عندما تأتي الديمقراطية - كما هو شأنها وشأن القائلين بها -؛ ذريعة لزرع العملاء المنافقين، المجرمين، في بلاد المسلمين، وزرع أحزاب عميلة موالية للغزاة المستعمرين، تفرق الأمة، وتستقوي عليها بالمستعمر الأجنبي، وتصبغ على تدخل الغزاة المستعمرين - في شؤون البلاد والعباد - الشرعية والقانونية، عندما تكون الديمقراطية كذلك، فهي لا شك أنها ديمقراطية قَذِرَةٌ كافرة، تأباها النفوس السوية المؤمنة.
عندما تأتي الديمقراطية - كما هو شأنها وشأن القائلين بها -؛ مع أطغى ديكتاتوريات الأرض، وتتحالف معهم ومع أنظمتهم القمعية الفاسدة، على حساب الشعوب المقهورة المظلومة، المرهوبة، والمغلوب على أمرها، من أجل مصالح وأطماع ذوي النفوذ، ورؤوس الأموال في العالم الديمقراطي الحر، عندما تكون الديمقراطية كذلك، فهي لا شك أنها ديمقراطية قَذِرَةٌ كافرة، تأباها النفوس السوية المؤمنة.
عندما تأتي الديمقراطية - كما هو شأنها وشأن القائلين بها -؛ بعنف وشراسة، تزيد على عنف وشراسة ديكتاتوريات الأرض مجتمعة، كعقبة كأداء أمام أي مشروع إسلامي نهضوي - مهما كان هذا المشروع ممثلاً لرغبة وإرادة الأكثرية من الشعوب - يستهدف قيام دولة إسلامية راشدة، وأن يُعيد للأمة مجدها ودورها الريادي الحضاري الذي يليق بها، والتي فقدته منذ زمن، عندما تكون الديمقراطية كذلك، فهي لا شك أنها ديمقراطية قَذِرَةٌ كافرة، تأباها النفوس السوية المؤمنة.
هذه هي الديمقراطية، وهذه هي قذارتها، ونتنها، وعفنها، ومع ذلك - وللأسف - لا يزال من بني جلدتنا وديننا من يُحسِّن ويُزيِّن هذه القذارة، ويلوكها في فِيه، غير مستطعم لقذارتها ونتنها، مباهياً ومبهوراً بها، ثم بعد كل ذلك يحسب أنه ممن يُحسنون صنعاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
فإن قيل: عرفنا الديمقراطية وقذارتها، ولكن ما هو البديل؟!
أقول: قد قلت - وقال غيري من العلماء العاملين - مراراً، وتكراراً، البديل ليست الديكتاتورية، ولا حكم الفرد، ولا شيئاً من ذلك أبدا، وإنما هو حكم الإسلام وحسب، والإسلام لم يدع سؤالاً إلا وأجاب عنه، ولا مشكلة - أياً كان نوعها - إلا ووضع لها علاجاً ناجعاً، كما أنه لم يدع شيئاً نافعاً إلا ودلنا عليه، وأمرنا به، ولا شيئاً ضاراً إلا وبيَّنه لنا وحذرنا منه، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]، وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 20]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120]، وما سواه فهو الباطل، والخراب، والضلال المبين.
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
12/1/1427
==============(54/475)
(54/476)
الديمقراطية؛ كفر بواح
أيها الناس...
إن الديمقراطية؛ كفر بالله ورسوله وكتابه ودينه وشرعه.
إن الذي يؤمن بها قد كفر بما انزل علىمحمد صلى الله عليه وسلم .
إن الذي يعمل على نشرها وتحقيقها في أفغانستان؛ طاغوت... طاغوت، لا يسع المسلم إلا أن يكفر به ويحاربه بقلبه ولسانه ويده.
إني لأعجب كيف مررت هذه الفتنة على من يسمون "مجاهدين" في مجلس القبائل - اللويا جيرغا- وصدق الله: {إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا}.
أيكفرون بالله صراحة وهم يعلمون؟! ألا ليتهم ماتوا أو قتلوا في الجهاد الأول قبل أن يلطخوا الجهاد بأرجاسهم هذه.
كيف قبلوا أن يبقوا مع الكفار ويستأنسوا بهم، وهم قد زعموا أنهم يجاهدون في سبيل الله، {ولقد انزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم. إنكم إذاً مثلهم}... وصدق الله إنهم مثلهم.
أيها الناس...
إن هؤلاء قد ارتدوا عن الإسلام، أفلا يتوبوا إلى الله ويستغفروه... أيحسبونه هيناً؟! انه عند الله عظيم؛ {و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}.
إن مفاسد الديموقراطية - التي يدندن بها المنافقون والكفار - معروفة، بينة، قد ذكر منها العلامة عبد المجيد الزعي خمسين مفسدة، والأمر أعظم...
قال حفظه الله:
1) تعتبر الديمقراطية وما تفرع عنها من أحزاب وانتخابات؛ منهجا مستقلا جاهليا مغايرا لمنهج الإسلام، ومن ثم فلا سيل إلى مزجها بالإسلام بأى حال من الأحوال, لأن الإسلام نور والديمقراطية ظلمات، {وما يستوى الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور}، والإسلام هدى ورشد، والديمقراطية غى وضلال؛ {قد تبين الرشد من الغى}، والإسلام منهج ربانى سماوي، والديمقراطية نتاج بشري أرضي، وشتان ما بينهما!
2) الدخول في اللعبة الديمقراطية فيه طاعة للكافرين من يهود ونصارى وغيرهم، وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين}، وقال الله تعالى: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا}، وقال الله تعالى: {ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا}، والآيات في هذا المعنى كثيرة ومعلومة.
3) الديمقراطية تفصل بين الدين والحياة، من خلال تنحية شريعة الله عن مجرى الحياة، وإسناد التشريع إلى الشعوب، كي تمارس حقها الديمقراطي - كما يقولون - عن طريق صناديق الإنتخابات أو عن طريق ممثلهم في المجالس النيابية.
4) الديمقراطية تفتح الباب على مصراعية للردة والزندقة, حيث يمكن - في ظل هذا النظام الطاغوتى - لكل صاحب ملة أو مذهب أو نحلة أن يكوّن حزبا وينشئ صحيفة تدعو إلى مروقه من دين الله، بحجة إفساح المجال للرأي والرأي الآخر.
فكيف يقال بعد ذلك؛ إن الديمقراطية تتفق مع الشورى، أو أنها ميزة فقدها المسلمون منذ أكثر من ألف عام، كما صرح بذلك بعض الجاهلين، بل صرحت بعض الأحزاب "الإسلامية" في أحد بياناتها بقولها؛ (إن الديمقراطية والتعددية الحزينة، هي خيارنا الوحيد للسير بالبلاد نحو الأفضل)!
5) وكذلك تفتح الباب على مصراعيه للشهوات والإباحية، من خمر ومجون وأغاني وفسق وزنا ودور سنما، وغير ذلك من الإنتهاكات الصارحة لمحارم الله، تحت شعار الديمقراطية المعروف؛ "دعه يعمل ما يشاء، دعه يمر من حيث شاء"، تحت شعار: "حماية الحرية الشخصية"!
6) وتفتح الباب أيضا للتفرق والإختلاف، استجابة للمخططات الإستمارية الرامية إلى تمزيق العالم الإسلامي إلى قوميات ووطنيات ودويلات وعصبيات وأحزاب، وفى هذا مخالفة لقول الله تعالى: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}، ولقول الله تعالى {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}.
7) إن من يسلك أو يبتنى النظام الديمقراطي لا بد له من الإعتراف بالمؤسسات والمبادئ الكفرية، كمواثيق الأمم المتحدة وقوانين مجلس الأمن الدولى وقانون الأحزاب، وغير ذلك من القيود المخالفة لشرع الله، وأن لم يفعل منع من مزاولة نشاطة الحزبي، بحجة أنه متطرف وإرهابي، وغير مؤمن بالسلام العالمي والتعايش السلمي!
8) النظام الديمقراطي يعطل الأحكام الشرعية، من جهاد وحسبه وأمر بمعروف ونهى عن منكر، وأحكام الردة والمرتدين والجزية والرق، وغير ذلك من الأحكام.
9) يوصف المرتدون والمنافقون في ظل النظام الديمقراطي؛ بأنهم "وطنيون" و "قوى خيرة ومخلصة"، وهم بخلاف ذلك شرعا.
10) الديمقراطية والانتخابات تعتمد على الغوغائية والكثرة، بدون ضوابط شرعية، والله تعالى يقول: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله}، ويقول الله تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، ويقول الله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور}.
11) هذا الطريق يؤدي إلى الغفلة عن طبيعة الصراع بين الجاهلية والإسلام، والحق والباطل، فان وجود أحدهما يستلزم القضاء على الآخر، فلا يجتمعان أبدا، ومن ظن [أن ذلك سيكون] بصناديق الاقتراع للإسلام؛ فقد خالف المعقول، والمنقول، والسنن التى مضت عليها البشرية، {ولن تجد لسنة الله تبديلا}، {ولن تجد لسنة الله تحويلا}.(54/477)
12) هذا المسلك يؤدي إلى انطماس معالم العقيدة الصحيحة التى كان عليها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام، وانتشار البدع، وعدم مدارسة هذه العقيدة الصحيحة ونشرها بين الناس، لأن مفاهيمها تؤدى إلى التفرق عن الحزب والتخلى عنه، وبالتالى تضعف نسبة الأصوات ويقل الناخبون!
13) الديمقراطية لا تفرق بين العالم والجاهل، والمؤمن والكافر، والذكر والأنثى، فللجميع أصواتهم على حد سواء، بدون أي إعتبار للميزات الشرعية، والله تعالى يقول: {قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون}، ويقول الله تعالى: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون}، ويقول الله تعالى: {أم نجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون}، ويقول الله تعالى: {وليس الذكر كالأنثى... الآيات}.
14) هذا الطريق يؤدي إلى وجود الفرقة بين الدعاة والجماعات والإسلاميات، وذلك لأن دخول بعضهم في هذا المسلك يؤدي إلى تبنيهم لهذا الفكر ودفاعهم عنه وتحسين سمعة الأنظمة التى تتبناه، ومن ثم معاداة من يعاديه، وموالاة من يواليه، فتضرب الفتيا بعد ذلك ما بين مجيز ومانع، ومادح وقادح.
15) إن قضية الولاء والبراء تظل غامضة في ظل النظام الديمقراطي، ولذلك يصرح بعض السالكين في هذا الطريق؛ بأن خلافهم مع الإشتراكين والبعثيين وغيرهم من الأحزاب العلمانية من قبيل إختلاف البرامج لا المناهج! ومن جنس اختلاف المذاهب الأربعة! ويعقدون المواثيق والتحالفات؛ بألا يكفر بعضهم بعضا، ولا يخون بعضهم بعضا، ولذا يقولون؛ بأن الخلاف لا يفسد للود قضية!
16) هذا الطريق يؤدي إلى قيام التحالفات المشبوهة مع الأحزاب العلمانية - كما هو الحاصل اليوم -
17) الدخول في المهزلة الديمقراطية؛ يؤدي غالباً إلى فساد المقاصد والنيات، بحيث يصبح كل حزب همة في نصرة حزبه، واستعمال كافة الوسائل لجمع الناس حوله، وخاصة وسيلة التدين والخطابة والوعظ والتعليم والصداقات وغير ذلك.
18) يؤدي أيضا إلى فساد الأخلاق الفاضلة، كالصدق والصراحة والوفاء، ويحل محل ذلك الكذب والمداهنة والغدر.
19) وكذلك يؤدي إلى الكبر والغرور وازدراء الآخرين، وإعجاب كل ذى رأي برأيه، إذ المسألة؛ آراء، وقد قال الله تعالى: {كل حزب بما لديهم فرحون}.
20) الإقرار والإعتراف بالديمقراطية معناه - عند النظر والتدقيق -؛ الطعن في الرسل والرسالات، لأن الحق إذا كان يعرف عن طريق ما عليه أكثرية الشعوب، فلا معنى إذاً لإرسال الرسل وإنزال الكتب، لا سيما والرسل عادة يأتون بما يخالف ما عليه أكثر الناس من العقائد الخرافية والانحرافات البشرية والعادات الجاهلية.
21) الديمقراطية تفتح الباب للشك والشبهات والحيرة وزعزعة عقائد المسلمين، خصوصا ونحن نعيش في عصر قل فيه العلماء الربانيون وتفشى فيه الجهل، فان عامة الناس - لقلة علمهم - قد يصابون بالهزيمة النفسية والاضطراب أمام هذه الأمواج الكاسحة من الأحزاب والصحف والآراء الفاسدة - نسأل الله الثبات والعافية -
22) إن أساس النظام الديمقراطي قائم على عدم الإعتراف بالحاكمية لله أصلا, من خلال المجالس النيابية، فالدخول فيها إن كان من أجل إقامة حجة الكتاب والسنة، فهذه ليست حجة عندهم، وإنما الحجة لديهم هي قول الأكثرية، فكيف تقيم الحجة بما ليس بحجة؟! ومهما أثبت لهم من الأدلة الشرعية فهي لا تزيد عن كونها رأيا في نظرهم، وليست لها أي قداسة، لأنهم يريدون - كما يقولون - أن يتخلصوا من الحكم الغيبي، الذى لم يصدر عن الجماهير، وأول ذلك؛ حكم الله ورسوله.
فاعترافك بهذا الأصل وتسليمك به - اعتمادا على جماهيرك - يقضي على أصل؛ أن الحاكمية المطلقة لله، فمتى اتفقتم على أن الأكثرية هي الحجة القاطعة للنزاع؛ فحينها تبقى تلاوتك للقرآن والحديث لا معنى لها، لإنها ليست هي الحجة المتفق عليها بينكم.
23) يقال لمن خدع بهذا المسلك من الدعاة؛ أرأيتم إذا وصلتم إلى السلطة فهل ستقومون بإلغاء الديمقراطية ومنع قيام الأحزاب العلمانية؟ مع العلم بأنكم قد اتفقتم مع الأحزاب - بموجب قانون الأحزاب - على أن الحكم سوف يكون ديمقراطيا، يفسح فيه المجال لكافة الأحزاب المشاركة الفعالة.
فإن قلتم؛ ستُلغى هذه الديمقراطية ويمنع قيام الأحزاب؛ فهذا غدر منكم ونكث للعهد - رغم بطلانه - والله تعالى يقول: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة)، وأما حديث: (الحرب خدعة)، فليس من الغدر في شيء.
وإن قلتم؛ سنحكم بالديمقراطية ونسمح بقيام الأحزاب؛ فليست هذه حكومة إسلامية.
24) الديمقراطية تغاير وتناقص مبدأ التغيير الإسلامي القائم على اجتثاث الجاهلية من جذورها وإصلاح النفس، {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، فأساس إصلاح الأحوال الإقتصادية والسياسية والإجتماعية؛ تابع لإصلاح النفس، ومبني عليه، لا العكس.
25) فيه مخالفة للنصوص القطعية القاضية بتحريم التشبه بالكفار في أخلاقهم وطرائقهم وعادتهم ونظمهم.(54/478)
26) وهو من أخطرها؛ أن طريق الديمقراطية والإنتخابات يؤدي إلى تمكين الكفار والمنافقين من الولاية على المسلمين، بطريق يظنها بعض الجهلة شرعية، وقد قال الله تعالى: {لا ينال عهدى الظالمين}، وقال الله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}، فكم يحصل بهذا من التغرير والتدليس على عوام المسلمين وإيهامهم بأن طريقة الإنتخابات شرعية؟!
27) الديمقراطية تقضى على المفهوم الصحيح للشورى، وذلك لأن الشورى تفارق الديمقراطية في ثلاثة محاور أساسية - على الأقل -
الأول؛ أن الحاكم في الشورى هو الله، كما قال الله تعالى: {إن الحكم إلا لله}، والديمقراطية بخلاف ذلك، فالحكم فيها لغير الله.
الثاني؛ أن الشورى في الإسلام إنما هي في المسائل الإجتهادية التى لا نص فيها ولا إجماع، والديمقراطية بخلاف ذلك.
الثالث؛ أن الشورى في الإسلام محصورة في أهل الحل والعقد والخيرة والإختصاص، وليست الديمقراطية كذلك - كما سبق -
28) الدخول في الديقمراطية يؤدي إلى مزيد من الكفر والمحاربة لشرع الله والاستهزاء به وبحملته، لأنه كلما بُيّن لهم أن ما يشرعونه من الأحكام مخالف لتعاليم الإسلام؛ استهزوا بشرع الله المخالف لقوانينهم وبحملته.
وسد الذرائع؛ معتبر في هذا الباب، قال الله تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى}، وقال الله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم}.
29) يؤدي إلى كشف أوراق الحركة الإسلامية ومعرفة مدى تأثيرها على الشعوب، وبالتالي محاولة القضاء عليها في مهدها، وهذه مفسدة خطيرة جدا.
30) يؤدي إلى أن يقود الحركة الإسلامية من ليس كفوا، بموجب نتائج الانتخابات.
31) ثبت بالاستقراء والتتبع؛ فشل هذا الطريق وعدم جدواه، حيث خاض بعض الدعاة هذه المسرحية في كثير من البلاد - كمصر والجزائر وتونس والأردن واليمن... إلخ - والنتيجة معروفة؛ أحلام وسراب، فإلى متى نرضى بالخداع؟
32) ثبت أيضا للمتأمل؛ أن هذا السبيل يهدف إلى احتواء الصحوة الإسلامية وتغيير مسارها، وإلهائها عن مهمتها الأساسية والتغيير الجذرى والشامل، إلى الفتات والتعلق بالأوهام والخيالات.
33) يُلغي دور العلماء ومكانتهم في المجتمع، باعتبارهم يحملون العلم ويقومون بواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حيث تهمل ولايتهم وطاعتهم، ويبقى الفضل والحكم للأكثرية.
34) يؤدي إلى صرف الهمم عن تحصيل العلم الشرعى والتفقه في الدين، وإشغال الناس بالترهات وسفات الأمور.
35) يؤدي إلى تعطيل الاجتهاد، فليس هناك مجتهد ومقلد في ميزان الديمقراطية، وإنما الجميع مجتهدون من غير أدوات الاجتهاد أو نظر في الأدلة الشرعية.
36) قد يؤدي أحيانا إلى ضرب وإخماد الحركة الإسلامية، بسبب دخولها في مهاترات ومنازعات مع المخالفين، دون أن يكون عندها القدرة والاستعداد على مواجهة الأعداء.
37) الغاية من تبنى هذا النظام عند بعض الدعاة؛ هي إقامة حكم الله من طريقه، ولا يصلون إلى ذلك إلا بالاعتراف بـ "حاكمية الشعوب والجماهير"، فقد قضى على الغاية بالوسيلة!
38) تُخدع به الشعوب اليوم، حيث يوهمونها؛ بأن الحكم لها وبأنها صاحبة القرار، والحقيقة خلاف ذلك.
39) في هذا الطريق تضييع لجهود العلماء والدعاة إلى الله، وإشغالهم بذلك عن تربية الأمة والتفرع لتعليم الناس دين الإسلام.
40) يحدد والولاية فيه بزمن معي،ن فإذا انتهت تلك المدة فعليه أن يتنازل لغيره، وإلا ثارت الخلافة والحرب، وقد يكون هو المستحق فيأتي غيره وهو غير كفؤ، وهذا الأمر تفتح باب الفتن والخروج على الحكام، وقد عُلم أن الخروج على الحكام؛ لا يجوز إلا عند رؤية الكفر البواح، وعند تحقيق وجود المصلحة المعتبرة، وعند الاستطاعة على الخروج.
41) المجالس النيابية؛ مجالس طاغوتية، غير مؤمنة بالحاكمية المطلقة لله، فلا يجوز الجلوس معهم فيها، لقول لله تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا}، ولقول الله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آيتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حيث غيره وإما ينسنك الشيطان فلا تقعدوا بعد الذكرى مع القوم الظالمين}.
42) الديمقراطية في الحقيقة؛ طعن في الرب وفى حكمته وتشريعاته جل جلاله، وبيان ذلك من وجوه:
الوجوه الأول؛ أن يقال: إن الله أرسل الرسل وألزم الناس بطاعتهم، وتوعد من لم يطعهم بالنار والهلاك، وأنزل لكتب لتحكم أوضاع الناس، وحلل، وحرم، وأجب، وكره، وسن، ومدح، وذمن وأذل، وأعز، ورفع أقواما ووضع آخرين، بدون نظر واعتبار للأوضاع المخالفة لتعاليم الرسل، بل جاءت الرسل وأغلب الناس - إن لم نقل كلهم - في ضلال وجاهلية جهلاء, فلو كانت الديمقراطية وحاكمية الشعوب والجماهير حقا, لكان هذا الفعل كله عبثاً يتنزه عنه الرب.
الوجه الثاني؛ أن يقال: لو كانت الديمقراطية حقا لكان إنزال الكتب وإرسال الرسل تحكما وظلما ومصادرة لآراء الناس وحقهم في أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، والله منزه عن الظلم.(54/479)
الوجه الثالث؛ لو كانت الديمقراطية حقا لكان حكم الجهاد وما سفك فيه من دماء المعاندين والكافرين، وحكم الجزية، والرق؛ ظلما لهم وإهدارا لأرائهم الفاسدة، فهذا طعن في تشريعاته سبحانه.
ووجه آخر؛ لو كانت حقا لكان ما حصل من طرد إبليس من الجنة، وإهلاك قوم نوح، وإغراق فرعون وجنده، وما حصل لقوم هود وصالح وشعيب ولوط من هلاك وتدمير، لو كانت حقا؛ لكان ما حل بهم من هلاك وتدمير ظلما، لأن عقوبة الله لهم هي بسبب آرائهم وعقائدهم الفاسدة.
ووجه آخر؛ لو كانت حقا لكان ما شرع من رمي الزاني والمحصن، وجلد البكر، وجلد شارب الخمر؛ قسوة ووحشية ووسائل بشعة، وإنها الحرية الشخصية - كما يقول الظالمون- {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا}، وتعالى الله عما يقول الظالمون عوا كبيراً.
43) في ظل الديمقراطية تنتعش البدع والضلالات بشتى أنواعها، ويظهر الداعون إليها باختلاف طرائقهم وفرقهم - من شيعة ورافضة وصوفية ومعتزلة وباطنية وغير ذلك - بل إنهم يجدون في ظلها الدعم والتشجيع من المنافقين في الداخل، ومن الأيادي الخفية في الخارج... ولله خلقه شئون.
44) وبالمقابل تكال التهم والدعايات المغرضة على الدعاة إلى الله، وتشوه سمعتهم لدي عامة الناس، ويقال عنهم؛ بأنهم طلاب جاه ومال وكراسي، وبأنهم عملاء، وغير ذلك من الاختلاقات المفتعلة بسبب إطلاق حرية الكلام والتعبير عن الرأي والطعن في أعراض الآخرين.
45) هذا الطريق يؤدي - في كثير من الحيان - إلى أن يقف بعض السالكين فيه صفا واحدا مع أحزاب الردة والزندقة في الدفاع عن المبادئ الجاهلية - كالمواثيق الدولية وحربة الصحافة وحرية الفكر والعروبة والقومية والوطنية... وما إلى ذلك -
46) يؤدي إلى انهيار الاقتصادي والعبث بالأموال العامة، لأن ميزانية الدولة سوف تكون نهباً للأحزاب وأطماعهم، لكي يتسنى لهم بناء المقرات، وأن يقوموا بالدعايات الانتخابية على الوجه المطلوب، ولكي تبني الأحزاب عملية شراء الذمم عن طريق الإغراءات المادية.
47) إنه يخلط بين الحق والباطل، والجاهلية والإسلام، والعلم والجهل.
48) الديمقراطية تطمس هوية الأمة الإسلامية وتقتضي على شخصيتها ومميزاتها، من خلال الطعن في التشريع وأنه غير صالح ومتواكب مع العصر, ومن خلال القدح في التاريخ والحكم الإسلامي ووصفه بأنه "ديكتاتوري" غابت عنه الديمقراطية، إضافة إلى إغراق الأمة في التبعية المطلقة للغرب اليهودي الصليبي الحاقد.
49) هذا الطريق يؤدي إلى الزعزعة الأمنية في البلاد, وحدوث صراعات حزبية لا أول لها ولا آخر، فما حلت في بلد إلا وحل معها الخوف والقلق والنزعات العقدية والمذهبية والعصبية والقبلية والسلالية والنفعية... وغير ذلك من الإضطرابات المعلومة.
50) إن كل ما يمكن أن يقال من تحقيق بعض المصالح من خلال الديمقراطية والانتخابات؛ تظل هذه المصالح جزئية أو وهمية، إذا ما قورنت ببعض هذه المفاسد العظيمة، فكيف بها كلها؟!
وإن من ينظر بعين متجردة إلى بعض ما ذكر, يتضح له بجلاء عوج هذا السبيل الطاغوت، وبعده كل البعد عن دين الله.
بل إن الديمقراطية هي أخطر مذهب ونحلة ونظام يقوم اليوم في الأرض، فهي أم الكفر, حيث يمكن أن يعيش في ظلها كل مذهب وكل دين، من يهود, ونصارى, ومجوس, وبوذيين, وهندوس, ومسلمين, وكلهم في ميزان الديمقراطية؛ أصحاب آراء محترمة يُسمع لها, ولها الحق في مزاولة عقائدها ونشرها بكل وسيلة... وكفى بهذا زندقة ومروقا عن دين الإسلام.
فكيف يقال بعد ذلك؛ "إن الديمقراطية تتفق مع الإسلام"؟! أو "أن الإسلام نظام ديمقراطي"؟! أو "أنها بمعنى الشورى"؟! - كما يقول ذلك بعض من ابتليت بهم الدعوة الإسلامية -
[بقلم؛ عبد الله صادق]
==============(54/480)
(54/481)
عن الشورى والديمقراطية
[الكاتب: حسن الحسن]
نتناول في هذا البحث؛ علاقة الشورى بالديمقراطية؟ وهل هناك حقاً ثمة تطابق بينهما، تجعل الديمقراطية جزءا من الإسلام أو العكس؟
إنّ واقع الديموقراطية هو حكم الشعب، الذي يقابل حكم الله حتماً، وليس حكم الفرد كما يتصور البعض.
إذ أنّ مصطلح الحكم يأخذ وجهين.
الأول؛ هو التشريع، وهو الذي يمنح من خلاله الناس حق الاستفتاء والتصويت على القوانين مباشرةً أو بإنابتهم عنهم من يقوم لهم بالتشريع لهم.
والثاني؛ هو التنفيذ، وهو ما لا يتصور حصوله من قبل شعبٍ من الشعوب أصلاً، إذ أنّ الذي ينفذ الأحكام ويفصل بين الناس هو جهات مختصة - كالوزراء والقضاة وأجهزة الدولة المختلفة - وهذه الجهات تتأهل لذلك من خلال دراساتٍ أكاديمية ومعرفية وخبرات فنية.
وبهذا كان حكم الشعب في الفلسفة الديموقراطية؛ هو مقابل حكم الله، هذا هو واقعها وهذا هو ما يؤكده السياق التاريخي والإجرائي لها حتى يومنا هذا.
واستناداً إلى ما سبق؛ نجد أنّ الديمقراطية تتناقض مع جوهر الإسلام، الذي يحصر التشريع بالله تعالى، حيث يقول: {إن الحُكمُ إلا لله}، وبذلك لا يكون هناك داعي للاستطراد في بحث بقية الفروع، لأن تباين جذري العقيدتين، الديمقراطية والإسلام، وتضادهما يغنيان عن بحث التفاصيل.
إلا أن إصرار البعض على "دمقرطة الإسلام" وإقحامها فيه، يضطرنا للتعرض لبعض أهم تلك الاعتراضات، بغية إزالة كل لبس يشوب حقيقة المسألة.
وعليه، فقد التبس ارتباط الديمقراطية بالإسلام لدى البعض، من خلال وجود مفهوم الشورى، والذي يعتبر واحداً من الأحكام الشرعية التي تضبط علاقة الحاكم بالأمة.
وبما أن الحكم على الشيء هو فرع عن تصوره، كان لزاماً توضيح واقع الشورى من الجانب الذي يشير إلى شبهة ذلك الارتباط، من غير الغرق في تفاصيل كثيرة ليست ذات صلة وثيقة بالبحث.
فالشورى؛ هي أخذ الرأي، وتكون ملزمة في حالات، وهو ما يهمنا هنا، لأن الديمقراطية تتحدث عن فكرة إخضاع الحاكم لرأي الأمة.
ومن خلال قراءة متفق عليها بين كل من اطلع على الفكر الإسلامي؛ يجد أنه لا شورى في الأحكام الشرعية الأربعة، أي في الواجب والمندوب والمكروه والحرام، ولذلك يبقى أخذ الرأي محصوراً في الدائرة الخامسة، وهي المباح.
كما يؤخذ الرأي من الجهة المتعلق بها، كأصحاب الاختصاص والخبرات فيما هو مرتبط بالأمور العلمية والتقنية والفنية وفي الإدارة والتصميم، وهذا ما فعله النبي الكريم في معركة بدر حيث نزل عند رأي الحباب بن المنذر في ترتيب وضع تمركز الجيش، وعند رأي سلمان الفارسي في حفر الخندق، وهما رجلان فقط، لكنهما من أهل الاختصاص، وقد اكتفى برأييهما دون إجراء مباحثات ومناقشات واسعة في ذلك مع جمهور الصحابة.
كما يكون رأي عامة الناس في بعض القضايا المتعلقة بشأنهم كجماعة ملزما، كحال نزول النبي الكريم عن رأيه الذي يرجحه هو في غزوة أحد، إبان مشاورته لأهل المدينة بقتال قريش خارج المدينة أو داخلها.
كما ترك الإسلام للحاكم تبني ما يراه مناسباً في قضايا كثيرة، وألزم الأمة بطاعته، حتى تشكلت القاعدة الدستورية؛ "رأي الإمام يرفع الخلاف"، و "رأي الإمام نافذ"، استناداً للنصوص الكثيرة المتضافرة، والتي عطفت طاعة ولي أمر المسلمين الشرعي، في طاعة الله، على طاعة الله ورسوله، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.
ومن التجني اختصار الديمقراطية بالشورى أو العكس.
فالديمقراطية؛ هي وجهة نظر متكاملة في الحياة، وهي فكرةٌ أساسية عن الحياة، لا تترك شيئا من أمورها إلا وتمنح الإنسان حق إبداء رأيه فيه والتعليق عليه ونقده، فلا قداسة لشيء البتة سوى رغبات الشعب، وتلزم الأكثرية - ولو شكلياً - الحاكم، سواء من خلال استفتاء عام أو بأغلبية برلمانية - نسبية - في كافة القضايا.
فيما تعتبر الشورى؛ حكماً شرعياً فرعياً، لا يحلل ولا يحرم، ولا دور لها البتتة خارج دائرة الإباحة، التي تحكمها تفاصيل سبق وتطرقنا لبعضٍ منها أعلاه.
وخلاصة القول هي...
إن الإسلام يخضع الإنسان لقاعدة "الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع"، وأن بغض الإنسان أو حبه لأمر ما لا يعنيان الشيء الكثير، حيث يقول الله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، وأن إجماع الغالبية العظمى من الناس على أمرٍ ليس مبرراً لقبوله، حيث يقول الله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}.
أما بالنسبة لحق انتخاب الأمة لحاكم عام لها، ولممثلين ينوبون عنها يتولون شئون محاسبة الحاكم ونصحه وتقويمه وتسديد أداء الدولة وأجهزتها، إنمّا هو حكم شرعيٌ استمد من الشريعة نفسها، وليس من رغبات الناس.
يقول النبي الكريم: (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه).(54/482)
ويقول: (لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمّروا عليهم أحدهم).
فقد أناط الشرع سلطة انتخاب الحاكم بالناس أي بالأمة.
كما بين شرعية جواز النيابة وتمثيل الآخرين؛ حيث طلب ذلك النبي الكريم صراحة من وفد المدينة، عندما سألهم أن يخرجوا له منهم اثني عشر نقيبا يكونون كفلاء له على قومهم.
وأما المحاسبة والتقويم؛ فتدخل ضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضمن التعاون على البر والتقوى، وهي عبارة عن أحكام شرعية منضبطة بأدلتها المستقاة من الكتاب والسنة، ومحددة بكيفيات وترتيبات معينة.
كما أن النصح والتسديد والتقويم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إنما هي أحكامٌ شرعية منفصلة عن حكم الشورى، وهدفها ضمان أمثل تنفيذ للإسلام وإحسان رعاية شؤون الأمة به، وليس النزول عند رغبة الأكثرية!
يقول النبي الكريم: (مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مَرُّوا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا فى نصيبنا خرقاَ ولم نؤذِ مَنْ فوقَنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاًَ، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعاً).
فمهمة الحاكم المبايع من قبل الأمة وكذلك الممثلين لها؛ هو إبقاء كيان الدولة مسيساً بالشريعة منفذاً لها، على اعتبارها تعلو ولا يعلى عليها، وهي السيد في المجتمع، وأنّ أية رعاية لشؤون الناس ومصالحهم؛ ينبغي ضبطها بما يرشد إليه الإسلام نفسه، ولذلك كانت بيعة الأمة لحاكمها مشروطة بالحكم بكتاب الله وسنة نبيه.
أولا ينسف هذا مفهوم السيادة للأمة، أوليس هذا بالنقيض مما هو عليه النظام الديموقراطي؟!
ولا ينبغي أن ينصرف ذهن القارئ؛ إلى أن هذا يعني ترسيخاً للاستبداد وتكريساً للدكتاتوية في المجتمع الإسلامي، إذ أن الإسلام قد جعل الشرع السيادة للشرع لا للحاكم، وأوجب على الناس الاحتكام إليه، وهو فوق الحاكم والمحكوم وبينهما، وينبغي خضوعهما له سويةً، وكان الحاكم نائباً ووكيلاً عن الأمة في تنفيذ الشرع، وليس سيدا وصيّا على المجتمع أو على الأمة، وكانت صلاحياته منضبطة بمدى ارتباطه بعقد البيعة الشرعي.
وعلى هذا الأساس يفهم قول الخليفة أبو بكر الصديق: (أيها الناس! إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أطعت فأعينوني، وإن عصيت فقوموني... أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).
وكذلك تنص القاعدة الإسلامية المعروفة على أنه؛ "لا طاعة لمخلوق في معصية الله"، مما يلفت النظر إلى أن موضوع الحاكم الفرد المستبد لا مكان له في المجتمع الإسلامي من حيث نظام الحكم في الإسلام.
اللهم إلا إذا حصل انحراف عن منهج الله، وعندها ينبغي تقويم الخلل بمعالجته وتصويبه، كما هو شأن أي نظام يقع فيه مثل ذلك، ومن هنا جاءت الأحكام الشرعية التي تتناول معالجة كفر الحاكم أو خروجه عن الشريعة، ومتى يخلع من منصبه أو ينخلع، ومتى يعزل من منصبه، أو يخرج عليه لعدم استمرار شروط صحة ولايته.
ولذلك ينبغي اتخاذ الآليات المناسبة وتبني الأساليب والوسائل السليمة التي تحفظ العدل في الأمة، وتمنع الجور من الاستمرار، وتضمن استقرار الإسلام كسيد في المجتمع، وهذا مما يلزم الإبداع فيه، لأن انحراف الحاكم قد يجرف الأمة إلى الهاوية، إن استهانت بحقوقها واستهترت بواجباتها، ولم تتدارك التقصير من جانب الحاكم في رعاية شؤونها بحسب الإسلام، وعليه كان لا بد من الاستفادة من كل المعطيات الحديثة من وسائل وأساليب وتقنيات تضمن الأداء الحسن للحاكم والمحكوم، فيما ينطبق عليه قاعدة؛ "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
ولا يعني هذا إلغاء النظام الإسلامي واستبداله بنظام آخر، بحجة الاستفادة مما توصلت إليه البشرية، فنظام الحكم في الإسلام عبارة عن أحكام شرعية ينبغي الانضباط بها وتجسيدها كما جاءت، والمطلوب هو اتخاذ الخطوات التي تؤدي إلى ذلك لا إلى نقيضه.
كما أنه ينبغي إدراك؛ أن أي نظام سياسي في الدنيا معرضٌ - طالما أن منفذيه هم من البشر - للتعرض لهزات أو لخللٍ ما، سواء لهشاشة محتواه أو لسوء تنفيذه أو لكليهما، بما في ذلك النظام الديمقراطي نفسه - وما أكثر وقوع ذلك فيه - وتكون معالجة ذلك برد الأمور لنصابها والاستفادة من الثغرات التي تقع لإيجاد ما يقلل من تعرض النظام السياسي لمثلها.
وبذلك يتضح أن نظام الحكم في الإسلام؛ هو تلاحم بين الحاكم والمحكوم، لضمان إحسان تطبيق شرع الله ومنهجه، وكون أن الإسلام أجاز انتخاب الحاكم من قبل الأمة مباشرة أو من يمثلها من أهل الحل والعقد، كما هو حاصلٌ في النظام الديمقراطي الرأسمالي أو النظام الاشتراكي الشيوعي، أو حتى في نظام دولة الفاتيكان، حيث يجتمع الكرادلة من أنحاء مختلف العالم لاختيار البابا، فإن ذلك لا يلغي كل تلك الفوارق الشاسعة بين تلك المبادئ والإسلام، ولا يعقل دمجهم سوية بحال لتشابههم في جزئية، فيصبح أحدهما جوهر الآخر رغماً عن أنفه.(54/483)
كما لا يمكن جعل المبدأ كله يأخذ بحالٍ حكم واحدٍ من أحكامه الفرعية، إذ أن في ذلك تعسفاً في الفكر، وإخراجاً للأشياء عن حقيقة ما هي عليه.
ومن هنا يظهر مدى التباين بين الديمقراطية والشورى من حيث أصل ما بنيتا عليه، أو من حيث دلالاتهما ومعنى الالتزام به
=================(54/484)
(54/485)
الديمقراطية؛ اسم... لا حقيقة له
[الكاتب: جعفر شيخ إدريس]
لم تجد الديمقراطية في تاريخها كله رواجاً مثلما وجدت في عصرنا هذا.
لقد كان معظم المفكرين الغربيين - منذ عهد اليونان - كثيري النقد لها، بل ورفضها، حتى إن أحد الفلاسفة البريطانيين المعاصرين ليقول: (إذا حكمنا على الديمقراطية حكماً ديمقراطياً بعدد من معها وعدد من ضدها من المفكرين، لكانت هي الخاسرة) [1].
أما في عصرنا؛ فإن الدعاية الواسعة لها أعمت كثيراً من الناس - ولا سيما في بلادنا - عن عيوبها التي يعرفها منظروها الغربيون، بل إن المفتونين بها المروجين لها صاروا يصورونها كالبلسم الشافي لكل مشكلات المجتمع السياسية وغير السياسية.
لذلك رأيت أن أشارك في تصحيح هذه الصورة الكاذبة، ابتداء بهذا المقال الذي أرجو أن يكون فاتحة لكتاب كامل عن مشكلات الديمقراطية والبدائل الإسلامية.
أول ما يؤخذ على الديمقراطية؛ كونها اسماً لا حقيقة له!
أعني أنه إذا وصف لك نظام سياسي بأنه دكتاتوري أو ديني - مثلاً - تصورت ما المقصود بهذا الوصف، وكانت صورتك الذهنية هذه مطابقة للواقع الذي يوصف بهذا الوصف، ولكن ليس كذلك الامر بالنسبة للديمقراطية، إذ إن الديمقراطية كما يدل عليها اسمها، وكما يعرفها كبار منظريها وساستها؛ هي حكم الشعب.
لكن الصورة الواقعية لما يسمى بالديمقراطية - مهما كانت حسناتها أو سيئاتها - ليست هي حكم الشعب!
أولاً: لأن مفهوم الشعب نفسه مفهوم غامض - كما يرى بعض كبار منظري الديمقراطية -
استمع إلى الأستاذ "روبرت دال" الذي ربما كان صاحب أشمل بحث أمريكي عن الديمقراطية، وهو الذي وُصف في غلاف كتابه هذا الذي ننقل عنه بأنه؛ (من أبرز منظري زماننا السياسيين)، وأنه نال على هذا الكتاب جائزتين كبيرتين.
(إن دعاة الديمقراطية - بما في ذلك الفلاسفة السياسيون - يتميزون بكونهم يفترضون مقدماً أن هنالك شعباً موجوداً فعلاً، إنهم يعدون وجوده واقعاً صنعه التاريخ، لكن هذه الواقعية أمر مشكوك فيه، كما كان مشكوكاً فيه في الولايات المتحدة عام 1861م، عندما حسم الأمر بالعنف لا بالرضى ولا بالإجماع، إن الافتراض بأن هنالك شعباً موجوداً، وما يبنى على هذا الافتراض من لوازم تصير جزءاً من النظرية الديمقراطية الخيالية) [2].
ثانياً: لأن الشعب لم يكن في يوم من الأيام - ولن يكون - حاكماً، ذلك أمر متعذر.
وإليك بعض شهادات أهلها على ذلك:
إن الديمقراطية المثالية هي ما يسمى ب "الديمقراطية المباشرة"، التي يقال إنها كانت تمارس في أثينا، أول دولة ديمقراطية نشأت في القرن الخامس قبل الميلاد. تسمى بالمباشرة؛ لأن "الشعب" كان يجتمع في العام أربعين مرة ليناقش كل القضايا السياسية المهمة مناقشة مباشرة ويصدر فيها قراراته، لكنها مع ذلك لم تكن حكم الشعب.
1) لأن الذين أسسوا النظام الديمقراطي كانوا فئة قليلة من الناس، هم الذين قرروا من الذي يستحق أن يدخل في مسمى الشعب الحاكم ومن الذي لا يستحق، فاستثنوا النساء، والرقيق، وكل من كان من أصل غير أثيني، مهما طال مكثه فيها، وعليه فلم يكن الذين لهم حق المشاركة السياسية إلا نسبة ضئيلة من المواطنين [3].
2) كان يكفي لاعتبار الاجتماع منعقداً أن يحضره ستة آلاف مما يقدر بست وثلاثين ألف عضو، أي إن القرارات المتخذة فيه لم تكن قرارات تلك الفئة كلها التي أعطيت حق الحكم.
3) كانت مدة الاجتماع لا تتجاوز عشر ساعات؛ فلم يكن بإمكان الناس جميعاً أن يشاركوا في المداولات، وإنما كان الذي يستأثر بالكلام بعض قادتهم، وكانت البقية تابعة لهم.
لما بعثت الديمقراطية مرة ثانية في القرن الثامن عشر في أوروبا؛ كان من المتعذر أن تكون ديمقراطية مثل ديقراطية أثينا، بسبب الازدياد الكبير في عدد السكان، وصعوبة اجتماعهم.
ولكن بدلاً من أن يقال إن الديمقراطية - بمعنى حكم الشعب - غير ممكنة الآن، فلنبحث عن نظام حكم آخر يتناسب مع واقعنا.
تحايل بعضهم فسمى ديمقراطية أثينا؛ بـ "الديمقراطية المباشرة"، واقترح أن تكون الديمقراطية الحديثة؛ "ديمقراطية غير مباشرة"، أو "ديمقراطية تمثيلية"، أي ديمقراطية يختار فيها الشعب فئة قليلة منه تكون ممثلة له وحاكمة باسمه.
كان هذا التحايل ضرورياً، لأنه كانت هنالك أزمة سيادة، من هو الجدير بأن يكون السيد الآمر الناهي الذي لا معقِّب لحكمه؟ كانت هذه السيادة للملوك، وكانوا يعدون هذا الحق حقاً إلهياً أعطاهموه الله تعالى، لأن الناس كانوا قبل ذلك مؤمنين يعتقدون أن مثل هذه السيادة لا تكون إلا لله أو لمن أعطاها الله له، لكن الناس لم يعودوا يؤمنون بهذا بعد الثورة الفكرية الكبيرة التي حدثت في قرنهم الثامن عشر، والتي كانت في مجملها دعوة للانسلاخ من حكم الدين في كل مجال من مجالات الحياة.
لم يكن هنالك من بديل لحكم الله أو لحق الملوك المقدس في الحكم، إلا أن يقال؛ (إن الحكم للشعب كله؛ فهو صاحب الكلمة الأخيرة فيما ينبغي أن يكون أو لا يكون).
لكن الديمقراطية التمثيلية أو النيابية كانت بالضرورة أبعد من الديمقراطية المباشرة عن أن تكون حكماً للشعب، وذلك:(54/486)
1) لأن الحكم له معنيان؛ حكم تشريعي، وحكم تنفيذي، فبأي معنى يَحْكُم الشعب؟ لا يمكن أن يَحْكُم بالمعنى الثاني؛ لأن الشعب لا يمكن أن يكون كله رأس دولة أو مجلس وزراء أو قائد جيش.
وكان الفيلسوف الفرنسي "روسو" أول من سخر من الديمقراطية بمعنى الحكم التنفيذي، فقال: (إذا أخذنا العبارة - يعني كلمة الديمقراطية - بمعناها الدقيق؛ فإنه لم تكن هنالك قطُّ ديمقراطية حقيقية، ولن تكون، إنه من المخالف للنظام الطبيعي أن تكون الأغلبية حاكمة والأقلية محكومة، إنه لا يتصور أن يكون الشعب مجتمعاً دائماً لقضاء وقته في تصريف الشؤون العامة، ومن الواضح أنه لا يمكن أن يكون لجاناً لهذا الغرض إلا بتغيير شكل النظام الإداري) [4].
2) لم يبق إذن إلا الحكم بمعنى التشريع؛ لكن الشعب ليس هو المشرِّع في الديمقراطية النيابية، وإنما هو الذي ينتخب من يشرع.
ومرة أخرى نستمع إلى "روسو" ساخراً من هذا: (إن الأمة الإنجليزية تعتبر نفسها حرة، لكنها مخطئة خطأ فادحاً، إنها حرة إبَّان فترة انتخابات أعضاء البرلمان، وبمجرد أن ينتخبوا؛ فإن العبودية تسيطر عليها، فلا تكون شيئاً، وكيفية استفادتها من لحظات الحرية القصيرة التي تستمتع بها تدل حقاً على أنها تستحق أن تفقدها) [5].
3) لأن نواب الشعب ليسوا هم الشعب، حتى لو كان اختياره لهم بالإجماع، ربما كان هذا معقولاً لو أن النواب يجتمعون للبت في قضية واحدة يعرف كل منهم رأي ممثليه فيها، أما والقضايا كثيرة ومعقدة وبحاجة إلى علم لا يتأتى لعامة الناس؛ فإن الحكم لا يكون حكم الشعب... نعم! إن كل نائب منهم يتجنب المشاركة في تشريع يعلم أن أكثر الناس في دائرته الانتخابية لا توافق عليه، وأنه إن شارك فيه فربما يفقد مقعده في الانتخابات التالية، لكن هذا قليل جداً من كثير.
4) والمنتخبون لا يكونون في الواقع منتخبين بالإجماع الذي يقتضيه وصف الحكم بأنه حكم الشعب، وإنما ينتخبون بالأغلبية، والأغلبية ليست هي الكل، وما ترتضيه الأغلبية في دائرة معينة قد لا ترتضيه الأغلبية في دائرة أخرى، أو قد لا ترتضيه أغلبية الشعب لو كان انتخابه مباشراً، لكنه مع ذلك يعد ممثلاً للشعب وحاكماً باسمه.
5) ثم إن الأغلبية لم تكن في بداية الديمقراطية هي أغلبية الشعب كله، فقد استثنوا منها النساء، واستثنوا بعض الفقراء، واستثنى الأمريكان الأرقَّاء.
فلم يدخل النساء في مفهوم الشعب الحاكم الذي يحق له أن يصوِّت إلا في عام 1918م في بريطانيا، وعام 1920م في الولايات المتحدة.
ولم يُعطَ السود هذا الحق إلا بتعديل للدستور الأمريكي في عام 1886م.
ولكن حتى بعد شمول مفهوم الشعب الحاكم لكل المواطنين باستثناء الأطفال، ظلت بعض الفئات محرومة من حق المشاركة في الانتخابات.
استمع إلى ما يقول هذا المؤلف الأمريكي في كتاب له حديث عن الديمقراطية: (ملايين من الناس يبقون فاقدين حق التصويت كلياً أو جزئياً، مئات الألوف من المواطنين الذين يعيشون في واشنطن العاصمة، مليون ونصف مليون ممن ارتكبوا جنحاً وعوقبوا على ارتكابها، لكن ولاياتهم تحرمهم رغم ذلك من التصويت، عدة ملايين من الذين يعيشون في بورتوريكو وأقاليم فيدرالية أخرى، والملايين غير المحددة في أمريكا كلها الذين تضيع أوراق تصويتهم، أو تحسب خطأ، أو تحطم في كل انتخاب) [6].
7) وبما أن الانتخابات في أمريكا إنما يشارك فيها من سجل اسمه للمشاركة فيها قبل بدئها، وبما أن كثيراً من الناس لا يسجلون أسماءهم؛ فإن الأغلبية إنما تكون أغلبية من صوتوا ممن سجلوا ممن يحق لهم أن يصوتوا.
وقد كانت هذه النسبة في انتخابات عام 2000م كالآتي، كما جاء في تقرير حكومي رسمي: (من مجموع عدد الناس البالغ 203 مليون والذين كانت أعمارهم 18 عاماً أو أكثر، 186 مليوناً منهم مواطنون، سجل منهم للانتخابات 130، وصوَّت منهم 111، وعليه فقد كانت معدلات تصويت السكان الذين أعمارهم 18 عاماً أو أكثر 55% من مجموع السكان، و60% من المواطنين، 86% من المسجلين) [7].
الديمقراطية الليبرالية:
هنالك أمر لا يتفطن إليه كثير من الناس؛ هو أن الديمقراطية في البلاد الغربية ليست ديمقراطية خالصة مطلقة، وإنما هي ديمقراطية مقيدة بالليبرالية.
ما معنى هذا؟
الليبرالية نظرية سياسية فحواها؛ أن المجتمع يتكون أساساً من أفراد، لا من طبقات ولا من أسر ولا من أي تجمعات أخرى، وبما أن الفرد هو أساس المجتمع، وبما أن له - بوصفه فرداً - حقوقاً أهمها حريته، فإنه لا يجوز للحكومة ولا لفئة من الشعب، بل ولا لأغلبية الشعب أن تتغول على حريته.
ولذلك فإنهم يدعون إلى ما يسمونه بالحد الأدنى من الحكومة، أي إن الأساس هو أن يترك الأفراد أحراراً يختارون ما شاؤوا؛ فعلى الدولة أن لا تتدخل إلا تدخلاً اضطرارياً الغرض منه حفظ حقوق الأفراد التي قد يتغول عليها بعضهم، ويحذرون لذلك مما يسمونه بدكتاتورية الأغلبية.(54/487)
كنت أنوي الاستدلال على ذلك بكتابات عدد من الساسة والمنظرين الغربيين ولا سيما الأمريكيين منهم، لكن أغناني عن كل ذلك كلام وجدته لواحد منهم معروف اسمه "ليبمان"، قال عنه مقدمو الكتاب الذي نشروا فيه مجموعة من مقالاته، والذي ننقل منه النصوص التالية: (إنه ربما كان أعظم مفكر سياسي أمريكي في القرن العشرين) [8].
فإليك بعض ما قال مما نحن بصدده: (يجب في رأيي أن نرفض القول بأن مبادئ الحرية والعدالة والحكم الصالح إنما تتمثل في حكم الأغلبية.
هنا يكمن أصل المسألة، لقد كان [الرئيس] "واشنطن" يعتقد أن الشعب يجب أن يحكم، لكنه لم يكن يعتقد أنه بسبب حكم الشعب تتحقق الحرية ويتحقق العدل والحكم الصالح، كان يعتقد أن الشعب ذا السيادة لا يؤتمن - كما لم يؤتمن الملك ذو السيادة الذي كان هو خلفاً له - على السلطة المطلقة.
إنه لم يخدع نفسه، إنه لم يكن يؤمن بما صار الآن الأديولوجية الديمقراطية السائدة؛ أن كل ما رأت جماهير الناس أنها تريده فيجب أن يقبل على أنه الحقيقة.
لقد كان يعلم أنه لا ضمان من أن يتحول حكم الشعب إلى حكم قهري، تعسفي، فاسد، ظالم وغير حكيم.
إن الشعب أيضاً يجب أن يكبح جماحه، إنه كغيره يجب أن يحاسب، إنهم كغيرهم يجب أن يُعلموا، إنهم كغيرهم يجب أن يُرفعوا فوق مستوى سلوكهم المعتاد) [9].
سيقول الديمقراطي الملتزم بمبدئه؛ لكنكم بهذا تضعون سلطة فوق سلطة الشعب، والمبدأ الديمقراطي هو أن السلطة للشعب، فلا أنت إذن يا "ليبمان" ولا "واشنطن" من قبلك بديمقراطيين.
سيرد "ليبمان"؛ بأنكم تحاجوننا بالديمقراطية الخالصة التي تؤمن بسيادة الشعب إيماناً مطلقاً، لكن الديمقراطية التي أتحدث عنها وأدعو إليها هي الديمقراطية الليبرالية التي تحد من هذه السلطة.
سيذهب بعض الليبراليين الذين جاؤوا من بعد "واشنطن" بعقود إلى أبعد مما ذهب إليه، فيؤكدون أن الليبرالية عندهم هي الأساس، وأنه إذا حدث تعارض بينها وبين الديمقراطية فينبغي التضحية بهذه لا بتلك.
فهذا هو المفكر الليبرالي "هايك" يقول - بعد أن دافع عن الديمقراطية دفاعاً قوياً، وبعد أن بين ضرورة الليبرالية لها في كتاب له نال شهرة واسعة قبل خمسين عاماً -: (لا أريد أن أجعل من الديمقراطية وثناً يُعبد؛ فربما يكون حقاً أن جيلنا يتحدث ويفكر أكثر مما يجب عن الديمقراطية، وأقل مما يجب عن القيم التي تخدمها... إن الديمقراطية في جوهرها وسيلة، إنها أداة عملية لضمان الأمن الداخلي والحرية الشخصية، فليست هي بهذه المثابة معصومة ولا مضمونة، كما يجب أن لا ننسى أنه كثيراً ما تحقق قدر من الحرية الثقافية والروحية في ظل حكم مطلق أكثر مما تحقق في بعض الديمقراطيات) [10].
موقفنا من النظم التي تسمى بالديمقراطية:
النظم السياسية التي تسمى بالديمقراطية ليست هي إذن ديمقراطية - بمعنى أن الحكم فيها للشعب - وإنما هي نظم سياسية مختلفة، وإن كان بينها خصائص مهمة مشتركة.
فمن الخطأ إذن تعريف الديمقراطية؛ بأنها نظام الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو فرنسا أو غيرها من الدول الغربية.
وعليه؛ فإذا كان من حق هذه الدول أن تجتهد وتختار لنفسها ما تراه مناسباً لها من تفاصيل المؤسسات والقيم السياسية، مع أنها جميعاً تتسمى بالديمقراطية، أفلا يكون من حقنا أيضاً أن نختار من المبادئ والقيم السياسية ما نراه مناسباً لهويتنا وواقعنا ووسيلة أحسن لتحقيق أهدافنا، سواء كان فيه ما يشابه النظم الديمقراطية أو يخالفها؟
بلى! بل إن هذا لهو المسلك الطبيعي لكل أمة تقضي بعقلها وتحترم نفسها وتعتز بهويتها وأصالتها.
وعليه؛ فإذا أرادت دولة من دولنا أن تختار لنفسها نظاماً تراه معبراً عن هويتها ومناسباً لعصرها، فيجب أن تبدأ بتقرير المبادئ والقيم التي تريد للدولة أن تلتزم بها، ثم تبحث بعد ذلك عن المؤسسات المناسبة لعصرها وظروفها التي يمكن أن تحمل تلك القيم وتعبر عنها.
يمكنها - مثلاً - أن تقول؛ إنها تريد لدولتها أن تتميز بخصائص منها اختيار الأمة لحاكمها، وسيادة حكم القانون، وحرية الرأي، وأن يكون كل هذا في نطاق ما تؤمن به من منهج في الحياة لا يلزم أن يكون مماثلاً لمناهج الحياة الغربية.
فإذا كانت أمة مسلمة؛ جعلت كل ذلك في نطاق هدي الكتاب والسنة، وأضافت إليه أموراً مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحافظة على الدين والدفاع عنه، وهكذا.
إنه لا يلزم من موافقة الديمقراطية الليبرالية الغربية في بعض الجزئيات أن يأخذ الموافق سائر ما فيها، أو أن يتبنى فلسفتها، أو يتسمى باسمها.
ثم إن ما في الديمقراطية من حسنات ليس خاصاً بها ولا مرتبطاً بها، بل يمكن أن تخلو هي منه، كما يمكن أن يوجد في غيرها، بل قد وجد الكثير منه حتى في حياة جاهليتنا العربية! لكن المجال الآن ليس مجال التوسع في هذا الأمر.
ذو الحجة / 1424 هـ
[1] r oss Ha r rison, Democ r acy, r outledge, London and New Yo r k, 1995, p.3.
[2] r obe r t A. Dahl, Democ r acy and its C r itics, Yale Unive r sity P r ess, 1989, pp. 3-4.
[3] Ibid p. 17.
[4] العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الرابع، ص 239.(54/488)
[5] المصدر نفسه، الفصل 15، ص 266.
[6] Jamin B. r askin, Ove r ruling Democ r acy, r outeledge, 2003, p.9.
[7] Sou r ce: U.S. census bu r eau.
[8] Clinton r ossite r & James La r e, edito r s, The Essential Lippman: A Political Philosophy fo r Libe r al Democ r acy, Ha r va r d Unive r sity P r ess, 1982, p. xi.
[9] Ibid pp. 4-5.
[10] F.A. Hayek, The r oad to Se r fdom, Unive r sity of Chicago P r ess, 1994, p. 78
==============(54/489)
(54/490)
النظام الديمقراطي؛ نظام كفري
العراق وغزو الصليب؛ دروس وتأملات
[الكاتب: أبو عمر السيف]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد إمام المجاهدين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد...
فإن الحملة الصليبية بقيادة الولايات المتحدة تهدف إلى فرض النظام الديمقراطي العلماني الكافر على العراق وعلى المنطقة.
وهذا النظام الديمقراطي الذي يعطي الحاكمية للناس؛ يعني الكفر بحاكمية الله تعالى وبالإسلام كنظام للحياة، ويعني أن يتخذ بعض الناس بعضا أربابا من دون الله يشرعون لهم ويحرمون لهم ويحلون لهم.
ولا فرق بين النظام المستبد وبين النظام العلماني الديمقراطي في تعبيد الناس لغير الله تعالى، فالنظام المستبد يختص الحاكم ومن حوله بالتشريع للناس، وفي النظام الديمقراطي؛ تختص فئة بالتشريع، وهي البرلمان، فيصبح البرلمان ربا للناس، يعبدونه من دون الله، فالحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والتشريع ما شرعه.
فلا يتحرر الناس من عبودية العبيد في النظام المستبد، ولا في النظام الديمقراطي، ولا ينالون حريتهم من عبادة العبيد وعبادة الهوى؛ إلا بعبادة الله وحده لا شريك له، فالإسلام هو دين الحرية من عبادة غير الله تعالى، فلا يسجد المسلم إلا لله، ولا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا منه، ولا يتحاكم إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يذل إلا له، فلا يذل للأمريكان واليهود المحتلين، ولا يتحاكم إلى كفرهم وقوانينهم، ولا يخاف من قوتهم وإجرامهم، ولا يركن إليهم.
فإذا تخلص المسلم من الذل للأمريكان واليهود ومن حكمهم والتبعية لهم؛ فقد نال حريته من عبوديتهم، وأخلص الدين لله تعالى الذي خلقنا لعبادته والتحرر من عبودية الخلق.
وأما حرية الغرب المتمردة على الدين والأخلاق والآداب والعفاف، والمنفلتة من القيم، واللاهثة وراء كل متعة وشهوة، دون ضابط من دين وخلق؛ فهي حرية من شبههم الله تعالى في كتابه بالأنعام، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد: 12].
واليهود والنصارى من صفاتهم القديمة؛ أن يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله في التشريع والحاكمية، التي يختص بها فئة منهم، فقد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، يشرعون لهم، واخترعوا في زماننا ربا جديدا يشرع لهم، وهو البرلمان.
فإذاً؛ هذا الكفر والشرك في الحاكمية والتشريع هو من صفات الأمم الكافرة بالله ورسول صلى الله عليه وسلم ، وليس من صفات الأمة المسلمة، التي أثنى الله عليها بأنها خير أمة أخرجت للناس، التي من الشرك في دينها؛ أن تشرك في الحكم والتشريع مع الله أحداً من خلقه، وقد أمر الله تعالى بقتال أهل الكتاب، وحرض على قتالهم بصفات الكفر التي فيهم، ومنها؛ اتخاذ بعضهم بعضاً أربابا من دون الله، فقال الله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون * اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30 - 31]، {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].
فوصفهم؛ أنهم لا يؤمنون بالله ولا اليوم الآخر، وأنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، وأن اليهود قالت؛ "عزيرٌ ابن الله"، وأن النصارى قالت؛ "المسيح ابن الله"، وأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، واتخذوا المسيح رباً فهم مشركون، ووصفهم بأنهم كافرون، يسعون ليطفئوا نور الله بأفواههم، ويصدون عن الإسلام إلى الديمقراطية الكافرة.
وما تقوم به وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية في محاربة الإسلام والترويج للديمقراطية والمشاركة في الحرب الإعلامية والنفسية لاحتلال العرق؛ هو جزء من هذا السعي.(54/491)
وفي قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]؛ بين الله تعالى أنهم اتخذوهم أربابا يشرعون لهم، وهم لم يؤمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً، فالحلال ما أحلّه، والحرام ما حرّمه، والأمر ما أمر به، لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون.
وروى الإمام أحمد والترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه؛ أنه دخل على رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وفي عنق عدي صليب من فضة، فقرأ رسول ا صلى الله عليه وسلم هذه الآية؛ {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}، قال: فقلت: (إنهم لم يعبدوهم!)، فقال: (بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم)، فبين له أنهم عبدوهم عندما اتخذوهم أربابا مشرعين لهم من دون الله.
قال ابن عباس رضي الله عنه: (لم يأمروهم أن يسجدوا لهم، لكن أمروهم بمعصية الله؛ فأطاعوهم، فسماهم الله بذلك أربابا).
وقال حذيفة رضي الله عنه: (إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم، لكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئاً استحلّوه، و إذا حرّموا عليهم شيئاً أحله الله لهم حرّموه، فتلك كانت ربوبيتهم).
وقال أبو العالية: (قالوا؛ ما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا لقولهم، وهم يجدون في كتاب الله ما أمروا وما نهوا عنه، فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم).
وقد سوّى الله تعالى بين اتخاذ الأحبار والرهبان مشرّعين، وبين عبادة المسيح؛ في جعل الربوبية لغير الله تعالى، فكما أن من عبد المسيح فقد اتخذه ربا، فكذلك من تحاكم لغير الله - كالقوانين الوضعية والبرلمان... وغيره - فقد اتخذها أربابا وخرج من الإسلام.
وقال تبارك وتعالى: {قلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
قال الإمام ابن كثير: (هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم، {قلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ}؛ والكلمة تطلق على الجملة المفيدة، ثم وصفها بقوله؛ {سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}؛ أي عدل ونصَفٍ، نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله؛ {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}؛ لا وثنا ولا صليبا ولا صنما ولا طاغوتا ولا نارا ولا شيئا، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، وهذه دعوة جميع الرسل، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 136]، ثم قال تعالى: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ}، قال ابن جريج: "يعني يطيع بعضنا بعضا في معصية الله"، وقال عكرمة: "يسجد بعضنا لبعض"، {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}؛ حيث إن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة فأشهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام، الذي شرعه الله لكم)، انتهى كلامه.
وقد أرسل رسول ا صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم؛ رسالة دعاه وقومه فيها إلى الإسلام وذكر فيها هذه الآية التي تدعو اليهود والنصارى إلى كلمة العدل والحق، وهي التوحيد وإخلاص العبادة لله، وأن لا تصرف العبادة لغير الله، وأن لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله في التشريع والحكم، أو في غيره من العبادات، {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.
وهذا هو الواجب على المسلمين؛ أن يدعو زعماء النصارى وأقوامهم إلى الإسلام والتوحيد، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله يشرعون لهم في البرلمان وفي غيرها، فإن تولوا عن دعوة التوحيد فنقول؛ اشهدوا بأنا مسلمون.
ولكن انعكس الأمر في هذا الوقت، وأصبح اليهود والنصارى هم الذين يدعون المسلمين إلى شركهم وكفرهم وديمقراطيتهم، وأصبح البعض في ضلال عظيم في أمر دينهم، فبدلاً من أن يفرِّوا من الطاغوت الاستبدادي إلى دين الإسلام، لجئوا إلى طاغوتٍ آخرَ، وهو طاغوت الديمقراطية... فبقوا يخبطون في تيه الظلمات وأحكام الجاهلية، فيفرِّون من ظلمةٍ جائرةٍ مستبدةٍ ليتيهوا في ظلمةٍ صليبيةٍ ظالمةٍ كافرةٍ.
فالحكم والتشريع من خصائص الألوهية، فمن تحاكم إلى غير الله - كالقوانين الوضعية أو البرلمان أو هيئة الأمم المتحدة... أو غيرها - فقد أشرك، لقوله تبارك تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحدا} [الكهف: 26].(54/492)
أي الحكم له وحده تبارك وتعالى، ولا يشرك غيره في حكمه، وفي قراءة: {ولا تشرك في حكمه أحدا}، بصيغة النهي عن الشرك به تبارك وتعالى في الحكم والتشريع، وهذه الآية كقوله تعالى: {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}، فالتحاكم إلى غير الله؛ شرك، كعبادة غيره.
وقال تعالى: {إن الحكم إلا لله * أمر أن لا تعبدوا إلا إياه}، فبين أن الحكم لله تعالى، وأمر أن لا تصرف العبادة - ومنها التحاكم - إلى غير الله.
وقال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]، أي إذا أطعتم المشركين في مسألة حل الميتة؛ إنكم لمشركون، فدل على أن من تحاكم إلى غير الله؛ فهو مشرك، وأن الحاكم المبدل لشرع الله بالقوانين الوضعية - ولو في مسألة واحدة - قد ارتكب شركاً، ودلّ على أنّ من اتّبع أحكام الكفار من ديمقراطية وغيرها وأعرض عن الإسلام؛ أنّه مشرك، ودل على أن الأمريكان والأوربيين والمرتدين الذين يدعون إلى الديمقراطية الكافرة وترك الإسلام؛ أنهم جند للشيطان، وأن الشياطين يوحون إليهم ويأمرونهم بدعوة المسلمين إلى الديمقراطية.
وقال تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100]، فدلت الآية على أن توليهم للشيطان بطاعته؛ هو عبادة له وشرك بالله تعالى، كما قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ. وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 60 - 61].
وأخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال لأبيه: {يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا}، فعبادة الشيطان؛ هي طاعته في معصية الله.
وقال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22]، فتبرأ الشيطان منهم ومن شركهم، وقال: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ}، وبين أن عبادتهم له وشركهم كان بطاعته، لقوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}.
وقال تعالى: {جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} [الأنعام: 100]، فأشرك المشركون الجن مع الله في العبادة، وكان عبادتهم للجن بطاعتهم، والله تعالى هو الذي خلقهم فكيف يشرك معه غيره من الخلق في الطاعة والتشريع؟!
وقال تبارك وتعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا} [النساء: 117]، أي إن يعبدون إلا شيطاناً مريدا، لأنهم إذا عبدوا الأوثان التي يسمونها بتسمية الإناث فقد عبدوا الشيطان في نفس الأمر، الذي حسن لهم هذا الشرك وأمر به، فعبادتهم للشيطان؛ هي بطاعته، فدل على أن من اتخذ غير الله مشرعا وحكماً؛ فقد عبده من دون الله.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} [سبأ: 41]، فنزه الله تعالى عن الشريك وتبرأ من شرك المشركين، ومن موالاتهم، وذكر أن المشركين كانوا يعبدون الجن - أي الشياطين - الذين يأمرونهم بعبادة الملائكة وغيرهم، فكانت طاعتهم للشياطين في الشرك هي عبادتهم، فهم مؤمنون بالشياطين ومصدقون ومنقادون لتشريعهم، لقوله تعالى: {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}.
وهكذا من اتخذ البرلمان أو القوانين أو هيئة الأمم المتحدة أو غيرها؛ سلطة مشرعة وحاكمة، فقد عبدها من دون الله وآمن بها، وهذا يقتضي ردته وخروجه من الإسلام، فلا فرق بين من يتخذ الشيطان مشرعاً، وبين من يتخذ البرلمان أو الحاكم مشرعاً، فالجميع قد صرفوا العبادة لغير الله، فهم مشركون.
ومن الأدلة قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، فسمى بارك وتعالى المشرعين؛ "شركاء".
وقال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} [الأنعام: 137]، فسماهم شركاء؛ لأنهم أطاعوهم في قتل أولادهم.(54/493)
ومن الأدلة قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ} [التوبة: 37]، فبين تبارك وتعالى أن الكفار الذين يحلون ما حرم الله؛ قد ازدادوا كفرا بتشريعهم على كفرهم الأصلي.
وقال تبارك وتعالى: {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، فحرم وحذر من مانعين يمنعان من الحكم بما أنزل الله، أولهما؛ خشية الناس، والثاني؛ الطمع في الدنيا والرغبة فيها، ثم بين تعالى بحكم صارم واضح؛ أن من لم يحكم بما أنزل الله {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].
والكفر والظلم والفسق تذكر في القران والسنة، ويراد بها في مواطن؛ الكفر الأكبر المخرج من الملة، والظلم الأكبر المخرج من الملة، كقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، والفسق الأكبر المخرج من الملة، كقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20].
وتأتي كلمات الكفر والظلم والفسق في مواطن، ويراد بها المعصية.
فإذا كان الحاكم مبدلا لشرع الله تعالى ومحكماً للقوانين الوضعية في عموم الحياة، أو في بعضها، فهذا كفره وظلمه وفسقه؛ مما يخرج من الملة، فإن التشريع؛ من خصائص الألوهية، فمن ادعى الألوهية أو دعا الناس إلى عبادة غير الله في الحكم والتشريع وألزمهم بها؛ فهو طاغوت، كافرٌ، محاربٌ لله ورسول صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان من حكم بالتوراة المحرفة المنسوخة بدلاً من القران؛ يَكْفُرُ ويخرجُ من الإسلام، فكُفْرُ من حكم بالقوانين الوضعية من الحكام في العالم الإسلامي من باب أولى.
قال الإمام ابن كثير: (ومن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة؛ كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟! ومن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين) اهـ.
وأما الكفر دون كفر، الذي لا يخرج من الملة، فهو أن يكون الإسلام هو الحاكم في البلاد، ولكن الحاكم ظلم ولم يحكم بما أنزل الله في قضية محددة معينة، ولم يشرّع قانونا لمثل هذه القضية أو غيرها.
ومن الأدلة على أن التحاكم لغير الله؛ من الكفر والنفاق الأكبر، قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 59 - 62].
فجعل الرد إلى الله ورسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع؛ شرطا في الإيمان، وذكر كلمة "شيء" في قوله: {فإن تنازعتم في شيء}، وهي نكرة في سياق الشرط، فتقتضي العموم، فكل شيء تنازع فيه المتنازعون من سياسة أو قضاء أو اقتصاد أو غيرها من شؤون الحياة؛ فالرد فيها إلى كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، ثم بين أن الرد إلى الله تعالى وإلى رسول صلى الله عليه وسلم هو الخير في الدنيا والآخرة، والأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة.
ثم جاء بصيغة التعجب من تناقض المنافقين في زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله، ثم يخالفون هذا الزعم، ويريدون التحاكم إلى الطاغوت، فهذا تناقض ونقض لما يدعون، فإن ادعاء الإيمان؛ يقتضي التحاكمَ إلى الله ورسول صلى الله عليه وسلم ، والكفرَ بالطاغوت، وعدمَ التحاكم إليه، كما قال تعالى: {وقد أمروا أن يكفروا به}.
فالواجب الكفر بالطاغوت، وليس التحاكم إليه كحال من يدعي أنه مسلم ثم يريد التحاكم إلى طاغوت الديمقراطية الكافرة.
والطاغوت؛ اشتقاقه من الطغيان، وهو مجاوزة الحد.(54/494)
قال الإمام ابن القيم: (الطاغوت كل ما تجاوز به الحد، من معبود، أو متبوع، أو مطاع، فطاغوت كل قوم؛ من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم الطاغوت، وعن طاعته ومتابعته رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته)، انتهى كلامه
فالإيمان بالله لا يتحقق إلا بالكفر بالطاغوت، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة: 256].
و "العروة الوثقى"؛ هي الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، والشهادة؛ نفي، وإثبات، نفي الألوهية عن غير الله، وهو الكفر بالطاغوت، وإثبات الألوهية لله، وهو الإيمان بالله، فدل على أن من آمن بالطاغوت لم يحقق لا إله إلا الله.
ثم بين تعالى؛ أن هؤلاء الذين يدّعون الإيمان، ثم يريدون التحاكم إلى الطاغوت - كالبرلمان وغيره - قد أضلهم الشيطان ضلالاً بعيداً، ولقد ضلوا هذا الضلال البعيد؛ لإشراكهم مع الله غيره في التشريع، كما قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا}، وبين أنهم إذا دُعُوا إلى كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم للحكم بينهم؛ صدّوا وأعرضوا عن التحاكم إلى الإسلام.
ثم قال تعالى: {فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم}؛ أي فكيف إذا حلت بهم مصيبة بسبب ذنوبهم وإعراضهم عن كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ؟ {ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا}؛ أي إن أردنا إلا الإحسان والتوفيق بين الإسلام والأنظمة التي تخالفه - كالديمقراطية والشيوعية وغيرها - والإيمان يقتضي الكفر بالأنظمة المخالفة للإسلام، وليس التوفيق والجمع بينها وبين الإسلام، كمن يرفع شعار "الديمقراطية الإسلامية" وغيرها من شعارات أهل النفاق.
والمنافقون يتصفون بسوء الظن بشرع الله تعالى، ويظنون أن الشريعة لا تناسب هذه المرحلة، أو هذا الزمان، وأن أنظمة إخوانهم من النصارى أو اليهود - كالديمقراطية - هي التي تصلح لهذا الزمان، وتناسب تعدّد الطوائف والأديان والقوميات في العراق، ولقد قال الله تعالى في مثل هؤلاء من المنافقين: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 47 - 51].
فنفى عنهم الإيمان - الذي يتظاهرون به - لتولّيهم عن طاعة الله ورسول صلى الله عليه وسلم ، في قوله: {وما أولئك بالمؤمنين}، وبين أنهم يعرضون عن التحاكم للإسلام إذا دعوا إليه، ويرغبون بالتحاكم إلى طواغيتهم - كالقوانين وغيرها - وأنهم لا يقبلون من شرع الله إلا ما وافق أهواءهم، فإذا وافق الحكم أهوائهم؛ انقادوا إليه.
ثم ذكر تعالى سبب إعراضهم عن شرع الله، فقال: {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور: 50]، أي أفي قلوبهم مرض النفاق والكفر؟ أم ارتابوا - أي شكّوا في الإسلام -؟ أم خافوا أن يظلمهم الله ورسوله في الحكم؟ بل أولئك المنافقون هم الظالمون المائلون عن الحق والعدل.
ثم بين حال المؤمنين في مقابل حال المنافقين، فقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].
فدلت الآيات على أن سوء الظن بشرع الله تعالى وإحسان الظن بأحكام الجاهلية؛ هو من صفات أهل النفاق من دعاة الديمقراطية الكافرة وغيرها.
وقد قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49 - 50]، فليس هناك إلا حكمان، حكم الله تعالى، وحكم الجاهلية - وهو ما خالف الإسلام من الأنظمة والأحكام - ولا يعلم حسن الإسلام إلا من عمر الله قلبه باليقين والإيمان، وأما من حجب فطرته وقلبه بالكفر والنفاق؛ فلا يؤمن برسالة الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان.(54/495)
وقد قال الله تبارك وتعالى مبيناً صفات من له الحكم والتشريع: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، فمن له الأمر والحكم والتشريع؛ هو المتصف بهذه الصفات العظيمة، الذي خلق السماوات والأرض ومن فيهما.
فمن نازعه التشريع والحكم؛ فقد طغى وتجاوز العبودية وطلب العبودية؛ فهو طاغوت.
وقال تعالى في صفات من له الحكم والتشريع: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى: 10 - 11].
قال العلامة الشنقيطي: (اعلم أن الله جل وعلا بيّن في آياتٍ كثيرةٍ صفاتِ مَنْ يستحق أن يكون الحكم له، فعلى كل عاقلٍ أن يتأمل الصفات المذكورة التي سنوضحها الآن - إن شاء الله - ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع - سبحان الله وتعالى عن ذلك! - فإن كانت تنطبق عليهم - ولن تكون - فليتبع تشريعهم، وإن ظهر يقيناً أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك؛ فليقف به عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية).
فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله: {فما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}، ثم قال مبيناً صفات من له الحكم: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى: 10 - 11].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية؛ من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور ويتوكل عليه؟! وأنه فاطر السموات والأرض - أي خالقهما ومخترعهما على غير مثال سابق -؟! وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجا؟! وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية؟! وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؟! وأن له مقاليد السماوات والأرض؟! وأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر - أي يضيقه - على من يشاء وهو بكل شيء عليم؟!
فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقبلوا تشريعا من كافرٍ خسيسٍ حقير ٍجاهلٍ.
ومن الآيات الدالة على ذلك؛ قوله تعالى: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26]، فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السموات والأرض؟! وأن يبالَغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصَرات؟! وأنه ليس لأحد دونه من ولي؟!
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]، فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق بأن يوصف بأنه الإله الواحد؟! وأن كل شيء هالك إلا وجهه؟! وأن الخلائق يرجعون إليه؟!
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 70 - 73]، فهل في مشرعي القوانين الوضعية من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة؟! وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار؟!(54/496)
ومن الآيات على ذلك؛ قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]، فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده؟! وأنّ عبادته وحده هي الدين القيم؟!
ومنها؛ قوله تعالى: {إنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]، فهل فيهم من يستحق أن يُتوكل عليه وتفوض الأمور إليه؟!
ومنها؛ قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49 - 50]، فهل في أولئك المشرعين من يستحق أن يوصف بأن حكمه بما أنزل الله؟! وأنه مخالف لاتباع الهوى؟! وأن من تولى عنه أصابه الله ببعض ذنوبه - لأن الذنوب لا يؤاخذ بجميعها إلا في الآخرة -؟! وأنه لا حكم أحسن من حكمه لقوم يوقنون؟!
ومنها قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق؟! وأنه لا يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه؟! لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم.
ومنها قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]، فقد أوضحت الآية أن المشرّعين غيرَ ما شرعه الله؛ إنما تصف ألسنتهم الكذب، لأجل أن يفتروه على الله، وأنهم لا يفلحون، وأنهم يمتعون قليلا ثم يعذبون العذاب الأليم، وذلك واضح في بعد صفاتهم مِنْ صفات مَنْ له أن يحلّل ويحرّم.
ولما كان التشريع وجميع الأحكام - شرعيةً كانت أو كونيةً قدريةً - من خصائص الربوبية، كما دلت عليه الآيات المذكورة كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله؛ قد اتخذ ذلك المشرع رباً وأشركه مع الله)، انتهى كلامه.
فاليهود والنصارى لن يرضوا عن المسلمين حتى يخرجوهم من الإسلام إلى الكفر - كالديمقراطية وغيرها - وقد بين الله تعالى حرصهم على إخراج المسلمين من دينهم في قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة: 120]، وقال تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]، وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم} [البقرة: 109]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيل. وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا} [النساء: 44 - 45].
فإنّ تَمَكُّنَ الأمريكان من إقامة نظامهم الديمقراطي الكافر على المسلمين في العراق؛ يعني أنهم قد حققوا أهدافهم، ومنها صرف عبودية المسلمين لله في الحكم والتشريع إلى غيره من الناس، ويقع المسلمون في نفس الخطأ السابق والانحراف الكبير، عندما تمكن الاستعمار في العالم الإسلامي من إزالة الإسلام وفرض أنظمة وقوانين النصارى على المسلمين، ثم تنصيب المرتدين حكاما لحماية أنظمةِ وقوانينِ ومحاكمِ النصارى.
فالواجب على المسلمين في العراق؛ أن يجاهدوا الأمريكان لتكون كلمة الله هي العليا، ولِيحكُم الإسلام في العراق، وليطهروا العراق من الصليبين، ومن أنظمتهم ورجسهم وفسادهم.
كما يجب أن ينفر المجاهدون من خارج العراق إلى العراق، حتى تحصل الكفاية وينصروا إخوانهم ويدفعوا المعتدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
=============(54/497)
(54/498)
تلقين الموحدين الرد على شبهات الديمقراطيين
إذا قالوا... فقل!
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا قالوا لك؛ إن المشاركة في الانتخابات البرلمانية واجبٌ دينيّ.
فقل لهم: إنكم تعنون بذلك إنها عبادة يؤجر فاعلها ويأثم تاركها؟!
فإن قالوا لك؛ نعم!
فقل لهم؛ إن الأصل في العبادات الحُرمة إلا مع قيام الدليل الشرعية عليها من الكتاب والسنة، واسألهم حينها؛ ما هو دليلكم على هذه العبادة؟!
فإن ذكروا لك ما جاء في الكتاب والسنة من الترغيب في الشورى، فقل لهم: إن الشورى غير الديمقراطية.
فإن قالوا لك: وما الفرق بينهما؟
فأجبهم قائلاً: الديمقراطية تقضي على المفهوم الصحيح للشورى، وذلك لأن الشورى تفارق الديمقراطية في عدة محاور، منها...
أولاً؛ أن الحاكم في الشورى هو الله، كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [الأنعام من الآية 57]، والدمقراطية بخلاف ذلك، فالحكم فيها لغير الله - أغلبية الشعب -
ثانياً؛ أن الشورى إنما هي في المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها ولا إجماع، والديمقراطية بخلاف ذلك، فهي تخوض في كل شيء، كتحريم الخمر - مثلاً - فلو أجمع أغلب الشعب على جوازه فهو جائز، ولا اعتبار لشريعة الله.
ثالثاً؛ أن الشورى في الإسلام محصورة في أهل الحل والعقد والخبرة والاختصاص، وليست الديمقراطية كذلك.
فإن زعموا أن هنالك بعض الآيات والأحاديث تجيز للمسلم طلب الولاية في الحكومات الكافرة.
فقل لهم؛ إعلموا أن النصوص الشرعية؛ قسمان، متشابه ومُحكم، وإن منهج أهل السنة والجماعة قائم على التعلق بالمحكم لا بالمُتشابه، وإن الله تعالى ذكر في القرآن؛ أن أهل البدع يتركون المُحكم ويتعلقون بالمُتشابه لزيغ قلوبهم؛ {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} [آل عمران: 7].
ثم أذكر لهم أن المُحكم من كتاب الله تعالى قد هَدَمَ ما تدعو إليه الديمقراطية.
فإن قالوا لك: فأين تجد ذلك من كتاب الله؟!
فقل لهم: إن دين الديمقراطية حوى مفاسد كيرة، حاربها القرآن الكريم، ومن ذلك...
1) إن من يسلك أو يتبنى النظام الديمقراطي؛ لا بُد له من الاعتراف بالمؤسسات والمبادئ الكفرية والتحاكم إليها، كـ "مواثيق الأمم المتحدة"، و "قوانين مجلس الأمن الدولي"، و "قانون الأحزاب"... وغير ذلك من القيود المخالفة لشرع الله، والله تعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} [النساء، من الآية: 60]، وإن لم يفعل كل ذلك مُنع من مزاولة نشاطه الحزبي، بحجة أنه متطرف، إرهابي، وغير مؤمن بالسلام العالمي والتعايش السلمي.
2) النظام الديمقراطي؛ يُعطل الأحكام الشرعية، من جهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر وأحكام الردّة والمرتدين والجزية والرق... وغير ذلك من الأحاكم، وهل القرآن الكريم إلا مجموعة من هذه الأحكام؟
3) الديمقراطية والانتخابات؛ تعتمد على الغوغائية والكثرة، بدون ضوابط شرعية، والله تعالى يقول: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} [الأنعام، من الآية: 116]، ويقول الله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف، من الآية: 187]، ويقول أيضاً: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ، من الآية: 13].
4) الديمقراطية؛ لا تُفرق بين العالم والجاهل، والمؤمن والكافر، فالجميع أصواتهم على حد سواء، بدون أي أعتبار للمميزات الشرعية، والله تعالى يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر، من الآية: 9]، ويقول الله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]، ويقول الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35].(54/499)
5) المجالس النيابية؛ طاغوتية غير مؤمنة بالحاكمية المطلقة لله، فلا يجوز الجلوس معهم فيها، لقول الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء: 140]، ولقول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]، وإن كل ما يمكن أن يُقال من تحقيق بعض المصالح من خلال الديمقراطية والانتخابات تظل مصالح جزئية أو وهمية، إذا ما قورنت ببعض هذه المفاسد العظيمة، فكيف بها كلها؟! وإن من ينظر بعين متجردة إلى بهض ما ذُطر؛ يتضح له بجلاء عَوج هذا السبيل الطاغوتي وبُعدها كل البُعد عن دين الله.
ثم اسألهم: ماذا جنيتم من ركضكم خلف الصليبين وأعوانهم؟! وماذا حصدتم من تسولكم على ابوابهم؟! وهل أغنى كل ذلك عن رئيس "الحزب اللا إسلامي العراقي" حينما داس الصليبي رأسه بحذائه؟!
وهل كان الصليبيون وأعوانهم من المرتدين يفرقون بين الديمقراطيين وعامة أهل السنة في الاعتقالات أو التعذيب داخل السجون؟!
ثم أخبرونا؛ ماذا فعلت تنازلاتكم التي قدمتموها لأعراض أخواتنا الحرائر اللاتي اُنتهكت في "أبي غريب"؟! وماذا فعلت لكلام ربنا الذي أُهين على مرأى العالم ومسمعه في مساجد"الغربية" وغيرها؟!
إن أمريكا وأوليائها من خلفها؛ لن يغفروا لكم أن تنتسبون للإسلام، وأنكم في يوم ما كنتم مسلمين، حتى وإن تبرأتم ألف مرة من دينكم وأنكرتم صلتكم بأهل "لا إله إلا الله".
ثم أخبرهم؛ أنه قد ثَبت بالاستقراء والتتبع، فشل هذا الطريق، وعدم جدواه، حيث خاض البعض هذه المسرحية الكُفرية في كثير من البلاد - كمصر والجزائر وتونس واليمن... إلخ - وكانت النتيجة معروفة؛ أحلامٌ وسرابٌ، فإلى متى نرضى بالخداع؟!
ثم ذكرهم أن هذا السبيل يهدف إلى احتواء الصحوة الإسلامية، وتغيير مسارها وإلهائها عن مهمتها الأساسية، والتغيير الجذري والشامل إلى الفتات والتعلق بالأوهام والخيالات.
فإن رجعوا عن باطلهم؛ فذلك فضل الله، وإلا فـ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56].
[تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين]
================(54/500)
(55/1)
المسلمون بين مطرقة الديمقراطية وسندان الديكتاتورية
الباب الخامس؛ لماذا نرفض الديمقراطية؟
إننا نرفض الديمقراطية شكلاً ومضموناً ليس لأسباب تتعلق بالعقيدة التي ندين بها, ولا الحكم الشرعي فيها فقط, ولا لما ذكرناه سابقاً, ولكن لغيرها من الأسباب وهي كثيرة نذكر منها:
أن الديمقراطية جاءت لسد الفراغ الهائل الذي حدث في أوروبا ودول الغرب بعد القضاء على الامبراطوريات والملكيات في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال وغيرها, وحدوث فراغ سياسي كبير, وكذلك القضاء على سلطة الكنيسة ورجال الدين النصارى, حيث كان الملك أو الامبراطور هو الذي يعيِّن الوزراء والمساعدين والولاة والمستشارين وقادة الجيوش... إلخ.
فأصبح لزاماً بعد زوال هذا النظام أن يقوم الشعب بنفسه عن طريق ممثليه باختيار من يشغل كل هذه المناصب, بدءاً من الرئيس وحتى عضو المجلس النيابي أو البلدي, فكان لابد لهم من تشكيل الأحزاب السياسية ومن ثم اختراع النظام الديمقراطي.
"فالديمقراطية ظهرت في أوروبا كنظام حاكم - إثر الثورة الفرنسية - نتيجة للظلم الكنسي، والإرهاب الفكري والجسدي الذي مارسته الكنيسة - بمقتضى اختصاصها بالحق الإلهي المقدس المزعوم - بحق الشعب، وبخاصة منهم العلماء والمفكرين الذين خالفوا الكنيسة في كثير من المسائل العلمية، حيث كانت لهم الاجتهادات والتفسيرات لبعض الظواهر العلمية التي تعارض وتغاير ما كانت عليه الكنيسة، وهذا أمر لم تكن الكنيسة - يومذاك - أن تتحمله أو تُطيقه، فحملهم ذلك على تصفية وتعذيب كل مخالف للكنيسة وتعاليمها؛ ومحاكم التفتيش وما كان يجري فيها من مجازر وقتل وتعذيب وحشي، وأحكام صورية ترعاها الكنيسة وتقوم عليها، ليست أخبارها عن المسامع ببعيدة...
في هذه الأجواء ظهرت الديمقراطية الحديثة، فجاءت ناقمة على تعاليم الكنيسة وكل شيء اسمه دين، ووقفت الموقف المغالي والمغاير لتعاليم الكنيسة، وما كانت تفرضه الكنيسة على العباد باسم الله، حيث كانت تزعم لنفسها الحق في التكلم نيابة عن الله، وهذا ليس لأحدٍ سواها!
فعملت الديمقراطية على نزع سلطة السيادة عن باباوات الكنيسة لتجعلها حقاً خالصاً لباباوات المجالس النيابية بزعم تقرير مبدأ سيادة الأمة والشعب، ففرت من سيادة مخلوق إلى سيادة مخلوق آخر، ومن ألوهية مخلوق إلى ألوهية مخلوق آخر؛ لكن في المرة الثانية جاءت ألوهية هذا المخلوق - بعيداً عن الكنيسة والدين - باسم الشعب والأمة كما زعموا!
فكانت الديمقراطية بذلك أول من تبنى عملياً مبدأ فصل الدين عن الدولة وعن الحكم والحياة، ورفعت الشعار المعروف: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) [8].
ونحن نعجب ولعلكم تعجبون معنا! كيف سارت البشرية هذه القرون الطويلة والأعمار المديدة منذ آدم عليه السلام إلى عهد قريب بدون "الديمقراطية"؟!
وكيف حققت البشرية قبل تطبيق النظام الديمقراطي - خاصة في زمن الخلافة الإسلامية - من التقدم الحضاري والمدني والمعماري, وخلَّفت من التراث الثقافي والاجتماعي والفني ما تعجز عن تحقيق معشاره أعتى الديمقراطيات الحالية؟
كيف تم كل ذلك بدون الديمقراطية, وما هي الضرورة لفرضها على الشعوب المسلمة إذن؟!
إنَّ أساس الحكم في الإسلام أن يوِّحد لا أن يفرِّق، يجمع الأمة تحت قيادة واحدة وراية واحدة، فمن ارتضته الأمة لقيادتها ووضعت فيه ثقتها, من حقه وقد حمل تلك الأمانة الثقيلة أن يختار مساعديه ونوابه ووزراءه وولاته, بالاستعانة بمستشاريه وخاصته وأهل الحل والعقد, وأن يجد الدعم الكامل من جميع أفراد وطبقات الشعب, لا أن تفرض عليه الحكومة فرضاً ومجلس شوراه قسراً, ثم بعد ذلك يعتبر هو المسؤول أمام الله ثم الأمة!
وتطبيق الديمقراطية يزيد الأمة تفرقاً وتشتتاً، ففوق تفرقها الدولي واللغوي والعرقي والطائفي والقبائلي, جاءت الديمقراطية لتقسِّّم الناس إلى شيع وأحزاب "رسميين" يتقاتلون فيما بينهم من أجل الكراسي وعضوية المجالس النيابية.
والله ينهى عن التفرق ويحذِّر من عاقبته الوخيمة في قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، ويقول تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
ولنا تجربة حية في أفغانستان زمن الاجتياح السوفيتي لأراضيها, عندما أجبرت الولايات المتحدة المهاجرين الأفغان إلى باكستان - وهم بالملايين - على الانتماء لأحد الأحزاب الرئيسة السبعة التى تم تشكيلها, وعلى رأس كل منها أحد القادة المجاهدين أو العلماء, وربطت استلام المساعدات والإقامة في المخيمات بتلك العضوية, ولعبت دوراً خطيراً في زيادة تجزئة الشعب وإدخال عنصر جديد للتناحر والاقتتال, ما بين: حزب وجمعية واتحاد وحركة... إلخ, ولا زالت أفغانستان تدفع ثمنه إلى الآن, وبعد أن كانت تعاني التقسيم العرقي فقط, أصبحت تعاني من الأمرين معاً.(55/2)
ونفس الشئ يحدث الآن في العراق من قيام قوات الاحتلال بإثارة النعرة الطائفية التي كانت ميتة على الساحة الداخلية, وهو أمر يهدد بزيادة عوامل التفرق في داخل المجتمع واحتمال قيام حرب أهلية ما بين السُّنة - الذين يتحملون أعباء المقاومة ضد القوات المحتلة وصاروا أقلية مستضعفة يستولي الشيعة على مساجدهم ويقتلون أئمتهم - والشيعة الذين يزعمون أنهم يمثلون أكثر من ثلثي الشعب العراقي ويريدون أن يلتهموا الغنيمة باردة.
وبين الأكراد الذين يطالبون بمدينة "كركوك" الغنية بالبترول لتكون عاصمة لهم, ويعدهم الأمريكان بمنحهم 6 محافظات كاملة, في إطار ما يسمى بـ "الفيدرالية"، والتركمان الذين تدعمهم تركيا بحكم الاشتراك في عرق واحد.
ثم إن الأصل في المؤمنين هو قيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والتعاون على البر والتقوى، لذلك لا يوجد شيء اسمه حكومة مقابل معارضة دائمة منظمة! فالحاكم أو الحكومة إنْ أحسنوا وجب على الجميع أن يكونوا معهم يداً واحدةً, وأن يعينوهم ما استطاعوا.
وإن أساءوا وجب النُّصح والتقويم على حسب التدرج الذي بَيَّنته الشريعة الغرّاء وسيرة الخلفاء الراشدين, والأئمة الفقهاء المخلصين, حتى لو وصل الأمر إلى حد تقويم ذلك الاعوجاج بالسيف.
وكما ذكرنا فإن الديمقراطية الصورية التي تطبق في بلاد المسلمين تعطي الحاكم "الشرعية" في أن يفرض ظلمه وطغيانه باسم القانون والدستور ودولة المؤسسات, وتتحمل الحكومة الوزر دائماً وتتم إقالتها وحل البرلمان كلما أصابت الأمة نكبة من النكبات أو مصيبة من المصائب, والحاكم آمن في قصره يداعب مساعداته أو حيواناته الأليفة التي يقتنيها, وقد يلجأ إلى التخلص من أقرب معاونيه ومستشاريه, لأن الكرسي لا يتسع إلا لشخص واحد, وطبقاً للقاعدة: "إنَّ الرئيس دائماً يضحي بجنوده بدلاً من أن يضحي بنفسه".
وإن أنس فلن أنس صورة الدكتور يوسف والي الأمين العام السابق للحزب الحاكم في مصر، الذي ظل يشغل المنصب لأكثر من عشرين عاماً, ثم يقف على شاشات التلفاز ليقول بكل ذلِّة وانكسار: (نحن جميعاً مثل السكرتارية عند سيادة الرئيس, الذي يقوله ننفذه), وذلك تعليقاً على الأنباء التي ترددت عن إقالته من منصبه بعد ذلك العمر الطويل من الخدمة المتفانية.
وكما أن ضحايا التغييرات الوزارية غالباً ما يكونون سيئين ويستحقون التغيير بل المحاكمة, فإنَّ كثيراً ما تحرم الأمة من جهود علماء أكفاء ووزراء موفقين خرجوا نتيجة حل المجالس النيابية بقرار من الرئيس في الوقت الذي تخلت الحكومة فيه عن دعمهم في الحملة الانتخابية وانقلبت عليهم, وهناك كفاءات لن تدخل الحكومة أبداً؛ إما لاستقلاليتها, أو لانتمائها للمعارضة, والخاسر هو الأمة!
كما أن دائرة السرقة والنهب والاختلاس والاستيلاء على المال العام تتسع, لأن كل عضو في المجالس النيابية أو الوزارة يأتي بطاقم جديد يدين له بالولاء والطاعة ومرتبط به, والجميع في سباق مع الزمن لتأمين مستقبل أولادهم وأحفادهم خلال أشهر معدودة تضاف بعدها إلى ألقابهم كلمة "سابق" - أي وزير سابق, نائب سابق,... إلخ -
خاصة إن كان هذا النائب أو الوزير أو غيرهما فقيراً أو وضيعاً فإنه "يُفْسِدُ بذلك الدين والدنيا, فإنه إذا كان رأس الناس من كان فقيراً عائلاً فصار ملكاً على الناس, سواء كان ملكه عاماً أو خاصاً, فإنه لا يكاد يعطي الناس حقوقهم, بل يستأثر عليهم بما استولى عليه من المال.
فقد قال بعض السلف: (لأن تمد يدك إلى تنين فيقضمها خير لك من أن تمدها إلى يد غني قد عالج الفقر).
وإذا كان مع هذا جاهلاً جافياً فسد بذلك الدين, لأنه لا يكون له همة في إصلاح دين الناس ولا تعليمهم, بل همته في جباية المال واكتنازه ولا يبالي بما فسد من دين الناس, ولا بمن أضاع من أهل حاجتهم) [9].
ولا للديمقراطية؛ لأنها تعطى الحصانة البرلمانية لكثير من المجرمين الذين ثبتت عليهم التهم ولكن لا يستطيع أحد محاكمتهم لأن ثلثي أعضاء المجلس على الأقل لم يصوتوا لصالح رفع الحصانة البرلمانية عنهم, وحتى لو رفعت عنهم الحصانة - لأسباب في بطن الحاكم - فإنهم لا يُعامَلون معاملة بقية المتهمين, وإنما تحدد إقامتهم في مستشفى مكيف الهواء أو ما شابه, ويسمح لهم بالخروج لأي أسباب عائلية أو سياسية أو بدعوى الحالة الصحية أو بمقايضة سياسية.
كما حدث مع آصف على زرداري - زوج رئيسة وزراء باكستان السابقة بينظير بوتو - ومعلوم أن وزير الداخلية الباكستاني الحالي آفتاب أحمد شيرباو كان في السجن وقت إجراء الانتخابات الأخيرة في باكستان عام 2002 بتهم تتعلق بالفساد! ووزير الإعلام الباكستاني الحالي شيخ رشيد أحمد مشهور بالفسق والفجور، ولذا يرفض الزواج!
ولا للديمقراطية؛ لأنها تقتل القيم الفاضلة في المجتمع، فالولاءات تباع وتشترى كما تباع أي سلعة, ولذا فإن كل الاقتراعات داخل المجالس تتم بصورة سرية حتى لا تفضح الصفقات التي تمت في الظلام وخلف الكواليس.(55/3)
ولو كانت هناك حرية فعلية ونزاهة وصدق مع النفس والآخرين؛ لكانت كل الاقتراعات علنية, يقف كل عضو في المجلس ليقول رأيه أو ينتخب من يريد بكل جرأة وشجاعة, حتى ولو كان مخالفاً لرأي حزبه واختياره, ولكنه التخطيط للتغطية على المنافقين والوصوليين والمرتشين.
والشعارات الرَّنانة المدوية تُكْتَم أنفاسها وتُبتلع دون ضجيج.
والكذب والنفاق والدياثة والجبن تصبح ذكاءً وتقدميةً وحنكة وبعد نظر.
وأعداء الأمس حلفاء اليوم.
وأقوال الكفر والرّدة من الساسة الآخرين تؤول على غير وجهها لمجرد التقاء المصالح والرغبة في التحالف.
والحكمة؛ "أبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما"... هي القانون المطبق من جميع الأحزاب والساسة, فلابد أن يجيد محترف السياسة والديمقراطية - السير على الحبال, والقفز في الهواء -
وذو الوجهين بل المائة وجه, هو السياسي المحنك والخبير بالعلاقات العامة.
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، فالخشوع والخضوع والصلاة على الرسو صلى الله عليه وسلم ، ونقر الصلوات المكتوبات أمام الحضور عند لقاء قادة الأحزاب الإسلامية، والكلام عن حلاوة الدين وضرورة تقنين أحكام الشريعة حتى تطبق في واقع المجتمع تدريجياّ, وهذا ما لا يحدث مع القوانين الوضعية المفروضة من أمريكا والغرب الصليبي أو من "الزعيم" التي يتم إقرارها وتنفيذها دون إبطاء أو تدريج!
ولا للديمقراطية؛ لأن الباطل يصبح فيها حقاًُّ يحتكم إليه. فرئيس الدولة أو الزعيم يشرِّع قوانين ومواد ينزلها منزلة الدستور, وتعد في نظر الشعب والمعارضة باطلة وترسخ هيمنته وسيطرته على الحكم, ثم يجري الانتخابات العامة استناداً إليها, وتشارك المعارضة في تلك الانتخابات حتى لا تترك الساحة للحزب الحاكم والأحزاب المتحالفة معه وحدهم.
فإذا طالب الأعضاء المنتخبون منهم بعد ذلك بتعديل أو إلغاء هذه القوانين وطعنوا في دستوريتها, قيل لهم: (أنتم ما جئتم إلى هذا المجلس وأقسمتم اليمين إلا بهذه القوانين, فإن زالت زلتم ولا كرامة).
واسألوا الباكستانيين عن مهزلة الـ LFO والتي كان مجلس العمل المتحد أحد أبرز اللاعبين فيها - وهي 29 قانوناً أعطاها الرئيس صفة الدستورية في غيبة المجالس النيابية بعد الانقلاب الذي قام به على حكومة نواز شريف الثانية, تمنحه السلطة المطلقة وتهمش دور الحكومة والمعارضة -
وكان أبرز قادة مجلس العمل يهددون قبل إجراء الانتخابات بالاستقالة من المجلس النيابي في حالة انتخابهم أعضاءً فيه, إذا لم يتم إزالة هذه القوانين "غير الدستورية"، ثم دارت الأيام وتم إقرار هذه القوانين كاملة بموافقة نواب مجلس العمل؛ إلا مادتان لا تقدمان ولا تؤخران، وهي تخلى الرئيس عن منصبه كقائد للجيش وكما كان متوقعاً لم يحدث ذلك بل على العكس قام بتشكيل ما يعرف بـ "مجلس الأمن القومي" - NSC - برئاسته ليحكم قبضته على مقاليد الأمور, ومن ثم ضمان الاستمرار في حكم البلاد لفترة رئاسية ثانية؛ بل ربما يعدّل الدستور ليسمح له بتولي الرئاسة لفترة ثالثة ورابعة كما يفعل زعماء العرب، والمادة الثانية التي تم تعديلها؛ هي اقتصار الرئيس على مد فترة خدمة قضاة المحاكم العليا لمدة عام واحد بدلاً من ثلاثة أعوام!
هذا في باكستان.
أما في العراق؛ فقد تابعنا جميعاً ما جرى من الضغط على أعضاء ما يسمى بـ "المجلس الانتقالي" للتوقيع على "الدستور الموقت" على ما فيه من بنود تمت صياغتها بطريقة توافقية مطاطية عائمة, في حين يجب أن تكون "قطعية الدلالة"، وهذا الدستور سيتولد عنه الدستور الدائم, وقد صاغته لجنة "غير منتخبة وغير شرعية"، لا عراقياً ولا دولياً - كما يصفها المحللون السياسيون - ولا يعرف الأمريكان الآلية التي سيتم بها تطبيق هذا الدستور, ولكن المهم عندهم هو رمي المسؤولية من على أكتافهم - ظاهرياً أمام العراقيين - مع الاحتفاظ بالسلطة الفعلية بأيديهم, وهو ما صرح به وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول دون مواربة.
ولا للديمقراطية؛ لأنها تفرض علينا أن نحترم حقوق الأقليات الدينية - خاصة النصارى والمشركين كالهندوس والقاديانيين وغيرهم - ونخصص مقاعد لهم في المجالس النيابية ولو كان عددهم لا يتجاوز بضعة آلاف، في الوقت الذي لا يُعْطى المسلمون حقوقهم ولا يخصص لهم مقعد واحد في المجالس النيابية في الدول الغربية والكافرة, حتى ولو كان عددهم بمئات الآلاف أو الملايين, ويعيشون في تلك البلاد منذ عشرات أو مئات السنين وتجنسوا بجنسيتها!
ولا للديمقراطية؛ لأنها تضيع هيبة الدين وأتباعه وتظهره بمظهر السلبية والاستسلام للأمر الواقع.(55/4)
فأقصى ما يستطيعه المنضوون تحت مظلة الديمقراطية للتعبير عن غضبهم واستنكارهم هو الخروج في مظاهرات منظمة بإذن مسبق من الحكومة وفي المكان الذي تحدده لهم، فيجتمعون ويهتفون ما شاءوا, ويلعنون من أرادوا, ويحرقون الدُّمى, ثم يعودون إلى هدوئهم واستكانتهم بمجرد الخروج من مكان التظاهر, أو انتهاء المهلة المحددة لهم.
وهذا ما أكده قاضي حسين أحمد "أمير الجماعة الإسلامية الباكستانية" في قوله: (قد لا تملك الأحزاب الدينية الباكستانية قوة انتخابية كبيرة, ولكن من حيث تأثيرها في المؤسسات الوطنية المختلفة فتملك خبرة طويلة لممارسة الضغوط الشعبية على الحكومة عبر تنظيم حركات احتجاجية سلمية كبيرة!).
ولهذا لم يكن مستغرباً ذلك الاستخفاف الذي تكلم به وزير الإعلام الباكستاني شيخ رشيد أحمد عن الأحزاب الإسلامية الباكستانية, والثقة المتناهية في تصريحه بأن الحكومة تعرف كيف تتعامل مع تلك الأحزاب إذا ما خرجت في مظاهرات ضد الغزو الأمريكي للعراق, وكيف أنها خرجت في مظاهرات عارمة عند الاجتياح الأمريكي للخليج عام 1991 بدون فائدة.
وهذا ما حدث فعلاً بعد بدء الهجوم الصليبي على العراق؛ حيث خرجت مسيرات ضخمة في جميع المدن الباكستانية الكبرى, ضمت الواحدة منها مئات الآلاف من البشر وكأنه يوم الحشر, ليستمعوا إلى خطب قادة الأحزاب الإسلامية والمعارضة, وادَّعى الخطباء أنهم على استعداد للذهاب إلى العراق للجهاد ضد القوات الأمريكية؛ بينما كانت القوات الأمريكية على بعد خطوات منهم في أكبر القواعد العسكرية الباكستانية تشن حرب إبادة ضد المسلمين في أفغانستان، وكأن الجندي الأمريكي الذي يدَنِّس أرض العراق ويقتل المسلمين هناك غير الجندي الأمريكي الذي يدَنِّس أرض باكستان ويقتل المسلمين فيها وفي أفغانستان؟!
فالمظاهرات السلمية هي الطريقة الوحيدة أمام الديمقراطيين للتعبير عن الرفض والاستنكار خارج قاعات المجلس النيابي.
أما في داخل المجلس فإن عضو المعارضة بين أربع خيارات, وهي بغيضة كلها في الإسلام, ولا تقبلها النفوس الأبية؛ إما أن يكون إمَّعةٌ، وإما أن يكون شيطاناً أخرس، وإما أن يكون عاجزاً، وإما أن يكون ذليلاً.
لأنه إن شارك في الاقتراعات وأمَّن مع المؤمِّنين على الحق والباطل فهو إمَّعة, لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يكن أحدكم إمَّعة يقول إن أحسن الناس أحسنتُ, وإن أساؤوا أسأتُ, ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا أن تتجنبوا إساءتهم).
وإن اكتفى بالسكوت والامتناع عن التصويت؛ فهو شيطان أخرس، لأنه سكت عن قول الحق.
يقول ابن القيم رحمه الله: (وأي دينٍ, وأي خيرٍ, فيمن يرى محارم الله تُنْتَهك, وحدوده تُضاع, ودينه يُترك, وسنة رسول ا صلى الله عليه وسلم يُرْغَب عنها, وهو بارد القلب ساكت اللسان, شيطان أخرس, كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق؟!
وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين. وخيارهم المتحزن المتلمظ, ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل, وجد واجتهد, واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة - باليد واللسان والقلب - بحسب وسعه, وهؤلاء - مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم - قد بُلوا في الدنيا بأعظم بَليةٍ تكون وهم لا يشعرون, وهو موت القلوب, فإنَّ القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى, وانتصاره للدين أكمل) [10].
وإن خرج من القاعة أثناء الاقتراع أو للتعبير عن استيائه, أو حتى استقال من المجلس، فهذه حيلة العاجز.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحقر أحدكم نفسه)، قالوا: يارسول الله! كيف يحقر أحدنا نفسه؟! قال: (يرى أمراً لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟! فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى) [سنن ابن ماجة].
وإن وقف وحده أو مع جماعته القليلة يتحدى التيار الجارف, ويحمِّل نفسه ما لا يطيق, ويسمع ما لا يحب, يكون قد أذل نفسه.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه)، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: (يتعرض من البلاء لما لا يطيق) [قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب].
ولا للديمقراطية؛ لأن داخلها "تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش"، فلابد من أن يشارك في اللعبة كاملة بكل مرارتها وهي كثير, وحلواها وهي قليل.
فلو صدر قانون بتخصيص مقاعد للنساء في المجالس النيابية, تقوم الأحزاب الإسلامية المشاركة في الديمقراطية بترشيح عدد من نسائها حتى تفوت الفرصة على النساء العلمانيات المواليات للحكومة من دخول المجلس, وفي نفس الوقت إثبات أنها تحترم حقوق المرأة, وتبرئة الساحة من التحجر - كما يروج أعداء الله - وليرى العالم النساء المسلمات متعلمات مثقفات محجبات ونائبات في المجالس النيابية.(55/5)
وبذلك نكون قد ابتلعنا الطعم وأخرجنا نساءنا من بيوتهن لغير ما خلقهن الله له, وسمحنا لهن بالاختلاط بالرجال الأجانب, ورفع الأصوات في المجالس العامة, ووافقنا على أن تكون المرأة قيمة على الرجال - وليس العكس - ووافقنا ضمناً على القوانين التي تسمح للمرأة بتولي الوزارة والإمامة العظمى, أي تطبيق شعار؛ "مساواة المرأة بالرجل في كل شيء"، من حيث لا ندري ولا نحتسب! وهذا تكذيب للقرآن وحكمه القطعي الدلالة بعدم مساواة شهادة الرجل بشهادة المرأة.
والمفروض في المرأة كما علمنا ربنا من خلال قصة موسي مع ابنة شعيب عليهما السلام أنها؛ {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ}.
وكما علمنا من سيرة رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه؛ نهى اثنتين من أمهات المؤمنين أن ينظرن إلى عبد الله بن أم مكتوم - وهو أعمى - فقلن: يارسول الله, أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أفعمياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه؟!) [رواه أبوداود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح].
فكيف للنائبة "المحترمة" ألا تنظر إلى الرجال وينظرون إليها, وكاميرات التلفاز والصحافة تلاحقها في كل مكان, وتجري معها الحوارات المطولة, لينظر إليها كل أحد ويدقق النظر, فيصرن فتنة للبر, ونهمة للفاجر؟!
فنحن لا نُسَرُّ برؤية صور النائبات المسلمات منقبات لا يرى منهن إلا العيون فوقها النظارات، فهذه ليست هي الدعاية المثلى لديننا ولا لتكريم المرأة فيه.
فصلاة المرأة في خدرها أفضل من صلاتها في وسط البيت, وصلاتها في وسط بيتها أفضل من صلاتها في المسجد, ومن ثَمَّ فهي أفضل قطعاً من صلاتها في قاعة مغلقة في مجلس النواب.
وكيف نستنصر بالمرأة التي وصفها ربها وخالقها أدق وصف وأبينه: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}.
فالزينة و "الماكياج" ملازمان للمرأة حتى تغطي النقص الذي تشعر به أمام قريناتها, والبكاء هو "أمضى أسلحتها" إن ضاق عليها الخناق ولم تستطع أن تدافع عن نفسها.
وأريد أن أسال: هل أفلحت الدول التي اختارت النساء "الحديديات" للرئاسة العامة أو رئاسة الوزارة حتى نختار من النساء من يتحكمون في رقابنا؟!
ثم أين هي حقوق المرأة المهضومة في الإسلام حتى تقاتل من أجلها, ويتاجر المتاجرون بمعاناتها ويستغلونها أسوأ استغلال؟!
إن حقوق المرأة ليست هي المهضومة وحدها الآن؛ بل حقوق المجتمع ككل، وحين تساس دول المسلمين بالإسلام, فلن تأخذ المرأة حقها كاملاً وحدها, ولا الأطفال والرجال المسلمون حقوقهم, بل ستأخذها الحيوانات وأتباع الديانات الأخرى الذين يعيشون بينهم كأهل ذمة أو مستأمنين.
فالمفروض أن الرجال هم الذين يقاتلون دفاعاً عن النساء وحقوقهن: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}.
والمصيبة أن الذين يطالبون النساء بالقتال من أجل الحصول على حقوقهن هم الذين بيدهم مقاليد الأمور, وهم الذين نهبوا حقوق الإنسان وانتهكوها, ثم يطالبونهم أن يقاتلوا الأجهزة والأنظمة التي صنعوها بأيديهم من أجل تلك الحقوق, ولينظروا إليهم في قتالهم الأعزل ضد هؤلاء الوحوش.
كما كان طغاة الرومان - في العصور الغابرة - يضعون السجناء وجهاً لوجه أمام الأسود الجائعة وسط الحلبة - الأرينا، A r ena - بينما يجلسون هم في المدرجات المحيطة بها, ويطالبون السجناء العزّل من السلاح بالدفاع عن حقهم في الحياة, ثم يشربون الخمر ويتمايلون طرباً ونشوةً وهم يرون الأسد يمزق فريسته حية ويقطعها إرباً إرباً!
أو كما تفعل "الدول الاستدمارية الكبرى" والطغاة عندما ينهبون ثروات الشعوب ويجيعونهم, ثم يرمون لهم فضلات موائدهم وما يكون قد فسد أو انتهت مدة صلاحيته من الطعام في مخازنهم, ويمتِّعون أعينهم بمنظر الناس يتقاتلون ويصارع بعضهم بعضاً من أجل كسرة خبز أو كيس طعام, وكاميرات وسائل الإعلام تسجل هذه المشاهد المأساوية وينشرونها على أنها عنوان على إنسانية هؤلاء الطواغيت, واستجابة منهم لنداء الضمير!
[8] من كتاب الديمقراطية لعبد المنعم مصطفى حليمة.
[9] جامع العلوم والحكم للإمام ابن رجب الحنبلي: ص58.
[10] إعلام الموقعين: 1372.
===============(55/6)
(55/7)
الديمقراطية بدعة العصر
[الكاتب: أبو محمد المقدسي]
الديمقراطية هي بدعة العصر التي انبهر بها كثير من أبناء جلدتنا الجهال المتعامين عن محاسن شريعتنا الغراء، المندحرين أمام بهرج الحياة الغربية الزائفة المتلقفين لقشور تلكم الحضارة بعجرها وبجرها، يريد أسيادهم اليوم فرضها على بلاد المسلمين فرضاً بمقاس خاص ومواصفات محددة ستعرف معالمها فيما يأتي، ومعلوم عند كل من يعرف حقيقة الديمقراطية ويفهم دين الإسلام وملة التوحيد أن الديمقراطية دين كفري لا يمت إلى الإسلام بصلة بل يناقضه ويعارضه ويضاده، وقد بينت ذلك وفصلته في رسالتي (الديمقراطية دين... ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه)، وعندما كتبت هذه الرسالة واخترت لها هذا العنوان كنت أقصد تحديداً حقيقة الديمقراطية وأصلها الذي يقوم على رد سلطة التشريع المطلقة للناس لا لرب الناس، وبينت أن هذا كفر بواح وشرك صراح لا يحل لمن شم رائحة التوحيد أن ينتهجه وكشفت شبه المموهين المجادلين عن الديمقراطية الملبسين الحق بالباطل والشورى بالديمقراطية، الساعين إلى تطهير الخلق والبلاد بالنجاسة، الحالمين بتحكيم شرع الله من خلال الكفر وبواسطة الإشراك، المستفتحين وظيفتهم الكفرية ونيابتهم الشركية بالقسم بالله العظيم على احترام الكفر البواح والإخلاص في الولاء لأعداء الله!! ويزيد بعضهم على ذلك سفهاً (وذلك في طاعة الله ورسوله!!).
============(55/8)
(55/9)
الديمقراطية
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
الديمقراطية Democ r acy كلمة مشتقة من لفظتين يونانيتين Demos الشعب، و K r atos سلطة. ومعناها الحكم الذي تكون فيه السلطة للشعب، وتُطلق على نظام الحكم الذي يكون الشعب فيه رقيباً على أعمال الحكومة بواسطة المجالس النيابية، ويكون لنواب الأمة سلطة إصدار القوانين [5]، وتتم عملية انتقاء القوانين والتشريعات بحسب اختيار الأكثرية لها من أعضاء مجلس النواب [6].
ومنه نعلم أن الديمقراطية تعني - عند أربابها وصانعيها - حكم الشعب نفسه بنفسه، وتعني اختيار الشعب، والاحتكام إلى الشعب عند حصول النزاع والاختلاف، فالشعب سلطة عليا لا تعلو سيادته سيادة، ولا إرادته إرادة بما في ذلك إرادة الله عز وجل [7]، التي لا اعتبار لها، وليست لها أية قيمة في نظر الديمقراطية والديمقراطيين!
والديمقراطية ظهرت في أوربة كنظام حاكم - إثر الثورة الفرنسية - نتيجة للظلم الكنسي، والإرهاب الفكري والجسدي الذي مارسته الكنيسة - بمقتضى اختصاصها بالحق الإلهي المقدس المزعوم - بحق الشعب، وبخاصة منهم العلماء والمفكرين الذين خالفوا الكنيسة في كثير من المسائل العلمية، حيث كانت لهم الاجتهادات والتفسيرات لبعض الظواهر العلمية التي تعارض وتغاير ما كانت عليه الكنيسة، وهذا أمر لم تكن الكنيسة - يومذاك - أن تتحمله أو تُطيقه، فحملهم ذلك على تصفية وتعذيب كل مخالف للكنيسة وتعاليمها؛ ومحاكم التفتيش وما كان يجري فيها من مجازر وقتل وتعذيب وحشي، وأحكام صورية ترعها الكنيسة وتقوم عليها، ليست أخبارها عن المسامع ببعيدة...
في هذه الأجواء ظهرت الديمقراطية الحديثة، فجاءت ناقمة على تعاليم الكنيسة وكل شيء اسمه دين، ووقفت الموقف المغالي والمغاير لتعاليم الكنيسة، وما كانت تفرضه الكنيسة على العباد باسم الله، حيث كانت تزعم لنفسها الحق في التكلم نيابة عن الله، وهذا ليس لأحدٍ سواها!
فعملت الديمقراطية على نزع سلطة السيادة عن باباوات الكنيسة لتجعلها حقاً خالصاً لباباوات المجالس النيابية بزعم تقرير مبدأ سيادة الأمة والشعب، ففرت من سيادة مخلوق إلى سيادة مخلوق آخر، ومن ألوهية مخلوق إلى ألوهية مخلوق آخر؛ لكن في المرة الثانية جاءت ألوهية هذا المخلوق - بعيداً عن الكنيسة والدين - باسم الشعب والأمة كما زعموا!
فكانت الديمقراطية بذلك أول من تبنى عملياً مبدأ فصل الدين عن الدولة وعن الحكم والحياة، ورفعت الشعار المعروف: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله [8].
وقالت: لله فقط الصلوات في زوايا المعابد والصوامع، وما دون ذلك فيم يتعلق بجميع مرافق الحياة السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، والتشريعية وغيرها من مجالات الحياة فهي ليست من خصوصيات الله، وإنما هي من خصوصيات قيصر المتمثل في صورة الشعب ومَن ينوب عن الشعب، فما لله لله، وما للشعب للشعب، وما يصل لله يصل للشعب؛ حيث للشعب كامل الصلاحيات والحق في التدخل في شؤون المعابد والمساجد وسياستها وغير ذلك مما جعلوه لله بزعمهم، بينما ما يصل للشعب فهو لا يصل إلى الله ولا يحق له البت فيه... تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً!
صدق الله العظيم: {فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون} [الأنعام: 136].
كذلك فإن الديمقراطية - كنظام ودين - قد أعطت تفسيراً خاصاً بها عن الوجود وواجب الوجود والحياة، وعن علاقة الإنسان بخالقه وغير ذلك.
فمن قال: (لا إله والحياة مادة)، قالت له الديمقراطية: لا ضير عليك، لك أن تعتقد في الله ما تشاء ما دمت ديمقراطياً، وهذه اسمها حرية الاعتقاد!
ومن اعتقد بخالق وإله للوجود، قالت له الديمقراطية: لك ذلك، لكن ليس لك أن تُكره الآخرين على اعتقادك، أو تنكر عليهم - بالقوة - اعتقادهم لو خالفوك في المعتقد، فكل منكم له الحرية في أن يعتقد في الله ما يشاء!
ثم لا يجوز لك إن كنت تؤمن بالله أن تجعل ما هو من صلاحيات الشعب لله... فما لله لله وما للشعب للشعب، والدين لله والوطن للجميع!
ومن أراد كذلك أن يقول ما يشاء، ولو كان قوله فيه سباً لله ولرسوله، فله ذلك وليس لأحدٍ أن ينكر عليه، وهذا اسمه - كما زعموا - حرية التعبير [9]!
ومن أراد أن يزني أو يشرب الخمر أو يفعل ما يشاء - ما لم يحظره القانون الوضعي - فله ذلك، وليس لأحدٍ أن ينكر عليه، وهذا اسمه عندهم الحرية الشخصية [10]!
ومن أراد أن يستغل أو يرابي أو يحتكر، أو يُقامر فله ذلك وليس لأحدٍ في ظل الديمقراطية أن ينكر عليه، لأن هذا عندهم يندرج تحت الحرية الاقتصادية، وحرية التملك والكسب!
لذا نجد أن الديمقراطية ثوب فضفاض يرتديه الجميع - لأنه يخول الجميع التفلت من كل قيد يقيد من نزواتهم وشهواتهم وأهوائهم، ويمكن كل فريق بأن يسير في الاتجاه الذي يهوى ويريد - فمن كان شيوعياً ملحداً لا يؤمن بالله تعالى يقول بالديمقراطية، ومن يؤمن بوجود الله - لكنه علماني - يقول بالديمقراطية، ومن كان وطنياً أو قومياً يقول بالديمقراطية.(55/10)
حتى وجدنا كثيراً من عوام المسلمين وخواصهم - وللأسف الشديد - يقولون بالديمقراطية، ويطالبون بها كنظام يحكم البلاد والعباد، ومن لم يصرح بها لفظاً يصرح بها معنىً وتلميحاً!
وهذا إن دل فهو يدل على الخواء العقدي الإيماني الذي تعاني منه الشعوب، والذي تم بعد ممارسة سياسة التفريغ؛ تفريغ القلوب من المحتوى الديني الإيماني العقدي، التي قامت بها الأنظمة الطاغية مع شعوبها، حتى أصبح الناس كالوعاء الخاوي الذي يستقبل كل شيء يُقذف فيه بغض النظر عن نوعية وجودة هذا الشيء الذي يقذف فيه!
لذا ما من كفر أو شذوذ أو شعار يرفع في الخارج وفي بلاد الكفر إلا ووجدنا صداه وأثره في الأمة وفي أخلاق أبنائها، ووجدنا من يتبناه من أبناء جلدتنا ويطالب به!
حتى حزب عبدة الشيطان فقد وجدنا في بلادنا من يدعو إلى هذا الحزب ويرفع راياته، ويمارس طقوسه، بل ما من شذوذ تقرف منه النفوس السوية ويأباه الشرع إلا ووجدنا من يمارسه في ديارنا.
وكل ذلك يدخل ويُصدر إلينا، ويُمارس تحت شعار الديمقراطية، والحرية التي تكفلها وترعاها الديمقراطية!
صدق رسول ا صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (لتتبعُنَّ سنن الذين من قبلكم شبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لاتبعتموهم )، قلنا يا رسول الله آليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟)، أي من يكون غيرهم! والحديث متفق عليه.
وفي رواية: (وحتى لو أن أحدهم ضاجع أمه بالطريق لفعلتم) [11] أي لوجد منكم من يفعل فعلتهم المشينة هذه!
* كتاب "حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية" أخذت بعض فصوله من كتابي "دعاة وقضاة" يسر الله طبعه وظهوره، هذه الفصول قد تحذف من الكتاب عند الشروع في طبعه إن شاء الله.
[5] محمد قطب، مذاهب فكرية معاصرة، ص178.
[6] المشرعون الحقيقيون في النظام الديمقراطي الحر هم أصحاب النفوذ ورؤوس الأموال، بحكم ما لهم من نفوذ واسع يمكنهم من دخول مجالس التشريع أو إيصال من يريدونه أن يصل، ومن ثم تأتي التشريعات والقوانين لصالحهم ولحماية مصالحهم من دون بقية فئات الشعب.
وفي مقابلة أُجريت مع المحامي الأمريكي رمزي كلارك يقول: لا شك في أن المال يتكلم في المحاكم الأمريكية، ولننظر إلى عقوبة الإعدام فإننا في أمريكا لم نعدم رجلاً غنياً في تاريخنا، ونعدم أربعة أشخاص كل أسبوع من الفقراء. وأن القضاء منحاز إلى الأغنياء لأن كلفة المحامين في أمريكا هائلة! صحافتنا الأمريكية تملكها وتتحكم فيها" البلوتوكراسي " أي الطبقة الثرية، وهؤلاء أيضاً يملكون ويتحكمون قي الحكومة الأمريكية... إن الولايات المتحدة ليست ديمقراطية لأن الشعب لا يختار، بل هو حكم الأثرياء يتحكم في الانتخابات، والحكومة والعسكر والإعلام.
إن لدينا حكومة أثرياء، وبعضهم يسمونها " أرستقراطية " ولكن الواقع أنها حكومة الأثرياء، والفقراء لا حقوق لهم أولا يتساوون مع الأثرياء الذين يملكون القوانين والسياسات الأمريكية، إن السياسة الخارجية الأمريكية هدفها خدمة مصالح الأغنياء الأمريكيين.ا-ه.عن مجلة المشاهد السياسي، عدد 66، 15-21 حزيران-1997، ص11-12.
قلت: وهذا كائن في دولة تزعم أنها سيدة العالم الديمقراطي في هذا العصر، فما يكون القول في الدول التي هي دونها؟!
[7] من الكفر الشائع ما يُردد على ألسنة كثير من الناس قول شاعرهم:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة ……فلا بدَّ أن يستجيب القدر
فجعلوا إرادة الله سبحانه تبعاً لإرادة الشعب التي لا يمكن أن تتخلف، ولا يمكن للخالق أن يردها!
وهذا عين الكفر، لأن الله تعالى فعال لما يريد ويحكم بما يريد، ولا مُكره له على شيء لا يريده، وإرادته تعالى غير مقرونة بأي إرادة أو قدرة، سبحانه وتعالى عما يصفون.
[8] رغم أن هذه المقولة كفر صريح، تقوم عليها دعائم النظام العلماني، فقد وجد من مشايخ السوء المقربين للطواغيت، من يحسنها ويثني عليها خيراً ويعتبرها مقولة حكيمة كما في أحد كتبه التي يعرِّف فيه السلفية كما يعتقدها حيث يقول: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، كلمة حكيمة تصلح لزماننا...ذلكم أن الانفصام بين الدين وبين الدولة صار أمراً مقضياً لا مرد له، ولا طاعن عليه، ولا محيد عنه! ا-ه.
[9] مثال ذلك عندما كتب الزنديق المرتد سلمان رشدي روايته المعروفة بآيات شيطانية التي تطاول فيها عل الذات الإلهية وكتبه ورسله، ونال من جناب سيد الخلقمحمد صلى الله عليه وسلم .
وعندما أنكر عليه المسلمون كفره وزندقته هذه، قال الديمقراطيون في الغرب: حرية التعبير - أياً كان نوع هذا التعبير - من الديمقراطية، والنيل من سلمان رشدي هو نيل من الديمقراطية ذاتها، والأنظمة التي تتبنى الديمقراطية!(55/11)
ومن الفوارق الملفتة للنظر أن دولة الروافض - التي يقوم دينها على شتم الصحابة وزوجات صلى الله عليه وسلم - كانت قد أهدرت دم المذكور سلمان، وخصصت لأجل ذلك المكافآت، ثم هاهم - الآيات - بعد زمن ليس ببعيد يعودون عن موقفهم، ويعلنون على الملأ تراجعهم عن حكمهم السابق في الزنديق المذكور وعفوهم عنه، وكأن حق الأنبياء ألعوبة بين أيديهم؛ مرة يعفون عن حق هو خاص ب صلى الله عليه وسلم لا بد فيه من القصاص، ومرة لا يعفون بحسب ما تقتضيه سياسة الصفقات والمصالح والمكاسب!
ونحن من قبل قلنا: إن هذا الموقف من إيران هو من باب كسب الرأي العام، وتصدير الثورة وأفكارها بين العوام والجهلة ممن لا يعرفون حقيقة أمرهم، وليس من باب الغضب لحرمات الله ورسول صلى الله عليه وسلم ... فما خاب ظننا فيهم!
[10] بعض الأنظمة الديمقراطية الحرة في الغرب، كبريطانيا والسويد وفرنسا وغيرها من البلدان الغربية قد رخصت بإنشاء جمعيات خاصة باللوطيين والسحاقيات تطالب بحقوقهم... بدعوى أنها حرية شخصية!
وأنا أكتب هذه الكلمات تطالعنا جريدة القدس بخبر مفاده أن ثلاثة وزراء في حكومة حزب العمل الحاكم في بريطانيا لوطيون وشاذون جنسياً وهم: نيك بروان وزير للزراعة، ورون ديفيز وزير لشؤون ويلز، وبيتر ماندلسون وزير الصناعة والتجارة...ثم تضيف الجريدة فتقول: وتضم حكومة بلير عدداً من الشواذ من ضمنهم وزير الثقافة كريس سميث الذي كشف عن شذوذه الجنسي قبل 11عاماً، ووزيرة البيئة انغيلا ايغل التي كشفت العام الماضي أنها سحاقية، فيما أعلن أربعة نواب آخرين عن شذوذهم الجنسي! اهـ. انظر جريدة القدس، عدد 2954، 9 تشرين الثاني، 1998، ص 20.
قلت: هذه الحكومة الهزيلة التي يغلب على كثير من أعضائها المرض والشذوذ الجنسي، هي من جملة الأدلة التي تدل على خطأ وبطلان الطريقة الديمقراطية في إفراز وتحديد من يحكم البلاد والعباد... فهل من معتبر؟!
[11] رواه الدولابي، والحاكم، سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1348.
والحديث فيه دلالة على حالة الضعف وفقدان الثقة بالنفس التي ستصيب الأمة، وعلى حالة القوة التي ستصيب أهل الكتاب كما هو ظاهر الآن في بلاد الغرب الصليبي... لأن هذا التقليد الأعمى الذي يشير إليه الحديث والذي يصيب الأمة لن يكون إلا من ضعيف عديم الثقة بالنفس نحو قوي ملك من القوة المادية والغنى الظاهر ما يبهر به عقول ونفوس الضعفاء، وأصحاب النفوس المهزومة...
والحديث من جملة الأحاديث التي تدل على صدق نبوت صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى
=============(55/12)
(55/13)
مناقشة مبادئ وأسس الديمقراطية
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
مهما حاول دعاة الديمقراطية بكل اتجاهاتهم وانتماءاتهم - الذين يعيشون بأجسادهم في بلاد المسلمين وبقلوبهم وعقولهم في بلاد الغرب والكفر - أن يكسو الديمقراطية الثوب الوطني المحلي، أو القومي، أو الديني فيحملونها من المعاني مالا تحتمل ولا تتسع له، فإن للديمقراطية مبادئ وأسساً تقوم عليها وترافقها أينما حلت وحكمت، تُعتبر من الثوابت التي لا يمكن تغييرها أو تجاوزها، والتي من دونها لا تُسمى الديمقراطية - في عرف المؤسسين لها - ديمقراطية.
فالديمقراطية على اختلاف تشعباتها وتفسيراتها تقوم على مبادئ وأسسٍ نوجز أهمها في النقاط التالية:
أولاً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات بما في ذلك السلطة التشريعية، ويتم ذلك عن طريق اختيار ممثلين عن الشعب ينوبون عنه في مهمة التشريع وسن القوانين، وبعبارة أخرى فإن المشرع المطاع في الديمقراطية هو الإنسان وليس الله!
وهذا يعني أن المألوه المعبود المطاع - من جهة التشريع والتحليل والتحريم - هو الشعب والإنسان والمخلوق وليس الله تعالى، وهذا عين الكفر والشرك والضلال لمناقضته لأصول الدين والتوحيد، ولتضمنه إشراك الإنسان الضعيف الجاهل مع الله سبحانه وتعالى في أخص خصائص إلهيته، ألا وهو الحكم والتشريع...
قال تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه} [يوسف: 40]، وقال تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحداً} [الكهف: 26]، وقال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيءٍ فحكمه إلى الله} [الشورى: 10]، وليس إلى الشعب أو الجماهير، أو الكثرة الكاثرة...
وقال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون} [المائدة: 50]، وقال تعالى: {قل أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً} [الأنعام: 118]، وقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21]، فسمى الذين يشرعون للناس بغير سلطان من الله تعالى شركاء وأنداداً...
وقال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} [المائدة: 49]، وقال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} [التوبة: 31].
جاء في الحديث عن عدي بن حاتم لما قدم على صلى الله عليه وسلم وهو نصراني، فسمعه يقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}. قال: فقلت له إنا لسنا نعبدهم - أي لم نكن نعبدهم من جهة التنسك والدعاء، والسجود والركوع، لظنه أن العبادة محصورة في هذه المعاني وحسب - قال: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلون "؟ قال: فقلت بلى. قال: (فتلك عبادتهم).
ونحوه قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا اللهَ ولا نُشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64]، أي ليكون - يا أهل الكتاب - اتفاقنا واجتماعنا على كلمة سواء بيننا وبينكم تتضمن توحيد الله تعالى وعبادته وطاعته، والتحاكم إليه سبحانه؛ فنحل حلاله ونحرم حرامه، وأن لا نجعل من الإنسان المخلوق مألوهاً مطاعاً نرد إليه النزاعات، ونعترف له بحقه في الحكم والتشريع، والتحليل والتحريم، فنتخذه بذلك رباً من دون الله تعالى.
وهذا النداء خُص به أهل الكتاب - من اليهود والنصارى - لأنهم عُرفوا بعبادتهم للأحبار والرهبان، واتخاذهم لهم أرباباً من دون الله من جهة خاصية التشريع والتحليل والتحريم...
وواضح أن الناس في الأنظمة الديمقراطية يتخذون بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، فهم فروا من عبادة الأحبار والرهبان إلى عبادة أحبار ورهبان أخرى تتمثل في أشخاص النواب، الذين أقروا لهم بحقهم - الذي لا يشاركهم فيه أحد - في التشريع، والتحليل والتحريم، وسن القوانين، وعلى العباد طاعتهم وامتثال أوامرهم في كل ما يصدر عنهم!
زعموا - كما يخيل إليهم - أنهم أحرار، وأنهم العالم الحر، وأنهم أسياد وهم في حقيقة أمرهم عبيد، عبيد لآلهة لا تُعد ولا تُحصى، هي أحط من نفوسهم، وأصغر منهم شأناً وقدراً!
تحرروا من عبادة الله القدير، ليعبدوا المخلوق الجاهل الضعيف في صور شتى، وتحت لافتات ومسميات براقة عديدة كلها تكرس مفهوم عبودية العبيد للعبيد... ثم بعد ذلك يزعمون زوراً وبهتاناً أنهم أحرار غير عبيد!
ورحم الله سيد قطب إذ يقول: إن الناس في جميع الأنظمة الأرضية يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، يقع في أرقى الديمقراطيات، كما يقع في أحط الديكتاتوريات سواء...(55/14)
إن أول خصائص الربوبية هو حق تعبيد الناس، حق إقامة النظم والمناهج والشرائع والقوانين والموازين، وهذا الحق في جميع الأنظمة الأرضية يدعيه بعض الناس في صورة من الصور، ويرجع الأمر فيه إلى مجموعة من الناس على أي وضع من الأوضاع، وهذه المجموعة التي تُخضع الآخرين لتشريعها وقيمها وموازينها وتصوراتها هي الأرباب الأرضية التي يتخذها بعض الناس أرباباً من دون الله، وإن لم يسجدوا لها ويركعوا، فالعبودية عبادة لا يتوجه بها إلا لله.
وقال: أظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية تعبيد العبيد، والتشريع لهم في حياتهم وإقامة الموازين لهم، فمن ادعى لنفسه شيئاً من هذا كله فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية، وأقام لنفسه للناس إلهاً من دون الله...
عندما يدعي عبد من العبيد أن له على الناس حق الطاعة لذاته، وأن كذلك حق إقامة القيم والموازين لذاته، فهذا هو ادعاء الألوهية، ولو لم يقل كما قال فرعون: {أنا ربكم الأعلى}، والإقرار به هو الشرك بالله أو الكفر، وهو الفساد في الأرض أقبح الفساد.
فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه فقد ادعى الألوهية اختصاصاً وعملاً، وأيما بشرٍ آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية سواء سماها باسمها أم لم يسمها...
إن الذي يملك حق التحريم والتحليل هو الله وحده، وليس ذلك لأحد من البشر، لا فرد ولا طبقة ولا أمة ولا الناس أجمعين إلا بسلطان من الله وفق شريعة الله [12].
ويقول الدكتور محمد حسين رحمه الله في كتابه "أزمة العصر": (والحاكمية في الإسلام لله، فكتاب الله وسنة رسوله مصدر الأحكام. بينما الأمة أو الشعب ممثلاً في نوابه هو عند الديمقراطية مصدر الأحكام، فالأمم محكومة في الإسلام بتشريع الله الحكيم العليم. وهي في الديمقراطية محكومة بقوانين صادرة عن شهوات الناس ومصالحهم. فالأحكام مستقرة دائمة في الإسلام، وهي متبدلة متغيرة لا تستقر في الديمقراطية) اهـ.
قلت: والإنسان في النظام الديمقراطي يكون كحقل التجارب، تُجرى عليه تجارب القوانين - التي لا تعرف الاستقرار أو الثبات - لتُعرف مدى صلاحيتها من فسادها، وإلى أن يُعرف هذا من ذاك تكون الضحايا والتكاليف باهظة الثمن، والذي يقدمها هو الإنسان.
ثانياً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية التدين والاعتقاد، فللمرء - في ظل الأنظمة الديمقراطية - أن يعتقد ما يشاء، ويتدين بالدين الذي يشاء، ويرتد إلى أي دين وقت يشاء، وإن كان هذا الارتداد مؤداه إلى الارتداد عن دين الله تعالى إلى الإلحاد وعبادة غير الله عز وجل!
وهذا أمر لا شك في بطلانه وفساده، ومغايرته لكثير من النصوص الشرعية، إذ أن المسلم لو ارتد عن دينه إلى الكفر، فحكمه في الإسلام القتل، كما في الحديث الذي يرويه البخاري وغيره: (من بدل دينه فاقتلوه " وليس فاتركوه... فالمرتد لا يصح أن يُعقد له عهد ولا أمان، ولا جوار، وليس له في دين الله إلا الاستتابة فإن أبى فالقتل والسيف [13].
وسيرة الصحابة - رضوان الله عليهم - مع المرتدين في حروب الردة وغيرها معروفة لدى الجميع.
ومعلوم كذلك أن الإسلام انتهى حكمه في أهل الكتاب، ومعهم المجوس كما هو الراجح، إلى إحدى ثلاث: إما الإسلام - والإسلام يجب ما قبله - وإما الجزية وهم صاغرون، وإما القتل والقتال.
أما الملحدون الذين يقولون: لا إله في الوجود والحياة مادة، ومعهم عبدة الأوثان والأصنام من العرب وغيرهم فليس لهؤلاء في دين الله إلا الإسلام أو القتل والقتال...
قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} [الأنفال: 39].
وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين أنه قال: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله).
وفي رواية عند مسلم: (من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله، حَرُمَ ماله ودمه وحسابه على الله).
وقال صلى الله عليه وسلم (بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم) [14].
وكذلك يوم نزول عيسى عليه السلام - كما دلت على ذلك السنة - فإنه يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويُسقط الجزية، ولا يقبل من مخالفيه - بما فيهم أهل الكتاب - إلا الإسلام، أو القتل والقتال...
أقول: على ضوء هذه الحقائق والنصوص، وغيرها من النصوص الشرعية ذات العلاقة بالمسألة يجب أن يُفهم قوله تعالى: {لا إكراه في الدين}، وليس كما يفعل لصوص العلم من خدَمَة الطواغيت حيث يقتطعون هذه الآية من مجموع النصوص ذات العلاقة بالموضوع، ليسوغوا وجود وحرية حركات الردة والإلحاد والزندقة الواسعة الانتشار في زماننا المعاصر...(55/15)
ثم أن الديمقراطية - كما يمارسها الديمقراطيون - إذ تقبل بحرية الاعتقاد والتدين، والانتقال من دين إلى دين، فهي لا تقبل ولا تسمح أن يرتد نظام أو شعب من دين الديمقراطية إلى أي دين أو نظام آخر، ولو حصل مثل هذا المكروه سرعان ما يعلنون الحرب والعداء، ويعملون الحصارات الاقتصادية وغيرها التي قد تبيد شعباً وجيلاً بأكمله، كل هذا من أجل عيون الديمقراطية، وحماية الديمقراطية!
أرأيت التناقض والتغاير، فما يجوز لهم لا يجوز لغيرهم، والممنوع عن غيرهم جائز لهم؟!
ثالثاً:
تقوم الديمقراطية على اعتبار الشعب حكم أوحد ترد إليه النزاعات والخصومات؛ فإذا حصل أي اختلاف أو نزاع بين الحاكم والمحكوم، أو بين القيادة والقاعدة نجد أن كلاً من الطرفين يهدد الآخر بالرجوع إلى إرادة الشعب، وإلى اختيار الشعب، ليفصل الشعب ما تم بينهما من نزاع أو اختلاف.
وهذا مغاير ومناقض لأصول التوحيد التي تقرر أن الحكم الذي يجب أن ترد إليه جميع النزاعات هو الله تعالى وحده، وليس أحداً سواه.
قال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10]. بينما الديمقراطية تقول: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الشعب، وليس إلى أحدٍ غير الشعب!
وقال تعالى: {يا أيها الذي آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النساء: 59]، والرد إلى الله والرسولل يكون بالرد إلى الكتاب والسنة...
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه "أعلام الموقعين" [1/50]: (جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء الآخر) اهـ.
فليحذر دعاة الديمقراطية بأي نار هم يلعبون؛ إنها نار الكفر والخروج من الإيمان لو كانوا يعلمون!
ثم أن إرادة التحاكم إلى الشعب أو إلى أي جهة أخرى غير الله تعالى، فهو يعتبر في نظر الشرع من التحاكم إلى الطاغوت الذي يجب الكفر به، كما قال تعالى: {ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به} [النساء: 60]، فاعتبر الله سبحانه وتعالى إيمانهم زعماً ومجرد ادعاء لا حقيقة له، لمجرد حصول الإرادة في التحاكم إلى الطاغوت، وإلى شرائعه؛ وكل شرع غير شرع الله تعالى، أو حكَمٍ لا يحكم بما أنزل الله فهو يدخل في معنى الطاغوت الذي يجب الكفر به.
قال ابن القيم رحمه الله في "أعلام الموقعين" [1/50]: (الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرةٍ من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله؛ فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته) اهـ.
قلت: هذا حال الناس في زمن ابن القيم رحمه الله، فكيف بزماننا الذي تعددت فيه الآلهة وتنوعت، واستشرفت لتفتن البلاد والعباد، وتصدهم عن دين الله باسم الديمقراطية المزعومة، وغيرها من الشعارات الدخيلة والمبتدعة؟!
رابعاً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية التعبير والإفصاح، أيَّاً كان هذا التعبير، ولو كان مفاده طعناً وسباً للذات الإلهية، وكتبه ورسله، إذ لا يوجد في الديمقراطية شيء مقدس يحرم الخوض فيه، أو التطاول عليه بقبيح القول. وأي إنكار على ذلك يعني إنكار على النظام الديمقراطي الحر برمته، ويعني تحجيم الحريات المقدسة في نظر الديمقراطية والديمقراطيين!
بينما هذا الذي تقدسه الديمقراطية فهو في نظر الإسلام يُعتبر عين الكفر والمروق، إذ لا حرية في الإسلام للكلمة الخبيثة الباطلة؛ الكلمة التي تفتن العباد عن دينهم وتصدهم عن نصرة الحق، الكلمة التي تفرق ولا توحد، الكلمة التي تعين على نشر الفجور والمنكر...
فكلمة هذا نوعها يؤخذ صاحبها في الإسلام بالنواصي والأقدام، غير الذي ينتظره يوم القيامة من عذاب أليم يكافئ جرمه.
قال تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم} [النساء: 148]، وقال تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} [إبراهيم: 24 - 26].
والكلمة الطيبة المراد منها هنا هي الكلمة الطيبة المباركة التي تؤتي ثمارها وفوائدها كل حين وعلى مدار الزمن؛ وهي كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وكل كلمة تعين على نشر الحق والفضيلة، والكلمة الخبيثة التي لا تعرف القرار ولا الثبات، ولا تعرف سوى الدمار والخراب، هي كلمة الشرك الظلم الأكبر، وكل كلمة تعين على نشر الباطل والرذيلة...(55/16)
وقال تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} [التوبة: 65 - 66].
روى ابن جرير بسنده عن عبد الله بن عمر قال: (قال رجل في غزوة تبوك في مجلس، ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء - يقصد أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم - أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق لأخبرنَّ رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فبلغ ذلك صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول ا صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول ا صلى الله عليه وسلم يقول: {أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}).
فانظر كيف أن هذا الرجل قال كلمة على وجه الخوض واللعب - بحق أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم - لم يلق لها بالاً، قد أوبقت به في الكفر، وخسر دنياه وآخرته.
قال القرطبي في التفسير [8/199]: (قيل كانوا ثلاثة نفر، هزئ اثنان وضحك واحد، فالمعفو عنه هو الذي ضحك ولم يتكلم. قال خليفة بن خياط في تاريخه: اسمه مخاشن بن حمير، وقيل إنه كان مسلماً، إلا أنه سمع المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم) اهـ [15].
وهذا الرجل الذي عُفي عنه كان يقول: اللهم إني أسمع آية أنا أُعنى بها تقشعر الجلود، وتجب منها القلوب، اللهم فاجعل وفاتي قتلاً في سبيلك، لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة فما من أحدٍ من المسلمين إلا وقد وجد غيره [16].
وكل هذا منه - رحمه الله - ليكفِّر عنه ما بدر منه من تبسم للذين سخروا من دين الله، فليحذر هؤلاء الذين يملؤون حياتهم بالاستهزاء والسخرية، والطعن بالدين ثم يحسبون أنفسهم بعد ذلك أنهم على شيء.
وقال تعالى: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا} [التوبة: 74]، وهذه آية نزلت في رجل من المنافقين قال كلمة وعبر عن رأيه الخبيث - كما تريد له الديمقراطية - عندما سمع رسول ا صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: لئن كان صادقاً فنحن شر من الحمير، فأتي به إلى الرسو صلى الله عليه وسلم ، فحلف وأنكر أنه لم يقل شيئاً، فنزل القرآن يكذبه ويكفره [17].
وفي السنة، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين حريفاً في النار) [18].
وفي الصحيحين: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)، وعند البخاري في صحيحه، قال صلى الله عليه وسلم (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقى لها بالاً يهوي بها في جهنم).
وقال صلى الله عليه وسلم (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه) [19].
فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم (لا يرى بها بأساً... ما يتبين فيها... لا يلقي لها بالاً... ما كان يظن)، كل هذا لم يكن مانعاً من لحوق الوعيد بصاحب الكلمة السيئة الخاطئة، وهو درس رادع لمن يوسع ساحة الأعذار على الفجار الطاعنين في الدين، من غير علمٍ ولا دليل.
وعن سفيان بن عبد الله قال: قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفس صلى الله عليه وسلم ثم قال: (هذا) [20].
وقال صلى الله عليه وسلم (من وقاه الله شرَّ ما بين لحييه وشرَّ ما بين فخذيه دخل الجنة) [21].
ومن حديث معاذ رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: (ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم) [22].
وقال صلى الله عليه وسلم (من قال في مؤمن ما ليس فيه، حُبس في ردغة الخبال، حتى يأتي بالمخرج مما قال) [23]، فما يكون القول فيمن يقول في الله تعالى ما ليس فيه، ويطعن بالدين، وبالأنبياء والرسل تحت زعم الحرية، كما تزين له الديمقراطية؟!
وفي الحديث المتفق عليه، قال صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
قال النووي رحمه الله: (اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة والسلامة لا يعدلها شيء [24].
فأين الديمقراطية من جميع ما تقدم التي تطلق للمرء الحرية في أن يطلق لسانه شرقاً وغرباً، وفي الاتجاه الذي يهوى ويريد، ومن غير حسيب ولا رقيب!(55/17)
والإسلام إذ يضع تلك القيود على اللسان درءاً للمفاسد والفتن، فإنه في المقابل يأمر المسلم بأن يطلق لسانه - من غير خوف ولا وجل - في بيان الحق، وفي نصرة الحق، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الإصلاح والبناء، كما يأمره بمواجهة ظلم الطواغيت وأن لا يسكت على جورهم أو كفرهم، وقد عد الإسلام الرجل الذي يقف أمام السلطان الجائر يأمره وينهاه، ويقول كلمة حق في وجهه فيقتله لذلك، من أفضل الشهداء يوم القيامة، وسيرة السلف الصالح مع سلاطين الجور عبر التاريخ خير شاهد ودليل على ذلك.
فحرية التعبير البنَّاء وفي الحق شيء، وهو ما يأمر به الإسلام، وحرية التعبير في الباطل، والكفر والشرك والمجون شيء آخر، وهو ما تأمر به الديمقراطية، ويأمر به الديمقراطيون!
خامساً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ فصل الدين عن الدولة، وعن السياسة والحياة، فما لله لله؛ وهو فقط العبادة في الصوامع والزوايا، وما سوى ذلك من مرافق الحياة السياسة والاقتصادية، والاجتماعية وغيرها فهي من خصوصيات الشعب... قيصر الديمقراطية.
{فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون} [الأنعام: 136].
وهذا القول منهم معلوم - من ديننا بالضرورة - فساده وبطلانه، وكفر القائل به لتضمنه الجحود الصريح لما هو معلوم من الدين بالضرورة.
فهو أولاً، جحود صريح لبعض الدين الذي نص على أن الإسلام دين دولة وسياسة، وحكم وتشريع وأنه أوسع بكثير من أن يحصر في المناسك أو بين جدران المعابد... وهذا مما لا شك فيه أنه كفر بواح بدين الله تعالى.
كما قال تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردون إلى أشد العذاب} [البقرة: 85]، وقال تعالى: {ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً أليماً} [النساء: 150].
وهذا الحكم - هم الكافرون حقاً - يشمل كل من يأتي بالشعائر التعبدية من صلاة وصوم، وحج وزكاة وغيرها، لكنه في الجانب الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، أو القضائي... تراه يؤثر ويقدم ديناً ومنهجاً آخر غير منهج الإسلام.
وهو ثانياً، عندما جحدوا بعضاً من الدين لزمهم أن يلتمسوا هذا الجانب الواسع الذي جحدوه من عند أنفسهم، فيأتون بالتشريعات والقوانين التي تضاهي شرع الله تعالى، أو أنهم يلتمسوها من عند غيرهم من الطواغيت والمشركين، فيتحقق فيهم صفة المتحاكم إلى الطاغوت الذي أمروا أن يكفروا به، وكلا الأمرين يعتبران من المزالق العقدية التي تخرج صاحبها من دائرة الإسلام، والأدلة على ذلك كثيرة لا تخفى القارئ المسلم، وقد تقدم بعضها.
سادساً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ الحرية الشخصية؛ فللمرء في ظل الديمقراطية أن يفعل ما يشاء، ويمارس ما يشاء... مالم يتعارض مع القانون الوضعي للبلاد.
وهذا قول معلوم بطلانه وفساده، لتضمنه تحليل ما حرم الله تعالى على العباد، وإطلاق الحرية للمرء في أن يمارس ما يشاء ويهوى من المعاصي والموبقات المحرمة شرعاً.
فالمرء في نظر الإسلام حريته مستمدة من الإسلام، وهي مقيدة بقيود الشرع وما يملي عليه من التزامات وواجبات وسنن، فليس للمسلم - إن أراد البقاء في دائرة الإسلام أو أن يسمى مسلماً - الحرية في أن يتجاوز حدود الإسلام وآدابه وتعاليمه، ويرتكب ما يشاء من المحظورات، ثم بعد ذلك يصبغ على تصرفه هذا الشرعية أو القانونية، أو أنه حقه الشخصي، ومن خصوصياته التي لا حق لأحدٍ أن ينكرها عليه، ويقول بعد ذلك أنه مسلم، يتدين بدين الإسلام، فالإسلام وهذا الشأن لا يجتمعان أبداً!
فمن لوازم الإيمان وشروطه التحاكم إلى شرع الله تعالى في كل كبيرة وصغيرة، وفي الأمور العامة والخاصة، والرضى بحكمه، والاستسلام له ظاهراً وباطناً من دون أدنى تردد أو تعقيب، ولا بد أن يتبع ذلك كله انتفاء مطلق الحرج والضيف، كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: 65].
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه "التبيان في أقسام القرآن": (أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح وتنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابل حكمه بالرضى والتسليم، وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض) اهـ.(55/18)
ولو أردنا أن نتتبع مصطلح الحرية في القاموس الإسلامي - هذه الكلمة التي سحرت الناس واستهوت الشعراء والكتاب، وأصبحت شعاراً وغاية لكثيرٍ من الحركات والأحزاب والتجمعات - لم نجدها استخدمت إلا في الموضع المغاير لمعنى العبد المملوك، فيقال: فلان عبد؛ أي مملوك لسيده، وفلان حر أي غير مملوك.
أما المعنى - للحرية - المراد في الديمقراطية، وعند كثير من الأحزاب والحركات التي تهوى ما يستهويه الناس، لتصرف وجوههم إليها دون غيرها، لم نجد له مكاناً في الإسلام، ولم يُستخدم في الكتاب أو السنة أو في قولٍ لسلف معتبر.
بل إننا نجد أن المسلم مقيد بقيود الشرع وتكاليفه، التي تتدخل في دقائق الأمور من حياة الإنسان؛ والتي تحدد له كيف يأكل، وكيف يشرب، وماذا يلبس من ثياب، وكيف ينام، وحتى كيفية الخراءة، وكيف يدخل بيت الخلاء وكيف يخرج منه، فضلاً عن الأمور العظام التي لها حكم الكليات والمصالح العامة، التي لم يتركها الإسلام سُداً لأهواء وآراء الرجال.
وهذا لا يعني بحال أن المسلم مسلوب الإرادة، أو أنه يعرف الذل والخنوع للظلمة والطواغيت، أو الجهل والرضى بالأمر الواقع البعيد عن هدي الله تعالى، لا، ولكن الذي أردناه وعنيناه أن حرية المسلم مستمدة من تعاليم الإسلام لا غيره، وهو يدور مع الشرع حيث دار، لا يخالفه في قليل ولا كثير، وهو له رسالة وغاية عظمى في هذه الحياة، لخصها الصحابي الجليل ربعي بن عامر عندما قال لملك الفرس: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة وخير الآخرة.
سابعاً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية تشكيل التجمعات والأحزاب السياسية وغيرها، أياً كانت عقيدة وأفكار وأخلاقيات هذه الأحزاب والجماعات!
وهذا مبدأ باطل شرعاً، وذلك من أوجه:
منها، يتضمن الإقرار والاعتراف - طوعاً من غير إكراه - بشرعية الأحزاب والجماعات بكل اتجاهاتها الكفرية والشركية، وأن لها الحق في الوجود، وفي نشر باطلها، وفسادها وكفرها في البلاد وبين العباد، وهذا مغاير ومناقض لكثير من النصوص الشرعية التي تثبت أن الأصل في التعامل مع المنكر والكفر إنكاره وتغييره، وليس إقراره والاعتراف بشرعيته.
قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} [الأنفال: 39].
قال ابن تيمية رحمه الله: (فكل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب جهادها، حتى يكون الدين كله لله، باتفاق العلماء).
وقال: (وأيما طائفة انتسبت إلى الإسلام، وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين حتى يكون الدين كله لله، كما قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة).
وقال: (فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، أنه يُقاتَل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشهادتين) اهـ.
قلت: إذا كان هذا حكم الطائفة التي تمتنع عن شريعة واحدة من شرائع الإسلام الظاهرة، فما يكون الحكم والقول في طوائف الكفر والردة والزندقة التي تمتنع عن جميع شرائع الإسلام، وتأبى أن تدخل في طاعة الله ودينه، وتتكلف المكائد في حرب الإسلام والمسلمين... لا شك أنها أولى بالقتال والإنكار، وليس بالاعتراف بشرعيتها أو الإقرار بحقها في أن تحكم البلاد والعباد.
وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم - أنه قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).
ومنها، أن هذا الاعتراف الطوعي بشرعية الأحزاب الكافرة، يتضمن الرضى - وإن لم يصرح بفيه أنه يرضى بحريتها - والرضى بالكفر كفر [25].
قال تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً} [النساء: 140].
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: (إن معنى الآية على ظاهرها، وهو أن الجل إذا سمع آيات الله يكفر بها ويُستهزأ بها فجلس عند الكافرين المستهزئين من غير إكراه ولا إنكار ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره فهو كافر مثلهم، وإن لم يفعل فعلهم لأن ذلك يتضمن الرضى بالكفر، والرضى بالكفر كفر. وبهذه الآية ونحوها استدل العلماء على أن الراضي بالذنب كفاعله، فإن ادعى أنه يكره ذلك بقلبه لم يُقبل منه، لأن الحكم على الظاهر وهو قد أظهر الكفر فيكون كافراً) اهـ [26].
قلت: والاعتراف طوعاً بشرعية الكفر، هو أكثر دلالة على الرضى بالكفر من مجرد الجلوس في مجالس الكفر والطعن بالدين من غير إكراه ولا إنكار ولا قيام.(55/19)
وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال في الإنكار على أهل المنكر: (فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". أي ليس وراء إنكار القلب حالة يثبت معها الإيمان؛ لأنه ليس وراء إنكار القلب سوى الرضى، والرضى بالكفر كفر كما تقدم.
قال ابن تيمية في الفتاوى [48/127]: (وذلك يكون بالقلب - أي تغيير المنكر - وتارة باللسان، وتارة باليد، فأما القلب فيجب بكل حال، إذ لا ضرر فيه، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن.
وقيل لابن مسعود من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً) اهـ.
ورحم الله سيد قطب حيث يقول: (ومجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضعٍ أو حكم من صنع غير الله، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله، فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه) [27].
ومنها، أن من لوازم الاعتراف بهذا المبدأ، السماح للأحزاب الباطلة بكل اتجاهاتها بأن تبث كفرها وباطلها، وأن تغرق المجتمع بجميع صنوف الفساد والفتن والأهواء، فنعينهم بذلك على هلاك ودمار البلاد والعباد.
وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري - أنه قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا - أي اقترعوا - على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلَها، فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجَوا ونجوا جميعاً).
