناً أُخرى: ((لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم)) ، فإن كان المُستَهْدِفُ في هذه الآياتِ هو الشّيطان .. فإنّ له[كما تقدّم] أعواناً مِن الإنسِ هيّأهُم ، ثُمّ استخدمهُم لإعانتِه في تحقيقِ هدفِه ، سواءً علِموا بذلك أم لم يعلموا ، والحقيقةُ أنّهم لا يعلمون .. إذْ أنّ ضلالَهم قد اسْتفْحل فيهِم حتّى أعماهُم عن الحقّ فاجتنَبُوه واتّخذوا الباطل سبيلاً لهم ، بل إنّهم أصبحوا دُعاةً للباطل ، فكانوا بذلك أعواناً للشّيطان بالضّرورة ، وهؤلاء هم أهلُ الأهواءِ والشهوات من الإنس ، قال تعالى : (( إنّ الذين يحِبّون أن تشِيعَ الفاحِشةُ في الّذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدّنيا والآخرة ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون )) ، وقال تعالى : (( وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً )) ، تلك المحبّة ، وهذه الإرادةُ هما أصْلُ الاستهداف !! ، إنّهم يُحِبُّون أن تشيعَ الفاحشةُ في أهْلِ الخير ، وإنّهم يُريدونَ أهلَ الخيرِ والطّاعةِ أن يميلوا عن طريقِ الهُدى ميلاً عظيما ، إنّهم واللهِ .. يُرِيدُونَكِ أنتِ أن تَميلي مَيْلاً عظيما!! ، وإنّهم كما ذكر صلى الله عليه وسلم مِن جِلدتِنا ، ويتكلّمون بألسِنَتِنا ، وقد يُصَلُّون معنا ، لكنهم كما قال(عليه الصّلاةُ والسلام) : ((دُعاةٌ على أبوابِ جهنّم ، من أجابهُم إليها قذفوه فيها !!)) ، هذا حَوْلَ الاستهدافِ العام ، أمّا الاستهداف الخاصُّ بكِ ، حفِظَكِ اللهُ من الشيطانِ وأعوانِه ، فدليلُهُ قولُهُ( صلى الله عليه وسلم ) : ((الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَت اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَان )) رواه التّرمذيّ وبنُ ماجة وبنُ حِبّان ، وهو حديثٌ صحيح ، قال العلماءُ في شرْحِهِم لقولِه ((استشرفها)) ، أي : أي زيّنها في نَظَرِ الرِّجال ، وقيل أي نَظَر إليها ليُغْوِيَها ويُغْوِيَ بها ، فأنتِ أيّتُها الأختُ الكريمةُ مُستَهْدفةٌ مِن قِبَلِ إبليسَ وأعوانِه ، وإبليس يحاولُ أن يُفْسِدَ دينَكِ ، ويُفسِدَ دينَ الرِّجالِ بكِ بِحُكْمِ الميْلِ الذي فُطِرَ عليهِ الرِّجالُ نحوَكِ ، ذلك الميْلُ الذي قال اللهُ تعالى فيه : (( زُيِّنَ للنّاسِ حُبُّ الشَّهواتِ مِنَ النّساء .. الآية )) ، فجاءت النِّساءُ في المُقدِّمة ، وذلك الميْلُ الذي حذّر مِنه النّبيُّ صلى الله عليه وسلم في صورتِهِ المُحرّمةِ قائلاً : «ما تركتُ في الناسِ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجالِ من النساء» رواه البخاري ومسلم ، ومن هنا نُفسِّرُ استِخدامَ الشّرقِ والغرْبِ للنِّساءِ ، بل وكثيرٍ من المسلمينَ مع الأسف ، استخدامَهُم للنساء [للغرضِ المادّي] ، في الدِّعاياتِ لتسويقِ مختَلَفِ السِّلَع والمُنتجاتِ الصِّناعيّة ، سواءً كان لها علاقةٌ بالمرأةِ أم لم يكُنْ لها عَلاقةٌ البتّة ، واستِخدامَهِم للنّساءِ كذلك في أماكنِ الاستِقبال في المُستشفياتِ والفنادِقِ ، وفي المطاعِم ، وفي المرافقِ السّياحيّة ، ومُظِيفات في الطّائرات ، وما شابه هذه الأماكِن والأعمال ، يَقْصِدُون من وراءِ هذا التّوظيفِ جذْبَ الرِّجال استِغْلالاً لذلك الميْلِ الفِطْريّ ، وكذلك نُفسِّرُ استِخدامَهُم لِصُوَرِ النّساءِ لتسويقِ المجلاّت ، مع التّأكيد على اختيارِ الفاتِنةِ(57/239)
مِنهُنَّ على صَفْحَةِ الغِلاف ، إلى آخِرِهِ مِن هذه الأغراضِ ، .. فالشيطانُ يستَفِزُّ أعوانَهُ مِن الإنس لاستغلالِ هذا الميْل في تحقيقِ أغراضِهِم المادّية التّجاريّة ، وبالتّالي يَفسُدُ المجتمعُ دينيّاً وأخلاقيّاً ، فأنتِ بلا أدنى شكّ مُستهدفة فخذي الحذَر !! ، نعم .. ، لقد أردتُ أُختي العفيفة .. أن أستدِلَّ بكتابِ اللهِ وسُنّةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم على حقيقةِ هذا الاستهداف ، أوّلاً ، لأنّني أعلَمُ أنّهُما في نظري ونظَرِكِ .. أعزُّ وأوثَقُ ما يُستَدَلُّ به ، وثانياً ، حتّى لا أدَعَ مَجالاً لأهْلِ القِيَمِ والمَبادئ المادِّيّةِ ، المعارضين لحقيقةِ هذا الاستهداف ، كي يتفلسفوا ، ويُنَمِّقوا كلاماً عقْلانيّاً لا أصْلَ له مِن شرْعٍ ولا خُلُق ، نعم .. قد يكون أحدُهُم دكتوراً جامِعِيّاً ، أو كاتِباً مشهوراً تتنازَعُ عليه الصُّحُف ، وقد يكون الآخرُ مُحَلِّلاً اجتماعيّاً له في كُلِّ صحيفةٍ بَصْمة ، ولكنّ مبادِئَهُم وقِيَمَهُم ، وإنْ كانت جميلةَ الإخراج ، وقريبةً مِن المَنطقِ المادّيِّ المُجرّد ، إلاّ أنّها غريبةٌ على مبادئِ دين الإسلام ، وبعيدةٌ عن مقاصِدِ الشّريعةِ ، وإن كانوا يتمسّحون بالدِّين في ثنايا كلامهِم ، بل إنّ قيمَهُم في كثيرٍ مِن الأحيان - ولا أُبالِغُ إذا قلت - قيَمٌ مُنحرِفة ، هؤلاء .. هم الذين يُدمنون الدّعوةَ إلى خروجِ المرأةِ للعمل خارجَ بيتِها أجيرةً عند الغير ، وليس لأعمالٍ مُعيّنةٍ خاصّةٍ بها .. لا ، بل حتّى للأعمال الّتي لا تتناسبُ مع تكوينِ المرأةِ الجسَدِيّ ، والنّفسيّ ، والدّينيّ ، بدعوى المساواةِ بالرَّجل وعدَمِ تعطيلِ نِصْفِ المُجتمع ، هؤلاء .. هم الّذين ينتَهِجون أساليب الغرْب في المُطالبةِ بِحقوقِ المرأةِ المَهضومةِ هُناك ، المرأةِ الغربيّةِ المُستَهْلَكة ، الكادِحةِ كدْحَ البهائم ، المرأةِ الغربيّةِ المُستَغلّة .. التي لا وليَّ لها ولا ناصر ، إنّهم ينتهِجون أساليبَهُم ، فيطالبون أن يُتاحَ للمرأةِ المسلمةِ الكريمةِ العزيزة هُنا ، ما أُتيحَ للمرأةِ الغربيّة هناك من حُرّيّةٍ بهيميّةٍ عمياء ، بلا تقديرٍ ولا أدْنى اعتبار لما تترتّبُ عليه تلك المُطالباتُ من مفاسدَ شّرعيّةٍ قرّرها عُلماءُ أُصولِ الشّريعة ، لكنّهم [ لمعرِفتِهِم بِفِطْرةِ الناسِ الدّينيّة هنا في هذا المجتمعِ الكريم ] يتمسّحون بالدّين في ثنايا كلامِهم ، كي يكونَ كلامُهُم أدْعى للقَبُول ، كترديدِهم لعبارةِ " وَفْقاً لتعاليم دينِنا الحنيف وشريعتِنا السّمحةِ " ، ذرّاً للرّمادِ على عيون المغفّلين ، فهم يردّدون هذه العبارة ..ثمّ يُطالبون بما يُناقِضُها..!! ، كمطالبتِهم بالسّماحِ للمسلمةِ بالسّفرِ بِمُفْردِها ، أو المُطالبة بإقْحامِها في الرّياضة ، أو في السّياسة ، أو إلحاحِهِم المستميت في مطالبتهِم بقيادَتِها للسيّارة ، أو ما شابه ذلك مِن المُطالباتِ والآراءِ المُنحرِفة ، هؤلاء .. هم الّذين يحتقرون دورَ المرأةِ العظيمِ في رِعايةِ بيتِها وتَهْيِئتِه ليكونَ سَكَناً سعيداً لها ولزوْجِها ، أو لأهلِ بيتِها أيّاً كانوا ، هم الذين يهزئون برَبّةِ البيتِ الّتي سخّرت وقْتَها كاملاً للقيام بتلكَ المَهَمّةِ الفِطْرِيّةِ النّبيلة ، مَهَمّةِ تَرْبِيةِ الأطفال ، وإنشاءِ الأجيالِ الصّالحة ، مَهَمّةِ رَبَّةِ البيتِ ، التي استيقظ الغربُ وتنبّه إلى أهميّتِها بعد فواتِ الأوان ، وأصبح ينادي العقلاءُ في أمريكا وأوروبا إلى عودةِ المرأةِ إلى هذه المَهَمَّةِ العظيمة إنقاذاً للمُجتمع ، هؤلاء ..هم الذين يُقَلِّلونَ مِن شأنِ هذه المَهَمَّة ، بل ويعتَبِرون منْ قامت بها رقْماً زائداً في قائمةِ بَطالةِ النّساء ، فالمرأةُ العامِلةُ في نظَرِهِم ، هي الّتي دخلت سوقَ العمل فحسْب ، هي فقط المرأةُ الأجيرة .. تلك التي تتقاضى راتِباً في مِهنةٍ ما ، وأقول أجيرة ، ليس تحقيراً لمفهوم المِهنة بالنّسْبةِ للمرأة ، أبداً لا أقصِدُ هذا .. ، وإنّما أُحاوِل أنْ أُعِيدَ المُصطَلَحاتِ الّتي ألِفْنا استِخْدامَها إلى أُصولِها الصّحيحة ، لأنّ أجير ، أو أجيرة ، هو[ غالِباً ] المُصطَلَحُ المُستَخْدَمُ في الشّرْع للأعمال المتبوعةِ بالأجْر ، وليس مُصطلَح [ عامل ] ، قال تعالى : (قالت إحداهُما يا أبتِ استأجِرْه إنّ خير من استأجرْت القوِيُّ الأمين )( قال إنّي أُريد أن أُنكِحَك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجُرَني ثماني حجج ) ، حتّى كتبُ الفِقه تُطلِقُ على هذا النّشاطِ من نشاطاتِ الحياةِ لفْظَ الإجارة ، تجدين في أبوابِ الفِقه ، بابْ الإجارة ، أو كتاب الإجارات ، أمّا لفظُ العمل فقد جاء في القرآن بمعنى الطّاعاتِ ، أو السّيئات عُموماً ، كما قدّمنا أوّلَ الكلام ، في قولِهِ تعالى: (( فاستجاب لهم ربهم أنّي لا أُضيعُ عَمَلَ عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أُنثى بعضُكم من بعض )) ، (( اعملوا آل داود شكرا )) ، (( فمن يعمل مثقال ذرّةٍ خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّةٍ شرّاً يره )) ، فلفْظُ العملِ لأعمالِ الإجارةِ ، هو في الحقيقةِ مُعرّبٌ من اللّفظِ(57/240)
الغرْبيّ ، لأنّ مُصطلح القُوى العامِلةِ المُنتِجةِ في مُفهومِ الغرْب ، لا يدخُلُ فيه إلاّ الأفرادُ الّذين يتقاضون عن أعمالِهِم أجوراً مادّيّةً ، وبالتّالي فإنّ المرأةَ الأجيرةَ ، التي تتقاضى أجْراً مادّياُ ، المرأة الأجيرة في مفهومِ هؤلاءِ الّذين تربَّوا على أفكارِ وقِيَمِ الغرْب ، هي المرأةُ المُنتِجةُ عِندَهُم نظيرَ مُقابلٍ مادّي ، هي المرأةُ التي تنفَعُ وطَنَها فحسْب ، أمّا الأمّ العاملةُ في مجالاتٍ عظيمةٍ بدون انتظارِ أجْرٍ مادّي ، كتلك المُنْهَمِكةِ في تربيةِ أولادِها ورِعايةِ بيتِها .. فإنّها لا تُعْتَبَرُ امرأةً عاملةً مُنتِجةً نافِعةً للوطن !! ، بل هي في نظَرِهم .. عُنصُراً مُعطّلاً!! ، .. سبحان الله !! ، أيُّ مَسْخٍ فِكْريٍّ يمارِسُهُ هؤلاء !! ، أيُّ إفسادٍ للعقولِ وللأخلاقِ وللقِيَمِ يقترِفونه ، لقد بات كثيرٌ من النّساء من جرّاءِ هذا الطّرْحِ المتكَرِّر والمُجْحِف ، لا يَريْنَ شيئاً يُحقِّقُ كيانَهُنّ ووُجودَهُنَّ سِوى الوظيفة ، أو بِعبارةٍ أخرى أجيرة ، حتّى لو كان مستواهُنَّ المعيشِيُّ بِدُونِ الوظيفةِ مُسْتَوىً طيّباً ، لقد تكوّنت لدى المجتمِعِ نظْرةٌ مادّيّةٌ مُخيفةٌ ، فإذا تخرّجتِ الفتاةُ ولم تتوظّف أجيرةً لدى الغير ، فيا للمُصيبة.. ، ويا لَخسارةِ التّعَب ، وأصْبَحَتْ وظيفةُ الفتاةِ شُغْلاً شاغِلاً ، ففي سبيلِ وظيفةِ البِنت .. يهونُ كلُّ شيء ، كلُّ شيء.. ، فمِنْ أجْلِ الوظيفةِ رُدَّ كثيرٌ مِن الشَبابِ المُتَقدِّمِ للزَّواج إذا تعارض الزّواج مع وظيفتِها ، ومِن أجْلِ الوظيفةِ زادت نِسْبةُ الطّلاق ، ومِن أجْلِ الوظيفةِ ، ومُباشَرَةِ العملِ فيها ولو كانت بعيدةَ المسافةِ ، مِئاتِ الأميالِ خارجَ المدينة ، أُزْهِقَتْ كثيرٌ مِن أرواحِ النِّساءِ في حوادثِ السّياراتِ ، ومِن أجْلِ الوظيفةِ ضاعَ كثيرٌ من البيوت ، وانحرَفَ كثيرٌ مِن الأولادِ تحت إشرافِ الخادِمات ، هذا هو نتاجُ النّفْخِ في هذا الموضوع الّذي ينفُخُ فيه هؤلاءِ المادِّيون ، ..(57/241)
أختي الكريمة .. ، لا تفهمي خطَأً بأنّي ضِدَّ عملِ المرأةِ أجيرةً في مجالاتِ العملِ اللاّئقةِ بها كامرأةٍ مسلمة ، لا .. أبداً ، بل إنّ عمَل المرأةِ خارِجَ بيتِها في بعضِ الحالاتِ يُعتَبَرُ مُهِمّاً وضروريّاً إذا لم تجِدْ من يعولُها ، أو كانت هي بِذاتِها تعولُ والدَيْها أو بيْتَها ، لا سِيِّما وأوضاعُ الأمّةِ الإسلاميِّةِ اليوم لا تَمنَحُ المرأةَ ما يجِبُ على الأمَّةِ أن تمنَحهُ لها في ظِلِّ الحكم الإسلاميّ المُتكامل مِن توفيرِ المعيشةِ الكريمة لها ، وسَتْرِها ، والمحافظةِ عليها مِن التّبذُّلِ خارجَ بيتِها إن لم يكن لها وليٌّ مقتدِر ، فالمقصود أن ننظرَ إلى الموضوعِ بتعَقُّل ، وبِنظرةٍ إسلاميّةٍ شرعيّةٍ متجرّدة ، لا بنظْرةٍ مادّيةٍ لا روحَ فيها ولا مِزْعَةً مِن دين ، فأنا لا أقصِدُ بهذا الكلامِ إلْغاءَ توظيفِ النّساء .. أبداً ، ولكنْ أقصِدُ كما قُلْت ، أنّه ينبغي أن ننظُرَ إلى هذا الموضوع بنظرةٍ مُتَّزِنَةٍ ، نُقدِّمُ فيها المصالحَ الشّرْعِيّةَ في المَقامِ الأوّل ، على المصالِحِ المادِّيّةِ ، الغرْبيّةِ القِيَم ، والتي سيطرت على عقولِ هؤلاء القوم ، وهؤلاء أيضاً ..هم الذين يُحاولون التّأثيرَ على المسلمةِ العفيفة ، بإبرازِ نماذِجَ شاذّةٍ لشخصيّاتٍ نِسائيّةٍ مسلمةٍ في العموم ، لكنّ نظْرتَهُنَّ للحياة ، نظْرةٌ عَلْمانيّةٌ لا تُقِيمُ للدّين ولا للشّرعِ وزْناً عند تحديدِ معالمِ المَنْهَجِ السّلوكيّ والأخْلاقيّ للمرأةِ ، كالمُمَثِّلات ، والمُغنِّيات ، والمُذيعات ، أو مَنْ تقلّدْنَ أيّةَ مناصِبَ تستلْزِمُ مُخالطةَ الرِّجال ، و قتْلَ الحَياءِ في المرأةِ المؤمنة ، مناصبْ .. تستلْزِمُ هدْمَ الحجابِ الّذي أمَرَ القُرآنُ بإقامتِه بين الرَّجُلِ والمرأة (( وإذا سألتموهُنّ متاعاً فسألوهُنّ من وراءِ حجاب .. ذلكم أطهرُ لقلوبِكم وقلوبِهِنّ )) ، هؤلاء أختي .. هم الّذين ما يَفْتئَون يزْعُمون أنّ المرأةَ في هذه البلادِ مظلومة ، مُهانة ، فما هو وجهُ الظُّلْمِ في نظَرِهِم يا تُرى ؟؟ ، هل هي العاداتُ الّتي لا تَمُتُّ للإسلامِ بِصِلة ، العاداتُ التي تحتقِرُ المرأة ، وتعتبِرُها أمراً مَعِيباً يخجلُ الإنسانُ حتّى مِن ذِكْرِه ، كما هو الحاصِلُ في عاداتِ بعْضِ النّاس ؟؟ ، لا ..!! ، طيب هل هي العاداتُ التي تحرِمُها مِن الميراث ، ويردِّدُ أصحابُها المقولةَ المشهورة " الحلالْ ما يروحْ لِلنِّسيب " كما هو المعمولُ بهِ إلى الآن في بعضِ المناطق ظُلْماً وعُدوانا؟؟ ، لا ..!! ، ليس هذا وجهَ الظُّلْمِ عندَهُم .. ولا أمثالَ هذا ، فإنّهم يعلمون أنّ الإسلامَ هو أوّلُ المعارضين لهذه العاداتِ الجاهليّة ، إذن .. فما هو وجهُ الظُّلمِ عندَهُم ، وما هي أمثِلَتُه؟؟ ، إنّ وجْهَ الظُّلْمِ عندَهُم ، هو في مَنْعِ المرأةِ مِن السّفرِ لوحْدِها بلا محرَم ، فهل يقصِدون أنّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظلَمَ المرأةَ أم ماذا ..؟!! ، لأنّه هو الآمرُ بهذا !! ، فقد صحّ عند الإمامِ أحمدَ وغيرِه قولُهُ صلى الله عليه وسلم : ((لا تسافر المرأة إلا مع زوجها أو ذي محرم منها)) ، وفي لفْظٍ آخَر ، ((لا يَحِلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوماً إلا مع ذي رحم)) ، .. وجْهُ الظُّلْمِ عندَهُم أيضاً ، هو في منْعِها مِن دخولِ عالمِ الفنّ ، كالتمثيل ، والغِناء ، والموسيقى ، كما صوّر لنا الإعلامُ تلك المغنّيةَ ، التي حاول أخوها أن يمنعها من الغناء .. ، صوّرَها الإعلام بصورةِ المرأةِ الجريئة التي تتحدّى الجميع ، الجميع .. حتّى أقاربَها!! ، وتكسِرُ جميعَ الحواجزِ في سبيلِ الفنّ ، فهل رضِيَ اللهُ عن الرّجلِ الذي دخَلَ عالَمَ الفنِّ المُعاصِر فضْلاً عن أن يرضى عن المرأةِ المسلمةِ أن تخوضَ في هذا العالمِ العفِن !!؟ ، وجْهُ الظُّلْمِ عندَهُم ، هو في منْعِها مِن قيادةِ السّيارة ، حتّى في ظِلِّ انهيارِ النِّظامِ الأخلاقي الذي يعيشُهُ كثيرٌ مِن شبابِ الشّوارعِ اليوم ، أولئك الذين لا يأمَنُ الإنسانُ من شرِّهِم على أهلِهِ وهو معهم في السّيارة ، فكيف والمرأةُ تقودُها لوحْدِها أو معها بناتُها الشّابّات (نسألُ اللهَ أن يحفظَنا جميعاً) ، إنّ العاقلَ ، الذي ينظُرُ إلى واقعِ الشّبابِ اليوم ، بنَظْرةٍ عقلانيّةٍ مادّية ، دعْكِ مِن الدّينيّة ، ليأنَفُ مِن هذا التّوجُّهِ خوفاً على عِرْضِه ، فكيف إذا جمَعَ إلى ذلك نظْرةً دينيّةً واعية ، وليست قيادةُ السيّارةِ عندَهُم مقصودةً بذاتِها بِقدْرِ ما هي نقطةُ البدايةِ التي لو تحقّقت ، لطالبوا بعدَها بما هو أكبرُ وأعظم ، .. هذه المطالبٌ وأمثالُها ، هي الحقوقُ التي ينادون بها للمرأة .. ، وإنّني أتعجّبُ أيتُها الأُخت ، أتعجّب مِن هؤلاءِ الذين يُطْلَقُ عليهِم مُثقّفين ، أتعجّبُ مِن إصْرارِهِم على هذا النّوعِ المحدودِ ، والمعروف ، والمُتكرِّر من المطالِب ، ومحاولاتِهِم المُستميتَةِ ، والمُتَكَرِّرةِ بِصورةٍ مُمِلّة ، ولسنواتٍ عديدة ، لِجَعْلِ تلك المطالب واقِعاً مَرْئِيّاً ، .. أتعجّبُ مِن(57/242)
إصرارِهم على تلك المطالبِ المُحَدَّدة ، وإغفالِهِم التّام ، وإهمالِهِم الواضح ، للمطالِبِ الحقيقيّةِ الشّرعيّةِ والمُلِحّةِ للمرأة .. ، إنّهم لم ينادوا بحقِّها ، إنّهم لم ينادوا بحقِّكِ أنتِ أختي العفيفة ، في توفيرِ بيئةٍ أكْثَرَ أمْناً لكِ مِن اعتداءاتِ قُطعانِ الفَسَقةِ ، مِن سِفْلَةِ الشّباب المُتسكّعين في الأسواقِ ، وعند مدارسِ البنات ، وفي الطُّرُقِ العّامّة ، وفي المُنتزهات ، وخاصّةً في المُناسباتِ العاّمة ، واحتفالاتِ الأعياد ، تلك الاعتداءاتُ التي هي آخذةٌ في الازديادِ بشكْلٍ مخيفٍ في الآونةِ الأخيرة ، إنّهم لم ينادوا بحقِّكِ في توفيرِ البيئة الآمنة لصَوْنِكِ وحِمايتِكِ مِن تلك القُطعانِ الهائجة ، لأنّ تلك الاعتداءاتِ ليست مشكلِةً كبيرةً عِندَهُم ، ولكنّ المشكلة هي في منعِ المرأةِ مِن القيادة ، هذه هي المشكلة .. هذا هو الهَمُّ الأكبر !! ، إنّهم لم ينادوا بحقِّكِ في إيجادِ مُنتَزَهاتٍ خاصّةٍ للنِّساء فيها الألعاب والتّسالي للأطفال ، تستطيع المسلمةُ فيها أن تخلعَ حجابَها بلا خوْفٍ مِن نظَرِ الرِّجالِ ، وتُعْطَى بذلك الحُريّةَ الكاملةَ في التّنزُّه وتفريحِ أطفالِها ، إنّهم لم ينادوا بحقِّكِ في ذلك .. بل إنّهم يُعارِضون هذا النّوعَ مِن المُنتَزَهاتِ ، ويُؤكِّدون على أهمِيّةِ الإبقاءِ على المُنتَزَهَاتِ مُختَلَطَة !! ، إنّهم لم ينادوا بحقِّكِ في إيجادِ مكتبات عامّةٍ خاصّة بالنّساء والأطفال ، كي تصحَبَ الأمُّ أطفالَها الصّغارَ معها إلى تلك المكتبات ، فتستفيد ويستفيدون ، مع التّأكيد على المادةِ النّافعةِ في تلك المكتبات ، والحِرْص على تكثيفِ التّرغيب في زيارتِها من خلال الصّحُفِ ووسائلِ الإعلامِ الأخرى ، كي تكتسِبَ المرأةُ العِلْمَ النّافع ، والثقافةَ الإسلاميّةَ الرّفيعة ، وتتربّى على حُبِّ القراءةِ والاهتمامِ بالعلم ، وكذا يتربّى أطفالُها أيضاً ، لم ينادوا بحقِّكِ في ذلك ، لأنّ ذلك غيرُ مهمّ .. الذي يهُمّ عندَهُم هو السّماحُ للمرأةِ بالسّفَرِ لِوَحْدِها ، هذا هو شُغْلُهُم الشّاغل ، لتتمرّدَ على دينِها وأوامرِ نبيِّها ، إنّهم لم ينادوا بإيجاد حلّ جذري لموضوع العنوسة الذي يتزايد عاماً وراء عام ، والذي هو ناتجٌ عن أسبابٍ عديدة ، منها المغالاةُ في المهور ، وجشعُ كثيرٍ من الآباء ، إنّهم لم ينادوا بحقِّ المرأةِ في معامَلَةٍ حسنةٍ مِن زوجِها ، أو من أبيها ، معامَلةٍ خاليةٍ مِن الظُّلْمِ [كالاستيلاءِ على راتبِ الزّوجةِ ، أو الإبنة مثلاً] وغيرِ ذلك مِن أنواعِ الظُّلم ، لم ينادوا بِمَنْعِ ذلك الظُّلْمِ ، ولم ينادوا بِمَنْعِ الإهاناتِ المُتَنَوِّعةِ التي يتلقّاها كثيرٌ من النّساءِ من أزواجِهِنّ ، كما يجري ذلك في كثيرٍ كثيرٍ مِن البيوت ، إنّهم لم ينادوا بحقِّها في رَفْعِ ذلك الظُّلْم ، لأنّ هناك في نظَرِهِم ما هو أهمُّ مِن هذه الأمور ، سخّروا له أقلامَهُم ، واسْتَجْمَعوا له فلسفتَهُم .. ، ما هو يا تُرى ؟؟ ، إنّه إعادةُ النّظر في حُكْمِ غِطاءِ الوَجه للمرأة ، ودندنة طويلة .. ، وأُطروحات مُتَكَلَّفة .. ، ونقاشات متنوِّعة .. ، وجهود .. ، واستحضار لخِلافات فقهية .. ، ومُحصِّلةُ هذا كُلِّه ما هو ؟؟ ، ماذا يريدون في النِّهاية ؟؟ ، يريدون أن ترفَعَ المرأةُ الغطاءَ عن وجهِها ، ..يريدون سفورَ النّساءِ بوجوهِهِنّ في هذا البلدِ الكريم ، آخرِ مَعْقَلٍ للحجابِ الكامل !! ، هذا هو الهدفُ الذي يلهثون في سبيلِ الوصولِ إليه ، ويبذُلون في سبيلِ تحقيقِهِ هذه الجهودَ المُضنِية ، ولن تنشرَِحَ صدورُهُم حتى ترفعَ المرأةُ المسلمةُ الغطاءَ عن وجهِها ، ..حتّى المصالحُ العامّة ، والمهمّة ، التي تنفعُ المرأةَ ، لم يلتفِتوا إليها لشِدَّةِ تركيزِهم على هذا الموضوع ، إنّهم لم ينادوا بِجِدّيةِ بحقِّ المرأةِ العاملة ، وبالذّات المُعلِّمة ، في إيجادِ فُرَصِ عملٍ قريبةٍ مِن مدينتِها ، لا في مُدُنٍ أُخرى بعيدة ، حتّى لا تتغرّب وتتعرّضَ للضّرر ، إنّهم لم ينادوا بحقِّها في هذا المَطْلبِ المُلِحّ ، .. لا .. لأنّهم يصرُخُون هناك ، في وادٍ آخرَ بعيدٍ ، إنّهم مشغولون في طَرْحِ موضوعِ دخولِ المرأةِ عالمَ الرِّياضة ، ..هذا هو المهم!! ، هذا هو حقُّ المرأةِ الضّائعُ في نظَرِهِم !! ، إنّهم لم ينادوا بحقِّ المرأةِ العامِلةِ خارجَ بيتِها بإجازةِ أُمومةٍ مُناسِبةٍ ، براتِبٍ رمْزيّ ، أو بدونِ راتِب ، إجازة .. ليسَ لِمُدّةٍ شهرين أو أربعة ، وإنّما كما نصّ القرآنُ في قولِهِ تعالى : ( وفِصالُهُ في عامين ) على مُدّةِ العامين لِفصالِ الطِّفْلِ الرّضيع ، كي تتفرّغَ المُسلمةُ لأهمِّ عملٍ رفعَ الإسلامُ بهِ شأنَ المرأة ، وجعَلَ الجنّةَ لأجْلهِ عندَ قدَمَيْها ، لتربيةِ طِفلِها والعنايةِ به حقَّ العناية ، لم يُناقِشوا هذا الموضوع ، لم يناقشوا حقّها في زمنِ تقاعدٍ مُبكِّرٍ يُناسِبُ طبيعتَها الأُنثويّة ، لحاجَتِها للالتفاتِ لأولادِها [بنين وبنات] ومتابعتِهِم على أقلِّ حال في سِنِّ المُراهقة ، لم يُطالِبوا بالتّفريقِ(57/243)
بينَها وبين الرّجلِ في المُدّة ، لم يطالبوا بذلك لأنّه موضوعٌ هامشيّ .. ، إنّهم مشغولون في طرْحِ الموضوعِ الأهم ، موضوع ضرورةِ البِطاقةِ للمرأة ، وكأنّه موضوع حياة أو موت ، إنّهم مشغولون في حثّ المرأة على العمل كمذيعة في التلفزيون ، تخرج بوجهِها على ملايين الرّجال ، ثم يمدحون الحالاتِ النّادرةَ مِن النّساءِ ، الحالاتِ التي بِحمدِ الله ، تُعَدُّ بأصابِعِ اليدِ الواحدة ، مِمّن دخلْنَ مجالَ التّقديم التلفزيوني ، ويُجْرُون معهنّ المقابلات ، وكأنّ ما هم فيهِ إنجازٌ فريد ، وشجاعة ، واختراق لحواجزِ العادات والتقاليد ..!! ، .. سبحان الله .. ، آللهُ أمَرَ بهذا ؟؟ ، كان الأجدرُ بهم أن يناقِشوا حقَّها في ألاّ تعيشَ التّناقُض بين الإسلام والواقِعِ الإعلامي المؤلم ، لكنّهم .. ، حفِظَكِ اللهُ مِن شرِّهِم ، على العكْسِ مِن ذلك ، يستغِلُّون بعضَ التّصريحاتِ الرّسميّةِ العامّة ، كتلك التي عقّبت على اتفاقيّاتِ الأمم المُتّحِدة للقضاء على جميعِ أشكالِ التّمييز ضِدّ المرأة ، ليجُسُّوا النّبْضَ لموضوعِ ضرورةِ استِحداثِ "فِقْهٍ مُعاصِر وجديد لقضايا المرأة" ينسجِمُ مع مُعطَياتِ العصْرِ الحديث ، والعولمة ، وتغَيُّرِ الزّمان ، .. هذا ما يحومونَ حولَه بلا مللٍ ولا كلل ، إنّ أقلَّ النّاسِ ذكاءً يُمكِنُهُ أن يلْحظَ فيهِم ذلك النّفَسَ العَلْماني الذي لا يرى للشّرْعِ مُطلقَ الحقِّ في اتّخاذِ القرار في شئونِ المرأة ، سبحان الله .. ما أهونَ الشّرعَ في نفوسِهِم ، وما أشدَّ حِرْصِهِم على تزْهيدِ النّاسِ في الشّرْع ، وما أجْرؤهُم على الخوْضِ في مسائلِهِ وأحكامِهِ التي لا تُعجِبُهُم ، وادِّعائهِم زوراً وبُهتاناً أنّها ليست من الشّرْعِ وإنّما هي عاداتٌ وتقاليد يُمْكِنُ الاستغناءُ عنها بكُلِّ سهولةٍ ، (حفِظَ اللهُ المسلمين من شرورِهِم) .
ذكرت إحدى التّائبات في رسالةٍ لها (وقد تصرّفْتُ بالرّسالةِ قليلاً لطولِها) قالت :
أختي الكريمةُ .. يا رعاكِ الله ، إنّ قُطّاعَ الطّريقِ مِن شياطينِ الإنسِ والجِنِّ كثيرون ، كلٌّ منهم مُتَربِّصٌ بك ، يُحاوِلُ أن ينتزِعَ قِطعةً مِن إيمانِكِ ، كلٌّ منهم يُحاوِلُ أن يُضْعِفَ الصِّلةَ بينكِ وبينَ ربِّك ، كلٌّ منهم يُحاوِلُ إن يُخرجَكِ مِن بيتِكِ ، كلٌّ منهم يحاولُ أن يَنزِعَ حِجابَكِ ، أو على الأقلّ .. أنْ يُفْقِدَهُ وظيفَتَهُ التي شُرِعَ مِن أجلِها ، يُحاوِلُ أن يجعلَ حِجابَكِ زِيَّ إغراءٍ وفِتنة ، يُحاوِلُ أن يجعلَ حِجابَكِ نِقْمَةً عليكِ ووبالاً يومَ القيامة ، بدَلَ أن يكونَ رِفْعةً لكِ عندَ اللهِ وقُرْبةً إليه ، كلٌّ منهم يقومُ بهذه المُحاولاتِ ، بِشتّى الطُّرُقِ المغرية ، وبكُلِّ مَكْرٍ ودَهاء ، كلٌّ منهم يُحاوِلُ أن يقْطعَ عليكِ الطّريقَ ، طريقَ الهِداية ، طريقَ الفوْز ، طريقَ النّجاة ، .. فهناكَ مَن ذَكَرْتُ آنِفاً ، وهناك التليفزيون ، مغسَلَةُ الأدمِغةِ والأخلاق ، ببرامِجه ، ومُسلْسلاتِه ، وأفْلامِه ، .. فيه نفْعٌ ضئيلٌ يسير ، ومُعظَمُهُ شرٌّ مُستطير ، والبدائلُ مُمْكِنة ، ولكنّها ضعيفة ، وغيرُ مُقنِعة ، ولذلك فإنّها تستدْعي صبْرَكِ ، وتستدْعي عامِلاً مُهِمّاً آخر .. بل هو الأهمّ ، تستدعي حُبَّكِ لِرَبِّكِ ، وقُرْبَكِ مِنه ، وتقديمَ محابِّهِ ومرْضاتِهِ على أهوائكِ وشهواتِك ، ..إنّ قُطّاعَ الطّريقِ كثيرون ، فهُناكَ الرّفيقاتُ غيرُ الصّالِحات ، الرّفيقاتُ .. اللاّتي لا يزِدْنَكِ مِن اللهِ إلاّ بُعْداً ، الرّفيقاتُ اللاّتي يفْتَحْنَ لكِ أبوابَ المَعصِية ويُغْرِينَكِ بالدُّخُولِ فيها ، ويُزَيِّنَّ لكِ ما يُسْخِطُ اللهَ عليكِ مِنَ الأزياء ، وأنماطِ السّلوك ، ويُنْسِينَكَ الحسابَ والعِقاب ، فاحْذريهِنّ أشدَّ الحذر ، أشدَّ الحذرِ أقول .. واستبْدليهِنّ بالرّفيقاتِ الصّالحات الصّادِقات ، حفِظَني اللهُ وإيّاكِ مِن سوءِ العاقِبة
(( ويوم يعضّ الظالمُ على يديه ، يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم اتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطانَ للإنسانِ خذولا ))(57/244)
إنّ قُطّاعَ الطّريقِ كثيرون أختي العفيفة ، فهناك البيئةُ حولَك ، البيئةُ .. من الأهْلِ والمعارف ، وصعوبةِ الهدايةِ الرّاشِدةِ في أكنافِهم أحياناً ، دون التّعرُّضِ للسُّخريةِ والغمْزِ والّلمْز ، فاصبري على ما أصابَكِ مِن ذلك ، ..وهناك البيئةُ حولَكِ من اللّقاءاتِ غيرِ الهادِفة ، التي تَكْثُرُ فيها الغِيبة ، ويكثُرُ فيها الحديثُ عن الدُّنيا ، وبُيوتاتِ الأزياءِ والموضات ، والقيلُ والقال ، ولا يُذكَرُ اللهُ فيها إلاّ قليلا ، البيئةُ المليئةُ بأنواعِ الحَفَلاتِ ، والسّهَراتِ ، والسّفْرات ، ومُسْتَلْزماتِها مِنَ الزِّينة ، والفْخْرِ والخُيلاء ، وغِشيانِ الأسواقِ بصورةٍ مُستَمِرّة ، والاهتمامِ الشّديدِ بالدُّنيا وزينتِها وزُخْرُفِها ، وصرْفِ الأموالِ الكثيرةِ الكثيرةِ في هذه السّبيل ، البيئةُ التي تغرِقُكِ في الغفلةِ ونسيانِ الآخرةِ ، ونُدْرةِ التّفكير في الموْت القريب ، والتّفكيرِ في القبرِ ونعيمِه وعذابِه ، ونُدْرةِ التفكيرِ في الحسابِ والعقاب ، والنّارِ والعذاب ، والجنّةِ والثّواب ، البيئةُ .. التي لا تزيدُ قلبَكِ إلاّ قسْوةً فوقَ قسْوة ، هذه البيئة .. تقطعُ عليكِ الطّريقَ إلى الله ، وتُنسيكِ الغايةَ مِن وجودِكِ في هذه الحياة والتي تحدّثنا عنها في الوقفةِ الأولى ، .. هذه البيئةُ أختي العفيفة .. هذّبيها ، واعتدِلِي في التّعامُلِ معها ، ولا تجعليها تَطْغى على حياتِكِ على حِسابِ الآخرة ، لا تجعليها تَطْغى على حُبِّكِ لله .. ، لا تجعليها تَطْغى على حُبِّكِ لله ..
وأخيراً أختي العفيفة .. احذري مِن قُطّاعِ الطّريق ، احذري منهم على دينِك ، وعلى عقلِكِ ، وعلى أخلاقِكِ ، وعلى مبادئكِ العقَديّة ، واحذري مِن أن تكوني مُشارِكةً ، أو موافِقةً لهم في أيِّ مُنكرٍ قوليٍّ أو عمليّ ، وقدّمي رِضا اللهِ على رِضا النّاس ، واحرِصي أن تجعلي من حُبِّكِ للهِ ، وحُبِّكِ لما يُحِبُّهُ ويرضاه ، دافِعاً ، ووسيلةً لتغييرِ هذا الواقعِ لِيتَوَافَقَ مع هذه المحبّة ، فتسْعدِي حينئذٍ ، ويَسْعَدَ مُجْتَمَعُكِ سعادةً حقيقيّةً في الدّنيا والآخِرة ، إنّهم ، يا رعاكِ الله ، يريدون أن يجعلوا مِنكِ مِعْوَلَ هدْم ، فكوني يَدَ بِناء ، وأبشري بعد ذلك بالفلاح ..