وهؤلاء الذين هم في أسفلها هم الذين يمثلون في زماننا دعاة الديمقراطية، الذين يريدون أن يخرقوا السفينة بشبهاتهم وأهوائهم وباطلهم، ليغرقوها ويُغرقوا من فيها بما في ذلك أنفسهم هم بدعوى الحرية المزعومة التي تكفلها لهم الديمقراطية.
فالديمقراطية تقول وبكل وقاحة: دع الأحزاب تفعل ما تشاء، دعهم يمارسوا تدمير المجتمعات بما يشاؤون من المفاسد والفتن، والكفر والشرك، فهم أحرار، وحريتهم مقدسة، ليس لأحد أن يمنعهم أو يسلبهم حريتهم في ذلك، مهما كانت النتائج المترتبة من ذلك!
بينما صلى الله عليه وسلم انظروا ماذا يقول: (فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم - ضرباً وزجراً ونهياً - نجوا ونجوا جميعاً).
{فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} النور: 63].
ومنها، أن هذا المبدأ وهو حرية تشكيل الأحزاب السياسية وغيرها... يترتب عليه تفريق كلمة الأمة، وتشتيت ولاءات أبنائها في أحزاب وتجمعات متنافرة متباغضة متدابرة، ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا مغاير لقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} [آل عمران: 103]، ولقوله تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال: 46].
وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة) [28].
والنصوص هي كثيرة التي تأمر بالتزام الجماعة والتوحيد، وتنهى عن التفرق والاختلاف، سنأتي إلى ذكر بعضها - إن شاء الله - بشيء من التفصيل عند الحديث عن شرعية العمل الحزبي، وحكم الإسلام في التعددية الحزبية.
ثامناً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ اعتبار موقف الأكثرية، وتبنِّي ما تجتمع عليه الأكثرية، ولو اجتمعت على الباطل والضلال، والكفر البواح، فالحق - في نظر الديمقراطية الذي لا يجوز الاستدراك أو التعقيب عليه - هو ما تقرره الأكثرية وتجتمع عليه لا غير!
وهذا مبدأ باطل لا يصح على إطلاقه؛ حيث أن الحق في نظر الإسلام هو ما يوافق الكتاب والسنة قلَّ أنصاره أو كثروا، وما يخالف الكتاب والسنة فهو الباطل ولو اجتمعت عليه أهل الأرض قاطبة.
قال تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106]، وقال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} [الأنعام: 116].
فدلت الآية الكريمة أن طاعة واتباع أكثر من في الأرض ضلال عن سبيل الله تعالى، لأن الأكثرية على ضلال، ولا يؤمنون بالله إلا وهم يشركون معه آلهة أخرى.
وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما صُدق نبي من الأنبياء ما صُدقت، إن من الأنبياء من لم يصدقه من أمته إلا رجل واحد) [مسلم]. فإذا كانت الأكثرية هي دائماً على الحق - كما تقول الديمقراطية - فأين يكون موقع هذا النبي من الحق وما معه من أمته إلا الرجل الواحد؟!
وقال صلى الله عليه وسلم (بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء)، وفي رواية: قيل ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: (ناس صالحون قليل في ناسٍ سوءٍ كثير، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).(55/20)
وفي الصحيحين: (إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة). أي لا تكاد تجد فيهم من يتحمل أعباء السفر وتكاليف وتبعات طريق هذا الدين إلا واحد من كل مائة؛ وهذا دليل على شدة الغربة التي تكابد الطليعة من أهل التوحيد التي تألوا على نفسها أن تسير على طريق هذا الدين مهما تعاظمت التضحيات، وكانت التكاليف...
وقا صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح - : (يقول الله تعالى: يا آدم أخرج بعث النار قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لعمرو بن ميمون: (جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماع، والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك).
وقال نعيم بن حماد: (إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة فبل أن تفسد الجماعة، وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذٍ).
وقال حسن البصري: (فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لَقوا ربهم، فكونوا كذلك).
قال ابن القيم رحمه الله: (اعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان وحده، وإن خالفه أهل الأرض) [29].
وغيرها كثير من النصوص والآثار التي تدل على أن الأكثرية الغالبة هم على الكفر والشرك، والضلال والفسوق، وأن أهل الحق؛ (ناس صالحون قليل في ناسٍ سوء كثير، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)، وأن المعيار الصحيح لمعرفة الحق هو كل ما يطابق أو يوافق الحق المطلق المسطور في الكتاب والسنة، مهما قل أتباعه وأنصاره، وما سواه فهو الباطل والضلال ولو اجتمع عليه أكثر أهل الأرض.
ورغم كل ما تقدم نجد المخالفين من الإسلاميين البرلمانيين، يراهنون على أن الأكثرية ستكون إلى صفهم، وسوف يختارونهم دون سواهم، لأن أكثرية الجماهير على الحق، ويحبون الحق وأهله!
وقد تقدمت الإشارة إلى أن الحاكمين في النظم الديمقراطية لا يمثلون أكثرية الشعب؛ لتشتت أصوات الناخبين بين الاتجاهات والأحزاب المتعددة، ولتدخل عناصر النفوذ والتأثير في توجيه وتحديد اختيارات الناس لصالح فئة معينة من الناس تخدم فئة قليلة من أصحاب رؤوس الأموال ومصالح المتنفذين في المجتمع.
فالأكثرية، واختيار الأكثرية، وحرية الأكثرية... كذبة كبيرة اصطنعتها الأنظمة الديمقراطية، ليسهل ترويجها على الشعوب التائهة المضللة!
وهذا أمر بالنسبة لنا لا يهمنا كثيراً ولا قليلاً، لأن المعتبر الوحيد عندنا في الحكم على الأشياء بالصحة أو البطلان هو حكم الله تعالى، وما سواه إن ذكرناه فإنما نذكره على سبيل الاستئناس، ولبيان تناقضات القوم مع شعاراتهم الظاهرة، وبيان كذبهم على شعوبهم.
وفي تفسير قوله تعالى: {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213].
يقول سيد رحمه الله: (إن الإسلام يضع الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، يضع الكتاب قاعدة للحياة البشرية، ثم تمضي الحياة فإما اتفقت مع هذه القاعدة وظلت قائمة عليها، فهذا هو الحق. وإما خرجت عنها وقامت على قواعد أخرى فهذا هو الباطل... هذا هو الباطل ولو ارتضاه الناس جميعاً في فترة من فترات التاريخ، فالناس ليسوا هم الحكم في الحق والباطل، وليس الذي يقرره الناس هو الحق، وليس الذي يقرره الناس هو الدين...
إنَّ نظرة الإسلام تقوم ابتداءً على أساس أن فعل الناس لشيء، وقولهم لشيء، وإقامة حياتهم على شيء، لا تحيل هذا الشيء حقاً إذا كان مخالفاً للكتاب، ولا تجعله أصلاً من أصول الدين، ولا تجعله التفسير الواقعي لهذا الدين، ولا تبرره لأن أجيالاً متعاقبة قامت عليه) [30].
تاسعاً:
في الديمقراطية كل شيء - مهما سمت قداسته بما في ذلك دين الله - حتى ينال القبول عند القوم يجب أن يخضع للاختيار والتصويت، ورفع الأيدي وخفضها، والاختيار يقع دائماً - كما تقدم - على ما تجتمع عليه الأكثرية، وإن كان المختار باطلاً!
وهذا مبدأ - بصورته هذه - باطل شرعاً، الرضى به يفضي إلى الكفر والارتداد عن الدين، وذلك من أوجه:
منها، أن شرع الله تعالى - الحلال والحرام، الحق والباطل - لا يجوز أن يخضع إلى عملية الاختيار والتصويت، والرد والقبول إلا في حالة واحدة وهي أن يؤاثر القوم الكفر والخروج كلياً من دائرة الإسلام لله رب العالمين.
قال تعالى: {والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب} [الرعد: 41]، وقال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب: 36]، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لاتقدموا بين يدي الله ورسوله} [الحجرات: 1]، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 4].(55/21)
قال ابن القيم في "أعلام الموقعين" [1/51]: (فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم، وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه، أليس هذا أولى أن يكون مُحبطاً لأعمالهم) اهـ.
قلت: ولا يحبط العمل كلياً إلا الكفر والشرك، لقوله تعالى: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [الأنعام: 88]، وقال تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} [الزمر: 65]، وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} النور: 63]، والفتنة هنا يراد منها الكفر والشرك، لقوله تعالى: {والفتنة أشد من القتل} [البقرة: 191]، ولا شيء أشد من القتل بغير وجه حق إلا الشرك.
قال الإمام أحمد: (نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسو صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعاً)، ثم جعل يتلو: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة}، وجعل يكررها ويقول: (وما الفتنة؟ الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ، فيزيغ قلبه فيهلكه)، وقال: (وتدري ما الفتنة؟ الكفر. قال الله تعالى: {والفتنة أكبر من القتل} فيدَعون الحديث عن رسول ا صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي) اهـ.
ومنها، أن عملية التصويت والاختيار هذه تتضمن التسوية الصريحة بين شرع الله عز وجل وشرع الطاغوت، حيث كلاهما - في نظر القوم - يخضعان لعملية التصويت بالتساوي من دون تفريق بينهما، وكلاهما قابلان للأخذ والرد...
وهذا كفر صريح لمغايرته لقوله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36]، وقوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} [البقرة: 256].
وهو مغاير كذلك لقوله تعالى: {ولم يكن له كفُواً أحد} الإخلاص: 4]، وقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]، فكما أن الله تعالى ليس له كفؤاً ولا مثيلاً، ولا شبيهاً في ذاته وأفعاله، وصفاته سبحانه، فهو كذلك ليس له كفؤاً ولا مثيلاً ولا شبيهاً في حكمه وشرعه، وكما أن البشر جميعاً عاجزون عن أن يأتوا بكلام ونظم ككلام ونظم القرآن الكريم، فكذلك هم عاجزون - ولو اجتمعوا في صعيدٍ واحد - من أن يأتوا بحكم أو تشريع يوازي حكم وشرع الله تعالى.
ومنها، أن هذا التصويت يدل دلالة صريحة على تمكين القوم من رد حكم الله تعالى لو شاء المصوتون ذلك، وهذا - كما تقدم - يتنافى مع الإيمان ومتطلباته، كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: 65].
ومنها، أن عملية التصويت تتضمن الاستخفاف والتهكم بشرع الله ودينه، وهذا مغاير لما يجب لدين الله تعالى وشرعه من تعظيم وتوقير وإجلال، كما قال تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً وقد خلقكم أطواراً} نوح: 14]، وقال تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج: 32]، ومن أعظم شعائر الله تعالى التي يجب تعظيمها وتوقيرها كلامه، وأحكامه وشرعه سبحانه وتعالى.
عاشراً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ المساواة - في الحقوق والواجبات - بين جميع شرائح وأفراد المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم العقدية والدينية، والسيرة الذاتية لأخلاق الناس؛فيستوي في نظر الديمقراطية أكفر وأفجر وأجهل الناس مع أتقى وأصلح وأعلم الناس في تحديد من يحكم البلاد والعباد، وغيرها من الحقوق والواجبات!
وهذا النوع من المساواة لا شك في بطلانه وفساده؛ لمساواته بين الحق والباطل، وبين المتضادين المتناقضين، ومغايرته ومخالفته لكثير من النصوص الشرعية المحكمة، كما في قوله تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} [السجدة: 18]، وقال تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون} [القلم: 35]، وقال تعالى: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9]، وقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} [ص: 28]، وغيرها كثير من النصوص التي تدل على أن الفريقين لتناقضهما - في الاعتقاد والدين والخلق والسلوك - لا يمكن ولا يجوز أن يستويا، ومن يقول بخلاف ذلك لزمه تكذيب القرآن الكريم، وهذا عين الكفر البواح.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: (أن من لم يفرق بين اليهود والنصارى وسائر الكفرة وبين المسلمين إلا بالوطن، وجعل أحكامهم واحدة فهو كافر) [31].
قلت: هذا الكفر هو عين ما تقرره الديمقراطية في أدبياتها، ويمارسه الديمقراطيون على أرض الواقع [32].
حادي عشر: تقوم الديمقراطية على نظرية أن المالك الحقيقي للمال هو الإنسان، وبالتالي فله أن يكتسب المال بالطرق التي يشاء، كما له أن ينفق ماله بالطرق التي يشاء ويهوى، وإن كانت هذه الطرق محرمة ومحظورة في دين الله تعالى، وهذا ما يسمونه بالنظام الاقتصادي الحر، أو الرأسمالي الحر!(55/22)
وهذا بخلاف ما عليه الإسلام الذي يقرر أن المالك الحقيقي للمال هو الله سبحانه وتعالى ، وأن الإنسان مستخلف عليه، وهو مسؤول عنه أمام الله تعالى: كيف اكتسبه، وفيما أنفقه...
فالإنسان في الإسلام كما ليس له أن يكسب ماله بالحرام والطرق الغير مشروعة، كالربا، والرشوة والسحت، والمتاجرة فيما هو حرام وغير ذلك، كذلك لا يجوز له أن ينفق ماله في الحرام والطرق الغير مشروعة، أو أن يقع في التبذير والإسراف...
بل إن الإنسان في الإسلام لا يملك نفسه في أن يفعل بها ما يشاء بعيداً عن هدي الإسلام؛ لذلك عُدّ إنزال الضرر في النفس والانتحار من أكبر الكبائر التي يجازي الله عليها بالعذاب الشديد، وهذا المعنى نجده في قوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} [آل عمران: 26]، فالمالك الحقيقي للملك والمال هو الله سبحانه وتعالى وما سواه فهو مستخلف ومستأمن عليه، ومسؤول عنه أمام المالك الحقيقي للمال - يوم لا ينفع مال ولا بنون - كيف اكتسبه وفيما أنفقه، وهل أدى الأمانة فيه أم لا؟
كما في الحديث عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تزول قدما عبدٍ حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه) [33].
وقال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون} [التوبة: 111].
وهذا شراء ما يملك سبحانه وتعالى - خص به المؤمنين - إمعاناً في الكرم والجود والفضل، وترغيباً بالجهاد والاستشهاد.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعزي أحداً في مصابه، يقول له: (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى) [34]، وبالتالي ليس للإنسان أن يعترض على أخذ شيء منه هو لا يملكه، وإنما ملكه لغيره وهو الله سبحانه وتعالى.
بينما في الديمقراطية - كما تقدم - فإن الإنسان هو المالك الحقيقي للمال، وبالتالي فهو حر في كسبه، حر في إنفاقه كيفما يشاء؛ ولو أراد أن ينفق ماله كله على كلب أجرب وله من الأبناء عشرة أولاد فهو حر وله ذلك، ومن دون أن يجد من ينكر عليه!
إلى هنا ينتهي الحديث عن المبادئ والأسس التي تقوم عليها الديمقراطية.
نختتم الحديث عنها بكلام جيد للشيخ محمد قطب حيث يقول: (هذا هو الإسلام وهذه هي الديمقراطية في نظر الإسلام... ومن ثم فلا سبيل إلى مزج الإسلام بالديمقراطية، ولا سبيل إلى القول بأن الإسلام نظام ديمقراطي، أو أنه يتقبل النظام الديمقراطي أو يسايره، لمجرد وجود شبه عارض في بعض النقاط.
إن هذا الالتقاء العارض بين الديمقراطية والإسلام في الحقوق والضمانات، وفي مبدأ الشورى لا يجوز أن ينسينا حقيقتين مهمتين:
الحقيقة الأولى:
أنه لا ينبغي لنا - من الوجهة العقدية - أن نقرن النظام الرباني إلى نظام جاهلي، فضلاً عن أن نحاول سند النظام الرباني بنسبته إلى النظام الجاهلي، أو نتصور أننا نمتدح النظام الرباني بأن نقول أنه يحمل نقط التقاء مع النظام الجاهلي!
إنها الهزيمة الداخلية تندس إلى أفهامنا دون أن نحس، وتجعلنا نعتقد أن النظام الرباني في حاجة إلى دفاعنا نحن عنه وتبريره، كما تجعلنا نعتقد أننا نمتدح النظام الرباني بأن نقول للناس إنه يحتوي على الفضائل التي تحتوي عليها النظم السائدة اليوم!
إنها الهزيمة التي أصابت المسلمين في مواجهة الغرب الظافر المتغلب، الذي غلب على بلاد الإسلام، وما كانت لتوجد في نفوسنا لو أننا واثقون في أنفسنا مستعلون بالإيمان كما وجهنا الله: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.
والحقيقة الثانية:
أن هذا الشبه العارض في بعض النقاط لا يجوز أن ينسينا الفارق الضخم في القاعدة، إن القاعدة التي يقوم عليها الإسلام يختلف اختلافاً جذرياً عن القاعدة التي تقوم عليها الديمقراطية.
في الإسلام يُعبد الله وحده دون شريك، وتحكم شريعة الله عنواناً على التوحيد وتحقيقاً له في عالم الواقع.
وفي الديمقراطية يُعبد غير الله، وتحكم شرائع البشر عنواناً على عبادة غير الله وتوكيداً لها في عالم الواقع.
وفي الإسلام يُزكى الإنسان ليحتفظ بإنسانيته في أحسن تقويم، وفي الديمقراطية ينكس الإنسان فيهبط أسفل سافلين.
تلك فروق جوهرية في القاعدة، فما قيمة اللقاء العارض في بعض النقاط أيَّاً كانت القيمة الذاتية لتلك النقاط؟!
وفي العالم الإسلامي كتّاب ومفكرون ودعاة مخلصون مخدوعون في الديمقراطية.
يقولون: نأخذ ما فيها من خير ونترك ما فيها من شرور!
يقولون: نقيدها بما أنزل الله ولا نبيح الإلحاد ولا نبيح التحلل الخلقي والفوضى الجنسية!
إنها إذاً لن تكون الديمقراطية... إنما ستكون الإسلام!
إن الديمقراطية هي حكم الشعب بواسطة الشعب. إنها تولي الشعب سلطة التشريع، فإذا ألغي هذا الأمر أو قيد فلن تكون هي الديمقراطية التي تقوم بهذا الاسم.
واسألوا الديمقراطيين، قولوا لهم: نريد أن نحكم بما أنزل الله، ولا يكون للشعب ولا ممثليه حق وضع القوانين إلا فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة ولا إجماع من علماء المسلمين!(55/23)
قولوا لهم: نريد أن ننفذ حكم الله في المرتد عن دينه، وحكم الله في الزاني والسارق وشارب الخمر!
قولوا لهم: نريد أن نلزم المرأة بالحجاب، ونمنع التبرج، ونمنع العري على الشواطئ وفي الطرقات، ونريد في الوقت ذاته أن نكون ديمقراطيين!
اسألوهم وانظروا ماذا يقولون، سيقولون على الفور: إن هذه ليست الديمقراطية التي نعرفها، ففي الديمقراطية يشرع الناس في جميع الأمور لا يلتزمون في شيء منها بغير ما يريده الشعب - نظرياً على الأقل، وإن كانت الحقيقة كما أسلفنا أن الرأسماليين هم الذين يُشرعون من وراء ستار -
سيقولون: إن الديمقراطية لا تتدخل في الحرية الشخصية للأفراد، فمن شاء أن يرتد عن دينه فهو حر! ومن شاء أن يتخذ صديقة أو خليلة فهو حر! ومن شاءت أن تخون زوجها فهي حرة ما لم يشتك الزوج!
سيقولون: ابحثوا عن اسم آخر لما تريدون... اسم غير الديمقراطية!
فإذا كان كذلك فلماذا نصر نحن على تسمية نظامنا الذي نريده باسم الديمقراطية؟! لماذا لا نسميه الإسلام؟!
ولست أقول إن النظم الطغيانية التي حلت محل تلك الديمقراطيات المزيفة هي خير منها، كلا! وألف مرة كلا! فالطغيان الذي يعتقل عشرات الألوف، ويعذبهم أبشع تعذيب عرفته البشرية، ويقتل منهم من يقتل في محاكمات صورية أو داخل الأسوار بالتعذيب، هو شر خالص لا خير فيه.
ولكن أقول فقط: إن البديل ليس هو الديمقراطية... إنما هو الإسلام.
ومن كان يرى أن مشوار الإسلام مشوار طويل، وأن مشوار الديمقراطية أقصر منه وأيسر، فنحن نقول له: إن الديمقراطية ذاتها في سبيلها إلى الإنهيار، بما تحمل في طياتها من عِوَج وانحراف قائم في أصل النظام.
وسيبقى الإسلام... سيبقى لأنه دين الله... ولأن الله تكفل بحفظه... ولأنه هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذ البشرية كلها من ضلالها البعيد الذي لجت فيه) [35] انتهى.
وبعد...
هذه هي الديمقراطية باختصار، وهذه هي أهم المبادئ والأسس التي تقوم عليها، والتي من دونها تفقد الديمقراطية خصائصها ومعانيها، ومبررات وجودها، ولا تعد في عرف القائلين بها تُسمى ديمقراطية.
وبناء على ما تقدم: فإننا نقول جازمين غير مترددين ولا شاكين في أن الديمقراطية طاغوت كبير، حكمها في دين الله تعالى هو الكفر البواح الذي لا يخفى إلا على كل أعمى البصر والبصيرة، وأن من اعتقدها، أو دعا إليها، أو أقرها ورضيها، أو حسنها، أو عمل بها - على الأسس والمبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية الآنفة الذكر - من غير مانعٍ شرعي معتبر، فهو كافر مرتد عن دينه وإن تسمى بأسماء المسلمين، وزعم زوراً أنه من المسلمين المؤمنين، فالإسلام وحالٌ هذا وصفه لا يجتمعان في دين الله أبداً.
أما من كان يقول بالديمقراطية جاهلاً للمعاني والأسس - الآنفة الذكر - التي تقوم عليها الديمقراطية، فمثل هذا نرى الإمساك عن تكفيره بعينه مع بقاء القول بكفر قوله، إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية التي تبين له كفر الديمقراطية، ومناقضتها لدين الله تعالى، لأن الديمقراطية من المصطلحات والمفاهيم المستحدثة والمشكلة على كثير من الناس، التي يمكن أن يعذر فيها بالجهل إلى أن تقوم الحجة الشرعية التي بها يندفع جهل الجاهل.
وكذلك الذي يقول بالديمقراطية وهو لا يريد المعاني والأسس الآنفة الذكر، وإنما يستخدمها كمصطلح يريد بها الشورى، أو حرية التعبير والإفصاح عن الكلمة البناءة، أو رفع القيود والرقابة التي تمنع الناس من ممارسة حقوقهم الشرعية والأساسية في الحياة، وغير ذلك من التأويلات والتفسيرات الفاسدة التي لا تحتملها الديمقراطية أساساً، فمثل هذا -رغم خطئه - إلا أنه لا يكفر، ولا ينبغي أن يُكفَّر... هذا ما يقتضيه العدل والإنصاف، وتُلزم به قواعد الدين وأصوله.
والله تعالى أعلم
* كتاب "حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية" أخذت بعض فصوله من كتابي "دعاة وقضاة" يسر الله طبعه وظهوره، هذه الفصول قد تحذف من الكتاب عند الشروع في طبعه إن شاء الله.
[5] محمد قطب، مذاهب فكرية معاصرة، ص178.
[6] المشرعون الحقيقيون في النظام الديمقراطي الحر هم أصحاب النفوذ ورؤوس الأموال، بحكم ما لهم من نفوذ واسع يمكنهم من دخول مجالس التشريع أو إيصال من يريدونه أن يصل، ومن ثم تأتي التشريعات والقوانين لصالحهم ولحماية مصالحهم من دون بقية فئات الشعب.
وفي مقابلة أُجريت مع المحامي الأمريكي رمزي كلارك يقول: لا شك في أن المال يتكلم في المحاكم الأمريكية، ولننظر إلى عقوبة الإعدام فإننا في أمريكا لم نعدم رجلاً غنياً في تاريخنا، ونعدم أربعة أشخاص كل أسبوع من الفقراء. وأن القضاء منحاز إلى الأغنياء لأن كلفة المحامين في أمريكا هائلة! صحافتنا الأمريكية تملكها وتتحكم فيها" البلوتوكراسي " أي الطبقة الثرية، وهؤلاء أيضاً يملكون ويتحكمون قي الحكومة الأمريكية... إن الولايات المتحدة ليست ديمقراطية لأن الشعب لا يختار، بل هو حكم الأثرياء يتحكم في الانتخابات، والحكومة والعسكر والإعلام.(55/24)
إن لدينا حكومة أثرياء، وبعضهم يسمونها " أرستقراطية " ولكن الواقع أنها حكومة الأثرياء، والفقراء لا حقوق لهم أولا يتساوون مع الأثرياء الذين يملكون القوانين والسياسات الأمريكية، إن السياسة الخارجية الأمريكية هدفها خدمة مصالح الأغنياء الأمريكيين.ا-ه.عن مجلة المشاهد السياسي، عدد 66، 15-21 حزيران-1997، ص11-12.
قلت: وهذا كائن في دولة تزعم أنها سيدة العالم الديمقراطي في هذا العصر، فما يكون القول في الدول التي هي دونها؟!
[7] من الكفر الشائع ما يُردد على ألسنة كثير من الناس قول شاعرهم:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة ……فلا بدَّ أن يستجيب القدر
فجعلوا إرادة الله سبحانه تبعاً لإرادة الشعب التي لا يمكن أن تتخلف، ولا يمكن للخالق أن يردها!
وهذا عين الكفر، لأن الله تعالى فعال لما يريد ويحكم بما يريد، ولا مُكره له على شيء لا يريده، وإرادته تعالى غير مقرونة بأي إرادة أو قدرة، سبحانه وتعالى عما يصفون.
[8] رغم أن هذه المقولة كفر صريح، تقوم عليها دعائم النظام العلماني، فقد وجد من مشايخ السوء المقربين للطواغيت، من يحسنها ويثني عليها خيراً ويعتبرها مقولة حكيمة كما في أحد كتبه التي يعرِّف فيه السلفية كما يعتقدها حيث يقول: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، كلمة حكيمة تصلح لزماننا...ذلكم أن الانفصام بين الدين وبين الدولة صار أمراً مقضياً لا مرد له، ولا طاعن عليه، ولا محيد عنه! ا-ه.
[9] مثال ذلك عندما كتب الزنديق المرتد سلمان رشدي روايته المعروفة بآيات شيطانية التي تطاول فيها عل الذات الإلهية وكتبه ورسله، ونال من جناب سيد الخلقمحمد صلى الله عليه وسلم .
وعندما أنكر عليه المسلمون كفره وزندقته هذه، قال الديمقراطيون في الغرب: حرية التعبير - أياً كان نوع هذا التعبير - من الديمقراطية، والنيل من سلمان رشدي هو نيل من الديمقراطية ذاتها، والأنظمة التي تتبنى الديمقراطية!
ومن الفوارق الملفتة للنظر أن دولة الروافض - التي يقوم دينها على شتم الصحابة وزوجات صلى الله عليه وسلم - كانت قد أهدرت دم المذكور سلمان، وخصصت لأجل ذلك المكافآت، ثم هاهم - الآيات - بعد زمن ليس ببعيد يعودون عن موقفهم، ويعلنون على الملأ تراجعهم عن حكمهم السابق في الزنديق المذكور وعفوهم عنه، وكأن حق الأنبياء ألعوبة بين أيديهم؛ مرة يعفون عن حق هو خاص ب صلى الله عليه وسلم لا بد فيه من القصاص، ومرة لا يعفون بحسب ما تقتضيه سياسة الصفقات والمصالح والمكاسب!
ونحن من قبل قلنا: إن هذا الموقف من إيران هو من باب كسب الرأي العام، وتصدير الثورة وأفكارها بين العوام والجهلة ممن لا يعرفون حقيقة أمرهم، وليس من باب الغضب لحرمات الله ورسول صلى الله عليه وسلم ... فما خاب ظننا فيهم!
[10] بعض الأنظمة الديمقراطية الحرة في الغرب، كبريطانيا والسويد وفرنسا وغيرها من البلدان الغربية قد رخصت بإنشاء جمعيات خاصة باللوطيين والسحاقيات تطالب بحقوقهم... بدعوى أنها حرية شخصية!
وأنا أكتب هذه الكلمات تطالعنا جريدة القدس بخبر مفاده أن ثلاثة وزراء في حكومة حزب العمل الحاكم في بريطانيا لوطيون وشاذون جنسياً وهم: نيك بروان وزير للزراعة، ورون ديفيز وزير لشؤون ويلز، وبيتر ماندلسون وزير الصناعة والتجارة...ثم تضيف الجريدة فتقول: وتضم حكومة بلير عدداً من الشواذ من ضمنهم وزير الثقافة كريس سميث الذي كشف عن شذوذه الجنسي قبل 11عاماً، ووزيرة البيئة انغيلا ايغل التي كشفت العام الماضي أنها سحاقية، فيما أعلن أربعة نواب آخرين عن شذوذهم الجنسي! اهـ. انظر جريدة القدس، عدد 2954، 9 تشرين الثاني، 1998، ص 20.
قلت: هذه الحكومة الهزيلة التي يغلب على كثير من أعضائها المرض والشذوذ الجنسي، هي من جملة الأدلة التي تدل على خطأ وبطلان الطريقة الديمقراطية في إفراز وتحديد من يحكم البلاد والعباد... فهل من معتبر؟!
[11] رواه الدولابي، والحاكم، سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1348.
والحديث فيه دلالة على حالة الضعف وفقدان الثقة بالنفس التي ستصيب الأمة، وعلى حالة القوة التي ستصيب أهل الكتاب كما هو ظاهر الآن في بلاد الغرب الصليبي... لأن هذا التقليد الأعمى الذي يشير إليه الحديث والذي يصيب الأمة لن يكون إلا من ضعيف عديم الثقة بالنفس نحو قوي ملك من القوة المادية والغنى الظاهر ما يبهر به عقول ونفوس الضعفاء، وأصحاب النفوس المهزومة...
والحديث من جملة الأحاديث التي تدل على صدق نبوت صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
[12] الظلال: 1/407، وطريق الدعوة: 2/170و179.
[13] دلت السنة على أن المرتد نوعان: نوع يُقتل ولا يُستتاب وهو المرتد ردة مغلظة، ونوع يُستتاب قبل أن يُقتل وهو المرتد ردة مجردة، واستتابته سنة يُندب إليها لا تُحمل على الوجوب.
[14] رواه أحمد، والطبراني، وأبو يعلى، صحيح الجامع الصغير: 2831.(55/25)
[15] قد يرد سؤال: أين يكمن استهزاء المستهزئين بالله وآياته ورسوله، وهم لم يثبت عنهم سوى أنهم طعنوا واستهزؤوا بالصحابة رضي الله عنهم فقط، ولم يذكروا الله ورسوله بشيء؟! فالجواب: أنه لما أثنى الله تعالى خيراً على أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم ونزلت فيهم آيات عديدة من القرآن الكريم تبين ذلك، وكذلك لما ثبت رِضى صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وثناؤه عليهم بالخير، كان الذي يطعن بمجموع الصحابة كمن يطعن بالله وآياته ورسوله، لذا عُد من الكافرين.
والآية فيها فائدة: وهي أن من يطعن بمجموع الصحابة يكفر ويخرج من دائرة الإسلام، لتضمنه الطعن بالله تعالى وآياته ورسوله، بخلاف الطعن بآحاد الصحابة ففي تكفيره نظر وخلاف، وبحسب المراد.
[16] انظر تفسير ابن كثير: 2/382.
[17] وقيل في سبب نزول الآيات غير ذلك، انظر تفسير ابن كثير وغيره من كتب التفاسير المعتمدة.
[18] صحيح سنن الترمزي: 1884.
[19] رواه مالك في الموطأ، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، رياض الصالحين.
[20] رواه الترمزي، وقال حديث حسن صحيح، رياض الصالحين.
[21] رواه الترمذي وقال حديث حسن.
[22] رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
[23] رواه أبو داود وغيره، السلسلة الصحيحة: 437. وردغة الخبال: هي عصارة أهل النار، والردغ هو الطين الكثير، كما في النهاية.
[24] رياض الصالحين: 483.
[25] انظر إن شئت أدلة القاعدة " الرضى بالكفر كفر " بشيء من التفصيل في كتابنا قواعد في التكفير.
[26] مجموعة التوحيد: 48.
[27] طريق الدعوة في ظلال القرآن: 2/52.
[28] رواه الترمذي وغيره، صحيح سنن الترمذي: 1758.
[29] انظر تهذيبنا لشرح الطحاوية، ص 192.
[30] طريق الدعوة في ظلال القرآن: 2/32.
[31] السؤال الثالث من الفتوى رقم 6310، 1/145.
[32] من الذل والهوان الذي أصاب بعض التجمعات الإسلامية المعاصرة الديمقراطية أنها تطالب الطاغوت - بعد أن سلبهم حق المواطنة! - أن يسوي بينهم وبين جميع فئات المجتمع - على اختلاف مشاربها وانتماءاتها - في المواطنة، وأن يمنحهم فرصة العيش الكريم في الوطن كأي مواطنٍ آخر!
[33] صحيح سنن الترمذي: 1970.
[34] صحيح الأدب المفرد: 397.
[35] مذاهب فكرية معاصرة، فصل الديمقراطية.
=============(55/26)
(55/27)
فتوى بعض العلماء في الديمقراطية
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
وردت فتوى لبعض أهل العلم المعاصرين في الديمقراطية، جاء فيها قولهم: (الديمقراطية عند واضعيها ومعتنقيها: حكم الشعب نفسه بنفسه، وأن الشعب مصدر السلطات جميعاً، وهي بهذا الاعتبار مناقضة للشريعة الإسلامية والعقيدة، قال تعالى: {إن الحكم إلا لله}، وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، وقال: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}، وقال: {ولا يُشرك في حكمه أحداً}.
ولأن الديمقراطية نظام طاغوت، وقد أُمرنا أن نكفر بالطاغوت، قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}، وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}، وقال: {ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً}.
فالديمقراطية والإسلام نقيضان لا يجتمعان أبداً، إما الإيمان بالله والحكم بما أنزل الله، وإما الإيمان بالطاغوت والحكم به، وكل ما خالف شرع الله فهو من الطاغوت.
ولا عبرة بمن يحاول أن يجعلها من الشورى الإسلامية، لأن الشورى فيما لا نص فيه ولأهل الحل والعقد من أهل الدين والورع، والديمقراطية بخلاف ذلك كما سبق.
والتعددية فرع عن الديمقراطية، وهي قسمان: تعددية سياسية، وتعددية فكرية عقائدية.
أما التعددية العقائدية: فمعناها أن الناس في ظل النظام الديمقراطي لهم الحرية في أن يعتقدوا ما يشاؤون، ويمكنهم الخروج من الإسلام إلى أي ملة ونحلة أخرى حتى ولو كانت يهودية أو نصرانية، أو شيوعية أو اشتراكية أو علمانية، وتلك هي الردة بعينها، قال تعالى: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوَّل لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم}، وقال تعالى: {ومن يرتد منك عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}، وقال: {ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
وأما التعددية السياسية: فهي فتح المجال لكافة الأحزاب بغض النظر عن أفكارها وعقائدها لتحكم المسلمين عن طريق الانتخاب، وهذا فيه مساواة بين المسلم وغيره.
وهذا خلاف للأدلة القطعية التي تحرم أن يتولى المسلمين غيرهم، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً}، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، وقال: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون}.
ولأن التعددية تؤدي إلى التفرق والاختلاف الموجب لعذاب الله، قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}، وموجب أيضاً لبراءة الله ورسوله ممن يفعل هذا، قال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء}.
ومن حاول أن يجعل هذه التعددية تعددية برامج لا مناهج، أو على غرار الخلاف المذهبي بين علماء الإسلام، فالواقع يرده، ولأن برنامج كل حزب منبثق من فكره وعقيدته، فبرنامج كل حزب منبثق من فكره وعقيدته، فبرنامج الاشتراكي منطلق من مبادئ الاشتراكية، والعلماني الديمقراطي من مبادئ الديمقراطية... وهلمَّ جرَّا.
والانتخابات السياسية بالطريقة الديمقراطية حرام أيضاً لا تجوز، لأنه لا يُشترط في المنتخَب والناخب الصفات الشرعية لمن يستحق الولاية العامة أو الخاصة، فهي بهذه الطريقة تؤدي إلى أن يتولى حكم المسلمين من لا يجوز توليته ولا استشارته، ولأن المقصود بالمنتخَب أن يكون عضواً في مجلس النواب التشريعي والمجالس النيابية التي لا تحتكم إلى كتاب الله وسنة رسوله وإنما تتحاكم إلى الأكثرية، فهي مجالس طاغوتية لا يجوز الاعتراف بها، فضلاً عن أن يسعى المسلم إلى إنشائها ويتعاون في إيجادها وهي تحارب شرع الله، ولأنها طريقة غربية من صنع اليهود والنصارى ولا يجوز شرعاً التشبه بهم.
ومن يقول: إنه لم يثبت في الشرع طريقة معينة في اختيار الحاكم فمن ثَمَّ فلا مانع من الانتخابات يُقال له: ليس صحيحاً أنه لم يثبت ذلك في الشرع، فما فعله الصحابة من كيفيات الاختيار للحاكم فكلها طرق شرعية. وأما طريقة الأحزاب السياسية فيكفي في المنع منها أنه لا يوضع لها ضوابط، وتؤدي إلى تولية غير المسلم وليس أحد من الفقهاء يقول بجواز ذلك) اهـ.
================(55/28)
(55/29)
الديمقراطية دين
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
يُنكر علينا المخالفون من الإسلاميين البرلمانيين الديمقراطيين تسميتنا للديمقراطية بأنها دين، وأن من اعتقدها وتبناها من المسلمين، ودعا إليها هو في دين الديمقراطية وليس في دين الإسلام، فلزمنا البيان، وأن نرد القوم إلى مفهوم الدين في نظر الإسلام، ليدركوا في أي دين هم، وهل الديمقراطية تستحق هذا الإطلاق ولوصف أم لا؟
جاء في لسان العرب معنى كلمة الدين: الديَّان من أسماء الله عز وجل، معناه الحكم القاضي... والديان القهار؛ وهو فعَّال من دان الناس أي قهرهم على الطاعة. يقال دنتهم فدانوا أي قهرتهم فأطاعوا...
وفي حديث أبي طالب قال له عليه السلام: (أريد من قريش كلمة تدين لهم بها العرب " أي تطيعهم وتخضع لهم.
والدين: الجزاء والمكافأة... ويوم الدين: يوم الجزاء.
والدين: الطاعة، وقد دنته، ودنت له أي أطعته...
والدين: العادة والشأن... وفي الحديث: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله)، قال أبو عبيد: قوله " دان نفسه " أي أذلها واستعبدها، وقيل: حاسبها...
والدين لله من هذا إنما هو طاعته والتعبد له، ودانه ديناً أي أذله واستعبده، يقال: دِنتُه فدان...
وفي التنزيل العزيز: {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك}، قال قتادة: (في قضاء الملك)، والدين: الحال. والدين: ما يتدين به الرجل. والدين: السلطان. والدين: الورع. والدين: القهر. والدين: المعصية. والدين: الطاعة.
وفي حديث الحج: (كانت قريش ومن دان بدينهم) أي اتبعهم في دينهم ووافقهم عليه [37].
قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} [الأنفال: 39].
قال ابن تيمية رحمه الله: (والدين هو الطاعة، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله، وجب القتال حتى يكون الدين كله لله).
وقال: (الدين مصدر، والمصدر يُضاف إلى الفاعل والمفعول، يقال دان فلان فلاناً، إذا عبده وأطاعه، كما يقال دانه إذا أذله، فالعبد يدين لله أي يعبده ويطيعه، فإذا أُضيف الدين إلى العبد فلأنه العابد المطيع، وإذا أضيف إلى الله فلأنه المعبود المطاع) [38].
وقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21]، وقال تعالى: {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6].
قال المودودي: المراد بالدين في جميع هذه الآيات هو القانون والحدود، والشرع والطريقة، والنظام الفكري والعملي الذي يتقيد به الإنسان، فإن كانت السلطة التي يستند إليها المرء لاتباعه قانوناً من القوانين، أو نظاماً من النظم سلطة الله تعالى، فالمرء لا شك في دين الله عز وجل، وأما إن كانت تلك السلطة سلطة ملك من الملوك، فالمرء في دين الملك، وإن كانت سلطة المشايخ والقسوس فهو في دينهم. وكذلك إن كانت تلك السلطة سلطة العائلة أو العشيرة، أو جماهير الأمة، لا جرم هو في دين هؤلاء.
وفي قوله تعالى: {وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} غافر: 26].
قال رحمه الله: (وبملاحظة جميع ما ورد في القرآن من تفاصيل لقصة موسى عليه السلام وفرعون، لا يبقى من شك في أن كلمة الدين لم ترد في تلك الآيات بمعنى النحلة والديانة فحسب، أريد بها الدولة ونظام المدينة أيضاً، فكان مما يخشاه فرعون ويعلنه: أنه إن نجح موسى عليه السلام في دعوته، فإن الدولة ستزول وإن نظام الحياة القائم على حاكمية الفراعنة والقوانين والتقاليد الرائجة سيقتلع من أصله) [39].
وعليه ومن خلال ما تقدم من ذكر للمبادئ والأسس التي تقوم عليها الديمقراطية؛ فإننا ندرك يقيناً بأن الديمقراطية دين قائم بذاته، تدخل في معنى ومسمى الدين بكل ما تعني كلمة الدين من معنى؛ إذ هي طريقة في الحكم والحياة، لها تفسيرها وتصورها الخاص عن الوجود، تخضع لنظم وقوانين وأحكام لا بد لمعتقديها ومتبنيها من الدخول فيها، والتزامها وتنفيذها.
فالديمقراطية لها طرقها وأنظمتها الخاصة والمتباينة كل التباين عن هدي الإسلام؛ فهي طريقة خاصة في الحياة، وفي التعامل والتعايش، وفي علاقة الجنسين بعضهما مع بعض، وفي الحكم والسياسة، وفي القانون والقضاء، وفي الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وفي التربية والتعليم، حتى ممارسة الشعائر التعبدية لها نظرتها الخاصة بذلك... وهذا هو الدين، وإذا لم يكن هذا دين فأي شيء يُسمى دين؟!
وعليه فإننا نقول:
الديمقراطية تدخل في معنى الدين لغة واصطلاحاً، ومن يتدين بدين الديمقراطية مثله مثل من يتدين باليهودية، أو النصرانية، أو المجوسية أو غيرها من النحل والأديان، ولا فرق بينها حيث كلها تجتمع على تقرير عبادة العباد للعباد - وإن اختلفت الصور والأشكال - وعلى دخول العباد في دين العباد وجور الأديان، وليس في دين الله تعالى.
وهؤلاء الذين ينكرون علينا تسميتنا للديمقراطية بالدين، عليهم أن يقرؤوا القرآن من جديد، ويتفقهوا في التوحيد، ويراجعوا المفاهيم والمبادئ الأساسية لدين الله تعالى، هو خير لهم وأحسن...(55/30)
ومما يؤكد أن الديمقراطية دين، أن الغرب الصليبي الديمقراطي لم يعد يريد من المسلمين - على طريقة المبشرين الأوائل - أن يدخلوا في الديانة النصرانية، فهي غاية وجدوها صعبة المنال والتحقيق، وإنما يريد منهم أن يدخلوا في دينه الجديد؛ وهو دين الديمقراطية، لما يتحقق لهم - عن طريقه - من المكاسب والمغانم ما لم يتحقق لهم عن طريق التدين بدين الكنيسة، لذا نراهم يوالون ويعادون، ويُسالمون ويحاربون على الديمقراطية وأنظمتها، فمن دخل في دينهم الديمقراطية والوه وسالموه وأكرموه أيما إكرام، ورضوا عنه، ومن أبى وعصى عادوه، وحاربوه، وقاطعوه!
صدق الله العظيم: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير} [البقرة: 120]، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين. بل الله مولاكم وهو خير الناصرين} [آل عمران: 149 - 150].
[37] انظر لسان العرب: 13/166.
[38] الفتاوى: 28/544و15/158.
[39] انظر كتاب المصطلحات الأربعة في القرآن، ص125.
===============(55/31)
(55/32)
الديمقراطية والشورى
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
لتروج فكرة الديمقراطية على الناس، قالوا وزعموا - زوراً وتضليلاً للناس - أن الديمقراطية هي الشورى في الإسلام، ولا تغاير بينهما ولا تناقض، حيث كل منهما يدل على الآخر ويعطي معناه... وغير ذلك من الأقاويل الباطلة المزخرفة التي تأتي كلها من باب إلباس الحق بالباطل، وكتمان العلم على الناس رهبة من طاغوت، أو رغبة بالفُتات اليسير الذي يُرمى إليهم من قبل الطاغوت!
والله تعالى يقول: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} [البقرة: 42]، وقال تعالى: {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} [آل عمران: 71].
لذا تعين علينا أن نبين للقارئ أبرز الفوارق بين الديمقراطية والشورى، والتي منها:
1) الشورى كلمة عربية قرآنية جاء ذكرها والأمر بها في القرآن الكريم في أكثر من موضع، بينما الديمقراطية كلمة غربية، خبيثة المنبت والمنشأ، لا قرار لها ولا أصل ولا وجود لها في اللغة العربية، ولا في دين الله تعالى.
2) الشورى حكم الله تعالى، بينما الديمقراطية هي حكم الشعب، وحكم الطاغوت...
3) الشورى تقرر أن السيادة والحاكمية لله تعالى وحده، بينما الديمقراطية تقرر أن السيادة والحاكمية للشعب، وما يختاره الشعب...
4) الشورى تكون في مواضع الاجتهاد؛ فيما لا نص فيه، بينما الديمقراطية تخوض في كل شيء، وتحكم على كل شيء بما في ذلك النصوص الشرعية ذاتها، حيث لا يوجد في نظر الديمقراطية شيء مقدس لا يمكن الخوض فيه، وإخضاعه لعملية التصويت والاختيار...
5) تخضع الشورى لأهل الحل والعقد، وأهل الاختصاص والاجتهاد، بينما الديمقراطية تخضع لجميع طبقات وأصناف الناس؛ الكافر منهم والمؤمن، والجاهل منهم والعالم، والطالح والصالح فلا فرق، وكلهم لهم نفس الأثر على الحكم والقرار!
6) تهتم الشورى بالنوع والرأي الأقرب إلى الحق والصواب وإن خالف ذلك الأكثرية وما عليه الجماهير، بينما الديمقراطية تهتم بالكم والغثاء، وهي تدور مع الأكثرية حيث دارت، ولو كانت النتيجة مخالفة للحق موافقة للباطل!
7) ينبثق عن الشورى مجلس استشاري وظيفته استخراج أقرب الآراء إلى الحق وفق ضوابط وقواعد الشرع، بينما الديمقراطية ينبثق عنها مجالس تشريعية، لها صلاحيات التحليل والتحريم، وسن القوانين والتشريعات بغير سلطان من الله تعالى...
8) الشورى من دين الله تعالى، الإيمان بها واجب وجحودها كفر ومروق، بينما الديمقراطية دين الطاغوت، الإيمان به كفر والكفر به إيمان...
قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} [البقرة: 256].
9) الشورى - على القول الراجح - واجبة غير ملزمة، بينما الديمقراطية فإن الآراء التي تؤخذ عن طريقها - مهما كان نوعها وقربها أو بعدها عن الحق - فإنها ملزمة وواجبة ونافذة!
وبعد...
هذه هي أهم الفوارق بين الشورى والديمقراطية، ومنها يتبين أن الفارق بينها شاسع وكبير، وأنه لا لقاء بينهما في شيء، وزعم اللقاء بينهما في بعض الأوجه هو محض افتراء وكذب...
وللتذكير فإننا نقول: من يُسوي بين الشورى والديمقراطية، ويعتبرهما شيء واحد من حيث الدلالة والمعنى أو القيمة، مثله مثل من يسوي بين الخالق والمخلوق، وبين شرع الله تعالى ودينه وشرع الطاغوت ودينه، وعليه وعلى أضرابه يُحمل قوله تعالى: {قالوا وهم فيها يختصمون. تالله إن كنا لفي ضلالٍ مبين. إذ نسويكم برب العالمين} [الشعراء: 96 - 98].
==============(55/33)
(55/34)
استخدام الديمقراطية كمصطلح
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
يقول البعض عندما تواجههم بحقيقة الديمقراطية وما يترتب عليها من مزالق ومخالفات شرعية: نحن إذ نستخدم كلمة الديمقراطية إنما نستخدمها كمصطلح فقط، وأحياناً نستخدمها ونريد منها المعاني التي لا تتغاير ولا تتعارض مع تعاليم الإسلام، كما وأننا لا نريد باستخدامها المعاني والمبادئ المغايرة للإسلام، والتي تشيرون إليها عند حديثكم عن الديمقراطية!
وهذا قول باطل مردود على أصحابه، وذلك من أوجه:
منها، لا توجد ديمقراطية من دون هذه المبادئ والأسس التي تقدم ذكرها...
ومنها، أن هذا القول في الغالب يُراد منه تضليل الناس وتلبيس الحق عليهم، ليسهل على دعاة الديمقراطية تمرير باطلهم وأفكارهم الديمقراطية المغايرة لشرع الله، وهذا يدركه القارئ من خلال اطلاعه على الأوجه الأخرى التالية الذكر...
ومنها، أن الديمقراطية - كما تقدم - لا تنطوي إلا على الشر المحض، وهي قلباً وقالباً تخالف وتضاد شرع الله تعالى، فكيف يجوز استخدامها وحملها على معانٍ شرعية هي لا تحتملها أصلاً، لذا لم يبق سوى أن نقول: أن استخدامها من هذا الوجه هو من باب إلباس الحق بالباطل، وتحميل المعاني ما لا تحتمل، والنتيجة هي تشويه عقائد الناس وأفكارهم!
ومنها، أن هذه الديمقراطية - كما زعموا - التي لا تخالف شرع الله، ولا تحلل الحرام، ولا تحرم الحلال، فهي بذلك لم يعد اسمها - في عرف المؤسسين لها والقائلين بها - ديمقراطية، وليبحثوا عما هم عليه عن اسم آخر غير الديمقراطية، ولا أظن اللغة العربية لغة القرآن الكريم قد خلت من المفاهيم والمصطلحات التي تغنينا عن استخدام كلمة الديمقراطية وهذا معنى ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.
ومنها، بشيء من التأمل ندرك أن الممارس على أرض الواقع من قِبل الإسلاميين البرلمانيين، هو مخالف تماماً لما زعموا وقالوا، حيث أننا نجدهم يمارسون الديمقراطية بمعناها المغاير والمخالف لشرع الله تعالى، يمارسونها بمبادئها وأسسها الآنفة الذكر في أول بحثنا هذا، وبالتالي لا قيمة البتة لما زعموا وقالوا ما دام زعمهم يرده لسان الحال، وواقعهم العملي الممارس على أرض الواقع.
ومنها، أن هذا القول مخالف لما هو ثابت في أدبيات القوم ومنشوراتهم، وبياناتهم الخاصة بهم.
فانظر مثلاً ما يقول الشيخ أحمد ياسين مسؤول الإخوان المسلمين في فلسطين في أجوبة على أسئلة وجهت إليه.
سؤال: ولكن الشعب الفلسطيني يريد دولة ديمقراطية... وأنت لماذا تعانده؟
جواب: وأنا أيضاً أريد دولة ديمقراطية متعددة الأحزاب، والسلطة فيها لمن يفوز في الانتخابات!
سؤال: لو فاز الحزب الشيوعي، فماذا سيكون موقفك؟
جواب: حتى ولو فاز الحزب الشيوعي فسأحترم رغبة الشعب الفلسطيني!
سؤال: إذا ما تبين من الانتخابات أن الشعب الفلسطيني يريد دولة ديمقراطية متعددة الأحزاب، فماذا سيكون موقفك حينئذٍ؟
جواب: رد الشيخ ياسين غاضباً: والله نحن شعب له كرامته وله حقوق، إذا ما أعرب الشعب الفلسطيني عن رفضه للدولة الإسلامية... فأنا أحترم وأقدس رغبته وإرادته! [40].
فتأمل، فهو يحترم رغبة الشعب الفلسطيني إذا ما اختار الشيوعية والكفر والإلحاد، ومن جهة أخرى فهو كذلك يحترم ويقدس رغبة الشعب الفلسطيني إذا ما أعرب عن رفضه لدين الله تعالى؟!
فإذا لم تكن هذه هي الديمقراطية التي تضاهي شرع الله، وتضاد الدين والتوحيد، فماذا تكون؟!
وفي بيان وزع للإخوان المسلمين، يقولون فيه [41]:
الإخوان المسلمون يرون الناس جميعاً حملة خير!
التعليق: [بما في ذلك اليهود والنصارى، والشيوعيين، وجميع أحزاب الكفر والردة والزندقة... لأن قولهم" الناس جميعاً " يشمل جميع هؤلاء وغيرهم... فتأمل!].
ونحن الإخوان المسلمون نقول دائماً: إننا دعاة ولسنا قضاة، ولذا لا نفكر ساعة من زمان في إكراه أحد على غير معتقده أو ما يدين به!
التعليق: [إنها نفس حرية الاعتقاد والتدين التي تنادي بها الديمقراطية الكافرة، ولتي تتضمن وتشمل حرية ارتداد المسلمين عن دينهم ولو شاؤوا... ثم هم دائما دعاة وليسوا قضاة، لا يحكمون على الأشياء بحكم الله، لأن هذا ليس من اختصاصهم ولا من دعوتهم، فهم يقولون هذا حق وهذا باطل، أما هذا محق وهذا مبطل، وهذا كافر وهذا مؤمن، فهذا ليس من اختصاصهم ولا اهتماماتهم، ولا يجوز الاشتغال به... فتأمل!].
وموقفنا من إخواننا المسيحيين في مصر والعالم العربي، موقف واضح وقديم ومعروف، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وهم شركاء في الوطن، وأخوة في الكفاح الوطني الطويل، لهم كل حقوق المواطن المادي منها والمعنوي، المدني منها والسياسي، والبِر بهم والتعاون معهم على الخير فرائض إسلامية، لا يملك مسلم أن يستخف بها أو يتهاون في أخذ نفسه بأحكامها، ومن قال غير ذلك فنحن برآء منه ومما يقول ويفعل!(55/35)
التعليق: [نقول: هنيئاً لكم أخوتكم للنصارى الصليبين... ثم هنيئاً لكم ذلك الوثن الكبير الذي أسميتموه الوطن، الذي توالون وتعادون فيه، وتقسمون الحقوق والواجبات على أساس الانتماء إليه، فالنصارى لهم كامل الحقوق المادية منها والمعنوية، المدني منها والسياسي ما داموا ينتمون إلى الوطن!
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [المائدة: 51]، وقال تعالى: {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون} [المائدة: 81]، فدلت الآية الأولى أن متوليهم هو منهم، ودلت الآية هنا أن متوليهم لا يكون مؤمناً...
ثم لماذا هذا الموقف من إخوانكم النصارى في مصر والعالم العربي دون النصارى في بقية البلدان، أم أن الانتماء القومي والوطني يستدعي منكم هذا الموقف؟!
إذاً أعلنوها دعوة عصبية قومية كغيركم من القوميين والعلمانيين من دون أن تتستروا بالدعوة إلى الإسلام!
أما عن مقولتهم الآثمة عن الحقوق الوطنية، والأخوة الوطنية، وعقد المساواة على أساس الانتماء الوطني، وغير ذلك من الاطلاقات الشركية، نكتفي في أن ننقل لهم ماذا يقول علماء عصرهم فيمن يقول مقولتهم المشينة تلك...
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: أن من لم يفرق بين اليهود والنصارى وسائر الكفرة وبين المسلمين إلا بالوطن، وجعل أحكامهم واحدة فهو كافر [42].
أما براءهم ممن يخالفهم على ما قرروه من باطل، فهذا يقتضي منهم البراء من أهل التوحيد وجميع المسلمين الذين يدينون دين الحق... لكن لا عجب، فإن موالاتهم للظالمين الكافرين من لوازمه وشروطه البراء من الموحدين المؤمنين، فإن القلب لا يجتمع فيه موالاة الشيء وضده في آنٍ واحد... وهذا ما أرادوا إظهاره!].
إن ساسة العالم وأصحاب الرأي فيه يرفعون هذه الأيام شعار " التعددية)، وضرورة التسليم باختلاف رؤى الناس ومناهجهم في الفكر والعمل...
والإسلام منذ بدأ الوحي إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم يعتبر اختلاف الناس حقيقة كونية وإنسانية، ويقيم نظامه السياسي والاجتماعي والثقافي على أساس هذا الاختلاف والتنوع... والتعددية في منطلق الإسلام تقتضي الاعتراف بالآخر كما تقتضي الاستعداد النفسي والعقلي للأخذ عن هذا الآخر فيما يجري على يديه من حق وخير ومصلحة!
التعليق: [تأمل كيف أقروا التعددية بالمفهوم الديمقراطي، ثم كيف ألبسوا هذه التعددية - زوراً وباطلاً - ثوب الإسلام والدين، يفترون على الله الكذب وهم يعلمون، وإنهم - والله - قالوا كما قال المشركون من قبل وأشد، كما في قوله تعالى: {وإذا فعلوا فاحشةً قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن اللهَ لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 28].
إن الله تعالى لا يأمر بالأحزاب العلمانية، ولا بحريتها، ولا بجواز الاعتراف بها وبشرعيتها، وإن الذين ينسبون هذا الباطل الأكبر إلى دين الله تعالى، ويعدونه مما أوحى الله به على رسوله وأمر به، لهم أشد جرماً وأظهر كذباً من أولئك الذين ينسبون جواز ارتكاب الفواحش إلى دين الله وإلى أمره سبحانه.
ومن قبل سمعنا من رجل يعد من كبراء القوم - في إحدى ندواتهم ومؤتمراتهم المصورة - يصرح بملء فيه وبكل وقاحة وجرأة على الله تعالى، بأن الديمقراطية وحي من السماء... فتأمل!] [43].
وإنما ترجع شرعية الحكم في مجتمع المسلمين إلى قيامه على رضا الناس واختيارهم!
التعليق: [وإن اختاروا الكفر والإلحاد... أليست هذه هي عين الديمقراطية التي تقرر مبدأ حكم الشعب واختياره؟!].
وإذا كان للشورى معناها الخاص في نظر الإسلام فإنها تلتقي في الجوهر مع نظام الديمقراطي الذي يضع زمام الأمور في يد أغلبية الناس دون أن يحيف بحق الأقليات في أن يكون لها رأي وموقف... وأن يكون لها حق مشروع في الدفاع عن هذا الرأي والدعوة إلى ذلك الموقف!
التعليق: [قولهم أن الشورى تلتقي في الجوهر مع النظام الديمقراطي... هو قول باطل ومردود، وهو من قبيل إلباس الحق بالباطل وهم يعلمون، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك... أما إقرارهم لمبدأ حكم الأكثرية أو الأغلبية - أياً كانت عقيدة وهوية هذه الأغلبية - أليس هو نفس ما تقرره الديمقراطية الكافرة من اعتبار حكم الأغلبية لا غير... ثم تأمل لهذه الأقلية - أيّاً كانت هويتها وكان رأيها وموقفها ولو كان الكفر ذاته - لها كامل الحق في الدفاع عن هذا الرأي والدعوة إلى ذلك الموقف؟!].
يرى الإخوان المسلمون في المعارضة السياسية المنظمة عاصماً من استعداء الأغلبية وطغيانها، وذلك إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، وبذلك تكون المعارضة السياسية جزءاً من البناء السياسي، وليست خروجاً عليه أو تهديداً لاستقراره ووحدته!(55/36)
التعليق: [أليست هذه نفس فلسفة ونظرة الديمقراطية عندما تتحدث عن مسوغات وجود الأحزاب المعارضة... ثم هي معارضة سياسية أيّاً كان نوعها وانتماؤها، وكانت عقيدتها وهويتها، ولو كانت من قبيل معارضة مسيلمة الكذاب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه... فالمعارضة السياسية ساحتها واسعة، وكلمة مطاطة فهي تسع لجميع الأطراف والاتجاهات، والتيارات!].
لقد أعلن الإخوان المسلمون عشرات المرات خلال السنوات الماضية أنهم يخوضون الحياة السياسية ملتزمين بالوسائل الشرعية والأساليب السلمية وحدها... مؤمنين بأن ضمير الأمة ووعي أبنائها هما في نهاية الأمر الحكَم العادل بين التيارات الفكرية والسياسية التي تتنافس تنافساً شريفاً في ظل الدستور والقانون! [44].
التعليق: [الحكَم العادل الذي يحكم على الأفكار والاتجاهات، والسياسات هو الله تعالى وحده، وليس ضمير الأمة ولا وعي أبنائها...
قال تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه}، وقال: {إن الحكم إلا لله عليه توكلت}، وقال: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}، وقال: {له الحكم وإليه ترجعون}، وقال: {قل أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً}.
وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن اللهَ هو الحَكَمُ، وإليه الحُكْمُ) [45]، وغيرها كثير من الآيات والنصوص التي تدل على أن الحاكمية لله تعالى وحده، وأن حكمه سبحانه وتعالى هو العدل المطلق، وما سواه فحكمه الباطل ولو اجتمعت عليه كثرة الجماهير...
ثم تأمل هذا التحاكم منهم الشريف، والاحترام الرفيع للدستور والقانون الجاهليين، اللذين يعتبران في دين الله تعالى طاغوت يجب الكفر والبراء منه، كما قال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون}.
ونحن هنا لم نرد أن نتوسع في الرد على شبهات ومزالق القوم، وإنما هي كلمات وإشارات سريعة على قدر ما يسمح به المقام، أردنا منها بيان كذب القوم ودجلهم على الناس عندما يقولون: نحن إذ نطالب بالديمقراطية فإننا نطالب بالديمقراطية التي لا تتعارض مع تعاليم الإسلام وأحكامه، ولا تخالفه في شيء!].
ونحو ذلك ما ذُكر على لسان المرشد العام للإخوان المسلمين محمد حامد أبو النصر، عندما وُجه إليه السؤال التالي: البعض يتهم الإخوان بأنهم أعداء للديمقراطية، ويعادون التعدد الحزبي، فما هي وجهة نظركم في هذا الاتهام؟
جواب: الذي يقول ذلك لا يعرف الإخوان إنما يلقي التهم عليهم من بعيد، نحن مع الديمقراطية بكل أبعادها وبمعناها الكامل والشامل، ولا نعترض على تعدد الأحزاب، فالشعب هو الذي يحكم على الأفكار والأشخاص! [46].
قلت: معاذ الله أن يكون الشعب هو الذي يحكم على دين الله تعالى وشرعه! {والله يحكم لا معقب لحكمه} [الرعد: 41]، {إن الله يحكم ما يريد} [المائدة: 1].
وبعد، أتريد أيها القارئ أكثر دلالة من هذا الكلام، بأن القوم عندما يطالبون بالديمقراطية إنما هم يطالبون بها بمفهومها الشامل والكامل لجميع معانيها، وأبعادها الشركية التي تناقض وتضاد دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده.
ولولا خشية الإطالة وحدوث السآمة للقارئ لسودنا عشرات الصفحات من أقوال مشايخ الديمقراطية البرلمانيين، التي تدل على أنهم فُتنوا بالديمقراطية - بمعانيها وأبعادها الشركية - وأُشربوا حبها، كما فُتن من قبلهم بنو إسرائيل بالعجل وأُشربوا حبه في قلوبهم!
ومنها - أي من الوجوه التي تمنع استخدام الديمقراطية كمصطلح - أن الديمقراطية لها مدلولها ومفهومها الخاص بها في أذهان الناس، وهو المفهوم الشائع الذي بيناه عند الحديث عن مبادئ وأسس الديمقراطية، وهم عندما يسمعون أحداً - أيّاً كانت هويته وكان اتجاهه - يتكلم عن الديمقراطية، ويدعوا إليها، أو يثني عليها خيراً سرعان ما تذهب أذهانهم إلى الديمقراطية السائدة وكما عرّفها لهم أربابها ومؤسسيها، ولا يخطر على بالهم مطلقاً المعاني الخيرة التي يقصدها المتكلم عندما يتحدث عن الديمقراطية، وبخاصة أن هذه الديمقراطية الخيرة التي لا تخالف شرع الله تعالى ليس لها مثال على أرض الواقع، وهي غير موجودة حتى في عالم الخيالات والنظريات!
لذا فإن الذي يستخدم الديمقراطية عند حديثه عن معانٍ خيرة لا تخالف شرع الله تعالى، فإن حديثه مؤداه - وبخاصة إن كان من الخواص - إلى إضلال الناس وفتنتهم وصدهم عن الحق، مهما كان قصده سليماً وشريفاً... وهذا من الأوجه التي تمنع من استخدام الديمقراطية كمصطلح.
ومنها، أن الشارع قد نهى عن استخدام بعض الكلمات والمصطلحات حمّالة الأوجه، وإن كان ظاهرها لا يحتمل إلا المعنى الخيّر والصحيح، حتى لا يستغلها أصحاب الأهواء لمآربهم الباطنة الخبيثة، فيطلقونها على شيء ظاهره حق، ويريدون بها شيئاً آخر باطنها الإثم والعدوان.(55/37)
مثال ذلك كلمة راعنا حيث كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم (راعنا)، على قصد الطلب وسؤال المراعاة، أي التفت إلينا وتولنا، وكانت هذه الكلمة عند اليهود - لعنهم الله - مسبةً وطعناً، حيث تعني عندهم الشرير؛ فكلمة راعي تعني في العبرية لغة اليهود الشرير، وراعينو أي شريرنا، فاغتنموها فرصة للنيل من جناب الرسو صلى الله عليه وسلم ، وقالوا: كنا نسبه سراً فالآن نسبه جهراً، فكانوا يخاطبون بها صلى الله عليه وسلم ويضحكون فيما بينهم، فنهى الله تعالى المؤمنين عن استخدام كلمة " راعنا " حتى لا يستغلها اليهود فيستخدمونها لمقصدهم الفاسد والباطل، وأمرهم أن يستبدلوها بكلمة " انظرنا " حيث لا يمكن استخدامها من قبل أصحاب النفوس المريضة مهما تكلفوا اللي باللسان إلا في الجانب الخيِّر، والمعنى الظاهر الصحيح، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا} [البقرة: 104].
وقال تعالى عن اليهود: {ومن الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مُسْمَعٍ وراعنا ليَّاً بألسنتهم وطعناً في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراً لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً} [النساء: 46].
وقال تعالى أيضاً عن اليهود حاكياً حالهم كيف يتلاعبون في الألفاظ والمصطلحات، وكيف يصرفونها عن ظاهرها إلى غير مقاصدها الصحيحة المرادة من الشارع، وكيف أنهم يبدلون الكلم عن مواضعه ومراده ابتغاء الفتنة، والطعن في الدين: {وادخلوا الباب سجداً وقولوا حِطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين. فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون} [البقرة: 58 - 59].
فقوله تعالى: {وقولوا حطة}، أي قولوا احطط عنا خطايانا، واستغفروا الله، فقالوا بدلاً من ذلك: (حنطة في شعيرة)، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح: (قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستهم، وقالوا: حبة في شعيرة).
وعن عبد الله بن مسعود: {وقولوا حطة} فقالوا: حنطة، حبة حمراء فيها شعيرة.
ونحو ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (لا تقولوا الكرم، ولكن قولوا العنب)، وقال صلى الله عليه وسلم (ولا يقولن أحدكم للعنب الكرم، فإن الكرم الرجل المسلم)، فعلل سبب المنع أن الكرم هو الرجل المسلم، خشية أن يأتي منافق مغرض فيشتم الكرم فيظن الناس أنه يشتم شجرة العنب، وهو في الحقيقة يريد شتم المسلمين، وشتم الإسلام بشتم رجاله.
وقال صلى الله عليه وسلم (لا يقل أحكم: أطعم ربك، ووضِّئ ربك، واسق ربك، ولا يقل أحد: ربي - أي لمولاه وسيده - وليقل سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل فتاي وفتاتي، وغلامي).
وقال صلى الله عليه وسلم (لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر)،
أي أن الدهر مما قدره الله وأراده أن يكون، وبالتالي كان من شتمه كأنما شتم الله الذي قدره وأجراه...
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (لا تقولوا للمنافق سيد... ).
شاهدنا من هذه الأحاديث الثابتة الصحيحة أن صلى الله عليه وسلم قد نهى المسلمين عن استخدام كلمات وأسماء حمالة أوجه، قد تُستغل استغلالاً سيئاً من قبل أصحاب النفوس المريضة لمقاصدهم الباطلة، فيطلقونها على شيء ويريدون منها شيئاً آخر لا يرتضيه الشارع، ودرءاً لحصول ذلك استبدلها بكلمات وأسماء لا لبس فيها ولا غموض، لا يمكن استخدامها في المعاني الباطلة، أو استغلالها لمقاصدهم الفاسدة...
وإذا كان الأمر بهذه الأهمية وهذا الجد مع كلماتٍ كالكرم، وعبدي، وأمتي، وربي وغيرها... فمن باب أولى أن يأتي النهي عن استخدام كلمات ومصطلحات ظاهرها وباطنها شر محض، تعتبر شارات وعناوين لمذاهب ومناهج كفرية باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، ككلمة الديمقراطية، والاشتراكية، والقومية، والوطنية، والإنسانية وغيرها... التي باتت تُلاك على ألسنة كثير من المثقفين المعاصرين بصيغة الاستشهاد والمدح، من دون أن يجدوا في أنفسهم مثقال ذرة من حرج، أو يتنبهوا إلى درجة مخالفتها لثوابت هذا الدين!
ولا يقال في مثل هذه المواضع لا مشحَّة في الاصطلاح، فمثل هذا الإطلاق له موضعه، ويكون عند استخدام المصطلحات الفقهية الشرعية التي لا تحتمل إلا الحق والصواب، أما الكلمات والمصطلحات حمالة الأوجه، أو التي لا تحتمل إلا وجهاً واحداً وهو الخطأ والباطل فالمشحة فيها واردة ومشروعة إن لم تكن واجبة.
ومنها، أن المسلم متميز - بفكره وسلوكه وثقافته ولغته - عن كل ما يمت إلى الجاهلية بصلة، مستعلٍ عليها بإيمانه وإسلامه، فلا يجوز له وهو كذلك أن يلتجئ إلى رطانة العجم ومصطلحاتهم، ويستخدمها في مواضع الاستحسان والمدح وبخاصة إذا كانت هذه المصطلحات تعتبر شارات لمفاهيم وقيم تتعارض مع ما هو معلوم من ديننا بالضرورة كالديمقراطية وغيرها...(55/38)
وكما أسلفنا من قبل فإن الديمقراطية كلمة يونانية لا أصل لها في اللغة العربية، وهي غريبة المنشأ والمعنى، تُعد من رطانة العجم التي نهينا عن التحدث بها لغير ضرورة ملزمة...
فقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم)، وقال رضي الله عنه: (ما تكلم الرجل الفارسية إلا خبَّ - أي صار خداعاً - ولا خب إلا نقصت مروءته).
وعن محمد بن سعد بن أبي وقاص، أنه سمع قوماً يتكلمون بالفارسية فقال: ما بال المجوسية بعد الحنيفية [47].
فإذا كان مجرد التكلم بالفارسية - لغير ضرورة - هو من باب إحياء المجوسية بعد ظهور دين التوحيد، فكيف بالذي يستخدم لغة الأعاجم وشاراتهم في مسائل هامة لها مساس في العقيدة والتوحيد والأصول!
ذكر ابن تيمية في " الاقتضاء " حديثاً عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فإنه يورث النفاق).
قلت: ومع ذلك فإننا نجد كثيراً من أبناء المسلمين العرب - وبخاصة منهم الذين يعيشون في بلاد الغرب - لا يحسنون التكلم بالعربية لكثرة تحدثهم باللغات الأعجمية الأخرى... وهذا ينعكس على درجة فهمهم لكتاب الله تعالى ودينه، وبالتالي على درجة التزامهم بهذا الدين، فإقصاء المسلمين عن لغة هذا الدين هو إقصاء لهم عن اتباع هذا الدين.
قال ابن تيمية في الاقتضاء: (فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون، ولهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون في الأدعية التي في الصلاة والذكر، أن يُدعى الله أو يذكر بغير العربية.
وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله... فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم. واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً، ويؤثر في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق) اهـ.
أقول: لأجل هذه الأوجه الآنفة الذكر - وواحد منها يكفي - لا يجوز للمسلم شرعاً أن يستخدم كلمة الديمقراطية في حديثه بصيغة المدح أو الاستشهاد بها على مقصد من مقاصد الدين... وقول المرء أنه يستخدمها كمصطلح لتعارف الناس على استخدامه، لا يسوغ ولا يبرر له بحال استخدامها للمزالق والمحاذير المتقدمة الذكر].
والله تعالى أعلم
[40] أحمد ياسين، الظاهرة المعجزة وأسطورة التحدي، ط دار الفرقان، ص 116و118.
[41] بيان للناس من الإخوان المسلمين، الصادر في 2 مايو 1995.نشرته جريدة الشعب في 2 من ذي الحجة، 1415هـ.
[42] السؤال الثالث من الفتوى برقم 6310، 1/145.
[43] من يتأمل ما يصدر عن الإخوان المسلمين المعاصرين من أدبيات، ونشرات، وتصريحات يجد أنهم قد فرطوا بكثير من ثوابت وأصول هذا الدين، مما يفقدهم المبرر الشرعي لوجودهم، كما يمنع الناس من الانتماء إليهم أو تكثير سوادهم في شيء، ورصيد الجماعة القديم لا يبرر لها بحال ممارسة الكفر أو الترويج له كما هو ظاهر في أدبياتهم ونشراتهم، على سبيل المثال لا الحصر ما نشروه في مجلتهم الدعوة تحت عنوان لافتة من شعر لأحمد مطر، قوله: وإذا ما حصلوا في الانتخابات على أعظم نسبة... زعموا أن لهم حقاً... بأن يستلموا الحكم...كأن الحكم لعبة... الأصوليون آذونا كثيراً... وافتروا جداً... ولم يبقوا على الدولة هيبة... فبحق الأب والابن وروح القدس... وكريشنا وبوذا ويهوذا... تب على دولتنا منهم، ولا تقبل لهم يا رب توبة! انتهى.
فتأمل، فهم يذكرون هذا الكفر والشرك البواح في واحة ولافتة شعرية، وفي أشهر مجلة من مجلاتهم الناطقة باسمهم، على وجه الاستحسان والإعجاب، من دون أي تعليق أو تعقيب يتبرأون فيه مما ورد من كفر وشرك... فهم حتى إثبات الولد والشريك لله عز وجل لم يعد يثيرهم أو يلفت انتباههم!
انظر مجلة الدعوة، العدد 39 - 29 يوليو 1995 م.
[44] إلى هنا انتهى الاقتباس من البيان المذكور.
[45] صحيح سنن أبي داود: 4145.
[46] مجلة العالم، برقم 123، 21 حزيران، 1986 م.
[47] انظر هذه الآثار في كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم " لابن تيمية.
=============(55/39)
(55/40)
الكلمة العربية المرادفة لكلمة الديمقراطية
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
لو أردنا أن نبحث في طيات القواميس والمعاجم العربية عن الكلمة العربية المرادفة التي تعطي المعنى الحقيقي لمضمون كلمة الديمقراطية لوجدناها لا تعدو أن تكون كلمة الإباحية بكل ما تعني الإباحية من معنى ومفهوم [48].
حيث أن الإباحية تقوم على أساس إباحة المحظورات التي حظرها الشارع على العباد؛ كإباحة العري والزنا، واللواطة، وشرب الخمر، ونكاح المحارم، وإباحة الارتداد عن الدين، والحكم بغير ما أنزل الله، وكل ما هو محظور في الدين، ولا يمتنعون عن شيء إلا ما حرمته عليهم أهواؤهم، ووافقت على تحريمه أو منعه طواغيتهم المتنفذون!
وكذلك الديمقراطية - فهي لا تختلف عن الإباحية في شيء مما تقدم - تقوم على أساس إباحة كل ما هو محظور على الفرد باسم الحرية الشخصية، ولا اعتبار لدين أو خلق أو أي شيء يحجم من الحريات الشخصية، فالفرد في ظل الديمقراطية يعتقد ما يشاء، ويفعل ما يشاء، ويقول ما يشاء، ويحكم بما يشاء... ولا يوجد في نظر الديمقراطية شيء اسمه لا يجوز أو غير مباح، أو حرام، أو ممنوع إلا ما اجتمعت على منعه وتحريمه قوانينهم الوضعية التي شرعها لهم طواغيتهم...
فالحظر والإباحة خاضعان عند الإباحيين والديمقراطيين سواء إلى الأهواء، والنزوات، والشهوات بعيداً كل البعد عن هدي السماء...
وعليه فإننا نقول: الديمقراطية هي الإباحية بعينها، والإباحية هي الديمقراطية، والديمقراطيون هم الإباحيون، والعكس كذلك فلا فرق [49].
ومن رأيتموه يتغنى بالديمقراطية ويدعو إليها فارموه بالإباحية، وأسيئوا الظن به مهما رأيتموه يتزي بزي الإسلام أو يتظاهر به...
وبعد، فما أشد ظلم أولئك الظالمين الذين يُلبسون - زوراً وبهتاناً، ورغبة أو رهبة - الديمقراطية ثوب الشورى والإسلام!
أو يقولون: الديمقراطية هي الشورى أو الإسلام... {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} [الكهف: 5].
[48] المباح خلاف المحظور، وأبحتك الشيء أي أحللته لك، والإباحة من إباحة المحظورات.وفي التاريخ الإسلامي عُرفت فرق بالإباحية؛ حيث أباحوا لأنفسهم ولأتباعهم المحظورات والفواحش، وأسقطوا عن أنفسهم الواجبات الشرعية كالصلاة والصوم والحج وغير ذلك، كفرقة القرامطة، وفرق الباطنية الغلاة الأخرى وغيرهم، وعلى إثرهم وخطاهم يسير الديمقراطيون في زماننا الحاضر!
[49] قولنا أن الديمقراطية تعني الإباحية، لا تعارض بينه وبين القول بأن الديمقراطية تعني حكم الشعب؛ لأن حكم الشعب ذاته هو اعتداء على حكم الله، وإباحة الحكم بغير ما أنزل الله، ومن يبح الحكم بغير ما أنزل الله يستلزم منه أن يبيح ما حرم الله...
لكن القول بأن الديمقراطية تعني في العربية الإباحية نراه أقرب إلى الإنصاف والدقة والصواب من القول بأنها تعني حكم الشعب، وإن كان كلا القولين قائمين على إباحة المحظورات التي حرمها الله تعالى.
=============(55/41)
(55/42)
حكم الشعب ليس حكم الله وإن حكم بالإسلام
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
يعتبر بعض المفتونين بالديمقراطية والمروجين لها أن إنفاذ بعض القوانين التي توافق الإسلام من خلال العملية الديمقراطية التي تلزم بالتحاكم إلى إرادة الشعب، هو فتح من الفتوحات، ونصر ما بعده نصر، لا يمكن تحقيقه عن غير طريق الديمقراطية... ونراهم يتماجدون بهذا الإنجاز كلما أرادوا أن يتكلموا عن مبررات ومسوغات ولوجهم نفق الديمقراطية والعمل النيابي المظلم!
ولهؤلاء وغيرهم نقول:
إن الحكم بما أنزل الله نزولاً عند إرادة الشعب ورغبته لا يجوز أن يسمى أو يوصف بأنه حكم بما أنزل الله، وذلك من أوجه:
منها، أن هذه الأحكام إنما طُبقت نزولاً عند رغبة الأكثرية، ولأنها تمثل إرادة الشعب واختياره، وليس انصياعاً ونزولاً عند إرادة الله تعالى وحكمه تعبداً له سبحانه وتعالى، وطاعة وانقياداً لأمره لكونه صادر عنه سبحانه وتعالى، بدليل لو أن الشعب أو الأكثرية قالت في مرحلة من المراحل: لا لهذا الحكم والقوانين، نعم لغيرها من القوانين، لوجب - على الراضين والسائرين في العملية الديمقراطية - تغييره واستبداله بتلك القوانين أو الحكم... فهو في حقيقته حكم الهوى وليس حكم الشرع، وحكم المخلوق وليس حكم الخالق سبحانه وتعالى.
ولو تأملنا حال أكثر الدول الغربية الصليبية لوجدنا عدداً لا بأس به من أحكامها وقوانينها توافق أحكام الإسلام، أو بالأحرى لا تتعارض مع أحكام الإسلام، فهل لأجل ذلك نستطيع أن نقول أن هذه الدول الصليبية تحكم بما أنزل الله في هذه الأحكام أو القوانين؟!
الجواب: لا، لأنها هي إذ تنفذ هذه الأحكام والقوانين فهي تنفذها طاعة وانصياعاً لحكم الأكثرية، وما ترتئيه عقولهم وأهواؤهم، وليس طاعة وانقياداً لحكم الله وأمره...
ومنها، أن التحاكم إلى الشعب أو إلى الأكثرية من دون الله تعالى، هو ضرب من ضروب الشرك الأكبر، لتضمنه إشراك إرادة الأكثرية أو المخلوق مع الله الخالق سبحانه وتعالى في الحكم، كما قال تعالى: {ولا يُشرك في حكمه أحداً} [الكهف: 26]، وقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21]، وحكم يوسم بالشرك أنَّى له أن يسمى حكماً إسلامياً يرتضيه الشارع سبحانه وتعالى.
ومن جهة فإن الله تعالى قد نفى الإيمان عمن يأبى التحاكم إلى شرعه، وعمن يتحاكم إلى شرعه لكن يجد في نفسه الحرج والضيق من جراء التحاكم إلى شرعه سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: 65].
قال ابن القيم رحمه الله: (أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتنفسح له كل الإنفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض) [50].
ولا شك أن الذي يرتضي حكم الشعب أو الأكثرية من دون الله تعالى، ويدور مع حكم الأكثرية حيثما دارت، ويقف معها حيثما تقف، أولى بانتفاء الإيمان عنه والوقوع في الكفر، فضلاً عن أن يوصف دورانه وروغانه هذا أصاب حكم الله، أو أنه حكم بشرع الله تعالى.
ومنها، أن التحاكم في نظر الإسلام عبادة من المتحاكم إلى المتحاكَم إليه، فمن تحاكم في جميع شؤون حياته الدينية والدنيوية إلى الله سبحانه وتعالى فهو عبد لله تعالى، ومن تحاكم إلى غيره - في قليل أو كثير - وارتضاه حاكماً من دون الله أو مع الله، فهو عبد لهذا الغير وإن تسمى بأسماء المسلمين، وزعم أنه من المؤمنين.
كما قال تعالى: {ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً} [النساء: 60].
قال الشوكاني في التفسير1/482: (فيه تعجيب لرسول ا صلى الله عليه وسلم من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل الله على رسول الله، وهو القرآن، وما أنزل على مَن قبله من الأنبياء فجاؤوا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلاً، وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت، وقد أُمروا فيما أنزل على رسول الله وعلى من قبله أن يكفروا به) اهـ.
قلت: ولا ينتفي الإيمان إلا لنوع عبادة تصرف للمخلوق، وعبادة المخلوق هنا تكمن في إرادة التحاكم إلى الطاغوت؛ وكل ما سوى شرع الله وحكمه فهو طاغوت.
ومما يؤكد على دخول التحاكم في معنى العبادة، قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].(55/43)
قال البغوي في التفسير 3/285: (فإن قيل إنهم لم يعبدوا الأحبار والرهبان - بمعنى الركوع والسجود - قلنا: معناه أنهم أطاعوهم في معصية الله واستحلوا ما أحلوا، وحرموا ما حرموا، فاتخذوهم كالأرباب.
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت رسول ا صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: (يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك)، فطرحته فلما انتهيت إليه وهو يقرأ: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}، حتى فرغ منها قلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه)، قال: قلت بلى، قال: (فتلك عبادتهم) اهـ.
فتأمل كيف فسر صلى الله عليه وسلم تحاكمهم إلى الأحبار والرهبان من دون الله، وطاعتهم لهم في تشريعاتهم التي تتضمن تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، أنه عبادة من المتحاكم إلى المتحاكَم إليهم وهم هنا الأحبار والرهبان.
أما الأحبار والرهبان في مسألتنا، الذين يُعبدون من دون الله يتمثلون في أعضاء مجالس النواب أو الشعب الذين يتصدرون مهمة التشريع، والتحليل والتحريم بغير سلطان من الله تعالى، ويُتابعون على ذلك من الناس من دون أي إنكار!
وكذلك قوله تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [يوسف: 40]، أي أمر ألا تعبدوا إلا إياه في التحاكم، هذا ما يقتضيه سياق النص، فكما أنه لا معبود بحق سواه سبحانه وتعالى كذلك لا حاكم بحق سواه، فله وحده سبحانه وتعالى الخلق والأمر، لذلك فهو وحده المستحق للعبادة دون أحد سواه.
قال سيد رحمه الله في الظلال 4/1990: (إنّ الحكم لا يكون إلا لله، فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته، إذ الحاكمية من خصائص الألوهية، من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته؛ سواء ادعى هذا الحق فرد أو طبقة، أو حزب، أو هيئة، أو أمة، أو الناس جميعاً في صورة منظمة عالمية. ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفراً بواحاً يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة، حتى بحكم هذا النص وحده).
وقال: (حين نفهم معنى العبادة على هذا النحو - وهو الدينونة لله وحده والخضوع له وحده، واتباع أمره وحده - نفهم لماذا جعل يوسف عليه السلام اختصاص الله بالعبادة تعليلاً لاختصاصه بالحكم، فالعبادة - أي الدينونة - لا تقوم إذا كان الحكم لغيره) اهـ.
وما يوضح كذلك دخول التحاكم في معنى العبادة، تفسير أهل العلم لمعنى العبادة، حيث قالوا: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة... ولا شك أن مما يحبه الله تعالى تحاكم العباد إليه ظاهراً وباطناً دون أحدٍ سواه.
وشاهدنا من هذا التقديم الضروري أن يدرك القارئ أن التحاكم عبادة، وأن العبادة لا يجوز أن تُعطى لغير الله تعالى، والعبادة حتى تقبل لا بد أن يتوفر فيها شرطان: أولهما، الموافقة والمتابعة لهدي الكتاب والسنة. والثاني: إخلاص العبادة لله تعالى، وتجريدها من أدنى درجات الشرك والرياء.
كما قال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} [الكهف: 110]، وقال تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} الملك: 2].
قال ابن تيمية رحمه الله: (وهو كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: (أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة) اهـ.
وعليه فإننا نقول: من حكم بما أنزل الله طاعة لله تعالى وامتثالاً لأوامره، ونزولاً عند إرادته سبحانه وتعالى - وليس نزولاً عند إرادة الشعب أو الأكثرية أو أي سلطة غيرها - طالباً بذلك مرضاته سبحانه وتعالى ، فهو وحده الذي يوصف بأنه حكم بما أنزل الله، ومتى كان الأمر على غير هذا النحو والوصف لا يصح ولا يجوز أن يُسمى النظام أو الحكم نظاماً أو حكماً إسلامياً، كما لا يجوز أن يُسمى الحاكم بذلك الحكم بأنه حكم بما أنزل الله.
يقول سيد قطب رحمه الله: (هذه الحتمية، حتمية التلازم بين دين الله والحكم بما أنزل الله، لا تنشأ فحسب من أن ما أنزل الله خير مما يضع البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع وأنظمة وأوضاع، فهذا سبب واحد من أسباب هذه الحتمية، وليس هو السبب الأول ولا الرئيسي، إنما السبب الأول والرئيسي والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل الله إقرار بألوهية الله، ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمن عداه...
وهذا هو الإسلام بمعناه اللغوي الاستسلام وبمعناه الاصطلاحي هي كما جاءت به الأديان: الإسلام لله، والتجرد عن ادعاء الألوهية معه، وادعاء أخص خصائص الألوهية، وهي السلطان والحاكمية، وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون.(55/44)
ولا يكفي إذن أن يتخذ البشر لأنفسهم شرائع تشابه شريعة الله، أو حتى شريعة الله نفسها بنصها، إذا هم نسبوها لأنفسهم، ووضعوا عليها شاراتهم ولم يردوها لله، ولم يطبقوها باسم الله، إذعاناً لسلطانه واعترافاً بألوهيته، وبتفرده بهذه الألوهية، التفرد الذي يحرر العبد من حق السلطان والحاكمية إلا تطبيقاً لشريعة الله وتقريراً لسلطانه في الأرض) [51].
[50] التبيان في أقسام القرآن: 270.
[51] طريق الدعوة في ظلال القرآن: 2/188-189.
===============(55/45)
(55/46)
الأمة تُزاول السلطة بإذن الله، وليست هي مصدر السلطة
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
يوجد فرق بين مزاولة الأمة لسلطة الحكم بما أنزل الله، وبين أن تكون هي مصدر الحكم والتشريع كما هو الحال في النظم الديمقراطية.
فالأول حق من حقوق الأمة، والثاني شرك وكفر لا ينبغي لمخلوق أن يتجاسر عليه - أيّاً كان موضعه وكانت رتبته - أو أن ينسب نفسه إليه إلا في حال آثر الكفر على الإيمان، وليس فوق الكفر ذنب...
فالأمة من حقها أن تختار من يحكمها بشرع الله تعالى، ويسوس أمرها ودنياها بالدين، ممن ترى فيه الصلاح والكفاءة لهذا المنصب من المؤمنين الموحدين.
كما من حقها - ممثلة في علمائها والصفوة الأخيار - أن تراقب السلطان المسلم، وأن تحاسبه - وفق ضوابط وآداب الشرع - على أي تقصير يبدر منه، وأن تقومه في حال انحرافه وخروجه عن جادة العدل والصواب...
ومن حقها كذلك أن تعزله ولو بالقوة في حال طرأ عليه الكفر البواح، وأن تختار غيره - عن طريق الشورى - من المسلمين ممن يستقيم به أمر الدنيا والدين...
ولها كامل الحق في أن تقول للظلم لا، وللظالم ألف لا، ولو كان خليفة عامّاً للمسلمين، فليس لمخلوق على الأمة حق الطاعة لذاته، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنه لا عصمة لأحد بعد نبينامحمد صلى الله عليه وسلم ، وبالتالي ليست لمخلوق - مهما على قدره - القدسية التي تجعله في مرتبة فوق المساءلة، فالذي لا يُسأل عما يفعل هو الله تعالى وحده، وهذا ليس لأحدٍ سواه.
يكفينا في ذلك قول نبينا صلى الله عليه وسلم (إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه) [52].
وقوله صلى الله عليه وسلم (طاعة الإمام حق على المرء المسلم، مالم يأمر بمعصية الله عز وجل، فإذا أمر بمعصية الله فلا طاعة له) [53].
وقوله صلى الله عليه وسلم (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا بيده، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) [54].
وقوله صلى الله عليه وسلم (من أمركم من الولاة بمعصية فلا تطيعوه) [55]، وغيرها كثير من النصوص التي تدل على أن أمة الإسلام لا تعرف السلبية، ولا الخور والجبن - الموجود عند بقية الأمم والشعوب - في التعامل مع الظلم والظالمين وبخاصة إن جاء من جهة السلاطين، وصفحات التاريخ الإسلامي مليئة بالبراهين الساطعة الدالة على ذلك [56].
ولكن ليس للأمة الحق في أن تتجاوز قدرها ووظائفها، فتزعم لنفسها خاصية سلطة الحكم والتشريع، أو حق الاختيار لما تشاء من المناهج والشرائع، أو حق اختيار من تشاء من الرجال بغض النظر عن دينهم وانتماءاتهم، فهذا ليس من حقها، ولا يجوز لها أن تستشرفه أو تدعيه لنفسها.
فالأمة حينما تختار من يحكمها، يكون اختيارها بين مؤمن ومؤمن، وصالح وصالح لتختار أكثرهما صلاحاً وإيماناً، وليس بين كافر ومؤمن، أو كافر وكافر لتختار بعد ذلك من تشاء منهما كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية، فهذا لا يجوز إقراره لمخالفته الظاهرة لنصوص الشرع.
فاجتماع الأمة - على افتراض تحققه، لأن أمة الإسلام لا تجتمع على ضلالة - على اختيار الباطل، فإنه لا يحيل هذا الباطل حقاً، ولا يعطيه حتى الشرعية في الوجود فضلاً عن أن يحكم البلاد والعباد!
وهذا المعنى قد أشار إليه سيد رحمه الله بقوله: (والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله، ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته، إنما مصدر الحاكمية هو الله. وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة وبين مصدر السلطة، فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه الله وحده، والناس إنما يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه، أما مالم يشرعه الله فلا سلطان له ولا شرعية، وما أنزل الله به من سلطان) [57].
وقولنا أن الأمة ليست هي مصدر سلطة التشريع، هذا لا يمنع من أن تسن لنفسها القوانين - فيما لا يتعارض مع شرع الله - ذات العلاقة بشؤون حياتها الإدارية والتنظيمية، مما لم يرد فيها نص من قِبل الشارع.
يقول الشنقيطي في أضواء البيان 4/84: (اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السماوات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك. وإيضاح ذلك أن النظام قسمان: إداري، وشرعي. أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه، ولا مخالف فيه من الصحابة، فمن بعدهم. وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن صلى الله عليه وسلم ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط، ومعرفة من غاب ومن حضر، وكاشترائه - أعني عمر رضي الله عنه - دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجناً في مكة المكرمة، مع أن صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجناً هو ولا أبو بكر.
فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع لا بأس به، كتنظيم شؤون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع، فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة) اهـ.(55/47)
وأي قانون من هذا القبيل يجب أن تتوفر فيه الشروط التالية:
1) أن لا يكون فيما قد نصت عليه الشريعة؛ لأنه لا اجتهاد مع النص.
2) أن لا يأتي هذا القانون معارضاً لشيءٍ من نصوص الشريعة.
3) أن يكون هذا القانون منسجماً مع تعاليم وروح الإسلام؛ فلا يُعقل مثلاً أن يُشرع قانون ينص على دوام الطلاب للدراسة وقت صلاة الجمعة!
4) درءاً للوقوع في المحظور ومخالفة نصوص الشريعة، فإن الذي يقوم بإصدار هذه القوانين هم علماء الشريعة الربانيين ممن لهم دراية بالواقع، وليس من لا علم لهم بالشريعة ولا بنصوصه ممن يختارهم رعاع الناس وعوامهم كما هو حاصل في الديمقراطيات المعاصرة!
فإن تعثر ذلك فإنه لا مانع من تشكيل لجنة رقابة من هؤلاء العلماء تُعرض عليهم القوانين الصادرة عن الجهات المختصة، ليقوموا بفحصها ودراستها من حيث مخالفتها أو موافقتها لنصوص وروح الشريعة، فترد القوانين المخالفة، وتُقر القوانين الموافقة.
[52] أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع: 1974.
[53] السلسلة الصحيحة: 752.
[54] أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي وغيرهم، الصحيحة: 1564.
[55] أخرجه أحمد، وابن ماجة، وابن حبان، الصحيحة: 2324.
[56] يكفي للإنسان الأوربي - الذي يزعم لنفسه الحرية والعزة وعدم الخوف من السلاطين - لتنفيذ قوانين وأوامر الحكام - وإن كان فيها هلاكه ومص دمه وثمرة جهده - أن يقال له: هذا الأمر قانوني، أو فيه قانون...تراه مباشرة وبسلبية عجيبة يستسلم للأمر الواقع كالعبد الذليل الجبان بين يدي جلاديه وأسياده، ولا غرابة من ذلك فهو ورث هذا الخوف والجبن من طغيان القانون عن آبائه وأجداده الذين عاشوا سطوة وبطش القياصرة، إضافة إلى ما عانوه من ظلم أحبار ورهبان الكنائس!
[57] في ظلال القرآن: 4/1990.
==================(55/48)
(55/49)
لماذا الديمقراطية تسير بصورة مقبولة في بلاد الغرب؟!
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
قد يسأل سائل إذا كانت الديمقراطية لا تصلح وهي فكرة باطلة، فعلام تسير بصورة مقبولة في بلاد الغرب من دون مشاكل أو اضطرابات؟!
والجواب على هذا السؤال من أوجه:
أولاً:
المجتمعات الغربية الأوربية منسجمة فيما بينها ثقافياً وفكرياً؛ فهي من حيث الانتماء الطائفي الديني نصرانية الانتماء، ومن حيث صفة النظام السياسي الحاكم فيها هو علماني التوجه والمنبت... والشعوب الغربية شبه مجمعة على هذين الأصلين أو الرابطين لوحدتها الاجتماعية، وهم - بجميع أحزابهم وأطرافهم - يمارسون الديمقراطية ويتكيفون معها على هذا الأساس من الانتماء والتوجه.
لذا فإن أي خلل يصيب هذين الأصلين أو أحدهما فإنها تحدث مشكلة تستعصي على الديمقراطية الغربية حلها، كما هو حاصل في ايرلندا بسبب غياب الانسجام الطائفي بين الكاثوليك والبروتستانت فإن الديمقراطية هناك فاشلة في تحقيق الانسجام أو التعايش السلمي بين الناس.
وكذلك لو وُجدت أي طائفة أخرى تنافس الطائفة النصرانية من حيث الكم والعدد فإن الديمقراطية الغربية تتحول إلى واحة من الصراعات الدموية، كما حصل مع المسلمين في البوسنة والهرسك، وفي كوسوفو، وفي لبنان من قبل، وغيرها من البلدان!
ثانياً:
النصرانية - متمثلة في الكنيسة - باتت مقتنعة مؤخراً بأنها لا علاقة لها بشؤون الحكم والسياسة ونظام الحياة، وبالتالي لا توجد أي مشكلة بينها وبين الأنظمة السياسية المتتالية والمتنوعة الحاكمة التي تقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة وشؤون الحياة... وهذا لا يجوز أن يُحمل على الإسلام.
ثالثاً:
الشعوب الغربية قد كفرت بألوهية وحاكمية الله عز وجل وآمنت بألوهية وحاكمية الشعب والمخلوق، فالتقت بذلك مع الديمقراطية، ووجدت فيها الوسيلة المناسبة لحل مشاكلها، وتنفيذ طموحاتها ومخططاتها...
ومن حقهم - ما داموا كذلك - أن يرفضوا ألوهية حزب أو حاكم واحد ينفرد بالسلطة وشؤون الحكم لنفسه ولحزبه فقط...
فعلام لا يكون كل واحد منهم إله، عابد ومعبود في آنٍ واحد، إذا كان يملك ذات الخصائص التي يملكها أو يدعيها ذلك الحزب أو الحاكم لنفسه، لذلك لا ضير عندهم - وفي ديمقراطيتهم - أن يدعي كل شخص أو حزب حق الألوهية والحاكمية والتشريع لنفسه كما يدعيه الآخرون لأنفسهم... وهكذا فهم راضون بكفرهم وشركهم، وليس فوق الكفر الذنب، وهذا لا يجوز في أي حال من الأحوال أن يُحمل على الإسلام والمسلمين، إلا في حال آثروا الكفر على الإيمان...
لذا فإننا نقول: إذا كانت الديمقراطية وجدت لنفسها بيئة تلائمها وتناسبها نسبياً في بلاد الغرب، فإنها لا مكان لها أبداً بين المسلمين وفي بلادهم..
=============(55/50)
(55/51)
الديموقراطية المنفصلة عن القيمة
د. عبد لوهاب المسيري
"...كما يجب التأكيد على أن الديموقراطية ليست هي رأي الأغلبية وحسب، إذ يجب أن تكون هناك ضوابط لحفظ الحقوق المدنية والدينية والثقافية... "
شهدت السنوات الأخيرة، وخاصة في أعقاب تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001، مجموعة من الأحداث والمواقف والسياسات كان من شأنها أن تثير شكوك البعض، وتؤكد الشكوك القائمة أصلاً لدى البعض الآخر، بخصوص ما يسمي بالممارسات الديموقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية، التي طالما وُصفت بأنها "زعيمة العالم الحر" و"قلعة الديموقراطية" و"المدافعة عن حقوق الإنسان".
فعلى المستوى الداخلي، فُرضت سلسلة من القيود التي تحد من الحريات الفردية للمواطن الأمريكي، وبدأ تطبيق تدابير أمنية لا تختلف كثيراً عن تلك المتبعة في أعتى النظم الاستبدادية، ومنها مثلاً "قانون الأدلة السرية" والمحاكم العسكرية، كما بدأ اتخاذ إجراءات تتسم بالتمييز ضد أبناء الأقليات، ولاسيما من ينحدرون من أصول عربية أو إسلامية. وعلى المستوى الدولي، كان هناك غزو أفغانستان ثم العراق، وما صاحب ذلك وما تلاه من ممارسات وحشية من قبيل تلك التي كشفت عنها فضيحة "سجن أبو غريب" في بغداد، فضلاً عن التلويح باستخدام القوة ضد أية دولة لا تستجيب لشروط الهيمنة الأمريكية، بدعوى أنها من الدول "المارقة" أو من أطراف "محور الشر".
ووسط هذا كله، كان هناك ولا يزال الدعم الأمريكي المطلق للممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، والتي تتنافي مع أبسط معايير القانون الدولي وحقوق الإنسان والأعراف الإنسانية. ومن الطبيعي أن تقود هذه التطورات إلى طرح تساؤلات عن النموذج المثالي الذي يُطرح للديموقراطية والنموذج الفعال الذي يُطبق على أرض الواقع.
فعادةً ما تُعرَّف الديموقراطية بأنها: نظام سياسي يوفر فرصة المشاركة لكل أعضاء المجتمع الذين لهم حق التصويت في اتخاذ القرارات التي تؤثر في حياتهم الفردية والجماعية على حد سواء في أي من المجالات الاجتماعية أو السياسية.
كما تُعرَّف الديموقراطية بأنها: نسق سياسي قائم على مبادئ ممارسة الحكم من خلال موافقة المحكومين وتقبلهم له، على اعتبار أن الحكومة تستمد شرعيتها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، من إرادة غالبية أعضاء المجتمع المحلي أو المجتمع بأكمله. ويقتضي نموذج الديموقراطية النيابية هذا عدداً من الشروط، مثل الانتخابات الحرة وسرية التصويت وتكافؤ فرص المرشحين، فضلاً عن المساواة أمام القانون، وحرية التعبير والنشر والاجتماع.
إلا إن أية نظرة فاحصة على الأوضاع في الولايات المتحدة ستكتشف أن النموذج الفعال المطبق في الواقع يختلف بشكل جوهري عن المثل الأعلى المطروح. فالمواطن الأمريكي الذي ينتخب أعضاء الكونجرس ومجلس الشيوخ ورئيس الدولة التي تريد أن تحكم العالم هو مواطن ساذج لا يعرف شيئاً عن علاقة الاقتصاد بالسياسة، وعن آليات الاستغلال الاقتصادي، وهو جاهل بما يجرى في العالم، والحزبان الرئيسيان (الديموقراطي والجمهوري) لا يقدمان له برامج توعية سياسية، ويكتفيان بتقديم برامج متناثرة لا يربط أجزاءها رابط، حتى ترضى معظم الأذواق، إن لم يكن كلها، وهي برامج تختزل تطلعات المواطن إلى بعدها المادي (الاقتصادي والجسماني) وقضيتها الأساسية هي إشباع تطلعاته الاقتصادية بشكل سريع ومباشر، ويتولى الإعلام الترفيه عنه وتفريغه من الداخل، من خلال تصعيد نزعاته الاستهلاكية والجسمانية، وحصره في عالم الحواس والسلع والمادة والأشياء.
كما أن المعركة الانتخابية في الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، تتكلف مئات الملايين من الدولارت، ومن ثم فلا مكان في هذه المعركة سوى للمرشح الثري الذي يمكنه تدبير الاعتمادات اللازمة للقيام بحملة انتخابية مستمرة وفعالة، أما المرشح الذي لا يملك مثل هذه الإمكانات فمصيره التهميش الإعلامي.
ويعني هذا، في عصر سيطرة وسائل الإعلام، أنَّ بوسع أصحاب المصالح وكبار الرأسماليين وجماعات الضغط التأثير في الانتخابات لا بسبب برامجهم السياسية وإنما بسبب ثرواتهم، أو لأسباب أخرى لا علاقة لها بمصلحة الجماهير أو مصلحة الوطن.
وقد كنت في رحلة علاجية في الولايات المتحدة عندما حدثت المواجهة الخطيرة بين دولتين نوويتين، هما الهند وباكستان، فسألت كبيرة الممرضات (وهي في منزلة الطبيب وتتلقى تعليماً جامعياً طويلاً مثله) عن رأيها في هذه المواجهة، ففوجئت بأنها لا تعرف شيئاً عنها، وبررت ذلك بقولها إن الهند وباكستان بعيدتان عن الولايات المتحدة!!
وذكر أحد الصحفيين الذين ذهبوا إلى العراق لتغطية الأحداث هناك أن الجنود الأمريكيين لا يعرفون أين هم ويسألون "أين القاهرة؟ "، وبعضهم يتعجب من عدم وجود محلات ماكدونالدز ولا فتيات يمكنه اصطحابهن.
وكثير من أعضاء الكونجرس يخلطون بين العراق وإيران I r an و I r aq بسبب تقارب النطق بين الكلمتين بالإنجليزية، وبسبب جهلهم الشديد بالجغرافيا والتاريخ.(55/52)
ومن المفارقات أن أحد أهم أعضاء الكونجرس الأمريكي هو عامل مبيدات من إحدى قرى ولاية تكساس، وهو من الصهاينة المسيحيين ولديه رؤاه الخاصة بآخر الأيام وهرمجدون ولا يعرف عن الشرق الأوسط إلا ما قرأه في العهد القديم!!
وقد ظهرت واحدة من أهم مشاكل الديمقراطية مع حرب العراق، حيث تظاهر الملايين في بريطانيا وإسبانيا والولايات المتحدة احتجاجاً على الحرب، وطالب مجلس الأمن بإعطاء المفتشين الدوليين مهلة للبحث عن أسلحة الدمار الشامل، ولكن حكومات هذه البلاد لم تلق بالاً لآراء الجماهير في بلادها ولا للمجتمع الدولي، ودفعت بقواتها إلى الحرب استناداً إلى معلومات ثبت بعد ذلك أنها كانت مختلقة وملفقة.
ومن أهم القضايا التي تواجهها الديموقراطية في التطبيق مشكلة المرجعية النهائية، أي مجموعة القيم التي تحكم الإجراءات الديموقراطية ذاتها. فبوسع 51 بالمئة من الناخبين أن يقرروا القانون والحقيقة والقيمة، أي أن عدد الأصابع المرفوعة هو المرجعية النهائية، فهي ديمقراطية بلا مرجعية فلسفية أو أخلاقية أو معرفية، ويمكن تسميتها "الديمقراطية الإمبريقية"، أو "الديموقراطية المنفصلة عن القيمة" value-f r ee democ r acy، شأنها شأن "العلم المنفصل عن القيمة"، و"حرية التعبير المطلقة المنفصلة عن القيمة". وقد ضرب أحد المفكرين مثلاً على ديموقراطية عد الأصابع بإحدى مباريات كرة القدم، وتساءل: إذا أحرز الفريق الضيف أهدافاً أكثر من أعضاء فريق البلد المضيف، فهل من حق أغلبية المتفرجين أن يقرروا ما إذا كان الفريق الضيف هو الفائز أم لا؟
والإجابة بطبيعة الحال بالنفي، فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لمباراة في كرة القدم، فهل يصح تطبيق هذا المنطق على شيء بمثل أهمية القيم الإنسانية العليا كمرجعية نهائية؟
وتُعد التجربة النازية نموذجاً لتلك الديمقراطية التي لا مرجعية لها، والتي تُختزل في عد الأصابع. فقد وصل هتلر إلى الحكم من خلال القنوات الشرعية الديمقراطية، وحاز على رضا وإعجاب وحماس الشعب الألماني، وحينما بدأ الحكم النازي بتصفية الأقليات العرقية والدينية غير المرغوب فيها، مثل الغجر والمعوقين واليهود، باعتبارها عناصر بشرية تستهلك ولا تنتج، وافق أغلبية الشعب الألماني على عمليات التطهير العرقي. كما وافقت الشعوب الغربية على إرسال جيوشها إلى آسيا وأفريقيا فأبادت ما أبادت من بشر، وسخَّرت ما سخَّرت من شعوب، ونهبت ما نهبت من أراض.
وقد عبرت هذه الشعوب عن رأيها بشكل بالغ الديمقراطية، تماماً كما توافق الأغلبية الساحقة من أعضاء التجمع الصهيوني على عمليات البطش والذبح التي ترتكبها القوات الإسرائيلية، ويتمتعون بالمكاسب الاقتصادية التي تحققها عمليات البطش هذه.
فالديمقراطية الإسرائيلية هي ديمقراطية بلا مرجعية، وهي في هذا تشبه عصابات المافيا، حيث يتم كل شيء من خلال إجراءات ديمقراطية دقيقة لا غبار عليها ولا شبهة فيها، ولكن مرجعيتها النهائية هي الحق الذي تعطيه هذه العصابة لنفسها في سلب الآخرين حقوقهم وتقويض إنسانيتهم.
وفي إطار الديمقراطية المنفصلة عن القيمة، رشحت إحدى نجمات الأفلام الإباحية (البورنو) نفسها لعضوية البرلمان الإيطالي وكان برنامجها الانتخابي يتلخص في خلع ملابسها قطعة قطعة أمام السادة الناخبين. ويبدو أن هذا البرنامج الانتخابي له فعالية فائقة في بلد مثل إيطاليا، إذ نجحت السيدة (الفاضلة!) نجمة البورنو في الانتخابات!
ومن المشاكل الأخرى التي واجهت تلك الديمقراطية المفتقرة إلى المرجعية مشكلة الاستنساخ التي يرى الكثيرون أنها تهدد ظاهرة الإنسان نفسه. وقد أصدر الرئيس كلينتون قرارا بحظر الاستنساخ، وهو قرار لا علاقة له بالعلم أو بعدد الأصوات، وإنما يصدر عن مرجعية إنسانية عامة.
وتواجه الديمقراطية الغربية الآن مشكلة الزواج المثلي، أو الاتحاد المدني كما يسمونها، فمن يقف ضد هذا يستند إلى مرجعية دينية أو إنسانية متخفية، أما من يؤيده فهو يرضخ لمنطق الديمقراطية الإمبريقية وعد الأصابع.
لكل هذا؛
فثمة ضرورة لإعادة تعريف الديمقراطية، وبدلاً من القول بأن الديموقراطية هي "صوت واحد لكل مواطن" one man، one vote، يجب تعريفها بأنها نظام سياسي يعطي صوتاً واحداً لكل مواطن شريطة توفير المعلومات الكاملة له، وهذا مهم ومتيسر في عصر المعلومات.
كما يجب أن تُدار المعركة الانتخابية بشفافية بحيث تُتاح مساحة زمنية متساوية في وسائل الإعلام لكل المرشحين ويجب أن يُوضع حد أقصى لما يمكن للمرشح الواحد أن ينفقه، سواء على الإعلانات أو في إدارة حملته الانتخابية.
ومن الضروري أيضاً تقليم أظافر الدولة وبيروقراطيتها التعليمية والإدارية، التي عادةً ما تستقل عن مصالح الجماهير لتعبر عن مصلحتها هي، وذلك عن طريق زيادة فاعلية مؤسسات المجتمع المدني والنقابات وكل المؤسسات والتنظيمات غير الحكومية (التي تخشاها الدولة المركزية)، والتي تعبِّر عن مصالح ومطامع الجماعات المختلفة في الوطن الواحد.(55/53)
كما يجب التأكيد على أن الديموقراطية ليست هي رأي الأغلبية وحسب، إذ يجب أن تكون هناك ضوابط لحفظ الحقوق المدنية والدينية والثقافية لأعضاء الجماعات العرقية والدينية المختلفة، وربما أمكن تنفيذ هذا من خلال إقامة مجلسين: مجلس على أساس التمثيل الشعبي، ومجلس على أساس تمثيل الجماعات العرقية والدينية تكون مهمته مراقبة تنفيذ القوانين الخاصة بحقوق هذه الجماعات.
ولابد أيضاً من اتخاذ خطوات تكفل ألا تتحول المؤسسة العسكرية إلي جماعة ضغط خفية تتحكم في سياسات الدولة بل وفي كل شيء.
وقد ارتبطت الديموقراطية الإمبريقية في الغرب بالنظام الرأسمالي في كل وحشيته وداروينيته، وحددت الأولويات فيه انطلاقاً من هذه العقلية الرأسمالية التي جعلت من الربح الهدف الأسمى والوحيد، مما أدى إلى إهمال كثير من الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية (ولعل النقد الاشتراكي لديموقراطية بلاد الرأسمال الحر يفيد كثيراً في فهم هذا الجانب)، ولذلك فلابد من وضع الضوابط الكفيلة بكبح جماح الرأسمالية المتوحشة والشركات الضخمة، وتحديد هدف المجتمع بطريقة تضمن تحقيق الإمكانيات الإنسانية لكل أعضاء المجتمع وخدمة مصالحهم في حدود إمكانياته، وليس مجرد الربح ومزيد من الربح للشركات الرأسمالية وللأثرياء.
ولكن الأهم من هذا كله أن تكون مرجعية النظم الديموقراطية هي القيم الإنسانية العامة المتمثلة في المواثيق والأعراف الدولية المختلفة، مثل "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، و"ميثاق الأمم المتحدة"، واتفاقيات جنيف، ومبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وألا تخضع هذه القيم للتصويت أو لعد الأصابع.
وليس المقصود من الانتقادات السابقة رفض الديموقراطية، فهناك إنجازات تحققت بالفعل، ولابد من الاستفادة منها ومحاولة تطبيقها، مثل تعدد الأحزاب والفصل بين السلطات وخضوع السلطة التنفيذية للمساءلة أمام السلطة التشريعية، مع التنبه في الوقت نفسه للمثالب التي يتسم بها نموذج الديموقراطية الغربية. والله أعلم.
16-3-2006
http://www.alqlm.com المصدر:
=============(55/54)
(55/55)
الديموقراطية والطريق إلى التهلكة
حسين أبو بكر إدريس
ارتفع القرآن بالدين من عقائد الكهانة والوساطة والنار والمحاريب إلى عقائد الرشد والهداية، والإنسان أهل للكمال والنقص؛ فهو أهل للخير، وأهل للشر؛ لأنه أهل للتكاليف، والإنسان مسؤول عن عمله فرداً وجماعة؛ لا يؤخذ واحد بوزر آخر، ولا أمة بوزر أمة: ((كل امرئ بما كسب رهين)).
مناط المسؤولية جامع لكل ركن من أركانها، يتغلغل إليه فكر الباحثين عن حكمة التشريع الديني، أو التشريع في الموضوع؛ فهي بنصوص الكتاب قائمة على أركانها المجملة - تبليغ، وعلم، وعمل - قال - تعالى-: ((ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون))، وقال - تعالى-: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)).
إن القرآن الذي ميز الإنسان بخاصة التكليف هو الكتاب الذي امتلأ بخطاب العقل بكل ملكة من ملكاته؛ فالعقل وازع (يعقل) صاحبه عما يأباه له التكليف، العقل فهم وفكر يتقلب في وجوه الأشياء وفي بواطن الأمور، والعقل رشد يميز بين الهداية والضلال، والعقل رؤية وتدبير، والعقل بصيرة تنفذ وراء الأبصار، والعقل ذكرى تأخذ من الماضي للحاضر، وتجمع العبرة مما كان لما يكون، وتحفظ وتعي وتعيد الذكرى، إذاً فالعقل بكل هذه المعاني موصول بكل حجة من حجج التكليف، وكل أمر بمعروف، ونهي عن محظور.
أفلا يعقلون؟ أفلا يتفكرون؟ أفلا يبصرون؟ أفلا يتدبرون؟ أليس منكم رجل رشيد؟ أفلا تتذكرون؟ إن هذا العقل بكل عمل من أعماله التي يناط بها التكليف حجة على المكلفين فيما يعنيهم من أمر الأرض والسماء، ومن أمر أنفسهم، ومن أمر خالقهم وخالق الأرض والسماء؛ لأنهم وكما يقول - تعالى-: (( وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار)).
إذاً فنعمة العقل نعمة وهبها الله للإنسان تمييزاً بين سائر المخلوقات، هذا الإنسان الذي قبل بحمل أمانة التكليف كما في قوله - تعالى-: ((إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً))، ويراد بها التكليف كما يراد بها الطاعة؛ لأنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء.
إذاً فالإسلام لا يعذر إنساناً يعطل عقله ليطيع السادة المستكبرين أمثال سادة الغرب، ولا أحبار المتسلطين بسلطان المال والدين أمثال الصهاينة والنصارى قال - تعالى-: ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله))، إذاً فالأمانة تكون في التكليف، والمساواة في التقوى كما في قوله - تعالى-: ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير )).
إذا كانت البشرية قد تعددت شعوباً وقبائل كما جاء في الآية الكريمة فإنما هذا التعدد أقوى الأسباب لإحكام صلة التعارف بينها، وتعريف الإنسانية كلها بأسرار خلقها؛ فإن تعدد الشعوب والقبائل يعدد المساعي والحيل لاستخراج كنوز الأرض، واستنباط أدوات الصناعة على حسب المواقع والأزمنة، وعلى حسب الملكات والعادات التي تتفتق عنها ضرورة العيش والذود عن الحياة؛ فينجم عن هذا ما لا بد أن ينجم منه من تعدد الحضارات، وأفانين الثقافة، وتزداد الإنسانية عرفاناً بأسرار خلقها، وعرفاناً بخالقها، واقترابا فيما بينها قال - تعالى-: ((ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين))، وهذا هو حكم القرآن في وحدة بني الإنسان، وفي تدعيم هذه الوحدة بما يحسبه الناظر المتعجل باباً من أبواب الأفراق والتباين؛ وهو تعدد الشعوب والقبائل، واختلاف اللغات والألوان؛ قال - تعالى-: ((وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون)) يونس 19، وأيضاً قوله - تعالى-: ((ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين))، وقال - تعالى-: ((ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات)) المائدة 48.
إن هذه الوحدة في صلة الإنسان مشدودة بين الناس كافة في الصلة بالله ربهم ورب العالمين؛ الذي يسوي بينهم، ويدينهم بالرحمة والإنصاف، ثم يقضي بينهم فيما اختلفوا بقسطاس العدل أيهم أحسن عملاً، وأقرب إلى التقوى، واستباقاً إلى الخيرات؛ قال - تعالى-: ((إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ))، وقال - تعالى-: ((قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون)).
ما التقوى؟! التقوى كلمة واحدة تجمع كل وازع يزع الضمير، وأقدر الناس على أمانة التقوى أقدرهم على النهوض بالتبعة، وأعرفهم بمواضع المعروف والمنكر، والمباح والمحظور.(55/56)
إن العالم الإنساني كلمة غير مفهومة عند من يدين برب غير رب العالمين، وإن قيم الأخلاق كيل جزاف حين تنقطع الأسباب بين الحسنات والسيئات، وبين الثواب والعقاب، وإن الإنسانية الجامعة شيء لا وجود له قبل أن يوجد الإنسان (المسؤول).
إذاً فالتقوى تتمثل فيها كل المعاني السامية - من مساواة، وعدل، وحرية، وأخلاق، وفضيلة - ولو شاء فلاسفة الأخلاق لعلموا ما هي التقوى، وعلموا حقّاً أن موازينهم جميعاً لا تحسن الترجيح بين فضل وفضل، وقدرة وقدرة؛ كما تحسنه هذه التقوى ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم))، إنه لهو القسطاس الذي ينشئ للإنسانية حقوق المساواة بين أبنائها ديناً وعلماً، وفلسفة وشريعة، وإلهاماً من الوحي الإلهي، وتمحيصاً من البديهة الإنسانية.
ومكان الوحي الإلهي في هذه المساواة أنها قد شرعت للإنسان شريعتها حقاً من حقوق الخلق والتكوين، ولم تشرعها له وسيلة من وسائل الحكم، وإجراءاً من إجراءات السياسة إبّان الحظر المطبق خيفة من ثورة النفوس، وتنافساً على عدد الأصوات في معارك الانتخابات.
فإن أحداً ممن خوّلهم القرآن تلك المساواة لم يطلبها، ولم يكن لينالها قبل أن تنزل عليه من وحي رب العالمين، ولكنها لم تنشأ في حضارة من حضارات العالم القديم أو الحديث إلا وكانت وراءها حيلة، أو وسيلة سياسية، أو مراوغة تمكين وتسكين.
ولولا الله ثم الحروب القديمة - كحرب أثينا، وأسبارطة، وحروب روما، وفارس، وحروب الأمم في القرن العشرين - لما سمع الناس بشيء يسمى الديموقراطية، ولا رضخ الديموقراطيون المتأخرون بشيء للكادحين - ذوي المعاول والمناجل -، أو لذوي الألوان المجندين للمصانع والمعسكرات، ولما سمع العالم بمساواة بين بني آدم لا فضل فيها لأحد منهم على أحد بغير العمل الصالح وتقوى الله.
إذاً فلنسأل أنفسنا: هل الديموقراطية - التي يريدها الغرب، وتريد الأمم المتحدة أن توحد بها الشعوب والأمم، والقبائل لكي يتعرفوا ويتحاببوا - هل هي من التقوى؟!
الإجابة طبعاً بالنفي، إن ديموقراطية العصر الراهن هي ديموقراطية المصالح والمنفعة، ديموقراطية الاحتلال والقتل والتدمير؛ سيان عندهم إذا كانت تحمل معاني إيجابية سامية، أو سلبية قهرية؛ لأن منظور المساواة في الديموقراطية يتناقض عنه في التقوى؛ فالمساواة في التقوى هي العدل الذي ينشئ حقوقاً متساوية للإنسانية بين أبناء البشر إلهاماً من الوحي الإلهي، أما المساواة في مبدأ الديموقراطية ففيها ازدواجية المعايير، والكيل بعدة مكاييل؛ وذلك بغرض الهيمنة والتسلط على الشعوب والأمم؛ وليست فيها حقوق متساوية بين البشر؛ والأمثلة واضحة في الوقت الراهن؛ وذلك من حروب واعتداءات على الدول والأفراد؛ فهي تنصبّ فقط في مصلحة أعداء الإنسانية.
نرى أن بعض المبادئ والمذاهب والأيدلوجيات التي استخدمت في القرن الفائت انتهت بنهاية القرن - منها الشيوعية، والفاشية، والنازية، والجمهورية - والقرن الحالي سوف يقضي - بإذن الله - على باقي المبادئ والمذاهب والأفكار الهدامة؛ والتي على رأسها الديموقراطية؛ والتي يتبناها المبدأ الرأسمالي الغربي؛ لأنها مبادئ وأفكار من صنع البشر؛ ويريدونها أن تكون بديلاً للعقائد الإلهية!!، نرى أن شياطين الإنس الذين يتحدون مع شياطين الجن يعملون لذلك، وأيضاً لنشر الفساد والرذيلة، وعبادة الأوثان والمخلوقات من البشر وغير البشر، وعبادة الشيطان.
وليس جديداً أن نسمع بأشياء لا يقبلها العقل والمنطق موجودة في أفكارهم ومبادئهم ونظرياتهم؛ ومنها أن الإنسان عنصر واحد، عنصر سيد، وعنصر مسود، وأن أبناء الإنسانية جميعاً عبيد للعنصر السيد، والعنصر السيد عبد للسيد المختار!!.
وسمعنا وقرأنا أن الإنسان يولد بذنب غيره، ويموت بذنب غيره، ويبرأ من الذنب بكفارة غيره.
وسمعت البشرية من القرآن الكريم غير ذلك؛ فأهل القرآن متدبرون؛ يستمعون إلى العقل كما يستمعون إلى الإيمان؛ إذا اطمأنوا وثبتوا على اطمئنانهم إليه.
الإنسان في عقيدة القرآن هو المخلوق المسؤول بين جميع ما خلق الله؛ يدين بعقله فيما يرى ويسمع، ويدين بوجدانه فيما طواه الغيب فلا تدركه الأبصار والأسماع، فالإنسانية من أسلافها إلى أعقابها أسره واحدة؛ لها نسب واحد، وإله واحد، أفضلها من عمل حسناً، واتقى سيئاً، وصدق النية فيما أحسنه واتقاه.
فالمنصف بين النصاح لا يستطيع أن ينصح لأهل القرآن بعقيدة في الإنسان والإنسانية أصح وأصلح من عقيدتهم التي يستوحونها من كتابهم، وإن أهل القرآن يتدبرون القول فيتبعون أحسنه؛ فلم يأخذوا بعقيدة من العقائد التي يروّج دعاتها باسم المادية أو الفاشية أو العقلية، ويريدون بها أن تكون على الزمن بديلاً من العقائد الأرضية.
إذاً فالديموقراطية مبدأ شيطاني زاهر، يحمل معاني رنانة تأخذ بألباب وعقول البشر، وداخله معاني تؤدي إلى الكفر والإلحاد، والفجور والتهلكة.
http://www.meshkat.net:المصدر
==============(55/57)
(55/58)
عن التيار القومي العربي والعودة إلى الديموقراطية
غازي التوبة
إن عدم امتلاك الفكر القومي العربي للحد الأدنى من المعقولية، والفقر الثقافي الذي تعاني منه فكرة القومية العربية، وممارسة القيادات القومية الخاطئة على الصعيدين: السياسي والثقافي هو الذي عطل مشاريع النهضة خلال القرن الماضي، وهو الذي أوصل الأمة إلى الأزمة الحالية على كل الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والفكرية.
قاد التيار القومي العربي الأمّة بعد الحرب العالمية الأولى، وارتبط هذا التيار آنذاك بالديموقراطية، وأقام تجارب ديموقراطية في مختلف الدول التي تكونت آنذاك: العراق وسورية ولبنان والأردن...إلخ، وكانت التجربة الأبرز في العراق، الذي استقل مبكراً في عام 1932، والذي أصبح غنياً باستخراج النفط من أرضه، وكان القصد من تلك التجارب تحقيق بعض صور العدل السياسي، لكن لم يتحقق شيء من ذلك، فلم ينجح التيار القومي العربي في إرساء النموذج الديموقراطي، ولا تقديم نموذج عادل للحكم، ونستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول: إنه لم يغرس أية تقاليد أو أعراف يُبنى عليها في مجال العدل السياسي، ثم زالت كل تلك التجارب بعد سلسلة الانقلابات التي وقعت في الخمسينات في مصر والعراق وسورية... إلخ.
ارتبط التيار القومي العربي بالاشتراكية في الستينات، وعمّ التزاوج بين التيارين القومي العربي والاشتراكية في معظم أنحاء الوطن العربي، وقامت زعامات ودول وأحزاب وبرامج على هذا التزاوج، شمل كلاً من مصر والعراق وسورية واليمن والجزائر والصومال والسودان... إلخ، وكان القصد من التوجه الاشتراكي إقامة العدل الاقتصادي وتوزيع الثروة، وإزالة الفقر وإنهاء التباين الاقتصادي، لكن شيئاً من ذلك لم يتحقق، بل كانت الاشتراكية وبالاً على الأمة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية... إلخ، فقد قامت ديكتاتوريات من أعتى ما عرفه التاريخ العربي باسم الطبقة الكادحة وبدعوى ديكتاتورية البروليتاريا، وعمّ الفقر مختلف طبقات الشعب، وانحصرت السلطة والثروة بأيدي الأسر الحاكمة ورجال المخابرات، وتفككت الأمة وبرزت الروابط الطائفية والمذهبية كملاذ أخير هرباً من الضياع الذي أفرزه الاستبداد.
والسؤال الآن: لماذا لم ينجح التيار القومي العربي في إرساء قواعد العدل السياسي أو الاقتصادي في المجتمعات التي حكمها مع أنه استدعى الديموقراطية والاشتراكية من أجل تحقيق ذلك؟ لماذا لم ينجح التيار القومي العربي في إرساء أية تقاليد ديموقراطية أو اشتراكية كما حدث مع شعوب أخرى في شرق آسيا وأميركا اللاتينية عند تطبيقها للديموقراطية أو الاشتراكية؟ السبب في ذلك هو أن الفكرة القومية العربية التي يستند إليها التيار القومي العربي فكرة لا تملك الحد الأدنى من المعقولية، ولا تقوم على أي أساس واقعي، فالتيار القومي العربي يزعم أنه الأمة الموجودة بين المحيط والخليج أمة عربية، تقوم على عنصري اللغة والتاريخ، والحقيقة أنه ليست هناك أمة عربية تقوم على هذين العنصرين، بل هناك أمة تقوم على الدين الإسلامي، وهذا ما أدى إلى أن تكون القومية العربية فقيرة ثقافياً، بسبب استبعادها لعنصر الدين من تكوين الأمة الموجودة من المحيط إلى الخليج، والذي لا مبرر له إلا المماثلة بين القومية العربية والقومية الغربية التي تقوم على معاداة الدين. ولم ترتكب القيادات القومية هذا الخطأ وحده في صياغة مضمون الفكر القومي العربي، بل مارست دوراً خاطئاً على صعيدين: سياسي وثقافي، فعلى الصعيد السياسي، حاولت أن تقيم الوحدة السياسية التي لم تتحقق في التاريخ الماضي إلا في فترات محدودة، فكان عليها أن تدعو إلى صيغة سياسية فيديرالية تناسب الحاضر وتلائم الماضي. وعلى الصعيد الثقافي، مارست القيادات القومية تمزيقاً وإضعافاً للوحدة الثقافية من خلال النقل الحرفي لمضمون الحضارة الغربية في مختلف المجالات: الفكرية والتربوية والاجتماعية... إلخ، والسبب في ذلك هو الفقر الثقافي في مضمون القومية العربية الذي أشرنا إليه سابقاً.
إن عدم امتلاك الفكر القومي العربي للحد الأدنى من المعقولية، والفقر الثقافي الذي تعاني منه فكرة القومية العربية، وممارسة القيادات القومية الخاطئة على الصعيدين: السياسي والثقافي هو الذي عطل مشاريع النهضة خلال القرن الماضي، وهو الذي أوصل الأمة إلى الأزمة الحالية على كل الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والفكرية... إلخ.
والآن: هل مارس التيار القومي العربي نقداً ذاتياً؟ هل راجع بنية الفكر القومي العربي؟ هل أعاد النظر في العوامل التي يقوم عليها بناء الأمة؟ الحقيقة لا، إنه لم يمارس نقداً ذاتياً، ولم يراجع أطروحاته وآراءه وأفكاره، إنما هو يعيد الآن ترتيب أوراقه من جديد، لعله يلعب دوراً قيادياً بالنسبة لجماهير الأمة كالماضي، وهو من أجل تحقيق ذلك يقوم بعملية مزدوجة ذات شعبتين:(55/59)
الأولى: المصالحة بين التيار الإسلامي: أقام التيار القومي العربي مصالحة مع التيار الإسلامي، بدعوى أنه لا تعارض بين العروبة والإسلام، وأن التصادم السابق بين التيار القومي العربي والإسلامي خلال الخمسينات والستينات، كان خطأ يتحمل مسؤوليته الغلاة من الطرفين وأن التيارين يكملان بعضهما، وهو يقصد من هذه المصالحة استعادة جانب من شعبيته التي خسرها بعد نكسة عام 1967، وتبلورت هذه المصالحة بين التيار القومي العربي والتيار الإسلامي في المؤتمر القومي الإسلامي الذي عقد دورته الأولى في عام 1994، ويتطلع التيار القومي العربي إلى إرساء معالم مشروع حضاري، من خلال لقائه مع التيار الإسلامي، وليس تحقيق أهداف سياسية فقط، وهو في هذا يعيش وهماً عميق الغور، والسبب في ذلك أن أي مشروع حضاري لا بد من أن يمتلك أفكاراً متسقة، وهو لا يحقق الحد الأدنى من الاتساق عندما يجمع القومية العربية بمضمونها الحالي مع حقائق الدين الإسلامي، فالقضية ليست قضية العروبة والإسلام كما يتصور التيار القومي العربي، فلم يكن هناك أي تصادم بين العروبة والإسلام في أية مرحلة تاريخية ماضية، بل كان الإسلام حاضناً للعروبة بمعناها الثقافي في كل المراحل التاريخية السابقة.
الثانية: العودة إلى الديموقراطية: رفع التيار القومي العربي شعار الديموقراطية وضرورة تطبيقها في واقعنا العربي، ويتضح ذلك في الندوات التي أقامها، والكتب والدراسات التي أصدرها أبرز ممثلين للتيار القومي العربي، وهما: مركز دراسات الوحدة العربية، والمؤتمر القومي العربي، فهل سينجح في إحياء الديموقراطية وفي إقامة العدل السياسي؟ لا أظن أنه سينجح في ذلك، حتى لو افترضنا صدق النية وبذل أقصى الجهد في السعي لتحقيق الديموقراطية، والسبب في ذلك الأفكار القومية التي يستند إليها التيار القومي، وهي في ما أرجّح الأفكار التي حالت دون أي نجاح للتجربتين: الديموقراطية والاشتراكية، وهي التي حالت دون أن تترسخ أية تقاليد سليمة يبني عليها اللاحقون من أبناء الأمة في مجالي العدل السياسي والاقتصادي في القرن الماضي.
25/09/2005
http://www.ala7 r ar.net المصدر:
===============(55/60)
(55/61)
العلمانية والديموقراطية بين النظرية والآلية 1- 2
د : يحيى هاشم حسن فرغل
يدور نقاش حول اعتبار كل من العلمانية والديموقراطية محض آلتين (وسيلتين) ينبغي حصر تقييم كل منهما بحسب ما تستعملان له.
وفي رأينا أن ذلك غير وارد بالنسبة للعلمانية في المجال الإسلامي..
ولبيان ذلك نذكّر بما كتبناه سابقا عن مصطلح العلمانية من أن لفظة العلمانية ترجمة غير دقيقة لكلمة (Secula r ism) في الإنجليزية، أو(Secula r ite) بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ "العلم" ومشتقاته على الإطلاق. فالعلم في الإنجليزية والفرنسية معناه (Science) والمذهب العلمي (Scientism) والنسبة إلى العلم هي (Scientific) أو (Scientifique) في الفرنسية.
أما الترجمة الصحيحة لمفهوم العلمانية فهي (اللادينية) أو (الدنيوية).
تقول دائرة المعارف البريطانية مادة (Secula r ism): (هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيهم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها).
أما معجم أكسفورد فيشرح الكلمة بمعني: "دنيوي، أو مادي، ليس دينيا ولا روحيا: مثل التربية اللادينية، الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة. وبمعنى ألا يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية"..
وفي "المعجم الدولي الثالث الجديد" جاء شرح مادة: (Secula r ism) على أنها: "اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب ألا تتدخل في الحكومة، أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعادا مقصوداً، فهي تعنى "السياسة اللادينية البحتة في الحكومة".
وبالرجوع إلى معجم ويبستر فإن (العلماني: يعني " الدنيوي أو اللاديني والأشياء الدنيوية المتمايزة عن الأشياء الروحية. والعلمانية: رؤية للحياة أو أي أمر محدد يعتمد أساسا على استبعاد الدين وكل الاعتبارات الدينية وتجاهلها، ومن ثم فهي نظام أخلاقي اجتماعي يعتمد على أن المستويات والسلوكيات الاجتماعية يجب أن تحدد من خلال الرجوع إلى الحياة المعاشة والرفاهية الاجتماعية دون الرجوع إلى الدين).
هذا وإن كان بعض الكتاب يحاولون فض الاشتباك بين الإسلام والعلمانية حيث يرجعون إلى تعريف معجم لاروس الفرنسي للعلمانية بأنها " فصل الكنيسة عن الدولة"sépa r ation de l'Eglise et de l'Etat قائلين: إنه أدق تعريف لها وإذن فشأنها متصل بالكنيسة ولا شأن لها بالإسلام: (لأنه أي هذا التعريف يضعها في سياقها الثقافي والاجتماعي، ويكشف عن حدودها الزمانية والمكانية، على خلاف التعريف المبهم الذي يستخدمه أنصاف المثقفين في الوطن العربي، حين يجردون العلمانية من سياقها التاريخي ويصبغونها بصبغة عالمية، فيعرفونها بأنها "فصل الدين عن الدولة". ) إذا كان ذلك كذلك فإن التطبيق الواقعي لها في منبتها وتسويقها في بلادنا الإسلامية آل إلى وضع كلمة " الدين " موضع كلمة " الكنيسة" وحيث لا كنيسة للإسلام اخذوا يطالبون بإبعاد " الدين " عن الدولة في مختلف ممارساتها الخاصة بتنظيم شئون الحياة في السياسة والتربية والإعلام والثقافة والفن والعلم على السواء.
وهذا ما بدأ تطبيقه بتوسع مندفع منذ ما يقرب من قرن، في بعض البلاد الإسلامية مثل تركيا، وببطء محسوب في بلاد أخرى مثل مصر...
وتتميما للفائدة فإني أشير هنا إلى الدراسة القيمة للأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه المشترك بعنوان " العلمانية تحت المجهر " وهو خير من يستشهد به في هذا المقام إذ قدم تعريفا للمصطلح واضعا إياه في سياقه التاريخي مع متابعة نشوئه، من تاريخ ما سمي " صلح وستفاليا " الذي يقال إنه أوقف الحروب الدينية في أوروبا عام 1648، ثم أصّله بتعريف واضح لجون هوليوك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: أن العلمانية هي "الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية، دون التصدي للإيمان، سواء بالقبول أو الرفض" (ص 12).
وإذا كان البعض يرى في هذا التعريف نوعا من الحياد بالنسبة للدين فإن الدكتور المسيري يكشف عما فيه من انحياز ضد الإيمان الديني، وذلك عبر استهداف نموذج لإصلاح حال الإنسان بالطرق المادية يجب الوصول إليه من غير طريق الإيمان.
وإذا أردنا أن نربط هذا التعريف بتطور العلمانية في التفكير الأوربي الذي أنتجها إلى الوقت الراهن يمكننا القول بأنها أي العلمانية قد مرت بأربعة أحوال خضعت فيها لقانون التناقض (الفعل ورد الفعل) الخاضع بدوره لسنة الله في الكون، وهي سنته في توليد التناقضات، لوضع سقف لعلو المتعالي منها، وإن بضرب بعضها ببعض، وتسليطها ضد من لا يوظفون أنفسهم في إسلام النفس لله..
المرحلة الأولى: والتي ظهرت فيها كرد فعل لطغيان الكنيسة وفسادها في القرون الوسطى..وذلك باستبعاد الدين " الكنيسة " من وظيفة الدولة للحالة السياسية... إلخ.
المرحلة الثانية: والتي ظهرت فيها العلمانية في مواصلة حركتها في نفس الاتجاه كاستكمال لحركة الاندفاع الأصلية في محاربة الدين، وذلك بمحاولة القضاء عليه كلية باعتباره أفيونا للشعوب، وحصلت من ثم التجربة الفاشلة في الاتحاد السوفيتي والأنظمة التي دارت معه..(55/62)
وقد ظهرت المرحلتان في العالم الإسلامي باعتبار ما لهذا العالم من ذاتية نسبية من ناحية، ولكن في المقام الأول باعتباره " كوكبا تابعا " بحكم هذه الدورة الحضارية الخارجة عن نطاق سيطرته أو قيادته.
المرحلة الثالثة: ونتيجة لفشل المرحلة الثانية خضوعا لقانون التناقض نفسه - حصل رد الفعل المعاكس برجوع الدين، إلى التربع على كرسيه في الغرب المسيحي كمسرح للأحداث الكبرى في الدورة التاريخية المعاصرة وكما يقول السفير الألماني السابق مراد هوفمان (فالحكومات الغربية جمهوريات ديمقراطية مسيحية، وذلك بالقانون، عدا فرنسا.
في ألمانيا مثلاً: الله مُعتبر في الدستور، والأحد إجازة رسمية، وكذلك الأعياد المسيحية. وفي الكريسماس يتوجه كل من المستشار والرئيس بكلمة للشعب في الكريسماس، وتعلم المدارس الحكومية الديانة المسيحية بواسطة مدرسين تدفع الدولة مرتباتهم.
ويُقسم الجنود بالله على ولائهم للجمهورية والدفاع عنها. وتجمع الإدارة المالية الحكومية "ضريبة الكنيسة" للإنفاق على الديانات المسيحية المعترف بها وهي: الكاثوليكية، اللوثرية، الإصلاحية، وعلى اليهودية. وللكنائس الحق في قرع أجراسها، والتجديف جريمة يُعاقب عليها في قانون العقوبات، ويوجه الأساقفة الكاثوليك ـ رمزاً ـ إلى اجتناب التصويت لبعض الأحزاب؟!. كذلك الحال في البلدان الأوروبية الأخرى، وأمريكا أما في فرنسا فالعلمانية تؤخذ على أنها دين. ).
الحالة الرابعة: مرحلة استكمال حركة استرجاع الدين، ولكن مع إضافة توظيفه في صدام الحضارات ومحاربة الإسلام - وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية - كما عبر عنها هانتنجتون، وهذه الحالة هي الأكثر ظهورا وتأثير في مجال العلاقة بين الإسلام والغرب المسيحي.
الحالة الخامسة: - ما زالت في طور الجنينية - مرحلة مجاراة حركة استرجاع الدين ولكن مع تهذيبها ومحاولة مقترحة نظريا في توظيفها في المصالحة مع الإسلام من وجهة نظر الأستاذ جون فول.
وابتداء من المرحلة الثالثة يمكن أن نقرأ في وضوح انهيار العلمانية أو نهايتها في ظاهرة استرجاع الدين لسدة الحكم والتأثير في الأحداث في الغرب، سواء بتوظيفه في وحشية الصدام وهو الغالب، أو بتوظيفه في المصالحة مع العدو (الإسلام) وهو أي هذا التوظيف - ما يزال صوتا خفيضا في مرحلة الدراسة الأكاديمية.
وفي جميع الأحوال فسنة الله نافذة في توليد التناقضات لوضع سقف لعلو المتعالي منها، وتسليطها ضد من لا يوظفون أنفسهم في إسلام النفس لله، وفي هذا المعنى يقول الله - سبحانه وتعالى - (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، إن إلى ربك الرجعى).
ولعله من هذا القبيل ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن أنس - رضي الله عنه - وذكره في باب التواضع: قال كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء وكانت لا تُسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين، وقالوا: " سبقت العضباء "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه). أنظر مقالنا بعنوان " قضية التناقض " بجريدة الشعب بتاريخ 14\ 6 \ 2003
إنها العلمانية التي اختاروها طريقا للنهضة:
وهكذا الأمة الإسلامية أو قل العربية: تعاطت مخدر العلمانية تسريبا ثم تعاطته اختيارا، ثم تعاطته إدمانا منذ سقوط دولتهم في بداية القرن الماضي وآن للمخدر أن يشرف بها على الهلاك.
إنها العلمانية في حدها الأدنى باستبعاد الدين، ومن ثم استبعاد الالتفاف حوله، وتجريم الاعتصام بحبله، وهجر الانتصار بنصره، وإغفال سنته في العمل الصالح بشريعته، وإسقاط الجهاد وشروط الجهاد، وتسخيف الدعاة إليه وإهمال تعبئة الجماهير به، واستئجار المناصب والسلطات والفتاوى ضده.
إنها العلمانية التي أدرك قبح فعلها - وإن لم يدرك دلالة اسمها - عامة المسلمين الذين درجوا منذ زمن بعيد على تشخيص كل انحراف بأنه إنما نشأ من " البعد عن الدين " ولكنهم ويا للمفارقة - استمرءوها.
إنها العلمانية وكفى تساؤلا ساذجا:
إنها العلمانية المحلية بالذات تلك المدسوسة بيننا، المسماة ببعض أسمائنا، والتي قامت بدور " السبب الضروري " وإن لم تكن هي السبب الكافي.
ومن أحدث تجلياتها قيام حرب كونية يقودها الصليبي المحدث: بوش الإبن، من أجل زرع ما يسميه الديموقراطية في أرض يخصبها أولا بالعلمانية بعد أن يقتلع منها الإسلام.
هذه هي الخلفية التي يراد زرعها قبل السماح بالديموقراطية
ولا صحة لما يردده بعض كتابنا الذين نكن لهم كل احترام من التسوية بين الديموقراطية والعلمانية من حيث اعتبار كل منهما آلية يمكن استعمالها لما يراد من تطوير.(55/63)
نقول ونكرر: العلمانية ليست محض آلية فبالرجوع إليها في حقل إنتاجها نجدها مبدأ لنظرية سياسية في تكييف العلاقة بين الدين ونظام الحكم، ففي المرحلة المعتدلة من نشأتها ذهبت إلى اعتبار الدين أمرا شخصيا لا شأن للدولة به كما لا شأن له بالدولة، ومع ذلك فهو لا يسلب المسيحية كدين من كل قيمة لها وإن كان ينكر عليها بعض تعاليمها، وفي هذا الطريق ظهرت بعض الاتجاهات في فلسفة فولتير (1694- 1778) في فرنسا، وليسنج في ألمانيا (1872)، وشفتسبري في انجلترا (1671- 1712) وجون لوك في انجلترا (1632- 1704).
ومن فلاسفة هذه المرحلة الفيلسوف الإنجليزي " هوبز " (1588 1679) الذي ذهب إلى أن الدولة عقد، وأن عليها أن تسوق الإنسان بالإكراه إلى الانضمام لهذا العقد، نظرا لطبيعته الأنانية - على العكس من نظرة روسو (1712- 1778) الذي كان يرى هذا الانضمام نابعا من طبيعة إنسانية خيرة، ويتحدث هوبز عن سيادة الدولة فيجعلها المصدر الوحيد للقانون والأخلاق وكذلك الدين ويقول في شأن ذلك " لهذا أعلن أن سلطة الدولة العليا لها الحق في أن تفصل هي في بعض التعاليم: هل هذه التعاليم تُحتمل بالنسبة لطاعة المدنيين للدولة أم لا؟ فإذا كانت لا تحتمل فيجب تحريم انتشارها " …. وللدولة ممثلة في الأكثرية أن تفعل ما تريد، وللجماعة أن تستحسن أو تستقبح ما تشاء فهي مقياس الأشياء ومعيار القيم..
وفي المرحلة الثانية: مرحلة العلمانية المتطرفة، وهي مرحلة القرن التاسع عشر كانت قد بلغت قمتها في التطرف في الفكر المادي التاريخي ابتداء من فيورباخ 1804-1872 حيث سار قدما نحو إلغاء ثنائية الغيب والشهادة أو الغائب والشاهد، والكنيسة الأوربية والدولة: لحساب الإيمان بالمحسوس وحده، وبالمادية وحدها، والإنسان هو الموجود الإلهي وليس الله، والدين الجديد هو السياسة وليس المسيحية، والسياسة يجب أن تكون دينا، والله والدين ليس أي منهما أساس الدولة وإنما أساسها الإنسان وحاجته، ليس الإيمان بالله ولكن الشك في الله هو ما يجب أن يكون العامل في قيام الدولة، والدولة هي مضمون الواقع كله، وبهذا تصبح الدولة مناقضة للدين، ويصبح الإلحاد العملي هو الرباط بين مكونات الدولة.
وبهذا مهد فيورباخ الطريق التي سلكها من بعده كارل ماركس مع زميله إنجلز نحو تأسيس ما سمى بالمادية العلمية التاريخية الإلحادية، وتعود تلامذة ماركس أن يلقبوه بأبي الاشتراكية العلمية، حيث كان يرى أن الحقيقة المادية هي الأصل للعالم، وما عداها مما له طبيعة " الفكرة " كالعادة والأخلاق والقانون والدين والثقافة تابع في الظهور لتلك الحقيقة (المادة).
كما ذهب ماركس إلى أن هدم المسيحية مقدمة ضرورية لبناء عالم يكون فيه الإنسان سيد نفسه، وهو لا يرفض المسيحية وحدها ولكن كل دين كذلك، إذ الدين في غيبياته عن الألوهية والآخرة والجنة والنار والملائكة والروح والجن.. إلخ يسلب الإنسان وعيه بمأساته وشقائه، في الوقت الذي يمنيه فيه بعالم أفضل وإذن فـ " الدين هو أفيون الشعوب " أنظر " العلمانية والإسلام بين الفكر والتطبيق " للأستاذ الدكتور محمد البهي نشرة مجمع البحوث الإسلامية لعام 1976ص 10 - 13 18 19 20 - 2122..
ومن هنا فإن الأستاذ الدكتور المسيري يرى في العلمانية مثل ما ذهبنا إليه - ما هو أبعد من فصل الدين عن الدولة، ألا وهو النموذج المادي الذي تنطوي عليه، والذي يشكل "رؤية تفسيرية شاملة للعالم والكون" ترتكز على عناصر مادية ترفض أي مرجعية متجاوزة أو ما ورائية. ويرى كما رأينا في كتابنا عن العلمانية - أن هذه العلمانية الشاملة لا تتجسد في المجال السياسي عبر فصل الدين عن الدولة فحسب، - وهذا في حد ذاته يمثل خروجا على الإسلام - ولكن في كل مجالات الحياة الإنسانية الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والمعاملاتية والأخلاقية.(55/64)
يقول ريتشارد وولن فيما يعتبر تلخيصا لتطور العلمانية في مقاله بعنوان " الانعطافة الدينية عند الفيلسوف يورغن هابرماس " ترجمة خالدة حامد (سادت بين مفكريّ القرن التاسع عشر قناعة لا يمكن الارتياب بصحتها تقول بأن مركزية الدين الثقافية أمست شيئاً من الماضي. ويرى هيغل ـ مقتفياً أثر الأنوار ـ أن دقة العقل المفهومية المتفوقة قد تجاوزت الدين. ويصور لودفيغ فيورباخ في كتابه "ماهية المسيحية" العلاقة بين "الإنسان" و"الله" بوصفها لعبة حاصلها صفر. ونجد في موقفه هذا أن التركيز على التقوى ينتقص من سمو غايات الإنسان. وفي أحد أعماله المبكرة كتب ماركس (الشخصية الأشد تأثيراً في فيورباخ) أن "الدين أفيون الشعوب" واعتقد أن إبطاله هو شرط ضروري لرفاهية الإنسان. وغاص نيتشه في أعماق المسألة من خلال أناه الأدبية، نبيه زرداشت، ليعلن بفظاظة "موت الله" ملخصاً بذلك ما كان يفكر به الكثير من المثقفين الأوروبيين لكن قلة منهم كانت لديه الشجاعة لقول ذلك. ومن يمكن له أن ينسى تشخيص الفيلسوف الألماني الدقيق للمسيحية بوصفها "أخلاق العبيد": نظام اعتقاد عامة الرومان الذي يلائم الملتزمين المتخوفين. ويرى نيتشه أن الممثلين الوحيدين للمسيحية والذين يستحقون الثناء هم الذين يستطيعون أن يجدوا متعة بالغة في محاكم التفتيش التي يصدر عنها فعل الإيمان، مثل أغناطيوس لويولا. وقلّما كانت تشخيصات القرن العشرين لمسألة الاعتقاد أكثر سخاءً، وهنا لا يحتاج المرء إلى أكثر من الاطلاع على عنوان آخر بحث قدمه فرويد عن الدين وعنوانه "مستقبل وهم". ) نقلا عن موقع إيلاف بتاريخ 7\8\2005.
هذه هي العلمانية في منبتها في موقفها الفلسفي بالنسبة للدين:
ومن هنا فإننا نقول: العلمانية ليست محض آلية ولا يمكن أن تكون وبخاصة في المجال الإسلامي، إنها تقاعست عن أن تكون آلة محضة في المجال المسيحي حيث يمكن قسمة العالم بين ما لله وما لقيصر، وهي بيقين لا يمكن أن تكون محض آلية حيث يجعل الإسلام كل شيء لله 0(قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، قل أغير الله أبغي ريا وهو رب كل شيء) الأنعام 162 164، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة الذي استشهدنا بها في مقالنا الأسبق بعنوان " لا علمانية مع الإسلام " و في مقالنا السابق بعنوان " تطبيق الشريعة الإسلامية فريضة مستقرة في مبنى الإسلام ".
وكيف تكون آلية صالحة للتعامل مع المذاهب المختلفة وهي تكشر عن أنيابها المذهبية أمام المسلمين في الغرب بعد أن كشرت عنها في الشرق.
يقول السيد طارق حمدي في مقاله بعنوان " بريطانيا والإسلام وأكذوبة تعايش الحضارات): (مازالت تتصاعد الحملة ضد المسلمين بعد أحداث 7/7 \2005، وقد ألقت الحكومة البريطانية والإعلام اللوم على التطرف المنتشر بين الجالية الإسلامية، بل وتطاول العديد من الصحفيين علي الإسلام مثل الذي قال إن القرآن يمجد العنف (شارلز مور -الديلي تلغراف 9/7/2005) رغم كثرة التنديدات بشأن ذلك الحادث.
وقد بدأ بعض الكتاب بالتصريح بأن فكرة بريطانيا متعددة الثقافات قد فشلت (سايمون هايفر الديلي ميل 18/7/2005) ويجب الآن أن نجعل بريطانيا ثقافة واحدة، وحضارة واحدة، وقد حددت الديلي تلغراف (وهى من أشهر الجرائد في بريطانيا وتبيع ما يقارب المليون نسخة يوميا) الأمور التي يجب على المسلمين أن يتقبلوها إذا أرادوا العيش في بريطانيا. ففي افتتاحيتها في 14/7 وبعنوان " أسس القانون في هذا البلد " ذكرت ما يلي: " ليس لدى بريطانيا دستور مكتوب، ولا يوجد قسم ولاء، ولكن توجد قيم في حضارتنا، ونتوقع من كل مواطن (في بريطانيا) أن يتفق مع هذه القيم، وهي: (نقلا من المقالة).
"1- البرلمان هو مصدر التشريع، وهذا يتعارض مع من يريد تطبيق الشريعة في بريطانيا.
2- السيادة للشعب فهو الذي يختار البرلمان لوضع القوانين، فالسيادة ليست لله.
3- الولاء يجب أن يكون للشعب البريطاني، لا أن يكون لطائفة دينية (كالأمة الإسلامية).
4- الإيمان بالدولة العلمانية
ومن أكبر المشاكل أن عددا كبيرا من المسلمين لا يتقبلون الفصل بين الدين والدولة، فمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان رسولاً وقائداً سياسياً. "
وختمت الجريدة الافتتاحية بقولها "إننا نعيش في مجتمع يتكون من مؤسسات جعلت ما لقيصر لقيصر وما لله لله. وانه يجب على كل مواطن الانصياع لهذه المؤسسات".
ما يعني أن المطلوب من المسلمين الذين يريدون العيش في بريطانيا فوق الالتزام بقوانينها، اعتناق القيم السائدة فيها، بل وبتبني علمانياتهم - عقيدة فصل الدين عن الحياة فينحصر معنى الإسلام ويتقزم بمجرد وضعه في قالب العبادات كالصلاة والصوم والتصرفات الفردية المحضة على النمط الكهنوتي الذي يرفضه الإسلام.(55/65)
وهذا اعتراف واضح بفشل العلمانية في التعايش مع الحضارات المختلفة والثقافات الأخرى. حيث طالما زعم وتباهى دعاة العللمانية بأنها هي النظام الذي في ظله تستطيع أن تتعايش جميع الديانات ويتآلف تحته جميع البشر، ولكن نفس هؤلاء الدعاة يقولون الآن للمسلمين أن من يريد أن يعيش في دولتنا العلمانية فلابد أن يعتنق قيمها ويتبنى عقيدتها السياسية والاجتماعية والثقافية، تماما كما أكره أرباب العلمانية المسلمات على خلع الحجاب في فرنسا.
إن أكذوبة العلمانية تظهر مباشرة عندما يتعلق الأمر بالإسلام والمسلمين، والمعطيات الواقعية تثبت يوماً بعد آخر فشل ذلك الزعم. أفلا يصحو المسلمون بعد كل ذلك ويثوبوا إلى رشدهم ويدركوا أنهم أخف من جناح ذبابة بتبعيتهم المقيتة المذلة للغرب، وأن ملاذهم الوحيد هو تحرير بلادهم من الطغيان والفساد والظلم، وبإعادة تطبيق الإسلام، الذي لا يكره أحدا على اعتناقه بينما يؤمن للجميع الطمأنينة والاستقرار والأمان وهو ما تحقق زهاء ثلاثة عشر قرنا من الزمان، كان أسوأ الأوضاع في أثناء وجود دولة الخلافة خير من أحسن الأوضاع بعد انهيارها. ) نقلا عن الشعب بتاريخ 23\7\2005.
نحن إذن في العلمانية - أمام وحش عقدي ضار لا يسمح بالوجود لغير منهجه في استبعاد الدين أما الديموقراطية كآلية فنعم: لقد كانت قابلة من الناحية النظرية لتكون آلة لغيرها - وهي تترك في هامشها دوما مجالا للاستثناء المحكوم كانت ومازالت وبحسب إرادة السلطات القاهرة - قابلة لكل نظام سياسي بما له من أيديولوجية خاصة، فالديموقراطية التي تخدم الجمهورية الأقلاطونية كانت تستثني العبيد، والديموقراطية التي تخدم الرجل الأبيض تستثني الرجل الأسود، والديموقراطية التي تخدم الدولة الاستعمارية تستثني البلاد المستعمَرة، والديموقراطية التي تخدم النظام النازي تستثني ما عدا العنصر الألماني، والديموقراطية التي تخدم الصهيونية تستثني الفلسطينيين، وهي في النظام الرأسمالي تستثني الشيوعية، وهي في النظام الشيوعي تستثني الرأسمالية،، وهي في النظام الملكي تستثني الدعوة إلى النظام الجمهوري، وهي في النظام الجمهوري تستثني الدعوة إلى النظام الملكي وهي في العلمانية تستثني الإسلامية، وهي في الإسلامية تستني العلمانية، اللهم إلا من هامش " للتنفيس " - في كل ما تقدم - شديد الضآلة متنوع الضعف خاضع موضوعيا أو دستوريا للسيطرة من السلطة الحاكمة، الأمر الذي أحدث نوعا من الارتباك في تشخيصها أحيانا، أو نوعا من التضليل الهادف أحيانا أخرى.
يشهد لهذا المفهوم الرجراج للديموقراطية ما يقوله الأستاذ بيرنارد كريك أستاذ العلوم السياسية بجامعة لندن (لا ريب أن الديموقراطية أكثر كلمة في معجم الشئون العامة تهويشا واختلاطا، إنها معشوقة كل إنسان، ومع ذلك فهي تحتفظ بسحرها.. إننا نحس بالاعتزاز لتكيفها مع جميع الأشكال والظروف واستعدادها لمصاحبة جميع الناس
وما أكثر ما يسمع المرء بعض الناس يقولون " إن الشيوعيين يدعون الديموقراطية أيضا …. وهم ديموقراطيون بالفعل بمعنى أنهم يرون أن توافق الأغلبية على طريقة حكمها بأسلوب شعبي.. ) نقلا من كتابه: (السياسة بين أصدقائها وأعدائها " ترجمة خيري حماد نشر القاهرة عام 1963 ص14.
ويقول الأستاذ كريك: (وهناك آخرون يقولون: إن الديموقراطية " تعني حقا " الحرية أو حتى الليبرالية، أو الفردية، وتعني الدفاع عن الفرد الديموقراطي " ضد الأغلبية الديموقراطية، ولقد تحدث مستر بيفن ذات يوم إلى مؤتمر لاتحاد النقابات البريطانية ضد هذا المفهوم فقال: " إن مما يتنافى مع الديموقراطية أن تواصل الأقلية مناقشة القرارات التي اتخذتها الأغلبية ".
وقد استعملها دي توكفيل المؤرخ الفرنسي (1805 1859) كمرادفة للمساواة، واستعملها أندرو كارنيجي (1835- 1919) وهو من رجال الأعمال في أمريكا لتعني مجتمعا ديناميكيا يقوم على المشروعات الحرة مع الاحتفاظ بوجود الفروق الكبرى في المنزلة والثراء.
ومن الممكن أن ينظر إليها في إطار تطورها في الغرب كنظام سياسي يفرض القيود الدستورية حتى على الحكومة الديموقراطية.
كما نظر إليها على أنها " إرادة الشعب " أو " الإرادة العامة " المنتصرة على القيود المصطنعة التي تفرضها النظم الدستورية.
وربما لا تعني الديموقراطية بالنسبة إلى كثيرين أكثر من مجرد عبارة تقول: صوت واحد لرجل واحد وقد يضيف إليها آخرون "عبارة " مع حسن الاختيار "
ولقد ظلت النظرة إليها عند كثيرين إلى عهد قريب على أنها مجرد قضية تتناول حكم وحدات صغيرة، ولقد قال جورج ميسون أحد الزعماء الأمريكيين عند إبرام الدستور الاتحادي لأمريكا عام 1788 " لقد برهن التاريخ على أنه يشهد حكومة تتولى الحكم في بلاد فسيحة الأرجاء دون أن تحطم هذه الحكومة حريات الشعب ") ولكن التاريخ أثبت كما يقول بيرنارد كريك أن (الحكومات الشعبية لا تستطيع العيش إلا في بلاد صغيرة) ص 67- 69(55/66)
ويبين كريك ما يحدث بين الديموقراطية والحرية من توتر، وهو يقرر أن ديموقراطية الأغلبية تصبح غير مرضية عندما (ينحصر مصدر السيادة كلها في الأمة، ولا يكون من حق أي إنسان أو فرد أن يمارس سلطة لا تنبع بوضوح من هذا المصدر) ص 73 (وقد يزعم أي دستور اعتماده على" سيادة الشعب " ولكن هذا النص لم يعين أي إنسان سواء كان حاكما أو قاضيا أو سياسيا في تقرير معنى الكلمات المختلف عليها أو تقرير السياسات التي يجب أن تتبع، وقد يستفتى " الشعب " في استفتاء عام، كما وقع في فرنسا عندما جرى تبديل الشكل الدستوري ولكن دور الشعب لا يعدو الإجابة بلا أو نعم على وثيقة معقدة لم يستطع بعد هضمها) ص 14، ص 73.
وكما يقول الدكتور فيصل القاسم في مقاله القيم بالشعب بتاريخ 19\11\2004 فيما يعتبر نقدا لجوهر الديموقراطية الأمريكية (هناك أكثر من ثمانية وأربعين بالمائة من الأمريكيين أنفسهم قالوا (لا) لبوش، لا بل إن بعضهم قرر هجرة الولايات المتحدة لعدم قدرته علي العيش فيها في ظل الإدارة الجديدة. وقد أظهر مركز الهجرة في أمريكا أن عدد الذين قرروا ترك البلاد قد تضاعف ستة مرات بعد يوم واحد من فوز الرئيس بوش بولاية ثانية …)
…(وإذا كانت سيكولوجية الجماهير تستجيب للمثيرات العاطفية أكثر من الأسانيد المنطقية، فقد كان الزعماء الجماهيريون يتقنون اللعب علي هذه المحرضات، حيث يعدون جماهيرهم بالأشياء العظيمة ويشعرونهم بأن لا حائل بينهم وبين هذه الغاية إلا هذه الفئة من المعارضين أو الأعداء)…. وهذا المثال شديد الوضوح في ديماجوجية بوش الإبن.
(وقد كان نابليون بونابرت، واعياً تماما بهذا المنطق، ولذلك لم يجد غضاضة في التلوّن والكذب علي الجمهور وإعطائه ما يريد من الأوهام في سبيل أن يعطيه الجمهور ما يريد من الطاعة. …. ) …
(ولم يكن بمقدور أحد في ثلاثينات القرن الماضي أن يعيّر النظام النازي بأنه لم يكن ديموقراطياً. ولم يكن أيضاً بمقدور أحد أن يعيّر الزعيم الفاشي موسوليني بأنه لم يكن ديموقراطياً. لقد كان هو وصديقه هتلر منتخبين بأغلبية ساحقة من قبل الجماهير …
……هتلر نموذج مثالي لهذه المعادلة بين الزعيم والجمهور، إذ ما زال السؤال الكبير مطروحاً حسب بعض المحللين: كيف استطاع أن يحول الألمان- صفوة المجتمع الأوروبي إلي وحش كاسر يتحرك وفق إشارته؟ كيف استطاع أن يقنعهم بأكاذيبه وأوهامه عن التفوق الجرماني، وصيّرهم في النهاية وحشا نازيّاً؟. …. وهذا للأسف نجده هذه الأيام في بعض الديموقراطيات الكبيرة) اهـ
إنها أي الديموقراطية كما يقول الأستاذ بيرنارد كريك (أكثر كلمة في معجم الشئون العامة تهويشا واختلاطا)
وبالرغم من ذلك وربما تمشيا مع ذلك - فإن الديموقراطية وإن كانت من الناحية النظرية قابلة لتكون آلة لغيرها، لكنها من الناحية العملية انتهت إلى استلابها تماما للعلمانية المعاصرة، وهذا هو السر في رائحتها المنفرة عند الكثيرين حيث أقسمت العلمانية في حضرة هيكلها الوثني وهي في مركز السلطة بغير منازع ذي بال أقسمت أن تكون خلفية ثابتة لكل ديموقراطية تمتد إليها يد، وأن تستبعدها اليوم عن الساحة في البلاد الإسلامية بخاصة خوفا عليها من أن يستبعدها الإسلاميون غدا، أن تسفح دمها قبل أن يسفحه الإسلاميون، أن تقتلها بيدها خوفا من أن تقتل بيد عمرو، وبناء عليه فإننا نؤكد أنها غير مطروحة أصلا من جهة السلطات العلمانية المحلية والخارجية - في البلاد الإسلامية، بالرغم من الدعايات الكاذبة والمهرجانات النفاقية التي تنصب لها بين موسم وآخر.
http://al-shaab.o r g المصدر:
==============(55/67)
(55/68)
نهاية التاريخ أم نهاية الديموقراطية ؟!
عبد الله بن سريع الدوسري
بدايةً لا بد من التأكيد على أن شريعتنا الإسلامية جاءت بما يغنينا عن الديموقراطية وغيرها من الأنظمة البشرية، وإذا كان المسلمون قد قصروا عن الاستنباط والتطبيق لخيرات هذه الشريعة الغراء وكنوزها الثمينة؛ فهذا لا يعني بأي حال من الأحوال قصور الشريعة أو عدم صلاحيتها. قال الله تعالى: "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً" (النساء: 83).
إن الذين بشروا بسيادة الحرية في عصرنا كنتيجة مشرفة (زعموا) لممارسة الديموقراطية الغربية باعتبارها أرقى ما وصل إليه الإنسان، وجعلوا ذلك (نهاية التاريخ) قد تلقوا صفعة قوية قبل أن يجف الحبر الذي كتبوا به نظرياتهم وبشاراتهم بل ادعاءاتهم، لقد قصفت ديموقراطية القصف (قصف الأفكار والأفواه والكاميرات والهيئات والمنظمات والجمعيات والمساجد والجسور والمدن و....) قصفت أفكارهم التي يسوقونها باستعلاء وتكبر في غلاف سميك من التعصب والغباء، وقصفت أيضاً (في إطار غطرسة القوة) بل وَأَدَت بعض مبادئ عولمتهم الناشئة عندما رأت أن المسلمين سيستغلونها لنشر الإسلام (عدوهم الأول كما يقولون) بعد أن شطحت تقديراتهم فأيقنوا بأنهم سيسيطرون من خلالها على عقولهم وأخلاقهم وأديانهم وكل مجالات حياتهم؛ شطحت بغباء منقطع النظير كما شطح تقديرهم لما سيواجهونه في العراق فطغت على أنوفهم التي يشمخون بها على الناس (رائحة الورود)، واستبعدوا تماماً (رائحة البارود) إلى أن أرغمت ومرغت أنوفهم المرفوعة بتراب الفلوجة (هيروشيما العراق؛ فيتنام الشرق الأوسط الكبير!)، مع أنهم فعلوا ما بوسعهم من أعمال التدمير والتخريب والتشريد والإذلال والقتل والإبادة بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ؛ كل ذلك يتم بلا خجل ولا وجل تحت سمع العالم وبصره؛ العالم المتحضر الذي لن يقبل أن يقوده أناس يتمتعون بهذا القدر الكبير من الحقد والغباء والوحشية والاستهانة بالآخرين، ويمارسون ذلك كله بكل صلف ودكتاتورية (لا أحد يدري ماذا يقول الآن الفوكوياميون وأتباعهم الغافلون أو المتغافلون عن الحقيقة، إنها ليست نهاية التاريخ ولكنها حقبة موت الديموقراطية، بل نحر الديموقراطية بأيدي أهلها).
إن الديموقراطية التي يتغنون بها وهي على أصولها التي بنيت عليها أصلاً في بلادها كانت تمشي برجل واحدة، فكيف إذا قطع أهلها (بأنفسهم) رجلها الوحيدة التي كانت تمشي بها. إنها مظهر براق يخدع به الناخبون والمغفلون بتقديم بعض الفتات، أما نتائج معالجة الأمور المصيرية فتدل على أنها كسيحة، وخير شاهد على ذلك الجرائم الكبيرة والكثيرة التي ترتكب باسم الحرية برعاية الديموقراطية أو بمباركتها، وهذا يدل على أن الديموقراطية لا تمانع أن تكون مطية للدكتاتورية. حقاً إن (الإنسان لا يقوم وحده)؛ بل لا بد له من شرع إلهي يوجه حياته، قال الله تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً" (طه: من الآية124)، وقال تعالى: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (آل عمران: 85).
إن الديموقراطية التي يطبلون لها ويحلم بها بعضنا تعد (لا شيء) إذا ما قورنت - وإن كانت ليست على مستوى المقارنة - بالشورى الإسلامية والعدل الإسلامي، إن التاريخ الإنساني مليء بالصور المشرقة للعدل الإسلامي والإحسان الإسلامي، لكن (العميان) لا يرونها، ولكن السؤال الكبير: أين هي الشورى الإسلامية؟ وأين المجالات المتاحة لتطبيق مبادئ الإسلام؟ لقد هُزم المسلمون هزيمة بلا حرب، وعندما تعلن الحرب - وقد أعلنت - لا بد أن يهب المسلمون - وقد هبوا - لنصرة دينهم، والتصدي للهجوم الماكر عليه تحت مسمى: مكافحة الإرهاب، وما الإرهاب إلا أفعال القوم وممارساتهم ضدنا، فإن فاؤوا وأوقفوا هجومهم واستفزازهم؛ وإلا فإن الإسلام سينتصر لا محالة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
يعجبني تعريف الديموقراطية بأنها: اختيار الشعب (أو من ينيبه) للدكتاتور الذي سيحكمه، وليست كما يقولون: (حكم الشعب للشعب)، أو كما يقول برنارد شو: "الديموقراطية هي السماح لكل المسافرين بقيادة القطار".
أين الحرية والديموقراطية من تعريفهم غير المكتوب للسلام الدائم (لا يقولون: العادل) بأنه استسلام الآخر وركوعه أو إبادته، هذا التعريف يفهم بسهولة ووضوح من لسان حالهم وربما لسان قالهم ومن أجل ذلك أهيل التراب على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير بحجج واهية فرض على الناس تصديقها أو التظاهر بتصديقها على طريقة العصا والجزرة، وصدق من قال: (قوة بلا إيمان = طغيان وتصرفات صبيان).
وإليكم الآن نماذج (مجرد نماذج) من مشاهد الحرية والديموقراطية التي يبشرون بها:(55/69)
• فرض استعمال الأرقام الإفرنجية بدلاً من الأرقام العربية على المغرب العربي أثناء الاحتلال وبعده، ومحاولة ترويجها في البلاد العربية الأخرى بواسطة وكلائهم على أنها هي الأرقام العربية وأن الأرقام المستعملة حالياً (التي تسمى زوراً وبهتاناً الأرقام الهندية) ليست هي الأرقام العربية، الأمر الذي يعد تمهيداً للهجوم على لغة القرآن الكريم.
• الإصرار على إلغاء نتائج الانتخابات في الجزائر عندما أوشكت أن تفوز بها جبهة الإنقاذ الإسلامية بعد أن فاتت عليهم فرصة تزويرها إذ ليس غريباً أن يكون هناك تزوير (ديموقراطي) لنتائج الانتخابات في حالة فشل شراء الأصوات أو (أبسط الحلول) تسميم غذائي لزعماء المعارضة.
• مضايقة أو إبعاد مديري الهيئات الأممية (العالمية) إذا لم تعجب تصرفاتهم (زعماء الديموقراطية)، وعرقلة أو إخفاء أو تعديل تقاريرهم تحت التهديد والوعيد.
• محاولة إيجاد مصطلح (الديموقراطية العلمانية) لكي يتم تقييد الحريات الدينية باسم الديموقراطية في عدد من البلدان.
• مباشرة فرض الديموقراطية الجوفاء والحرية الزائفة بالقوة الغاشمة كما يحدث الآن في أفغانستان والعراق، وارتكاب مهزلة (الانتخابات تحت الاحتلال)، وهناك نماذج أخرى في التاريخ الحديث صارخة للاعتداء على الحرية باسم الديموقراطية.
• مشاهد متكررة (غير مقبولة عقلاً) من الكيل بمكيالين والوزن بميزانين (لا تخفى) في تعاملهم مع الشعوب والأمم والدول.
• إغلاق واختراق مواقع عدة على شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) بخلاف ما بشر به (بعضنا) من بزوغ عهد الحرية الفكرية وحرية التعبير وانقراض الرقيب كما انقرض الديناصور!
• هناك مشهد حي يدل على الحرية والديموقراطية و (نهاية الأخلاق والقيم!) عندهم يتمثل في زرع أجهزة تنصت سرية كثيرة في قاعات مقر هيئة الأمم المتحدة بجنيف، أما التنصت على المكالمات فحدث ولا حرج.
وأخيراً لكم أن تبحثوا عن الديموقراطية بين الصورة والحقيقة في هذا الركام. إنها في حقيقتها عرجاء؛ بل إنها لا تعدو أن تكون دمية من الشمع صنعها الكبار ليلهو بها الصغار.
وعلى هذا فإن المكان الصحيح لنظرية (نهاية التاريخ) هو (مزبلة التاريخ) ولا يصح إلا الصحيح، ولكن حسب سنن الله الكونية.
(الديموقراطية تحتضر، والتاريخ لا يحابي ولا يرحم).
1/3/1426
http://www.almoslim.net المصدر:
==============(55/70)
(55/71)
الديموقراطية... معناها وماهيتها
تاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 122)
رقم الفتوى 10238 الديموقراطية... معناها وماهيتها
تاريخ الفتوى : 22 جمادي الثانية 1422
السؤال
ما حكم الديموقراطية ؟
و جزاكم الله خيرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالديمقراطية كلمة يونانية مركبة من جزأين (ديموس ، كراتوس) وتعني: حكم الشعب نفسه بما شاء.
وهي نظام غربي ظهرعلى أثر طغيان الأباطرة، وإقرار الكنسيين لهذا الطغيان، فوُجد من يدعو إلى جعل الحكم بين الشعب، ونزعه من الأباطرة الكنسيين.
وعلى هذا، فالديمقراطية تنافي الإسلام، فإن الحكم في الإسلام لله وحده، وأما في الديمقراطية فالحكم للشعب، قال الله تعالى: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) [الكهف:26].
وقال سبحانه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف:40].
وقال سبحانه: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50].
والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً.
فإن قيل: إنه لا فرق بين الديمقراطية والشورى الإسلامية، فيقال: إن بينهما أكبر الفرق، فإن الشورى فيما لا نص فيه، أو في تنزيل الحكم على الحادثة المعينة.
أما الديمقراطية فللشعب أن يلغي الثوابت، وما وردت به النصوص، وحكم الشعب فوق كل شيء.
كما أن أهل الشورى لهم صفات معينة. أما الديمقراطية فلا فرق فيها بين أحد وأحد، والكل أهل لها.
وإن قيل: يمكن أن نأخذ محاسن الديمقراطية ونهذبها فنسميها ديمقراطية إسلامية، فيقال: إننا لسنا بحاجة إلى الديمقراطية حتى نهذبها، وكل ما هو حسن في الديمقراطية وهو قليل، فإن عندنا في الإسلام ما هو أحسن منه، وإذا هذبنا الديمقراطية فلن تبقى ديمقراطية، وستصير شيئاً آخر، فلنسمه ما نشاء، غير ألا نسميه الديمقراطية. وللمزيد حول الديمقراطية ينظر كتاب: حقيقة الديمقراطية لمحمد شاكر الشريف.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============(55/72)
(55/73)
ما يقره الإسلام من الديموقراطية وما يأباه
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 5294)
رقم الفتوى 18855 ما يقره الإسلام من الديموقراطية وما يأباه
تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420
السؤال
ماحكم النظام السياسي الديمقراطي في الإسلام
شكرا وفقكم الله وسدد خطاكم
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالديمقراطية فإن لها جانبان: جانب يقره الإسلام ويحض عليه وهو حق الأمة في تولية حكامها ومحاسبتهم وفي الرقابة عليهم، وهذا حق معلوم وظاهر في نصوص الشرع من كتاب وسنة.
وجانب يأباه الإسلام ويعتبره لوناً من ألوان الشرك بالله تعالى، وهو إعطاء الأمة -ممثلة في مجلس النواب أو البرلمان- الحق في التشريع المطلق، فهي تحل وتحرم وتبدل كيفما شاءت.
ومعلوم قطعاً أن التشريع المطلق -تحريماً وتحليلاً وتشريعاً- إنما هو حق خالص لله تعالى، قال الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59]. وقال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه [الشورى:21]. إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============(55/74)
(55/75)
بين الديموقراطية والإسلام
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 3619)
رقم الفتوى 64323 بين الديموقراطية والإسلام
تاريخ الفتوى : 28 جمادي الأولى 1426
السؤال
الديمقراطية في الإسلام ما مقدار التوافق، كيف كان التطبيق في القرن الأول من الإسلام؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالديمقراطية نظام غربي يدعو إلى جعل الحكم بيد الشعب، ونزعه من الأباطرة الكنسيين، والديمقراطية بمعنى جعل الحكم للشعب فقط تنافي الإسلام، فإن الحكم في الإسلام لله وحده، قال الله تعالى: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا {الكهف:26}، وقال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ {يوسف:40}، ولك أن تراجع في هذا فتوانا رقم: 10238 .
وأما الذي هو معروف في الإسلام فهو نظام الشورى، وهي استطلاع الرأي من ذوي الخبرة فيه للتوصل إلى أقرب الأمور للحق، ومشروعيتها ثابتة بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ {آل عمران:159}، وقال تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {الشورى:38}، وقد ورد في السنة قول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر : لو أنكما تتفقان على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبداً. رواه أحمد .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم . رواه الشافعي والبيهقي .
وبهذا يتبين لك ما في الإسلام من المشاركة في الرأي، وهكذا أيضاً كان تطبيقها في القرن الأول من الإسلام، لأن الأمة في صدر الإسلام كانت متمسكة بما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============(55/76)
(55/77)
الديموقراطية بين القبول والرفض
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 3782)
رقم الفتوى 64526 الديموقراطية بين القبول والرفض
تاريخ الفتوى : 04 جمادي الثانية 1426
السؤال
هل يجوز لحزب إسلامي أن يضع في برنامجه الحكم بالديمقراطية ؟ بحجة فقه الواقع أو ما شابه
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالديمقراطية لها جانبان: جانب يقره الإسلام ويحض عليه وهو حق الأمة في تولية حكامها ومسؤوليها ومحاسبتهم والرقابة عليهم. وهذا حق معلوم لا منافاة بينه وبين الإسلام.
وجانب يأباه الإسلام ويعتبره لونا من ألوان الشرك بالله تعالى، وهو إعطاء الأمة الحق في التشريع المطلق، فهي تحل وتحرم وتبدل كيفما شاءت.
ومعلوم قطعا أن التشريع المطلق إنما هو حق خالص لله تعالى، قال الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ {يونس:59}. وقال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ {الشورى:21}. إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة.
وعليه، فلا مانع لحزب إسلامي من أن يضع في برنامجه الحكم بالديموقراطية، إذا تعلق الأمر بالجانب الأول الذي هو اختيار المسؤولين ونحوه.
وأما المعنى الثاني للديمقرطية، فلا يجوز اتخاذه منهجا أو برنامج عمل لأي اعتبار.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============(55/78)
(55/79)
الغرب .. بين خدعة الديموقراطية وأكذوبة حريّة التعبير
موسوعة البحوث والمقالات العلمية - (ج / ص 1)
الغرب .. بين خدعة الديموقراطية وأكذوبة حريّة التعبير
مواقفُ كثيرةٌ ومتّصلةٌ يفتضح فيها الغربُ في زعمه أنه يَتَبَنَّى الديموقراطيّةَ وحريّةَ التعبير أو حريّةَ المُعْتَقَد والدين . ولستُ هنا بسبيل إحصاء هذه المواقف ، وإنما سأكتفي بالإشارة إلى بعض المواقف الساخنة التي شَهِدَها العالَمُ خلالَ الأسابيع القليلة الماضية ، والتي كانت ردًّا قاطعًا على زعمه ، وشَكَّلَت مظهرًا حيًّا للتناقضات التي يتورّط فيها والكيلِ بمكيالين الذي يمارسه في وقاحةٍ أيِّ وقاحة .
الغربُ عندما يمسّ شيءٌ مصالحَه أو أهواءَه يتنكّر لكل ما عنده من حرية الرأي والديموقراطية المزعومة التي يَتَبَجَّح بها ؛ فها هو ذا عمدةُ مدينة "لندن" السيّد "كين ليفنجستون" يُعَاقَبُ بالتوقيف عن العمل لأربعة أسابيع بموجب القرار الصادر ضدّه يوم الجمعة 25/محرم 1427هـ الموافق 24/فبراير2006م عن الهيئة التأديبّية المُخَصَّصَة للنظر في أداء المسؤولين المحليين ، التي عَلَّلَتْ القرار بأنّ تصريحات العمدة: "تفتقر إلى الحسّاسيّة وتتضمّن إهانةً غير مُبَرِّرَةٍ للصحفيّ" لارتكابه "ذنبًا كبيرًا" مُتَمَثِّلاً في تشبيهه في فبراير 2005م (محرم/1426هـ) صحفيًّا بريطانيًّا يهوديًّا في صحيفة "إيفننج ستاندر" الصادرة بلندن بـ"حارس مُعَسْكَر اعتقال نازيّ خلال الحرب العالميّة الثانية".
والجدير بالملاحظة أن صدور هذا القرار جاء يُزَامِنُ صدورَ الحكم من إحدى المحاكم النمساويّة - الذي صَدَرَ في عاصمة النمسا "فيينا" يومَ الاثنين: 20/فبراير 2006م = 21/ محرم 1427هـ - ضد الكاتب والمؤرخ البريطاني "ديفيد أرفينج" بالسجن ثلاث سنوات ؛ لأنه أنكر حدوث المحرقة اليهودية المعروفة بـ"الهولوكوست" (Holocaust) .
إنّ الغرب المُطَبِّل لحريّة الرأي والداعي لها لحدّ التقديس لم يَسَعْه أن يتحمّل محاولةَ المساس باليهود حتى في إطار حرية التعبير وحريّة الرأي؛ لأنّ اليهود عنده - جنسًا وتأريخًا وسلوكاً - "خطّ أحمر" لايجوز لديه التقارب منه فضلاً عن عبوره وتجاوزه ؛ حيث إنهم فوق كل قانون وشرعيّة فضلاً عن الانتقاد والملام والاتّهام!.
أمّا عمدةُ لندن السيد "كين ليفنجستون" فمعاقبتُه لاتُعَرِّي فقط مبدأ "حرية الرأي" المزعوم الذي يتباهى به الغرب كثيرًا ودائمًا بين يدي الأسرة الدوليّة ، وإنّما تُعَرِّي كذلك الحقدَ الأسودَ والعصبيّةَ المنتنةَ التي يحملها ضدّ الإسلام والمسلمين مُحاوِلاً التغطيةَ عليها بأساليبَ عديدة؛ فالعمدةُ ظل من خلال مواقفه النبيلة يناصر القضايا الإسلاميّة والعربيّة عبر السنوات الماضية؛ فهو من القلائل من قادة وساسة الغرب الذين يُمَثِّلُون الصوتَ النزيه الذي ينبغي أن يكون نابعًا دائمًا من ضمير الغرب الذي لايفتر يتفاخر بالعدل والمساواة وحرية الرأي: المبادئ التي تتكسر دائمًا على صخرة الواقع ؛ لأنه لاينادي بها عن صدق ونزاهة ، وإنما ينادي بها عن غرض أو مرض .
وقد فضح السيد العمدة بآرائه وتصريحاته الصادقة اليهودَ ، ووقف مواقفَ عديدةً شَكَّلَتْ للصهاينة ضربات مؤلمة للغاية على كل من المستويين السياسي والإعلامي ، وتناولت المشروع الصهيوني في فلسطين بانتقاد شديد ، وأداء الحكومة الصهيونية بملام لاذع ، وعارضت - على أساس متين من المصداقية - العملية العسكرية الأمريكية الغربية للعراق . كما وقف موقفًا مشرفًا عن العلاّمة المفكر الداعية المؤلّف المكثار الدكتور يوسف القرضاوي حين دافع عنه وأصَرَّ على استضافته بلندن ، رغم الحملات المكثفة التي شنها ضدّه الإعلام الغربي الصهيوني لتشويه سمعة الدكتور.
ومن هنا ظلّت الدوائر الصهيونية تترصّد الفرصةَ لإيقاعه في الفخّ ، وتناوله بالعقاب ، حتى يكون عبرة لكل من تحدث نفسُه بالتجرأ على ممارسة حرية التعبير بشأن اليهود الذين هم أقدس جنس بشريّ على وجه الأرض !.
أما الكاتب والمؤرخ البريطاني "ديفيد إرفينج" فكان دنبُه أنّه فَكَّرَ تفكيرًا نابعًا من حرية الرأي وعبّر عما تَوَصَّل إليه تفكيره بحرية عن قضية "الهولوكوست" اليهودية أي المحرقة النازية التي أودت - كما يزعم الصهاينة - بـ 6 ملايين يهوديّ ؛ فقد أعلن "ديفيد" أكثر من مرة إنكارَه لهذه القضية التي جعلها الغربُ قضيةً مقدسةً وجعل الدفاعَ عنها أقدسَ ما تعنيه كلمة الدفاع. ورغم أن الرأيَ الذي أبداه الكاتب والمؤرخ البريطاني ينبني على أبحاث ودراسات أجراها على أرض الواقع أكّدت له أن "الهولوكوست" هي أصلاً الكذبة الصهيونية الكبرى التي اصْطُنِعَتْ حجةً قويةً ومُبَرِّرًا صلبًا لاحتلال العالم.
وقد صدق "ديفيد" عندما قال في كتابه "الهولوكوست الأخير":(55/80)
"إن اليهود في موقفهم الاستغلالي لقضية المحرقة يثبتون قدرةً عجيبةً في التأثير على الفكر الغربيّ خصوصًا ؛ بل والمؤسف أيضًا أن نجد من بين العرب من يكاد يصدّقهم في مقولتهم هذه التي تُثْبِتُ أفعالُهم عكسَها ؛ فما فعلته إسرائيلُ في هجمات بربريّة وحشيّة على مناطق عربيّة ، مثل جنوب لبنان ، يؤكّد النزعة الدموية الخالية من التوجّه الإنساني لديهم . ويكفي أن نتذكّر هنا مجزرةَ "قانا" ومقولةَ "ديفيد ليفي" الأخيرة بأنّه سيحرق لبنان . ثم أيُّ عنصريّة أبشعُ من تشريد شعب كامل ، وقتل أبنائه والتصدّي للعالم كله من أجل الوصول إلى حلّ عادل يعطي أصحابَ الأرض من الفلسطينيين بعضَ حقّهم وليس كلَّه".
وأضاف الكاتب والمؤرخ البريطاني قائلاً:
"إنّ المحرقة لاشكّ أنّها وإن وقعت جزئيًّا غير مقبولة إنسانيًّا ، إلاّ أنّ الفعل الإسرائيليّ لايختلف بحال من الأحوال في بشاعته عن بشاعة المحرقة إن كانت حقيقة على الصورة التي يتناقلها اليهود".
على كل فإنّ الغرب الذي يدافع عن حرية التعبير لحد الاستماتة ؛ ولحدّ أنه يتضامن مع الدنمارك - البادئة في نشر الرسوم الكاريكاتوريّة المسيئة إساءة بالغة لرسولنا ونبينا صلى الله عليه وسلم - في نشر الرسوم، بحجة حرية التعبير، ليزيد المسلمين استياءً وتأذّيًا وسخطاً ولاسيّما بعدما شاهدهم يحتجون ضدّ ذلك في العالم كله احتجاجًا صارخًا منقطع النظير؛ ولحد أنّ "حزب الشعب الدانماركي" اليميني يطالب حكومتَه بسحب الجنسيّة من أئمة مسلمين لأنهم عملوا على حشد الدعم العربي الإسلامي ضد هذه الرسوم التي تدلّ على ممارسة حق حرية التعبير، التي قامت بها صحيفة "بولاندس بوستن" عندما بادرت إلى نشرها ؛ ولحدّ أنّ رئيس الوزراء الدانماركي يرفض رفضًا باتًّا أن يعلن اعتذارَه عن هذه الإساءة إلى مسلمي العالم رغم إعلان عدد من الدول الإسلامية مقاطعةَ البضائع الدانماركيّة ورغم ملاحظته فعليًّا للخسائر الاقتصادية التي بدأت تلحق دولتَه جراء المقاطعة . وذلك لأنه يرى أن اعتذاره عن ذلك يمثّل - تمثيلاً صارخًا - جرحًا لروح حرية الرأي والتعبير ودوسًا واضحًا لهذا الحق الإنساني النبيل ! ولحدّ أن رئيس أمريكا الحاليّ "بوش" الابن - الذي يعتبره العالم كله الذي يؤمن بالعدل والمنطق ولاسيّما المسلمون أكبر إرهابي في العالم بجميع معاني الإرهاب ودلالاته وتفسيراته - يضغط على عملائه في العالم الإسلامي بأن يسيطروا على "العنف" و"التطرف" اللذين يمارسهما المسلمون الذين يقومون بالتظاهرات والاحتجاجات ضدّ الرسوم المسيئة إلى نبيهم صلى الله عليه وسلم ؛ ولحدّ أن "بوش" و وزيرته الخارجية "رايس" يضغطان ضغطاً قويًّا على الحكومة الأفغانية العميلة لأمريكا بقيادة عميلها "حامد قرضاي" أن تمتنع عن إنزال العقاب على مرتدّ أفغاني مدعو بـ"عبد الرحمن" ارتدّ عن الإسلام منذ 15 عامًا وارتدى المسيحيّة المزعومة ، فواجه حسب الدستور الأفغاني محاكمة ضدّه وكاد يُعْدَمُ شنقًا. ذلك أنّ المرتدّ مارس - عند الغرب وأمريكا - حرية الرأي والفكر والاعتقاد عندما ارتدّ عن الإسلام واعتنق المسيحيّة . وقد طلعت الصحف لدينا بنبأ الضغط الأمريكي والضغوط الأمريكية أيّامًا عديدة ولاسيما يوم السبت : 25/ مارس 2006م (24/صفر 1427هـ) .
وانهارت الحكومة الأفغانية - حسب ما كان مُتَوَقَّعًا لكونها عميلة لأمريكا والغرب - ورضيت بالإفراج عن المرتدّ بحجّة أنه يعاني أمراضًا عقلية واختلالاً فكريًّا ؛ فقد قالت الصحف لدينا يوم الثلاثاء : 28/ مارس 2006م (27/صفر 1427هـ) إن المحامين الرسميين في أفغانستان لَوَّحُوا بأنّ المعتقل المرتدّ رهن التحقيق والمحاكمة قد يُطْلَق سراحُه على أساس فحص عقليّ . وجاء الضغط الغربي بشأن المرتدّ على الحكومة الأفغانية مؤكِّدًا أن الحكم بقتله لايكون إلاّ خرقًا لحرية الاعتقاد والفكر ؛ ولحدّ أنّ وزير الإصلاحات الإيطاليّة "روبرتو كالديرولي" يقدم ، بحجة الوقوف بجانب قضية ممارسة حق حرية التعبير المتمثلة في نشر الرسوم المسيئة لنبينا صلى الله عليه وسلم ، على ارتداء "شورت" - قميص - يحمل الرسوم المسيئة ، حتى إن الوزير المهين اضطرَّ تحت ضغط الرأى العامّ العالمي وعلى دعوة من رئيس وزرائه "سيلفيوبيرلسكوني" أن يستقيل من منصبه ، مُؤَكّدًا على أنه ليس نادمًا على ارتدائه القميص، ومدافعًا عن مواقفه المناهضة للإسلام، ومطالِبًا العالمَ الغربي بالتعاطي بالمثل مع العالم الإسلامي . والجدير بالذكر أنّ إقدام الوزير الإيطالي المذكور على ارتداء القميص الحامل للرسوم المسيئة جَرَّ إلى أنّه أقدم المسلمون الغاضبون على إحراق القنصلية الإيطاليّة في "بنغازي" الليبية ، مما أدّى إلى مقتل 11 شخصًا وإصابة 55 .(55/81)
إنّ الغرب المستميت في سبيل الدفاع عن حرية التعبير والاعتقاد ، لايكاد يحتمل أن يقول عاقل مايراه ويعتقده ويتوصّل إليه في ضوء دراساته وأبحاثه وقراءة الواقع المتمثل في سياقات التاريخ والملابسات المكتنفة له ، إذا كان يمسّ ذلك المصلحةَ الصهيونيةَ الصليبيةَ . فكأنّ حريّة التعبير والفكر منحصرة فيما وراء هذه المصلحة، ولاسيّما فيما يتعلّق بالإسلام والمسلمين والقيم الإنسانية النبيلة التي يمثِّلها الإسلام .
إنّ قراءة سلوكيّات الغرب بمجموعها من خلال التعامل الذي ظلّ يمارسه مع الإسلام والمسلمين يؤكّد بوضوح أنّه يعتبر الإسلام عدوًّا رقم واحد ، وأنّه لايخاف إلاّ هذا المارد الذي لايخضع لأيّ مُعْتَقَد ودين خرافي ولأيّ "مبدأ" يفسد على الإنسان إنسانيته . وكمثال على ذلك من بين الأمثلة الكثيرة التي تفوق الحصرَ، نذكر في هذا السياق ما نشرته الصحف العالمية ووسائل الإعلام مؤخرًا ، من أن إحدى الدول الغربية وهي "هولندا" رصدت شروطاً لمن يهاجر إليها ، من بينها مشاهدة فيلم إباحيّ في إطار امتحان جديد للمهاجرين من دول ليست بينها أمريكا وبلدان الاتحاد الأوربيّ؛ حيث أصبح لزامًا على أيّ شخص يرغب في الهجرة إلى "هولندا" الخضوعُ لامتحان يثبت قدرتَه على التَّأَقْلُم مع القيم الليبراليّة في هذا البلد . ويتضمّن الامتحانُ مشاهدةَ لقطات إباحيّة من فيلم فاحش دون إعراب عن شعور بالاشمئزاز والصدمة . وأضاف النبأ أن الامتحان يهدف إلى اختبار أهلية التأقلم مع القيم الهولندية خصيصًا لدى المسلمين الراغبين في الهجرة إلى هولندا . وذلك للحدّ من وصول مزيد من المهاجرين المسلمين .
فذلك كله فيما يتعلق بحرية الفكر والرأي. فإذا رحتَ تختبر مدى مصداقية الديموقراطية التي يتباهى بها الغربُ وقائدتُه أمريكا وجدتَ أنّها ليست إلاّ وسيلةً لنشر "القيم" التي أنتجها الغربُ لإفساد إنسانية الإنسان ، وانتزاعه من طور الإنسانية إلى طور البهيمية . وعلى رأسها "القيمتان" : الماديّة الجامحة والشهوة الجنسية المسرفة المتخطية كلَّ حدّ ؛ فالدعوةُ إلى إشباع الحاجتين و"احترام" القيمتين هما المطلب الأمثل لدى الغرب . ونشر ثقافته الداعية لذلك ، وحضارته المتمثّلة فيه ، وأسلوب حياته المُتَبَلْوِر في المفاسد التي جَنَتْ على الإنسانية ، هو المجموع الذي يسميه الغرب "الديموقراطيةَ" و"العدل" و"المساواة" و"الحرية التعبيريّة".
ألا ترى أن قتل الزاني والزانية لدى الغرب تصوّرٌ غيرُ إنساني ، وأن تنفيذَ حدّ السرقة وحشيّةٌ ، وأن الاختلاط ، بين الذكور والإناث، وممارسة الجنس خارج إطار الزواج الشرعيّ عملٌ بالحريّة التي ينالها الإنسانُ ولادةً، وأن مغازلة الفتيات مع الفتيان بشكل سافر علني حقٌّ من الحقوق التي لابدّ من ممارستها لكل فتى وفتاة ، وأن ممارسة الجنس ودواعيه في الشوارع والحدائق والأمكنة العامّة حقٌ من الحقوق التي يتمتع بها كلُّ إنسان يولد من أب وأمّ ويُطْلَق عليه كلمة الإنسان . ومن هنا فهذه "القيم" كلُّها من دعائم الديموقراطية الغربيّة وأساسيّاتها . ولذلك عندما احتلّت أمريكا أفغانستان والعراق نشرت هذه "القيم" وغيرها من "المبادئ" التي تعمل على ترسيخها في أرض أفغانستان وأرض العراق قبل أن توفّر فيهما ما يبقي على حياة أهلهما من الغذاء والدواء وما يستر عوراتهم من الكساء . فأغرقت أمريكا البلدين بالأفلام الإباحيّة ، حتى تمتص من أبنائهما الدينَ الإسلامي وقيمه التي تبعثهم على "العنف" و"التطرف" و"الإرهاب" وتغرس فيهم قيم الغرب الماديّة الإباحية التي تبعث على "الاعتدال" و"الانفتاح" و"التأقلم" مع كل فكر فاسد وافد متعارض مع الدين الإسلامي وقيمه. وسمحت أمريكا بتدافع الصهاينة والمبشرين المسيحيين إلى أفغانستان والعراق ليقوموا بنشاطاتهم المُخَطَّطَة لنزع المسلمين من حضن الإسلام إلى اليهودية والمسيحية تحت ستار المساعدات والإغاثات والإعانات ؛ فانتشرت الكنائس ولاسيّما في العراق ، وتحركت الصهيونية بشكل رهيب لم يعرفه عهد من العهود السابقة .
ولاعجب إذا كان "بوش" و"توني بلير" كلاهما قد تَبَاهَيا أكثر من مرة أنهما يُمَثِّلان حضارةً متقدمةً ويحاولان زرعَها في كل من أفغانستان والعراق ، والمناطق المجاورة التي لاتعرف لحد الآن مثلَها في النبالة والتنّور والتحضّر، وأنّ أهلهما المسلمين متخلفون بدائيون يُمَثِّلُونَ حثالةً إنسانيةً ، فهم يكرهون حضارتَنا ويُعَادُونَ ثقافتَنا ، ولابدّ من تلقينهم درسَ التحضّر والتنوّر ! .(55/82)
ويفضح هذين الممثلين الكبيرين البارزين في تاريخ اليوم للحضارة الغربية أنّهما يؤيّدان ماديًّا ومعنويًّا وعلى مرأى ومسمع من العالم وبوقاحة ليس بعدها وقاحة عددًا من الديكتاتوريات في العالم التي تمارس ضدّ شعوبها من الاعتداءات ما يعتبره الغربُ المتعاطي مع العالم الإسلامي بالازدواجية اعتداءات أيضًا بمقياسه ؛ فالديموقراطية التي يفاخر بها الغرب ليست إلاّ خاضعة لمصالحه ؛ فعندما تقتضي المصلحة أن يغزو دولةً من الدول تتبدّى له فيها كثير من السوءات التي تدعوه مُلِحّةً إلى غزوها لزرع "جنّة" الديموقراطيّة فيها وإزالة جميع مساحات "النار" منها . وقد أكّدت المشاهد الأفغانستانية وبعدها العراقية أن الغرب لاتعنيه معاناة الشعوب والأمم ، وإنما تعنيه المصالح المتنوّعة . إن القضية العراقية بصفة خاصّة أثبتت كون "بوش" وعشيقه "توني بلير" أكبر مجرمين في التأريخ المعاصر وأشنع مجرمين بين الفراعنة الحكام الذين دَرَجُوا عبر التأريخ البشريّ؛ ولكنّ الغرب المتظاهر بالعدل والمساواة والإنصاف والحقوق الإنسانية لم يرفع جدّيًّا وبشكل مثمر صوتَه لإيقافهما موقف المجرمين وإدانتهما بارتكاب الجرائم الحربية البشعة التي يشاهدها العالم كل لحظة ومحاكمتهما فعقابهما عقابًا رادعًا . وقد تأكّد كذبهما وتلفيقهما للأسباب التي تَذَرّعا بها لغزو العراق وأيضًا لغزو أفغانستان ؛ حيث إن "بوش" لم يقدم لحد اليوم دليلاً قاطعًا على إدانة القاعدة بتفجيرات 11/ سبتمبر2001م ، الأمر الذي اتخذه وسيلة لغزو أفغانستان وتدميرها عن آخرها .
وما دام الحديث يدور حول تباهي الغرب بـ"الديموقراطية" يطرح هناك سؤال نفسه طرحًا مُلِحًّا : لماذا لاتزال أمريكا ودولُ الغرب مُصِرَّةً على معارضة "حماس" التي فازت بأغلبية في الانتخابات العامة التي صَوَّتَ فيها الشعب الفلسطيني لصالحها . إذا كانت الديموقراطيةُ تعني فيما تعنى احترامَ إرادةِ الشعب فيما يتعلّق بإدارة البلاد ؛ فما هو السبب في الإصرار الأمريكيّ على الامتناع عن التعاون مع حماس التي كسبت إرادةَ شعبها ؟ وما هو الداعي لأمريكا والغرب على الإجماع على ممارسة الضغط عليها للتخلّي عن مبادئها التي تتبنّاها للدفاع عن الشعب الفلسطيني ومقاومة الاعتداء الإسرائيلي الذي تقف أمريكا والغرب بجانبه .
إنّه ليس السبب إلاّ الحقد على الإسلام والمسلمين ، ومعاداة القضايا العربية العادلة ، وتأييد إسرائيل في عدوانها الوحشي على الشعب الفلسطيني والأراضي الإسلامية العربية، الأمر الذي ينصبّ في خانة المصالح الغربية الأمريكية الصليبية الصهيونيّة ذات الأهداف الكثيرة .
وأعود لقضيّة حرية التعبير المزعومة لدى الغرب، لأشير إلى أن رئيس تحرير القسم الثقافي بصحيفة "جيلاندس بوستن" - المسؤول عن نشر الرسوم الكاريكاتوريّة المسيئة للنبي r - الذي كان قد أعلن عن خداع أو صدق نيّة اعتزامَه على نشر رسوم كاريكاتوريّة مماثلة ساخرة من المحرقة النازيّة ضدّ اليهود المعروفة بـ"الهولوكوست" نقلاً عن مسابقة أعلنتها صحيفة إيرانية ، قد مُنِحَ إجازةً إجباريّةً، رغم أنه كان قد تَراجَعَ في اليوم نفسه عن تصريحاته حول نشر رسوم ساخرة من "الهولوكوست" مُعْتَبِرًا أنّ إعلانه عن ذلك كان خطأ وأنّه سيلتزم بالخطّ التحريري الذي تُقَرِّرُه إدارة الصحيفة ؛ لكن تصريحاته الأخيرة الواضحة لم تُرْضِ المسؤولين عن الصحيفة ، حتى أرغموه على تقبّل إجازة إجبارية .
وفي السياق نفسه جدير بالذكر أن الصحيفة المذكورة التي أقدمت على نشر رسوم مسيئة إلى صلى الله عليه وسلم ، سبق أن رفضت في شهر أبريل 2003م نشر رسوم مسيئة إلى سيدنا المسيح - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - خشيةَ ردود الفعل الغاضبة من قبل قراء الصحيفة من أبناء الغرب الذين معظمُهم يدين بالمسيحية المشوّهة .
وكأنّ الصحيفة حين نشرت الرسوم الساخرة من نبينا صلى الله عليه وسلم تجاهلت ردود فعل المسلمين الغاضبة ، أو أنّها فرّقت بين النبيين - عليهما الصلاة والسلام - لأن ثانيهما نبيُّ المسلمين وحدهم على زعم الغرب . والمسلمون ونبيهم يليقون بكل إساءة ، لأنهم غثاءٌ كغثاء السيل ، ولا قيمة لهم عند الغرب !!.
إن هذا التعامل بل العبث بحقيقة حرية الفكر والتعبير لايحسنه إلاّ الغرب المتكبّر المتنكّر لكل فضيلة وقيمة لدى الشرق ولاسيما المسلمين الذين يحمله كبره على اعتبارهم غير "متحضّرين" .
(تحريرًا في الساعة 10 من الليلة المتخللة بين الثلاثاء والأربعاء 27-28/ صفر 1427هـ = 28-29/ مارس 2006م)
نور عالم خليل الأمين
==============(55/83)
(55/84)
بدايات السفور في العالم الإسلامي ( 6 ) :الكويت
سليمان بن صالح الخراشي
هذه هي الحلقة السادسة من حلقات " بدايات السفور في العالم الإسلامي " خصصتها للحديث عن بداية سفور ( بعض ) النساء في الكويت . وقد جاءت متوافقة مع ماسمعناه قبل أيام من إقحام المرأة المسلمة هناك في العملية السياسية التي لا تليق بها " شرعًا ولا واقعًا " ، وقد أفتى بذلك علماء وعقلاء الكويت " انظر رسالة : فتاوى وكلمات ، للدكتور عبدالرزاق الشايجي - وفقه الله - " .
ولكن الحكومة هناك ومعها بعض النواب - هداهم الله - لم يأبهوا بهذا ؛ استجابة منهم - شعروا أو لم يشعروا - لضغوطات الغرب ؛ وعلى رأسه الحليفة القديمة بريطانيا ! ثم أمريكا . وهذا لم يعد يخفى على عاقل يتابع الأحداث - ولله الحمد - .
ولذا فإنك تجد هذا الخبر لم يتوقف عنده أكثر الناس أو يتحمسوا - حتى بعض المؤيدين له ! - لعلمهم أنه مجرد خطوة جديدة من خطوات التنازلات والإفساد ، لن يُقدم أو يؤخر شيئًا في حال المسلمين ؛ بل سيزيدهم وهنًا على وهن ، وتفككًا فوق تفكك . وقد رأوا عواقبه في بلاد أخرى من بلدان المسلمين .
وقد أجاد الكتاب الشرفاء الفضلاء من أهل الكويت عندما دبجوا المقالات في بيان ماأوجزته آنفًا ، وسخر بعضهم من حال الحكومة هناك ، حيث المسارعة في إرضاء بني الأصفر ؛ ولو بالضغط على النواب وإرهابهم ، أو ترغيبهم ومساومتهم هم والمجتمع بزيادة الرواتب !!
انظر بعض هذه المقالات : ( هنا ) و ( هنا ) و ( هنا ) و ( هنا ) .
====================
أعود - بعد هذا - للحديث عن بداية سفور ( بعض ) النسوة في الكويت فأقول : لاأظن أحدًا - لقُرب العهد - يُخالف في أن جميع النساء المسلمات في الكويت كن إلى عهد قريب لايتجاوز 30 -40 عامًا يلتزمن بالحجاب الشرعي " ستر الوجه أو النقاب " ؛ إلى أن وقع بعضهن في التغريب المذموم في عهد حاكم الكويت عبدالله السالم ( 1965-1950م ) .
فإذا كان حاكم الكويت القديم مبارك الصباح ( 1916-1896م ) - الذي تولى الحكم بعد قتله لأخويه غدرًا !! - قد رضي حماية بريطانيا سياسيًا وخارجيًا - دون التدخل الداخلي - ، فوقع معها " معاهدة الحماية " مدخلا البلاد تحت وصاية الكفار ؛ فإن عبدالله السالم قد اجتهد - بجهل أو بغيره - في " تغريب " البلاد داخليًا ؛ حيث تم في عهده : الحكم بالدستور الجاهلي ؛ حيث أصبحت الشريعة الإسلامية مجرد ( مصدر ) من مصادر التشريع ! وليست ( المصدر ) ، وتأسيس البنوك الربوية تحت إدارة بريطانية ، وإلغاء علم الكويت القديم الذي يحمل كلمة التوحيد " لا إله إلا الله محمد رسول الله " واستبداله بالعلم الحالي ، وإغراق البلاد في اللهو - سينما ومسرح .. - ، ودعم تحرر المرأة المسلمة من أحكام الشريعة .
بعد هذا حصلت الكويت على استقلالها !! ( 1962م ) .
وهذه سياسة استعمارية خبيثة ؛ حدثت في بلاد عديدة ؛ لارحيل إلا بعد ضمان التغريب وعدم الحكم بالشريعة !
====================
- يقول الزعيم محمود بهجت سنان - عراقي - في كتابه " الكويت زهرة الخليج العربي " ( ص 162-163) متحدثًا عن ذكرياته في الكويت : ( إن المرأة الكويتية حتى سنين قلائل كانت ترتدي الجلباب عند خروجها من منزلها، والجلباب رداء طويل الذيل يزحف وراءها على الأرض ما يقارب المتر إمعاناً في ستر قدميها أثناء المسير، إذ أن أغلبهن كن يفضلن المشي حافيات الأقدام في الطرقات، والنادر منهن من تنتعل الحذاء أو القبقاب، ويستر وجهها نقاب كثيف تشع عيناها من فتحتين صغيرتين فيه تجاه العينين.
وأما الصفات التي تمتاز بها المرأة الكويتية فهي تمسكها بتعاليم الدين وهي لا تعرف إلى التبرج سبيلاً ، ولا تستعمل من وسائل الزينة غير الحناء في أكفها وأرجلها ورأسها، وتتعطر بدهن الورد والمسك ودهن العود، وهي العطور المفضلة عندها ) . ( ويوم كنتُ في الكويت أقيمت مظاهرة من قبل قسم من طالبات المدارس يطلبن رفع الحجاب، وقد جمعن ما لديهن من البراقع (البواشي ) وأحرقنها ) !
- وتقول لورنس ديونا - وهي صحفية سويسرية زارت الكويت عام 1968م وكتبت انطباعاتها وملاحظاتها في كتابها " المرأة في الكويت بين الحصير والمقعد الوثير " ( ص 27،22-21 ) :
( إن جميع النساء كن قبل ثلاثين سنة يتسربلن بالنقاب و"العباية" ، أما "البوشية" - ذلك الحجاب الرقيق- فيخفي وراءه، وما زال يخفي أيضاً في أوساط بعض العائلات المحافظة، وجه بنات المدينة ) .
( وفي الكويت جامعتان منفصلتان: الأولى للفتيان، والثانية للفتيات، وهذا التقسيم الذي رغب بعض النواب في سنه قانوناً دائماً، ومن حسن الحظ أن الأمير عبدالله السالم، المتوفى قبل سنوات قليلة، كان قد عارضه ، يكلف البلاد مصاريف باهظة ) !!
- ويقول المؤرخ الكويتي يوسف القناعي في كتابه " صفحات من تاريخ الكويت " ( ص 86 ) : ( وتخرج المرأة لقضاء حاجتها من السوق أو للزيارة متحجبة، والسفور لا يُعْرف بالكويت ) .(55/85)
ويُخبرنا الأستاذ حمد السعيدان في " الموسوعة الكويتية المختصرة " ( ص 1475) عن أول فتاة كويتية زاولت العمل المختلط - للأسف- فيقول : ( وتعد الآنسة شيخه القطامي أول فتاة كويتية تنخرط في سلك العمل جنباً إلى جنب مع الرجل، وكان ذلك عام 1957) . أما عبدالله الحاتم فيرى أن ( أول فتاة كويتية اقتحمت ميدان العمل واشتغلت موظفة هي الآنسة شريفة عبدالوهاب القطامي بدأت حياتها هذه عام 1960م بأن اشتغلت موظفة في شركة نفط الكويت ) . " من هنا بدأت الكويت ، ص 88 " . قلت : لعلهما أختان .
--------------
أما عن بداية تمثيل ( قلة من النساء ) على المسرح في الكويت ؛ فقد حدثت عندما استُقدم المخرج المصري " زكي طليمات " بجهود من الوزير الحالي صباح الأحمد - هداه الله - لتطوير ( ! ) المسرح الكويتي . فقام طليمات باستدراج المرأة المسلمة لهذا العمل المشين بخطة إبليسية ساعده فيها ثلة من مرضى القلوب والمغفلين .
يقول الأستاذ يوسف التركي في كتابه " لمحات من ماضي الكويت " ( ص 52) : ( وكان من جملة الأشياء التي لحظها الأستاذ زكي طليمات خلال زيارته للكويت عام 1958 أن المسرحيات ليست مكتوبة، ولذا اقترح أن تكتب المسرحية ثم وزع الأدوار على الممثلين لحفظها ، كما لاحظ أن الرجال يقومون بأدوار النساء ولذا كان من رأيه استقدام ممثلات من خارج الكويت لعدم توافرهن في الكويت ) .
ولنستمع إلى طليمات نفسه يحكي لنا ماقام به :
يقول - والتعجب مني - : ( حينما كنتُ في القاهرة أحزم حقائبي للقدوم إلى الكويت، مستجيباً لدعوة كريمة من جانب وزارة الشئون الاجتماعية والعمل لأن أتولى أمر توجيه النشاط المسرحي الذي تشرف عليه، وأرسي أسساً صحيحة في فنون التمثيل، كان تساؤل الناس يحوطني من كل جانب، وكأنني مقدم على مجازفة خطيرة، أو معركة غير متكافئة.
ومن مشفقٍ ما عسى أن أفعل في قِطْرٍ حديث العهد بالتحرر الاجتماعي كما تفهمه الحياة الحديثة، وبسفور المرأة خاصة، والمعلوم أنه عسير كل العسر أن تقوم قائمة للمسرح في قطرٍ يحكمه الحفاظ والمحافظة. ( ! )
حق وصدق أنني أمام تجربة قاسية ومثيرة .. ولكن ما الجديد في الأمر؟ حياتي في المسرح كلها تجارب قاسية ومثيرة، ولم أخرج من إحداها بمال ادخرته، إذ ما زلتُ حتى الآن أركب قدمي أينما سرت، وإن خرجتُ من هذه التجارب بنشوة الباني الذي يزهو بأنه رفع بناءً وأشاد. ( ! )
سألت نفسي: ماذا في الكويت من مظاهر النشاط المسرحي؟ ثم ماذا تريده الكويت مني على وجه التحقيق؟ مظاهر النشاط هنا تكاد تنحصر في الحفلات التمثيلية التي يحييها الطلاب بين جدران المدارس، ثم في الحفلات القليلة التي يقدمها "المسرح الشعبي"، وأعضاؤه أيضاً من هواة التمثيل، وهي حفلات يحضرها الجمهور بالدعوات المجانية، وتجري غير متتابعة، وتقدم مسرحيات مرتجلة باللهجة الكويتية، تعالج الأحوال القائمة في أسلوب فني متعثر، ليس من المسرحية الحقة إلا المظهر، وليس لهذه المسرحيات نصوص مكتوبة يتقيد بها الممثلون، هذا والأداء التمثيلي يجري من جانب الممثلين دون تقيد محكم فيما يبدونه كلاماً وإيماءةً وحركةً تبعاً لمقاييس ومعايير تستمد قيمها من موضوع المسرحية ومن الانفصالات التي تجري في شخوصها.
ومع هذا، فإن الجمهور يستمتع بهذه الحفلات إذ لا يجد غيرها مجالاً للتنفيس وللتعبير عما يحسه.
وفي جميع ما تقدم ذكره من مظاهر النشاط المسرحي، يقوم الرجال بأدوار النساء؛ لأن العُرْف السائد في نواحيه المتزمتة ( ! ) يحول دون أن تعتلي المرأة المسرح إلى جانب الرجل، حتى ولو كانت من غير نساء الكويت.
على ضوء ما تقدم تتضح مهمتي فيما يريده مني الكويت لمسرحه الناشئ:
الخطوة الأولى: وقد اتخذتها قبيل قدومي إلى الكويت، إذ وافق الكرام المسئولون على أن أستقدم معي من القاهرة ممثلتين محترفتين، وهيئة ممن يديرون الحركة المسرحية، فاخترت السيدتين: زوزو حمدي الحكيم، وجيهان رمزي، وكلتاهما من تلاميذي، للأولى خبرة وماض مشرِّف في خدمة المسرح، وللأخرى استعداد خصب يبشر.
وأخذنا نعمل ... أقول (نحن ) ولست (أنا ) وحدي فإذا قلت نحن، فإنني أعني المسئولين في الوزارة، ومن أجريت ذكرهم، ثم أعضاء الفرقة (فرقة المسرح العربي ) الذين اخترتهم من الشباب الكويتي والعربي.
أعلنت عن حاجتي إلى شباب يعمل بالفرقة التي ترعاها الوزارة وتشرف عليها، فتقدم أكثر من مائتين وخمسين شاباً، ولم تتقدم فتاة كويتية واحدة، واستغرق أمر اختيار الصالح منهم ثلاثة أسابيع، إذ أن الرغبة وحدها في أن تصبح ممثلا لا تفيد ما لم يكن وراءها استعداد فطري لتلقي فنون المسرح.
وفي أثناء هذه الفترة وقد دوت أبواق الدعاية للفرقة الناشئة عن طريق الراديو والتلفزيون، وبعد محاضرات عدة ألقيتها في شأن المسرح، في ماهيته، وفي أن أهدافه تحرر وتثقيف ( ! ) وليست تحللاً وتزييفاً، وقعت أعجوبة!(55/86)
تقدمت فتاتان كويتيتان موظفتين في وزارة الصحة، لتعملا ممثلتين، على الرغم من تزمت المتزمتين ( ! ) فعانقتُ في قدومهما الأمل الحلو في نجاح مهمتي، كما ازددت ثقة في أن الكويت على أبواب تطور اجتماعي في حياة المرأة.
وتم إعداد المسرحية بقدوم شهر رمضان وأعلنت استعداد الفرقة لافتتاح موسمها الأول.
ولكن أصواتاً حكيمة، ارتفعت تهمس لي بأن أخذ التريث، وأن أرجئ افتتاح الموسم إلى ما بعد انتهاء شهر الصوم، حتى لا تتحرك أوكار المتزمتين والرجعيين - وفي كل قطر عربي يوجد هذا الطراز من الناس- ( ! ) فيهاجمون الفرقة بدعوى أننا لم نوقر شهر الصوم التوقير كله، فأخرجنا النساء إلى جانب الرجال فوق المسرح، وبينهن فتاتان من الكويت .
وأخيراً: أعترف بأنني لم أكن أُقَدِّر هذا النجاح، وعندما راجعت الأمر بين نفسي وبين مخزونها من التجارب التي تمرست بها، ازداد يقيني بأن العمل الجيد يلقى جزاءه الطيب، لقد أحسن أعضاء الفرقة القيام بمهمتهم فكان جزاؤهم التوفيق. ولكن فرحتي الكبرى، أنه لم يهب إعصارٌ من جانب المتزمتين فيطيح بالفتاة الكويتية من فوق المسرح ( ! ) . إن اسمي "مريم صالح" و"مريم غضبان" سيدخلان تاريخ المسرح الكويتي كرائدتين، وسيكونان دائماً على رأس القائمة لمن تليهما من الفتيات الكويتيات اللواتي سيؤلفن بنشاطهن الفني نقطة انطلاق جديدة في نشاط المرأة الكويتية ) .انتهى حديث طليمات ؛ ( مجلة العربي ، العدد 43 ، ونقلته ظمياء الكاظمي في كتابها : الحركة المسرحية في الخليج العربي ، ص 146-136) .
قلتُ : لقد باء الهالك بهذه السنة السيئة التي سنها لمن جاء بعده . وقد كانت نهايته غير مأسوف عليه مأساوية ؛ حيث فقد عدة أعضاء من جسده بالعمليات المتتالية - نسأل الله السلامة - " انظر : صفحات من حياتهم ، لمحمد نصر ، ص 109 ) .
====================
اقتراحي للفضلاء من أهل الكويت ( رجالا ونساء ) - وقد تيقنوا أن بلادهم كغيرها من بلاد المسلمين تواجه ضغوطات غربية يخضع لها أصحاب المصالح ومرضى القلوب ، ممن قال الله عنهم ( فترى الذين في قلوبهم مرضٌ يُسارعون فيهم .. ) : أن يكون شعارهم في المرحلة القادمة " خير وسيلة للدفاع الهجوم " ، و " إن لم تُشغلهم بالحق أشغلوك بالباطل " ؛ وتطبيق ذلك على أرض الواقع يكون بطرح المشاريع العملية التي تُباعد بين المسلمين والفساد ؛ ومنها : 1- إعادة الإلحاح في موضوع " تحكيم الشريعة " وتعديل الدستور . 2- اقتراح إنشاء هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتسميتها " هيئة الإرشاد " مثلا ؛ تكون مهمتها تذكير الناس ونُصحهم ، ونشر الخير بينهم بكافة الوسائل المتاحة . 3- إلزام النساء المتبرجات بالحجاب ؛ لأنه بالاتفاق - حتى عند من يرى كشف الوجه - بدعة ومنكر . 4- المطالبة بمنع الاختلاط في الجامعة ، وإعادته لسابق عهده قبل التغريب . وبالمقابل إنشاء جامعات أهلية غير مختلطة . 5 - توعية الشعب الكويتي بمخططات الأعداء ؛ فإن الشعوب إذا التزمت ووعت ؛ أفشلت مخططات التغريب مهما كانت مدعومة من الحكومات ! . 6- مناصحة بعض الدعاة الحزبيين الذين يُغلبون مصالحهم الشخصية أو مصالح حزبهم على الحق والفضيلة أن ينتهوا عن هذا " التلون " و " التقلب " ؛ وإلا حُذر منهم .
أسأل الله أن يوفق أهل الكويت لما يُحب ويرضى ، وأن يُجنبهم كيد الأعداء .
====================
للاطلاع على الحلقات السابقة ، ورسائل متعلقة بموضوع المرأة المسلمة ( اضغط هنا ) .
هذا مقالٌ مهم للدكتور الكويتي عبدالله النفيسي - وفقه الله - نشره للرد على " سذاجة " بعض المحسوبين على الخير من الدعاة " الحزبيين " المتقلبين والمتلونين ، الذين يُسامون على دين الأمة وأخلاقها في سبيل أن يرضى عنهم أعداء الله ، أو أن يُعجلوا بالحصول على مطمح سياسي " موهوم " ؛ حيث يكتشفون في النهاية أنهم لاحصلوا " دنيا " ولا أبقوا " دينا " .. بل أفسدوا غيرهم ممن انخدع بمظاهرهم . وهذا الصنف المتلون يوجد في كل بلد من بلاد المسلمين ؛ فليحذره المسلمون وليحذروا منه ؛ قبل أن يورطهم - بحماقته وقلة ديانته - في تنفيذ مخططات الأعداء وهم لا يشعرون ..
الأجندة الأمريكية في الجزيرة العربية
الفتنة الكبيرة التي تنتظر الحركة الإسلامية(55/87)
الذي حدث في مجلس الأمة الكويتي وهو يتقاطب حول ملفّ المرأة الأسبوع الفائت وما تمخّص عن ذلك من تصويت لصالح إدماج المرأة في العملية السياسية وإقحامها إقحاما في الشارع السياسي له دلالات كثيرة وانعكاسات خطيرة على التنظيمات الإسلامية العاملة في الجزيرة العربية... ولم يتردد -والحمد لله- عدد من النواب الإسلاميين في التعبير شفاهة «أو كتابة» عن عدم رضاهم لنتيجة التصويت الذي تم في مجلس الأمة . وأفضل ما سمعت في هذا الصدد -دونَ بْخس حق الآخرين الذين لم اسمعهم- هو ما سمعته من النائب أبورميه حفظه الله ونصره حينما قال: إن الله سوف يُحاسبنا على ذلك وان كثيرا من الناس سوف يندمون في نهاية المطاف عندما يرون بأعينهم النتيجة السلبية التي ستترتب على إقحام المرأة في الشارع السياسي. وأفضل ما قرأت في هذا الصدد هو ما كتبه النائب وليد الطبطبائي حفظه الله ونصره في جريدة «الوطن» الأربعاء 5/18 والذي أكد من خلاله أن عضوية مجلس الأمة هي «ولاية عامّة» لا تجوز شرعاً للنساء وقد استشهد بإمام الحرمين الجويني في كتابه «غياث الأمم » وكان استشهاده في محلّه.
ولقد لاحظ الأخ احمد الكوس في كلمته التي نشرها في جريدة «الوطن» الخميس 5/19 أن الحكومة سخّرت كل آلتها الإعلامية «تلفاز وإذاعة وصحف» لجانب مشروعها وأرهبت لجنة الإفتاء وجَنّدت جميع مدارس وزارة التربية وحتى مراكز تنمية المجتمع في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في جميع مناطق الكويت لصالح مشروع الحكومة وكمّمت أفواه الأئمة والخطباء من على المنابر ومنعتهم من الإدلاء بآرائهم المعارضة لمشروع الحكومة وبعد كل ذلك تدّعي الحكومة أن خطوتها كانت ديموقراطية؟ وهي ملاحظة قيمّة وفي محلّها.
ما يُخيف في هذا الأمر هو سياقه الاستراتيجي الخارجي ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية تابعت هذا الموضوع ورعته منذ البداية بغرض تثميره في أجندتها الخاصة بالجزيرة العربية، وكان تصريح باوتشر الناطق باسم الخارجية الأمريكية بعد وقت قليل جدا من تصويت مجلس الأمة لافتا للنظرمن جهة كشف الخلفية الأمريكية للموضوع، وليس غريباً على الإدارة الأمريكية هذا الموقف ليس لأنها نصيرة الديموقراطية ـ كما تدعي ـ ولكن خطوة كهذه من الممكن أن تصبّ في تفكيك البُنى السياسية والاجتماعية التقليدية وفي ترويض الشخصية القومية لعرب الجزيرة الذين يقوم مجتمعهم على موروث راسخ من الفصل بين محيط السياسة والولاية العامة من جهة والمرأة من جهة أخرى خاصة وان هذا الموروث هو من الثوابت الإسلامية التي التزم بها مجتمع الجزيرة العربية على مرّ العصور منذ بزوغ الإسلام حتى عصرنا الحاضر.
وصار من الواضح - للقاصي والداني - أن تحريك هذا الموضوع وافتعاله وما رافقه من تحريض اجتماعي بارز قد ساهمت في رعايته الإدارة الأمريكية فلقد جاءت إلى المنطقة عدة وفود من الكونجرس ومن جمعيات أمريكية كما كانت السفارة الأمريكية ترسل مندوبيها في كل المناسبات للاتصال بالعناصر النسائية الحركية وكانت الوفود الأمريكية ترسل مندوبيها في كل المناسبات للاتصال بالعناصر النسائية الحركية وكانت الوفود الأمريكية تحضر جلسات مجلس الأمة وتتصل بالنواب في منازلهم، كل ذلك يكشف الخلفية الأمريكية للموضوع ويستوجب منا أن نتساءل: لماذا كل هذا الاهتمام الرسمي الأمريكي بموضوع المرأة في الكويت؟ (تابع إن شئت تصريحات الرئيس بوش في هذا المجال ) .(55/88)
يجب على الحركة الإسلامية في الجزيرة العربية بكل أطيافها وألوانها وراياتها ومسمياتها ألا تفوت هذه الفرصة لاستخلاص الدروس والعبر وتنقية الصفوف والمفاهيم وتحرير المواقف من الوهن وتبصير القيادات الإسلامية والقواعد للتحديات السياسية القادمة ما يوجب البلورة الفكرية وتأصيل المفاهيم والمباشرة فورا بعمليات الإرشاد السياسي والتربية الاجتماعية وتجاوز العتبات الحزبية قبل أن تجد الحركة الإسلامية نفسها - وباسم الديموقراطية وصوت الأغلبية - وقد تم استيعابها وهضمها وتجنيدها لتنفيذ الأجندة الأمريكية في الجزيرة العربية. أقصى ما تتمناه الإدارة الأمريكية هو حركة إسلامية تلتزم بالضوابط الديموقراطية ولا تلتزم بالضوابط الشرعية الإسلامية، وأحلى ما تسمعه من كلام هو ذلك الكلام الانفعالي الهائم الطليق الذي تفوه به النائب الإسلامي عندما قال بعد إعلان نتيجة التصويت: ( هذا يوم عظيم من أيام الديموقراطية الكويتية) ، أي ديموقراطية يا أخي سامحك الله وعفا عنا وعنك !! وهل سيسألنا الله تعالى في نهاية المطاف عن التزامنا بالديموقراطية والتعددية وتصويت الأغلبية أم يسألنا عن مدى التزامنا بالثوابت الشرعية التي اخترقها وتجاوزها القانون الأخير موضوع التصويت؟ لقد كشفت التجربة الأخيرة في مجلس الأمة أمرين بارزين: أولهما : أن الحكومة مستعدة لأن تلجأ لكل المخالفات والتجاوزات السياسية والقانونية لتمرير مشاريعها أيا كانت المطابخ السياسية التي طبخت فيها، وثانيهما : أن النواب الإسلاميين يعانون من خلل كالمنخل على مستوى حركتهم وفكرهم ونضجهم السياسي وهو خلل خطير وعضوي وبنيوي قد يجدون أنفسهم في نهاية المطاف أفضل أدوات لتنفيذ الأجندة الأمريكية في الجزيرة العربية على اعتبار أن التجربة الكويتية - لا سمح الله - سوف يتم تعميمها على أقطار الجزيرة العربية، إن الأمر جلل والفتنة عظيمة وهي فتنة تنتظر الحركة الإسلامية قبل أن تصبح وسيلة من وسائل تنفيذ الأجندة الأمريكية في الجزيرة العربية. هل أصبحت الديموقراطية فخا كبيرا منصوبا للحركة الإسلامية؟ ( د / عبدالله النفيسي ) .
================(55/89)
(55/90)
الفلوجة وديموقراطية التدمير
ماجد بن محمد الجهني
الظهران
ستة آلاف منزل تم تدميرها مع ثلاثة وثلاثين مسجداً إلى ساعة كتابة هذا المقال في مدينة المساجد الصامدة مدينة الفلوجة والتي تشهد عدواناً همجياً بربرياً على أيدي المبشرين بالديموقراطية البائسة في الشرق الأوسط الجديد الذي يُعد لكي يكون مسرحاً تتفرد فيه القوى الظلامية الصهيو أمريكية بمصير هذه الأمة المغلوبة على أمرها والتي وصلت إلى درجة من الذل تثنيها حتى عن مجرد الشجب والاستنكار لما يحصل في أرض العراق وفلسطين من مجزرة رهيبة يتبادل فيها الإسرائيليون والأمريكيون بمشاركة بريطانية سفك دماء إخواننا المستضعفين في هذين القطرين العزيزين من بلاد الإسلام.
إنها يا أيها السادة ( هولوكوست) جديدة ومحرقة بشرية رهيبة يمارسها من قد أخبرنا الله عز وجل عنهم بقوله ( لايرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة) ، ( يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم) ( وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) ، وهانحن نرى صورة مع التحية يهديها العم سام لجميع الشعوب العربية عن حضارته التي يريد نقلها إليهم ، وهي صورة مع التحية لجميع الشعوب المسلمة عن المعنى المراد من الديموقراطية حسب وجهة النظر الأمريكية ، وهي صورة مع العزاء أيضاً والمواساة لأمتنا التي أصيبت في بعض مفكريها المبشرين بالمشروع الأمريكي الإصلاحي المزعوم في عالمنا العربي الذي سلب من الإرادة والقدرة على التفكير أو الاختيار بفعل عوامل كثيرة لا يتسع المجال لذكرها في هذه العجالة.
إنني أتعجب من هذه الإنسانية المفرطة لدى الأمريكيين تجاه المسلمين والذي جعلهم يصرون على أن يحملوا لهم مشروع الإصلاح والديموقراطية على أجنحة أحب الطائرات إليهم والتي يفضلون زيارة عالمنا على متنها وهي ديموقراطية تحملها قاذفات ( البي اثنان وخمسون) ( والإف ستة عشر) ( والأباتشي والبلاك هوك) والتي تصب الديموقراطية صباً على مسلمين أبرياء ابتلتهم أمريكا في دينهم وأرضهم وعرضهم ونكلت بهم أشد التنكيل عبر قنابلها العنقودية والانشطارية والقنابل الهيدروجينية والغازات الكيماوية وغازات الهلوسة والأعصاب في قائمة يطول سردها من أنواع أسلحة الدمار الشامل الذي جاءت تبحث عنه في طول العراق وعرضه والذي يبدو أنها أرادت أن تقول لأهل العراق بلسان الحال : هل رأيتم أين وضع صدام أسلحته المدمرة؟ فلما لم يجيبوا ضربت لهم مثالاً بالمقصود من خلال ماتصبه على دورهم وديارهم فحسبنا الله ونعم الوكيل على هذه الدولة الجائرة.
الذي يحدث في الفلوجة مذبحة متعمدة لمدينة كاملة تأبى الرضوخ والتسليم لمعتد متغطرس أراد أن يسوق رجالها كما تساق العبيد ونساءها كما تُساق الإماء ، وهي مجزرةٌ إرهابية دوليةٌ تحدث على عين وبصر العالم ويُصور فيها الجاني بصورة المصلح وتصور الضحية بصورة المجرم الأثيم الذي يستحق السحق والاستئصال والإبادة الجماعية ، وهي جريمة خالية من جميع المبررات الأخلاقية ، وأصحابها ومرتكبوها قد نزلوا إلى أسفل مستويات الأخلاق فقد أصبحوا في درجة أسفل من درجة البهائم والسباع الضارية وإلا كيف يُفسرُ قصف المستشفيات على رؤوس من فيها من الكوادر الطبية والجرحى والمرضى ، وتحت أي بند من الممكن أن يوضع قطع الماء والكهرباء ومنع المؤونة والغذاء عن أهلها إلى درجة نشر القناصة حول نهر الفرات لقنص كل من تسول له نفسه الاقتراب للشرب من ماء النهر ، وماهي الذريعة التي من الممكن أن تقبل لمنع الأهالي في الفلوجة من دفن موتاهم وعلاج جرحاهم الذين ينزفون حتى الموت .
إن الجواب على تلك الأسئلة يقول لا ذريعة أبداً ، وكل ما يمكن أن يُقالَ في هذا السياق هو أن العالم أجمع وليست الفلوجة فقط قد ابتليَ بحضارةٍ قد انحط أصحابها إلى درجة غير طبيعية من النازية والحقد والكراهية وقد بلغت مبلغاً عظيماً في العلو والاستكبار والغطرسة والاستهانة بالآدميين واحتقار جميع الشعوب المسلمة والاستهانة بها مما يشي بإذن الله تعالى بقرب زوال هذه الإمبراطورية الغاشمة التي قد حملت على كاهلها من المظالم والجرائم والآثام مالا يحصيه إلا الله تبارك وتعالى ، وهذا العتو والعلو والإفساد إنما هو المقدمة لإرهاصات مستقبل مظلم ينتظر هذه الحضارة التي لن تبتعد كثيراً عن مطارق السنن الإلهية التي عصفت بأمم حوت من البأس والقوة ماقد أخبرنا به الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل.
إنه ورغم الجراحات العظيمة التي أُصيب بها أهلنا في العراق عموماً وفي الفلوجة خصوصاً وقبلهم أهلنا في أكناف بيت المقدس إلا أنني على يقين بأن الشمس بإذن الله ستشرقُ من جديد ، وإن نور الحرية الحقيقي يسطع في سماء بيت المقدس وأختها الفلوجة حيث يسكب الأبطال هناك الدماء القانية لتكون مشعلاً يضيء عناقيد الضياء في العالم من جديد ، وأيم الحق إن ما اختاره أهل الفلوجة خصوصاً وأهل العراق عموماً من المقاومة لهي السبيل الحق الذي لا يملك معها أي أحد مهما كان قدره أن يصادرها منهم ومايجرمهم في مقاومتهم إلا من أعمى الله بصيرته وطمس على قلبه.(55/91)
ألا وإن الأمل بالله كبير في أن يثبت هؤلاء المدافعين عن كرامة الأمة وأن يمدهم بعونه وليس بعزيز عليه سبحانه أن يذل الظالم المستكبر الجائر المحتل على يدي المظلوم الضعيف الجائع .
جريدة المحايد في عددي26شوال-4ذي القعدة 1425هـ
===============(55/92)
(55/93)
كي لا نسقط في الهاوية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فقد أخفق العلمانيون في محاولتهم إقناع الأمة بأفكارهم، واستمروا على اختلاف اتجاهاتهم شراذم قليلة معزولة لا تمت إلى عامة الأمة بِصِلَةٍ، وبعد فترة طويلة اتجهوا إلى تطوير استراتيجيتهم؛ فمن محاولة التأثير على الأفكار إلى محاولة تغيير السلوك والأخلاق وتفكيك الأسرة وإفساد المجتمع وطمس هويته من داخله، والقيام بتفريغ عقول الأمة من قيمها وإغراقها بالشهوات من دون ضابط شرعي أو حاجز أخلاقي.
والمتأمل في واقع الأمة اليوم يلمس نجاحًا كبيرًا تحقق للقوم في هذا الاتجاه، وكان المدخل الكبير والباب العريض الذي ولجوا منه إلى ذلك هو التأثير على المرأة دفاعًا عن حريتها وإرجاعًا لحقوقها المهدرة ـ فيما زعموا ـ.
ويعود هذا النجاح إلى أسباب عديدة يمكن إجمالها في جوانب ثلاثة:
الأول: أسباب تعود إلى المرأة والمجتمع، وأهمها:
- الجهل المفرط في أوساط كثير من النساء بقيم الإسلام وأحكامه ومقاصده، وقد زاد من خطورة هذا الأمر عمليات التشويه التي يمارسها العلمانيون تجاه التشريعات الإسلامية المتعلقة بالمرأة عن طريق تناولها بشكل مجزأ يجعلها بعيدة عن التشريعات التي وردت في سياقها، مع إغفال متعمد لبيان مقاصد الإسلام من تشريعها؛ بهدف إظهار قصورها وتجاوز العصر لها ووقوفها حجر عثرة في طريق نيل المرأة لحريتها وحقوقها.
- ظاهرة ضعف الإيمان لدى كثير من النساء نتيجة عدم قيام المؤسسات التربوية في المجتمعات الإسلامية بالدور المنوط بها تجاه هذا الأمر، وتركها الحبل على الغارب لصواحب السوء وذوي الشهوات ليقوموا عبر الوسائل المختلفة بالسيطرة على عقل المرأة ومشاعرها ومن ثَمَّ تحديد اتجاهاتها وتوجيه ميولها حسب ما يشتهون.
- غفلة كثير من النساء عن حقيقة رسالتهن في الحياة، والدور المنوط بهن في بناء الأمة وصيانتها من عوامل الزيغ والانحراف.
- قيام بعض النساء المترفات بتبني دعوات العلمانيين وبروزهن واجهة لكثير من الأنشطة المقامة، وتوفيرهن للدعم المعنوي والمادي الذي تحتاجه بعض الأنشطة،إضافة إلى تغريرهن بقطاع عريض من النساء اللاتي جرت العادة بقيامهن بتقليد مترفات المجتمع وكبرياته لعظم جهلهن وضعف إيمانهن.
- أن جزءًا كبيرًا من المحافظة الظاهرة لدى كثيرات يعود إلى أعراف قبلية وتقاليد اجتماعية متوافقة مع الشرع دون أن يكون لها بعدٌ إيماني في نفوس كثيرات، ومن المعلوم أن الأعراف والتقاليد ليس لها طابع الثبات بل هي قابلة للتبدل بمرور الوقت خصوصًا متى تغيرت أوضاع المجتمع: علمًا وجهلاً، غنىً وفقرًا، انفتاحًا وانغلاقًا، ويتسارع هذا التغير حين توجد جهات تخطط للتغيير وتستخدم سبلاً ملتوية تحتفي فيها بالقديم ـ إذا احتفت ـ معتبرة إياه تراثًا لعصر مضى، وتلمِّع فيها ما تريد نشره وتجعله من متطلبات التقدم وعلامات الرقي والنهضة.
- الانحراف العام والانحطاط الشامل الذي أصاب المجتمع المسلم في كثير من جوانب الحياة المختلفة،والذي بدوره كان له أكبر الأثر في ضعف كثير من النساء وقيامهن بالتفاعل مع الطروحات العلمانية بشكل ظاهر.
الثاني: أسباب تعود إلى العلمانيين، وأهمها:
- عملهم بهدوء وبأساليب خافتة حرصًا على عدم الدخول في مواجهات مكشوفة، وسعيهم إلى تحقيق أغراضهم المشبوهة عن طريق لافتات وشعارات مقبولة، مع الحرص على الاستفادة بأقصى مدى ممكن من بعض أهل العلم وبعض المحسوبين على الدعوة لقبول أعمالهم من قِبَل العامة وتسويغها أمامهم شرعًا من جهة، ولإحداث شرخ في صفوف العلماء والدعاة من جهة أخرى.
- استفادتهم من مرحلة الضعف والهوان التي تمر بها الأمة، ومن قوة الغرب النصراني - حيث يرتبطون به ويعملون على تحقيق مصالحه بصورة فجة - والذي يضغط بقوة في سبيل فرض حضارته وهيمنة قيمه وشيوع سلوكياته في المنطقة تحت مسميات مختلفة كالعولمة والديموقراطية ودعاوى حقوق الإنسان وحرية المرأة وحرية الاعتقاد إلى آخر القائمة.
- إبرازهم لصور الظلم التي تقع على المرأة في مجتمعاتنا، واتخاذها موضوعاً ومدخلاً للحديث عنها بهدف تحقيق مآربهم وإشاعة السلوكيات والأخلاق التي يروجون لها ويدعون النساء إلى تطبيقها.
- العمل على زعزعة الثقة بين العلماء والدعاة من جهة والمرأة من جهة أخرى بهدف إيجاد فجوة بينها وبين الدين، وذلك عن طريق وصمهم لأهل العلم والدعوة بالتخلف والجمود وعدم عيش الواقع وإدراك متطلبات العصر والوقوف حجر عثرة في طريق نهضة المرأة ورقيها، والتسبب في صور الظلم الحاصلة عليها في بعض مجتمعاتنا الإسلامية.
استهواء المرأة وإغرائها وتزيين ما يشتهون لها عن طريق الاستفادة من بعض الخصائص التي تتمتع بها إجمالاً كقوة العاطفة وسرعة التأثر وضعف الخبرة في مجريات الحياة ومكائدها،وحب التزين والرغبة في الترفيه.
- تحسين صورتهم لدى المرأة وكسب ثقتها عن طريق إقامة بعض المؤسسات الطوعية التي تقدم بعض الأنشطة الاجتماعية والجمعيات التي ترفع عقيرتها بالمطالبة بحقوق المرأة وإنصاف المجتمع لها.(55/94)
- الاستفادة من الخلاف الفقهي وشذوذات بعض أهل العلم في بعض المسائل الشرعية المتعلقة بالمرأة في محاولة إيجاد مسوغات شرعية لما يدعون المرأة إليه عن طريق التلفيق بين تلك الآراء والأخذ من كل عالم فتواه التي تخدم أهواءهم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى سعيهم إلى الاستفادة من ذلك في تشويه صورة بعض أهل العلم والدعوة، وزعزعة الثقة بينهم وبين المرأة عن طريق ضرب آراء بعض أهل العلم ببعض، ووصم أصحاب الاجتهادات التي لا تتوافق مع أهوائهم بالتشدد والجمود وإرادة التعسير على المرأة وكبتها والتضييق عليها.
- التدرج في تحقيق أهدافهم؛ فمن المطالبة بحقوق مشروعة هي من صميم قيم الإسلام وتعاليمه إلى مزج ذلك بحقوق تتناقض مع قيم الإسلام إلى العمل على إحلال قيم الغرب وتقاليده محل قيم الأمة وتقاليدها ومطالبة أفراد المجتمع بتغيير هويتهم للوصول إلى الوضع المرتجى لهم.
- سعيهم إلى الفصل بين ما يزعمون أنه الدين الصحيح الذي يرفعون شعار التمسك به والدفاع عنه، وبين العلماء والدعاة الذين يزعم العلمانيون بأن دعوتهم للمرأة ليست من الدين الصحيح في شيء وإنما هي مجرد تشدد وتحكم في المرأة بأمر لا أصل له في الدين.
- تضخيم أخطاء العلماء والدعاة ونسبة بعض الشنائع زوراً إليهم، والاستفادة من ذلك في عملية التشويه وزيادة الفجوة بينهم وبين بعض نساء المجتمع،وفي المقابل تضخيم العلمانيين لأعمالهم والمنكرات التي يروجونها لتضخيم وزنهم في المجتمع،ولتصوير أن جل النساء معهم، ولتيئيس العلماء والدعاة من إمكانية الإصلاح.
الثالث: أسباب تعود إلى العلماء والدعاة، وأهمها:
- ضعف مستوى الجهود والأنشطة العلمية والدعوية الموجهة للمرأة، وقلتها وعدم كفايتها لسد احتياج الساحة، وذلك يعود في ظني إلى قلة الاهتمام وضعف عملية التخطيط وتشتت الأفكار والجهود وعدم التركيز مما أدى إلى عدم استثمار الطاقات بصورة مرضية.
- عدم وجود طروحات متكاملة لقضية المرأة والقيام بطرح النظرة الشرعية مجزأة مما يفقدها قيمتها ويظهرها ـ في كثير من الأحيان ـ بأنها غير صالحة للتطبيق؛ لأنها تتصادم مع جوانب من الواقع المعاش؛ علماً بأن الواقع السيئ للمرأة يرجع إلى عدم أخذها بالتوجيه الشرعي في كافة جوانبه.
- مجاملة بعض العلماء والدعاة للواقع السيئ، ومحاولتهم التعايش مع رغبات بعض أفراد المجتمع المتجهة نحو التغريب، وقيامهم بإصدار الفتاوى المتسقة مع ذلك.
- الرتابة والتقليدية في جل البرامج والأنشطة العلمية والدعوية الموجهة للمرأة، وعدم وجود إبداع أو تجديد فيها مما أدى إلى ضعف التفاعل معها وقلة الإقبال عليها من كثير من النساء.
- عدم أخذ زمام المبادرة في التعامل مع القضايا والأحداث، والتفاعل حسب ردود الأفعال دون أن يكون هناك مشاركة في صنعها أو تأثير في تحديد اتجاهها في غالب الأحيان، وهو مما أفرغ الساحة الاجتماعية أمام العلمانيين، ومكنهم من فعل ما يحلو لهم تخطيطًا وتنفيذًا وتوجيهًا وقطفًا للثمار بما يخدم مصالحهم ويحقق أغراضهم.
- عدم بيان أهل العلم والدعوة لدائرة المباح المتعلق بالمرأة بشكل جيد، وأخذهم لها بالأمثل عن طريق طرحهم للأفكار وتبنيهم للحلول المثلى في كثير من المواقف والقضايا بطريقة يفهم منها بأنها الطرح الشرعي الوحيد في الجانب المتناول.
وقضية الأخذ بالأمثل من الأمور التي لا يطيقها سوى قلة من الصالحات، أما غيرهن من نساء الأمة فقد وسَّع الله عليهن بما أباحه لهن، وواجب العلماء بيانه، وعدم التثريب على من أخذت به ما دامت لم تتعد حدود الله و لم تنتهك محارمه.
- عدم مراعاة بعض الدعاة لتعدد الفتوى ووجود خلاف بين أهل العلم في بعض المسائل الاجتهادية، وقيامهم بمحاولة إلزام المرأة برأي معين مع أنها ليست مكلفة شرعاً إلا بتقليد الأوثق لديها في دينه من أهل العلم لا صاحب رأي أو بلد بعينه.
- حساسية بعض الدعاة المفرطة في التعامل مع المرأة وقضاياها، وانغلاقهم الشديد الذي يمنعهم في أحيان كثيرة من تناول الأمور بموضوعية؛ مما جعل الأمور تتجاوزهم بشكل أدى إلى انفتاح صارخ غير منضبط.
- الخلط بين الأعراف والتقاليد والمنهج، وعدم تمييز بعض العلماء والدعاة بين الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة والمبنية على نصوص الشرع وقواعده وبين آرائهم التي تكون مبنية على أعراف وتقاليد اجتماعية، ولا ريب في أن لهم الحق كغيرهم من أبناء المجتمع في أن يتخذوا ما يشاؤون من مواقف تجاه أعراف المجتمع وتقاليده التي لا تتعارض مع الشرع، وأن يحاولوا إقناع من يشاؤون بمواقفهم تلك كما يحاول غيرهم، لكن الواجب عليهم إيضاح أن تلك الآراء مردها إلى العرف والتقاليد من غير محاولة إلباسها لباساً شرعياً متكلَّفاً فيه، وأن لكل أحد أن يتخذ الموقف الذي يشاء ما دام رأيه غير متعارض مع الشرع، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية الثابتة التي يجب على الناس التزامها كل حسب وسعه وطاقته.(55/95)
- التعميم: بعض من الدعاة يقومون بمحاربة المشاريع والأنشطة النسوية التي تتضمن بعض المخالفات الشرعية في المجتمع بشكل مطلق بدل محاولة مد جسور التفاهم والثقة مع أصحاب تلك المشاريع وتنمية جوانب الخير لديهم، والقيام بترشيد مناشطهم وتوجيهها الوجهة السليمة، مما يدفع القائمين عليها ـ من ذوي النفوذ ورجال الأعمال ـ في أكثر الأوقات إلى استخدام كافة ما يملكون من أوراق لمضي الأمر على ما يريدون.
- هيمنة الأعراف والتقاليد وخوف بعض الدعاة من تجاوزها؛ إلى جانب إغفال بعض المناشط الملائمة للمرأة التي أثبتت نجاحها في مجتمعات أخرى وفسح المجال أمام العلمانيين ليسدوا الفراغ الذي تعاني منه نساء المجتمع من خلال البرامج والأنشطة التي يقيمونها.
- عدم إدراك كثير من العلماء والدعاة لطبيعة التحول الذي حصل في عقلية النساء وسلوكياتهن واحتياجاتهن في وقتنا وحجم ذلك، واستصحابهم لواقع المجتمع في زمن ماض، أو تعميمهم لواقع بيئاتهم الخاصة على البيئة العامة مما جعلهم لا يشعرون بأهمية إعطاء دعوة المرأة أولوية ومزيد عناية.
- إغفال العناية بالجوانب التي فطر الله المرأة على الاهتمام بها كأمر الزينة والجمال، والأمور التي لكثير من النساء تعلق قوي بها في وقتنا كالترفيه بحيث لم يتم تقديم برامج ومشاريع حيوية مباحة في هذا المجال تسد حاجة المرأة وتقطع الطريق على العلمانيين الذين يكثرون من الولوج إلى المرأة عبر هذه البوابة ولا يجدون أدنى منافسة من العلماء والدعاة حيالها.
- ضعف الرصد والمتابعة لجهود العلمانيين وأنشطتهم مع عدم المعرفة بكثير من أعمالهم إلا بعد وقوعها مما يؤخر من مواجهتها ويجعل العلماء والدعاة يتعاملون مع آثارها ويتناسون ـ في الغالب ـ أهدافها والأسباب التي هُيِّئت لنجاحها وشجعت القوم على المضي فيها.
- ضعف كثير من العلماء والدعاة في بناء العلاقات وتكوين الصلات والقيام بواجبهتم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله ـ تعالى ـ بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، مما هيأ الفرصة للعلمانيين لكسب كثير من ذوي النفوذ ومثقفي المجتمع ورجال الأعمال لخدمة طروحاتهم ودعم مشاريعهم مع أنهم ليسوا منهم.
الانفصام لدى بعض الدعاة بين النظرية والتطبيق في التعامل مع المرأة فبينما يوجد لدى جلهم إدراك نظري جيد لما يجب أن تكون عليه الأمور، نجد ممارسة سيئة لدى كثيرين تمشياً مع الأوضاع البيئية ورغبة في الراحة وعدم المعاناة في مواجهة شيء من ذلك.
كيف ندافع العلمانيين؟
تعد النجاحات التي حققها العلمانيون في مجال المرأة ثمرة التقصير والغفلة التي عانى منها قطاع كبير من العلماء والدعاة وتيار الصحوة، وعليه فإن المدخل الصحيح للمدافعة يقتضي استشعار الخطر وإدراك ضخامة المسؤولية والتفكير بموضوعية والتنفيذ بجدية للخطوات المراد تحويلها إلى واقع، وما لم يتم ذلك فإن الخطر سيستفحل والخرق سيتسع على الراقع، ولن يجدي عندها كثير من خطوات الحل المؤثرة والمتاحة الآن.
وقبل أن أتطرق إلى ذكر بعض السبل التي يمكن بواسطتها مدافعة القوم وكبح جماحهم أو التخفيف من شرهم، لا بد من ذكر بعض القواعد والمنطلقات التي لا بد من استيعابها قبل الدخول في مواجهة معهم، ومنها:
- لا بد من التوكل التام على الله وصدق اللجوء إليه والاستعانة به والتضرع بين يديه وطلب عونه وتسديده مع الأخذ بالأسباب وإعداد العدة، وذلك لأن من ينصره الله فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له كما قال ـ تعالى ـ: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم) [آل عمران: 160].
- الاعتناء بالوضوح الإسلامي في الطرح، والمطالبة بجلاء لكافة أفراد المجتمع بتحقيق العبودية الحقة لله ـ تعالى ـ والانقياد التام له والتسليم لشرعه وعدم الخروج عن أمره والتأكيد على الدعاة بعدم إخفاء حقيقة دعوتهم في طروحاتهم سعياً في استصلاح جوانب الانحراف في المجتمع، وإقامةً للحجة على العباد وإبراءاً للذمة أمام الله ـ تعالى ـ.
الحذر من التفلت الشرعي الذي يقع فيه بعض الدعاة أثناء طروحاتهم عن المرأة، ومع إدراك أن الدافع لبعضهم قد يكون الحرص على الدعوة والسعي إلى تقريب الكثيرات إلى الإسلام؛ إلا أنه قد فاتهم تذكُّر أن الانضباط بالشرع شرط لصحة العمل وأن الغاية مهما كانت شريفة لا تسوِّغ الوسيلة، وأن الباري ـ عز وجل ـ لا يُتقرب إليه بمعصيته ومخالفة أمره بل بطاعته وامتثال شرعه.
- التوجه إلى التخطيط الجاد والمتكامل في دعوة المرأة وتربيتها، والمبني على إدراك عميق للماضي ومعايشة للحاضر واستشراف للمستقبل، وترك الارتجال والعفوية وسطحية التفكير والتنبه إلى أن ذلك وإن قُبِلَ في أزمنة ماضية فإنه غير مقبول بحال اليوم نظراً لضخامة الاستهداف للمرأة والعمق في التخطيط والدقة في التنفيذ لدى العلمانيين، والحذر من أن ينشغل العلماء والدعاة بردود الأفعال تجاه قضايا وأحداث جزئية يصنعها العلمانيون تتصف بالإثارة والهامشية على حساب قضايا جوهرية سواء في جهة البناء والتربية أم في جهة مواجهة القوم ودفع أخطارهم.(55/96)
- العمل على طرح مبادرات إصلاحية جذرية تتسم بالعمق والشمول والواقعية بدلاً من الحلول الترقيعية وتجزئة القضايا بشكل يمكن العلمانيين من التلاعب بالأمر والمزايدة فيه بالدعوة إلى إصلاحات جزئية هامشية لها بريق تستغل في تخدير فئات كثيرة من المجتمع وتحييدهم عن الوقوف في صف العلماء والدعاة والذين يسعون إلى القيام بإجراء إصلاحات جوهرية في القضايا والمجالات الأساسية.
- الاعتناء بالقيام بإجراء تقييم شامل لأنشطة الدعاة وبرامجهم المختلفة والموجهة إلى المرأة، ومراجعتها من حيث الكم والكيف، ويتأكد ذلك اليوم نظراً لتغير الاحتياجات وتبدل الأحوال وتطور الإمكانات، وما لم يتم ذلك وتهيأ له الفرص الكفيلة بالنجاح فإن الزمن سيتجاوز أنشطة الدعاة وبرامجهم، ويجعلهم كمن يوصل الرسائل بين البلدان عبر الأقدام والدواب في زمن الأقمار الصناعية و الإنترنت.
- توحيد الصفوف ولمّ الجهود وسعة الصدر لرأي أهل العلم الأثبات المخالف في مسائل الاجتهاد، والتطاوع فيما لا إثم فيه، والمحاورة بالتي هي أحسن، وحسن الظن بالآخرين، والتماس العذر لهم، ومغفرة زلاتهم، والتجاوز عن هفواتهم... من أهم المهمات التي على العلماء والدعاة العناية بها؛ لأن الاختلاف شر والفرقة عذاب، وتضرر الدعوة من كون بأسها بينها وعدوها من داخلها أعظم عليها جداً من تربص أعدائها بها وكيدهم لها.
-إدراك الدعاة لحقيقة الوضع وأنهم في صراع مع قوم ينتمون إلى جهات تريد اجتثاث قيم الإسلام وأخلاقياته وإحلال قيم وأخلاقيات حضارة أخرى تناقضها مكانها، وعليه فالواجب عليهم طول النفَس وبعد النظر ومحاسبة الذات وإدراك صعوبة الطريق وأن الهدم أسهل من البناء وتهيئة النفْس لتحمل الهزيمة والمواصلة بعدها لأن العاقبة للمتقين، ومعرفة أن الانتصار الحقيقي يكمن في الثبات على المبدأ، أما شيوع المبدأ فالداعية يسعى له ويجد في سبيل ذلك، ولكن ليس من شأنه تحققه، وله أسوة بالأنبياء ـ عليهم السلام ـ إذ قتل بعضهم وطرد آخرون، ويأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد، والنبي ومعه سواد كثير قد سد الأفق.
- أهمية أن تتجه برامج الدعاة إلى تربية كافة شرائح النساء في المجتمع والبناء الصحيح لشخصياتهن وبخاصة تلك التي لم تؤثر فيها طروحات العلمانيين بعدُ، أو أن تأثيرهم محدود فيها، وأن تشتمل تلك البرامج على جرعات تحصينية ضد أساليب العلمانيين في الطرح، وذلك لأن الوقاية خير من العلاج وما استدفع الشر بمثل الاستعاذة بالله منه، والتعرف عليه للحذر من التلبس به.
- الإقرار بوقوع صور متعددة من الظلم الواقع على المرأة في مجتمعاتنا بسبب الجهل بالشرع وعدم تطبيقه، وهو ما يجب إفهامه للمرأة التي يريد العلمانيون تشويه صورة الإسلام في ذهنها، والإسلام لا يتحمل نتاج البعد عنه.
- الاعتناء بتحلي صغار شباب الصحوة بصفات الحكمة والصبر والحلم والروية وعدم الاستعجال، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والتعامل مع الأحداث بعقل لا بعاطفة مجردة، ومشاورة أهل العلم والخبرة في سبل مدافعة العلمانيين حتى لا تُجَر الصحوة إلى مواقف غير محمودة العواقب، وبخاصة أنه لا توجد لدى (القوم) أي معايير أخلاقية تمنعهم من فعل أي شيء في سبيل تحقيق أغراضهم ومآربهم.
إقامة تعاون إيجابي في المجالات الدعوية والتربوية بين البيئات والمناطق المختلفة يتم بواسطته تبادل الأفكار والخبرات، والبدء في البرامج المختلفة من حيث انتهى الآخرون، وهذا ولا شك سيشجع على مزيد انطلاق، ويوسع دائرة الاختيار أمام الدعاة ويمنع من هدر الطاقات والإمكانات في إقامة برامج ثبت إخفاقها متى امتلك الدعاة الشجاعة الأدبية للتراجع عن أنشطتهم ذات العائد الدعوي والتربوي الأقل، وتجاوز المألوف مما لا بعد شرعياً له وتحمل الضغوط البيئية الناتجة عن ذلك.
سبل المدافعة:
السبل المقترحة لمدافعة العلمانيين في مجال المرأة كثيرة، ومن أبرزها:
أولاً: سبل تتعلق بالمرأة والمجتمع ومن أبرزها:
العناية بتأهيل المرأة وبناء شخصيتها بناءاً متكاملاً في كافة الجوانب التي تحتاجها و من أبرز ذلك:
أ- تعميق قضية الهوية والانتماء لهذا الدين لديها وتوضيح مقتضيات ذلك ولوازمه كوجوب المحبة الكاملة لله، والانقياد التام لشرعه فيما وافق هوى العبد وفيما خالفه، "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"(1).
ب - تجلية رسالة المرأة المسلمة في الحياة والدور المنوط بها في عصرنا في سبيل نهضة الأمة ورقيها واستعادتها لعزتها، والسبل المعينة لها على أداء ذلك.
ج - العناية بالجوانب الإيمانية والعبادية لدى المرأة، وتزويدها بالعلم الشرعي، وبخاصة فيما تحتاج إليه ولا يسعها جهله في مراحل حياتها المختلفة.
د - رفع مستوى ثقافة المرأة وتحبيبها بالقراءة وتدريبها على ممارسة التثقيف الذاتي والاستفادة من الوسائل التقنية المتاحة في ذلك.(55/97)
هـ - رفع مستوى وعي المرأة وإدراكها لواقعها والتغيرات الضخمة الحاصلة فيه، وما يحاك ضد الأمة عموماً والمرأة خصوصاً من مخططات تهدف إلى إبعادها عن دينها، وتهميش دورها في الحياة بشكل يجعلها تعيش في عزلة شعورية عن حاضرها.
و - الرقي باهتمامات المرأة وتعميقها وإبعادها عن السطحية، وتعويدها على الجدية وترتيب الأولويات وعدم الانشغال بالترهات والتوافه.
- تقرير الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة، نحو: كون الأصل قرارها في البيت، والتزام الحجاب، وعدم إبداء الزينة والتبرج تبرج الجاهلية الأولى، ودعوة المرأة إلى التزامها.
- رصد المشكلات التي تعاني المرأة منها في كافة الجوانب المختلفة، والسعي إلى تلافيها والتقليل من نتائجها السلبية.
- العناية بوقت المرأة وشغله بالمفيد واقتراح السبل الملائمة لتحقيق ذلك(2).
- تقوية البناء الأسري وبخاصة في المجال الدعوي؛ إذ إن للدعوة العائلية أهمية فائقة في تعليم المرأة دينها وتحصينها ضد طروحات العلمانيين ومكائدهم.
- تفعيل دور المرأة في مواجهة مخططات العلمنة الساعية لإفسادها، وتشجيعها على القيام بدعوة بنات جنسها؛ لأنها الأعرف بمجتمعاتهن والأكثر تأثيراً فيهن والأقدر على الاتصال بهن والبيان لهن فيما يخصهن، مع أهمية العناية بجانب التحفيز لها وإيجاد الدوافع لديها لمواصلة نشاطها الدعوي حتى لا تفتر أو تصاب باليأس والإحباط نتيجة طول المسير ومشقته(3).
- مطالبة النساء بالعناية ببيئاتهن الخاصة ـ أزواجاً وأولاداً ـ والقيام بالدور المنشود منهن في استصلاحها وإمدادهن بالوسائل والآليات والسبل المناسبة، وخاصة فيما تجهله المرأة مما يناسب في خطابها للرجال من محارمها؛ لأنهن الأكثر دراية بها، والأقدر على توجيهها والتأثير فيها متى استخدمن الحكمة. تفعيل دور الصالحات في المجتمع وإفساح المجال وفتح القنوات والميادين الملائمة أمامهن، ومحاولة إعداد بعض المتميزات ـ علماً وتفكيراً وسلوكاً ـ ثم إبرازهن بصفتهن قدوات لنساء المجتمع.
- توعية المجتمع بأهمية دور المرأة في نهضة الأمة ورقيها، ومطالبة أفراده بمؤازرتها والتواصي برفع صور الظلم المختلفة عنها والموجودة في بعض البيئات، وترك اللامبالاة والغفلة والتهميش للمرأة الذي يقع فيه بعض الأفراد، اقتداءاً بنبينا r في تعامله مع المرأة.
ثانياً: سبل تتعلق بمجابهة العلمانيين، ومن أهمها:
- إبانة أهداف العلمانيين والتي من أبرزها:
أ - التشكيك بالأصول وإزاحة ثوابت الأمة العقدية وأسسها الفكرية والسلوكية وإحلال حضارة الغرب وقيمه مكانها.
ب - إخراج المرأة عن العبودية لله ـ عز وجل ـ والاستمساك بشرعه، وجعلها مجرد متاع في مسارح الرذيلة وملاهي الخنا ووسائل الإعلان وأوراق الصحف والمجلات وشاشات التلفزة والقنوات الفضائية.
ج - الدعوة إلى التفلت الديني والفوضى الاجتماعية تحت مسمى الحرية والمساواة.
د - إيضاح أن حقيقة الحقوق المزعومة التي يطالبون بإعطائها للمرأة حق الإلحاد والزنا والعري والحمل السفاح والشذوذ الجنسي سالكين طريقة التلميع للوسائل والتزوير للحقائق والإظهار للباطل بمظهر أخاذ.
- تتبع العلمانيين وكشف تاريخهم ودراسة إنتاجهم الفكري ورصد أنشطتهم ووزنها بميزان الشرع وإبانة ما فيها مما يتناقض مع ثوابت الأمة والسعي إلى زعزعتها لكي يتم فضح القوم وكشف انعزالهم عن قيم الإسلام وحضارته، وارتباطهم خدمة وتربية وفكراً وسلوكاً بجهات خارجية معادية تسعى إلى استئصال هوية الأمة وإحلال قيمها مكانها، وذلك من شأنه أن يمكن العلماء والدعاة من نقل الطرف الآخر من مرحلة الهجوم إلى الدفاع.
- تتبع مداخلهم النفسية وأنشطتهم الجاذبة لكثير من النساء والعمل على الحد منها والتخفيف من آثارها وإيجاد بدائل إسلامية عنها.
- العمل على استمالة القريبين فيهم من الحق ودعوتهم والعمل على كسبهم إلى جانب الموقف الشرعي الصحيح.
- تحديد الشبهات التي يثيرونها حول النظام الإسلامي في مجال المرأة مما يتخذونه وسيلة لتشكيك المرأة في دينها وزعزة عقيدتها، والقيام بتفنيدها(4) والإثبات ـ عقلاً وواقعاً - أن النظام الإسلامي هو الطريق الأمثل لحماية المرأة من الظلم وصيانة المجتمع من الفساد، وإعطاء كل ذي حق حقه.
- بيان حقيقة واقع المرأة في الغرب وكشف ضخامة الأمراض والمشكلات التي تواجهها على كافة الأصعدة(5)، وفي ذلك أعظم تعرية للعلمانيين والذين يطالبون المرأة في مجتمعاتنا بمحاكاة المرأة الغربية والسير على منوالها إن هي أرادت سلوك طريق التقدم والمضي في دروب الحضارة ـ كما زعموا ـ.
ثالثاً: سبل تتعلق بالعلماء والدعاة، ومن أهمها:
-إدراك الواقع إدراكاً جيداً وتحليل جوانب القوة والضعف لدى الطرفين(6)، والاستفادة من ذلك في تحديد أهداف المرحلة والسبل المثلى للمدافعة. إبانة حقيقة النظام الإسلامي في معاملة المرأة، وتجلية محاسنه وإزالة الشبهات التي تثار حوله؛ لأنه لن يدحض الظلام إلا النور كما قال ـ تعالى ـ: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) [الإسراء: 18].(55/98)
- إيضاح الاختلاف الجذري بين النظام الإسلامي وواقع المجتمعات الغربية، والذي من أبرزه:
أ - أن الأسرة في النظام الإسلامي تعد اللبنة الأولى في تكوين المجتمع؛ بينما يعد الفرد في الغرب هو الركيزة الأساس.
ب - أن العلاقة بين الجنسين في النظام الإسلامي علاقة تكامل وتلاحم وحرص من كلا الطرفين على مصالح الآخر كحرصه على مصالحه، وطبيعة العلاقة في كثير من أرجاء الغرب اليوم قائمة على التنافس والتنافر بين الجنسين وحرص كل من الطرفين ـ وبخاصة المرأة التي تشعر بالاستضعاف ـ على فرض هيمنته على الآخر.
ج - أن النظام الإسلامي يعطي المرأة حقوقها الشرعية كاملة وفي المقابل يطالبها بالقيام بالواجبات الشرعية التي يفرضها عليها والتي لا تقوم الحياة السوية إلا بها، وفي الغرب نجد أن كثيراً منهم ـ يتبعهم العلمانيون في بلداننا ـ يوهمون المرأة بسعيهم لإعطائها حقوقاً هي في واقع الأمر بوابتهم الرئيسة لاستعبادها واستخدامها استخداماً جسدياً قذراً بعيداً عن مراعاة متطلبات روح المرأة وعقلها وقيم المجتمع وأخلاقياته.
- إقامة لجان ومراكز أبحاث مهمتها العناية بالجوانب الإعلامية وإبراز جهود العلماء والدعاة ـ أفراداً ومؤسسات ـ في قطاع المرأة عموماً والأسرة خصوصاً في الجوانب المختلفة: العلمية، الاجتماعية والصحية، وإعداد المعلومات والإحصائيات عنها، ونشر ذلك بشكل دوري عبر وسائل الإعلام لإظهار ضخامة الجهد المبذول وضآلة ما يقوم به العلمانيون مقارنة بها.
- العناية بالنساء في البيئات الخاصة بالدعاة تعليماً وتربية؛ نظراً لإمكانية التأثير القوي والاتصال المباشر لكي يتم تلافي الإهمال غير المتعمد لها الناتج عن الانشغال بالبيئة الخارجية وإبراز قدوات نسائية للمرأة ذات عمق في التفكير وجدية في الاهتمامات وقوة في الأخذ بالإسلام.
- تفعيل دور العلماء والواجهات الاجتماعية الخيرة ـ ذكوراً وإناثاً ـ وكافة أفراد المجتمع ومطالبتهم بالقيام بالدور المنشود منهم في مواجهة طروحات العلمانيين ودفع خطرهم، استفادةً منهم من جهة وتوسيعاً لدائرة المعركة من جهة أخرى بدلاً من جعلها كما يريد العلمانيون بينهم وبين الدعاة فقط.
- زيادة المناشط الدعوية والاجتماعية وتحسينها والاعتناء بتناول الموضوعات المختلفة التي تحتاجها المرأة مع الحرص على التجديد في الأساليب والإبداع في الوسائل لضمان تفاعل المرأة معها بشكل أكبر.
- توثيق الصلة بالمثقفين ورجال الأعمال ومد الجسور معهم لترشيد أعمالهم من جهة والحيلولة دون أن تكون عوناً للعلمانيين على إفساد المرأة من جهة أخرى، وللتنسيق معهم في اقتحام مجالات جديدة تحتاجها المرأة كصناعة الترويح والملابس ونحوها وفق الضوابط الشرعية.
- توسيع دائرة الانفتاح الدعوي على كافة مجتمعات النساء: ملتزمات وغير ملتزمات، مثقفات وعاميات، متزوجات وغير متزوجات، أمهات وأخوات وبنات، وعدم قصر النشاط على فئة دون أخرى.
- اقتحام ميادين وقنوات دعوية جديدة في مجال المرأة، ومن أهم ذلك:
أ - قيام العلماء والدعاة بإنشاء جمعيات تنادي بالحقوق الشرعية للمرأة لقطع الطريق على العلمانيين الذين يَلِجُون من هذا الباب لتحقيق مآربهم.
ب -إقامة مراكز أبحاث نسوية خاصة بشؤون المرأة.
ج - إنشاء مؤسسات إنتاج ودور نشر متخصصة بقضايا المرأة ودعوتها.
العمل على تغيير هيكلة تعليم المرأة ليناسب وضعية المرأة ورسالتها في الحياة، والسعي لتطوير المناهج وفتح التخصصات التي تساعدها على القيام بدورها الأساس المنوط بها زوجةً وأماً ومربية.
وختاماً: فلا بد من إدراك أن الخطب جسيم، ويحتاج إلى استعانة صادقة بالله ـ تعالى ـ وعمل جاد، وتضافر قوي لكافة جهود المخلصين؛ وإلا فإن العاقبة ستكون وخيمة والمصير غير محمود، وعندها سيهيئ الله لدينه جيلاً ينصره ويقوم بأمره، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) تاريخ بغداد للخطيب: 4/963، شرح السنة للبغوي: 1/312، وصححه النووي في الأربعين واستبعد ذلك جداً ابن رجب في جامع العلوم والحكم: 2/493، وقال الحافظ في الفتح: 31/203: (أخرجه الحسن بن سفيان وغيره، ورجاله ثقات).
(2) من الأمور الهامة التي ينبغي تحريض المرأة على ممارستها: العبادة والذكر، مدارسة القرآن والأحاديث النبوية، القراءة المبرمجة، الاستماع إلى الأشرطة النافعة، إدارة المشاريع النسوية التعليمية والاجتماعية ودعمها، التعرف على الأرامل والأسر المحتاجة ومساعدتها، تعلم الأعمال المهنية والأنشطتة الملائمة من خياطة وحاسوب وأشغال فنية ومسائل الأمومة والاهتمام بالطفل ونحو ذلك.
(3) من أهم الحوافز التي ينبغي العناية بها: بيان ما أعد الله للداعين للهدى، وإيجاد الشعور بالتحدي ببيان ضخامة الاستهداف العلماني الموجه للمرأة، وذكر نماذج متميزة لبعض داعيات الحق وأخرى لداعيات الضلال.
(4) من أبرز الجوانب التي يكثر القوم من الطعن فيها: أحكام التعدد والميراث والحجاب والخلوة والاختلاط، ومسائل القوامة والولاية والطلاق.(55/99)
(5) من الأمور التي لا بد للدعاة من الحديث عنها في هذا المجال: نسب العفة والزواج والطلاق والأولاد غير الشرعيين والخيانة الزوجية في الغرب، ومشكلات العنوسة والخروج عن الفطرة والتحرش بالمرأة والأمراض الجنسية والنفسية والتفكك الأسري وواقع الأبناء بعد خروج المرأة للعمل والمعاناة التي تلقاها الفتاة حتى تتزوج هناك، ومسائل النفقة والمعاملة التي تلقاها المرأة الغربية في أطوار حياتها المختلفة: أماً وأختاً وابنةً وزوجةً ومسنةً، متزوجة ومطلقة وأرملة.
(6) من أبرز جوانب قوة العلماء والدعاة: جلاء الحق الذي يدعون إليه، وعمق انتمائهم إليه، والعاطفة في المجتمع نحو الدين، وكراهية أفراده لأعدائه والعاملين لحساب جهات خارجية تريد تقويضه، والعودة الصادقة لكثيرات من نساء المجتمع نحو الالتزام بالإسلام عقيدة وسلوكاً.
==============(55/100)
(55/101)
يَخافُون مِن دُميَة !
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
في خَبَر إعلامي :
(أطْلَقَتِ السُّلُطَات التونسية حَمْلَة مُدَاهَمَات لِمَحِلاَّت تَبِيع الدُّمية "فُلَّة" بِدَعْوى أنها يُمْكِن أن تُشَجِّع الفتيات الصَّغيرات على ارْتِدَاء الحجاب)
يا لَهُم مِن جُبناء !
يَخافُون مِن دُميَة !
إيهٍ .. بلَد العِلْم والعُلَماء ..
كانت تونس يُقال لها : أفريقية !
كانت قلعة مِن قِلاع العِلْم
كانت منارة مِن مَنارات الإسلام
واليوم .. ويح اليوم .. تُحارِب قِطعة قماش تُوضَع على الرَّأس - شأنها شأن دُول الكُفر - !
واليوم - ويح اليوم - .. تُحارِب دُميَة زَعَمُوا أنها مُحَجَّبَة !
كل يوم تتعرّى العلمانية وتتكشّف ودعاوى الديموقراطية .. وتَبْدُو سَوْءَات القَوم !
فَرنسا تَعْتَبِر نَفْسَها بَلَدا علمانيا .. بَلَد حُرِّيَّة .. وهي تُحَارِب قِطعة قِماش تُوضَع على الرأس !
وبعيني .. رأيت اليهود في شوارع فرنسا يرتدون قُبَّعاتِهم السود - التي كَـ " لَوْن قُلُوبِهم ! " - ولهم تَواجُدهم .. ولا أحَد يَجْرُؤ على الْمِسَاس بهم !
بل حدثني مسلم يُقيم هناك أن مُدير إحدى المدارس مَنع تِلك الْمَنَادِيل التي تُوضَع على رؤوس البُنيَّات !
قال : فَذهَبْتُ إلى الْمَدْرَسَة فَوجدت الْمُدِير يَهوديا !
فسألته عن سبب منعه ذلك ؟
فقال : هذا لباس إسلامي ، ونحن في بلد علماني !
قلت : وهل منعتم قُبَّعات اليهود ؟
قال : لا
قلت : ولِمَ ؟
قال : هذه ليست شِعارًا دِينيا !
أقول :
كَذَب عدو الله !
بل هي شعارات حَاخَامَاتهم !
وهي شعار لهم يُميِّزهم عن غيرهم !
إلا أنه الْمِكيال بِمكيالين ! ولوَزن بِميزانين !
عجبا !
حرام على بَلابِله الدَّوح *** حَلال للطَّيْر مِن كُلّ جنسِ !!
يوما بعد يوم .. وعاما بعد آخر .. تَسقط .. وتَتهاوى .. دَعاوى الحرية .. وشعارات الديموقراطية ..
فلا حُرِّيَّة ولا ديموقراطية إذا كان ذلك سيَكون سَبَبًا في انتشار الإسلام !
ولكن : مُوتُوا بِغَيْظِكم ..
والله ليُظْهِرنّ الله هذا الدِّين ..
وفيما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ليبلغن هذا الأمر ما بَلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر الاَّ أدخله الله هذا الدِّين ، بِعِزّ عَزِيز ، أو بِذُلّ ذَليل ، عِزًّا يُعِزّ الله به الإسلام ، وذُلاًّ يُذِلّ الله بِه الكُفْر . رواه الإمام أحمد .
مُوتُوا بِغَيظِكم ..
إنَّ هذا الدِّين لا يَمُوت ، ولا يَُردُّه كَيْد كَائد ، ولا يُضْعِفه مَكْر مَاكِر .. بل لا يَزيدُه ذلك إلاَّ قُوّة وصلابة ..
ولا يَحِيق الْمكْر السَّيئ إلاَّ بِأهْلِه !
وبين أيديكم دَرس الشيشان مَاثِل .. مِن مَدْرَسة العُنْفُوان !
ظَنَّ أهل الصليب .. وعُبَّاد الْمَال .. أنهم قَضَوا على الإسلام في الجمهوريات .. حينما هَجّروا أهلها إلى سيبيريا - حيث الجليد - حيث هَجَّرُوا البقيَّة البَاقِيَة والتي نَجَتْ مِن القَتْل ..
وحسِبُوا أنَّ مِنْجَلهم قد اسْتَأصَل شَأفَة الإسلام .. واقْتَلَعَه مِن جُذوره !
وأنَّ مِطْرَقَتهم قد كَسَرَت سَاعِد الإسْلام !
وحينما شَاخَتْ الشيوعية عِند السِّتِّين ، وأثْبَتَتِ فَشَلَها للعَالَمِين !
انتَفَضتِ الْجُمْهُورِيَّات الإسْلامية .. وخَرَج مَن خَرَج مِن تِلك الأقْبِيَة انْدَهَشَتْ رُوسيا وشُدِهَتْ أنّ الإسلام لم يَشِخ ! وأنه لا زال فَتِيًّا رَغْم الْجِراح !
حينما خَرَج من الأقبِيَة حُفَّاظ القُرآن !
أدْرَكَ كُهَّان الشَّرْق والغَرْب أنَّ الإسلام لا يَمُوت !
وهذا ما نَطَق به ( لويس التاسع ) في حروبه الصليبية على بلاد الإسلام !
لويس التاسع - أو لويس القديس - الذي غَزا مِصر في حملة صليبية سَابِعة سَافِرَة ! وَقَع فيها بالأسْر ! ثم فَادَى نَفْسَه مُقَابِل فِدْيَة ضَخْمَة !
بل عَرفوا أن الطَّرْق لا يَزِيد الإسْلام إلاَّ صَلابَة ..
ولا تَزِيدُه الْمِحَن إلاَّ شِدَّة واشتِدَادا في عُودِه ..
وأنَّ دِمَاء الشُّهَداء كالضِّيَاء ..
فَهَبُوا أنكم مَنَعْتُم الحِجاب في فَرنسا أو في تُونس !
أجْلِبُوا على الإسلام بِخَيْلِكم ورَجِلِكم ! فإننا نَرى الصُّبْح يَلُوح مِن تَحت حَوافِر خُيولِكم !
قَلِّبوا الأمور حتى تَدُور .. فالدوائر على الباغي تَدور !
أثِيروا الغُبار ..
ومزِّقوا الحجاب ..
فلا تَكُون الْجِنَايَة إلاَّ عليكم !
أشعِلوا نِيران الْحَرب .. فالله لكم بالمرصاد ..
أفْسِدُوا في الأرض ، فـ (إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) ..
انْفُخُوا نِيران الفِتَن .. فلَكم سَلَف في " الَوَزَغ " الذي كان يَنْفُخ النار على إبراهيم عليه السلام ! كما في الصحيحين .
أشْعِلُوها وزِيدُوها ضِرَاما .. فلن تَبلغ عُشْر نَار قَوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ..
" حتى إنْ كَانت المرأة تَمْرَض فَتَنْذُر إن عُوفِيتْ أن تَحْمِل حَطَبًا لِحَرِيق إبراهيم " !
ومع شِدَّة تلك النار .. جَعَلها الله بَرْدًا وسَلامًا .. ورَدّ كَيْد الكَائدِين في نُحُورِهم(55/102)
وحَكَم اللهُ وقَضَى وهو الْحَقّ الْمُبين .. أنْ جَعَل الكَائدين هُم الأخْسَرين .. وهم الأسْفَلِين ..
(وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ) .
(فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ) .
كِيدُوا ما شئتم مِن كَيْد .. وامْكُرُوا مَا بَدَا لكم مِن مَكْر ..
امْكُروا الْمَكْر الكُبَّار !
وانْتَظِروا يَوم يُقَال : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) .
قَتِّلُوا .. وشَرِّدُوا ..
والْقُوا بالتُّهَم جُزَافًا !
وإن شِئتُم فَقُولُوا كَمَا قَال أسْلافُكم : ما أُرِيكم إلاَّ مَا أرَى ! ومَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ !
موتُوا بِغيْظِكم فالله مُتِمّ نورِه ولو كرِه الكافرون ..
مهْما بَلَغ مُكْرُكم .. ومهما كان دَهاؤكم ..
ومهما بَلَغ الْجَبَرُوت والقُوَّة ..
فلن تبْلُغوا طُغيان شيخ الطُّغاة وإمام الضَّلالَة - فِرعون - الذي قَتَّل الأطفال .. بل أبَاد الذُّكُور خَوفًا مِن رَضِيع يَكون زَوَال مُلْكِه على يَدِه !
فأبَى الله إلاَّ أن يَكُون فِرْعَون هو الرَّاعِي لذلك الصَّغِير .. بل تُرْضِعُه أمُّه على حِسَاب فرعون !
وكمَا قِيل : مِن مأمَنِه يُؤتَى الْحَذِر !
ما أشْبَه الليلة بالبارِحة !
فِرْعَون يَخاف مِن طفل رَضِيع !
وفِرْعَون يَخَاف مِن دُمْيَة !
الله أكْبَر .. إنَّها السُّنَن ..
وما أشْبَه الليلة بِالبَارِحة !
ألْقَاب مَمْلَكَة في غَير مَوْضِعِها = كَالْهِرِّ يَحْكِي انْتِفَاخًا صَوْلَة الأسَدِ
الرياض 19/10/1427 هـ .
==============(55/103)
(55/104)
أغيثونا.....نحن الغارقات
ماجد بن محمد الجهني
الظهران
نداء استغاثة..المرأة الغربية : أغيثونا
المرأة الغربية توجه نداء استغاثة للعالم الحر،إنها تنادي الأحرار الحقيقيين،تنادي أهل القيم والحضارة والأخلاق،إنها تنادي المسلمين الذي يملكون مشروعاً حضارياً ضخماً وهائلاً البشرية البائسة في أشد الحاجة إليه بعد أن ركبها طوفان الحظيرة البهيمية الغربية التي حولت كثيراً من البشر في العالم الغربي إلى حيوانات متوحشة وكاسرة تلهث خلف سعار المادة بجميع صورها الماجنة.
إنها لغة الأرقام والحسابات ،إنها لغةٌ تفضح الدعاوى الزائفة حول الديموقراطية التي سن مجلس الشيوخ الأمريكي قانوناً يسمح بإلزام الدول بتطبيق الديموقراطية حسب وجهة النظر الأمريكية خصوصاً ما يتعلق بشأن المرأة وحريتها وحقوقها الزائفة.
لقد بلغ السيل الزبى لدي القوم،وجاوز الحزام الطبيين،وأنشد أشقاهم وكأني بلسان حاله يقول :
هذا أوان الشد فاشتدي زيم**
لقد أدرك أشقاهم أن الحضارة الغربية في الحضيض وهي في طريقها إلى الانهيار المروع أمام حضارة الإسلام العظيمة فرأى أن لا حل أمام هذه الكارثة إلا بتصدير (فوبيا) الانحراف الغربي البئيس إلى عالم المسلمين المستضعفين عبر الضغط عن طريق محاور الدفع الأمامي والصفوف الأمامية لببغاوات القرن العشرين في العالم العربي والإسلامي الذين لم يشهد التاريخ لهم مثيلاً في باب الترديد الأعمى والأصم والأبكم.
المرأة الغربية تنتحر،والمرأة الغربية تسير بسرعة خيالية إلى الهاوية بعد أن سُحقت كرامتها وامتهنت إنسانيتها وأصبحت في وضع غير طبيعي فلا هي إنسان ولا هي بالحيوان .
لقد حولوها إلى مخلوق ممسوخ وهي بالعربي الفصيح لاشيء إلا إذا أنقذها الله بنور الإسلام والدليل على ذلك هذه الكلمات حيث بدأ أمر الحرية يُكتشف عند النساء الغربيات اللاتي فهم بعضهن اللعبة حيث تقول الكتابة الفرنسية "فرانسواز ساجان"، وعند سؤالها عن سبب سخريتها في كتابتها من حركة تحرير المرأة أجابت فرانسواز: "من خلال نظرتي لتجارب الغالبية العظمى من النساء أقول: إن حركة تحرير المرأة أكذوبة كبيرة اخترعها الرجل ليضحك على المرأة".
كلمات تقطع القلوب
- تقول "روز كندريك": "كنت قبل إسلامي لاشيء، والأجدر أن يكون اسمي قبل الإسلام لا شيء"، وتقول أيضا: "المرأة في الغرب جرت وراء مفهوم التحرر فأتعبها هذا كثيرا، إنها تعمل كثيرا وتخسر كثيرا".
- وكتبت الكاتبة الشهيرة مسز "آرنون" في جريدة "الأسترن ميل": "لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كخوادم خيرٌ وأخفّ بلاءً من اشتغالهن في المصانع والمحلات والمعامل. ألا ليت بلادنا كبلادالمسلمين؛ فيها الحشمة والعفاف والطهارة، فالخادمة والرقيق يتنعمان عند المسلمين بأرغد عيش، ويعاملان كما يُعامل أولاد البيت، ولا تمس الأعراض بسوء".
- وقالت الكاتبة الشهيرة "اللادي كوك": "إن الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها، وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا وهنا البلاء العظيم على المرأة... أما آن لنا أن نبحث عمّا يخفّف ـ إذا لم نقل: عمّا يزيل ـ هذه المصائب العائدة بالعار على المدنية الغربية؟!"، وتصرخ الكاتبة فتقول: "يا أيها الوالدان، لا يغرنكما بعض دريهمات تكسبها بناتكما باشتغالهن في المعامل ونحوها ومصيرهن إلى ما ذكرنا. علموهن الابتعاد عن الرجال، أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد. لقد دلَّنا الإحصاء على أن البلاء الناتج من حمل أولاد الزنا يعظم ويتفاقم حيث يكثر اختلاط النساء بالرجال، ألم تروا أن أكثر أمهات أولاد الزنا من المشتغلات في المعامل والخادمات في البيوت وكثير من السيدات المعرضات للأنظار؟! ولولا الأطباء الذين يعطون الأدوية للإسقاط لرأينا أضعاف ما نرى الآن، لقد أدَّت بنا هذه الحال إلى حدٍ من الدناءة لم يكن تصوُّرها في الإمكان، حتى أصبح رجال من مقاطعات من بلادنا لا يقبلن البنت زوجة ما لم تكن مجربة، أي: عندها أولاد من الزنا ينتفع بهم، وهذا هو غاية الهبوط بالمدنية".
- وتقول إحدى أساتذة الجامعات في بريطانيا وهي تودع طالباتها بعد أن قدمت استقالتها: "ها أنا قد بلغت سنّ الستين من عمري، ووصلت فيها إلى أعلى المراكز، نجحت وتقدّمت في كل سنة من سنوات عمري، وحقّقت عملاً كبيرًا في نظر المجتمع، لقد حصلت على شهرة كبيرة وعلى مال كثير، ولكن هل أنا سعيدة بعد أن حققت كل هذه الانتصارات؟!" تجيب هي على نفسها فتقول: "لا، إن وظيفة المرأة الوحيدة هي أن تتزوج وتكوّن أسرة، وأي مجهود تبذله بعد ذلك لا قيمة له في حياتها بالذات".(55/105)
- وسئلت الممثلة المشهورة "بريجيت باردو": لقد كنت في يوم من الأيام رمزًا للتحرير والفساد. فأجابت قائلة: "هذا صحيح كنت كذلك، كنت غارقة في الفساد الذي أصبحت وقتًا ما رمزا له، لكن المفارقة أن الناس أحبوني عارية، ورجموني عندما تبت، عندما أشاهد الآن أحد أفلامي السابقة فإنني أبصق على نفسي، وأقفل الجهاز فورًا. كم كنت سافلة"، ثم تواصل قائلة: "قمة السعادة للإنسان الزواج"، ثم تقول: "إذا رأيت امرأة مع رجل ومعها أولاد أتساءل في سري: لماذا أنا محرومة من مثل هذه النعمة".
أرقام مذهلة!!!
- أصدر مكتب التحقيقات الفدرالي في أمريكا تقارير مذهلة عن تفشي الجريمة بين النساء في المجتمعات الغربية المتحررة، وقد تحدثت صحيفة "النيويورك تايمز" عن هذا الموضوع في أبريل 1975م معتمدة على تقارير مكتب التحقيق الفدرالي، ويشير التقرير إلى أن معدل الجريمة بين السيدات أو الجريمة النسائية ارتفع ارتفاعًا مذهلاً مع نمو حركات التحرر النسائية. وقال التقرير: "إن الاعتقالات بين النساء زادت بنسبة 95% منذ عام 1969م، بينما زادت الجرائم الخطيرة بينهنَّ بنسبة 52%". ويقول: "إن أخطر عشرة مجرمين مطلوب القبض عليهم كلهم من السيدات، ومن بينهنّ شخصيات ثورية اشتركن في حركة التحرر النسائية مثل "جين ألبرت" و"برنادين دون"".
وتقول الصحيفة في بيان ارتباط ارتفاع نسبة الجريمة بين النساء بحركات التحرر النسائية: "إن منح المرأة حقوقًا متساوية مع الرجل يشجعها على ارتكاب نفس الجرائم التي يرتكبها الرجل، بل إن المرأة التي تتحرر تصبح أكثر ميلاً لارتكاب الجريمة".
- في عام 1980م حصل مليون وخمسمائة وثلاث وخمسون ألف حالة إجهاض، 30 % منها لدى نساء لم يتجاوزن العشرين عامًا، وقالت الشرطة: إن الرقم الحقيقي ثلاثة أضعاف ذلك.
- وفي عام 1995م 82 ألف جريمة اغتصاب، 80% منها في محيط الأسرة والأصدقاء، بينما تقول الشرطة: إن الرقم الحقيقي 35 ضعفًا.
- وفي عام 1997م بحسب قول جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة: اغتصبت امرأة كل 3 ثوان، بينما ردت الجهات الرسمية بأن هذا الرقم مبالغ فيه في حين أن الرقم الحقيقي هو حالة اغتصاب كل 6 ثوان!
- نشرت مجلة التايم في عام 1997م أن 6 ملايين امرأة في أمريكا عانين سوء المعاملة الجسدية والنفسية بسبب الرجال، 70% من الزوجات يعانين الضرب المبرح، و4 آلاف يقتلن كل عام ضربًا على أيدي أزواجهن أو من يعيشون معهن، وأن رجال الشرطة يقضون 33% من وقتهم للرد على مكالمات حوادث العنف المنزلي.
- في يوليو 1970م أصدرت الحكومة الأمريكية قانونا يبيح الإجهاض لولاية نيويورك. وقد بلغ عدد عمليات الإجهاض التي أجرتها المستشفيات والعيادات الخارجية خلال 20 شهرًا من صدور القانون 278122 عملية، مع العلم بأن هذه الجهات لا تجري العمليات إلا إذا كان الحمل دون ثلاثة أشهر.
- أربعة ملايين أمريكية تقع تحت اعتداء خطير من قبل شريك قريب لها خلال سنة. وقرابة 1 من 3 نساء بالغات يواجهن تجربة الاعتداء عليهن جسمانيًا على الأقل مرة واحدة من قبل شريك في فترة النضج. وفي عام 1993م تم توقيف 575 ألف أي: ما يزيد عن نصف مليون رجل لارتكابهم العنف ضد النساء.
وماذا بعد؟؟؟؟
ماذا بعد يا أدعياء حرية المرأة؟؟ وماذا بعد يا أيها اللاهثون خلف بريق السراب الذي يريد قادة الإباحية والانحطاط الأخلاقي أن يقودونا إليه؟.
أما وقد رأيتم الثمن وعاينتم النتيجة واستمعتم إلى نساء العالم الغربي البائس وهن يستصرخن ويلكم أغيثونا فماذا أنتم قائلون؟؟.
أما والله لو عقلتم عظم جنايتكم في حق أنفسكم وأمتكم لما توقفت أنهار عيونكم عن دفق مائها،ولكنكم ويا للأسف الشديد وقعتم بين فريقين:فريقٌ ساذجٌ مُغررٌ به لا يلوي على شيء غير الترديد،وفريقٌ عميلٌ قد اتخذ الشيطان وزيراً والهوى أميراً والرذيلة حارساً وخفيراً ولذا شقيتم وأشقيتم وأولكم أقرب من الثاني وثانيكم يتحمل جريرة الأول ومن جاء بعده وفي كل الأحوال لا نقول إلا حسبنا الله عليكم وعلى كل من أزكم وغدا وهو ليس بالبعيد سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
==============(55/106)
(55/107)
الصّفقة الخاسرة
أ. د. عماد الدين خليل
تعود "قضية" المرأة في العقدين الأخيرين لكي تحتل موقعاً متقدماًً في ساحة الصراع الفكري، وتكون واحدة من أكثر المواضيع سخونة في العالم.
قبلها كان الغربيون هم الذين "يغزوننا" بأفكارهم ومعطياتهم وتقاليدهم بخصوص المرأة والأسرة، وكل المفردات المرتبطة بهذين القطبين الأساسيين في الحياة الاجتماعية .. كنا نستورد، وكانوا يصدرون .. وكانت تجارة رائدة أن يظهر في ديارنا مقاولون أو متعهدون كبار يمارسون مهمة الاستيراد هذا بحساب الجملة.. وكانت الصفقات تتم دون معاينة جادة للبضاعة، فكانت تحمل وهي تتدفق على موانئنا الكثير من المزيف والمغشوش الذي سرعان ما انتشر في أسواقنا، وملأها بالبضائع المدسوسة التي ضاعت في غبشها المرأة المسلمة، وتعرّضت الأسرة للاهتزاز والدمار بكل ما تنطوي عليه هذه المؤسسة من قيم تربوية تصنع مجد الأمم والشعوب، أو تقودها إلى البوار.
كانت المرأة والأسرة هناك في ديار الغرب تعانيان من ألف مشكلة ومشكلة فنُقلت إلينا كما لو كانت هي الحل، فكانت خسارتنا مضاعفة على كل المستويات وبكل المقاييس. استبدلنا الأعلى بالأدنى، بمعيار معكوس كان يصور للمتعاملين على أنه هو المقياس المطلوب والضروري في القرن العشرين.
وكانت تغذي المحاولة المعكوسة هذه، وتحرسها، وتمضي بها إلى نهاية الشوط شبكة من السماسرة في عالم الفكر والإعلام والاجتماع، قد يختصمون على كل شيء إلا في هذه.. وكانت الأصوات " المعارضة" التي ترتفع لكي تدين السمسرة الماكرة، تُكبت أو تُعزل، وأحياناً يغيب أصحابها بهذه الحجة أو تلك.
صوت الطهر والنظافة والاستقرار والأمن والتوحد كاد يضيع قبالة أصوات المهرجين الذين أريد لهم أن يدخلوا المضمار، وأن يحظوا بالفوز بأي ثمن.
كانوا يصدرون مشاكلهم عبر موانئ الفكر المفتوحة على مصراعيها، ومن خلال شبكة المستوردين والسماسرة، مخيّلين للمسلمين أن المرأة المسلمة هي التي تعاني من المشاكل والأزمات، وأن الأسرة المسلمة بحاجة إلى تعديل الوقفة الجانحة من أجل كرامة المرأة وحقها الإنساني المشروع في الحياة الحرة الشريفة!! وبهدف تجاوز الهضم والإجحاف والتحقير التي عانت منها عبر القرون.
الاستقرار النفسي، والأمن الأسري، والطهارة الخلقية، والطفولة الآمنة المتوحدة.. أصبحت مآخذ على الحياة الإسلامية، سعى السماسرة إلى استيراد الحلول المناسبة لتداركها .. والحلول كانت سموماً مركزة أطاحت بالاستقرار والأمن والطهارة، ودست في شرايين الحياة الإسلامية: الفساد والعهر والشذوذ والتفكك والخوف والدمار.
ومنذ بدايات القرن الماضي حدثنا المتحدثون والكتاب عن حدث يحمل دلالاته العميقة في هذا المجال. لقد كانت (اسطنبول) عاصمة الخلافة الإسلامية واحدة من أنظف مدن
العالم في مجالات العلاقة بين الرجل والمرأة، فلما دخلها الغربيون تحت مظلة الإصلاح والتحديث .. لمّا غزتها قوانين (بونابرت) الوضعيّة وأبعدت مفردات الشريعة الإسلامية شيئاً فشيئاً.. لما أخذ الطلبة الأتراك يذهبون إلى عواصم الغرب ويرجعون بالشهادات
أو بدونها .. بدأ الطفح الأحمر يظهر على جلد (اسطنبول) .. والزهري والسيلان وكل السموم الجنسية المدمرة تتسرب في شرايينها. ويذكر (شمتز دوملان) في كتابه (الإسلام) أنه " عندما (غادر الدكتور مافرو كور داتو) الأستانة سنة 1927 م إلى برلين لدراسة الطب لم يكن في العاصمة العثمانية كلها بيت واحد للدعارة. كما لم يُعرف فيها داء الزهري وهو السفلس المعروف في الشرق بالمرض الافرنكي، فلما عاد الدكتور بعد أربع سنين تبدّلت الحال غير الحال. وفي ذلك يقول الصدر الأعظم (رشيد باشا) في حسرة موجعة: إننا نرسل أبناءنا إلى أوروبا ليتعلموا المدنية الافرنكية فيعودون إلينا بمرض الداء الافرنكي".
كانت الخطوة الأولى .. الخطوة الضرورية.. وأعقبتها بقية الخطوات .. صار العملاق العثماني الذي دق أبواب فينا، رجلاً مريضاً، وراحت السكاكين تعمل في جسده الممزق، حتى انتهى الأمر إلى قتله تماماً على يد واحد من المحسوبين على جغرافية الإسلام.. وجاء من بعده عشرات القادة لكي يواصلوا المهمة. ومن قبلهم ومعهم، وربما بعدهم، استمرت شبكة السماسرة في دوائر الفكر والثقافة والإعلام والاجتماع تمارس مهمتها المعكوسة، فترفع شعار تحرير المرأة لكي تصل بها في نهاية الأمر إلى التعهير!
عدد ليس بالقليل من النساء الغربيات أنفسهن، كما سنرى، كن يجدن في الحياة الإسلامية.. في جمال المرأة والأسرة والطفولة المثل الأعلى والصيغة المرتجاة للأمن والاستقرار والعطاء والسعادة.. وكن يتُقْن إلى التمتع بعشر معشار ما تتمتع به المرأة(55/108)
المسلمة. وأغلب الظن أن عدداً من القراء والمتابعين لا يزالون يذكرون، من بين وقائع كثيرة، ذلك المؤتمر النسائي الحاشد الذي نظمته وزيرات المرأة والأسرة في الحكومات الألمانية الإقليمية عام 1991 م والذي كان بمثابة تظاهرة نسائية رسمية ضخمة استهدفت تأكيد دور المرأة في المجتمع الألماني، وقد طالبت النساء في المؤتمر بالحقوق التي تتمتع بها المرأة المسلمة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، وخاصة بالنسبة لاحتفاظ المرأة الألمانية باسم والدها بدلاً من إجبارها على حمل اسم زوجها. وحيّت النساء المحتشدات قرار المحكمة الدستورية في ألمانيا (الاتحادية) الذي أقرت فيه بعدم حتمية قيام المرأة بحمل اسم زوجها، وأنه لها الحق في الاحتفاظ باسم والدها إن أرادت ذلك.
قبل ذلك بحوالي العقدين من الزمن كانت الساحة الإيطالية قد شهدت هجوماً مضاداً آخر في مواجهة الميل بالمرأة والأسرة عما أراده لها الله سبحانه .. تلك الضغوط المتواصلة في البرلمان الإيطالي .. على بعد خطوات من الفاتيكان زعيمة الكاثوليكية في العالم .. والتي تزعمها أشد البرلمانيين ليبرالية، من أجل إقرار حق الطلاق للرجل الإيطالي، بعد حجبه القرون الطوال.
بل إن بعض النسوة الغربيات انتمين إلى الإسلام من أجل أن يذُقْن التجربة ويبعدن عن مواطن التفكك والرذيلة والعفن والقلق والسعار الذي يحكم حياة المرأة الغربية، حتى لم تعد الكثيرات منهن يأمن على أزواجهن من المعاشرة اللاشرعية، ولم يعد الأزواج أنفسهم يأمنون على الذراري والأبناء، ويضمنون انحدارهم من الأصلاب!
هذا كله يتسرب بدعاوى السماسرة الذين أطلقوا على أنفسهم دعاة تحرير المرأة.. يتسرب إلى حياتنا فيستبدل الذهب بالتراب، ويكون هذا الذي كان ..
وليس ثمة أمة كهذه الأمة المسماة تجوّزاً " بالإسلامية " تجهل كل فن مجدٍ في صيرورة الحياة وتناميها، ولكنها تحذق فن هدر الطاقة، والتفريط بعناصر التميّز والتفوّق، واستبدال الغالي بالرخيص.
في سياقات عديدة تمّت الصفقات الخاسرة في التاريخ الحديث والمعاصر لهذه الأمة .. في مجال الاقتصاد والسياسة والحرب والعلم و الأخلاق.. وهاهنا في سياق المرأة والأسرة، كان القانون نفسه يعمل عمله بوساطة جيش من السماسرة وأدعية التقدّميّة والتحرر، لكي يفرط بواحدة من أكثر الحلقات في الحياة الإسلامية تميّزاً وتفوقاً، ويحلّ محلها: التفكك والعفن والرذيلة والخراب والشذوذ والزهري والسيلان.. وأخيراً الإيدز الذي بدأ يدق الأبواب.
هذا كله كان، ولا يزال قائماً حتى اللحظات الراهنة في ديارنا، رغم أنه حوصر إلى حد كبير بقوة معطيات الصحوة الإسلامية ومطالب الفطرة البشرية التي تميل إلى الطهر والعفاف والنظافة والاستقرار، والتي لن تحظى بتحققها المأمول إلا في إطار هذا الدين.
ألا أن المفاجأة التي حدثت، فيما لم يكن أحد يحسب له أيما حساب، إن المكر السيئ حاق بأهله، وتلك هي واحدة من سنن الله سبحانه في خلقه. وليس المقصود هنا حشود السماسرة الذين مرّروا العملية؛ فهؤلاء ليسوا بأكثر من أدوات أو آلات للتوصيل.. وإنما الحياة الغربية نفسها التي أخذت تتلقى الهجوم المضاد في قضية المرأة.. في عقر دارها.. عبر العقدين الأخيرين على وجه الخصوص. وأصبح هذا "الغزو" إذا صح التعبير، أو الهجوم المضاد، يمثل بمرور الوقت هاجساً ملحاً في دوائر الحياة الغربية على مستوى السلطة والمجتمع، وأخذ يتصاعد حتى كاد يدفع بعض القيادات الغربية إلى تجاوز ما يُسمى هناك بالثوابت الديموقراطية من أجل وقف الظاهرة التي أخذت تهدّد الحياة الغربية، على ما تصوّروه هم بحكم التقاليد الفكرية والسلوكية وضغط الأعراف والمسلمات الخاطئة القادمة من عمق الزمن الأوروبي.
أمامي الآن مقال للمفكر الفرنسي (برنارسيشير) بعنوان "الحجاب العرب .. ونحن" ينطوي على بعض المعطيات المهمة، وهي تمس كما يبدو من العنوان، إحدى الحلقات المهمة في موضوع المرأة المسلمة، ولا أقول قضيتها، ألا وهو (الحجاب).. فها هو الحجاب يقتحم العري الفرنسي.. التهتك الباريسي المعروف، ويفرض حضوره في قلب المجتمع.. فكيف كانت رؤية الفرنسيين أنفسهم للظاهرة؟ كيف كانت ردود الأفعال؟
حين تحجّبت بعض الفتيات في (الليسيه) يقول (سيشير)، تحركت الطبقة السياسية، وراح يدلي كل بدلوه حول الاحترام الواجب تجاه بلد الضيافة، وهو يقصد ضرورة احترام التقاليد الفرنسية من قبل أولئك الغرباء الذين قبلتهم فرنسا ضيوفاً عليها، بغض النظر عن القيم الأخلاقية لهذه التقاليد، حتى إن أحد الوزراء هدّد باتخاذ موقف، واجتمعت أخيراً الهيئة الدستورية، في حين كاد يعلن بعض المثقفين - جهاراً - أن الوطن العلماني في خطر!(55/109)
ويمضي (سيشير) إلى القول بأنه مهما بلغت قدرة عملاء العروض المشهدية على التلاعب والتأثير - وهم لم يترددوا في ممارستها بوقاحتهم المألوفة - فإن حادثاً كهذا لا يكتسب مثل هذه الأهمية ولا يثير مثل هذه الأصداء، إلا إذا كان يمس الطبقات العميقة من الوعي الاجتماعي. وبما أن من تحرّك هذه المرة ليس من أتباع (الساسة الفاسدين)، وإنما من المفكرين اللامعين الذين اجتاحتهم فجأة موجة من الغضب المفرط.. فيجب أن نبحث عن الدوافع البعيدة.. إنها أعراض (بواتييه) المرضية!
إذن فإن تراكمات التأريخ والعمق الصليبي للمثقف الفرنسي الذي لا يزال يتذكر محاولة الاقتحام الإسلامي للأرض الفرنسية وهزيمته عند (بواتييه)، هي التي تستفز في تحليل (سيشير) العقل الغربي لمجابهة ظاهرة الحجاب الإسلامي، حتى لو أدّى الأمر إلى
خرق الثوابت الديموقراطية وضرورات "التسامح وجمال الاختلاط العرقي" التي يدّعيها الفرنسيون. ويبدو لي - يقول سيشير -: إن أعراض (بواتييه) المرضية إنما تشهد على جهلنا العميق بحقائق الإسلام كما تشهد في الوقت نفسه على عودة غريبة للمكبوت تجعل
العربي (المسلم بالأخص) يحل وقتياً محل اليهودي في الاستيهام العنصري والمتوتر لغيريّة AL te r oite )) قوية تنذر وتهدّد.
إنه "النسيان المذهل" و "النفي المجنون" كما يعبر (سيشير)، لأفضال الحضارة الإسلامية على الغرب"، وإذا كان العرب قد بهروا ذاكرتنا القديمة وأربكوها إلى هذا الحد ، فذلك لأنهم كشفوا عن قدرتهم على ابتكار الحضارة الأكثر ألقاً وغنى ، عندما كنا لا نزال نحن في طور التخلف، وقد لعبت الكنيسة المسيحية، في إطار هذا الكبت الكبير، دوراً لا تُحسد عليه أبداً، وآن الأوان لكي تعترف بذلك خصوصاً وأن مذهبها ما كان ليتكون لولا أن سلبت الكنز النفيس الذي وصلها من الفكر الإسلامي، ثم عملت على طمس معالمه المدهشة ".
إن الفرنسيين، والغربيين عموماً هم ضحايا التعصب - كما يقرر سيشير - ضحايا تشويه تجعلهم يتصورون أن تأريخهم هو التاريخ الوحيد الممكن، ويجعلهم يسقطون من خلال هذه الأفكار (وعسكرياً من خلال الأفعال) تحديدهم للسياسة على وقائع تاريخية وثقافية تبدو لهم متطرفة لدرجة أنهم يمضون وقتهم في ترسيخ سوء التفاهم.
وبوصفي مدرساً - يقول سيشير - فإنني أتساءل كيف لا ترون أن المشكلة الملحة ليست الحجاب، وإنما الانهيار العام لثقافة لا تعني رجال السياسة عندنا؟" وتقولون: إنكم تريدون حماية هُويّة؟ وأية هُويّة؟ ولأن الجواب لن يكون سهلاً فمن الأفضل فتح باب المناقشة والانحياز إلى الفكر وليس إلى الخوف!
" لقد أحالتنا الحيوية الدينية الإسلامية فجأة، إلى وعي مخيف، ولقد عبّر عنها بعض المثقفين المستنيرين من خلال ردود فعل مرعبة وتشنّجات غير عقلانية"
هذا بعض ما يخلص إليه (سيشير) وهو يعالج ردود الفعل الفرنسية تجاه ظاهرة الحجاب في سياق الموقف المسيحي العام من خلال الظاهرة الإسلامية ببعدها الديني وعمقها التاريخي، وهو موقف لا يعكس فكر أو عاطفة الشرائح الدنيا في المجتمع، أو حتى الساسة (الفاسدين)، ولكن المثقفين والمفكرين اللامعين!
المصدر : الإسلام اليوم
===============(55/110)
(55/111)
من قضايا الدراسات العربية الإسلامية في الغرب
د. مازن صلاح مطبقاني
قسم الاستشراق
كلية الدعوة بالمدينة المنورة
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
لعل من أبرز الأمور التي نجح فيها قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) أنه كوّن عدداً من الباحثين الراغبين في المعرفة والبحث عنها في مظانها في مجال نشاط الاستشراق القديم والحديث، وقد تأكد لي ذلك أن حينما كنت في زيارة إلى عدد من الجامعات الأمريكية ومراكز البحوث والمكتبات بدعوة من وكالة إعلام الولايات المتحدة الأمريكية في صيف عام 1416 (سبتمبر 1995) حرصت على طلب تفاصيل المواد التي تُدْرس في أقسام الدراسات العربية الإسلامية أو مراكز دراسات الشرق الأوسط أو أقسام الدراسات الشرق أوسطية في بعض الجامعات الأمريكية. وكان من هذه الجامعات جامعة جورجتاون، وجامعة انديانا، وجامعة نيويورك، ومعهد الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز بواشنطن.
وكان من الحرص على المعرفة الاستشراقية حضور بعض المحاضرات والالتقاء ببعض الباحثين الغربيين وكذلك متابعة النشاطات الاستشراقية في الغرب من خلال النشرات التي تصدرها أقسام دراسات الشرق الأوسط ومراكز البحوث وبعض الدوريات المتوفرة مما وفر للباحث بعض المعلومات عن هذه الدراسات
تؤكد هذه الدراسة أن دراسة الاستشراق يجب أن لا تقتصر على معرفة جذور الاستشراق والاستشراق التقليدي بل لا بد أن يهتم الباحثون المسلمون بالتعرف على مراكز الدراسات العربية والإسلامية ومعاهد البحث العلمي وأقسام دراسات الشرق الأوسط. وتتمثل هذه الدراسة في معرفة المواد الدراسية التي يتلقاها الطلاب في هذه الأقسام حيث إن خريجي هذه الأقسام ينتشرون في جميع مجالات الحياة العملية في الحياة الغربية ومن ذلك وزارات الخارجية ووزارات الدفاع ووزارات الاقتصاد ويعملون أيضاً في مجال التعليم وفي مجال الإعلام. فهذه المواد العلمية تصبح جزءاً من تركيبتهم الثقافية والفكرية كما يؤثر فيهم أيضاً أعضاء هيئة التدريس الذين يقدمون هذه المواد فيلزم لمعرفة الاستشراق المعاصر معرفة من يقوم بالتدريس والبحث في هذا المجال في الغرب عموماً . أما الجانب الثالث الذي بحثته هذه الدراسة بإيجاز فتمويل الدراسات العربية والإسلامية وبالرغم من أن العرب المسلمين بدؤوا يقدمون الدعم لبعض البرامج في الغرب ولكن تأثيرنا ما زال محدوداً .
هذا وسيتكون البحث من ثلاثة محاور هي:
أولاً:. الدراسات العربية الإسلامية في بعض الجامعات الأمريكية من خلال بعض المواد الدراسية والنشاطات الأكاديمية من محاضرات وندوات
ثانياً: تمويل الدراسات العربية والإسلامية في بعض الجامعات الغربية.
ثالثاً: أساتذة الدراسات العربية والإسلامية ونماذج من السير الذاتية لعدد منهم.
المحور الأول
الدراسات الاستشراقية من خلال بعض المواد الدراسية والنشاطات الأكاديمية من محاضرات وندوات
يتناول هذا المحور عرض بعض التفاصيل حول المقررات الدراسية أو تفاصيل هذه المقررات. والنشاطات الجامعية( الأكاديمية ) في بعض الجامعات الأمريكية والبريطانية التي يحرص الباحث على متابعتها. وفيما يأتي بعض النماذج للمواد الدراسية التي تقدم في بعض مراكز أو أقسام دراسات الشرق الأوسط أو أقسام الأديان في بعض الجامعات الأمريكية:
أ- مادة تاريخ 561(للدراسات العليا) قضايا وأدبيات في تاريخ الشرق الأوسط. تقوم بتدريس المادة البروفيسورة جوديث تكر. Judith Tucke صلى الله عليه وسلم وقد لاحظت في تفاصيل المقرر أن الأستاذة أو الجامعة أطلقت على المادة (تاريخ الشرق الأوسط) مع أن المقصود هو التاريخ العربي الإسلامي. كما أنها جعلت المراجع الأساسية للمادة هي المصادر المكتوبة باللغة الإنجليزية أو المترجمة إليها مع ملاحظة أن ما يترجم في العادة إلى اللغة الإنجليزية هو ما يتبنى الفكر الغربي أو المناهج الغربية في التفكير. ومن الكتاب العرب أو المسلمين : عبد العزيز الدوري وعزيز العظمة وهشام شرابي وأما الكتاب الغربيون فمنهم جون اسبوزيتو John Esposito ومارلين والدمان Ma r lene Waldmanوميريام روزن Me r iam r ozenوفرانز روزنتال f r anz r osenthalو باربرا ستوواسر Ba r ba r a Stowasse r وغيرهم.
وقد تضمنت المادة قراءات مختارة في كتاب الطبري وابن الأثير والجبرتي وابن خلدون.
ب- المرأة والجنسان (أو الجنوسة كما ترجم كمال أبو ديب كلمة Gende r ) رقم 668(دراسات عليا) حيث تهتم المادة بدراسة موضوع المرأة في الشرق الأوسط والكتابات الحديثة حول العلاقة بين الجنسين ، ويلاحظ أن مراجع المادة هي من الكتابات التي تمت ترجمتها لكاتبات عربيات ومسلمات عرف معظمهن بتبني قضية ما يسمى بتحرير المرأة ومنهن : نوال السعداوي في كتبها الثلاثة : " البريء والشيطان" ، و"مذكرات من سجن النساء" ، و"المرأة في نقطة الصفر". ومنهن حنان الشيخ في كتابها " قصة زهرة" ، وفدوى عمروش وغيرهن.(55/112)
1- المقدمة وتتضمن قراءات من كتاب أستاذة المادة نفسها ، وكتاب " فكر الحركة النسائية" لمؤلفته روزماري تونج r osema r ie Tong وكتاب:"الإسلام المبكر وموقع المرأة : المشكلة " للباحثة دينس سبلبيرجDenise A. Spelpe r g وكتاب جوناثان بيركيJonnathan A. Be r key " النساء والتعليم الإسلامي في العهد المملوكي."
2- الموقف الماركسي
3- الحركة النسائية المتطرفة .
4- الحركة النسائية ما بعد الحداثة.
5- الدين ويتضمن قراءة في كتاب ليلى أحمد " المرأة وقضية الجنس في الإسلام " بالإضافة إلى قراءة في كتاب باربرا ستوواسرBa r ba r a Stowasse صلى الله عليه وسلم
6- القانون .
وبالرغم من كثرة القراءات في هذه المادة لكنها لم تتضمن قراءات لكتاب إسلاميين مثل كتاب " المرأة بين الفقه والقانون " للدكتور مصطفى السباعي وغيره من الكتب المهمة في موضوع المرأة وهي كثيرة جداً. ويمكن أن نضيف بأن مثل هذه المادة كان يجب أن تبدأ بمعرفة موقف الإسلام من المرأة وهل لها قضية حقيقية أو أن هذه القضية إنما هي من تأثير الغرب والفكر الغربي.
جـ- الإصلاح السياسي والاقتصادي في العالم العربي . حلقة دراسية في قسم العلوم السياسية برقم حكومة:743( دراسات عليا) ويقوم بتدريس هذه المادة مايكال هدسون.
تتناول هذه المادة قضية الإصلاح السياسي الليبرالي مستخدمة المنهج المقارن وسيكلف الطلاب بدراسات تجارب تحررية معينة بعمق بعد دراسة عامة للكتابات حول العلوم السياسية. وسيكون التركيز في هذا الفصل ( ربيع 1995) على اليمن .
ولوحظ أن تسعين بالمائة من المراجع هي لكتاب غربيين وأما كتابات العرب والمسلمين فقد اقتصرت على كتابات كتاب من أمثال: غسان سلامة وسعد الدين إبراهيم وهالة مصطفى وسلوى إسماعيل . ومن المعروف أن معظم هؤلاء يقفون موقف العداء من الحركات الإسلامية عموماً. ولم تتضمن القراءات كتابات لقادة الحركات الإسلامية الذين تضمنت كتاباتهم مواقفهم من الإصلاح السياسي في العالم العربي الإسلامي.وقد حضرت بعض محاضرات الفكر السياسي العربي الحديث للدكتور صادق جلال العظم في مركز قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة برنستون فوجدت أنه يهتم بمذكرات ياسين الحافظ أحد منظري حزب البعث حيث بدأ بسيرته الذاتية . ولم تتضمن المادة نظرة زعماء الحركات الإسلامية مثل عبد العزيز الثعالبي وعبد الحميد بن باديس ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وحسن البنا وحسن الترابي وغيرهم . ولكن ما كان للعظم أن يهتم بهذه الشخصيات فهو في الواقع لا يعترف بوجودها فضلاً عن وجود فكر لها.
د- مدخل إلى أديان الغرب: أبناء إبراهيم مجد قديم وإيمان حي : يقوم بتدريس المادة سكوت الكساندرScott Alexande r
التقيت الدكتور سكوت في أثناء زيارتي لجامعة انديانا في ربيع الثاني عام 1416 وقد أكد لي حرصه على تقديم الأديان الثلاثة كما يؤمن بها أصحابها وأنه بصدد إعداد شريط فيديو يتضمن مقابلات مع بعض أتباع هذه الديانات في منطقة بلومنجتون بولاية انديانا وسؤالهم عن تأثير الدين في حياتهم . ولكني لاحظت أن القراءة المقررة على الطلاب حول الإسلام إنما هي من كتاب ثيودور لودوج Theodo r e Ludwig :" الطرق المقدسة في الغرب" والمنشور عام 1994م. ولعلي سألته لماذا لا تختار كتاباً لمؤلف مسلم وذكرت له الدكتور إسماعيل راجي فاروقي- رحمه الله- فزعم أن هذا الكتاب صعب الفهم وأعلى من مستوى الطلاب. ولكن لا بد من وجود كتب أخرى كتبها مسلمون . ومع ذلك فلا بد من تشجيع الكتابات الإسلامية باللغة الإنجليزية حتى لا يبقى لهؤلاء عذر في اللجوء لكتب لغير المسلمين عن الإسلام.
هـ- الإسلام في السياسة المحلية والدولية -معهد الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز (خريف 1994) والأستاذ هو البروفيسور جيمس بسكتوري( زار المملكة عدة مرات في مهمات علمية) وعمل بعض الوقت في مجلس الشؤون الخارجية بنيويورك.