هذه الوَقَفاتُ الثّلاثُ التي وقفنا عليها ، مهمّةٌ في حياتِك وحياةِ كُلِّ مسلمة ، .. قفي عندها مرّةً .. ومرّتين .. وثلاثَ مَرّات ، وتأمّلي طويلاً في واقِعِ حياتِكِ مِن خِلالِها ، فإنّ العُمُرَ يمضي بسُرْعة .. فلا تدَعِيهِ يمضي وأنتِ مِنه في غفْلة ، والموتُ يأتي بغْتة ، فاستعِدّي له مِن هذه اللحظة.. ، أسأل اللهَ تعالى أن يهدِيَنا جميعاً سبُلَ السّلام ، وأن يُخرجَنا مِن الظُّلُماتِ إلى النّور ، وأن يقِيَنا شرَّ كِلِّ ذي شرٍّ ، وأن يُثبِّتَنا وإيّاكِ على الهدى حتّى نلقاه ، إنّه سميعٌ قريبٌ مُجيب … ، باركَ اللهُ فيكِ ، والسّلامُ عليكِ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه
=============(57/245)
(57/246)
ومتى فقناهم عددا أو عدة؟
بقلم: محمد حسن يوسف
يعتري الكثير من الناس حالة من الإحباط واليأس من جراء ما يحدث للمسلمين في كل مكان من العالم الآن، حيث ينطبق عليهم قول الرسو صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ثوبان، أنه قال: يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل! ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت [1].
ويتساءلون: هل بعد كل هذه النكبات من وثبة أخرى للمارد؟! هل يستطيع المسلمون الخروج من قمقم الهزائم التي مُنيت بهم وتوالت عليهم، حتى أصبحت صفة ملازمة لهم؟! ومتى سيكون ذلك؟! أم أن على المسلمين الاستسلام لتلك الضربات المتوالية التي تلحق بهم، وفي كل مكان من العالم، لكي تستأصل شأفتهم وتزيل دولهم، ومن ثم وجودهم من على خريطة العالم؟!!
وفي الواقع فإن المتبصر بأمر الدين لا يعتريه مثل هذا الشعور المحبط، بل على العكس تجده واثقا في قدرة الله. فكل ما يحدث للمسلم هو خير له. وحسبك تلك النازلة العظيمة التي حدثت ببيت صلى الله عليه وسلم ، وما قيل في عرضه، وما اُتهمت به أعز زوجاته إليه وأحبهن إلى قلبه من حادثة الإفك. فإذا بالوحي يتنزل قائلا بأن كل ذلك إنما هو في حد ذاته خير للمسلمين وليس شرا، حيث قال تعالى: ? َلا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ? ] النور: 11 [ .
إذن ما يحدث للمسلمين في جميع أنحاء العالم من حولنا إنما هو في حقيقة الأمر قَدَر رباني يجري وفقا لسنن الله الكونية التي يستحيل تغييرها إلا إذا تغير مضمونها. فإذا أردنا الخروج من الأزمة التي ألمت بنا حاليا، فعلينا العمل من أجل تغيير الواقع من حولنا حتى نسمح لسنن الله التي تساند المسلمين من العمل مرة أخرى. ونوضح هذا الأمر فيما يلي:
مفاهيم ينبغي ترسيخها في النفس
هل يريد المسلمون حقا تحقيق النصر؟!! هذا سؤال هام لابد لكل منا أن يسأله لنفسه ويحدد إجابته عليه. إن نصر الله يتنزل وفقا لسنن ربانية لابد من تحققها. وحين يريد المسلمون أن يتحقق ذلك النصر في أرض الواقع فلابد من عدة أمور تستقر في عقيدتهم تكون محركا ودافعا لهم على الانطلاق، حتى يستفيدوا من " معية الله " في المعركة إلى جانبهم:(57/247)
? التخلي عن المعاصي واللجوء إلى الله: فلن يتم النصر إلا بذلك، فالإيمان أقوى سلاح لتحقيق النصر. ولنستعرض في ذلك ما كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ومن معه من الأجناد حينما أرسله في أحد فتوح العراق: أما بعد، فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما يُنصَرُ المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم. فإذا استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا نُنْصَرْ عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في مسيركم حَفَظَةً من الله يعلمون ما تفعلون، فاستَحْيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدوّنا شرٌ منا فلن يُسلَّط علينا وإن أسأنا، فرُبّ قوم سُلّط عليهم شرٌ منهم، كما سُلّط على بني إسرائيل - لما عملوا بمساخط الله - كُفّارُ المجوس ? فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً ? ] الإسراء: 5 [ . واسألوا الله العونَ على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوّكم. اسأل الله ذلك لنا ولكم [2]. وانظر إلى هذا القول الملهم: وإنما يُنصَرُ المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم. فهنا يتجلى سر نصر المؤمنين في معاركهم. فمتى تحقق هذا الشرط، جاء النصر بإذن الله ولا ريب. وإلا فقل لي بربك كيف ينصر الله قوما يخذلون نبيهم r ، ويكرهون تطبيق سنته المطهرة، ولا يجدون في وقتهم متسعا لقراءة القرآن، ويبارزون الله بالمعاصي جهارا نهارا؟!! فالنصر لن يتحقق إلا بعد التمحيص، أي تنقية المسلمين وإفراز القلة المتمسكة بدين الله. قال تعالى: ? وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ? ] آل عمران: 141 [ . قال القرطبي في تفسيره: فيه ثلاثة أقوال: يمحص: يختبر. الثاني: يطهر; أي من ذنوبهم ... والمعنى: وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا ... الثالث: يمحص: يخلص ... فالمعنى ليبتلي المؤمنين ليثيبهم ويخلصهم من ذنوبهم. " ويمحق الكافرين ": أي يستأصلهم بالهلاك. أ. هـ. فلابد للأمة من الإقلاع عن الذنوب التي يرتكبها أفرادها ليل نهار، سرا وجهرا. والأمثلة كثيرة: الإقلاع عن التدخين، التخلي عن الكذب، عدم النميمة والغيبة، ترك النفاق ... الخ. فقد أصبحت تلك المعاصي متفشية كالسرطان الخبيث في جسد الأمة. ولابد أن تتيقن أنك أنت - بذنبك الذي تصر عليه - من يؤخر النصر عن الأمة. فابدأ بنفسك وأعلنها توبة شاملة لله لعل نصر الله يتنزل على الأمة بسببك.
? جهاد النفس في مرضاة الله: ذلك أن نصر يتحقق بعد العمل بتشريعه والكف عن مناهيه، قبل أن يتحقق الجهاد في ميدان القتال. قال تعالى: ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ? ] العنكبوت: 69 [. قال القرطبي في تفسيره: أي جاهدوا الكفار في الله، أي في طلب مرضاة الله ... وقال ابن عباس وإبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون ... وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا، تقصيرنا في العمل بما علمنا. ولو عملنا ببعض ما علمنا، لأُورثنا علما لا تقوم به أبداننا. قال الله تعالى: ? وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ ? ] البقرة: 282 [. وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين والرد علي المبطلين; وقمع الظالمين; وتعظيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله، وهو الجهاد الأكبر. وقال سفيان بن عيينة لابن المبارك: إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله تعالى يقول: " لنهدينهم ". والجهاد في عمل الطاعات يستلزم إرغام النفس على الاستيقاظ لأداء صلاة الفجر في جماعة، وقيام الليل، وقراءة جزء من القرآن على الأقل يوميا، وأداء جميع الصلوات في جماعة، وإخراج جزء من مالك للفقراء من حولك، ومساعدة المشردين من المسلمين في أنحاء العالم. كل هذه أمثلة على الجهاد في سبيل مرضاة الله.
? تحقيق التربية الإيمانية المطلوبة لأفراد الأمة: فلابد من سلوك طريق الأنبياء وهو تعبيد الناس لرب العالمين حتى يتحقق النصر من عند الله. إذن لابد من طريق الدعوة إلى الله عز وجل، والارتفاع بقلوب الناس وعقولهم إلى المستوى الإيماني المطلوب، وتبيين حقائق الإسلام، والدعوة إلى توحيد الملك العلام. قال تعالى: ? وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ? ] الروم: 47 [ . فلابد أن يكون الجميع متشوق لرؤية نواة المجتمع المسلم تتحقق على أرض الواقع. أما البيئة التي تطرد من كيانها امرأة لأنها ارتدت النقاب، أو تنظر بعين الشك إلى رجل أطلق لحيته فما زالت بعيدة عن نيل رضا الله بله نصره.(57/248)
? انفراد الله تعالى وحده بالقدرة: وأن ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه وبإرادته وقدرته. فقال عز من قائل: ? قُلْ إِنَّ اْلأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ? ] آل عمران: 154 [ ، ? بَلْ لِلَّهِ اْلأَمْرُ جَمِيعًا ? ] الرعد: 31 [ ، ? لِلَّهِ اْلأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ? ] الروم: 4 [. أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء. أي هو المالك لجميع الأمور, الفاعل لما يشاء منها, فكل ما تلتمسونه إنما يكون بأمر الله. وهذا دحض للنظرية التي مفادها أن " 99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا ". بل جميع مقدرات الأمر بيد الله، ولا تملك لا أمريكا ولا غيرها أياً من مقدرات الأمور، ولا حتى نصف بالمائة! فالله سبحانه ينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، ويرفع من يشاء، ويذل من يشاء. تلك العقيدة يجب أن تستقر في النفوس، وتكون هي الموجه الأول والأخير لنا في كل تحركاتنا.
? ترسيخ مفهوم الاستطاعة: وهو أن المطلوب منا إعداد ما في الطاقة، وليس كل شيء. قال تعالى: ? وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ? ] الأنفال: 60 [. وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ولم يقل كل القوة. إذن ما استطعتم أي ما في أيديكم. وقوله تعالى: " من قوة ": أي من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها. وهذه القوة تتحقق بما يتحقق به معناها، وهو القدرة على تنفيذ إرادة صاحبها. فقد يكون تحقيقها بإعداد السلاح للجند، وتدريبهم على فنون القتال، وتربيتهم على معاني الإيمان التي تهيئهم للقتال في سبيل الله والرغبة في الشهادة في سبيله [3]. إذن توافر اليقين مع القوة المؤمنة هو المحك الأصلي للجهاد وليس العدة أو العدد. قال القرطبي في تفسيره: " وأعدوا لهم " أمر الله سبحانه المؤمنين بإعداد القوة للأعداء بعد أن أكد تقدمة التقوى. فإن الله سبحانه لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم وبحفنة من تراب, كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ. ولذلك فإن السيف الخشب الذي أخذه عكاشة بن محصن من رسول ا صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر قتل به الكفار، لأنه كان يضرب بإذن الله. فقد شهد عكاشة بن محصن بدرا وأبلى فيها بلاء حسنا، وانكسر في يده سيف، فأعطاه رسول ا صلى الله عليه وسلم عُرْجُونا - أو عودا - فعاد في يده سيفا يومئذ شديد المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله عز وجل على رسول صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يزل يشهد به المشاهد مع رسول ا صلى الله عليه وسلم ، حتى قُتل في الردة وهو عنده، وكان ذلك السيف يسمى العَوْن [4].
? إرجاع النصر لله: بمعنى أنه حتى مع تحقق العدة الكافية في أيدي الفئة المؤمنة، وحين يتحقق النصر لهذه الفئة، فإن هذه الفئة يجب أن تُرجع هذا النصر لله، وألا تنسب تحقيق هذا النصر لنفسها. وذلك مصداقا لقوله تعالى: ? وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ? ] الأنفال: 17 [. فما يتحقق من نصر فمرجعه الله وحده، وليس كثرة العدد أو تطور الإمكانيات.
? التخلص من حب الدنيا ونعيمها: انظر إلى سؤال الصحابة إلى الرسو صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت. هذا هو الداء. أننا أصبحنا الآن نتعلق بالدنيا ونتمسك بها، وكأنها أصبحت هي دار القرار بالنسبة لنا. مع أن المسلمين على مدار تاريخهم كانوا ينظرون إلى الدنيا باستهانة، وأنها ليست إلا ممر لدار مقر. انظر إلى قول خالد بن الوليد، حينما سار إلى الحيرة بعد فراغه من أمر اليمامة، فخرج إليه أشرافهم مع أميرهم الذي عيّنه عليها كسرى. فقال له خالد ولأصحابه: أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين، لكم ما لهم وعليكم ما عليهم، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم الجزية فقد أتيكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة، جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا و بينكم [5]. فهذه هي ثقافة الإسلام، أو ثقافة الدار الآخرة التي يحملها الإسلام. الحرص فيها على الآخرة يكون مثل حرص غير المسلمين على دنياهم، التي هي جنتهم. إن أهم شيء في حياة المسلم هو نظرته إلى الدار الآخرة، حتى وإن كان ثمن ذلك حياته.(57/249)
? تغيير ما بأنفسنا: فلابد أن يستشعر كل فرد منا بفداحة الوضع الذي أصبحنا عليه الآن. فالأمر ليس هزلا. ولابد لكل فرد أن يتغير، وأن يستشعر هذا التغيير في كل مفردات حياته. فما لم يحدث ذلك، فلن يُنزل الله نصره علينا. قال تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ َلا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ? ] الرعد: 11 [. إن نصر الله لا يتنزل على قوم إلا إذا كانوا قد اتخذوا منهج الله شريعة لهم تحكمهم ويتمسكون بتطبيقها مستقبلا بعد تحقق نصر الله لهم. فهل ينزل نصر الله علينا الآن، ونحن لم نتغير بعد، حتى إذا انتهت المعركة، عدنا لإدارة حياتنا بالطريقة التي كان أعداؤنا يديرون بها حياتهم؟! كلا! لن يحدث هذا. قال تعالى: ? الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اْلأَرْضِ أَقَامُوا الصََّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ ? ] الحج: 41 [.
مواقف من السنة المطهرة
ومن أهم المواقف التي تثبت عدم سريان قانون الإمكانيات مع رسوخ عقيدة الإيمان والتوكل على الله في العهد النبوي، موقف الصحابة في غزوة مؤتة. فقد بعث رسول ا صلى الله عليه وسلم جيشا إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمانٍ من الهجرة، واستعمل عليهم زيد بن حارثة. وقال: إن أصيب زيد، فجعفر بن أبي طالب على الناس. فإن أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة على الناس.
فتجهز الناس، ثم تهيئوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف. فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وسلموا عليهم. ثم مضوا حتى نزلوا مكانا قريبا من أرض الشام. فبلغ الناس أن هرقل زعيم الروم، إحدى أكبر إمبراطوريتين في ذلك الوقت، قد نزل بالقرب منهم في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من القبائل القريبة مائة ألف آخرين. مائتي ألف في مواجهة ثلاثة آلاف!! وإمبراطورية عريقة ضالعة في الحروب في مواجهة دولة فتية ناشئة لم تثبت أركانها بعد!!
فلما بلغ ذلك المسلمين، أقاموا في مكانهم ليلتين يفكرون في أمرهم. وقالوا: نكتب إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. فوقف عبد الله بن رواحة يشجع الناس، وقال: يا قوم! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة! وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة. فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس. وذهبوا للقاء عدوهم. أرأيت إلى قول عبد الله بن رواحة: وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. هذا هو سر الحرب لدى المسلمين. ولنتابع بقية القصة.
ثم بدأت المعركة. فقاتل زيد بن حارثة براية رسول ا صلى الله عليه وسلم ، حتى استشهد برماح القوم. فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب يقاتل تحت لوائها. وقد أخذ جعفر الراية بيمينه، فقطعت. فأخذها بشماله، فقطعت. فاحتضنها بعضديه، حتى قُتل رضي الله عنه. فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. ويقال إن رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين.
فلما استشهد جعفر، أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها، وهو على فرسه. فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد. ثم حسم أمره وتقدم نحو العدو. فلما كان في طريقه نحو العدو، أتاه ابن عم له بعرق من لحم. فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت. فأخذه من يده، ثم انتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس. فقال لنفسه: وأنت في الدنيا!! يريد أن المعركة حامية وهو مازال بأكله عرق اللحم هكذا يفكر في الدنيا! ثم ألقى عرق اللحم من يده، وأخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قُتل.
ثم أخذ الراية أحد المسلمين، وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم وحاول تثبيت مواقع الجيش حتى نزول الظلام. فلما أصبح بدأ في إعادة ترتيب جيشه: فجعل مقدمة الجيش مكان ساقته، وساقة الجيش مكان مقدمته. وميمنة الجيش مكان ميسرته، وميسرة الجيش مكان ميمنته. فلما رأى الروم جيش المسلمين بهذه الهيئة، أنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئاتهم. وقالوا: قد جاءهم مدد! وهم قد كانوا رأوا الأعاجيب من هذه القلة التي تقاتلهم، فما بالك بمدد يأتيهم ليشد أزرهم. فرُعبوا وانكشفوا منهزمين، فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم. فأين كانت الإمكانيات التي قاتل بها المسلمون في هذه الموقعة؟!!(57/250)
بل قد تكون الوفرة في العدد والعدة سببا في نزول الهزيمة بالمسلمين، إذا تمسكوا بأسبابها ولم يتجهوا إلى حول الله وقوته. وأكبر دليل على ذلك ما شهدته غزوة حنين في بادئ الأمر من هزيمة ماحقة للمسلمين حين اتكلوا على أنفسهم. فلما فاءوا إلى الله وتمسكوا بحبله، أنزل نصره وسكينته على المؤمنين. وقال تعالى: ? لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ اْلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ? ] التوبة: 25 [ ، يُعلم تبارك وتعالى أن النصر ليس على كثرة العدد ولا بلبس اللأمة والعِدد، وإنما النصر من عنده تعالى. كما قال تعالى: ? كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ? ] البقرة: 245 [ .
مواقف من جيل الصحابة
كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه: أما بعد، فقد جاءني كتابك تذكر ما جمعت الروم من الجموع. وأن الله لم ينصرنا مع نبي صلى الله عليه وسلم بكثرة عدد ولا بكثرة جنود. وقد كنا نغزو مع رسول ا صلى الله عليه وسلم وما معنا إلا فَرَسَان، وإن نحن إلا نتعاقب الإبل. وكنا يوم أُحد مع رسول ا صلى الله عليه وسلم وما معنا إلا فرس واحد كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يركبه، وقد كان يظهرنا ويعيننا على من خالفنا [6].
ومما يروى في ذلك، قول خالد حين قال له رجل: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: ما أكثر المسلمين وأقل الروم، إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر ( اسم فرس خالد ) براء، وأنهم أضعفوا ( أي: زادوا ) في العدد [7].
وفي فتوح العراق، كان الفرس قد فروا بكمالهم إلى المدائن، وتحصنوا بها. وقد فروا إليها عن طريق نهر دجلة وأخذوا كل سفنهم معهم. فلما وصل سعد بن أبي وقاص قائد المسلمين في فتوح العراق إلى شاطئ دجلة لم يجد شيئا من السفن، ورأى دجلة قد زادت زيادة عظيمة وأسود ماؤها.
فوقف سعد يخطب في المسلمين على شاطئ دجلة. فأوضح للمسلمين أن عدوهم قد اعتصم منهم بهذا البحر ... فهم لا يستطيعون الوصول إلى هذا العدو بسببه، بينما هم يستطيعون الوصول إلى المسلمين متى شاءوا. وأنظر إلى تلك العبارة الرائعة التي قالها لهم في هذا الموقف: وليس وراءكم شيء تخافون أن تُؤتوا منه، وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصدكم الدنيا. ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم [8]. انظر إلى هذه الكلمات الرائعة التي يبثها القائد في جنوده. فالمسلمون لا يهمهم شيء أن يفوتهم إذا ما قورن بالجهاد. فالجهاد هو أفضل الأعمال في الإسلام. والشهادة في سبيل الله هي أسمى ما يتوق المسلم لنيله. والموت قادم لا محالة. فمن لم يمت بالسيف مات بغيره. فالنهاية محتومة. فلماذا لا تكون شهادة ومنزلة رفيعة في الآخرة، بدلا من حياة ذليلة يعقبها موت أيضا، ولكن في درجة متدنية من الجنة أو في النار نعوذ بالله منها! وقد عزم على خوض البحر إليهم بلا سفن يمتلكها! يمضي في البحر هكذا! بلا إمكانيات! يواجه جيش إمبراطورية فارس بعدتها وعتادها بلا سفن!! لا ... إنه يواجه ذلك بسلاح أقوى من أي سلاح آخر ... إنه سلاح الإيمان. ولذلك فقد طلب منهم إخلاص نياتهم لله، وقد كان.