تهتم هذه المادة بدراسة الأبعاد السياسية للإسلام وطبيعة النظرية الإسلامية السياسية، والعلاقة بين القانون والسياسة وخصائص الدولة الإسلامية والتوافق بين الإسلام والدولة القومية ، وقضايا أخرى . ولن يتم تطبيق هذه القضايا على دول محددة لكن سيكون هناك بعض الأمثلة التطبيقية على دول محددة.
وذكر الأستاذ أن الكتب المتوفرة للشراء من مخزن الكتب بالجامعة هي كتاب : عبد الوهاب الأفندي: " من يحتاج إلى دولة إسلامية؟" وكتاب جون دونهو John Donohou وجون اسبوزيتوJohn Esposito :" الإسلام في مرحلة انتقالية : وجهة نظر المسلمين." وكتاب جيل كيبل : التطرف الإسلامي في مصر : الرسول والفرعون. وكتاب روي متحدة وكتاب إيمانيول سيفان ( يهودي من جامعة تل أبيب) :" الإسلام المتطرف :عقائد من القرون الوسطى وسياسات حديثة."(55/113)
وبالرغم من حرص الأستاذ على ذكر بعض المراجع لكتّاب إسلاميين من أمثال: جعفر شيخ إدريس ومحمد سليم العوا ، وسيد قطب ، ومحمد أسد إلاّ إنه في الوقت نفسه رجع إلى كثير من المستشرقين التقليديين من أمثال : مونتجمري وات وكولسن ونيكي كدي وفاتكيوتيس ( يوناني يهودي) وماكسيم رودنسون ( الشيوعي) ومجيد خدوري، وبرنارد لويس وبوزوورث ، ومارتن كريمر( يهودي ومدير معهد موشي ديان لدراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بتل أبيب) وجوزف شاخت وفرانز روزنثال( اليهودي) .
وذكر الأستاذ أسماء بعض الكتاب من ذوي الاتجاه المعادي للحركات الإسلامية أو من العلمانيين من أمثال فؤاد زكريا وسعد الدين إبراهيم وفاطمة مرنيسي وفؤاد عجمي.
و- " الأصوليات الدينية." يقدمها الدكتور سكوت الكساندر بجامعة انديانا.
يتناول الأستاذ في هذه المادة " الأصولية " في اليهودية وفي النصرانية وفي الإسلام. ويهدف إلى الإجابة عن بعض التساؤلات مثل: هل هناك فرق بين الإخوان المسلمين في مصر وحزب الله اللبناني ؟ أو هل يشترك الأصوليون النصارى من بداية هذا القرن ونظرائهم في أواخر القرن العشرين في النظرة نفسها إلى العلاقة بين الرجل والمرأة؟ وما العلاقة بين مفهوم الأصولية والتحديث ؟ وهل ثمة صفات أساسية لكل الحركات الأصولية؟ وما مدى فائدة استخدام مصطلح " الأصولية" في التصنيف؟ وفي عالم النقد الثقافي ما مدى الموضوعية العلمية؟(1)
وبالرغم من أن هذه الأسئلة مهمة وتستحق الاهتمام إلاّ أنها أهملت العديد من القضايا مثل ما مدى صحة إطلاق هذا الاسم على الحركات الإسلامية الداعية إلى العودة إلى تحكيم الإسلام في حياة المسلمين في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية؟ كما إن مراجع المادة باللغة الإنجليزية فقط فهل هذه كافية لفهم الحركات الإسلامية ؟ وهل هذه الحركات أطلقت على نفسها هذا المصطلح أو أنه من إطلاق أعدائها عليها؟
وقد وجدت أن الدكتور فهد السماري قد كتب حول مراكز دراسات الشرق الأوسط معلقاً على هذه الدراسات ، وكان مما كتبه :" يتضح من خلال استعراض معظم المواد الدراسية التي تقوم بتدريسها معظم تلك المراكز وجود تركيز متعمد على بعض القضايا الصغيرة والجزئيات اليسيرة في العلوم الإسلامية وإعطائها حجماً كبيراً وبعداً أكثر من طبيعتها على حساب القضايا العامة . فمثلاً يتم التركيز على قضايا الصوفية وعلم الكلام والفتن وقضايا الخلاف بين المسلمين إلى درجة أنها تأخذ عناوين مواد دراسية كاملة في المرحلة الجامعية أو مرحلة الدراسات العليا. " (2)
ومن الانتقادات الأخرى التي وجهها السماري لهذه الدراسات مستشهداً بتقرير "لامبيرت" بأن من "السمات العامة التي تسيطر على معظم المهتمين بهذه الدراسات قلة العارفين باللغة العربية من بين أولئك الخبراء، حيث تصل نسبتهم فقط إلى حوالي 16,7% ، ومن السمات أيضاً عدم ارتباط الغالبية من خبراء دراسات الشرق الأوسط بالمنطقة التي يقومون بدراستها لا من حيث القيام بزيارتها أو معرفتها بصورة جيدة."(3)
وإن كان الباحث هنا لا يوافق تماماً على مثل هذه التعميمات ذلك أن مجالاً مثل الدراسات العربية الإسلامية يحتاج إلى بحث علمي إحصائي دقيق حتى نصل إلى أحكام قريبة من الصواب وبعيدة عن الأحكام الجزافية.
وقد قدّم الدكتور السماري نقداً آخر حول عدم رغبة تلك المراكز في "الحصول على المعلومات الصحيحة عن المنطقة التي يدرسونها إضافة إلى خشيتها من انحرافها عن تحقيق أهدافها المشبوهة التي تتطلب أساتذة من نفس الدولة لحفظها وعدم تسربها...* وأضاف أن هذه المراكز تحجم عن التعاون مع الجامعات العربية الإسلامية ولذلك قامت بإنشاء مراكز أو فروع لها في بعض البلاد العربية الإسلامية وذكر من الأمثلة على ذلك " مركز الشرق الأوسط للدراسات العربية " الذي أسسته بريطانيا في القدس عام 1943/1362هـ.. و" المعهد الألماني للأبحاث الشرقية" الذي أسسته الحكومة الألمانية في بيروت عام 1361هـ/1961م.(5) وأضيف إلى ذلك مراكز دراسات الشرق الأوسط أو الجامعات الأمريكية في كل من القاهرة وبيروت واستنبول ومركز الدراسات اليمنية في صنعاء وغيرها.
ونظراً لأهمية النشاطات الأكاديمية الأخرى في الحياة الجامعية في الولايات المتحدة وأوروبا حيث تكاد تكون جزءاً لا يتجزأ من الحياة الجامعية ، ولعل الدراسة الجامعية تعد ناقصة بدونها وهي المحاضرات العامة والندوات وحلقات البحث والحفلات التي تهتم بالجوانب المختلفة من حياة الشعوب العربية الإسلامية ، فإنني سأورد هنا نماذج من هذه النشاطات.
أولاً: يصدر مركز دراسات الشرق الأدنى والأوسط بجامعة لندن( مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية ) نشرة شهرية حول النشاطات العلمية والاجتماعية التي تتعلق بالعالم العربي الإسلامي في منطقة لندن وما حولها. وفيما يأتي بعض النشاطات المختارة من نشرة شهر ديسمبر 1996/يناير 1997:(6)
1- الآثار في الأردن (3) آخر النتائج لبعثة المتحف البريطاني في تل السعدية (محاضرة) قدمها جوناثان تب Jonathan Tubb .(55/114)
2- التنجيم ، وعلم العقيدة وعلم الكونيات في الإسلام ،محاضرة ألقاها برنارد رادتكBe r na r d r adtke .
3- العراق في المنطقة ، في سلسلة محاضرات برنامج الشرق الأوسط المعاصر ، ألقى المحاضرة الدكتور راغد الصلح.
4- قراءات محظورة: قراءة في كتابات بعض كتاب القصة أو الرواية في تركيا وإيران وإندونيسيا، ومنهم ياسر كمال وبرامادايا أنانتا تو من إندونيسيا وغازي رابحوي من إيران، وغيرهم. *
5- الأصول القرآنية للعقلانية ، محاضرة يقدمها وليد عرفات من مركز الدراسات الإسلامية بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية.
6- اليمن :طريق الوحدة الصعب ، محاضرة ألقاها البر فسور جوزف كوستنر Joseph Kostine صلى الله عليه وسلم
7- دور القانون في أفغانستان : القانون والواقع. محاضرة ألقتها فاطمة غيلاني الناطقة باسم المجاهدين الأفغان ، وترأست الجلسة الدكتورة مي يماني.
8- المصادر المائية ومستقبل نهري دجلة والفرات.(حلقة بحث) قدمها د. رونالد مانلي D صلى الله عليه وسلم Ronald Manley.
9- جغرافية فلسطين 4: القدس ،محاضرة ألقاها د. سي دبليو ميتشال.
10- النساء في الفن التشكيلي الإسلامي. محاضرة ل باربرا برندBa r ba r a Be r nd .
11- كنوز من مقبرة توت عنخ أمون ، محاضرة ل جورج هارت .
12- المغرب بعد الإصلاح الدستوري والاستفتاء ، ندوة اشترك فيها كل من جون ماركس وعلي باهيجوب وجورج جوفي .
13- الإسلام ونظرته إلى الصراع على القوة في مصر. محاضرة قدمها البر فسور صبري حافظ.
14- صور بدو شمال الجزيرة العربية من حوليات الأشوريين إلى كتابات البيزنطيين. محاضرة قدمها مايكال ماكدونالد.
15- زوج من ورق( مسرحية) كتبتها حنان الشيخ تتناول قصة امرأة من المغرب تبحث عن زوج إنجليزى لتحصل على إذن بالبقاء في بريطانيا .
16- مواقف الحركة النسائية في الروايات العربية المعاصرة، محاضرة قدمتها كورنيليا الخالد.
17- الفن المعماري في العالم الإسلامي. عرض صور.
وأقدم فيما يأتي نموذجاً آخر من النشاطات الأكاديمية من جامعة هارفرد الأمريكية وبعض الجامعات الأخرى القريبة كما توضحها النشرة نصف الشهرية لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد الصادرة في 15 أكتوبر و15 نوفمبر 1996.(8)
1- " الإرهاب ، وماذا الآن؟ " ندوة اشترك فيها كل من يوري راعنان مدير معهد دراسة الصراع والأيديولوجية والسياسات في جامعة بوسطن وإلي كراكاوسكي .
2- أصول الهوية القومية الفلسطينية ، محاضرة للدكتور راشد خالدي أستاذ تاريخ الشرق الأوسط ومدير معهد الدراسات الدولية بجامعة شيكاغو.
3- بخارى :قبة الإسلام في الشرق" محاضرة ل ريتشارد فراي r icha r d F r ye أستاذ كرسي الأغا خان للدراسات الإيرانية المتقاعد في جامعة هارفارد.
4- عملية الديموقراطية في العالم العربي ، هل لها مستقبل؟ محاضرة ل يحي سادوسكي Yahya Sadoweski . من معهد بروكنجز بواشنطن العاصمة.
5- البنوك الإسلامية : بين الاقتصادية والنفعية في جمهورية إيران الإسلامية محاضرة قدمها سعدي سفاري مرشح للدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد.
6- سياسات تركيا المعاصرة، محاضرة للبر فسور فيروز أحمد من قسم التاريخ بجامعة ماساتشوستس .
7- الانتخابات اللبنانية لعام 1996 : الديموقراطية تحت التجربة. محاضرة لنواف سلمان محام من بيروت.
8- عملية السلام ، لماذا نحن حيث نحن الآن ؟ محاضرة للباحثة الزائرة بجامعة هارفارد سارة روي، وهي يهودية ومتعاطفة مع أوضاع الفلسطينيين.
9- كيف يحطم الفساد السياسي في الإسلام ونمو التطرف حياة النساء ، محاضرة لجان جودون ، Jan Goodwin صاحبة كتاب " ثمن الشرف: النساء المسلمات ينزعن حجاب الصمت عن العالم الإسلامي." وهي صحافية بريطانية انتقلت للعيش في الولايات المتحدة، وفي هذا الكتاب درست أوضاع المرأة في خمس دول هي أفغانستان وباكستان والكويت والسعودية والأردن. وقد أجرت لقاءات مع النساء في هذه الدول. فعرضت بعض الأوضاع الواقعية ولكنها أخطأت في تفسيرها.
10- المدينة العربية التقليدية ومشكلات المحافظة عليها ، محاضرة قدمها البر فسور أندريه ريموند And r e r aymond من قسم التاريخ بجامعة اكس ان بروفانس بفرنسا .
يلاحظ أولاً كثافة النشاطات الأكاديمية رغم أنني لم أقدم سوى نماذج من هذه النشاطات ومن خلال مصدرين مع إمكان التوسع في عرض هذه النشاطات من نشرات معهد الشرق الأوسط في واشنطن وجامعة نيويورك وغيرها. كما أن هناك نشاطات أخرى لم أوردها تهتم بالرقص وبالغناء وبالأفلام وبالطعام في العالم الإسلامي وبغير ذلك من الأمور التي تخص حياة الشعوب الإسلامية.
ويمكن تصنيف هذه النشاطات إلى ما يأتي :
أ- الاهتمام بالأمم والحضارات التي سبقت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم
ب- الاهتمام بالعلوم الشرعية كالقرآن الكريم والحديث الشريف والفقه والتفسير واللغة العربية وغيرها.
جـ- الاهتمام بالقضايا المعاصرة والحساسة مثل المياه والانتخابات والمشاركة السياسية والاستفتاءات وغيرها.(55/115)
د- الاهتمام بالاتجاهات الفكرية المنحرفة في العالم العربي الإسلامي ، كالاهتمام بمحمد شكري وعبد الرحمن المنيف ونوال السعداوي، ومحمد سعيد العشماوي وغيرهم.
هـ- إشراك بعض أبناء البلاد العربية الإسلامية من مسلمين أو غيرهم في هذه النشاطات.
ولا يستطيع الباحث أن يجد أي إشارة إلى التركيز على جانب من حياة الشعوب الإسلامية دون الجوانب الأخرى. كما إن هذه النشاطات تواكب آخر الأحداث في العالم الإسلامي ومن ذلك الاستفتاء على الدستور في المغرب والانتخابات اللبنانية وغير ذلك، وقضية المياه ، وقضايا الحركات الإسلامية أو ما يطلقون عليه (الحركات الإسلامية المتشددة أو المتطرفة أو الإسلام السياسي أو الأصولية..)
ولمّا كانت الحكمة ضالة المؤمن كما جاء في حديث الرسو صلى الله عليه وسلم فهل تنشط الجامعات العربية الإسلامية في معالجة قضايا العالم الإسلامي والاهتمام بالقضايا العالمية، وأود أن أشير على سبيل المثال إلى ما حدث في الغرب منذ بضعة أشهر من اكتشافهم لجرائم الاستغلال الجنسي التجاري للأطفال مما دعاهم إلى عقد مؤتمر دولي في السويد حضرته أكثر من مائة دولة فهل عقدنا أية ندوة لنعرف أوضاع الأطفال في عالمنا وفي عالمهم؟ وما ذا عن مشاركتنا في هذا المؤتمر ، وهل عرضنا نظرة الإسلام إلى الطفل والأمر برعايته؟
المحور الثاني
تمويل الدراسات العربية والإسلامية في بعض الجامعات الغربية
حظيت الدراسات العربية الإسلامية وما تزال بدعم سخي من الحكومات الغربية ومن المؤسسات الغربية الخاصة ومن جهات عربية إسلامية . ولا بد من تناول الاهتمام الحكومي الغربي بالدراسات العربية الإسلامية فقد كلفت الحكومة البريطانية لجنة وزارية بدراسة أوضاع الدراسات الشرقية والأفريقية والأوروبية الشرقية والسلافية عام 1947 وهي التي عرفت بلجنة سكاربرو ، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وبالتحديد في عام 1961 كونت لجنة أخرى لدراسة الموضوع ذاته برئاسة السير وليام هايتر وأصبح يطلق على اللجنة اسم رئيسها وليام هايتر وحتى الأموال التي خصصتها للجامعات أصبحت تعرف بأموال هايتر.
وقد أفادت هذه اللجنة من تمويل بعض المؤسسات الأمريكية لرحلتها العلمية إلى عشر جامعات أمريكية وجامعتين كنديتين للاطلاع على الدراسات الإسلامية ودراسات الأقاليم في الجامعات الأمريكية .
ولم يقتصر تمويل هذه الدراسات على الحكومات الغربية بل إن المؤسسات "الخيرية" الغربية قدمت وما تزال تقدم دعماً سخياً لهذه الدراسات ومن أبرزها في الولايات المتحدة الأمريكية: مؤسسة فورد ومؤسسة كارينجي للسلام الدولي التي أسست عام 1910م بمنحة من أندرو كارينجي And r ew Ca r engie بهدف دعم السلام والتفاهم العالمي ، ومؤسسة روكفللر بالإضافة إلى مئات أو ألوف التبرعات من شخصيات أمريكية عادية وثرية.
ومن الأمثلة على دعم المؤسسات الأمريكية للدراسات العربية الإسلامية ما قامت به مؤسسة فورد من تكليف مجموعة من الخبراء لإعداد دراسة عن أوضاع الدراسات الإقليمية الحالية واحتياجاتها وتطلعاتها ومشكلاتها ، وكانت النتيجة كتاباً ضخماً بعنوان " دراسة الشرق الأوسط: البحث والدراسة في العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية ." وقام بتحريره ليونارد بايندر. ومن الطريف أن أحد أعضاء الفريق الذي أعد التقرير ذكر أن الصفحة الواحدة من التقرير كلفت 85,5دولاراً أمريكيا (9).فيكون التقرير قد كلف85,5× 648=55404دولاراً.
كما سعت الجامعات الغربية إلى الحصول على دعم كثير من الدول الأجنبية بإنشاء كراس للدراسات العربية والإسلامية أو كراس لدراسة تلك الدول بخاصة.
وإن كانت تفاصيل تمويل الدراسات الإسلامية يحتاج إلى بحث مستقل ولكننا يمكن أن نلم ببعض المعلومات بصورة موجزة . ومن ذلك أن أقدم مصدر تناول هذا التمويل هو ما كتبه الباحث الأمريكي مورو بيرجر Mo r oe Be r ge r المتخصص في علم الاجتماع ومدير برامج دراسات الشرق الأوسط بجامعة برنستون عام 1967م. فقد أشار في تقرير أعده لرابطة دراسات الشرق الأوسط نشرته في العدد الثاني من نشرتها نصف السنوية إلى أن مؤسسة فورد قدّمت بضعة ملايين من الدولارات لمراكز الدراسات العليا ولتمويلها للجنة المشتركة للمجلس الأمريكي للجمعيات العلمية ومجلس بحوث العلوم الاجتماعية ، كما قدمت مليوني دولار إضافية لتسعة وستين طالباً ومائة في مجال الدراسات العليا.(10)
ويضيف بيرجر أن الحكومة الفدرالية بدأت في عام 1958 تمويل دراسة لغات الشرق الأوسط وثقافته وتاريخه . وقد كان عدد المراكز التي تدرس فيها اللغة العربية خمسة عشر مركزاً أنشئت بأموال فيدرالية ، وسبعة مراكز للغة العبرية وستة مراكز للفارسية وتسعة مراكز للتركية.(11) ونتيجة لهذا الدعم فقد ارتفع عدد الطلاب الذين كانوا يدرسون لغات الشرق الأوسط من 286طالباً عام 1958 إلى 1084طالباًعام 1964م(12)
أما الجامعات التي تتلقى دعماً مستمراً في مجال الدراسات الإسلامية فهي الجامعات الآتية:
1- جامعة كولمبيا - نيويورك 2- جامعة نيويورك - نيويورك(55/116)
3- جامعة برنستون - برنستون. 4- جامعة هارفارد - كمبردج ماساتشوستس.
5- جامعة أوهايو الحكومية. 6- جامعة بنسلفانيا - فيلادلفيا
7- جامعة شيكاغو- آن أربر. 8- جامعة يوتا
9- جامعة أريزونا- توسان ، أريزونا.10- جامعة بورتلاند الحكومية. بورتلاند ، أوريجن.
11- جامعة تكساس في مدينة أوستن.12- جامعة واشنطن سياتل ولاية واشنطن.
13- جامعة كاليفورنيا- بيركلي. 14- جامعة كاليفورنيا - لوس أنجلوس.
وقد تطورت الدراسات في هذه الجامعات وزادت أعداد الطلاب والمدرسين والباحثين زيادة كبيرة فعلى سبيل المثال بلغ عدد المتخصصين وأعضاء هيئة التدريس والموظفين الأكاديميين بجامعة كاليفورنيا -بيركلي 85 موظفاً عام 1995 . أما عدد طلاب الدراسات العليا فبلغ عددهم 150طالباً . بينما عدد المواد الدراسية الخاصة بالشرق الأوسط فبلغ 200 مادة يدرسها 5000 طالب.
ومن مصادر تمويل المؤتمرات والندوات حول العالم العربي الإسلامي ما تقدمه وكالة الاستخبارات المركزية (CIA). وقد كان الأمر سراً حتى إنه لما فشت الأخبار عن قيام هذه الوكالة بتمويل مؤتمر في جامعة هارفارد يشرف عليه الباحث اليهودي المصري الأصل ناداف سفران عام 1985 ألغي المؤتمر وكان من المقرر أن يستقيل الأستاذ من منصبه في الجامعة.(13) ولكن الأمر لم يعد سراً منذ ثلاث سنوات حيث نشرت جريدة الشرق الأوسط في صدر صفحتها الأولى عن قيام وكالة الاستخبارات بتنظيم ندوة شهرية لدراسة الحركات الإسلامية " الأصولية" في العالم الإسلامي.(14)
وقد قمت باستعراض العديد من المؤلفات حول الإسلام وقضايا الشرق الأوسط فوجدت أن هذه الكتب لم يكن من الممكن تأليفها لولا التمويل السخي من المؤسسات الأمريكية والأوروبية الحكومية وغير الحكومية وهي على النحو الآتي:
1 - كتاب ( الإخوان المسلمون) تأليف ريتشارد ب. ميتشل . يقول المؤلف في مقدمة كتابه:" فقد مكنتني مؤسسة فلبرايت من زيارتي الأولى لمصر، وبذلت مؤسسة فورد دعماً سخياً للبحث ... كما ساعد مستر جون مارشال بمؤسسة روكفللر في الكتابة الأولية لهذه الدراسة."(15)
2- كتاب " اللغة السياسية في الإسلام " برنارد لويس ، والكتاب في الأصل محاضرات ألقاها المؤلف في مركز جون أولين John Olin للبحث في النظرية وتطبيق الديموقراطية بجامعة شيكاغو في الفترة من 29 أكتوبر إلى 4 نوفمبر 1986م. بتمويل من شركة إكسون Exxon وهي إحدى كبريات شركات البترول في الولايات المتحدة. (16)
3- " نظرة المسلمين إلى الغرب" محاضرة ألقاها برنارد لويس في مكتبة الكونجرس في 29 مايو 1990م. وهي محاضرة توماس جيفرسون السنوية التي ينظمها ويمولها الوقف الأمريكي للإنسانيات . وقد حصل المحاضر على مبلغ عشرة آلاف دولار. ثم أعاد نشرها في مجلة الأتلانتكThe Atalntic Monthly في شهر سبتمبر1990 مع تعديل طفيف .
4- " التعرف إلى الإسلام: الدين والمجتمع في العالم العربي الحديث" مايكال جلسنان ، أستاذ الدين الإسلامي بجامعة نيويورك ورئيس مركز دراسات الشرق الأوسط . وقد قام بتمويل إعداد هذا الكتاب كل من مجلس بحوث العلوم الاجتماعية البريطاني الذي قدّم منحة مدتها ستة أشهر قضاها المؤلف في مركز دراسات الشرق الأوسط بمدينة إكس ان بروفانس بفرنسا عام 1976م. كما قام المجلس نفسه بتمويل منحة لإلقاء محاضرات في جامعة ما نشستر في الفترة من 1970-197م في قسم علم الإنسان لدراسة المجتمع اللبناني ، كما قام مجلس البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية في القاهرة بتمويل دراسة حول الطرق الصوفية في مصر.(17)
5- "سياسات التغيير الاجتماعي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ." مانفرد هالبرن Manf r ed Halpe r n (1963) يقول المؤلف :" إن كرم مؤسستين قد جعل هذا العمل ممكناً: مؤسسة راند وجامعة برنستون"(18)
6- " السياسة الدولية والشرق الأوسط : قوانين قديمة ولعبة خطيرة" إل.كارل براون. (1984) من الكتب المقررة في إحدى المواد الدراسية بجامعة برنستون. حصل المؤلف على العديد من المنح منها منحة من مؤسسة جون سيمون قجنهايم التذكارية John Simon Guggenheim Memo r ial Foundation. ومؤسسة فلبرايت الأمريكية - برامج هيز ومؤسسة هوفر للحرب والثورة والسلام.(19)
وإذا انتقلنا عبر المحيط لنرى كيف يتم تمويل الدراسات العربية الإسلامية في الجامعات الأوروبية نجد أولاً أن الحكومة البريطانية قد كلّفت لجنتين لدراسة احتياجات هذه الدراسات وقد قدمت لجنة السير وليام هايتر (1961) توصياتها التي تضمنت ما يأتي:
أ- تقديم منح على مدى خمس سنوات لتغطية مائة وخمسة وعشرين منصباً جديداً.
ب- تقديم منح للدراسات العليا بواقع عشر منح على مدى عشر سنوات.
جـ- تقديم منح للرحلات العلمية لطلاب الدراسات العليا.
د- فتح مراكز جديدة أو توسعة المراكز الحالية المتخصصة ف دراسة المناطق.
هـ- تقديم منح لأعضاء هيئة التدريس كل خمس إلى سبع سنوات لزيارة المناطق التي يدرسونها.
و- تقديم منح للمكتبات لتحديث موجوداتها.(55/117)
بعد هذا العرض لعدد محدود جداً من الكتب التي مولت إعدادها بعض المؤسسات الغربية الخاصة أو الحكومية ،فهل نجد من المؤسسات الخاصة في عالمنا الإسلامي من يهتم بتمويل إعداد البحوث العلمية ليس في مجال الهندسة والعلوم ولكن حتى في مجال العلوم الإنسانية. إن نهضة الأمم لا تعتمد فقط على العلوم التطبيقية فإن نهضتها الحقيقية تعتمد على نهضة العلوم النظرية.
وليست الحكومة البريطانية وحدها التي تمول الدراسات العربية والإسلامية فإن مركز دراسة الشرق الأدنى والأوسط بجامعة لندن( مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية) يذكر في الصفحة الثانية من نشرته الشهرية المؤسسات الممولة والمؤسسات التي تساعد في التمويل. ومن أبرز الممولين البريطانيين: شركة البترول البريطانية B r itish Pet r oleum والبنك البريطاني للشرق الأوسط ، وشركة كونكو وشركة شل الدولية وشركة ولكم Wellcome للتجارة الدولية . أما المؤسسات التي تساعد في التمويل فهي:
1- منظمة العفو الدولية 2- الغرفة التجارية البريطانية العربية
3- المجلس البريطاني 4- مكتب الكومنولث والشؤون الخارجية.
5- مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي. 6- بنك الخليج الدولي.
7- الكليات الدولية للعلوم الإسلامية 8- مكتب الاستعلامات التونسي
9- مكتب الاستعلامات الأردني 10- البنك السعودي البريطاني.
11- شركة رولز رويس 12- جامعة الدول العربية.
13- معهد الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية ب نقوسيا ، قبرص.
14- البنك الوطني الكويتي 15- البنك السعودي الدولي.
16- وحدة الاستخبارات الاقتصادية البريطانية.
وهناك ممولون وفقاً للموضوع المطروح للبحث سواءً كان ذلك في صورة ندوة أو محاضرة أو مؤتمراً دولياً. ففي عام 1953 عقدت مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية ندوة حول سقوط القسطنطينية بتمويل من السفارة اليونانية ببريطانيا. كما ساهم البنك الزراعي التركي عام 1996 في تمويل ندوة عن الصور الذهنية لأتاتورك.(20) كما أسهمت جامعة محمد الخامس بالرباط في تمويل عقد ندوة لبحث روابط المغرب مع أوروبا في فترة ما قبل وما بعد الاستعمار ، وذكر الكتيّب الذي صدر عن الندوة أن من أهداف الندوة أيضاً تقوية الصلات العلمية بين الجامعات المغربية والجامعات البريطانية.(21)
ومن العجيب أن التبرعات العربية الإسلامية للجامعات الأمريكية أو الغربية عموماً تزعج البعض،ومن هؤلاء برنارد لويس في أحد مقالاته حول الدراسات العربية والإسلامية حيث سمّى في مقالته بعض الدول العربية وتأثيرها في هذه الدراسات(22)،ولكن لويس ينسى أو يتناسى الدور اليهودي الصهيوني في التعيينات الجامعية ومسار البحث العلمي في الكثير منها كما أشار إدوارد سعيد إلى جامعة برنستون وكما هو في الواقع فمن اليهود الصهاينة كان قسم دراسات الشرق الأوسط يضم برنارد لويس وابراهام يودوفتش ومايكال كوك وهاموري وغيرهم .وقد كتب إدوارد سعيد عن مسألة التبرعات يقول " عندما تتبرع الدول الإسلامية للجامعات الأمريكية للدراسات العربية أو الإسلامية فإن صرخات ليبرالية تتعالى حول التدخل الأجنبي في الجامعات الأمريكية ولكن عندما تتبرع اليابان فلا يسمع مثل هذه الشكاوى."(23)
وقد لاحظت في نشرة أحداث لندن أن المتحف البريطاني هو الداعي لكثير من النشاطات حول الشرق الأوسط (24)، كما أن بعض المؤسسات العربية الإسلامية تمول نشاطات تسهم في الدراسات الإسلامية في الغرب مثل : متحف الكوفة ، معهد الكومنولث ، جمعية الدراسات الليبية وجمعية الدراسات الجزائرية، وجمعية الدراسات العربية ، ومركز بحوث أفريقيا الفرنكفونية ، وكلية ليو بائك Leo Baeck College للدراسات اليهودية ، ومؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي.
وتأتي التبرعات من شخصيات عربية إسلامية درست في بعض الجامعات البريطانية * ، فقد حصل مركز الدراسات الإسلامية بجامعة اكستر على تبرعات سخية من شخصية خليجية درست في هذه الجامعة لعقد ندوة بمناسبة مرور الذكرى الأولى لوفاة المؤرخ المصري محمد عبد الحي شعبان والذي أسس قسم الدراسات الإسلامية في جامعة اكستر.(26)
ومن نماذج تمويل الدراسات الإسلامية في الغرب الاتفاق المعقود بين وزارة الشؤون الدينية في إندونيسيا وجامعة لايدن حيث تبتعث إندونيسيا عدداً من طلابها للتخصص في الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الهولندية . كما أن وزارة الشؤون الدينية الإندونيسية قد أسهمت في تمويل المؤتمر العالمي الأول حول الإسلام والقرن الواحد والعشرين الذين عقد في لايدن في الفترة من 15-18 محرم 1417.
ومن مصادر تمويل الدراسات العربية الإسلامية في الغرب الرسوم التي يدفعها الطلاب العرب المسلمون لهذه الجامعات وبخاصة المبتعثون من الدول العربية الخليجية . وقد كانت أعدادهم كبيرة في فترة من الفترات حينما لم تتوفر الدراسات العليا في بلادهم أو كان من أهداف الابتعاث الاطلاع على مناهج البحث الغربية في العلوم الاجتماعية والإنسانية.(55/118)
كذلك لا بد من ذكر جهود المملكة العربية السعودية والدول الإسلامية الأخرى في إنشاء المعاهد الإسلامية والعربية في الغرب، والمراكز الثقافية الإسلامية ، وهذه بلا شك تهدف إلى الإسهام في الدراسات الإسلامية في الغرب بما تقدمه من برامج دراسية وندوات ومحاضرات، ونشر.ولكن الحكم على نتائج أعمال هذه المعاهد يحتاج إلى بحث ميداني للوصول إلى التقويم السليم.
المحور الثالث
نماذج من أساتذة الدراسات الإسلامية في الغرب.
كان من بين الأهداف التي سعيت إلى تحقيقها في الزيارة العلمية التي قمت بها للجامعات الأمريكية في صيف عام 1416 محاولة الالتقاء بأكبر عدد من أساتذة الدراسات الإسلامية للتعرف على فكرهم وإنتاجهم الفكري في هذا المجال. ولا بد أن أشيد بجهود الشيخ الدكتور مصطفى السباعي الذي قام برحلة علمية إلى المراكز الاستشراقية في بريطانيا وبعض الدول الأوروبية عام 1956م. فقد كان جهداً ريادياً بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ.(27) وقد قال الدكتور السباعي في ذلك :" لقد كنت كتبت عن المستشرقين كلمة موجزة في كتابي " السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي" قبل أن أزور أكثر جامعات أوروبا عام 1956م وأختلط بهم وأتحدث إليهم وأناقشهم. فلمّا تم لي ذلك ازددت إيماناً بما كتبته عنهم واقتناعاً بخطرهم على تراثنا الإسلامي كله سواءً كان تشريعياً أم حضارياً لما يملأ نفوسهم من تعصب ضد الإسلام والعرب والمسلمين ."(28)
وقد تحقق لي بعض النجاح في هذه الزيارة كما أنني التقيت عدداً منهم في رحلات علمية أخرى وفي بعض الندوات والمؤتمرات التي تيسر لي حضورها في السنتين الماضيتين. وهم ليسوا سواء فالتعصب الشديد مازال يسيطر على البعض بينما تخلص بعضهم الآخر من موروثات الاستعمار والحقد والتعصب.
وفي المؤتمر الدولي الثاني حول المنهجية الغربية في دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية حول العالم العربي وتركيا الذي عقد في الفترة من 2-6 مايو 1996 في تونس ونظمته مؤسسة التميمي للمعلومات والبحث العلمي بالتعاون مع مؤسسة كونراد اديناور الألمانية ، قدمت بحثاً حول التعاون العلمي بين العالم العربي وتركيا والغرب بين الواقع والمثال أوضحت فيه استئثار المتغربين والعلمانيين واليساريين ( السابقين ، والحاليين) بمناصب التدريس ومنح البحث العلمي في الجامعات الغربية ، واحتفاء هذه الجامعات بهم إلى درجة لافتة للانتباه. فقد دعت جامعة برنستون أحد المتخصصين في علم الاجتماع من تونس وهو عبد القادر الزغل ومعروف عنه اتجاهه اليساري ، ولمّا كان لا يجيد اللغة الإنجليزية فقد أعطته عدة أشهر لتقوية لغته الإنجليزية كما ساعدته في الحصول على المراجع المناسبة باللغة الإنجليزية للمادة التي سيقوم بتدريسها. وأعتقد أنه كان بإمكانهم أن يجدوا بديلاً جاهزاً لو أرادوا ولكنهم يصرون على نمط معين من العالم العربي الإسلامي لتنفير الطلاب الأمريكان من الإسلام. ومن الأسماء المشهورة في يساريتها وعلمانيتها وقوميتها : هشام شرابي ( خريج الكلية الأمريكية في بيروت) وهشام جعيط التونسي ، وفؤاد عجمي ، وحليم بركات ، ومحمد عبد الحي شعبان ومسعود ضاهر من لبنان.
ومن الأساتذة المسلمين الذين يعملون في الجامعات الأمريكية أذكر أولاً بعض النماذج الجيدة ومن هؤلاء :
1- خالد يحي بلانكنشب، وهو أمريكي من أصل نرويجي أسلم عام 1973 ومتخصص في التاريخ الإسلامي ومتزوج من سيدة حجازية. وبالإضافة إلى معرفته في التاريخ الإسلامي فإنه درس على العديد من المشايخ في مصر وفي مكة المكرمة في أثناء إقامته في هذين البلدين فهو على علم طيب بالشريعة الإسلامية حتى إنه يدرس في جامعة تمبل Temple بمدينة فيلادلفيا العلوم الشرعية. وقد علمت منه أنه يتلقى دروساً في الديانة اليهودية. وقد قام بترجمة بعض مجلدات تاريخ الطبري وله كتاب بعنوان ( هشام بن عبد الملك ونهاية دولة الجهاد) ، كما أنه ألقى بعض الدروس الحسنية في المغرب.(29)
2- شيرمان جاكسون ( ويسمى عبد الحكيم أيضاً) أمريكي من أصل أفريقي متخصص في الفقه المالكي ويدرس العلوم الإسلامية في قسم الأديان بجامعة انديانا ، حصل على الدرجة الجامعية (بكالوريوس) من قسم الدراسات الشرقية بجامعة بنسلفانيا عام 1982، وحصل على الماجستير من الجامعة نفسها عام 1986، وحصل على الدكتوراه كذلك من الجامعة نفسها عام 1990م.ويتقن اللغة العربية وله معرفة باللهجة السعودية والسودانية. وله معرفة باللغة الفرنسية والألمانية والفارسية. وله كتابات حول الفقه المالكي. ويقوم بالخطابة يوم الجمعة أحياناً في مسجد بلومنجتون بإنديانا.(30)(55/119)
3- تمارا صن Tama r a Sonn أستاذ مشارك للدراسات الدينية بجامعة جنوب فلوريدا بمدينة تامباTampa . حصلت على الدكتوراه في الدراسات الدينية من قسم لغات الشرق الأدنى وحضارته شعبة الدراسات الإسلامية. حصلت على الماجستير في الفلسفة من جامعة تورنتو بكندا ،وكذلك البكالوريوس في الفلسفة من جامعة سانتا كلارا. لها عدة كتب حول الإسلام وبخاصة الفكر السياسي والنظريات السياسية . وهي من الباحثات الأمريكيات اللاتي ينشدن الحقيقة والإنصاف حتى إن المجلة العربية الأمريكية للعلوم الاجتماعية اختارتها عضواً في هيئة المستشارين بالمجلة ولها عدة بحوث منشورة في المجلة نفسها. وقد شاهدت لها ندوة اشتركت فيها مع المنصّر القس كينيث كراج قدمت فيها فهماً جميلاً للإسلام كما تعرفت إلى بعض الطلاب المسلمين الذين درسوا عليها وأشادوا بموقفها من الإسلام . ولعل هذا الموقف المعتدل هو الذي جعل بعض الباحثين يتهمها بالتحيز للطلاب المسلمين.(31)
ومن النماذج التي تبذل جهوداً كبيرة في مهاجمة الإسلام ومحاولة تشويه صورة الإسلام والمسلمين في الغرب الأساتذة الآتية أسماؤهم:
1- الدكتورة رفعت حسن، باكستانية تعيش في المهجر الاختياري أو المنفى الاختياري كما قالت عن نفسها في المحاضرة الافتتاحية في المؤتمر العالمي الأول حول الإسلام والقرن الواحد والعشرين الذي عقد في لايدن، وتقوم بالتدريس في جامعة لويفيل في ولاية كنتكي الأمريكية. وقد تضمنت محاضرتها نقداً لبعض الأحاديث في صحيح البخاري ومسلم بخصوص خلق المرأة من ضلع الرجل وزعمت أن هذه الأحاديث ( الستة ) ضعيفة من حيث السند والمتن.وتعجبت في محاضرتها الافتتاحية من عدم السماح لامرأة بنقد كتاب البخاري ومسلم وبخاصة إذا لم تكن عربية. وهي من المناديات ب " تحرير المرأة " ومن الذين شاركوا في مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية.(32)
2- فؤاد عجمي : لبناني شيعي درس في الكلية الأمريكية في بيروت وهي مدرسة ثانوية ثم التحق بالجامعات الأمريكية وهو الآن رئيس قسم الشرق الأدنى بمعهد الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز بواشنطن . وهو صاحب كتاب ( أزمة العقل العربي) وقد وصفه خالد بلانكنشب بقوله :" هو "مسلم" لبناني يبدو أنه مأجور لكي يدافع عن إسرائيل، ويعمل السيد عجمي أستاذاً في جامعة جونز هوبكنز ."(33)
3-ريتشارد بوليت . r icha r d.W Bulliet مدير معهد الشرق الأوسط بجامعة كولمبيا بمدينة نيويورك. وهو متخصص في التاريخ الإسلامي وقد حصل على الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة هارفارد عام 1967م.له عدة كتابات حول الإسلام منها كتابه " الإسلام : النظرة من الخارج" عام 1993. وله العديد من النشاطات ومن ذلك قيامه بدور الراوي الشارح لسلسة تلفزيونية حول الشرق الأوسط تتكون من أربع عشرة حلقة . وله مقالات صحافية ومقالات علمية ومشاركات في بعض الموسوعات بالإضافة إلى عروض الكتب. ومن الطريف أنه بليت كاتب روائي له عدة روايات.
لقيته في مكتبه في شهر سبتمبر 1995 وأبدى نظرة معتدلة نحو قضايا الشرق الأوسط وأشار إلى أن جامعة كولمبيا تتهم بأنها تؤيد العرب والمسلمين ضد اليهود والصهاينة لوجود إدوارد سعيد فيها ولأن بعض أساتذتها يقدمون آراء معتدلة بخصوص القضايا العربية المعاصرة.
4- برنارد لويس ، متخصص في التاريخ الإسلامي حصل على درجة الدكتوراه عام 1939 والتحق بالجيش البريطاني لأداء الخدمة العسكرية ولكن أعيرت خدماته إلى وزارة الخارجية البريطانية ، وقيل إنه عمل في سلك الاستخبارات وليس في تعليم اللغة العربية للضباط كما يزعم هو. انتقل إلى الولايات المتحدة بعد فضيحة أخلاقية وطرده من جامعة لندن عام 1974. وعمل في جامعة برنستون حتى بلوغه سن التقاعد. وعمل أيضاً مديراً مشاركاً لمعهد أننبرج Annenbe r g للدراسات اليهودية ودراسات الشرق الأدنى.
كتب كثيراً وحاضر كثيراً وأشرف على الكثير من طلاب الدراسات العليا من العرب والمسلمين وكان يعاملهم معاملة جيدة ، ولكنه مع ذلك كان يحاول أن يقودهم إلى الحياة الاجتماعية التي تنافي السلوك الإسلامي. كما أن بعض البحوث التي أشرف عليها كانت تسهم في تشويه التاريخ الإسلامي كإشرافه على رسالة في التاريخ الإسلامي جعل فيها كتاب " الأغاني" مصدراً للدراسة.
ومن الأمور اللافتة للانتباه في الدراسات الإسلامية في الغرب أن بعض رؤساء أقسام الشرق الأوسط يتبنون اتجاهاً يحارب العرب والمسلمين ومن هؤلاء فدوى -ملتي دوغلاس التي كتبت عن المرأة في العالم العربي ، وقد علمت من بعض المنتسبين للقسم أنها منذ توليها رئاسة القسم وهي مهتمة بدعوة بعض رموز التيار العلماني في العالم العربي من أمثال فؤاد زكريا ومحاربة دعوة أصحاب الاتجاه الإسلامي أو المعتدلين .(55/120)
كما لاحظت وجود تعاون كبير بين الجامعات اليهودية ومراكز البحوث في إسرائيل مع المؤسسات العلمية الأمريكية والغربية عموماً فمؤسسة راند مثلاً تقدم منحة أو أكثر كل سنة لبعض الباحثين اليهود . كما أن الباحثين اليهود يقومون بزيارات مستمرة للجامعات الأمريكية للمشاركة في النشاطات الجامعية (الأكاديمية). كما تسهم مؤسسة كونراد إديناور في تمويل بعض الندوات العلمية في إسرائيل ، وهذه المؤسسة لها مكتب دائم في تونس وتمول بعض الندوات التي تعقدها مؤسسة التميمي للبحث العلمي. ومن الملاحظ أيضاً أن جامعة هارفارد تهتم بالباحثين اليهود وبعض الباحثين من الأقليات في العالم الإسلامي كدعوتها منى مكرم عبيد .وينبغي ملاحظة أن جامعة لايدن أسرعت في تقديم وظيفة أستاذ زائر لنصر حامد أبو زيد مدة سنتين في الوقت الذي يمكن أن تمتنع عن تقديم منحة بمبلغ ضئيل لباحث مسلم يمكن أن يفيد منها حقاً . ويلاحظ أن الذين يسيرون في تيار الغرب ويحاربون الإسلام ينالون من المناصب الأكاديمية ما لا يدركه أصحاب الاتجاه المتزن المعتدل. ولعل مثال فؤاد عجمي وفضل الرحمن وفدوى ملطي دوغلاس وغيرهم يدل على ذلك.
الخاتمة:
تناول هذا البحث ثلاثة محاور هي بعض المقررات التي تتم دراستها في أقسام الدراسات الإسلامية أو الشرق أوسطية في بعض الجامعات الأمريكية، وهي مجرد نموذج من الصعب الخروج بتعميمات على هذه الدراسات ولكنه جدير بالملاحظة.
كما اهتم هذا البحث بموضوع تمويل الدراسات العربية الإسلامية وقد أكد البحث وجود ارتباط وثيق بين هذه الدراسات والأهداف السياسية الغربية من خلال التمويل السخي لهذا الفرع المعرفي. ولعل قيام العرب والمسلمين بتقديم التبرعات والدعم يساعد في تعديل كفة هذه الدراسات وإزالة ما فيها من التحيز ضد العرب والمسلمين ، ولكن هذا يحتاج إلى جهود كبيرة.
أما المحور الثالث فهو تقديم نماذج من أساتذة الدراسات العربية الإسلامية في الجامعات الأمريكية مما استطاع الباحث التعرف إليه . ولعل من أهم ما أثاره هذا البحث أن كل محور منها يمكن أن يكون موضوع بحث دكتوراه أو بحث أكاديمي ميداني ، ويمكن أن يضاف محور رابع وهو نوعية الطلاب في هذا المجال فقد تعرفت إلى طالب يعمل ضابطاً في الجيش الأمريكي منتدب لدراسة الشرق الأوسط في جامعة برنستون (ومع التأثير الصهيوني فأي علم سيحصل عليه؟)
المراجع العربية:
- بلانكنشب، خالد يحي " الدراسات الإسلامية في الجامعات الأمريكية." في وقائع الندوة الأولى للدراسات الإسلامية في الجامعات الأمريكية ." معهد العلوم الإسلامية والعربية - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية . واشنطن 1994.
- السباعي ، مصطفى.الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم . ط3(دمشق : المكتب الإسلامي، 1405)
- السماري، فهد بن عبد الله " مراكز دراسات الشرق الأوسط وعنايتها بالمسلمين " بحث مطبوع على الآلة الكاتبة قدم للمؤتمر الإسلامي الثاني ( المسلمون في الغرب)، لندن 1-3 ربيع الآخر 1414.
* الشرق الأوسط، عدد 5765، 10/9/ 1994م.
* الشرق الأوسط عدد 5666، 24/12/ 1414، 3/6/ 1994م.
* صادق، يوشع " تدريس العلوم العربية بالجامعات الأمريكية ." المنشور في وقائع الندوة الأولى للدراسات الإسلامية والعربية في الجامعات الأمريكية. مرجع سابق.
* المجتمع (الكويت) عدد 743 في 14 ربيع الأول 1406 ، 26 نوفمبر 1985 ص- ص 28-32.
- ريشتارد ب. ميتشل. الإخوان المسلمون . ترجمة محمود أبو السعود، تعليق صالح أبو رقيق. (بدون ناشر، 1979).
المراجع الأجنبية:
-Be r ge r , Mo r oe. " Middle East and No r th Af r ican Studies: Development & Needs" In Middle Easte r n Studies Bulletin. Vol. 1, No. 2,Novembe r 15, 1967.
- Blankenship, Khalid Y. Cu r riculum Vitae by himself.
- B r own, L.C. Inte r national and the Middle East: old Games, Dange r ous Game. (P r inceton: P r inceton Unive r sity P r ess, 1984).
-Cente r fo r Middle Easte r n Studies Calenda r , Volume 14,No.2, Octobe r 15,1996 and Volume 14,No.4, Novembe r 15,1996.
- Buillit, r icha r d . Cu r riculum Vitae by himself
- Gilsenan, Michael. r ecognizing Islam: صلى الله عليه وسلم eligion and Society in the Mode r n A r ab Wo r ld. (New Yo r k: Pantheon House) 1982 pp.7-8.
- Halpe r n, Manf r ed. The Politics of Social Change in the Middle East and No r th Af r ica (P r inceton: P r inceton Unive r sity P r ess, 1963).
* Hassan, r ifat. " What does it mean to be a Muslim on the Eve of the 21st Centu r y" The opening lectu r e at the Fi r st Inte r national Confe r ence on Islam and The 21st centu r y.
* Jackson, She r man. Cu r riculum Vitae by himself.
- Joffe, Geo r ge (Ed), Mo r occo and Eu r ope. (London Cent r e of Nea r and Middle Easte r n Studies, Septembe r 1989) P r eface page.
- Lewis, Be r na r d. " The State of Middle Easte r n Studies" in The Ame r ican Schola صلى الله عليه وسلم " vol. 48, Summe r 1979, Pp 365-382.(55/121)
- =. Political Language of Islam. (Chicago and London: The Unive r sity of Chicago P r ess, 1988) p vii.
- Middle East Events in London, Decembe r 1996/ Janua r y 1997.
* = Novembe r 1996.
* Said, Edwa r d. Cove r ing Islam. (London: صلى الله عليه وسلم outledge & Kegan Paul.1981)
* Sonn Tama r a. Cu r riculum Vitae by Sonn he r self.
================(55/122)
(55/123)
نحن والكافرون
إن أمّتنا تعيش مرحلةً جديدة في تاريخها... في هذه المرحلة الحرجة تقع أمّتُنا وعقائدُها تحت ضغوط رهيبة، تكاد تجتثّها من أساسها، لولا قوّةُ دينها وتأييدُ ربّها عز وجل.
ومن هذه العقائد التي وُجّهت إليها سهامُ الأعداء ، وانجرَّ وراءهم بعضُ البُسطاء ، واندفع خلفهم غُلاةٌ وجُفاة ، وبالغ في تصويرها محبي الشهرة والبروز : عقيدةُ الولاء والبراء ...
زاد الأمر خطورةً، عندما غلا بعضُ المسلمين في هذا المعتقد إفراطاً أو تفريطاً. وأصبح هذا المعتقدُ مَحَلَّ اتّهام، وأُلْصِقَتْ به كثيرٌ من الفظائع والاعتداءات ...
نحن المسلمون.. أصحابُ دين ومنهج، ربنا وخالقنا هو الله ..
ونبينا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم ..
نحن المسلمون .. أصحاب عقيدة صافية تدكدك كل معلم أو إشارة تنبئ عن الميول والروغان عنها.
نحن المسلمون ..لا ينقطع بنا الدرب ، ولا يفوتنا الركب ، ولا تنهار بنا القوى ، ولا تيبس لدينا أوراق الهدى ...
نحن المسلمون ..أنصار الدعوة إلى السنة والعقيدة الصحيحة مهما علا صوت الباطل ، ومهما ظهرت نواقيس العداء..
نحن المسلمون .. خرج منا علماء ربانيين، أناروا طريق السالكين، وأرشدوا كل التائهين، وهدوا كل الحائرين، وتميز في صفنا علماء جهابذة في العلوم الطبيعية والعلوم التقنية وفي العلوم الأخرى.
نحن المسلمون.. رزقنا الله بالتوحيد الخالص الذي نور الله به كلِّ أفقٍ وبقعة في في هذه الديار ،فازدهرت الأرض به بعد قحْط، وارتوت به بعد ظمأٍ وهلكة ، وأنقذ الله به عباده من ظلمات الجهل والشرك والتذلل لغيره سبحانه . وكان ذلك على يد الإمام المجاهد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، يعاونه على ذلك ويشد أزره الإمام محمد بن سعود رحمه الله تعالى ...
نحن المسلمون.. أصحاب لا إله إلا الله ، نرجوا بها السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ... نحن المسلمون.. مصابون بدعاةٍ من بني جلدتنا يهاجموننا ويغزوننا في الصميم ، ويتعرفون على نقاط الضعف فينا حتى يؤصلوا في مجتمعاتنا الولاء للكافرين والبراء من الصالحين.
ونحن.. واجبٌ علينا أن تقدِّرَ لهذا التحدي قَدْرَه، وأنْ نعرف أنّ اليومَ يومٌ له ما وراءه ، وأننا نواجه حَرْبَ استئصالٍ حقيقيّة لعقيدة الولاء والبراء ...
نحن المسلمون.. لا يخفى علينا أن (الولاء والبراء) محطّ إجماع بين جميع أهل القبلة، بل هو معتقدٌ لا يخلو منه أتباعُ كل دين أو مذهب ...
وعلى هذا فالولاء شرعاً، هو : حُبُّ الله تعالى ورسوله ودين الإسلام وأتباعِه المسلمين ، ونُصْرةُ الله تعالى ورسولِه ودينِ الإسلام وأتباعِه المسلمين ...
والبراء هو : بُغْضُ الطواغيت التي تُعبَدُ من دون الله تعالى (من الأصنام الماديّة والمعنويّة : كالأهواء والآراء)، وبُغْضُ الكفر (بجميع ملله) وأتباعِه الكافرين، ومعاداة ذلك كُلِّه ...
هذا هو معنى الولاء والبراء في الإسلام ...
فهو معتقدٌ قلبيٌّ ، لابُدّ من ظهور أثره على الجوارح ، كباقي العقائد ، التي لا يصح تصوُّر استقرارها في القلب دون أن تظهر على جوارح مُعتقِدِه ...
وعلى قَدْر قوّة استقرارها في القلب وثبوتها تزداد دلائل ذلك في أفعال العبد الظاهرة ...
وعلى قَدْرِ ضعف استقرارها تنقص دلائلها في أفعال العبد الظاهرة. فإذا زال هذا المعتقد من القلب بالكلية، زال معه الإيمانُ كُلّه ...
يقول فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء : (فمن أصولِ العقيدةِ الإسلاميةِ أنَّه يَجبُ على كلِ مسلمٍ يَدينُ بهذه العقيدةِ أنْ يوالىَ أهلهَا ويعادىَ أعداءَها فيحبُ أهلَ التوحيدِ والإخلاصِ ويواليهِم، ويُبغِضُ أهلَ الإشراكِ ويعاديهِم، وذلك من ملةِ إبراهيمَ والذين معه،الذين أُمِرْنَا بالاقتداءِ بهم،حيث يقولُ سبحانه وتعالى: ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)) (الممتحنة:4).
وهو منْ دينِ محمدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ.قال تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )). (المائدة:51).
وهذه في تحريمِ موالاةِ أهلِ الكتابِ خصوصاً وقال في تحريمِ موالاةِ الكفارِ عموماً: (( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) (الممتحنة:1) .
بل لقد حرَّم على المؤمنِ موالاةَ الكفارِ ولو كانوا من أقربِ الناسِ إليه نَسَباً،قال تعالى: (( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ)) (التوبة:23).(55/124)
وقال تعالى: (( لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ )). (المجادلة:22) انتهى كلامه حفظه الله ...
وأقرأ هذه الآيات التي تُنبِّهُ بمطالبة المؤمنين بعدم موالاة اليهود والنصارى ، وذلك لأن اليهود لا يوالون إلا اليهود، وأن النصارى لا يوالون إلا النصارى ، وأنهم جميعاً يتبرأون من المسلمين ...
قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )) (آل عمران : 116-120).
وقد يشكك المرجفون بأن عقيدة الولاء والبراء تمثل العنف وتمثل الصورة المشوهة للإسلام ... ولا شك في أنها إحدى أُسُس الدين الإسلامي العظام وهذا يعني أنّها لابُدّ أن تصطبغ بصبغة الإسلام الكبرى، وهي الوسطيّةُ والسماحة والرحمة .
فقد قال الله تعالى عن نبيّ صلى الله عليه وسلم : ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)) (الأنبياء : 107) .
(فالولاء والبراء) مادام أنه من الإسلام ، فهو وَسطٌ وسَمْحٌ ورحمة. لايشك في هذه النتيجة مسلم ، ولا غير مسلم : إذا كان منصفاً .
ومع ذلك فلا بُدّ من بيان عدم تعارض معتقد (الولاء والبراء) مع مبادئ الوسطيّة والسماحة والرحمة ، وذلك يظهر من خلال تعامل الرسو صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع الكفار ...
وهذا مثال على سماحة منهج الرسو صلى الله عليه وسلم وعلى عدم تعارض معاملته في عقيدة الولاء والبراء ...
عن أبي رافع رضي الله عنه (وكان قبطيًّا) قال : ((بعثتني قريشٌ إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فلما رأيت رسول ا صلى الله عليه وسلم أُلقيَ في قلبي الإسلام ، فقلت : يا رسول الله ، إني والله لا أرجع إليهم أبد ... وهذا يدل على حسن تعامل الرسو صلى الله عليه وسلم )).
وهذا مثال آخر ...
أن الرسو صلى الله عليه وسلم قال : (( من قَتَل معاهَدًا لم يَرَحْ رائحةَ الجنة ، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً ))[1].
وقال صلى الله عليه وسلم (( أيُّما رجلٍ أمِنَ رجلاً على دمه ثم قتله ، فأنا من القاتل بريء ، وإن كان المقتولُ كافراً ))[2].
(( ولمّا أهدى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه حُلّةً ذاتِ قيمة، أهداها عمر رضي الله عنه أخًا له بمكة كان مشركاً ))[3].
قال تعالى : ((لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)).
وبيان عدم تعارض تلك الآداب مع (الولاء والبراء) : أن تلك الآداب إذا أردنا أن تكون شرعيّةً محبوبةً لله تعالى ، فيجب أن نلتزم بها ... طاعةً لأمر الله تعالى وأمر رسول صلى الله عليه وسلم ، مع بُغض الكفار لكفرهم، ومع عدم نُصرة غير المسلمين على المسلمين ؛ فنحن نلتزم بتلك الآداب لا حُبًّا للكفار، ولكن إقامةً للعدل والإحسان الذي أُمرنا به .
فهل يعقل أولئك الذين لا يفقهون في دين الله عز وجل ؟!!
ولو عقل أولئك كتاب الله وسنته كما عقلو..العلمانية ..والليبرالية والديموقراطية.. لسلمت أمة الإسلام من حقارة أفكارهم ودناءة فهمهم للكتاب والسنة..
فمما يجب علينا نحن المسلمون تجاه تيارات الإفساد التي تنفث تذويب هذه العقيدة مع إظهار اللباقة والسماحة في أساليبهم ما يلي :
* وجوب ترسيخ معتقد (الولاء والبراء) بين المسلمين على الوجه الأكمل ؛ لأنه بغيره لن يبقى للمسلمين باقية ، فهو سياجُ أمانهم من الذوبان في الأديان والعقائد الأخرى ...
* وجوب تفقيه المسلمين بحقيقة (الولاء والبراء)، وأنه لا يُعارضُ آدابَ التعامل بالرفق واللطف (المنضبطَين بالضابط الشرعي) مع غير المسلمين ...
* ضرورةُ التأكيد على عدم تعارض (الولاء والبراء) مع سماحة الإسلام ورحمته ووسطيّته ، ونَشْرُ ذلك في وسائل الإعلام المختلفة...
[1] رواه البخاري .(55/125)
[2] رواه البخاري وأحمد.
[3] رواه البخاري.
=============(55/126)
(55/127)
شعب اختار فعوقب على اختياره
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أكاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام
ألتمس أن يفتح المجال للراغبين بتقديم العون للإنسان الفلسطيني الأعزل من كل مقومات الحياة. آمل أن يفسح لنا المجال لمساندة الحكومة في هذا التوجه. آمل أن نتمكن من إعلان رأينا كشعوب في ممارسات عدوانية ضد شعب اختار فعوقب على اختياره...
بأبجدية السياسة الغربية وصلت (حماس) للحكم. هكذا أراد الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية. وهكذا كان، فالأغلبية هي من أمسكت بزمام الأمور في الانتخابات الفلسطينية الأخيرة، وهي بعد المولى سبحانه من أجلست(حماس) على كرسي الحكومة.
واليوم نتابع الصور وهي تتدحرج، فمن نادى بالديموقراطية بالأمس القريب يرفضها اليوم، ومن بذل الكثير لتدعيم الفكر الديموقراطي في عالمنا استشاط غضبا من نتائجه فحاربه علنا وعمد لتجييش الجيوش لمحاربته. وكيف لا يكون موقفهم هكذا؟، فما حدث مع الحكومة الفلسطينية حدث في مصر وإيران، وما نادت به الجموع الإسلامية والعربية مخالف تماما للحسابات الغربية المتيمة بالازدواجية.
وبالتالي كان طبيعيا أن نسمع أصواتاً صهيونية ترفض سياسة الولايات المتحدة الأمريكية وتوجهها لدعم الفكر الديموقراطي في الشرق الأوسط، كان من الطبيعي أن يتراجع مؤتمر لجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك) لعام 2006م عن دعمه لفكرة نشر الديموقراطية في العالم العربي، الفكرة التي روج لها في الأصل المحافظون الجدد في الحكومة الأمريكية بغرض مساندة العلمانيين الموالين لإسرائيل والدفع بهم لسدة الحكم في الدول الإسلامية.
حصار.. تجويع.. إذلال.. إبادة جماعية، هذا ما اتفق عليه المجتمع الديموقراطي العالمي، مجتمع ادعى زورا وبهتانا أنه الممثل لحقوق الإنسان، مجتمع اتفق على أن معاقبة الشعب على اختياره الحر أمر لا بد منه، فقد اتضح لدعاة الحرية أن الشعوب الشرق أوسطية وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، شعوب قاصرة فاقدة الأهلية وبحاجة إلى من يعيد تأهيلها وتحديد أولوياتها، ألم يصوت الإنسان الفلسطيني كما صوت المصري والإيراني لمن يخالفها الرأي.
هذا الحصار وتلك الإبادة الجماعية دعمت على يد مؤسسات عالمية يفترض أنها حيادية المنحى، فالبنك الدولي الذي يلعب دورا استراتيجيا في توزيع المساعدات للسلطة الفلسطينية قيد اتصالاته مع الحكومة الفلسطينية الجديدة، ويؤكد بعض المسؤولين في هذا البنك -حرصوا على إخفاء أسمائهم- أن هذا الموقف سيستمر إلى أن يقرر (بول وولفوفيتز) رئيس البنك غير ذلك، و(وولفوفيتز) هذا وللتذكير ليس إلا مهندس الحرب على العراق، عرف بدعمه غير المشروط لتطلعات السياسة الصهيونية الإجرامية، وهو من أثير حول قدراته ومؤهلاته تساؤلات جمة إثر إعلان (جورج بوش) ترشيحه لمنصب رئيس البنك الدولي الذي يفترض أن يولي اهتمامه في المقام الأول لمكافحة الفقر وتدعيم التنمية في دول العالم الثالث، و(وولفوفيتز) هذا من قال عنه مستشار الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الفقر (جيفري ساش): (ليست لديه أية خبرة في مجال تنمية الدول...) موضحا الأهمية العالمية لمنصب رئيس البنك الدولي بقوله إنه: (منصب يعتمد عليه ملايين الأشخاص ليحيوا، لذا نحن بحاجة إلى مسؤول يتمتع بالاحترافية).(55/128)
ولكن المضحك المبكي فيما يتعرض له الشعب الفلسطيني من حصار عالمي جراء اختياره لحماس، كان قراراً ورد على لسان الرجل الثاني في منظمة الأمم المتحدة بعد كوفي عنان، إذ منع من خلاله جميع موظفي الوكالة الدولية إجراء أي لقاءات مع الحكومة الفلسطينية الجديدة، هذا القرار لازم خروجه خروج تقارير كشفت عنها منظمات الأمم المتحدة في القدس المحتلة في اجتماعها مساء الثلاثاء 11/4 / 2006م، والخاص ببيان حجم التدهور الذي قد يصيب الوضع الإنساني الفلسطيني نتيجة لوقف الدول المانحة مساعداتها للسلطة وللشعب الفلسطيني والذي جاء فيه: (اليوم نشهد تضعضع الوضع الإنساني في الأرض الفلسطينية المحتلة بعد فوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي، وفي الوقت ذاته قام عدد من الدول المانحة الغربية بمراجعة تمويلها لدعم السلطة الفلسطينية)، كما أشارت إلى أن: (من الأسباب الرئيسية خلف هذه الأوضاع غير الإنسانية ما يكمن في سياسة المحتل الصهيوني، مبينة أن السبب الرئيسي للأزمة الإنسانية الفلسطينية الآخذة بالتصاعد هو في الأساس يعود لقيام قوات الاحتلال الصهيوني بتقييد حرية تنقل الفلسطينيين، إضافة للعمليات العسكرية العدوانية الصهيونية المتكررة ومصادرة الأراضي وهدم البيوت وبناء الجدار الفاصل في الضفة الغربية كما تؤكد هذه المنظمات أن عدم دفع رواتب الموظفين سيؤدي إلى ارتفاع حاد بنسبة الفقر، وإلى تدهور الوضع الأمني مما يؤدي في النتيجة إلى رفع مستوى الجريمة.. وأن العنف قد يمتد إلى الكيان الصهيوني وقد يصيب في نهاية المطاف الإسرائيليين). كما صرحت بأن: (ضعف السلطة الفلسطينية قد يؤدي إلى ارتفاع في نسبة الوفيات.. كنتيجة مباشرة لانهيار الخدمات العامة مثل مياه المجاري والصرف الصحي، لافتة إلى أن هناك أيضا الخطر الذي يهدد حياة آلاف الفلسطينيين الذي سينتج عن زيادة وارتفاع في تفشي الأمراض وسوء التغذية).
وبعد هذا ألا يحق للعالم التشكيك في حيادية هذه المنظمة؟. فتقارير القدس المشار إليها المبنية على أرض الواقع تتناقض جملة وتفصيلا مع محتوى تعليمات من يملكون إصدار القرار فيها.
ومن هذه المساحة الإعلامية ألتمس أن يفتح المجال للراغبين بتقديم العون للإنسان الفلسطيني الأعزل من كل مقومات الحياة. آمل أن يفسح لنا المجال لمساندة الحكومة في هذا التوجه. آمل أن نتمكن من إعلان رأينا كشعوب في ممارسات عدوانية ضد شعب اختار فعوقب على اختياره.
==============(55/129)
(55/130)
واقع المستغربين :أجساد مغلفة بالوطنية وقلوب تنضح بالقيم الغربية
إبراهيم الحارثي
لا يسعني في هذا المقام إلا الدعاء للمفكر الكبير المسلم المعتز بدينه والشامخ بايمانه (( سيد قطب )) رحمه الله .
قبل البدء أرى لزاما علي أن أنبه إلى أمرٍ عظيمٍ- بالنسبة لكل من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وب صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيا - ألا وهو عقيدة الولآء والبراء إذ بها تتمايز الصفوف وينكشف ما في القلوب من دخن ويظهر الذين في قلوبهم مرض ، وهذه العقيدة سنة فارقة بين من يحب الله ورسوله وعباده المؤمنين وبين المرجفين الذين يتربصون بالذين آمنوا الدوائر عليهم دائرة السؤ ، ولكي نتبين ما نحن بصدده آثرت التقديم بهذه العقيدة لأهميتها وملازمتها لإيمان العبد وصدق توجهه نحو ربه تعالى .
الغرب الآن يمر بمرحلة خطيرة وبمنعطف صعب المخاض ، فآثار سقوطه بادية لعقلآءه قبل أعدائه ، وعوامل الانهيار تجلت في أكثر من صورة وبوضوح أكبر لكل ذي عينين ، ولعلّ أكثرها تميزا ذلك الظلم السافر الذي حذر منه القرآن الكريم ونفاه عن نفسه العظيمة رب العالمين ، وما مارسته أمة من الأمم إلا كانت نتائجه عليها وخيمة وعواقبه من ثم جسيمة . إضافة إلى عوامل كثيرة يصعب علينا في هذا المقام حصرها منها على سبيل المثال لا الحصر التفلت الأخلاقي والتفكك الاجتماعي والمخدرات التي تنهش في أبنائه وشبابه والإجهاض بين الفتيات الذي بلغ مبلغا عظيما ينذر بكارثة بشرية في تلك المجتمعات .
ورغم ما ذكرنا آنفاً من ضياع هذه المجتمعات وسقوطها دينياً وأخلاقيا وتفككها اجتماعيا إلا أنه يوجد من أبناء جلدتنا- وللأسف - وممن يتزيا بزينا الوطني ومن قلوبهم تتجه باتجاه الغرب من لا هم له إلا الرضاع من لبان ذلك الغرب والنهل من موارده الصدئة النتنة ، برغم علمهم أن الغرب قد أفلس قيمياً وحضارياً ولم يعد يتميز به إلا تصدير التقنية والآلة الحديثة وهذه الأخيرة نافسته فيها بعض البلدان الآسيوية كاليابان والصين وكوريا ، وأما تشدقه أي الغرب - بالديموقراطية فقد فضحهم الله على رؤوس الأشهاد حينما قال فرعونهم من ليس معنا فهو ضدنا ، فأين مبدأ الديموقراطية من معتقل جوانتناموا ومن سجن بوكا وسجن أبي غريب الذي جرّ على ديموقراطيتهم الخزي والعار والشنار .
لا أدري حقيقة هل (( فخخت )) رؤوس أذيال الغرب وأتباعه بحيث تجد أنهم بدأوا يتنادون بإصلاحات الغرب المزعومة والمكذوبة وهم إنما يريدون بذلك نسخ القيم الغربية بما تحمله من ضياع وتشتت وهدمٍ للقيم الإسلامية ومحاربة للشعائر الدينية ، ومن ثم إلصاقها في واقعنا الإسلامي وإحلالها محل قيمنا وثوابتنا ، والهجمات الأخيرة والشرسة تبين مدى ولآء هؤولآء القوم للغرب ومدى تبعيتهم له وصدق الرسو صلى الله عليه وسلم حينما بين (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه ..... الحديث )).
فطابور الغر ب يريدون منا التخلي عن قيمنا وثوابتنا زاعمين أن ذلك هو مبعث الحضارة والتقدم ، وتناسى هؤولآء القوم أن في الغرب ومن بداخله من ينادي بعكس قيمه ويصيح في قومه محذرا ومنذرا ، ومن هؤولآء تيار المحافظين الذين ينادون باحترام الشعائر الدينية التي تخصهم بالطبع وإلا فهم مجتمعون على حرب الاسلام ، وينادون بالقيم الأسرية واحترام النواحي الاجتماعية ومحاربة التفسخ والهجوم على مدن الخلاعة كنوادي العراة وسينما هوليوود ، هؤولآء منهم وفيهم ويفندون كذب وزعم النظم الغربية ويريدون تغييرها بما يخفف من عملية السقوط والانهيار .
وقد يتسائل متسائل ما المخرج من هذه الفتن المدلهمة وكيف التعامل مع هؤولآء المستغربين والإجابة تحتاج إلى بيان وتبيين ولكن الكفاية هي في تمسكنا بثوابتنا وعضنا على ديننا وإعلان شعائرنا أمام الناس أجمعين والدعوة إلى الله تعالى بكل ما أوتينا من مال ووقتٍ وجهد لأن هذا الدين وإيصاله إلى الآخرين أمانة في أعناقنا كل على قدر إيمانه وطاقته .
ولا بد أن نثق أنه مهما طال الطريق واشتدت ظلمة الليل فلا بدّ من انبلاج للفجر ولو بعد حين .
فان مع العسر يسرا
ومع الصبر الفرج
وسيكون أمثال هؤولآء المستغربين عبرة في التاريخ كما كان المنافقين من أمثال أبي سلول عليه لعائن رب العالمين .
فالصبر الصبر والاحتساب الاحتساب والله ولي التوفيق
===============(55/131)
(55/132)
ديكتامقراطية أم ديكتاتوراتية
د.محمد إياد العكاري
تحيّرت في عنوان مقالتي هذه وماذا يصلح لها من تسميةٍ لأصف به عالمنا الذي نعيش فيه اليوم وواقعنا المعاصر الذي نحياه بكل ما فيه، بمصائبه ودواهيه، وآلامه و مآسيه وماذا أسميه ديكتامقراطية أم ديكتاتوراتية؟!
وكنت كتبت عنواناً لهذه المقالة قبلُ ولكنِّي أحجمت عنه، ليس رهبةً منه، وإنما لأسبر حقائق الأمور، متعرضاً لها بين السُّطور وآثرت الإبقاء على هذين العنوانين وتركت لكم حرية الاختيار في زمن الديمقراطية!! وعصر العولمة؟! وشعارات حقوق الإنسان!!..
أجل تركت لكم ذلك في زمانٍ يستطيع الإنسان أن يقولَ ما فيه بملء شِدْقيَْه، و أن ينقد حاله ببطنه وخُفَّيْه، وإن أحسن فبظهره وجنْبيْه، ولا تعجب من مقالي، ولا حُكمي ولا سؤالي طالباً منك أن تتأمَّلَ حالنا بعينٍ بصيرةٍ، وأن تحكمَ فيه بنور البصيرة.
فماذا أقول في هذا العصر؟؟ وماذا أتحدث عن أحواله؟؟وما هو لونه ووصفه؟؟ وكيف هو سَمْتُهُ ورَسْمُهُ؟
هذا العصر الذي بلغ التَّقدم العلمي أوجَه، وبلغت فيه وسائل الاتصال سقفَ مداها، وتقاربت فيه عقارب الزمان، وتجاور فيه المكان مع المكان فأصبح العالم قريةً صغيرةً وبدل أن نستفيد من عصر العولمة باحتراز الخبرات واكتساب المهارات متعاونين باحترامٍ وتقديرٍ متبادل بين الأمم والشعوب للإحاطة ببحور المعلومات بغية اللحاق بركب الحضارات كان الأمر علينا عكس ذلك عواصف دهماء تجثم فوقنا كالجبال حيث هبت علينا رياح العولمة من الغرب عاتيةً هوجاء ومن القطب الأوحد تحديداً فاندفعت بقوة اعلامياته وفضائياته، ناشرةً ثقافة القتل والرعب، والجريمة والاغتصاب هذا عدا عن الخراب والدمار الذي تخلفه هنا وهناك على ظهر المعمورة بغية الحفاظ على مصالحها أجل ثم ما لبث القطب الأوحد بعد أن فقد مع مطلع هذا القرن برجيه حيث كبر عليه أن يكون أجلحاً بعد أن كان أقرناً،وعظم ذلك في نفسه، ففقد عقله وحسَّه ، وأضاع حلمه ولبَّه ،فأضحى ينطح برجليه، ويركل بيديه، ويضرب برأسه، مرسلاً حمم نيرانه، وقذائف صواريخه، وجحيم قاذفاته إلى بلاد الإسلام تحمل الخراب والدمار بدل الأمن والسَّلام أجل هذا ما رأينا مع مطلع هذا القرن وما تجسده لنا الأحداث التي نراها صباح مساء، ليل نهار.
لقد غزانا عصر العولمة عبر الفضائيات قبل الحراب بشعاراته البراقة التي نادى بها قطبه الأوحد وما أحلاها من شعارات وما أجملها من مسميات ما لبثت أن تحولت إلى بربريات وهمجيات في زمانٍ تتسارع فيه الأنفاس خشية الريبة والحرَّاس، وتذوب فيه القلوب مما تلاقيه في دنياها من خطوب.
لقد جاء القطب الأوحد يدندن بالعولمة ويتشدّق بالديمقراطية وينادي بحقوق الإنسان ويدعي حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها.
آهٍ آهٍ الديمقراطية ما أحلاها من كلمة وما أعظمها من مدلول ولكن ليس لها من رصيد الواقع شيء.
إنها تعريب Democ r acy وهو حكم الشعب لنفسه أو حكم الأكثرية حيث يتساوى الناس في الحياة السياسية انتخاباً وترشيحاً ونرى فيه تكافئ الفرص واقعاً محسوساً في حياة الناس فيبرز الأصلح ويتقدَّم الأفضل، ويعلو الخير، وتلقى البر ولا شك أن هذا مطلب الأحرار.
هذا ما سمعناه في كلامهم قبل، أما ما رأيناه بفعالهم فلا حول ولا قوة إلا بالله فقد رأينا والله عجبا...ً ولاقيناه شرراً وحطبا...ً فتذوقناه ناراً ولهباً... في أغلب عالمنا الإسلامي ناهيك عن العالم كلِّه والعراق أكبر شاهدٍ حيٍ على همجيَّة القطب الأوحد وبربريته في عصرنا هذا ..
هذا البلد الذي ضمَّ إلى صدره أقدم حضارةٍ عرفتها البشرية وهي حضارة ما بين النهرين التي عرفنا منها شريعة حمورابي وشاهدنا فيها حدائق بابل المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع.
هذا العراق الذي ضمَّ بين دفتيه دجلة والفرات، أرضه سوادٌ من خضرتها، وتاريخه عراقةٌ من أصالتها ،والرُّؤى شموخٌ في حضرتها هذا فوق الأرض أمَّا ما حوته تحت الأرض فالذَّهب الأسود النفط الذي يسيل له لعاب الغرب حيث تشكل ثاني أكبر احتياطي في العالم ثم ماذا ؟!
لقد فقدت الحياة معناها بعد الذي جرى في العراق من أحداث، ليجلبوا له ديمقراطيتهم ،ويحلبوا له عولمتهم فضاع الأمن، وفقد الأمان، وهُدِّمت البلاد، وشُرِّد العباد !!
لقد ادّعوا أنهم ما جاؤوا إلالينشروا الديمقراطية بين أهل العراق وإزالة مظاهر الطغيان فأين العراق اليوم؟؟
أين الديموقراطية التي يتشدَّقون بها؟؟ وأين حقوق الإنسان التي يتحدثون باسمها ؟؟
إنَّها تلعنهم صباح مساء من نفاقهم ،وتشتمهم ليل نهار من كذبهم،وتبكي ألما ًمن افترائهم ومكرهم وهم على حالهم مازالوا يعزفون على نفس الأوتار ليصدِّقهم العملاء!! ويصفق لهم السفهاء !!وينخدع بهم البلهاء من بني جلدتنا فماتشدّقوا به عن حقوق الإنسان في مطلع القرن الحادي والعشرين زاعمين أنهم أهل الديمقراطية مطالبين بحرية المرء وكرامته، وأمنه ورفاهيته جاء الواقع ليدحضه فما شاهدناه في العراق وفلسطين وغيرها من أقطار المسلمين ليشهد على كذبهم ويدلِّل على نفاقهم، ويدحض كذب دعواهم وهذا كلُّه غيضٌ من فيض.(55/133)
لقد سلبوا الحرية، وصفعوا الكرامة، واغتصبوا الأرض ،وأهانوا العرض لتعود البلاد التي حلوا بها إلى عصر الظَّلام والتَّعسُّف،والخراب والدَّمار،والفقر والتَّشريد في ظل عولمتهم البلهاء ،وشعاراتهم الجوفاء، وعباراتهم الحمقاء.
وأما ما ادعوا وتنادوا لأجله من حق الشعوب في تقرير المصير فيصلح أن نقول بدلاً عنها حق الشعوب في أكل الشعير وتحليل لحم الخنزير!!، لتصبح كالبهائم !!،وتقاد كالحمير !!،وتنام على الحصير !! وتنسى أن تقول يا مجير يا مجير !!حيث يكفيها أن تقول يا سيدي النحرير !!لترى التحرير في عصر الرَّقيق والحرير،والخمر والفراش الوثير!!لتذوق المر ،وتلعق الصَّبر، وتعيش القهر، وتبقى مطيةً أبد الدهر.
لقد أضحى القطب الأوحد أخبث متحدثٍ بالديمقراطية وأكذب ناطقٍ بحقوق الإنسان وأفجر مصوِّرٍلها ليبدو لنا السُّمُّ في نقع أنيابه ويتراءى لنا الشرُّ في خُبث مقاله، ويبدو جليَّا ًالسُّوء في سود فعاله.
لقد أضحت العولمة التي يتشدقون بها لعنةً على الشعوب وباتت سُبَّةً على أصحابها مما لا قى الشُّعوب منها فأضحت تنفر من هذه العبارات الجوفاء ،واللافتات البلهاء، مما ذاقوه وعرفوه و رأوه من استخفاف بها!! وازدراء لقيمها!!واحتقار لمطالبها !!واستهتار بحقوقها !!.
.إن ما يفعله القطب الأوحد اليوم يجسد الدكتاتورية بكل معاييرها ومفاهيمها إن كان لها معايير اللهم إلا الحكم المطلق الاستبدادي.
وأصل كلمة ديكتاتورDictato r تعني الحاكم المطلق المستبد أمَّاDictato r ship فتعني دولة على رأسها حاكم مستبد،أعود إلى عنوان مقالتي التي بين أيديكم فهل ستسغفوني وتجيبوني بماذا أسميها بعد أن أبديت لكم مرافعتي، وشرحت لكم بين سطورها حجَّتي لتختاروا بين هذين العنوانين وما يصلح لها من مسمى هل الديكتامقراطية أم الديكتاتوراتية. وكلتا الكلمتين طبعاً القسم الأول منهما الديكتا مشتقةٌ من الديكتاتورية التي تعني الحكم الاستبدادي
وأمَّا في الكلمةالأولى ال مقراطية فهي مشتقة من الديمقراطية التي يزيفون بها دعاويهم ،وينافقون بها في عباراتهم ،وينمقون بها عسفهم واستبدادهم، لتصبح الكلمةبعد ضمَّ الجزأين ديكتامقراطية ملفوظة،ً ممجوجة،ً متناقضةً في مبناها ومعناهاحسَّاً ومعنى.
وأما في الكلمة الثانية ال توراتية فنسبةً إلى التوراة الذي يدعيه اليهود لأنفسهم- وهومنهم براء-وفيهاإشارةٌ إلى أثرهم ومكرهم في واقعنا المعاصر والسعي للمشاركة في صنع القرار بما يخدم مصالحهم في كل مكان تصل إليه أيديهم علىظهر المعمورة من خلال اللوبي الصِّهيوني سيما في دهاليز البيت الأبيض ناهيك عن ابتزاز مرشحي الرئاسة الأمريكية وأجد نفسي في وصف عالمنا اليوم وبعد جمع طرفي الكلمة مع الثَّانية الديكاتوراتية.
فهذا الأخطبوط الماكر اللعين الذي يغرز بنابيه المسمومين المال والإعلام في عالمنا أجمع وليس في البيت الأبيض فحسب من خلال اللوبي الصهيوني لجليٌ للعيان وما سمعناه أخيراً من وقف بث قناة المنار الفضائية على الأراضي الفرنسية بعد السَّماح لهاليؤكد تأثير اللوبي الصهيوني و نفوذ شبكته العنكبوتية وضغوطها على الحياة السياسية و قراراتها في فرنسا من خلال نسج حبائل مؤامراتها، ونفث حمى سمومها لتبني كيانها بالهدم والمكر، والكيد والغدر ولكن رغم ذاك فإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون وإن شاء الله مكر أولئك هو يبور.
وبعدإيحائي لكم بجوابي أترك لكم حرية الاختيار بين الديكتامقراطية والديكتاتوراتية في زمن الديمقراطية والانحدار، والعولمة والانهيار، و الباطل والانكسار إذا ماتأمَّلنا الواقع وحلَّلنا أحداثه المتسارعة بنور البصيرة.
أجل والله هو الانحدار والانهيار والانكسار بإذن الله لمبادئهم قبل واقعهم، ولشعاراتهم قبل كيانهم، ولمواقفهم قبل جيوشهم رغم ما يملكون من إمكانات وطاقات
((وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون))(الشعراء227)
د.محمد إياد العكاري
4/11/1425هـ
15/12/2004م
==============(55/134)
(55/135)
أمريكا والانهيار الحضاري... حقيقة أم وهم؟!
خباب بن مروان الحمد
الحمد لله ناصر المؤمنين ، وقامع الكافرين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أمَّا بعد:
(إنَّ التاريخ ـ وبالدقة ذاتها ـ لا يكرر أبداً نفسه، ولكنه غالباً ما يوجه صفعاته، إلى أولئك الذين يتجاهلونه كلياً)
بهذا سطَّر أحد أشهر المؤرخين المعاصرين الأمريكان[بول كينيدي]مدير مركز الدراسات الأمنية الدولية بجامعة بيل ، وأستاذ التاريخ فيها"[1]"وصدق!فإنَّ أمريكا تتجاهل تاريخ الأمم السابقة التي سادت ثمَّ بادت(فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين)
ومن الجيد أن نقارن بين واقع الإدارة الأمريكية بواقع الأمم الكافرة التي تكبرت على منهج ربها وآذت عباده ، فلعل الربط بين الواقع الحاضر و تاريخ الماضي يوضِّح لنا دلالات ، ويجلي لنا أمور غامضات ، وقد أمرنا تعالى في محكم التنزيل بأن نعتبر بما وقع للمؤمنين والكافرين من قصص وأخبار حيث قال(فأخذه الله نكال الآخرة والأولى*إنَّ في ذلك لعبرة لمن يخشى)ومن هذا المنطلق فلعلي أربط بين منطق الطغاة في القرآن الكريم وأفعالهم مع المؤمنين ، بمنطق طغاة أمريكا وأفعالهم مع عباد الله كافرهم ومسلمهم ، كي يُعْلَمَ أنَّ التأريخ يعيد دورة الأيام ولكن بأسماء أخر، وأفعال تبتكر، وجرائم تحضَّر، وما أشبه الليلة بالبارحة!!
ومن جميل كلام الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:(فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمَّة ،وممن قبلها من الأمم ،وذكر في غير موضع أنَّ سنَّته في ذلك مطَّردة وعادته مستمرة ،فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنَّة الله وأيَّامه في عباده ، ودأب الأمم وعادتهم) (انظر:كتاب الجهاد لابن تيمية2/70ـ جمع الدكتور/ عبدالرحمن عميرة)
وعليه فقد أزمعت الرأي مستعيناً بالله في البحث والكتابة لتوضيح سياسات هذه الدولة ليعتبر المسلم قبل الكافر ، مستشرفاً في ذلك المستقبل الذي بدأت خيوط نوره تلمع ، وحجب ظلامه تزول وتُقْشَع ، بأنَّ مصير هذه الدولة إلى سفال ، ولو امتدت الأيام ، فحقٌ على الله ما ارتفع شيء إلا وضعه ، ولن يبقى إلا الإسلام العظيم يحكم البشرية في أرض الله .
فلن ألتفت إلى الزفَّة الإعلامية الصاخبة التي تظهر هذه الدولة بمظهر الكابوس المخيف ، والامبراطورية التي لا تقهر أو التي بدأت تعيد عهد سالفتها بريطانيا بأنها الدولة التي لا تغيب عنها الشمس ،فإنِّي موقن حتماً بأنَّنا في زمن حجب الحقائق ، وتكميم الأفواه ، وتغطية العيون ، ولن يمنعنا مانع بأن نصدح بحقنا ، ونرفع به عقيرتنا ، ما أحيانا الله ، وقد قال تعالى:(إنَّما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) ، وما دمنا أحياء نرزق ، وأقلامنا في أيدينا توثق وتطلق، فلنوضح الحقائق ، وإذا كانت العبارة الفرنسية تقول:( أعطني سطراً واحداً لأكثر الناس حرصاً ، وأنا أجد كلمة واحدة يستحق عليها الشنق)؛فإنَّ كلام خير الحاكمين يقول:(فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإياي فاتقون*ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)
ولعلي أستعرض في ثنايا هذا المقال شيئاً من الجرائم الأمريكية مقارناً مع جرائم من سبقهم من طغاة الأرض ، وفراعين الدهر، سائلاً المولى التوفيق في العرض ، والسداد في الطرح.
1ـ ادِّعاء أمريكا بأنَّها الدولة التي لن تقهر ، والتي توقف التاريخ عندها ، فلن تزول حضارتها ، ولن يفنى شبابها ،فهي باقية أبد الدهر ـ عياذاً بالله من ذلك ـ فلا مانع من التوسع والهيمنة على جميع الدول ولعلَّ أشهر من كتب في هذا العصر عن هذه النبوءة ؛ فرانسيس فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ والرجل المريض) ، فقد ألَّف كتابه محتفلاً فيه بسقوط الشيوعية واندحارها أمام الحضارة الغربية الحديثة ! فالعالم بزعمه لم يعد أمامه شيء جديد سوى هذه الحضارة الغربية وبالذات الأمريكية ، ولهذا فقد أغلق باب التاريخ ولم يعد هناك من يمسك زمامه سوى القوى الغربية وعلى رأسها أمريكا وسينتهي التاريخ عندها ولن تقوم قائمة لأي حضارة بعدها، والحقيقة أنَّ كلام فوكوياما وغيره ممن يتمنطق بذلك ، مبني على مقولة أمريكية قديمة تقول:(إنَّ أمريكا هي العالم ، والعالم هو أمريكا)ولا ريب أنَّ الرجل وقومه يعيدون كلام من سبقهم من الأمم الكافرة حين نظروا لقوتهم وجبروتهم فاستكبروا وقالوا ليس لنا نهاية ولن نزول ، حيث قال تعالى عنهم:(أولم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال)!!
تأمل خطاب(ألبرت بيفريدج)ممثِّل ولاية (إنديانا) في مجلس الشيوخ الأمريكي وهو يقول:(لقد جعل الله منَّا أساتذة العالم ! كي نتمكن من نشر النظام حيث تكون الفوضى،وجعلنا جديرين بالحكم لكي نتمكن من إدارة الشعوب البربرية الهرمة ، وبدون هذه القوة ، ستعمُّ العالم مرَّة أخرى البربرية والظلام ، وقد اختار الله الشعب الأمريكي دون سائر الأجناس كشعب مختار!!يقود العالم أخيراً إلى تجديد ذاته)"[2]"(55/136)
والشاهد من ذلك أنَّ هؤلاء القوم قد أعادوا سيرة سلفهم حين نظروا لقوتهم وجبروتهم وخيراتهم وحضاراتهم ، فافتخروا بها ، وظنَّوا أنهم بذلك أولياء الله وأحباءه ، ففي الزمن السابق قال أحدهم حين رأى أملاكه وخيراته بكل كبر وعجرفة:(ما أظنٌّ أن تبيد هذه أبداً*وما أظنُّ الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً).
لكنَّ الحق سبحانه لن يحيي إلا الحق وسيجعل الباطل غثاء زبداً زائلاً ، فلم يبق لهذا المفتخر بماله وملكه إلا حطام مامَلَكْ ، (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحداً*ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً)
2ـ اعتزاز أمريكا بأنَّها الدولة القوية والتي لن تقف أمامها أي قوة ، وفي أدبياتها أنَّ أيَّ تفكير لدولة ما تريد أنْ تتقوى أو تقف مناوئة لها ، فإنَّها ستجلب على نفسها الدمار قبل بداية الحرب بواسطة الحروب الاستباقية الوقائية . وهذا بالضبط حال فرعون ومنطقه حين خاف أن يأتي من بني إسرائيل ابن يقتله ويقضي على ملكه ، فما كان منه إلأَّ أن استحل دماء الناس وفرضها حرباً وقائية له تنجيه من ذلك القتل،وحين نمعن النظر في كلام قادة هذه الدولة المارقة ، أو بحالها العملي مع الدول المخالفة لها فسنجد ذلك واضحاً جداً ، فهاهي مادلين أولبرايت تقول في إحدى المقابلات معها في جامعة أمريكية:(في هذا الكون قوة عظمى واحدة ؛الولايات المتحدة!!)"[3]"
وهذا ستيفن إيه دوجلاس يذكِّر مجلس الشيوخ الأمريكي عام(1858)م بحقيقة المنطق الطاغوتي القائل:(من أشدُّ منَّا قوة) حيث يقول:( إنَّ أمريكا أمَّة شابة نامية ، تعج مثل خلية النحل،وكما أنَّ النحل في حاجة إلى الخلايا ليتجمع وينتج العسل ، أقول لكم:إنَّ التكاثر والتضاعف والتوسع هو قانون وجود هذه الأمة)"[4]"
ومِمَّا يصدِّق كلام (دوجلاس) السابق ذكره ويدلِّلُ على حب هؤلاء الغزاة للتوسع والسيطرة على بلاد الله ، ما قاله السيناتور هارت بنتون في القدم ، في خطاب ألقاه أمام مجلس الشيوخ عام1846م:((إنَّ قدر أمريكا الأبدي هو الغزو والتوسع ، إنَّها مثل عصا هارون[يقصد موسى]التي صارت أفعى ، ثمَّ ابتلعت كلَّ الحبال . فهكذا ستغزو أمريكا الأراضي ، وتضمُّها إليها ، أرضاً بعد أرض. ذلك هو قدرها المتجلي . أعطها الوقت ، وستجدها تبتلع ، كلَّ بضع سنوات مفازات بوسع معظم ممالك أوروبا . ذلك هو معدَّل توسعها))"[5]"
ويقول المؤرخ (ريتشارد إيميرمان):(القوَّة والأمن الأمريكيين يعتمدان بشكل أساسي على الحصول على المواد الأولية من العالم ، وبالتدخل في أسواقه الداخلية ، وبالأخص في دول العالم الثالث التي يجب أن تبقيها الولايات المتحدة تحت السيطرة الشديدة)"[6]"
وهاهو نيكسون يقول:(على أعداء الولايات المتحدة الأمريكية أن يدركوا أننا نتحول حمقى إذا ضربت مصالحنا...بحيث يصعب التنبؤ بما قد نقوم به مما لدينا من قوة تدميرية غير تقليدية ، وعندها سوف ينحنون خوفاً منَّا)ويقول وزير الخارجية كولن باول بعد ضربة سبتمبر:(نحن الآن القوة الأعظم ، نحن الآن اللاعب الرئيس على المسرح الدولي ، وكل ما يجب علينا أن نفكر به الآن هو مسؤوليتنا عن العالم بأسره، ومصالحنا التي تشمل العالم كلَّه)"[7]"
بل سبقه بذلك بوش الأب حينما ألقى خطاباً عقب انتصار الحلفاء على العراق في حرب الخليج الثانية في إحدى القواعد العسكرية 13/4/1991م حيث يقول:(إنَّ النظام العالمي الجديد لا يعني تنازلاً عن سيادتنا الوطنية ، أو تخلياً عن مصالحنا ، إنَّه ينُّبؤ عن مسئولية أملتها علينا نجاحاتنا) ثمَّ صرَّح في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة 23/9/1991م(بأنَّ أمريكا ستقود العالم)"[8]"
وبعد هذه الكلمات فهل يشكُّ أحد في مشابهة منطق الأمريكان بمنطق الطغاة الغابرين (ذرية بعضها من بعض)، فإنَّهم اعتقدوا مقتنعين أنَّهم رب الكون ومسَيِّري أحداثه ـ تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علواً كبيراً ـ ولهذا من يقرأ كلام نيكسون حين قال:(نحن نقبض على ناصية المستقبل بأيدينا)"[9]"يوقن يقيناً بأنَّ هذا(يتوائم مع اعتقاد الأمريكيين بأنَّ قيادتهم للعالم هي قدرهم المحتوم، الذي اختاره لهم الرب ، وباركته من أجلهم الملائكة)"[10]"
3ـ الكبر والتعالي على الرب وعلى العباد بمنطق من قال:(أناربكم الأعلى)ومن قال:(ما علمت لكم من إله غيري)ومن قال (ما أريكم إلَّا ما أرى وما أهديكم إلَّا سبيل الرشاد)، يقول أحد كبراءهم وهو متحدث باسم البيت الأبيض في حرب الخليج:(جئنا نصحح خطأ الرب الذي جعل البترول في أرض العرب)، وهذا بوش يخاطب الرئيس الباكستاني برويز مشرَّف بمنطق القوة والتهديد ليركع له وينحني:(أمامك خياران إمَّا أن تدخل في حلف أمريكا ضد الإرهاب،وإمَّا أن نعيد باكستان للعصر الحجري)وحقاً إنَّها سياسة من لا يفتح مجال الحوار والأخذ والرد ، وهي القاسم المشترك الذي جمع طواغيت الأرض على كرسي التجبُّر ، وسيف القهر، والكبرياء البغيضة.(55/137)
ولهذا فإنَّ الأمريكان جعلوا أنفسهم بمنزلة الرب ،واستقوا من الفكرة الثيوقراطية مبدأً ؛ بأن يُطاعوا ويُخدموا من قبل الناس وإلا فالجحيم ينتظرهم لأنَّهم مفوضون حسب ادعائهم عن الله بالحكم والقتل، وتابع معي كلاماً لنيكسون:(إنَّ محور علاقات أمريكا مع ألمانيا وأوروبا وآسيا والعالم كلِّه هو مصالح أمريكا ، وعلى العالم كلَّه أن يخدم مصالح أمريكا)"[11]"
4ـ القتل والتدمير واستحلال دماء الشعوب ، وهو حال فرعون (إنَّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نسائهم)،وهذا حين لم تنتشر دعوة الله في الأرض فكان فرعون يقتل الأبناء ثمَّ حين وجد بعضاً من النساء يشهدن بأنه طاغوت وأن الرب هو الله جلَّ جلاله وليس فرعون فما كان منه إلَّا أن مكر بسيدتنا آسية وقتلها بكل وحشية وإجرام ـ رضي الله عنها وأرضاها ـ ولا شكَّ أنَّ أمريكا كانت كذلك ، فكم من رجلٍ كبيرٍ أو امرأةٍ مسنةٍ أو طفل ٍصغيرٍ استخدمت أمريكا في حق إنسانيتهم وسائل البطش والإجرام،ولم يكن ذلك في حقِّ المسلمين فحسب، بل إنَّ إخوانهم في الكفر لم يسلموا من أذاهم وشرهم ، وكانت خطاباتهم فيها صراحة واضحة بحبِّ سفك الدماء ، والإفساد في الأرض، وخير شاهد على ذلك ما قاله الجنرال الأمريكي سميث الذي كُلِّف بتحطيم الحركة الفلبينية مصدراً أوامره لقواته:(إنني لا أريد أسرى...أريدكم أن تحرقوا وتقتلوا وكلَّما زدتم في الحرق والقتل كلَّما جلبتم السرور إلى قلبي)"[12]"، وكذلك فنحن لا ننسى مذبحة الهنود الحمر في أمريكا والتي قال عنها المؤرخ الأمريكي ديفيد ستارند:(إنَّها أكبر مذبحة جماعية في العالم)، وما خبر مذابح فيتنام عنَّا ببعيد، وهذا كلَّه في حق الكفار فما البال بألد أعدائهم المسلمين ،فلم يكن لهم قرار في أرض من بلاد المسلمين إلا وعاثوا فيها الفساد، وأبادوا فيها العباد سواء بطرق مباشرة أو بتوكيل غيرهم على المسلمين أو بالدعم المادي والعسكري والمعنوي ولن أعدَّ البلاد الإسلامية التي أفسدت في حقها أمريكا فإنَّ هذا في عقلية المسلم أمر معلوم ، ثمَّ إنه أمر يصعب حصره في مقال ، فجميع بلاد الإسلام تأذَّت من سياسات هذه الدولة.
أمَّا عن الشعب الأمريكي فقد ربَّاه أسياده على حب الجريمة ، وحببت إليه وقائعها ولهذا فلا عجب حين نجد 85 % من الشعب الأمريكي يؤيدون الحرب على بلاد أفغانستان المسلمة،وكان هذا الاستفتاء في شهر رمضان المبارك عام(1422هـ)،بل إنَّ 80%من الشعب الأمريكي أيَّد بوش على حرب العراق وفقاً لاستطلاع وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون في العراق، فإذا كان شعب أغلبيته يؤيد المحرقة للعالم الإسلامي وكيِّه بنار الموت، ولا يعارض ما تقترفه سياسات دولته ، فإنَّ حكَّامهم سيمضون في مقاصل حمَّامات الدماء هنا وهناك ولن يردهم شعبهم عن ذلك ، وقد قيل لفرعون من فرعنك ؟!فقال : لم أجد من يردَّني !!ولا يستغرب حين يرى حكَّام أمريكا شعوبهم بهذه العقيدة الإجرامية تجاه الشعوب الإسلامية بأن يفعلوا بها كلَّ ما خبث وفحش ذكره من المآسي والكوارث ، ولا عجب أن يوافق مجلس الشيوخ الأمريكي على إنتاج قنابل ذرِّيَّة صغيرة يعادل كل ثلاث منها القنبلة التي ضربت هيروشيما!!
ـ لقد أعجبني حين زار الملاكم العالمي المسلم (محمد علي كلاي) مبنى التجارة العالمي ، فواجهه أحد المتطفلين قائلاً : ألا تستحي من دين ينتمي إليه ابن لادن ؟! فأجابه كلاي : ( ألا تستحي أنت من الانتماء إلى دين ينتمي إليه هتلر )"[13]"وقد أجاد كلاي فإنَّ هؤلاء الهتلريون ينسون جرائمهم الماضية في حق البشرية ثمَّ يتساءلون تساؤل الأغبياء عن سبب ضربة سبتمبر ، أو يُعَرِّضُونَ بأنَّ دين الإسلام دين الدموية والإرهاب ، وكأنهم قد برؤوا من أي عمل إرهابي اقترفوه في حق البشرية كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب!!
إنَّ أمريكا بتجاهلها لدساتير الحروب ، والعمل على إزهاق الأرواح دون أدنى تحرٍ في كشف ملابسات الحدث ، يُسَيِّرها ذلك إلى التبلد في مواجهة البشرية ، والتصلب تجاه الآخر في كشف أسباب الرد الأمريكي على الدول والشعوب ، ومن يقرأ مقال (سحب من الشك...شهادة أمريكية على الإرهاب الأمريكي) فإنَّه (يبين بإجماع عدد من الفنِّيين الأجانب الذين عملوا بمصنع الشفاء في السودان الذي دمَّرته الطائرات الأمريكية على خلوه من المواد الكيماوية المشبوهة،وهذا ما يعلل رفض أمريكا للتحقيق حول المصنع حتَّى لا يظهر كذبها على الجميع)"[14]"(55/138)
ولا أدري كيف يتعامل هؤلاء القوم مع واقع الناس ، فإنَّهم قد نصُّوا في قوانينهم الأرضية الوضعية بأنَّ دولتهم علمانية ترعى الحرية ، وتنشر الديموقراطية ، وحين ضُرِبُوا في سبتمير صاحوا بأنَّهم سيشنون حرباً صليبية واسعة النطاق ، عريضة الجبهة ، تمتد إلى مالا نهاية ، فالعجب لا ينقضي حين يقول هؤلاء بأنها حرباً صليبية ، يعنون بذلك رجوعهم لديانتهم المحرفة النصرانية ، مع أنَّ في مدوناتهم، أهمية الرفق بالبشرية ، والرحمة للإنسانية ، بل نص الإنجيل لأبناء المسيح ـ عليه السلام ـ وأتباعه بأنَّ(من ضربك على خدِّك الأيمن فأدر له خدَّك الأيسر)فأين هذا من هذا،وهم يريدون أن يوسعوا جبهة الحرب بل عدُّوا ستين دولة سيأتيها الدور لمحاربتها ، ومكافحة الإرهاب فيها ، والسؤال:هل شاركت هذه الدول الستين وأمدت الجهاديين بالعدة والعتاد ليقوضوا صرح أمريكا المتمثل في برجي التجارة العالمي ، بل لوضيَّقنا السؤال وقلنا:هل من دولة واحدة من هذه الدول أمدتهم لتحطيم مجد أمريكا!!وثبتت بذلك دلائله ؟!
إننا نحن المسلمين نحتار حقاً في تعاملات هذه الدولة مع شعوب الأرض ، ولكنَّنا نقول كما قال السيد المسيح:(من ثمارهم تعرفونهم) فلا جرم حينئذٍ أن يوصفوا بأنهم مجرمو حرب ، وتجار أسلحة ، وقد بان كذب بعض العلمانيين العرب حين قالوا بأنهم أصحاب الحرية ، وأهل العدالة ، وإذا كان هؤلاء صادقون في هذا الطرح،فليربوا أبناءهم على مناهج التعليم الأمريكية ، ليكرعوا من ثقافة الإجرام ، ويصوبوا أسلحتهم لبلادهم !!
وتبَّاً لهذه الحضارة الأمريكية ، فهي أولى بأن تسمى حقارة ، فلا دين يقودهم ، ولا أعراف دولية تحكمهم ، ولا قيم خلقية تسوسهم ، وجزى الله الشاعر النحوي خيراً حين قال عن حضارتهم:
حضارة بالية *** كبعض ثوب خلق
ماقيمة العلم الذي *** يُلهب حُمَّى السبق
يبني ويعلى مابنى *** شواهقاً في أفق
ثمَّ تراه ينثني *** في لحظة من نزق
يهدمها إلى الثرى *** كأنَّها لم تَسْمُقِ
فهذه حضارة *** واهية من ورق"[15]"
وإنَّ من أكثر من بيَّن جرائم أمريكا في حقِّ شعوب الأرض المثقف اليهودي الأمريكي(نعوم تشومسكي) حيث أفاض في كتابه (ماذا يريد العم سام) في ذكر الجرائم التي ارتكبتها أمريكا في العالم والمؤامرات التي حاكتها، والممارسات السياسية التي لاتستند إلى أي خلق أو قانون ، وكان من جملة ما قاله:(أعتقد من وجهة النظر القانونية أنَّ هناك ما يكفي من الأدلة لاتهام كل الرؤساء الأمريكيين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بأنهم مجرمو حرب ، أو على الأقل متورطون بدرجة خطيرة في جرائم حرب)"[16]"
ويقول أيضاً:(إنَّ الولايات المتحدة الأمريكية، قضت على سكَّانها الأصليين ـ الهنود الحمر ـ عبر القرون ، واجتاحت نصف المكسيك ، وتدخلت بعنف في المنطقة، واحتلت هاواي وفيتنام ، وقامت خلال الخمسين سنة الأخيرة باللجوء إلى القوة في جميع أنحاء العالم تقريباً...هذه هي المرَّة الأولى التي توجَّهُ فيها البنادق إلى الاتجاه الآخر..ـ يقصد ضربة سبتمبرـ لا يمكن اعتبار الولايات المتحدة ضحية بريئة إلَّا إذا تجاهلنا لائحة أفعالها وأفعال خلفائها...علينا أن نُعيرَ اهتماماً أكبر لما نفعل في العالم...علينا أن نتسائل:لماذا حصل لنا ما حصل؟!)"[17]"
وهذا هو السؤال الوجيه الذي يجب أن يطرحه الساسة الأمريكان لو كانوا يعقلون:لماذا حصل لنا ماحصل؟!
نعم...إنَّ من المهم أن يسألوا أنفسهم هذا السؤال ، ثمَّ يبحثوا في الأسباب التي أَلَّبت هؤلاء الشباب المسلمين ليضربوا برجيها ضربة تأريخية،لا أن يتساءلوا تساؤل المظلومين وكأنهم لم يقترفوا شيئاً من الجرائم في تأريخ الإنسانية، كتساؤل بوش حين ضربت أمريكا قائلاً :لماذا يكرهوننا؟!(55/139)
فيقال له:سل نفسك وابحث عن مكمن السبب ، فهو أمر أوضح من الشمس في رابعة النهار،وجوابه بكل تأكيد:ظلمتم المسلمين والإنسانية جمعاء فسلَّط الله عليكم مالم تحسبوا له حساب، ومع ذلك فقد بقيتم في إضرام نار المعركة ، لأنَّكم تريدون أن تستردوا هيبتكم بعد أن صفعتم على مرأى من الناس، واقترفتم في حق المسلمين مالم تقترفه أي أمة في حقهم ، ولهذا فالتهديدات التي تأتيكم من هنا وهناك ومن عدة جماعات مسلحة تنتسب إلى الإسلام لتضربكم في قعر داركم مرَّة أخرى ما هي إلا بسبب ما اقترفتم به في حق المسلمين ، بغض النظر عن شرعية الفعل أم عدمه ، وقد صدَّق هذا القول أناس كفار حين رأوا الإجرام الأمريكي في تعامله مع دول الشرق الأوسط التعامل الممقوت ومنهم الأستاذ الأمريكي (وارد تشرشل)في جامعة كولورادو الأمريكية حيث قال(إنَّ 11سبتمبر نتيجة طبيعية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ، وحملة الإبادة الجماعية ضد العراق) ولذلك شنَّ اللوبي الصهيوني ، واليمين المتشدد، حملة دعائية ضده مطالبة بعزله من السلك التعليمي ، وحين واجه ذاك تشرشل ردَّ عليهم ، قائلاً(لن أتراجع قيد أنملة.....أنا لست مديناً لأحد بالاعتذار)"[18]" وهذا السفير البريطاني السابق في روما يقول منتقداً النتائج السلبية لسياسة بوش في حرب ما يسمى بالإرهاب حيث يقول(بوش خير من يجند للقاعدة)"[19]"
ولنذكر مثلاً أخيراً من كلام أحد المقايضين للعنترية الأمريكية ، فالمحلل السياسي (ديفيد ديوك)وهو مرشح سابق للرئاسة وعضو سابق في مجلس النواب عن ولاية(لويزيانا)يقول في مقال له بعنوان(لماذا هوجمت أمريكا)(يجب علينا أن نتحلى بالشجاعة الكافية كي نضع في الاعتبار الأسباب الحقيقية وراء كره العالم لنا ـ إذا اكتملت كل الحقائق لدينا ـ بدلاً من العبارات الممجوجة والمستهلكة مثل(الهجوم على الحرية)عندها فقط نستطيع أن نقرر ما هي أفضل السبل لحماية شعبنا في المستقبل)"[20]"
5 ـ المكر والمراوغة والدجل السياسي ، والنفاق المبطَّن ، والخداع الكاذب ، والتهرب من الحقيقة ، وهو منطق فرعون حين قال:(ماعلمت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطَّلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين) ويذكر أنَّ لينين حين أسَّس الاتحاد السوفيتي أعلن مبدأه المعروف(اكذب واكذب حتى يصدقك الناس) وهذا الأسلوب تمارسه الإدارة الأمريكية وبدهاء، لإخفاء الحقائق عن الناس ، فالمرشح الأمريكي جون كيري كان يقول للشعب الأمريكي كما في إحدى المقالات التي نشرت في نيويورك في الأشهر الأخيرة(إنَّ أمريكا ستواصل الضغط على الدول العربية لوقف الإساءة إلى اليهود وإثارة الكراهية ضدهم)"[21]" وهذا كولن باول يقول في مؤتمر صحفي في العراق(نحن لسنا محتلين...لقد جئناكم كمحررين...لقد حررنا عدداً من البلدان ولا نملك شبراً واحداً في أي من تلك البلاد اللهم إلا حيث ندفن موتانا)"[22]" وممَّن بيَّن نفاق كولن باول ودجله السياسي ؛ المفكر الأمريكي الراحل(إدوارد سعيد) ـ الفلسطيني الأصل ـ حيث كتب(إنَّ كولن باول وصل في خطابه للأمم المتحدة ، والهادف إلى سوقها إلى الحرب إلى حضيض من الرياء الأخلاقي والغش السياسي)"[23]"ولو أتى رجل لم يعرف بأمور السياسة شيئاً لقال بعد سماعه خطاب باول السابق ذكره إنَّ هذا الرجل بريء جداً وللغاية ، وهو لا يريد إلا الخير للناس والإنسانية جمعاء!!
لقد ذكرني هذا الرجل الطعن وكنت ناسياً بمثل أحفظه من قديم عن مثل هؤلاء الساسة وهو:(تكلم بلطف واحمل عصاً غليظة) وصدق من قال:
ما جئت تنشر سلماً في مواطننا *** لكن أتيت بتضليل وتمويه
فهؤلاء القادة شابهوا فرعون في خطاباته حين كان يقلب الحقائق، ويكذب على الناس، ويتلاعب بعقول البسطاء بقوله عن موسى ـ عليه السلام ـ:(إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)وكم سمعنا من دهاقنة الإجرام الأمريكي ، أنهم ما أتوا للشرق الأوسط إلا لنشر قيم الحرية والتسامح ، والديموقراطية والعدالة،ومن ذلك قول الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض سكون ماكميلان:(إنَّ الطريقة الأفضل لتكريم كلِّ الذين فقدوا حياتهم في الحرب ضد الإرهاب هي مواصلة شنِّ حرب مكثفة ونشر السلام في المناطق الخطرة في العالم) ونقول:
لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت عظيم(55/140)
والعجيب أنَّ هؤلاء الجلاوزة يتحدثون بهذا الحديث أمام شعوبهم وشعوبهم المخدرة الغافلة تصفق لهم وتهتف ؛ظانين أنهم هم رعايا السلام وحمائم العدالة،وقد شابه رؤساء أمريكا في استخفافهم بشعوبهم ؛ فرعون حيث قال تعالى عنه:(فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين)ومع ذلك فهؤلاء القادة ومع جرائمهم التي لا تحصر يرفعون شعارات العدالة والحرية ، وكلهم حقد دفين على الإسلام ، ويتعاملون مع أبناءه بسياسة الكيل بمكيالين وازدواجية المعايير ، ويزداد العجب حين نجد أنَّ أمريكا تدعم انفصال تيمور الشرقية النصرانية عن أندونسيا ، وتحمي وتساند حركة الانفصال في جنوب السودان ، وبالمقابل فإنَّها تبقي كشمير المسلمة أسيرة في أيدي الهندوس، وفلسطين أسيرة في أيدي يهود،ومع ذلك ينادون بأهمية مكافحة الإرهاب،وإيقاف إفساد الجماعات المسلحة في شعوب الأرض، وما علموا بل يعلمون ويتجاهلون أنهم على رأس الإرهاب، والإفساد بكل معانيه.
ومن أجمل ما قرأت في هذا الصدد ما قاله الملياردير الأمريكي جورج سوروس متحدثاً عن ازدواجية الإدارة الأمريكية:(الرئيس بوش عندما يتحدث عن ضرورة بقاء الحرية ، فإنَّه يقصد بذلك ضرورة بقاء الولايات المتحدة!!)
ويأخذنا الدهشة حينما نقرأ ما نقل عن بوش وكأنه الرجل المكافح لإبقاء روح السلام بين شعوب العالم قائلاً:(من أجل مستقبل الحضارة يجب ألَّا نسمح لأسوأ قادة العالم بتطوير ونشر أسلحة الدمار الشامل لابتزاز بلدان العالم)"[24]"
والحقيقة أنَّ من يستمع لكلام هذا الرجل وهو جاهل بما تفعله أمريكا يظنُّ أنَّ هذه الدولة ليس عندها مصنعاً واحداً لأسلحة الدمار الشامل الذرية أو النووية أو الكيماوية أو غيرها ، وكأنَّ الذي دمَّر وهشم هيروشيما مجموعة قراصنة أو عصابات ألمافيا، ولم تكن ترتضيه أمريكا...مع أنَّه وفي وقت متأخر(كشفت صحيفة (هيوستن كرونيكل)النقاب عن مصنعٍ في ولاية لويزيانا الأمريكية تنتج غاز الخردل السام ، والذي يعتبر أحد أكثر الأسلحة الكيماوية خطورة في العالم ، إذ يكفي سقوط نقطة واحدة منه على بشرة أي إنسان تسبب وفاته خلال دقيقة على أبعد تقدير،ويذكر أن معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية التي صدَّقت عليها الولايات المتحدة في العام الماضي ، تمنع الإنتاج المقصود لكل مشتقات الخردل ، وكشفت الصحيفة عن أن المصنع يستخدم أيضاً مركباً كيماوياً آخر يعرف باسم(كلوريد الإثيلين) وهو سائل يهاجم الكبد والرئتين والكلى ، ويمكن أن يسبب السرطان أيضاً!!)"[25]"ومن تلاعب بوش بشعبه الساذج ما قاله أيام الانتخابات الرئاسية لهم:(أعطوني أربع سنوات إضافية وستنعم الولايات المتحدة بمزيد من الأمان وتصبح أفضل وأقوى)[26] ورحم الله سيد قطب حيث كتب:(فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال الوثني ،عن موسى ـ عليه السلام ـ (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح ؟! أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟! أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟ إنه منطق واحد يتكرر كلما التقى الحق بالباطل،والإيمان بالكفر ، والصلاح بالطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان ، والقصة قديمة مكررة تعرض بين الحين والحين)"[27]"وبعد ذلك فإني أدع المجال للقارئ الكريم ليقارن خطابات الطغاة السابقين مع أحد خطابات بوش حيث وقف متحدثاً أمام الكونغرس حول قضية أفغانستان قائلاً:(الرجال والنساء الأفغان الآن أمَّة حرة تحارب الإرهاب وفخورة بأبناءها!!)"[28]"
6ـ سياسة الطرد والإبعاد والسجن لكل رجل خالفهم ، وغياب روح التسامح ، وحرية الرأي المزعومة! تحت الحجج الواهية وهو منطق من قال(أخرجوهم من قريتكم)ومنطق قوم شعيب حين قال أخبرنا تعالى بأنَّهم قالوا (وقال الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب من قريتنا أو لتعودن في ملتنا)الأعراف(88) ولا شك أنَّ هذا أمر واضح بياناً عياناً،فكم من شيخ كبير أسرته هذه الدولة بتهم باطلة أو ملفقة عليه وسجنته عدة سنوات لأنه يقول ربي الله ، وكم من داعية ضيق الخناق عليه فخرج من ديارهم إمَّا مكرهاً وإمَّا لسوء التعامل معه والاضطهاد والأذى ، وبهذه الفظاظة فلا يعجب المرء حين يجد أن هناك جماعات في بلاد الإسلام تقتل الأمريكي ولو كان مستأمناً أو حتى معارضاً لسياسة بوش وزبانيته بسبب كفره بالله ، ولشدة ما يلاقيه المسلمون في أمريكا من المضايقات القولية أو الفعلية ، وفي هذا المقام أتذكر قول الكاتب الأمريكي(نورمان ميلر)حين قال:(أمريكا أصبحت أكثر فظاظة ، وربما أصبح العالم كلَّه يسير في هذا الطريق؛لأننا نقوم بتصدير هذه الفظاظة،إنَّها واحدة من أكبر سلعنا الثقافية:اللغو)"[29]"وحين نسترجع ذاكرتنا ونرى ما فعلته أمريكا من الطرد والإبعاد والإهانة والسجن والتقتيل سواء قبل ضربة أمريكا أو بعدها لوجدناه أمر يصعب حصره ، ويملُّ الإنسان من ذكره ،للكثرة الكاثرة من عمليات السحق والسجن والإبادة.(55/141)
لقد قال (جيف سيمونر) في كتابه (حرب الخليج وحرب العراق)عن هذه المأساة :(أعرف مراقبين غربيين أصيبوا بالكآبة والانهيار العصبي بسبب ما شاهدوه من التعذيب الأمريكي لأطفال العراق)"[30]"
ولو تذكرنا مالاقاه المسلمون في سجون غوانتنامو تحت إشراف الطغمة الأمريكية من الأذى والتنكيل ومحاولة إطفاء السجاير في أدبار المعتقلين والبول على القرآن أمامهم واستفزازهم جنسياً وحبسهم عراة ينظر المعتقل لعورة الآخر، وتربيطهم عدَّة أسابيع بحبال موثقة مع إحناء ظهورهم ،وتكميم وجوههم ليصابوا بالأمراض العضوية والنفسية ،وكل ذلك سمع به العالم!! وكم سمعنا من أناس كانوا معتقلين في هذه المعتقلات أجريت معهم لقاءات وحوارات سواء في المجلات أو مواقع الأنترنت أو الفضائيات ليذكروا الوحشية الأمريكية في التعامل مع أسرى الحرب ،ولا ننسى كذلك ما تعرَّض له إخواننا في سجن أبي غريب في العراق(فقد التقط الجندي الأمريكي (جوزيف داربي)ألفي صورة عبر كاميرا إليكترونية حديثة من سوق المعتقلين العراقيين عرايا،وتوصيلهم بالأسلاك الكهربائية ، وإجبارهم على ممارسة الشذوذ بعضهم مع بعض واغتصاب للفتيات . بل اعترف قادة أمريكيون في محضر سري بأنَّ كلاباً مدربة التهمت الأعضاء الذكرية ل(300) معتقل ماتوا جميعاً، ومصرع (60) طفلاً عراقياً بعد تقطيع أطرافهم أمام أمَّهاتهم في سجن ((أبي غريب))، وكذلك وفاة العديد من النساء العراقيات بالصدمة بعد إطلاق الكلاب للتحرش الجنسي بهن، واستخدام (12)أسلوباً للتعذيب النفسي، وكانت هذه الأساليب مقترحة من البنتاغون ، مع الاغتصاب العلني الجماعي للمعتقلات العراقيات)"[31]"وما قصة المجاهدة الشهيدة ـ بإذن الله ـ فاطمة العراقية عنَّا ببعيد حيث ذكرت برسالة أرسلتها قبل أن تستشهد أنه في يوم واحد اغتصبت تسع مرَّات مع الإجرام في التعامل معها في اغتصابها وإجبارها على ذلك ، وهي تتأبى وترفض ـ رحمها الله رحمة واسعة ، ورفع درجتها في عليين ، وأسكنها مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون ـ ولا شك أنَّ هذا هو المنطق الذي تحدث عنه الله ـ جلَّ جلاله ـ حين قال لمحمد صلى الله عليه وسلم عن نوايا الكفار تجاهه:(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) أفبعد ذلك يدعى أنَّ أمريكا راعية السلام ، كلَّا بل هي راعية الحِمَام ، فهو الوصف اللائق بها ، وكذب من ادَّعى بأنَّ لديها الحرية ، أو من قال بذلك من أحد كبرائها فإنما هي حرية الاستغلال والنفعية لأجل المصلحة الخاصة بها ليس إلَّا!!
ولن يصف بنو الإسلام هذه الدولة بأنها حاملة الحرية والعدالة ، فإنَّ لأهل الحرية علامات ، ولمنتسبي العدالة منهج يقوم على القسط والتحري، وصدق من قال:
وكيف يصحُّ أن تدعى حكيماً *** وأنت لكل ما تهوى ركوب
وإن كانت أمريكا بلاد حرية حقاً فلماذا يضيق الخناق على بعض أبنائها المفكرين المعارضين لحروبهم الإرهابية ، بل ومنعهم من الحديث في الفضائيات الرسمية ، لماذا يفعل ذلك ؟ أليست أمريكا بلاد الحرية وشعارها تمثال الحرية ؟ فلماذا يمنع الكتاب المناوئين لها من الكتابة في بعض صحفهم ،أو الحديث أمام الشعب الأمريكي لتوعيته بإجرامية الحرب الأمريكية ؟ فأين الحرية ؟ يا أدعياء السلام والحرية ؟ ولقد بان كذب الشمطاء كوندوليزارايس حين قالت:(القيم الأمريكية قيم عالمية يستطيع الشعب أن يقول ما يفكر به ، وأن يعتقد بما يشاء)"[32]"فنقول ليفسح التلفاز الأمريكي للمناهضين لحروبكم الإرهابية ، أليسوا هم مفكرين وقيمكم تسمح لمن يفكر بأن يقول ما يفكر به ويعتقده ، فلتفسحوا المجال للكثير من الكتَّاب الذين منعوا من الكتابة في صحف أمريكا أو الحديث في الفضائيات الأمريكية بسبب معارضتهم لحروبكم الجائرة ، ولا يزال يساورنا العجب من فعلة (رتشارد بوتشي)الناطق باسم الخارجية الأمريكية ، إزاء مقال الكاتبة السعودية أميمة الجلاهمة عن فطير صهيون ، وهي حادثة تأريخية وثَّقها جمع من المعنيين ، فقد رأى فيها رتشارد تحريضاً ضد السامية ، وعلى إثره تمَّ فصل الكاتبة من الجريدة التي نشرت المقال ، ومنعت من الكتابة فيها!! فأين الحرية يا أدعياءها؟!
وهذا نعوم تشومسكي، والذي ضيق عليه في الإعلام الأمريكي ،وهو وإن كان يهوديا كافراًً فإنَّ له مواقف مُشَرِّفة في الدفاع عن بعض القضايا الإسلامية وفضح النظام الأمريكي حتى أنَّه وصف هذه الدولة في آخر كتبه التي أصدرها بأنَّها(الدولة المارقة) ووضع عنوان الكتاب بهذا الوصف،ومن جميل ما وصف به هذا الكتاب ما قالته(الاندبندنت أون لاين سانداي)بأنَّ(الدولة المارقة عبارة عن مضبطة اتهامات يجب أن ترمى بحجر في وجوه مسؤولي الإدارة الأمريكية في واشنطن) بل ألَّف رجل آخر وهو (وليم بلوما) كتاباً سماه(الدولة المارقة)وذلك لما رآه من سياسات الإجرام التي تمارسها الإدارة الأمريكية.(55/142)
وحينئذٍ فهل بعد هذه الجرائم المرتكبة من رؤساء هذه الدولة الطاغية ، تجعلهم في الصدارة والريادة؟! أم أنَّهم يظنون أنَّ أفعالهم تلك سترفع منزلتهم عند الله أو عند خلقه الضعفاء؟!كلا ، فإنَّه سبحانه وتعالى يقول:(ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله وليَّاً ولا نصيراً)النساء(123)
إنَّ سنن الله جارية ماضية وهي لا تحابي أحداً ولا تجاري دولاً، ولن يبقى على ظهر هذه الأرض إلا الحق السامق، وستزول بعدها رايات الكفر والإفك والظلم ، ولقد تفرَّس الكثير من أبناء هذه الدولة بزوالها حين رأوا ما اقترفت ، وأدرك البعض الآخر مكمن الخطر فبدأ يصيح في آذان الأمريكان بعنوان :أدركوا أنفسكم قبل فوات الأوان!!
ولقد قالها توماس جيفرسون في كتابه (ملاحظات عن ولاية فرجينيا عام 1784ـ1785م) بعد أن رأى ملامح الفساد ينخر في القيم الأمريكية فقال:(أرتجف خوفاً على بلادي عندما أفكِّر بأنَّ الله عادل!!)
وحين فاز كلينتون وأيده الرأي العام الشعبي الأمريكي وانتخبه على الرغم من معرفته بتورطه مع مونيكا ليونيسكي في فضيحة خُلُقِيَّة ، علَّق المؤرخ الأمريكي (تيد هاير) على ذلك فقال:(إنَّ أمَّة تقبل أن يقودها شخص على هذا القدر من الانحطاط الأخلاقي لا يمكن أن تستمر في تبوء قيادة هذا العالم)"[33]"ويقول السناتور(توم هاركن) ممثل ولاية(ايوا) الأمريكية في مجلس الشيوخ:(إنَّ بوش وجماعته اليمينية يجب أن يطردوا من البيت الأبيض لأنهم يقودون أمريكا إلى الخراب في كلِّ مجال)"[34]"
وهذه العجوز وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة(مادلين أولبرايت)تقول عن بوش:(الرئيس دمَّر سمعتنا ودمَّر مصداقيتنا وهيبتنا الأخلاقية ، إنَّ العالم اليوم في فوضى)"[35] "وبناءً على ذلك فهل يظنَّ ظان بأنَّ هذه الدولة ستبقى باقية أبد الدهر كما هو الرأي الذي مشى عليه فوكوياما وغيره.
إنَّ غمامة الإجرام الأمريكية التي ظلَّلت العالم منذ قرن من الزمان وآذتهم بشتى أساليب الإيذاء ، وتعدت على دمائهم بل تغذَّت عليها، إنَّ هذه الهمجية التي تتعامل معها أمريكا مع شعوب الأرض لن تبقى ، كيف والله قد توعد الظلمة بالإهلاك ، وعدم المكوث الرئاسي على هذه الأرض.
لقد بشَّر الكثير من مفكري أمريكا بسقوط هذه الدولة ، وعدم بقائها على ظهر البسيطة ، لأنها تعدت في حقوق الحق ، وفي حقوق الخلق ، ومن ذلك ما قاله توماس شيتوم وهو من قدماء المحاربين في فيتنام وصاحب كتاب الحرب الأهلية الثانية:(أمريكا ولدت في الدماء ، ورضعت الدماء ،وأتخمت دماء ، وتعملقت على الدماء ، ولسوف تغرق في الدماء!!)
وصدق،فإنَّ أمريكا حين أهينت كرامتها في ضربة سبتمر ، أرادت أن تستعيد كرامتها بالنيل من دماء المسلمين وتكوين الأحلاف ترغيباً وترهيباً ليواكبوها في حملتها ضد ما يسمى بالإرهاب ، ولا أشبهها إلا بكفار قريش وطغاتهم ، حين استنقذوا القافلة التي كانت متوجهة من الشام إلى مكة وفيها من الأحمال والقوت الشيء الكثير ، ولمَّا انتدبت سرية من سرايا الإسلام لتستولي على هذه القافلة ، ولم يتمكنوا من ذلك ، لحماية كفار قريش لها ، أرادوا بعدئذٍ أن يرجعوا إلى مكة بعد حمايتهم للقافلة ، ولكن رؤساء الكفر ، ورموز الغرور في الأرض ، أرادوا أن يتغطرسوا وينتفشوا أمام كفار العرب ومن حالفهم ، فقال أبو جهل لا والله لن نذهب إلى مكة ، بل سنبقى في مكاننا هذا مدَّة ثلاثة أيام تغني لنا فيها القيان ، وتُذبحُ لنا الجزور ، حتى يتسامع العرب بأنَّ قريش قوة لن تغلب ، ودولة لن تقهر أو تكسر ، فماذا فعل لهم غرورهم ذاك؟! ولقد حذَّر الله تعالى عباده من مشابهة الكافرين بطراً وكبراً فقال:(ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله) الأنفال(47)وحين قامت معركة بدر حطَّم ثلَّة من سرايا الجهاد جبروت كفار قريش ، وقتلوا قادتهم ، وكان منهم أبو جهل ، بل أجهز عليه حدثان صغيران من شباب الإسلام، لينطفئ الكبر الجاهلي المزروع في قلب أبي جهل ، وليعلو عليه ، أصغر القوم سنَّا ، معاذ ومعوذ ،وأقلُّهم مالاً وجسماً ، عبدالله بن مسعود ، وليرتقي المرتقى السهل على جثَّة أبي جهل الهامدة ، وهو يغرغر ، ليعلم الطغاة أنَّ مصيرهم في الدنيا إلى سفال ، ومصيرهم في الآخرة إلى جحيم ووبال ، وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه مرفوعاً إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم أنّه قال:(يحشر المتكبرون يوم القيامة مثل الذر يطئهم الناس بأقدامهم).
وختاماً/ فإنَّ قيادة الأمم ، وريادة الشعوب راجعة إلى هذه الأمة الإسلامية بلا محالة بعز عزيز أو بذل ذليل عزَّا ًيعزُّ الله به الإسلام وأهله ، وذلَّا يذلُّ الله به الكفر وأهله ، فأمريكا الطاغية لن تبقى باقية ، ورسول الهدى عليه السلام علَّمنا بأنَّه(حقٌ على الله ألَّا يرتفع شيء من الدنيا إلَّا وضعه)"[36]" ولتسقط أمريكا ،فورق التوت قد ذبل وتساقط ولم يطق العيش مع مزوِّري الحقائق ، حينها ترامى على الأرض لتنكشف عورات الرئاسة الأمريكية (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيَّ عن بينة )(55/143)
يا دامي العينين والكفين إنَّ الليل زائل
لا غرفة التعذيب باقية ولا زَرْدُ السلاسل
وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل
فأمَّة كافرة ظالمة متكبرة كاذبة مزورة للحقائق مدعية الربوبية ومفسدة في الأرض ومجرمة في حقوق الحق والخلق هل ستبقى في علو وارتفاع ، وينيلها الله ـ جلَّ وتعالى ـ الدرجات العلى يوم القيامة ؟! كلَّا فقد قال تعالى:(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين)القصص(83) فأبشري أمَّة الإسلام وأمِّلي الخير من ربك ، وتفاءلوا يا جند الرحمن ، واصبروا وصابروا ورابطوا ، فإنَّ سقوط دولة طاغية لا يتمُّ بين عشية وضحاها ، فالاحتضار قد يطول ، والله عزَّ وجلَّ حين بشَّر المسلمين بسقوط الفرس وهزيمتهم أمام الروم قال:(ألم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون)(الروم1ـ6)لكن لنعلم أننا إذا أردنا خلافة الأرض والتصدر لقيادة الأمم وحكمها بالإسلام ، فإنَّه تعالى قد طلب منَّا طلبين:الإيمان به حقَّ الإيمان والعمل الصالح فإن حقَّقناهما فسيعطينا مقابلها أربعة ، وتأمل قوله تعالى(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ولَيُمَكِّنَنَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)(سورة النور(55) فلنتفاءل ولنمضِ على طريق الإباء ، فإنَّ مما يبشرنا أنَّ الأمة الإسلامية ولله الحمد أمَّة شابة نامية ولود ، وراجعة لكتاب لربها وسنة رسولها ، ولا أدلَّ على ذلك من هذه الصحوة الإسلامية ، واليقظة العلمية الفكرية الجهادية الدعوية في أوساط شباب الأمة..وهاهو المارد الإسلامي ينتفض ويخلع عنه ثوب الانكسار،وأوهاق الكسل،بهبة إيمانية،وشبَّة عمرية،وعزمة علية...
ستشبُّ كالبركان يقظة أمة *** والفجر من خلف الدياجي مقبل
ولست والله مغرقاً في التفاؤل ، ولا متحمساً بالتعبير عن عودة الكثير من أبناء هذه الأمة لدينها القويم ، والاستمساك بحبله المتين ، فمن يقارن واقع المسلمين الآن وواقعهم ، قبل قرن أو أقل قليلاً سيجد بوناً شاسعاً، وفرقاً هائلاً، ولن أفرط في ذلك ، فإنَّ غداً لناظره قريب، والأيام حبالى والدات كل أمر جديد.
لا لن نذل فهذه راياتنا *** رغم العواصف والدجى لم تحجم
لا عزَّ إلا بالكتاب يقودنا *** أكرم بأحسن قائد ومعلم
فيا رجل الإسلام امض واقتحم...أنت لها ، فالنصر عن قريب، بسواعد الإيمان المتوضئة ، وبالقلوب النقية الطاهرة ، وبالسير على منهج سلف الأمة عقيدة وعبادة وعلماً ودعوة وعملاً وجهاداً...تنصر الأمة ، وتزقزق عصافير الترحاب، وتهدل حمائم السلام لأمة السلام ، ويعلو الخير في سماءنا الزرقاء ، وتبقى البشرية في سعادة وهناء تحت ظلِّ الخلافة الراشدة على منهاج النبوة،ولن يخيب الله الظن،ولن يرد الأمل ،فهو معنا وناصرنا،وهل يخذل الإله الحق معبوده المتمرغ له بعبادته على ظهر البسيطة؟!!
------------------------------
[1] (انظر:مجلة واشنطن بوست20نيسان/إبريل2003هـ بواسطة الامبراطورية بعد احتلال العراق(دراسات وأبحاث مترجمة للعربية)ترجمة:تركي الزميلي)
[2] القرية الكونية للأستاذ:محمد الهبدان/صـ9ـ10.
[3] جريدة الشرق الأوسط.
[4]دراسات في التخطيط السياسي ـ المذكرة السياسية للأمن القومي ـ.pps.nsc68)فبراير 1948م(
[5] أمريكا التي تعلمنا الديموقراطية والعدل للدكتور فهد العرابي الحارثي/ صـ28
[6] أمريكا طليعة الانحطاط لروجيه جارودي/صـ82
[7] دول محور الشر الإرهابية/صـ32تأليف:محمود الكفري
[8] التقرير الاستراتيجي العربي 1991م/صـ31وانظر كذلك:النظام الدولي الجديد لياسر أبي شبانة/صـ31
[9] نصر بلا حرب/صـ335
[10] ما بين القوسين مقتبس من كتاب: أمريكا التي تعلمنا الديموقراطية والعدل للدكتور/ فهد العرَّابي الحارثي/صـ113
[11] اغتنام اللحظة لنيكسون ، نشر هذا الكتاب في حلقات في جريدة الشرق الأوسط ابتداءً من 19/12/1991م
[12] أمريكا والشرق الغربي لميشيل كامل/صـ8
[13] رسالة من مكة [ عن أي شيء ندافع]للدكتور/سفر الحوالي
[14] هذا المقال نشر في صحيفة(lnvesto r ,s BusinessDaily)يوم الثلاثاء سبتمبر(1998) ثمَّ ترجمه الدكتور:يوسف الصَّغَيِّر ونشره في مجلَّة البيان(عدد131/ص106)بعنوان:(سحب من الشَّك ... شهادة أمريكية على الإرهاب الأمريكي) .
[15] ديوان مهرجان القصيد للدكتور:عدنان النحوي/109ـ115
[16] العولمة بقلم/الدكتور:عبدالكريم بكَّار/صـ29
[17] دول محور الشر الإرهابية لمحمود الكفري/صـ31
[18] موقع الإسلام اليوم،أخبار يوم1/1/1426هـ ـ 10/2/2005م
[19] فضائية العربية20/9/2004هـ
[20] رسالة عن أي شيء ندافع للدكتور الحوالي/صـ32
[21] بوش وكيري...مباراة في التقارب لإسرائيل،موقع إسلام أون لاين6/9/2004م
[22] جريدة القبس14/9/2003م(55/144)
[23] جريدة الحياة/عدد[14582]
[24] صحيفة البيان الإماراتية(8089)من كلام ذكره الكاتب البريطاني أدريان هاملتون عن بوش ــ وانظر مجلة البيان الإسلامية في مرصد الأحداث عدد179/صـ78
[25] جريدة الشرق الأوسط7211
[26] موقع مفكرة الإسلام الإخباري على الأنترنت 27/5/1425هـ
[27] في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب ـ رحمه الله ـ(5/3078)
[28] الجزيرة نت21/1/2004م
[29] نيوزويك4/2/2003هـ
[30] رسالة من مكة للدكتور الحوالي/صـ45
[31] شذا الرياحين من سيرة واستشهاد الشيخ أحمد ياسين للشيخ الدكتور/سيد بن حسين عفَّاني2/402
[32] الولايات المتحدة الأمريكية وحقوق الإنسان في العالم للدكتور هيثم مناع/صـ35
[33] لماذا يكرهوننا لناصر بن محمد الزامل/صـ8
[34] لماذا يكرهوننا لناصر بن محمد الزامل/صـ9
[35] جريدة الأسبوع8/11/2004م ـ بواسطة مجلة البيان ، مرصد الأحداث
[36] أخرجه البخاري في صحيحه برقم(2872)
==============(55/145)
(55/146)
نساء... لابواكي لهنّ
فوزية الخليوي
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة
فى الثامن من آذار من كل عام تجتمع النساء من شتى أقطار العالم وخاصة في عالمنا العربي؛ ليتبادلنّ التهاني، ويحتفلنّ بزعمهنّ بيوم المرأة العالمي في أفخم الصالات الفندقية.. يحتسين قهوة الموكا واللاتية!! مشيدات بانتصاراتهنّ البرلمانية؟؟؟؟ !! مع أن الاتحاد البرلماني الدولي يقول في دراسة له: إن أداء البرلمانيات العربيات يُعدّ الأسوأ عالميًا...؟!
لا تتعدى أصواتهنّ سوى المطالبة بالسبق في الإعلام وحقوق الجندر والمجالس الانتخابية!! وعلى نفس هذه الخارطة في بلادنا العربية أخوات لنا يتجرعن ألم الوحدة في غرف مظلمة موحشة مقفرة يلتحفن العراء ويتوسّدن البكاء!!
أسيرات فلسطين
بينما تقبع الاسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال والبالغ عددهن (116) أسيرة، يعانين من ظروف سيئة للغاية في ظل الإجراءات القمعية التي تمارسها إدارة السجن بحقهن، وتُفرض عليهم العديد من العقوبات كالعزل الانفرادي، والحرمان من زيارة الأهل لفترات طويلة، و من بين الأسيرات (11) طفلة أسيرة تحت سن (18) عاماً.. عطاف عليان قضت في السجن عشر سنوات، وتسبب إضرابها عن الطعام في السجن لمدة أربعين يوماً احتجاجاً على اعتقالها دون محاكمة، إلى إشعال المناطق الفلسطينية قالت عطاف: "لقد أحببت النقاب جداً، وأنا في سن الثامنة عشرة، ولكني لم أستطع ارتداءه. فقد كان ارتداء ملابس دينية في بيت لحم في ذلك الوقت شيئاً غريباً. كانوا هنا بعيدين عن الدين..لكنني ارتديته. كان هذا ذلك في السجن في عام 1989 أو 1990، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أرتديه" ثم خرجَتْ من السجن وعمرها أربعون عاماً ثم تزوجّتْ، و في التاسع والعشرين من شهر سبتمبر 2005، وُلدت عائشة وبعد منتصف ليلة الحادي والعشرين من شهر ديسمبر 2005 أحاط الجنود الصهاينة بالمنزل وأخذوها وفي سجنها بدأت عطاف إضراباً عن الطعام، وطالبت بإحضار ابنتها إليها. وبعد مرور (16) يوماً وافقت سلطات سجن (نفيه ترتسا) على ذلك. تقضي عطاف معظم الوقت مع عائشة في زنزانتها في السجن. وتضم الزنزانة المجاورة أماً فلسطينية أخرى مع طفلها. وفي الأسبوع الماضي وُلِدت طفلة أخرى لسجينة فلسطينية وضعت حملها في المستشفى وهى مكبّلة بالأغلال!! (المنظمة العربية لمناهضة التمييز 10-5-2005) ( يوضع له هامش في الأسفل)
منال غانم الأسيرة برفقة ابنها نور الذي وضعته في السجن، قبل سنة وتسعة شهور، وبقى له أقل من ثلاثة أشهر حسب القانون الإسرائيلى لانفصاله عن والدته الأسيرة في سجون الاحتلال، منذ أكثر من ثلاث سنوات، وتقضي حكماً بالسجن الفعلي لمدة (50) شهراً.
في الوقت الذي يُحرم فيه طفل في مثل هذا العمر من والدته، على الرغم من الظروف القاسية التي رأى فيها هذا الطفل النور بين جدران السجن المظلمة.( القدس- 9 تموز 2005) يوضع له هامش أسفل المقال
رُبّ وامعتصماهُ انطلقت *** ملء أفواه الصبايا اليُتمِّ
لامستْ أسماعهم لكنّها *** لم تلامسْ نخوةَ المعتصمِ
أعراض العراق المنتهكة
السجينة هدى العزاوي * تنشر قصتها في (الجارديان البريطانية 20 أيلول 2004). قضت هدى ثمانية أشهر في الحبس مع خمس نساء عراقيات في سجن أبو غريب سيئ الصيت في قسم (الثقيلة) حيث تم ارتكاب الاعتداءات الجنسية من قبل الجنود الأمريكان. والصور التي ظهرت كانت من هذا القسم. وكانت النساء تُحتجز في القسم العلوي منه في زنزانات مغلقه والرجال في القسم الأرضي المرعب. تقول هدى: إنها احتُجزت في زنزانة (2 متر مربع) بدون أي فراش وسطل للتواليت وفي أسابيعها الثلاثة الأولى تقول: إنني أُصبت بالبكم تقريباً؛ لأنهم هدّدونا بأن الكلام ممنوع وتقول: إنهم سمحوا لها بكتاب واحد، وهو القرآن الكريم وبطريقة ما حصلت على قلم وكانت تسجل حوادث التعذيب والاغتصاب بحسب تواريخها على ورقات القرآن الكريم وفي أشهرها الأولى في السجن تصف هدى الأمريكان: كان الجنود الأمريكان كوحوش، وحقراء ومستبدين وفي سؤالها عن السجينات: "والبقية الباقية من النساء اللاتي أُطلق سراحهن إما اختفين أو تبرّأ أزواجهن منهن"!!
وللسعوديّات همومهن(55/147)
في نوفمبر 2004 تم اعتقال طالب الدكتوراه السعودي، حميدان التركي للمرة الأولى، وزوجته سارة الخنيزان، وذلك بتهمة مخالفة أنظمة الإقامة والهجرة. كما قامت السلطات الأمريكية كذلك بإحضار زوجة حميدان للمحكمة بدون السماح لها بوضع غطاء وجهها، ولا حتى حجاب يغطي شعرها، في امتهان بغيض لقيم الإسلام وعنصرية مقيتة ضد العرب والمسلمين، بل وانتهاك لمبادئ الديموقراطية الغربية التي يتبجّحون بها!! وقد مكثت سارة في السجن (12) يوماً إلى أن قامت عائلة حميدان التركي بدفع مبلغ الكفالة المطلوب لإخراجها، وطوال تلك الفترة بقي أولادهم الخمسة (أكبرهم في سن السابعة عشرة) في المنزل بدون رعاية ولا نفقة؛ إذ جُمّدت أرصدتُهم، ومما يبعث على الحزن والاستغراب القاتل أنه تم مضايقة كل من يحاول التقرب إلى الأولاد ومساعدتهم في ظرف فقدوا فيها أمهم وأباهم، والآن طالبت المحكمة الفدرالية ومحكمة المقاطعة في ولاية كولارادو الأمريكية بسجن المتهم السعودي المعتقل في أمريكا حميدان التركي وزوجته (120) سنة، ووجهت لهما (16) تهمة تدور جميعها حول إساءة التعامل مع الخادمة!!
(جريدة الرياض العدد 13824).
وفي عالمنا العربي المزيد
ففي مصر أُعلن بصفة رسمية عن تسليم وفاء قسطنطين التي كانت زوجة لأحد القساوسة إلى الكنيسة، وإيداعها دير وادي النطرون الذي يعتكف فيه رأس الكنيسة القبطية البابا شنودة الثالث. وفاء قسطنطين زوجة الراهب يوسف عوض قد تركت أبو المطامير برغبتها و إرادتها الحرة .. و أعلنت اسلامها في أحد أقسام الشرطة حتى تستكمل الإجراءات القانونية لإشهار إسلامها .. إلا أن الدنيا قامت، و لم تقعد حتى يسلّم جهاز الأمن وفاء قسطنطين إلى رجال الكنيسة الذين كانوا مُصرِّين على أنها واقعة تحت ضغوط و تأثير، و بحاجة إلى دروس "نصح و ارشاد" .. .. شهدت الكاتدرائية أحداثاً مؤسفة من مصادمات بين الأمن و الشباب المعتصم من الأقباط أدّت إلى إصابة (50) رجل أمن وإتلاف عدد من السيارات خارج الكاتدرائية ..
وعندما تأخر تسليم السيدة أعلن البابا رفضه لكل ما يحدث احتجاجاً على ذلك، و أنه لن يرجع حتى تُحلّ كافة المشاكل ...
و في النهاية تم تسليم السيدة وفاء لتُسلّم إلى دير وادى النطرون لينتهى بها الحال إلى إحد البيوت المخصصة للسيدات الراغبات في الالتحاق بسلك الرهبنة الأرثوذكسية النسائية.
وفي تونس علمت "الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين" أنه وقع تم في 26/6/200 إيقاف المرأة السيدة نضالات بنت محمد الرضا الزيات من طرف عدد من أعوان الأمن بالزي المدني الذين تولّوا حملها مع رضيعتها "حنين" التي لم يتجاوز سنها بعض الأشهر عدة أشهر إلى جهة مجهولة، و لم يتمّ الإفراج عنها إلى اليوم. الجهات الأمنية مازالت ترفض تمكين العائلة من أي معلومة تخص ابنتهم أو رضيعتها، و ذلك في خرق لاحكام القانون، و هذا ما أدى إلى إدخال الحيرة والشعور بالخوف في قلوب لدى الوالدين، خاصة و أن ابنتهما مريضة، و بصدد تلقي العلاج، كما أن الرضيعة تعاني من مرض الحصبة، علماً بأن السيدة نضالات الزيات هي زوجة السجين نبيل السليماني أحد ضحايا قانون مكافحة الإرهاب في تونس .
وأين الناشطات للدفاع عن الظلم على النساء اللاتي يتحدثن كل يوم عن الظلم الذي يقع على النساء في المجتمع؟! أين منظمة (هيومن رايتس ووتش) والتى تدافع عن السيدتين الآسيويتين المحكوم عليهما بالإعدام (سارة جين لانديكو ديماتيرا) من الفلبين، التي حُكم عليها بالإعدام عام 1993، و(ست زينب بنت بخاري روبا) من إندونيسيا، التي صدر عليها حكم الإعدام عام 2000. وكانت كلتاهما تعملان خادمتين في منازل خاصة بالمملكة. مع أنهما أُدينتا أستناداً لاعترافاتهما!! (نيويورك، 2 يوليو/تموز 2003)
قلْ لمن قال أمَا تشتكي *** ما قد جرى فهو عظيمٌ جليلْ
يقيّضُ الله تعالى لنا *** من يأخذُ الحقَّ ويشفى الغليلْ
إذا توكّلنا عليه كفى *** فحسبُنا اللهُ ونعم الوكيلْ
=============(55/148)
(55/149)
أفكار في مواجهة الحروب الصليبية
خاص بالعلماء :
1. الحذر من محاولات الأعداء من التحكم والتلاعب بمناهج المسلمين الدراسية بما في ذلك محاولات نزع المناهج الدينية وزرع الفكر العلماني فيها .
2. التوجيه لترسيخ العقيدة الإسلامية الصحيحة في نفوس الأمة وتحبيبهم إلى دينهم الإسلامي الحنيف فان الاستعمار أول ما عمل به في الدول الإسلامية هو ضرب الإسلام من النفوس.
3. الحذر من طرق الأعداء في نشر الفساد في المجتمع المسلم .. حتى أن احد الإخوة الفلسطينيين قال : أن اليهود في فلسطين عمدوا إلى توزيع الصور الفاجرة على العمال الفلسطينيين بغرض إضاعة دينهم ومن بعدها نفوسهم .
4. تحذير الأمة والدعاة من طرق الأعداء وأذنابهم في دعوة المرأة إلى نزع الحجاب بحجة تحرر المرأة .
5. تحذير الأمة من المنظمات التنصيرية القادمة على أشلاء المسلمين ومن أحابيلها وأهدافها الخفية .. ومراقبة أنشطتها على المدى البعيد وتنبيه الشعوب من تحركاتها المشبوهة .
http://islamonline.net/A r abic/news/...a r ticle19.shtml
6. الربط بين الأمة واعتبار الأمة جزء واحد وعدم استغلال الأعداء لبعض آراءهم في تشويه جزء من الأمة كالمجاهدين أو غيرهم.
7. تكوين جمعيات للعلماء تنطلق منها الدعوات والتوجيهات للأمة .. وعدم انتظار من تختارهم الدول لما يشغلهم من الأعمال الملقاة على عواتقهم في أعمالهم ووظائفهم.
8. ينبغي أن تقود جمعيات العلماء تزكية العلماء وتجريحهم في الفتاوى النازلة .. كما فعل الأولون بمن يحمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقد تم جرح بعض العلماء الأجلاء فيما لم يحسنوا فيه من النقل .. وإذا قاموا بذلك فلن يكون التجريح للعلماء مفتوحا لكثير من الناس الحاقدين أو الغافلين ..
9. الاهتمام بالدور الريادي والقدوة المنتظر منهم .. والحذر من الركون إلى الدنيا أو ترك الأمة في أيامها العصيبة.. [وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] .
10. شكر العلماء الذين قالوا كلمة الحق لا تأخذهم في الله لومة لائم أو تأثير وسائل إعلام أو كيد .. وتقدير مكانتهم بين العلماء وتنبيه العلماء الذين تقلبت بهم السبل وضعفت مواقفهم .. ولا أحق من أن يفعل ذلك من العلماء .
11. توجيه الأمة لدعم المجاهدين ماليا من الزكاة أو من غير الزكاة .. والتنبيه على أن هناك محاولات كبيرة جدا من الصليبيين لمنع تمويل المجاهدين أو حتى عائلات المجاهدين .. ولذا ينبغي الاهتمام بالتمويل للجهاد .
12. ذكر بعض جوانب النصر في القضية العراقية وذلك لعلاج بعض حالات الإحباط عند بعض السطحيين من المسلمين و حالة الشعور بعدم الثقة , فنقوم بإقناعهم أن الجهود التي قام بها المسلمون من الدعاء و التفاعل مع هذه القضية كان بحد ذاته نصرا , و أن في توحد صفوف المسلمين على اختلاف الأماكن دليل قوة هي بداية النصر إذا ما التزمنا بالمنهج القويم للإسلام. http://g r oups.yahoo.com/g r oup/abubanan
13. التحريض للاستعداد والإعداد لجهاد الصليبيين الحاقدين ..
14. بناء الأمة لقادة المستقبل... في توحيد الصف الإسلامي ولو كان متعدد المناهج !!... وإقامة حوارات مصارحة بين المشايخ المختلفين للوصول إلى نقاط التقاء لا من باب نبش الخلاف .. والانطلاق في الحوار من أسس مشتركة عملا بالآية [وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ..
أقول هذا حتى لا نجد أنفسنا في المستقبل بلا قيادة متفقة ..
15. الحسم الصارم والقضاء العاجل على كل بادرة تنصيرية صليبية ، بل يجب أن نشرّد بكل من نكتشف أنه منهم في بلاد الإسلام ونشرّد بهم من خلفهم ونجعلهم عبرة لغيرهم ليكفوا عن نشاطاتهم الصليبية المعادية للإسلام.
16. الحذر والتحذير من التيارات العلمانية والتيارات الحداثية التي هي في حقيقتها الوجه الفكري والأدبي للصليبيين أو على أقل التقدير هي إحدى الحلفاء التاريخيين لهم . وإذا كان النصارى يتحالفون مع الجميع فإن أفضل حليف لهم هم العلمانيون الذين فقدوا الغيرة الدينية والنخوة الإسلامية وكذلك الحداثيون الذين يدعون إلى التغيير الدائم المستمر.فالنصارى والعلمانيون والحداثيون يجتمعون في مواجهة الخطر المشترك ألا وهو الإسلام.
17. إصلاح مناهج التعليم بما يضمن إخراج الطالب الصالح المرتبط بإسلامه وعقيدته ومجتمعه المؤمن بعقيدة الولاء والبراء المحب للمؤمنين المبغض لليهود والنصارى والمشركين حتى يعرف مَن هو صديقه من عدوه . فهم يقومون بتغيير المناهج بما يخدم مصالحهم التنصيرية ونحن ينبغي لنا أن نبذل الجهد بما يخدم مصالحنا الدينية .(55/150)
18. الدعوة إلى حماية الشباب من السفر إلى الخارج للرياضة واللعب أو حضور المخيمات التي تقام هناك لما في ذلك من أثر سلبي عليهم.
19. الدعوة إلى حماية الشباب من الاختلاط بغير المسلمين قدر المستطاع أو الاتصال بهم .
20. عمل لجنة مطالبات مالية على كل الدول المعتدية على أراضي المسلمين ... وكذا يكون فيمن تعاون معهم كالدول المقاتلة أو الدول التي تحضر جيوشها للأمن باسم الأمم المتحدة وتقاتل المسلمين ولا تقاتل المعتدين المحتلين ... فكما أنهم يقاتلون المسلمين ويثبتون الحكم للمعتدين فعليهم ما على المعتدين من الإصلاح ..
ويكون على كل دولة جانب مالي تعويضي .. يعطي في نفوسهم أننا لن ننسى جرائمهم التي يجاهرون فيها صباح مساء ..
21. عمل قائمة بأسماء مجرمي الحرب الذين قاموا بمحاربة المسلمين أو طاعة رؤساؤهم في ذلك .. ويكون ذلك من قادتهم ورؤسائهم .. فهم يقومون بعمل القوائم على المسلمين ويستهدفون زعماءهم وقاداتهم الإسلامية .. فمن حق المسلمين أن يكون لهم قوائم ينشرونها تحتوي زعماء العصابات النصرانية والتي تلعب في بلاد المسلمين كما تشاء من غير حسيب ولا رقيب.
وهذه القائمة سيكون لها الدور إن شاء الله تعالى في تضعيف أو توهين الطاعة عندهم .. ولذا ينبغي أن تكون القائمة دقيقة وتستهدف الأشخاص القياديين ومن أطاعهم من كبراءهم من القادة الكبار.
قيادات الأمة وحكامها:
1. الحذر من المنظمات التنصيرية القادمة على أشلاء المسلمين ومن أحابيلها وأهدافها الخفية .. ومراقبة أنشطتها على المدى البعيد وتنبيه الشعوب من تحركاتها المشبوهة .. والتي ستكون الخنجر القادم عليهم كما حدث في جنوب السودان.
http://islamonline.net/A r abic/news/...a r ticle19.shtml
2. اتباع العلماء الذين قالوا كلمة الحق لا تأخذهم في الله لومة لائم أو تأثير وسائل إعلام أو كيد .. وتقدير مكانتهم بين العلماء .. والحذر من العلماء الذين تقلبت بهم السبل وضعفت مواقفهم ..
3. قيادة الأمة إلى ما فيه خيرها وصلاحها ..
4. الحذر من التعاون مع الصليبيين ضد الأمة.
5. صناعة السلاح الذي يفتك بأعداء الأمة مع... ولو كانت الأفكار في بدايتها بدائية ... ولكن شيئا فشيئا حتى نصل ...مع الحذر من ترقبات المنافقين ... ولنا مثل وقدوة في إخواننا في فلسطين وكيف ابتكروا صواريخ القسام وغيرها. ويكفي في ذلك قوله تعالى : [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل] وهذا الذي لا يريده أعداء الإسلام .. فهم يبذلون قصارى جهدهم في جعل الحكومات تحارب هذه الفكرة وبعدها تبقى الدول ضعيفة تنتظر السماح لها بشراء الأسلحة التي هم يريدون .
i. بل هو فرض ديني على الدولة القيام به قبل مرحلة الجهاد ..بل على الدوام لإرهاب الأعداء [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم]
6. الحسم الصارم والقضاء العاجل على كل بادرة تنصيرية صليبية .. فهي نبتة عداء للأمة وتدريب للطابور الخامس ، بل يجب أن نشرّد بكل من نكتشف أنه منهم في بلاد الإسلام ونشرّد بهم من خلفهم ونجعلهم عبرة لغيرهم ليكفوا عن نشاطاتهم الصليبية المعادية للإسلام.
7. العناية بمؤسسات رعاية الشباب ومؤسساتها المختلفة ونواديها ومخيماتها ونشاطاتها وحمايتها من البلاء الذي يهددها وإبعاد اللاعبين والمدربين الأجانب عن النوادي الرياضية والحرص على تصحيح الأوضاع التي تتعلق بتربية الشباب وإعدادهم وإصلاحهم .
8. رفع الظلم عن الناس بعضهم على بعض.. سواء الفردي أو الجماعي..
فإن الظلم الأكبر الذي يغزونا من الصليبيين.. لا يجذب إلا بالظلم الأصغر الذي بيننا.. كأكل أموال الناس بالباطل .. والاعتداء والافتراء والغيب .. الخ...[وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون] يعني يتظالمون بينهم.. ويقعون في المعاصي...
9. حماية الشباب من السفر إلى الخارج للرياضة واللعب أو حضور المخيمات التي تقام هناك لما في ذلك من أثر سلبي عليهم.
10. منع الإعلام وخاصة الصحافة من نشر الأخبار الدعائية بهذه الأسفار كما يجب منع الخطوط الجوية من الدعاية للسياحة في الخارج وإعلان أسماء وعناوين الفنادق وأماكن اللهو والقمار في جميع أنحاء العالم ومطالبتها بالإعلان عن الجمعيات والمؤسسات الخيرية وأماكن الإصلاح .
11. حماية الشباب من الاختلاط بغير المسلمين قدر المستطاع أو الاتصال بهم .
12. الحذر من المدارس الأجنبية وبذل الجهد في تحجيمها [أو إيقافها] ...
13. يجب إخراج جميع النصارى واليهود وغير المسلمين من البلاد المقدسة فلا يكون هناك في العمل ولا في الصحة ولا في التعليم إلا المسلمين وفي المسلمين غُنية وكفاية والله تعالى يقول : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } .
14. التنبيه والحذر من الدور الذي تقوم به السفارات الأجنبية ومدارسها في الاتصال بالمواطنين أو مراسلتهم أو مشاركتهم في نشاطاتها وينبغي أن يكون هناك رقابة عليها وتحديد لمجالات عملها ومنعها بالاتصال بالمواطنين .. أو الحذر من المترددين على هذه السفارات .(55/151)
15. عمل توقيت زمني ومرحلي لخطوات العمل حتى تبنى الخطط القادمة على أسس وقواعد شرعية سليمة ومنظمة .
16. تحويل أسماء المدارس والمستشفيات وكافة الطرق والمؤسسات إلى أسماء إسلامية .
17. منع كل ما يخالف الشرع من برامج محرمة وزنا ودور الموضة ومحلات بيع الخمور والبنوك الربوية و.....الخ .
للدعاة والمفكرين :
1. مشاركة العلماء والمعلمين في الحذر من محاولات الأعداء من التحكم والتلاعب بمناهج المسلمين الدراسية بما في ذلك محاولات نزع المناهج الدينية وزرع الفكر العلماني فيها ... والقيام بدورهم في تنبيه المعلمين عن دورهم في ذلك والربط بينهم وبين العلماء ...
2. توعية الشعوب بأهمية الاستمرار في المقاطعة الاقتصادية للبضائع الأمريكية والبريطانية وغيرهم من المعادين للأمة.. والاهتمام بذلك أشد الاهتمام ..
3. التحليل للأخبار المنتشرة في وسائل الإعلام بدلا من أن يتناقلها العامة فقط حسب ما وصفت من الأعداء .. فكل خبر له عدد من التحليلات قد تصح أو تخطيء ولكن وجود هذه التحليلات يعطي تصورا أبعد للحدث .. والتعرف على خطط الأعداء وما يمكن توقعه مستقبلا..
4. ترسيخ العقيدة الإسلامية الصحيحة في نفوس الأمة وتحبيبهم إلى دينهم الإسلامي الحنيف فان الاستعمار أول ما عمل به في الدول الإسلامية هو ضرب العقيدة الإسلامية في النفوس.
5. تحذير الأمة من طرق الأعداء وأذنابهم في دعوة المرأة إلى نزع الحجاب بحجة تحرر المرأة .
6. اتباع العلماء الذين قالوا كلمة الحق لا تأخذهم في الله لومة لائم أو تأثير وسائل إعلام أو كيد .. وتقدير مكانتهم بين العلماء .. والحذر من العلماء الذين تقلبت بهم السبل وضعفت مواقفهم ..
7. ذكر بعض جوانب النصر في القضية العراقية وذلك لعلاج بعض حالات الإحباط عند بعض السطحيين من المسلمين و حالة الشعور بعدم الثقة , فنقوم بإقناعهم أن الجهود التي قام بها المسلمون من الدعاء و التفاعل مع هذه القضية كان بحد ذاته نصرا , و أن في توحد صفوف المسلمين على اختلاف الأماكن دليل قوة هي بداية النصر إذا ما التزمنا بالمنهج القويم للإسلام. http://g r oups.yahoo.com/g r oup/abubanan
8. التحريض للاستعداد والإعداد لجهاد الصليبيين الحاقدين ..
9. الدعوة إلى الله ... بكل الأساليب المتاحة ....
10. استغلال تكالب الأعداء على الأمة وحربهم الجلية على الإسلام وتعاطف جميع طوائف المجتمع مع التوجه الإسلامي وذلك لانكشاف العداء الغربي ، فيستغل ذلك في الاجتهاد في دعوة الشباب ومن حولنا وغرس مفهوم" أن البلاء ينزل بذنوب العباد ويرفع بتوبتهم" حيث أن الأيمان يدخل القلوب بسرعة في مواطن الضعف.
11. استغلال هجوم اليهود والأمريكان على الأمم الكافرة الأخرى وعنصريتهم الدموية في الاجتهاد في دعوة الجاليات الغير مسلمة وتوضيح مفاهيم الإسلام السليمة... فننطلق من نقاط مشتركة.
12. الحاجة لإنشاء مواقع إسلامية أكثر باللغة الإنكليزية[ باستغلال المواقع الشخصية المجانية أو غيرها] لتوضيح مفاهيم الإسلام النبيلة وخطط الصهاينة الخبيثة في العولمة... توضيحها للأمريكان وغيرهم
13. بناء الأمة لقادة المستقبل... في توحيد الصف الإسلامي ولو كان متعدد المناهج !!... وإقامة حوارات مصارحة بين المشايخ المختلفين للوصول إلى نقاط التقاء لا من باب نبش الخلاف .. والانطلاق في الحوار من أسس مشتركة عملا بالآية [وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ..
أقول هذا حتى لا نجد أنفسنا في المستقبل بلا قيادة متفقة ..
14. نشر فتاوى العلماء .. وأن الراضي بالاحتلال الأمريكي للعراق يكون كافرا مرتدا .. وأنه لا شبهة بعد سقوط حزب البعث الذي يراه البعض -والله أعلم بالنيات- سببا في عدم تكفير من أعان الصليبيين على المسلمين .. وننقل مثالا في ذلك رأي الشيخ حامد العلي من الكويت :
موضوع : يا من أيدت الغزو الشيخ العلي من الكويت يقول : من رضي باحتلال أمريكا للعراق كافر مرتد
http://d r r r r.com/vb/showth r ead.php?s=&th r eadid=31073
15. الاهتمام بالعمل الجماعي أو المؤسسي .. والبعد عن الفردية المفرطة لأن في الأعمال الفردية مجال لتكرار الأعمال أو ضعفها أو تصادمها أو توقفها بتوقف أصحابها..
16. نشر مفهوم [تعلق النتائج بالأسباب] بين المسلمين لما في المسلمين من تهاون وقعود انتظارا للقدر .. والقدر لا يصرف إلا بالعمل بالقدر .. فترك العمل مدعاة لنتائج ضعيفة أو معدومة .. فمن كان له عمل كانت له نتيجة ومن ترك العمل كانت له نتائج تاركي العمل .
وكثير من الناس يخلط بين القعود وانتظار نصرة الله وبين العمل بكامل الجهد ولو كان قليلا وقد لا يكفي العمل به ومن ثم انتظار نصرة الله عز وجل ..(55/152)
17. التنبيه على تناقضات الغزو الصليبي فهم كانوا يتحدثون عن التحرير من حزب البعث ثم ظهر خداعهم عندما قالوا : [مادام تحت العلم الأمريكي فلا مشكلة في البعث.. وزير الدفاع البريطاني : أعضاء حزب البعث سيشاركون في الحكومة] والحقيقة أن المستعمر محتاج الآن إلى الرافضة وحزب البعث لأنهم أفضل من يتعاون مع الصليبيين ..
http://www.h-alali.net/news/show.php?id=551
وهذا رابط يدل على إرهاصات بأنهم لا مانع عندهم من عودة صدام حسين للسلطة ليقوم بدوره الجديد.
http://fo r um.fwaed.net/showth r ead.php?s=&th r eadid=22902
18. التنبيه من خطر الالتجاء للأمم المتحدة .. والتي تقوم بالدور اللازم في حماية مصالح الدول الكبرى .. وتغطية جرائم الحرب الخاصة بهم ... والتعاون على حرب مصالح المسلمين في العالم .
19. متابعة وكشف وفضح كل بادرة تنصيرية صليبية ، بل وعمل الخطوات اللازمة للتحذير منهم ومن مخططاتهم ونجعلهم عبرة لغيرهم ليكفوا عن نشاطاتهم الصليبية المعادية للإسلام.
20. الحذر والتحذير من التيارات العلمانية والتيارات الحداثية التي هي في حقيقتها الوجه الفكري والأدبي للصليبيين أو على أقل التقدير هي إحدى الحلفاء التاريخيين لهم . وإذا كان النصارى يتحالفون مع الجميع فإن أفضل حليف لهم هم العلمانيون الذين فقدوا الغيرة الدينية والنخوة الإسلامية وكذلك الحداثيون الذين يدعون إلى التغيير الدائم المستمر.فالنصارى والعلمانيون والحداثيون يجتمعون في مواجهة الخطر المشترك ألا وهو الإسلام.
21. الدعوة إلى حماية الشباب من الاختلاط بغير المسلمين قدر المستطاع أو الاتصال بهم .
22. تشجيع السفر من قبل الموثوقين والمخلصين للدعوة لله تعالى والتعليم وغير ذلك من المصالح العلمية والعملية التي تحتاجها الأمة في بلد من بلادها .
23. تخريج فريق بل فِرقٌ من الدعاة المتخصصين في دراسة النصرانية والتعامل مع المنتسبين إليها ودراسة وثائقها ويمكن أن يتولى هذا العمل الجليل معهد للتبشير الإسلامي يقوم عليه بعض الدعاة ويكون هذا المعهد عبارة عن أقسام :
* قسم لإعداد وإخراج الدعاة من الرجال .
* قسم لإعداد الداعيات من النساء .
* قسم لدراسة التنصير وإعداد الخطط والإحصائيات المتعلقة به .
إلى غير ذلك من الأقسام التي يُحتاج إليها .
24. اعتماد أسلوب المناظرة خاصة من الراسخين في العلم مع عباد الصليب وينبغي أن يكون هذا الأسلوب مضبوط بضوابط ينبغي الاستفادة منه وتجنب سلبياته .
25. العناية بالعمال المسلمين الموجودين هنا وفي كل بلد إسلامي في تعليمهم ورعايتهم....... ورفع الظلم الذي يقع عليهم من قبل مكفوليهم من تأخير الرواتب أو إسكانهم في أماكن غير لائقة . بل يجب أن نرفع الظلم إلى كل من هو موجود هنا إنها الفرصة التي يستغلها النصارى في مد يد العون إلى هؤلاء الضعفاء لتنصيرهم أو لإبعادهم عن الإسلام .
26. إعداد أشرطة سمعية لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام ويكون إعدادها بطريقة جذّابة بالعربية أولاً ثم يُترجم إلى اللغات الأخرى مع مراعاة حسن الصوت واستخدام المؤثرات الصوتية المقبولة والسعي إلى توزيع هذه الأشرطة بكميات كبيرة لدى غير المسلمين وفي جميع البلاد .
27. على من يجيدون اللغة الإنجليزية مسئولية كبيرة خاصة في إبراز الجوانب المهمة التي يجب أن يُعرّف بها غير المسلمين وإدارة النقاشات والحوارات بكل مناسبة معهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن كما قال عز وجل : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم } .
28. محاربة العادات الصليبية كالأعياد والمناسبات والشعارات واللباس وغيرها .
29. التذكير بالدعاء في آخر ساعة من ساعات الجمعة .. وتحديد الأهداف التي ندعو الناس للدعوة لهم أو عليهم .. وهذا مثال جيد للتذكير :
http://fo r um.fwaed.net/showth r ead.php?s=&th r eadid=22106
30. فضح زعماء الغرب والتعريف بأهدافهم وتاريخهم لترسيخ كرههم ..
31. نشر تاريخ أمريكا الأسود وذكر الأحداث الدموية التي تمت على أيديهم وتحت سياساتهم .. وفضح هذه السياسات المغلفة بأغلفة خدَّاعة .
32. ذكر وتوثيق تناقضات الغرب في تعامله مع قضايا المسلمين وقضايا غيرهم [مثل مغازلة كوريا وضرب العراق] و [دعم جون قرنق مع أنهم أقلية نصرانية 15% واتهام الكشميريين بالإرهاب] وغيرها كثير .
33. ذكر حقائق وأرقام تنبئ بسقوط امريكا .
34. تذكير التجار المسلمين أن معونتهم للأمريكان كفر وردة في حربهم على أي بلد مسلم حتى لا يتكرر ما شاهدناه في حرب العراق الأخيرة .
35. فضح المصطلحات التي يتكئ عليها الغرب الكافر وتبيينها للمسلم العادي [مثل مصطلح الديموقراطية ...وغيرها] والأمريكان ألد أعداءها إذا كان المستفيد هم المسلمون [كما حدث في الجزائر] ..
36. فضح الصليبيين والصهاينة وأعداء الله عند المسلمين والنصارى واليهود المشاركين في حرب المسلمين والبقية غير المناهضين للحرب .
37. الاهتمام بالمنهج النبوي في تعليم الشباب والأشبال لمهارات القتال كما نُقِل [علموا أولادكم الرماية والسباحة و ركوب الخيل](55/153)
38. عدم انتظار القائد المخلص الجاهز .. والعمل على صناعة هؤلاء القادة .. يجب أن يكون لنا دورا في صناعة القائد .. فكثير من الناس يبحث عن المخلِّص ولو كان خارج دائرة الإسلام أو على رأس نظام طاغوتي ويبحث عن الأسباب التي يمكن أن تدل على إسلاميته ثم يبدأ وضع تصورات الخلاص على يديه .. فمن فرح بجمهورية الخميني التي حاربت وما تزال تحارب السنة .. ومن نسج الخيالات على الطاغية صدام حسين والحديث في صناعة الخيالات تجاه مثل هؤلاء يطول فيه الكلام ..
والهدف أننا ينبغي علينا البحث عن الوسائل المناسبة في صناعة القادة ..
39. فضح أساليب حرب التعليم الديني .. كما حدث في الباكستان وأفغانستان والسعودية وفي غيرها .. وسيكون بشكل أكبر في العراق ..
راجع مقال : كير : تغيير الأمريكان نظم التعليم العراقية خلال 5 أشهر بدعوى مكافحة التطرف لا يخدم العملية التربوية
http://www.h-alali.net/news/show.php?id=549
40. أهمية تعلم ودراسة طرق تفكير العدو و أهم عاداتهم وتقاليدهم إن أمكن .. حتى يمكننا التعرف على الطرق الكفيلة في النجاح في مقاومته ومواجهته.
41. عمل لجنة مطالبات مالية على كل الدول المعتدية على أراضي المسلمين ... وكذا يكون فيمن تعاون معهم كالدول المقاتلة أو الدول التي تحضر جيوشها للأمن باسم الأمم المتحدة وتقاتل المسلمين ولا تقاتل المعتدين المحتلين ... فكما أنهم يقاتلون المسلمين ويثبتون الحكم للمعتدين فعليهم ما على المعتدين من الإصلاح ..
ويكون على كل دولة جانب مالي تعويضي .. يعطي في نفوسهم أننا لن ننسى جرائمهم التي يجاهرون فيها صباح مساء ..
42. عمل قائمة بأسماء مجرمي الحرب الذين قاموا بمحاربة المسلمين أو طاعة رؤساؤهم في ذلك .. ويكون ذلك من قادتهم ورؤسائهم .. فهم يقومون بعمل القوائم على المسلمين ويستهدفون زعماءهم وقاداتهم الإسلامية .. فمن حق المسلمين أن يكون لهم قوائم ينشرونها تحتوي زعماء العصابات النصرانية والتي تلعب في بلاد المسلمين كما تشاء من غير حسيب ولا رقيب.
وهذه القائمة سيكون لها الدور إن شاء الله تعالى في تضعيف أو توهين الطاعة عندهم .. ولذا ينبغي أن تكون القائمة دقيقة وتستهدف الأشخاص القياديين ومن أطاعهم من كبراءهم من القادة الكبار.
43. نشر مفهوم : لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم . وذلك لربط الأمة وجمع كلمتها .
44. إبراز كيفية المحافظة على الأسرة المسلمة وبناءها ودورها .
45. بيان دور الوحدة الإسلامية ونزع بذور القومية والجاهلية والشركية والبدع وارتبط ذلك برضا الله عز وجل وأثره في بناء الدولة الإسلامية .
46. إعادة مفهوم تطبيق الحدود والتعزير والأحكام الإسلامية وفوائدها إلى أذهان المسلمين .
47. الاستفادة من القنوات الفضائية والإذاعية والصحفية الغربية الحرة في أمور مدروسة نحتاجها .
48. بيان دور الأمراض الاجتماعية الفتاكة وخصوصآ الآتية من عند أعداء الله في هدم المجتمع وأخلاقه وقيمه وحضارته .
49. التعريف بالسلف الصالح والعلماء والدعاة والقادة السابقين والمعاصرين والمواقف البطولية لهم وثباتهم ودورهم الجهادي والإصلاحي في إصلاح الفرد والمجتمع .
50. العمل ضمن إطار شرعي ومنظم كالعمل دون وجود اختلاط لما في ذلك من آثار على شخصية الرجل والمرأة وكيان المجتمع الذي سيقوم بدوره في إنتاج المجتمع المسلم .
51. مواصلة العمل في المراحل المخطط لها بنظام وصبر وثبات ودون توقف حتى لو تعطلت أو تأخرت في أماكن ومراحل أخرى .
52. توخي الحذر وإشهار ممن يشك بأنه من العملاء أو الطابور الخامس .
53. إعادة تنظيم الدوائر والمؤسسات الحكومية إسلاميآ ولو بشكل تخطيطي حاليآ حتى يمكن توجيه المؤسسات إلى شكلها الإسلامي إلى حين اليوم الذي يكون تطبيقه سهلا بإذن الله أو أمرآ متاحآ .
للمعلمين :
1. الحذر من محاولات الأعداء من التحكم والتلاعب بمناهج المسلمين الدراسية بما في ذلك محاولات نزع المناهج الدينية وزرع الفكر العلماني فيها .. وتنبيه العلماء عن التغييرات الحادثة.
2. تنمية العواطف الهامة لدى الطلاب للتوجيه بأهمية الاستمرار في المقاطعة الاقتصادية للبضائع الأمريكية والبريطانية وغيرهم من المعادين للأمة.. والاهتمام بذلك أشد الاهتمام ..
3. ترسيخ العقيدة الإسلامية الصحيحة في نفوس الطلاب وتحبيبهم إلى دينهم الإسلامي الحنيف فان الاستعمار أول ما عمل به في الدول الإسلامية هو ضرب العقيدة الإسلامية في النفوس.
4. الاهتمام باللغة العربية فهي مصدر الترابط بين المسلمين وهي مصدر فهم الدين .. والانتباه إلى محاولات الأعداء إلى تضعيف اللغة العربية وجعلها لغة ثانوية في كل بلد ليس إسلامي ولكن عربي . لان الاستعمار الصليبي يعلم انه حتى يفهم المسلم دينه عليه أن يتمكن من اللغة العربية الصحيحة .(55/154)
5. إصلاح مناهج التعليم بما يضمن إخراج الطالب الصالح المرتبط بإسلامه وعقيدته ومجتمعه المؤمن بعقيدة الولاء والبراء المحب للمؤمنين المبغض لليهود والنصارى والمشركين حتى يعرف مَن هو صديقه من عدوه . فهم يقومون بتغيير المناهج بما يخدم مصالحهم التنصيرية ونحن ينبغي لنا أن نبذل الجهد بما يخدم مصالحنا الدينية .
للمربين :
1. الاهتمام بتحفيظ القرآن الكريم للناشئة لأنه المصدر الأساس في فهم الإسلام ... ومنه منطلق العقيدة والدين ..
2. ترسيخ العقيدة الإسلامية الصحيحة في نفوس الأمة وتحبيبهم إلى دينهم الإسلامي الحنيف فان الاستعمار أول ما عمل به في الدول الإسلامية هو ضرب العقيدة الإسلامية في النفوس.
3. الحذر من طرق الأعداء في نشر الفساد في المجتمع المسلم .. حتى أن احد الإخوة الفلسطينيين قال : أن اليهود في فلسطين عمدوا إلى توزيع الصور الفاجرة على العمال الفلسطينيين بغرض إضاعة دينهم ومن بعدها نفوسهم .
4. التوجيه إلى وجوب طلب العلم الشرعي وخاصة في مثل زمننا .. وذلك لما في طلب العلم من أثر في تغيير المفاهيم والسلوك في الشعوب ومنعها من التساقط في مغريات وشبهات الغزاة .. قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : [من يرد الله به خيرا يفقه في الدين] .. فالبدء بكتاب الله حفظا وتفسيرا وكذلك الحديث النبوي الشريف تعلما وشرحا .. وهكذا ..
5. العناية بمؤسسات رعاية الشباب ومؤسساتها المختلفة ونواديها ومخيماتها ونشاطاتها وحمايتها من البلاء الذي يهددها وإبعاد اللاعبين والمدربين الأجانب عن النوادي الرياضية والحرص على تصحيح الأوضاع التي تتعلق بتربية الشباب وإعدادهم وإصلاحهم .
6. عدم انتظار القائد المخلص الجاهز .. والعمل على صناعة هؤلاء القادة .. يجب أن يكون لنا دورا في صناعة القائد .. فكثير من الناس يبحث عن المخلِّص ولو كان خارج دائرة الإسلام أو على رأس نظام طاغوتي ويبحث عن الأسباب التي يمكن أن تدل على إسلاميته ثم يبدأ وضع تصورات الخلاص على يديه .. فمن فرح بجمهورية الخميني التي حاربت وما تزال تحارب السنة .. ومن نسج الخيالات على الطاغية صدام حسين والحديث في صناعة الخيالات تجاه مثل هؤلاء يطول فيه الكلام ..
والهدف أننا ينبغي علينا البحث عن الوسائل المناسبة في صناعة القادة ..
للآباء والأمهات:
1. تنبيه العلماء والدعاة عن أي تغيير في محاولات نزع الدين من المناهج الدراسية واستنكار ذلك عند العلماء والولاة.
2. الاستمرار في المقاطعة الاقتصادية للبضائع الأمريكية والبريطانية وغيرهم من المعادين للأمة.. والاهتمام بذلك أشد الاهتمام ..
3. ومن المهم أن يكون لدينا بعض التنازل [بل كل التنازلات] عن رغبات النفس في البضائع التي ليس لها ضرورة ماسة لنا .. فكثير من المشتروات هي في الحقيقة كماليات وغير ضرورية للفرد .. ويمكن تعويضها بغيرها ..
4. فالله الله في عدم دعم الاقتصاد الغربي عموما .. والأمريكي والبريطاني خصوصا .. فكل مال ندفعه لهم فهو في الحقيقة قنابل ورصاصات في صدور إخواننا ..
5. ترسيخ العقيدة الإسلامية الصحيحة في نفوس الخلف أو الذرية وتحبيبهم إلى دينهم الإسلامي الحنيف فان الاستعمار أول ما عمل به في الدول الإسلامية هو ضرب العقيدة الإسلامية في النفوس.
6. الاهتمام باللغة العربية فهي مصدر الترابط بين المسلمين وهي مصدر فهم الدين .. والانتباه إلى محاولات الأعداء إلى تضعيف اللغة العربية وجعلها لغة ثانوية في كل بلد ليس إسلامي ولكن عربي . لان الاستعمار الصليبي يعلم انه حتى يفهم المسلم دينه عليه أن يتمكن من اللغة العربية الصحيحة .
7. الاهتمام بتحفيظ القرآن الكريم للناشئة لأنه المصدر الأساس في فهم الإسلام ... ومنه منطلق العقيدة والدين ..
8. الحذر من طرق الأعداء في نشر الفساد في المجتمع المسلم .. حتى أن احد الإخوة الفلسطينيين قال : أن اليهود في فلسطين عمدوا إلى توزيع الصور الفاجرة على العمال الفلسطينيين بغرض إضاعة دينهم ومن بعدها نفوسهم .
9. الحذر من المدارس الأجنبية وبذل الجهد في تحجيمها [أو إيقافها] ...
للمجاهدين :
1. تفعيل الجهاد ضد الغزاة والدعوة إليه عموما .. وخصوصا في الأراضي المستعرة والتي تقوم الحرب فيها بين المسلمين وبين رايات الكفر المحاربة للإسلام .. وذلك مثل مناطق الأفغان والشيشان وفلسطين والأكراد والعراق والفلبين وكشمير وبعض دول أفريقيا وغيرها ..
2. الاستعداد والتجهيز للاستمرار في حروب الاستنزاف طويلة المدى ..
3. نقل بعض العمليات في قلب الدول الكافرة (المحاربة) .. وهذا حق مشروع وقد اتفقت دول الكفر على أن هذا الأمر غير مباح للمسلمين فقط ولو كانوا محاربين في ديارهم .. فالمسلمون في نظر الغربيين ينبغي ألا يكونوا سببا حتى في اتساخ سكينة الجزار بدمائهم ..
4. تفعيل العمليات الاستشهادية ، وإيلام العدو الغازي بلاد المسلمين بأكبر الخسائر البشرية .(55/155)
5. التوجيه لفتح طرق لدعم المجاهدين ماليا من الزكاة أو من غير الزكاة .. والملاحظ أن هناك محاولات كبيرة جدا من الصليبيين لمنع تمويل المجاهدين أو حتى عائلات المجاهدين .. ولذا ينبغي الاهتمام بالتمويل للجهاد .
6. لابد أن نحرص كل الحرص على الوسائل الإعلامية القوية التي تؤثر في الصديق والعدو أكثر من السلاح أحيانا .. و كلنا يعلم مدى قوة الغرب في الحرب الإعلامية وتأثيره على أعدائهم وحتى على شعوبهم ...
والشاهد على ذلك من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم .. الصحابي الجليل حسان بن ثابت الذي كان يرسل أبياته وشعره كالصواعق تدك قلوب المشركين ... وكان رسول ا صلى الله عليه وسلم يحثه ويدعو له ..
نعم نهتم بهذا السلاح الذي أغفلته أمتنا في هذه الظروف ويكون ذلك ... عن طريق الانترنت - القنوات الفضائية - الراديو ..... الخ
7. ذكر بعض جوانب النصر في القضية العراقية وذلك لعلاج بعض حالات الإحباط عند بعض السطحيين من المسلمين و حالة الشعور بعدم الثقة , فنقوم بإقناعهم أن الجهود التي قام بها المسلمون من الدعاء و التفاعل مع هذه القضية كان بحد ذاته نصرا , و أن في توحد صفوف المسلمين على اختلاف الأماكن دليل قوة هي بداية النصر إذا ما التزمنا بالمنهج القويم للإسلام. http://g r oups.yahoo.com/g r oup/abubanan
8. التحريض للاستعداد والإعداد لجهاد الصليبيين الحاقدين ..
9. التدرب على صناعة السلاح الذي يفتك بأعداء الأمة مع... ولو كانت الأفكار في بدايتها بدائية ... ولكن شيئا فشيئا حتى نصل ...مع الحذر من ترقبات المنافقين ... ولنا مثل وقدوة في إخواننا في فلسطين وكيف ابتكروا صواريخ القسام وغيرها والزجاجات الحارقة . ويكفي في ذلك قوله تعالى : [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل]
وهذا الذي لا يريده أعداء الإسلام .. فهم يبذلون قصارى جهدهم في جعل الحكومات تحارب هذه الفكرة وبعدها تبقى الدول ضعيفة تنتظر السماح لها بشراء الأسلحة التي هم يريدون .
10. العمل على البدء في حرب العصابات في الدول التي تحتلها أمريكا .. وأمريكا لن تخرج - في غالب الظن - بسبب الأزمات التي تكاد تعصف بها .. و للمجاهدين اليد الطولى في هذه الحروب والفتك بجند أمريكا أشد الفتك .. ولسهولة الوصول إلى أرض العراق من خلال الحدود الطويلة المحاذية لدول الجوار فينبغي الاهتمام بالجهاد هناك وتمويل المجاهدين بالمال والسلاح ..
والمهم أن تكون تحت راية المجاهدين لا تحت راية البعث الكافر .
11. أهمية تعلم ودراسة طرق تفكير إن أمكن .. حتى يمكننا التعرف على الطرق الكفيلة في النجاح في مقاومته ومواجهته.
12. الثبات .. الثبات ... وخاصة عند ملاقاة العدو .. يقول عز وجل [يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون]
13. عمل لجنة مطالبات مالية على كل الدول المعتدية على أراضي المسلمين ... وكذا يكون فيمن تعاون معهم كالدول المقاتلة أو الدول التي تحضر جيوشها للأمن باسم الأمم المتحدة وتقاتل المسلمين ولا تقاتل المعتدين المحتلين ... فكما أنهم يقاتلون المسلمين ويثبتون الحكم للمعتدين فعليهم ما على المعتدين من الإصلاح ..
ويكون على كل دولة جانب مالي تعويضي .. يعطي في نفوسهم أننا لن ننسى جرائمهم التي يجاهرون فيها صباح مساء ..
14. عمل قائمة بأسماء مجرمي الحرب الذين قاموا بمحاربة المسلمين أو طاعة رؤساؤهم في ذلك .. ويكون ذلك من قادتهم ورؤسائهم .. فهم يقومون بعمل القوائم على المسلمين ويستهدفون زعماءهم وقاداتهم الإسلامية .. فمن حق المسلمين أن يكون لهم قوائم ينشرونها تحتوي زعماء العصابات النصرانية والتي تلعب في بلاد المسلمين كما تشاء من غير حسيب ولا رقيب.
وهذه القائمة سيكون لها الدور إن شاء الله تعالى في تضعيف أو توهين الطاعة عندهم .. ولذا ينبغي أن تكون القائمة دقيقة وتستهدف الأشخاص القياديين ومن أطاعهم من كبراءهم من القادة الكبار.
15. بيان كيفية عمل التدريب الجهادي الفردي ريثما تتاح الفرصة لعمل التدريب الجهادي الجماعي المنظم .
16. بيان دور الخنادق والأهداف الزائفة والأساليب التكتيكية في الحرب .
القادرين على الجهاد من غير المجاهدين:
1. التدرب القتالي في المناطق التي يسمح فيها بالتدرب القتالي للمسلمين .. أو لا يوجد سلبيات وردود فعل أكبر ذات التدريب .. مع الحرص على الكتمان والخصوصية ..
2. الاستعداد والتجهيز للاستمرار في حروب الاستنزاف طويلة المدى ..
3. التدريب الرياضي والبدني ..فأكثرنا بدون لياقة أو سمين أو مريض بسبب القعود وضعف التدرب... ولنا في سباق الرسو صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها ومصارعته لبعض الصحابة ومن سير السلف صعود ابن تيمية الجبل ونزوله للتقوي .. وغير ذلك من المحفزات والاستدلالات التي تدفع بالمسلم إلى التدرب البدني والجهادي..
للإعلاميين :
1. تكوين الوسائل الإعلامية القوية التي تؤثر في الصديق والعدو أكثر من السلاح أحيانا .. و كلنا يعلم مدى قوة الغرب في الحرب الإعلامية وتأثيره على أعدائهم وحتى على شعوبهم ...(55/156)
والشاهد على ذلك من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم .. الصحابي الجليل حسان بن ثابت الذي كان يرسل أبياته وشعره كالصواعق تدك قلوب المشركين ... وكان رسول ا صلى الله عليه وسلم يحثه ويدعو له ..
نعم نهتم بهذا السلاح الذي أغفلته أمتنا في هذه الظروف ويكون ذلك ... عن طريق الانترنت - القنوات الفضائية - الراديو ..... الخ
2. نشر صور الخوف و الرعب لدى الجندي الغربي .. و قتلى و جرحى القوات الغازية , و ذلك لتحطيم صورة النصر و القوة التي تحاول أمريكا رسمها و من ثم تريد إثارة الرعب بين بقية الدول . فلا بد من إقناع العالم و لاسيما الإسلامي بضعف جيش الغزاة لرفع المعنويات المسلمين .
http://g r oups.yahoo.com/g r oup/abubanan
3. نشر صور الجرائم التي ارتكبت من قبل الغزاة في حق المدنيين و المنشئات المدنية , و ذلك لإعطاء المجاهدين شحنة من القوة في أسباب القتال , و تعرية الغزاة من ثوب التحرير الذي يحاولون إقناع أنفسهم و القلة من المغفلين .
http://g r oups.yahoo.com/g r oup/abubanan
4. ذكر بعض جوانب النصر في القضية العراقية وذلك لعلاج بعض حالات الإحباط عند بعض السطحيين من المسلمين و حالة الشعور بعدم الثقة , فنقوم بإقناعهم أن الجهود التي قام بها المسلمون من الدعاء و التفاعل مع هذه القضية كان بحد ذاته نصرا , و أن في توحد صفوف المسلمين على اختلاف الأماكن دليل قوة هي بداية النصر إذا ما التزمنا بالمنهج القويم للإسلام. http://g r oups.yahoo.com/g r oup/abubanan
5. التحريض للاستعداد والإعداد لجهاد الصليبيين الحاقدين ..
6. نشر فتاوى العلماء .. وأن الراضي بالاحتلال الأمريكي للعراق يكون كافرا مرتدا .. وأنه لا شبهة بعد سقوط حزب البعث الذي يراه البعض -والله أعلم بالنيات- سببا في عدم تكفير من أعان الصليبيين على المسلمين .. وننقل مثالا في ذلك رأي الشيخ حامد العلي من الكويت :
موضوع : يا من أيدت الغزو الشيخ العلي من الكويت يقول : من رضي باحتلال أمريكا للعراق كافر مرتد
http://d r r r r.com/vb/showth r ead.php?s=&th r eadid=31073
7. منع الإعلام وخاصة الصحافة من نشر الأخبار الدعائية المتعلقة بالسفر للخارج للسياحة والاختلاط للشباب (أو غيرهم) كما يجب منع الخطوط الجوية من إعلان أسماء وعناوين الفنادق وأماكن اللهو والقمار في جميع أنحاء العالم ومطالبتها بالإعلان عن الجمعيات والمؤسسات الخيرية وأماكن الإصلاح .
8. إعداد أشرطة سمعية لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام ويكون إعدادها بطريقة جذّابة بالعربية أولاً ثم يُترجم إلى اللغات الأخرى مع مراعاة حسن الصوت واستخدام المؤثرات الصوتية المقبولة والسعي إلى توزيع هذه الأشرطة بكميات كبيرة لدى غير المسلمين وفي جميع البلاد .
9. محاربة العادات الصليبية كالأعياد والمناسبات والشعارات واللباس وغيرها .
10. فضح زعماء الغرب والتعريف بأهدافهم وتاريخهم لترسيخ كرههم ..
11. نشر تاريخ أمريكا الأسود وذكر الأحداث الدموية التي تمت على أيديهم وتحت سياساتهم .. وفضح هذه السياسات المغلفة بأغلفة خدَّاعة .
12. ذكر وتوثيق تناقضات الغرب في تعامله مع قضايا المسلمين وقضايا غيرهم [مثل مغازلة كوريا وضرب العراق] و [دعم جون قرنق مع أنهم أقلية نصرانية 15% واتهام الكشميريين بالإرهاب] وغيرها كثير .
13. ذكر حقائق وأرقام تنبئ بسقوط أمريكا .
14. فضح المصطلحات التي يتكئ عليها الغرب الكافر وتبيينها للمسلم العادي [مثل مصطلح الديموقراطية ...وغيرها] والأمريكان ألد أعداءها إذا كان المستفيد هم المسلمون [كما حدث في الجزائر] ..
15. العمل على إنشاء ودعم القنوات الفضائية والإذاعية والصحفية وكافة مؤسسات التي تخدم مقومات الدولة الإسلامية .
مستخدمي الإنترنت :
1. التحليل للأخبار بدلا من النقل فقط .. فكل خبر له عدد من التحليلات قد تصح أو تخطيء ولكن نشر هذه التحليلات يعطي تصورا أبعد للحدث .. فإذا تم نقل الأخبار التالية بعدها يمكن ربط الأخبار والتعرف على التحليلات الصائبة وما يمكن توقعه مستقبلا..
2. تكوين الوسائل الإعلامية القوية في الإنترنت التي تؤثر في الصديق والعدو أكثر من السلاح أحيانا .. و كلنا يعلم مدى قوة الغرب في الحرب الإعلامية وتأثيره على أعدائهم وحتى على شعوبهم ...
والشاهد على ذلك من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم .. الصحابي الجليل حسان بن ثابت الذي كان يرسل أبياته وشعره كالصواعق تدك قلوب المشركين ... وكان رسول ا صلى الله عليه وسلم يحثه ويدعو له ..
نعم نهتم بهذا السلاح الذي أغفلته أمتنا في هذه الظروف ويكون ذلك ... عن طريق الانترنت - القنوات الفضائية - الراديو ..... الخ
3. نشر صور الخوف و الرعب لدى الجندي الغربي .. و قتلى و جرحى القوات الغازية , و ذلك لتحطيم صورة النصر و القوة التي تحاول أمريكا رسمها و من ثم تريد إثارة الرعب بين بقية الدول . فلا بد من إقناع العالم و لاسيما الإسلامي بضعف جيش الغزاة لرفع المعنويات المسلمين .
http://g r oups.yahoo.com/g r oup/abubanan(55/157)
4. نشر صور الجرائم التي ارتكبت من قبل الغزاة في حق المدنيين و المنشئات المدنية , و ذلك لإعطاء المجاهدين شحنة من القوة في أسباب القتال , و تعرية الغزاة من ثوب التحرير الذي يحاولون إقناع أنفسهم و القلة من المغفلين .
http://g r oups.yahoo.com/g r oup/abubanan
5. الحاجة لإنشاء مواقع إسلامية أكثر باللغة الإنكليزية[ باستغلال المواقع الشخصية المجانية أو غيرها] لتوضيح مفاهيم الإسلام النبيلة وخطط الصهاينة الخبيثة في العولمة... توضيحها للأمريكان وغيرهم
6. نشر فتاوى العلماء .. وأن الراضي بالاحتلال الأمريكي للعراق يكون كافرا مرتدا .. وأنه لا شبهة بعد سقوط حزب البعث الذي يراه البعض -والله أعلم بالنيات- سببا في عدم تكفير من أعان الصليبيين على المسلمين .. وننقل مثالا في ذلك رأي الشيخ حامد العلي من الكويت :
موضوع : يا من أيدت الغزو الشيخ العلي من الكويت يقول : من رضي باحتلال أمريكا للعراق كافر مرتد
http://d r r r r.com/vb/showth r ead.php?s=&th r eadid=31073
7. التنبيه على تناقضات الغزو الصليبي فهم كانوا يتحدثون عن التحرير من حزب البعث ثم ظهر خداعهم عندما قالوا : [مادام تحت العلم الأمريكي فلا مشكلة في البعث.. وزير الدفاع البريطاني : أعضاء حزب البعث سيشاركون في الحكومة] والحقيقة أن المستعمر محتاج الآن إلى الرافضة وحزب البعث لأنهم أفضل من يتعاون مع الصليبيين ..
http://www.h-alali.net/news/show.php?id=551
وهذا رابط يدل على إرهاصات بأنهم لا مانع عندهم من عودة صدام حسين للسلطة ليقوم بدوره الجديد.
http://fo r um.fwaed.net/showth r ead.php?s=&th r eadid=22902
8. تحويل الأفكار إلى تطبيق عملي : فمع الاهتمام بالمزيد من الأفكار فإننا نحتاج إلى تطبيق هذه الأفكار وتحويلها إلى واقع عملي .. وهو الأهم .. وهو سبب النجاح .. وونعوذ بالله أن نكون ممن صفات مشابهة لليهود أو النصارى ..
فمن صفات اليهود التي ذكرت بالقرآن [ المغضوب عليهم] وقال العلماء ليسو اليهود وحدهم المقصودون بهذا القول ولو أن الخطاب كان عنهم ولكن قالو : هم كل من علم ولم يعمل .. وكذلك النصارى [الضآلين] وأيضاً الخطاب عنهم خاصة ولكن يشمل كل من عمل ولم يعلم [عمل العمل بدون علم وتعلم].. وأما الطائفة المحمودة جعلني الله وإياكم وجميع المسلمين منهم هم الذين يعلمون ويتعلمون ..
وما أريد الوصول إليه هو علينا بالعمل بكل ما نعلم أنه في إرضاء ربنا وترك ما نعلم أنه يغضبه - وليس العلم لزيادة المعلومات لدى الشخص هي المقصود - بل العمل العمل العمل
9. نشر روابط أشرطة سمعية لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام ويكون إعدادها بطريقة جذّابة بالعربية أولاً ثم يُترجم إلى اللغات الأخرى مع مراعاة حسن الصوت واستخدام المؤثرات الصوتية المقبولة والسعي إلى توزيع هذه الأشرطة بكميات كبيرة لدى غير المسلمين وفي جميع البلاد .
10. على من يجيدون اللغة الإنجليزية مسئولية كبيرة خاصة في إبراز الجوانب المهمة التي يجب أن يُعرّف بها غير المسلمين وإدارة النقاشات والحوارات بكل مناسبة معهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن كما قال عز وجل : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم } .
11. محاربة العادات الصليبية كالأعياد والمناسبات والشعارات واللباس وغيرها .
12. التذكير بالدعاء في آخر ساعة من ساعات الجمعة .. وتحديد الأهداف التي ندعو الناس للدعوة لهم أو عليهم .. وهذا مثال جيد للتذكير :
http://fo r um.fwaed.net/showth r ead.php?s=&th r eadid=22106
13. فضح زعماء الغرب والتعريف بأهدافهم وتاريخهم لترسيخ كرههم ..
14. نشر تاريخ أمريكا الأسود وذكر الأحداث الدموية التي تمت على أيديهم وتحت سياساتهم .. وفضح هذه السياسات المغلفة بأغلفة خدَّاعة .
15. ذكر وتوثيق تناقضات الغرب في تعامله مع قضايا المسلمين وقضايا غيرهم [مثل مغازلة كوريا وضرب العراق] و [دعم جون قرنق مع أنهم أقلية نصرانية 15% واتهام الكشميريين بالإرهاب] وغيرها كثير .
16. ذكر حقائق وأرقام تنبئ بسقوط امريكا .
17. تذكير التجار المسلمين أن معونتهم للأمريكان كفر وردة في حربهم على أي بلد مسلم حتى لا يتكرر ما شاهدناه في حرب العراق الأخيرة .
18. عمل لجنة مطالبات مالية على كل الدول المعتدية على أراضي المسلمين ... وكذا يكون فيمن تعاون معهم كالدول المقاتلة أو الدول التي تحضر جيوشها للأمن باسم الأمم المتحدة وتقاتل المسلمين ولا تقاتل المعتدين المحتلين ... فكما أنهم يقاتلون المسلمين ويثبتون الحكم للمعتدين فعليهم ما على المعتدين من الإصلاح ..
ويكون على كل دولة جانب مالي تعويضي .. يعطي في نفوسهم أننا لن ننسى جرائمهم التي يجاهرون فيها صباح مساء ..(55/158)
19. عمل قائمة بأسماء مجرمي الحرب الذين قاموا بمحاربة المسلمين أو طاعة رؤساؤهم في ذلك .. ويكون ذلك من قادتهم ورؤسائهم .. فهم يقومون بعمل القوائم على المسلمين ويستهدفون زعماءهم وقاداتهم الإسلامية .. فمن حق المسلمين أن يكون لهم قوائم ينشرونها تحتوي زعماء العصابات النصرانية والتي تلعب في بلاد المسلمين كما تشاء من غير حسيب ولا رقيب.
وهذه القائمة سيكون لها الدور إن شاء الله تعالى في تضعيف أو توهين الطاعة عندهم .. ولذا ينبغي أن تكون القائمة دقيقة وتستهدف الأشخاص القياديين ومن أطاعهم من كبراءهم من القادة الكبار.
20. تأكيد أهمية أن الحرب خدعة وعدم نشر الأسرار كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة.
للنساء :
1. الحذر من طرق الأعداء وأذنابهم في دعوة المرأة إلى نزع الحجاب بحجة تحرر المرأة .
2. نشر المقالات في الإنترنت أو روابط المقالات والتي تعلم المطلوب من اللياقة البدنية وكيفية تطوير الفرد بدنيا ..
وهذا مثال عن الموضوع المذكور ..
http://www.muslm.o r g/showth r ead.php?s=&th r eadid=79581
لعموم المسلمين :
1. الدعاء والإلحاح على الله عز وجل أن ينصر المسلمين ويجعل العاقبة لهم .. والمطلوب الاستمرار بالدعاء وعدم اليأس والتوقف .. وهذه الفكرة لجميع أفراد المجتمع المسلم ، كبيرهم وصغيرهم .. عالمهم وجاهلهم .. ذكرهم وأنثاهم .. وهي طريقة سهلة الوصول عظيمة الأثر .. ولن يرد الله من دعاه .. إما أن يقبلها وإما أن يحفظها له إلى يوم القيامة ..
2. [لعموم الأفراد] التنبيه على أهمية الدور الفردي في العمل .. فالأعمال الجماعية تتكون من أعمال فردية صغيرة منظمة بإطار واحد .. فلا يستحقرن أحد عملا ولو كان صغيرا.. ولا يستحقرن أحد منا عملا بالمقاطعة ..ولو ترك كل شخص منا عمله اتكالا على الآخرين لما قام بالعمل أحد ..
3. ترك النعومة والترف وخاصة في هذه الأزمنة للرجال والنساء والأطفال .والتعود على المشي و عدم الإكثار من الأكل ، والتعايش في الظرف القاسية [اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم] .
4. التوبة و الاستغفار .. وذلك بترك المعاصي والتوبة ... وفعل الطاعات والأوبة ... فما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة .. ومن المهم أن يقوم المجتمع بمكافحة الذنوب الظاهرة في المجتمع .. فالذنوب العامة أشد وأقرب لنزول العقوبات والبلاء من الذنوب الفردية الخفية ..
5. فوالله إن تركنا للذنب ومحافظتنا على الطاعة هو أول طريق النصر ومحاربة والآيات الدالة على ذلك كثيرة ... ومنها قوله تعالى : [ أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم] وقال تعالى : [ إن تنصروا الله ينصركم ]
6. تفعيل الجهاد ضد الغزاة والدعوة إليه عموما .. وخصوصا في الأراضي المستعرة والتي تقوم الحرب فيها بين المسلمين وبين رايات الكفر المحاربة للإسلام .. وذلك مثل مناطق الأفغان والشيشان وفلسطين والأكراد والعراق والفلبين وكشمير وبعض دول أفريقيا وغيرها ..
7. الاهتمام باللغة العربية فهي مصدر الترابط بين المسلمين وهي مصدر فهم الدين .. والانتباه إلى محاولات الأعداء إلى تضعيف اللغة العربية وجعلها لغة ثانوية في كل بلد ليس إسلامي ولكن عربي . لان الاستعمار الصليبي يعلم انه حتى يفهم المسلم دينه عليه أن يتمكن من اللغة العربية الصحيحة .
8. الحذر من المنظمات التنصيرية القادمة على أشلاء المسلمين ومن أحابيلها وأهدافها الخفية .. ومراقبة أنشطتها على المدى البعيد وتنبيه الشعوب من تحركاتها المشبوهة .
http://islamonline.net/A r abic/news/...a r ticle19.shtml
9. وجوب طلب العلم الشرعي وخاصة في مثل زمننا .. وذلك لما في طلب العلم من أثر في تغيير المفاهيم والسلوك في الشعوب ومنعها من التساقط في مغريات وشبهات الغزاة .. قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : [من يرد الله به خيرا يفقه في الدين] .. فالبدء بكتاب الله حفظا وتفسيرا وكذلك الحديث النبوي الشريف تعلما وشرحا .. وهكذا ..
10. اتباع العلماء الذين قالوا كلمة الحق لا تأخذهم في الله لومة لائم أو تأثير وسائل إعلام أو كيد .. وتقدير مكانتهم بين العلماء .. والحذر من العلماء الذين تقلبت بهم السبل وضعفت مواقفهم ..
11. دعم المجاهدين ماليا من الزكاة أو من غير الزكاة .. والملاحظ أن هناك محاولات كبيرة جدا من الصليبيين لمنع تمويل المجاهدين أو حتى عائلات المجاهدين .. ولذا ينبغي الاهتمام بالتمويل للجهاد .
12. صناعة السلاح الذي يفتك بأعداء الأمة مع... ولو كانت الأفكار في بدايتها بدائية ... ولكن شيئا فشيئا حتى نصل ...مع الحذر من ترقبات المنافقين ... ولنا مثل وقدوة في إخواننا في فلسطين وكيف ابتكروا صواريخ القسام وغيرها والزجاجات الحارقة . ويكفي في ذلك قوله تعالى : [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل]
وهذا الذي لا يريده أعداء الإسلام .. فهم يبذلون قصارى جهدهم في جعل الحكومات تحارب هذه الفكرة وبعدها تبقى الدول ضعيفة تنتظر السماح لها بشراء الأسلحة التي هم يريدون .
13. الدعوة إلى الله ... بكل الأساليب المتاحة ....(55/159)
14. هجر القنوات الفضائية : إن للقنوات الفضائية ومع ما تبثه من تضليل للحقائق والأكاذيب ولو صدقو في بعض المرات تأثيراً قوياً على الناس ..
فإذا نشرت القنوات صورا وأخبارا وأنباءً عن قوة العدو وتمكنه من بلاد المسلمين وانتهاء الحرب المقصودة بالاستيلاء على بعض المدن يقل الحماس الذي فينا من الدعاء والالتجاء لله عز وجل...
فلذلك اتركوا الأخبار من القنوات الفضائية أياً كانت مصداقيتها فهي تأتي بالأخبار الصحيحة تارة وتنقل من القنوات المأجورة والتابعة لتوجيهات الاستخبارات الغربية مرات كثيرة ..
اتركوا القنوات و اعتنوا بالدعاء خاصة وأخبار المواقع الموثوقة في الإنترنت.
15. مقاطعة المؤسسات المشبوهة وبيوت الربا والإعلام الفاسد كأشرطة الفيديو والبث المباشر والصحف المنحرفة وغير ذلك .
16. [للطلاب] الولوج في التخصصات العلمية المختلفة ووجود المتخصصين من الشباب في كل هذه الأمور فلن تكون الأمة بخير ما دامت الخبرة التي تحتاجها يملكها عدوها وليس في عقول المسلمين بحمد الله نقص من غيرهم بل هم روّاد الحضارة في فترة من فترات التاريخ فيجب أن ينبري أصحاب المواهب والخبرات والإمكانيات إلى التخصصات والدراسات العلمية الجادة ويسعوا إلى اكتشاف أسرار التقنية ونقلها إلى بلاد المسلمين ليتم الاستغناء عن الخبراء من اليهود والنصارى وغيرهم .
17. [لأهل المال] دعم المسلمين الذين يحاربون الصليبيين مثل ما نجد اليوم حرب المسلمين ضد النصارى في السودان أو حرب المسلمين ضد النصارى في الفلبين وفي العراق وغيرها من بلاد المسلمين ، فلابد من دعم قوي للمسلمين بكافة وسائل الدعم ، الدعم المالي والدعم الإغاثي والدعم الإنساني وأن هناك دعم آخر لابد أن يُتقن له ألا وهو دعمهم بدعوتهم إلى الله تعالى فلن ينتصروا بالبندقية وحدها بل بطاعة الله ورسوله .
18. [للتجار] العناية بالعمال المسلمين الموجودين هنا وفي كل بلد إسلامي في تعليمهم ورعايتهم....... ورفع الظلم الذي يقع عليهم من قبل مكفوليهم من تأخير الرواتب أو إسكانهم في أماكن غير لائقة . بل يجب أن نرفع الظلم إلى كل من هو موجود هنا إنها الفرصة التي يستغلها النصارى في مد يد العون إلى هؤلاء الضعفاء لتنصيرهم أو لإبعادهم عن الإسلام .
19. فضح المصطلحات التي يتكئ عليها الغرب الكافر وتبيينها للمسلم العادي [مثل مصطلح الديموقراطية ...وغيرها] والأمريكان ألد أعداءها إذا كان المستفيد هم المسلمون [كما حدث في الجزائر] ..
20. عدم الركون إلى الرؤى والمبشرات أوربط النصر بها ثم القعود عن العمل ... ولا شك أن الرؤى إنما هي مبشرات وليست تشريعا منزلا على الناس ... فمنها ما قد يصح ومنها ما قد يكذب .. ومن التأويل ما قد يصح ومنه ما قد يخطئ .. ويكفي دليلا تأويل أبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما أصاب في واحدة وأخطأ في أخرى ...
و البعض يعتمد على تأويل أحد المعبرين اعتمادا كليا وكأن كلامه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ...
والناظر إلى حياة الصحابة يجد أنهم كانوا يعملون ويجاهدون ... وكانت الرؤى عندهم مبشرات تحفزهم للعمل ولا تجعلهم يتكلون .
21. التدريب الرياضي والبدني ..فأكثرنا بدون لياقة أو سمين أو مريض بسبب القعود وضعف التدرب... ولنا في سباق الرسو صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها ومصارعته لبعض الصحابة ومن سير السلف صعود ابن تيمية الجبل ونزوله للتقوي .. وغير ذلك من المحفزات والاستدلالات التي تدفع بالمسلم إلى التدرب البدني والجهادي..
22. [للشباب ومحبي الرحلات] استكشاف أرض البلاد ومسالكها بالرحلات البرية الهادفة - فللأسف أرضنا يعرف عنها الغربيين المدسوسين العاملين في البلد أكثر منا - فما موقفنا زمن الجهاد والمدافعة !
23. [للمهندسين] اختراع وسائل قتال جديدة تكون بديلة للوسائل الحالية القائمة.
24. دراسة لغة العدو للاستفادة من خبراته وكشف خططه وأسراره على ألا تكون على حساب العلوم الشرعية عندنا ..
25. الصبر على المصائب هو من عزم الأمور ومواصلة العمل الجاد .
26. عدم التفاعل والمشاركة في القنوات الفضائية والإذاعية والصحفية إلا في إطار ضيق ومحدود ومدروس لأن هذه القنوات متعاقدة مع شركات اتصالات وإعلانات لتمويل برامجها .
27. العمل على إنشاء ودعم القنوات الفضائية والإذاعية والصحفية وكافة مؤسسات التي تخدم مقومات الدولة الإسلامية .
28. فضح الصليبيين والصهاينة وأعداء الله عند المسلمين والنصارى واليهود المشاركين في حرب المسلمين والبقية غير المناهضين للحرب .
29. مقاطعة كل ما يخالف الشرع من برامج محرمة وزنا ودور الموضة ومحلات بيع الخمور والبنوك الربوية و.....الخ .
30. زيادة وتقوية هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمؤسسات الخيرية والدعوية .
[ تذكير: لا شك أن النصر قادم .. وأن بشائرها قد لاحت .. ولكن أكثر الناس لا يعلمون]
جمعها ( أبو أحمد-الفجر )
=================(55/160)
(55/161)
المسلم الجديد
ماجد بن محمد الجهني
الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد:
فإن من المعلوم أن هناك توجه نصراني عالمي لنشر ثقافة الردة بين جموع المسلمين التي يراد لها أن تتحول إلى جموع ممسوخة العقيدة ممسوخة الخلق ممسوخة التفكير ، وهذا النشاط النصراني واضح وجلي من خلال ماتقوم به أمريكا قائدة المسيحية في هذا العصر التي تريد من المسلمين أن يقوموا بأنفسهم بتقطيع أوصال دينهم واللعب بأحكامه ومن ثم يسهل لها استنساخ مسلمين جدد على الطراز الأمريكي ومتوائم مع الموضة الغربية عموما التي تحبذ الطراز المسخي على الأصيل .
ولاشك أن لهذا المسلم الجديد أو لهذا الممسوخ الجديد مواصفات ومقاييس ومعايير تم وضعها من قبل الحزب اليميني المتطرف المسيحي واليمين المتطرف اليهودي ، وهذه المعايير لاتمنع هذا المسخ من أداء عباداته كالصلاة والصيام والحج وإن كانت لاتنصح بذلك بكثرة ولكنها أيضا تحرم عليه وبشدة أن يؤمن بعقيدة الولاء والبراء أو يعتنق شعيرة الحب في الله والبغض في الله لأنها تنمي روح البغضاء والكراهية للآخر فهي عقيدة تعلم حب المؤمنين الصالحين فقط ومايراد من هذا المسلم الجديد هو أن يحب الناس جميعا ويستوي لديه حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعا مع حب فرعون وهامان والنمرود وشارون وبوش الأب والولد وحب قولدا مائير فهؤلاء جميعا يشتركون في الآدمية وهذه هي العقيدة الجديدة التي تريد أمريكا النصرانية تصديرها للعالم الإسلامي ، وكذلك من مواصفات هذا المسلم الجديد أنه لايؤمن بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه اعتداء صارخ على حريات الآخرين فلابأس من التصفيق للزاني والزانية ولشارب الخمر وللمرابي وللوطي فهؤلاء يمارسون حرياتهم والاحتساب عليهم تطرف وإرهاب.
ومن الصفات اللائقة بالمسلم الجديد الذي تريده أمريكا المجرمة أن يكون بعيدا كل البعد عن التفاعل مع قضايا إخوانه المسلمين في أنحاء العالم فهو لايحزن لمصاب المسلمين ولايتكافل مع المظلومين منهم ولايتصدق لنصرة دينه فهذا عبث جنوني وتطرف ومساعدة للإرهاب والإرهابيين في العالم ، ومما يجب على هذا المسلم الجديد اعتقاده أنه لايوجد شيء اسمه الجهاد في سبيل الله لأن هذا الجهاد مفهوم يعلم بغض الآخر وينمي ثقافة العنف وخصوصا إذا كان دفاعا عن مقدسات المسلمين وأعراضهم وحرماتهم أمام عدو غاصب نصراني أو يهودي أو شيوعي أو هندوسي فمقاومة العدو ودفع الصائل جرم خطير قد يدرج صاحبه تحت قائمة الإرهابيين الدوليين المطلوبين
للعدالة الأمريكية البائسة.
وهذا المسلم الجديد بما لديه من بعد نظر وشمولية وعمق فكري يتفهم بشكل حضاري كل ماتقوم به أمريكا من قتل للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لأنه من باب الحرب على الإرهاب وليس موجها ضد المسلمين كما أن احتلال بلاد المسلمين إنما هو من باب تعليمهم كيف يحكمون أنفسهم بأنفسهم وبالنسبة لمسألة البترول العراقي المنهوب القصد منه أن تقوم شركات دك تشيني باستثماره للعراقيين في أمريكا إلى أن يستطيعوا تشكيل دولة لحماية هذه الثروات.
والمسلم الجديد متفهم أيضا للأهداف الإسرائيلية السامية من وراء هدم البيوت على رؤوس أهلها وذلك لأن قتلهم ليس الهدف من هذا الهدم وإنما الهدف هو إعادة ترميم تلك البيوت الفلسطينية المتهالكة ، وأما مايحدث من أهل فلسطين والعراق والشيشان وكشمير والفلبين وأفغانستان من مقاومة للاحتلال فهذا هو التطرف والغلو بعينه ومينه وهذا هو الإرهاب بأبشع صورة وأوضح معانيه إذ كيف يليق بالمسلم المثقف المتنور والمتحضر أن يمارس مقاومة أسياده المحتلين الذين جاءوا لنشر الديموقراطية والسلام؟؟؟؟!!!
إن على المسلم الجديد في مفهوم أمريكا أن يرمي بجهاد شعب فلسطين عرض الحائط وأن يعتبر حماس والجهاد الإسلامي منظمات إرهابية لأنها تريد استعادة مقدسات المسلمين ، وهذا النوع من الإسلام هو مفهوم الردة الذي تريد أمريكا وإسرائيل وذنبهم المنافق الاتحاد الأوروبي وحفنة من علمانيي العالم العربي فرضه على المسلمين.
إنها عملية غسل دماغ كبرى للمسلمين تريد تركيعهم وإجهاض تطلعاتهم ولهذا نجد اقتراحات متوالية فتارة يقترحون حذف آيات من القرآن الكريم واستبدالها بنصوص إنجيلية ، وتارة يصمون الجهاد في سبيل الله بأنه إرهاب لأنهم يرون أن الواجب على أي قطر إسلامي تطؤه أقدام الاحتلال أن يرضخ وأن يركع وأن يقول سمعا وطاعة للمحتل بل ويجب على أهل ذلك القطر جميعا وجوبا عينيا أن يقابلوهم بالورود والزهور ولكن هل نجحت أمريكا في فرض هذا اللون من الدين الذي تريده على المسلمين ؟؟؟(55/162)
الجواب طبعا كلا وألف كلا فأمريكا لم تجد من يسوق لبضاعتها المسخ في عالمنا إلا حفنة من الغربان المفلسة التي تجاوزها قطار الزمان والمكان والتي أصبحت في عالم قصي تعيش مع الزواحف والديناصورات البائدة في متاحف الهالكين ، وأما الشريحة الكبرى من المسلمين فهي تدين الله عزوجل بأن قائدة الإرهاب في العالم هي أمريكا وإسرائيل والغالبية العظمى في العالم الإسلامي نما وعيها وعلا صوتها وزادت عزيمتها واستجمعت شكيمتها لتقول بصوت يشق عنان السماء : كفرنا بأمريكا.. كفرنا ببوش... كفرنا بإسرائيل وشارون وآمنا بالله وحده ...لسان حالهم وقالهم " ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين "
==============(55/163)
(55/164)
ديمقراطية المستبدين..!!
سلمان العنزي 22/2/1428
12/03/2007
الحديث عن الديمقراطية وأنواعها، والليبرالية واتجاهاتها، والمجتمعات المدنية وخصائصها أصبح علامة فارقة في شبا أقلام أبناء الأمة المفتونين بالغرب وما يأتي به، ولكأن المعركة التي دارت رحاها بين الجديد والقديم قبل عشرات السنين تعود اليوم بثياب أخرى زاهية تسحر النفوس، وتخلب الألباب، وتأسر القلوب حتى إذا بحثت عن حقيقتها وجدت السم الزعاف يسري في بدن الأمة فيقطع شرايينها، ويفتك في عصبها ويهري لحمها، وما أجمل ما قاله الرافعي في رواد تلك المعركة وفي أضرابهم ممن كانوا أجنة في ضمير الغيب وهم اليوم حقائق في عالمنا: ( وهم يريدون بآرائهم الأمة ومصالحها ومراشدها، ويقولون في ذلك بما يسعه طغيانهم على القول، واتساعهم في الكلام، واقتدارهم على الثرثرة حتى إذا فتشت وحققت لم تجد في أقوالهم إلاّ ذواتهم وأغراضهم وأهواءهم يريدون أن يبتلوا بها الناس في دينهم وأخلاقهم ولغتهم، كالمسلول يصافحك ليبلغك تحيته وسلامه فلا يبلغك إلاّ مرضه وأسباب موته ..!) وعندما يدب مرض خطير بين الناس فيستولي على حياتهم، ويفتك في أرواحهم، ويتعادون به فإننا لا ننظر إلى فلان وعلان ممن أصابه المرض، وأصبح ناقلاً له نظر بحث وتقصٍ بل يكون وكدنا وهمنا في تتبع هذا المرض ومعرفة سره، وكيف بدأ، وكيف ينتشر حتى يتسنى لنا أن نجد له علاجاً يكافحه ويقضي عليه، وأما فلان وعلان فيقع عليهم الحجر الصحي حتى يتشافوا أو يتوفاهم ملك الموت الذي وُكّل بهم حماية للأمة ورعاية لمصالحها:( والفكرة لا تُسمّى بأسماء الناس، وقد تكون لألف سنة خلت، ثم تعود بعد ألف سنة تأتي، فما توصف من بعد إلاّ كما وُصفت من قبل ما دام موقعها في النفس لم يتغير، ولا نظنه سيأتي يوم يذكر فيه إبليس فيُقال: رضي الله عنه) ومع ذلك فإننا لا نرفض ما يأتينا من الآخر حتى ننظر في حقيقته ونفتش عن خباياه لنعلم كنهه، فإذا وجدناه لا يخالف ديننا، ولا يهدد أعرافنا الصالحة، ولا يناكف طبيعتنا الإسلامية، ورأينا فيه حماية لمصالح الأمة، ورعاية لحال الناس، وحراسة لثروات المجتمع أخذنا به وانتفعنا بتجربته، وأفدنا من علمه؛ لأن التجربة الإنسانية ليست حكراً على أحد بعينه، وإنما هي خلاصة تجارب مرت عليها أحوال هاصرة، وأزمنة عاصفة، وفتن مطوحة أثبتت جدواها ونفعها للناس والحياة، والديموقراطية الغربية لها حقيقة يجب أن نعرفها كي نتمكن من الحكم عليها، وهي ولا شك تجربة إنسانية قامت بسبب الظلم الواقع على الناس، والاستبداد المتسلط على إنسانيتهم، والدكتاتورية الماحقة لمدخراتهم، وقد عانت الأمة الغربية الويلات وذاقت طعم الحروب، وتلفعت بوشاح المآسي قبل أن تصل إلى الديموقراطية بصورتها النهائية اليوم، وهي من هذا المنطلق روح يجب أن تحترم، ومبدأ ينبغي أن يُراعى، إلاّ أن الديموقراطية وهي حكم الشعب بمعناه السياسي لا الاجتماعي، أو حكم الأغلبية قد وقعت في مغالطات وتسربت إليها بعض الفيروسات القاتلة؛ فالعدد مهم جداً في العملية الانتخابية ليصل حزب ما إلى الرئاسة كيفما كان هذا العدد والمتابع لأحوال الغرب، وخاصة أمريكا يجد أن المتحكم في العملية الانتخابية هم أرباب المال وحيثما يكن ثقلهم يكن النصر، وهذا ما مكن أناساً لا يستحقون الرئاسة من هذا المنصب الخطير على الرغم من ماضيهم الأسود، وحياتهم البائسة، وكما أن الديموقراطية قد أسقطت الدين من حسابها، ولم تلتفت إليه في حياتها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية ولم تلجأ إليه إلاّ وقت الأزمات لشحن النفوس وتغييب العقل، كما حصل بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، على أننا لا نلوم الغرب بسبب موقفهم المتشنج ضد الدين؛ لأنه يرتبط عندهم بتاريخ من العنف والقهر والاستبداد ومصادرة الحريات والتفريق بين الناس حسب ما يعتقدون تفريقاً يوجب القتل والوقوف أمام العلم موقفاً إقصائياً استوجب قتل كثير من العلماء، وإرهاب آخرين، والحجر على أضعافهم ...وهذا مالا نجده في تاريخنا الإسلامي في الزمن نفسه الذي تعيشه أوروبا حيث عمت روح التسامح والمحبة والألفة والإخاء والعدل والمساواة، وانتشرت في جميع أصقاع البلاد الإسلامية، وبلغ العلم في تلك العصور مبلغاً لم يسبق إليه، وأصبح منطلقاً للحضارة التي نعيش اليوم تحت كنفها، وقد شهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء كما تجد ذلك في كتاب ( بناء الإنسانية لـ بريفولت ) وكتاب ( الله ليس كذلك لـ هونكه) وكتاب (حضارة الإسلام لـ جرونيباوم) وغيرها من الكتب الكثيرة.
كما أن الخير الموجود في الديموقراطية والمبادئ التي حاربت من أجلها قد دعا إليها الإسلام منذ مئات السنين، بل أمر بها وشدد في اعتبارها، وقرر كثيراً من القواعد العامة مراعاة لها، فالعدل والمساواة والحرية والإخاء وغيرها من المثل العليا التي تكفل للإنسان أياً كان هذا الإنسان حياة كريمة هي من مطالب الإسلام ذات الأولوية في خطابه..(55/165)
إن الديموقراطية في العالم الغربي بدأت تتحول إلى مسرحية هزلية تضحك المجتمع السادر في ملذاته، بينما الحزب الحاكم كما في أمريكا- وهي الغرب- يسعى وراء مصالحه الخاصة، ويطمح بإنشاء إمبراطورية قوية تتحكم بالعالم وخيراته، وتمده بأسباب بقائها من حروب طائفية، وأهلية وخلافات حزبية، ومعارك دينية مع ما يفرضه من رقابة صارمة على الصحف والإذاعات، والقنوات بحجة الحفاظ على الأمن القومي، وكم من الفضائح العسكرية والسياسية مما حدث في أفغانستان والعراق قد دُفن في داخل أسوار البنتاغون، وما تسرب ووصل إلى الناس من خلال الجرأة عند بعض المراسلين أو المسؤولين لا يعدّ شيئاً مذكوراً في جانب الكم الهائل من الأسرار المدفونة!
فأي ديموقراطية هذه التي يسعون لتطبيقها في المجتمعات العربية بقوة السلاح وعبر أقلام عميلة قد تم شراؤها أو استغفالها؟ وأي حرية يريدون نشرها وتحمل تبعاتها في الدول العربية؟ إنها -ولا شك- ديموقراطية الحمقى والمغفلين من جهة، وديكتاتورية الأذكياء والأقوياء من جهة..
==============(55/166)
(55/167)
ديمقراطيّة "جوانتانامو" وحريّة "أبو غريب"
د. محمد بن سعود البشر 13/1/1426
22/02/2005
كل يوم تتكشف لنا ملامح جديدة من ملامح الديموقراطية الأمريكية، تلك الديمقراطية التي تتغنى بها الإدارة الأمريكية الحالية، وتدّعي أن الحرب في العراق وسيلة لا بد منها لإحلالها محل ديكتاتورية صدّام، هذا طبعًا بعد أن أصبح الحديث عن أسلحة الدمار الشامل والتي قامت الحرب أصلاً لنزعها، أكذوبة تجلب السخرية وتدين إدارة بوش وبلير وكل من سار في فلكهما.
الملمح الجديد الذي كشفته جريدة (نيويورك تايمز) أوسع الصحف الأمريكية انتشارًا يروي وقائع بشعة للتعذيب تعرض لها أحد المسلمين المتهمين بالإرهاب يُدعى ممدوح حبيب يحمل الجنسية الأسترالية على يد الجنود الأمريكيين في معتقل جوانتانامو، ومن يستطيع أن يكمل قراءة ما نشرته (النيويورك تايمز) من هذه الوقائع (دون أن يُصاب بالغثيان)، يدرك بجلاء أن أسلوب التعذيب المتبع في معتقل جوانتانامو لا يختلف حتى في أدق التفاصيل عما تكشف من قبل من وقائع تعذيب المواطنين العراقيين في سجن أبو غريب بالعراق، بدءًا من الاعتداءات الجنسية بممارسات شاذة، والصعق بالكهرباء والإيذاء البدني مرورًا بالإرهاب النفسي والتهديد، وصولاً إلى السخرية بالإسلام وتشويه قيمه وأخلاقياته ومبادئه والحطّ من هُويّة وكيان المسلمين!!
هذا الملمح يرشدنا إلى أن الديمقراطية الأمريكية التي يتشدقون بها لا تفرق بين المتهم بالتورط في أعمال إرهابية ضد الأمريكان أو غيرهم، وبين العراقي الذي يرفض أن يتجرع العلاج الديموقراطي الأمريكي رغمًا عنه، خوفًا من مرارته أو أن يكون سمًا يقتله أو مخدرًا يسلبه إرادته ويسلبه قبل ذلك وبعده ثروات بلاده وهويته العربية الإسلامية. فالآلاف من العراقيين والمئات من المسلمين المعتقلين في جوانتانامو في نظر الإدارة الأمريكية وديموقراطيتها أعداء للمصالح الأمريكية، لا فرق بين المتهم بالإرهاب حتى وإن لم يثبت تورّطه، وبين الرافض للاحتلال الأمريكي لبلاده حتى وإن ثبتت وطنيّته وأعلن دوافعه.
فحين يتعلق الأمر بالمصالح الأمريكية لا مانع من أن يتم تجاهل حقوق الإنسان أو إهدار هذه الحقوق بما في ذلك حق أي متهم من المثول أمام القضاء، واحترام آدميّة الإنسان وعقيدته، هذا الإهدار الذي سبق ودفع عدداً من المعتقلين في جوانتانامو إلى محاولة جماعية للانتحار، وهو ذات الأمر الذي يعترف به الإسترالي المسلم ممدوح حبيب ذو الأصل المصري بقوله: "إن كل ما أراده في جوانتانامو هو أن يموت ليستريح من صنوف التعذيب التي تعرض لها".
قد يقول البعض ممن لا يريدون رؤية الديموقراطية الأمريكية على حقيقتها التي تكشفت في أبو غريب وجوانتانامو أن وقائع التعذيب هذه والتي روعت ضمير كل إنسان حر وسوي عندما نُشرت صورها في وسائل الإعلام- مجرد تصرّفات فردية لعسكريين أمريكيين غلاظ القلب قساة النفوس، ورغم أن اعترافات الجنود الأمريكيين، ومنهم مجندات في قضايا تعذيب الأسرى في أبو غريب، تؤكد أنهم تلقوا أوامر من قيادتهم بما قاموا به لانتزاع اعترافات من الأسرى -نقول رغم ذلك- إن كانت هذه التصرفات البشعة فردية، لماذا تتكرر في "جوانتانامو" بعد فضيحة سجن أبو غريب؟ ولماذا تزدحم كتب التاريخ الحديث بقصص مماثلة وموثقة حول التعذيب الأمريكي للفيتناميين وقبلهم الهنود الحمر السكان الأصليين للقارة الأمريكية، وغيرهم الكثير ممن اعتبرتهم الديموقراطية الأمريكية أعداء لها؟ ولنتساءل: ألا تتحمل الثقافة التي تروّجها الديموقراطية الأمريكية وتصريحات أبرز أعضاء الإدارة الأمريكية جزءًا من مسؤولية غلظة قلوب هؤلاء المنتسبين للمؤسسة العسكرية الأمريكية وعدائهم الصارخ للإسلام والمسلمين؟
إن الإجابة عن هذا السؤال، والتي تستند إلى وقائع حية تعترف بها وسائل الإعلام الأمريكية ويؤكدها صمت المسؤولين الأمريكيين كما في واقعة ممدوح حبيب أو تدعمها اعترافات الجنود المتورطين في قضايا تعذيب الأسرى كما في حالة سجناء أبو غريب -في العراق والموثقة في سجلات المحاكم الأمريكية- هي أن الديموقراطية الأمريكية تقبل التلون والتبدل إلى حد التنكّر لمبادئها وشعاراتها، إذا ما تعلق الأمر بالمصالح الأمريكية أو مصالح أصدقاء الأمريكان المبهورين بتفوق النموذج الديموقراطي الأمريكي دون أن ينتبهوا أنها ديموقراطية خادعة وإلا ما احتاجت لقوة السلاح لفرضها أو حمايتها.
ومقارنة بسيطة بين الممارسات الأمريكية، أو لنقل ممارسات العسكر الأمريكان في أبو غريب وجوانتانامو، وبين الممارسات الإسرائيلية في فلسطين المحتلة تصل بنا إلى نتيجة واحدة، وهي أن الديموقراطية الأمريكية تكاد تكون مرادفًا للاحتلال الإسرائيلي.
ولا عجب في ذلك لأن ديموقراطية "جوانتانامو" هي التي تحمي قادة العصابات الصهيونية من أن يُحاكموا بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وفي المقابل فإن الصهيونية العالمية هي التي تروج للديموقراطية الأمريكية داخل الولايات المتحدة وخارجه
===============(55/168)
(55/169)
نحو تصوّر إسلاميّ للديمقراطيّة
د. عبدالله بن ناصر الصبيح 3/11/1425
15/12/2004
لمصطلح "الديمقراطية" جاذبية كبيرة، ولاسيما في ظل الهجمة الثقافية الغربية على الثقافات المحلية واختيارات الشعوب. وأصبحت تعني عند كثيرين الحرية والتقدم والسلام والاستقرار والرخاء الاجتماعي، بل إنها تعني عند البعض الخير والسعادة كلها.
ومما ساهم في رسم هذه الصورة الوضيئة للديمقراطية الضجيج الإعلامي حولها الذي ربط باسمها كثيراً من الأوهام فصارت تمثل الخلطة السحرية لمعالجة مشاكل المجتمعات المتخلفة. ونتيجة لهذا الصخب العالي وقع كثيرون فيما يمكن أن أسميه "فخ الديمقراطية"، ويعني احتقار الثقافة المحلية وإقصاءها وإفساح المجال لنماذج من الممارسة والمفاهيم لا تمت للواقع بصلة.
ومما يقي من الوقوع في فخ الديمقراطية الوعي بما وجّهه إليها كبار منظّريها من نقد، و اتهموها به من قصور؛ سواء في المفهوم أوفي صوره التطبيقية.
والديمقراطية ليست خيراً محضاً وليست شراً محضاً، ولكن بعض من يدعو إليها لا يراها إلا مفهوماً واحداً متماسكاً له صورة تطبيقية واحدة، والصورة الماثلة في ذهنه لها هي البرلمان والانتخابات، ونتيجة تصور هؤلاء ديمقراطية زائفة. وآخرون ممن يعارضون الديمقراطية لا يتبادر إلى أذهانهم منها إلا أنها حكم الشعب، ومن ثم فهي مرفوضة بإطلاق، ونتيجة تصور هؤلاء حكم الفرد المستبد.
وفي الواقع التطبيقي وفي التصور الفلسفي ليست الديمقراطية مفهوماً واحداً وليس لها صورة تطبيقية واحدة لا تتعدد. وهذا التنوع في المفهوم والممارسة سببه تنوع الخلفية الفلسفية والظروف الاجتماعية في المجتمعات التي طُبّقت فيها الديمقراطية.
فالديمقراطية حينما نشأت في أثينا قبل أكثر من ألفي سنة كانت خياراً للشعب في إدارة شؤونه مقابل حكم الفرد المستبد. فهي كانت وسيلة للتخلص من استبداد الفرد وتمكين أفراد الشعب من التعبير عن إرادتهم في طريقة إدارة مدينتهم.
وقد تطور مفهوم الديمقراطية من ديمقراطية أثينا التي تسمى "الديمقراطية المباشرة" إلى "الديمقراطية التمثيلية" في عصرنا الحاضر وهي ذات مفاهيم وصور تطبيقية متعددة.
وكثيرون من منظّري الديمقراطية يفرّقون بين الفلسفة والقيم التي تشكل محتوى الديمقراطية، وبين الديمقراطية من حيث هي أداة لاستطلاع رأي الشعب أو وسيلة للحكم. ويرَوْن أن الديمقراطية المجردة من حيث هي أداة عاجزة عن تحقيق الهدف منها في المجتمع. ولهذا يتحدثون عن مبادئ للديمقراطية يرون أنه لا بد من تحقيقها، ومنها: سيادة القانون وحرية التعبير، ومبدأ الفصل بين السلطات، والشفافية في الحكم، وعلمانية الدولة. وقد ذكر (يوروفسكي) في بحث له عن الديمقراطية الأمريكية أحد
عشر مبدأً يرى أنها تشكل العنصر الأساسي لفهم الديمقراطية، وكيف تعمل في الولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم أن هذه المبادئ تحظى بالقبول من منظري الديمقراطية إلا أننا نجد جدلا ًبينهم في بعض المبادئ ومحاولة منهم لتقليصها، فمثلا من مبادئ الديمقراطية مبدأ الأغلبية الذي يعني القبول بالقرار الصادر عن الأغلبية. وهو مبدأ إذا افتقدته الديمقراطية لم تعد ديمقراطية وفقدت الهدف منها، ومع ذلك نجد أن كثيرين من منظّري الديمقراطية كما يقول (ألان تورين) في كتابه "ماهي الديمقراطية؟" كانوا يخشون من استبداد الأكثرية، بل يقول: إنه لم تكن مسألة أشدّ منها حضوراً عند المفكرين الأمريكيين الذين وضعوا الدستور الأمريكي بعد حرب الاستقلال. ولهذا كان الاتجاه في الماضي إلى حصر حرية الانتخاب في النخب واستثناء طوائف من الشعب كالنساء والعبيد.
وهذا الجدل العريض حول مفهوم الديمقراطية وتطبيقاتها يدفعنا معشر المسلمين إلى أن نخوض فيه ونجتهد في تكييف ديمقراطية تناسب تصورنا الإسلامي، ومما أقترحه في ذلك مايلي:
أولاً: التمييز بين المحتوى والوسيلة فيمكن أن نقبل الديمقراطية وسيلة للحكم ولاستطلاع رأي الشعب، ولكن أرى أنه ينبغي لنا أن نصوغ المحتوى الفكري، والقيم التي تحكمها بما يتفق مع قيمنا الإسلامية. ومن ذلك أن تكون المرجعية في الحكم هي الشريعة الإسلامية، وليست إرادة الشعب. وبهذا يمكن أن نعرف ديمقراطيتنا بأن مرجعها هو القرآن والسنة. وهذا ليس بدعاً في المفهوم الديمقراطي، حيث شاع عند فلاسفتها أنها وسيلة لا تستقيم من غير فلسفة تكون محتواها، يقول المفكر الأمريكي زبغنيو بريجنسكي :" إن الديمقراطية يمكن أن تكون هي إسهام الغرب الأساسي، إلا أن الديمقراطية ما هي إلا وعاء يجب أن يمتلئ بمحتوى...". ونحن يمكن أن نملأ الوعاء بما يتفق مع ديننا.
ومن يدعون إلى الديمقراطية في عصرنا لا يكتفون بالحديث عنها مجردة وإنما يربطونها بالفلسفة اللبرالية وحرية الفرد، ويرون أن الديمقراطية التي لا تحقق ذلك ليست حقيقية. وإذا جاز لهؤلاء أن يربطوها بفلسفة ارتضوها ألا يحق لسواهم فعل الشيء نفسه؟
وربما اعترض معترض بأن هذا يتعارض مع أحد مبادئ الديمقراطية وهو علمانية الدولة، وأجمل الردّ على هذا الاعتراض في النقاط التالية:(55/170)
أ. ليس كل مبدأ من مبادئ الديمقراطية يلزمنا قبوله فنحن لنا رؤيتنا الخاصة بنا، وبإمكاننا أن نطوّر صوراً من الديمقراطية تتفق مع هويتنا.
ب. لا يوجد في المسيحية المعروفة اليوم شريعة يجب على الدولة الحكم بها أو التحاكم إليها، ولهذا علمانية الدولة لم تكن دعوة لإقصاء شريعة ربانية قائمة في المسيحية؛ لأن هذه الشريعة غير موجودة أساساً، وإنما كانت دعوة للتخلص من سلطة رجال اللاهوت الذين يزعمون أنهم يستأثرون بالحقيقة، ويتكلمون باسم الله واسم المسيح زاعمين أن الله تحدث إليهم أو أن المسيح ألهمهم، ويلزمون الآخرين بالتسليم بما يقولون ويحكمون حكما جبرياً لا يراعي إرادة الشعب ومصالحه. ورجال اللاهوت هؤلاء يوجب الإسلام الأخذ على أيديهم؛ لأن ما يقومون به نوع من الهرطقة والكذب على الله وتزوير الدين.
ج. إذا تبين هذا ( وهو أن العلمانية ليست ضد شريعة قائمة في المسيحية) فعلمانية الدولة ليس لها صورة واحدة؛ فبينما نجد في أمريكا مثلا أن الدستور ينص على الفصل بين الدولة والكنيسة، أما في بريطانيا فنجد صورة مغايرة حيث إن الملكة هي رئيس الكنيسة، والدولة هي من يرعى الديانة المسيحية.
د. الفقيه في الإسلام (أو كما يسمى في الكنيسة رجل الدين) لا يملك الحقيقة، ومن حق أي أحد أن يناقشه ويعترض على ما قال؛ لأن المرجع ليس قول الفقيه، وإنما هو مرجع موضوعي مستقل عنه وهو القرآن والسنة.
إذن علمانية الدولة ليست مفهوماً واحداً متفقاً عليه بين الغربيين أنفسهم، وإذا أُريد بها الشورى، وحق إبداء الرأي والاعتراض - وهذا هو روح الديمقراطية - فهذا من أسس الحكم عندنا.
ثانياً : هناك مبادئ للديمقراطية حسنة، ومنها سيادة الدستور والشفافية في الحكم، واستقلال القضاء، والفصل بين السلطات، وحرية التعبير، وصيانة كرامة الإنسان، وحفظ حقوقه، وهذه المبادئ هي حقيقة الديمقراطية وروحها وإذا افتقدتها أصبحت صورة زائفة لا حقيقة لها. وهذه المبادئ مما دعت إليه شريعتنا، وأوجبت على الحكام العمل به. وعلى من أراد أن يأخذ بالديمقراطية أن يأخذ بهذه المبادئ أولاً. ومما يُؤسف له أن الديمقراطية في كثير من بلدان العالم العربي الآن هي صورة الديمقراطية وليس حقيقتها.
ثالثاً: الديمقراطية ثقافة وممارسة اجتماعية، وليست مجرد برلمان وصندوق اقتراع. ولهذا لابد أن يصحب العملية الديمقراطية الحقيقية حرية التعبير وحرية الحوار وعلنيته.
رابعاً: الديمقراطية لا تنفصل عن رقابة الأمة. وكل ديمقراطية من غير رقابة اجتماعية هي زائفة. والرقابة الاجتماعية تقتضي الشفافية في الإدارة، وإتاحة المعلومات لجميع أبناء المجتمع.
خامساً: علينا الاجتهاد في تطوير أساليبنا في الحكم وإبراز مصطلحاتنا الإسلامية النابعة من تراثنا ومرجعيتنا الإسلامية
=================(55/171)
(55/172)
نهاية (صنم). .ديمقراطية الـ (Ca r pet Bombing)
د. محمد الحضيف 7/2/1424
09/04/2003
حينما أصدر (فوكوياما) كتابه (نهاية التاريخ)، لم يكن يقرر فقط، نهاية الحرب الباردة، وهزيمة الاشتراكية، و سقوط حلف وارسو .. كان يعلن :
انتصار(الحرية)، بمنظور الليبرالية الغربية، من خلال (الديمقراطية)، بوصفها الشكل (النهائي) .. و الأرقى، لحرية التعبير ..
و يعلن سيادة (اقتصاد السوق) .. الحر ، كما عبرت عنه الرأسمالية، مقابل الاقتصاد الموجّه، الذي تمثله الاشتراكية ..
كان يقدم للبشرية، ما كانوا يزعمون أنه (الأنموذج) لمجتمع (فاضل) .. حققوه . المجتمع الذي يعلي من قيمة الإنسان .. (أي) إنسان، فيمنحه الحرية، و العدل .. و يحترمه، و يحفظ حقوقه ..!
المجتمع الذي يقولون، إنه يحترم الحياة الإنسانية، بغض النظر عن لونها، أو جنسها .. أو حتى الدين، و ليست حياة الإنسان الأبيض .. المسيحي فقط ..!
كان (فوكوياما) يبشر بموت (الأيدولوجيات) .. كل الأيدولوجيات، و يقف على أبواب (واشنطن)، يرحب بـ (المؤمنين) الجدد بواحة العدل و الحرية .. حرية التعبير، و (حقوق الإنسان)، التي (يكفلها) الدستور الأمريكي(!!) .. في ظل الديمقراطية، التي ما فتئت أمريكا تبشر بها، وتحيك المؤامرات من (أجلها)، و تصنع عملاء و (كرازايات)، يأتون على دبابات أمريكية، لـ (فرضها) على الشعوب .. لتنعم بلذة التقلب في نعمائها .
كان يبشر بـ (يوتوبيا) الخلاص ..!
من (هيروشيما) مرورا بـ(درسدن) إلى (بغداد)، تخصصت أمريكا باغتيال المدن، و حرق ساكنيها .. و قتل الأطفال، باسم مقاومة (الفاشية) و (الدكتاتورية)..!
من رأى منكم مشهد المرأة المحترقة، تجري مذهولة في أحد شوارع هيروشيما ، تشتعل فيها النار، التي صبها فوقها (رسل الحضارة) .. حماة حقوق الإنسان؟!.
من رأى منكم مزق اللحم، لشيء كانوا يسمونه طفلاً، في واحد من أحياء بغداد .. التي يحرقها (مغول) القرن الحادي والعشرين .. الذين جاؤوا من أجل (حرية) العراق..؟!
آهٍ يا بغداد .. يا عاصمة الحضارة، يحرقك (البرابرة) .. يحيلون أطفالك مزقا، و مآذنك ركاماً، باسم الحرية، و حقوق الإنسان .. و إلغاء الدكتاتورية!..
آهٍ يا بغداد .. يدكّ مناراتك، و ينتهك شرفك، سماسرة الحرب و النفط ..
و (يصلّون) لـ(الربّ) كل صباح .. بين يدي (الصليب)، أن يحفظ جنودهم، و يكلل مهمتهم (المقدسة) بالنجاح ..!
فوكوياما أخبرنا أن التاريخ (انتهى) عندهم، و أنهم قد وصلوا الغاية في كل شيء ، و دعانا .. فوكوياما، لاعتناق الليبرالية الغربية، حيث الديمقراطية سدرة المنتهى ..
عندها (الجنة) .. التي طالما (حلمنا) بها، نحن الذين نرسف في أغلال (الديكتاتوريات)، التي صنعتها أمريكا (الديمقراطية)، و أوقفتها على قدميها .. و دعمتها ضد أي (نَفَس) احتجاج يصدر من صدورنا، التي تئن تحت وطأة الأقدام الغليظة .
كنّا نحلم أن نرى الديمقراطية .. لا أن ندخل (الجنة) الموعودة، فجاؤونا بـ (كرازاي) ، محمولاً على دبابة (أبرامز) يدوس بها قيمنا، و تفرش أمامه الـ (بي 52)، بقنابلها (الذكية)، و غير الذكية، (سجادة) طويلة .. حمراء، من جماجم أطفالنا، و نسائنا، و ركام منازلنا .. وبعض من أنقاض مآذن مساجدنا ..!
كنا نحلم أن نرى الديمقراطية .. حيث (الحرية) درة تاجها .. لنستعيد إنسانيتنا . .ديمقراطية الكيان اليهودي .. التي رعتها أمريكا، و دعمتها بطائرات (الأباتشي) .. لتقتنص أطفالنا في فلسطين ..!
الحرية التي (قتلت) أمريكا من أجلها مليوني فيتنامي، و مثلهم من الكوريين، و أحالت بلادهم إلى أرض محروقة .. و سكتنا ..لم نعلق بشيء ..!
عَلّمونا أن الفيتنامي -و كذلك الكوري- (شيوعي) .. قبل أن يكون إنساناً ..!
و لا إنسان .. خارج (جنتهم) ..!
عَلّمونا .. أنها حرب على (الإلحاد)، و أن أمريكا ترتكب الجرائم ضد الإنسانية .. لخير الشعوب .. لمصلحة الإنسانية .. لإنهاء الدكتاتوريات، و نشر الديمقراطية ..!
صرنا ضمن طوابير (المؤمنين) :
" أمريكا .. أرض الأحلام و الحرية، و (رسول) العدل.. و جنة الديمقراطية " ..!
ثم أفقنا على (سدنة) الجنة .. عملاء (الإف . بي . آي) ، ينزعون الكرامة .. و يصادرون الحريات، و ينفون عنها .. جنتهم، كلَّ (لا إنسان) ..!
أن تكون مسلما .. أنت (لا إنسان) .. مطرود من جنتهم، معاقب أينما كنت .. يتكفل بك (كروز) ذكي .. يتبعك حيثما سرت .. و يحيلك إلى شظايا .. باسم مكافحة (الإرهاب) ..!
حلمنا بالديمقراطية .. و سكتنا على جرائم أمريكا ..
أنكرنا (الجهاد) .. من أجلها، و وصفناه بـ(الإرهاب)، و هي (أس) الإرهاب، و (أصل) الوحشية، و الهمجية .. وبقينا نتفرج على أطفال العراق، يتساقطون بمئات الألوف .. مثل الأوراق اليابسة ..
يموتون جوعا ..و يحصدهم (اليورانيوم) المنضب ..
من بقي منهم على قيد (الحياة)، بأطراف ناقصة، و تشوهات خلقية ..
جاءته حملة (الحرية) للعراق ..لتحيله مزقا .. أشلاء.. رماداً ..!
جاءته الـ (بي 52) بالقصف السجادي ..لتعجنه .. لحماً و دماً، مع رماد عاصمة الخلافة،
وبقايا الكرامة و الشرف ..!
و ينعق الخونة :(55/173)
" لا بد أن يسقط (الدكتاتور) " .. !
تحترق بغداد .. بمتفجرات زنتها بالأطنان .. آلاف الكيلوغرامات، و يصفق الخونة .. على مشهد النار، و الرماد و الأشلاء، و يرددون وراء القتلة .. أعداء الإنسانية :
" لا بد للحرب من (ضحايا) " ..!
آه يا بغداد .. يفترسك (البرابرة) .. و يستبيحون دمك، و شرفك ..
و يقف العجزة .. و المتخاذلون على ضفاف مجدك .. و عليائك .. و شموخك، يلوكون التفاهات، و يعاقرون الخزي و العار ..!
آهٍ يا بغداد .. يا نكهة المدن العظيمة . اصدحي بـ(التكبير)، بعد كل شحنة موت يصبها فوق ميراثك العريق .. أحفاد (أوربان) ..
الصدى في قلوبنا يتململ .. صهيل خيول، و برق أسنة ..!
أين الذين بكوا على قتلى أبراج التجارة .. و أدانوا (الإرهاب)، من الموت المجاني في العراق .. للأطفال و النساء و الشيوخ ..؟!
أين أصحاب (الفتاوى) الجاهزة .. الذين شجبوا (الإرهاب) ..؟!
هل كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، هي التي غيرت مفاهيم الجنة (الموعودة) ..؟
أم كانت (تلك) الجنة كذبة كبرى ..؟!
أكانت نهاية (تاريخ) .. أم نهاية (كذبة) .. ؟!
ماذا صنع السدنة .. عملاء (الإف . بي . آي) بالحريات ..؟!
كيف أمست حقوق الإنسان ..؟
كيف هم رجالنا في (غوانتانامو).. ؟!
يحتج (رامسفيلد) على عرض الأسرى، من (القتلة)، الذين أرسلهم لقتل أطفال العراق .. على شاشة التلفزيون .. وهو يختطف رجالنا من أطراف الأرض .. و يضعهم في أقفاص .. كالحيوانات المتوحشة ..!
يتكلم مجرم الحرب (القبيح) عن اتفاقية جنيف للأسرى، و هو الذي داس القانون الدولي كله، و أدار ظهره لكل ما يسمى بـ (الشرعية الدولية ) ..!
إن أمريكا يجب أن تقاوم .. و أن تدحر . ليس فقط لأنها قامت بجرائم ضد الإنسانية في كل مكان، باسم نشر الديمقراطية ..!
و ليس لأنها ارتكبت جرائم حرب، ضد المدنيين في العراق، و ضد مؤسساته المدنية ..
و انتهكت القانون الدولي، و اعتدت على (الشرعية) الدولية .. !
و ليس لأنها تمارس الإرهاب، و تخطف الرجال، و تضعهم في معتقلات لا إنسانية، مخالفة بذلك كل الاتفاقات الدولية ..!
إن أمريكا يجب أن تُقاوَم .. و أن تُدحَر ...
لأنها ليست مؤهلة للحديث عن احترام حقوق الإنسان .. و لا نشر الديمقراطية، و لا احترام الحريات .. و الاتفاقات الدولية ..!
إن أمريكا يجب أن تُقاوَم .. و أن تُدحَر ..
لأنها تقوم بسابقة خطيرة، من خلال سلوك همجي، تعطي لنفسها من خلاله، حق انتهاك سيادة الدول، و احتلالها، و تغيير أنظمتها بالقوة ..
بدأت بأفغانستان ، و ها هي في العراق .. و الدور بعد ذلك على من ؟! .
إن أمريكا يجب أن تُقاوَم .. و أن تُدحَر ..
لأنها إن حققت بعض أهدافها .. فسوف تفتح على المنطقة أبواباً من الجحيم .. من العنف ،
و الفوضى .. و الكوارث الإنسانية ..!
إننا يجب أن نثمن الأصوات الحرة، و المواقف الشريفة التي تصدت لهذه الهجمة البربرية، التي قتلت الأطفال، و دمرت المستشفيات، و المؤسسات الثقافية، و العلمية، و الجسور، والسدود.. و تدفع المنطقة إلى الهاوية .
يجب أن نثمن و نشيد بكثير من التقدير، الأصوات التي أخلصت لأمتها، و الشرفاء الذين رفضوا أن يكونوا في خندق واحد مع الغزاة الأعداء .. تحت أي مبرر .
يجب أن نثمن موقف المراجع الشيعية العليا، الذين فوّتوا على الغزاة الأعداء حدوث مذبحة بين الشيعة و السنة، برفضهم و تحريمهم التعاون مع الغزاة الأعداء ..
و أن نقدر للشرفاء، الذين انحازوا لبغداد الحضارة موقفهم .. ضد شذاذ الآفاق .. الصليبيين الجدد، و مخططاتهم المشبوهة في المنطقة .
==============(55/174)
(55/175)
الحريَّة بين الإسلام والديمقراطيَّة
عبد المنعم مصطفى حليمة 6/5/1423
16/07/2002
لا توجد كلمة تغنّتْ بها الشعوب ، واستهوتها قلوبهم ككلمة " الحرية "!
تنادوا بها في كل وادٍ ونادٍ، وخطبة ومقالٍ و كتاب ، ورفعوها شعاراً ، وجعلوها غاية يرخص في سبيلها كل غالٍ ونفيس !
وفي كثير من الأحيان ينادون بها ولا يعرفون ما الذي يريدونه منها !
إلى أن أصبحت هذه الكلمة ـ لشدة فتنة الناس بها ـ مطيَّة دهاقنة الحكم والسياسة إلى أهدافهم ومآربهم ومصالحهم الخاصة وليصرفوا إليهم وجوه الناس !
وأصبحت الحرية ـ في كثير من الأحيان ـ ذريعة وسبباً لوأد الحرية والحريات، وإعلان الحروب على كثير من الشعوب!
وصوروا أن الديمقراطية هي التي تحقق لهم الحرية، لأنها تقوم عليها .. لذا جعلوا من لوازم مناداتهم بالحرية التنادي بالديمقراطية، وكأن كل واحدة منهما لازمة للأخرى ومؤدية إليها ولا بد ، فمن كان محباً للحرية والتحرر لا بد من أن ينادي بالديمقراطية، ويكون محباً لها والعكس كذلك . وكل من كان عدواً للديمقراطية فهو عدوٌ للحرية .. كما زعموا !!
والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة: هل الديمقراطية ـ كما تمارس في أرقى الدول الغربية ـ فعلاً تحقق الحرية التي يحتاجها ويريدها الإنسان، وترقى به إلى المستوى المطلوب والمنشود من الحرية ؟
وما هي نوعية وصفة وحدود الحرية التي تحققها الديمقراطية للشعوب ؟
وهل الإنسان الأمريكي أو الأوروبي فعلاً حر، وهل الحرية التي يعيشها في بلاده ومجتمعاته فعلاً هي الحرية .. أو منها ؟
وهل الإسلام يتعارض مع مبدأ الحرية ؟ أم يقرها ويدعو إليها؟!
ثم ـ إن كان يقرّها ـ كيف ينظر للحرية ، وكيف يمارسها، وما هو الممنوع منها وما هو المسموح ؟
وهل الحرية التي يريدها الإسلام هي ذات الحرية التي تريدها الديمقراطية ،أم يوجد فارق بينهما ؟!
ثم أيهما أصدق لهجة وواقعاً مع الحرية المنشودة ، الإسلام أم الديمقراطية ؟!
هذه الأسئلة وغيرها تحملنا على المقارنة بين الحرية كما يريدها الإسلام ، وكما مارسها لأكثر من ألفٍ وأربعمئة سنة خلت ، ولا يزال يمارسها ويدعو إليها .. وبين الحرية كما تريدها الديمقراطية، وكما تمارس في أرقى الدول والمجتمعات الديمقراطية المعاصرة؛ لنرى أيهما أجدى نفعاً ، وأصدق لهجة .. وسلامة ، وأقرب للحق والصواب!
فأقول: الحرية في الديمقراطية يقوم بتحديدها وتحديد المسموح منها من الممنوع الإنسان القاصر الضعيف وفق ما تملي عليه أهواؤه ونزواته وشهواته، وهذا يعني أن مساحة الحرية في الديمقراطية تتسع أحياناً وتضيق أحياناً بحسب ما يراه الإنسان المشرِّع في كل يوم أو ظرف، وبحسب ما يظن فيه المصلحة!
وهذا يعني أن الشعوب تكون حقل تجارب، وهي في حالة تغيير وتقلب مستمر مع ما يجوز لهم ومالا يجوز لهم من الحرية ..!
بينما الحرية في الإسلام يقوم بتحديدها، وتحديد المسموح منها من الممنوع ، هو الله -تعالى- وحده، خالق الإنسان، والمنزه عن صفات النقص أو الضعف والعجز، العالم بأحوال عباده وما يُناسبهم وما يحتاجون إليه، وبالتالي فالحرية في الإسلام تمتاز بالثبات والاستقرار، فالذي يجوز من الحرية للإنسان قبل ألف وأربعمئة سنة يجوز له إلى قيام الساعة، فكل امرئٍ يعرف ما له وما عليه، والمساحة التي يمكن أن يتحرك بها كحق وهبه الله له !
كما أنها تمتاز بالحق المطلق والعدالة المطلقة؛ لأنها صادرة عن الله - عز وجل-، وهذا بخلاف الحرية في الديمقراطية الصادرة عن الإنسان الذي يحتمل الوقوع في الظلم والخطأ، والقصور!
الحرية في الديمقراطية يكون الإنسان فيها حراً في دائرة المباحات التي أذن له المشرَّعون من البشر أن يتحرك من خلالها !!
بينما الحرية في الإسلام يكون الإنسان حراً في دائرة المباحات والمسموحات التي أذن الله بها، وأذن لعبده استباحتها والتنعم بها والتحرك فيها!
الحرية في الديمقراطية تحارب وتنكر الشر الذي يتفق عليه المشرعون من البشر بأنه شرٌّ ، وهذا من لوازمه ـ بحكم جهلهم وقصورهم وعجزهم ـ أن يدخلوا كثيراً من الشر في دائرة الخير الجائز والمباح، كما أن من لوازمه أن يدخلوا كثيراً من الخير في دائرة الشر الممنوع والمحظور عقلاً وشرعاً!
فكم من أمر أجازوه تحت عنوان الحرية ثم بعد ذلك يظهر لهم خطؤهم وظلمهم فينقضونه ويمنعونه .. وكذلك كم من أمر يحرمونه ويمنعونه ثم يظهر لهم نفعه .. فيجيزونه ويُبيحونه .. وهذا كله يقلل من قيمة الحرية التي يدّعونها!
بينما الحرية في الإسلام .. تحارب وتنكر الشرَّ الذي حكم الله - تعالى- عليه بأنه شرٌّ .. الذي ما بعده إلا الخير .. وذلك لما ذكرناه آنفاً أن الله - تعالى- منزه عن الخطأ أو الزلل .. فهو لا يجيز إلا الخير والنافع، كما أنه لا يحرم إلا كل شرٍّ وقبيح! فالله - تعالى- جميل يحب الجمال ، وبالتالي فهو لا يُشرِّع إلا الجميل والجمال، فحاشاه سبحانه وتعالى أن يشرع القبيح أو يأذن به !
ومنه نعلم أن الحرية في الإسلام تتحرك في جميع ميادينها مع الجميل والجمال، وتبتعد كل البعد عن الخبائث والقبائح !(55/176)
الحرية في الديمقراطية تُعبَّد العبيد للعبيد، فتجعل العبيد منقادين لعبيد ربما يكونون أقل منهم شأناً، يُشرَّعون ويُقنَّنون ويُحرَّمون ويُحلوَّن لهم، وليس على الآخرين إلا الطاعة والاستسلام والانقياد، والخضوع ..!
فأي حرية هذه مع العبودية للمخلوق ؟!
بينما الحرية في الإسلام تعمل على تحرير العباد ـ كل العباد ـ من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد وحده سبحانه وتعالى .
فعبادة العبد لخالقه وحده عزٌّ، وفخر، ورفعة، وشرف ما بعده شرف، بينما عبادته للمخلوق العاجز الضعيف ظلم، وذلّ، وضياع وعذاب ما بعده عذاب!
الحرية في الديمقراطية تُخضع الإنسان لكثير من المؤثرات والضغوط الخارجية التي تفقده كثيراً من حرية الاختيار والتفكير: ضغط الإعلام بجميع فروعه وتخصصاته ووسائله، ضغط إثارة الشهوات ووسائل اللهو بجميع أصنافها وألوانها .. وما أضخمها وضغط الحاجة والسعي الدؤوب وراء الرزق والكسب ، ضغط سحرة الساسة والأحبار والرهبان ومدى تزويرهم للحقائق، وضغط المخدرات والمسكرات المنتشرة في كل مكان، وأخيراً التلويح باستخدام عصا الإرهاب والتهديد الجسدي والمادي لمن يستعصي على جميع تلك الوسائل والضغوطات، ولا يستعصي عليها إلا من رحمه الله .. وقليل ما هم!
فهذه الضغوط والمؤثرات تسلب المرء صفة حرية الاختيار، والتفكير، واتخاذ المواقف التي يريدها ويرضاها بعيداً عن تلك المؤثرات الخارجية المصطنعة التي يصعب الفكاك منها، فتسلبه حريته، وإن زعم بلسانه أو ظهر للآخرين بأنه حر !
لذلك نجد طغاة القوم ومستكبريهم وأحبارهم ورهبانهم، لا يحتاجون إلى مزيد عناء عندما يريدون من شعوبهم أن تسير في اتجاه دون اتجاه ، أو يريدون حملهم على استعداء جهة دون جهة ، أو على اختيار شيء دون شيء ، إذ يكفي لتحقيق ذلك أن يُسلطوا عليهم قليلاً من تلك المؤثرات والضغوطات الآنفة الذكر، ولفترة وجيزة من الوقت!
وهذه الضغوط والمؤثرات هي المعنية من قوله - تعالى-:( وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )(سبأ:33).
ليس مكر الليل وحسب، أو مكر النهار وحسب، بل هو مكر الليل والنهار وعلى مدار الوقت، بحيث لا يُعطى المرء منهم لحظة واحدة يخلد فيها للراحة والهدوء والتفكير .. حتى لا يهتدي إلى الحق، ويعرف أين هو من الصواب !
بينما الحرية في الإسلام تحرر المرء من جميع تلك المؤثرات الخارجية التي تقلل من حريته وحرية اختياره وقراره، وربما تسلبها كلها لتعيد إليه جميع قواه النفسية والجسدية والمعنوية ، وترفع عنه جميع الأغلال والقيود، ثم تقول له بعد ذلك: اختر الذي تريده (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ).
الحرية في الديمقراطية تمر بصاحبها على الجيف المتآكلة، وعلى القبائح وعلى والأمراض وعلى الفساد ، وعلى كل ما يُفسد الذوق الجميل والطبائع السوية، فتجرئه على الشذوذ والاعتداء والإدمان على ذلك!
ومثله كمثل الذي يقود سيارة بلا كوابح، أو ضوابط، أو مراعاة لحقوق طريق أو مار، .. فيصطدم بالجميع .. ويمر على الجميع .. ويعتدي على الجميع!
بينما الحرية في الإسلام ، تمر بصاحبها على كل ما هو جميل أو طيب ، كما أنها لا تسمح له أن يتعدى ذلك، ليمر على الخبائث والجيف والأمراض فتحافظ على سلامة ذوقه، وتفكيره، وصحته، وإيمانه .
ومثله كمثل الذي يقود سيارة بكوابح وضوابط ، ينطلق حيث ينبغي الانطلاق، ويقف حيث ينبغي التوقف، ويُعطي كل ذي حقٍّ حقه من غير إفراطٍ ولا تفريط.
الحرية في الديمقراطية تظهر وكأنها منحة يمُّن بها الإنسان على أخيه الإنسان فيعطيه منها ما يشاء ويسلبها منه متى يشاء!
بينما الحرية في الإسلام حق وهبه الله - تعالى- لعباده، وفطرهم عليه ،لا منة فيه لمخلوق على مخلوق، لا يجوز أن يُسلب أو يُنتقص منه شيء إلا بإذن الله ، وبسلطانٍ بينٍ منه سبحانه وتعالى .. يتجسد هذا المعنى في مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبعض أمرائه:" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ".
هذه هي الحرية في الديمقراطية ، وهذه هي الحرية في الإسلام .. فأي الفريقين أولى بالحرية، والسلامة، والحق ؟
=================(55/177)
(55/178)
الإصلاح السياسي والشرط الاجتماعي
محمد أبو رمان 15/3/1428
03/04/2007
لم تستمر طويلاً بارقة أمل الشعوب والمجتمعات العربية بإرهاصات الإصلاح والدمقرطة التي انتعشت في السنتين السابقتين، مع تلك الموجة الخاطفة التي انطلقت بعد احتلال العراق. فسرعان ما انقلبت الأوضاع رأساً على عقب، وبدلاً من الارتقاء درجة في الديمقراطية حدثت نكسة أكبر باتجاه الطائفية والانقسامات الداخلية في العديد من الدول العربية، وعاد الاعتبار للدور الأمني سواء على الصعيد الداخلي- القطري، أم على صعيد العلاقات العربية- الأميركية ليحكم قبضته على الحياة السياسية العربية.
ثمة أسباب عديدة تُذكر في تفسير "الاستثناء الديمقراطي العربي" والانتكاسات المتتالية على هذا الصعيد، مقارنة بنماذج متعددة أخرى في العالم استطاعت جميعها تجاوز حالة النظم القمعية واستنشاق هواء الحرية؛ إذ لم يبق إلاّ الدول العربية في ذيل قائمة الديمقراطية العالمية مقارنة حتى بدول في إفريقية وأسيا وأميركا اللاتينية.
بلا شك هنالك دور كبير ومباشر تقوم به السلطة السياسة العربية اليوم، التي تتقاطع الديمقراطية مع مصالحها ونفوذها وسطوتها، ويُقال الشيء نفسه عن العامل الخارجي، الذي كان على الدوام مصدر إسناد ودعم للتسلطية العربية، وقد ظهر أثره السلبي بعد أحداث أيلول 2001، فبمجرد اهتزازه قليلاً تضعضعت هيبة السلطات العربية وأوجدت مساحة من الحركة والحرية للمعارضة.
لكن المسألة أبعد من السياق السياسي الرسمي، فعلى الرغم من استطلاعات الرأي - التي تجري في كثير من الدول العربية- وتظهر أنّ الأغلبية الشعبية تؤيد الديمقراطية ومضامينها المختلفة، فإنّ المسافة لا تزال شاسعة بين مجرد تأييد الديمقراطية وتجميلها في موقف الشعوب العربية، وبين وجود حامل اجتماعي وطبقة عريضة في المجتمع تؤمن بوضوح بأنّ الديمقراطية تمثل مصلحة أساسية لها، وأنها تتوازى مع أساسيات الحياة، وأنه لا يمكن الفصل بين لقمة الخبز والحرية بأي حال من الأحوال. فتلك الثقافة الديمقراطية المتجذرة في الوعي الاجتماعي العام مفقودة في العالم العربي.
قد يعترض البعض على الفكرة السابقة قائلاً إنّ الشعوب العربية تمتلك وعياً سياسياً متميزاً، وهنالك حركات معارضة شرسة في كثير من الدول العربية، وحراك وحوار سياسي قد لا تجد نظيراً له في كثير من دول العالم المتقدم. إلاّ أنّ هذه الدعوى يحاجة إلى تمحيص وتدقيق أكبر، فتلك المعارضة السياسية تقفز دوماً عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخطاب وفي ممارستها، بينما تُعطي الأولوية لقضايا سياسية أخرى كالقضية الفلسطينية والعامل الخارجي، وتعلي من الجانب الأيديولوجي (أفكار قومية، يسارية، إسلامية). مما انعكس طيلة العقود السابقة على مدى شعور المواطن العربي بأن الديمقراطية وحقوق الإنسان تأتي في مرحلة ثانية أو ثالثة أو رابعة.
القاعدة السابقة كُسرت في الآونة الأخيرة من خلال بروز حركات معارضة شعبية تعطي الأولوية للديمقراطية وتضعها في بؤرة اهتمامها وخطابها السياسي، وقد ظهر ذلك بصورة واضحة في سورية "المنتديات" وربيع دمشق، وفي مصر حركة كفاية. إلاّ أنّ هذه الحركة العربية الجديدة لا تزال تعاني من قصور الحامل الاجتماعي وضعفه مقابل وجود الحركات الأيديولوجية الأخرى كالإخوان المسلمين.
في هذا السياق يقدم المؤرخ المعروف هوبز باوم في كتابه "عصر الثورة أوروبا (1789-1848) تحليلاً لطبيعة الظروف التي وُلدت فيها كل من الثورة الصناعية والثورة الفرنسية والحراك الاجتماعي والثقافي الذي صاحب ذلك، وما يلفت الانتباه ويتطلب قراءة عربية معمّقة أولاً العلاقة التاريخية بين الثورة الصناعية والثورة السياسية، وثانياً أن التطور باتجاه الديمقراطية والخلاص من النظم الملكية المطلقة التي كانت تحكم أغلب المدن الأوروبية ارتبط بولادة طبقات اقتصادية جديدة (البرجوازيين الجدد) اشتبكت مصالحها مع بعض الأمراء والنبلاء والمثقفين للخلاص من النظام الإقطاعي- الديني السائد، وبالفعل ومن خلال عملية تاريخية وتسويات وصفقات سياسية تحركت السياسة الأوروبية باتجاه الأخذ بأفكار التنوير والإصلاح السياسي والتخلص من النظام السابق.
بالتأكيد، التاريخ الأوروبي مختلف تماماً عن الخبرة العربية، لكن الفكرة المهمة من قراءة هوبز باوم أنّ ولوج عصر الإصلاح مشروط بوجود طبقة اجتماعية تربط بقوة بين مصيرها ومصالحها ودورها ووجودها وبين الديمقراطية، وهو ما يدعو إلى قراءة اجتماعية ثقافية نقدية للمجتمعات العربية وتطورها، وصولاً إلى البحث عن الحامل الاجتماعي الصلب القادر على القيام بهذه المهمة التاريخية.
===============(55/179)
(55/180)
أساس النهضة: وعي الواقع واحترام الهويّة
د. غازي التوبة 16/2/1428
06/03/2007
ليس من شك بأن معرفة الذات، ووعي الهويّة، وتوصيف الواقع شرط أساسي في قيام النهضة ونجاحها، وهو أمر بدهي، وإلا فكيف ستكون هناك نهضة وهناك عمران دون معرفة تضاريس الواقع وسلبياته وإيجابياته؟ هذا ما تقوله تجارب الأمم، وتؤكّده قيادات الشعوب.
والآن إذا عدنا إلى بداية نهضتنا في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، نجد اضطراباً واسعاً في تحديد هويّتنا، وتوصيف واقعنا، وهو أمر غريب ولافت للنظر، لكنه حادث وموجود، فنجد أجوبة متعدّدة على سؤال: من نحن؟ مع أنه يفترض أن يكون هناك جواب واحد، ينطلق من دراسة الواقع وتحليله، فجاءت الأجوبة كالتالي: نحن أمّة فرعونية، نحن أمّة سورية، نحن أمّة عربية، نحن قطعة من أوروبّا، نحن أمّة فينيقيّة، نحن عثمانيّون (نسبة للخلافة العثمانية) الخ... وكانت معظم الأجوبة إن لم يكن كلها لا تنطلق من الواقع بل تنطلق من نظريات ومقولات غربية، ففي حال القول: نحن أمة مصرية أو سورية، كان ذلك نقلاً عن النظرية الفرنسية التي تغلّب العوامل الجغرافية في إنشاء الأمة, وفي حال القول: نحن أمة عربية، كان ذلك نقلاً عن النظرية الألمانية التي تغلّب عاملي اللغة والتاريخ في تكوين الأمم، وفي حال القول: نحن عثمانيون، كان ذلك نقلاً عن النظرية التي تغلّب عامل المشيئة والإرادة في قيام الأمم، وكانت بعض الأقوال تغلّب العامل الاقتصادي كما حدث مع النظرية الستالينية الماركسية التي اعتبرت الدولة القومية في القرن التاسع عشر من صنع البورجوازية من أجل الوقوف في وجه طبقة البروليتاريا الخ...
ومما يؤكّد تأثير هذه الأحكام على هويتنا منقولة عن النظريات الغربية نقلاً حرفياً هو عدم قدرتها على تفسير واقع الوحدة الثقافية والشعورية والنفسية والاجتماعية التي تعيشها منطقتنا، ففي حال القول بالقومية العربية المستندة إلى النظرية الألمانية التي تغلّب عاملي اللغة والتاريخ، لم يوضح ساطع الحصري - وهو أبرز الآخذين بها - كيفية توحيد هذين العاملين للمشاعر والعواطف في أمتنا، ولا كيفية صياغتهما للعادات والتقاليد الواحدة، ولا كيفية بنائهما للثقافة الواحدة الخ... بل كانت كل أحاديثه منصبة على دور عاملي اللغة والتاريخ في إنشاء الأمم الأخرى كالأمة الألمانية واليونانية والفرنسية الخ... وقل الشيء نفسه عن أنطون سعادة في قوله بالقومية السورية التي تغلّب العوامل الجغرافية؛ فهو قد تحدث عن السلالات والمتَّحدات وتطور المجتمعات وتطور الثقافات ودورها في إنشاء الأمم، ولم يطبق ذلك على أمتنا، ولم يبيّن "سعادة" كذلك كيفية تكوّن وحدة المشاعر والعواطف والعادات والتقاليد والثقافة والتراث المعنوي في الواقع المحيط به. وكذلك دعا أحمد لطفي السيد إلى القومية الفرعونية، لكنه لم يبيّن لنا كيفية ارتباط واقع الشعب المصري وعاداته وتقاليده ومشاعره وثقافته ولغته بالواقع الفرعوني، ولا يكفي وجود الأهرامات وبعض الآثار الفرعونية للقول بارتباط الشعب المصري في القرن العشرين بالتراث الفرعوني؛ لأنه ليس هناك أية دلائل على هذا الارتباط، وهذا غير كافٍ لربط الشعب المصري بالحضارة الفرعونية. ثم جاءت حركة القوميين متأخرة في الخمسينيات من القرن الماضي لتزيد من حجم الابتعاد عن الواقع قي مقولتها للقومية، وقد تم ذلك عندما أدخلت شعوباً وأمماً سابقة في نطاق القومية العربية كالفراعنة والفينيقيين والكلدانيين والآشوريين والبرابرة الخ... وعلّلت ذلك بأنها المرحلة غير الواضحة من القومية.
وللإجابة عن السؤال الذي طرحناه قبل قليل وهو: من نحن؟ فنجد أن الجواب عن هذا السؤال سهل وبسيط هو: نحن أمّة إسلامية، بناها القرآن الكريم والسنّة النبويّة، وعندما نقول ذلك، ننطلق من واقع الشعب والمجتمع والناس، ولا ننطلق من خيال أو أوهام أو من حكم مسبق على الواقع، أو من نظريات نودّ تعميمها، فالنظر إلى أخلاق الناس المحيطين بنا، وعاداتهم وتقاليدهم، وأساليب تفكيرهم، ومشاعرهم، وعواطفهم، وتطلّعاتهم، وأهدافهم يقودنا إلى وجود وحدة في كل هذه الأمور مرجعها القرآن الكريم والسنّة المشرفة...، ويمكن أن نرى الارتباط واضحاً بين الوحدة في كل المجالات السابقة وبين مصادر الوحي الإسلامي، فتوحيد الله صاغ وحدة أفكار المسلمين، وعبادة الله صاغت وحدة نفسياتهم، وأحكام الحلال والحرام صاغت وحدة قيمهم، والخوف من النار ورجاء الجنة صاغ وحدة مشاعرهم، واستهداف العمران في الدنيا صاغ وحدة تطلعاتهم، والاقتداء بأفعال الرسو صلى الله عليه وسلم وأقواله صاغ وحدة عاداتهم وتقاليدهم الخ...(55/181)
إن الخطأ في فهم الواقع ومعرفة الذات هو الذي جعل النهضة غير ممكنة، ويمكن أن نضرب مثلاً على ذلك بالحكم الذي شاع منذ مطلع القرن العشرين في معظم الدول العربية، وهو القول: بأن الشعوب الموجودة من المحيط إلى الخليج شكّلت الأمّة العربية، والمقصود أمّة عربية بالمعنى القومي، أي أنها أمّة شكّل عنصري اللغة والتاريخ ثقافتها وعاداتها وتقاليدها وأخلاقها وقيمها ومشاعرها ونفسيّتها الخ...، لذلك عندما جاءت الدولة القومية واستهدفت بناء نهضة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعمرانية والحضارية والتربوية والفنية لم تلتفت إلى دور الدين في بناء هذا الواقع، بل نظرت إلى الدين على أنه معوّق للتقدّم والبناء، كما كان دوره في الغرب، لذلك لابدّ من العمل على استئصال وجوده من حياة الناس، وفي أحسن الأحوال لابدّ من تهميش دوره، لهذا لم تتحقّق النهضة بل كان هناك سقوط في مختلف المجالات وأحد الأسباب الرئيسة في ذلك هو عدم الانطلاق من الواقع وعدم تمحيص الهوية وعناصر قيامها.
إن الممارسات التي قامت بها قيادات الفكر القومي العربي في مواجهة الدين خلال القرن العشرين، وفي محاولة استئصاله من كيان الأمّة وبخاصّة عندما ارتبط الفكر القومي العربي بالاشتراكية المادية، كانت من أصعب السنوات في حياة الأمّة، وسبّبت ضعفاً في الأمّة خلال قرن أشدّ من كل الضعف الذي عرفته خلال القرون السابقة جميعها، ويدّل على ذلك نكبة عام 1948م ثم نكسة عام 1967م، لكن الأمّة استطاعت بفضل الله ثم بفضل الحيويّة الكامنة في جسمها أن تتجاوز محاولات الاستئصال تلك، وتتغلّب عليها فكانت الصحوة الإسلامية التي استلمت قيادة الأمّة، وأعادت للدين وضعه الطبيعي ومكانته المطلوبة.
ويلحظ المتابع لأوضاع المنطقة في الفترة الأخيرة أن هناك توجّهاً إلى حلّ مشاكل المنطقة بتطبيق الديموقراطية، ويُلحظ كذلك أن المتوجهين إلى تطبيق الديمقراطية ربما يقعون في الخطأ الذي وقع فيه السابقون وهو عدم الانطلاق من الواقع مما سيؤدّي بنا إلى سقوط آخر، وخسارة جديدة نحن في غنى عنها، لذلك يجب أن يكون أول درس نستفيده من التجارب السابقة هو أن نعي واقعنا، ونحترم العوامل التي تشكّله، فهذا هو الأساس الأول للنهضة
===============(55/182)
(55/183)
اغتيال الوعي .. وعودة الأوثان المقدسة
د. مسفر القحطاني 25/1/1428
13/02/2007
ربما كان الاستبداد و التسلط السياسي أشنع صور الاعتداء على كرامة الفرد وإنسانيته، ولكن هناك لحظات في الحياة يكون فيها الاستبداد الفكري أشنع حالاً وأعمق أثراً على تحطيم دافعية الإنسان نحو الحرية، أو تهميشاً لإرادته في التعبير عن قناعاته وآرائه، أو تكريساً لمذلة الاتباع لمن له الحق المطلق في المعارف والأحكام وشؤون الواقع وحتى الغيب؟! فالطغيان المادي وإن كان يضرب الإنسان بعصا من حديد إلاّ أن الطغيان الفكري يخنق الإنسان بحبل من حرير! وحينما تُكبّل عقول الأفراد بالتخويف والتهميش والتسطيح تصبح المجتمعات سجناً كبيراً يُمنع فيه الأفراد من التفكير والتعبير، ويرسفون من حيث لا يشعرون في قيود الخوف من نقد أو مخالفة الوثن المعبود، وإلاّ أصبح كل جريءٍ متمرداً منبوذاً مخالفاً للجموع المرعوبة، وهذا ما فعلته زمرة من الأوثان البشرية قضوا فيها على أمم لم تَعُد للحياة إلاّ بعد زوال عروش التسلط الفكري عنهم؛ كما حصل للألمان في عهد هتلر أو الطليان مع موسليني أو ماوتسي تونغ في الصين أو ستالين في روسيا كأمثلة صارخة للإبادة الفكرية الجماعية وتقديس الوثن الأوحد.
أما في عصرنا الحاضر ونحن في مرحلة استحالة تكبيل العقول بالأفكار المقفلة نتيجةً للانفتاح الفضائي وتوسّع وتنوّع وسائل الاتصال بالعالم؛ أصبحت بالتالي مجتمعاتنا الإسلامية في حيرة من تعدّد الخيارات الإصلاحية و انجذابها للتيارات الفكرية المتكالبة على كسب أسواقها الجديدة الواعدة؛ فظهرت أزمة حقيقية لدى الفرد المسلم في عدم القدرة على التمييز بين تلك المنتجات الوافدة من الأفكار والمشاريع، وما هو الأصلح للتطبيق والأنسب للعمل، وظننا أن نجاح بعض تلك المشاريع الفكرية في بلدانها أنه العلاج الجذري والكافي لمشكلات بلادنا؛ فالديمقراطية -على سبيل المثال- أصبحت جوقة كل التيارات المتنافرة في عالمنا الإسلامي، ولمّا تم استنباتها في مجتمعاتنا من خلال توسعة الشراكة الحزبية في إدارة السلطة، وتعميم التجربة الانتخابية أنتجت لنا مرضاً خطيراً كان من أسباب الشقاء في نكساتنا التاريخية من خلال عودة القبيلة، وتكريس العنصرية الإقليمية، وتأجيج نار الطائفية التي جعلت من الدولة الواحدة دويلات متحفزة للاشتعال من أدنى فتيل، بينما كان الأولى و الأسلم في نقل أي مشروع أن نفحص تربة البناء، ونمهد الأرض للعمل حتى لا نخسر بعد بذل الجهد أرضنا ومشروع البناء، لكن هذا الواقع يخفي في طياته مصالح فردية ودولية تسرّع في نقل الدم إلى مريض لم يتم فحص فصيلته المناسبة، مما يجعل المغامرة تتراوح بين الحياة أو الموت.
كما أن المسلم اليوم يقف أمام مشاهد محبطة يراها في العيان، وإن كان لا يدرك أثرها المباشر عليه، كالصراع بين الأجنحة والتيارات السياسية في بلاده، أو تزاحم الإشكاليات الفكرية وتهاوي القيم الدينية أمام النزعات المادية السلطوية؛ لذا فهو في أمسّ الحاجة لأن يقوّي دفاعاته من الاختراق الثقافي والقيمي، ويعيد بناء فكره ليكون صامداً من لفحات الأطروحات العقلانية النافرة أو الأيدلوجيات المتطرفة؛ من أجل تلك الحيثيات أضحينا في أمسّ الحاجة لعودة الوعي الديني للصمود والوعي الحضاري للنهوض، ولعلي أبيّن وأؤكّد مدى أهمية الحاجة للوعي في ظروفنا الراهنة وبناءه في النفوس والعقول من خلال هذين المؤشرين:
أولاً: المتأمل في مراحل تاريخنا الماضي يراه أشبه بالحلقات المترابطة، وإن كانت متفاوتة القوة، لكنها متلاحمة بانسجام بسبب المشترك الديني و الثقافي المتجذر في الأعماق، وعندما تختل تلك الرابطة الفكرية، ويضعف دور الإيمان والعلم والفكر الناضج يتحلل ذلك الترابط، وتتراجع حلقاته إلى القاع كسلسلة انفكت إحدى حلقاتها وهوت إلى الأسفل، أو أشبه بسباق التتابع الذي يحمل كل جيل للذي بعده تلك العصا المتجسدة في (الإيمان والفكر)، والتي تنتقل عبر الأجيال المتلاحقة، وعندما يحملها شخص ضعيف القدرة والكفاية فإنه يؤخر كل الفريق معه، ويشده نحو تقصيره الفردي، ومن ثَمَّ يصبح الفريق بأكمله يعدو خلف الأمم المتقدمة بعماءٍ أو بغباء. لذلك كان الاهتمام بالروابط الدينية والفكرية له أثره الكبير في قوة الأمة، والفرصة اليوم سانحة لمن يملك الوعي اللازم لتقوية مكامن الضعف لدينا، وأعتقد أن الواعين في الأمة فكرياً ودينياً هم الحلقة المفقودة التي سينسجم الكل في فلكهم، ويتعاون الجميع مع مشاريعهم، ولا أظن مجدّداً احتل موقعاً متميزاً في تاريخ الأمة إلاّ كان دوره قوياً وملحوظاً في سدّ الثغرات الفكرية وإكمال الحلقات المعرفية التي تهاونت الأمة في لحظاتها التاريخية عن واجبها في تحصين العقل من الخرافات والأوهام وتفعيل أفكاره في التحضر والنهوض.(55/184)
ثانياً: إن كثرة التحديات الراهنة وعلى جميع المستويات الحياتية أبرزت أسئلة ملحّة في ذهن المسلم عن موقفه تجاه الانفتاح مع الأمم الأخرى، وضرورة التعايش السلمي معها لوجود مصالح مشتركة تجمعهم، وما هي الثوابت التي لابد من حفظها والمتغيرات التي تقبل المرونة في تعاطيها؟ وما هو مستقبلنا مع تسلط الشركات العابرة والإعلام الفضائي؟ وكيف نواجه حشود البطالة والنزوع للاستهلاك ومقاومة الظواهر السلوكية الخاطئة والانحرافات الخلقية؟ وغيرها من الأسئلة التي تتهيب النخب السياسية والعلمية والشرعية من مناقشتها بما يقنع الشباب - على وجه الخصوص- بالحلول الواقعية العملية، أو ربما كانت الهيبة أن نصرّح بمخارج من تلك الأزمات قد لا تروق لفئات من المجتمع؛ فنقع في وهم البعد عن الخلافات الفكرية التي لم تقللها الأيام بل زادتها شدة وعناداً، بينما الشباب الحيارى في سكرتهم يعمهون، وينتظرون المرشد المشفق على مستقبلهم الغامض! وهذا التهيّب قد أنتج لنا ظاهرة (سلمان العودة) و(عمرو خالد) و(طارق السويدان) وغيرهم من الدعاة، وهؤلاء -وإن كانوا قلة- فقد برزوا من جموع هائلة من العلماء المفكرين المشاهدين لصور الاغتيال المنظم الذي يُمارس على أفكار أجيال كاملة، ولكن من غير حراك؟! فطبيعي أن ينشدّ الشباب لمن يفهم حالهم، ويملك حلولاً واقعية لأزماتهم الساخنة، حتى مع بساطتها وضعف إمكانياتها؛ فشبابنا اليوم بعد فترة قليلة قد لا تتجاوز عقداً من الزمن هم من سيتولى قيادتنا شئنا ذلك أم أبينا؟! وكم تألمت قبل عدة أسابيع لما حضرت مؤتمراً يُعنى بقضايا الشباب ومستقبلهم المنتظر أن أسمع أكثر المتحدثين يراوح في نفس الأفكار التي أغبرت، وتكررت لعقود من الزمن الذي تغيرت كل معالمه واحتياجاته، وأسمع نفس الخطاب العاطفي المخدِّر بمثالياتٍ فيها من البلاغة والفصاحة ما تحملنا على الإعجاب والتصفيق، ولكنها لا توقظ نائماً للعمل، ولا تجيب عن سؤال حائرٍ منتظر.
و في كل يوم أزداد قناعة أن الوعي وترسيخه في البناء الذاتي والمجتمعي هو واجب المرحلة الراهنة و القادمة، وأن أي اغتيال لدوره أو تهميشاً لفاعليته في الدعوة والتربية والإصلاح هو بداية الإعداد لعصر التطرف والعنف الفكري والتغالب الاجتماعي و عودة الأوثان المقدسة.
=============(55/185)
(55/186)
فلسفة المقاومة بين خيار السلاح ومشروع الإصلاح.
د. مسفر بن علي القحطاني 2/11/1427
23/11/2006
تُعدّ مقاومة المحتل المغتصب في كل الشرائع والملل عملاً بطولياً مشرّفاً مهما كانت طبيعة الغاصب المعتدي من حيث الفكر والجنس، ومهما كان هذا المقاوم من حيث الهدف والتوجّه. وكل الشعوب البشرية تفاخر بشهدائها، وتقدّس دماءهم الزكية اللاهبة بالنصب التذكارية والأعياد السنوية كطبيعةٍ لفطرة الإنسان وميوله نحو الحرية والعدالة ومقاومة الاستبداد.
والفلسفة الإسلامية للمقاومة ورد العدوان يُصطلح عليها بـ"الجهاد" كمفهوم له دلالاته المستوحاة من معناه اللغوي، فمعطياته اللغوية واستعمالاته الشرعية تعود في مجموعها إلى بذل الجهد والاجتهاد في التبليغ والدعوة والقتال، والجهاد لم يُشرع إلا كوسيلة لحفظ الدين ونشره والدفاع عن دعاته ومبلغيه، وحماية لبيضة المسلمين، ومواجهة كل المعتدين و المحتلين لأراضي الأمة و مكتسباتها؛ ولا شك أن هذا يقتضي بذل الغاية من الجد والاجتهاد، والقائد المسلم حامل لواء العمل بالجهاد سواء كان قتاله للطلب والدعوة، أو للدفع والمقاومة، عليه مسؤولية كبرى في حماية هذا المسلك الخطير من النزوات النفسية والمطامع الدنيوية؛ حتى لا يكون جهاده تنفيساً للغرور بالقوة أو العلو في الأرض، والقادة والجنود في حالة المقاومة أو النصرة عليهم واجب المراعاة التامة لمقاصد الجهاد في حفظ الدين وليس تضييعه، وحقن الدماء، وليس سكبها رخيصة في كل وادٍ يمرون فيه، وأن الأرواح التي تُزهق بسببهم هي في ذمتهم أحياءً وأمواتاً، وقطرات الدم التي تُراق بغير وجه حق هي أعز عند الله تعالى من الكعبة ولو نُقضت حجراً حجراً ..
والتاريخ الإسلامي -في بعض مراحله- لم يسلم من تلك الخروقات المشينة لمحاسن ذلك التشريع، وحسبنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين أنموذجاً يُقتدى به في حماية الجهاد من التضييع لمقاصده أو الإخلال بمعانيه.
وبما أن الجهاد لم يكن -في نفسه- هدفاً أو غاية بل كان وسيلة لتحقيق مقاصد الدعوة والإصلاح؛ فإنه لم يُشرع إلاّ في حالة استنفاد المسلمين خيار السلم والمحاورة بالتي هي أحسن، ثم بعد استنفاد خيار الجزية بحماية الآخر مقابل مال عادل يُؤخذ من أقويائهم ويُردّ في حماية أوطانهم؛ مع فتح الحدود لتبادل العلاقات ونشر الدين من غير إكراه أو إجبار .. وحتى لو انقضت تلك الخيارات فإن المسلمين لا يقدمون على القتال، ومازالت هناك مجالات أخرى يحسن فيه تبليغ الدين من غير المواجهات أو القوة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم". وهذا يدل على عموم مفهوم الجهاد لكل وسائل الدعوة والتبليغ، سواء كانت بالوسائل السلمية الفكرية و الإعلامية و المدنية، أو من خلال الأدوات القتالية التي جعلها القرآن آخر الدواء وأضعف المحاولات وأكرهها على النفس؛ كما ورد في القرآن: (كُتِب عليكم القتالُ وهو كُرهٌ لكم). وقال تعالى :(وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم)، وغيرها من النصوص.
هذه الفلسفة الجهادية لو تأمّلناها من خلال كل النصوص من غير تجزيء لمفرداتها، وأعملنا القواعد الكلية والمقاصد المرعية؛ فإن الجهاد يأتي حينئذ كلبنة في مشروع بناء مجتمع أمثل يعمه الأمن والاستقرار، ولا يأتي القتال إلا كحالة استثنائية لها شروطها الصارمة، وليس باباً نحو الفتن والشرور وانتهاك الحرمات، لذا فهو جزء من معركة الإصلاح التي يدعو إليها الإسلام في معركته مع الأهواء المضلة والنفوس الظالمة والعادات الباطلة، هذه الفلسفة الجهادية كانت واضحة في الوعي الديني لدى جيل التأسيس من الصحابة -رضي الله عنهم- عبّر عنها ربعي بن عامر لما سأله رستم عن هذه الفلسفة ومبادئ مشروعهم التوسعي فقال له: "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جوْر الأديان إلى عدل الإسلام". هذه القيم هي أبجديات الإصلاح المنشود من وراء أي مواجهة للمسلمين مع غيرهم، سواء كانت حرباً مادية أو صراعاً حضارياً أنتجته العولمة المعاصرة، وفقدان الفرد المسلم لهذه المعاني يحرمه من القوة المعنوية التي تمنحه الصمود والقيام بدوره في الشهود الحضاري.
والأمة الإسلامية وهي تمر بمحنة الاعتداء اللطيف في بعض دويلاتها؛ حيث تُحتلّ العراق وأفغانستان وفلسطين بذرائع ماكرة: كتحرير الإنسان من الظلم، أو نشر الديمقراطية الغربية، أو استعمار تلك الدول والنهوض بها، كل تلك الشعارات قد احترقت وتلاشت مع البوارج المدمرة والطائرات المحرقة والتفجيرات الانتحارية. فالوضع الراهن بوضوحه للرأي والسامع شجّع على إحياء الدعوة للقتال من أجل رفع العدوان، ولا أستنكر هذا الخيار الذي دفعهم إليه وسوّغه لهم الاستكبار الغربي والعنجهية الامبريالية المعاصرة، ولكن قبل هذا العلاج هناك شروط مهمة وسنن ضرورية في جعل القتال مشروعاً إصلاحياً، وليس وسيلة نحو المناكفة المهزوزة أو ردة الفعل السريعة الخاطئة.(55/187)
إن تحرير الأوطان هو من أجلّ الأعمال؛ فهو إحقاق للعدل، ورفع للظلم، وبناء للمجتمع، وحماية للإنسان، فإذا كان تحريرها على أيدي أبطال معركة السلاح من غير عدة متكاملة لمشروع الإصلاح الواعي؛ فإن مصيرهم الإخفاق في التحرير والاستقلال، والثورات العربية في منتصف القرن الماضي وقعت في هذا الخلل الذي جعل شعوبهم يحنّون إلى عصور الاستعمار الأجنبي، ولو كان بغياً وعدواناً! فالمقاتلون الذي لا ينتظرون سوى دحر العدو فقط قد يقعون في عداوة أنفسهم إن لم يهذبوها من الأطماع والمصالح الفردية، وهذا ما جعل الجهاد الأفغاني الذي سرت في وديانه الكثير من الدماء الزكية والتضحيات الغالية، وهُزِمت على جباله جيوش السوفيت القمعية أخفقت في أول اختبار حقيقي مع النفوس التي لم تتحرر من أهوائها وحظوظها، وأرجعت كل الإنجازات الماضية إلى ليل بهيم من الدمار والتشتت والخراب المجتمعي.
لا أظن أن هناك مراجعة حقيقية للتجارب الجهادية المعاصرة، بل أرى أن الأخطاء تتكرر في كل ميدان ينقلب فيها الجهاد المشروع إلى معول للإرهاب والقتل الممنوع، وتُستغلّ مشاعر الشعوب المقهورة بعنتريات مفضوحة يتكرر فيها أكل الثور الأبيض أمام مرأى نفس المشاهدين الصامتين
============(55/188)
(55/189)
إيران وديموقراطيتها
د.محمد العبدة 25/10/1427
16/11/2006
هل الديموقراطية قيمة في ذاتها؟ وهل يمكن أن تتحوّل إلى صنم،، ويرفع مفهومها إلى حد لا يقبل النقد؟ بعض الكتاب يجعلها كذلك ويصف إيران بأنها دولة ديمقراطية، بينما الدول العربية ليس فيها مثل هذه الديموقراطية، وإذا سلمنا جدلاً أن إيران فيها ديموقراطية (مع أنها مختزلة بالانتخابات والبرلمان)، ولكنها مع هذه الديموقراطية فإنها تمارس أبشع أنواع القهر والظلم لأجزاء من شعبها، ومع ممارسة أتباعها لأقسى أنواع الإجرام الذي تخجل منه الإنسانية.
نعم، إن إيران فيها انتخابات وفيها برلمان، وفها مجلس تشخيص النظام. ولكن كل هذه يمكن أن تُلغى بجرة قلم من صاحب ولاية الفقيه ونائب الإمام؛ "فالخميني يعلن في بيان له في عام 1988 أن مصلحة الدولة تعلو حتى على الشرائع الإسلامية والفرائض من حج وصوم، وعندما حاول خليفته (خامنئي) أن يفسر هذا الرأي بأنه يعني مصلحة الدولة في إطار الشريعة وبّخه الخميني في رسالة مفتوحة أعاد فيها التأكيد على أن مصلحة الدولة فوق الشريعة نفسها، وأنه يجوز للإمام تعطيل كل نصوص الشريعة لحماية الدولة..." *
إن مؤسسة ولاية الفقيه هي في الحقيقة فوق الدستور وفوق الشعب، وهي المرجع الأعلى لكل السلطات، وهذه المرجعية هي أقرب للإمام المعصوم منه للبشر. فهل هذه ديموقراطية؟ ثم أين الحرية للشعوب الأخرى؟ في إيران : البلوش والتركمان والأكراد والعرب، ليس لهم حرية لأنهم سنة، يتحدث أحد زعماء العرب في منطقة الأهواز أن الدولة الإيرانية لا تقبل تسجيل مواليد العرب بأسماء عربية، وأما قتل علماء السنة من البلوش فهذا مشهور ومعروف، وما يفعله أزلام إيران في العراق فشيء يشيب له الولدان، وهو يمثل انحطاط البشر إلى أسفل سافلين، بل إن ما يفعلونه يمثل السادية بأسوأ أشكالها. فهل سمع الذين يمدحون ديموقراطية إيران كيف يفعل أزلامها بأطفال العراق حين يضعون الطفل في الفرن ليُشوى أمام والديه؟ وهل سمع بفرق الموت التي تمثل بالضحية قبل الموت وبعد الموت؟ وهل سمع بتهجير أهل السنة من بغداد وغير ذلك من أمور أصبحت مشهورة تتناقلها وسائل الإعلام النزيهة، وإذا كان الكلام عن الديموقراطية ففي إسرائيل ديموقراطية، وهي تمارس أشد أنواع الوحشية على الشعب الفلسطيني. وهل تنسينا ديموقراطية أمريكا (ولا مقارنة مع ديموقراطية إيران)؟ هل تنسينا ما تفعله في العالم الإسلامي من تدمير وقتل وانحياز أعمى للصهيونية؟ وهل تنسينا ديموقراطية بريطانيا (وهي أعرق الديموقراطيات) ما فعلته بالعالم الإسلامي من التقسيم ونهب الثروات؟ هل نغفر لهم خطاياهم لأنهم ديموقراطيون؟ هل سينتصر الإسلام إذا تمّكنت الخرافة والشرك واللاعقلانية التي تحملها إيران ومشروعها الصفوي العقائدي؟ هل انتصر الإسلام عندما تمكن الحشاشون والقرامطة والعبيديون الذين خرّبوا العالم الإسلامي وتعاونوا مع أعداء الإسلام؟
نتحدث هنا عن الديموقراطية، وهذا لا يعني أننا نرضى بالاستبداد، كما لا يعني القبول بالديموقراطية كفكر سياسي شامل مرتبط بالدولة القومية وبالليبرالية والرأسمالية. إن صورة هذه الديموقراطية بدأت تهتز في موطنها لأنها فكرة بشرية، وقد كثرت الكتابات التي تنتقد سلبياتها، ويشعر كثير من الكتاب والمفكرين في الغرب أنها لا تلبي حاجة الإنسان إلى الحرية الحقيقية وإلى الاستقرار، فالناخبون أحرار في لحظة الانتخابات، ثم تعود الأمور إلى استعباد الناس كما يقول (روسو) في العقد الاجتماعي، وقد تحدث أكثر من مفكر وكاتب عن أزمة الديموقراطية، ويبدي (مارتان هايدجلر) تخوّفه حين قال: إننا ذاهبون إلى مأزق. وكتب (سامبسون) عن تشريح بريطانيا في الصميم، ويصف الفيلسوف اليوناني المعاصر (كاستور يادس) النظام السياسي في الغرب بأنه (توتاليتارية) رخوة، وهو لا يرى حلاً للمجتمع الغربي إذا بقيت الأمور على حالها. ولا يظن المؤرخ (توينبي) خيراً في الليبرالية التي ترى التحرر من كل معتقد أو موروث، ويميل إلى أن يرى الإنسانية تسير في طريق محدد واضح، كما هو رأي المؤمنين بالله.
إن رجال الديموقراطية في الغرب تركوا المبادئ ليتحولوا إلى ممثلين للشركات الكبرى، أو يتحولوا إلى وجوه تلفازية، كما يُلاحظ تناقص نسبة المقترعين في الانتخابات، وهذا يعني الابتعاد عن المشاركة السياسية لما يرون من الوعود الكاذبة التي يطلقها النواب، وبعض الكتاب يرى أن الديموقراطية على وشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة بسبب الاتجاه نحو مجتمع إمبراطوري كتجمع أوروبا ما فوق القومي. والحل برأي مؤلف كتاب نهاية الديمقراطية (ماري غيهنو) هو الحاجة إلى ثورة روحية على حد تعبيره.
والحديث يطول عن أزمة الديموقراطية التي تفصل صندوق الاقتراع على صندوق (الرأس) .
* عبد الوهاب الأفندي:القدس العربي 28-8-1996
============(55/190)
(55/191)
أساس النهضة: وعي الواقع واحترام الهويّة
غازي التوبة 29/9/1427
22/10/2006
ليس من شك بأن معرفة الذات، ووعي الهويّة، وتوصيف الواقع شرط أساسي في قيام النهضة ونجاحها، وهو أمر بدهي، وإلا فكيف ستكون هناك نهضة وهناك عمران دون معرفة تضاريس الواقع وسلبياته وإيجابياته؟ هذا ما تقوله تجارب الأمم، وتؤكّده قيادات الشعوب.
والآن إذا عدنا إلى بداية نهضتنا في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، نجد اضطراباً واسعاً في تحديد هويّتنا، وتوصيف واقعنا، وهو أمر غريب ولافت للنظر، لكنه حادث وموجود، فنجد أجوبة متعدّدة على سؤال: من نحن؟ مع أنه يفترض أن يكون هناك جواب واحد، ينطلق من دراسة الواقع وتحليله، فجاءت الأجوبة كالتالي: نحن أمّة فرعونية، نحن أمّة سورية، نحن أمّة عربية، نحن قطعة من أوروبّا، نحن أمّة فينيقيّة، نحن عثمانيّون (نسبة للخلافة العثمانية) الخ... وكانت معظم الأجوبة إن لم يكن كلها لا تنطلق من الواقع بل تنطلق من نظريات ومقولات غربية، ففي حال القول: نحن أمة مصرية أو سورية، كان ذلك نقلاً عن النظرية الفرنسية التي تغلّب العوامل الجغرافية في إنشاء الأمة, وفي حال القول: نحن أمة عربية، كان ذلك نقلاً عن النظرية الألمانية التي تغلّب عاملي اللغة والتاريخ في تكوين الأمم، وفي حال القول: نحن عثمانيون، كان ذلك نقلاً عن النظرية التي تغلّب عامل المشيئة والإرادة في قيام الأمم، وكانت بعض الأقوال تغلّب العامل الاقتصادي كما حدث مع النظرية الستالينية الماركسية التي اعتبرت الدولة القومية في القرن التاسع عشر من صنع البورجوازية من أجل الوقوف في وجه طبقة البروليتاريا الخ...
ومما يؤكّد تأثير هذه الأحكام على هويتنا منقولة عن النظريات الغربية نقلاً حرفياً هو عدم قدرتها على تفسير واقع الوحدة الثقافية والشعورية والنفسية والاجتماعية التي تعيشها منطقتنا، ففي حال القول بالقومية العربية المستندة إلى النظرية الألمانية التي تغلّب عاملي اللغة والتاريخ، لم يوضح ساطع الحصري - وهو أبرز الآخذين بها - كيفية توحيد هذين العاملين للمشاعر والعواطف في أمتنا، ولا كيفية صياغتهما للعادات والتقاليد الواحدة، ولا كيفية بنائهما للثقافة الواحدة الخ... بل كانت كل أحاديثه منصبة على دور عاملي اللغة والتاريخ في إنشاء الأمم الأخرى كالأمة الألمانية واليونانية والفرنسية الخ... وقل الشيء نفسه عن أنطون سعادة في قوله بالقومية السورية التي تغلّب العوامل الجغرافية؛ فهو قد تحدث عن السلالات والمتَّحدات وتطور المجتمعات وتطور الثقافات ودورها في إنشاء الأمم، ولم يطبق ذلك على أمتنا، ولم يبيّن "سعادة" كذلك كيفية تكوّن وحدة المشاعر والعواطف والعادات والتقاليد والثقافة والتراث المعنوي في الواقع المحيط به. وكذلك دعا أحمد لطفي السيد إلى القومية الفرعونية، لكنه لم يبيّن لنا كيفية ارتباط واقع الشعب المصري وعاداته وتقاليده ومشاعره وثقافته ولغته بالواقع الفرعوني، ولا يكفي وجود الأهرامات وبعض الآثار الفرعونية للقول بارتباط الشعب المصري في القرن العشرين بالتراث الفرعوني؛ لأنه ليس هناك أية دلائل على هذا الارتباط، وهذا غير كافٍ لربط الشعب المصري بالحضارة الفرعونية. ثم جاءت حركة القوميين متأخرة في الخمسينيات من القرن الماضي لتزيد من حجم الابتعاد عن الواقع قي مقولتها للقومية، وقد تم ذلك عندما أدخلت شعوباً وأمماً سابقة في نطاق القومية العربية كالفراعنة والفينيقيين والكلدانيين والآشوريين والبرابرة الخ... وعلّلت ذلك بأنها المرحلة غير الواضحة من القومية.
وللإجابة عن السؤال الذي طرحناه قبل قليل وهو: من نحن؟ فنجد أن الجواب عن هذا السؤال سهل وبسيط هو: نحن أمّة إسلامية، بناها القرآن الكريم والسنّة النبويّة، وعندما نقول ذلك، ننطلق من واقع الشعب والمجتمع والناس، ولا ننطلق من خيال أو أوهام أو من حكم مسبق على الواقع، أو من نظريات نودّ تعميمها، فالنظر إلى أخلاق الناس المحيطين بنا، وعاداتهم وتقاليدهم، وأساليب تفكيرهم، ومشاعرهم، وعواطفهم، وتطلّعاتهم، وأهدافهم يقودنا إلى وجود وحدة في كل هذه الأمور مرجعها القرآن الكريم والسنّة المشرفة...، ويمكن أن نرى الارتباط واضحاً بين الوحدة في كل المجالات السابقة وبين مصادر الوحي الإسلامي، فتوحيد الله صاغ وحدة أفكار المسلمين، وعبادة الله صاغت وحدة نفسياتهم، وأحكام الحلال والحرام صاغت وحدة قيمهم، والخوف من النار ورجاء الجنة صاغ وحدة مشاعرهم، واستهداف العمران في الدنيا صاغ وحدة تطلعاتهم، والاقتداء بأفعال الرسو صلى الله عليه وسلم وأقواله صاغ وحدة عاداتهم وتقاليدهم الخ...(55/192)
إن الخطأ في فهم الواقع ومعرفة الذات هو الذي جعل النهضة غير ممكنة، ويمكن أن نضرب مثلاً على ذلك بالحكم الذي شاع منذ مطلع القرن العشرين في معظم الدول العربية، وهو القول: بأن الشعوب الموجودة من المحيط إلى الخليج شكّلت الأمّة العربية، والمقصود أمّة عربية بالمعنى القومي، أي أنها أمّة شكّل عنصري اللغة والتاريخ ثقافتها وعاداتها وتقاليدها وأخلاقها وقيمها ومشاعرها ونفسيّتها الخ...، لذلك عندما جاءت الدولة القومية واستهدفت بناء نهضة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعمرانية والحضارية والتربوية والفنية لم تلتفت إلى دور الدين في بناء هذا الواقع، بل نظرت إلى الدين على أنه معوّق للتقدّم والبناء، كما كان دوره في الغرب، لذلك لابدّ من العمل على استئصال وجوده من حياة الناس، وفي أحسن الأحوال لابدّ من تهميش دوره، لهذا لم تتحقّق النهضة بل كان هناك سقوط في مختلف المجالات وأحد الأسباب الرئيسة في ذلك هو عدم الانطلاق من الواقع وعدم تمحيص الهوية وعناصر قيامها.
إن الممارسات التي قامت بها قيادات الفكر القومي العربي في مواجهة الدين خلال القرن العشرين، وفي محاولة استئصاله من كيان الأمّة وبخاصّة عندما ارتبط الفكر القومي العربي بالاشتراكية المادية، كانت من أصعب السنوات في حياة الأمّة، وسبّبت ضعفاً في الأمّة خلال قرن أشدّ من كل الضعف الذي عرفته خلال القرون السابقة جميعها، ويدّل على ذلك نكبة عام 1948م ثم نكسة عام 1967م، لكن الأمّة استطاعت بفضل الله ثم بفضل الحيويّة الكامنة في جسمها أن تتجاوز محاولات الاستئصال تلك، وتتغلّب عليها فكانت الصحوة الإسلامية التي استلمت قيادة الأمّة، وأعادت للدين وضعه الطبيعي ومكانته المطلوبة.
ويلحظ المتابع لأوضاع المنطقة في الفترة الأخيرة أن هناك توجّهاً إلى حلّ مشاكل المنطقة بتطبيق الديموقراطية، ويُلحظ كذلك أن المتوجهين إلى تطبيق الديمقراطية ربما يقعون في الخطأ الذي وقع فيه السابقون وهو عدم الانطلاق من الواقع مما سيؤدّي بنا إلى سقوط آخر، وخسارة جديدة نحن في غنى عنها، لذلك يجب أن يكون أول درس نستفيده من التجارب السابقة هو أن نعي واقعنا، ونحترم العوامل التي تشكّله، فهذا هو الأساس الأول للنهضة
============(55/193)
(55/194)
الأمة الإسلاميّة والتحدي الكبير
د. علي بن عمر بادحدح * 9/4/1427
07/05/2006
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإننا اليوم في عالم القرية الصغيرة التي يعلم الجميع ما يجري في أي جزء من
أجزائها في لحظة وقوع الحدث؛ لأن وسائل الإعلام والاتصال كسرتْ القيد،
وقرّبتْ البعيد، ويُضاف إلى ذلك أن أصحاب القوة في عالم اليوم - وبالذات بعد أحداث سبتمبر - أصبحوا أكثر وضوحاً في مواقفهم، وأكبر جرأة في ممارستهم، وإن شئت فإنهم أكثر صَلَفاً في عدوانهم، وأشد قبحاً في بغيهم، وإن أبرز مواطن إجرامهم، وأوسع ميادين ظلمهم أرض الإسراء فلسطين الحبيبة، فمنذ وعد بلفور- الذي مُنح به مَن لا يملك ما لا يستحق- إلى مساعدة العصابات الصهيونية القتالية المجرمة، ومروراً بدعم وتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، إضافة إلى الإعتراف بالدولة المحتلة المعتدية، وانتهاء بالدعم اللا محدود سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في تحالف معلن يُوجه السياسة، ويُسخّر الاقتصاد، ويُوفر الإمداد، وفي مقدمة الدول المتولية كِبْرَ ذلك كله أمريكا وبريطانيا ويجرّان خلفهما الدول المؤثرة من الدول الأوروبية.
وإن قضية فلسطين كانت ولا تزال وستظل قضية المسلمين الأولى لا لكونها قضية وطن مُغْتصب، أو شعب مُضْطهد بل لأنها -مع ذلك بل قَبْله- قضية إسلام وإيمان؛ فهي تُمثّل بؤرة الصراع العقديّ، وميدان المواجهة الحضارية بين الإسلام وأعدائه في أوضح وأقسى صورها؛ فالمسجد الأقصى أول مسجد بُني بعد البيت الحرام، وكان قبلة المسلمين الأولى، وأُسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إليه، ومنه عرج به إلى السماء، وخُصَّ مع الحرمين الشريفين بشدّ الرحال، ومضاعفة أجور العبادة، وبشّر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بفتحه بعد موته، وغير ذلك مما ثبت لبيت المقدس من الفضائل والخصائص التي وردت في آيات القران وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم
والآن يظهر التحدي الكبير بين أمة الإسلام وأعدائها الألدّاء المتمثلين في الصهاينة المعتدين وحلفائهم من الصليبين الإنجيليين المتطرفين، وتتلخص حلقات الجريمة الكبرى فيما يلي:
1- أمريكا وأوروبا أزعجت العالم كله والعالم الثالث على وجه الخصوص بالمطالبة بالديمقراطية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، والتأكيد على حق الشعوب في اختيار حكامهم، وعندما فازت في الانتخابات التشريعية الفلسطينية حركة المقاومة الإسلامية (حماس) قلبوا ظهر المِجَن، وانقلبوا على ديموقراطيتهم
المزعومة، وصادروا حق الشعب الفلسطيني في اختياره، وأعلنوا بكل صفاقة وبجاحة معارضتهم لتولي (حماس) السلطة، وأخيراً أعلنوا قطع المساعدات الدولية من أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي في حصار جائر يُذكر بفعل أسلافٍ لهم مثلهم من
كفار قريش في حصار النبي - صلى الله عليه وسلم - وبني هاشم في الشِّعْب بمكة، ويجدّدون أهداف أعداء الدعوة الإسلامية في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم
(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ). [المنافقون:7]. 2- تنادي أمريكا وأوروبا بالحرية وحماية حقوق الإنسان، ثم تُعلن مصادرة حرية
الشعب الفلسطيني بالمقاطعة والحصار الاقتصادي، وتتعدى على حق الإنسان
الفلسطيني في الحياة الكريمة، وذلك بسياسة التجويع والإفقار؛ إذ أمهلت
الحكومة الأمريكية مواطنيها وشركاتها مدة شهر واحد فقط لإيقاف جميع تعاملاتهم التجارية مع فلسطين بشكل عام، وعلى الرغم من ادعاءات الإنسانية والمناداة بمساعدة الشعوب المحتاجة ومحاربة الفقر وغير ذلك من الشعارات إلا أن الموقف في فلسطين يدلُّ وبوضوح على عكس ذلك، فقد تعرّت الحضارة الغربية، ونُزعت ورقة التوت، وكشفت تلك الحكومات عن مكنونات حقدها، وحقيقة خوفها وعدائها للإسلام والمسلمين.
3- العدالة والمساواة أبرز شعارات الحضارة الغربية المعاصرة، ولكن الممارسة -
في شأن قضية فلسطين - على عكس ذلك تماماً، فالاعتراف بالكيان الصهيوني واجب على الفلسطينيين وعلى حكومة(حماس)، والكيان الغاصب لا يُطالب حتى بتعيين حدود للأرض التي اغتصبها، وعلى الفلسطينيين التزام الشرعية الدولية وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، أما الدولة المُدَللة فتدوس على تلك الشرعية المزعومة ولا تعنيها القرارات الدولية المتتالية، وتأتي قمة العدالة حينما تُمارِسُ
الدولةُ المحتلة كل أنواع الجرائم من القتل وتدمير المنازل ومصادرة الأراضي
وتجريفها، وبعد كل ذلك ترفض أمريكا مجرد صدور قرار يُطالب الصهاينة بترك
الإفراط في استخدام القوة، وأما إذا دافع الفلسطيني المظلوم عن حقه، وانتقم
ممن اعتدى عليه، فهذا إرهاب وعمليات إرهابية تتسابق الدول على إدانتها.
وكل ما سبق متوقع من الأعداء بل لا يُنتظر غيره، إلا أن الأسف والألم يتعاظم
من مواقف بعض بني جلدتنا المتكلمين بألسنتنا الذين يُوافقون بل يُسابقون
الأعداء في تلك المواقف والمطالب، وقد شهدنا - للأسف الشديد - المواقف(55/195)
المتخاذلة المخزية لبعض الدول العربية، ليس بالتخلي عن الشعب الفلسطيني وترك مساعدته بل بالمظاهرة لأعدائه في حصاره، وزيادة معاناته، وتلفيق التهم
الباطلة لحكومته، والأسوأ من ذلك كله موقف أقطاب (حركة فتح) وكثير من
مسؤوليها الذين يعملون جاهدين على إفشال حكومة (حماس) المنتخبة، في مواقف وممارسات دنيئة، وصلت إلى حد وصف العمليات الاستشهادية بأنها حقيرة.
وما ذُكر غيض من فيض، وصور من معاناة عظيمة شاملة دامت أكثر من سبعين عاماً، وهي الآن تبلغ مداها في أبلغ صور البغي والعدوان التي لا تقتصر على فلسطين بل تشمل جميع المسلمين، وما فلسطين إلا ميدان المعركة فحسب، وما أهلها ومجاهدوها الأبطال إلا طلائع الأمة التي تُمثل صفوفها الأولى، وتقوم بالواجب نيابة عن البقية، وإن أمريكا وحلفاءَها يُعلنون اليوم التحدي الكبير للأمة الإسلامية،
ويقولون بلسان الحال والمقال: سنهزم حكومة (حماس) الإسلامية وسنسقطها وسنصادر رغبة وخيار الشعب الفلسطيني، ونحن على ذلك قادرون، فماذا أنتم فاعلون؟
أيها المسلمون الغيورون، إن الأمر ليس مجرد إطعام جائع أو علاج مريض أو إغاثة ملهوف، كلا بل هو نصر الإسلام وتثبيت المسلمين، إن الموقف هو:
أن نكون أصحاب غيرة إيمانية وحمية إسلامية أو نكون أصحاب دنيا وشهوات وملذات،أن نكون أصحاب عزة وكرامة أو أصحاب ذلة ومهانة !
أن نكون أصحاب قوة وشجاعة أو أصحاب ضعف وجبن !
أن نكون أو لا نكون!
إن إسقاط حكومة (حماس) المنتخبة إسقاط للخيار الإسلامي الذي أعلنه الشعب
الفلسطيني، وإلغاء لخيار المقاومة الذي صوّت عليه الفلسطينيون، وهو بكل
المقاييس إظهار لقدرة أعدائنا على هزيمتنا، وكأنهم يعلنون هزيمة (1300) مليون مسلم وليس خمسة ملايين مسلم في فلسطين.
إذا أدركنا هذا الوضع فإنه يجب علينا أن نقوم بواجبنا، وأن نتحمّل أمانتنا
ومسؤوليتنا التاريخية، وذلك من خلال :
1- مطالبة الدول العربية والإسلامية بالقيام بواجبها في مساندة الشعب
الفلسطيني ودعم حكومته المنتخبة، والعمل على الدفاع عن فلسطين والإسهام في فك الحصار الجائر عنها بكل الوسائل السياسية والاقتصادية والإعلامية الممكنة.