ونعود للقصة. فقد وافق الجند على خوض البحر مع سعد رضي الله عنه. فانتدب لذلك كتيبة تسمى في كتب التاريخ بكتيبة الأهوال. وهي كذلك بالفعل. وكانت هذه الكتيبة تتكون من ستين فارس من ذوي البأس، وكان عاصم بن عمرو أميرا عليها. وكانت مهمة هذه الكتيبة عبور البحر إلى العدو وتأمين ثغرة المخاضة من الناحية الأخرى حتى تستطيع بقية الجيش أن تعبر هذه المخاضة وهم آمنين. تأمل هذا الموقف ... العدو واقف على شاطئ النهر، يرصد تحركاتك، ويشهر سلاحه في وجهك، وأنت تقف على الشاطئ الآخر، تريد أن تعبر هذا النهر لكي تصل إلى العدو، وتشتبك معه، وتتحصن في بقعة تكون بمثابة نقطة ارتكاز تُؤّمن من خلالها الطريق لبقية الجيش حتى يعبر ويستقر فيها وينطلق للبدء في عملياته منها. موقف في غاية الصعوبة!
وقد أحجم أفراد الكتيبة في بادئ الأمر عندما فكروا في هذا الأمر بهذه الطريقة المنطقية. إلى أن تقدم رجل من المسلمين وقال لهم: أتخافون من هذه النقطة؟ ثم تلا قوله تعالى: ? وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إَِّلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً ? ] آل عمران: 145 [ . ثم أقحم فرسه فيها ومضى. فلما رأى الناس ذلك اقتحموا معه. هنا زالت العقلانية المثبطة، وارتفعت سحائب الإيمان والثقة بالله وبوعده للمؤمنين، فبدأوا في اجتياز المخاضة.(57/251)
فلما رآهم الفرس يقفون على وجه الماء، قالوا: مجانين! مجانين! ثم قالوا: والله ما تقاتلون إنسا بل تقاتلون جنا! وحاولوا منع هؤلاء المتقدمين نحوهم عن طريق الماء ليمنعوهم من الخروج منه. ولكن المسلمين شرعوا لهم الرماح وتوخوا الأعين، فقلعوا عيون الخيول. فرجعوا أدراجهم من حيث أتوا، وواصل المسلمون تقدمهم. حيلة بسيطة استخدمها المسلمون، وهداهم الله إليها لما رأى شدة تمسكهم به، فأدت إلى السيطرة على النقطة الحصينة التي ستكون محور تحرك الجيش بعد ذلك.
ثم نزلت الكتيبة الثانية فالثالثة. ثم أمر سعد بقية الجيش بالنزول في الماء، وذلك بعد تحصن الجانب الآخر بوجود نقاط الارتكاز الإسلامية فيه. وقد أمر سعد المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه. حسبنا الله ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم [9]. هذه هي مبادئ النصر في الحرب في الإسلام. تفويض مطلق للأمر لله، ثم تضرع وابتهال له بأن ينزل نصره وسكينته على المسلمين.
يقول المؤرخون: وسار الناس في النهر كأنما يسيرون على وجه الأرض، حتى ملؤوا ما بين الجانبين. فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة. وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم من الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره وتأييده. فكان ذلك معجزة بكل المقاييس.
ثم أكمل المسلمون معاركهم انطلاقا من هذه النقطة وأكملوا بقية فتوحات العراق. فأين هي الإمكانيات التي كانت متاحة للمسلمين في ذلك الوقت. إنها لم تكن إلا بقدر الاستعانة المطلوبة، ولكن جيشان الإيمان في الصدور هو الذي يقف وراء هذه الانتصارات الباهرة.
وكان سعد يقول: والله لينصرن الله وليه، وليظهرن الله دينه، وليهزمن الله عدوه، إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات [10]. وهكذا يحدد سعد بن أبي وقاص مفاتيح النصر في المعركة. عدم وجود بغي أو ذنوب تغلب الحسنات.
والمتأمل في تاريخ المسلمين يجد الكثير والكثير من المواقف التي وقف فيها المسلمين يواجهون أعتى الظروف، من أسود وفيلة وغيرها، بمجرد إيمانهم القوي المتدفق من صدورهم، ليكتب الله لهم النصر في معاركهم التي خاضوها.
مواقف معاصرة
ومن الأمثلة الحديثة على هذه القضية، ما حدث في جهاد الشعب الأفغاني ضد روسيا. فقد كان هذا الجهاد هو الذي أعاد لأذهان المسلمين مفهوم الجهاد في الآونة الأخيرة. لقد واجه الشعب الأفغاني الدبابات الروسية أول أمره بالحجارة والصخور. لقد آمن الشعب الأفغاني بالحقيقة الإيمانية البديهية التي تمثلها المعادلة التالية: الله أقوى من روسيا. الله لا يُقهر ولا يُهزم! إذن ستُهزم روسيا وتُقهر بإذن الله.
ومن المواقف المثيرة التي واجهتها المقاومة الأفغانية في ذلك الوقت، أنها تعرضت على مدى سبعة أشهر تقريبا لقصف الطائرات الروسية كل يوم مرتين إلى خمس مرات، ولم يستشهد واحد من المجاهدين، وذلك لأنهم كانوا يدعون الله قائلين: اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا تجاه الطائرات، فيحميهم الله.
ويقول أحد المجاهدين: ما هجمت الطائرات علينا مرة إلا ورأيت الطيور تحتها، فأقول للمجاهدين: جاء نصر الله! ولقد توقف ذات مرة مضاد الطائرات، فدعوت الله، فساق الله علينا الغمام تغطينا من الطائرات. ويقول: لقد هجمت علينا ستمائة دبابة وناقلة، وكنا مجموعة من المجاهدين ليس معنا سوى ( 14 ) بندقية مع العصي والسيوف، وهزمهم الله!
ويحكي أحد المجاهدين الأفغان: كانت معنا قذيفة واحدة مع مضاد واحد للدبابات. فصلينا ودعونا الله أن تصيبهم هذه القذيفة، وكان مقابلنا مائتا دبابة وآلية. فضربنا القذيفة، فإذا بها تصيب السيارة التي تحمل الذخيرة والمتفجرات، فانفجرت ودمرت ( 85 ) دبابة وناقلة وآلية، وانهزم العدو، وغنمنا كثيرا [11].
كما أن ما قامت به المقاومة الفلسطينية مؤخرا يعطي أكبر الدلالة كذلك على هذه القضية. فعلى الرغم من قلة إمكانيات المقاومة، وعلى الرغم من تطوير العدو الصهيوني لعرباته المدرعة ودباباته بحيث فشلت أسلحة المقاومة المتمثلة في قذائف الآر بي جي في وقف زحف الدبابة ميركافا من قبل، وخاصة بعد تطوير وتحديث هذه الدبابة لتكون الأحدث والأولى في العالم، حيث ترك هذا التطوير مآسٍ كبيرة في نفوس الأبطال عندما استعدوا لها في مخيم جنين، ولكن كانت طلقات الآر بي جي لا تفعل معها شيئا. وبالرغم من ذلك نجد المقاومة قادرة اليوم على تفجير هذه الدبابة بعد أن قامت المقاومة بتطوير أسلحتها هي أيضا، فأصبحت قادرة على النيل من هذه الدبابة وتدميرها.
فهذه إرادة التحدي التي يبثها الله في قلوب عباده المخلصين ليثبتهم وينصرهم على عدوهم هي التي جعلت المقاومة تستطيع إدخال التطوير على نوعية سلاحها، بحيث استطاعت تفجير هذه الدبابة حتى بعد تطويرها، لتصيب العدو بالصدمة والذهول. لقد نوّعت المقاومة الفلسطينية أسلحتها من الحجارة إلى صواريخ القسّام وهاون حماس والعمليات الاستشهادية.(57/252)
ويقول أحد قادة لواء ( حبعاتي ) الذي سقط جنوده على أيدي عناصر المقاومة، في معرض تعليقه على ثبات وبسالة المقاومة: كان بإمكان الفلسطينيين أن يتركونا ننسحب متذرعين بتفوقنا الهائل عليهم. لكنهم تحدونا وتجاهلوا مظهر تفوقنا. إن المقاتل الفلسطيني لا يهاب أي شيء. وأضاف ضابط آخر في نفس اللواء: ماذا لو كان هؤلاء يملكون عشرة بالمائة من إمكاناتنا؟ بكل تأكيد لابد أن شكل هذه المنطقة كان قد تغير منذ زمن بعيد.
ونفس الشيء يحدث في الفلوجة. فئة قليلة لا تكاد تملك من حطام الدنيا وأسلحتها إلا الشيء اليسير تقف بالمرصاد في مواجهة أعتى ترسانة للسلاح في العالم اليوم، وتجبرها على التراجع والانسحاب مذعورة من المدينة.
إن الفلوجة هي الأكثر وضوحا والأعمق في هذا الإطار، لأنها مدينة صغيرة ( حوالي 200 ألف نسمة )، وهي تواجه أكبر قوة غاشمة في التاريخ، فليس بعد الولايات المتحدة قوة الآن. وبالتالي فإن درس الفلوجة هو الدرس الأوضح، الذي لا يمكن أن يكابر أحد أو يغالط أحد في أننا أمة قادرة على المواجهة والصمود. وأن أصغر قرية في العالم، وبالذات العالم العربي والإسلامي، لأسباب حضارية وثقافية ودينية مرتبطة بالجهاد والاستشهاد، قادرة على مواجهة الولايات المتحدة والصمود أمامها، بل وإنزال أكبر الأذى بها.
إن ظهور المقاتلين في فلسطين والفلوجة يمسكون المصحف الشريف بيد، والبندقية أو أي سلاح آخر باليد الأخرى، هو دلالة هامة على تطور البعد الإسلامي والعقائدي في الصراع ضد العدو، وهو شرط ضروري للصمود والانتصار في معاركنا.
الخاتمة
يجب أن يسود بين المسلمين مفهوم الاستعلاء على قوى الكفر بديلا عن الانبطاح والتركيع. فالمسلمون الأوائل عند مجابهة حضارة الروم والفرس كانوا يشعرون أنهم هم الأعلون حتى وإن كان الروم والفرس متفوقون عليهم في التقدم العلمي وتقنيات الحياة. لكن كان إيمانهم يعطيهم دفعة كبيرة للاستعلاء على سائر من حولهم، وذلك تطبيقا لقوله تعالى: ? وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ اْلأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ? ] آل عمران: 139 [ .
إن السُنة التي يتعامل بها الله سبحانه وتعالى معنا تتمثل في وجوب أن نتصف بعدة صفات: عدم معصية الله، وإعداد ما في الاستطاعة، واليقين في نصر الله، وصدق اللجوء إلى الله، وضرورة مراجعة النفس وتغييرها إلى الأفضل. فمتى تقاعسنا عن تحقيق أحد هذه الشروط، تساوينا مع الأعداء عند الله، فعندئذ تسود سُنة ربانية أخرى، تتمثل في إحراز الفئة الأقوى للنصر.
إن المتأمل في واقع خطط الأعداء في القديم والحديث يجدها تتمثل في إغراق الشعوب في الملذات والملهيات والشهوات، حتى تغدو كالقطعان السائمة التي لا تعرف معروفا ولا تُنكر منكرا، بحيث تصبح شعوبا لا هم لها إلا الترفيه والتسلية. وتنفق الولايات المتحدة وربيبتها دولة يهود الكثير والكثير على إضلال الشعوب، فهذا سلاحهم وطبعهم منذ القديم.
قال صموئيل زويمر رئيس جمعيات التبشير لزملائه من المبشرين في مؤتمر القدس عام 1935: إنكم أعددتم شبابا في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام، ولم تدخلوه في المسيحية. وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقا لما أراده له الاستعمار: لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل. ولا يصرف همه في دنياه إلا في الشهوات. فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز فللشهوات. ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء [12].
وهكذا تخمد جذوة الإيمان في الصدور، فتصاب حركة المسلمين بالشلل والتوقف التام. إن المحرك الأساسي للمسلمين هو الدافع العقدي. فلو تحولت حركة المسلمين لكي تصبح في سبيل تحقيق شهوات النفس، فهذا هو بداية طريق الانحراف عن جادة الصواب، والهزيمة في كل ميادين الحياة، وفي معركة القتال بالطبع. إن على المسلمين أن يسايروا التطور الحادث في جميع مناحي الحياة، ولكن بنظرة مختلفة لما ينظر إليها الآخرون. فهم يفعلون ذلك بدافع من إيمانهم بالله. فكل عمل يفعلونه فإنهم يبتغون من ورائه وجه الله. وهذا هو الفارق الجوهري بينهم وبين غيرهم. وما لم يحدث ذلك، أي ما لم يظهر الجيل الرباني الذي يحمل هم مرضاة الله سبحانه وتعالى من وراء جميع أفعاله، فلا تنتظر من المسلمين تحقيق أي تقدم أو انتصار، بغض النظر عن إمكانياتهم أو تقنياتهم.
12 من ربيع الثاني عام 1425 ( الموافق في تقويم النصارى 30 مايو عام 2004 ).
-----------------------
[1] صحيح / صحيح سنن أبي داود للألباني، 4297
[2] العقد الفريد: 1/119.
[3] عبد الكريم زيدان، السنن الإلهية في الأمم والجماعات، مؤسسة الرسالة، 2002. ص ص: 66-67.
[4] أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/65.
[5] تاريخ الأمم والملوك: 2/307.
[6] سعيد عبد العظيم، طبيعة الصراع بين المسلمين واليهود، دار الإيمان، 2001. ص: 60.
[7] الكامل في التاريخ: 2/260.
[8] البداية والنهاية: 7/53.
[9] البداية والنهاية: 7/53.
[10] البداية والنهاية: 7/54.(57/253)
[11] كل هذه الروايات مأخوذة من: عبد الله عزام، آيات الرحمن في جهاد الأفغان.
[12] عبد الله التل، جذور البلاء، المكتب الإسلامي، 1998. ص: 276.
==============(57/254)
(57/255)
مقومات الداعية الناجح
بقلم الدكتور
علي بن عمر بن أحمد بادحدح
مقدمة المؤلف
الحمد لله جعل الداعي إليه أحسن الناس قولاً ،والمجاهد في سبيله من أفضل الناس عملاً، والصلاة والسلام على أعظم من دعا باللسان، وأشجع من جاهد بالسنان، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان ، أما بعد ..
فإن الدعوة إلى الله سبب الهداية المأمول، وطريق السعادة المأهول، وبها يقع تذكير الغافل، وتحريك الخامل، وهي مفتاح الفهم، ومقدمة العلم، ومدخل العمل، وهي مهمة الأنبياء والمرسلين وسبيل أتباع النبي الأمين، وشرفها وفضلها معلوم، وخيرها وأثرها ملموس.
لا حاجة لبسط القول أو التدليل على أن الدعوة في عالمنا المعاصر تمر بمرحلة صعبة بل عصيبة لأن هذا الأمر ظاهر للعيان، وتعاني الدعوة مشكلات عديدة منها العداء الخارجي والتكالب العالمي الذي يسعى إلى وأد صوتها ومحاصرة نشاطها، ويهدف إلى تشويه صورتها وتجريم حملتها، فالدعوة إلى الله يجعلونها عنصرية تتنافى مع الإخاء، وعصبية تتعارض مع التسامح، والدعاة إلى الله يصورونهم على أنهم قساة غلاظ، لا مجال عندهم لرحمة أو رأفة، هذا إضافة إلى العمل الدائب للمواجهة المباشرة للدعوة والدعاة .
ومن جهة أخرى فإن للدعوة معاناة من بعض حملتها أو المنتسبين إليها، فواحد يسيء من جهة جهله، وآخر من جهة سوء فهمه وثالث من جهة ضيق أفقه، ورابع من جهة شدة أسلوبه وهكذا؛ إضافة إلى وجود بعض الخلل ونقص في العمل في صورة الشاملة الواعية للدعوة بحيث تواكب العصر بالاستفادة من معطياته، والتأقلم مع مستجداته، وحسن المواجهة لعقباته، وجودة التخطيط والإعداد لمتطلباته، كما تراعى الأصول وتستلهم التاريخ وتستنطق التجارب وتستفيد من الأعلام بما يجعل جذورها راسخة، وقواعدها واضحة .
ونظراً للظروف الآنفة الذكر يكون من الواجب إعمال الفكر وتبادل الرأي حول السبل الكفيلة لنجاح الدعوة وتحقيق أهدافها، وحمايتها من كيد الكائدين من الأعداء وجهل الجاهلين من الأحباء، ومن هنا كنت كثير التفكير في مثل الموضوع فكتبت حول نجاح الداعية وقبول دعوته وتأثير شخصيته مقالاً نشرته في إحدى الصحف، ثم في مناسبات متعددة تحدثت عن عناصر نجاح الدعوات، وما زلت أدندن حول هذه المفاهيم والأفكار وألقي عنها كلمات وأدوِّن فيها ملحوظات .
وهذا الكتاب الذي بين يديك هو صدى وترجمة لتلك الأفكار، وما كان ليرى النور لكثرة الأشغال، وتزاحم الأعمال، ولكنني دُعيت للمشاركة في أحد الملتقيات وطلب مني إعداد بحث بعنوان (( مقوِّمات الداعية الناجح )) فكانت هذه الصفحات، التي كتبتها وأنا في ظروف صعبة أثناء انشغالي التام بالمراحل النهائية لإعداد رسالة الدكتوراة، وللتوضيح أقول إن هذا البحث عددت مادته، ورتّبت فصوله وأتممت صياغته في أقل من شهر، وكنت أود قبل طباعته أن أضيف إليه وأزيد فيه ما استجد في الذهن من أفكار، وما تجمّع في الموضوع من نصوص ولكنني تركت ذلك لئلا تتأخر الطباعة، ولعل ذلك يكون في طبعة قادمة بمشيئة الله تعالى .
وحيث قد وصفت لك- أخي القارئ - ظروف البحث ومدة إعداد إضافة إلى ما هو معلوم من قصور الإنسان، لذا فإنني أرجو أن أحظى منك بما تراه من تصويب لخطأ، أو استدراك لنقص، أو فوائد وزوائد تتفضل بإهدائها لي، وهذا مما يسعدني ويثلج صدري، كما ينفعني ويغني فكري ويزيد علمي .
وأخيراً أرفع أجزل الشكر، وأعطر الثناء، وأعظم الحمد، للمولى جلّت قدرته على توفيقه وامتنانه، ثم أثني بالشكر لكل من ساعدني في الإعداد ونقل النصوص وأخص منهم زوجتي وبنات أخي الثلاث، وأشكر دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع على ما قامت به من جهود في تصويب النص وتصحيح أرقام الحواشي وحسن الإخراج، إذ كان البحث في صورته الأولى المستعجلة مليئاً بالأخطاء والاضطراب، كما أشكر من شرفوني بمطالعة البحث عسى الله أن يجعلني عند حسن ظنهم، وأن يغفر لي ما لا يعلمون .
اللهم هذا جهد المقلِّ، وبضاعة المقصِّر تقبّلها بفضلك، وتجاوز عن نقصها بعفوك . وما كان في ذلك من إتقان وإحسان ففضل منك وإنعام، وما كان من خلل أو زلل فغفلة أو استزلال شيطان . فأقل - يا رب- عثرتي، واغفر زلّتي يا أرحم الراحمين .
أبو الحسن علي بادحدح
جدة 18/5/1417هـ
الفصل الأول : دلالة الموضوع وأهميته:
رأيت من المناسب الوقوف على عنوان البحث ومعرفة معاني مفرداته ودلالاته قبل الخوض في مضمون الموضوع وتفصيلاته .
عنوان البحث ((مقومات الداعية الناجح))، ومن هنا سنقف أمام مدلولات الكلمات الثلاث.
المبحث الأول : دلالة عنوان الموضوع :
أولاً : المقوّم(57/256)
أصل الكلمة الثلاثي هو قَوَمَ وأحد معانية الانتصاب والعزم . معجم مقاييس اللغة (5/43) ومن أبرز الاستعمالات اللفظية بهذا الأصل((قيام)) والقيام يجئ بمعنى المحافظة والإصلاح ومنه قوله تعالى ]الرجال قوامون على النساء[ لسان العرب (12/497) النساء [34] وقام الأمر: اعتدل وأقام الشيء أدامه القاموس المحيط (4/168)، وأمر قيم : أي مستقيم ( المحكم لابن سيده (6/366) ، وقوام الأمر (بالكسر) نظامه وعماده (لسان العرب (12/499) ، وقيم الأمر: مقيمه، والقيم: السيد وسائس الأمر(لسان العرب12/502)، ومقوم الشيء وقوامه بمعنى واحد .
فالمراد بمقومات الداعية الناجح الأمور التي هي العماد لنجاح الداعية ليقوم بالدعوة، منتصباً لها عازماً ومحافظاً عليها، مستقيماً معتدلاً في أدائها، قائماً بشؤونها سائساً لأمورها حتى يكون قيامه بها خير قيام يتحقق به المقصود.