2- مطالبة منظمة المؤتمر الإسلامي بالتحرك السريع في الأوساط الدولية لمواجهة هذا الحصار الجائر، والعمل على إنهائه، والاتصال بجميع الدول الإسلامية لممارسة دورها الواجب في نصرة فلسطين والدفاع عنها.
3- مراسلة البرلمانات ومؤسسات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان في أمريكا وأوروبا، وكذلك الأمم المتحدة لاستنكار هذا الحصار، وبيان عدوان الصهاينة
والدعم اللا محدود الذي يجدونه من الحكومات الغربية، وذلك لتوعية الشعوب،
وللضغط على الحكومات، والتأثير على الرأي العام بما يخدم القضية الفلسطينية.
4- مخاطبة العلماء وهيئات الإفتاء والمجامع الفقهية لإصدار الفتاوى والبيانات
التي توضح خطورة الوضع والواجب الشرعي على المسلمين حكاماً ومحكومين تجاه نصرة فلسطين ومواجهة أعداء الإسلام والمسلمين .
5- مخاطبة أئمة وخطباء المساجد؛ ليقوموا بدورهم في توعية وتعبئة المسلمين
ليقوموا بدورهم وواجبهم الشرعي تجاه إخواننا في أرض الإسراء.
6- التعريف بالقضية الفلسطينية عموما،ً والأوضاع الحالية خصوصاً للأسرة
والأبناء وفي كل الأوساط الاجتماعية، وتكثيف ذلك ليكون الهمّ المشترك الأول
لجميع المسلمين من خلال كل الوسائل المتاحة.
7- التحرك لإطلاق حملة إعلامية واسعة النطاق على مستوى العالم العربي
والإسلامي تشمل الصحافة والقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية؛ للدفاع عن
أرض الإسراء، وفضح مؤامرات الأعداء، وذلك بالكتابة والمطالبة والتأثير على تلك الوسائل الإعلامية على غرار ما حصل في النصرة العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
8- إطلاق حملة شعبية واسعة النطاق لجمع التبرعات العاجلة على مستوى العالم
العربي والإسلامي، وحثّ الجميع إلى المبادرة ببذل أقصى ما يستطاع لتثبيت إخواننا في أرض الرباط، وإفشال حصار المجرمين المستكبرين، والتعاون مع الجهات والمؤسسات الخيرية الموثوقة لتحقيق ذلك .
9- دوام التضرع والدعاء عموماً، وفي أوقات الإجابة خصوصاً بأن يثبّت الله
إخواننا في فلسطين، وأن يمكّن لحكومتهم الإسلامية حتى تتجاوز محنتها وتؤدي
رسالتها.
10- العمل على التنسيق والتكامل بين الجهود المختلفة في نصرة إخواننا في أرض الإسراء.
وينبغي أن نعلم أن نصرة أهل فلسطين وكفايتهم بالمال حتى يستغنوا عن الحاجة
لغير المسلمين يُعدّ واجباً شرعياً، وهو من أنواع الجهاد؛ إذ المعلوم أن الجهاد(55/196)
بالنفس والمال، وقد أخبرنا الله عن أعدائنا فقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّه)، وقد أمرنا الله إزاء ذلك ببذل المال لنصرة دينه، وإبطال كيد أعدائه، وجَعلَ ذلك من الجهاد في سبيله فقال: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وقا صلى الله عليه وسلم : "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم". رواه النسائي وأبوداود. والْحَدِيث دَلِيل عَلَى وُجُوب الْجِهَاد بِالنَّفْسِ وَهُوَ بِالْخُرُوجِ وَالْمُبَاشَرَة لِلْكُفَّارِ, وَبِالْمَالِ وَهُوَ بَذْله لِمَا يَقُوم بِهِ مِنْ النَّفَقَة فِي الْجِهَاد وَالسِّلَاح وَنَحْوه" « عون المعبود »،
وعلى هذا فالبذل والتبرع ليس فضلاً ولا مِنَّة، بل أداء واجب وإبراء ذمة.
وإن من الواجب شكر الحكومات العربية التي أعلنت موقفها الرافض لهذا الحصار
الجائر، وقامت بتقديم المساعدات المالية للحكومة والشعب الفلسطيني، وفي
مقدمتها المملكة العربية السعودية وقطر والجزائر، ومع هذا الشكر نطالب
بالاستمرار والزيادة، مع مطالبة بقية الدول العربية والإسلامية بمثل هذه
المواقف.
واللهَ نسأل أن يثبت إخواننا في أرض الإسراء، أرض الرباط والجهاد، وأن يدفع
عنهم كيد الأعداء، ويكفيهم شر المنافقين والمخذلين، وأن ينصر الإسلام
والمسلمين، والحمد لله رب العالمين.
* المشرف العام على موقع إسلاميا
=============(55/197)
(55/198)
مراجعات أمريكيّة في جدوى الديموقراطيّة العربيّة!
محمد أبو رمان 25/2/1427
25/03/2006
ثمة مناظرات وجدالات كبيرة في المؤسسات البحثية والسياسية في واشنطن حول جدوى الضغوط الأمريكية، على النظم العربية، للسير باتجاه الديمقراطية والإصلاح السياسي، وتجري حالياً عملية تقييم للفترة الماضية التي شهدت اندفاعاً أمريكياً بهذا الاتجاه.
في الفترة الأخيرة كانت الدراسات والمناظرات الأمريكية تدور حول ثلاثة اتجاهات فكرية- سياسية رئيسة: الاتجاه الأول "الفوضى البنّاءة"، المقرب من المحافظين الجدد، ويرى أهمية زيادة وتفعيل الضغوط الأمريكية على النظم العربية، التي تمثل، في رؤية هذا التيار، مصدراً رئيساً للإرهاب من خلال تصدير أزماتها للخارج. في حين يرى أنصار هذا الاتجاه أنّ الإصلاح، بأبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، هو السلاح الأنجع لمواجهة "الإرهاب"، ويدعون إلى إعادة تأهيل حركات الإسلام السياسي "المعتدلة" من خلال اندماجها في اللعبة السياسية والسلطة.
أما الاتجاه الثاني، فيدعو إلى تجديد التحالف مع النظم العربية، والتعامل مع كل دولة وفقاً لظروفها الخاصة، وعدم جعل الديمقراطية "فرصة" للحركات الإسلامية باستلام السلطة وتهديد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وينظرون إلى الحركات الإسلامية على أنها حلت محل الخطر الشيوعي، وأن مسؤولية الإدارة الأمريكية الآن بناء تحالفات عريضة مع مختلف القوى التقليدية والليبرالية وحتى اليسارية لمواجهة الإسلام السياسي، ويرفض دعاة هذا الاتجاه التمييز بين إسلام سياسي معتدل وآخر متطرف، فوفقاً لهم كل الحركات الإسلامية تسعى إلى هدف واحد، وهو إقامة دولة إسلامية تهدد المصالح الأمريكية، ويمثل هذا الاتجاه نخبة واسعة داخل مراكز الدراسات والمؤسسات السياسية، وبالتحديد من المقربين من إسرائيل.
الاتجاه الثالث يقع في رؤيته الفكرية والسياسية في الوسط بين الاتجاهين السابقين، ومعقله في الحزب الديمقراطي، ويرى أهمية أن تساهم الولايات المتحدة في نشر الديمقراطية، لكن على أن يكون ذلك وفق شروط رئيسة أهمها: التدريج والمرحلية إلى أن يقوى عود التيار الليبرالي- الديموقراطي العربي، وأن يكون ذلك وفق معادلات الاستقرار السياسي وتفضيل المصالح الأمريكية، بمعنى استئناف المعادلة التقليدية للسياسة الخارجية الأمريكية: المصالح أولاً، والديموقراطية وحقوق الإنسان ثانياً، أو ربما ثالثاً و رابعاً.
في السنوات الأخيرة كانت الغلبة والانتصار للاتجاه الأول، وبدا كأن خطاب الإدارة الأمريكية ينطلق من مواقفه ودراساته، وأرادت الإدارة الأمريكية أن يصبح العراق، بعد الغزو، أنموذجاً ديموقراطياً، يؤدي إلى انتشار العدوى "الديموقراطية" إلى باقي أرجاء المنطقة العربية. إلاّ أن العراق ذاته تحوّل إلى أنموذج مرعب من الفوضى والحروب الداخلية، وتراجع "الطموح" الأمريكي من عملية بناء الديموقراطية إلى إدارة الصراع الداخلي، فيما أصبح العراق مركزاً إقليمياً جديداً للقاعدة تهدد باقي الدول العربية، وإلى مسرح نفوذ إيراني، وترافق ذلك مع الفوز التاريخي لحركة حماس في فلسطين، وصعود حركات الإسلام السياسي في المنطقة.
أحد المخرجات الرئيسة للمناظرات والجدل الأمريكي الحالي يتمثل بتراجع قوة الضغوط الأمريكية على الدول العربية. ويعلّق د. فواز جرجس على ذلك بالقول: "على الرغم من عدم تبلور رؤية أمريكية جديدة، فإن الاتجاه العام للسياسة الأمريكية يصب حالياً في مسار التخفيف من حدة الخطاب الداعي إلى الديموقراطية". في حين يشير (هارولد لافرانشي)، محرر شؤون الشرق الأوسط في صحيفة (كريستيان سيانس مونيتور) إلى أن الرئيس بوش خفف من حدة لهجته إزاء الديموقراطية في زيارته الأخيرة لباكستان.
الإشارة ذاتها يمكن التقاطها من زيارة كوندوليزا رايس الأخيرة إلى القاهرة، فهي-وإن أشارت إلى تراجع مصري في مجال الانفتاح السياسي- لم توجه انتقادات مباشرة إلى الحكومة المصرية، بخاصة بعد تأجيل الانتخابات المحلية لمدة سنتين، بعد نتائج الإخوان اللافتة في الانتخابات. وتكفي المقارنة بين زيارة رايس الأخيرة للقاهرة والزيارة التي قبلها، التي شهدت خطابها الشهير، في الجامعة الأمريكية هناك، ليتبين لنا الفجوة الكبيرة في الضغوط الأمريكية باتجاه الديموقراطية.
في حين يقر عدد من المثقفين والخبراء أنه لا يوجد حالياً "أجوبة جاهزة" حول الضغوط من أجل الديموقراطية، وأن التغيير الذي طرأ على السياسة الأمريكية في الأيام الأخيرة لا يزال مستتراً وضمنياً، غير معلن، إلاّ أن وصف (هارولد لافرانشي) للوضع الحالي بـ"الحذر والتخفيف من الحماسة من أجل الديموقراطية" يبدو أكثر المصطلحات دقة.(55/199)
من "الفوضى البناءة" إلى "الدبلوماسية التحويليّة" (الصيغة المخففة لدعوة الإصلاح الأمريكية) يبدو التراجع في الضغوط الخارجية بادياً للعيان، الأمر الذي يعيد رهانات الإصلاح السياسي في العالم العربي إلى "قوى الداخل"، ويعيد من جديد طرح الأسئلة القديمة- الجديدة: هل بإمكان هذه القوى حمل مشروع الإصلاح والدفاع عنه من دون ضغوط وتدخلات خارجية مثيرة للشك والجدل أم أن النظم العربية، على الرغم من كل علامات الكهولة والخرف، ستتمكن من احتواء القوى الداخلية ولجم طموحها؟!
أم أن الأيام القادمة كفيلة بولادة ما ليس في قراءتنا الحالية..
===========(55/200)
(55/201)
ديموقراطيّة الاحتلال
د. محمد بن سعود البشر 4/11/1426
06/12/2005
جاء الأمريكيون إلى العراق بدعوى البحث عن أسلحة الدمار الشامل، وعندما تأكد كذب هذه الدعوى، قالوا بأن ثمة علاقة بين نظام صدام البعثيّ وتنظيم القاعدة.. وعندما رفض العقل العراقي التصديق بوجود هذه العلاقة أصبحت دعوى نشر الديموقراطية هي الشعار الذي رفعته القوات الأمريكية. ولأن الضعيف -عادة- يُسلّم بما يُروّج له القويّ، سلّم بعض العراقيين بأكذوبة الديموقراطية الأمريكية.. وتمنّوا أن يخيب ظنهم، وأن تتحول إلى حقيقة تضمن تعايشاً سلمياً بين جميع فئات الشعب العراقي.. إلا أن الأحداث جاءت تباعًا لتكشف حقيقة الأهداف الأمريكية في العراق.
فالديمقراطية الأمريكية التي استباحت تعذيب العراقيين في أبو غريب هي ذاتها التي جاءت بحكومة عراقية تفنّنت في تعذيب أبناء العراق في معتقل الجادرية السري بصورة لم تكن تحدث في عهد نظام صدام حسين الديكتاتوري.. بشهادة رئيس الحكومة العراقية السابق إياد علاوي.
والديموقراطية الأمريكية في العراق هي أيضًا التي أعطت امتيازات لبعض الفصائل والمذاهب العراقية على حساب فصائل أخرى دون اعتبار لحق المواطنة أو المساواة.. يؤكد ذلك الموقف الأمريكي المتعسف من المسلمين السنة عند صياغة الدستور العراقي، أو توزيع الحقائب الوزارية السيادية.
هذه الديمقراطية هي التي دفعت أموالاً طائلة لرشوة بعض الصحافيين والكتّاب العراقيين لنشر مقالات إشادة وترحيب بممارسات المارينز -باعتراف قادة البنتاجون- ومعلوم ضمنًا أن من يمارس الترغيب وشراء الأقلام لمناصرته، لا يتورّع عن الترهيب، وقصف أقلام أخرى إن رفضت ذلك.
وهي الديموقراطية الأمريكية ذاتها التي استخدمت الأسلحة المحرّمة دوليًا ضد المقاومة العراقية الرافضة للاحتلال.
وأكذوبة الديموقراطية هذه لم تنطل حتى على الشعب الأمريكي، على الرغم من محاولات تخويفه وإيهامه بأن الحرب على العراق قامت لحماية الأمن القومي الأمريكي؛ إذ خرجت أصوات تطالب بالانسحاب من العراق ليقرر الشعب العراقي مصيره ويصنع مستقبله. حتى داخل الكونجرس الأمريكي، هناك من يطالب بتحديد جدول زمني للانسحاب من العراق، وهو ما رفضته إدارة بوش.. على الرغم من إجماع الفصائل العراقية على ذلك في مؤتمر المصالحة الذي عُقد بالقاهرة برعاية جامعة الدول العربية.
هذه الشواهد وغيرها تقدم لنا درسًا بليغًا مفاده: أن الإصلاح السياسي الذي تنشده الشعوب العربية لن يتحقق بضغوط من الخارج حتى ولو وصلت هذه الضغوط إلى حد الاحتلال المباشر للأرض. وإنما يجب أن ينبع من طروحات داخلية تحترم خصوصيات المجتمع، وتضع مصالح هذه الشعوب في مقدمة أولوياتها.
ودرس آخر تقدمه لنا التجربة العراقية، وتعيه جيدًا الفئات البسيطة والصامتة من أبناء الشعوب العربية والإسلامية، وهو أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تجاهر بانحيازها التام لإسرائيل، وتدعم تفوقها العسكري وانفرادها بالسلاح النووي بالمنطقة، لا يمكن بحال من الأحوال أن تضحي بأرواح جنودها والمليارات من الدولارات لتتمتع الشعوب العربية بالديموقراطية والحرية.
هذه الدروس وغيرها تتفق والحقيقة البدهيّة القائلة: إن الاحتلال العسكري الذي تجاهل قرارات الشرعية الدولية، وانتهك حقوق الإنسان في العراق لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون طريقًا للديموقراطية، ولا يوجد في تاريخ الإنسانية بأسره واقعة واحدة تخالف هذه البدهيّة، في حين توجد عشرات الوقائع والأحداث التي تؤكدها وتثبت صحّتها.
فهل يعي العرب والمسلمون داخل العراق وخارجه هذه الدروس لكي لا يحتاجوا إلى كوارث أخرى لاستيعابها.. لاسيما أن هناك دولاً أخرى مرشحة لاستقبال الديموقراطية الأمريكية بنفس الملامح التي نراها في العراق؟!
==============(55/202)
(55/203)
سُخف الفلسفة الوضعيّة
أ. د. عماد الدين خليل 10/7/1426
15/08/2005
- 1 -
للوهلة الأولى، ومن خلال الألغاز والمعمّيات التي تعتمدها الفلسفات الغربية الوضعية(1) ، وتحيط نفسها بها .. من خلال حملات الإكبار والتقدير التي انصبت على شخصيات الفلاسفة من كل مكان .. من خلال مركب نقصنا الحضاري الذي خيل إلينا كما لو كان الفيلسوف الغربي إنساناً غير عادي، إنساناً ذا قامة مرتفعة وفكر خلاّق يجتاز المغاليق، ورؤية للكون والحياة لا تقبل خطأ على الإطلاق ..
- 2 -
للوهلة الأولى تتبدى الفلسفات الغربية للمرء بحجم أكبر بكثير من حجمها الحقيقي وبريق يكاد يسلب العين القدرة على الإبصار.
وكلنا نذكر ما كان يفعله مدرسونا في الإعداديات، وهم يحكون لنا عن هذا الفيلسوف الغربي أو ذاك من خلال مادة (التاريخ الأوروبي) .. بوجل وانكماش .. بتقدير مبالغ فيه يصل حد التضاؤل والصغار، ونذكر كذلك طبقة من الأساتذة الجامعيين أعمق ثقافة من المدرسين وأكثر تخصصاً، كانت هي الأخرى تحدثنا عن الفلسفة الغربية، كما لو كانت حقاً مطلقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه ..
ولا زلت أذكر مدرس التاريخ في الإعدادية، وهو يخطو بحذر وتريّث خلال شرحه لفقرات في الكتاب خُصصت للفيلسوف الإلماني (هيغل) ولفلسفته المثالية، وكنا نحن نقول في أنفسنا: إذا كان مدرس المادة غير قدير على اقتحام بحر (هيغل) العميق فأنى لنا أن نجتازه بعقلياتنا الساذجة وثقافتنا المتواضعة؟
ولا زلت أذكر كذلك أستاذ الفلسفة في كلية التربية، وهو يحدثنا عن الفلسفة المثالية لهيغل، كيف أنه أراد أن يعطينا جانباً من فلسفته كما لو كانت مسلمات مطلقة، ولكنها مسلمات غامضة، معمّاة، ما كانت تزيد الرجل وفلسفته في نفوسنا إلا إجلالاً وإكباراً!!
- 3 -
وما كان الأمر بهذا الذي تصورناه أو صُوّر لنا، وما هكذا يجب أن يكون .. فإن المثقف المسلم على وجه التحديد- ناهيك عن المتخصصين منهم- يتحتم أن يمتلك ابتداء .. نعم (ابتداء) .. ما يمكن تسميته بالنظرة الفوقيّة المستقلة الواثقة التي ينظر بها، ويقيس ويزن كل ما يقوله العقل البشري شرقياً كان أم غربياً، ولا يسلّم بسهولة حتى لو طرحه أعظم الفلاسفة والمفكرين .. كما أنه يتحتم ألاّ يشعر إزاءه بأي قدر من النقص أو الإعجاب المفرط الذي قد يجنح به بعيداً عن الموقف العلمي الذي يتطلبه منه هذا الدين.
إن المسلم ينظر بنور الله، ويعاين الأشياء بتعاليم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويزن بموازين الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكيف تسوّغ له نفسه أن ينزل عن موقعه العالي هذا، عن استشرافه من الآفاق المفتوحة، إلى الحفر الضيقة والمسالك المتداخلة والشعاب المسدودة لفكر هذا الرجل أو ذاك مما قد يتضمن الكثير من الخطأ والانحراف والفساد؟
- 4 -
وثمة بداهة قد نغفل عنها لوضوحها في كثير من الأحيان، وهي أن الفلسفة الوضعية لو كانت حقاً مطلقاً كما صُوّر لنا وخُيل إلينا، لما نقض بعضها بعضاً، وهاجم بعضها بعضاً، ونفى بعضها بعضاً .. ولما شهدت ساحات الفكر والثقافة عشرات، بل مئات وألوف، من الفلاسفة كان يحلو لكل واحد منهم أن يطرح ادّعاء تقليدياَ أصبح بمثابة القاعدة التي يحذو حذوها الجميع: إن ما تقوله فلسفته هو الحق المطلق، وإن ما وراءها من فلسفات لا يعدو أن يكون خدعة وضلالاً، أو هو - على أحسن الأحوال - محاولات تتضمن الكثير من الشروخ والأخطاء ..
- 5 -
في كتاب الأديب الفرنسي (اندريه موروا) عن حياة الروائي الروسي الشهير
(ايفان تورجنيف) نقرأ هذا المقطع: " في غضون السنوات التي أمضاها تورجنيف في ألمانيا كان هيغل الفيلسوف الذي يلتف حوله المثقفون الروس؛ لأنه كان يقول بأن كل ما هو حقيقي نابع من العقل في الوقت الذي كان فيه هؤلاء يقبلون المجتمع كما وضعه التاريخ. ذلك أن الناس يطلبون دائماً من كل مذهب أن يكون دليلاً عقلياً على مشاعرهم وأعمالهم!!
فالشباب الروسي الذي كان يخضع في سنة 1840م للقيصر كان يعرف أنه مستبد، ولكنه كان يعبده على الرغم منه، وهذا الشباب كان يتوهم بأنه واجد في (فلسفة الحق) لهيغل حججاً وأسانيد لتعليل خضوعه.. كانوا يقولون له: إن الدولة كيان حي، وهي هي كما أوجدها التاريخ، ولا يستطيع فرد أو مجموعة لن يغيرها تبعاً لأهوائه. وهكذا لا يوجد مجال للمناقشة في ضرورة الطاعة المطلقة للقيصر فذلك أمر واضح جليّ في حد ذاته" .
ويمضي موروا إلى القول بأن " تلك كانت نظرية هيغل كما رأتها جماعة اليمين على أن هرزن - الذي يمثل جماعة اليسار- كان يتبين أنه يمكن أن يستمد من هيغل بالذات الدليل على شرعية كل مقاومة للأوتوقراطية؛ إذ لو صح أن كل ما هو حقيقي نابع من العقل، فالثوري - إذ يوجد - يعدّ جزءاً من التاريخ (إذا كان العقل يعزز النظام الاجتماعي القائم، فإن كل مقاومة له ما دامت موجودة تعدّ معززة كذلك) . وهكذا تشكلت من فلسفة هيغل صورة أخرى أخذت بها جماعة اليسار) (2).
- 6 -
وهكذا استعملت فلسفة هيغل لتبرير موقف اليمين الخاضع للقيصر، ولتبرير موقف اليسار الثائر على القيصر ..(55/204)
وهذه الميوعة الفكرية التي نجدها هنا تتارجح ذات اليمين وذات الشمال لا تقتصر على الفلسفة المثالية التي وصفها ماركس وإنغلز بأنها تمشي على رأسها، فحسب، ولكنها تنسحب على الفلسفة المادية نفسها التي صاغها ماركس وإنغلز. فإنك واجد فيها ما يسوق الشيوعيين لمساندة وضع ما، وواجد فيها - كذلك - ما يدفعهم الى الثورة عليه والإطاحة
به ..
وهم يبررون هذا وذاك بأنه (التكتيك) الذي يخدم الإستراتيجية في نهاية المطاف.
اقرأ - على سبيل المثال - ما يقوله الأديب المجري المعروف (ارثر كوستلر) الذي خبر الماركسية بانتمائه إليها السنين الطوال، ثم ما لبث أن ارتد عنها بسبب ما وجده فيها من عيوب وتناقضات .. إنه يقول فيما نحن بصدده: (كانوا يلجؤون أحياناً، إلى نبذ الحقائق وإغفالها بحيلة بسيطة تتلخص في وضع الكلمة بين قوسين، وإعطائها جواً من السخرية والمرارة (ماضي تروتسكي الثوري)، الهذيان (الإنساني) للصحافة
(الحرة) .. إلى آخره. وكان هذا الأسلوب لشدة إملاله يفعل في النفس فعل التنويم المغناطيسي. إن ساعة من هذا الهذيان (المنطقي الجدلي كانت تدع الإنسان لا يدري أفتى هو أم فتاة، وتجعله مستعداً لاعتناق أي منهما بمجرد ظهور الأخرى بين قوسين. لقد كنا على استعداد لأن نؤمن بأن الاشتراكيين هم ( أ ) أعداؤنا الحقيقيون ( ب ) حلفاؤنا
الطبيعيون، وأن الدول الاشتراكية والدول الرأسمالية (أ) يمكنها أن تعيش مع بعضها
بسلام ، ( ب ) لا يمكنها أن تعيش مع بعضها بسلام، وأن إنغلز عندما قال: إنه لا يمكن قيام الاشتراكية في دولة بمفردها كان يعني عكس ذلك تماماً. بل لقد تعلم الواحد منا أن يبرهن بالاستدلال المنطقي على أن كل من يخالفه في الرأي هو عميل للفاشية لأنه (أ) لمخالفته لك في الرأي يساعد على تفتيت وحدة الحزب (ب) وبعمله على تفتيت وحدة الحزب يساعد على انتصار الفاشية فهو إذن (حـ) من الناحية الموضوعية عميل للفاشية، ولو كان من الناحية الشخصية قد تعرّض للتعذيب في معسكرات الاعتقال على أيدي الفاشيين. إن كلمات
(عميل) أو (الديمقراطية) أو (الحرية) الخ .. كانت تعني عندنا في الحزب شيئاً آخر يختلف تماماً عن معناها في الاستعمال العام، بل كان معناها عندنا يتغير بعد كل تحوّل في سياسة الحزب، فكان موقفنا من هذه التغييرات كموقف اللاعبين في لعبة الكروكي (التي يقوم اللاعبون فيها بضرب كرات من خشب بمضارب في أيديهم لكي تمر من أطواق خشبية ثابتة)، بين الملكة وأتباعها حيث كانت الأطواق تنتقل عبر الملعب، والكرات قنافذ حية، مع اختلاف واحد هو أن اللاعب عندنا إذا أخطأ وأضاع دوره وقالت الملكة: (اقطعوا رأسه) كان الأمر ينفذ بكل جد))( (3).
- 7 -
إن هذا التميع في الموقف إزاء الحقائق، واتخاذ زوايا نظر مختلفة، بل متضادة يذكرنا بموقف القادة الماركسيين من مسألة الجنس والزواج، فيما تناولناه بشيء من التفصيل في مكان آخر، فقد عدّوه في البدء رذيلة بورجوازية تصديقاً لما قاله ماركس وإنغلز، ثم لما شاع الزنا في الاتحاد السوفييتي عبر سني تأسيسه الأولى، وفاض الكأس، وأعلن لينين تصريحه الشهير الذي هاجم فيه هذا التصور وحث على العودة إلى الزواج كأفضل صيغة للعلاقات الجنسية، عاد الماركسيون فأكدوا ضرورة (الزواج) كمؤسسة محتومة في العلاقات الاجتماعية.
فإذا تساءلت - يقول كوستلر-: " أليست هذه هي الفضيلة البورجوازية التي استنكرناها من قبل؟" قيل لك: " إن هذا التساؤل أيها الرفيق يدل على أنك ما زلت تفكر بالطريقة الآلية لا بالطريقة المنطقية الجدلية، إذاً ما الفرق بين البندقية في يد رجل الشرطة والبندقية في يد عضو الطبقة العاملة الثورية؟ إن الفرق بين البندقية في يد رجل الشرطة والبندقية في يد عضو الطبقة العاملة الثورية، هو أن رجل الشرطة من أعوان الطبقة الحاكمة وبندقيته أداة للعدوان، بينما هذه البندقية نفسها في يد عضو الطبقة العاملة الثورية أداة لتحرير الجماهير المضطهدة. وهذا القول يصدق عن الفرق بين ما يسمونه
(الفضيلة) البورجوازية وبين الفضيلة العمالية. إن نظام الزواج الذي يُعدّ في المجتمع الرأسمالي مظهراً من مظاهر الفساد والتحلل يتحوّل (منطقياً) إلى عكس ذلك في المجتمع العمالي السليم، فهل فهمت أيها الرفيق أم تحب أن أعيد جوابي بطريقة محكمة أكثر من
هذه ؟)( (4).
- 8 -
ويتذكر المرء الآية القرآنية الكريمة (إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى)(5) فكأنها قد تنزلت لكي تدمغ هذه الظنون والأهواء البشرية .. فما يلبث إلا أن يزداد اعتداداً بموقفه الإيماني واعتزازاً بعلمه الإلهي وموقعه الفوقي الذي
يمنحه - بالتصور العقديّ المتكامل - السيادة على العالمين!
(1) نعتمد هنا المدلول اللغوي لا الاصطلاحي للكلمة والمقصود الفلسفات التي هي من وضع البشر .
(2) مطبوعات كتابي ، العدد 55 ، ص 26-27 ، من المقدمة .(55/205)
(3) الصنم الذي هوى ، ترجمة فؤاد حمودة ، ص 58 - 59 (دمشق - 1960 ) .
(4) المرجع السابق ص : 57 - 58 .
(5) سورة النجم ، الآية : 23.
============(55/206)
(55/207)
الله.. أو الطاغوت
أ. د. عماد الدين خليل 25/6/1426
31/07/2005
(1)
في القرآن الكريم دعوة صريحة لرفض طاعة أولي الأمر، وذلك عندما يكون أولو الأمر سادة وأمراء ورؤساء ، في خلاف مع الله ورسوله !! وفيه تنديد وتحقير وسخرية بأولئك الذين يمارسونها ، وتوعدهم بأشد العقاب .
وليس كما يقول الخبثاء من أصحاب السلطة والمصلحة، ويردّد السذّج من المغفّلين والمستعبدين من أن على المؤمن إطاعة أولي الأمر وإن خالف أمر الله ، لأن ذلك من أمره !!
وكيف يناقض القرآن الكريم نفسه (وحاشاه) .. ويدعو إلى تنفيذ أمر الطاغوت والتزام تشريعه وقوانينه ونظمه إذا كان الطاغوت يستهدف أساساً تدمير كلمة الله في الأرض، وانتزاع حاكميّته، وتعبيد الناس له من دون خالق الناس؟!
من يرضى أن ينساق وراء هذا الفهم السخيف إلا أن يكون ساذجاً أو خبيثاً؟
إن كتاب الله سبحانه يقولها صريحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(1) ويقولها واضحة صريحة لا لبس فيها ولا غموض (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله ُ)(2)(وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(3) .. فكيف يعقل أن يدعو في الوقت نفسه، وباتجاه نقيض تماماً، إلى طاعة أولي الأمر حتى لو كانوا ممن لم يحكم بما أنزل الله، وممن يفتنون الناس عن دينهم، وممن يمارسون الظلم بقسر الناس على الخضوع لمناهجهم وتشريعاتهم على حساب دين الله وتشريعه؟!
إن طاعة أولي الأمر بهذا المعنى تتمخّض بالضرورة عن سعي مضاد، أو ثورة مضادّة بالتعبير الحديث، تستهدف تدمير دين الله في الأرض والتمكين لنظم الطاغوت.. وذلك أمر مردود من أساسه، لا يقبل مناقشة أو لجاجاً، وذلك أمر مرفوض ..
(2)
هاهو القرآن الكريم يندد في عشرات المواضع بهذه العلاقة المرذولة بين السادة الذين يحكمون بما لم ينزل الله، وبين العبيد الأتباع ممن ينساقون لتنفيذ كلماتهم وأهوائهم وظنونهم.. لا يندد بهم فحسب، ولكنه يسخر منهم ويحقرهم.. ويعرض ـ على طريقته المؤثرة ـ مشاهد حية شاخصة مما سيشهد يوم الحساب من (حواريات) (كاريكاتيرية) بين أولئك وهؤلاء.. بين الطواغيت والأرباب الذين يعبدون الناس لحسابهم وبين العبيد الذين يختارون أن يعملوا لصالح الطواغيت والأرباب، متنازلين عن حريتهم التي منحهم الله إياها، مستهينين بكرامتهم التي فضّلهم الله بها على العالمين ..
وبقدر ما يرفض القرآن الطغيان والاستعباد، فإنه يرفض بنفس القوة والعنف التذلل والهوان.. فلولا هذا ما كان ذاك.. والطاغوت الذي لا يجد من يعبده، ويسبح بحمده، ويلتزم أوامره، وينفذ منهجه وتشريعه .. يموت قهراً !!.. أو على الأقل يحمل عصاه ويرحل؛ لأنه لا يجد الأرضية الملائمة لأن (يكون)!! ومرة أخرى .. (واتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً...)!!
(3)
لنرحل في كتاب الله، ولنقف قليلاً نعاين هذا المشهد أو ذاك مما سيشهده يوم الحساب وكأنه واقع اللحظة، حيث يلغي العرض القرآني ـ على طريقته الفذة ـ حاجز الزمن، ويقفنا وجهاً لوجه إزاء يوم الحساب ..
المشاهد كثيرة .. لأنه ما من تجربة كررت نفسها عبر تاريخ البشرية كتجربة استعباد الناس للطاغوت وتعبيدهم لأهوائهم وظنونهم، والذهاب بهم بعيداً عن شرع الله العادل ومنهجه المحرر ودينه المستقيم .. ما من (لعبة) أعادت نفسها بألف ثوب وثوب كلعبة فراعنة العالم، وهم يقسرون الناس على أن يسجدوا لهم من دون الله، وأن يفعلوا وينفذوا ما يرونه هم .. لا ما يريده الله ولا ما يراه الناس أنفسهم .. إنها مأساة التاريخ البشري وملهاته في الوقت نفسه..
المشاهد كثيرة .. ولن يتسع المجال لتمليها جميعاً .. فلنكتف ببعض منها .. نماذج فحسب لما يريد القرآن أن يقوله في نهاية كل مشهد بلسان الحال أم بلسان المقال .. رفضاً لطاعة أولي الأمر، حين يحكمون بغير شرع الله ، ويعادون منهجه ، ودعوة لفك الارتباط المخزي معهم، ونداء للسعي صوب مصير أكثر حرية وإضاءة وانسجاماً مع كرامة الإنسان ومكانته في العالم ..
(4)
(وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنْ النَّارِ*قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ)(4).
فهل ثمة ما يدعو إلى رفض الطاعة، وينفّر منها، أكثر من هذا الموقف المخزي الذي تنكشف فيه الأوراق ويتبدى فيه عجز المستكبرين على حقيقته ومداه؟(55/208)
إنهم لن يستطيعوا أن يحجبوا عن أتباعهم ولو شرارة واحدة من نار .. ولن تغني عن الضعفاء تبعيّتهم الطويلة للمستكبرين ـ يومها ـ لن يغني عنهم استعبادهم أنفسهم لشهوة الطاغوت وتجبره .. إن الله قد حكم بين العباد .. ولن يكون أشد الطغاة طغياناً، إزاء هذا الحكم، سوى أداة هينة لينة يفعل الله فيها ما يريد .. ولن تجدي آلاف السنين من التذلل والتبعيّة والتمسح .. لمن؟ لأناس لا يملكون إزاء حكم الله أي شيء.. ولا حماية أتباعهم من لفحة من نار..
وإذا كان الأمر كذلك ، فلِمَ كانت أيام الاستعباد والتذلل الطويلة في الحياة الدنيا؟ لِمَ كانت سني القهر والخوف والتبعيّة؟ أفما كان التحرّر ورفع الرأس بما يليق بكرامة الإنسان أليق وأجدى؟
ونمضي إلى صورة أخرى (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ)(5).
فها هنا يسرع الطواغيت فيأخذون المبادرة قبل أن يسألهم الأتباع شيئاً فلا يقدرون عليه.. يسرعون فيعلنون براءتهم من الأتباع، فإن العذاب الذي يرونه واقعاً بهم ليقطع الأسباب!!
فما يكون جواب الأتباع ـ حماية لماء الوجه ـ إلا أن يعلنوا رغبتهم في العودة ثانية إلى الحياة الدنيا لكي يردوها في وجه الطاغوت، ويعلنوا تبرؤهم منهم!! ويقيناً أنهم ليسوا بفاعلين حتما لو استُجيبت أمنيتهم وعادوا إلى هناك .. فالنفوس التي تنحني للظلم يلويها الظلم، ولن يكون بمقدور ألف عودة إلى الحياة الدنيا أن تعيدها إلى سويّتها.. وتلك هي مأساة الاستعباد .. إنها تقتل الإنسان .. تقطع آخر خيط في قدرته على التشبث بالرفض والمقاومة حماية لحريته وكرامته ..
ومهما يكن من أمر فإنه لا الطواغيت ولا الأتباع بقادرين على فعل شيء، وإنما هي أعمالهم تظهر أمامهم حسرات، في ساحة النار التي لن يخرجوا منها بحال ..
في سورة (سبأ) نلتقي بمشهد آخر حيث يدور هذا الحوار (... يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) فيردّ الذين استكبروا: (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ) ويجيب الذين استضعفوا: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(6) .
فهاهم جميعاً، التابعون والمتبوعون، وبعد أن وقعوا في قبضة العدل الإلهي، ورأوا العذاب الذي لن ينجو منه تابع ولا متبوع.. هاهم يمارسون ما يمكن تسميته (بالتعليق) .. يتخذ كل طرف من الطرف الآخر مشجباً يسعى إلى وضع خطيئته عليه لكي ينجو بجلده .. ولن ينجو أحد .. فالمعادلة القرآنية واضحة لا تقبل نقضاً ولا تبديلاً: إن الخضوع للطاغوت الذي يحكم بما لم ينزل الله (جريمة) يُعاقب عليها صاحبها تماماً كما يُعاقب الطاغوت الذي يقسر الناس على التعبد له من دون الله سواء بسواء .. ولن يجدي النقاش.
ويتكشف عبث لعبة تعليق المسؤولية هذه أمام الحقيقة النهائية التي يمنحها القرآن، وفق طرائقه الفنية، لقارئيه .. فبينما يغرق المخدوعون في مناقشات طويلة معتقدين أن بمقدور أحد الطرفين أن يوقع بالآخر.. ينظر الإنسان ـ من الخارج ـ فيعرف مقدماً عدم جدوى هذه المحاولات .. لقد قُضِي الأمر وليس ثمة بعد اليوم من معذر.. وكما أن الطغيان أمر مرفوض ومعاقب عليه، فإن التبعيّة والمذلة أمران مرفوضان ـ أيضاً ـ ومعاقب عليهما.. ومن ثم يعقب القرآن الكريم متحدثاً عن الطرفين (..وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(7).(55/209)
ولم يقل كتاب الله: إن الأغلال كانت من نصيب الطواغيت فحسب، بل جعل الطرف الآخر ـ كذلك ـ يرسف في قيودها .. الطرف المستعبد، المستضعف .. لماذا؟ لأن تعبّدهم وتذلّلهم كان عملاً ممقوتاً ومرفوضاًَ، وكان لابد من أن ينالوا جزاءهم على العمل الممقوت والمرفوض.. إنهم كانوا ـ كما قال أسيادهم ـ يحملون الاستعداد الدائم لممارسة الجريمة .. جريمة الطاعة لمن لم يحكم بما أنزل الله ..
وفي سورة الأعراف ، حيث يدّارك الطواغيت والمستضعفون من أتباعهم في النار، نسمع هذا الدعاء الحار من المستضعفين وهم يشيرون بأيديهم إلى الطواغيت (رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ) ويكون الجواب الصارم جزاء مضاعفا بحجم الجرم الذي مارسه الطرفان معا : التابع والمتبوع )قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ(8) ويستمر الحوار في جو من اليأس الخانق فتقول أولاهم لأخراهم (فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ)(9).
إن تبعيّتهم نفسها ترمى بوجوههم من الأسياد فما كان لهم عليهم فيها من فضل!! لقد استسلم الضعفاء وأيقنوا وقوع العذاب بهم، لكنهم يريدونه مضاعفاً لأسيادهم معتقدين أن جرمهم أكبر.. ولكن كتاب الله يضع الموازين القسط فيضاعف العذاب للطرفين.. لماذا؟ لأن التذلل للطغيان، وأتباعه، هو بحجم الطغيان نفسه.. سواء بسواء..
وفي سورة الأحزاب يتكرر دعاء المستضعفين، ويتردّد نداؤهم مرة أخرى: أن ينال أسيادهم ضعفين من العذاب وأن تحل بهم لعنة أكبر، معتقدين أن هؤلاء الأسياد يقفون وراء ضلالهم في الحياة الدنيا، وما درَوْا أنهم هم، التابعون، صنعوا مأساتهم بأيديهم.. يتردد النداء، ولكن القرآن هنا لا يجيبهم بشيء؛ لأن تركهم هكذا دون جواب أبلغ من أي جواب (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)(10) .. لكأنه بعدم رده عليهم يريد أن يقول لهم موبخا مبكّتاً: ولِمَ أطعتموهم..؟
وثمة في سورة إبراهيم هذا الحوار المؤثر بين الطرفين (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ).(11)
إن الأتباع هاهنا يسلكون طريقا آخر، إنهم يتجرّعون غضبهم على أربابهم، ويكبتونه في نفوسهم، ويتقمصون موقف المتوسل علّ طواغيتهم الذين قادوهم في الدنيا يواصلون قيادتهم في الأخرى، ويقدرون تبعيّة أذنابهم حق قدرها، فيسعون للتخفيف من العذاب الواقع بهم.. ولكن هؤلاء الأرباب يعرفون النتيجة سلفاً، وإذا كانوا في الحياة الدنيا قد قادوهم إلى البوار، فإنهم هاهنا غير قادرين على شيء، فبأي وجه يسعون للتخفيف عنهم؟
إن الطرفين يقعان في دائرة الجزاء، وسواء عليهم أجزعوا أم صبروا فما ثم من محيص!!
(5)
ويتخذ القرآن الكريم من فرعون مصر رمزاً للطاغوت في كل زمان ومكان.. أي فرعون؟ إن القرآن لا يسميه.. إنه يطرحه رمزاً مجرداً عن اللحم والدم والشخصية.. إنه طاغوت وكفى.. والحق أن طواغيت العالم كله يتشابهون، ليس ثمة تميز واضح بين أحدهم والآخر، إنهم (نوعياً) سواء، ولكنهم قد يختلفون بالكمية .. بحجم الطغيان ودرجته وقسوته وعنفه.. ولكنهم يبقون متشابهين كالأرقام الصّماء .. نفس الشهوة الجارفة للحكم والسلطان.. نفس الرغبة العاتية في الاستعلاء والامتلاء.. نفس الدافع الرهيب لإذلال الآخرين واستعبادهم.. نفس الهوى الجارف لتدمير شخصيات المتفوقين وتفكيكها وسحقها.. نفس التشنج والجنون إزاء أي اعتراض أو رد أو مناقشة أو مجابهة.. ومن أجل ذلك من أجل أن الطواغيت كلهم فرعون، ومن أجل أن فرعون هو كل واحد من هؤلاء الطواغيت.. فإن القرآن الكريم لا يسميه!!
وبدلاً من ذلك يريد أن يتخذه وسيلة إيضاح، مجرد أداة، لدعوته الصارمة الجازمة إلى رفض الطاعة.. رفض العبودية والتذلل والذوبان في كيان المستكبرين.. وكما كان فرعون ـ تاريخياً ـ أداة بيد قدر الله، ضُربت بمصيره الأمثال، فإنه ـ موضوعياً ـ كذلك أداة يعتمدها القرآن لتصوير موقف الطاغوت والتحذير منه في الوقت نفسه، وهو يسلّط الأضواء عليه من كل زاوية لكي يكشفه على مداه، فيقف فرعون أمام الله والناس والتاريخ عارياً مكشوف الفكر والهوى والأهداف..
وفي مواضع كثيرة من كتاب الله تتوالى ضربات الفرشاة لكي تستكمل ـ بالكلمة ـ صورة هذا الكائن المقيت الذي جاء الإسلام لكي يستأصله من العالم ولكي يلحقه بفصيلة الديناصور المنقرضة.. ترى هل سيقدر على ذلك يوماً؟!
لنلقي أسماعنا إلى بعض هذه الضربات .. ثم نمضي إلى زوايا أخرى في الموضوع الذي بين أيدينا، فإن الحديث عن فرعون يطول..
(فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)(12) .(55/210)
(وَإِنِّي لاظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا)(13) .
(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى)(14) .
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(15)(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ ويستحيي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)(16) .
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ)(17) فماذا كانت النتيجة؟
(فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ* وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ* وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ)(18) .
(وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ* فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)(19).. ومرة أخرى ماذا كانت النتيجة؟ (فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا للآخرين )(20).. فالعبرة في النهاية، كما يقول المثل المعروف.
(6)
والطاغوت الذي هو في النهاية (فبركة) بشرية متشابهة.. وعجينة واحدة .. قد يتغير جلده.. رداؤه الخارجي.. ملامح وجهه وديكوراته .. قد يميل إلى هذا الجانب أو ذاك.. وقد يهد هنا أو هناك.. وقد يهوى تنفيذ نزعته الطاغية بهذه الصيغة أو تلك.. قد يكون الطاغوت ملكاً أو أميراً أو رئيساً أو سلطاناً.. وقد يكون أباً أو جداً أو جيلاً من الناس.. وقد يكون غنياً أو مترفاً كثير العشيرة والأولاد.. وقد يكون مسرفاً أو مشعوذاً أو كاذباً أو ماكراً أو دجّالاً.. وقد يكون فاسقاً أو فاجراً أو كفاراً.. وقد يكون مجرماً أو شيطاناً مريداً.. وقد يكون ـ حتى ـ كاهناً أو راهباً أو رجل دين في نهاية المطاف!!
والقرآن الكريم يلاحق هذه الأنماط المختلفة من الطواغيت.. يلاحقها جميعاً ويدعو بصرامته الحاسمة إلى رفض طاعتها جميعاً!!
ورغم أن الله يعرف حق اليقين كيف يصدر هؤلاء جميعاً عن نبع واحد هو شهوة السلطان والتألّه على الناس، واستعبادهم، وصرفهم عن التوجه إلى خالقهم جل وعلا.. ويعرف، حق اليقين، المستنفع الواحد الذي تصب فيه هذه الشهوات على اختلاف أنماطها، فإنه يسعى إلى عرضها بأشكالها وصيغها المختلفة كي لا يندّ أحد منها على المؤمنين الجادين، وكي تكون كلها في دائرة الضوء، فلا يخفى منها نمط فيطعن من مكمنه ظهور المؤمنين، أو يلوح بإغراء غير مكشوف الأهداف للسذّج من الناس.. يدعوهم إلى طاعته..
إن القرآن الكريم يعرض علينا، في حشود من آياته البينات طوابير الطاغوت، وكأننا نشهد مهرجاناً أو عرضاً جماعياً.. تسير فيه أصناف المستكبرين، مصعّرة الخدود، ممطوطة القامات، منتفخة الأوداج .. يعرضها علينا جميعا ويدعونا إلى رفض طاعتها مهما تنوعت السمات واختلفت الملامح وتلوّنت الأردية ..
فلنقف قليلاً على طرف من الطريق لنشهد، في ختام رحلتنا هذه، جانباً من مهرجان الأرباب والطواغيت، ونسمع، عند مرور كل وجبة منهم، نداء القرآن الأبدي برفض الطاعة، بلسان الحال أو بلسان المقال.. والتشبّث بالحرية التي تليق بمكانة الإنسان: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)(21) .
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)(22).(55/211)
(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)(23).
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ)(24).
(اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)(25).
(وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(26).
(قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا)(27).
(وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ)(28).
(وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)(29).
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وأطيعون * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ)(30).
(تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ)(31).
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ)(32).
(قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(33).
(7)
ولن نختم رحلتنا هذه قبل أن نسمع معاً إلى هذا النداء التحريري العام الذي يعلنه القرآن الكريم بمواجهة الطاغوت على مدار التاريخ .. (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(34).
وقبل أن نطّلع معاً على مصير أولئك الذين رفضوا الذهاب مع نداء القرآن وتخلّوْا عن حريتهم، وساقهم الضعف والخنوع إلى الخضوع للطغيان والاستسلام لمقدراته: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا)(35).
(1) المائدة 44 .
(2) البقرة 193 .
(3) الأنفال 25 .
(4) غافر 47ـ48 .
(5) البقرة 166ـ167 .
(6) سبأ 31ـ33 .
(7) سبأ 33 .
(8) الأحزاب 67ـ68 .
(9) إبراهيم 21 .
(10) الأحزاب 67ـ68 .
(11) إبراهيم 21 .
(12) هود 97 .
(13) الإسراء 102 .
(14) طه 79 .
(15) التحريم 11 .
(16) القصص 4ـ6 .
(17) القصص 38ـ39 .
(18) القصص 40ـ42 .
(19) الزخرف 51ـ52 ، 54 .
(20) الزخرف 55ـ56 .
(21) الأنعام 123 .
(22) البقرة 165 .
(23) الحج 3ـ4 .
(24) البقرة 170 .
(25) الأعراف 3 .
(26) الأنعام 150 .
(27) نوح 21 .
(28) هود 59ـ60 .
(29) الأنعام 126 .
(30) الشعراء 150ـ152.
(31) الشعراء 97ـ99.
(32) المائدة 77 .
(33) التوبة 30ـ31 .
(34) آل عمران 64 .
(35) النساء 97 .
===========(55/212)
(55/213)
حول المسلم والسّلطة
أ. د. عماد الدين خليل 11/6/1426
17/07/2005
(1)
عندما كنت طالباً في قسم التاريخ في مطلع الستينيات … كان أستاذ علم الاجتماع- لسبب ما - يسعى في كل محاضرة من محاضراته إلى تأكيد مسألة أن القرآن الكريم جاء لكي يطلب من الناس أن يضعوا السلاح إزاء السلطات التي تحكمهم، وإلى ضرورة طاعة أولي الأمر منهم وإلا خرجوا من حظيرة الإيمان .. وكان يقتطع بعض الشواهد القرآنية لكي يؤكد وجهة نظره .. وفي كل مرة كان يتلو الآيات مضيفاً إليها أو منتقصا منها .. وعندما يتحول إلى كتب الفقه كان يقف طويلا عند (الخراج) لأبي يوسف ويقول: هاهو ذا يؤلف كتابه للخليفة هارون الرشيد، ويدعو الناس كافة إلى الطاعة وإلا مرقوا عن الدين كما يمرق السهم عن منزعه ..
وكان هدفه من وراء هذا كله أن يصور الإسلام كما لو كان ديناً سلبياً يوجد جماعات ممن اعتادوا ليّ رؤوسهم لكل سلطة، وانعدمت في نفوسهم أي قدرة على الرفض والمجابهة.. كان يريد أن يقول ـ بشكل غير مباشر ـ: إن الإسلام هو دين السلطات تبرر به طغيانها، حتى إذا ما حاول أحد الوقوف بوجهها اتهم بالكفر والمروق وأُخرج من حظيرة الإيمان فأصبح شريداً منفياً ليس له من ملجأ يأوي إليه، فيضطر للعودة ثانية لتقديم الولاء وممارسة تقاليد العبودية..
وكنت أحاول أن أرد عليه إلا أن ضيق الوقت الذي كان يمنحني إياه، وضعف قدرتي على الرؤية الشمولية يومها، لم يمكّناني من دحض افتراءاته كافة.. وفي اللحظة التي كان يشعر فيها بالحرج كان يستخدم سلطته كأستاذ لإرغامي على السكوت بشكل أو بآخر..
(2)
ومرت على ذلك أعوام طويلة، عقدان من الزمن، ووجدتني أتذكر يوماً، وأنا أستمع إلى أحد المرتلين يتلو (وأطيعوا الله والرسولل..) محاضرات الأستاذ إياه وتأكيده المستمر على استسلامية المسلم إزاء السلطات.. فقرّرت أن أرجع إلى القرآن الكريم نفسه.. أن أقرأه مرة ومرتين وثلاثاً لمتابعة موقفه من هذه المسألة الخطيرة: العلاقة بين الجماهير والحاكم .. وإذ بي في ختام الرحلة أجد المعطيات القرآنية تخالف تماماً ما ذهب إليه الأستاذ.
إن القرآن الكريم، كما يتضح من السياق العام، لا يعلّق المسؤولية على الزعامات الجائرة فحسب، وهي تمارس جرمها وفجورها وترفها وطغيانها وأخلاقياتها الهابطة، إنما هي القواعد التي أعانتها في البدء على الوصول، وهي تعينها الآن بتأييدها المعلن أو الضمني، المادي أو الأدبي، الفكري أو الأخلاقي، أو بسكوتها على الأقل، على مواصلة المسير بالجماعة صوب البوار .. ومن ثم يصدر القرآن الكريم تحذيراته إلى هذه القواعد من أن يتبلّد وعيها، ويتجمّد حسها الجماعي، فتناسق في مجرى الطاعة والاندماج في مسار السلطة؛ إذ لا تستطيع أن تقول (لا) بل إنها ـ أكثر من ذلك ـ تقر في سرائرها هذا الطغيان الذي تمارسه السلطة، ولا تستطيع أن تجد في نفسها أي مبرّر للرفض أو المقاومة.
وهكذا تجد الجماعة نفسها وقد غفلت عن أهدافها وقيمها ومطامحها؛ لأنها لم تدع مسافة كافية بينها وبين السلطة للرؤية والنقد والتمحيص والرفض والمقاومة، بل اقتربت منها رغباً ورهباً واندمجت بها، وأصبح من المحتم أن نتحمل معها المسؤولية حتى لو لم تحصل باندماجها هذا إلا على الفتات .. أو الاحتقار والازدراء ..
إن القرآن الكريم يبين لنا، بأسلوب ينضح سخرية واحتقاراً، شكوى هذه القواعد التي دانت بالطاعة الاختيارية لحكامها وطواغيتها (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ) (1) . وهناك آيات ومقاطع أخرى كثيرة يدور فيها الحوار على هذا النسق بين التابعين والمتبوعين يمكن أن نجدها في إطار المشاهد التي يعرضها القرآن عن القيامة (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ)(2)، (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(3) .
(3)(55/214)
ما الذي يطلبه القرآن الكريم من القواعد كيلا تلعب عليها وبها الزعامات الطاغية والطبقات المترفة؟
إنه ـ في البداية ـ يطلب منهم جميعا أن (يتحركوا)، أن يردّوا على الظلم، أن يرفضوا الانتماء إليه، أو قبوله كمسلمة لا تقبل نقضاً ولا جدلاً .. إن بمقدورهم أن يغادروا المواقع التي يسود فيها الطغيان لكيلا يسهموا في الجريمة، بشكل أو بآخر، يغادروها إلى أي مكان؛ فأرض الله واسعة .. وليس معنى هذا دفعهم إلى الفرار .. ابدأ .. إنما هو فكّهم من هذا الاندماج المخزي بالسلطة، وإبعادهم عن هذا الالتصاق المذل بمواقع الطغيان، فإذا تمكّنوا أن يحدثوا بحركتهم فاصلاً بينهم وبينها تمكنوا آنذاك من رؤية الموقف على حقيقته، حتى لو دفعتهم حركتهم إلى الهجرة إلى أقصى الأرض؛ لأنهم سوف لا يلبثون أن يكروا عائدين، مسلحين هذه المرة بالوعي والقوة لكي يستأصلوا شأفة الظالمين (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا)(4) .
وفي آية أخرى ينعى القرآن أولئك الذين آثروا السكون على الحركة، واختاروا الالتصاق بالظلم والعمل تحت يديه، لا على رفضه والانشقاق عليه (وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ(5) .. وفي آية ثالثة يظهر هدف هذه الهجرة (الحركية) التي يدعو لها القرآن واضحاً نقياً: إن الإنسان المؤمن يجب ألا يعبد إلا الله .. وهذا هو دوره الحقيقي في العالم، بل هذا هو مبرر وجوده في الكون .. وعبادة الله ـ كما هو واضح ـ ليس في أن نتصل به في شعائرنا اليومية أو الموسمية فحسب، بل أن نرتبط به في كل فعاليّات حياتنا، وأن نتوجه إليه في كل خطوات وجودنا الداخلي، وألاّ نأخذ إلا منه ، ولا ننتمي أو نخضع إلا له.. فإذا ما سعت القيادات الجاهليّة الطاغية إلى أن تزيّف هذا الدور البشري الأصيل فتصدّ القواعد المؤمنة عن التوجّه إلى خالقها توجهاً سليماً كاملاً أصيلاً، من أجل أن تلتصق بها وتمارس خدمتها، فإن على هذه القواعد أن ترفض (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)(6) وأن عليها أن تتحرك وتهاجر إذا اقتضى الأمر (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)(7) الهجرة التي تعقب عودة واعية مسلحة إلى مناطق الطغيان لوقفه قبل أن يقود بقية الناس إلى الدمار (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ)(8) .. وتبدو هجرة الرسول ـ هاهنا ـ مصداقاً تاريخياً لهذه المقولة.
(4)
وثمة حقيقة على قدر كبير من الخطورة ينبه القرآن الكريم القواعد المؤمنة إليها، لكي يكونوا على وعي تام بها، وعلى حذر كامل منها في الوقت نفسه، ذلك أن الفتنة التي تتمخض حتماً عن ممارسة الطغيان، وانحراف القيادات عن أمانة المهمة التي عهدت إليها لن تنزل على رؤوس هذه القيادات فحسب .. إنها ليست ممارسة (هندسية) لكي تجيء منطبقة تماماً على مساحة الواقع التي يحتلها الطغيان، لأنها تجربة اجتماعية، والتجربة الاجتماعية تجيء دائما متداخلة المساحات، متشابكة الممارسات، مرتبطة الوشائج، بحيث يصعب تفكيكها وتجزئتها بأسلوب رياضي صارم .. وإن مسؤولية الطغيان لا تقع ـ كما يؤكد القرآن دائماً ـ على عاتق القيادات، وإنما تتحمل القواعد نصيباً كبيراً منها لسكوتها وإقرارها وعدم رفضها ومقاومتها وتحركها.
من أجل هذا كله، فإن الفتنة أو العقاب الذي سينجم عن ممارسة الطغيان والظلم، سوف ينزل على رؤوس الجميع، مدوياً، مزلزلاً، شاملاً، لا يعرف (أحداً) في البنية الاجتماعية التي يمارس فيها الانحراف، ظالماً كان أم مظلوماً، ولم يكن العقاب، أو تكن الفتنة، في يوم من الأيام ملكاً أو نبياً .. إن القرآن الكريم يحذر القواعد المؤمنة ويمنحها الوعي الكافي كذلك: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(9) .(55/215)
على مستوى القيادة يحدثنا القرآن كيف أن ساعة السقوط تحين يوم يتسنم المسؤولية حفنة من المترفين الفسقة، أو الإداريين الظلمة، أو المجرمين الطغاة، فيمارسون من مواقع السلطة تلك كل أسلوب من شأنه أن يؤول إلى إلحاق التفكّك والدمار بالجماعة أو الأمة التي ارتضتهم قادة لها: الترف، الفسوق، الطغيان، الفوضى، الاستغلال، المكر، رفض الدعوات الجديدة، واستخدام أقصى درجات القسوة والطيش لصدّ قومهم عن الانتماء إليها، واعتبار مبادئهم ورؤاهم وتشريعاتهم الذاتية القاصرة، المفككة، الحدود النهائية لموقف الإنسان في العالم، وهو اعتبار يقوم على أقصى درجات الطغيان، وأشد المواقف بعداً عن مفهوم التوحيد العادل، السمح، الإنساني: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ)(10) .
وأبدع ما في التعبير القرآني أنه يصور هؤلاء الطواغيت، وهم في قمة الجاه والثروة والسلطان، أدوات بيد الله يسخرهم، من حيث لا يدرون، لإنزال عقابه العادل بطرفي الجريمة: السلطة التي تظلم والقاعدة التي ترضى بالظلم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)(11)(وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)(12) (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا)(13) (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (14) (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(15) .
في الجهة الأخرى، ومن أجل أن تظل مقاييس السلطة والقيادة موضوعية ثابتة بينة في أذهان الجماهير المؤمنة، يطرح القرآن البديل في أكثر من آية، وعلى أعرض جبهة يمكن أن يتحرك عليها المسؤولون عن قيادة الأمم والشعوب، جبهة التلقي عن الله وحده والتزام قيم الحق والعدل، ومواصلة العطاء على هذا الطريق: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)(16)
(وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)(17) (تِلْكَ الدَّارُ الأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا)(18).
(5)
وكم تمنّيت وأنا أتابع أطروحات القرآن الحاسمة بصدد العلاقة بين الجمهور والسلطة، وهي أطروحات ممتدة متشابكة مفروشة على مساحات واسعة كما سنتابع في فصول هذا الكتاب، تمنّيت أن يرجع بي الزمن القهقرى إلى أيام الدراسة الجامعية، أو أن التقي بالأستاذ الذي كان يتشنج متعمداً على جانب ضيّق محدود من الصورة لا يفسر شيئاً .. أن أرجع إليه لكي أقول له هذا، أو أقنعه على الأقل بقراءة كتاب الله، بالتجرد العلمي المطلوب،
مرة واحدة فقط!!
(1) الأحزاب 67ـ68 .
(2) البقرة 166ـ167 .
(3) إبراهيم 21ـ22 .
(4) النساء 97ـ98 .
(5) إبراهيم 45 .
(6) الأعراف 3 .
(7) العنكبوت 56 .
(8) التوبة 14 .
(9) الأنفال 24ـ25 .
(10) غافر 29 .
(11) الأنعام 123 .
(12) الأنعام 129 .
(13) الإسراء 16ـ17 .
(14) الأحزاب 67ـ68 .
(15) سبأ 34ـ35 .
(16) الأنبياء 73 .
(17) الأعراف 181 .
(18) القصص 83 .
=============(55/216)
(55/217)
أبجديّات حول خُرافة فصل الدّين عن الدّولة
أ. د. عماد الدين خليل 26/5/1426
03/07/2005
(1)
إن معنى أن يكون الله في السماء إله وفي الأرض إله هو أن يكون صاحب الكلمة الأولى هنا وهناك .. الحاكم والمشرّع هنا وهناك .. المالك والمدبر هنا وهناك .. المقدّر والمصرّف هنا وهناك..
إن القرآن يقولها صراحة (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ) .. والذين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة .. أو إعادة الدين إلى سماواته العليا ورفض تدنيسه بأوحال السياسة، كما يقولون، أو تحييد الدين وعدم تسييسه أو زجه بالسياسة، كما يشتهون، الذين يعلنون بأن ما لله لله وما لقيصر لقيصر.. إنما يقفون، شاؤوا أم أبَوْا، بمواجهة هذه القاعدة القرآنية الصارمة.. الواضحة .. وكأنهم يطلبون من الله سبحانه أن يسحب يديه من العالم، وأن يكتفي بحكم ما وراءه .. وحاشاه!!
ألا يدري هؤلاء بأن كلمة (ألوهيّة) لغة واصطلاحاً تعني الربوبيّة والحاكميّة، وأن من يكون إلهاً في أي مكان من الكون والعالم، يكون ربه وحاكمه بالضرورة؟
أفيكون الله إلهاً حاكماً في الكون.. وإلهاً غير حاكم في العالم، لا لشيء إلا ليفسح الطريق أمام الطواغيت والأرباب والفراعنة والكهنة لكي يستعبدوا الناس (لحسابهم) من
دون الله؟!
وما هي مصلحة جماهير الناس في أن يتنازلوا عن حريتهم وكرامتهم ومكانتهم في العالم لصالح حفنة من المتألهين في الأرض؟ (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(1)..
(2)
إن آيات الحكم بدين الله في الأرض .. أي بمنهجه وتشريعه وقوانينه ونظمه.. واضحة، صريحة، بيّنة: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(2) ، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(3) ، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(4) ، (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ)(5)، وإن ألف محاولة للتعتيم عليها لن تزيدها إلا وضوحاً بحكم حقيقة الدين نفسه باعتباره طريقاً للخلاص، ورؤية شاملة للكون والحياة والإنسان، وبرنامجاً لصياغة الوجود البشري والتحقق بالوفاق مع المصير.. وإن أي شريعة أخرى يضعها هذا الطاغية أو ذاك، ويصنعها هذا الفرعون أو ذاك، ويخطط لها هذا الإله أو ذاك.. لن تزيد الإنسان إلا تفتّتاً وتمزقاً .. ولن تزيد الجماعة إلا تعاسة وشقاء .. ولن تتمخض إلا عن ارتطام محزن بين الوجود والمصير..
ثم إن هؤلاء الطواغيت كثيرون جداً، ومناهجهم وأديانهم كثيرة جداً، وكل منهم يدّعي- لسفهه وغروره وتألّهه- أنه هو صاحب الكلمة النهائية في هذا العالم، وأن طريقه هو الطريق .. فأي من هؤلاء تتبع حشود الناس، وكيف سيكون الناس ـ وهذا ما كان فعلاًـ لو أن كل جماعة منهم انتموا لهذا الطاغوت أو ذاك، وقاتلوا عنه، ورفضوا دعوة الفراعنة الآخرين؟
إن معضلة التاريخ البشري هي هذه، وإن الحل الأوحد هو هذا: الانتماء لدين الله الواحد.. لصراطه المستقيم الذي لا صراط غيره (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(6) .
(3)
فمن تريدون أن يشرّع لكم: الله المنزّه عن الميل والظن والهوى، أم العباد المترعون ميلاً وهوًى ، الممتلئون ظناً والذين تبين لكم في رحلة التاريخ البشري كم هم حريصون على عدم تجاوز مصالحهم الخاصة إلى مصلحة الإنسان، والتنازل عن مواقعهم المتفردة من أجل جماهير الناس؟
إن الدين يريدها أن تكون للناس جميعاً؛ لأن الله هو خالق الناس جميعاً، وربهم وإلههم .. والطواغيت يريدونها لهم أولاً، ولحفنة ممن يسبحون بحمدهم ويعززون سلطتهم في الأرض ثانياً.. ولا شيء وراء هذا وذاك ..
إما أن يكون الدين لله حيث يتساوى الناس جميعاً وتفتح أمامهم سبل الحياة الحرة العادلة، المتوحدة، الكريمة.. وإما أن يكون للطاغوت حيث الفتنة التي لن ينجو من ذيولها أحد .. الطاغوت ومن يسكت على حكم الطاغوت (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(7) .
(4)
إن المسألة في جوهرها صراع بين تحرير الإنسان من تألّه الطواغيت وبين خضوعه لألوهيتهم وطغيانهم .. ليس ثمة تفسير آخر للدين .. وما كان الله سبحانه وتعالى ليدع عباده يضربون بغير هدى، ويندفعون عبر رحلة التاريخ فوضى ذات اليمين وذات الشمال لكي ما يلبثوا أن يقعوا في مصيدة الاستعباد والإذلال ..(55/218)
إن الفراعنة ينتظرون في كل زمان ومكان لكي يضربوا ضربتهم، ولكي يبنوا على تيه الجماعات والأمم والشعوب مجدهم المدَّعى وتجبّرهم المرتجى.. إن الدين هو التحذير الذي يضرب به الله سبحانه وجوه هؤلاء الطواغيت على أيدي رسله كي لا يسترسلوا في طغيانهم، ويعمهوا في غيّهم .. وهو التحرير لجماهير الناس من كل ما يمسّ كرامتها ومكانتها وتفرّدها على العالمين .. وهو منهج حياة وبرنامج عمل لن يضل من ينتمي إليه ويعمل من خلاله.. إنه يوصد الأبواب أمام لعبة الطغيان ومأساتها.. فإن لم يدخل الدين ساحة الفعل والتحقق والمجابهة والصراع .. فمن يوقف الفراعنة عند حدهم؟ من يردهم على أعقابهم ؟ من يجردهم من سلاحهم ويكشف كيدهم؟
إنه ليس ثمة حل وسط .. فإما أن يكون الدين فاعلاً في التاريخ، معتمداً كل الأدوات التي تمكنه من أداء مهمته بما فيها (السياسة) و (الدولة)، وإما ألاّ يكون على الإطلاق .. فليس ثمة معنى لأن يُعبد الله في هذا المبنى أو ذاك .. في هذا الجامع أو الكنيسة، بينما عباد الله في الخارج يُستعبدون ويُستضعفون، ويُعبَّدون بالقسر والإكراه لمدعي الألوهيّة من الطواغيت والأرباب ..
لقد قالها الفاتحون الأجداد مراراً وسيقولها أحفادهم تكراراً: "جئنا لكي نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.." إن الدين هو حركة خروج في قلب الواقع من حال إلى حال، ولن يتحقق ذلك إلا بأن يمارس المنتمون للدين حقهم في تنفيذ هذا العمل التاريخي الدائم.. ما دام هنالك أبداً مَن تحدثه نفسه بأن يتسلط على رقاب الجماهير، ويكون
فرعونها المطاع..
هل يخلو التاريخ من هؤلاء؟
(5)
إننا إما أن نقبل الدين كاملاً أو أن نرفضه مزقاً وتفاريق .. وإلا أعدنا لعبة بني إسرائيل التي دمغها القرآن بالظلم والكفر والخزي (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(8) .
إن أي منهج أو قانون وضعي لا يمكن إلا أن يُقبل كاملاً، وليس من المعقول أن يقول مواطن ما في أية دولة: إنه ليعجبني هذا الجانب من القانون وسألتزم به، وينفرني ذلك الجانب ولن ألتزم به .. إنه حينذاك يعرض نفسه لعقاب السلطة التي تقوم مهمتها على حماية التنفيذ الكامل للقانون .. لماذا؟ لأن الانتقاء الكيفي سوف يعرض سياسة الدولة وبرنامج عملها للتمييع والتناقض، وسوف يقودها إلى التفكك والدمار..
أفيكون هذا شأن القوانين والنظم الوضعية، ولا يكون شأن القوانين والنظم الصادرة من عند الله.. لماذا؟ وكيف يُفسَّر هذا إن لم يكن في رغبة الطاغوت الحثيثة في تدمير الموقف الديني أساساً بكونه برنامج عمل شامل، وتفتيته وتمزيقه لكي يخلو له الجو فيفرض قانونه الذي لا رادّ له، والذي لن يسمح لأحد بأن ينتقي منه ويختار؟
لقد حذّر القرآن الكريم مراراً وتكراراً من أنه ليس ثمة أي مجال لممارسة لعبة الانتقاء هذه إزاء معطيات الدين، ووصف من يحاول ذلك بالكفر والمروق .. فالإنسان إما أن يكون مؤمناً بحق، منتمياً لمنهج الله، وإما ألاّ يكون على الإطلاق.. ذلك أن الانتماء لسلطتين في وقت واحد يعني بصراحة ووضوح: الشرك بالله واتخاذ أنداد من دونه.. وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلاً .. هذا إلى ما يحدثه الازدواج في الانتماء من تمزّق خطير على مستوى الإنسان الفرد والجماعة البشرية على السواء..
إن التاريخ البشري كله هو مصداق لهذا التفتت والدمار الذي يتمخّض أبداً عن الشرك بالله، بهذا المعنى، وإن دعاة خرافة الفصل يريدونها انتقاء كيفياً وازدواجاً في الانتماء، وشركاً بالله في نهاية المطاف ..
إنه إما انتماء لمنهج الله، وإما رفض له.. ويتهافت ـ من ثمّ ـ موقف أولئك الدعاة من أساسه، فليس ثمة موقف وسط على الإطلاق..
(6)(55/219)
إن (الإسلام) هو الالتزام الديني الأخير والنهائي، وهو ـ لذلك ـ يتميز بالشموليّة والامتداد، ويتضمن جوهر الأديان السماوية التي سبقته على الطريق ومهدت له، ومعطياتها الحيوية (الدايناميكيّة) بعد اطّراح سائر النسبيات التاريخية، وبعد هضم هذه المعطيات وتمثلها وصبغها (بصبغة) الدين الأخير.. وأي تصور، بعد هذا، أو محاولة لتصوّر نوع من التوازي أو التساوي الرياضي المطلق بين الإسلام وبين الأديان التي سبقته، إنما هو نكران صريح، ومرفوض، لتميّز هذا الدين (الإسلام)، وخصوصيته، وتفرده، ولـ(إلزامه).. وهو بالأحرى (لعبة) قد تكون دوافعها ساذجة بليدة أو ماكرة خبيثة لتجميد هذا الدين أو عزله أو شل فاعليته باسم موازاته مع الأديان السابقة وعدم التفريق بين ما أنزل الله .. وإنها للعبة يمارسها أدعياء خرافة فصل الدين عن الدولة لكي يوحوا للناس عامة وللمسلمين على وجه الخصوص بأن الأديان السابقة ما دامت ـ في تصورهم الخاطئ المستمد من انحرافات هذه الأديان، وليس جوهرها الأصيل ـ قد فصلت بين الدين والحياة، وأعطت ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، فإن موازاة الإسلام بها ومساواته معها يمنح القناعة بأن شقيقها هذا يتوجب أن يترك ـ هو الآخر ـ ما لله لله وما لقيصر لقيصر .. هكذا بهذا المنطق الساذج الماكر في الوقت نفسه .. على طريقة: إذا كانت الرياح الموسمية تسقط أمطارها في اليمن والصومال، وإذا كانت الهند تتلقى رياحاً موسمية.. فمعنى هذا أن اليمن والصومال تلتقيان مع الهند في مناخها جملة.. وربما في نظمها وعاداتها وتقاليدها!!
وإذا كان الله سبحانه، صاحب الشأن الأول والأخير في الدين، قد أصدر حكمه الحاسم الجازم بالتفريق المطلق الذي لا يقبل لجاجة ومناقشة وإنكاراً .. بين الإسلام وبين سائر الأديان السماوية الأخرى التي سبقته، رغم صدورها من منبع واحد .. فما شأن الإنسان؟
أجل .. ما شأن الإنسان؟!
(7)
قد نفهم تشبّث الطواغيت بخرافة الفصل بين الدين والدولة؛ لأنها الباب الوحيد الذي يمكّنهم من أن يظلوا هناك فوق الناس .. فوق الرقاب .. فوق القرناء والمنافسين.. آلهة متفردة تحكم بما تشتهي وما تريد، وتعطي ما تشتهي وما تريد، وتمنع ما تشتهي وما تريد.. ولكننا لا نفهم موقف هذا الحشد الكبير من الناس البسطاء المساكين الذين يُصرّون على التشبث بالخرافة فلا يزيدهم الإصرار والحماس إلا خضوعاً وعبودية واستسلاماً..
أهو الجهل والحماقة أن يختار الإنسان بمحض إرادته الدخول إلى حظائر الأغنام والنعاج ليكون واحداً من القطيع؟ أم هو الإرهاب الذي يُرغم المساكين، بالتلويح بالذبح، على التشبث بهذا التصور الخاطئ الذي لا يحقق لهم مصلحة ولا يضمن كرامة؟
أم ماذا؟
أما الكُتّاب والمثقّفون الذي يسخرون أقلامهم لتأكيد الخرافة والدفاع عنها، فهم ولا ريب بين ضالٍّ أو جاحد تدفعه نفسه المظلمة، لا عقله المضيء، إلى مواقع الباطل، وهم قلة على كل حال، وبين صنيعة أو مأجور تغريه (النقود) فيمارس بيع الأفكار بالمزاد، ويمنحها لمن يدفع أكثر .. هنالك حيث يستوي ـ كما يقول أحد الشعراء المعاصرين ـ الفكر بالحذاء .. وما أكثرهم!!
(8)
إذا استخدمنا التعابير المعاصرة فإن الدين (إستراتيجية) والسياسة (تكنيك) يخدم (الإستراتيجية) ويذلل الصعاب أمام أهدافها الكبرى..
الدين حركة والسياسة أداة ..
الدين منهج عمل شامل والسياسة طرائق للتنفيذ ..
وفي كل الأحوال لا نجد ثمة ما يدعو للفصل بين القطبين، بل على العكس، تحتم ضرورات التنفيذ والفعل والتحقق، التكامل بينهما..
إن (الدولة) ضرورة محتومة للدين إذا ما أُريد له أن يقول كلمته في العالم وينفذ برنامجه في الأرض..
وإن (الدين) ضرورة محتومة للدولة إذا ما أريد لها أن تكون في صالح الإنسان من أجل عالم أفضل وغد سعيد.. هنالك حيث يتحرر الإنسان ويتحقق الوفاق المرتجى بينه وبين سنن الحياة والعالم والكون..
وإن الذين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة لا يفهمون في الدين ولا في الدولة (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(9) .
(1) محمد 24 .
(2) المائدة 44 .
(3) المائدة 45 .
(4) المائدة 47 .
(5) المائدة 49 .
(6) الأنعام 156 .
(7) الأنفال 25 .
(8) البقرة 85 .
(9) المائدة 49ـ50 .
============(55/220)
(55/221)
المرأة المسلمة.. والنشاط السياسي!
د. عدنان علي رضا النحوي 24/4/1426
01/06/2005
للمرأة قضايا تثار في كلِّ مجتمع مضطرب الموازين منحرف القيم أو جاهليٍّ أو ملحدٍ ، كان للمرأة قضيّة في العصر الجاهليّ في الجزيرة العربيَّة، وفي اليونان، وفي روما في عصور الانحلال والتفلّت. ولها قضيّة كُبْرى في الحضارة الغربيّة التي سحقت المرأة وسرقت شرفها، وحطّمت كرامتها ورمتها في فتنة الدنيا ووحول فسادها، مخدّرة لا تُحسُّ بحقيقة شقائها، خدّرتها الشهوة المتفلَّتة، أو الجري اللاهث وراء لقمة العيش، أو زهوة المراكز والمناصب والمسؤوليات.
ولكن لم يكن للمرأة مشكلة في عصر النبوة الخاتمة، ولا في عصر الخلفاء الراشدين، ولا في أيّ عصر ساد فيه حكم الكتاب والسنَّة وكانت كلمة الله فيه هي العليا.
ولكننا اليوم نعاني من هذه القضيَّة، قضيّة المرأة بعامة ومشاركتها في العمل السياسي بخاصة في الآونة الأخيرة، ونرى البعض يطلق مثل هذا الحكم:
" الإسلام لم يُفَرِّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية فهما على قدم سواء".
حكم عام يُطلق يكاد يوحي بأنه مستقى من نصّ من الكتاب والسنة، أو أنه يمثل ممارسة واضحة في التاريخ الإسلامي منذ عهد النبوّة.
إِنّ هذا النصّ العام المطلق على هذه الصورة الجازمة والتي يطلقها بعض العلماء المعاصرين دون أي قيود، لا تصحّ إلا بتوافر نصّ ثابت من الكتاب والسنة، أو بتوافر ممارسة واقعية ممتدّة في المجتمع الإسلامي الملتزم بالكتاب والسنة، والذي تكون فيه كلمة الله هي العليا. ولكننا لا نجد في الكتاب والسنّة أيّ نصّ يجيز هذا الحكم العام المطلق الخالي من أي قيود، ولا نجد كذلك أيّ ممارسة عمليّة ممتدّة له في حياة المسلمين والمجتمع الإسلامي الملتزم منذ عهد النبوة الخاتمة صلى الله عليه وسلم ، وحياة الخلفاء الراشدين، وسائر فترات التاريخ التي التزم فيها المجتمعُ الإسلامَ. نساء النبيّ r لم يمارسن النشاط السياسيّ مساويات للرجال على قدم سواء، ولا نساء الخلفاء الراشدين، ولا نساء العصور التي تلت، ولا نجد هذه الدعوة التي يطلقها بعض العلماء إلا في العصور الحديثة المتأخرة التي انحسر فيها تطبيق الإسلام ، وغزا الفكر الغربي ديار المسلمين.
وإذا كان رسول ا صلى الله عليه وسلم شكا إلى زوجه أم سلمة ما حدث من أصحابه في الحديبية، فأشارت عليه برأيٍ استحسنه وأخذ به، فهذه حالة طبيعية في جوّ الأسرة المسلمة أن يُفرغ الرجل إلى زوجته بعض همومه، وأن يستشيرها في ذلك، وأن يستمع إلى رأيها، فإن وجد فيه خيراً أخذ به، وإن لم يجدْ تركه. هذه حادثة نتعلم منها أدب الحياة الزوجيّة في الإسلام، ونتأسَّى برسول ا صلى الله عليه وسلم ونسائه في ذلك، دون أن نعتبر ذلك نشاطاً سياسياً لنخرج منها بحكم عام مطلق ينطبق على جميع النساء في جميع العصور والأماكن في النشاط السياسي.
وأم سلمة بعد ذلك لم يُعرَف عنها أنها شاركت في النشاط السياسيّ مساوية للرجال على قدم سواء، وكذلك سائر النساء لم يُعرف عنهن هذه المشاركة المساوية للرجال في المجتمع المسلم. فهذه حادثة تكاد تكون فريدة لا تصلح لإطلاق حكم عام.
وحين أنزل الله سبحانه وتعالى على عبده ورسول صلى الله عليه وسلم قوله:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب: 28- 29 ].
لم يكن الأمر أن نساء صلى الله عليه وسلم يتطلّعن إلى الزينة والحليّ والمتع الدنيوية، كما هو حال نساء الملوك والرؤساء حسب ما ذكر بعضهم. لقد كنّ يدركن وهن في مدرسة النبوة أن الإسلام نهج آخر، ولكن حياة النبيّ r كان فيها شدة وتقشف وزهد لم يكن في سائر بيوت المؤمنين، فأردن المساواة مع مستوى غيرهنّ من المؤمنات، لا مستوى الملوك والرؤساء.
وعندما ندرس هذه الآيات وما يتعلّق بنساء النبيّ r ، فإنما ندرسه ليس من منطلق الرغبات الدنيوية الظاهرة في حياة الملوك، وإنما ندرسه منطلقين من القاعدة الرئيسة التي نصّ عليها القرآن الكريم من أنهنّ أُمهات المؤمنين، لهن هذه الحرمة والمنزلة العظيمة. فجاءت هذه الآيات الكريمة لتذكّر المسلمين ونساء النبيّ r والنساء المؤمنات بعامة أن هناك نهجين مختلفين للحياة في ميزان الإسلام: نهج الدار الآخرة وما يشمله من قواعد وأسس ونظام ، ونهج الدنيا وما يموج فيه من أهواء وشهوات. نهجان مختلفان:
نهجان قد ميّز الرحمن بينهما … …
نهج الضلال ونهج الحقّ والرشَدِ
لا يجمع الله نهج المؤمنين على … …
نهج الفساد ولا حقّاً على فَنَدِ(55/222)
ولقد وَعَت أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- هذا التذكير، فاخترْن الله ورسوله والدار الآخرة، ليكُنّ بذلك القدوة للنساء المؤمنات أبد الدهر. ولا يتعارض هذا مع بقاء الطباع الخاصّة بالنساء، الطباع التي فُطرن عليها يهذّبها الإسلام ويصونها من الانحراف.
ولقد خلق الله المرأة لتكون امرأةً، وخلق الرجل ليكون رجلاً، وجعل سبحانه وتعالى بحكمته تكويناً للمرأة في جسمها ونفسيّتها، وجعل للرجل تكويناً متميزاً في جسمه ونفسيّته، ومازال العلم يكتشف الفوارق التي تظهر بين الرجال والنساء. وعلى ضوء ذلك، جعل الله للرجل مسؤوليات وواجباتٍ وحقوقاً، وللمرأة مسؤوليات وواجبات وحقوقاً، لتكون المرأة شريكة للرجل لا مساويةً له، حتى يتكامل العمل في المجتمع الإسلامي، حين يوفي كلٌّ منهما بمسؤولياته، وقد عرف كلٌّ منهما حدوده كما بيّنها الله لهم جميعاً.
وهناك حقوق مشتركة بين الرجل والمرأة. فالبيت المسلم هو ميدان التعاون في ظلال المودّة والسكن والرحمة، دون أن يتحوّل الرجل إِلى امرأة أو المرأة إلى رجل. ومن حق المرأة أن تتعلم لأنَّ طلب العلم فريضة على كل مسلم، رجلاً كان أو امرأة ، " طلب العلم فريضة على كل مسلم"، (1) ومن حقّها وواجبها أن تكون مدرِّسة للنساء، وطبيبة للنساء، وفي كل نشاط مارسته النساء المؤمنات في مجتمعات يحكمها منهاج الله وكلمة الله فيها هي العليا، دون أن يتشبّهْن بالرجال:
فعن ابن عباس -رضي عنه- عن الرسو صلى الله عليه وسلم قال: "لعنَ الله المتشبّهات من النساء بالرجال، والمتشبّهين من الرجال بالنساء. "(2)
وعن عائشة -رضي الله عنها- عن الرسو صلى الله عليه وسلم قال: " لعنَ الله الرَّجُلةَ من النساء " (3) .
وأمثلة كثيرة لا مجال لحصرها هنا تبيّن أن للإسلام نهجاً مختلفاً عن نهج الاشتراكية والعلمانية والديمقراطية، وتبيّن بالنصوص والتطبيق كما أسلفنا أن المرأة ليست مساوية للرجل في النشاط السياسي في الإسلام، إلا إذا نزعنا إلى نهج آخر أخذت تدوّي به الدنيا، وأخذنا نبحث عن مسوّغات له في دين الله .
ومن أهم ما أمر به الإسلامُ المرأة متميّزاً بذلك من غيره طاعتها لزوجها، حتى قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :
) لو كنتُ آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولا تؤدّي المرأة حقَّ الله -عزّ وجلَّ- عليها كلَّه حتى تؤدّي حقَّ زوجها عليها كله ، ...) (4)إلى آخر الحديث.
فعندما ندرس المرأة وحقوقها ومسؤولياتها في الإسلام فيجب أن ننطلق من حماية الأسرة ورعاية الأطفال وتربيتهم، فالأسرة والبيت المسلم هو ركن المجتمع الإسلامي وأساسه، وهو المدرسة الأولى التي تبني للأمة أجيالها، لا تتركهم للخادمات وغيرهن.
في الإسلام لابد من عرض التصوّر الكامل المترابط لنشاط المرأة، دون أن نأخذ جُزْءاً وندع أجزاءً، ونركّز على أمر لم يركّز عليه الإسلام، ولم يبرزه لا في نصوصه ولا في ميدان الممارسة. فالحياة الإسلامية متكاملة مترابطة في نهج الإسلام، لا تتناثر قطعاً معزولة بعضها عن بعض.
ولا يمنع شيء أن يخرج من بين النساء المؤمنات عالمات مبدعات شاعرات، مفتيات موهوبات. ولكن هذا كله ليس هو الذي يحدّد دور المرأة في الإسلام، فالذي يحدّده شرع الله بنصوصه الواضحة دون تأويل وبالممارسة الممتدّة الواضحة. والمرأة حين تكون عالمة أو فقيهة أو أديبة، فهي أحرى أن تصبح أكثر تمسّكاً بقوله سبحانه وتعالى:
(.... فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله...) [النساء: 34]
ومما يثير العجب حقّاً أن الرجل الشيوعي جوربا تشوف، أدرك خطورة غياب المرأة عن بيتها وواجباتها فيه، واجباتها التي ليس لها بديل. فلنستمع إلى ما يقوله:
" ... ولكن في غمرة مشكلاتنا اليوميّة الصعبة كدنا ننسى حقوق المرأة ومتطلباتها المتميّزة المختلفة بدورها أماً وربّة أسرة، كما كدنا ننسى وظيفتها التي لا بديل عنها مربّية للأطفال" .
ويتابع فيقول: " ... فلم يعد لدى المرأة العاملة في البناء والإنتاج وقطاع الخدمات، وحقل العلم والإبداع، ما يكفي من الوقت للاهتمام بشؤون الحياة اليومية، كإدارة المنزل وتربية الأطفال، وحتى مجرّد الراحة المنزليّة. وقد تبيّن أن الكثير من المشكلات في سلوكية الفتيان والشباب، وفي قضايا خلقية واجتماعية وتربويّة وحتى إنتاجية، إنما يتعلّق بضعف الروابط الأسرية والتهاون بالواجبات العائلية... "(5)(55/223)
في دراستهم للمجتمع وللصناعة والإنتاج، انطلقوا كما نرى، ولو متأخرين، من البيت، من الأسرة، من دور المرأة في البيت، الدور الذي لا بديل له. ونحن المسلمين، وقد فصّل لنا الإسلام نظام حياتنا منطلقاً من تحديد مسؤوليات الفرد، الرجل والمرأة، ثم البيت والأسرة- تركنا ذلك وقفزنا لنبحث في حق المرأة أن تكون وزيرة أو عضواً في البرلمان أو رئيسة دولة، أو رئيسة شركة، ونضع من أَجل ذلك قانوناً عاماً مطلقاً دون قيود " :الإسلام لم يفرّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية!" وحسبُنا تطبيق الصحابة والخلفاء الراشدين، فهل كانت المرأة مساوية للرجل في الحقوق السياسية؟! أم أن الصحابة والخلفاء الراشدين أخطؤوا ولم يدركوا هذه الحقوق فظلموا المرأة وحرموها من حقوقها؟!
لا نقول: إِنّ المرأة عامة، أو أن النساء كلهن لا يصلحن للمهمات الكبيرة بحكم كونهنّ نساء. لا نقول هذا. ولكن نقول: إن الله الذي خلق الرجل والمرأة حدّد مسؤوليات الرجل والمرأة، ومارس المسلمون ذلك في عهد النبيّ r، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وفي عصور كثيرة أخرى.
وقد يكون بعض النساء أكبر موهبة أو طاقة من بعض الرجال، فهل هذا يعني أن تنزل المرأة معتركاً مختلفاً فيه أجواء كثيرة، وتترك قواعد الإسلام تأسّياً بنساء غير مؤمنات، أو مجتمعات غير ملتزمة بالإسلام.
وغفر الله لمن قال، كما نشرته إحدى الصحف: " إنّ الرسو صلى الله عليه وسلم لو كان يعلم أنه سيظهر بين النساء أمثال جولدا مائير، أنديرا غاندي، تاتشر، ما قال حديثه الشريف: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) . فالمؤسف أنَّ من الناس من يعتبر أنَّ هؤلاء النساء أفلح بهنّ قومهن. عجباً كل العجب! هل أصبح الكفر وزينة الدنيا ومتاعها هو ميزان الفلاح! وأين قوله سبحانه وتعالى:
(وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [ الزخرف : 33-35] نِعْمَ البيت الواسع والسرر المريحة للرجل الصالح. ونعمت القوّة والسلاح والصناعة للمؤمنين.
إننا نعتقد أنه لا يصح أن نستشهد بمجتمعات غير ملتزمة بالإسلام لنخرج بقواعد شرعية في الإسلام.
أما حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم (ما أفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) ، فالحديث يرويه أحمد بن حنبل وأبو داود وابن ماجه والترمذي. ويأتي الحديث بألفاظ مختلفة ولكنها تجمع على المعنى والنص. وإنّ مناسبة الحديث ونصّ الحديث باللغة العربيّة يفيد العموم ولا يفيد الخصوص. ولا يعجز الرسو صلى الله عليه وسلم أن يخصّ ذلك بأهل فارس لو أراد التخصيص. ولكن كلمة قوم نكرة تفيد العموم، وامرأة نكرة تفيد العموم، فلا حاجة لنا إلى تأويل الحديث بما لا تحتمل اللغة، وربما لا مصلحة لنا في هذا التأويل.
وبما أنَّ المرأة مطالبة بعبادة الله وإقامة دينه، فإنها كذلك مكلفة مثلها مثل الرجل بتقويم المجتمع وإصلاحه! ولكنّ الله سبحانه وتعالى جعل للرجل تكاليف في ذلك ليست للمرأة، وجعل للمرأة تكاليف ليست للرجل. وذلك حتى في أركان العبادة ـ في الشعائر ـ فصلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد، وصلاة الرجل في المسجد خير من صلاته في البيت. والجهاد فرض على الرجال في ميدان القتال، وليس فرضاً على المرأة، وجهاد المرأة هو في بيتها ورعايته ورعاية زوجها:
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ امرأة جاءت إلى صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ! أنا وافدة النساء إليك! هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن يصيبوا أُجروا وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون. ونحن النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أبلغي من لقيتِ من النساء أنَّ طاعة الزوج واعترافاً بحقه يعدل ذلك، وقليل منكنّ يفعله) .
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: " كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار ليسقين الماء ويداوين الجرحى " (6).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته "وفيه :" ... والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم ) . (7)
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، أعلى النساء جهاد؟! قال: ( نعم ! عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة).(8)
وبصورة عامة فإن الإسلام جعل الميدان الأول للمرأة البيت بنص الآيات والأحاديث والممارسة والتطبيق، وجعل ميدان الرجل الأول خارج البيت، ويبقى للمرأة دور خارج البيت غير مساوٍ للرجل، وللرجل دور في البيت غير مساوٍ لدور المرأة.
ولا بد أن نؤكد أن للإسلام نهجاً متميّزاً غير نهج العلمانية والديمقراطية ومناهج الغرب في عمل المرأة والرجل. نهجان -كما ذكرنا- مختلفان.(55/224)
نحن نمرّ بمرحلة فيها عواصف غربية وأمواج تكاد تكتسح. ما بالنا نريد أن نخرج المرأة المسلمة من مكانها الكريم الذي وضعها الإسلام فيه، لنجاري الغرب في ديمقراطيته وعلمانيته.؟! ونكاد نخجل من اتهام العلمانية لنا وادعائها بأن الإسلام حجر على المرأة. إن أفضل ردّ عليهم لا يكون بأن ندفع المرأة المسلمة إلى بعض مظاهر الغرب لندفع عن أنفسنا ادّعاءَهم . إن أفضل ردّ أن نقول لهم إن الإسلام أكرم المرأة وأعزها وحفظ لها شرفها وطهرها، وأنتم أضعتم المرأة وأضعتم كرامتها، ثمَّ نعرض الإسلامَ كما هو، وكما أُنزل على صلى الله عليه وسلم ، وكما مارسه المسلمون في عهد النبوة والخلفاء الراشدين.
المرأة المسلمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في أجواء النساء، حيث لا يستطع الرجل أن ينشط هناك إلا في أجواء الاختلاط التي لم يعرفها الإسلام لا في نصوصه ولا في ممارساته. وللمرأة المسلمة أنشطة كثيرة تقوم بها دون أن تلج في أجواء لم يصنعها الإسلام. المنافقات يقمن بإفساد المجتمع مع المنافقين جنباً إلى جنب سواء بسواء كما نرى في واقع البشرية اليوم. أما المؤمنات فيصلحن في المجتمع بالدور الذي بيّنه الله لهنّ، غير مساويات للرجال ولا ملاصقات لهن. دور بيّنه الله للنساء وللرجال، لا نجده في الديمقراطية، ولا في العلمانية، ولا في تاريخ الغرب كله.
نعم! إن أول من صدّق رسول ا صلى الله عليه وسلم كانت زوجه خديجة رضي الله عنها. ولكنها بتصديقها لرسول ا صلى الله عليه وسلم التزمت حدودها في رسالته، فلم تنطلق خديجة -رضي الله عنها- في أجواء النشاط السياسي أو ميادين القتال أو مجالس الرجال. وكذلك كانت سميّة أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها، وكانت قبل استشهادها ملتزمة حدود الإسلام. والنساء اللواتي قاتلن في أُحد أو حنين، كان ذلك في لحظات طارئة عصيبة لا تمثل القاعدة الدائمة الرئيسة للمرأة في الإسلام، كما بيناها قبل قليل، فلم نَرَهنّ بعد ذلك في مجالس الرجال أو ميادين السياسة سواء بسواء كالرجال، وإنما كنّ أول من التزمن حدودهن التي بينها لهنّ الله ورسول صلى الله عليه وسلم .
المرأة التي قامت تردّ على عمر -رضي الله عنه- في المسجد، كانت في مكان تعبد الله فيه وتتعلم. وهو جو يختلف عن المجالس النيابية اليوم، وكانت في مجتمع يختلف عن مجتمعاتنا اليوم. وهذه المرأة نفسها لو عُرِض عليها الأجواء المعاصرة لأبت المشاركة فيها، وكثير من المسلمات اليوم يأبين المشاركة في الأجواء الحديثة.
وأتساءل عن السبب الذي يدعو بعضهم إلى الحرص على إدخال المرأة المجالس النيابية العصرية! لقد أصبح لدينا تجربة غنيّة في المجالس النيابية تزيد عن القرن، فلننظر ماذا قدّمت للأمة المسلمة، هل ساعدت على جمعها أم على تمزيقها؟ وهل ساهمت في نصر أم ساهمت في هزائم؟ وهل هذه المجالس التي نريد أن نقحم المرأة المسلمة فيها هي صناعة الإسلام وبناؤه ، أم أنها مثل أمور أخرى غيرها استوردناها من الغرب مع الحداثة والشعر المتفلّت المنثور وغيره من بضاعة الديمقراطية والعلمانية؟!
وبصورة عامة، فإنّ هذا الموضوع: مساواة المرأة بالرجل كما يقول بعضهم: " لقد قرّر الإسلام مساواة المرأة بالرجل"! هكذا في تعميم شامل، شاع هذا الشعار في العالم الإسلامي، وأصبح له جنود ودعاة ودول تدعو إِليه. وكذلك: "مساواة المرأة بالرجل في ممارسة الحقوق السياسية"، هذا كله موضوع طُرق حديثاً مع تسلل الأفكار الغربية إلى المجتمعات الإسلامية، مع تسلل الديمقراطية والعلمانية، كما تسلّلت قبل ذلك الاشتراكية.
هنالك عوامل كثيرة يجب أن تُدرس وتُراعى عند دراسة نزول المرأة إلى ميدان العمل السياسي الذي يفرض الاختلاط في أجواء قد لا يحكمها الإسلام من ناحية، ولا تحكمها طبيعة العمل نفسه. والاختلاط مهما وضعنا له من ضوابط، فقد أثبتت التجربة الطويلة في الغرب وفي الشرق إِلى انفلات الأمور، وإلى التورط في علاقات غير كريمة.
وكذلك فنحن لسنا بحاجة لنزول المرأة إلى الميادين، ففي الرجال عندنا فائض، والرجال بحاجة إلى أن تُدرس حقوقهم السياسية التي منحهم إياها الإسلام.
إن نزول المرأة إلى الميدان السياسي ذو مزالق خطيرة، فعندما يُطلق هذا ويُباح، فهل معظم النساء اللواتي سيمارسن هذا العمل نساء ملتزمات بقواعد الإِسلام كلّه، و بالحجاب واللباس عامة؟
إنَّ إطلاق هذا الأمر ونحن لم نَبْنِ الرجل ولا المرأة، والتفلّت في مجتمعاتنا واضح جليّ ومتزايد في الرجال والنساء، دون أن ينفي هذا وجود بعض النساء الملتزمات والرجال الملتزمين، إنَّ إطلاق هذا الأمر قد يقود إلى فتنة يصعب السيطرة عليها.
وإني لأتساءل: لأيّ مجتمع تصدر مثل هذه الآراء؟! لأيّ رجل وأي امرأة؟ هل المجالس النيابية الحاليّة تصلح ميداناً للمرأة المسلمة لتمارس النشاط السياسي؟ أين هو المجتمع الذي يطبّق شرع الله كاملاً، لتُطلق فيه مثل هذه الأمور؟ وهل هذه المجالس مجالس يسودها شرع الله؟!(55/225)
وميادين العمل المباح للنساء واسعة جداً وكافية لهن، وكلها منضبطة بقواعد الإسلام مثل المدرسات والطبيبات، وكل عمل ليس فيه باب من أبواب الفتنة أو الاختلاط، مع توافر جميع الشروط الشرعية الأخرى عند مزاولة هذه الأنشطة.
لا بدّ من الاستفادة مما حلَّ بأقوام آخرين حين انطلقت المرأة في المجتمع في هذا الميدان أو ذاك. وإذا نزلت ميدان السياسة فما الذي يمنعها أن تنزل إلى المصانع وسائر الميادين الأخرى، كما نراها في العالم الغربي؟!
وكذلك أتساءل: لماذا هذه الضجّة الكبيرة عن المرأة وحقوقها؟ ألا تنظرون إلى الرجل وحقوقه؟ في عالمنا اليوم فَقَدَ كثير من الرجال حقوقهم، فلماذا تكون الضجّة على حقوق المرأة وحدها، ففي ذلك ظلم للمرأة وللرجل.
والإسلام في نهجه جعل الحقوق والواجبات متوازنة في الحياة كلها من خلال منهاج رباني أصدق من سائر المناهج وأوفى وأعدل.
وأخيراً أقول: قبل أن نطلق مثل هذه الآراء اليوم، فلنبن الرجل ولنبن المرأة ولنبن المجتمع المسلم.
فلنبنِ الأمة، فلنبنِ الرجل والمرأة، والبيت المسلم، والمجتمع المسلم الملتزم، ولنبنِ الأمة المسلمة الواحدة الملتزمة بالكتاب والسنة. حيث تكون كلمة الله هي العليا، فيكون هذا المجتمع أقدر على تحديد دور الرجل والمرأة.
إلى ذلك يجب أن تتجه الجهود متكاتفة بدلاً من أن تتمزَّق في قضايا جزئية لا تساعد إلا على تمزيق الأمة: أيها العلماء والفقهاء والدعاة والمسلمون، أقيموا الإسلام حقّ الإقامة أولاً في نفوسكم رجالاً ونساءً، وأقيموه في الأرض، كما يأمركم الله سبحانه وتعالى، وبلّغوه الناس وتعهّدوهم عليه، ثمَّ انظروا في حقوق المرأة والرجل تجدوها بيّنة جليّة لا تحتاج إلى فتوى، كما وجدها أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم والمؤمنون المتقون في العصور كلِّها!
(1)عن أنس وغيره من الصحابة . صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم: 3913 أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، صحيح الجامع الصغير وزيادته 5100 .
(2)صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم 5096 ، المشكاة : رقم : 4470 .
(3)عن عائشة رضي الله عنها، وعن عبد الله بن أوفى، ومعاذ بن جبل، وأنس بن مالك، رضي الله عنهم، في روايات متعددة كلها تتفق مع النصّ المذكور. أخرجه الإمام أحمد: الفتح الرباني : 16/227 وأخرجه ابن ماجه وابن حبان. وفي صحيح الجامع الصغير وزيادته : رقم : 5295 .
(4)جورباتشوف: البيروسترويكا والتفكير الجديد لبلادنا والعالم أجمع ، ص : 166 ترجمة أحمد شومان .
(5)مسلم : 32/47/1800 ، وأبوداود : 9/34/2531 .
(6)البخاري : 11/11/893 مسلم : 33/5/1829 ، الترمذي : 24/27/1705 .
(7)أحمد وابن ماجة.
(8)أبوداود : 34/6/4607 ، الترمذي 42/16/2676 ، ابن ماجة : المقدمة 35 .
============(55/226)
(55/227)
إحلال القيم.... الانتخابات نموذجاً
د. إبراهيم الناصر * 17/4/1426
25/05/2005
بسقوط الفكر الشيوعي الذي مثل عقيدة وفكراً (أيديولوجية) لعقود من الزمان، وما تلاه أو سبقه من سقوط منظومات فكرية استظلت بمظلة اليسار تكون الساحة الفكرية الكونية خلصت إلى منهجين أو عقيدتين متقابلتين هما الليبرالية الغربية والإسلام، قدر هذين المنهجين أنهما ضدان لا يتعايشان في مكان واحد، من حيث أن كلا منهما يمثل منهجاً للحياة يشمل تصوراً شاملاً للكون والحياة والإنسان، مبايناً للآخر تماماً، فهما يتنافسان في أن يحقق كلٌ منهما عولمة لمنهجه وإحلالاً لقيمه لدى الآخر والآخرين، تحقيقاً لقول الحق تبارك وتعالى في سورة المائدة عندما ذكر اليهود والتوراة ثم النصارى والإنجيل ثم المسلمين والقرآن المهيمن، قال بعد ذلك: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم), ولذا كان من هدي الإسلام مخالفة المشركين عموماً وأهل الكتاب خصوصاً، وعدم التشبّه بهم فيما هو من خصائصهم تحقيقاً للتوحيد وإبطالاً للتنديد.
والنفس البشرية أُلهمت الفجور، كما أُلهمت التقوى أي وجود قابلية النفس البشرية لهما واستعدادها لقبولهما, كما قال تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) وقال عن الإنسان: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) فالإلهام والهداية هما القابلية والاستعداد لدى الإنسان بسلوك طريق الفجور والكفر من خلال الالتزام بالليبرالية أو طريق التقوى والشكر بالتزام طريق الإسلام.
وكون الليبرالية الغربية تتضمن بعض الحقوق الطبيعية الإنسانية مصحوبةً بتلبية رغبات الإنسان وشهواته وجشعه وأنانيته من خلال مبادئها في الحرية والرأسمالية والفردية والحقوق المنفلتة من قيود الشرائع السماوية، يوجد جاذبية إليها ويمد في عمرها؛ لأن الإنسان أُلهم الفجور كما أُلهم التقوى، ومن الفجور التلبّس بقيم الليبرالية وشهواتها، والإنسان إذا لم يحمل الإسلام سيحمل الليبرالية أو غيرها كما قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)، وحكم عليه بالخسران إذا لم يؤمن بالله ويلتزم هديه كما قال تعالى: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) ووصفه بأوصاف السلب والنقص كما في آخر سورة الأحزاب عند عرض الأمانة قال:(وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً)، وقال تعالى (إن الإنسان خلق هلوعاًَ إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين) وغير ذلك من الأوصاف السلبية, وهذه صفات تتوافق مع مبادئ وأهواء الليبرالية الغربية وعموم المناهج الوضعية القائمة على محادّة الله في منهجه والمتعدّية لحدود الله في حكمه وشرعه.
والإنسان بخصاله تلك التي لم يهذبها الإسلام سيجد رغباته بمبادئ الليبرالية الغربية وبيئتها وأهوائها وشهواتها, فهناك إنسان ليبرالي وإنسان مسلم، ولا يوجد مسلم ليبرالي؛ لأن هذا جمع بين الضدين, وهناك منهجان ونظامان للحياة منهج الليبرالية ونظامها، ومنهج الإسلام ونظامه، ولا يوجد منهج ليبرالي إسلامي يكون الإسلام فيه عقائد وعبادات والليبرالية نظام حياة، إلا في أذهان الملبسين الحق بالباطل, المحرّفين للشرائع, المفتونين بحضارة الغرب, الجاهلين بالإسلام وطريقته.
وترويج أن الليبرالية هي بيئة وآليات لا تتعارض مع الإسلام فيه تزوير للحقائق أو جهل بها، وعندما كان أهل الإسلام في قوة إيمان وعزة شأن، كانوا ينشرون مبادئ التقوى والإيمان وقيم الدين في أنحاء المعمورة، وحققوا عولمة لنموذجهم القيمي في مجتمعات كثيرة, وعندما حصل التراجع للمسلمين وانحسر المد الإسلامي بسبب ضعف إيمان المسلمين ونقص دينهم تمكن منهم النموذج الغربي, وفرض العلمنة في معظم مجتمعات المسلمين بقوة السلاح أولاً ثم بنفوذ الفكر، وسعى إلى إحلال قيمه مستفيداً من حالة ضعف المسلمين وانبهار بعضهم به وإعراضهم عن تحذير نبيهم لهم في ذلك عندما قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى قال: فمن), ولو أخذنا الانتخابات بنسختها الغربية كنموذج باعتبارها آلية للديمقراطية الغربية ورمزاً لقيمة غربية, فلن تجد تعليلاً لهذه الدعوة إلى ممارستها بصيغتها تلك في المجتمعات الإسلامية من قبل الغرب - ساسة ومفكرين- إلا هذا التفسير. صحيح أن الساسة الغربيين تحكمهم المصالح على حساب القيم إذا حصل التعارض بينهما، لكن يبقى مبدأ عولمة النموذج وإحلال القيم ثابتاً في مبادئ ودساتير هذه الحضارة؛ فلا غرابة أن يتضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير ومشروع الشراكة الشرق أوسطية منظومة من القيم الغربية في المسألة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأن يهتم الرئيس بوش رئيس الإمبراطورية الأمريكية بانتخابات جزئية في بلد من دول العالم الثالث (الانتخابات البلدية في السعودية)؛ لأنه يمثل حضارة لها رسالة في دعم قيمها كالحرية والديمقراطية، ولو بصياغة لا تتعارض مع أهواء الهيمنة والسلب والنهب للآخرين.(55/228)
هل نستطيع أن نصحح واقعنا ونصلح مجتمعنا بتأسيس قيمي محلي وبفعل ثقافي إسلامي؟ وعندما تقعد بنا حالة الجمود التي تشتملنا وضعف الإبداع الذي يشلّ عقولنا, هل نستفيد من إبداعات الآخرين وطرائقهم بمنهج راشد دون استنساخ، أي بأسلمة النموذج حسب مصطلحات البعض.
إن سُلَّم القيم- بضم السين وفتح اللام المشددة - المعروف لدى علماء الاجتماع يبين حال المجتمع من خلال أفراده عندما تبدأ بعض السلوكيات كظواهر معزولة ثم تنتقل إلى اتجاهات مشهودة ثم تتحول إلى قيم حاكمة، وعند هذه المرحلة يتطبع المجتمع بطبيعة تلك القيم الحاكمة لسلوكه، ولهذا فان المصلحين الواعين لهذه الحقائق يسعون دائماً إلى منع الظواهر والاتجاهات السلبية التي تنشأ في المجتمع من مواصلة تسلّق السلم قبل أن تصبح قيماً، فيسعون إلى ترشيدها وتهذيبها قبل وصولها رأس هرم القيم؛ فيصعب الاقتلاع والتغيير ويحصل التحوّل والتبديل؛ ولذا يصح أن نعدّ صراع التحوّلات في المجتمع أنه صراع قيم, أي إحلال قيم محل أخرى, وهذا الصراع ليس دائماً سلبياً لأنه ليس كل قيمة في المجتمع هي قيمة إيجابية، فالاستبداد في ميادينه المختلفة والفساد المالي والإداري، وبعض قيم القبيلة والعشيرة التي تحكم كثيراً تصرفات الحاكم والمحكوم وبعض القيم الاجتماعية هي قيم حاكمة سلبية، والإصلاح يكون في تغييرها أو تهذيبها كما هي طريقة الإسلام عندما نزل على العرب فغيَّر فيهم قيماً وهذّب أخرى، وهذه مسؤولية المصلحين والمجدّدين من الدعاة والعلماء والمثقفين الراشدين، أما صراع القيم بين دعاة الإسلام ودعاة الليبرالية (العلمانية) فهو في الغالب صراعٌ بين قيم دينية وقيم لا دينية، وفي أحسن الأحوال في المجتمعات المتدينة مثل مجتمعنا هو صراع يبدأ حول الذرائع والمقدمات؛ ولذلك تكثر الدعوة إلى إلغاء باب سد الذرائع، وتتوسع الدعوة إلى باب فتح الذرائع، وهما أصلان محكمان في الشريعة، لكن هاتين الدعوتين في هذين الاتجاهين في هذه المرحلة الاستثنائية تدلان على جهة مؤشر التحوّلات عند أصحابها، والمقصود أن نحذر من إحلال قيم غربية في مجتمعنا على حين غرة أو غفلة أو حسن ظن بمن يسعى إلى ذلك، وليكن لدينا من الفقه بأحوال الواقع ما يجعلنا نميّز بين ما يمكن قبوله وما يجب رفضه، وما يكون مزيجاً من الأمرين فيحتاج إلى ترشيد، والانتخابات هي من النوع الثالث، وقد ذكرت ذلك بأكثر من هذا في ورقة سابقة، ومسؤولية علماء الشريعة ودعاتها وأهل الفكر والنظر في الأمة من المهتمين بالشأن العام يكون في طرح رؤية رشيدة للانتخابات منطلقة من النظر الشرعي أدلة ومقاصد، ومن المواءمة الواقعية، مرونة وملائمة, خاصة إذا كانت البلاد سائرة إلى توسيع هذه الدائرة في ميادين أخرى.
============(55/229)
(55/230)
مذاهب الناس في الانتخابات
د. إبراهيم الناصر 10/2/1426
20/03/2005
من المُتّفق عليه أن هناك قواسم مشتركة بين البشر تجعلهم يتوافقون على كثير من مُخرجات العقول، هذه المُخرجات عبارة عن قيم مدنيّة معروفة في كل الأمم والمِلل وهي جزء من المشترك الإنساني.
والتجارب البشرية حال نضوجها هي مصدر مهم لتطوير حياة الإنسان، خاصة إذا كانت فيما تركه الدين للعقل البشري المتجرّد، وهو العفو حسب مصطلح الشّرع، وإنما جاءت الشرائع بضبطها وتهذيبها من الانحراف.
والاستفتاءات (الانتخابات) في أصلها دون ما طرأ عليها أو علق بها من ثقافات الممارسين؛ لتقرير ما يُجمع عليه الناس أو أغلبهم هي من هذا النوع، وفي حياة العرب القديمة نماذج لهذا الأصل وفي سيرة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- وخلفائه الراشدين كذلك، ففي بيعة العقبة الثانية طلب عليه الصلاة والسلام من الأنصار ترشيح نقيب لكل عشيرة، وبعد مقتل الفاروق -رضي الله عنه- أجرى عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- استفتاء كان نتيجته تولي عثمان بن عفان خلافة المسلمين، وعندما يتعذر الإجماع في تقرير الحكم الشرعي الفقهي العام يكون الاعتبار لاجتهاد الأغلبية؛ ففي المجامع الفقهيّة اليوم والهيئات العلمية الشرعيّة يصدر الموقف الشرعي أو الفتوى العامة برأي الأغلبيّة، حتى تقرير المذهب في المدارس الفقهيّة المشهورة يتم في كثير من الأحيان بالرأي الغالب أي برأي الأغلبية، فمثلا المذهب لدى الحنابلة المتوسطين( المرحلة الوسيطة للمذهب) هو ما اتفق عليه الشيخان أبو البركات المجد بن تيمية صاحب المحرّر، وأبو محمد ابن قدامة صاحب المغني، فإن اختلفا فالمذهب من يوافقه القاضي أبو يعلى الحنبلي، والمتأخرون منهم يقرّرون المذهب فيما اتفق عليه المرداوي في التنقيح، والفتوحي في المنتهى، والحجاوي في الإقناع فإن اختلفوا، فما اتفق عليه اثنان منهم، وقول الجمهور في كتب الخلاف العالي الذي يترجح على غيره في الغالب عند أهل العلم هو رأي ثلاثة من الأئمة الأربعة للمذاهب الفقهية السائدة، وفي جميع هذه الأمثلة نلحظ أن هناك تقارباً بين المستفتَين (بفتح التاء) من حيث العدالة والعلم، أي الصفات المعتبرة لتحقيق مقصد الاستفتاء، وهو أشبه ما يكون بضابط المشروعيّة للاستفتاء.
وفي عالمنا المعاصر برزت الانتخابات كعنوان على الديمقراطية الغربيّة، ورمز لآلية تحقيقها، والديمقراطية الغربية هي أحدث ما توصّلت إليه مسيرة الحداثة الغربية بعد صراعات وحروب وثورات أنهت عصور الاستبداد وحكومات الإقطاع، وكان مما دعم الاستبداد في تاريخ أوروبا الكنائس النصرانية التي كان عليها قساوسة يدينون بالنصرانية المحرّفة؛ إذ دعموا الظلم والاستبداد، ووقفوا في وجه العلم والتطور حتى انتهت المعركة بهزيمة الاستبداد، ومن يقف معه وهي الكنيسة الممثلة للدين المحرّف؛ فقامت الحداثة الغربيّة المعاصرة على أساس استبعاد الدين وقيمه وثوابته من الحياة، وهذا موقف أصلي غير قابل للإصلاح تشكّل موقف هذه الحضارة على أساسه، فصارت حضارة علمانية تستبعد الدين - أي دين - في أصل تكوينها وتستبعده من كل فعالياتها، أو على الأقل لا تأبه به، ومبدأ آخر قامت على أساسه هذه الحداثة الغربية كرد فعل للاستبداد هو الحرية، وانبثق من هذا المبدأ قضية الحقوق (حقوق الإنسان)، وقضية المساواة، وعدم التمييز الذي يتعارض في كثير من الأحيان مع مبدأ العدل الذي قامت عليه الأديان السماوية، وكذلك قضية الديمقراطية وآلياتها، كل ذلك في ظل فكرة العلمانية المستبعدة لاعتبار قيم الدين في كل هذه المبادئ والقضايا.
ولذا فإن الأسس الفكرية التي قامت عليها هذه الحضارة، وما انبثق عن هذه الأسس من قيم شكّلت مذهباً وشريعةً (إيديولوجية) مخالفة لشريعة الإسلام ومذهبه، وإقامة الدين وتحقيق التوحيد هو في مباينة هذه الحضارة فيما هو من مكوّنات وقيم هذه الإيديولوجية، والديمقراطية هي إحدى منجزات هذه الحضارة المادّية اللادينيّة، وهي عبارة عن فلسفة وآليات وممارسات، فلسفتها تقوم على أساس حرية الناس في اختيار النظام العام الذي يحكمهم، والدستور الذي ينظمهم والقانون الذي يقضي بينهم، وهو ما يُسمّى دستورياً بسيادة الشعب، الذي هو الثابت، وما عداه متغير مناقضاً بذلك مبدأ سيادة الشريعة في الإسلام، أمّا آليّة الديمقراطيّة فهي الانتخابات بصيغتها الغربية التي لا تميز بين بَرّ وفاجر، ولا بين عدل وفاسق ترشُّحاً وترشيحاً، مخالفة طريقة الإسلام في اشتراط العدالة والكفاية في العمال والولاة، وأما الممارسة فهي قائمة على مبدأ حرية المرشَّح، والمترشِّح في ركوب وسائل عديدة ولو كانت مخالفة لتحقيق الفوز، هذه الديمقراطية بمكوناتها الثلاثة عُولمت إلى معظم بلدان العالم بسبب هيمنة الحضارة المنتجة لها، وبسبب أن البديل في الواقع لها هو الاستبداد الظالم والإقطاعية السياسية، فهي أخفّ الضررين عند كثير من أبناء الشعوب المحكومة بأنظمة استبدادية.
والناس في الموقف من الديمقراطية على مذاهب أربعة:(55/231)
الأول:القبول المطلق لها؛ فلسفةً وآلياتٍ وممارسةً وهو موقف تيارات الإصلاح التغريبية في عالمنا الإسلامي وجميع الأحزاب والتيارات العلمانية.
الثاني:رفض الديمقراطية فلسفةً وقبولها آليةً وممارسةً، وعلى هذا الموقف معظم التيارات الإسلامية السياسية، ومنها بعض المدارس المنتمية لمدرسة الإخوان المسلمين والمتأثرة بها وبعض التيارات السلفيّة.
الثالث : رفض الديمقراطية فلسفةً وآليةً وقبولها ممارسةً - بضوابط - باعتبار أنها حاجة عامة تنزل منزلة الضرورة حسب القاعدة الفقهيّة المشهورة، أي أن أصحاب هذا الموقف يمارسون هذه الآليّة لا باعتبار جوازها، وإنما باعتبار الضرر الذي يحصل بالإعراض عنها، وهو موقف وسط بين الموقف السابق والموقف اللاحق، وعلى هذا الموقف بعض مدارس التيار السلفي العلمي.
الرابع:رفض الديمقراطية فلسفة وآلية وممارسة؛ باعتبار أن هذه الفلسفة مبدأ يعطي البشر حق الله في التشريع حسب دساتير معظم البلاد الإسلامية، وأن الآلية ذريعة إلى تحقيق هذه الفلسفة، وعلى هذا الموقف بعض التيارات الدعوية خاصة المتأثرة بمدرسة سيد قطب الفكريّة.
هذه أهم المواقف التي تظهر في الساحة الفكرية السياسية للنخب الفاعلة في المجتمعات الإسلامية حول الديمقراطية؛ فلسفة وآليات وممارسة، فإذا استبعدنا الموقف الأول لظهور بطلانه، وافترضنا أن أصحاب الموقف الثاني أو جلّهم عند التحقيق سيؤول موقفهم إلى الموقف الثالث، نستطيع أن نقول بأن الموقفين الأخيرين هما الأبرز داخل التيارات الإسلامية والمدارس الدعوية، وهما موقفان اجتهاديان مقبولان تجاه الديمقراطية خاصة في المجتمعات التي لا تسود فيها الشريعة، وهكذا موقف أبرز الرموز العلمية المعاصرة؛ فالشيخ ابن باز أقرب إلى الموقف الثالث، والشيخ الألباني أقرب إلى الموقف الرابع، ولاستكمال الصورة أقول: إن الممارسة الانتخابية تجري لثلاثة أنواع من المجالس في الغالب هي:
1- المجالس النيابية (البرلمانات)، ومعظم الأدبيات التي شكلت المواقف الأربعة السابقة تتجه إلى هذا النوع من الانتخابات بالدرجة الأولى، ويمكن أن نقول عنها: إنها انتخابات عامة لشأن عام.
2- المجالس البلدية وما شاكلها، وهي انتخابات عامة لشأن متخصص.
3- الهيئات المهنية: كهيئة المهندسين وهيئة الأطباء والغرف التجارية ونحوها وهي انتخابات خاصة لشأن متخصص.
فالإشكالية الشرعية في هذه المجالس تكون بقدر ما يكون فيها من صلاحيات تشريعية يمكن أن تعارض أحكام الشريعة الإسلامية في الدرجة الأولى، وبمقدار ما يكون فيها من تنظيمات تكون ذريعة لمخالفات شرعية، أو لا يعتبر بها تحقيق مقاصد الشارع من قبل أعضاء يجهلون أحكام الشريعة، أو يتهاونون بها جاءت بهم الانتخابات بصيغتها الغربية، ولذلك فإن المجالس المسؤولة عن الشأن العام كالمجالس النيابية هي أهم هذه المجالس وأخطرها، وتقلّ هذه الأهمية كلما كانت مهمة المجلس شأناً متخصصاً، وأما الانتخابات بصيغتها الغربية فإشكاليّتها أنها قد تأتي بمن لا يتوفر فيه الحد الأدنى من شروط مَن يمثل الأمة، وصفات مَن يتولى الوظيفة، وبما تحمله من تجاوزات شرعيّة أثناء الممارسة، ويظهر هذا عندما تكون انتخابات عامة أكثر منها عندما تكون خاصة، ولذا فإن الإشكال الشرعي أكثر ما يكون ظهوراً عندما تكون انتخابات عامة لشأن عام منها عندما تكون خاصة لشأن متخصّص، وفيما يخصّ الانتخابات التي جرت في السعودية للمجالس البلدية، فهي من النوع الثاني أي انتخابات عامة لشأن متخصص، وحتى نتصور الواقع لدينا لا بد أن نعلم أن المجالس البلدية التي تجري لها انتخابات عامة في التجربة البشرية على أنواع ثلاثة:
1- مجالس بلدية مهمتها الحكم المحلي في المدينة كما في الولايات المتحدة، وهي تشبه شكلاً مجالس المناطق في نظام مجالس المناطق في السعودية.
2- مجالس بلدية يقع تحت مسؤوليتها جميع الخدمات في المدينة أو المنطقة كما هي في معظم البلدان التي تجري انتخابات بلدية.
3- مجالس بلدية مسؤوليتها نطاق مسؤولية البلديات المسؤولة عن جزء من الخدمات، وليس جميع الخدمات، وهي صورة المجالس البلدية التي تمّ انتخاب نصف أعضائها في السعودية، فإذا علمنا أننا نتكلم عن النوع الثالث من المجالس ندرك أن الأثر السلبي المترتّب على تشكيل هذه المجالس بواسطة آلية متأثرة بثقافة منتجيها سيكون أخفّ؛ لأنها محدودة الميدان وهي مجالس تُعنى بقضايا فنية خدميّة في الغالب، وهذا الكلام لا يُقلّل من التنبّه لبعض الجوانب التنظيميّة(التشريعيّة) التي ستكون من مسؤوليتها مثل: فرض الرسوم والتنظيمات المتعلقة بخدمات الترفيه للرجال والنساء، وكذلك المتعلقة بالأراضي، واحتكارها باعتبار أنها حاجة من حوائج الإنسان الأساسية، وهو المسكن، وأمثال ذلك فإن هذه مجالات يجب على المجالس ألا تخالف فيه أمراً شرعياً أو تسنّ نظاماً يكون ذريعة إلى محرّم، وينبغي على المجتمع عامة والمحتسبين خاصة مراقبة هذه المجالس والاحتساب عليها عند المخالفة
=============(55/232)
(55/233)
من أجل حِوار حضارات لصالح البشريّة
بدران بن الحسن 28/7/1425
13/09/2004
منذ نهاية الحرب العالميّة الثانيّة والإنسانيّة تتجه إلى وحدة المصير، وتشترك في القضايا الكبرى، وترتبط في علاقاتها بشكل يوحّد من همها وتطلعاتها، كما يوحّد شعورها بالمخاطر المحدقة بالإنسانيّة، وأهميّة العمل المشترك، والعيش أو التعايش المشترك بدل منطق الصّراع الذي قد يؤدّي إلى النهاية المأساويّة للجميع.
وقد تعمق هذا الوعي بشكل أكبر -على المستوى الفكريّ- عندما بدأت الكتابات تتوالى في الغرب خاصة عن طبيعة العلاقات الدوليّة التي ستحكم العالم، وخاصة بعد انهيار المعسكر الشيوعيّ، وخلوّ الساحة الدوليّة لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، ووقع العالم تحت هيمنة "وحيد القرن" وزوال الثنائيّة.
ثم إنّه بعد صدور كتابَي كلٍّ من فوكوياما "نهاية التاريخ" وهاتنجتون "صدام الحضارات" حيث بشّر فوكوياما بسيادة قيم الديمقراطيّة الليبراليّة وهيمنتها على العالم وتحوّلها إلى المصير الوحيد للإنسانيّة التي يجب أنْ تقبله، بينما تنبأ هاتنجتون بأن الصّراع في المستقبل لن يكون بين الدول الوطنيّة، ولا بين المحاور السياسيّة الأيديولوجيّة، بل بين المحاور الحضاريّة. أي بين الحضارات التي تشكل -في نظره- "الإطار الثقافيّ الأوسع للمجتمعات"، وبهذا فإنّ خطوط التماس الحضاريّ ستشهد -وقد شهدت فعلاً- صداماً دموياً مثلما حدث في البوسنة وفي الصومال وفي كوسوفا وفي مواقع أخرى ويحدث الآن في فلسطين والعراق.
ولذلك سارعت الأمم المتحدة وبعض الدول التي لا ترغب في هذا الصّدام إلى تبني مقولة "حِوار الحضارات"، وأعلنت الأمم المتحدة سنة 2002 سنة لحوار الحضارات، ثم شاع أدب الحوار بين الحضارات في مختلف الدوائر الفكريّة والسياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة، ومما زاد الأمر أهميّة تعاظُم ظاهرة العولمة واقترانها بمرحلة تاريخيّة من حياة الإنسانيّة اتسمت بمحاولة إزالة كل الحواجز في وجه القوة الأمريكيّة، مستعملةً في ذلك كلّ الأدوات السلميّة والحربيّة من أجل فرض الهيمنة على العالم وتوجيهه وفق تطلعات إدارة البيت الأبيض، وبارونات المال والأعمال، والنخبة المتواجدة في مراكز القرار والأبحاث والدراسات الاستراتيجيّة في الغرب عموماً وأمريكا بوجه خاص.
منطقان متعاكسان يحكمان حِوار الحضارات:
وبناء على ما سبق فقد كثر الحديث عن حِوار الحضارات والثقافات والأديان، مما يدل على الوعي بالصعوبات التي يواجهها الجميع؛ سواء في ذلك العالم المتطور أو العالم المتخلف.
ومن جهة أخرى فإنّ كثرة الحديث عن موضوع الحِوار بين الحضارات والثقافات يدل على الاختلالات التي تعاني منها منظومة العلاقات السائدة بين الأمم، وأنها لم تعد عادلة ونافعة، بل ولم تعد قابلة للتنفيذ والممارسة بشكل يحقّق مصالح الإنسانيّة في الأمن والسلام والتقدم، وخاصة الاختلالات التي تعاني منها منظومة القيم والثقافة الغربيّة والأمريكيّة بوجه أخص، وذلك بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
وفي هذا السياق أرى أنّ سبب تلك الاختلالات راجع في جوهره إلى منطقين متعاكسين في الاتجاه وفي المنطلق، ونظراً لهذا التعاكس بين المنطقين فإنّ الإنسانيّة مهددة في مصيرها إمّا باستمرار ~ة حالة الاحتقان، وإمّا بهيمنة الغطرسة الأمريكيّة التي ترى نفسها هي الحضارة القدوة وغيرها تخلّف وإرهاب. أما المنطقين المتعاكسين فهما: منطق التاريخ من جهة، والقاضي باتجاه البشريّة إلى وحدة المصير بفعل اطّراد تقدم البشريّة، وترابط مصالحها بعضها ببعض، وبفعل التقدم التكنولوجيّ الهائل الذي أدّى إلى تقارب المكان والزمان. ومن جهة أخرى هناك منطق الهيمنة الغربيّة على العالم، ومحاولة فرض نمط عنصريّ محدود الأفق، قاصر في رؤيته ومداه، متحيّز في قيمه، ماديّ في طموحه وتوجّهه، وصدامِيّ في تعامله. محاولة هذا النموذج بفعل ما يملكه من غلبة حضاريّة مؤقتة أنْ يفرض ثقافته ومعياره على العالم، مما يولّد رفضاً من بقية الكيانات الحضاريّة لمثل هذه الغطرسة وفرض القيم والمعايير
والمنطقان اللذان سبق ذكرهما يطرحان إشكالاً غاية في الأهميّة، وهو بدوره يقوم على قضيتين:
أولاـ إنّ وحدة المصير الإنسانيّ تفرض على كل حضارات الأمم والشعوب والدول التزاماً جماعياً بمتطلبات عالميّة أو كونيّة؛ لأنّ المصير صار مشتركاً، والمصالح صارت متداخلة، والعالم صار قرية صغيرة يؤثّر أدنى حدث فيها في كل أركان المعمورة، ويمسّ كل الناس.
ثانياًـ إنّ هناك تميزاً واختلافاً في القيم والمعايير والثقافات بين مختلف الشعوب، وبالتالي ينشأ حقّ أساسيّ من حقوق الأمم والشعوب والكيانات الحضاريّة في التميز والاختلاف عن الثقافة الغربيّة المهيمنة وبالتالي الاحتراز نظرياً وعملياً من الذوبان في ثقافة الغرب المتغطرسة.
أبعاد الإشكاليّة:(55/234)
ولنا أنْ ننظر إلى مكمن الإشكال الذي ذكرناه، ونتساءل عن كيفية حلّه من أجل صالح البشريّة؛ فهل نعتبر الحضارة الغربيّة المعاصرة هي أرقى ما توصلت إليه الحضارة الإنسانيّة، وبالتالي فهي تمثل الحضارة القدوة وعلينا القبول بها نموذجاً مهيمناً غالباً ينبغي اتباعه والاقتداء به، وترك كل الخصوصيّات الثقافيّة والحضاريّة الخاصّة بنا؟
أم أنّ الحضارة الآن هي نتاج تراكميّ تاريخيّ لشعوب وحضارات متعدّدة، وبالتالي فإنّها نتاج عوامل متعدّدة، وليست ذات خصوصيات غربيّة أو أمريكيّة أو إنتاج أمّة معيّنة، وبهذا علينا أنْ نعتبرها هي الحضارة، ولا ينبغي الخروج عنها؟
أم أنّ مفهوم الحضارة العالميّة مفهوم فَضْفاض مهلهل مهتزّ، استعمله الغالب ليسيطر على المغلوب، ودعا إليه القويّ ليسلب من الضعيف آخر أدوات المقاومة لنموذج مشوّه وقاصر ومحدود الأفق، وبذلك ينبغي الاحتفاظ بالخصوصيّة الحضاريّة والثقافيّة، وترسيخ مبدأ التميّز والاختلاف؟
إنّ تأمّل الخيارات الثلاثة المطروحة أمامنا تمثل -في الواقع- أهمّ المقاربات الموجودة في الأوساط السياسيّة والثقافيّة والعلميّة، وهي المقاربات المتداولة بين الباحثين والمهتمين بالشأن الحضاريّ.
ويمكن القول: إنّ هذه المقاربات تحمل كلّ منها مبرّراتها كما تحمل جوانبها السلبيّة، وهذا ما يدفع إلى الدّعوة إلى العمل على صياغة مقاربة أكثر شموليّة وإحاطة بالموضوع، وذلك من خلال استراتيجيّة ومنهجيّة تتوجه إلى أبعاد ثلاثة:
أولاً: فهم النّسق والسياق التاريخيّ الذي نشأت فيه الحضارة المعاصرة، وهو لا شكّ نسق الحداثة الغربيّة بما وفر للحضارة الغربيّة المعاصرة من إطار فلسفيّ ومرجعيّة فكريّة ومنظومة قيميّة تطوّرت في كنفها الحضارة وصاغت مقولاتها فيما يخص علاقتها بالحضارات والثقافات غير الغربيّة.
ثانياً: محاولة فهم العلاقة بين الدينيّ والدنيويّ، بين المطلق والزماني، بين منظومة القيم الدينيّة والقيم العلمانيّة التي صاغتها الحضارة الغربيّة، وأثر ذلك على تشكل المؤسّسات والجماعات السياسيّة والاجتماعية والثقافيّة والمهنيّة وغيرها في الغرب. أي فهم مفهوم وموقع الدين في صياغة الحضارة الغربيّة المعاصرة.
وثالثاً: فهم التطوّر التكنولوجيّ الهائل الذي ميّز الحضارة الغربيّة المعاصرة، والأبعاد التي أضفاها على منظومة القيم والمعايير، وما أدّى إليه من تغيّر النظرة إلى الإنسان ومكانته وماهيّته ووجوده. أو ما عبّر عنه ابن نبي بِـ "تقدّم العلم وتخلّف الضّمير".
وفي الختام نقول: إنّه بهذه الاستراتيجيّة يمكن أنْ نحيط بالظاهرة وأنْ نستوعبها فهماً، وبعد ذلك يمكن أنْ نحلّ الإشكالات المطروحة، ونستطيع أنْ نتحدث عن الحضارة العالميّة أو الكونيّة.
============(55/235)
(55/236)
المثقف والسلطة .. شكل العلاقة:
مأزق المثقف ( الليبرالي ) .. ! (1/2) .
د. محمد الحضيف 21/11/1424
13/01/2004
أكثر الأسئلة جدلاً .. ربما : من هو المثقف؟
خطر هذا السؤال على بالي مرتين في الفترة الأخيرة . الأولى وأنا أقرأ كتاباً ، ترجمته ( مرهقة ) ، للمفكر الأمريكي ، الفلسطيني الأصل ، ( إدوارد سعيد ) . سعيد .. في فصل سماه ( صور المثقف ) ، من كتابه : ( الآلهة التي تفشل دائماً ) ، حاول أن يجيب على سؤال مماثل .. من خلال استقراء أراء بعض ( المثقفين ) ، أمثال الإيطالي أنطونيو غرامشي ، الذي تحدث عن ( المثقف العضوي ) .
المرّة الثانية ، التي قفز فيها السؤال إلى ذهني ، كان في مناسبات ( محلية ) . موقفان لشخصيتين ، هما الأكثر إثارة ، وربما حضوراً ، في المشهد الثقافي في المملكة . الأوّل أعلن أنه رفض التوقيع على خطاب ( إصلاحي ) ، تبنّاه عدد من المفكرين والمثقفين ، بحجة أنه يصادم ( مبادئه ) .. التي فسرها شخص مقرب منه ، على أنها موقف من الخطاب ( الإصلاحي ) ، الذي يمثل مكسباً للتيار الإسلامي .. وهو ما لا يتفق معه ذلك المثقف .. ( أيدولوجياً ) . الثاني شخصية ثقافية وأكاديمية ، شاركت في جلسات الحوار الوطني الثاني . خرج الحوار بتوصيات اتفق عليها المشاركون .. وهو أحدهم . في اللقاء الذي جمع المتحاورين بولي العهد ، تسلل ( المثقف ) الأكاديمي الكبير ، من بين الصفوف ، مستخفاً بزملائه ، وارتجل خطاباً ( أيدولوجياً ) عن الحب ( !! )، نسف فيه مفهوم الحوار ، وتوصيات اللقاء .. وأصول اللياقة ..!
المثقف هو المفكر ، وهو طليعة المجتمع فكرياً واجتماعياً . هو الذي يثير الأسئلة المشروعة ، ويتبنى قضايا المجتمع وهمومه .. هل يكون ( انتهازياً ) .. ؟ هل يقف مع ( الحزب ) ، أو السلطة .. ضد الأمة .. ؟ !هل ينقلب ( ميكيافيليا ) ضد فروسية المثقف ؟ تبدو العلاقة بين المثقف والسلطة ملتبسة . هناك علاقة تضاد ، وتكامل .. وعلاقة احتواء . تتوجس السلطة من المثقف المستقل ، فتجعل منه ضداً ، وخصماً .. ويصبح كل ما يصدر منه ، قابل لتأويل عكسي ، ويصير هو .. مطالب بتفسير أي موقف يقفه . وطنيته متهمّة ، وولاؤه موضع تساؤل ..!
حينما تكون العلاقة بالسلطة .. احتواءً ، يتحول ( المثقف ) إلى بوق للسلطة ، وينحدر إلى مستوى ( الأداة ) ، التي تستخدمها السلطة ، لإضفاء شكل ( أخلاقي ) على ممارسات ( لا أخلاقية ) . تحتاج السلطة المثقف ، لـ ( أنسنة ) سياساتها، تجاه الفرد والثقافة والمجتمع . تلك السياسات الموسومة بكل ما فيه انتهاك للآدمية ، وامتهان للثقافة .. إذ المثقف والثقافة ، يمثلان أعلى شكل من أشكال الفعل الإنساني .
تكامل السلطة مع المثقف ، يأخذ اتجاهين : سالب وموجب . التكامل السلبي للمثقف مع السلطة يتبدّى ، حينما يتبنى ( المثقف ) دوراً ،ضمن ترتيب معين ، يظهر من خلاله ، أنه ضد الطروحات الرسمية ، وهو في حقيقته .. وواقع الأمر ، يسعى لتكريس صورة ( نمطية ) إيجابية للسلطة.. مثل ( ديمقراطية ) السلطة .. وتسامحها، حيث تسمح له بالمعارضة .. وتعطي الرأي الآخر حق التعبير عن نفسه ، ضمن هامش محسوب . قد يتكامل المثقف إيجابياً مع السلطة .. وهذا أمر جيد، حينما يدعم توجهاتها الإيجابية ، في مسائل مثل ، صيانة الحريات ، والتحرك نحو هامش أوسع للمشاركة الشعبية ، والشفافية في التعاطي مع الشأن العام ، والتوزيع العادل للثروة ، واستقلال السلطة القضائية .. واحترام حقوق الإنسان .
انتهازية المثقف ، أفرزت تقسيمات من نوع المثقف ( المرتزق ) : كل شيء على ما يرام طال عمرك . أو المثقف ( المُسْتَلَب ) : طليعة الآخر .. المغاير ، الثقافة الخصم . أحداث سبتمبر ، كشفت عن نماذج مخيفة من هذا النوع .. الأخير ، من أولئك الذين يقومون بدور ( أبي رغال ) ، فيقودون ( الفيل ) الأمريكي ، إلى ما اعتبروه ثغرات في ( جدار ) الثقافة المحلية . التقيت بمراسل لإحدى الصحف الأمريكية ، كان يدور على بعض المثقفين والأكاديميين .. يحمل كتباً لمقررات مدرسية ، ويتحدث عن مواضيع ، وأسطر بعينها .. من بينها آيات قرآنية وأحاديث شريفة ، يزعم أنها تحرّض على الكراهية ، وتدعو للعنف . ذكر لي .. لما سألته ، أن الذي دلّه عليها ( مثقفون ) سعوديون ..!
ليبرالية المثقف المحلي .. عندما تكون ( الليبرالية ) في جوهرها ، احترام خصوصية الآخر .. هل هي حقيقة..؟ حين يكون ( الليبرالي ) في ( خندق ) الأجنبي ، ضد الثقافة ( الوطنية ) .. بسبب موقف أيديولوجي .. ! أو حينما يمارس ازدواجية فجة في معاييره (الليبرالية) : الديمقراطية، والإصلاح الدستوري.. جيدة، شرط ألا يستفيد منها التيار الإسلامي .. والتحالف مع السلطة القمعية ، والنظم الدكتاتورية مبرّر إذا كان الخصم هو الإسلام
المثقف الإسلامي .. ما علاقته بالسلطة ..؟(55/237)
وسِمَت العلاقة بين السلطة والمثقف الإسلامي ، بتاريخ من الصراعات ، منذ أن ظهر المصطلح .. ( إسلامي ) . برز مصطلح ( المثقف الإسلامي ) ، مع تعبيرات أخرى .. لها نفس الصفة ، بعد سقوط ( الخلافة ) ، وتأسيس الدولة ( القومية ) الحديثة ، ذات النزعة العلمانية ، المجافية للدين .. وهو ما كان سبباً في نشوء الحركات الإسلامية . إلغاء الخلافة عام 1924 ، من قبل حزب جمعية الاتحاد والترقي العلماني، الذي استولى على السلطة في تركيا ، أحدث حالاً من الأسى والذهول ، لدى كثير من المسلمين ، الذين كانت ( الخلافة ) .. على ضعفها ، تمثل لهم ملاذاً ، ضد جحافل المستعمر الأوروبي ، الذي نهب الخيرات ، وأشاع الفساد .
الحركة الإسلامية ، التي قامت على المفهوم الشمولي للدين ، بهدف استعادة دور الإسلام في حياة المجتمع المسلم ، اصطدمت منذ البداية بـ ( السلطة ) . الدولة الحديثة .. ( العلمانية )، التي قامت على أنقاض دولة الخلافة ، بعد تقسيم الاستعمار لإرثها .. على أساس قومي وإقليمي ، مثلث بعنصريها الرئيسيين : القومية والعلمانية ، نقيضاً لـ ( دولة ) الإسلام .. ومصادماً لنظرية الحكم الإسلامية . إذ الإسلام يقوم على ( أخوة ) الدين .. وليس العنصر أو القومية ، والعلمانية تقصي ( حاكمية ) الله ، وتجعل ( المشرع ) هو الإنسان .. لا الخالق .
أدبيات الحركة الإسلامية في أول أمرها ، اعتمدت المصطلح .. ( إسلامي )، بوصفه علامة تميزها عن الأطروحات والشعارات ، التي لا تنطلق من رؤية إسلامية . في وقت لاحق ، انتقلت الحركة إلى طور التنظيم ، والعمل الحزبي ، بسبب تعسف الإجراءات الرسمية وقسوتها، وزيادة المطاردات والتضييق الأمني .. من خلال اضطهاد العلماء ، ومطاردة المفكرين واعتقالهم ، وإغلاق الجمعيات التطوعية والخيرية ، ومصادرة الكتب والمطبوعات . بسبب هذه الممارسات .. صار المصطلح حاجة .. للتعبير عن ( هوية ) مستقلة .. مضطهدة ومحاربة ، و لتحقيق ( تمايز ) في الصفوف ، بين ما هو إسلامي ، وغير إسلامي .. لضمان وضوح الرؤية ، ولدرء ( الاختراقات ) الفكرية والأمنية .
الشعور بالاختلاف والافتراق ، بين الحركة الإسلامية ، والأنظمة الحاكمة ،خلق أجواء ( عدم ثقة ) ، وألقى بظلاله على العلاقة ، بين المثقف الإسلامي و( السلطة ).. التي يقع تحت نفوذها . اتسمت تلك العلاقة ، بعدد من الملامح .. أبرز مظاهرها :
* ظلت ( السلطة ) ، تتوجس دائماً من المثقف الإسلامي ، وتكيد له ، وتناصبه العداء .. وتتربص به .
* نُظِر لـ ( مشروع ) المثقف الإسلامي على أنه : تهديد لـ ( الشرعية ) ، وذو طبيعة تآمريه .. وانقلابي بطبعه .
* اعتبر ( مشروع ) المثقف الإسلامي .. انعزالياً ، يهدد العلاقة مع الغرب .. وله موقف عدائي من الحضارة الغربية .
* لم تفرق ( السلطة ) ، في معاملتها للمثقفين الإسلاميين ، بين من يوصف منهم بالاعتدال ، أو ذلك المتهم بالتطرف .
* تعاملت ( السلطة ) ،في معظم أطوار علاقتها ، مع المثقف الإسلامي .. بصفته الفردية ، أو من خلال المؤسسات والجمعيات التي ينتمي إليها .. بتوحش : فقتلت ، وسجنت ، وحاصرت ، وأقصت ، ونفت .. وقطعت الأرزاق .
* أدى موقف ( السلطة ) الاستئصالي .. والعنيف للمثقفين ، والأفراد الإسلاميين عموماً ، إلى نشؤ تيارات عنيفة ، تشكلت بسبب المطاردات الأمنية المستمرة ، والاعتقالات ، والتعذيب داخل السجون ، والقوانين العرفية .. و( القضاء ) المنحرف .. الظالم في أحكامه .
هل المثقف الإسلامي قريب من نبض الجماهير وهمومها .. ؟
سؤال قد يبدو منطقياً .. إزاء واقع علاقة المثقف الإسلامي بـ ( السلطة ) . إذا كان المثقف الإسلامي منحازاً في ( مشروعه ) إلى الجماهير .. لماذا تخلت عنه ، وتركته لـ ( السلطة ) تستفرد به .. انتهاكاً لحقوقه ، ومصادرة لمشروعه .. ؟ إذا كان مشروعه ( وطنياً ) ، يهدف إلى تعزيز الاستقلال ، ورفض التبعية .. لماذا وصفته الدوائر الرسمية بـ ( العمالة ) ، ووصمة اليساريون بـ ( الرجعية ) .. ويصمه ( الليبراليون ) ، الوكلاء الحصريون للمشروع الأمريكي في المنطقة .. بـ ( الظلامية ) .. ؟!
الملاحظات التالية ، التي كانت مظهراً للمثقف الإسلامي ، في أول انطلاق نضاله الدعوي والسياسي ، قبل بداية صعود المد الإسلامي ، عقب هزيمة 67م ، واندحار التيار القومي العلماني .. هذه الملاحظات قد تجيب على بعض التساؤلات :
* ركز المثقف الإسلامي ، على القضايا الكبرى .. السياسية والحضارية ، مثل تطبيق الشريعة ، وإقامة الخلافة ، والإرث الثقافي والحضاري للإسلام . هذه المسائل ، كانت اهتمامات وقضايا نخبة ، مما جعل المثقف الإسلامي ، بمعزل عن غالبية طبقات الشعب .
* ابتعد المثقف الإسلامي ، عن تطلعات رجل الشارع ، وحاجاته الأساسية .. حيث ظلت الهموم اليومية .. للفرد المواطن ، في أدنى اهتمامات ، وأسفل أجندة ، المثقف الإسلامي . انشغاله بالأهداف الكبرى النظرية ، على سموها ، لم تجعله يقترب من ( الهم ) اليومي للإنسان العربي .(55/238)
* لم تكن قضية الحريات أساسية عنده .. بسبب المفهوم السائد للحريات .. ( الغربي ) الجوهر ، الذي يعتدي على الدين ، ويتطاول على المقدسات .. وعلى المستوى الأخلاقي ، يروّج للرذيلة .. باسم الحرية الشخصية .
تَعَامُلْ المثقف الإسلامي بحذر ، مع موضوع ( الحريات ) .. لهذا السبب ، انعكس على موقف النخب العربية .. وتوجسهم ، من أي دور للإسلاميين في النشاط السياسي . كما أن الإعلام الحزبي المضاد ، بشقيه .. الذي اعتمد مرجعية شرقية ( سوفييتية ) ، أو ذلك الذي يتبنى توجهاً ( ليبرالياً ) غربياً .. استغل هذه النقطة ، في تشويه صورة الإسلاميين لدى الجماهير ، ووصفهم بأوصاف باعدت بينهم وبين قطاعات الشعب المهمشة .. التي قطعت الأنظمة شوطاً كبيراً ، في طمس هويتها ، ومصادرة حقوقها الأساسية .
* عدم الوضوح في مسألة حقوق الإنسان . إذ لم يبلور الإسلاميون رؤية واضحة في هذه المسألة ، واقتصروا على خطاب عام ، ينطلق من تكريم الإسلام للإنسان .
* تعدد الفهوم في مسألة حقوق المرأة ، وافتقارها لرؤية متماسكة .. حيث لم يحسم الإسلاميون موضوع المرأة ، ودورها في الحياة العامة .. وترك ممزقا بين الاختلافات الفقهية ، والعادات المحلية لكل بلد . هذا الموقف أعطى فرصة للانتهازيين ، لرفع ورقة المرأة في أكثر من مناسبة.
لقد امتهنت المرأة ،في ظل سيادة المفهوم الغربي لحقوق المرأة .. وغياب مشروع إسلامي ، يفعّل دورها الأسري والاجتماعي .. بوصفها جزءاً فاعلاً في المجتمع ، ويمنع التعدي عليها ، وانتقاص حقوقها المادية والمعنوية .. ويصونها من الاستغلال الغرائزي والشهواني .
* عدم الوضوح في مفهوم تداول السلطة .. وحق الفرد في الاختيار ، حيث ظل المثقف الإسلامي متردداً في رسم آلية للمشاركة الشعبية ، والانتقال السلمي للسلطة .. بسبب تلاعب الأنظمة في عملية الانتخابات . كذلك نجحت الآلة الإعلامية للسلطة .. ولبعض الأحزاب ، في صياغة ( صورة ذهنية ) مخيفة للواقع ، إذا آل الأمر للإسلاميين .
هل تغير موقف المثقف الإسلامي ، وتجاوز هذه ( الملاحظات ) ..؟
أعتقد أن التيار الإسلامي الآن ، بمثقفيه ومجاهديه ، هو الذي يقود النضال الوطني من أجل الإصلاح ، ويقود عمليات المقاومة والجهاد ضد ( الاحتلال ) ، الاستيطاني والغازي . لقد دفعت أحداث سبتمبر بـ ( عدو ) ضخم ، حاقد .. وشرس ، إلى المواجهة .. وأدت كذلك ، إلى ( استقواء ) فئات من داخل الصف .. به . رأت هذه ( الفئات ) .. في هذا ( العدو ) الجاثم بيننا ، وعلى حدودنا ، فرصة لـ ( الانقلاب ) ، وتحقيق أهداف ، ومصالح شخصية أو طائفية .. وتصفية حسابات أيدولوجية .
إن ( المثقف الإسلامي ) مطالب ، أكثر من أي وقت مضى ، أن يقف .. ويقاوم . إن تقديم ( التنازلات ) ، باسم التسامح ، وقبول الآخر .. لن يجدي مع ( هؤلاء ) ..!
سيظلون يلعنون سلفنا ، وينتقصون من رموزنا ، ويهدمون ثوابتنا ، وينقضون عرى ديننا ، واحدة تلو الأخرى .. ونحن ننزل ( السلم ) درجة .. درجة ، إلى الهاوية ..!
" والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون "
=============(55/239)
(55/240)
نقد في العقلية الحزبية!!
د. عبدالحكيم الفيتوري 1/11/1424
24/12/2003
من المعروف أن التخلف العام ظاهرة معقدة ومتشابكة الأطراف، ولا يسهل تلمس ملامحها وفرز خيوطها، وهي تنشأ عن أسباب وعوامل متعددة وعميقة الجذور.
وفي حالات معينة تنجح بعض الجماعات في تجاوز التخلف واجتثاث أصوله، بينما تخفق جماعات أخرى في معركتها ضده، فيكتسب صفة الدوام ويبقى قائماً ومُكشراً عن أنيابه إلى أمد غير محدود، كما هو الحال مع معظم الجماعات والأحزاب المعاصرة.
وقد تناولت في المقال السابق تحت عنوان "نقد في النفسية الحزبية" ضمن ملف المراجعات الحركية عاهات النفسية الحزبية، وفي هذا المقال نعرض لمسألة التخلف الذهني التنظيمي (الإعاقة الذهنية في العقلية الحزبية) في إدارة العمل الجماعي والحزبي، فالنجاح في هذا المجال يعني توفير مخصصات أكبر لمشروعات التنمية العقلية، والنفسية، والبشرية السوية التي تحمل مرآة سوية غير مقعرة ولا محدبة ! وذلك يقود إلى فهم صحيح في مختلف شؤون الحياة الدينية والدنيوية، وإلى تطوير مختلف قطاعات المجتمع والتنظيمات والدولة.
فالتعريف الطبي للعقلية المتخلفة: يشير إلى أن التخلف العقلي هو حالة توقف أو عدم اكتمال نمو الدماغ نتيجة لمرض أو إصابة قبل سن المراهقة أو بسبب عوامل جينية. أما التعريف القانوني؛ فإنه يشير إلى أن الشخص المعاق ذهنياً هو غير القادر على الاستقلالية في تدبير شؤونه بسبب حالة الإعاقة الدائمة أو توقف النمو العقلي في سن مبكرة. أما التعريف الاجتماعي؛ عرف التخلف العقلي بأنه حالة عدم اكتمال النمو العقلي بدرجة تجعل الفرد عاجزًا عن التكيف مع الآخرين مما يجعله دائماً بحاجة إلى رعاية وإشراف ودعم الآخرين.
نخلص من هذه التعريفات بـ: أن التخلف العقلي يشير إلى مستوى الأداء الوظيفي العقلي، ويصاحبه عجز في السلوك، وتخبط في الرؤى والتخطيط.
ولا ريب أن الفشل في عدم معرفة الأمراض النفسية والعقلية ومن ثم السلوكية في محيط الجماعات والأحزاب، ووضع استراتيجيات علاجية مناسبة وناجحة لمختلف هذه العاهات، هو أحد أسباب تكريس الإعاقة الذهنية والتخلف وعدم القدرة على كسر قيوده وفك أغلاله، ومن ثم القفز من فوق أسواره العالية باتجاه الحضارة والرقي إلى مبادئ الإسلام القيمة ( ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )!.
ونعرض في هذا المقال لأهم مظاهر أزمة تخلف العقلية الحزبية في جانب العمل التنظيمي، حيث إنه يعتبر النظر في هذا الجانب من أهم مؤشرات تجليات الأزمة العقلية في واقع العمل الحزبي المعاصر، وهي على النحو التالي:
1- إسقاط حقيقة الشورى وآلياتها الشرعية داخل صف العمل الجماعي تحت شعارات شتى منها الحفاظ على وحدة الحزب وممتلكاته! على الرغم من إيمانها بقوله تعالى: ( وأمرهم شورى بينهم ) إلا أن هذه الممارسة من العقلية المتخلفة في واقع الأمر تقوم بعملية اغتيال كامل لعقل العضو ومصادرة قدراته، ومحاصرة كفاءاته؛ فينقلب الحزب تدريجيًا إلى متحف للعقول البشرية المحنطة! .
2- تغيب عملية النقد الحر على الرغم من أن سائر دساتير الجماعات والأحزاب ولوائحها الداخلية تنص على حرية الرأي وأهمية النقد الحر !! إلا أن هذه القيمة حفظت في السطور، أو أعطيت لمن له حق الفيتو داخل الحزب، أو أفرغت من مضامينها الأساسية واستبدلت بمعان شكلية وممارسات سطحية حتى صارت ممارسة النقد وسيلة للتسلية والأمسيات التنظيمية ليس إلا!.
3 - تحول عملية النقد داخل الأحزاب من عملية بنائية وتطويرية إلى عملية تبريرية أو تدميرية؛ تبريرية لكل الأخطاء وإن كانت فادحة فـ( ليس في الإمكان أبدع مما كان)! ؛ وتدميرية لتصفية حسابات شخصية من باب ( عليّ وعلى أعدائي)!
4- تهميش مقصود - مع سابق الترصد والإصرار!- لعقل وكادر العمل التنظيمي بغية تدميره واغتياله، وذلك من خلال تحكم الأقلية التنظيمية المستبدة في الأغلبية التنظيمية الصامتة - التي عادة ما تفضل الابتعاد عن كل شيء زهدًا في القيادة أو انشغالا عنها، وربما تكون أقل وعيًا من غيرها - وعبر الشورى المزيفة ووسائل الديمقراطية الطاغوتية بـ(الانتخابات والتصويت !!) لإخفاء نزعتها السلطوية وطموحها إلى المناصب وحماية الامتيازات التنظيمية الخاصة !!
5- الشعور بالعلو الزائف على سائر خلق الله سبحانه وتعالى (إن أكرمكم عند الله اتقاكم)، والإيمان المفرط بالصوابية في كل شيء، وفي أي شيء (لو كان خيرًا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم)!، وفي المقابل الإيمان المفرط بخطئية جميع الجماعات والأحزاب "رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب)!
فهل من سبيل إلى مراجعة الذات والعقل والآليات التنظيمية وفق ثوابت الوحيين قبل فوات الأوان،
حيث لا تنفع المراجعة ولات حين مناص
===============(55/241)
(55/242)
المشاركة في الانتخابات البرلمانية (1/2)
د. عبدالله بن إبراهيم الطريقي 28/7/1424
25/09/2003
مازال موضوع دخول الإسلاميين من علماء ودعاة ومفكرين في معترك السياسة محل أخذ ورد أو تردد من قبل كثير من الباحثين أو المتحاورين .
سواء كان هذا المعترك انتخاباً أو وظائف عليا في مجال التنظيم (التشريع) أو التنفيذ أو القضاء .
والتردد في العمل السياسي قديم, ولا سيما في تولي القضاء, ولكن ذلك التردد ليس بين الحل والحرمة, ولكن بين الجواز والكراهة من منطلق الورع.
وأساس هذا الورع ـ فيما يبدو ـ أمران :
الأول: خطورة المنصب (القضاء) ذاته.
الثاني: أن ولاية القضاء متفرعة من الإمامة الكبرى التي كان يتعاقبها خلفاء متفاوتون في العدالة؛ إلا أن الغالب عليهم الفسوق بعد الخلافة الراشدة، الأمر الذي جعل كثيراً من أهل العلم والورع يزهدون في كل منصب يرتبط بأولئك الخلفاء حذراً وخوفاً من إقرارهم على ظلمهم, أو لأن الرزق الذي يأتيهم عن طريق أولئك ليس حلالاً صرفاً في ظنهم .
بيد أن عدداً لا يستهان به من أهل العلم والفضل لم يترددوا في تولي تلك الولايات تغليباً للمصلحة.
وإذا ما انتقلنا إلى واقعنا المعاصر؛ سيبدو لنا واقع مختلف عن واقع العصور الإسلامية السابقة، ويتجلى هذا الواقع بطغيان العلمانية على مسرح الحياة بحيث اختلفت النظرة والتعامل مع الدين الإسلامي, فبعد أن كان الدين له الهيمنة الكاملة أو شبه الكاملة على تصرفات الأفراد والمجتمع, أصبح لا يكاد يتجاوز تصرفات الأفراد, إذا ما استثنينا بعض المجتمعات المسلمة, كمجتمع شبه الجزيرة العربية, هذا مع الاختلاف النسبي بين تلك المجتمعات أو الدول من حيث التزامها بالتشريع الإسلامي, أو عدم الالتزام.
وعلى رغم أن العلمنة (فصل الدين عن الحياة) منهج غريب على الأمة المسلمة, إلا أنه شاع فكراً وتطبيقاً, حتى أصبح الالتزام بتطبيق الشريعة أو الدعوة إلى التطبيق سبة أو تهمة تلصق بأهل الإسلام, وشارك في الترويج لهذه الفكرة جملة من مثقفي المسلمين.
من هنا اختلفت نظرة كثير من الإسلاميين نحو هذا الواقع المضطرب, وتكييفه، من ناظر إلى هذه المجتمعات بمؤسساتها وأفرادها على أنها انحرفت عن سبيل الهدى, وأن التصحيح لابد أن يكون جذرياً عن طريق التغيير السياسي, ثم هل يكون ذلك بالانقلاب مثلاً, أو بالمنافسة الحادة في العمل السياسي؟
أو يكون بإحداث الشغب وبث الرعب في قلوب الساسة وأعوانهم؟
وقد يكون في بعض هؤلاء من استولى عليه اليأس من صلاح الأمة وعودتها إلى طريق الحق, فآثر العزلة الفكرية، أو شارك بفكر سلبي، لبوسه اليأس والوهن .
ومن ناظر إلى هذه المجتمعات على أنها مازالت على سبيل الرشد والاستقامة, سواء في ذلك سلوك الأفراد أو المؤسسات والدول, فانبرى يصحح الواقع ويبرره, ويدين كل دعوة أو خطوة يقوم بها دعاة الإصلاح، وربما أصدر أحكاماً صارمة لا هوادة فيها, تحت ذريعة (الابتداع, أو الشذوذ, أو الخروج) ولم يفرق هؤلاء بين دولة ودولة, أو مجتمع وآخر، ولعل أقسى السيوف التي رفعت في وجه بعض الدعاة سيف (التكفير والتبديع)؛ فاضطربت الأقوال والأحكام, وضاع الحق بين ذلك.
ومن ناظر إلى هذه المجتمعات بأنها أرض خصبة صالحة للدعوة والإصلاح، مع ما فيها من الوهن, لكن كيف السعي إلى إصلاحها؟
قد يرى بعضهم أن الإصلاح يكون بالتربية وبث الوعي, وقد يرى آخرون أنه يكون بالمشاركة السياسية، وهكذا...
لذا لا نستغرب إذا ما اختلفت رؤية أهل العلم والفكر، أو مواقفهم نحو المشاركة في الانتخابات البرلمانية .
وقد يصعب على الباحث تحديد كل رؤية أو موقف على وجه الدقة، مع معرفة الأدلة بالتفصيل.
تلك مقدمة لابد منها قبل الدخول في الموضوع (مشاركة الإسلاميين في الانتخابات البرلمانية).
وموضوعنا كما يبدو له شقان:
الأول : حكم المشاركة في الانتخابات .
الثاني : حكم الانتخابات .
ولا يتصور الجواب عن الشق الأول إلا بعد تصور الشق الثاني, الأمر الذي يفرض تقديم الحديث عن الأخير قبل الأول .
والحديث عن الموضوع برمته يتطلب تقديم قواعد تمهيدية قد تكون من عوامل تقريب الموضوع إلى الذهن والخروج به من كثير من مواطن الاشتباه, أو مفترقات الطرقات .
وأهم هذه القواعد:
القاعدة الأولى : الإسلام كلٌّ لا يتجزأ, وأحكامه سلسلة متصل بعضها ببعض .
فالعبادات والمعاملات متداخلة, ويصعب الفصل بينها, وجذورها متصلة بالعقائد والأخلاق, وذلك مما لا شك فيه.
القاعدة الثانية: أن الولايات العامة؛ كالإمامة الكبرى، والقضاء، والوزارة، والإمارة، والحسبة، وما إليها, كلها ذات طابع ديني, أي أنها شرعية؛ حتى وإن كانت لتنظيم شؤون الحياة الدنيا, كالمواصلات, والاتصالات والصحة والطاقة ... وغيرها.
ولهذا قال العلماء في تعريف الخلافة أو الإمامة: إنها " موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا" [الأحكام السلطانية للماوردي ص 5](55/243)
ويقول الإمام ابن تيمية: "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين؛ بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها ... فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله, فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات" [مجموع الفتاوى 28/390].
القاعدة الثالثة: انتقال الولايات إلى غير الأمناء لا يسلبها الشرعية, وذلك أن (الشرعية) صفة ملازمة لتلك الولايات, فالقضاء مثلاً هو ولاية شرعية جليلة, فإذا كان قد تحول في بعض البلدان الإسلامية إلى قضاء قانوني صرف، وتولاها علماء القانون دون أهل الشريعة, فهذا الوضع لا يغير من أهمية القضاء وشرعيته شيئاً.
وواجب على المسلم الذي يتولى هذا المنصب أن يعدل فيه ويحكم وفق الشرع المطهر, ولا يجوز له أن يتخلى عن هذا المنصب إذا كان باستطاعته أن يحكم بالتنزيل .
القاعدة الرابعة: أن العلماء مسؤولون عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -, مسلمهم وكافرهم, وعن المجتمع المسلم بوجه خاص, سواء من حيث أفراده, أو من حيث مؤسساته.
وأساس هذه المسؤولية, هو وجوب التبليغ عليهم؛ فهم أمناء الرسل, ونوابهم في تبليغ الرسالات, (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)[آل عمران:187].
وفي الحديث: ( ليبلغ الشاهد الغائب) متفق عليه , وهذه مهمة شريفة وشاقة إلا على الربانيين منهم, قال سبحانه: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)[آل عمران:79] .
يقول الإمام الطبري مبيناً حقيقة الرباني: "فالربانيون إذاً هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا, ولذلك قال مجاهد: وهم فوق الأحبار, لأن الأحبار هم العلماء، والرباني الجامع إلى العلم والفقه البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دنياهم ودينهم"؛ (ويراجع تفسيره للآية ففيه كلام نفيس) .
كما أن الحكام والقائمين على مصالح الدنيا مسؤولون أيضاً، وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته قال: وحسبت أن قد قال : والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته".
القاعدة الخامسة : إن الأحكام الشرعية نوعان في الجملة :
الأول: الأحكام المفصلة , وهي التي جاء بها الشارع مفصلة ومبينة؛ كالتوحيد أو العقيدة, والعبادات, والفرائض, وأحكام الأسرة؛ كالنكاح والطلاق والنفقات والحضانة, وكالحدود والقصاص والديات.
الثاني: الأحكام المجملة, وهي التي جاء الشارع بها بطريقة الإجمال, كالمعاملات المالية, والتنظيمات الاجتماعية مثل السياسة والإدارة والتعليم ومثل العقوبات التعزيرية.
أما النوع الأول؛ فهو من الثوابت التي لا تتغير, سواء ثبت بالنص , أو بالإجماع, ولا فرق في ذلك بين ما هو قطعي, أو ظني, والخلاف في بعض جزئياتها ـ وهو موجود قطعاً ـ محدود, ولا ضير فيه ما لم يؤد إلى النزاع والشقاق .
وأما النوع الثاني؛ فهو مما يقبل التغير والتطور بحسب الأحوال والظروف المكانية والزمانية, ما لم يكن في ذلك تجاوز للقواعد والأصول المقررة فيها.
فالشركات ـ على سبيل المثال ـ هي نموذج لتغير الشكل والصورة عن نظام الشركات المعروف عند الفقهاء المتقدمين.
فإذا كانت متفقة مع أصول المعاملات الشرعية؛ فهي صحيحة وإن ظهرت باسم آخر, أو قالب آخر, أو جمعت بين عدد من الشركات المعروفة فقهياً .
القاعدة السادسة: إن النظام السياسي في الإسلام منه المجمل ومنه المفصل, وإن كان الأول هو الغالب.
ومن المفصل؛ الحقوق المشروعة لكل من الراعي والرعية, والواجبات على كل منهما.
ومنه أيضاً: موضوع الحكم, وهو ما يحكم به الحاكم سواء كان إماماً, أو قاضياً أو أميراً أو وزيراً أو غيرهم.
قال الحق تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [المائدة:49] , وقال: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الجاثية:18]؛ فالوحي إذاً هو موضوع الحكم, ولا يتنافى مع ذلك وجود قوانين (أنظمة) إجرائية وتنظيمية, وإذا رتبت هذه الأحكام الشرعية في أبواب وموضوعات معينة فلا ضير في ذلك.(55/244)
أما الجانب المجمل في النظام السياسي ـ وهو الكثير ـ؛ فهو عموم الإجراءات التنظيمية, وأساليب التنفيذ, مما يعد تفسيراً وتفصيلاً لقواعده, كالشورى , والبيعة, والنصيحة، والعدل, والرفق, والوفاء بالعهود.
يستوي في ذلك ما ينظم شؤون الحياة داخل بلاد الإسلام, وما ينظم العلاقات الخارجية. "وعلى هذا فالتعاليم المنظمة لشؤون المجتمع في كل مجالات السياسة والاقتصاد والدفاع والثقافة والتعليم والمجالات المشابهة هي تعاليم مرنة تقبل تطور الأسلوب التنفيذي لها, فهي وإن كانت ذات هدف واضح ثابت لا يتغير ولا يتبدل، إلا أن طريق تحقيق هذا الهدف ترك مرناً قابلاً للتغيير والتبديل في ضوء ظروف كل مجتمع وزمان" [الدولة وسياسة الحكم في الفقه الإسلامي ـ للدكتور أحمد الحصري 1/91 ] .
القاعدة السابعة: أن جملة التراتيب (التنظيمات) الإدارية اجتهادية, وليست توقيفية.
وآية ذلك أن التراتيب لم تكن تجري على وتيرة واحدة؛ بل كانت متغيرة من زمان إلى زمان, بل من دولة إلى أخرى, فالتراتيب في عهد الخلفاء الراشدين كانت غيرها في عهد النبوة, وغيرها في العهد الأموي, ثم العهد العباسي ... وهكذا.
ومعروف أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول من دون الدواوين, وأنه عدل عن أحكام في عدد من القضايا كان أبو بكر رضي الله عنه يراها.
وعلى هذا فسوابق تراتيب الدولة الإسلامية يؤخذ منها ما يناسب العصر وتقتضيه المصلحة, ومالا يناسب يعدل عنه إلى غيره من تراتيب أخرى.
هذه في نظري من أهم القواعد التي ينطلق منها حوارنا في موضوع الانتخابات والمشاركة فيها ـ صغتها بأسلوبي الخاص ـ وهي في زعمي محل اتفاق لدى أهل النظر والاهتمام بالنظم الإسلامية.
فإذا تقررت هذه القواعد نأتي إلى الموضوع نفسه متسائلين أولاً: هل أسلوب الانتخابات ثم المشاركة فيه يمكن أن يعد ترتيباً من الترتيبات أو التنظيمات الإدارية؟
وبصيغة أخرى: هل تولي الولايات العامة من الإمامة والقضاء وعضوية مجالس الشورى أو البرلمانات له أسلوب محدد لا يتغير؟ وما هو؟
فإذا تقررت هذه القواعد نأتي إلى الموضوع نفسه متسائلين أولاً: هل أسلوب الانتخابات ثم المشاركة فيه يمكن أن يعد ترتيباً من الترتيبات أو التنظيمات الإدارية؟
وبصيغة أخرى: هل تولي الولايات العامة من الإمامة والقضاء وعضوية مجالس الشورى أو البرلمانات له أسلوب محدد لا يتغير؟ وما هو؟
والجواب أن الوصول إلى الولايات أو استحقاقها لم يرد به نص معين, وإذا ما أخذنا الولايات منذ العهد الأول للإسلام, أي منذ وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابتداء قيام الخلافة مقام النبوة, ببيعة أبي بكر الصديق؛ فقد ذهب جمهور أهل السنة إلى أن هذه البيعة تمت باتفاق جمهور الصحابة أو أهل الحل والعقد أجمعهم, ولم تكن بنص شرعي.
والأدلة على ذلك كثيرة ومبسوطة في كتب الفقه السياسي أو السياسة الشرعية؛ بل في بعض كتب العقائد, ولعل من أقواها أن أحداً من الصحابة لم يحتج في تقديم أبي بكر بنص؛ بل قالوا: رضيك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟!.
وكذلك قول عمر بعد أن طعن وقيل له: ألا تستخلف؟ فقال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني ـ يعني أبا بكر ـ وإن أترك فقد ترك من هو خير مني, يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأما دعوى الشيعة أن النص جاء بتعيين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-؛ فهي دعوى عريضة, ليست أقوى من دعوى النص على أبي بكر؛ بل هي أضعف, سواء من حيث الثبوت أو الدلالة.
ورحم الله أبا بكر بن عياش (ت 193) الذي أثبت لنا هذا الموقف, قال: قال لي الرشيد: كيف استخلف أبو بكر رضي الله عنه؟ قلت: يا أمير المؤمنين, سكت الله وسكت رسوله وسكت المؤمنون؛ فقال: والله ما زدتني إلا عمى, قلت: مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أيام فدخل عليه بلال؛ فقال: مروا أبا بكر يصلي بالناس, فصلى بالناس ثمانية أيام والوحي ينزل فسكت رسول الله لسكوت الله, وسكت المؤمنون لسكوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فأعجبه ذلك وقال: بارك الله فيك. [سير أعلام النبلاء 8/506 ].
وإذا كان لم يرد نص بتحديد شخص بعينه أو بتحديد أسرة بعينها؛ فإنه يبقى الأمر مطلقاً غير مقيد.
نعم, ورد أن الأئمة من قريش, ولكن هذا بابه واسع, فدائرة القرشية أوسع من دائرة الشخص أو الأسرة، هذا من وجه, ومن وجه آخر؛ فإنه مقيد بحسب الإمكان, أي إذا وجد المؤهل منهم.
ومن وجه ثالث؛ فهذا مقيد بالإمامة الكبرى فقط, دون سائر الولايات الأخرى عامها وخاصها.
وبناء على ذلك؛ فالولايات إذاً غير مرتبطة بأشخاص ولا بأسر معينة, وهي من ثم لا تورث؛ بل هي مطلقة, فمن توافرت فيه الشروط فهو أحق بها, فلا تجوز المحاباة بها.
ففي الحديث: "من ولى رجلاً على عصابة, وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه؛ فقد خان الله ورسوله والمؤمنين" [رواه الحاكم في مستدركه].
وإلى هنا نأتي إلى بيت القصيد في السؤال المتقدم؛ كيف الوصول إلى الولايات والمناصب؟(55/245)
وسيبقى الجواب معنا قائماً على الاحتمالات, وليس ثمة ما يسارع إلى الحسم والقطع؛ لذلك يلزم طرح السؤال التالي: ما الأساليب الممكنة أو الواقعة فعلاً في كيفية الوصول إلى الولايات؟
وإذا ما أخذنا التاريخ الإسلامي لاستقراء واقعه الإداري؛ لوجدنا أن المناصب نوعان:
الأول: الإمامة العظمى, وهذه عرف فيها: أسلوب الاختيار, كما حصل في بيعة أبي بكر, وبيعة علي بن أبي طالب, وقد لا يخلو التاريخ من نماذج أخرى مماثلة، وعرف أسلوب الترشيح من الإمام السابق, إما بتعيين ما يعرف بولي العهد, وهذا أسلوب شائع في تاريخ الإسلام السياسي, وإما بتعيين أكثر من شخص ليكون الاختيار لأهل الحل والعقد, كما حصل من فعل عمر, حيث رشح ستة من كبار الصحابة وهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص؛ ليختاروا واحداً منهم -رضي الله عنهم-.
وعرف أسلوب آخر, وهو أن ينتصب الإنسان بنفسه, وهذا يكون عادة عند وجود المنافسات بين الزعامات، أو ضعف أهل الحل والعقد, وعرف هذا الأسلوب, بطريق الغلبة والاستيلاء.
النوع الثاني: هو الولايات الأخرى غير الإمامة العظمى, وهذه لا يعرف فيها غير أسلوب واحد ـ فيما أعلم ـ هو أسلوب التعيين من الإمام الأعظم, أو نائبه.
نعم قد يستبد صاحب القرار في الاختيار والتعيين, وقد يستشير أهل الرأي, أو أهل العلم.
ذلك في التاريخ الإسلامي, أما في غيره؛ فقد عرفت أساليب عديدة عند الأمم الأخرى, منها ما يشبه الأساليب المتقدمة والمعروفة لدى الأمة المسلمة، ومنها ما يختلف عنها.
ولعل أهم الأساليب المختلفة, وراثة الملك من منطلق ديني, كما هو شائع في بعض دول شرق آسيا, وبعض الدول الأفريقية وأمريكا الجنوبية.
وأسلوب الانتخاب الذي شاع بين دول الغرب, التي اتخذت من النظام الديمقراطي منهج حياة, وهذا مربط الفرس, فقد تميز هذا النظام بميزات موضوعية (فكرية) وإجرائية تنظيمية:
أما التميز الموضوعي فيتجلى في الآتي:
1 ـ تشريع القوانين بما تقتضيه مصالح البلاد -حسب تصورهم-، وهذا أهم وظائف البرلمان.
2 ـ استبعاد الدين -أياً كان مصدره- من واقع الحياة العامة (سياسة، وإدارة، واقتصاداً، وثقافة، واجتماعاً ... إلخ).
لذا أصبحت القوانين دنيوية بحتة, ليس للدين أي أثر أو اعتبار فيها, اللهم إلا مجرد النظرة القائمة على المجاملة والاحترام الظاهري, أو النفاقي.
3 ـ قيام العلاقات السياسية والاجتماعية والفكرية على الحرية الفردية، وهو مبدأ ديمقراطي يعتز به الغرب الديمقراطي أيما اعتزاز, ويرى أنها مبدأ مقدس لا يساوم عليه .
وقد بالغ الغرب في تقديس هذا المبدأ, حتى جعله كالإله.
وهذه الحرية, وإن كانت مقيدة بعدم الإضرار بالآخرين، فهي مطلقة بحسب الرغبة والشهوة, أما الدين فلا سلطان له عليها، بل هي الحاكمة عليه.
وليس معنى ذلك أنها شر محض؛ بل فيها جوانب إيجابية يذكر منها:
أ ـ أنها تعطي مريد الحق والداعي إليه مساحة من الحركة والإرادة والاختيار, تجعله يعمل ويفكر في جو هادئ, ليس فيه ضوضائية المراقبة والمحاسبة أو الضغوط الفكرية والنفسية.
ب ـ أنها تشيع الصراحة والشفافية بين الحاكم والمحكوم بحيث تكون العلاقة بينهما متينة وصريحة.
هذا في جانب الميزات أو السمات الموضوعية للنظام الديمقراطي.
أما ميزاته الشكلية فتبدو في الآتي:
1 ـ التعددية الحزبية : وهي صفة ملازمة للنظام الديمقراطي, حتى عدها أهل الاختصاص إحدى الضرورات التي تقضي بها طبيعة النظام البرلماني (ينظر: القانون الدستوري والأنظمة السياسية, للدكتور / عبد الحميد متولي ص 108).
2 ـ الانتخاب , سواء للرئيس الأعلى, أو لأعضاء البرلمان, وهذا أسلوب ملازم للنظام الديمقراطي, حتى أصبحت الحكومة النيابية (المنتخبة) مبدأ راسخاً من مبادئ الديمقراطية, ثم إن من طبيعة هذا الأسلوب أنه مؤقت بمدة محددة, كخمس سنوات مثلاً أو ثمان أو عشر، بنهايتها تنتهي مدة المنتخب (بفتح الخاء) سواء أكان رئيساً, أم عضواً في البرلمان.
ويجري الانتخاب بأساليب مختلفة, منها ما يسمى بالاقتراع العام, والاقتراع المقيد.
ويراد بالمقيد: اشتراط شروط معينة كالكفاءة وتوافر نصاب المال في الناخب.
ويراد بالعام: مالا يشترط فيه شيء من ذلك في الناخب.
ومنها الانتخاب الفردي, والانتخاب بالقائمة.
ويراد بالفردي ذلك النظام الذي تقسم فيه البلاد إلى دوائر انتخابية صغيرة, تنتخب كل دائرة نائباً واحداً.
ويراد بالانتخاب بالقائمة: تقسيم البلاد إلى دوائر انتخابية كبيرة, كل منها ينتخب عدداً معيناً من النواب لا يقل عن ثلاثة.
3 ـ فصل السلطات الثلاث بعضها عن بعض, وهي: السلطة التشريعية, والسلطة القضائية, والسلطة التنفيذية.
وهذا واحد من مبادئ الديمقراطية التي ينادي بها الغرب, ويعتز بها.
ومعروف أن السلطة التشريعية تحت قبة البرلمان، والسلطة التنفيذية تحت يد الحكومة (أي رئيس الوزراء ووزراءه)، والسلطة القضائية تحت قبضة القضاة.
وهذه الأخيرة لها السلطة العليا في المراقبة على سائر السلطات.(55/246)
فهذه الميزات الثلاث (التعددية الحزبية، والانتخابات، وفصل السلطات) من أبرز السمات الشكلية للنظام الديمقراطي, أو النظام النيابي.
وبإعادة النظر الفاحص على تلك الميزات أو السمات الموضوعية والشكلية, يبدو واضحاً أن النوع الأول وهو السمات الموضوعية, يتناقض صراحة مع مبادئ التشريع الإسلامي, فالسمة الأولى وهي وضع القوانين وتشريعها, تتصادم مع أهداف النبوات والرسالات السماوية, لأنها تنازعها (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ )[الشورى:21].
وأما السمة الثانية وهي: فصل الدين عن الحياة, واستبعاده من واقع الحياة الاجتماعية, فهي كسابقتها, إذ فيها تفريق للدين وللحق, (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا*أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا)[النساء:150-151] .
وأما السمة الثالثة وهي الحرية, فإن فيها الحق وفيها الباطل, فلا يمكن الأخذ بها جملة, ولا يمكن رفضها جملة ، بل يتعين تحديد مساحة الحرية المشروعة ليؤخذ بها, ليس لأنها ابتكار غربي أو منحة غربية؛ بل لأنها من طبيعة الحق في الإسلام, لكن ربما عرفت بأسماء ومصطلحات أخرى غير مصطلح (الحرية).
وإذا كان هذا المصطلح غير شائع في الفكر الإسلامي فلا يقتضي ذلك رفضه ورده؛ بل المشروع تجاهه وتجاه نظائره من المصطلحات الوافدة أن نحررها بدقة, ونقبل الحق منها, ونطرح ما سواه.
أما السمات الشكلية وهي: التعددية الحزبية, والانتخابات، وفصل السلطات, فالذي يبدو لي أنها من جملة التراتيب أو التنظيمات الإجرائية, التي يمكن أن يستفاد منها، وهي مثل النظام التعليمي المعاصر الذي ساد العالم كله تقريباً, حيث أصبح يجري وفق تراتيب صارمة لا يمكن التنازل عنها, كتقسيم المراحل إلى: ابتدائية ومتوسطة وثانوية, وجامعية, ثم دراسات عليا , والطالب لا يتجاوز المرحلة إلا بدراسة منتظمة لجميع المقررات المحددة، وبساعات محددة، وبنسبة محددة أيضاً.
وهذا أسلوب غير معروف بهذه التفصيلات عند علماء المسلمين قبل نحو قرن؛ بل لو اقتربنا إلى السياسة أكثر ودخلنا في تراتيبها لوجدنا أن التراتيب المعاصرة تختلف عن سابقاتها, فالدولة في المفهوم المعاصر تختلف عن الدولة في العصور الإسلامية القديمة, حيث أصبحت مسؤولة عن كل شيء, إشرافاً أو تنفيذاً, ولا سيما فيما يعرف بالخدمات, كما أن تعيين الوزراء ومن يماثلهم أو يقاربهم أصبح له أسلوب خاص, سواء من حيث نوع الوزارة واختصاصاتها, أو من حيث تحديد مدة الولاية, وكذلك من حيث توزيع الاختصاصات والصلاحيات والمهمات، فلمجلس الشورى اختصاصات, ولمجلس الوزراء اختصاصات ... وهكذا.
وإذا ما اتفقنا على أن مثل هذه القضايا (أعني التعددية الحزبية , والانتخابات , وفصل السلطات) أنها من جملة التراتيب, فالذي يحكمها هو مبدأ (جلب المصالح ودرء المفاسد) الذي بني عليه إجراءات كثيرة تمت في العهود الإسلامية, ولا سيما في العهد العمري ( نسبة إلى عمر بن الخطاب) الذي أدخلت فيه الدواوين وغيرها.
ومن هنا فالذي أرى أن من التكلف والتعسف البحث عن أدلة تفصيلية خاصة على شرعية التعددية أو الانتخاب, وفصل السلطات أو نحوها من القضايا الإجرائية, أو عدم شرعيتها, ومن يفعل ذلك فلن يسلم له دعواه, فالدليل المثبت أو النافي لابد أن يتطرق إلى التأويل أو الاحتمال, وعلى هذا فكل التراتيب والتنظيمات الإجرائية مبناها على المصالح والمفاسد.
سيقول قائل: إن تقدير المصالح والمفاسد سيكون محل اختلاف بين أهل العلم أو أهل الرأي والنظر, ومن ثم سيبقى الاختلاف في هذه القضايا؟
وهذا أمر وارد فعلاً, إلا أن أصل الدليل لا غبار عليه, فيبقى تحريره ليس إلا .
لذلك أرى أن الأمر بحاجة إلى مزيد من الدراسة والبحث والتفكير, من أجل تحديد المصلحة طبيعة وحجماً ومثلها المفسدة, للخروج برأي ناضج.
على أنه يجب ألا يفوتنا التنبيه على أمر مهم هو: أن القول بأن مثل الانتخاب ترتيب إجرائي وأنه يجوز الاستفادة من تجارب الآخرين مما لا يتعارض مع التشريع, لا يقتضي بالضرورة قبول المبدأ برمته؛ بل قد يكون فيه المفيد وغير المفيد, أو تجتمع فيه المصلحة والمفسدة، ومن هنا علينا أن نجري الموازنة, فإذا رجحت المصالح والفوائد قبلناه.
ثم علينا أن نعبر به من خلال الغربال الشرعي المفصل فنستبعد كل ما هو ضار, دينياً أو دنيوياً.
وبهذا الأسلوب في التعامل مع الأفكار والإبداعات الأجنبية نستطيع أن نصهر كل جديد, فندخله إلى الوطن الإسلامي, أو الميدان الإسلامي بثوب إسلامي أصيل.
ولنا باللغويين العرب أسوة, فقد كانوا يعربون الألفاظ الأجنبية بطريقة لغوية دقيقة, فيصوغونها صياغة تتفق مع أحد الأوزان اللغوية المعروفة, والمعاجم اللغوية مليئة بالألفاظ المعربة.(55/247)
ومما يمكن تعديله في الانتخاب: قصره على فئات معينة, تتصف بصفات عالية, مثل: العلماء, والقضاة, وأساتذة الجامعات, والحاصلين على الشهادات العليا, ونحوهم من الفئات.
ليس من المصلحة, ولا مما يرشد إليه العقل الصحيح أن تفتح مصارع الأبواب كلها لكل من هب ودب من الرعية ليعطي رأياً أو ينتخب شخصاً, قد لا يعرفه أو لا يسمع به, أو لا يعرف مؤهلات الترشيح وأسبابه, لذا لابد من استبعاد الجاهل, والعامي, وأصحاب الفكر المنحرف, وأصحاب السوابق المخلة بالشرف, وغير المسلمين, وأمثال هؤلاء، والاقتصار على أؤلئك النخب المثقفة.
وهذا الأسلوب المنضبط أشبه بنظام (أهل الحل والعقد) المعروف فقهياً وتاريخياً, والذي كان له أثره المهم في حياة الأمة المسلمة, مع تفاوت في التأثير من مجتمع إلى آخر, ومن زمان إلى زمان.
وقد كان العلماء المبرزون هم أبرز أصناف أهل الحل والعقد, وكان لهم (العلماء) آثار ظاهرة على مدار التاريخ الإسلامي, في مجالات متعددة, يأتي في صدارتها: التعليم والتربية, والإفتاء, والقضاء, والحسبة, وإمامة الصلوات, والخطابة, هذا هو أدنى الأعمال التي كانوا ومازالوا يقومون بها.
وقد يتحملون أعمالاً ثقالاً ذات مساس بالحياة السياسية, مثل الشورى, والنصيحة, وتولي بعض الولايات العامة, كالوزارة وإمارة الجيش والجهاد في سبيل الله.
وكان يشاركهم في المسؤولية ويساندهم أصناف أخرى من أصحاب الزعامة والرئاسة والجاه, ونحوهم ممن كان يؤثر اقتحام الحياة العامة.
ذلك من أهم أعمالهم ووظائفهم, برغم أنهم هيئة ليس لها تنظيم محدد.
وفي العصر الحاضر يمكن أن يوضع لها تنظيم دقيق يحدد الصفات والاختصاصات, وتكون كالمجلس الأعلى الذي يشرف على مؤسسات الدولة, وتصرفاتها, كما تكون مسؤولة عن الترشيحات والانتخابات ، أما الترشيح فيسند إلى الجهات، كالجامعات، والقضاء، والنوادي الثقافية والأدبية، ومراكز البحوث العلمية، على نمط الترشيح للفائزين بالجوائز الكبرى على سبيل المثال .
وأما الانتخابات ( التصويت ) فيسند إلى منسوبي تلك الجهات، ممن يجمل المؤهلات العلمية، وتتوافر فيه الصفات اللازمة، على نمط (أسلوب الاستبانات ) مثلاً .
وليس من المهم تحديد الأشخاص, فذلك متعذر,بل يكفي معرفة الصفات ، أو الجهات فقط.
وفي ظني أن مثل هذا التنظيم المطور يحقق المقاصد الآتية:
أولاً: أنه يحقق النيابة عن الأمة, فإذا كان الولاة في واقع الأمر نواباً عن الأمة وولاة عليها, فإن من المنتظر أن تكون هذه النيابة جاءت بطريقة مقنعة للأمة, لا عن طريق الاستعلاء وفرض الذات.
والمتأمل في واقع الولاية العامة في عهد الخلافة الراشدة أنها جاءت في جملتها عن طريق الشورى والاختيار الحر.
وإذا كانت ديمقراطية الغرب تفخر بأنها (حكومة النيابة) فإن لدى الأمة المسلمة من التجارب ما يغنيها ويسعدها في دينها ودنياها, إن هي استجابت لسنن الله الكونية والاجتماعية.
ثانياً: أنه يحقق قاعدة الشورى المأمور بها شرعاً.
وإذا كانت هذه القاعدة جاءت مجملة, فقد تنوعت تطبيقاتها قديماً وحديثاً, وقد حققت أهدافها في عهد النبوة, وعهد الخلافة الراشدة, وعهود أخرى, فالرسول - صلى الله عليه وسلم - استشار في أموره الخاصة كقضية الإفك, وفي أمور المسلمين العامة وهي كثيرة جداً, واستشار أفراداً محدودين, كما أنه استشار عموم الصحابة, وهكذا في العصر الراشدي, فقد اتخذت الشورى صوراً وأنماطاً مختلفة.
ولا يعرف أن نازلة جديدة أو أمراً يهم الأمة, اتخذ فيه الخليفة الرأي قبل المشاورة والحوار العميق.
ثالثاً: أن هذا الأسلوب يثبت براءة السلطة الحاكمة من الاستبداد أو ما يعرف بالدكتاتورية التي طالما أدين بها كثير من الأنظمة السياسية قديماً وحديثاً.
رابعاً: أنه يحقق قاعدة "أنزلوا الناس منازلهم" فالعلماء والقضاة وذوو الفكر النير في الأمة ينبغي أن يكون لهم الصدارة في منازل الشرف, وأن يؤخذ رأيهم في كل أمر ذي بال, لأنهم كالنجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر, كما ورد في الحديث, ولن تفلح أمة همشت علماءها, أو أذلتهم, أو استمالتهم للدنيا, أو استغلت ضعفهم وطيبتهم للمآرب الخاصة.
خامساً: أنه يحقق مبدأ التعاون المأمور به شرعاً, ولتكون الصورة واضحة دونك هذا البيان: إن الأمة هي كالجسد, كما جاء تمثيل ذلك في الحديث الصحيح "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" فأهل الحل والعقد يمثلون الرأس لهذا الجسد, والإمام يمثل القلب, وأجهزة الدولة تمثل الجوارح كاليد والرجل واللسان وكل هذه الأجزاء لا يغني أحدها عن الآخر, فالرأس لا يجدي شيئاً بدون القلب وسائر الأعضاء, والقلب وحده لا يعمل بدون رأس وأعضاء, والأعضاء كذلك لا يمكن أن تستغني عن الرأس والقلب, لذا لا غنى عن التعاون البناء والجاد بين عموم أجزاء الجسد, وإلا أصابه الشلل الجزئي أو الكلي, وحينه تتضاعف الأمراض ويزداد الوهن في جسم الأمة فلا تستطيع حيلة, ولا تهتدي سبيلاً.(55/248)
على أن كل فرد في الأمة يمثل خلية من خلايا الجسم, فإذا مرض هذا الفرد بمرض الانحراف أو مرض الوهن والسلبية, بدأ الوهن يسري في الجسم,وربما تطور حتى يعدي الرأس أو القلب أو الأعضاء الأخرى.
يؤكد ذلك قول الحق تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة:71] وحديث: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ..." الحديث.
سادساً: أنه يحقق التناسق الطبيعي لهيكلة المجتمع والدولة, فإذا كان المجتمع يمثل جسداً حياً متكاملاً, كما تقدم آنفاً, قلبه الإمام الأعظم, ورأسه ومدبره أهل العلم والرأي والفكر, وأعضاؤه: عموم مؤسسات الدولة بمسئووليها وموظفيها, فإن هذه التركيبة تمثل تناسقاً طبيعياً, متكاملاً في العضوية.
وإذا كانت وظائف الإمام محددة, وكذلك وظائف أجهزة الدولة, فإنه ينبغي توضيح وظائف العلماء والمفكرين (أهل الحل والعقد) كما سبقت الإشارة.
وهكذا يتبين ضرورة وجود هذه الهيئة المطورة (أهل الحل والعقد) وترسيخ دورهم ومكانتهم,وأن وجودهم يسد ثغرة مهمة لا يقوم بها غيرهم.
ويتبين أيضاً أن إسناد الترشيحات لعضوية مجلس الشورى, أو المجالس الأخرى, إلى هذه الهيئة بكل أصنافها وأطيافها, سيحقق نتائج مثمرة بلا شك, وفق المقاصد المتقدمة.
كما أن في ذلك سبقاً إلى تطبيق منهج فريد ومتميز, يجمع بين الأصالة والمعاصرة.
أما الأصالة فهو إحياء دور هيئة أهل الحل والعقد التي رأينا آثارها وأعمالها خلال العرض المتقدم.
وأما المعاصرة فبمواكبة التطور في المجال السياسي الذي يشهده العالم اليوم.
وإذا كانت ديمقراطية الغرب هي النموذج الحي للأنظمة السياسية المعاصرة, وهي المثال المحتذى في نظر كثير من المستغربين, فإن نظام (أهل الحل والعقد) في نظري هو خير منافس للنظام الديمقراطي أو (النظام النيابي), إذا ما أولينا نظامنا عناية مناسبة, واهتماماً لائقاً به.
على أنه ينبغي عدم الخلط بين هذه الهيئة ومجلس الشورى أو البرلمان, فهذا الأخير له أعضاء محصورون، ولهم وظائف معينة, أما الهيئة فهي أوسع نطاقاً من حيث الحجم, وهي كالأصل لما دونها من جهات ومجالس.
ذلك جملة الرأي في موضوع الانتخابات.
أما المشاركة فيها بحسب الوضع الراهن في البلدان المسلمة التي تأخذ بها من قبل الإسلاميين, فذلك في تقديري موكول إليهم, فإذا رأوا في المشاركة مصلحة ظاهرة فلا بأس، لكن بشرط أن يتم ذلك عن طريق التشاور مع أهل العلم ورجالات الدعوة, وألا يكون اجتهاداً شخصياً. والله أعلم.
=============(55/249)
(55/250)
الاستراتيجية الأمريكية .. والأهداف الخفية !
بدر بن سليمان العامر 18/12/1423
19/02/2003
نقصد بالاستراتيجية الأمريكية تلك السياسة الدولية التي تديرها أمريكا، ويقف معها قوى أخرى تشكل حلفاً ( غربياً ) متشابك الأهداف والمطامع؛ لصياغة واقع ومستقبل العالم المعاصر.
هذا التحالف يشهد في الواقع المعاصر نشوة وقوة وتقارباً بعد سقوط المنظومة الشيوعية الشمولية، وإن كانت أمريكا هي الراعية الرسمية والتي ستنال نصيب الأسد من هذا التحالف، إلا أن الدول الغربية والتي تجمعها مع أمريكا قواسم مشتركة كثيرة - وخاصة بريطانيا - تقدر أن الانضواء تحت أمريكا في الوقت الحاضر خيار لا بد منه؛ حتى لا تنفرد أمريكا بالنصيب الأكبر من هذه الاستراتيجية المتشعبة الأهداف والمطامع والوسائل .
بدأت إرهاصات هذه الاستراتيجية للمراقبين مما يدور في أروقة السياسة والفكر والإعلام الغربي، منذ أن بدأ الإعلان عن النظام العالمي الجديد، ومناقشة المخاطر التي تعوق انصياع العالم أجمع لهذه الاستراتيجية .
وينظر الغرب إلى العالم الإسلامي نظرة خاصة، فهو يشكل جزءاً من الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، وبين الإسلام والمسيحية، ويمتلك مقومات السبق الحضاري، والريادة الفكرية، ولذا ظهرت النظريات المتضاربة في استشراف مستقبل هذا الصراع، سواء مع العالم الإسلامي أو مع غيره من الأمم والحضارات ، فظهرت نظرية ( نهاية التاريخ ) لفرانسيس فوكوياما، التي قامت على حتمية تاريخية تماماً كما هي الفكرة الشيوعية التي رأت أن العالم يسير حتماً في سيرورته التاريخية صوب الشيوعية.
تشير نظرية "فوكوياما" إلى أن العالم سيقف على أعتاب (الليبرالية) الغربية، وبالأخص القيم الأمريكية التي يراد لها أن (تعولم) في وقت الانفراد الأمريكي في قيادة البشرية، وتلك هي المحطة النهائية في تاريخ الصراع البشري، أي أن نهاية تاريخ الصراع ستفضي إلى انتصار نهائي للرأسمالية الليبرالية.
وفي مقابل هذه النظرية ظهرت نظرية (صراع الحضارات) ، وهي تعتقد جازمة أن مستقبل الأيام سيشهد صراعاً قوياً بين الحضارات الإنسانية ، وهي نظرية تجيش الوعي والنفس الغربية للترقب بحذر شديد حول هذه الحضارات المرشحة للصراع .
ولما للعالم الإسلامي من مقومات حضارية، تاريخية وسكانية وعقدية، وجغرافية، ومقومات حضارية كبيرة، فإن الغرب جعل محور الاهتمام بهذه البقعة جزءاً من سياسته الطامحة إلى استعمار العالم من خلال المؤسسات الأممية التي يسيطر عليها بعد الحرب العالمية الثانية .
في خضم هذا الترقب والتوجس والاستعداد، جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي أسرعت بشكل كبير ، بل طوت الأيام لتجعل العالم في واقع قلق ومضطرب، ولتقنع أهل السياسة في الغرب بصحة ما سطرته أيدي ضاربي الطبول للصراع الحضاري، وخاصة أن المكلوم من الضربة قائد الغرب وحادي مسيرته ( أمريكا ) الذي تلقى صفعة قوية جعلته كالثور الهائج الذي لا يلوي على شيء، فراح يصب جام غضبه على أرض أفغانستان المسلمة، ويمطرها بوابل كبير من الحمم والقذائف راح ضحيتها آلاف من الدماء البريئة لمجرد الانتقام!
الاستراتيجية الأمريكية في العالم العربي والإسلامي ضخمة ومتشعبة ولها مطامح ومطامع كبيرة ، ولعلي ألخص أبرز أهدافها في:
المد الإسلامي ... والترقب الغربي :
يشكل بزوغ ظاهرة المد الإسلامي الكبير هاجسا كبيرا للغرب عامة ، ولأمريكا خاصة، ولذا عني المفكرين والكتاب والمثقفين الغربيين برصد هذه الظاهرة في وقت مبكر، ولا تعجب أن كاتباً مشهوراً معروفاً في أوساط المثقفين الإسلاميين وهو ( برنارد لويس )، وهو مستشرق يهودي الديانة بريطاني الجنسية، أمريكي الشعور، مقتنع جدا بالسياسة الأمريكية في الشرق الأدنى؛ لأنه أحد المنظرين لهذه السياسة في الجامعات الأمريكية .
هذا الكاتب الذي يبلغ من العمر الآن ستاً وثمانين سنة ، كتب في التوجهات الإسلامية وموقف الحركات الإسلامية من الديمقراطية ونقدها نقداً شديداً ، وجاب العالم الإسلامي كله، ومرّ على جامعاته ومعاهده وكل مناطق التوجيه الفكري فيه، ويمثل مثالاً قوياً لحركة الرصد للحركات الإسلامية والظاهرة الصحوية الإسلامية، وخلق سياسة عامة في الغرب - هو وغيره من المفكرين - لكيفية التعامل معها .
لقد ارتاح ( برنارد لويس ) كثيرا لأحداث الحادي عشر من سبتمبر وبزوغ ابن لادن في الواقع؛ لأنه يرى أنه يشكل هو وطالبان الصوت الشاعري البليغ المعبر عن الغضب الإسلامي، فهو يبرهن على صحة نظريته في وجوب التدخل الأمريكي والغربي في الشرق الأوسط للوقوف أمام هذا المد الإسلامي وإحلال النظم الديمقراطية فيه .(55/251)
إن الموقف الأمريكي من الحركات الإسلامية، سواء الجهادية منها أو الدعوية أو الإغاثية أو المؤسسات الخيرية، أو المناهج التعليمية بدا واضحاً بجلاء بعد الحادي عشر من سبتمبر، وأسهمت وسائل الإعلام الغربية في بيان هذا الموقف من خلال الدعوات الصريحة إلى مقاومة هذه الجماعات وتهديم مؤسساتها، ولو أدى الأمر إلى التدخل المباشر في مناطق العالم الإسلامي بحجة الحرب على ( الإرهاب ) الذي رصدت له أمريكا الميزانيات الضخمة وحددت له فترة زمنية تصل إلى عشر سنوات من الحرب الضروس على هذه التوجهات، والتي تدعي بزعمها أنها تشكل خطراً على الأمن العالمي والإنساني .
فمواجهة المد الإسلامي جزء من الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة ، وهو لا شك يحتاج إلى إفراده بالكتابة لبيان السبل التي أعدتها أمريكا وبدأت في تنفيذها في العالم الإسلامي اليوم .
إن أمريكا ومن خلال حربها على الإرهاب تنظر إلى الحركات الإسلامية على النحو الآتي :
1- الحركات الجهادية التي تستخدم القوة والحرب، تواجه مباشرة بحرب مضادة وقضاء مبرم .. واستئصال .
2- الحركات الإسلامية الدعوية التي تشكل البنية التحتية للحركة الإسلامية المعاصرة بصقورها وحمائمها، تعاملها الاستراتيجية الأمريكية من خلال التحجيم وتجفيف المنابع والحصار الأمني والرصد والتخطيط .
3- المؤسسات الإغاثية الإسلامية الداخليه والخارجية، تسعى الاستراتيجية الأمريكية إلى محاصرتها مادياً، وتجميد أموالها ومنع تدفقها المالي وتصعيب تحركها في الداخل والخارج .
4- أما الدعاة المفكرون والعلماء، فترى أمريكا انهم يشكلون حادي المواجهة مع الغرب من خلال بث الأفكار الإسلامية، وتعميق الولاء للأمة ودينها، وهؤلاء ستتعامل معهم أمريكا بالحرب الإعلامية وتضييق فرص الحضور الإعلامي والتأثير الجماعي على الأمة الإسلامية، ولا تعجب أن أمريكا الآن تحضر لندوات مع علماء العالم الإسلامي لمناقشة الأفكار التي يلقونها على مستمعيهم، والتحكم في المصطلحات الإسلامية وتغيير مدلولاتها بما يتوافق مع الاستراتيجية الأمريكية، حتى وصل الحال إلى مناقشة إعطاء المرأة فرصة لإلقاء خطبة الجمعة، وأن يكون منبر الجمعة منبراً اجتماعياً تطرق فيه مشاكل المجتمع مع مناقشة المصلين للإمام دون انفراده بالإلقاء والآخرون يستمعون إليه !
5- المناهج التعليمية: وهي تشكل بناء أفكار الأمة الإسلامية، وقد تصاعدت النداءات الأمريكية والغربية وخاصة بعد أحداث 11/9 إلى تغييرها، وحذف كل ما يتعلق بعلاقة المسلمين مع الآخرين، وحذف مفهوم ( الجهاد ) من المناهج وصياغتها بصورة تتوافق مع الحياة المعاصرة الغربية .
التدخل الأمريكي .. لإقامة الديمقراطية :
ينظر الغرب عامة، وأمريكا خاصة إلى أن العالم الإسلامي عالم تغيب فيه القيم الإنسانية؛ بسبب وجود أنظمة الحكم المستبدة، وأن الديمقراطية - كما يفهمها الرجل الغربي - غائبة عن الوجود في العالم الإسلامي ، وقد ألَّف (برنارد لويس) كتاباً اعتبر بمثابة البيان الناطق باسم المفكرين الغربيين، تحت شعار ( إقامة الديمقراطية في الشرق الأوسط ) وقد كان الكتاب بعنوان ( ماذا كان الخطأ: التأثير الغربي والتجاوب الشرق أوسطي ) وهو يتحدث عن الفشل الذريع الذي وقع فيه العرب والمسلمون في اللحاق بالحداثة الغربية، وسقطوا في دوامة العنف والحقد والغضب .
في مقابل إعلان الفشل الإسلامي في اللحاق بالحداثة الغربية، فإن ( لويس ) يعتبر أن دولة إسرائيل وتركيا هما الدولتان النموذج في الشرق الأوسط في مقابل التفكك العربي والفوضى العارمة في دول العالم العربي والإسلامي .
هذا التصور عن الشرق الأوسط يعد ذريعة إلى المطالبة الصريحة بالتدخل المباشر في العالم الإسلامي وإقامة الديمقراطية بالقسر، وهذه المطالب لم تكن ردة فعل لما حدث في 11 / 9 وإنما قدمت كمشروعات في زمن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، وقد سمي المشروع باسم ( القرن الأمريكي الجديد ) حيث وجهت رسالة إلى الرئيس الأمريكي قي شباط ( فبراير ) 2002 تطالبه باتخاذ ضربة عسكرية وإشعاعية لإطاحة بالنظام العراقي.
ولقد كان من ضمن الموقعين على العريضة كتاب متشددون إضافة إلى برنارد لويس ورامسفيلد وولفوفيتز، وأناس قد وصلوا إلى مناصب قيادية في حكومة الرئيس بوش، أمثال "دوغلاس فايت" مساعد وزير الدفاع ، "وإليوت إبرامز" الذي تسلم مؤخرا منصب المستشار الرئاسي الخاص لشؤون الشرق الأوسط "وزالماي خليل زاده" ورئيس المجلس الاستشاري للدفاع "ريتشارد بيرل" ووزير الخارجية المساعد "ريتشارد بولتن" .
العراق ... أولاً :
بدأت هذه الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق والعالم الإسلامي من العراق لتغيير أنماط الحكم، وما يتبعه من تغيير البنية الفكرية والثقافية والاقتصادية في تلك الدول، وبالأخص في دول الخليج العربي، ومما يذكر في هذا الصدد أن ( برنارد لويس ) عمل على إقناع الإدارة الأمريكية إلى تحويل وجهة أولوياتها إلى العراق، وساهم في تصعيد الوضع بين أمريكا والعراق.(55/252)
إن الأمر الذي رشح العراق لأن يكون نقطة البداية في تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية هي مضاعفات حرب الخليج الثانية، واعتبار العراق خارجاً عن المنظومة الدولية، والضرب على وتر امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، واتخاذ وضع العراق السياسي ذريعة إلى التدخل المباشر لتحطيم هذه الدولة وإحلال نظام ( القرضائي ) يكون وسيلة إلى الضغط السياسي والعسكري على دول المنطقة الإسلامية والعربية كافة !
إن ( برنارد لويس ) وغيره من الساسة والمفكرين الغربيين يرون أن العالم الإسلامي قد وصل إلى درجة من التخلف تستلزم من يرتب لهم أوضاعهم الداخلية والمدنية، وينقلهم إلى واقع يرفعهم عن سلطة الظلمة الفاسدين! وهذا ما سيحدث -على قول لويس وجماعته- بشكل تدريجي ينقل العرب من واقعهم إلى الديمقراطية الغربية .
ويذهب لويس إلى أبعد من ذلك، حيث يرى أن من يعارض التدخل الأمريكي العسكري يرفض الديمقراطية في المنطقة !! وهو بهذا يواصل مسيرته من خدمة بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، إلى خدمة الإمبراطورية الأمريكية الجديدة، آملا في الوصول إلى ما عجزت عنه بريطانيا وفرنسا !
الحرب من أجل النفط !
المطامع الغربية في العالم الإسلامي كثيرة، ومن أهم هذه المطامع هي تربع العالم الإسلامي على احتياطي ضخم من النفط يشكل مادة الحياة الصناعية المعاصرة، وهو لا شك مطمع أمريكي، حيث سيأتي هؤلاء إلى العالم الإسلامي لنهب مكشوف للثروات من نفط ومشتقاته، وغاز وغيره .
إن نشطاء منظمات السلام الغربية، وهم يقومون بمعارضة الحرب المرتقبة على العراق، يرفعون شعارات تحمل مدلولات كبيرة: ( لا لسفك الدماء من أجل النفط )، فهم يدركون الهدف الذي تسعى إليه أمريكا من شن الحرب على العراق، ومن ثم على دول المنطقة جميعاً إلا من قَبِل كافة الشروط وأعلن الولاء التام ولم يغرد خارج السرب الليبرالي الغربي، وهو لا شك هدف مستقل وكبير تسعى إليه أمريكا وحلفاؤها .
شن الحرب على العراق ستكمل (طوق النفط) كله، وسيجعل إيران في موقف صعب، وسينسحب هذا الوضع ليمتد من دول الخليج إلى بحر قزوين وآسيا الوسطى وأفغانستان، وهذا يتوافق مع وضع إيران في ( محور الشر ) الذي تصورته أمريكا واستهدفته في حربها الاستراتيجية القائمة !
هذا الوضع الأمني للنفط سيصنع سياسة نفطية جديدة، تقوم على إفقاد الدول النفطية القدرة على تحديد سعر عادل للنفط، وضمان احتكار أمريكا للاستثمار في حقول النفط، وإلغاء كل العقود التي وقعتها هذه الدول مع أوروبا وروسيا ! وهذا سيتساوق مع وجود عسكري أمريكي دائم في هذه المنطقة من العالم، وهو لا شك يشكل عودة عصور الاستعمار من جديد !
إن ( الحرب على الإرهاب ) والذي يشكل شعاراً للاستراتيجية الأمريكية سيعيد الناس إلى عصور الاستعمار، واحتكار الأسواق المالية والموارد الأولية كما كان الوضع قبل عصر الاستقلال ، وستفرض سياسة أمركة السوق بالقصر والعنف!
إسرائيل .. الولد المدلل : من يحميه ؟
سبقت الإشارة إلى أن الغرب يعتبر إسرائيل ربيبته في المنطقة، فهي في رأيه تشكل الدولة الديمقراطية المثالية في عالم متخلف حضاريا ومدنيا وسياسيا، ولذا فإن وضع إسرائيل التي يجمعها بالغرب قواسم حضارية ودينية مشتركة، تمثل المجتمع المدني الحقيقي، ولذا فإن حمايتها من واجبات الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وهذا جزء من أهداف توجيه الضربة المرتقبة إلى العراق وتدمير قوته العسكرية التي لم يكن تدميرها كافياً بقدر كبير بعد غزو العراق للكويت في عام 90، فالعراق يشكل خطرا حقيقيا على إسرائيل في ظل نظام البعث، فكيف لو تمكنت الأصولية الإسلامية من الإمساك بزمام الحكم في الدول الإسلامية، الأمر سيصبح خطيراً جداً على إسرائيل، ولذا كان من واجب الغرب أن يوازي في حربه على ( الإرهاب )، وبين تفكيك القوى التي تشكل الخطر على إسرائيل، قبل أن يتمكن المد الإسلامي من الحكم في تلك البلاد!
إن إزالة الخطر العربي على إسرائيل من المهمات التي توجه إليها ( برنارد لويس ) مع الإدارة الأمريكية، وركز في خطاباته على الخطر على الغرب في حالة حصول ( الإرهابيين الإسلاميين ) على أسلحة الدمار الشامل سواء في العراق أم في سوريا أو في إيران، وأنه لا يجوز لأمريكا أن تبدي الضعف تجاه العرب والمسلمين وقد قال مسؤول أمريكي في مجلة نيويوركر: إن لويس صرف المخاوف من إثارة غضب الشارع العربي بالقول: ( لا شيء مهم في ذلك الجزء من العالم سوى الإرادة الحازمة والقوة ) .
وهو مع ذلك يرى أن إسرائيل قد استعجلت في الانسحاب من جنوب لبنان، وقدمت دلالة ضعف دفع الفلسطينيين إلى إطلاق الانتفاضة الثانية
=============(55/253)
(55/254)
الحركة الإسلامية بين الشرعية والوضعية
د.أحمد الريسوني 2/11/1423
16/01/2002
إن منهج المراجعات للحركة الإسلامية من التطور الإيجابي الذي ينبغي أن نمضي فيه وأن نعيش في المجتمع المسلم بشفافية أكثر وضوحاً في كل قضايانا، وأن نشرحها ونخرج كثيرا منها من الدهاليز والكواليس لنتحدث منها في فضاء رحب وواضح. وموضوعنا هذا يمكن أن يكون قراءة فكرية لبعض جوانب الحركة الإسلامية ، ويمكن أن نعتبره قراءة نقدية لمسارها وفكرها.
والموضوع ذو طبيعة منهجية، أي يتناول الجانب المنهجي، فلذلك أحرص وأريد أن أتلمس جوانب من منهج الإسلام في الإصلاح، ومنهجه في الدعوة، ومنهجه في التغيير والبناء..وهذا جانب نظري وعام، وليس خاصا بالحركة الإسلامية ، ولا بهذا الزمن، فهو نوع من الفقه بالدين من خلال أمثلة وواقع معين للحركة الإسلامية والدعوة الإسلامية. فقد أصبحت هذه الأخيرة اليوم ملء السمع والبصر في كافة المجتمعات وفي العالم كله. أي أصبح من حقنا جميعا ومن حق كافة المواطنين والمهتمين أن يناقشوا هذه الحركة ويسهموا في تطويرها وإبداء الآراء حول مسارها، وفي هذا السياق يأتي موضوع" الحركة الإسلامية بين الشرعية والوضعية ".
ما المقصود بالمنهج الشرعي والمنهج الوضعي؟
أولا: المنهج الشرعي:
أعني به في موضوعنا هذا مجموع الأساليب والطرائق والأشكال التي يتبعها المسلم في دعوته وقضاياها وإنجازاتها، وتجاوز إشكالاتها... والمنهج الإسلامي لكي يكون شرعيا ينبغي أن يكون منبثقا من الشرع ومستنبطا منه، وهذا معنى أنه شرعي، أي منسجم مع الشرع... وسواء تعلق الأمر بالتفكير أو التسيير أو اتخاذ مواقف سياسية فإن هناك منهجا. والمنهج الشرعي يشمل الفكر والقول والعمل ، ويشمل كذلك الأحاسيس والعواطف ؛ فالعواطف تخضع لمنهج الشرع أيضا ومن ذلك قوله تعالى: (فيومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) فهذا فرح شرعي ، وقد يكون هناك فرح غير شرعي: (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) فالمنهج الشرعي عند الحركة الإسلامية يقتضي أن تكون أفكارنا وطريقة تفكيرنا وأولوياتنا مبنية على الشرع.
ثانيا: المنهج الوضعي:
وأعني بالمنهج الوضعي ما يقصد بهذه الكلمة في الوقت الحاضر، فهو يحتمل معنيين، الأول : ما وضعه الناس وليس منزلا ولا موحى به . الثاني : وضعي بمعنى مطبق ومعمول به ، فهو موضوع موضع التنفيذ.
والذي أعنيه هنا هو ما لم يستمد من الشرع وكان متنافيا معه، من عادات الناس وسلوكاتهم. وللكلمة معانٍ أخرى ليس الآن محل تحديدها.
أما عن هذا التركيب: "الحركة الإسلامية بين المنهج الشرعي والوضعي" فهو إيحاء" وهذا ما أقصده وأعنيه فعلا- بأن الحركة الإسلامية متأرجحة بين بين... تأخذ من المنهج الشرعي ولكنها أيضا لا تخلو من الوقوع تحت تأثير مناهج وضعية تروج في المجتمع، وربما لا علاقة لها بالشرع ولا أصل لها فيه !! وإنما وجدت في الممارسات السياسية وفي الثقافات السائدة المحلية أو الوافدة . فالحركة الإسلامية رغم أنها إسلامية ، قامت للدعوة للإسلام، وتتحرك للإسلام، وتدافع عن الإسلام ، فإنها عرضة للمنهج الوضعي والتأثر به. والمنهج الوضعي ليس كله شرا، ولكنه إذا كان غير متقيد بالشرع فإنه يكثر فيه الخلل والزلل وربما (الضلال)، ولكن قد يكون فيه قدر من الصواب والحق. وأريد أن أركز هنا على ما في المنهج الوضعي من اختلالات تمتد آثارها إلى المفكرين والدعاة والحركات الإسلامية فتتبناها بوعي أو بغير وعي، إذ إننا قد نجد حركة إسلامية بمناهج غير إسلامية، وهذا أحد عناصر وأسباب الخلل والتعثر الذي تعاني من مناهج الحركة الإسلامية هنا أو هناك .
وهذه بعض مظاهر المنهج الوضعي الذي تقع فيه الحركة الإسلامية أو بعض مكوناتها :
1/ إهمال الأصول والتركيز على الفروع:
إن الفروع تفرض نفسها من خلال الواقع، ولأنها تمثل القضايا اليومية التي تتناسل وتتوالد كل يوم، فحينما تنشغل الحركة الإسلامية وتنهمك في هذه القضايا سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو سياسية أو إعلامية مع إهمال الأصول، وتركز على ما هو آني ولحظي، وتشتغل كما يشتغل البناء والتاجر.. وتنهمك في الجزئيات انهماكا كبيرا أو تاما وتهمل الأصول، فهذا معناه أنها قد تأثرت بالمنهج الوضعي ؛ لأن هذا المنهج ليس له أول، إنما هو فروع ومطالب وتداعيات تسير بلا أصول . والحركة الإسلامية يجب أن تتميز رسالتها ؛ لأن لها أصولا متى ما أغفلتها أو همشت مكانتها وقيمتها تكون بذلك قد انزلقت إلى منهج وضعي لا أصول له، وهذا اختلال أول يمثل سقوطا في منهج لا تهمه إلا أسعار البترول والرواتب والضرائب.. وهي أمور رغم أن لها مكانة في ديننا إلا أنه لا ينبغي لعلماء الأمة ودعاتها ، وللحركة الإسلامية أن يتركوها تزاحم الأصول والثوابت في مكانتها ووزنها.
2/ التقصير في الثوابت وتعظيم المتغيرات:(55/255)
إن الثوابت لا توجد في الدين فقط ولكن الحياة لها ثوابتها، ومن ثوابتها نظام الأسرة، والعلاقة بين الرجل والمرأة ، والعلاقة بين العبد وربه ، والأخلاق التي تعتبر من الثوابت التي لازمت الإنسان منذ وجوده الأول . إذن إن هناك ثوابت لابد من الاشتغال بها وتثبيتها كتثبيت الأصول، ومن الخلل والزلل إهمال هذه الثوابت والتقصير في حقها لمصلحة الاختيارات والمواقف والمميزات السياسية أو التنظيمية أو الظرفية.
ولكننا نجد في القرآن ما لا يحصى من النصوص التي تدل على أن الآخرة هي الأولى: (وللآخرة خير لك من الأولى)، (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو), فيجب على الحركة الإسلامية أفرادها أن يوجهوا الناس وأن يعطوا اهتماما أكبر للآخرة، فالناس يهتمون بالدنيا بدافع الفطرة والغريزة، أما الآخرة فقد تمر على الإنسان سنون أو شهور من عمره دون أن يفكر فيها. والحركة الإسلامية تقع في خطأ حين تساير الأحزاب بالانشغال الطاغي بالأمور الدنيوية ؛ لذلك يجب عليها أن تعيد التوازن المطلوب من خلال محاضراتها ومواقفها وخطاباتها، حتى لا تتحول إلى حركة دنيوية ترجح كفة الدنيا واتباع المنهج الوضعي بدل المنهج الشرعي !!
3/ غلبة الاعتبارات الحزبية على المقتضيات الإيمانية:
من المعلوم أن الإنسان عندما يكون عضوا في حزب فهو يدافع عنه بالحق وبالباطل، ويشوه خصمه بالحق وبالباطل، ويتعصب لحزبه كيفما كان ، ويدور معه كيفما دار. إن هذه الأعراف الحزبية باطلة في الشرع. وإذا أصبح أهل الحركة الإسلامية يمارسون شيئا من هذا، فذلك انزلاق نحو المنهج الوضعي . فإذا كانت الأحزاب تكيل بمكيالين فالشرع ليس فيه مكيالان, بل إن الإسلام كان أول من انتقد هذا المنهج في سورة المطففين حينما قال تعالى: (ويل للمطففين الذي إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون), فالكيل بمكيالين قديم قدم الجاهلية، والإسلام يستنكره. والميزان الذي يجب أن يحاسب به الإنسان نفسه يجب أن يكون هو الميزان الذي يحاسب به الآخرين، لكن السائد هو كثرة الانتقادات والاتهامات والتشنيعات للآخرين ، بنسب مئوية عالية، ومقابل ذلك تجد التمجيد والثناء والتبجيل للذات وللجماعة وللرئيس وللاختيارات !! إن المسلم إذا أراد أن ينتقد فعليه أن يبدأ بنفسه قبل غيره، ويحاسب ذاته أكثر مما يحاسب غيره . ونجد أن عدداً من العلماء كانوا يتساهلون مع غيرهم في بعض الأمور التي يستفتون فيها، وبالمقابل كانوا يشددون على أنفسهم.
في حين نجد في واقعنا أن الإنسان لا يوجه لنفسه أية انتقادات ولا ملاحظات، يستوي في ذلك الأفراد والجماعات والحركة الإسلامية، فتجد البعض يراقب غيره ويتتبع الحركة والسكنة، في حين لا تجده يلتفت إلى نفسه فأحر به أن ينتقدها.
4/ التشبث بالأسماء والظواهر وتضييع المسميات والجواهر:
نجد في حياتنا العامة حرصاً كبيراً على الشكليات والظواهر ولكن نجد العمق خرباً، وقد تسلل شيء من هذا إلى صفوف الحركة الإسلامية أو بعبارة أدق فإن الحركة الإسلامية تنزلق إلى ذلك. فالأمور التي تظهر للناس تحظى بحرص المسلم وعنايته واهتمامه، في حين تجد الأمور الباطنة على خلاف ذلك ، مع العلم أن المسلم ينبغي أن يكون ظاهره كباطنه إن لم يكن باطنه أفضل من ظاهره. ومما يؤسف له أن الكثير من المفكرين الإسلاميين يتحدثون عن الشورى وعن الديمقراطية، وتؤسس حركاتهم مجالس للشورى، في حين نجد على مستوى الممارسة الكثير مما يقع فيه الوضعيون من انحرافات كالتحايل لتمرير بعض المواقف والتصورات، في حين نجد أن الشورى في الإسلام معناها: أن المسلم يتشاور مدفوعا برغبة صادقة في أن يعرف الحق. فإذا كان العلماء والمفكرون يقسمون الشورى إلى معلمة وملزمة، فأنا أقول : إن هناك أيضا الشورى المؤلمة التي حافظت على الشكل وضيعت الجوهر وبالتالي فهي تؤدي إلى نتائج عكسية وحزازات وحساسيات ؛ إذ كيف يعقل أن يأتي الإنسان ليستشير وهو عازم مسبقا على الانتصار لفكرة أو رأي معين، مستعملا في ذلك جميع الوسائل ، ومعرضا عن الآخرين ، وأحيانا يقوم بحملة مضادة في مواجهتهم ؟! فهذا إفساد للشورى وقتل لها وسقوط في منهج وضعي.
إن المسلم عليه أن يأتي للشورى كما يأتي إلى القرآن الكريم وإلى السنة النبوية، يطلب الصواب والحق والحكمة. وقد علمتنا بعض الجماعات وبعض الدعاة كيف أن الإنسان يجب عليه أن يتمنى حين يستشار أن يؤخذ برأي غيره ، وشبيه بهذا ما روي عن الإمام الشافعي : (ما ناظرت أحدا، إلا تمنيت أن يخرج الله الحق على لسانه) فالمسلم يجب عليه أن يخضع للحق ويذعن له.
5/ التفسير التآمري للأحداث:
إن هذه العيوب نتجت عن كون الحركة الإسلامية المعاصرة حينما دخلت ميدان التغيير والإصلاح وجدت منافسة من الحركة اليسارية، فاقتبست وتأثرت كثيرا بهذه الحركة في مناهجها الوضعية، وتجلى ذلك في أخذ الحركة الإسلامية بما يكن أن نسميه بالتفسير التآمري للأحداث.(55/256)
إن هذا المنهج يميز الحركة اليسارية القائمة على التآمر والصراع، لأن اليساريين والماركسيين والشيوعيين يعتبرون الحياة منذ بدء الخليقة كلها صراع في صراع ، ففكرة الصراع تهيمن عليهم، وكل تصرف يصدر عن غيرهم يرون فيه تآمرا عليهم. والحركة الإسلامية لم تسلم من بعض تأثيرات هذا المنهج، فقد أخذت بهذه الفكرة وتعززت عندها بكثرة ما تعرض له المسلمون من المكائد والمؤامرات، ولكن المشكلة تكمن في أن الإنسان ينظر إلى تصرف الآخر على أنه - دائما - تآمر ضده، وقد كان الطلبة الشيوعيون في فترة السبعينيات يقولون حينما تهطل الأمطار بغزارة ويكون الموسم الفلاحي مزدهرا بأن الطبيعة تتحالف مع النظام ؛ لأنهم كانوا يتمنون الجفاف لكي تتأزم الأوضاع الاقتصادية ويحدث الصراع الطبقي ويثور الناس. والحركة الإسلامية لم تسلم كذلك من هذا، فأصبحت كل التصرفات وكل الإجراءات تفسر تفسيرا تآمريا ينسب إلى النظام تارة وإلى الولايات المتحدة الأمريكية أو الصهيونية تارة أخرى. وأنا أقول بأن المؤامرات غير موجودة، ولكن الخطر يكمن في أن تصبح عقليتنا آلية تفسر كل شيء بالتآمر، فهذا منزلق خطير يجر إلى متاعب ومشاكل خطيرة. فليس صحيحا أن كل ما يفعله الآخرون مؤامرات موجهة ضد الإسلام والمسلمين وضد الحركة الإسلامية ، والمسلم مطالب بأن يأخذ الأشياء على حسن الظن، فإذا ثبت العكس أخذ به . إن التفسير التآمري خاطئ من الناحية الأخلاقية والأدبية وحتى الواقعية، ويؤكد هذا ما ثبت من أن الكثير مما كان يظن بأنه مؤامرات ومكائد تبين أنه لم يكن سوى أوهام. بالإضافة إلى أن الكثير مما بنا من كسب أيدينا، وكثير مما يفعله الآخرون لا علاقة له بنا. إذن فالمنهج العلمي أولا والأخلاقي ثانيا والواقعي ثالثا يقتضي أن يكون الشخص أو الحركة متبصرا لا من هواة الاتهامات ؛ فالخطر كل الخطر في أن تصبح الحركات الإسلامية مصابة بهذا المرض، لأنه حينئذ سيصبح كل ما في الوجود عدوا لها فلا تستطيع أن تحسن الظن بأحد ، ولا تستطيع أن تمد الجسور مع أحد ، ولا تستطيع أن تجد قواسم مشتركة مع أحد، وهذا فعلا جر على الحركة الإسلامية كما جر على الحركة اليسارية من قبل المحن والابتلاءات بلا حدود. فهذا المنهج غير شرعي أصلا وهو كذلك غير علمي ولا واقعي.
إن المنهج الشرعي يعتمد على التثبت والأخبار الصحيحة الموثوقة، وما لم يكن موثقا فهو مرفوض أو على الأقل نتوقف حتى نتثبت منه.
6- تملق الناس وخداعهم :
إن رصيد الأحزاب السياسية والسياسيين وقوتهم ورزقهم وربحهم متوقف على مقدار شعبيتهم وعدد أنصارهم، لذلك كان من الأسس الثابتة في منهجهم تملق الناس بالحق والباطل، والمنهج الإسلامي لا يتملق أحدا، لأن من تملق أحدا أصبح في حاجة إليه ، فإذا كان الحزبي والسياسي حين يتملق الناس يعرف أن رصيده وانتصاره وفوزه وصعوده يتحقق بهم، فإن على الداعية ألا ينتظر شيئا من هذا، وأن يؤدي واجبه ويمضي في سبيله دون تملق للناس ولحركة الإسلام التي هدفها إرضاء الله تعالى والتقرب إليه . ينبغي أن تجامل في الحق والصواب وتقر الناس على ما هم عليه ؛ لأن الثقة الحقيقية ينالها من يصارح الناس ويصدقهم في القول والعمل ويبصرهم بما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، ويكون صريحا معهم ؛ فليس من منهج الإسلام مسايرة الناس ومجاملتهم والسكوت عما يغضبهم !!
هذه بعض الملاحظات التي تقع فيها الحركات الإسلامية , والتي تؤدي إلى الخروج عن المنهج الشرعي في الدعوة والإصلاح ، والسقوط في المنهج الوضعي مما يفوت على الدعوة فرصا كثيرة !!
============(55/257)
(55/258)
( الدين ـ التجارة ـ الشبكات الخفية )
اريك لوران
دخل جورج دبليو بوش البيت الأبيض بعد انتخابات أثير حولها الكثير من اللغط، ومع ذلك لم يسبق أن حاز رئيس قبله كل هذه السلطة، وأظهر كل هذه الغطرسة. غير أن مساره يعج بالخفايا والأسرار، و«تشوبه» تحالفات مشبوهة وتلاعبات مالية مشينة، على حد تعبير مؤلف كتاب «عالم بوش السري» الذي حاول دخول دهاليز الحكم في أميركا، ورصد دور رجال المال، وصناع الفكر والاصوليين الدينيين في كواليس البيت الأبيض، وتوقع لقارئه ان يصاب بالهلع والقلق لما يجري في مطبخ النظام العالمي الجديد، نظام القطب الواحد الأوحد.
وقد عمدنا في عملية الترجمة والاعداد إلى الأسلوب الانتقائي في اختيار المادة المترجمة بهدف تقديم صورة متكاملة للقارئ عن هوية حكام عالم اليوم، منذ مرحلة التشكل الهلامي، فمرحلة الكمون وصولا الى مرحلة العمل المنظم والعلني في سبيل الغاية الأعظم أي «إعادة تشكيل المشهد الجيو سياسي بحيث تكون واشنطن فيه سيد اللعبة».
تأليف: اريك لوران
يعد من أبرز المراسلين في فرنسا، متخصص في شؤون السياسة الخارجية، له عدة مولفات رائجة بينها: «حرب الخليج، الملف السري» شاركه في التأليف بيار سالينجر، و«عاصفة الصحراء» وصدر له أخيرا كتاب «حرب آل بوش».
ترجمة وإعداد: مليكة بوشامة
علاقة محرمة» بين صانعي السياسة الدفاعية وشركات الأسلحة في أميركا
بعد ثمانية اشهر من تولي جورج دبليو بوش مهام الرئاسة في نوفمبر 2000، نشرت مجلة نيوزويك في عددها الذي صادف هجمات 11 سبتمبر مقتطفات من كتاب كان قيد الطبع يحمل عنوان: «رئيس بالصدفة؟» وكان السؤال ليبدو استفزازيا لكنه في الواقع سؤال مغلوط تماما. فبوش يمكن وصفه بأي شيء الا انه وصل الى الحكم بمحض الصدفة. واعتبر قسم كبير من الرأي العام الاميركي حصيلة حكمه آنذاك مخيبة للآمال فيما استطاعت قلة فقط من المراقبين تقييم حجم التغيير العميق والانقلاب المقلق اللذين حدثا.
فهناك كثير من الرؤساء في التاريخ الاميركي الذين شددوا على جذورهم الدينية، وطعموا خطبهم بمقاطع من الانجيل، ولكن لم يحدث ابدا قبل وصول جورج دبليو بوش ان اكتسب الدين وزنا كبيرا كما في عهده.
وخلال حملته الانتخابية اكد بوش ان المسيح هو المفكر الفضل لديه لانه «انقذ قلبي» وحالما تسلم السلطة أعلن يوم 20 يناير 2001 يوما وطنيا للصلاة رغم وجود مثيل له في شهر مايو.
ويقول المؤرخ آلان ليشتمان من الجامعة الاميركية في واشنطن: «ان اقحام الدين بهذا الشكل لم يسبق له مثيل».
وفي احدى خطبه الاولى قال على وقع التصفيقات الحارة: «ينبغي ان ينتهي زمن التمييز ضد المؤسسات الدينية لا لشيء الا لانها دينية». وبعيد ذلك، انبرى يدافع باستماتة عن المطالب الاساسية للمنظمات المسيحية المحافظة جدا وضمنها منظمات أصولية تطالب بتوسيع نطاق استفادتها من الاموال العامة لتمويل برامجها للمساعدات الاجتماعية. وهو ما يمثل مصدر اثراء لا يستهان به بالنسبة لهذه الحركات وقادتها بمن فيهم رجال الدين ورؤساء الشركات ومعظمهم يملك ثروات شخصية طائلة.
ويذكر ان جورج دبليو بوش اكد خلال حملته الانتخابية انه يجسد «نموذجا جديدا للمرشح الجمهوري». لكن الواقع كشف عكس ذلك.
«فالتحالف الجديد» الذي كان يدعمه تنكر تماما للقيم والقناعات التقليدية للحزب الجمهوري او على الاقل تلك التي دافع عنها اثنان من الحزب وهما ابراهام لينكولن ودوايت ايزنهاور. إذ اعتبر الأول الحرب الاهلية اختبارا حقيقيا. وظلت الحرب طيلة 140 عاما تقريبا محور الاهداف بالنسبة لهؤلاء المسيحيين الاصوليين الذين يتسمون في الغالب بالعنصرية ومعاداة السامية والمرتبطين ارتباطا وثيقا ببعض المحافظين الجدد اليهود المقربين جدا من حزب الليكود اليميني الحاكم في تل أبيب. اعتبر هؤلاء ان المواجهة اللازمة ينبغي ان تتم على صعيدين اثنين فعلى الصعيد الداخلي، ينبغي التوصل الى تفكيك نظام الرعاية الاجتماعية ودعم الاقليات الذي وضع قبل عدة عقود الى جانب فرض القيم الدينية الاكثر محافظة على المجتمع الأميركي برمته.
وكانت مؤسسة «هيريتيج»، معقل هذه الاستراتيجية، تتحدث عن ثورة اميركية ثانية لـ«الاستقلال الثقافي» ترمي الى نسف المجتمع متعدد الثقافات السائد في الولايات المتحدة وتقويضه.
.. لامنافس لأميركا
اما على الصعيد الخارجي فكان الهدف يرمي الى تسخير الجبروت الاميركي، وخاصة القوة العسكرية لاعادة تركيب المشهد الجيوسياسي. وقد قالها الصقور المتحلقون اليوم حول جورج دبليو بوش صراحة «ينبغي الا نألو جهدا في منع اي بلد او مجموعة اقليمية من التمكن يوما ما من منافسة اميركا».
وفي خطاب القاه ايزنهاور قبيل مغادرته السلطة في يناير 1961 وترك صداه الى اليوم، تحدث الرئيس عن وجود تحالف عسكري صناعي يمثل خطرا جسيما على الديموقراطية الاميركية وكانت تلك القوة العظيمة المتمثلة في البنتاغون من جهة وشركات الاسلحة من جهة أخرى تشغل بال القائد العسكري السابق.(55/259)
وظل نفوذ هذا اللوبي وما يمثله من خطر موضوعا يتردد على الالسن طيلة العقود التي تلت. ونستعير كلام لينين، الذي قال قبل وفاته بقليل عام 1924 ان «الشركات متعددة الجنسيات بسطت هيمنتها على الارض» لنقول ان التحالف العسكري الصناعي قد بلغ اوجه حين هيمن على ادارة بوش. فواضعو السياسة الدفاعية ومنفذوها الذين يرسمون ايضا الملامح الجديدة للسياسة الخارجية الاميركية، يقيمون علاقات «محرمة» حسب تعبير احد المراقبين، ولكنها مثمرة مع شركات الاسلحة، والشركات الكبرى.
سيكولوجية
التقى الصحافي بوب وودوارد الرئىس الاميركي في اغسطس 2002 بمزرعته في كراوفورد. وقد كتب يقول: «خلال المقابلة، جاء الرئىس الاميركي على ذكر فطرته أو «ردود فعله الغزيرية» حوالي 12 مرة الى ان قال: «انا لست من النوع الذي يعمل بما جاء في الكتب بل بما تمليه علي غريزتي».. ومن الواضح ان غريزته هي بمثابة دينه الثاني.
صحيح ان بوش لا يقرأ. وقد ظلت السيرة الذاتية لسام هيوستن، احد مؤسسي تكساس الذي يحلو له ان يتماهى معه، هو الكتاب الذي يتصفحه قبل الخلود الى النوم طيلة شهور عديدة، غير ان ثمة كتابا وحيدا حرص على قراءته سطرا سطرا، وبتركيز شديد، واحدث فيه تغييرات جذرية على مستوى الشخصية والنظرة الى العالم، انه كتاب الانجيل الذي قرأه وهو يشارف على الاربعين من العمر.
تزوج بوش عام 1977 وانضم الى الكنيسة البروتستانتية الاصلاحية التي كانت زوجته عضوا فيها. وعرف عنه ادمانه الكحول حتى ضاقت به زوجته لورا ذرعا وفي عام 1985 اصيب بوش وهو في عمر 39 عاما بحالة احباط شديد مع توالي النكبات والاخفاقات على الصعيد المهني.
ويروي هاوارد فينمان في تحقيق نشرته نيوزويك تحت عنوان: «بوش والرب» كيف تعافى الرئيس الحالي من هذه الحالة بفضل احد اعز اصدقائه بوب ايفانز، الذي يشغل منصب وزير التجارة حاليا. كان ايفانز يمر بدوره بفترة عصيبة على الصعيد المهني والشخصي وكان قد التحق بحلقة دراسية للانجيل وهي عبارة عن برنامج لدراسة احد كتب العهد الجديد دراسة معمقة على مدى عام كامل.
واقنع ايفانز جورج دبليو بوش بالانضمام الىه في الحلقة الدراسية. فتعمق الاثنان في انجيل لوقا طيلة عامين، ودرسا نسخة القديس بول حول طريق دمشق وانشاء الكنيسة المسيحية «وقد كان هذا البرنامج بمثابة انعطافة حقيقية في حياة رئيس المستقبل على صعد عدة، اذ اصبح لديه محور اهتمام فكري للمرة الأولى». ويعتبر بوش بهذا المعنى نتاج «حزام الانجيل» وهو المصطلح الذي يطلق على الولايات المحافظة والمتدينة في جنوب الولايات المتحدة حيث يكن المؤمنون احتراماً شديدا لنصوص الانجيل.
وجد بوش الذي يحب ممارسة المشي والماراثون في دراسة الانجيل بديلا فكريا وتربية روحية كان في أمس الحاجة اليهما لمواجهة التحدي الأساسي في حياته آنذاك، اي ترك تعاطي الكحول.
وقد توقف بوش عن ذلك في صيف 1986 بعدما احتفل هو وصديقه ايفانز ببلوغهما الأربعين.
ويذكر انه قال في احدى المناسبات بعد انتخابه ببضعه شهور: «لقد كان الإيمان خير سند لي في أوقات النجاح والاخفاق. ولولاه لكنت شخصا مختلفا ولولاه لما كنت هنا اليوم، ربما».
وبعد «مولده الجديد» (اشارة الى التجربة الروحية لاعادة اكتشاف الله التي يزعم كثير من الاميركيين «1 من 4» انهم عاشوها) في عام 1986، اهتدى بوش بعد عام من ذلك الى السبيل الذي يكفل له المزج بشكل فعال بين القناعات الدينية والطموحات السياسية. ففي عام 1987، ذهب الى واشنطن والتحق بالفريق الذي كان يحضر الانتخابات الرئاسية لصالح والده. وتم تكليفه بتنسيق العلاقات مع مجموع الحركات والمنظمات التابعة لليمين المتدين وهو ما لم يكن وليد الصدفة.
ويقول احد مساعديه، وهو دوغلاس ويد متذكرا: «أما أبوه فلم يكن يشعر بالارتياح فعليا لهؤلاء الناس في حين كان الابن يعرف تماما كيف تنبغي مخاطبتهم والتعامل معهم». وتكررت مبادرات جورج دبليو بوش، طيلة الحملة لمحاولة اقحام اكبر عدد من النصوص الانجيلية على سبيل الاستشهاد في الخطب الانتخابية التي ألقاها والده.
وحين قرر في عام 1993 ترشيح نفسه لمنصب حاكم تكساس اثار ارتياب والدته التي كانت ترى شقيقة الأصغر جيب مؤهلا للمنصب في فلوريدا اكثر منه. وكان جورج دبليو بوش الذي هزم أبوه امام بيل كلينتون قبل عام من ذلك، قد انكب على تحليل الأسباب الانتخابية الكامنة وراء هذه الهزيمة بمساعدة «ملهمه السياسي» كارل روف الذي يعمل ضمن فريقه في البيت الأبيض.
واتضح ان اسباب هزيمة بوش كان مردها في جزء كبير منها الى نقص اصوات المحافظين المتدينين الذين يشكلون حسب تعبير «روف» «قوة لا غنى عنها لأنها تمثل حوالي 18 مليون ناخب. وهؤلاء الناس لا يمكن التحايل عليهم فهم يريدون ان تكون مثلهم».
ثم ان بوش ارتكب في نظر المسيحيين المتطرفين خطأ.(55/260)
لا يغتفر حين مارس ضغوطات على اسرائيل وأجبر رئيس الوزراء آنذاك اسحق شامير على الجلوس الى طاولة المفاوضات اثناء مؤتمر مدريد، ويذكر ان هؤلاء الناشطين المسيحيين كانوا يتبنون المواقف الاكثر تشددا لدى اليمين الاسرائيلي، وهو تحالف غاية في الغرابة والغموض.
من يدخل الجنة
في عام 1993 وخلال الفترة التي كان جورج دبليو بوش يتهيأ فيها لدخول السباق الانتخابي لتبوؤ منصب حاكم ادلى بمقابلة صحيفة لصحافي يهودي وكان من ضمن ما قاله فيها: «وحدهم المؤمنون بالمسيح سيدخلون الجنة».
وهي جملة أثارت حفيظة عدة كتاب اعمدة في الصحافة المحلية والاقليمية في حين ابتهج لها كارل روف لان هذا الكلام الطائش الصادر عن مرشحه يعتبر الوسيلة الاضمن لاستمالة قلوب واصوات الناخبين المسيحيين المحافظين وخاصة في المناطق القروية من ولاية تكساس.
وقد استخدم بوش طيلة حملته الانتخابية القساوسة كوسطاء او مفاتيح انتخابية، وفور اعلان فوزه صرح قائلا: «لم أكن لاصبح حاكما لو لم اكن مؤمناً بمخطط الهي كبديل لكل المخططات الانسانية».
ويتحدث الصحافيان لودوبوز ومولي ايفنس اللذان تقصيا كثيرا حول الرئيس الحالي عن «ايمان قدري وغريب للغاية» ويمكن الجزم ان بوش موقن انه مكلف بمهمة الهية.
رئيس
بدأت فكرة الترشح للانتخابات الرئاسية تراود جورج دبليو بوش مع مطلع عام 1999، ففاتح والدته في الامر اولا، وبعد ذلك بفترة قصيرة ذهبا معا الى الكنيسة لحضور القداس، وكان موضوع العظة في ذلك اليوم يتلخص في شكوك موسى في مؤهلاته كزعيم، فاسرت بربارة لابنها بالقول: «انك تشبه شخصية موسى» وفور عودتهما الى البيت استشارا القس بيل غراهام باعتباره صديقاً شخصياً لبوش الاب، كما يعد اشهر مبشر ديني في الولايات المتحدة وكان المستشار الروحي للعديد من الرؤساء الاميركيين وكاتم اسرارهم.
وطمأن غراهام بوش جونيور بشأن مؤهلاته، وما هي الا بضعة اسابيع حتى جمع حاكم تكساس في مقر سكنه ابرز القساوسة والقادة في تيار اليمين المسيحي.
أجواء غريبة
محرر خطابات بوش ديفيد فروم: «جاء بوش يتحدث عن ثقافة مختلفة تماما عن ثقافة رونالد ريغان الفرداني النزعة. ولفهم إدارة بوش لابد من فهم مدى سيادة هذه العقيدة». ويروي أن الرئيس الأميركي بادره بالقول ذات صباح فور وصوله للعمل إلى جانبه: «لم أرك في جلسة قراءة الانجيل». إن ثمة اجواء غريبة تسود البيت الابيض الاميركي فزوجة الامين العام للرئاسة، اندروكارد مبشرة بالعقيدة الميثودية methodiste ووالد كونداليسا رايس يعمل مبشرا في الاباما، ومايكل جيرسون المسؤول عن الفريق الذي يتولى كتابة الخطب الرئاسية خريج كلية «ويتون في ايلنوا» التي تلقب بهارفارد الانجيلية»، وهو يؤمن بنبؤات اليمين المسيحي المتطرف الذي يتحدث عن ارما جدون وشيكة، وعودة المسيح الدجال وظهور مخلص جديد من بعده.
ويشارك كل موظفي البيت الابيض في مجموعات لدراسة الانجيل بشكل يومي، ويبدو مقر الرئاسة اليوم اشبه بقاعة صلاة واسعة يقوم العاملون فيها بادارة شؤون اميركا والعالم بعد جلسة قراءة جماعية لـ «العهد القديم» أو «الجديد».
السفير
في عام 1973، كان جورج بوش سفيرا في الامم المتحدة في عهد ريتشارد نيكسون ولم يكن احد ليتنبأ له بمستقبل سياسي واعد. وكان يدافع عن السياسة الاميركية في فيتنام امام اعضاء مجلس الامن فيما كان ابنه البكر جورج دبليو ينهي خدمته العسكرية في صفوف الحرس الوطني في تكساس كأضمن طريقة لتفادي ارساله الى الاوحال وحقول الارز في فيتنام. ولا شك انه كان يجهل بل لعله لم يكن يعلم ابدا ان ذلك العام كان بداية هجمة غلاة المحافظين الذين سيبلغ انتصارهم المطلق اوجه بانتخابه هو بعد ثلاثة عقود من ذلك التاريخ.
هيريتيج ضمت «جند الصدام في الثورة المحافظة»
ممول اليمين الأميركي الأول ملياردير معقد وخجول حتى المرض
بدأ كل شيء في عام 1971 حين كان التنديد بحرب فيتنام يتفاقم دون هوادة، وبدا ريتشارد نيكسون وكأنه في مواجهة مباشرة مع قطاع كامل من الشعب الاميركي.
وحدثت آخر صدمة عام 1971 تحديدا مع نشر «ملفات تخص البنتاغون» تكشف مجموعة من الاسرار حول خفايا الحرب الدائرة في جنوب شرق آسيا. وكان مسؤول رفيع في البنتاغون يدعى دانيال إيلسبيرغ قد سرقها ونشرتها صحيفة نيويورك تايمز رغم الضغوط الشديدة التي مارسها عليها البيت الابيض. وكان وقعها شديدا. ووقع الرئىس الاميركي في حيص بيص، حين علم ان نسخة من الملف الضخم قد وصلت الى سفارة الاتحاد السوفيتي في واشنطن.(55/261)
وفي العام نفسه قامت الغرفة الوطنية للتجارة بنشر مذكرة موجهة للزعماء في عالم الاعمال كتبها لويس باول الذي اصبح فيما بعد قاضيا في المحكمة العليا، وترك هذا النص ابلغ الاثر في العقول والنفوس، وورد فيه ان النظام الاقتصادي الحر يتعرض لهجمات عنيفة من قبل الشيوعيين واليساريين وغيرهم من الثوريين الذين يهدفون الى تدميره تماما اقتصاديا وسياسيا، وذهب باول الى ان من يشنون هذه الهجمات يؤيدهم «الطلاب في الاحياء الجامعية واساتذة الجامعات، وعالم الاعلام، والمثقفون والصحف الادبية والفنانون، والعلماء ومحترفو السياسية».
اعلان الحرب
ولم يقف تأثير مذكرة باول عند هذا الحد، بل انها ابهرت المسؤولين المحافظين كونها ترسم خطوط الاستراتيجية الواجب تبنيها ليس فقط لاستعادة ما فقد من سلطة ونفوذ بل ايضا لبسط هيمنة دائمة على السياسة والمجتمع الاميركي، اذ تدعو الى تصدي عالم الاعمال لمحاربة هذا الخطر من اليسار واليسار المتطرف وحله عبر تسخير كل حنكة لإنشاء منظمات يتم التخطيط لاهدافها وعملية تطبيقها بعناية، على ان يمتد عملها المترابط لفترة لامتناهية من السنوات تحظى بوسائل تمويل ضخمة تحشد لها جهود متضافرة «فالتأثير في السلطة السياسية يقتضي حسب باول مبادرات موحدة ومنسقة ومنظمات حاضرة على الصعيد الوطني» كما اقترح ان تستعين هذه المنظمات بباحثين، وان تصدر صحفا، وتؤلف كتبا ومقالات ورسائل نقدية وتنخرط في جهود طويلة المدى لتصحيح الخلل النابع من الاحياء الجامعية وتحقيق التوازن، واوصى في نهاية المطاف «بممارسة رقابة دائمة على برامج التلفزيون والكتب المنشورة» معتبرا انه لابد من توخي الحذر نفسه ازاء جهاز القضاء. ويمثل كلام لويس باول اعلان حرب حقيقية ضد الثقافة المضادة التي كانت تتصدر الساحة العامة والاعلامية، وتتزعم كل الافكار والتيارات الفكرية المعتدلة.
وقد افتتن رجال فاحشو الثراء من اقصى التيار المحافظ بهذا الكلام، وكانوا وهم المتشربون «بثقافة حربية» حقيقية على استعداد للدخول في صراع ضد هذه الاميركا التي يبغضونها، اذ «نخرها» في نظرهم «الانحطاط والافكار المنحطة» ولا تزال الذهنية نفسها تسيطر على اقصى اليمين الاميركي في عهد الرئىس جورج دبليو بوش رغم مرور 30 عاما.
أميركا تغيرت
وربما كان هؤلاء غلاة المحافظين يحلمون في مطلع السبعينات بنزاع مسلح قادر على إحياء أميركا من جديد لو لم تكن رحى الحرب دائرة في فيتنام. وقد اغرق هذا الاخفاق السياسي والعسكري البلاد في واحدة من اخطر الازمات الاخلاقية في تاريخها، فقرروا نقل المواجهة الى الداخل وتحقيق النصر عبر ممارسة تأثيرهم على العقليات واعادة تشكيلها. فتصرفوا بحزم ومنهجية ودأب. وقد قال رئيس معهد «أميركان انتربرايز»، وهو من ابرز المؤسسات التابعة للمحافظين، كريستوفر دي موث: «ان الامور تستغرق وقتا، وعلينا ان ننتظر مرور عشر سنوات على الاقل قبل ان تخرج الافكار الراديكالية الجديدة الى النور». غير ان هذه «المسيرة الطويلة» استغرقت في الواقع 30 عاما. ففي عام 2001 فقط تسنى لأقصى اليمين تذوق طعم النصر الكبير. وقد كتب ويل هاتون في صحيفة الابزورفر يقول: «ما زال البريطانيون وغيرهم من الاوروبيين لا يفهمون، فالولايات المتحدة تغيرت. اذ تحول مركز الثقل السياسي فيها من جانبيها الليبراليين (الشرق والغرب) الى جهتي الجنوب والغرب المحافظتين اللتين لا ترغبان في اية علاقة مع العالم الخارجي [...]. ويذكر ان المحافظين الاميركيين شنوا منذ الستينات حربا ضد التيار الليبرالي بحماس شبه لينيني وها هم يسيطرون اليوم على الدولة الاميركية، ويرغبون في الاستفادة من هذا النصر».
الأب المالي
في عام 1973، دخل ريتشارد سكيف ميلون الى الحلبة. ومع توالي السنين لقب هذا الرجل الاشقر ذي العينين الزرقاوين والمعروف بتحفظه الشديد «بالأب المالي لليمين الأميركي»، وكان آنذاك في العقد الثالث من عمره.
وهو ابن سارة ميلون، وريثة المصرفي الملياردير اندرو ميلون الذي كان يعتبر في حياته اغنى رجل في الولايات المتحدة الى جانب جون دي روكفيلر. وحين توفيت والدة ريتشارد سكيف ميلون عام 1965 تركت له ثروة قدرت قيمتها بأكثر من مليار دولار الى ثلاث مؤسسات كبرى.(55/262)
كان ريتشارد سكيف شخصية معقدة ومتكتمة يعيش في عزلة. وكانت لديه املاك في مختلف انحاء الولايات المتحدة. وكان يرفض المقابلات الصحفية وكل علاقة مع الصحافة. وهناك عدد كبير ممن استفادوا من عطاياه لم يلتقوه ابدا. وكان خجولا لحد المرض مشغولا بالنفوذ اكثر من الشهرة وقد قام بسحب اسمه من كتاب .whoصs who ويحكي رئيس التحرير السابق لمجلة بيتسبيرغر التي كان يمولها سكيف أنه سأله أثناء اجتماع عمل قائلا: «هل سلطتك نابعة من سلطة المال؟»، فصمت سكيف لثلاث أو أربع ثوان وهو يحدق فيه بنظرة قاسية قبل أن يجيبه: «أنا لا أضيع وقتي في التفكير في هذا الأمر لكنني كلما تقدم بي العمر زاد تأثيري وبالتالي زادت مكاسبي». وقد ظل العمل الخيري المعفى من الضرائب احدى ركائز عالم الاقتصاد والمال الاميركي وقدرته على التأثير في السلطة السياسية زمنا طويلا. (...) وقد عرف ريتشارد سكيف ميلون دائما باهتمامه بالسياسة وقضايا غلاة المحافظين. ففي عام 1963، قام بدعم باري غولدووتر التي كانت تمثل الجناح اليميني في الحزب الجمهوري للرئاسة. ومول حملتها ووضع طائرة خاصة في خدمتها لكنها منيت بفشل ذريع امام ليندون جونسون وهو ما راعه. وقد نأى بنفسه عن السياسة الاحترافية بعد ذلك وان تبرع بمليون دولار لحملة ريتشارد نيكسون الانتخابية في عام 1972، على شكل 344 شيكا تفاديا للضرائب.
واعجابا من سكيف ميلون بمذكرة لويس باول قام «بتعميد» مؤسسة «هيرتيج» في عام 1973 حيث انشئت لتصبح السلاح الكفيل في نظره بتحقيق «النصر في معركة الافكار» وقدم لها 900 الف دولار. وبعد مرور ثلاث سنوات قدم لها 420 الف دولار اي ما يعادل 42 في المائة من الميزانية الاجمالية للمؤسسة التي كانت تقدر آنذاك بمليون دولار. وقد علق رئيسها الحالي ايدوين ج. فولنر على ذلك بالقول: «كان المبلغ دعما اساسيا جاء في وقت حرج من حياة المؤسسة».
وكان ميلون يشرف بشكل مباشر على ثلاث مؤسسات هي مؤسسة سارة (قدرت موجوداتها في عام 1997 بـ 302 مليون دولار ومؤسسة آليغاني (39 مليون دولار) ومؤسسة قرطاج (24 مليون دولار) وكان والداه ديفيد وكيري يترأسان مؤسسة رابعة هي مؤسسة عائلة سكيف Scaife Family Foundation التي بلغت موجوداتها 170 مليون دولار، وتتقيد بالاهداف التي رسمها والدهما. وقد بلغ مجموع ما انفقه ميلون في ظرف 30 عاما، بين عامي 1967 و1997 في تأسيس ودعم عدة معاهد ومنظمات ذات نهج محافظ متطرف حوالي 600 مليون دولار. ومن بينها معهد هوفر بجامعة ستانفورد الذي كانت كونداليسا رايس مسؤولة عنه، ومعهد اميركان انتربرايز، ومن اعمدته ريتشارد بيرل ولين تشيني، زوجة نائب الرئيس الاميركي، ومعهد كاتو بالاضافة الى مجموعة من المؤسسات الناشطة في المجالات الاجتماعية والقضائية وكذا في المجال الاستخباراتي.
عبقرية هيريتيج
ظلت مؤسسة هييرتيج على مر السنين درة اعمال سكيف اذ تضم حسب تعبير احد نواب الرئيس بورتون يال بينز «جند الصدام في الثورة المحافظة» وهم رجال يملكون رؤية ايديولوجية للمجتمع الاميركي. فكل خطوة تقدمية اصبحت تعتبر في نظرهم منذ «الصفقة الجديدة» في عهد فرانكلين روزفلت بمثابة «هجمة ضد المبادئ التأسيسية لأميركا كما وضعت في القرن 18».
وقد رصد نصف ميزانية «هيريتيج» على مر السنين لترويج الافكار. فانبرى المتعاونون معها لتحرير المقالات واعداد الدراسات في كل حقول السياسة الاميركية وتحدثوا عن الحظر الشيوعي. وتقليص البرامج الاجتماعية وتعزيز الميزانية العسكرية، ومكانة الدين ومكافحة النقابات وكان اي عضو في الكونغرس، يجد على مكتبه عشية جلسة نقاش او تصويت على قانون هام تقريرا من المؤسسة يتناول المشروع المرتقب بالتحليل ويقترح الحلول. وكانت هيرتيج تقدم هذه الدراسات الى مجلس الشيوخ والنواب ووسائل الاعلام وعامة الناس.
صناعة متنامية
يرى نائب رئيس وكالة اسوشيتد برس، و«الترمايرز» ان حركة المحافظين كانت تتحول آنذاك الى صناعة متنامية. ونظرا لتواجدها في المكان والوقت المناسبين احدثت تغييرا في الحياة السياسية والنقاشات داخل مبنى الكابيتول.
أما مدير صحيفة ديترويت نيوز فيقول: «تتمثل أهم جوانب نجاحاتهم الباهرة في تمكينك من الاطلاع على وجهة نظرهم في صباح اليوم التالي في بريدك الخاص. كان المرء يجد كل يوم نشرة صادرة عن المؤسسة، وكانت قراءتها كفيلة بجعله ينظر الى الأمور من زاوية كان غافلاً عنها».(55/263)
كان ميلون يعيش هاجساً مصحوباً بيقين ان الجمهورية الأميركية في خطر قاتل، وان ثمة مؤامرات تحاك لتقويضها. وقد أسر لأحد الأشخاص انه يعتبر جون ادغار هوفر، مدير اف. بي. اي بطلاً ضمن ابطال آخرين. ويذكر ان ميلون لا يقرأ إلا لماما، وهو أمر غريب على رجل يؤمن بقوة الأفكار. لكن ثمة كتاب واحد أثر في نفسه كثيراً، وهو كتاب The Spike لمؤلفه الصحفي ارتو دي بورشغريف الذي أصبح فيما بعد صديقاً له ومديراً لصحيفة واشنطن تايمز التي تحظى بتمويل طائفة المون. ويحكي الكتاب قصة صحافي شاب يكتشف انه يستخدم كبيدق في مؤامرة كبيرة دبرها الاتحاد السوفيتي للسيطرة على العالم.
هيريتيج وأخواتها
لم يكن وريث ميلون الممول الوحيد الذي قام بدعم ولادة مؤسسة هيرتيج. فهناك ويليام كورز، قطب البيرة الذي تبرع بـ 250 الف دولار. وترتبط مؤسسة كورز التي تأسست عام 1877 على يد ادولف كورز بعلاقات وثيقة مع منظمات تابعة للتيار المحافظ المتطرف وبقادة اليمين المسيحي على نحو خاص.
كما استفادت مؤسسة الكونغرس الحر F r ee Cong r ess Foundation من عطايا كورز. وهناك ايضاً مؤسسة اولين Olin Foundation وهي مؤسسة تعتمد في عائداتها على شركة عائلية أثرت في صناعة الذخيرة والمواد الكيماوية، لم تبخل بالدعم المالي على مؤسسة هيريتيج فضلاً عن اميركان انتربرايز ومعهد هوفر. كما مولت جامعيين محافظين مثل آلان بلوم الذي تلقى 6.3 ملايين دولار لادارة مركز جون م. أولين بجامعة شيكاغو لدراسة نظرية الديموقراطية وتطبيقها.
وبلوم هذا كان الأستاذ والمعلم الفكري «لبول وولفويتز» نائب وزير الدفاع الحالي، والمنظر الحقيقي للصقور في البيت الأبيض.
أما ايرفين كريستول الذي كان احد الرواد الكبار في تيار اليمين المحافظ في عهد ريغان، فقد تلقى اكثر من 380 الف دولار بين عامي 1992 و1994 بصفته باحثاً في معهد اميركان انتربرايز. ويعتبر ابنه ويليام كريستول اليوم من أهم المفكرين المؤثرين في الادارة الاميركية الحالية، ويتولى ايضاً ادارة مجلة المحافظين الجدد وويكلي ستاندرد التي يمولها قطب الصحافة روبرت مردوخ المقرب من عائلة بوش. وتنتهي قائمة الشركات الداعمة لتيار المحافظين المتطرف بمؤسسة ليند وهاري برادلي Lynde & Ha r ry B r adley Foundation التي تتجاوز قيمة موجوداتها 420 مليون دولار. وقد أصبح هاري بفعل مواقفه اليمينية المتطرفة عضواً ناشطاً وممولاً لمنظمة Jhon Bi r ch Society. وهي منظمة يمينية متطرفة معادية للشيوعية تدافع عن الطروحات القائلة بتفوق الرجل الأبيض. كما تمول موسسة برادلي على نحو خاص قناة NET National Empowe r ment Television التي تعتبر أخطر سلاح اعلامي يملكه اليمين المتطرف إذ تنشر ايديولوجيا مسيحية متطرفة بين المشتركين الذين يقدر عددهم بالملايين.
اطلعنا في الحلقتين الأولى والثانية على مدى تمكن النزعة الدينية من نفس الرئيس جورج دبليو بوش، وميله الى التودد للمؤسسات الدينية، وما يدين به من فضل للدين باعتباره كان عامل تغيير أساسي في حياته. ثم تعرفنا إلى الارهاصات الأولى التي مهدت لظهور فكر المحافظين الجدد، وأصحاب الثروات الطائلة الذين سخروا ملايين الدولارات لتغذية هذاالفكر ونشره عبر أشخاص ومؤسسات أنشئت لهذا الغرض.
البرنامج السياسي لريغن جسد «ثورة المحافظين» وتحول إلى إنجيل لكل من يصل إلى السلطة
انكمش مفكرو اليسار فاكتسح فوكوياما وهانتينغتون وأمثالهما
كان وصول رونالد ريغان الِى السلطة في عام 1980 بمنزلة اول انتصار ساحق تحققه حركة المحافظين المتطرفين ومؤسسة هيرتيج التي قدمت للادارة الجديدة الرجال والافكار، بل انها وضعت في العام نفسه الذي شهد الانتخابات الرئاسية «مذكرة للقيادة» تقع في 3 آلاف صفحة موزعة على 20 جزءا تتضمن تفاصيل البرنامج السياسي لريغان الذي وصف لاحقا «بثورة المحافظين».
ويقول احد المشاركين في وضع هذا النص متذكرا انها اصبحت «مرجعا حقيقيا وبمنزلة انجيل لكل شخص يصل الى السلطة».(55/264)
في عام 2000، كان اليسار الاميركي قد خسر تماما معركة الافكار «فابتعد عدد كبير من الكفاءات الفكرية اليسارية الواعدة في صفوف اليساريين عن العالم الواقعي، ليعيش في عزلة داخل الاروقة الجامعية الضيقة، في حين حقق اليمين النجاح تلو الآخر في المكتبات اذ الف كتّاب مثل الان بلون، وجود وانيسكي، وتشارلز موراي، ومارفن اوفالسكي ودينش دسوزا، وفرانسيس فوكوياما، وصاموئيل هانتينغتون كتبا خلال العقدين الاخيرين غيرت من الخطاب السياسي والثقافي حول مواضيع مركزية بالنسبة لكل ما يتعلق «برؤيتنا» لتنظيم المجتمع، غير ان اهم ما في الامر ان هؤلاء الفوا كتبا موجهة لجمهور واسع ويتلقون دعما ماليا من المنظمات المحافظة التي ادركت الاهمية الكبرى لمعركة الافكار» حسب ما كتبه إيريك الترمان في صحيفة the Nation. وقد عدت مؤسسة برادلي في نهاية عام 1999 اكثر من 400 كتاب قامت بتمويلها في غضون 14 عاما، ويقول مدير المؤسسة مايكل جويس مؤكدا «لدينا قناعة بأن عددا لا بأس به من وسائل الاعلام الاخرى، تتأثر بالكتب، فإذا كنت تريد التأثير على عالم الافكار، فإن الكتب تمثل احد القطاعات التي يتعين عليك ان تستثمر اموالك فيها».
معين جورج بوش
اصبح معهد اميركان انتربرايز «المعين» الذي ينهل منه جورج دبليو بوش لتشكيل ادارته، ومن اعمدته ريتشارد بيرل، احد رواد الصقور وايرفينغ كريستول، مفكر المحافظين الجدد الاساسي ووالد ويليام كريستول، مدير مجلة المحافظين ويكلي ستاندرد، وليسن تشيني، زوجة نائب الرئيس، كما يعد داينش دسوزا احد «نجوم» معهد اميركان انتربرايز».
وتعد كتب تشارلز موراي وداينش دسوزامن بين الكتب المفضلة لدى جورج دبليو بوش غير انه اعجب اكثر بطروحات مارفن اوفالسكي، صاحب كتاب «مأساة الرأفة الاميركية» الذي يدعو فيه الى تفكيك نظام الرعاية الاجتماعية الاميركي وقد اصبح مستشاره خلال حملته الانتخابية وابتكر مفهوم «الرأفة المحافظة» الذي استخدمه الرئىس. وقام اوفالسكي بتأسيس كنيسة في مدينة اوستين في تكساس، تعلم من بين اشياء اخرى ان المرأة ليس لها مكان ولا دور تضطلع به في مركز الزعامة.
الإعلام من بعد النشر للاكتساح
في عام 1981، عزمت ادارة ريغان - بوش التي كانت تدير شؤون الحكم في واشنطن على انشاء صحيفة يومية محافظة في العاصمة الفدرالية، تستطيع ترجمة رؤاها وسياستها وتنافس في الوقت ذاته صحيفة واشنطن بوست، ذات الحضور الطاغي، وكانت هذه القلعة الليبرالية التي يتسم خطابها غالبا بالصرامة والتشدد الصحفي، بمثابة شوكة في حلق اليمين الاميركي.
وطرح مشروع الصحيفة على عدة شخصيات ادبية وفنية ورفضوه بمن فيهم ريتشارد سكييف ميلون الذي تردد كثيرا قبل ان يعلن رفضه، وكان يتعين على المجنون الذي يقبل بهكذا تحد أن يستعد لتكبد خسائر جسيمة لفترة طويلة. ومع ذلك فإن الرجل الذي اطلق صحيفة الواشنطن تايمز 1982 لم يكن يعرف عنه لا الجنون، ولا التجرد. انه الأب سان ميونغ مون، مؤسس كنيسة التوحيد في الستينات التي يعتبر اتباعها طائفة خطيرة. ومن خلال تصريحاته العديدة نعلم انه هو «المخلص الجديد» بما ان المسيح قصر في مهمته فأخذ هو على عاتقه توحيد الكرة الارضية عبر ضم كل القوى الدينية تحت لوائه.
وفي السبعينات، خضع مون وكنيسته للتحقيق حول ممارساته على يد لجنة من الكونغرس على رأسها النائب الديموقراطي دونالد فريزر.
كان مون قد اصبح مقيما بصفة دائمة في الولايات المتحدة ابتداء من عام 1973 حسب ما تشير اليه تقارير وزارة العدل، فيما اكد المتعاون الرئيسي مع الوزارة، وهو ضابط سابق في جهاز سي.آي.ايه الكوري يدعى بوهاي بارك، انه كان يحمل «البطاقة الخضراء».
وكان غطاء كثيف من السرية يلف طريقة تنظيم امبراطوريته، التي تضم عدة شركات يقدر عددها داخل الولايات المتحدة فقط بـ 12 شركة، وكذا مصادر وقنوات تمويله.
غير ان جهاز السي.آي.ايه كان على علم بكل شيء. وفي الوقت الذي كان مون يخضع فيه للتحقيق من طرف الكونغرس الاميركي كان جورج بوش مديرا لوكالة الاستخبارات. ويذكر ان جهاز سي.آي.ايه تولى تدريب الاجهزة السرية في كوريا الجنوبية التي حملت اسم ك.سي.آي.ايه وعرفت بشدة بأسها تجاه المعارضين الكوريين في الخارج، اذ قامت باختطاف وتصفية كثير منهم.(55/265)
وكان بوش ومساعدوه الاقرب داخل الجهاز الاستخباراتي يعتبرون كوريا الجنوبية كبلد على «درجة عالية من الحساسية بالنسبة للأمن القومي الاميركي، ومون كمحور للعمليات السرية التي ينفذها جهاز سي.آي.ايه الاميركي بالشراكة مع نظيره الكوري. وقد تدخل رئيس المستقبل شخصيا لدى اعضاء الكونغرس لحضهم على عدم التعمق كثيرا في تحقيقاتهم. وكان له ذلك فأصبح مون ممتنا لجورج بوش طيلة السنوات الاربع والعشرين اللاحقة. وعمل باستمرار على تعبئة امكاناته الهائلة لخدمة الطموحات السياسية لعائلة بوش واغدق كثيرا على بوش الاب ثم الابن لاحقا، ولم يكن ذلك بدافع الشعور بالامتنان تجاه الرجل فقط. فقد استطاع مون بفضل صحيفة واشنطن تايمز ان ينفذ الى قلب السلطة السياسية الاميركية. وكان قد انفق اكثر من 100 مليون دولار لاطلاق صحيفة ستصبح لاحقاً مفضلة لدى المؤسسة المحافظة في واشنطن لكنها لم تتمكن من منافسة غريمتها الواشنطن بوست ابدا.
وقد اضطره هذا الفشل التجاري الى ضخ عشرات ملايين الدولارات سنويا لضمان استمرارها وهي سياسة دأب عليها منذ مطلع السبعينات وفي عام 1978 قامت لجنة تحقيق من الكونغرس بالتحقيق في فضيحة «كوريا غيت» وكان ذلك بمثابة استراتيجية من قبل جهاز سي اي ايه الكوري لشراء النفوذ لدى الحكومة والمسؤولين الاميركيين. وورد اسم مون مرات عدة باعتباره متورطاً في العملية وهي تهمة نفاها عن نفسه.
غير ان مون قال لبعض المقربين بشكل واضح لا يحتمل اللبس: «ينبغي ان يكون جزء من استراتيجيتنا في الولايات المتحدة اكتساب صداقات داخل جهازي الاف بي اي و سي. آي. ايه وقوات الشرطة، بالاضافة الى الأوساط العسكرية والتجارية». وهذا ما حدث بالفعل، فقد كان جهاز سي. آي. ايه يزود الواشنطن تايمز بانتظام بمعلومات غير منشورة، مقابل قيام الصحيفة بشن هجمات مضادة عنيفة، كلما كشفت معلومات محرجة حول موضوع حساس. فحين دخل جورج بوش حلبة السباق للفوز بالرئاسة وقف مون وواشنطن تايمز في صفه بكل حزم، وزعم المرشح الجمهوري انه لا يعلم شيئا عن القضايا والفضائح التي اثيرت في عهد ريغن مع انه شغل منصب نائب الرئيس طيلة ثماني سنوات، وكان المدعي الخاص لورنس وولش الذي كان يتولى التحقيق في قضية ايران غيت، على وشك النيل من جورج بوش، فهاجمته الصحيفة بشدة، بل ان الهجوم طاول الخصم الديموقراطي لبوش لاحقا، مايكل دوكاكيس، حاكم ولاية ماساشوسيتس سابقا، اذ روجت الصحيفة اشاعات زائفة حول صحته العقلية ساهمت في نزع المصداقية عن دوكاكيس لدى الرأي العام، وخلخلة حملته الانتخابية.
وعندما خاض الرئيس الاميركي معركته الانتخابية للمرة الثانية عام 1992، دأبت الواشنطن تايمز على ترديد الاشاعات التي تتهم خصمه الديموقراطي بيل كلينتون باحتمال تجنيده من قبل جهاز الكي. جي. بي لدى زيارته الى موسكو كطالب حاصل على منحة رودس الدراسية.
وكانت معاداة الشيوعية تبدو في الظاهر كلحمة تجمع بين مون والادارات الجمهورية، لكن الحقيقة كانت أكثر تعقيدا من ذلك، فمون الذي يلقبه اتباعه بـ«أبونا» كان يمول بسخاء الطاقم السياسي في كوريا الجنوبية، خاصة كيم جونغ بيل، الذي سيتولى لاحقا منصب رئيس الوزراء عامي 1998 و1999، وكيم داي جونغ الذي انتخب رئيسا عام 1998 وعرف بتأييده للتفاوض مع النظام الشيوعي في كوريا الشمالية.
حصاد الشيطان
ومع حلول عام 1991، وفي الوقت الذي كانت بيويانغ لا تزال تخضع فيه للحصار التجاري المفروض عليها من قبل أميركا، وكان بوش الأب يشغل المكتب البيضاوي، قام مون بإرسال عدة ملايين من الدولارات الى دكتاتور كوريا الشمالية كيم ايل سونغ كهدية عيد ميلاده، والتقى الرجلان عدة مرات وحصلت الواشنطن تايمز الأكثر معاداة للشيوعية على شرف اجراء أول مقابلة صحفية مع آخر زعيم ستاليني فوق الكرة الأرضية، وتشير المعلومات التي حصل عليها الصحافي ريتشارد بييري، ومصدرها تقارير اعدها جهاز دي. آي. ايه (الأجهزة السرية العسكرية الأميركية) الى ان عدة لقاءات جرت بين زعيم الطائفة والزعيم الشيوعي في الفترة الممتدة بين 30 نوفمبر و8 ديسمبر 1991، ومهدت لإرساء تعاون تجاري، ونص الاتفاق على قيام مون بتشييد مجمع فندقي في بيونغ يانغ، وتنمية السياحة في منطقة كيم كانغ سان والاستثمار في منطقة كومان غانغ ريفر، وبناء محطة لتوليد الكهرباء في وونسان، وبلغت قيمة الاستثمارات حسب جهاز دي. آي. ايه 5.3 مليارات دولار.
وتضمن الاتفاق الاقتصادي المبرم مع كوريا الشمالية بندا سريا يقضي بحصول زعيم كنيسة التوحيد على حق استثمار أرض تقع في تشونغ تشو مسقط رأسه لمدة 99 عاما، تعبيرا عن امتنان كيم ايل سونغ له على مساعدته، ورصدت المنطقة لتصبح «أرضا مقدسة» ومحجا يقصده أتباع مون من كل أنحاء العالم.(55/266)
ووضعت هذه المساعدة المقدمة لنظام كوريا الشمالية ادارة بوش في موقف محرج، فالحصار الأميركي المفروض على بيونغ يانغ يعود الى زمن الحرب بين الكوريتين في مطلع الخمسينات ويحظر عقد اي اتفاقات تجارية او مالية «بين كوريا الشمالية وأي مواطن اميركي او مقيم بصفة دائمة». وهذا ينطبق تماما على مون المقيم رسميا في «تاري تاون» قرب مدينة نيويورك، وما فعله بالتالي لا يعتبر في نظر كثير من المسؤولين الاميركيين خرقا للقوانين فقط بل دعما لدكتاتور مفلس بالعملة الصعبة التي كان في امس الحاجة اليها، وفي وقت كان يسعى فيه لتمويل برامج تسلح طموحة.
وهكذا حظيت كوريا الشمالية التي صنفها جورج دبليو بوش ضمن «محور الشر»، بدعم والده قبل 12 عاما في الخفاء، تماما كما حدث مع العراق، وقد تعززت العلاقات اكثر فأكثر بين مون الذي امن العقوبة وبوش حتى بعد خروجه من البيت الابيض في عام 1992.
وشارك جورج وباربرة بوش في عدة ندوات في مختلف مناطق الولايات المتحدة وآسيا لمصلحة منظمات يمولها مون. وفي زيارة رافق فيها الرئيس السابق صديقه مون الى الارجنتين، القى محاضرة تقاضى عنها مائة الف دولار، فيما بلغ مجموع ما تلقاه بوش من مون ومنظمته مقابل محاضراته العديدة 10 ملايين دولار.
ولكن حدث ما عكر صفو العلاقة وضايق الرئيس الأميركي الـ41 من صديقه. ونعني بذلك نبرة معاداة أميركا اللاذعة التي طبعت خطب مون. فقد قال مرة: «سيكشف التاريخ بوضوح مكانة مون وموقع اعدائه وسينحني الشعب الاميركي وحكومته امامه». وفي الاول من مايو عام 1997، اكد قائلا على اسماع جمهور من اتباعه: «ان البلد الذي يمثل حصاد الشيطان هو اميركا».
وقد كتب احدهم في مجلة اميركية بارزة معلقا: «من الواضح ان مون يكن عداء صريحا لأميركا وللديموقراطية، ويملك اجندة لتقويض الديموقراطية الاميركية والنزعة الفردانية».
عمل مون بلا كلل طيلة سنوات عدة على تسخير ثروته الطائلة والاعيبه لنيل الحظوة لدى القادة الاميركيين المحافظين في مجالي السياسة والدين، اي لدى ممثلي بلد يكن له في اعماقه كل البغض. والى جانب تعاونه مع بوش اقام تحالفا مع كل زعامات اليمين المتطرف المسيحي والمدافعين المتشددين عن اميركا وقيمها. وحولهم الى شركاء مثل المبشر الاصولي جيري فالويل، زعيم الاغلبية الاخلاقية الذي كان يمر بأزمة مالية حادة في نهاية عام 1993 فطار يوم 5 يناير الى سيئول حيث اجتمع طويلا بمسؤولي كنيسة التوحيد. وحصل في وقت لاحق على 5.2 مليون من مون.
ولم يكن فالويل الذي ايد حملات التشهير ضد بيل كلينتون الوحيد ضمن «الشبكة» التي اقامها مون، فهناك المبشر تيم لاهاي، مؤلف الكتب الدينية الاكثر مبيعا، الذي تلقى 500 الف دولار من بوهاي بارك، الساعد الايمن لمون، والضابط السابق في جهاز سي.اي.ايه الكوري. وهنالك ايضا، رالف ريد مسؤول هيرتيج وغاري بايور، المدير التنفيذي للتحالف المسيحي، بالاضافة الى روبرت شولر، القس والمبشر الديني الشهير على قنوات التلفزيون.
رؤية عالمية إنجيلية
كانت المجموعة الاكثر تطرفا في اقصى اليمين المسيحي تقف في صف سيونغ مون. ويقف افرادها على رأس قوة كبيرة تتراوح نسبة الناخبين فيها بين 15 و18 في المائة، تؤازرهم شخصيات نافذة في عالم السياسة. ولم يكن بإمكان اي مرشح جمهوري للانتخابات الرئاسية تجاهلهم او ازدراءهم وكان مون يمثل جسرا حقيقيا بين قطاعي السياسة والدين، وهنا تكمن قوته. ويذكر ان «مجلس السياسة الوطنية» الذي تأسس على يد القس والكاتب الديني المتطرف تيم لاهاي استفاد من تبرعاته. وتضم هذه المنظمة التي يحاط نشاطها بسرية تامة، كل رموز التيار المحافظ المتطرف الديني من امثال جيري فالويل، وبات روبر ستون، وبول ويريش، الناشط السياسي الذي يرى ان مكان المرأة في البيت، وجيمس دوبسون، مرشد جورج دبليو بوش وناصحه، والمبشر الديني المفضل لدى الرئىس الاميركي جيمس روبنسون، وبوب جونز المعروف بمعاداته للكاثوليكية اذي يصف البابا بـ«المسيح الدجال»، وقد حظيت مؤسسته بزيارة جورج دبليو بوش اثناء حملته الانتخابية عام 2000، وكان ذلك حدثا أثار الكثير من الجدل.
ومن بين السياسيين الاعضاء في هذا المجلس، نجد شخصيات نافذة مثل السيناتور جس هيلمز والنواب ديك آرمي، وهوارد فيليبس، وتوم دي لاي، مرشح تكساس الذي كان سيصبح في نوفمبر 2002، الرجل الاقوى في الكونغرس الاميركي بعد انتصار الجمهوريين في مجلس النواب. ويذكر انه قال في كلمة القاها امام شخصيات دينية: «وحدها المسيحية ترسم الطريق للعيش عبر تقديم اجابات لكل ما نواجهه في هذا العالم». كما اسرّ انه مكلف بمهمة ربانية تتلخص في بث «رؤية عالمية انجيلية في السياسات التي تعتمدها الولايات المتحدة».
ويعمل المجلس المذكور، حسب رأي جو كوناسون، وجين لايونز «كلجنة مركزية لجبهة شعبية ثيوقراطية». انه تحالف افراد وجماعات تخفي خلافاتها لمحاربة عدو مشترك، ويتمثل هذا الاخير بصورة مجردة في الفصل الذي ينص عليه الدستور الاميركي بين الكنيسة والدولة.(55/267)
ومن ابرز المستهدفين من قبل هذا التحالف، الليبراليون وكثير من الديموقراطيين و«اتباع الفلسفة الانسانية» (العلمانيون) بمختلف مشاربهم، بل وحتى الجمهوريون المعتدلون.
ويعتنق معظم اعضاء التحالف مذهبا يؤكد ان الدستور الاميركي يستمد شرعيته الاساسية من الانجيل طبقا لتأويل البروتستانيين الاصوليين.
وفي مطلع 1999، وفي الوقت الذي لاحت في الافق ملامح الانتخابات الرئاسية المقبلة، كانت هذه الجماعات الدينية عازمة على الوصول الى الحكم عبر مرشح يشاركهم في رؤيتهم بعد ان راودهم الشعور بان قادة الحزب الجمهوري عاملوهم بوقاحة. ويقول احد المراقبين: «كانت سلطتهم آنذاك لا تتعدى العمل على إلحاق الهزيمة بالمرشح الرسمي. وهو ما حدث في عام 1992 مع بوش الاب، ثم مع السيناتور بوب دول في عام 1996 وتحدثت كثير من مراسلاتهم عن ضرورة السيطرة على الحزب في المستقبل».
في الحلقة الثالثة رصدنا أول انتصار كاسح يحققه غلاة المحافظين مع وصول رونالد ريغن إلى السلطة. واندحار اليسار الاميركي في معركة الأفكار لصالح مفكري الفريق الأول، من أمثال صاموئيل هانتبنغتون وفرانسيس فوكاوياها، ودينيس دسوزا وغيرهم. ورأينا كيف ظهرت صحيفة «الواشنطن تايمز» تكريسا لهذا الحضور الفكري الطاغي، وتكشّف لنا ما بين هذا الاعلام والمؤسسات الاستخباراتية في أميركا من تواطؤ، وعلاقات مشبوهة جمعت بينه وبين رموز حركة المحافظين الجدد.
اشكروفت لا يتقن تلاوة الإنجيل ويشوه نصوصه
المسيحيون يدعمون اليهود اليوم من أجل إلغائهم غداً
في عام 1999، بدا احد المرشحين هو المفضل لديهم ولكنه لم يكن جورج دبليو بوش بل جون اشكروفت الآتي من الجنوب. وقال عنه جيف جاكوبي في الواشنطن تايمز: «اشكروفت ولد ونشأ في احضان اليمين المسيحي». وكان ينتمي الى جماعات الرب التي تستقطب 3.2 مليون عضو في الولايات المتحدة واكثر من 30 مليونا من الاتباع في مختلف انحاء العالم.
(...) غير ان اشكروفت يتحدث في خطاباته بشكل اختزالي ومقلق عن تاريخ اميركا والانجيل، بل انه ـ حسب ما اشار اليه الصحافي روبرت باري ـ غير قادر على تلاوة نصوص الانجيل دون تشويهها. وقد تلقى لإطلاق حملته الانتخابية. تبرعات بقيمة 10 الاف دولار من زعيم التحالف المسيحي بات روبرستون وزوجته. واسرَّ روبرستون منذ 1992 لصحيفة دنفر بوست قائلا: «ان هدفي هو بسط السيطرة على الحزب الجمهوري». لكن اشكروفت لم يكن قادرا على فرض نفسه على الصعيد الوطني وتحقيق هذا الهدف، اما مون الذي ظل روبرستون على علاقة وثيقة معه فقد كان يفضل جورج دبليو بوش.
وكان حاكم تكساس، الابن البكر للرئىس السابق يملك في نظر روبرستون ميزتين اساسيتين: الامكانات المالية الضخمة، والعلاقات الوثيقة التي يحرص على تنميتها مع الجماعات الاصولية المسيحية.
وحض روبرستون اليمين المسيحي على دعم جورج دبليو بوش واقصاء خصمه الاخطر، السيناتور جون ماكاين، وكان المقابل الذي طلب من بوش دفعه لقاء هذا الدعم تعيين جون اشكروفت في منصب وزير العدل، بينما كان ينوي تعيينه قاضيا في المحكمة العليا، فانهالت عليه وعلى نائبه ديك تشيني الاتصالات من كل مسؤولي اليمين الديني يطالبون بوزارة العدل لأشكروفت، وكان لهم ذلك، مما اثار حفيظة المدافعين عن الحقوق المدنية، وحماية البيئة والفصل الدستوري بين الكنيسة والدولة. والى جانب السلطة القضائىة بسط اشكروفت سيطرته على جهاز الإف. بي. آي. ومكتب الكحول والتبغ والاسلحة النارية، وكلها اجهزة تتمتع بسلطات زجرية مهمة.
وبذلك اصبح بالامكان بالنسبة الى بات روبرستون وحلفه، الذي جعل من الحرب ضد العلمانية سلاح المعركة الاساسي، بدء «المواجهة الروحية» وقد صرح قائلا «سيكون هناك قوى شيطانية يجب علينا محاربتها، وينبغي ان تكون الاستراتيجية الواجب تبنيها ضد اليسار الراديكالي الاميركي مشابهة لتلك التي اعتمدها الجنرال ماكارثور ضد اليابانيين ابان حرب المحيط الهادي».
«إن الشعب اليهودي في اسرائىل والعالم لا يملك صديقا اعز من جيري فالويل»، إذ لم يفوت هذا المبشر ورجل الاعمال الفرصة يوما للتأكيد على الاهتمام الكبير الذي يخص به الاصوليون المسيحيون الدولة العبرية والجاليات اليهودية.
ويعد فالويل احد الزعماء المنتمين الى تيار «المسيحيين الصهاينة» وكذا احد العناصر الفاعلة في هذا اللوبي، الذي يتسم بالتنظيم المحكم والجرأة ولا يستطيع اي زعيم سياسي اميركي تفاديه، او الالتفاف عليه.
ويذكر انه منذ منتصف القرن 20 اصبح مصطلح «اصولي» يعني نمطا عنيفا ومتشددا للغاية من البروتستانتية، ويؤكد على مكافحة الانحطاط الثقافي والفكر الليبرالي، وتؤمن معظم هذه الحركات بنبوءات جون داربي، وهو قس انكليزي تحدث في القرن 19 عن سلسلة من الاحداث باعتبارها نذيرا بقرب نهاية العالم، ومن بينها الحرب، وظهور نظام سياسي واقتصادي عالمي جديد، وعودة اليهود الى الارض المقدسة التي وعد بها ابراهيم.(55/268)
وعمل القس المحافظ المتطرف، وصديق مون، تيم لاهاي على ترويج افكار داربي في كتبه الدينية وهي نبوءات تعد بعودة المسيح الذي سيقيم مملكة الرب بعد معركة ارمجيدون، لكنه يرهن هذه النهاية السعيدة بتخلي اليهود عن دينهم وهو ما لن يحدث الا اذا استعادوا كل الاراضي التي منحهم اياها الله. ويقول ماثيو انجيل في صحيفة الغارديان معلقا: «يدعم هؤلاء المسيحيون اليهود بغرض الغائهم» ويتبنى جيري فالويل، وبات روبرستون، ودي إل مودي مؤسس معهد Bible moody هذا الاعتقاد، وكذلك مايكل جيرسون، محرر خطابات جورج دبليو بوش.
وفي مجلة بيزنس ويك كتب ستان كروك يقول: «منذ زمن صلاح الدين حتى عهد صدام حسين، ينظر المسيحيون الاصوليون الى القادة المسلمين كمسيح دجال محتمل او على الاقل كنذير بظهوره» ثم يضيف محللا نظريات جون داربي «بعد سبع سنوات من هذه الهيمنة الشيطانية يعود المسيح وقديسوه المتمثلون، على الارجح، في جورج دبليو بوش ومعاونيه» لينتصروا على الشر في معركة ارمجيدون، وهي ساحة معركة قديمة تقع بالقرب من حيفا شمال اسرائيل. وسيستقر المقام بالمسيح في القدس ومنها سيحكم العالم لمدة الف عام، وهي «الألفية» التي طالما انتظرها المؤمنون بهذا الاعتقاد.
ويجد هذا التفسير للانجيل صدى لدى بعض السياسيين مثل جون اشكروفت، وتوم دي لاي، ممثل تكساس الذي أصبح الرجل الأقوى في الكونغرس الأميركي. ويذكر انه خلال الانتفاضة الثانية حذر بوش، رغم الصداقة التي تجمعهما، كما حذر ادارته من مغبة القيام بأي محاولة للضغط على ارييل شارون لحمله على سحب القوات الاسرائيلية من الضفة الغربية.
وتجدر الاشارة الى ان الانتصار الخاطف الذي حققته اسرائيل في حرب الستة أيام عام 1967، واحتلال مدينة القدس، اشاعا نشوة عظيمة بين معتنقي افكار داربي. وقد كتب نيلسون بيل، صاحب صحيفة كريستيانيتي توداي Gh r istianuty Today، وهو المبشر الديني الشهير بيلي غراهام، يقول: «ها هي عودة القدس الى اليهود للمرة الأولى منذ أكثر من الفي عام تثير في دارس الانجيل قشعريرة، وتؤكد من جديد صحة الانجيل وصدقه».
تحالف غامض
انعقد هذا التحالف الغامض بين اسرائيل والمسيحيين المحافظين في عام 1977، حين وصل مناحيم بيغن والليكود الى الحكم للمرة الأولى. وكان بيغن يريد التصدي بأي ثمن لمبادرات الرئيس جيمي كارتر الرامية الى اطلاق مفاوضات من أجل الاعتراف بحق الفلسطينيين في اقامة وطن. وسعى الليكود جاهداً الى استمالة العناصر الاصولية داخل تيار المحافظين المسيحيين المتطرفين المؤيدين للتعنت الاسرائيلي. وهكذا خسر كارتر قاعدة انتخابية مهمة.
وقد اشترى هؤلاء صفحات كاملة في أهم الصحف الاميركية ليكتبوا فيها: «آن الأوان بالنسبة إلى المسيحيين الانجيليين ليؤكدوا اعتقادهم بنبوءة الكتاب المقدس، وحق اسرائيل الإلهي في أرضها. واننا لنؤكد كإنجيليين إيماننا بالأرض التي وعد بها الشعب اليهودي.. وكنا ننظر بكثير من القلق إلى كل الجهود الرامية الى اقتطاع جزء من الوطن اليهودي لأمة أخرى أو كيان سياسي آخر.
شارون نجم الروك
كان التفاف المسيحيين الصهيونيين المكثف حول رونالد ريغن في عام 1980 احد أسباب الهزيمة التي مني بها جيمي كارتر. وفي يونيو 1981 اتصل مناحيم بيغن هاتفياً بجيري فالويل، حتى قبل الاتصال بالرئيس الاميركي، وذلك مباشرة بعد قيامه بتدمير محطة اوزيراك النووية في العراق. وحين قررت حكومة بيغن عام 1982 اجتياح لبنان، ذهب صانع هذه المبادرة الرئيسي، ارييل شارون، وكان وزيراً للدفاع آنذاك، الى الولايات المتحدة للتأكد من مدى دعم المسيحيين المحافظين لها.
وحظي شارون لدى مثوله أمام المسيحيين الصهاينة بتصفيقات وهتافات «يخص بها عادة حسب أحد الشهود نجوم موسيقى الروك». ويذكر ان رئيس الوزراء الاسرائيلي يتبوأ مكانة خاصة، إذ يعتبر في نظر بعض المتطرفين، الرجل الذي اختاره الله لانجاز نبوءات آخر الزمان. وهو يعرف في زعمهم من مساره حيث ملك السلطة ثم اهتزت صورته لدوره المفترض في مذابح صبرا وشاتيلا. كما يستندون الى نص ورد في الانجيل يقول «يسقط الرجل العادل سبع مرات ثم يقوم منها».
ويستند دعم اسرائيل لأسباب دينية الى تفسير حرفي للتوراة. إذ يؤكد المسيحيون الصهاينة انهم بدعمهم برنامج اسرائيل الكبرى الذي دافع عنه بيغن وحزب الليكود، لا يفعلون سوى تلبية نداء الرب، مثلما ورد في العهد القديم.
(...) وقد صرح زعيم التحالف المسيحي السابق رالف ريد بالقول: «ليس هناك دليل اكبر على بسط الرب سلطانه على العالم اليوم من بقاء اليهود، ووجود اسرائيل، وهذه الحقيقة تفسر في جزء منها سر تشبث المسيحيين وغيرهم من المحافظين المؤمنين بدعم اسرائيل».
أزمة الشرق الأوسط في الإنجيل
وعن هذا التحالف الغامض، كتب كل من كين سيلفر ستين ومايكل شيرر في ماذر جونز mothe r jones: «يعمل المسيحيون على دعم اسرائيل فقط لايمانهم ان ذلك يؤدي الى انتصار المسيحية في نهاية المطاف، وازمة الشرق الاوسط بالنسبة إليهم تنبأ بها كتاب الانجيل».(55/269)
(...) ويؤكد الحليف الاكبر لليكود والقادة الاسرائيليين ان المسيح الدجال قد ظهر وانه «يهودي وذكر» ويعتبر القس تشاك ماسلر معتقل او شويتز النازي «مجرد تمهيد لارمجيدون المقبلة» لكن التحالف بين ادارة بوش والحكومة الحالية في اسرائيل لا يستطيع ان يخفي الجانب المقلق في طروحات داربي التي يرددها المسيحيون المتطرفون، ومفادها انه في نهاية هذه المعركة النهائية بين الخير والشر سيتحول كثير من اليهود الى الدين المسيحي، اما الكافرون من بقية اليهود والمسلمين فسيكون مصيرهم الهلاك والموت، وسيقود المسيح الصالحين بعد ذلك الى الجنة.
إغاثة روحية
كانت صحيفة لوموند قد ذكرت في احدى مقالاتها ان المبشرين الدينيين الاميركان كانوا يرابطون خلال الحرب عند ابواب العراق «استعدادا لتقديم الاغاثة» المادية والروحية الى السكان بعد تحريرهم من صدام حسين، وكانت «هناك فرق تابعة لكل من المؤتمر المعمداني لمنطقة الجنوب وجمعية سامارتيان بورس الانسانية (يرأسها فرانكلين غراهام ابن المبشر الانجيلي الشهير بيلي غراهام) ترابط على الحدود الاردنية»، ويذكر ان فرانكلين غراهام هذا هو الذي كان له شرف «مباركة» حفل تنصيب جورج دبليو بوش في يناير 2001، ويتلقى دائما دعوات لزيارة البيت الابيض ونقل عنه كلام لاذع عن الاسلام اذ قال: «ان إله المسلمين ليس هو نفسه إله المسيحيين، انه إله مختلف واعتقد ان ديانتهم ديانة عدائية وشريرة جدا».
ليست قوى اليمين المسيحي الاميركي المتطرف وحدها فاعلة في ادارة بوش فثمة عناصر في الفريق الرئاسي كانت من اشد المتحمسين لعملية «الحرية العراقية» وتتبنى طروحات مشابهة لطروحات الاصوليين، لكنها تختلف معهم في الافكار والرؤية، وهي عناصر يهودية مقربة من حزب الليكود الاسرائيلي ومؤيدة لاتباع «اسلوب صارم» في التعامل مع المسألة الفلسطينية.
وقد اصبح هؤلاء، منذ وصول جورج دبليو بوش إلى السلطة، وتحديدا منذ تاريخ 11 سبتمبر، مقربين جدا من القائد العام لأهم جيش في العالم، وباتت توصياتهم وطروحاتهم تلقى آذانا صاغية لديه، وهم الذين يقفون وراء السياسة الخارجية الجديدة لواشنطن.
لكن العلاقات التي تربطهم باسرائيل، وبفئة من الطبقة السياسية الاميركية تطرح تساؤلات كبيرة حول مدى اخلاقيات نشاطاتهم وشرعيتها.
ويعتبر دوغلاس فيث، وكيل وزارة الدفاع خير مثال لهذه العلاقة الوثيقة بين الادارة الحالية واليمين الاسرائيلي.
فهو مقرب جدا من المنظمة الصهيونية الاميركية، حيث يلقي محاضرات عدة.
وكان فيث قبل عمله في ادارة بوش يدير مكتب محاماة يملك فروعا خارجية في اسرائيل دون غيرها، وكان يمثل «صاحب شركة لصنع الاسلحة اسرائيليا».
ويتمتع فيث بخصوصية تميزه عن البقية من أمثاله وتتمثل في كونه المسؤول الاميركي الوحيد الذي يملك سندات خزينة اسرائيلية، وهو استثمار لا يستحق الذكر الى جانب ثروته التي تتجاوز 27 مليون دولار لكن وكيل وزارة الدفاع ليس الوحيد بين الصقور الذي عمل مع اصحاب شركات الاسلحة الاسرائيليين، فريتشارد بيرل الذي يصنف اليوم ضمن المحافظين الجدد، سبق ان عمل لمصلحة شركة soltam التي تصنع قطع المدفعية وقذائف الهاون، ويعد بيرل الأكثر نفوذا بين «الصقور» الى جانب بول وولفويتز، وكان يدير مجلس سياسة الدفاع التابع للبنتاغون قبل ان يقدم استقالته على اثر اتهامه بالتورط في فضائح مالية، لكنه احتفظ بعضويته في المجلس.
وفيما يفضل بيرل العمل في الظل والابتعاد عن الاضواء حتى لقب في عهد ريغن، بـ «أمير الظلمات»، يحب بول وولفويتز الظهور واحتلال موقع الصدارة في وزارة الدفاع الاميركية، لكن الدروب التي سلكاها تقاطعت اكثر من مرة منذ ثلاثين عاما، وخاصة في المعهد اليهودي لشؤون الامن القومي، وهو مركز ابحاث ودعم لاسرائيل في الظاهر، ومجموعة ضغط في الواقع ذات هدف مزدوج يتمثل في منع بيع الاسلحة المتطورة الى العالم العربي، والحرص على استمرار تدفق المساعدات العسكرية الاميركية في اتجاه الدولة العبرية.
والى جانب بول وولفويتز، ودوغلاس فيث، وريتشارد بيرل، يرد اسم اليوت ابرامز، الذي عين في ديسمبر 2002 مديرا لشؤون الشرق الاوسط في مجلس الامن القومي بناء على اوامر كونداليسا رايس، وهو بصفته هذه يتولى تحرير التقارير المتعلقة بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني وتزكيتها او وقفها قبل ان ترفع الى كونداليسا رايس وجورج بوش.
كان جون اشكروفت يمثل في البداية المرشح المثالي للرئاسة بالنسبة لليمين المسيحي، لولا أن ابن تكساس تفوق عليه بالجمع بين الثروة الطائلة، والعلاقات الوثيقة مع الجماعات الاصولية المتطرفة. وهو ما رجح كفة الرئاسة لصالحه بدعم من اللوبي المسيحي اليميني الذي يتمتع بنفوذ لا يفل ويحمل مشروعا لمكافحة الانحطاط الثقافي بحسب مفهومه الخاص والفكر الليبرالي بشكل عام.
وأبرز ما يسم حركات اليمين المسيحي المتطرف هو ذلك التحالف الوثيق الذي يجمعها باسرائيل، والنابع من ايمانها الراسخ بحق هذه الأخيرة في أرض الميعاد.
العالم الإسلامي خصم جديد بعد الاتحاد السوفيتي في عرف الصقور(55/270)
الصقور يتراجعون في خطة تقسيم العراق لإضرارها بالزعامة الأميركية في العالم
لا يمثل المحافظون الجدد كل اليهود والاسرائيليين بل هم مجرد مجموعة صغيرة من الاشخاص يسعون لتحقيق اهداف رسموها لانفسهم عبر وسائل ما فتئوا يبسطون سيطرتهم عليها اكثر فأكثر مع تزايد حجم نفوذهم داخل الادارة الحالية.
ويبدو ان سطوتهم المتنامية لم تعد تجد من يقاومها داخل الادارة، فأسلوب الاعتدال الذي يمثله كولن باول باعتباره خصمهم المبين آخذ في التلاشي تماما، وقد «تطهر البنتاغون في نهاية 2001 من آخر حمامة» ونعني بذلك بروس ريدل الذي كان يدعو الى الحرص على توافر تحالف كبير في الحرب على الارهاب ومراعاة الحساسيات العربية التي قد يفرزها هجوم محتمل ضد العراق.
وامعانا في عزل كولن باول، نجح كل من وولفويتز ورامسفيلد في فرض شخصية اخرى موالية تماماً للصقور عليه، وهكذا تم تعيين جون بولتون، في منصب وكيل وزارة لشؤون الامن القومي، ومسؤول عن الاسلحة رغم تحفظات وزير الخارجية.. وبدوره اتخذ بولتون لنفسه مستشارا خاصا يدعى ديفيد وارمسر، وهو صديق ريتشارد بيرل سبق له التعاون ايضا مع بنيامين نتانياهو حين كان رئيسا للوزراء، وزوجته ميراف شاركت في تأسيس معهد الابحاث الاعلامية لشؤون الشرق الاوسط الى جانب الكولونيل ييغال كارمون، المسؤول السابق عن جهاز الاستخبارات العسكرية الاسرائيلي، ويحرص المعهد على ترجمة ما ينشر في الصحافة العربية من مقالات لاذعة، وابراز نزعة معاداة السامية التي تهز هذه المنطقة الى جانب ترجمة المقالات المؤيدة للسياسة الاميركية في الشرق الاوسط، ففي يوم 24 ابريل 2003، وبعد ايام قليلة من ورود ذكر سوريا في خطابات رامسفيلد، نشر المعهد على الصفحة الاولى من موقعه ترجمة لمقال من صحيفة كويتية يعتبر نظام بشار الأسد «أسوأ من نظام صدام». ومن الواضح ان هذه الترجمة لم تأت اعتباطاً لأنها تعكس وجهة نظر عربية مؤيدة لسياسة واشنطن. وهو ما يجافي الحقيقة إذ ما من مسؤول سياسي في الشرق الأوسط ـ فما بالك بالمواطن العادي ـ يؤيد تدخلاً عسكرياً في سوريا مجهول العواقب.
شارك ديفيد وارمسر الذي سبق ذكره، الى جانب ريتشارد بيرل، ودوغلاس فيث في إعداد تقرير سري للغاية يحمل عنوان «قطيعة شاملة» ورفع الى رئيس الوزراء الاسرائيلي نتانياهو عام 1996. وتمحور التقرير حول هدفين أساسيين اثنين رسما من أجل مصلحة اسرائيل وهما: تفكيك العراق، وتصفية النظام السوري.
وجاء في التقرير ما يلي:
«جاءت دعوة الاردن الى اعادة النظام الهاشمي لحكم العراق بمثابة الثقل الموازن للطموحات الاقليمية السورية. وبما ان مستقبل العراق سيؤثر في التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط تأثيراً عميقاً. فإن تأييد اسرائيل لعودة الملكية في العراق سيكون له ما يبرره. وبإمكان حكومة نتانياهو ان تقوم بأولى زياراتها الرسمية الى الاردن قبل الذهاب الى واشنطن، وتقدم الدعم للملك حسين لمساعدته (في مجال الأمن والاستخبارات) في مكافحة التخريب السوري وتشجيع الاستثمارات الأجنبية في الاردن عبر نفوذ اسرائيل في أوساط رجال الأعمال الاميركيين، لتخليصها من تبعيتها (الحالية) تجاه العراق، وإلهاء السوريين باستخدام عناصر معارضة لبنانية لخلخلة قبضة سوريا على لبنان.
... ويمكن لاسرائيل ان تشكل محيطها الاستراتيجي بالتعاون مع تركيا والاردن عبر اضعاف سوريا. وقد يتحقق ذلك بعزل صدام حسين في العراق مما يسمح بالتالي بإجهاض طموحات دمشق. كيف؟ بعقد تحالفات مع العشائر العربية التي تقطن على جانبي الحدود العراقية ـ السورية والمعادية للنظام السوري..».
وفضلاً عن هذه النصائح ذات الطابع الجيوستراتيجي التي تبدو كإرشادات للحرب الحالية، ذهب بيرل وزملاؤه أبعد من ذلك إذ جاء على لسانهم «نظراً إلى طبيعة نظام دمشق، فإنه من الطبيعي والاخلاقي ان تتراجع اسرائيل عن محاولاتها الانفتاحية (السلام الشامل) وتتمسك بكبح نمو هذا البلد عبر لفت الانظار الى برامجه لامتلاك اسلحة الدمار الشامل، ورفض اتفاقات السلام مقابل الأرض الخاصة بمرتفعات الجولان».
بل تضمنت هذه الوثيقة «نصائح» في مجال الاتصال لكسب تعاطف واهتمام الاميركيين خلال زيارات بنيامين نتانياهو للولايات المتحدة. وأوصى أصحابها رئيس الوزراء الجديد بالحديث عن أهدافه السياسية بلغة مألوفة لدى الأميركيين.
هكذا نستخلص إذن ان الحرب في العراق لم تكن قراراً جديداً بالنسبة إلى الصقور في هذه الادارة. وهي ليست نتيجة «عملية التفتيش» التي لم تقنع أحداً بل تمثل تجسيداً لاستراتيجيات أقدم في الزمن تهدف الى اعادة تشكيل ميزان القوى السائد اليوم في الشرق الأوسط.
ولكن يبقى السؤال مطروحاً بعد قراءة هذا التقرير حول الهدف الحقيقي من وراء هذه العملية. هل هو السعي وراء المصالح الاميركية أو تعزيز وضع اسرائيل في المنطقة؟(55/271)
ومهما كانت القضية الأساسية التي يدافع عنها الصقور، فإن التفكير في تفكيك أمة ذات تركيبة معقدة جداً كما هي الحال في العراق، وإلصاقها بمملكة تفتقر الى الاستقرار مثل الاردن يكشف مدى ثقة هؤلاء بأفكارهم ومشاريعهم ولا واقعيتهم. وبعد أربع سنوات من رفع تلك الوثيقة الى نتانياهو، تم تقديم نسخة أخرى منها مخصصة للأميركيين وتحديداً لجورج دبليو بوش لكنها اختلفت عن النسخة الأصلية في شيئين اثنين، فاستخدمت فيها مصطلحات مألوفة لدى الأميركيين. وتم إغفال الحديث عن أي تفكيك للعراق. وان عادت هذه الفكرة لتتردد على لسان بول وولفويتز. وتم تحرير هذا التقرير تحت اشراف مركز دراسات آخر في واشنطن يحمل اسم المشروع من أجل القرن الاميركي الجديد PNAC، ويعمل من اجل تشجيع «الزعامة الاميركية للعالم» ويضم المركز الصقور الموالين لاسرائىل المتعاطفين مع الليكود واعضاء من اليمين المسيحي المتطرف الاميركي.
مناورة تشيني
كان الصقور قد حاولوا مرارا الترويج لوجهة نظرهم على اعلى مستوى في السلطة التنفيذية، فبعد مرور فترة قصيرة على سقوط جدار برلين في عهد ولاية بوش الاولى، دار حديث حاسم بين ديك تشيني وبول وولفويتز كان بمثابة الانتصار الاول للمحافظين الجدد، اذ شكل تشيني، وكان وزيرا للدفاع آنذاك، لجنة تضم الى جانب آخرين بول وولفويتز ولويس ليبي (مناصرا آخر للحرب الحالية). وكان الهدف الذي رسمه هؤلاء كبيرا ويتمثل في وضع الخطوط العريضة لسياسة خارجية اميركية جديدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، ثم طلب من كولن باول، الذي كان يتولى رئاسة الاركان، اعداد تقرير منافس يقدم رؤية للعالم وللعلاقات الدولية تتسم بالاعتدال قياسا الى رؤية الصقور. وحدد تشيني تاريخ 21 مايو 1990 لعرض التوصيات، وتم تخصيص ساعة لكل من وولفويتز وفريقه، وباول وفريقه، وفي الموعد المحدد اعطيت الكلمة لوولفويتز اولا فتجاوز المدة المخصصة له كثيرا دون ان يقاطعه تشيني. واضطر باول للمغادرة دون عرض تقريره بعد ان حدد له وزير الدفاع موعدا بعد اسبوعين من باب المجاملة.. وهكذا كان الموجز الذي نقله هذا الاخير لجورج بوش الأب تلخيصا وافيا لأفكار وولفويتز وخرج باول خاسرا، وكان من المتوقع ان يلغي الرئيس الاميركي خطابا تاريخيا لكونه كان يمثل انعطافة حقيقية في تاريخ هذه الامة المعروفة بانطوائها على نفسها ونفورها من الاهتمام بما يجري في الخارج ومن التدخل في مشاكل العالم. الا ان الخطاب الذي كان مرتقبا في الوقت نفسه، الذي كانت الدبابات العراقية تتدافع فيه نحو الكويت، ألغي.
وطيلة التسعينات، بدأت ملامح رؤية الصقور تتضح شيئا فشيئا، وحدد مبدؤهم الخاص بالسياسة الخارجية العالمية الذي يقوم على استباق التهديدات وتصفية القوى المنافسة، بغض النظر عن موقعها وعن الظروف، هدفا واضحا تمثل في الشرق الاوسط باعتباره مصدرا للقلاقل الدائمة، وتولد لدى الصقور يقين مطلق بتشابك المصالح الاميركية بالمصالح الاسرائىلية بفعل الروابط القوية احيانا التي تربطهم بإسرائىل (شقيقة وولفويتز تقيم في اسرائىل) وتماثل الرؤى بينهم وبين زعماء الليكود، اذ يدعو هولاء الى ضرورة تكاتف هاتين الديموقراطيتين، مهما كان الثمن، من اجل التصدي للعالم العربي الذي حل محل الاتحاد السوفيتي في دور الخصم. وهو خصم يجب تحريره بالقوة اذا اقتضى الامر ذلك. ويبدو واضحا هنا مدى التأثير الكبير لطروحات المستشرق الشهير المقرب من المحافظين الجدد برنارد لويس، الذي قال عنه بول وولفويتز «كان بارعا في وضع العلاقات مع الشرق الاوسط وقضاياه في سياق اوسع عبر فكر موضوعي وفذ ومستقل، فلويس علّمنا كيف نفهم تاريخ الشرق الاوسط المعقد والمهم، وكيف نستخدمه لنهتدي به، من اجل اقامة عالم افضل للاجيال القادمة».. يذكر ان برنارد لويس هو خبير معروف عالميا خدم ابان ا لحرب العالمية الثانية في اجهزة الاستخبارات البريطانية، وهو الذي ابتكر مفهوم «صدام الحضارات» الذي ردده صاموئيل هانتنغتون في طروحاته لاحقا.
الصقور تحفزوا لبغداد منذ 1998
اصبحت بغداد هدفا مفضلا لدى الصقور منذ عهد كلينتون، ففي عام 1998 نشر مركز «مشروع القرن الاميركي الجديد» رسالة مفتوحة الى الرئيس يطالبه فيها بالقيام بعمل عسكري من طرف واحد، دون المرور عبر مجلس الامن، وهي الرسالة التي وقعها كل من ريتشارد بيرل وبول وولفويتز ودونالد رامسفيلد وبعد ذلك ببضعة اشهر طلب مركز ابحاث آخر يحمل اسم «لجنة السلام والامن في الخليج» من بيل كلينتون الاعتراف بحكومة عراقية مؤقتة يقودها اعضاء المجلس الوطني العراقي، على اعتبار ان هذا الاعتراف من شأنه ان يشكل الخطوة الاولى باتجاه «استراتيجية سياسية وعسكرية ترمي الى اسقاط صدام حسين ونظامه». وكان من بين الموقعين على هذه الرسالة الثانية الى جانب ريتشارد بيرل، بوصفه أحد رئيسي المركز، كل من رامسفيلد ووولفويتز، وفيث، وأبرامز، وبولتون. ولا تخفى استراتيجية تحريك اللجان والهيئات ومراكز الابحاث بسرعة متدرجة على أحد في واشنطن.(55/272)
ويقول أحد موظفي وزارة الخارجية شارحا: «يستخدم بيرل وبقية الصقور هذه الطريقة منذ زمن طويل. وهي تولد انطباعا لدى الرأي العام، وكذا بعض اعضاء الكونغرس بأن موجة المحافظين الجدد بصدد التحول الى مدّ كاسح. اذ يعمد مركز بعينه الى حشد التأييد في اطار لوبي لضرب العراق، ثم يحذو مركز آخر حذوه في اليوم التالي.
وفي الاسبوع الموالي تنشر صحيفتك المفضلة في صفحتها الاولى رسالة وصلت من «معهد ابحاث» آخر. وهكذا يجري الحديث بصوت واحد عن الموضوع، وهو ما يكون له اكبر الاثر اذ يعتقد الناس خطأ ان الاغلبية تتبنى آراء هؤلاء».
وقد صرح سياسي اسرائيلي سابق مقرب من اسحق رابين ومعارض لسياسة الصقور فقال: «انهم يأملون في اعادة المجد الاميركي. ومن شأن هذه القوة المتنامية ان تخدم في الوقت نفسه من وجهة نظرهم المصالح الاسرائيلية. ولأنهم منظرون فان ميزان القوى في المنطقة يمكن تحديده بالارقام وعلى الخرائط. فالامر بالنسبة إليهم مجرد عملية حسابية. اي ان اسقاط صدام واضعاف سوريا كفيلان بتركيع الفلسطينيين». ويضيف قائلا: «... الصقور في واشنطن لا يشعرون بشيء من آثار النزاع الذي لا يعيشونه بصورة مباشرة. ومع ذلك، فانهم هم من يقرر مصيرنا اليوم».
العراق بين خياري التقسيم والإلغاء
الاطاحة بنظام صدام وقعت، والآن ماذا ينتظر العراق او بالاحرى كيف يمكن لاسرائيل ان تستفيد من هذا الوضع الجديد؟ في عام 1996 كان افراد الفريق العامل في البنتاغون اليوم يفكرون في ضم العراق الى الاردن. لكن «مجموعة التحليل والتوقعات الاستراتيجية» ST r AFO r كشفت ان ديك تشيني يفكر في خيارين اثنين بخصوص العراق، فإما ضمه الى الاردن (كما جاء في تقرير «قطيعة شاملة») او تفكيكه الى ثلاث ولايات، تمنح واحدة حكما ذاتيا، وتلحق الثانية بالاردن، فيما تدمج الثالثة، والمتمثلة في المنطقة الشيعية في الكويت. انه من الصعب فهم المنطق الاميركي. فمن ذا الذي يمكنه ان يستفيد من ضم العراق الى البلد الوحيد «الصديق» للدولة العبرية في المنطقة اذا استثنينا اسرائيل؟
ومن المعروف ان الشيعة في العراق يمثلون اغلبية تبلغ نسبتها 60 في المائة من مجموع السكان. والعلاقات بين الشيعة والسنّة لا تتسم بالمودة الا في ما ندر. فكيف يعقل ان نتوقع النجاح لعملية الزرع هذه، اذا علمنا ان المذهب السني هو السائد في كل من الاردن والكويت؟
ثم ان الاميركيين تدخلوا في الخليج عام 1991 بعد غزو صدام للكويت بحجة انها كانت جزءا من العراق فيما سبق، وها هي واشنطن تريد اليوم ضم العراق الى بلدين مجاورين، وهي خطوة تفتقر الى الشرعية.
وقد أسرَّ أحد الخبراء بالقول: «يتردد الحديث عن هذه الخطط كثيرا في واشنطن، ولكن هناك شعورا عاما بان مشروع تفكيك العراق سيكون بمنزلة القشة التي تقصم ظهر البعير، وقلة فقط ترى ان الصقور يمكن ان يقدموا على ذلك..».
واشنطن لا تحسن اختيار الهدف
قال مسؤول بريطاني في حديث لمجلة نيوزويك نشر في اغسطس 2002: «الجميع يريد التوجه الى بغداد، لكن الرجال، الحقيقيين يريدون الذهاب الى طهران»، ومن جهتها، ذكرت صحيفة هآرتس في فبراير 2003 ان جون بولتون اسرّ لمسؤول اسرائيلي ان الولايات المتحدة ستهتم بأمر ايران وسوريا وكوريا الشمالية بعد ان تفرغ من العراق.
لكن الامور ستتعقد على نحو خطير بالنسبة إلى الدولة العبرية في حال التفت الاميركيون صوب دمشق، لان تبرير الهجوم على سوريا سيكون اصعب بكثير.
لقد وضع اسم سوريا على القائمة السوداء في اميركا لان الصقور قرروا ذلك. ولنا ان نتساءل هنا عن سبب التغاضي عن كثير من البلدان التي تؤوي عناصر القاعدة مثل الصومال التي تعتبر ملاذا آمنا لهذا التنظيم. وهذه حقيقة لا يجرؤ اي جهاز مخابرات في العالم على دحضها.
(...) حين يتعلق الامر بالفوائد المرجوة في اوساط اليمين الاسرائيلي من هذه النزاعات، يحرص الصقور على السرية والتكتم. وقد تحدثت نيويورك تايمز في نهاية العام الماضي (2002) عن وجود وثيقة لا تخلو من دلالة، وتنصح الاسرائيليين واليهود الاميركان باجتناب الخوض في موضوع الحملة العراقية. ويقول نص الوثيقة: «اذا كان هدفكم تغيير النظام (في العراق) فعليكم ان تنتبهوا اكثر لما تتلفظون به تحاشيا للعواقب المحتملة، حتى لا يعتقد الاميركيون ان حرب العراق شنت لحماية اسرائيل وليس اميركا (...) اتركوا السياسيين الاميركيين يدافعون عن الحرب في العراق في الكونغرس وفي وسائل الاعلام. واتركوا المجموعة الدولية تتشاجر في منظمة الامم المتحدة. فصمتكم سيصرف انظار العالم الى العراق وليس الى اسرائيل».(55/273)
في نهاية عام 2001، «تطهر» البنتاغون من «آخر حمامة» مع خروج بروس ريدل المعروف باعتداله، وعَزْل كولن باول بفرض جون بولتون الموالي للصقور عليه في وزارة الخارجية. وحين بدأ يستتب الأمر للصقور جرى إعداد تقرير سري للغاية رفع إلى رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك بنيامين نتانياهو عام 1996. ويتمحور التقرير حول هدفين أساسيين يصبان في مصلحة اسرائيل وهما تفكيك العراق، وتصفية النظام السوري. وهذا ما يؤكد أن قرار الحرب في العراق كان تجسيدا لاستراتيجيات ترمي إلى إعادة تشكيل ميزان القوى السائد اليوم في الشرق الأوسط.
التقت مصالح الصقور وعمالقة النفط فوجب التغيير
تتعدى علامات الاستفهام حول ولاء بعض «الصقور» نطاق التعاطف مع اسرائيل. ففي مارس 2003 كشف الصحافي الاميركي في النيويوركر، سيمور هيرش، المتخصص في التحقيقات الصحفية ان «ريتشارد بيرل كان احد الشركاء في شركة T r i r eme التي تستثمر في قطاع التكنولوجيا والخدمات وتولي اهتماما خاصا بقطاع الدفاع والامن الداخلي».
وبعد مرور عام، جمعت الشركة 45 مليون دولار، 20 مليونا منها قدمتها شركة بوينغ. لكن بيرل وشركاه ظلوا في سعي دائم لاستقطاب مزيد من المستثمرين فلجأوا الى الشخص الاكثر اثارة للجدل في العالم طلبا للمساعدة. ونعني بذلك عدنان خاشقجي، السعودي (67 عاما) الذي جمع ثروة طائلة من وراء دور الوساطة الذي لعبه في عقود الاسلحة المبرمة بين العائلة المالكة والشركات الاوروبية والاميركية. وكان يمثل بفضل علاقاته الواسعة وقدرته على التفاوض خير ضمان لنجاح شركة استثمارية تبحث عن استثمارات جديدة.
وقد التقى المسؤول عن الادارة المباشرة في الشركة T r i r eme بمقرها في نيويورك، جيرالد هيلمان، خاشقجي لاول مرة في باريس وكان برفقته الصناعي السعودي البارز، والمستثمر المحتمل، الذي ولد بالعراق.
وبدأ كل شيء بسوء تفاهم تعمد الاميركيون تعميقه. فالرجل، ويدعى حرب زهير، كان يرى في هذه الصفقة فرصة سانحة للاتصال بصانعي القرار الاميركي من اجل طرح وجهة نظره عليهم، بل واكثر من ذلك، نقل ما يلتقطه من معلومات خلال اسفاره العديدة للعراق اليهم.
كان زهير يملك علاقات على مستوى القمة في النظام العراقي، وربما كان على صلة مع صدام حسين نفسه. وكان مؤمنا بامكان التوصل الى حل للمسألة العراقية عن طريق التفاوض. حدث هذا في ديسمبر، ولم يكن هم شركة T r i r eme والمساهمين فيها سوى الحصول على استثمارات حتى لو كان مصدرها المملكة العربية السعودية. اما الفائدة من التفاوض السياسي مع زهير فلم يشغل بالهم لحظة، وان كان جيرالد هيلمان عضوا في مجلس السياسة الدفاعية، وهي هيئة ذات نفوذ كبير في البنتاغون يرأسها بيرل.