ثانياً: الداعية
أصل الكلمة الثلاثي (دٍٍَِِعَوَ)والدعوة المرة الواحدة من الدعاء، والدعاء إلى شيءٍ ما هُو الترغيب فيه والحث عليه كما في قوله ]والله يدعو إلى دار السلام[ يونس [25] أي يرغب في الجنة ويقال دعا يدعو فهو داع والمرة منه دعوة وفي قوله تعالى ]وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً[ الأحزاب[46] أي داعياً إلى توحيد الله فالداعي هو الذي يدعو إلى أمر ما، والجمع دعاة وداعون والداعي والداعية واحد، والهاء فيه للمبالغة .
فالداعية إذن هو المؤهل القائم بترغيب الناس في الإسلام وحثهم على التزامه بالوسائل المشروعة .
وهذا يوضح أن موضوع الدعوة هو الإسلام كله عقيدة وشريعة وأخلاقاً ومعاملة، وأن المدعوون هم جميع الناس كل بحسبه فالكافرون يُدعون إلى الإسلام، والمقصرون يُدعون إلى صدق الالتزام، والعصاة يُدعون إلى ترك الذنوب والآثام وهكذا .
قال ابن تيمية في تعريف الدعوة :((والدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به وبما جاءت به رسله وبتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا))(مجموع فتاوى ابن تيمية (15/157) عرَّفها بعض المعاصرين بقوله ((تبليغ الإسلام للناس وتعليمه إياهم وتطبيقه في واقع الحياة))(المدخل إلى علم الدعوة (ص/17)، وأوجز الطبري القول وأبلغ في المعنى حين قال عن الدعوة: ((هي دعوة الناس إلى الإسلام بالقول والعمل))(تفسير الطبري (11/53).
ثالثاً : النجاح :-
أصل الكلمة الثلاثي ((نجح)) وهو أصل يدل على ظفر وصدق وخير(معجم مقاييس اللغة (5/390) والنُّجح والنجاح الظفر بالشيء ونجح المرء إذا أصاب طلبته ونجح الأمر إذا تيسر وسهل ورجل نجح :منجح الحاجات ورأي نجيح أي صواب (لسان العرب (2/612،611)، الصحاح (1/409)، القاموس المحيط (1/251) .
فالمقصود هو تحقيق غاية الدعوة، والتوفيق لحصول التيسير في الدعوة وقبولها، ومعلوم أن النجاح الأتم في الدعوة هو قبول الحق والعمل به، ورفض الباطل والإقلاع عنه، فهو قناعة نظرية واستجابة عملية ولكن حصول الإعراض وعدم القبول ليس دليلاً على عدم نجاح الداعية إذ أن الهداية من عند الله ]إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء[ القصص [56] ونعلم حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : ((يأتي النبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والنبي وليس معه أحد)) أخرجه البخاري ،كتاب الطب، باب: من كوى أو كوى غيره (10/155)، ومسلم في كتاب الإيمان ،باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب (1/199) وهذا قطعاً لا يدل على عدم نجاح هؤلاء الأنبياء وإنما يدل على عدم وجود القابلية عند المدعوين وطمس الله لبصائرهم وطبعه على قلوبهم .
فالنجاح إذن هو القيام بالواجب على الوجه الأكمل وكثيراً ما تتحقق به النتائج وقد تتخلف لحكمة عند الله . وبهذا يتضح مدلول عنوان الموضوع ((مقومات الداعية الناجح)) وأن المراد تسليط الضوء على الأسس اللازم توافرها للداعية في شخصيته وممارساته ومفاهيمه التي تؤدي إلى حصول الهداية وتحقق أثر الدعوة.
المبحث الثاني : أهمية الموضوع :
مما يتقدم عرفنا أن الموضوع يتعلق بما يقوم بالداعية من صفات ومهارات يتحقق بها هدف الدعوة وتحصل الاستجابة، ولا شك أن الاستجابة للداعية ثمرة عظيمة لأنه مبلغ عن الله جل جلاله وعن رسول صلى الله عليه وسلم ، ومقرر لأحكام الإسلام، ومؤدي ذلك تحقق الاستجابة لله وللرسول، والالتزام بالإسلام ولهذا فإن لهذا النجاح آثار كبيرة محمودة تجعل للبحث في هذا المجال أهمية كبرى وإليك بعض ما ينبئ عن ذلك :
1_ الأجر الجزيل :(57/257)
يقول الحق تبارك وتعالى :]ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من مسلمين[ فصلت [33] ، فهذا ثناء لمن دعا دون ارتباط بالنتيجة فكيف إذا حصلت الاستجابة، إن الأجر حينئذ أعظم وأجزل كما أخبر عليه الصلاة والسلام في قوله: ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم)) أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، باب: مناقب علي بن أبي طالب، الفتح (7/70) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل علي بن أبي طالب (النووي) (15/178) وهذا في هداية الواحد فكيف بهداية الجمع من الناس ؟ الأجر حينئذ يزداد ويتضاعف كما أرشد إلى ذلك حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم القائل: ((من دعا إلى هدى فإن له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)) أخرجه مسلم في كتاب العلم،باب :من سن سنة حسنة أو سيئة (النووي 16/227).
2- انتشار الخير :
إن نجاح الداعية وانتشار الدعوة يزيد من انتشار الخير بكثرة ملتزميه والدعاة إليه، والثابتين عليه،وعندما تتزايد هذه الدوائر ويتكاثر أفرادها تكون سبباً من أسباب رضوان الله عز وجل وتنَزّل نصره، وحصول التغيير الصالح في الأمة ضمن السنة الإلهية الماضية: ]إن الله لا يغير ما قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم[ الرعد[11] ، ومن جهة أخرى فكلما أقبل على الخير واستجاب للدعوة نفر من الناس بما يحققه الله من نجاح للدعاة فإن ذلك يورث عند الآخرين قناعة عميقة، وحماسة قوية للمتابعة من خلال كسر حاجز التردد أو الرهبة، وخوف التفرد بالالتزام ، ومخالفة التيار العام ، كما أن انتشار الخير يبرز صورة مشرقة للمسلمين الملتزمين من خلال سلوكياتهم في سائر شئون الحياة وهذا له أثر مضاعف في مزيد من الإقبال على الالتزام .
3- مغالبة الباطل:
إن كل نجاح للدعوة في فكر وسلوك إنسان هو هزيمة للباطل الداعي إلى طرق ومناهج الشيطان ، وإن كل وجود فاعل للدعوة في ميدان من ميادين الحياة هو غيظ ونكاية في أعداء الله، فالحرص على نجاح الداعية في غاية الأهمية لحماية الأمة من شرور الباطل، والعمل على تحجيم آثاره ، وتقليل أضراره ، وتوهين أنصاره .
ومن المعلوم أنه ((يجب محاربة المبادئ الهدامة من اشتراكية وبعثية وتعصب للقوميات وغيرها من المبادئ والمذاهب المخالفة للشريعة وبذلك يصلح الله المسلمين ما كان فاسداً، ويَردُّ لهم ما كان شارداً ، ويعيد لهم مجدهم السالف وينصرهم على أعدائهم ويمكن لهم في الأرض)) مجموع فتاوى ابن باز(1/392) ومن هنا يلزم (التأكيد على دعاة الإسلام وحملته للتفرغ لكتابة البحوث والنشرات والمقالات النافعة والدعوة إلى الإسلام والرد على أصناف الغزو الثقافي، وكشف عواره وتبيين زيفه حيث إن الأعداء جنَّدوا كافة إمكاناتهم وقدراتهم وأوجدوا المنظمات المختلفة والوسائل المتنوعة للدس على المسلمين والتلبيس عليهم فلا بد من تفنيد هذه الشبهات وكشفها وعرض الإسلام عقيدة وتشريعاً وأحكاماً وأخلاقاً عرضاً شيقاً)) مجموع فتاوى ابن باز (1/392)، فتوفر أسباب نجاح الداعية يعني غلبة الحق وانتصاره وهزيمة الباطل واندحاره .
4- الحماية من المفاهيم والأعمال الخاطئة:
إن التقصير في الأخذ بمقومات النجاح وأسباب الفلاح قد يؤدي إلى الفشل والإخفاق ويتولد من أثر ذلك بعض المفاهيم والأعمال الخاطئة ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
أ- الحكم العام بفساد الناس وذلك أن بعض الدعاة - لقلة في فهمه أو ضعف في إيمانه أو تقصير في عمله - يتوالى عليه الفشل ويلقى الإعراض والنفور من الناس ،وبدلاً من أن يصبر أو ينقد نفسه ويغير أسلوبه، ويعالج خطأه نراه ينحي باللائمة على الناس ، ويحكم عليهم بالفساد والاستعلاء عن الحق ، وأنهم أعداء لله ولرسول صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك مما يحذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي قال فيه: ((إذا قال الرجل : هلك الناس فهو أهلكهم)) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب : النهي عن قول هلك الناس ، (النووي 16/17).
ب- حصول الإحباط واليأس في نفوس بعض الدعاة لتكرار الفشل، وانطوائهم بعد ذلك على أنفسهم ،ثم اعتزالهم الناس وتركهم الأمر المعروف والنهي عن المنكر، وربما كان فشلهم في كثير من الأحوال ناشئاً عن جهلهم بأساليب وأسباب النجاح في الدعوة .
الفصل الثاني : عناصر التأثير :
المبحث الأول الميل العاطفي والمحبة القلبية :(57/258)
إن لمحبة تقود إلى المتابعة للمحبوب، وتقديمه على من سواه ،وتلمس موافقة هواه، ولذا قيل في تعريف المحبة إنها ((إيثار المحبوب على جميع المصحوب ،وقيل :موافقة الحبيب في المشهد والمغيب وقيل :اتحاد مراد المحب ، ومراد المحبوب وقيل: إيثار مراد المحبوب على مراد المحب وقيل : هي بذلك المجهود فيما يرضي الحبيب)) روضة المحبين (ص:19-21) .((والحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر والفعل الظاهر فيما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه)) مجموع فتاوى ابن تيمية (7/541) ولذا فإن صاحب الرسالة يتحبب إلى المدعوين ، ويسعى إلى كسب محبتهم له وميل قلوبهم إليه ، لأن ذلك أعظم عون على قبولهم منه واتباعهم له ، وبدونه لا يحصل التأثير الإيجابي بالمتابعة ولو أقيمت الحجج ونصبت الأدلة لأن البغض للداعي يصد عن قبول دعوته وإن كانت حقاً :]فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك[ آل عمران[159] فالاستجابة والمتابعة أعظم مقتضيات المحبة ،وهما في الوقت نفسه أعظم آثارها .
وإذا تمكنت المحبة فإنها تورث تعلقاً عجيباً بالمحبوب يدفع إلى فعل مقتضاها من الموافقة وإن كان في ذلك مضرة ظاهرة أو إعراض عن محبوبات أخرى هي أكثر أهمية، ويتحمل المحب في ذلك ما يلقي من المعارضة والملامة، وهذا ما يعرف من حال المحبين والعشاق وهو الذي يفسر ما ملئت به سيرهم من الأخبار والأحوال، وليس هذا في عشق ومحبة الصور المحسوسة من البشر، بل هو واقع في المعاني أيضاً فكثير من الأجواد يعشق الجود أعظم عشق فلا يصبر عنه مع حاجته إلى ما يجود به، ولا يقبل فيه عذل عاذل، ولا تأخذه فيه لومة لائم ، وأما عشاق العلم فأعظم شغفاً به ، وعشقاً له من كل عاشق بمعشوقه)) روضة المحبين (ص :69)وبالجملة ((فأصل كل فعل وحركة في العالم من الحب والإرادة ،فهو أصل كل فعل ومبدؤه، كما أن البغض والكراهة مانع وصاد لكل ما انعقد بسببه ومادته))جامع الرسائل والمسائل (2/193).
ومما يقوي أثر المحبة من الموافقة والاتباع ((حصول اللذة والنعمة والفرح والسرور وقرة العين به على قدر قوة محبته وإرادته والرغبة فيه)) روضة المحبين (ص/156،155) ويلحق بذلك أن المحبة توقد نار الشوق فيبقى القلب بالمحبوب ومطلوبه مشغولاً، والعقل في أمره مفكراً (والشوق أثر من آثار المحبة وحكم من أحكامها فإنه سفر القلب إلى المحبوب في كل حال)) تهذيب مدارج السالكين (ص:525) .
وهكذا نجد للمحبة أثرها العظيم في الفكر والسلوك، (( والمحبة والإرادة أصل كل دين سواء كان ديناً صالحاً أو ديناً فاسداً فإن الدين هو من الأعمال الباطنة والظاهرة والمحبة والإرادة أصل ذلك كله)) جامع الرسائل والمسائل (2/218) ، ((وإذا كان الحب أصل كل عمل من حق وباطل وهو أصل الأعمال الدينية وغيرها)) المصدر السابق (2/235) علمنا أهمية هذا العنصر.
ومن منا كان الهوى في غير مرضاة الله خطراً عظيماً بل هو شرك محض وألوهية باطلة كما قال تعالى ]أفرأيت من اتخذ إلهه هواه[ الجاثية [23] ، وبالجملة فعاطفة المحبة من أعظم عناصر التأثير سلباً وإيجاباً ، ومن ثم كان الحرص على كسب القلوب واستجلاب المحبة في طاعة الله معيناً على الاستجابة للخير، والقبول للدعوة ، وإذا وجهت المحبة لله وطاعته فذلك غاية عظمى ، إذ أن محبة الله ((هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون وإليها شخص العاملون ، وإلى عَلَمها شمر السابقون ، وعليها تفانى المحبون ، وبروح نسيمها ترّوح العابدون ، فهي قوت القلوب ، وغذاء الأرواح ، وقرة العيون ، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات ، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات ، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام ، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام)) تهذيب مدارج السالكين (ص/509) ، والمقابل على الضد من ذلك ((فهو عن الخير صاد ، وللعقل مضاد ، لأنه يُنتج من الأخلاق قبائحها ، ويظهر من الأفعال فضائحها ، ويجعل ستر المروءة مهتوكاً ، ومدخل الشر مسلوكاً)) أدب الدنيا والدين (ص: 33) .
المبحث الثاني : الإقناع العقلي والحجة العلمية :(57/259)
الهوى يهوي بصاحبه والعقل - بإذن الله -يعصمه ، والعقلاء يحكمون عقولهم في أهوائهم ، وهذا تصرف الرجال فقد يُحب القلب فعلاً معيناً وتهوى النفس سلوكاً محدداً ، فيعترض العقل بالنظر في البواعث ، والتأمل في العواقب ، فيكبح جماح الهوى إذ أنه ((لما كان الهوى غالباً ، إلى سبيل المهالك مورداً ، جعل العقل رقيباً مجاهداً، يلاحظ عثرة غفلته ، ويدفع بادرة سطوته ، ويدفع خداع حيلته ، لأن سلطان الهوى قوي ، ومدخل مكره خفي)) أدب الدنيا والدين (ص:35) ((وإذا كانت الدولة للعقل سالمهُ الهوى ، وكان من خدمه وأتباعه ، كما أن الدولة إذا كانت للهوى ، صار العقل أسيراً في يديه ، محكوماً عليه)) روضة المحبين (ص:10)((وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة فإن استوثق منه ضابطه كفه ، وربما لاحت له شهواته الغالبة عليه فلم تقاومها السلسلة فأفلت ، على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة ، ومنهم من يكفه بخيط)) صيد الخاطر(ص:164) .
وربما لا تكون هناك محبة ولا ميل في النفس ابتداء ولكن الحجة والبرهان يحصل بها قناعة العقل التي تزين الفعل أو الرأي للنفس وتحببه إلى القلب ، فالقناعة لها تأثيرها الذي لا ينكر في دفع الإنسان لاتخاذ الموافق والآراء ، وممارسة الأفعال ، أو الامتناع من ذلك ، وتلك مزية العقل الراشد الذي هو من أهم البواعث ((فلا يسمي عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه والشر فتركه ، ومن فعل ما يعلم أنه يضره فمثل هذا ماله عقل)) مجموع فتاوى ابن تيمية (7/24) والمحبة والعقل إن اتفقا عظم الأثر وان اختلفا فمالت المحبة لما حكم العقل بفساده فمآل الأمر إلى غلبة أحدهما بقوته ، وتمكنه ، فقد يقرر العقل ضرر الفعل لكنه يضعف ويغلبه الهوى بباعث حب اللذة ، وقوة الشهوة (وهذا من الجهل الذي هو عمل بخلاف العلم حتى يقدم المرء على فعل ما يعلم أنه يضره وترك ما يعلم أنه ينفعه لما في نفسه من البغض والمعاداة لأشخاص وأفعال ، وهو في هذه الحال ليس عديم العلم والتصديق بالكلية ، لكنه لما في نفسه من بغض وحسد غلب موجب ذلك الموجب والنتيجة لا توجد عنه وحده ، بل عنه وعما في النفس من حب ما ينفعها وبغض ما يضرها ، فإذا حصل لها مرض ففسدت به أحبت ما يضرها ، وأبغضت ما ينفعها ، فتصير النفس كالمريض الذي يتناول ما يضره لشهوة نفسه له مع علمه أنه يضره)) مجموع فتاوى ابن تيمية (7/540) و ((مطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في عاقبة ، ويحث على الميل للشهوات عاجلاً ، وإن كانت سبباً للألم والأذى في العاجل ومنع اللذات في الأجل)) ذم الهوى (ص: 13،12).
وهذا يوضح أثر العقل وقناعته في توجيه الآراء والسلوكيات ، مع عدم إهمال أثر القلب وعاطفته ، إذ قد توافق فيقوى التأثير ويتمكن ، أو تخالف فتكون هناك المغالبة ثم الغلبة .
المبحث الثالث : القدوة الحية والنموذج المتحرك :
لا يخفى أبداً أثر القدوة فهي الصورة الحية للفكرة ، والتطبيق العلمي للدعوة ، والتوضيح الجلي للحجة ، ولا شك أنها من أعظم أسباب بذر المحبة في القلوب ، ووجود القناعة في العقول ((وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة ولا سيما العامة وأرباب العلوم القاصرة فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها)) مجموع فتاوى ابن باز (3/110).
والعكس صحيح فلو وجدت المحبة ، وأقيمت الحجة ، وبذلت الدعوة كان لتخلف القدوة ووجود ما يعارض مقتضى الدعوة أثره في ضعف التأثير ونقص المحبة ، وزعزعة القناعة ومعلوم ((أن التأسي بالأفعال - بالنسبة لمن يعظّم في الناس - سرٌ مبثوث في طباع البشر ، لا يقدرون عن الانفكاك عنه بوجه ولا بحال ولا سيما عند الاعتياد والتكرار)) الموافقات (4/248-249) ورحم الله ابن القيم حيث أبدع في بيان عكس هذه الحقيقة عندما قال : ((علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم فكلما قالت أقوالهم للناس هلموا قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم ، فلو كان ما دعوا إليه حقاً كانوا أول المستجيبين له فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطاع الطريق)) ولله در هرم بن حيان حيث حذر من العالم الفاسق فكتب إليه عمر رضي الله عنه يسأله عن مراده فقال : ((يكون إمام يتكلم بالعلم ويعمل بالفسق ، ويشبه على الناس فيضلوا)) نزهة الفضلاء (1/329،328).(57/260)
وفي كثير من الأحيان تكون القدوة الحسنة مغنية عن كثير من أساليب الترغيب والتشويق وأسباب تحصيل المحبة ، وكذلك تعفي من الاستكثار من الاستدلال ، وإقامة الحجة والمناظرة والجدال ، إذ يتحقق من خلال القدوة الكثير من ذلك بشكل تلقائي وبصورة أعمق وأثبت حيث أن القدوة ((تساعد على تكوين الحافز في المتربي دونما توجيه خارجي)) القدوة مبادئ ونماذج (ص :11) لأن ((المثال الحي المرتقي في درجات الكمال يثير في نفس البصير العاقل قدراً كبيراً من الاستحسان والإعجاب والتقرير والمحبة ، ومع هذه الأمور تتهيج دوافع الغيرة المحمودة والمنافسة الشريفة)) القدوة مبادئ ونماذج (ص:8 ) فيحصل التأثر والاقتداء وتكون الاستجابة قوية وهي في الوقت نفسه سهلة وتلقائية ، ((حتى إذا أحببت الاقتداء به من غير سؤال أغناك من السؤال في كثير من الأعمال)) الموفقات (4/271،270) ولله در ابن القيم حيث قال : ((إن الناس قد أحسنوا القول فمن وافق قوله فعله فذاك الذي أصاب حظه ومن خالف قوله فعله فذاك إنما يوبِّخ نفسه)) (الفوائد (ص:192) .
وبهذا تتكامل عناصر التأثير فإذا اجتمع مع محبة الفعل اقتناع العقل بثمرته وفائدته وأضيف إليهما قدوة يتمثل فيهما الفعل فإن التأثير يكون قد بلغ مبلغه .
ولا بد من التأكيد على أهمية عنصر القدوة وخطورة انعدامه حيث ((يستطيع الإنسان أن يكون عالماً جهبذاً في الكيمياء أو العلوم أو الطب أو الهندسة أو غير ذلك من العلوم التي أمرنا الله بتعلمها لتعمر الدنيا ولكن هذه العلوم لا تتطلب منا قيداً سلوكياً ، فقد تكون عالماً في أي فرع من هذه العلوم وسلوكك تبعاً لهواك ولكن هذا لا يفسد الحقيقة أنك عالم في علمك لأن النبوغ لا يضع قيداً على الأخلاق إلا علم الدين فإنك إن كنت من علمائه أو الداعين إليه أو المتدينين المخلصين لا بد أن تكون قدوة حسنة لما تدعو إليه وإلا ما استمع إليك أحد)) الدعوة قواعد وأصول (ص:111) .
ولله در القائل :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وحسب المسلم قول الله تعالى :]يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقول مالا تفعلون[ الصف [3،2] .
الفصل الثالث : مقومات النجاح في تكوين الداعية
في هذا الفصل أسلط الضوء على المقومات الشخصية اللازمة في تكوين الداعية ليتأهل للنجاح في دعوته ، فالمقصود هو بيان ما يلزم الداعية أن يتحقق به في ذات نفسه، وأن يوجده ويكلمه في سماته وصفاته كأساس لا بد منه قبل أي مقومات خارجية تتصل بالمدعوين أو بيئة الدعوة أو موضوعاتها .
وإن هذه المقومات كثيرة ويمكن أن يطول الحديث في سردها وعرضها وتكون بمثابة استعراض لواجبات وآداب الإسلام مما يفقدنا معرفة الأولويات والأهمية الكامنة في بعض المقومات ،ولذا اجتهدت بعد التأمل والتفكير، أن أسلط الضوء على أربعة مقومات هي الأكثر أهمية وشمولية ويندرج تحتها كثير من الصفات الأخرى .
المبحث الأول : التميز الإيماني والتفوق الروحاني :
إن التميز في مجال الإيمان عقيدةً صحيحةً ، ومعرفةً جازمةً ، وتأثيراً قوياً يعد- بلا نزاع - أهم المقومات وأولى الأولويات بالنسبة للداعية ، لكي يكون الداعية عظيم الإيمان بالله ، شديد الخوف منه ، صادق التوكل عليه ، دائم المراقبة له ، كثير الإنابة إليه ، لسانه رطب بذكر الله ، وعقله مفكر في ملكوت الله ، وقلبه مستحضر للقاء الله ، مجتهد في الطاعات ، مسابق إلى الخيرات ، صوام بالنهار قوّام بالليل ، مع تحري الإخلاص التام ، وحسن الظن بالله وهذا هو عنوان الفلاح ، وسمت الصلاح ، ومفتاح النجاح ، إذ هو تحقيق لمعنى العبودية الخالصة لله وهي التي تجلب التوفيق من الله فإذا بالداعية مسدد ، إن عمل أجاد ، وإن حكم أصاب ، وإن تكلم أفاد .
وهذا الباب واسع الجوانب متعدد المستلزمات ، وحسبي أن أبرز أهم هذه الجوانب :-
أولاً : عظمة الإيمان بالله :(57/261)
أساس كل أمر هو تجريد التوحيد ، والبعد عن الشرك ولا بد أن يكون الداعية صحيح الإيمان ، خالص التوحيد ، عنده من العلم ما يعرِّفه بالله وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ، وأن تستقر هذه المعرفة في سويداء قلبه ، وتملك عليه أقطار نفسه ، وتجري مع الدماء في عروقه ، وأن ينعكس ذلك على سائر أحواله فتنضبط به أفكاره وآراؤه ، وتُحكم به كلماته وألفاظه ، وتُقوَّم به أفعاله وأعماله ، ويجمع ابن القيم هذا المعنى في عبارة أشمل وأعمق حيث يقول في بيان المراد أنه ((التزام عبوديته من الذل والخضوع والإنابة وامتثال أمر سيده ، واجتناب نهيه ، ودوام الافتقار إليه ، واللجأ إليه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، وعياذ العبد به ولياذه به ، وأن لا يتعلق قلبه بغيره محبة وخوفاً ورجاءً ، وفيه أيضاً أنه عبد من جميع الوجوه : صغيراً وكبيراً ، حياً وميتاً ، مطيعاً وعاصياً معافى ومبتلى ، بالروح والقلب واللسان والجوارح ، وفيه أيضاً أن مالي ونفسي ملك لك فإن العبد وما يملك لسيده ، وفيه أيضاً أنك أنت الذي مننت علي بكل ما أنا فيه من نعمة فذلك كله من إنعامك على عبدك ، وفيه أيضاً أني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إلا بأمرك ، كما لا يتصرف العبد إلا بإذن سيده وإني لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً ، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، فإن صح له شهود ذلك فقد قال إني عبدك حقيقة)) الفوائد (ص:35،34) ، ولا يتصور للداعية نجاح وتوفيق ، أو تميز وقبول دون أن يكون حظه من الإيمان عظيماً ((إذ كيف تدعو الناس إلى أحد و صلاتك به واهية ومعرفتك به قليلة)) مع الله (ص: 188) .
وهذه الغاية العظمى تتصل أكثر شيء بأعمال القلوب التي تخفى على الناس ولا يعلمها إلا علام الغيوب ، إلا أن آثار ذلك تظهر بوضوح في الأقوال والأفعال فإن ((عكوف القلب على الله تعالى ، وجمعيته عليه ، والخلوة به ، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق ، والاشتغال به وحده سبحانه ، بحيث يصير ذكره وحبه ، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته ، فيستولي عليه بدلها ، ويصير الهم كله به ، والخطرات كلها بذكره ، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه ، فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق ، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ، ولا ما يفرح به سواه)) زاد المعاد (2/87) ، كل ذلك ينعكس على الداعية فتظهر على شخصيته آثار الإيمان الصحيح المتحرك ومن أبرزها :-
1_ التحرر من عبودية غير الله :
الإيمان قوة عظمى يستعلي بها المؤمن على كل قوى الأرض ، وكل شهوات الدنيا ، ويصبح حراً لا سلطان لأحد عليه إلا لله ، فلا يخاف إلا الله ، ولا يذل إلا لله ، ولا يطلب إلا من الله ، ولا يأمل إلا من الله ، ولا يتوكل إلا على الله ، وللإيمان تأثير كبير في أعظم أمرين يسيطران على حياة البشر وهما : الخوف على الرزق ، والخوف على الحياة .
أما الأول : فلا يخفى كم أذل الحرص أعناق الرجال ، وكم شغل الناس حبُّ المال ، وكم باع أناس مبادئهم ، وخانوا أمتهم وتنكروا لماضيهم لما ذهب الذَّهب بأبصارهم وسبى قلوبهم ، أما المؤمن فحقائق الإيمان تملؤ قلبه فلا يتأثر بشيء من هذا لأن في قلبه قول الحق جل وعلا ]وفي السماء رزقكم وما توعدون[ الذاريات[22] ولأنه يعلم من بيده الرزق ]فابتغوا عند الله الرزق واعبده واشكروا له[ العنكبوت[17] وأنه لا يملك أحد من البشر من ذلك شيئاً ]إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً[ العنكبوت [17] وفوق ذلك يعلم حقيقة الرزق في الدنيا وقيمته المحدودة ويرتبط بقوله تعالى ]ورزق ربك خير وأبقى[ طه [131] وقوله ]إن هذا لرزقنا ماله من نفاد[ ص [54] وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) أخرجه الترمذي كتاب الزهد ، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله ، حديث رقم (2320) ومن هذه المنطلقات الإيمانية قال الشافعي رحمه الله :
أنا إن عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أعدم قبراً
همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة قهراً
وأما الثاني : فيقين المؤمن أن الموت والحياة بيد الله ، وأنه لا ينجي حذر من قدر ، وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه ، وأن الموت ليس بالإقدام وأن السلامة ليست بالإحجام بل كما قال تعالى ]أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة[ النساء [78] ومن هنا يتميز المؤمن عن غيره ، فبينما ترتجف القلوب وتنسكب الدموع ، وتعلو التوسلات ، وتقدَّم التنازلات ، حرصاً على الحياة ، نجد المؤمن كالطود الشامخ يهتف مع خبيب بن عدي قائلاً :
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
ويتذكر قول علي بن أبي طالب :
أي يوميَّ من الموت أفر يوم لا يقدر أو يوم قُدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر(57/262)
ويتذكر المؤمن حال أنس بن النضر يوم شمَّ رائحة الجنة في أحُد فمضى في شوق إلى عناق الموت ، ويدرك عمق إيمان عمير بن الحمام عندما استطال - لأجل أكل تمرات - هذه الحياة ، ويقف على سرّ الإيمان العظيم عندما يهتف الشهيد قائلاً : فزت ورب الكعبة ، ولا ينسى خبر سحرة فرعون لما آمنوا وهدَّودا بالموت هتفوا قائلين ]اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا[ طه [72] .
2- الخشية من الله :
وهي من أعظم آثار الإيمان وأبرز أوصاف المؤمنين ]الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون[ الأنبياء [49] ]الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله[ الأحزاب [39] وقدوتهم في ذلك صلى الله عليه وسلم حيث يقول : ((إني لأخشاكم لله وأتقاكم له)) أخرجه البخاري في كتاب النكاح ، كتاب الترغيب للنكاح (الفتح :9/104) ، ((والخشية أخص من الخوف ، فهي مقرون بمعرفة)) تهذيب مدارج السالكين (ص:269) وعندما تعمر الخشية والخوف قلب الداعية المؤمن يتميز عن الغافلين والعابثين لأن الخوف يحول بين صاحبه وبين محارم الله ، فقهُ ذلك أنطق إبراهيم بن سفيان بالحكمة فقال: ((إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها)) تهذيب مدارج السالكين (ص:270) وقال الفضيل بن عياض :((من خاف الله لم يضره أحد ، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد)) نزهة الفضلاء (2/661) وهذه الخشية دافعة للطاعة ((وما استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله)) نزهة الفضلاء (1/513) والداعية له رتبة عليا من الإيمان ((تجعل خشيته لله أسرع إلى فؤاده من أي رهبة تخامر نفسه أمام ذي سلطان)) مع الله (ص:190) .
والخشية أساس مراقبة الله ترقي بالمؤمن إلى درجة الإحسان وأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه .
ثانياً : الإخلاص لله :
((الإخلاص لله روح الدين ولباب العبادة وأساس أي داع إلى الله)) مع الله (ص:201) وهو ((في حقيقته قوة إيمانية ، وصراع نفسي ، يدفع صاحبه - بعد جذب وشد - إلى أن يتجرد من المصالح الشخصية ، وأن يترفع عن الغايات الذاتية ، وأن يقصد من عمله وجه الله لا يبغي من ورائه جزاءً ولا شكوراً)) صفات الداعية النفسية (ص:12) فالمخلصون ((أعمالهم كلها لله ، وأقوالهم لله ، وعطاؤهم لله ،ومنعهم لله ، وحبهم لله ، وبغضهم لله ، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده)) تهذيب مدارج السالكين (ص: 68) والإخلاص للداعية ألزم له من كل أحد وأهميته تفوق كل أمر ، وهو استجابة لأمر الله ]وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين[ البينة [5] ، وفي تركه خوف من الحرمان برد الأعمال ومنع التوفيق لأن الله جل وعلا قال في الحديث القدسي ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) أخرجه مسلم ، كتاب الزهد ، باب الرياء (النووي)(18/115) وفيه وقاية من عذاب الآخرة الذي توعد به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من عمل بلا إخلاص عندما ذكر أول ثلاثة تسعّر بهم النار وهم قارئ وغني ومجاهد لم يقصدوا بأعمالهم وجه الله (أخرجه مسلم ، كتاب الإمارة ، باب من قاتل للرياء والسمعة واستحق النار (عبد الباقي)(3/1514،1513).
فلا بد والأمر كذلك من تحري الإخلاص والحذر مما يضاده فإنه ((لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت)) الفوائد (ص:195) ((والمفروض أن الداعية العارف بالله قد بلغ من منازل الإيمان منزلة تجعل رجاءه في الله وحده يسبق كل رغبة إلى مخلوق)) مع الله (ص:190) والإخلاص يجعل للكلمات حيوية مؤثرة ، وللدعوة قولاً سريعاً .
ثالثاً : حسن الصلة بالله :(57/263)
والمقصود بها إقامة الفرائض ، والاستكثار من النوافل ، والاشتغال بالأذكار ، والمداومة على الاستغفار وكثرة التلاوة القرآنية ، والحرص على المناجاة الربانية ، وغير ذلك من القربات والطاعات ، لأن العبادة زاد يتقوى به الداعية ، فالصلاة صلة بينه وبين مولاه ، ولا مناص من تميزه في حرصه عليها ، وتبكيره إليها ، وخشوعه فيها ،وتطويله لها ، وشهودها مع الجماعة وله في ذلك قدوات سالفة فسعيد بن المسيب ((ما فاتته الصلاة في الجماعة أربعين سنة)) نزهة الفضلاء (1/370) ((والربيع بن خثيم كان يقاد إلى الصلاة وبه الفالج ، فلما روجع في ذلك قال : إني أسمع حي على الصلاة فإن استطعتم أن تأتوها ولو حبواً)) نزهة الفضلاء (1/381) ، ولست أدري كيف يكون داعية من يتخلف عن الصلوات في الجماعات سيما في الفجر والعصر مع ما ورد في أدائهما خصوصاً من تعظيم الأجر ، وما جاء في فواتهما من التحذير من الإثم والوزر ، وقد ترخص كثيرون في ذلك فلا يهمهم التبكير ، ولا يعنيهم إدراك التكبير ، ولست أدري ما يقول هؤلاء إذا سمعوا مقالة إبراهيم بن زيد التيمي : ((إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه)) نزهة الفضلاء (1/468) وبماذا يعلقون إذا علموا أن سعيد بن عبد العزيز التنوخي ((كان إذا فاتته صلاة الجماعة بكى)) نزهة الفضلاء (2/611) والحقيقة أن الأمر في هذا يطول والتفريط فيه من بعض الدعاة كثير وخطير ، ونصوص الكتاب والسنة أشهر من أن تذكر.
والذكر عظيم المنزلة فهو ((منشور الولاية الذي من أعطية اتصل ، ومن منعه عُزل ، وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجسام لها قبوراً ، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بوراً ، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق ، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الحريق ، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منه القلوب)) تهذيب مدارج السالكين (ص:463) ، والذكر هو العبادة المطلوبه بلا حد يُنتهي إليه ]يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً[ الأحزاب [41] وبلا وقت تختص به ]ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى[ طه [130] وبلا حال تستثني منه ]الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم[ آل عمران [91]، والذاكرون هم السابقون إشارة إلى حديث أبو هريرة : ((سبق المفردون ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)) أخرجه مسلم ، في كتاب الذكر والدعاء ، باب الحث على ذكر الله تعالى (النووي)(17/4) ، في رياض الجنة يرتعون إشارة إلى حديث أنس بن مالك : ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ، قالوا : وما رياض الجنة ؟ قال : حلق الذكر)) أخرجه الترمذي ، وقال حديث حسن غريب . (انظر الترغيب والترهيب 2/ 408،407)، وبوصية المصطفى صلى الله عليه وسلم يعلمون (إشارة إلى حديث عبد الله بن بشر ، أن رجلاً قال : ((يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به ؟ قال : لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب (انظر الترغيب والترهيب 2/394) ، وبمباهاة الملائكة يسعدون ((إشارة إلى حديث صلى الله عليه وسلم لمن جلسوا يذكرون الله ، حيث قال : ولكنه أتاني جبريل وأخبرني أنَّ الله عز وجل يباهي بكم الملائكة)) أخرجه مسلم، في كتاب الذكر ،باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن والذكر (النووي)(17/23).
والاستغفار من أعظم الأذكار وكان المصطفى عليه الصلاة السلام يستغفر في اليوم والليلة سبعين مرة .أخرجه البخاري في كتاب الدعوات ، باب استغفار صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة (الفتح11/101) وأخبر أمته أن ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ، ومن كل هم فرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب)) أخرجه أبو دواد في كتاب الصلاة ، باب الاستغفار (1518)(2/178) ولذا فلا بد للداعية من الأذكار ليحيي الله قلبه ، ولا بد له من الاستغفار ليمحو الله ذنبه .
وأعظم الذكر تلاوة القرآن التي هي من أقوى الصلات بالله التي يحتاجها الدعاة ، ولها أثرها في الواقع الدعوة والحياة ((ومن الصلة بالله إعزاز كتابه وإدمان تلاوته وتدبر معانيه ، وعقد مقارنة مستمرة بين المثل التي يحدو العالم إليها ، والواقع الذي ثوى الناس فيه لتكون هذه المقارنة حافزاً على تذكير الناس بالحق ، وقيادتهم إلى الله، وتأهيلهم . وقرب الداعية من كتاب الله يجب أن يكون متعة لروحه وسكناً لفؤاده وشعاعاً لعقله، ووقوداً لحركته ومرقاة لدرجته)) مع الله (ص:191) والصلة بالقرآن موجبة للتميز كما قال ابن مسعود رضي الله عنه:((ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ،وبنهاره إذا الناس مفطرون ،وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخوضون ، وبخشوعه إذا الناس يختالون ، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حكيماً حليماً سكيناً ، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً ولا سخاباً ولا صياحاً ولا حديداً)) الفوائد (ص:192) .(57/264)
والخلاصة أن التميز الإيماني من أعظم أسباب نجاح الداعية ، إذ ليس النجاح بفصاحة اللسان ولا قوة البرهان ولا كثرة الأعوان ، بل هو مع ذلك وقبل ذلك بتوفيق الله الذي يخص به أولياءه ولا شك ((أن الدعاة الذين يكرسون أوقاتهم لله لدفع الناس إلى سبيله ، لا بد أن يكون شعورهم بالله أعمق ، وارتباطهم به أوثق ، وشغلهم به أدوم ، ورقابتهم له أوضح)) مع الله (ص:190) ونحن نريد روحانية إيجابية ، لا انعزالية ترتكز على العبادات والأوراد بعيداً عن التفاعل مع الحياة وما فيها من هموم ومعاناة ، نريد ((روحانية إيجابية تحفزه للتضحية وتستهدف الشهادة وتعمق الحاجة إلى رضا الله لتغدو هاجساً يومياً يلاحق كل مواطن رضاه في عملية تدقيق ومعاناة تجعله يعيش مع عقيدته في أفكاره ومشاعره وفي علاقاته ومطامحه ، فتتحول في داخل ذاته إلى هم يومي متحرك يراقب الأشياء من خلاله ، ويحدد موفقه منها على أساسه)) الحركة الإسلامية هموم وقضايا (ص: 14) .
وهناك تقصير ظاهر لدى بعض الدعاة والجماعات الإسلامية في العناية بهذا الجانب المهم وكثيراً ما يكون ذلك بسبب تضخم العناية بالجوانب الفكرية والسياسية وغيرها ، ولذا صار يرى بعض من ينتسبون إلى الدعوة وهم مقصرون في معرفتهم وصلتهم بالله .
المبحث الثاني : الرصيد العلمي والزاد الثقافي :
وهذا أساس لا بد منه حتى يجد الناس عند الداعية إجابة التساؤلات ، وحلول المشكلات إضافة إلى ذلك هو العدَّة التي بها يعلِّم الداعيةُ الناس أحكام الشرع ، ويبصرهم بحقائق الواقع ، وبه أيضاً يكون الداعية قادراً على الإقناع وتفنيد الشبهات ، ومتقناً في العرض ، ومبدعاً في التوعية والتوجيه .
((وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها فهي لا تحصل إلاَّ بالعلم الذي يدعو به وإليه ،ولا بد من كمال الدعوة من البلوغ في العلم على حد يصل إليه السعي)) مفتاح دار السعادة(1/154) .
والخوض في غمار الدعوة وميادينها فيما لا علم للداعي به ، تترتب عليه آثار وخيمة لأن ((العامل على غير علم كالسالك على غير طريق ، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح)) مفتاح دار السعادة (1/130) ((ولا يكون عمله صالحاً إن لم يكن بعلم وفقه ، وكما قال عمر بن عبد العزيز : ((من عبَد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح))، وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ((العلم إمام العمل والعمل تابعه)) ، وهذا ظاهر فإن القصد العمل ، والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلاً وضلالاً واتباعاً للهوى)) مجموع فتاوى ابن تيمية (28/136،135) .
وطبيعة مهمة الداعي خطيرة ونظرة الناس إليه ، واعتدادهم به ، وأخذهم عنه يجعل أمر العلم ((أشد ضرورة للداعي إلى الله لأن ما يقوم به من الدين ، ومنسوب إلى رب العالمين ، فيجب أن يكون الداعي على بصيرة وعلم بما يدعو إليه ، وبشرعية ما يقوله ويفعله ويتركه ، فإذا فقد العلم المطلوب اللازم له كان جاهلاً بما يريده ووقع في الخبط والخلط ، والقول على الله ورسوله بغير علم ، فيكون ضرره أكثر من نفعه ، وإفساده أكثر من إصلاحه وقد يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف لجهله بما أحلّه الشرع وأوجبه وبما منعه وحرَّمه)) أصول الدعوة (ص:135) ومن أكثر الأمور التي يفتن بها عوام الناس التصرف الخاطئ الذي يصدر من بعض الجهلاء من أهل العبادة والصلاح لأن ((الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه فيقتدون به على جهله)) مفتاح دار السعادة (2/12)، فهذا يقتدون به من أثر حاله ، فكيف بالداعية الذي يوجههم بحاله ومقاله ، إن افتتانهم به أكبر وأشد.
فضل العلم وثمرته :
لابد للداعية أن يوقن أن ((العلم أشرف ما رغب فيه الراغب ، وأفضل ما طلب وجد فيه الطالب ، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب)) أدب الدنيا والدين (ص:40) والآخذ بالعم آخذ بالبداية الصحيحة إذ العلم مقدم على القول والعمل كما قال تعالى ]فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك[ محمد [19] .
وبالعلم يحوز الداعية الرفعة في الميزان الرباني وفق قوله تعالى ]يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات[ المجادلة[11]، والسعي في طلب العلم تحقيق للغاية التي أرادها الله ووجه إليها في قوله ]فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون[ التوبة [122] ،فقد جعل الله الأمة فرقتين ((أوجب على إحداهما الجهاد في سبيله وعلى الأخرى التفقه في دينه ، لئلا ينقطع جميعهم عن الجهاد فتندرس الشريعة ، ولا يتوفرا على طلب العلم فتغلب الكفار على الملة ،فحرس بيضة الإسلام بالمجاهدين ، وحفظ شريعة الإيمان بالمتعلمين ، وأمر بالرجوع إليهم في النوازل ومسألتهم عن الحوادث فقال عز وجل ]فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون[ النحل [43] وقال تعالى ]ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم[ النحل [43] .(57/265)
وإذا سلك الداعية طريق العلم حظي بالخيرية الربانية الثابتة في حديث الرسو صلى الله عليه وسلم ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله به طريقاً من طرق الجنة)) سنن أبو داود ، كتاب العلم ، باب الحث على العلم (3641)(4/57) .
وإذا نال الداعية حظاً وافياً من العلم واندرج في سلك طلبة العلم فإنه يكون في مجتمعه نبراساً يُهتدى به كما قال ابن القيم عن الفقهاء ((إنهم يكون الأرض بمنزلة النجوم في السماء ، بهم يُهتدى في الظلماء ، حاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب ، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء)) إعلام الموقعين (1/9) ، وعندما يتحرك الداعية ناشراً علمه ساعياً بين الناس بالإصلاح ناعياً عليهم الغفلة والفساد فإنه يحظى بشرف الوصف الذي ذكره الإمام أحمد حين قال :((الحمد لله الذي جعل في كل فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى ، ويبصرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هَدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم)) إعلام الموقعين (1/9) ، وأهل العلم والبصيرة من الدعاة شهد التاريخ أنهم ((هم من اهتدى بهم الحائر ، وسار بهم الواقف ، وأقبل بهم المعرض ، وكمُل بهم الناقص ، ورجع بهم الناكص ، وتقوى بهم الضعيف)) مدارج السالكين (3/304) .
ولأهل العلم في بيان شرف العلم وفضيلته مقالات رائعة منها : قول الخطيب في الفقيه والمتفقه : ((قد جعل الله العلم وسائل أوليائه ، وعصم به من اختار من أصفيائه)) الفقيه والمتفقه (2/71).
وأسند قبل ذلك عن محمد بن القاسم بن خلاد قال : ((يقال العقل دليل الخير ، والعلم مصباح العقل ، وهو جلاء القلب من صدى الجهل ، وهو أقنع جليس ، وأسرُّ عشيق ، وأفضل صاحب وقرين ، وأزكى عقدة ، وأربح تجارة ، وأنفع مكسب ، وأحسن كهف ، وأفضل ما اقتني لدنيا واستظهر به لآخرة ، واعتصم به من الذنوب ، وسكنت إليه القلوب ، يزيد في شرف الشريف ، ورفعة الرفيع ، وقدر الوضيع ، أنس في الوحشة ، وأمن عند الشدة ، ودال على طاعة الله تعالى وناه عن المعصية ، وقائد إلى رضوانه ، ووسيلة إلى رحمته)) الفقيه المتفقه (2/71).
وقال أبو هلال العسكري في ((الحث على طلب العلم)) : ((فإذا كنت - أيها الأخ الكريم - ترغب في سمو القدر ، ونباهة الذكر ، وارتفاع المنزلة بين الخلق ، وتلتمس عزاً لا تثلمه الليالي والأيام ، ولا تتحيَّفه الدهور والأعوام ، وهيبة بغير سلطان ، وغنى بلا مال ، ومنعة بغير سلاح ، وعلاء من غير عشيرة ، وأعواناً بغير أجر ، وجنُداً بلا ديوان وفرض ، فعليك بالعلم فاطلبه في مظانه تأتك المنافع عفواً وتلق ما يعتمد منه صفواً )) الحث على طلب العلم (ص:43) .
وقال ابن إسحاق بن أبي فروة : ((أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم وأهل الجهاد فأما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل ، وأما أهل الجهاد فجاهدوا على ما جاءت به الرسل)) الفقيه والمتفقه (1/35).
العلم المطلوب :
ليس بالضرورة أن يكون الداعية عالماً جامعاً لكل العلوم ، وليس من شرط الدعوة تمام العلم واستيفاء قدر بعينه منه ، وليست الدعوة مختصة بالعلماء وحدهم دون غيرهم بل كل من علم من أحكام الإسلام شيئاً دعا إليه ،وكل من علم منكراً وعرف دليل حرمته نهى عنه ، وإذا لم يكن الأمر كذلك تعطلت الدعوة ومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وسبق أن أوضحنا أن الدعوة ((مشروط لها العلم ولكن العلم ليس شيئاً واحداً لا يتجزأ ولا يتبعض ، وإنما هو بطبيعته يتجزأ ويتبعض فمن عَلم مسألة وجهل أخرى فهو عالم بالأولى جاهل بالثانية ، وبالتالي يتوفر فيه شرط وجوب الدعوة إلى ما علم دون ما جهل ، ولا خلاف بين الفقهاء أن من جهل شيئاً أو جهل حكمه أنه لا يدعو إليه لأن العلم بصحة ما يدعو إليه الداعي شرط لصحة الدعوة ، وعلى هذا فكل مسلم يدعو إلى الله بالقدر الذي يعلمه)) أصول الدعوة (ص:302) ، وفعل الصحابة الكرام يدل على ذلك ، فالطفيل بن عمرو الدَّوسي ، وأبو ذر الغفاري ، وهما من السابقين إلى الإسلام قاما بمهمة الدعوة بما معهما من أصل التوحيد وبعض ما نزل من القرآن ، وهدى الله بهما فئاماً من الناس ، ولم يصل أبو ذر الغفاري إلى المدينة ويلحق بالرسو صلى الله عليه وسلم إلاّ في العام السابع للهجرة وكان معه قبيلة أسلم ، وقبيلة غفار قدم بهما مسلمتين ، ونحن نعلم أن الرسو صلى الله عليه وسلم قال : ((بلغوا عني ولو آية)) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (الفتح)(6/572) وقال أيضاً :((نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلِّغها ، فربِّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) أخرجه الترمذي في كتاب العلم ، باب : ما جاء في الحث على تبليغ السماع (2658)(5/34).
ومع هذا البيان إلاّ أننا ندرك أن الداعية وقد تصدر للوعظ والإرشاد والتربية والتعليم مطالب بقدر من العلم والثقافة يعينه على مهمته ويؤهله لها وتلخيص المهم من ذلك يتركز في جانبين :-(57/266)
الأول : الجانب الشرعي :
لا بد للداعية أن يعرف ((أن أولى العلوم وأفضلها علم الدين ، لأن الناس بمعرفته يرشدون وبجهله يضلون)) أدب الدنيا والدين (ص:44) ، وهنا لا بد أن تفرق بين ما يجب تعلُّمه ولا يسع أحداً أن يجهله ، وبين ما يكون تعلمه فرضاً كفائياً ، وقد قيل في بيان معنى كون العلم فريضة على كل مسلم أنه ((على كل أحد أن يتعلمه ما لا يسعه جهله من علم حاله ... وقال ابن المبارك : ((إنما طلب العلم فريضة أن يقع الرجل في شيءٍ من أمر دينه يسأل عنه حتى يعلمه)) الفقيه المتفقه (1/45) ثم أوضح الخطيب البغدادي ذلك فقال :(( فواجب على كل أحد طلب ما تلزمه معرفته مما فرض الله عليه على حسب ما يقدر عليه من الاجتهاد لنفسه ، كل مسام بالغ عاقل من ذكر وأنثى حر وعبد تلزمه الطهارة والصلاة والصيام فرضاً ، فيجب على كل مسلم تعرف علم ذلك .
وهكذا يجب على كل مسلم أن يعرف ما يحل له وما يحرم عليه من المآكل والمشارب والملابس والفروج والدماء والأموال فجميع هذا لا يسع أحداً جهله)) الفقيه المتفقه (1/46).
وأرى للداعية أن يكون عنده الحد الأدنى من العلوم الشرعية الأساسية وأقترح له ما يلي :
علم العقيدة الإسلامية :- أن يتعلم أصول العقيدة من كتاب معتمد مختصر على مذهب أهل السنة والجماعة ككتاب ((لمعة الاعتقاد)) لابن قدامة ، أو ((العقيدة الواسطية)) لابن تيمية ونحوها .
علم التفسير :- أن يطلع على تفسير موجز موثوق يشتمل على معاني الكلمات وأسباب النزول والمعنى الإجمالي ، ويفيد في ذلك بعض المصاحف المطبوع على هامشها أسباب النزول ومعاني الكلمات ، ثم يجعل له زاداً في دراسة متأنية لتفسير بعض السور والأجزاء المكية والمدنية من كتاب معتمد متوسط مثل ((تفسير ابن كثير)) .
علم الحديث :- أن يدرس كتاباً من كتب الحديث الجامعة المختصرة مثل ((مختصر صحيح البخاري)) أو ((مختصر صحيح مسلم)) ، ويمكن أن يطالع كتاباً من كتب الحديث العامة المصونة في جملتها من الأحاديث الضعيفة والمشتملة على أهم الأبواب التي يحتاج إليها في الإيمان والفضائل والآداب مثل كتاب ((رياض الصالحين)) ، ويحسن أن يطلع على بعض كتب الحديث المختصة بموضوعات معينة ففي أحاديث الأحكام ((بلوغ المرام)) وفي الأذكار ((أذكار النووي)) وفي الشمائل ((شمائل الترمذي)) ونحو ذلك .
علم الفقه :- أن يدرس مختصراً في فقه العبادات والمعاملات وقد يضيف ما يحتاجه من الأبواب على مذهب من المذاهب الأربعة المشتهرة .
علم السيرة والتاريخ :- أن يدرس مختصراً في سيرة الرسو صلى الله عليه وسلم مثل ((تهذيب سيرة ابن هشام)) ومن الكتب المعاصرة النافعة ((الرحيق المختوم)) للمباركفوري ، وأن يطالع على الأقل تاريخ الخلفاء الراشدين .
مفاتيح العلوم :- أن يدرس مختصراً في أصول الفقه مثل ((مختصر الأصول)) للشيخ ابن عثيمين أو ((أصول الفقه للمبتدئين)) للأشقر ، وكذلك يدرس مختصراً في علوم الحديث مثل ((تيسير مصطلح الحديث)) للطحان أو ((مختصر علوم الحديث)) لابن عثيمين ، وفي علوم القرآن ((مباحث علوم القرآن)) للقطان ، وفي أصول التفسير ((مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية))وذلك بحسب الطاقة.
علوم اللغة :- أن يدرس مختصراً في النحو ((كالآجرومية)) أو((ملحمة الإعراب)) ، وكذا في البلاغة والأدب يحتاج إلى دارسة موجزة في مثل كتاب ((البلاغة الواضحة)) لعلي الجرام (يمكن النظر في برامج ومناهج لعلم وثقافة الداعية في كتاب ((ثقافة الداعية)) للدكتور يوسف القرضاوي، و ((جند الله ثقافة وأخلاقاً)) لسعيد حوى ، و ((العلم فضله وطلبه)) لأمين الحاج أحمد محمد وغيرها).
وهذه العلوم الأساسية يحتاج الداعية فيها إلى إرشادات عامة أهمها :-
1. التدرج في كل علم من الأدنى إلى الأعلى ، ومن الأيسر إلى الأصعب ، وليَعلم ((أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها ، ومداخل تفضي إلى حقائقها ، فيبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخرها ، وبمداخلها ليفضي إلى حقائقها ، ولا يطلب الآخر قبل الأول ، ولا حقيقة قبل المدخل ، فلا يدرك الآخر ولا يعرف الحقيقة ، لأن البناء على غير أساس لا يبني ، والثمر من غير غرس لا يجني)) أدب الدنيا والدين (ص:55) .
وهذا ابن خلدون يوضح لك الطريق فيقول : ((اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدرج شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً)) مقدمة ابن خلدون (ص:533) وأفاض في بيان ذلك بما فيه الوفاء.
وقال ابن شهاب الزهري المحدث الإمام : ((من رام العلم جملة ذهب عنه جملة ، ولكن الشي بعد الشيء مع الأيام والليالي)) جامع بيان العلم وفضله (ص:138) .
2. الحرص على التلقي عن الشيوخ كل في فنه وألاَّ يعتمد على الاطلاع المجرد وحده ، فهذه العلوم ليست كالصحف والمجلات يُكتفي فيها بالقراءة والاطلاع ، وكما قيل : ((من كان شيخه كتابه فخطؤه اكثر من صوابه)) وصدق الشاعر حيث يقول :
يظن الغمرُ أن الكتب تَهدي أخا جهل لإدراك العلوم
وما علم الجهول بأن فيها مدارك قد تدق عن الفهيم
ومن أخذ العلوم بغير شيخ يضل عن الصراط المستقيم
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم(57/267)
وكتب السلف وتراجم العلماء مليئة بأسماء شيوخهم ، وسيرتهم مع من تلقوا عنهم ، وكتب أهل العلم طافحة بآداب الطالب مع شيخه مما يدل على بدهية ذلك عندهم .
وقال الشاطبي :((من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقيق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام)) الموفقات (1/9) وقد أفاض رحمة الله في تقرير ذلك وأفاد فليرجع إليه في موضعه .
3. الصبر والملازمة ، وترك الانتقال من علم إلى علم قبل تمامه ، ومن شيخ إلى شيخ قبل الاستفادة منه ، ومن كتاب إلى كتاب قبل إحكامه ، قال الزرنوجي :((ينبغي أن يثبت ويصبر على أستاذ ، وعلى كتاب حتى لا يتركه أبتر، وعلى فن حتى لا يشغل بفن آخر قبل أن يتقن الأول ،وعلى بلد حتى لا ينتقل إلى بلد آخر من غير ضرورة فإن ذلك كله يفرق الأمور ويشغل القلب ويضيع الأوقات ويؤذي العلم)) تعليم المتعلم (ص:44).
الثاني : الثقافة الإسلامية :
إضافة لتحصيل العلوم الشرعية وآلاتها فإن الداعية يحتاج بشكل ملح إلى ثقافة الإسلامية العامة ، وكذلك الثقافة المعاصرة ، ولا شك ((أن حركة الداعية حركة واسعة ، وانتشاره كبير واتصالاته كثيرة وهو ولا شك يلتقي أنواعاً كثيرة من البشر كل له مزاجه وثقافته واطلاعه فلا بد للداعية أن يشبع هذه الثقافات ويلم بشيء منها حتى يشارك من يخاطبه كل حسب ثقافته كمدخل من مداخل الدعوة)) الدعوة قواعد وأصول (ص:71) .
ولا بد من الاعتراف بوجود الخلل في هذه الثقافة عند كثير من الدعاة ((فهناك عجز في المعرفة بالحاضر المعيش والواقع المعاصر ، فهناك جهل بالآخرين نقع فيه بين التهويل والتهوين مع أن الآخرين يعرفون عنَّا كل شيء وقد كشفونا حتى النخاع ، بل هناك جهل بأنفسنا فنحن على اليوم لا نعرف حقيقة مواطن القوة فينا ولا نقاط الضعيف لدينا ، وكثيراً ما نضخم الشيء الهيّن ، وما نهون الشيء العظيم ، سواء في إمكانياتنا أم في عيوبنا)) أولويات الحركة الإسلامية (ص:21) .
ولهذا فلا بد من العناية بهذا الجانب وإعطاءه الأهمية اللازمة له ، وأسلط الضوء هنا على الموضوعات المهمة في هذا الجانب من خلال الآتي :
1. الثقافة العامة :
وأعني بها ما يتصل بإبراز محاسن الإسلام ، ومعرفة مقاصد الشريعة ، وتفنيد ورد مزاعم خصوم الإسلام وشبهاتهم ، وإظهار الكمال في أنظمة الإسلام الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، وبيان أنها ترعى جميع المصالح وتسد أبواب الفساد ، وأنها صالحة لكل زمان ومكان وأمثال هذه الموضوعات .
وهذه الثقافة يمكن تحصيل جزء جيد منها من خلال تحصيل العلم الشرعي سيما إذا توسع الداعية في طلبه وتحصيله ، ومع ذلك فهناك كتب جمعت مثل هذه المقاصد وهي كثيرة منها ((نحو ثقافة إسلامية أصيلة)) لعمر الأشقر ، و ((الخصائص العامة للإسلام)) للدكتور يوسف القرضاوي ، و ((المداخل إلى الثقافة الإسلامية)) لمحمد رشاد سالم ونحوها .
2. الثقافة المعاصرة :
وأعني بها عدداً من الجوانب منها :
1. المذاهب الفكرية المعاصرة :- كالشيوعية والرأسمالية ، والقومية ، والبعثية ، والماسونية ونحوها والكتب فيها كثيرة ومن أوسعها كتاب ((المذاهب الفكرية المعاصرة)) لمحمد قطب ، ومن أجمعها مع الاختصار ((الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة)) من إصدارات الندوة العالمية للشباب الإسلامي .
2. الواقع المعاصر :- من جهة الأعداء بدراسة الغزو الفكري ، والدور العلمي للصهيونية والماسونية ومخططاتهم وأسالبيهم ، والتنصير ومؤسساته وأدواره وهناك كتب نافعة في مثل هذه الموضوعات مثل((الغارة على العالم الإسلامي)) تأليف أ.ل . شاتليه ، وترجمة محب الدين الخطيب ومساعد اليافي ، وكتاب ((أفيقوا أيها المسلمون))لعبد الودود شلبي ، وكتاب ((بروتوكولات حكماء صهيون)) ترجمة خليفة التونسي ، و((أساليب الغزو الفكري)) للدكتور علي جريشة ومحمد شريف آل زيبق .
ومن جهة المسلمين بمعرفة أحوالهم ومتابعة أخبارهم وأوضاع أقلياتهم وهذا موفور في ((حاضر العالم الإسلامي ))للدكتور علي جريشة ، وكتب الأقليات وأحوال بلاد المسلمين .
وإذا توفر للداعية رصيد علمي مناسب وزاد ثقافي جيد كان ذلك عوناً له في دعوته ورافداً من روافد نجاحه .
المبحث الثالث : رجاحة العقل وقوة الحجة :
للإيمان إشراقاته وآثاره ، وللعلم فاعليته ودوره ، ويبقى للذكاء والفطنة أهميتها التي لا تنكر ، وإيجابيتهما التي لا تخفي ، وتوفر الذهن الوقّاد والعقل السديد ميزة عظمى يتحلّى بها الداعية فلا سذاجة تضيع بها معاني الريادة، ولا طيش ولا خفة تطمس معالم الهيبة ، بل عقل فطن يرجع إذا اختلفت الآراء ، ويحلل ويدلل إذا فقد الإدراك وغاب التصور ، ويتقن ترتيب الأولويات ، واختيار الأوقات ، وانتهاز الفرص والمناسبات ، ويحسن التخلص من المشكلات ، ويقوى على الرد على الشبهات ، والتكيف مع الأزمات .
وهناك أصناف من المدعوين يحتاج الداعية معهم إلى إقامة الحجة العقلية لإثبات القضية ولعدم اكتفائهم بالأدلة الشرعية من هؤلاء :
1. الكافرون الذين لا يؤمنون بالكتاب والسنة .
2. المعتدُّون بعقولهم المقدمين لها على النص النقلي .
3. المخدوعون بالشبهات .(57/268)
4. المعاندون الذين يتّبعون الباطل تبعاً لمصالحهم ويسعون إلى إضلال غيرهم .
5. الواقعون تحت تأثير الأوضاع والأعراف الخاطئة حتى ألفوها ورأوها صواباً .
وهناك أساليب كثيرة مستنبطة من الكتاب والسنة في إقامة الحجة العقلية واستخدام الأقيسة المنطقية واستحضار التفكر والتأمل .
وهذه جوانب من هذه الأساليب مع بعض الأمثلة عليها :-
(أ)أسلوب المقارنة :-
وذلك بعرض أمرين أحدهما هو الخير المطلوب الترغيب فيه ، والآخر هو الشر المطلوب الترهيب منه ، وذلك باستشارة العقل للتفكر في كلا الأمرين وعاقبتهما للوصول - بعد المقارنة - إلى تفضيل الخير واتباعه ومن أمثلة ذلك :-
قال تعالى : ]أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون[ الأنعام [122].
قال ابن كثير في تفسيره : ((هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتاً أي في الضلالة هالكاً حائراً ، فأحياه الله أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه له ووفقه لاتباع رسله ))تفسير ابن كثير (2/172) .
وقال تعالى :]أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين[ التوبة [109] .
وقال القرطبي : ((وهذه الآية ضرب مثل لهم ، أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم أسس بنيانه على الشرك والنفاق ، وبين أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها ، وفي هذه الآية دليل على أن كل شيء ابتدئ بنية تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم فهو الذي يبقي ويسعد به صاحبه ويصعد إلى الله ويرفع إليه)) تفسير القرطبي (8/265) .
ومن الأمثلة النبوية التي تبين خيرات الصلاح والصالحين مع مقارنتها بويلات المعصية والعاصين ما يأتي :-
1. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يُحذيك وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)) أخرجه مسلم ، في كتاب البر والصلة ، باب : استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء (النووي)(6/ 178) .
قال النووي : ((وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والعلم والأدب والنهي عن مجالسة أهل الشر والبدع ومن يغتاب الناس ويكثر فجره وبطالته ونحو ذلك من الأنواع المذمومة)) .
2. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)) أخرجه مسلم ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها ،باب :استحباب صلاة النافلة في بيته (النووي)(6/68) .
ولا يخفى ما في المقارنة بين الحي والميت من إقرار العقل وترجيحه ورغبته لما فيه الحياة ، وهو الذكر الذي به الحياة القلب .
(ب) أسلوب التقرير :-
وهو أسلوب يؤول بالمرء بعد المحاكمة العقلية إلى الإقرار بالمطلوب الذي هو مضمون الدعوة :-
من الأمثلة القرآنية على ذلك :-
1. قال تعالى ]أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون ، أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ، أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون ، أم لهم سلَّم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين ، أم له البنات ولكم البنون ، أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون ، أم عندهم الغيب فهم يكتبون ، أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون ، أم لهم إله غير الله سبحان الله وتعالى عما يشركون[ الطور[35-43] . قال ابن كثير في تفسيره : ((هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية ، فقال تعالى ]أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون[ أي أوجدوا من غير موجد ؟ أم هم أوجدوا أنفسهم ؟ أي لا هذا ولا هذا بل الله هو الذي خلقهم ، وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً)) تفسير ابن كثير (4/244) .
وهذه الآية في غاية القوة من حيث الحجة العقلية لأن ((وجودهم هكذا من غير شيء أمر ينكره منطلق الفطرة ابتداءً ولا يحتاج إلى جدل كثير أو قليل ، أمّا أن يكونوا هم الخالقين لأنفسهم فأمر لم يدَّعوه ، ولا يدَّعيه مخلوق ، وإذا كان هذان الفرضان لا يقومان بحكم منطق الفطرة فإنه لا يبقى سوى الحقيقة التي يقولها القرآن وهي أنهم من خلق الله جميعاً )) في ظلال القرآن (6/3399)، والتعبير بالفطرة مقصوده الأمر المقرر بداهة في العقل .(57/269)
وتأمل هذا الإلزام بالإقرار بربوبية الله وألوهيته فيما ذكره السعدي في تفسيره حيث قال : (( وهذا استدلال عليهم بأمر لا يمكنهم فيه إلا التسليم للحق أو الخروج عن موجب العقل والدين ، وبيان ذلك أنهم منكرون لتوحيد الله مكذبون لرسوله ذلك مُستَلزم لإنكارهم أن الله خلقهم وقد تقرر في العقل مع الشرع أنّ ذلك لا يخلو من ثلاثة أمور :- إما أنهم خُلقوا من غير شيء أي لا خالق خَلَقَهم ، بل وجدوا من غير إيجاد ولا موجد وهذا عين المحال ، أم هم الخالقون لأنفسهم هذا أيضاً محال ، فإنه لا يتصور أن يوجد أحد نفسه ، فإذا بطل هذان الأمران وبان استحالتهما تعين القسم الثالث ، وهو أن الله هو الذي خلقهم ، وإذا تعين ذلك ، عُلمَ أن الله هو المعبود وحده الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له تعالى)) تفسير السعدي (7/195-196) .
2. قال تعالى ]واتل عليهم نبأ إبراهيم ، إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ، قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين ، قال هل يسمعونكم إذ تدعون ، أو ينفعونكم أو يضرون ، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ، قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون ، أنتم وآباؤكم الأقدمون ، فإنهم عدولي إلا رب العالمين ، الذي خلقني فهو يهدين ، والذي هو يطعمني ويسقين ، وإذا مرضت فهو يشفين ، والذي يميتني ثم يحيين[ الشعراء [69-81 ] .
وهنا ستكون الإجابات بالنفي فعقولهم تمنعهم أن يقولوا إنّ أصنامهم تسمع دعاءهم أو تجيب رجاءهم ، وهذا يؤدي إلى عدم جدوى هذه الأصنام وبالتالي الاستسلام العقلي بوجود وألوهية الخالق الذي جاء في هذه الآيات وصف أفعاله سبحانه وتعالى .
ومن الأمثلة الحديثية :-
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رجلاً أتي صلى الله عليه وسلم فقال مستنكراً ومسترشداً : يا رسول الله ولد غلامٌ أسود ، فقال : هل لك من إبل ؟ قال : نعم ، قال ما ألوانها ؟ قال : حُمر ، قال : هل فيها من أورق ؟ أورق :أي : أسمر- النهاية في غريب الحديث (5/175) قال : نعم ، قال :فأنى ذلك ؟ قال : لعله نزعه عرق ، قال : فلعل ابنك هذا نزعة عرق .أخرجه البخاري ، كتاب الطلاق ، باب إذا عرّض بنفي الولد (الفتح9/442).
فهذا الرجل جاء سائلاً مستفتياً عما وقع له من الريبة ، فلما ضرب له المثل أذعن ، وقال ابن العربي : ((فيه دليل على صحة القياس والاعتبار بالنظر)) فتح الباري (9/444).
2. عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : ((إن فتى من الأنصار أتى صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أتأذن لي بالزنا ، فأقبل القوم عليه فزجروه ، وقالوا : مه مه ؟ فقا صلى الله عليه وسلم : أدنه ، فدنا منه قريباً ، قال : فجلس ، قال : أتحبه لأمك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم ، قال أتحبه لابنتك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم ، قال : أتحبه لعمتك ؟ قال : لا والله جعلني فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم قال : أتحبه لخالتك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لخالتهم ، قال فوضع يده عليه ، وقال : اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه ،وحصن فرجه ، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء)) المسند (5/257) .
فهذا الشاب قرَّره صلى الله عليه وسلم في رفض هذا الفعل في صور شتى ثم توصل في آخر الأمر إلى رفض ونفي ما كان يطلب الإذن فيه من الزنا .
ومثل ذلك ما فعلته أم سليم زوجة أبي طلحة كما روى أنس بن مالك : ((اشتكى ابن لأبي طلحة ، قال فمات وأبو طلحة خارج . فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً ونحّته في جانب البيت .فلما جاء أبو طلحة قال : كيف الغلام ؟ قالت : قد هدأت نفسه ، وأرجو أن يكون قد استراح . وظنّ أبو طلحة أنها صادقة . قال : فبات . فلما أصبح اغتسل ، فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات ، فصلّى مع صلى الله عليه وسلم ، ثم أخبر صلى الله عليه وسلم بما كان منهما ، فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما)) صحيح البخاري ، كتاب الجنائز ، باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة ، (الفتح) (3/169).
(ج) أسلوب الإمرار والإبطال :-
وهو أسلوب قوي في إفحام المعاندين أصحاب الغرور والصلف بإمرار أقوالهم وعدم الاعتراض على بعض حججهم الباطلة منعاً للجدل والنزاع خلوصاً إلى حجة قاطعة تدمغهم وتبطل بها حجتهم تلك فتبطل الأولى بالتبع.
ومن الأمثلة القرآنية :
1. قصة إبراهيم مع النمرود قال تعالى ]ألم تر إلى الذين حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين[ البقرة [258 ] .(57/270)
نقل ابن كثير في تفسيره عن بعض السلف أن قول النمرود أنه يحي ويميت استَدل له بأن أتى برجلين استحقا القتل ، فأمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر ، ثم قال : ((والظاهر- والله أعلم - أنه ما أراد هذا لأنه ليس يدعي لنفسه هذا المقام عناداً ومكابرة ، ويوهم أنه فاعل لذلك وأنه هو الذي يحي ويميت)) ثم قال : ((إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذراته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق فإن كنت إلهاً كما تدعي ، فأت بها من المغرب ، فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت : أي خرس فلا يتكلم وقامت عليه الحجة)) وبين أن المقام الأول كالمقدمة للمقام الثاني ، وهذا الأسلوب يثبت بطلان ما ادعاه النمرود في ادعائه الأول .تفسير ابن كثير (1/313).
وقد أحسن صاحب الظلال في توضيح هذا الأسلوب حيث قال ((عرَّف إبراهيم ربه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد ، ولا يمكن أن يزعمها أحد ... و هذا الملك يسأله عمن يدين له الربوبية ، ويراه مصدر الحكم والتشريع وغيره ،قال ]ربي الذي يحي ويميت[ فهو من ثم الذي يحكم ويشرع))، ثم قال تعليقاً على قوله تعالى ]أنا أحي وأميت[: لم يرد إبراهيم عليه السلام أن يسترسل معه في جدل حول معنى الإحياء والإماتة مع رجل يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة ، حقيقة منح الحياة وسلبها ، هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئاً ، وعندئذ عدل عن هذه السنة الكونية الحقيقة إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية ، وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله ]ربي الذي يحي ويميت[ إلى طريقة التحدي ، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويتعنت ويجادل في الله)) الظلال (1/298).
وعلق بمثل قوله السعدي في تفسير فقال : ((فلما رآه الخليل مموهاً تمويهاً ربما راج على الهمج والرعاع قال إبراهيم ملزماً بتصديق قوله : إن كان كما يزعم ]فإن الله يأتي بالشمس ..[ الآية فأتى (أي إبراهيم) بهذا الذي لا يقبل الترويج والتزوير والتمويه)) تفسير السعدي (1/320).
2. قصة موسى عليه السلام مع فرعون ، وهي نموذج مطول في هذا الأسلوب حيث أعرض موسى عن كل اعتراض وشبهة أوردها فرعون ومضى إلى إبطال دعوى الألوهية لفرعون من خلال إقامة الحجة العقلية الظاهرة على ربوبية وألوهية الله ، وذلك في الآيات من سورة الشعراء ، قال تعالى :]قال فرعون وما رب العالمين ، قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ، قال لمن حوله ألا تستمعون ، قال ربكم ورب آبائكم الأولين ، قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ، قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ، قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين[ الشعراء [23-29] .
فهنا أعرض موسى عليه السلام عن تهكم فرعون ومضى إلى غايته مقيماً حجته مقرراً قضيته ، ثم غض الطرف عن تهمة الجنون الباطلة ولم يستغرق جهده في إبطالها بل مضى في تقوية أدلته ونصرة قضيته ، حتى أخذ فرعون وحوصر وفشلت حيلته ، وانقطعت تهكماته واتهاماته ، وأفحم بالحجج فلجأ إلى القوة وهي حيلة العاجز في ميدان المناظرة والاحتجاج ، وهذا دليل على أنه هزم وهذا الأسلوب دليل على كمال عقل موسى عليه السلام وحسن تقريره .
ولا شك أن الداعية مطالب بتفهم هذه الأساليب والإفادة منها ليكتسب فطنة تساعده على تقرير المسائل وإقامة الحجة وسرعة البديهة .
وهذه أمثلة لأئمة ودعاة كانت لهم أقوال ومواقف تبين رجاحة عقولهم وقوة حجتهم .
المثال الأول :
يذكر عن أبي حنيفة أنه حاج قوماً من الملاحدة الدهريين فقال لهم : ما تقولون في رجل يقول لكم إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملوءة من الأثقال قد احتوشها في البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة ، وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها ولا متعهد يدفعها ، هل يجوز ذلك في العقل ؟ قالوا : لا ، هذه شيء لا يقبله العقل .
فقال أبو حنيفة : يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجري فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها ، وسعة أطرافها وتباين أكنافها ، من غير صانع وحافظ ؟ فهبت القوم وأفحموا (أنظر درء تعارض العقل والنقل (3/127) .
المثال الثاني :
طلب الحجاج الحسنَ البصري ، فلما دخل عليه قال له الحسن : يا حجاج كم بينك وبين آدم من أب ؟ قال : كثير ، قال فأين هم ؟ قال : ماتوا ، فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن (البداية النهاية (9/135).
وهذا المثل على وجازته فيه استخدام العقل بالتفكير والتأمل والوصول إلى النتيجة التي فيها العظة والعبرة .
المثال الثالث :
سأل بعض النصارى القاضي أبا بكر الباقلاني بحضرة ملكهم فقال : ما فعلت زوجة نبيكم ؟ وما كان من أمرها بما رميت من الإفك ؟ فقال الباقلاني على البديهة : هما امرأتان ذكرتا بسوء ، مريم و عائشة فبرأهما الله عز وجل وكانت عائشة ذات زوج ولم تأت بولد ، وأتت مريم بولد ولم يكن لها زوج ! البداية والنهاية (9/135) .(57/271)
فكان هذا الجواب في غاية الروعة والإفحام ، لأن ذلك الخبيث أراد التعريض والإحراج بقصة حادثة الإفك التي اتهمت فيها عائشة رضي الله عنها ، فأجاب الباقلاني بأن هذه فرية برأها الله منها ولكنه قرن ذلك بذكر مريم ، ليشير إلى أن براءة عائشة عقلاً أولى ، لأنه لو تطرق إلى العقل احتمال الريبة فهو في حق مريم أعظم ، فإن قبلتهم أيها النصارى براءتها فيلزمكم قبول براءة عائشة من باب الأولى .
المثال الرابع :
ما ذكره مفتي الديار السعودية سابقاً العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم في مجموع فتاواه (مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل شيخ (1/75) عن الشيخ عبد الرحمن البكري حيث قال ((كنت بجوار مسجد في الهند ، وكان فيه مدرس إذا فرغ من تدريسه لعن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وإذا خرج من المسجد مرَّ بي ، وقال : أنا أجيد العربية ولكن أحب أن أسمعها من أهلها ، ويشرب عندي ماء بارداً ، فأهمني ما يفعل في درسه قال : فاحتلت بأن دعوته ، وأخذت ((كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد)) للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ونزعت غلافه ووضعته على رف في منزلي قبل مجيئه ، فلما حضر قلت : أتأذن لي أن آتي ببطيخة . فذهبت فلما رجعت .. إذا هو يقرأ ويهز رأسه عجباً فقال : لمن هذا الكتاب ؟ هذه التراجم شبه تراجم البخاري هذا والله نفس البخاري !! فقلت لا أدري ! ثم قلت : ألا نذهب لشيخ الغزوي لنسأله - وكان صاحب مكتبة - فدخلنا عليه فقلت للشيخ الغزوي كان عندي أوراق سألني الشيخ من هي له ؟ فلم أعرف ! ففهم الغزوي المراد ، فنادى من يأتي بكتاب (مجموعة التوحيد) فأتي بها فقابل بينهما فقال : هذا لمحمد بن عبد الوهاب ، فقال العالم الهندي مغضباً وبصوت عال : الكافر ! فسكتنا وسكت قليلاً ، ثم هدأ غضبه فاسترجع ثم قال : إن كان هذا الكتاب له فقد ظلمناه ، ثم صار كل يوم يدعو له ويدعو معه تلاميذه)) . فهذه فطنة داعية وذكاء عالم .
المبحث الرابع : رجاحة الصدر وسماحة النفس :-
إن الداعية الحق شخصية متميزة فهو كالمنارة الهادية من بُعد لمن ضل أو حار ، وهو كالظل الوارف لمن لفحه حر الشمس والمسير في الهجير ، وبالتالي فهو نقطة تجمُّع بالنسبة للمدعوين ، ولذا فإنه يحتاج إلى أن يتحلى برحابة الصدر وسماحة النفس ليستوعب الناس ويستميلهم للخير والحق ((فالناس في حاجة إلى كنف رحيم ، وإلى رعاية فائقة ، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ود يسعهم ، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم ، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه ، ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء)) الظلال (1/500-501) .
وهكذا كان قلب الرسول ا صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت حياته مع الناس ، ((ما غضب لنفسه قط ولا ضاق صدره بضعفهم البشري ، ولا احتجز لنفسه شيئاً من أعراض هذه الحياة ، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية ، ووسعهم حمله وبره وعطفه ووده الكريم ، وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلاّ امتلأ قلبه بحبه ، نتيجة لما أفاض علي صلى الله عليه وسلم من نفسه الكبيرة والرحيبة)) في ظلال القرآن (1/500- 501) ، والنفس السمحة ليس فيها ضيق أو السماحة السهولة واللين . انظر القاموس المحيط (1/229) .
والناس مشاربهم شتى ، وسلوكياتهم متباينة ، واحتياجاتهم كثيرة ، واستفزازاتهم مثيرة ، وهذا لا بد أن يقابله الداعية بالاحتمال ، لأن الاحتمال - كما قيل - قبر المعايب .
هذه الخصيصة مهمة في تكوين الداعية ، يحتاج أن يجتهد في اكتسابها لأنها وقود محرك له في دعوته كما أنها ترفع كفاءة القبول ، وتكبح جماح الانفعالات النفسية ذات الآثار السلبية ، وتتجلى هذه الخصيصة في عدد من الخلال توضحها وتبين أثرها ومن أهمها :
أولاً : الرحمة والشفقة :
((إن الداعي لا بد أن يكون ذا قلب ينبض بالرحمة والشفقة على الناس ، وإرادة الخير لهم والنصح لهم ، ومن شفقته عليهم دعوتهم إلى الإسلام ، لأن في هذه الدعوة نجاتهم من النار وفوزهم برضوان الله تعالى ، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه وأعظم ما يحبه لنفسه الإيمان والهدى فهو ذلك إليهم أيضاً)) أصول الدعوة (ص:344،343) .
وهذا الشعور الغامر بالشفقة على الناس يبعث في النفس الحزن والأسى على حال المعرضين والعاصين ، ويتولد إثر ذلك قوة نفسية دافعة لاستنقاذهم من الخطر المحدق بهم ، والهلاك القادمين إليه ، وما أبلغ وأدق النص القرآني في بيان هذه الصفه عند الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ]فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا[ الكهف[6] وقوله تعالى ]لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين[ الشعراء [3] . تأمل هذه الآيات فإنه ((من فرط شفقت صلى الله عليه وسلم داخله الحزن لامتناعهم عن الإيمان ، فهوّن الله سبحانه عليه الحال ، بما يشبه العتاب في الظاهر كأنه قال له : لم كل هذا ؟ ليس في امتناعهم- في عدِّنا- أثر، ولا في الدين من ذلك ضرر)) لطائف الإشارات(1/377) .(57/272)