غير ان هؤلاء كانوا يعلمون انه لا بد من تطييب خاطر زهير، وان أي رفض قاطع لاقتراحه من شأنه ان يفوت عليهم فرصة الحصول على المائة مليون دولار التي وعد باستثمارها في شركته، فكان لا بد من ان يلعبوا اللعبة، وهو ما حدث فعلا.
وهكذا قام هيلمان في الايام التي تلت لقاء باريس، بتحرير مذكرة من 12 نقطة مؤرخة في 26 ديسمبر 2002 وتنص على نحو خاص، على ضرورة ان يقر صدام حسين «بتطويره لاسلحة الدمار الشامل وامتلاكه لها»، وهي الشروط التي رددتها ادارة بوش بعد ذلك بشهرين، وخلصت المذكرة الى القول: «اعتقد ان الولايات المتحدة ستتراجع عن فكرة ضرب العراق في حال تمت الموافقة على الشروط الاثني عشر المنصوص عليها، وسيسمح لصدام حسين بمغادرة البلاد مع ولديه وبعض وزرائه».
ولم يكن لهذه المذكرة ادنى شرعية رسمية، كما لم تنتج عن أي نقاش داخل الادارة. وهيلمان لم يكن يتوقع من ورائها شيئا على الصعيد الدبلوماسي، وكل ما كان يقصده هو خداع الصناعي العراقي - السعودي على امل الحصول على استثمارات منه.
وبعد مرور اسبوع واحد، بعث هيلمان بمذكرة ثانية جاء فيها: «عطفا على المحادثات التي اجريناها مؤخرا، فكرنا في القيام باختبار فوري يسمح بالتأكد من مدى صدق النظام العراقي»، وشملت المذكرة خمسة شروط جديدة، وجدها زهير مستحيلة، فيما اعتبرها خاشقجي طريفة وشبه سخيفة.
بدا مضمون المذكرة كنص كُتب بقلم احد الهواة وهو امر يسهل تفسيره اذا علمنا ان ابنة هيلمان، وهي طالبة في المرحلة الثانوية، هي من ساعده في كتابة هاتين «المذكرتين» اللتين اقل ما يمكن ان يقال فيهما انهما تتعلقان بمستقبل العالم وحرب تشنها اكبر قوة وحيدة في العالم في منطقة الشرق الاوسط، وقد اعترف هو نفسه بذلك وزاد ان بيرل لم يكن على علم بالرسالتين لدى توجيههما الى السعوديين، لكنه اطلع على الموضوع ولم يعلق عليه.(55/274)
وغداة ارسال المذكرة الثانية، تم تنظيم مأدبة غداء في مارسيليا جمعت خاشقجي، وزهير وبيرل وهيلمان، وكان بيرل بمثابة «الطعم» حسب تعبير خاشقجي الذي اطلع الصحافي سيمور هيرش على ما دار في اللقاء، وكان زهير يريد التحدث عن رفع قيمة الاستثمار المزمع لمصلحة شركة t r i r eme مع الحرص على موضوع مستقبل العراق بشكل خاص، واستهل بيرل الحديث بلهجة مثيرة للدهشة قائلا انه يتسامى على المال وإن اهتمامه ينصب اكثر على السياسة وان «الصفقات تبرم عبر الشركة بالاحرى وليس عبر شخصي».
وبينما يقر بيرل انه لم يعلم ابدا بموضوع المذكرتين المرسلتين الى زهير، وانه لم يأبه كثيرا بالحلول التي اقترحها هذا الاخير، تبدو الاسباب التي كانت وراء لقاء مارسيليا غامضة، ويقول الامير بندر بن سلطان، سفير المملكة العربية السعودية الدائم لدى الولايات المتحدة وابن وزير الدفاع خالد بن سلطان معلقاً: «كان بحاجة الى فرصة لنفي القضية برمتها، وكان بحاجة الى تغطية للتمويه فتحجج بمبادرة السلام في العراق لكن (...) سبب اللقاء كان فعلا التفاوض بشأن صفقة تجارية».
ولا شك ان زهيراً ادرك ذلك مما يفسر الغاء مشروع الاستثمار.
لكن القضية اكتست لاحقاً ابعاداً لم تكن متوقعة ابدا اذ ترددت اصداء مذكرتي الطالبة الشابة بعد شهر من اللقاء الشهير بين بيرل وزهير، في صحيفة الحياة في مقالة حملت عنوان لا يخلو من دلالة: «واشنطن تعرض التراجع عن شن الحرب مقابل اتفاق دولي حول نفي صدام حسين» وذكرت «الحياة» في موقع آخر ان بيرل ومسؤولين آخرين قد قاموا باتصالات سرية من اجل تفادي الحرب.
وبعد مرور بضعة ايام، قامت «السفير» اللبنانية من جهتها بترجمة مذكرتي الانسة هيلمان وابيها ونسبتهما الى ريتشارد بيرل مباشرة.
وان دلت هذه القضية على شيء، فإنما تدل على ما يمكن ان يسفر عنه تداخل التجارة بالسياسة من نتائج مفاجئة تخرج عن نطاق السيطرة، حين تتداخل المصالح المالية بالسلطة فتنسج صلات شاذة، فبيرل الذي يكيل الانتقادات للسعودية من موقعه في الادارة الاميركية لا يتردد في التودد عبر الشركات التي يملك فيها حصة الى مستثمرين من هذا البلد، ويبدو التضارب في المصالح جليا في القضية، وان لم تنطوِ على اي خرق للقوانين. ولعل خير دليل على ذلك يتجسد في هيلمان، احد الشركاء في شركة T r i r eme وعضو في مجلس السياسة الدفاعية الذي استغل دوره كمستشار في البنتاغون لخداع مستثمرين محتملين، فراح يعدد «الشروط» المزعومة التي يتعين على صدام حسين تلبيتها، لتفادي الحرب.
وقد جاء رد فعل ريتشارد بيرل على القضية التي كشفها الصحافي سيمور هيرش مثيرا للدهشة وذا دلالة، اذ وصف هيرش اثناء مقابلة اجراها معه المذيع وولف بليترز من قناة سي.إن.إن بـ«الارهابي» وحين طلب منه هذا الاخير توضيح كلامه استرسل قائلا: «انه لا يملك ذرة حس من المسؤولية (..) فهو فعل ذلك بغية الايذاء ويسعى له بأي طريقة وعبر اي تحريف ممكن..» ويبدو ان بيرل قد لجأ الى استراتيجية تجعل اخضاعه لاي تحقيق والتشكيك في مدى شرعية افعاله بمثابة مس بالامن العام.
متبنيا بذلك مقولة رئيسه «من ليس معنا فهو ضدنا» واستغلها لمصلحته. فحالة الحرب تعتبر من وجهة نظره مبررا كافيا لإسكات كل المنتقدين، حتى عندما يكشفون النقاب عن وجود تضارب فاضح في المصالح، وحالات التضارب هذه اكثر من ان تعد في نشاط ريتشارد بيرل. ففي فبراير 2000 عُيِّن هذا الاخير مديرا لشركة Automnomy، وهي شركة بريطانية تعمل في قطاع التكنولوجيا المتطورة، وتحديدا في مجال اعتراض ما يدور على شبكة الانترنت من احاديث.
وفي اطار مكافحة الارهاب، حصلت الشركة أخيرا على عقد مجزٍ مع وزارة الامن القومي الاميركية، كما تعمل الشركة مع الجيش الاميركي وقوات البحرية بالاضافة الى القوات الجوية الملكية الاسترالية، وكعادته لم يخترق بيرل القانون بما ان مجلس السياسة الدفاعية الذي ظل يرأسه حتى عام 2003 (وما زال عضوا فيه) هو مجرد هيئة استشارية داخل البنتاغون. ومن موقعه هذا على هامش الادارة الاميركية لا يخضع بيرل للقيود نفسها المفروضة على الاعضاء المباشرين في الادارة، غير ان نفوذه الذي يمتد خارج اطار صلاحياته الرسمية دفع هيئة المراقبة المستقلة اي الجمعية الوطنية لصناديق التقاعد الى التساؤل عن وضع ريتشارد بيرل داخل الشركة، واعلنت هذه الهيئة عن نيتها في تقديم توصية بامتناع المساهمين في هذه الشركة اذا استمر «الصقر»، الذي تحول الى رجل اعمال، في منصبه بشركة Autonomy البريطانية بعد انتهاء فترة رئاسته الحالية.
عقد بـ750 ألف دولار(55/275)
بالاضافة الى ما تقدم حصل بيرل على عقد للعمل «كمستشار» لدى الشركة الاميركية غلوبال غروسينغ المفلسة، بهدف تسهيل عملية اعادة شرائها من قبل شركة Hutchinson Whampoa، وذلك لسبب بسيط يتلخص في كونها تتوافر على شبكة هائلة من الألياف الضوئية التي تستخدمها على نحو خاص وزارة الدفاع الاميركية ومختلف الوكالات التابعة لها. والشركة مملوكة لأغنى رجل في «هونغ كونغ» وهو لي كاشينغ الذي تربطه علاقات قديمة مع النظام الشيوعي في بكين.
ولذلك لا يريد البيت الابيض ان تقع انظمة الاتصال الحساسة هذه في يد نظام طالما اعتبر معاديا. وهنا دخل ريتشارد بيرل في اللعبة بعقد قيمته 750 الف دولار كانت 600 الف منها تعتمد على موافقة السلطات الاميركية على عملية البيع. وجاء في مذكرة مؤرخة في 7 مارس، ان موقع بيرل كرئيس لمجلس السياسة الدفاعية يخوله «تكوين وجهة نظر فريدة» و«معرفة عميقة» بالقضايا الامنية والدفاعية التي قد تثيرها لجنة الاستثمارات الخارجية المخولة منع بيع شركة هاتشينسون وامبوا.
وقال بيرل لصحيفة نيويورك تايمز ان الوثيقة حررها محامون وانه لم يتنبه لهذه الجملة. ثم تدارك في وقت لاحق، زاعما انها وردت في نسخة سابقة، وانه قام بشطبها لكن شخصا ما تعمد ادراجها في الوثيقة النهائية دون ان يتنبه لذلك.
ومهما يكن من امر هذه الجملة الشهيرة، فمن الواضح ان منصبه كمستشار للبنتاغون وموقعه شبه الرسمي كمنظر المحافظين الجدد، قد لعبا دورا حاسما في اختيار بيرل لترؤس الفريق المفاوض.
وفي مطلع عام 1989 كانت صحيفة وول ستريت جورنال قد كشفت وجود شركة تمثل الحكومة التركية وتحمل اسم آي. ايه. آي Inte r national Adviso r s Inc وتهدف الى تشجيع «المعونة الاميركية وبيع العتاد العسكري الاميركي لتركيا». وغني عن التذكير هنا بأن هذه الاخيرة تعتبر الحليف العسكري الأضمن لاسرائيل في المنطقة.
ومرة اخرى كذَّب بيرل وجود اي علاقة تربطه بهذه الشركة على نحو مباشر، زاعما انه «مستشار» لها. وهذا صحيح ما دامت الشركة مسجلة باسم «صقر» آخر هو دوغلاس فيث، المستشار الخاص السابق لبيرل. وقد جنى من ورائها مئات الآلاف من الدولارات مثلما جناها من مكتب المحاماة الذي كان يملكه Feith & Zell واكتسب مكانة كبيرة بين زبائنه مثل شركة نورثروب غرونمان مصنعة القاذفات B2 والمقاتلات F18، والطائرات من دون طيار وكلها تستخدم بكثافة في العراق.
إذ كانت زوجة نائب الرئيس الاميركي لين تشيني، عضوا في مجلس إدارة هذه الشركة حتى فبراير 2001. ويمثل ديك تشيني مثالا صارخا على هذا التقارب بل الحميمية التي تجمع السلطات السياسية بقطاع الصناعة الحربية. غير ان هذا الأخير يختلف عن ريتشارد بيرل وبول وولفويتز، ودوغلاس فيث وايليوت أبرامز بعدم ارتباطه باسرائيل بأي علاقة خاصة، لكن مسيرته طبعتها صبغة التطرف الصريح وخصوصاً فيما يتعلق بالسياسة الداخلية الاميركية وماضيه يزخر بمواقف وقرارات محرجة إذ رفض المصادقة على البرامج الغذائية التي وضعت لمصلحة الاطفال المعدمين في اميركا (1986)، والموافقة على جمع المعلومات حول تنامي الجرائم العنصرية، ومنح مساعدة غذائية للاشخاص المسنين (1987).
والقول نفسه ينطبق على موقفه من البيئة اذ صوت ضد قوانين عدة وضعت لحماية المياه والهواء، وأنواع الحيوانات المهددة بالانقراض. وموقفه هذا لم يكن نابعا من قناعاته السياسية بالضرورة بقدر ما هو نابع من مجال اختصاصه «كرجل نفط».
والواقع ان التصريحات القوية التي أدلى بها خلال عام 2000 عن تشدده ازاء العراق لم تكن سوى تمويه انتخابي بالنسبة الى رجل «تزوج» النفط. وقد كشف تقرير سري أعدته منظمة الأمم المتحدة ونشرت صحيفة واشنطن بوست اسماء مختلف الشركات التي تعاملت مع نظام بغداد وتفاصيل الصفقات المبرمة. فاضطر تشيني الى الاعتراف بالحقيقة متذرعا بانه لم يكن على علم بعلاقة الشركتين الفرعيتين مع العراق لدى شرائهما.
غير ان رئيس Inge r soll صلى الله عليه وسلمand جيمس أ. بيريلا اكد لواشنطن بوست ان تشيني كان على علم بالصفقة.
والواقع ان شركات مثل هاليبرتون ساهمت عبر مجموعة فروع ووسطاء في تكدس الثروات التي اكتشفها الجنود الاميركيون في القصور الرئاسية. فقيمة الصادرات العراقية من النفط قفزت من 4 مليارات دولار في عام 1997 الى 10 مليارات بعد ذلك بثلاث سنوات. وما كان هذا الارتفاع ليتحقق لولا الحصول على التكنولوجيا الاجنبية وقطع الغيار وغير ذلك من اللوازم غير المتاحة داخل العراق.
غادر ديك تشيني هاليبرتون حاملا معه 45 مليون دولار، ومطوقا بامتنان على ايصالها الى ارفع مقام في اوساط السلطة في الداخل والخارج (وخاصة في العالم العربي). ولكن ماذا عن ولائه؟ هل هو لعالم الاعمال أم لعالم السياسة؟ ان من يراقب الحرب الدائرة والمجازفة العظيمة، التي اقدمت عليها واشنطن بمصداقيتها، يفترض ان دوافع تشيني كانت سياسية فعلا، لكن الامور تكتسي بعدا مغايرا حين يتأمل ما بعد الحرب.(55/276)
فقد حصلت شركة هاليبرتون على أهم العقود واجزاها في مجال اعادة اعمار العراق. وذلك حتى قبل ان يهدأ هدير الآلة الحربية، وفي ظروف غير مألوفة البتة. فأميركا تعد من اكثر البلدان شفافية، وخاصة في مجال المناقصات ومع ذلك فلم تواجه هاليبرتون اي منافس على السوق العراقية المغرية.
وفي الوقت الذي كان جورج دبليو بوش يصرح بان «نفط العراق ملك للعراقيين»، تبين في يوم 12 مايو ان عقدا ابرم مع الجيش من دون اعلان مناقصة مرّة اخرى يقضي بمنح أحد فروعه، الذي يعرف اختصارا بـKB r ، امتيازا في جزء من النفط العراقي، وهي شركة تحمل اسم Kellog B r own & r oot تعمل في مجال الامدادات اللوجستية وتربطها شبكة علاقات وثيقة مع الجيش الاميركي يعود تاريخها الى زمن حرب فيتنام. وهي بمنزلة شقيق سيامي (مدني) للمؤسسة العسكرية. وقد استفادت كثيرا من علاقات ديك تشيني خلال السنوات التي قضاها على رأس هاليبرتون، وحتى قبل ان يخوض غمار الاعمال.
وأي مشروع في مجال الصيانة او سلاح الهندسة سواء في الداخل او الخارج يُعهد به الى هذه الشركة التي تولت في جملة مشاريع اخرى، بناء معتقل غوانتانامو بالاضافة الى عدة قواعد ومعسكرات اميركية في مختلف انحاء العالم. ومنذ بدء الحرب على الارهاب، ازدهر وضع الشركة، ويبدو ان مستقبلا مشرقا ينتظرها بفضل الجيش الاميركي من جهة وعملية اعادة اعمار العراق من جهة اخرى. ومن الصعب ان نتصور الا يكون لديك تشيني ايضا يد في ذلك. فهو طيلة فترة رئاسته لهاليبرتون كان يدير شؤون فرعها هذا بشكل مباشر تقريبا. حتى ان المجموعة كانت تعتبره بمنزلة قيمة ثمينة بفضل علاقاته الواسعة مع مختلف الحكومات في العالم. ويقول الرئيس السابق لهاليبرتون: «كانت كل الابواب تفتح في وجهه بينما قال رئيسها الحالي: «لو ذهبت الى مصر او الكويت او عمان وحدي فان الشخص الذي يمكنني لقاؤه هو وزير النفط. اما مع تشيني فقد كنا نذهب لرؤية السلطان في عمان والامير في الكويت دون ان تكتسي الزيارة طابع الرسمية اذ نذهب لتناول الشاي وتبادل اطراف الحديث..».
وكلما نمت علاقات ديك تشيني مع القادة العرب وغيرهم زادت معها ارباح الشركة (...)، ويبدو ان هذا الاخير قد نفخ روحا جديدة في هذه الشركة التكساسية الهرمة المعروفة بتعاطفها مع التيار المحافظ المتطرف والتي كانت لاتزال تفتقر الى الصيت الدولي، حسب تعبير المحلل النفطي فرد موتاليبوف، وهو ما حققه لها رئيسها الجديد وعزز حضورها في اسواق مختلف الحكومات.
وفي مطلع عام 2002 اعلنت شركة هاربيسون والكر للتأمين المتعاقدة مع هاليبرتون افلاسها فبدأت اوساط وول ستريت تتساءل عن مدى صمود العملاق النفطي في وجه هذه الازمة. ومنذ ذلك الحين، اثار خروج تشيني من هاليبرتون للمشاركة في الحملة الانتخابية لجورج بوش عام 2000 كثيرا من الجدل، اذ اعتبره منتقدوه وكثير من الاميركيين الذين هزتهم الازمة المالية، كفرصة سمحت لنائب الرئىس المقبل ببيع اسهمه وهو يعلم بما ينتظر اسعار اسهم الشركة من انهيار. وجنى تشيني من ذلك 30 مليون دولار، محتذيا حذو جورج دبليو بوش حين قام في نهاية الثمانينات ببيع اسهمه في شركة هاركن النفطية في ظروف مثيرة للجدل. وقد باع تشيني اسهمه بحوالي 52 دولارا للسهم الواحد وبعد عامين من ذلك انهار السعر الى 13 دولارا فقط.
علاقات تشيني بالخليج
اقام تشيني خلال تسلمه مختلف المناصب علاقات صداقة شخصية متينة في كل بلدان الخليج، وخاصة في الدول الصغيرة العزيزة على قلبه والتي تستقبله بمودة كبيرة.
جاءت احداث 11 سبتمبر والحرب على الارهاب ليمثلا معا بالنسبة إلى الصقور الموالين لاسرائيل «فرصة حقيقية» لتنفيذ السياسات التي طالما دعوا اليها بدون ادنى تعديل. وليست الحرب في العراق سوى خطوة اولى في سياسة المحافظين الجدد في الشرق الاوسط التي تنبع من ارادتهم الصلبة في المساهمة في ضمان امن اسرائيل الاقليمي عبر اضعاف اعدائها بالتدريج مثل العراق وسوريا لمصلحة حلفاء مثل الاردن.
ولئن كانت اهداف تشيني تختلف تماما عن اهداف هؤلاء الا انها تندرج بدورها في اطار مشروع اعادة رسم خريطة الشرق الاوسط الذي يجري تنفيذه اليوم. فاسرائىل لا تشغل بال نائب الرئىس الاميركي او على الاقل ليست بحماسة بيرل ووولفويتز وفيث وابرامز نفسها، بينما تستهويه فكرة توطن الشركات النفطية الاميركية بشكل دائم وحصري في بلد قد يتحول الى ثاني منتج نفطي في المنطقة.
وخلاصة القول ان ايا من الفريقين لا يتسم بالنزاهة، فالصقور يمثلون مصالح اولئك الذين يعتقدون ان اسرائىل لن يتحقق لها النصر الا بالقوة، وتشيني يمثل عمالقة النفط بالاضافة الى اليمين المتطرف الاميركي هو وزوجته. وابرز ما يطبع الفترة الراهنة التي تمثل انعطافة مهمة في تاريخ العالم، هو ذلك التواطؤ بين مدرستين فكريتين فرق بينهما كل شيء ووحدتهما اخيرا ساحة المعركة في العراق.(55/277)
مهما يكن من امر النظرة السائدة الى النظام الاميركي فإن المسؤولين السياسيين في هذا البلد يخضعون لضغوط، لا وجود لها في اي بلد آخر، تفرض شفافية تامة في مجال الانشطة التجارية الخاصة للشخصيات البارزة في السلطة، اذ تتولى الصحافة والهيئات المعنية بالرقابة التنقيب في ادق تفاصيل حياتهم، وماضيهم ومختلف نشاطاتهم. ولاشك ان ثمة شيئا قد تغير اليوم، فإدارة بوش غيرت امورا كثيرة في الخارج، كما في واشنطن، في اسلوب ادارة الشؤون السياسية للبلاد. فظاهرة اللاعقاب التي يبدو انها تسود اليوم تخفي وراءها تغيرا عميقا حيث الولاء لقائد بعينه يكتسي اهمية متنامية تتراجع معها القيم والاخلاق الى المرتبة الثانية.
فبوش في حالة حرب، والحرب نادرا ما تكون نظيفة، والاولوية على ساحة المعركة ليست لحسن التصرف ولا للتهذيب ولا للمبادئ بل لما يدين به كل من يعملون في خدمتك من ولاء. فما يريده بوش هو معاونون مخلصون. وما عدا ذلك لا يهم كثيرا.
ويبدو ان جل افراد الفريق الحالي في البيت الابيض يعيشون في عالم مغلق وفوق النقد. وحماية بوش لفريقه من الانتقادات والعقاب لا يمنحهم القوة بل يضعفهم ويجردهم من المصداقية في نظر المجتمع الدولي. ومهما بلغت الخصومات بين اعضاء الادارة يتجنب كل مسؤول فيها كشف الاخر خشية ان يأتي عليه الدور في يوم من الايام ويمثل قانون الصمت هذا ابرز سمة في الفترة الحالية.
هاليبرتون
حين غادر تشيني البنتاغون في يناير 1993 بأمر من الرئيس بوش الأب، ذهب ليترأس الشركة النفطية العملاقة هاليبرتون. وهي شركة متعددة النشاطات وتملك تاريخا زاخرا بالاضطرابات والدسائس. ولفهم مسيرة تشيني لا بد من فهم ماهية هاليبرتون، لأن الامر لا يتعلق بشركة واحدة بل بشركات عدة تعمل في ميادين مختلفة بينها مد انابيب النفط، وبناء السجون العسكرية وتزويد القواعد الاميركية في افغانستان، على سبيل المثال لا الحصر، بالامدادات اللوجستية، وتتولى التفاوض، عبر فروعها، مع حكومات الدول التي تصفها ادارة بوش بالارهاب، وكذلك أبرز الدكتاتوريات في العالم.
هاليبرتون اذا هي افعوان ليس برأسين فقط بل بخمسة او عشرة رؤوس. وتلقي كثير من فروعها الضوء على البون الشاسع بين ما يقال في الخطابات الرسمية وما يجري على ارض الواقع في مجال الاعمال.
عُيِّن تشيني عام 1995 على رأس هاليبرتون التي يتصدر قائمة نشاطاتها التنقيب عن النفط ونقله. وكان العراق يمثل زبونا محتملا رغم الحظر المفروض عليه، غير ان تشيني كان حاسما في تصريحه لقناة ايي.بي.سي عام 2000 إذ قال: «انا اعتمد سياسة حازمة تجاه العراق تنص على عدم التعامل بتاتا مع هذا البلد، ولو عبر ترتيبات قد تبدو قانونية». وفي عام 1998، كان تشيني رئيسا للشركة حين عمدت الى شراء شركة D r esse r Indust r ies التي كانت قد شرعت في بيع معدات نفطية لبغداد عبر شبكة معقدة من الفروع الى جانب شركة Inge r soll صلى الله عليه وسلمand co لكنه رغم «حزمه» لم يمنع هذه التجارة. وهكذا باعت D r esse r Indust r ies و Inge r soll صلى الله عليه وسلمand، بصفتهما فرعين لهاليبرتون مضخات معالجة، وقطع غيار خاصة بمعدات نفطية، وتجهيزات انابيب نفطية للعراق عبر أفرع فرنسية بين عامي 1997 و2000 ويجدر التذكير هنا بأن فرنسا اتهمت من قبل الاميركيين بالوقوف ضد حرب الديموقراطية التي دعا اليها تشيني فقط من اجل مصالحها في العراق. ولعل قمة الوقاحة تتمثل في محاولة Inge r soll D r esse r Pump توقيع عقد (اوقفته الادارة الاميركية آنذاك) لاصلاح منصة نفطية دمرتها القوات الاميركية خلال حرب الخليج الأولى بقيادة ديك تشيني نفسه الذي كان انذاك وزيرا للدفاع. انتهى
==============(55/278)
(55/279)
صرخة حق :أحسنت يادكتور غازي قد تبين لي الحق (حقائق مروعة)
ناصر بن عبدالرحمن بن ناصر الحمد
الحمدلله أما بعد: فإن الفطن الأريب والحاذق المهيب هو من يعالج الجرح دون أن يؤذيه ويكسر الشوك دون أن يثنيه بغير مهنية أو حذق أو رعاية للمشتكي والمتذمر من الشوك . كثير هم أولئك الذين تأخذهم غيرة المنقذ فيلجأون في زحمة المهلكات لحل المهلكة فيهلَكون ويهلكون وحين تراه يبحث النجاة للناس أصبح يريد الهلاك لهم بفكر مدخول وعقل مفصول وفي أوج تلاطم المعايب وتظافر المصائب ترى قوما آخرين يريدون أن يصلحوا العيب الممكن بالعيب الواجب والملح الأجاج بالمر العلقم ويريدون أن يندمل الجرح ولو بمادة النيوكتين ويريدون أن يسدوا الخرق ولو برقعة جلد البعير.
الطب واجب والتطبب مذموم والتجارب باتت سيف قتل وسم هلاك لسنا نلوم الملوم لأجل مابه يقوم ولكن لأجل ماله يروم .
كثير من الفساد الإداري أو الاجتماعي بل حتى الرياضي منشأه الدكتاتورية الصلفة والتفرد الممقوت الذي يرعاه مخلوق لاخالق إذ أن الخالق العظيم جل جلاله هو الذي (لايسئل عما يفعل )
وأما الأنام فعن مافعلوا يسألون إن مثل من يريد أن يسن نظاما يخرم فيه نظام الشريعة ومزق فيه قدسية النصوص كمثل ( ناطح صخرة يوما ليوهنها * فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل ) ومنطق رأيه أقرب إلى البوار منه إلى المنار وهو أقرب إلى الدمار منه إلى العمار (ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأً أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون)
وفي زمن الأزمات وتكاثر المعطيات وتناثر التطورات أصبح البعض يحسب أن كل تغير في الكون يغير في النظام وهو على ماقال خاطل ومن الحجة والدليل عاطل لأن ثمة نظاما سنه الباري وأرسل لأجله الرسل وأنزل لأجله الكتب وخلق لأجله الجنة والنار لايحول ولايزول ونحن لم يخلقنا المولى لنتولى مالا ينبغي لنا أن نتولى ومابه هو سبحانه أولى وإنما جعل لنا الاجتهاد فيما جعله محلا للتحاور وسبق الجياد والشريعة السماوية العظيمة تحمل بين جنباتها كل سلام و كل عدل و كل شمولية ليس فيها ظلم لذكر أو أنثى بل ليس فيها ظلم لحيوان ناطق أوأعجم (ومامن دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها) وحين قسم المولى الأرزاق أحل ما أحل وحرم ماحرم لا لنتعامل مع ماحرم بسم ما أحل أو نتعامل مع ما أحل بسم ماحرم سواء في القسم او التعامل أو التقابض او التباعض ومن رأى الشريعة الإسلامية وجدها تسد بوابة الاختلاط في أعز البقاع وأزكاها وأرفعها وأعلاها حين قال عليه السلام (خير البقاع إلى الله مساجدها وشر البقاع إلى الله أسواقها) لم يكن النبي عليه السلام متشددا ولم يكن متزمتا ولا متطرفا بل لم يكن ينطق عن الهوى (إن هو إلا وحي يوحى) ومع المكان المقدس (المسجد)والركن الركين في الإسلام(الصلاة) قال عليه السلام (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها ) في مسجد وفي عبادة عظيمة ومع ذلك فهو يمنع أي سبيل للاختلاط وكان عليه السلام إذا انتهت الصلاة أمر الرجال بالبقاء حتى تخرج النساء ولا يحصل أي اختلاط بين النساء والرجال ثم بعد ذلك يأذن للرجال بالخروج من المسجد .
أرأيت كيف يفعل المصطفى عليه السلام مع أطهر قوم عرفتهم البشرية منذ خلق الله تعالى آدم عليه السلام حتى الآن والذين حصل بهم النور والضياء واندحر على أيديهم الظلام والوباء ؟؟
فما بال أناس يسعون لوضع آلية جديدة تسمح أن تكون المرأة وسط الرجال بل وفي أوقات مفتوحة بل وفي مكان هو من شر البقاع إلى الله تعالى والغرض من ذلك قضاء مستلزمات دنيوية ليست صلاة عصر أو مغرب أو عبادة ينشغل بها المرأ عماسواها .
فأي الفريقين أحق بالاختلاط لو كانوا يعقلون؟؟
ثم أخبرني بعد ذلك عن الأسى الذي ستعيشه المرأة بين ساحات الرجال؟
ثم ماحال تلك البائعة بين الباعة الرجال ؟
من الزبونة بل وربما الزبون الذين سيدخل على تلك البائعة ؟
وإذا احتاجت المرأة لصرف فئة خمسمائة ريال كيف ستتنقل عبر الباعة ؟
وحين يختار التاجر بائعة فكيف ياترى ستكون صفات تلك البائعة هل هي سمينة أم نحيفة أم رشيقة ؟
كيف سيعرف أن شكلها مقبول أو عملها مقبول؟
بل كيف سيتعامل التاجر مع امرأة لم تكن تعتد على مخالطة الرجال وتربت على الشرف والعفة وإنما دفعها إلى محل تجارته حاجتها للمال؟
ثم هل سيكفيه محادثة الهاتف لمناقشة أمور البيع والشراء ؟
ثم هل سيحضر عندها للمحل للاطمئنان على مانقص أوزاد ؟
وحين تحصل مشكلة مع أحد المشترين أو المشتريات!!كيف ستحل المرأة تلك المشكلة ومن بجانبها هم رجال وإدارة السوق كذلك رجال مالذي ستفعله؟
أسئلة كثيرة كبيرة ومالها من حل .(55/280)
يامعالي الوزير د/غازي لقد أحسنت ! نعم أحسنت !! لقد أحسنت في التفكير ولكنك لم تحسن في التدبير يامعالي الوزير لقد أحسنت في الغيرة ولكنك لم تحسن في التغيير إن كنت قصدت حماية المرأة مما يحرجها فقد أوقعتها فيما يخرجها ويزعجها هلا كان للتجار نصيبا من رأيك لقد عرفناك محبا للديموقراطية فهل أصبحت الآن دكتاتورية وحين يدعى التجار لمنصة المشاورات فيقال لهم (ما أ ريكم إلا ماأرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) فياترى أي شورى هذه؟؟
وقد رأينا وسمعنا في البرنامج المتميز (ساعة حوار) في قناة المجد ما أبدى فيه التجار من تذمرهم من القرار الذي يقضي بقصر بيع المستلزمات النسائية على النساء وعلى رأس من اعترض على هذا القرار رئيس الغرفة التجارية الشيخ الجريسي وفقه الله .فكم ياترى حق هضم وكم رأي وءد واضطهد.
يامعالي الوزير والتجار هم أصل في المشورة في مثل هذا الأمر . هلا جعلتها شورى (أو ردها سعدا وسعد مشتمل ماهكذا تورد ياغازي الإبل)
وها أنت ترى أكبر هيئة شرعية في بلادي الحبيبة يعلن فيها مفتي عام المملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ أن هذا العمل مخالف للشريعة التي قامت عليه هذه الدولة وهاهنا أكبر مجلس قضائي أعلى في البلاد يعلن فيها رئيسه معالي الشيخ صالح اللحيدان أن هذا العمل يعارض الشرع المطهر الذي سد أبواب الاختلاط .
يامعالي الوزير هل أنتم منتهون؟ لقد تراجعتم عن قرارات سابقة لأنها تعارض مصلحة التجار أو المواطنين ولم تصل إلى عشر معشار ما أججه هذا القرار في نفوس العلماء والتجار والعامة فهل أنتم منتهون (ارجعوا هو أزكى لكم ) ليس عيبا أن يخطأ الأمير أو الوزير ولكن العيب أن يعوم في بحر الخطايا ويركب شر المطايا تمسكا بالرأي وتعديا على الحقوق كلنا يريد صيانة المرأة وحفظها بشرفها وعفتها ولكن ليس بعلاج كئيب أو تصرف رتيب ألم يكف التحقيق الذي اجرته صحيفة اليوم السعودية ،في يوم الجمعة 28 - 4-2006 والذي كشف عن التحرشات الجنسية التي تتعرض لها الفتيات في المؤسسات المختلطة ونقلت ذلك قناة العربية فهل هذا القرار سينضم إلى مآسي ستحول إلى المرأة إن كنت أنسى فلا أنسى جلسة جمعتنا مع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز قال لنا فيها ( رقبتي تقطع أمامي ولا يحصل أي اختلاط ) وقال ( إن كان عندكم غيرة فعندنا سبعين ألف غيرة ) ونحن نقول كفو يا أبو متعب ولا نشك في ذلك فهل سيعي ذلك معالي الوزير يامعالي الوزير الدكتور غازي القصيبي إن ثمة علاجات أخرى غير طريقة الاختلاط المقررة فأنت قادر على منع الملابس النسائية الخاصة ولاتباع إلا في أسواق خاصة بها لايدخلها إلا النساء أو يوضع في كل سوق ركن خاصا للنساء يشرف عليه ويديره بعض النساء الثقات ويحصر بيع الملابس النسائية الخاصة بالمرأة في هذه الأماكن وبهذا الحل نرضي ربنا تعالى أولا ثم نرضي عامة من له مطالبة بمثل ذلك أما وإن أبيت فبالله عليك ( لبيع الرجال أغراضا للنساء أهون علينا من مساومة الرجال على النساء ) وأما إن أبيت إلا الإصرار على القرار والمضي بأنفة وإكبار فكبر على الديموقراطية التي تدعي أربعا وارع مولود الدكتاتورية
الشيخ/ ناصر بن عبدالرحمن بن ناصر الحمد
إمام وخطيب جامع الإمام بن ماجه رحمه الله
الرياض
=============(55/281)
(55/282)
المؤتمر العالمي الأول حول الإسلام والقرن الواحد والعشرين
ليدن - هولندا
17إلى20محرم 1417 هـ
الموافق 3 إلى 7 يونيو 1996م
جامعة ليدن بالتعاون مع وزارة الشؤون الدينية الإندونيسية
د.مازن بن صلاح مطبقاني
مقدمة
تلقيت في البريد معلومات عن هذا المؤتمر مرسلة من قبل الدكتور قاسم السامرائي الذي يعمل أستاذاً بجامعة لايدن. فأسرعت إلى إرسال فكرة عن موضوع أرغب المشاركة فيه في المؤتمر وبعثته إلى اللجنة المنظمة، وبعد أيام تلقيت موافقة اللجنة على الموضوع وترحيبهم بي. وشرعت في إعداد البحث ريثما أحصل على الموافقة، وأحمد الله أنني حصلت على الموافقة، وتشرفت بتمثيل المملكة في هذا المؤتمر فيسرني أن أتقدم بالشكر لكل من معالي وزير التعليم العالي ومعالي مدير الجامعة وعميد كلية الدعوة بالمدينة المنورة.
بدأ المؤتمر يوم الاثنين الثالث من يونيه 1996م بقيام المشاركين بتسجيل أسمائهم، وتأكيد حضورهم، وكذلك تقديم نسخ من بحوثهم ليتم توزيعها على المشاركين. وفي عصر ذلك اليوم أقيمت حفلة تعارف على شرف المشاركين.
وفي صبيحة يوم الثلاثاء على الساعة العاشرة صباحاً افتتح المؤتمر رسمياً بعدد من الخطب ألقاها كل من رئيس جامعة لايدن البروفسور إل. ليرتوور L.Lee r touwe r الذي ذكر في خطابه اهتمامه بدراسة الأديان وأنه كان عضواً في قسم الأديان بالجامعة. وأشار إلى اهتمام هولندا بالإسلام وأشاد بجهود المستشرقين الهولنديين في الدراسات الإسلامية ومن أبرزهم المستشرق سنوك هورخرونيه الذي أمضى بعض الوقت في مكة متخفيا باسم الحاج عبد الغفار، ،وكانت رسالته للدكتوراه حول الحج، وكتب كتاباً عن تاريخ مكة المكرمة. ثم تحدث وزير الشؤون الدينية الاندونيسي الدكتور طاهر ترمذي، ودعا إلى عقد المؤتمر الثاني في اندونيسيا بعد سنتين. ثم تلاهما وزير الشؤون الدينية المغربي السيد عبد الكبير علوي مدغري الذي أعلن اهتمام بلاده بهذا المؤتمر وأنها تدعو إلى عقد حلقته الثالثة في المغرب، وأشار إلى أن النظام العالمي الجديد يجب أن يتضمن التعايش بين مختلف الشعوب، ودعا إلى التخلص من الصور النمطية والمشوهة للإسلام والمسلمين. وتحدث أيضاً ممثل لوزارة التعليم والثقافة والتعاون الهولندية وأشاد بفكرة المؤتمر وما يمثله من تعاون علمي.
وتضمنت الجلسة الافتتاحية المحاضرة الرئيسة في المؤتمر وكانت هذه المرة للدكتورة رفعت حسن الباكستانية الجنسية التي تعمل في جامعة لويفيل الأمريكية بولاية كنتكي Kentucky. وكانت محاضرتها بعنوان "ماذا يعني أن أكون مسلماً عشية القرن الواحد والعشرين؟" بدأتها بالحديث عن تعجبها من اختيارها لإلقاء المحاضرة الرئيسة كونها امرأة، وأشادت بجامعة لايدن وأن هذا لا يحصل إلاّ في هذه الجامعة، وهي لذلك تشعر بالفخر والاعتزاز. وقد أشارت في محاضرتها إلى قضايا كثيرة بدأتها بمعنى الإسلام ودعوته إلى الطريق المستقيم، والعمل وفقاً للشريعة الإسلامية وذكرت الصورة النمطية التي انتشرت في الغرب للإسلام والمسلمين، ودعت إلى حوار بنّاء بين الإسلام والغرب. وذكرت ما جاء في الإسلام حول السلوك القويم الذي يتضمن مراعاة كل من "حقوق الله" و"حقوق العباد" وتركيز القرآن الكريم على ذلك، وأن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم هي التطبيق العملي لذلك.
ولكنها حين تحدثت عن الشريعة الإسلامية ومصادرها توقفت عند الحديث النبوي الشريف، وكررت مزاعم بعض المستشرقين عن الوضع في الحديث والتشكيك بالتالي في معظم الحديث، واستشهدت بقول أحد الباحثين المسلمين في جامعة شيكاغو وهو فضل الرحمن. وزعمت أن الحديث في نظرها مشكلة.
ودار نقاش في نهاية المحاضرة حول من يحق له التحدث باسم الإسلام ومن يحق له تفسير النصوص الإسلامية، وتحدث بعض العلماء بأن الذي يتحدث باسم الإسلام ينبغي أن يكون مسلحاً بالمعرفة الصحيحة فلا يقبل من أي أحد أن يفسر النصوص ما لم يكن مؤهلاً لذلك. ولكن المحاضِرة أصرت أنها لو أخذت أربعة أحاديث من صحيح البخاري وأرادت أن تناقش سندها ومتنها لاعترض البعض على ذلك قائلين بأنك امرأة وغير عربية. والعجيب أن أحداً لم يناقشها في هذه الفقرة أو في تشكيكها في الحديث الشريف. وقد ترددت في الرد عليها لأن هذا أول مؤتمر عالمي أحضره وكانت القاعة مزدحمة . والرد عليها بسيط ذلك أن الجهود التي بذلها العلماء المسلمون في دراسة الحديث لم تعرفها أمة من أمم الأرض حتى الآن، أما أن تنقد أحاديث في صحيح البخاري فقد سبقها علماء أجلة فحصوا هذا الكتاب بدقة كبيرة وقد قبلت الأمة هذا الكتاب على أنه أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل. وأمّا كونها امرأة فكم من النساء في التاريخ الإسلامي قديماً وحديثاً نبغوا في علم الحديث. ولترجع إلى الحديث الشريف لترى عدد من روى الحديث من النساء. أمّا كونها غير عربية فهل كان البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من العرب؟
وبدأت الجلسات العلمية من بعد ظهر يوم الثلاثاء حيث كانت تعقد ثلاث جلسات في آن واحد فكان من الصعب متابعة كل جلسات المؤتمر. وفيما يأتي أبرز المحاضرات التي استمعت إليها:
الثلاثاء(55/283)
- الإسلام والتحديث : محاضرة قدمها نصر حامد أبو زيد -أستاذ زائر بجامعة لايدن- تناول فيها تعريف التحديث، وتحدث عن التحديث الذي جاء به الإسلام للمجتمع الجاهلي، ثم تحدث عن حركات تحديث أخرى في التاريخ الإسلامي مثل الخوارج والمعتزلة وغيرها. وتحدث بتوسع عن المجتمع الجاهلي وسيطرة العصبية القبلية فيه وكيف جاء الإسلام بنظام عقدي وسياسي واقتصادي.
وأتيحت لي الفرصة لمناقشته بأن الإسلام لم يأت للعرب وحدهم فهو رسالة للعالم أجمع، وفيه إصلاح لأوضاع العالم في القديم والحديث فقد تناول القرآن بني إسرائيل وانحرافاتهم المختلفة في المجالات العقدية، والسياسية، والاقتصادية والاجتماعية، كما ذكر القرآن قوم شعيب وانحرافهم العقدي والاقتصادي، وذكر فرعون وانحرافه العقدي والسياسي.
- "الباكستان : نقد مفهوم الحداثة" بحث قدمه لوكاس فرث Lukas We r th الأستاذ بجامعة برلين الحرة -معهد الدراسات الأنثروبولوجية. وذكر في محاضرته ما يعنيه مصطلح " التحديث" للغربيين وأن هذه المعاني ليست مقبولة لدى الباكستانيين وبخاصة في البنجاب حيث ما يزال المجتمع متمسكاً بالثوابت الإسلامية وبخاصة فيما يتعلق بالصلات الاجتماعية.
- بحث "الإسلام والديموقراطية في تايلاند: حالة الإدارة الإسلامية عام 1993م". قدّمه امتياز يوسف من جامعة أمير سونجكلا، كلية الدراسات الإسلامية. تحدث في محاضرته عن التغيرات الاجتماعية السياسية التي تمر بها دول جنوب شرق آسيا ومنها تايلاند. واهتم الباحث بالمشروع الذي طُرِح عام 1993م لإجراء إصلاحات في الهيكل الإداري للمركز الإسلامي وهو الهيئة الرئيسة التي تهتم بشؤون المسلمين في تايلاند.
-بحث "دور الإفتاء في السياسة الخارجية المصرية من عام 1977-1992م" قدمه الأستاذ عبد العزيز شادي المدرس المساعد بجامعة القاهرة، كلية العلوم السياسية ، وطالب الدكتوراه بجامعة لايدن.(1)
تناول شادي في محاضرته بعض التساؤلات حول دور الإفتاء وهل كان مؤيداً دائماً للسياسة الخارجية؟ وما الحالات التي كان الإفتاء مؤيداً للسلطة؟ وما الحالات التي أعطى فيها الشرعية للسياسة الخارجية أو نزع الشرعية عن تلك السياسات. وقد خلص الأستاذ شادي إلى أن تبعية دار الإفتاء للحكومة المصرية يجعلها في كثير من الأحيان تابعة في فتاويها للسلطة الحكومية.
الأربعاء :
- عبد الحميد بن باديس ونظرته إلى التنمية : د.مازن صلاح مطبقاني ، قسم الاستشراق كلية الدعوة بالمدينة المنورة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.(2 (تناولت المحاضرة في مقدمتها اتهام بعض الغربيين الإسلام بأنه ضد التحديث، ويسوقون هذه الاتهامات في معرض حديثهم عن الحركات الإسلامية التي يطلقون عليها (الأصولية) أو (الإسلام السياسي). وقد حاول الباحث أن يوضح أن الإسلام دين حضارة وعمران من خلال دراسة كتابات عبد الحميد بن باديس العالم الجزائري الذي كان يقدم دروساً في تفسير القرآن الكريم، ومن الآيات التي توقف عندها قول الله تعالى{أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} وتناول كلمة مصانع وأنها ليس كما فهمها المفسرون التقليديون بأنها مجاري المياه أو القصور وإن كانت تدل على العمران، لكن ابن باديس يرى أنها تدل على المصانع الضرورية للعمران والحضارة.
وأشارت المحاضرة إلى أن المسلمين في بداية عهدهم درسوا الحضارات الأخرى وأخذوا منها وأضافوا الكثير إلى ما أخذوا، ولم ينظروا باحتقار إلى أي حضارة أخرى، وقدموا نتاج حضارتهم إلى الأمم الأخرى وممن أخذ عنها أوروبا .
- وسائل التطور الإسلامي في ماليزيا: محمد شكري صالح .جامعة سينز الماليزية، ماليزيا. تناولت الورقة الوسائل المختلفة لتحقيق التنمية الإسلامية في ماليزيا. وقد قسم الباحث ورقته إلى قسمين الوسائل التي اتخذتها الحكومة الماليزية والقسم الثاني الوسائل التي اتخذتها الجهات غير الحكومية. واهتمت المحاضرة بالوسائل التي اتخذتها الحركة الإسلامية المحظورة (دار الأرقم) والحركة الإسلامية المعارضة (الحزب الإسلامي الماليزي) كما تناولت اتجاه الأسلمة الذي تسير فيه الحكومة الماليزية.
- صرخات الشعراء الماليزيين حول التطور الاجتماعي الاقتصادي: عبد الوهاب علي. تناول الباحث في محاضرته معاناة المسلمين من النواحي الاجتماعية والاقتصادية، وكيف أن الأقليات من الأعراق الأخرى يتمتعون بمزايا كثيرة، ولذلك توجه الشعراء إلى الدولة يستنهضونها لعمل شيء ما لتحسين أوضاع المسلمين. وذكر أن بعض هؤلاء الشعراء أعطي مناصب مهمة في الدولة.
- الإسلام في أواسط آسيا وفي روسيا: التثقيف مقابل التسييس : فيتالي نؤمكين المركز الروسي للبحوث الإستراتيجية والدراسات الدولية.(55/284)
تحدث المحاضر عن أوضاع الإسلام والمسلمين في الاتحاد السوفيتي منذ حركة البروستريكا وما حدث بعدها من انهيار الاتحاد السوفيتي وتطور أوضاع المسلمين و دخولها في أوضاع عاصفة من النمو والتوسع والتمزق. وأوضح أن أهم ملامح هذه الفترة السعي نحو التعليم الإسلامي حيث بدأت نشاطات واسعة في هذا المجال وبمساعدات من الهيئات والمنظمات الإسلامية الدولية. ومع ذلك فقد حدث شيء من الانقسام بين العلماء التقليديين والعلماء الجدد.
وأشار المتحدث إلى بعض المحاولات لتحويل الإسلام إلى قوة سياسية في معظم الدول الإسلامية التي استقلت حديثاً في أواسط آسيا. وقد ظهرت أحزاب إسلامية معارضة. ويتوقع المتحدث أن لا يكون هناك رابح في المعركة بين الإسلام السياسي والإسلام التعليمي ولكن سوف تظهر قوة تجمع بين الاثنين.
-فشل البديل الليبرالي :يوهانس يانسن Johannes Jansen جامعة لايدن. تناول المحاضر موضوع البديل الليبرالي للمشروع الإسلامي الذي تطرحه الحركات الإسلامية أو (الأصولية). ويقصد بالبديل الليبرالي المشروع الذي تطرحه (النخبة) العلمانية لتحديث المجتمع المصري وبخاصة في مواجهة المشروع (الأصولي) أو مشروع (الإسلام السياسي)، وذكر في محاضرته جهود كل من مصطفى أمين، ومحمد سعيد العشماوي، ونوال السعداوي، وفؤاد زكريا وسعد الدين إبراهيم . وأشار إلى أن كتابات هؤلاء تطبع المرة تلو المرة ولكنها مع ذلك فشلت في تحريك الجماهير ليكون لهذا المشروع قوة تواجه قوة التوجه الديني. وأوضح أن أسباب فشلهم قد تعود إلى أنهم لا يعيشون هموم المواطن العادي أو إنهم يعيشون في بروج عاجية. ومشروعهم بلا شك هو المشروع التغريبي. وتحدث عن كتاب فؤاد علاّم (الإخوان وأنا: من المنشية إلى المنصة) وأشار إلى أن فؤاد علاّم قدّم بعض الروايات الغريبة للأحداث التي جرت في مصر منذ محاولة قتل عبد الناصر التي اتُهم فيها الإخوان المسلمون إلى مقتل السادات. وأشار إلى أن بعض الروايات تخالف الروايات المعروفة فربما كان علاّم بارعاً في الكذب.
وأتيحت لي الفرصة للتعقيب على المحاضرة فأبديت له إعجابي بعنوان محاضرته، وأضفت بأن العنوان يتضمن حُكْماً على هذا المشروع وهو حكم صحيح وأنا أؤيده في هذا الحكم. وبحكم تخصصي في الاستشراق وفي التاريخ الحديث فقد توقفت عند مصطلح النخبة الذي استخدمه الباحث فذكرت له إن الذين ذكرهم (فؤاد زكريا، وسعد الدين إبراهيم وغيرهما) على أنهم النخبة إنما هم نخبة زائفة لأنها مصنوعة في الخارج. وقد لاحظت أن مثل هذه المجموعة موجودة في معظم البلاد العربية الإسلامية، وأضفت علينا أن نحدد معاني المصطلحات التي نختارها. وأجاب بأنه لم يقصد ما فهمت من العنوان، وأما بالنسبة للنخبة فهو يرى أن هؤلاء هم النخبة سواءً وافقت أم لم أوافق ثم أضاف: "مصطفى أمين من النخبة وإن لم يكن مصطفى أمين نخبة فليس هناك نخبة !"
ولو كان في الوقت متسع لأوضحت له أننا نطلق على النخبة في العالم الإسلامي على العلماء العاملين أو العلماء الربانيين؛ لأن هؤلاء هم الذين يعملون على إسعاد غيرهم ويعيشون هموم شعوبهم ولا ينعزلون في بروجهم العاجية.
- النموذج الديموقراطي الغربي والإسلام السياسي في الشرق الأوسط: الجزء الأول، هالة مصطفى من مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. والجزء الثاني قدّمه نبيل عبد الفتاح قسم الدراسات الدينية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية:
يرى الباحثان أن الساحة الدولية تشهد في الوقت الحاضر صوراً جديدة للصراع بين الدول تختلف عما كان الحال عليه خلال الحرب الباردة. فالتنمية الفعلية سارت في مسار مختلف تماماً عن المسار المتوقع من حيث إيجاد جو من السلام والأمن بنهاية الحرب الباردة. فقد ظهرت الحروب القومية في أنحاء العالم ومن أخطرها تلك التي انفجرت بسبب التناقضات الثقافية والعرقية والدينية.
ومما أضاف إلى التباين الواضح بين الدول المتطورة والدول النامية في مجالات التقنية والقيم والثروة قد أضاف إلى شدة الصراع بالإضافة إلى أشكال الصراع الجديدة التي ظهرت مؤخراً. ومما يزيد في حدة هذه التناقضات الصراعات بين الثقافات والحضارات الذي ظهر مؤخراً في مجالات التاريخ واللغة والثقافة والعادات والدين. ومما يزيد الوعي بهذه الصراعات الاحتكاك بين الثقافات المختلفة.
وأشار الباحثان إلى أن عملية التحديث أدت إلى انفصال الشعوب المختلفة من هوياتها القديمة، وبالتالي فإن أزمة الهوية وبالتالي يظهر الدين لملء الفراغ ليصبح مصدر الهوية وهذا ما تمثله الحركات الأصولية الدينية.
والدور المزدوج الذي يقوم به الغرب يؤدي إلى تصعيد هذه الأزمات بسبب اختلال التوازن بين الغرب والدول غير الغربية في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة، ويزيد في إحساس غير الغربيين بالهزيمة في مواجهة القوى الغربية العظمى. وبالتالي تدفع تلك الشعوب للبحث عن جذورها الثقافية.(55/285)
وأشار الباحثان إلى الاختلاف بين القيم الغربية وقيم الثقافات الأخرى مثل: الليبرالية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعلمانية وهي التي تشكل الأسس للدولة القومية الحديثة.
وفي هذا السياق فإن تقديم نموذج النظام الغربي الديموقراطي في دول غير غربية مع الأخذ في الاعتبار القيم التي ذكرت سالفاً يعد من أصعب المشكلات التي تشغل قطاعاً مهماً من الصراع الفكري في العالم الإسلامي والشرق الأوسط. وإن ظهور الحركات الإسلامية من خلال النظام الديموقراطي هو أهم تحد في هذا المجال.
وقدم الباحثان بعد ذلك وجهة نظرهما تجاه الحركات الإسلامية ومدى إمكان اندماجها وتأقلمها مع النظام الديموقراطي الغربي، فأكدا على أنه من الصعب على هذه الحركات القبول بالقيم الغربية في مجال التعددية الذي هو الأساس للنظام الديموقراطي وهذا في نظر هالة مصطفى يناقض جوهر التعددية ويهدم مبادئ التنافس الحر بين القوى المختلفة في المجتمع.
ومما انتقدته هالة مصطفى على الحركات الإسلامية موقفها من الحريات العامة والخاصة والتي تتمسك الحركات الإسلامية بمفهوم واحد تجاهها. وترى أن الحركات الإسلامية تحد من هذه الحريات بالاستناد إلى الأقوال الدينية المختلقة التي تناقض مفهوم حرية الفكر والرأي والاعتقاد المعروفة في النظم الديموقراطية والتي صرحت بها مواثيق حقوق الإنسان العالمية.
وواصل الباحث الثاني نبيل عبد الفتاح الحديث عن الحركات الإسلامية وعلاقتها بالديموقراطية الغربية، والمواقف المختلفة التي تتخذها الدول الغربية من هذه الحركات. وعموماً لم يخرج عبد الفتاح عن الرؤية التي قدمتها هالة مصطفى لهذه الحركات.
وعندما أتيحت لي الفرصة أن أعقب طلبت من رئيس الجلسة أنني أريد أن أبعث رسالة إلى رئاسة المؤتمر بأن الحركات الإسلامية غير ممثلة في هذا المؤتمر، وأن ما نسمعه من تشويه لصورتها وطعن في فكرها دون تفريق بين الحركات الإسلامية المعتدلة وغيرها أمر يحتاج إلى رد وتوضيح، ولذلك فينبغي في المستقبل أن يمثل الطرف الآخر حتى يكون ثمة توازن في عرض وجهات النظر. وحاول رئيس الجلسة أن يقلل من خطورة الأمر بأن قال "إن الانتقاد الذي قدمته أو الرسالة التي وجهتها لا تعني أن هذين البحثين ليسا موضوعيين أو علميين". ولم أرد أن أرد عليه فقد أدركت أن رسالتي قد وصلت.
الخميس:
- الإسلام في فرنسا: كاثارين ويتهول دي وندن Cathe r ine Wihtol de Wenden من المركز القومي الفرنسي للبحث العلمي. تناولت الباحثة أوضاع المسلمين في فرنسا فأشارت إلى أن معظمهم من الطبقات الفقيرة وأنهم يعيشون أوضاعاً صعبة، كما تناولت قضية اندماجهم في المجتمع الفرنسي. وأشارت إلى أنها غير متخصصة في الإسلام ولكنها باحثة في علم الاجتماع. وأشارت إلى سياسات الحكومات الفرنسية تجاه المسلمين في فرنسا. ودار نقاش جيد بعد المحاضرة شارك فيه كل من الباحث الفرنسي أوليفير كاريه والدكتور علي الكتاني رئيس جامعة ابن رشد الإسلامية في قرطبة حيث أشار المتحدثان إلى القرارات الفرنسية الموجهة ضد ممارسة المسلمين شعائر دينهم في فرنسا. وتعجب الدكتور علي الكتاني من المعاملة القاسية التي يلقاها المسلمون في فرنسا مع أن فرنسا تزعم أنها علمانية، وتساءل وما ذا يضايق الفرنسيين في مسألة الحجاب. كما أكد وجود أعداد كبيرة من المسلمين من أصل فرنسي.
-الإسلام هل هو عامل مساعد أو معرقل في وجه تطور المرأة؟ :رفعت حسن الباحثة من جامعة لويفيل. وتناولت الباحثة موقف الإسلام من المرأة من خلال ثلاثة مسائل:
1- كيف خُلِقت المرأة؟
2- هل كانت المرأة مسؤولة عن سقوط الرجل؟
3- لماذا خُلِقت المرأة؟
واهتمت رفعت حسن ببيان موقف الأديان المختلفة من هذه القضايا مع التركيز على موقف الإسلام، وأشارت إلى أنها بدأت تدرس العقيدة الإسلامية منذ عام 1974م، ومن النقاط الطريفة في بحثها توقفها عند بعض الأحاديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم حول خلق المرأة من ضلع الرجل، والتوجيه النبوي الكريم بالإحسان إلى المرأة فشككت في صحة هذه الأحاديث حيث إنها لم تجد أية إشارة في القرآن الكريم حول موضوع خلق المرأة.
وكما ذكرت في الحديث عن هذه الباحثة في المحاضرة الرئيسة في المؤتمر في الجلسة الافتتاحية، فهي من دعاة التغريب والانتقال بالمرأة إلى الصورة الغربية بالرغم من انتقادها للدراسات الغربية التي تشوه صورة الإسلام في الغرب.
الجمعة:(55/286)
- بحث "العلاقات الإسلامية-النصرانية في القرن الواحد والعشرين" قدمه علوي شهاب، مركز دراسات أديان العالم بجامعة هارفارد. تناول المحاضر العلاقات التاريخية بين المسلمين والنصارى ابتداءً من الحروب الصليبية ثم الحملات الإمبريالية التي استهدفت العالم الإسلامي. ولكن المحاضر أشار إلى أن أوروبا والغرب اقتنع باستقلال الدول وأن العلاقات الإسلامية النصرانية بدأت تدخل في طور جديد من التعايش والقبول. وقد حاول أن يفسر كثيراً من النصوص التي تشير إلى العلاقات بين المسلمين والنصارى. وقد زعم المحاضر أن له الحق في الاجتهاد في فهم بعض النصوص القرآنية التي تتناول العلاقات بين المسلمين والنصارى فهو من العلماء كما يرى نفسه.
وقد بدا لي أن الباحث بحكم موقعه في جامعة هارفارد حاول لي أعناق النصوص ليناسب دعوته إلى قبول النصارى وإبعاد حقيقة مواقفهم من الإسلام والمسلمين.
- توازن الحضارات: سيناريوهات للإسلام : مارتن كريمر مدير مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا -تل أبيب.
تناول الباحث في ورقته سبب اهتمامه بالصحوة الإسلامية التي نالت اهتماماً كبيراً في الغرب في العشر سنوات الأخيرة، وفشل التوقعات حول مستقبل هذه الحركات. وحتى يقدم الباحث صورة الإسلام في القرن الواحد والعشرين وجد أن من المفيد الرجوع إلى أوضاع العالم الإسلامي في بداية القرن العشرين وبخاصة حينما سألت إحدى المجلات عدداً من المستشرقين عن آرائهم في مستقبل العالم الإسلامي في القرن العشرين.
ومن الطريف أن الباحث وجد أن الأوضاع في بداية القرن العشرين تشبه إلى حد كبير الأوضاع الحالية؛ يسود أوروبا الآن حالة من السلام وسيطرة قوة واحدة هي الولايات المتحدة التي تسعى إلى وصول النفط إلى الغرب، وأن تكون الضامن لبقاء الأوضاع كما هي في الشرق الأوسط. وعندما تعرض وصول البترول إليه للخطر أسرعت الولايات المتحدة للتدخل عندما غزت العراق الكويت. وذكر الباحث أن الولايات المتحدة تقوم بعملياتها الحربية من قواعدها ولا ترى ضرورة للاحتلال طويل الأمد.
وتناول الباحث أوضاع العالم العربي الحالية واستمرار بعض الحكام لفترات طويلة وضرب المثل بالملك حسين، (مات بعد ذلك) والرئيس السوري(مات هو أيضاً) والعراقي (غزت أمريكا العراق فخلعته) والرئيس الليبي (مازال في الحكم)(فهو قد استسلم وأعطاهم ما يريدونه). وزعم أن هذا لا يدل على الاستقرار، وهو أمر يرى أنه يشبه الأوضاع التي كان عليها العالم الإسلامي في بداية القرن العشرين.
واهتم كريمر بإثارة قضية الحركات الإسلامية التي يطلق عليها "المسلحة" وأنها الخطر الذي يهدد استقرار المنطقة.-وهذا هو دأب الباحثين والسياسيين اليهود في تخويف الغرب من الإسلام-وأشار إلى أن العالم الإسلامي كان يشهد صحوة تشبه الصحوة الموجودة حالياً. وزعم أن الحركات الإسلامية في بداية القرن العشرين تم السيطرة عليها وتساءل هل سيتم السيطرة على الحركات الإسلامية في بداية القرن الواحد والعشرين.
وقد قدّم الباحث بعض الحقائق عن أوضاع العالم الإسلامي من النواحي الاقتصادية واستمرار اعتماد المسلمين على الاستيراد في المواد الغذائية وغيرها، كما أشار إلى قضية الديون التي تثقل كاهل كثير من الدول العربية الإسلامية.
وتناول الباحث أيضاً مقالة صموئيل هتنقتون حول صراع الحضارات وما أثارته من ردود فعل واسعة في العالم العربي الإسلامي، وتعجب كيف أن كتاب فوكوياما عن (نهاية التاريخ) والتي تعرض للمسلمين بأشد مما ذكره هتنقتون لم تثر ردود فعل واسعة في العالم الإسلامي مع إن ما قاله فوكوياما أشد مما قاله هتنقتون.
لا شك أن الورقة تتضمن كثيراً من المغالطات التي تحتاج إلى الرد عليها، ولكن رأيت أن أترك الرد عليه حتى أتمكن من قراءة بحثه قراءة دقيقة.(3)
نظرة إجمالية إلى المؤتمر:
لقد كان هذا المؤتمر مناسبة ممتازة للتعرف على بعض الرؤى الغربية للعالم الإسلامي في مطلع القرن الواحد والعشرين والتي يمكن إجمالها في النقاط الآتية:
- الحديث عن التنمية أمر مهم جداً بالرغم من أنه موضوع تكرر كثيراً منذ بداية القرن العشرين وما قاله الشيخ محمد عبده وغيره من العلماء المسلمين حول موقف الإسلام من المدنية والحضارة. ولكن يبدو أن التركيز على النموذج الغربي للتنمية مازالت قضية مهمة لدى الغربيين أو أبناء المسلمين المتأثرين بالفكر الغربي.
- موضوع التربية والتعليم من الموضوعات المهمة ويهم الغرب أن يعرف كيف يفكر المسلمون في هذا الموضوع كما يرغبون في إيصال نظراتهم ونظرياتهم إلينا من خلال هذه المؤتمرات وبخاصة أن هذا المؤتمر كان له جانب سياسي بحضور بعض المسؤولين من اندونيسيا ومصر وهولندا الذي مازالت الدراسات العربية والإسلامية فيها لها جانب سياسي واضح.
- الإسلام والمجتمع العالمي، يريد منظمو المؤتمر التوصل إلى معرفة كيف يفكر المسلمون في التعايش مع المجتمع العالمي أو الكوني .(55/287)
من الملاحظات على هذا المؤتمر الطابع العلماني في طرح بعض القضايا مثل قضايا الحركات الإسلامية، وموضوع المرأة الذي تزعمته الباحثة الباكستانية التي تفخر بمؤتمر السكان الذي عقد في القاهرة على مقربة من الأزهر ليسمع صوت المرأة في قضاياها. وكذلك غاب عن المؤتمر ممثلين للحركات الإسلامية المعتدلة في العالم الإسلامي وبخاصة من مصر الذي انفرد ممثلو مؤسسة الأهرام أو التيار العلماني(الليبرالي) بالحديث عن هذا الموضوع.
أثار انتقادي غياب التمثيل المتوازن في موضوع الحركات الإسلامية اهتمام الباحث الهولندي يوهانس يانسين حتى إنه أشار إليه في الجلسة الختامية ووعد أن يتم النظر في هذا الأمر في المستقبل.
ملحوظة: لقد لفت انتباهي عدم اتصال أي مسؤول من السفارة السعودية بي في أثناء المؤتمر على الرغم من أنهم بُلِّغوا بحضوري وأنني ممثل المملكة. فهل هذا إهمال مقصود؟ أو تقصير في أداء العمل؟ وقد أعجبني اهتمام السفير المصري بحضور بعض فعاليات المؤتمر كالجلسة الافتتاحية والجلسة الختامية، وكذلك استمرار اتصاله بالشخصيات التي مثّلت مصر في المؤتمر. ولكن اتصل بي أثناء المؤتمر سفيان سيرجار من المركز الثقافي الإسلامي بمدينة لاهاي، وهو على صلة بالسفارة وأخبرني بأنه أبلغ السفارة بوجودي، وهو لم يكن بحاجة لهذا لأن رئاسة المؤتمر تعلم حضوري ممثلاً للمملكة عن طريق السفارة، فكيف كانوا لا يعلمون؟؟!!
------------------------------------------
- الحواشي :
1- دارت بيني وبينه مراسلات قدم لي من خلالها معلومات قيمة عن الدراسات العربية والإسلامية في هولندا، وقد نقوم بعمل مشترك عن هذه الدراسات في الجامعات الغربية.
2-أود أن أشكر كل من الدكتور عبيد خيري والدكتور قاسم السامرائي على مساعدتهما القيمة في ترجمة هذا البحث من اللغة العربية إلى الإنجليزية.
3 - حصلت على معلومات جيدة من المحاضر حول مركز موشيه ديان ونشاطاته الاستشراقية، وقد أفادني بمعلومات مهمة حول أستاذه برنارد لويس وعلاقته بإسرائيل ، كما أرسل لي بعض المنشورات من المركز عن ندوة بمناسبة مرور ثمانين سنة على ولادة لويس.
============(55/288)
(55/289)
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ
د. علي بن عمر بادحدح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.
فإن أنباء تجَدُّد العدوان الصهيوني الآثم على فلسطين ولبنان تطغى على كل الأخبار، وتشغل المساحة الأكبر في وسائل الإعلام المختلفة، فعلى مرأى ومسمع من العالم كله قام الكيان الصهيوني بأبشع جرائم القتل التي كان ضحاياها من المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ، كما مارس التدمير الآثم على خدمات الكهرباء والمياه والمطارات والموانئ والجسور والطرقات، في جريمة كبرى قلَّ مثيلها في وضوحها وبشاعتها، وفي خضم المناورات والحسابات السياسية تختلط كثير من الحقائق والرؤى الصائبة، وهذه نظرات مستلهمة من القرآن والسنة حول المفاهيم والمواقف :
أولاً: مفاهيم الصراع المبدئية:
1- الصراع مع اليهود الصهاينة - ومركزه أرض الإسراء - صراع عقدي حضاري ، وأسبابه لها جذور تاريخية في عداء اليهود للإسلام منذ بعثة صلى الله عليه وسلم ، و من هنا يأتي فهم سياق الأحداث الجارية من مثل قوله تعالى: { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [ المائدة: 64]،أي "كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها،وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم" [ ابن كثير ص 634 ] "وكون المراد من الحرب محاربة الرسو صلى الله عليه وسلم هو المروي عن الحسن ومجاهد" [ الألوسي 6/183] ، ومزيد من البيان نجده في قوله تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } [ المائدة:82 ] ،" وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله، وهكذا هو الأمر حتى الآن، وذلك أن اليهود مَرَنُوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم، ودَرَبُوا العتوَّ والمعاصي، ومَرَدُوا على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة، فهم قد لحَجَتْ عداوتهم، وكثُرَ حسدهم، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين" [ ابن عطية ص 568]، وطبيعة الإجرام والعدوان اللإنساني الغاشم الذي يمارسه الكيان الصهيوني المحتل نراه جلياً بكل قسوته وفظاعته في قوله تعالى: { كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } [ التوبة:8 _10] .
2- الغايات التي يريدها الصهاينة،وأمريكا الداعمة لهم ، والغرب المتواطئ معهم معرفتها سهلة لظهورها في الواقع مصداقاً لقول الله تعالى: ? يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [ التوبة:32-33)
] ، فالغايات الكبرى هي مناوأة الإسلام، ومحاربة عقائده ومبادئه، ومن ثم استهداف معتنقيه وحملته بالقتل بصفة دائمة كما ورد في قوله تعالى: { وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة:217].
3- سنة الكون لا تتبدل ولا تتغير فالتمكين في الأرض ممزوج ومسبوق بسنة الابتلاء ، قال تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة: 214](55/290)
4- نهاية الصراع وعاقبة المواجهة والجهاد واضحة عند المسلمين، وهي دائرة بين اثنتين: (النصر أو الشهادة) وفي الأولى عز الدنيا، وفي الثانية فوز الآخرة { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ } [ التوبة:52]، والبيان التوضيحي لذلك نجده في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: ( تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة ) رواه البخاري.
ثانياً: مفاهيم المقاومة والانتصار:
1- إن مقاومة المحتل والدفاع عن الأرض والعرض حق مكفول في جميع الملل والشرائع ، ومشروعية المقاومة ضد المحتل أقرتها الأعراف والقوانين الدولية، واستمداد المشروعية - عند المسلم - لا يفتقر إلى ذلك لأن أساسه الوحي المعصوم ومواده آيات القرآن الكريم فالحق جل وعلا يقول: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } [ التوبة:12 - 14]، وفي سنة سيد المجاهدين r عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ) [ رواه الترمذي،وله رواية مختصرة عند البخاري ]، فهل بعد هذه المشروعية الواضحة المحددة في الحالات المختلفة حاجة لمزيد ؟
وينبغي التنبيه أن مشروعية الجهاد الإسلامي الصحيح المشروع دائمة ومستمرة ومستمدة من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد روى سلمة بن نفيل الكندي قال:كنت جالسا عند رسول ا صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله أذال الناسُ الخيل ووضعوا السلاح، وقالوا لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول ا صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال: ( كذبوا، الآن الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ) رواه النسائي.
2- إن المرابطين المقاومين المجاهدين في سبيل الله، ومن ورائهم المؤمنون بالله حق الإيمان يدركون الحقائق الإيمانية ويعرفون الموازين الإسلامية فيمضون في معاركهم وهم على بصيرة،فهم على يقين أن النصر من الله وليس بعدة ولا عتاد ولا كثرة أعداد { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة: 249] { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ آل عمران: 126]، ومن قوة إيمانهم يثبتون ويصبرون فموقفهم في مثل هذه المواجهة - رغم شدتها - التقدم لا التراجع وكأنهم يمضون مع قوله تعالى: { وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء:104]، ويجددون ما مضى عليه أسلافهم من المجاهدين المؤمنين { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } [ الأحزاب:23 ].(55/291)
3- إن المقاومة دليل حياة الشعوب، ومؤشر على كرامة وحرية الرافضين للاحتلال ، ولا يرضى بالذل ويستسلم للعدوان إلا من سفه نفسه وفقد إنسانيته، ،ولا بد من تثبيت معاني كرامة وعزة المسلم وأنه يجب أن لا يذل إلا لخالقه استجابة لنداء الحق جل وعلا: { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران:139]، وحين يكثر الظلم وتتوالى الضربات والإهانات تضمر هذه المعاني ، وللأسف فإننا نجد أن وسائل الإعلام تسهم في تكريس ذلك من خلال تزييف معاني العزة والكرامة والاستهزاء بها، وبالتالي تنسى هذه المعاني مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال، مما يستدعي التأكيد على ذلك سيما في مثل هذه الأزمنة التي مرت فيها الأمة الإسلامية بحالات من الضعف الشديد، ولعل من سبل مواجهة ذلك إبراز أثر المقاومة في العزة والاستعلاء الإيماني.
4- إن تاريخ أمتنا يكشف لنا أن المسلمين انتصروا في معاركهم الكبرى جميعها رغم قلة قوتهم عدداً وعدة مقارنة بعدوهم، ففي يوم بدر يقول سبحانه وتعالى: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } [ آل عمران:13]، وهكذا كان الحال في اليرموك والقادسية، بل وفي حطين وعين جالوت، ومثل ذلك في فتح الأندلس والقسطنطينية، وفي العصر الحديث كانت المقاومة الباسلة للمحتل الفرنسي في الجزائر، وللمحتل الإيطالي في ليبيا، وللمحتل الإنجليزي في مصر والعراق وغير ذلك، وقل أن تجد في التاريخ مقاومة لمحتل لديها قوة مكافئة للمحتل فضلاً عن أن تكون متفوقة عليه، ومن ثم لا بد من تقديم ضريبة العز، وبذل عربون النصر من خلال تقديم الشهداء، وضرب أروع أمثلة التضحية والفداء، وأما الانتظار إلى أن تتعادل الكفة وتتكافأ القوى فغير ممكن وخاصة في ظل حكومات عربية لا هم لها سوى الحفاظ على كراسي حكمها، وبالتالي فإن اقل القليل هو دعم المقاومة الشعبية التي تنهك هذا العدو وتزلزل كيانه وتقلق راحته .
ثالثاً: مفاهيم المواجهة الحالية:
1- إن أساس المواجهات الحالية وأصلها يتمثل في الاحتلال، ووجود الصهاينة المحتلين على أرض فلسطين ولبنان هو السبب لكل ما يجري، ولذا يجب أن تتجه الأنظار إلى لب المشكلة لا إلى آثارها، ولا يغيب عن ذهن أي عاقل ما سبق هذه الاعتداءات الصهيونية على فلسطين ولبنان من أعمال إجرامية مليئة بالغطرسة والعدوان من قتل وهدم وتجريف واعتقال وهو ما يعتبر سمة أساسية في هذا الكيان الغاصب، الذي يضرب عرض الحائط بكل القوانين والقرارات الدولية،فلا يصح بحال قطع ما يحصل الآن من قصف لفلسطين ولبنان عن تاريخ هذا الكيان المليء بالانتهاكات والعدوان والظلم الشنيع ، ومن ثم فإن كل فعل ضد هذا الإجرام الفظيع أقل درجاته أنه من باب الدفاع عن النفس، واسترداد الحق، ومعاقبة المجرم المعتدي، { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [ البقرة:194 ]، { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } [ الشورى:39 ] .
2- ينبغي الانتباه إلى أنه - في هذه الأحداث الدامية العصيبة - يوجد عدو مشترك وهو العدو الصهيوني الذي استقوى بأمريكا وغيرها من قوى الاستكبار ، ومارس القتل والتشريد للمستضعفين من المسلمين بكافة أجناسهم وطوائفهم وهذا عدو للجميع، وينبغي التوحد في مواجهته ، حتى وإن اختلفنا في المذاهب والتوجهات، وإن كل ما يضر العدو الصهيوني ويؤذيه ويوقع فيه النكاية فالموقف منه التأييد بعض النظر عن مصدره ومعتقده أو مذهب فاعله، ولذلك أصل في أول سورة الروم { غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [ الروم: 5].(55/292)
3- إن المعارك والمواجهات الحالية إنما هي جزء من مرحلة طويلة في مضمار الصراع ، ولا زالت هناك مراحل مليئة بالمواجهات فلا ينبغي أن تختصر القضية في هذه الأحداث الجارية حالياً، ولا ينبغي أن نؤخذ بالأحداث الآنية فالأيام دول، { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } [ آل عمران: 140]، وفي يوم أحد : " قال أبو سفيان يوم بيوم بدر يوم لنا ويوم علينا، ويوم نُسَاء ويوم نُسَر، حنظلة بحنظلة وفلان بفلان وفلان بفلان " ، فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : ( لا سواء، أما قتلانا فأحياء يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون ) ، وإن الأحداث الراهنة - بما فيها من شدة و عسر - تكشف صدق الصادقين وزيف المدعين الذين وجدوا في ظاهر الأحداث فرصة للتشفي من أمتهم ومبادئها، وتأكيداً لخنوعهم ودعوتهم المخذلة للارتماء في أحضان الخصوم والأعداء { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران:179].
4- إن العقيدة الصهيونية قائمة على استغلال أي فرصة لضرب أي جهة تقاومها أو تفكر في مقاومتها مستقبلاً ، ويخطئ من يظن أن المقاومة في فلسطين لها قدرة على تجنب القتال لأنه مفروض عليهم بحكم النظرية العدوانية الصهيونية ومن خلال التفوق في القوة والآلة العسكرية التي تتظافر على وجوب إرغام الجميع لسيادتها سواء تحت تهديد القوة أو الاستسلام المسمى بأسماء السلام أو التطبيع .
رابعاً: مواقف الأطراف المختلفة:
1- إن موقف الدول الكبرى تراوح بين التأييد الظالم والسكوت المظلم، والمسارعة للضغط على الطرف المظلوم وتحميله المسئولية، ومطالبته بتنفيذ شروط المعتدي والرضوخ لإرادته دون قيد أو شرط، وإضفاء الشرعية على عدوانه وصبغه بالدفاع عن النفس ، وهذا هو موقف أمريكا المعلن، وموقف أوروبا المبطن، وموقفهم جميعاً - قبل الأحداث الأخيرة - كان متفقاً على محاربة الحكومة الفلسطينية المنتخبة ومحاصرتها هي والشعب الفلسطيني بكامله رغم المأساة والمعاناة، وكل ذلك دليل على زيف دعاوى تحقيق الديموقراطية، وعدم مصداقية الحفاظ على حقوق الإنسان، واختلال ميزان العدل، وغياب المساواة، وترسيخ مبادئ الظلم والعدوان ، كما أنه دليل على أن تلك الدول تتبنى الإضرار بالعرب والمسلمين وتفرح بأذاهم وتساعد على ذلك وتؤيده ، بل إن أمريكا تمنع مجرد إدانة المعتدي وذلك من خلال استخدام حق النقض الفيتو الذي يمثل شريعة الغاب، ويلغي الحق والعدل بالقوة والهوى، { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [ البقرة:120]
2- تعودت الشعوب المضطهدة في فلسطين ولبنان وغيرها أن تسمع من الدول العربية كلمات الشجب والاستنكار التي لا تدفع ولا تنفع، وقبل هذه الأحداث كانت مجازر شاطئ غزة وجرائم وحشية يهودية متكررة، فضلاً عن وجود آلاف الأسرى الفلسطينيين بمن فيهم من النساء والأطفال وكل ذلك قابله السكوت المطبق طوال الأشهر السابقة في فلسطين ، وموقف الدول العربية من الأحداث الحالية يكشف عن ضعف وعجز وتخاذل وانكسار، وليت الأمر توقف عند هذا الحد على ما فيه من خزي وعار ومهانة، إلا أننا نرى بعض تلك الحكومات نزلت إلى درجة لم تكن متوقعة من التخلي التام عن المقاومة المشروعة بل وإدانتها بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك يتضمن إعطاء العدو الصهيوني مشروعية التدمير والعدوان ، وهذا ما تذكره وتستشهد به أمريكا، وأين هذه المواقف من قوله تعالى: { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ الأنفال:72 ]،وهذا كله بخلاف ما عليه شعوب البلدان العربية والإسلامية التي تؤيد في معظمها المقاومة وتتلهف لمعاونتها والوقوف في صفها .
خامساً: الموقف من حزب الله:
1- إن اتخاذ المواقف - في مثل هذه الأحداث - يؤسس على قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وذلك يرجع إلى اجتهاد أهل الشأن حسب تقديرهم المستهدي بأصول الشريعة ومحكماتها، والمستند إلى معرفة وخبرة واقعية بمجريات الأحداث، وهو اجتهاد قد يعتريه الخطأ ويتغير بحسب ظروف الزمان والمكان .
2- لا يخفى على أي مطلع أن الحزب شيعي المذهب، وله ارتباطاته الواضحة بإيران، وصلاته المعروفة بسوريا،وذلك له أثره الواضح على توجهاته وأعماله، ولكن هذا ليس هو المقياس الوحيد في هذه المعركة التي نحن بصددها .(55/293)
3- إن للحزب وحلفائه أهدافاً تخصهم وتصب في مصالحهم الذاتية، وأهدافاً يشتركون فيها - من خلال العمل الميداني على الأقل - مع المقاومة في فلسطين ومع مصالح بقية الأمة، وذلك في إلحاق الضرر بالعدو الصهيوني، وكل أذى ونكاية في هذا العدو مطلوبة ومرغوبة.
4- الوقت الحالي - مع استمرار هذا العدوان - ليس وقتاً مناسباً للمحاسبات المذهبية أو الطائفية بل هو وقت ينبغي فيه التركيز على العدو الأكبر الذي يهلك الحرث والنسل ويهدد البلاد والعباد .
5- إن النظرة الكلية للصراع تقتضي رد الجزئيات إلى الكليات وربط الفروع بالأصول والنظرة الشاملة هي المطلب الذي يساعد على صواب الرأي ووضع الأمور في نصابها من خلال رؤية خطورة وشمولية المعركة، والأطراف المشاركة والمؤيدة للعدوان، بحيث يكون التأييد أو التحفظ في إطار محدد ومتوازن، وبما يحقق المصالح ويدفع المفاسد.
6- إن العدوان الصهيوني الحالي في لبنان ليس وليد وقته وليس ردة فعل لحدث معين - كما يبدو للناظر لأول وهلة - بل إن الوقائع تدل على غير ذلك، حيث لا يمكن أن يكون تحديد الأهداف الكثيرة، والعمليات المتواصلة مع تحديد مدد ومطالب معينة، كل ذلك لا يُمكن إلا بتخطيط مسبق وإعداد مبيت، ومثل هذا تماماً يُقال في الأحداث الأخيرة في فلسطين بعد عملية (الوهم المتبدد) وما تلاها من عمليات عسكرية وخطف للوزراء والنواب، وهذا يتوافق مع إستراتيجية العدوان الصهيوني الذي يسعى إلى إنهاء كل قوة محتملة يمكن أن تشكل مقاومة له أو حجر عثرة في طريق مخططاته.
سادساً: المواقف والأعمال المطلوبة:
إنه لابد لنا إزاء هذه الأحداث أن نغير في مسيرة حياتنا فكراً وشعوراً وسلوكاً بما يلزم من الاستمساك بالدين والاعتصام بالكتاب والسنة وهذه بعض الخطوات المطلوبة :
1- تجديد التوبة، وصدق الالتجاء إلى الله، والاجتهاد في الاستقامة على شرع الله، واجتناب المعاصي والابتعاد عما حرم الله.
2- تحقيق الأخوة الإيمانية وتوكيد الرابطة الإسلامية بنصرة إخواننا المجاهدين في فلسطين ببذل المال وتقديم الإغاثة لهم بكل الوسائل والإمكانات المتاحة ومشاركتهم شعورياً وعاطفياً باستشعار مصابهم وآلامهم، علماً بأن إخواننا من أهل السنة في لبنان أصابهم بلاء كثير وحصل لهم تهجير كبير وهم موجودون في مزارع شبعا الحدودية وبعض قرى الجنوب و مدينتا صيدا وصور هما عمق سني لشمال لبنان.
3- التوعية بالحقائق الإيمانية والمبادئ الإسلامية في مواجهة الأعداء ومجابهة الخطوب وتوضيح المعاني الشرعية الصحيحة للمفاهيم الإسلامية المهمة كالجهاد والولاء والبراء، وتعزيزها في ضوء النصوص الشرعية والأحداث الواقعية وحقيقة الصراع بين الحق والباطل مع التحذير من التخذيل واختلاط المفاهيم .
4- التخفف من الدنيا وتجنب الركون إليها والبعد عن الاستكثار من المباحات والانشغال بالكماليات ، والاعتبار بما جرى لإخواننا من الدمار والعدوان، وتهيئة النفوس لحياة الجد والعزم، واستنهاض الهمم لعيش العزة والكرامة، وتحديث النفس بالدفاع عن الإسلام والمسلمين وصد عدوان المعتدين .
5- العمل على إحياء المقاطعة الاقتصادية للبضائع والخدمات والمصالح التجارية للكيان الصهيوني وأمريكا الداعمة له، والتنبيه على أهمية ذلك وجدواه كسلاح من أسلحة المقاومة ضد العدو.
6- استحضار ضراوة المعركة وخطورة المؤامرة التي يجتمع فيها العدو الصهيوني، مع دعم مطلق من أمريكا، وتآزر مباشر وغير مباشر من بعض دول أوروبا، وأهمية إدراك استهداف مكامن القوة والعزة عند المسلمين، والعمل على تفريق صفهم وتفتيت وحدتهم والاستفراد بهم كلاً على حده على مستوى الدول والشعوب، وضرورة تفويت الفرصة على الأعداء بالوحدة والنصرة حتى لا يأتي يوم يقال فيه أكلت يوم أكل الثور الأبيض .
7- الابتهال إلى الله تعالى، والقنوت في الصلوات، والتضرع في الخلوات، وتحري أوقات الإجابة في جوف الليل والأسحار بأن يعز الله الإسلام والمسلمين ويحبط كيد الأعداء المجرمين .
8- قيام علماء الإسلام ودعاته ومفكريه بواجبهم في إيقاظ الأمة وتنبيهها للمخاطر، وتقوية عزيمتها، وحفظ إراداتها من أسباب الوهن والإحباط والاستسلام، وكشف طرائق ومخاطر الذين يسعون في جعلها تابعة ذليلة خانعة، ومن أوجب واجباتهم وضع التصورات والخطط وبرامج الأعمال التي تستهدف نهضة الأمة ووحدتها ورفع معنوياتها وزيادة فاعليتها ورسم مستقبلها وحفظ حقوق أجيالها وعدم الاكتفاء بإلقاء التبعة في ذلك على الحكومات.
والله نسأل أن يلم شمل المسلمين ويوحد صفهم ويزيد قوتهم، وأن يدحر أعداءهم من اليهود وحلفائهم ، وأن يكتب العاقبة للمؤمنين، ويجعل الدائرة على الكافرين ولو بعد حين، والحمد لله رب العالمين.
المصدر : islameiat.com
=============(55/294)
(55/295)
ماذا بعد هزيمة الطالبان
عبدالرحمن بن محمد بن علي الهرفي
الداعية بمركز الدعوة بالمنطقة الشرقية
لست متشائما بل إن التفائل من سماتي ـ ولله الحمد ـ ، وكنت ومازلت أقف بين يدي ربي أتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وبكل عمل صالح عملته وأعظمه أني أشهد ألا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله : أن ينصر هذه الفئة المؤمنة على عدوها الكافر سواء النصراني أو طائفة الكفر والردة الذين تعاهدوا مع النصارى فخرجوا من دين الله تعالى وبرئت منهم الذمة ولم يدخلوا في دين عباد الصليب .
وأعجب كل العجب ممن يعرف التوحيد ثم يدافع عن هذه الفئة المرتدة بقوله ( هم السابقون الأولون ) !!!! أو يقيس خيانتهم لله ورسوله ونقضهم للشهادتين بما وقع بين الصحابة ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَ وشرفهم ـ ؛ فقتال البغي والفتنة يختلف عمن ظاهر الكفار وأعانهم على المسلمين ، والأمر بيِّن واضح ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
وسأحاول أن أستشرف المستقل ، وأنظر من خلال نافذة الوقائع والمتغيرات ، لنرى سويا ماذا يمكن أن يحدث فيما لو هزمت الطالبان أو انتصرت ، والأمر بيد الله جل وعلا . وسأبدا بتوقع هزيمة الطالبان ؛ لأنه هو الواقع الحالي أثناء كتابة هذه السطور ، وهي مهزومة لا محالة بالمنظور المادي .
أولا : هل جنت الأمة شيئا من هذه الأحداث ؟
أقول : جنت الأمة الكثير والكثير ، وأدعو جميع المهتمين أن يبحثوا عن الإيجابيات في الأحداث ، ولعلي أجملها - من وجهة نظري - في هذه النقاط :
1. اتخاذ الشهداء ، قال تعالى : "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ" [ آل عمران 140 ] وفي تفسيرها قيل : ( فكرم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوهم ، ثم تصير حواصل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله ) فالله تعالى كتب ألا يقوم دين إلا على دماء الصادقين .
2. إسلام أعداد كبيرة من الأمريكان - فضلا عن غيرهم - ، مع أن الوقت وقت هجوم شرس على الإسلام ، وقد وقع عدد من المسلمين في الردة والكفر ـ والعياذ بالله ـ .
3. انكشاف حقيقة عدد من المنتسبين للعلم والفتوى ، وتخبطهم وسقوطهم في الوحل ، نسأل الله السلامة والعافية وأن يردهم الله إليه ردا جميلا .
4. ظهور عدد من العلماء الربانيين ومعرفة الأمة لفضلهم ، فالمواقف هي التي تصنع العلماء ، وبالفتن يبتلى العلماء فيكونون كالذهب أو يعلوهم الصدأ ، فبسبب الفتن ظهر أحمد بن حنبل وابن تيمية وغيرهما .
5. نمو عقيدة الولاء والبراء عند كثير من عوام المسلمين .
6. انكشاف حال الغرب الكافر عموما وأمريكا خصوصا عند كثير ممن اغتر بهم ؛ فقد مُنعت الأخبار وقتل الأطفال وأقيمت المحاكم العسكرية لشنق من شاؤوا بلا بينة ولا دليل ، وقد قتلوا مجموعة من الأسرى المتمردين بالقنابل العملاقة فأصبحوا مجرمي حرب .
7. انكشاف حال العلمانيين بمختلف توجهاتهم الفكرية وانتماءاتهم العرقية حيث فرحوا بهزيمة المسلمين وسموه (اندحار المتخلفين ) قال تعالى : "إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا ، بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا".
8. اتفاق الكفار في كل أصقاع الأرض على المسلمين ، وعودة الأحزاب مرة أخرى .
9. ظهور الحمية الدينية لعدد من المفكرين ودفاعهم عن الفئة المؤمنة التي أمتحنت ، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد .
01. تفاعل المسلمين على كافة الأصعدة مع الحدث ويظهر هذا بتتبع الأخبار والدعاء لهم .
11. بلوغ دين الله لكل أحد ، فما بقي على وجه المعمورة من لم يعرف الإسلام أو يصل له ذكره ، وبهذا فقد قامت الحجة على الخلق .
12. سقوط هيبة أمريكا عند الكثير من الناس ؛ فقد ضربت في مصدر قوتها ، وقد تتجدد المحاولة .
13. تمحص الصفوف ومعرفة من تعلق بالله ومن تعلق بغيره فوكل إليه .
ولعل من تأمل أكثر رأى ما لم أره ، وهذا كله فيما لو هزمت الفئة المؤمنة ـ نصرها الله ـ ، وأنا لا أعدها هزيمة عسكرية بالمعنى الحقيقي ؛ فأمريكا كعلج أحمق سحق نملة لأنها تسبح بحمد ربها ، فأين النصر ؟؟ .
ولولا قدر الله النافذ وخيانة تحالف الكفر الشمالي لما استطاعت أمريكا أن تتقدم شبرا واحدا ، ولكن ليبتليكم ، وسيرى رباني ومن معه ماذا ستفعل بهم أمريكا ، جزاء وفاقا ، والجزاء من جنس العمل كما قيل .
ماذا ستفعل أمريكا بعد هذا النصر الباهت ؟؟
سيكون عمل أمريكا على محاور منها :(55/296)
1. المراكز الإسلامية في الخارج : ستضيق الإدارة الأمريكية على هذه المراكز تضييقا شديدا ، وسيتركز التضييق على مراكز أهل السنة ، أما غيرهم فقد يكون له نوع فسحة ؛ كالأحباش والأحمدية ومن شابههم ؛ حيث إنهم معول هدم في الدين ، وقد تتوغل أمر يكا أكثر في هذه المراكز وتفرض سيطرة أكبر من حيث اختيار المدراء وأعضاء مجالس الإدارة ووضع الخطط الدعوية . وستمارس هذا الضغط بنفسها وعن طريق أذانبها في جميع دول العالم .
2. الجمعيات الخيرية : هذه الجمعيات الإسلامية التي تقدم الطعام والكساء للمسلمين ستحاربها أمريكا بدعوى أنها تدعم الإرهابيين من أطفال ونساء المسلمين ، لذا ستمنع أي برامج لهم ، وستعمل جاهدة على نقل تبرعات الشعوب إلى الحكومات ، ومن ثم تدفعها الحكومات إلى الصليب الأحمر الدولي !!! ، الذي ينفقها على غير من يسمونهم الأرهابيين من النصارى المسالمين ، أو تضع في فيّ المسلم لقمة وعلى صدره صليب الحب والإخاء !! وتعلمه ألا يكون إرهابيا بل عبدا مطيعا .
3. خطب الجمعة : يعرف كل أعداء الملة أن الخطبة كان لها الأثر الأكبر في بقاء الإسلام وثبات المسلمين ؛ حيث إنها زاد إيماني طوال الأسبوع ، وهي تميز لهذا الدين عن غيره من الأديان .لذا فإن أمريكا قد تضيق على الخطب قدر طاقتها ، ونرى بداية هذا التضييق بما نسمعه أن بعض الدول الإسلامية طلبت من الخطباء عنوانات الخطب قبل الخطبة بوقت كافٍ ، بل قرء كثير من الناس أن أمريكا قدمت أمر بتسليمها صور من خطب الجمعة ، و( يقال ) أن هناك إرهاصات لكتابة كتاب للخطب يلزم الخطباء بالقراءة منه ولهم كامل الحرية أن يختاروا منه ما يشاءون !.
4. المناهج الدراسية : هذه المناهج التي تغير الشعوب وتميز بينها ، لذا نجد أن الكفار دائما عند التطبيع يطالبون بتعديل المناهج بدعوى أنها تثير الكراهية ضدهم !!! ( ومن قال أننا نحبهم ؟؟؟ ) لذا سنجد أن أمريكا ستطالب بتعديل المناهج الدراسية ، وقد رأى الكثير ما أثير حول المناهج في بلاد الحرمين الشرفيين المملكة العربية السعودية ـ حماها الله ـ حيث أنهم يرونها من أسباب الإرهاب !! لوجود نصوص حول كفر النصارى كقوله تعالى : " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ .." [المائدة ـ 17]، ووجوب بغضهم وقتالهم ، بل إن فيها نصوص تثير الحماس في قلوب الناشئة الأغرار !! كقوله تعالى : "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ .. " [الأنفال ـ 60] وكقوله تعالى : "فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا " [البقرة ـ 191] ، وتلك الآيات التي قد يفهم منها بعض السذج !! عدم مناصرة النصارى وأن مناصرتهم على المسلمين كفر !! ؛ كقوله تعالى : " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "[المائدة ـ 51].
لذا سيضغطون على الدول الإسلامية بكل قوة لتغيير هذه المناهج بشكل عام ومناهج التوحيد لوجود ما سبق فيها ومناهج التاريخ بشكل خاص ؛ لأنها تثير الأحقاد !! .
وقد يطلب تعديل في المناهج فمثلا يذكر قوله تعالى : " لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ" [المائدة ـ 82 ] ، ويطلب من بعض المعتدلين شرحها وبيان التسامح الديني في الإسلام ، وبيان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع النصارى وحقوق الذميين .
ولابد من حذف حروب الردة فإنها تثير الأغرار وتحثهم على تكفير المسلمين!!! ، وكذا الحروب الصليبية لأنها أنتهت منذ العصور القديمة وجاء عهد العولمة والإخاء العالمي والمساواة بين الشعوب !!! . وقد تقلل حصص المواد الدينية ( الإسلامية ) وتكثر حصص المواد التجربية واللغة الإنجليزية ، وما المناداة بتدريس الأطفال اللغة الإنجليزية عنا ببعيد .
وفي ظل الضغط الأمريكي على الدول ستشهد الساحة الإسلامية ضغطا ايضا سواء على العلماء الربانيين أو المفكرين أو الخطباء ، وفي ظل هذا الضغط قد يحجب الصوت المعتدل داخل السجون فيترعرع فكر فيه جنوح للتكفير ، ومثل هذه الأفكار لا تظهر إلا في ظل الضغط السياسي والتعنت والقهر والتعذيب ، وأول من سيجني شوك هذه الأفكار هم صناع القرار ، ومن نظر في التأريخ علم أن الإسلام يزداد في زمن الضغط وما فلسطين المحتلة وسجون مصر عنا ببعيد .
وهذا الضغط سيقسم الناس إلى قسمين فإما مع امريكا أو مع الإسلام ، وخاب من اتخذ من دون الله أولياء ، والله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير .(55/297)
وفي ظل هذه الأحداث ستبحث الأمة عن العلماء الذين يقومون بأمر الله تعالى ولا يخشون في الله لومة لائم ، ولن تقبل الأمة أن يملى عليها فلان أو فلان لأنه عضو في منظمة كذا أو جمعية كذا ، بل ستبحث الأمة عمن يقف عبدا لله فقط ويرجو ما عند الله فقط وليس عبدا لعبيد أمريكا .
وعجبت ممن باع دينه بدنيا غيره ، ولم يكن يخطر في قلبي أن ارى أو أسمع فتاوى تهدم أركان التوحيد ممن عرف التوحيد ودرّسه .
وعلى الجميع أن يتذكر جيدا قول الأول [ أكلت يوم أكل الثور الأبيض ] فإن سجن العالم سجن لكل العلماء ، ولا ينبغي أن يَضربَ الصالحون بعضهم بعضا بدعوى أنني معتدل فأقرب أخي قربانا للظلمة ليرضوا عني . فإن فعل فإنه آثم قلبه .
ولو انتقلنا للفرضية الثانية وهي انتصار الطالبان فقد يكمن انتصار الطالبان في أمور منها : قتل عدد من الأمريكان والمثلة بهم ونشر صورهم وإعداد فيلم والمجاهدون يمثلون بهم ، وعندها سيضطر الجيش للانسحاب ، بل قد تسبب أزمة قوية جدا لحكومة بوش ، وقد يطول القتال داخل أفغانستان بين كر وفر مما يملل الجند ، ولو قدر أن انسحبت أمريكا بدون رأس (( ابن لادن )) فهي الهزيمة النكراء .
وهزيمة الولايات المتحدة قد يحولها إلى ولايات غير متحدة وعوامل تفكك أمريكا بدأ تكبر وتنمو ومن هذه العوامل :
1- ملل الشعب من الإنفاق على الشؤون الخارجية والتغافل عن حاجة الشعب الداخلية ، ومن أهمها البطالة الكبيرة .
2- رعاية مصالح دولة اسرائيل مما يذكي نار الإرهاب (كما يقال ) داخل أمريكا ، بينما لا يشعر الشعب بمصلحة من هذه الرعاية .
3- تذمر بعض الولايات ؛ حيث أن لها مدخول قومي قوي ولكنها تظطر لدفع جزء منه للحكومة الفدرالية بلا فائدة تذكر ، ولو انفق داخل الولاية لكان خيرا للسكانها .
4- الظلم ، فلا يخفى على أحد أن من عوامل بقاء الدول العدل ، ومن عوامل السقوط الظلم ، وكانت هذه الدولة تظهر العدل بدعوى الديموقراطية ، فيقف الحاكم العام في المحكمة أمام أحد أفراد الشعب ، ولا يوقف أحد إلا بأمر قضائي ، وتحترم الحريات الشخصية . ولكن الأحداث الأخيرة شهدت ظلم شعب بأكمله ، وإهدار دم أمة كاملة لأنه يظن أحد أن سكان هذا الإقليم كان خلف التفجيرات ، وعذر أمريكا أنها طلبت من الطالبان تسليم (( ابن لادن )) ولكنها رفضت أن تنقاد خاضعة مذعنة أمام الدولة التي لم تتعود على سماع كلمة : لا .
وسنة الله تعالى أن يقصم الدولة الظالمة ، وأي ظلم أكبر من تنفيذ عقاب قبل اتمام التحقيق وبيان الأدلة الدامغة على تورط (( ابن لادن )) في التحقيق ، وأي ظلم أكبر من قتل مئات الأطفال وهدم المستشفيات ودور العجزة ؟؟ ، ومن الظلم كذلك اخفاء الحقائق عن الحرب وفتح المحاكم العسكرية للحكم على من شاؤوا بلا بينة ولا برهان ، ومن الظلم كذلك إلقاء القنابل على القناة الوحيدة التي كانت تنقل الحقائق عما يحدث داخل أفغانستان .
وإذا كتب الله تعالى سقوط أمريكا فإنه سيحدث خلل في العالم ولا شك أنه سيتبع سقوطها سقوط أنظمة أخرى وظهور أنظمة كبدائل ، ولعل الدول التي تعتمد في اقتصادها على أمريكا ستصاب بهزة عنيفة - أو قل بزلزال مدمر - ، أما الدول التي تعتمد في أمنها على أمريكا فكبر عليها أربعا ، فهي إلى زوال بلا ريب ـ إلا أن يشاء الله ـ ولعلنا نشهد رجوع الفرع إلى الأصل كما يقال ، وستظهر الأطماع والأحقاد .
ففي منطقة الخليج مثلا هناك ترقب من قبل إيران التي بدأت تصنع القلبة النووية ، وهي دولة رافضية حاقدة على أهل السنة من جهه ولها أطماع في الخليج من جهة أخرى ولها علاقات قوية مع دول سيكون لها شأن عند سقوط أمريكا .
وسيكون من بين الدول التي تظهر الاتحاد الأوروبي والصين فهما المرشحان ليخلفا أمريكا وروسيا ، والهند دولة لا يمكن أن تغفل لا من حيث قوة السلاح ولا التعداد السكاني الضخم . لذا فإنه لزام على بعض الدول المستهدفة أن تجتمع تحت مظلة دولة واحدة ، وإلا فإنها ستهدد بالفناء .
ومع هذه المتغيرات سيشهد العالم الإسلامي صحوة قوية ووعيا عاما ، وتعبئة للجهاد ضد الكفرة والملاحدة .
وبعد هذا التجوال ، ما هو موقف المسلم المصلح الغيور في حالة حدوث هذه المتغيرات ؟؟
إن الهدف من هذه التوقعات ليس هو المتعة ، بل محاولة منع وقوع ما يتوقع من الشر و إصلاح ما يمكن إصلاحه من الخلل .
ففي التوقع الأول لابد من التالي :
1- اجتماع الكلمة تحت راية العلماء الربانيين وعدم التقدم عليهم .
2- محاربة كل من رفع راية محاربة الدين ولو كان ممن تصدر للفتوى أو المناصب الدينية بدعوى محاربة الإرهاب .
3- عدم التسرع في إطلاق أحكام التكفير على كل من بدرت منه هفوة أو زلة .
4- عدم إثارة القلاقل في الدول الإسلامية ، وخاصة التفجيرات وسفك دماء المسلمين .
5- لابد من الإفادة من كل الطرق لتحذير الناس من التضليل الكافر .
6- التعاون مع كل مصلح بغض النظر هل هو ممن كنا نتعامل معه فيما قبل أو ممن كنا نراه غير مؤهل لتوجيه الصحوة لوقوعه في بعض المعاصي الظاهرة .
7- محاولة إبراز العمل الإسلامي من خلال الإعلام والذي تعددت طرقة .(55/298)
وإن واجب العلماء الصادقين كبير جدا فلا يحل لهم السكوت وما نراه من سكوت مميت هذه الأيام لبعض العلماء ليس من مصلحة أحد أبدا ، فهو ليس من مصلحة الحاكم ولا المحكوم ؛ فسقوط هيبة العلماء ضياع للناس وللدول الإسلامية حيث أن الناس سيبحثون عن علماء آخرين فمن يكونون ؟؟ .
والسكوت ليس من مصلحة العالم نفسه لأن الله تعالى قال : " وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ " فويل لمن لم يبين .
وأنا على ثقة أنه سيكون لبعض الدول الإسلامية مواقف مشرفة يعز الله بها أهل دينه .
وأما إن منّ الله تعالى بالنصر على الطالبان فهو فضل من الله سينتج عنه اجتماع الناس تحت راية العلماء بلا ريب وستكون لهم قيادة تقودهم لعز الدينا والآخرة .
ولكن لابد من حل المعظلة الكبرى وهي فرقة المسلمين ؛ فإن اجتماع الكلمة عز ونصر والفرقة خيبة وهزيمة .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال : " أنا عند ظن عبدي بي فالظن عبدي بي ما شاء "
"رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ، لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ، لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ" .
============(55/299)
(55/300)
حجاب المرأة المسلمة
تأليف
المحامي الدكتور مسلم اليوسف
مدير معهد المعارف لتخريج الدعاة في الفلبين سابقاً
والباحث في الدراسات الفقهية والقانونية
إن الحمد لله نحمده ، و نستعينه ، و نستهديه و نستغفره ، ونسترشده ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده ورسوله .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102) .
و قال أيضاً : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) .
وقال جل جلاله :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً
()يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب: 70-71) .
أما بعد :
فإن أحسن الكلام كلام الله ، عز و جل ، وخير الهدي هدي صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، و كل بدعة ضلالة ، و كل ضلالة في النار .1
و بعد :
إن قضية الحجاب شكلت على مدى عقود كثيرة محورا رئيسا لمحاربة الإسلام ، و أهله ، و تناميه في ظل الهجمة المستعرة ، و المتبناة من قبل العديد من الدول و الجمعيات و المؤسسات النسائية الغربية ، و المستغربة المنتشرة في أرجاء عالمنا العربي ، و الإسلامي و الهادفة إلى تدمير النسيج القيمي والعقدي ، و الأخلاقي في مجتمعنا المسلم من خلال إدخال ، و ترويج ، مفاهيم خاطئة أساسا ، و مدمرة لقيم و أخلاق ، وحياة المرأة المسلمة .
و لعل ملخص الشبهات التي تدور حول حجاب المرأة المسلمة تتلخص بالأفكار التالية :
1- دعوة المرأة المسلمة إلى تغطية شعرها باعتباره عورة لا يجوز كشفه للرجال , فكرة لا تستند إلى نص إسلامي بل تستند إلى نص الإجماع الحادي عشر من رسالة بولس الأول إلى أهل كونثوس التي يقول فيها : كل امرأة تصلي ، أو تتنبأ , ورأسها غير مغطى , تشان . إذ المرأة إن كانت لا تتغطى فليقص شعرها ، و إن كان قبيحا بالمرأة أن تقص أو تحلق ، فلتتعظ 2 ) 3
2-أن الحجاب تقاليد فقهية ليس لها مصدر قرآني واحد ، و لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء رسائل بولس 4، الذي يقول : ليس إذن للمرأة أن تتعلم , و لا تتسلط على الرجل بل تكون في سكوت ) 5 .
3- أن الأمر الوارد في سورة الأحزاب , الآية 59 ليس أمرا لجميع النساء في جميع العصور بأن يلبسن الجلابيب ، و لا يستقيم تفسير النص على هذا النحو ، إلا في منهج فقيه بدوي من أهل القرن السابع الميلادي يريد أن يفرض جلباب والدته على مسيرة الحضارة باسم الله ، و الإسلام . أما فيما عدا ذلك , فإن الآية تتوجه بوضوح بنهي المرأة عن تسخير ثيابها في أغراض التبرج ، و هي فكرة لا علاقة لها بالحجاب ، و لا تلزم المرأة بزي معين , بل تلزمها بأن تتحرر من عقدة الجارية , و تكف عن اعتبار نفسها مجرد سلعة جنسية 6 .
1. أن الحجاب رمز ديني كأي رمز عند باقي الأديان مثل الصليب عند النصارى ، و القلنسوة عند اليهود ، و لا علاقة له بجوهر الإسلام .
و للرد على هذه الشبهات لابد من التأكيد على المنهج العلمي الصحيح القائم على الكتاب ، و السنة ، و فهم السلف الصالح لهذين المصدرين ، و غيرهم من المصادر المعتبرة عند أهل العلم المحققين .
فالحجاب واجب على المرأة المسلمة و قد دل على هذا الوجوب كتاب الله تعالى و سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، و الاعتبار الصحيح ، و القياس المطرد .
أولا - القرآن الكريم :
1. قال تعالى : ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) . (النور:31)
2. و لعل أهم الأحكام التي يمكن أن نستنبطها من هذه الآية:(55/301)
1. أن الله تعالى أمر المؤمنات بحفظ فروجهن ، و الأمر بحفظ الفرج أمر بما يكون وسيلة إليه , و لا يشك عاقل أن من وسائل الوقاية من الزنا تغطية الوجه , لأن كشفه سبب النظر إليه ، و تأمل محاسنه , و بالتالي الوصول إلى الاتصال المحرم .
عن أبي هريرة أن النبي محمد صلى الله عليه و سلم ، قال : أن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنى مدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر ، و زنى اللسان النطق ، و النفس تمنى و تشتهي ، و الفرج يصدق ذلك أو يكذبه 7.
و في رواية أخرى عن عبد الله بن مسعود يقول : العينان تزنيان ، و الرجلان تزنيان ، و اليدان تزنيان ، و يصدق ذلك الفرج ، أو يكذبه 8.
و في رواية الإمام أحمد عن بن مسعود عن النبي محمد صلى الله عليه و سلم أنه قال : ثم العينان تزنيان ، و اليدان تزنيان ، و الرجلان تزنيان ، و الفرج يزني9..
و عليه فإذا كان تغطية الوجه من وسائل الوقاية لحفظ الفرج كان مأمورا به ، لأن الوسائل لها أحكام المقاصد .
2. أما معنى الجيب قوله تعالى ( و َلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) فالجيب هو فتحة الرأس ، و الخمار ما تخمر به المرأة رأسها ، و تغطيه به ، فإن كانت مأمورة بالضرب بالخمار على جيبها كانت مأمورة بستر وجهها .
أما ، لأنه من لازم ذلك ، أو بالقياس , فإنه إذا وجب ستر الخمر ، و الصدر كان وجوب ستر الوجه من باب أولى , لأنه موضع الجمال و الفتنة .
ج- أن الله سبحانه وتعالى عفا عن إظهار الزينة مطلقا إلا ما ظهر منها دون إرادة لذلك ، كظاهر الثياب ، و أسافلها , لذلك قال تعالى : ( إلا ما ظهر منها ) و لم يقل إلا ما أظهرن منها ، و قد فسر بعض السلف : كابن مسعود و الحسن و ابن سيرين ، و غيرهم قوله تعالى ( إلا ما ظهر منها ) بالرداء و الثياب ، فقال ابن مسعود رضي الله عنه : ظاهر الزينة هو الثياب10 .
ثم نهى مرة أخرى عن إبداء الزينة إلا لمن استثناهم ، فدل هذا على أن الزينة الثانية غير الزينة الأولى .
فالزينة الأولى هي الزينة الظاهرة التي تظهر لكل أحد ، و لا يمكن إخفاؤها ، و الزينة الثانية هي الزينة الباطنة (من الوجه) ، و لو كانت هذه الزينة جائزة لكل أحد لم يكن التعميم في الأولى ، و الاستثناء في الثانية فائدة معلومة .
د- أن الله تعالى رخص بإبداء الزينة الباطنة للتابعين أمثال الخدم الذين لا شهوة لهم و الطفل الصغير الذي لم يبلغ الحلم ، و لم يطلع على عورات النساء .
و عليه:
فإن إبداء الزينة الباطنة لا يحل لأحد من الأجانب إلا لهذين الصنفين ، و أن علة الحكم و مداره الخوف على المرأة من الفتنة ، فيكون ستر الوجه ، واجبا لئلا يفتن أولوا الإربة من الرجال ، و خاصة أنه مجمع الحسن ، و موضع الفتنة .
هـ- و قوله تعالى ( وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ) معناه لا تضرب المرأة برجلها ليعلم ما تخفيه من الخلاخيل و نحوها من الزينة ، فإذا كانت المرأة منهية عن الضرب بالأرجل خوفا من افتتان الرجال بما يسمع من صوت خلخالها ، و نحوه فكيف بكشف الوجه .
فأيهما أعظم فتنة أن يسمع الرجل خلخالا بقدم امرأة قد لا يدري من هي ، و ما جمالها ، أو ينظر إلى وجه جميل ممتلئ شبابا ، و نضارة ، وحسنا بما يجلب الفتنة ، و يدعو إلى النظر إليها ؟
إن كل إنسان له حاجة في النساء يعلم أي الفئتين أعظم ، و
أحق بالستر ، و الإخفاء .
3. قوله تعالى ( وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور:60)
4. إن الله تعالى نفى في هذه الآية الأثم عن القواعد ، و هن العواجز اللاتي لا يرجون زواجا لعدم رغبة الرجال بهن ، بشرط أن لا يكون الغرض من ذلك التبرج و الزينة . و تخصيص الحكم بهؤلاء العجائز دليل على أن الشابات اللاتي يرجون النكاح يخالفن في الحكم ، و لو كان الحكم شاملا للجميع في جواز وضع الثياب ، و لبس درع و نحوه لم يكن لتخصيص القواعد فائدة .
ومن قوله تعالى (غير متبرجات بزينة ) دليل أخر على وجوب الحجاب للشابة التي تأمل بالزواج , لأن الغالب عليها إذا كشفت وجهها ، أنها تريد التبرج بالزينة ، و إظهار جمالها ، و تطلع الرجال لها ، و مدحها و نحو ذلك , ومن سوى هذه فشاذ ، والشاذ لا حكم له .
5. قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الأحزاب:59)
6. قال ابن عباس رضي الله عنهما : أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطي ، وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ، و يبدين عينا واحدة 11 .(55/302)
و تفسير الصحابي حجة ، بل قال بعض العلماء : إنه في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم و قول ابن عباس رضي الله عنهما : ويبدين عينا واحدة إنما رخص في ذلك لأجل الضرورة ، و الحاجة إلى النظر في الطريق ، فأما إذا لم يكن هناك حاجة ، فلا موجب لكشف العين .
7. قوله سبحانه وتعالى : ()لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (الأحزاب:55)
8. قال ابن كثير عليه رحمة الله : (( لما أمر الله النساء بالحجاب عن الأجانب بين أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب عنهم ، كما استثناهم في سورة النور عند قوله : ( و لا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن ...12)
ثانيا - السنة النبوية الشريفة :
1. عن جابر رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : إذا خطب أحدكم امرأة فاستطاع أن ينظر إلى بعض ما يدعوه إلى نكاحها , فليفعل , فخطبت امرأة من بني سليم ، فكنت أتخبأ لها في أصول النخل حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها13 ) .
وجه دلالة هذا الحديث أن صلى الله عليه وسلم نفى الجناح ، و هو الإثم عن الخاطب خاصة ، بشرط أن يكون نظره بسبب الخطبة فقط . أما غير الخاطب ، فيعتبر آثم بالنظر إلى الأجنبية بكل حال , و كذلك الخاطب إذا نظر إلى غير الخطبة كأن يكون غرضه التلذذ ، و التمتع و نحو ذلك .
2. عن أم عطية قالت : أمرنا النبي صلى الله عليه و سلم أن نخرجهن في الفطر و الأضحى العواتق ، و الحيض و ذوات الخدور ، فأما الحيض ، فيعتزلن الصلاة و يشهدن الخير ، و دعوة المسلمين ، قلت : يا رسول الله أحدنا لا يكون لها جلباب ، قال : لتلبسها أختها من جلبابها .14
و من دلالة هذا الحديث الشريف أن المعتاد عند نساء الصحابة ، أن المرأة لا تخرج إلا بجلباب , و عند عدمه لا يمكنها أن تخرج من بيتها . و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بلبس الجلباب كان دليل على الوجوب ، و أنه لابد من التستر .
3. عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي الفجر ، فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس 15.
وجه دلالة هذا الحديث أن الحجاب و التستر كان هو الطابع العام لنساء الصحابة الذين هم خير القرون ، و أكرمهم عند الله عز وجل ،و في هذا الحديث الدلالة ، و البيان لصفة الحجاب و شروطه .
4. عن ابن عمر قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة , فقالت أم سلمة : فكيف يصنعن النساء بذيولهن , قال : يرخين شبرا , فقالت : إذا تنكشف أقدامهن , قال : فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه 16 ).
و دلالة هذا الحديث على وجوب ستر قدم المرأة ، و أنه أمر معلوم عند نساء الصحابة , و القدم أقل فتنة من الوجه ، و الكفين بلا ريب . فالتنبيه بالأدنى تنبيه على ما فوقه ، و على ما هو أولى منه بالحكم ، و حكمة الشرع تأبى أن يجب ستر ما أقل فتنة ، و يرخص في كشف ما هو أعظم منه فتنة ، فان هذا من التناقض المستحيل بحق الله ، و شرعه 17.
ثالثا - الاعتبار الصحيح والقياس المطرد :
الاعتبار الصحيح ، و القياس المطرد الذي جاءت به هذه الشريعة الكاملة ، و هو إقرار المصالح ، و وسائلها ، و الحث عليها , و إنكار المفاسد ، و وسائلها و الزجر عنها.
و إذا تأملنا السفور ، وكشف المرأة لوجهها ، وجدناه يشتمل على مفاسد كثيرة , و إن قدر أن فيه مصلحة ، فهي يسيرة لا تتساوى بأي حال مع مصالح المرأة والمجتمع .
فمن مفاسد كشف المرأة لوجهها للأجانب :
1. الفتنة : فإن المرأة تفتن نفسها بفعل ما يجمل وجهها ، و يبهيه و يظهر المظهر الفاتن الجذاب . و هذا من أكبر دواعي نشر الفتنة ، و الفساد .
2. زوال الحياء عن المرأة الذي هو من الإيمان ، و زوال الحياء عن المرأة نقص في إيمانها خروج عن الفطرة التي خلقت عليها .
عن سالم عن أبيه ، سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا يعظ أخاه بالحياء , فقال : الحياء من الإيمان 18.
3. افتتان كثير من الرجال بالمرأة السافرة ، و لاسيما إذا كانت جميلة ، و الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، و على المسلم أن يحذر من الشيطان ، و مداخله و دروبه.
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان مع إحدى نسائه ، فمر به رجل ، فدعاه , فجاء فقال : يا فلان هذه زوجتي فلانة ، فقال : يا رسول الله من كنت أظن به , فلم أكن أظن بك , فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم 19..(55/303)
و في رواية البخاري عن علي بن الحسين , كان صلى الله عليه وسلم في المسجد و عنده أزواجه فرحن , فقال لصفية بنت حيي لا تعجلي حتى انصرف معك ، وكان بيتها في دار أسامة ، فخرج صلى الله عليه وسلم معها ، فلقيه رجلان من الأنصار , فنظرا إلى صلى الله عليه وسلم , ثم أجازا ، و قال لهما صلى الله عليه وسلم : تعالا إنها صفية بنت حيي قالا سبحان الله يا رسول الله , قال : إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، و إني خشيت أن يلقي في أنفسكما شيئا )20.
4. و قد يؤدي اختلاط النساء بالرجال إلى فتنة المرأة بأن تعتبر نفسها مساوية للرجل في كشف الوجه ، و التجول سافرة ، مما يؤدي إلى فتنة كبيرة ، و فساد عريض كما هو حاصل الآن في كثير من الديار العربية و الإسلامية .
عن حمزة بن أبي اُسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع صلى الله عليه وسلم يقول : و هو خارج من المسجد ، فاختلط الرجال ، مع النساء في الطريق , فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : للنساء استأخرن , فإنه ليس لكُن أن تحققن الطريق , عليكن مجافاة الطريق . فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى أنّ ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به )21..
و أخيرا بعد أن أوردت كل هذه الأدلة من الكتاب ، و السنة و الاعتبار و القياس أضيف ملحوظة لمن في قلبه بقايا من إيمان عسى أن ينتبه لما يحاك لهذه الأمة من مؤامرات و فتن :
الملاحظ أن المنظمات الحقوقية بجميع فروعها في العالم الإسلامي ، و العربية على وجه الخصوص متحيزة ، و مغلقة أمام انتماء أية امرأة مسلمة ملتزمة بدينها .
كما أننا لا نرى أي ملف ، أو ذكر للمرأة المسلمة ، و خاصة ما يتعلق بالتمييز ضدها كما هو ملاحظ في ارتدائها للباس الشرعي و الحجاب و التعذيب و العنصرية التي تواجهها في كثير من البلدان العربية ، و الإسلامية وحتى الأوربية التي تدعي الحرية و الديموقراطية .
إن النظرة الدونية للمتدنية ، و الملتزمة من قبل الغرب و المستغربين الذين يتعاملون معها بأسلوب إقصائي عن المجتمع والفعالية الإيجابية فيه .
ما هو إلا ضمن اتفاق دولي من قبل الصليبين والصهاينة و من سار بركبهم من أبناء جلدتنا للقضاء على الإسلام و المسلمين 22.
و الله المستعان .
العبد الفقير إلى الله تعالى
مسلم بن محمد جودت اليوسف
abokotaiba@hotmail.com
moslem@scs-net.o r g
00963212262346
00963212268436
==================(55/304)
(55/305)
العنصرية والديموقراطية الأوربية في الميزان
مجلة البيان - (ج 50 / ص 70)
د. أحمد عجاج
لم يكن يخطر أبداً في بال عائلة سعدو اللبنانية التي هربت من جحيم الحرب الأهلية في لبنان بأنها ستواجه مأزقاً بعد اليوم. فقد حطت رحالها أخيراً في بلدة هنكس الألمانية على نهر الراين، وشعرت للمرة الأولى منذ سنوات بالأمان والحرية . ولكن لم يكن هذا الشعور إلا وهماً وسراباً. ففي منتصف ليل الخامس من اكتوبر الماضي ودون سابق إنذار اشتعل منزلها وأصيبت طفلتاها اللتان لم تتجاوزا بعد سن السادسة والثامنة بحروق خطيرة إثر هجوم قامت به العصابات النازية الجديدة بالقنابل الحارقة عليها . وسبب الهجوم بسيط جداً وهو أن تلك العائلة لا تنتسب إلى الجنس الألماني العظيم !
وعائلة سعدو ليست إلا واحدة من عدة عائلات تعرضت إلى ما هو أفظع وأشنع من ذلك بكثير على يد تلك المجموعات النازية الجديدة التي تطالب بتطهير ألمانيا من الغرباء الذين يشوهون منظرها ويزيدون أعباءها.
إن تصاعد الخطاب العنصري في ألمانيا وغيرها من البلدان الأوربية ليس بحد ذاته حدثاً عابراً أو أمراً عارضاً بل هو يلمس جوهر السياسة الأوربية الجديدة في تعاملها المستقبلي مع الأقليات الموجودة على الأراضي الأوربية . ففرنسا تجد نفسها أمام تصاعد نجم العنصري "ماري لوبان" وألمانيا تقف عاجزة أمام موجات العنف التي يشنها المتطرفون ضد الأقليات واللاجئين من العالم الثالث، وبريطانيا تعرب عن قلقها إزاء تصاعد نشاط الجبهة القومية البريطانية، وسويسرا درة الغرب تحاول أن تتجنب تلك الموجات العنصرية المشينة .
وأوربا تعيش الآن مرحلة خطيرة من تاريخها الحديث الذي لا يختلف بنتائجه وآثاره عن تلك المرحلة المظلمة التي استساغت فيها أوربا استبعاد الشعوب واستغلال طاقاتها معتمدة على تبريرات واهية ترتكز إلى اللون والدين ودرجة التمدن. فالحملة العنصرية ضد المهاجرين ، أي اللاجئين كما يطلق عليهم ، بلغت مرحلة خطيرة جداً إذ أصبح معها المهاجرون غير آمنين حتى في بيوتهم وبحاجة دائمة لحماية من الشرطة. وتزامنت الحملة هذه مع تزايد البطالة وتدهور الوضع الاقتصادي وتدفق أعداد هائلة من المهاجرين إلى أوربا.
وتصاعد الكراهية وموجة العداء لا ينطلقان من فراغ بل يستندان إلى مبررات ومسببات عديدة تجد تشجيعاً وتغذية من الأحزاب العنصرية التي تعمل ليل نهار على نشر مشروعها العنصري . فالأحزاب العنصرية لها مبادئها ومنطلقاتها الفكرية التي ترى فيها تفوقها وأفضليتها وأصالتها وسموها على بقية الأجناس البشرية . هذه الأحزاب والجماعات تتعامل مع موضوع المهاجرين من زاوية عنصرية بحتة . فهي ترى في وجودهم على أرضها تشويهاً لجمال بلادها وخطوة خطيرة نحو زوال نفوذها وسيطرتها وطمساً لحضارتها العظيمة . ولم لا وهي تعتقد بأن أولئك المهاجرين لا يتمتعون بأي رصيد حضاري ولا همّ لهم سوى الاستيلاء على المدن الراقية وصبغها بلونهم شأنهم في ذلك شأن البرابرة . فأكثر ما يزعج تلك الجماعات العنصرية وجود أقليات كثيرة في مدنها الراقية مما يغير من طبيعتها ونمطها . لذا يطلقون على مرسيليا الفرنسية على سبيل النكتة والتهكم بأنها "عربية أكثر من الجزائر" نظراً لوجود أعداد هائلة فيها من المهاجرين العرب من شمال أفريقيا .
والخطورة لا تكمن في وجود تلك الأحزاب بل في أنها تعمل في جو من الحرية وضمن إطار الديموقراطية ، دون حسيب أو رقيب وضوابط وقيود . والحرية الممنوحة لتلك الجماعات تجاوزت الحدود الممكنة التي يمكن السماح بها في أي ديموقراطية . فقد وصل الأمر أخيراً أن تطرح الأحزاب العنصرية برامج سياسية تدعو إلى التخلص من جميع المهاجرين سواء كانوا مواطنين أصليين أم لا انطلاقاً من أن أوربا للأوربيين وأنه من غير المجدي والممكن أن يتعايش الجميع فيها. فالرئيس الفرنسي السابق جيسكار ديستان وغيره من الساسة المحترمين أمثاله لم يتورعوا عن إطلاق تصريحات عنصرية آملين من وراء ذلك أن يحصلوا على أصوات الناخبين الفرنسيين وسحب البساط من تحت أقدام الحزب العنصري الذي يتزعمه ماري لوبان . فقد صرح ديستان أثناء مقابلة أجرتها معه صحيفة الفيغارو الفرنسية الواسعة الانتشار بأن من الضروري التحرك لوضع حد لهجرة أبناء العالم الثالث مشبهاً إياها بالغزو الذي يتوجب مواجهته قبل فوات الأوان . ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد بل تعدى ذلك بكثير عندما أعلن رئيس وزراء فرنسا السابق جاك شيراك في احتفال حزبي عن امتعاضه من "صخب العرب وضوضائهم" ومن "روائحهم البشعة"(1) .(55/306)
تلك التصريحات العنصرية والمليئة بالحقد والكراهية ساهمت إلى حد كبير في زيادة روح العداء والانقسام وغذت عنصر الأنا والاستعلاء لدى المواطنين الفرنسيين وشجعت بدورها على نمو التيارات العنصرية وبالذات الجبهة القومية الفرنسية التي بدأت تكتسب شعبية مرموقة في صفوف الشعب الفرنسي . فالجبهة القومية استطاعت أن تلعب ورقة المهاجرين واللاجئين بمهارة ودقة مما سمح لها أن تفرض نفسها على الساحة السياسية كقوة لها وزنها وقيمتها . وقد وصل الأمر أخيراً بزعيم الجبهة ماري لوبان أن يطرح برنامجاً انتخابياً يطالب فيه بطروحات تضرب عرض الحائط جميع مقومات الديموقراطية التي يتغنى بها الفرنسيون في بلد الحرية والإخاء والمساواة . والبرنامج يدعو إلى طرد جميع المهاجرين واللاجئين غير الأوربيين مباشرة بعد مرور سنة على إقامتهم في فرنسا وحظر إعطاء تاشيرات سياحية للعرب والأفارقة(2) . والتبرير المعطى هو أن الهجرة من العالم الثالث مصدر الجرائم والبطالة والتهديد للوطن الفرنسي . وينص البرنامج على منح الفرنسيين الأفضلية في السكن والوظائف وحرمان المهاجرين ، بغض النظر عن مدة إقامتهم ، من جميع الضمانات الاجتماعية التي توفرها الديمقراطيات الحديثة لجميع المواطنين دون تمييز يرجع إلى اللون والجنس . ورغم بشاعة البرنامج فإن الفرنسيين وجدوا فيه إيجابيات عديدة ! فقد أفاد آخر استطلاع للرأي العام أن نسبة تأييد ماري لوبان ارتفعت من 18 إلى 32 بالمئة محرزاً في ذلك تقدماً ملموساً وظهوراً قوياً على الساحة السياسية(3) .
والتأييد الذي يلقاه ماري لوبان يعكس مدى التردي الأخلاقي في المجتمع حيث أصبح الجهر بالعنصرية شيئاً مقبولاً ولا يثير الخجل والحياء بل الفخر والإعجاب . فقد أصبح الخطاب العنصري مجالاً رحباً وأرضاً خصبة للتأييد الشعبي وتعزيز موقع الطامح إلى السلطة حتى وصل الأمر أخيراً بالرجل الثاني في الجبهة القومية الفرنسية برونو ميغرات أن يتسائل قائلاً : "لماذا نجهد أنفسنا في الحفاظ على أجناس الحيوانات في حين لا نلقي بالاً لاختفاء الجنس البشري من جراء الاختلاط العام بين الأجناس البشرية المختلفة" (4).
فلا غرابة إذن أن نرى متطرفين وعنصريين وأعمال إرهاب وعنف ضد المهاجرين واللاجئين طالما أن الخطاب العنصري يحتل رقعة واسعة من الحياة السياسية والاجتماعية.. ولكن ما يدعو إلى الاستغراب حقاً هو كيف تتعايش الديموقراطية مع العنصرية ؟ فالديموقراطية الغربية بما تتضمنه من أفكار ومبادئ تتنافى كلياً مع ما تطرحه العنصرية ، والاختلاف بينهما كبير بمقدار ما هو بين الماء والنار . فالدول الغربية بالذات تطالب دولاً أخرى باستمرار أن تحترم حقوق الإنسان وأن تنتهج المنهاج المثالي في التعامل مع مواطنيها وتتزعم دائماً المؤتمرات والمجالس الدولية رافعة الصوت عالياً باحترام حقوق الإنسان وتوفير الأمن والرفاهية للجميع دون استثناء لكن دون أن تكلف نفسها عناء النظر في ما يجري على أراضيها من حدث وخطاب سياسي . فظاهرة تفشي العداء والتطرف ضد المهاجرين قلما تجد تأنيباً من نخب الغرب الحاكمة إن لم تجد أحياناً تشجيعاً كما هو الحال في فرنسا وألمانيا . وهذه المفارقة تكشف في جوهرها حقيقة الديموقراطية التي ملأ صيتها الآفاق وانتشر في أرجاء المعمورة .
إن كانت الديموقراطية كما يزعم بأنها من أنجح الأدوية وأفضل الطرق لرص صفوف المجتمع وصهر طاقاته فإن نموذجها الغربي المطبق لم يحقق حتى الآن إلا نجاحاً نسبياً . وإلا لما طرح لوبان مشروعه ، ولما قال شيراك بأن العرب رائحتهم كريهة ولا تعرضت عائلة سعدو للحرق . فالديموقراطية بمثالها الغربي لا يمكن أبداً أن تنجح في توحيد المجتمع وصهر طاقاته البشرية ولم أجناسه المتنوعة في بوتقة واحدة . والسبب يكمن في كيان الديموقراطية الغربية ذاته القائم على الحرية الفردية المنفلت من كل قيد أو ضابط أخلاقي واللاهث وراء الإشباع المادي دون سواه . فإذا ما توفرت العناصر المادية ولوازمها يمكن للمجتمع آنذاك أن يعيش نسبياً نوعاً من الأمان والاستقرار الاجتماعي . ففي الماضي غير البعيد انتجت ديمقراطية الغرب - عندما تردت الأوضاع وساءت الأحوال الاقتصادية - نازية هتلر وفاشستية موسوليني .(55/307)
الثابت أن المجتمع الذي لا يتمتع بالمناعة الأخلاقية والمثل العليا غير قادر على معايشة حقوق الإنسان واحترام الآخرين عندما يواجه انحساراً وضموراً في وفرته الاقتصادية . وهذا بالطبع ليس شيئاً غريباً لأن الفرد الذي تربى على تأليه المال والمبادرة الفردية الصرفة في الإنتاج واعتاد الوفرة والبذخ في العيش لا يمكنه أن يتنازل عن مكتسباته برحابة صدر وابتسام . بل يتطلع دائماً إلى كبش فداء لتحميله وزر الضائقة وإنزال سخطه وغضبه عليه . وهو بسعيه هذا يتمتع بحصانة تحول دون معاقبته لأن السلطة ذاتها بحاجة إلى دعمه ودعم أمثاله ، وترى في أعمال كهذه منفذاً للتهرب من مسؤولياتها وفشلها في إدارة البلاد . والسلطة في مواجهة أزمات كتلك ترتكز على أهمية ضمان الوحدة الاجتماعية التي لا تتحقق بنظرها إلا بتوفر عنصرين هما : الأمن الداخلي وتنفيذ مشروع الاندماج . والمقصود بعبارة الأمن الداخلي هو إقفال البوابة الأوربية في وجه الآلاف من المهاجرين الذين ضاقت بهم بلادهم وخرجوا منها قهراً أو بحثاً عن مصدر رزق جديد. وعبارة الاندماج تتطلب من المهاجرين واللاجئين الانسلاخ عن ذاتهم وتقاليدهم استعداداً لتقمص هوية جديدة لم يعرفوها أو يألفوها من قبل. وفي كلا المطلبين تصبح الديموقراطية بلا معنى ويخسر المهاجرون واللاجئون حقوقهم الإنسانية .
فالديموقراطية والعنصرية يصعب تعايشهما معاً ، إلا أن تعيش واحدة على حساب الأخرى . إذ لا يعقل أبداً أن تحرق عائلة سعدو وتذبح عائلة رومانية أخرى دون أن يعتقل الجاني أو تغلق مراكز الجماعات العنصرية وتمنع شعاراتها التي تتنافى مع أبسط حقوق الإنسان . فالديموقراطية الحقة التي نعرفها لا تستقيم إلا إذا عاشت عائلة سعدو بأمان وسجن قاتلو العائلة الرومانية وأقفلت أبواب الأحزاب والجماعات العنصرية إلى غير رجعة .
الهوامش :
1- الحياة ، 13 كانون الأول 1991
2- Fo r eign r epo r t 14 of Novembe r 1991
3- Fo r eign r epo r t 13 of Novembe r 1991
4- نفس المصدر
==============(55/308)
(55/309)
الهند والديموقرطية الضائعة
مجلة البيان - (ج 63 / ص 72)
الهند والديموقرطية الضائعة
د.أحمد محمود عجاج
ليس من باب المبالغة القول إن الهند - بما تمثله من تعدد طوائفها ، وتنوع لغاتها ، وتوزع شرائحها الاجتماعية - هي بالفعل حالة فريدة من نوعها قل نظيرها في عالم اليوم. فهذا البلد الذي يتجاوز عدد سكانه الثمانمائة مليون نسمة انتهج لنفسه النموذج الديموقرطي الغربي واستمر في تطبيقه في خضم اختلافات عرقية ودينية كان من المفترض أن تؤدي في أسرع وقت إلى تفكيك الهند كبلد متعدد الأديان والأعراق. وقد تغنى بعض الكتاب والنقاد بهذه الديموقرطية ولكنها كانت قشرة رقيقة ضعيفة حافظت على زخمها قليلاً ، وكانت تخفي تحتها - ومنذ البداية - تعصباً هندوسياً لا يحتمل التعدد ولا يحتمل وجود الإسلام بالذات ، ولذلك شهدت الفترة الأخيرة ما لم يكن متوقعاً ، وأبرزت ما لم يكن ممكناً تصوره ، وذلك عندما انطقت كتل بشرية يبلغ تعدادها مائتي ألف نسمة - تركض باتجاه مسجد في بلدة أيوديا الواقعة في شمال الهند وهي تصرخ باسم "الإله رام " رمز الشجاعة والتسامح عند الهندوس لتبدأ لدى وصولها بهدم جدرانه وسط الأناشيد والتهاليل والهرج والمرج. ويقول هؤلاء الهندوس إن المسجد - وهو المسجد البابري - قد بناه الفاتح المغولي بابر على أنقاض معبد هندوسي ، وهو المكان ذاته الذي وُلد فيه الإله رام المعظم بدعوى أن بناء المسجد على أنقاض المعابد تقليد درج عليه المسلمون الفاتحون آنذاك.
وقصة المسجد ليست جديدة على الإطلاق فقد نجحت جماعة من الهندوس المتشددين في التسلل إلى المسجد في عام 1949م، ووضعت لاحقاً صنماً للإله رام في داخله ، وادعت أن ما قامت به هو استجاية لتدخل مقدس. وتطورت قضية المسجد منذ ذلك الحين بعد أن رفعت دعاوى تطالب بتثبيت ملكيتهم الوحيدة للمسجد ، ووصلت المشكلة أوجها في عام 1984 ، وذلك عندما نظمت مجموعة من الهندوس المتشددين مظاهرة تدعو إلى تحرير مكان ولادة الإله رام ولكن اغتيال رئيسة الوزراء أنديرا غاندي آنذاك وما تبعها من عمليات قمع قامت بها الشرطة حالت دون ذلك.
وجد حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي الفاشيستي في قضية المسجد فرصة ذهبية لا يمكن تضييعها على الإطلاق في ظل ديمقراطية تسمح له بممارسة التحريض والتزمت وبث الفرقة ، وإثارة النعرات في سبيل الحصول على مكاسب انتخابية تضمن له الوصول إلى السلطة ؛ وإن كان على حساب الأملاك والأرواح والقيم والمثل. وبالفعل ساعدت السياسة النفعية المحضة واللا أخلاقية الحزب الهندوسي الفاشيستي على كسب المزيد من الأصوات ، واستمالة شرائح واسعة من المجتمع الهندوسي مما زاد من شهيته وحضه على تصعيد العداء الديني ، وبث الروح الهندوسية وإحياء الماضي والدعوة إلى إقامة مجتمع هندي خالص ؛ لذا جاء في دليله الخاص على لسان الفيلسوف "أ. م. غولكار" أن المسلمين في الهند والمسيحيين والشيوعيين يمثلون خطراً أجنبياً على الهند وأن ما هو مطلوب منهم ليس إلا التخلي عن ردائهم الأجنبي المعقد ، ودمج أنفسهم في التيار الوطني المشترك ، وهو بالطبع القومية الهندوسية. وقد ساعدت الحزب الهندوسي عوامل محلية عديدة منها اعتقادات خاطئة ومنتشرة على نطاق واسع في صفوف الهندوس مفادها أن المسلمين يتكاثرون بسرعة فائقة تفوق سرعة تكاثر الهندوس ، وأن الأحزاب بمجملها - وعلى رأسها حزب المؤتمر - تحابي المسلمين في سبيل كسب أصواتهم مما يسمح للأقلية - وهم المسلمون - أن تفسد الأغلبية الهندوسية. والأكثر اعتقاداً أن المسلمين ناشطون في مجال الدعوة ويقومون عملياً بتغيير معتقدات الطبقات الهندوسية الدنيا وعلى رأسها طبقة المنبوذين.
ويعتقد حزب بهاراتيا أنه في سبيل تنفيذ سياسته أو برنامجه الانتخابي كما هو متعارف عليه في النظام الديموقرطي لابد له من الوصول إلى السلطة حتى يتسنى له تغيير الدستور والقوانين التي يمثل وجودها عائقاً أمام تحقيق برنامجه الذي يتضمن فيما يتضمن هدم المسجد البابري ، وتشييد معبد هندوسي على أنقاضه بذريعة أن الأرض للهندوس وأن المكان شهد ولادة الإله رام إله التسامح والمحبة. وهكذا استطاع الحزب ضمان أرضية انتخابية تضمن له نجاحاً بارزاً في أية انتخابات قادمة وبالتالي دخول السلطة من بابها السهل بغض النظر عن الأسلوب طالما أن الغاية تبرر الوسيلة.(55/310)
ليست الغرابة في طبيعة حزب بهاراتيا - الذي هو أصلاً لا يعدو عن كونه حزباً فاشياً عضويته مقصورة على الهندوس ، ويقوده زعماء سبق أن كانوا قادة في حزب جان سانغ المتطرف ، والمعادي للإسلام والمسلمين والمنادي بفرض اللغة الهندوسية على جميع سكان الهند ورفض إعطاء تنازلات للأقليات سواء أكانت متعلقة باللغة أو التعليم أو قوانين الأحوال الشخصية - بل الغرابة هي مسارعة بقية الأحزاب العلمانية للتعامل والتنسيق معه في الحملات الانتخابية بغية إخراج حزب المؤتمر من السلطة. حيث لم يتلكأ حزب جانتا دال عن التحالف مع حزب بهاراتيا في عام 1989م التي انتهت بفوز الأخير في 63 مقعداً مما جعله أكبر حزب معارض في البرلمان الهندي ، وبالتالي صار قادراً على إسقاط أية حكومة لا تستجيب إلى بعض مطالبه.
الحقيقة تقال إن نجاح حزب بهاراتيا يعود في معظمه إلى فشل التجربة الديموقرطية في الهند بسبب ممارسات خاطئة انتهجها حزب المؤتمر أكبر أحزاب الهند والذي تزعم هو وحزب الرابطة الإسلامية تحرير الهند من بريطانيا مستفيداً من ثورة المسلمين الكبرى على الإنجليز عام 1857م . وسبب فشل هذا الحزب بالذات ناتج عن عجزه عن متابعة المسار الذي خطه له جواهر لال نهرو والقائم على حفظ التوازنات بين جميع القوى الفاعلة ، وتنشيط كوادر الحزب والاستجابة لمطالبها على مستوى الولايات ، وضمان تمثيل معتدل لها في السلطة المركزية. فقد تحول حزب المؤتمر بعد وفاة جواهر لال نهرو وتولي أنديرا غاندي قيادته إلى حزب عائلي محض يتمحور حول شخصية أنديرا غاندي التي أصبحت هي الحزب والحزب هي ، بمعنى أن برنامجه الانتخالي أصبح محصوراً ومرتبطاً بشخصها بعدما كان في الماضي يعتمد على الكوادر المحلية في كل ولاية. وهذا التوجه أدى إلى تراجع شعبية الحزب الذي لم يعد قادراً على إنتاج شخصيات مستقلة تستطيع ممارسة سياسة تتعارض مع قائد الحزب طالما هي في النهاية تصب في مصلحة الحزب والمجموع. لم يتراجع هذا النهج بعد وفاة أنديرا غاندي بل تعزز مع وصول ابنها راجيف غاندي الذي قام بتعيين الوزراء في المقاطعات على أساس الولاء الشخصي والمحسوبية الضيقة والمصلحة الآنية وبالتشاور مع دائرة محدودة من المقربين والمنتفعين دون الرجوع إلى آراء الكوادر الحزبية.
لم يتردد راجيف غاندي في اتباع أية وسيلة ، وممارسة سياسات ضارة منها : الاستجابة للروح القومية الهندوسية ، وإثارتها في سبيل كسب أصوات انتخابية ، وسحب هذه الورقة من الأحزاب الهندوسية المتطرفة. واتضحت تلك السياسة الطائفية ووصلت نتيجتها الحتمية عندما أصدرت إحدى المحاكم المحلية - بإيعاز غير مباشر من حزب المؤتمر - قراراً ينقض حكماً سابقاً بخصوص مسجد البابري - مضى على صدوره 36 عاماً - ويسمح بالتالي للهندوس بممارسة الشعائر الدينية أمام تمثال الإله رام الذي وُضع داخل المسجد في سنة 1949م.
لم تسفر سياسة الاسترضاء عن أية نتيجة إيجابية سوى تعزيز قدرة الأحزاب المتطرفة ، وتشجيعها على زيادة مطالبها ، وبالتالي رفع حدة التقسيم داخل المجتمع الهندي على أساس الوازع الديني ، والإيذان بمرحلة جديدة يقودها التطرف ويُحكم مسارها الحقد والكراهية ؛ لذا لم يتردد زعيم حزب بهاراتيا بالقول : "إن ما حدث في أيوديا كان بداية أساس للوطن الهندي" ! .
إن التجربة التي عاشتها الهند أخيراً تستدعي من القادة الهنود الوقوف قليلاً ، والتبصر بحكمة وصبر ورويَّة في أبعاد السياسات التي تنتهجها الأحزاب الهندوسية المتعصبة ووضع خطة جديدة تلائم الواقع الهندي ، وتنسجم أكثر مع شعارات الديموقرطية التي ترفعها ، وتأكيد الحكومة - فعلاً لا قولاً - أنها تعني ما تقول حتى تعطي لنفسها المصداقية. وكنا نتمنى أن لا تبدأ سلسلة التراجعات الهندية الرسمية التي بدأت بالوعد من قِبَل رئيس الوزراء ببناء المسجد ثم تحولت إلى بناء مسجد ومعبد في نفس المكان ولكنها انتهت عملياً ببناء المعبد وإقفال ملف المسجد !.
============(55/311)
(55/312)
يا أدعياء التسامح والديمقراطية من يكره من
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن العداء القائم ضد الإسلام والمسلمين وخاصة في كثير من الدول الغربية هو نتيجة طبيعية للصورة النمطية التي رسمها كثير من الكتاب والباحثين والمستشرقين والمنصّرين والتي تقوم على رسم المسلمين على أنهم عنصريون وأغبياء ومتخلفون وقتلة، وأنهم لا يستحقون الحياة، ومن ثم تتم الإساءة لدينهم ونبيهم عليه الصلاة والسلام، وهذا ما يسوّدون به كتاباتهم منذ قرون.
ولم يكن ذلك وليد ما حصل مؤخراً مما أثارته صحيفة دانماركية بنشرها عدداً من الكاريكاتيرات وما أحدثته تلك الهجمة من ردود أفعال كبرى من المسلمين نصرة لنبيهم عليه الصلاة والسلام، ورفضاً لكل ما يسيء له؛ فإن ديمقراطيتهم المزعومة التي ينشرونها ويطالبون بتطبيقها وتتولى كثير من دولهم المقاتَلة على إقرارها مما هو معروف للجميع، وسنوضح كذبها وعدوانيتها وكراهيتها للإسلام ووصم ثقافته بأنها تقوم على الكراهية كما يزعمون!!
ونحن نتساءل بكل صراحة: هل من الديمقراطية والحرية الإساءة للآخرين والسخرية من أديانهم؟ وهل من الديمقراطية والحرية إهانة أنبياء الله المرسلين؟ أو حتى الإساءة والإهانة ولو لإنسان واحد بدون وجه حق؟
ثم أين ما يزعمون من حقوق في حرية الدين؟ وأين ما يدَّعونه من دعاوى حقوق الإنسان؟ وأين احترامهم لما في دساتيرهم من احترام للقيم الدينية والإنسانية؟ ولماذا يقتصر الاحترام لأمور بعينها تخصهم؟ حتى إنهم يجرِّمون من يتجرأ على مجرد ذكرها والتشكيك فيها كما في «مسألة الهولوكست» إلى حد أنه يمكن أن يعاقب ويسجن كل من ناقشها ولو ببحث علمي بحت كما حصل في حق «جارودي» حيما ألف كتابه الشهير «الدولة الصهيونية والأساطير المؤسسية» حيث شُهِّر به وعوقب وهو في أرذل العمر.
وأخيراً وليس آخراً نشرت وكالات الأنباء العالمية إدانة محكمة نمساوية في 21/2/2006 المؤرخَ البريطاني (ديفيد ارفنج) لإنكاره (الهولوكست) وحكمت عليه بالسجن 3 سنوات وكان معتقلاً منذ نوفمبر 2005، والويل لمن يجرؤ على الكلام بالنيل من الصهاينة حتى ولو كان ذلك بالحقائق!!
بينما الإساءة للإسلام والمسلمين قائمة في وسائل إعلامهم المرئية والمكتوبة والمسموعة؛ حيث تؤثر تأثيراً سلبياً وسيئاً في حق دين سماوي، ومن ثم التنفير من أن الإسلام مع أنه هو الدين الذي احترم الأديان الأخرى ولا يصح إسلام مسلم ما لم يؤمن بالإله ـ جل وعلا ـ وملائكته وكتبه ورسله، ولا يفرق بين أحد منهم، وأشاد بالأنبياء كلهم وساق قصصهم، وصحح كثيراً من الأخطاء التي نُسبت لهم مما يدفع كل قارئ منصف لأن يُعجَب بهذا الدين ويعلن إسلامه؛ ولذلك يعلن كثير من الغربيين إسلامهم ولسان كل واحد منهم: (لقد كسبت محمداً (- صلى الله عليه وسلم -) ولم أخسر المسيح) وهذا ما جعل متطرفيهم يعلنون العداء والعنصرية البغيضة ومحاربة ديننا الحنيف بدون وجه حق؛ خوفاً من أن ينتشر هذا الدين بينهم لما يتميز به من قيم أخلاقية ومبادئ إنسانية، وكما قيل: الإنسان عدو ما جهل. هذه مواقفهم غير الموضوعية؛ فمن يكره من؟
إن المتابع المنصف يلمس عداء القوم للإسلام والمسلمين في صور شتى معروفة كثيراً ما يسيئون بها لديننا، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1 ـ الإساءة والإهانة لنبي الإسلام من خلال تلك الرسوم الكاريكاتورية المهينة، وهو ما أحدث ردود فعل كبرى لدى المسلمين في شتى ديار الإسلام، وحينما طالب المسلمون الدانماركيون بالاعتذار عن تلك الخطيئة رفضت الصحيفة في شخص رئيس تحريرها الاعتذار، وحينما رُفِعَ الأمر للقضاء رفض القضاء عندهم الشكوى بدعوى أن ذلك حرية رأي لا يملكون حيالها رداً، وزاد طغيانهم وعنصريتهم وحقدهم يوم قامت المقاطعة الشعبية لمنتجات المستهزئين بنا والتي لم يتوقعوها، وأحدثت في أيام محدودات أضراراً كبرى على اقتصادهم مما جعل رئيس وزرائهم بعد عدة أشهر يطالب بتهدئة الأمور؛ فهو تارة يعتذر، وتارة يصرّ على عدم الاعتذار؛ فمن يكره من؟
2 ـ إعادة العديد من الصحف والمجلات الأوروبية في فرنسا وإيطاليا والسويد والنرويج لتلك الرسومات المهينة نفسها مع ما فيها من إساءة وإهانة للمسلمين؛ فمن يكره من؟
============(55/313)
(55/314)
المعارضة مبغوضة . . . والمظاهرة مرفوضة
ماذا ينقمون من حكامنا ؟
ماذا يريدون من بلادنا ؟
إنهم يحاربوننا في ديننا !
يحيى بن موسى الزهراني
الحمد الله رب الأرباب ، وقاهر الصلاب ، ومسبب الأسباب ، وخالق الإنسان من تراب ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الغفور التواب ، شديد العقاب ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأواب ، والرسولل التواب ، صلى الله وسلم عليه ما ظهر نجم وغاب ، وعلى آله وأهل بيته خير الأهل والأحباب ، وعلى الصحابة الكرام أفضل الخلان والأصحاب ، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب . . وبعد :
خلق الخلق لعبادته سبحانه دون سواه ، فقال سبحانه : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " [ الذاريات 56 ] ، ولما خلقهم لعبادته فمنهم من آمن بربه ، ومنهم من كفر ، فمن آمن فله الرضا والجنة ، ومن كفر فله السخط والنار ، ومن حكمة المولى جلت قدرته أن جعل في الناس من يتولى أمورهم ويجمع كلمتهم ، ويلم شعثهم ، ويسوسهم بسياسة الإسلام الخالدة ، فما من قوم ولا دولة إلا وكان فيهم ملوكاً وأمراءً وخلفاء يديرون شؤون الدولة ، ويرعون حق الرعية ، ولا يمكن أن تقوم لدولة من الدول قائمة إلا إذا التأم شملها ، وتلاحم أفرادها ، واجتمع شعبها ، وأمَّروا أحدهم عليهم ممن يخاف الله تعالى ، ويعمل بشرعه ، ويُحكِّم سنة نبيه فيهم .
فأمر الخلافة والملك والإمرة في الشعوب من أعظم أسباب استقرارها ، واستتباب أمنها ، وهو أمر مجمع عليه بين العلماء قاطبة ، وغلت فيه طائفة الشيعة وجعلوها ركن الدين وقاعدة الإسلام ، وألصقوها بآل البيت بعلي بن أبي طالب وبنوه رضي الله عنهم أجمعين [ مقدمة ابن خلدون 190 بتصرف ] .
وكما قلت : فقد أجمعت الأمة على وجوب عقد الإمامة أو الولاية أو وجود حاكم يحكم البلاد ولا يتركها هملاً ، وأجمعت الأمة أيضاً على وجوب الانقياد والطاعة لمن تم اختياره والياً أو حاكماً يحكم بالعدل والسوية بين الناس ، ويقيم فيهم أحكام الله تعالى ، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم
وقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم بمجرد أن بلغهم نبأ وفاة رسول ا صلى الله عليه وسلم بادروا إلى عقد اجتماع في سقيفة بني ساعدة ، وتركوا أهم الأمور لديهم في تجهيز رسول ا صلى الله عليه وسلم وتشييع جثمانه الطاهر ، وتداولوا في أمر الخلافة .
وهم وإن اختلفوا في بادئ الأمر حول الشخص الذي ينبغي أن يبايع ، أو على الصفات التي يجب أن تتوفر فيمن يختارونه ، إلا إنهم لم يختلفوا في وجوب نصب إمام للمسلمين ، ولم يقل أحد مطلقاً لا حاجة إلى ذلك ، وبايعوا أبا بكر رضي الله عنه ، ووافق بقية الصحابة الذين لم يكونوا حاضرين في السقيفة ، وبقيت هذه السنة في كل العصور ، فكان ذلك إجماعاً على وجوب نصب الإمام .
وهذا الوجوب للكفاية ، فإذا قام به من هو أهله سقط الإثم عن الجميع ، وإن لم يقوموا به أثم من الأمة فريقان :
1- أهل الاختيار وهم : أهل الحل والعقد من العلماء ووجوه الناس ، حتى يختاروا إماماً للأمة .
2- أهل الإمامة وهم : من تتوفر فيهم شروط الإمامة ، إلى أن يُنصب أحدهم إماماً .
وشروط الإمامة المتفق عليها بين العلماء ما يلي :
أولاً / الإسلام : وهذا معلوم لقوله تعالى : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً " [ النساء 141 ] .
ثانياً / التكليف : ويشمل العقل والبلوغ ، فلا تصح إمامة الصبي والمجنون ، لأنهما في ولاية غيرهما ، فلا يليان أمور المسلمين .
ثالثاً / الذكورة : فلا تصح إمامة النساء ، لحديث أَبِي بَكْرَةَ قَالَ : لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ أَيَّامَ الْجَمَلِ ، لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى قَالَ : " لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً " [ أخرجه البخاري ] .
رابعاً / الكفاية ولو بغيره : والكفاية هي الجرأة والشجاعة والنجدة ، بحيث يكون قيماً بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود والذب عن الأمة .
خامساً / الحرية : فلا يصح عقد الإمامة لمن فيه رق ، لأنه مشغول بخدمة سيده .
سادساً / سلامة الحواس والأعضاء : مما يمنع استيفاء الحركة للنهوض بمهام الأمة .
هذه هي الشروط المتفق عليها بين العلماء ، وهناك شروط أخرى مختلف فيها كالعدالة والاجتهاد والنسب [ الموسوعة الفقهية 6 / 217 ، مقدمة ابن خلدون 185 وما بعدها ] .
فإذا عرفنا ذلك وأيقنا به ، فإن من أعظم ما أمر الله به طاعة ولاة الأمر ، لا سيما إن كانوا يحكمون بشريعة الرحمن جل وعلا ، ويظهرون في الناس سنة نبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ . . " [ النساء 59 ] ، وقال تعالى : " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " [ النساء 65 ] .(55/315)
فإذا تم تنصيب من وجدت فيه أسباب الخلافة والملك والولاية ، فيجب على جميع الناس طاعته واتباع أمره ، والحذر من الخروج عليه ، فإن الخروج عليه سبب من أسباب دخول جهنم والعياذ بالله ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ " [ أخرجه البخاري ] ، وعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ : مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ رَضِي اللَّه عَنْه فَقُلْتُ لَهُ : مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا ؟ قَالَ : كُنْتُ بِالشَّأْمِ ، فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي ( الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) قَالَ مُعَاوِيَةُ : نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَقُلْتُ : نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ ، فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ رَضِي اللَّه عَنْه يَشْكُونِي ، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ : أَنِ اقْدَمِ الْمَدِينَةَ ، فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ فَقَالَ لِي : إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ فَكُنْتَ قَرِيبًا فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ " [ أخرجه البخاري ] ، وعن جَرِير رَضِي اللَّه عَنْه قال : بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمعَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] ، وقا صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ، وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي ، وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي ، وَإِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ ، وَيُتَّقَى بِهِ ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا ، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ " [ أخرجه البخاري واللفظ له ومسلم ] .
فتلك النصوص الشرعية تبين وجوب طاعة الأمير ومن تولى زمام الأمور في الدولة ، وحاكمها الأعلى ، ثم طاعة من ولاه الملك على أمور المسلمين في كل مدينة أو محافظة من مدن ومحافظات تلك الدولة ، فلن تسير سفينة الدولة إلى بر الأمان إلا بالطاعة لولي الأمر ، وعدم مناقضته أو مناهضته ، فإن ذلك يفضي إلى دمار الديار ، وخراب العمران ، وسفك الدماء ، حتى يعيش الجميع وكأنهم في غابة يأكل فيها القوي الضعيف ، وتستبد فيها الأمور ، ويهلك الضعفاء والفقراء ، والنساء والأطفال وكبار السن ، فإن كان ذلك هو الحاصل فعلاً ، فلابد من حاكم يحكم الرعية ويتولى خطام أمرها ، ثم يجب على الرعية السمع والطاعة له ، عَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَت : حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمحَجَّةَ الْوَدَاعِ ، فَرَأَيْتُهُ حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَانْصَرَفَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ، وَمَعَهُ بِلَالٌ وَأُسَامَةُ ، أَحَدُهُمَا يَقُودُ بِهِ رَاحِلَتَهُ ، وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلممِنَ الشَّمْسِ ، قَالَتْ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمقَوْلًا كَثِيرًا ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ : " إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ ، قَالَتْ : أَسْوَدُ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا " [ أخرجه مسلم ] ، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .(55/316)
دل الحديثان على ما قلته سابقاً من وجوب طاعة الأمير ولو كان ظالماً ، كما حصل للصحابة رضوان عليهم من طاعة الحجاج بن يوسف الثقفي وهو من هو في الظلم والتعسف ، ولكن خوفهم رضي الله عنهم من تفرق الأمر ، وشق عصى المسلمين ، وافتراق أمرهم ، ووجود النفاق والشقاق ، واتباعاً للكتاب والسنة ، وعلمهم بما سيؤول إليه الأمر لو نابذوه بالسيوف ، كل ذلك كان سبباً في صبرهم على الظلم ، وتحملهم للفضاضة والغلظة ، وعدم الخروج على الوالي والحاكم مهما بلغ من ظلمه وجوره ما لم يأمر بمعصية الله تعالى ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ : دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ ، فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمفِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا ، فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ ، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمالصَّلَاةَ جَامِعَةً ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمفَقَالَ : " إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا ، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا ، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ : هَذِهِ مُهْلِكَتِي ، ثُمَّ تَنْكَشِفُ ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ : هَذِهِ هَذِهِ ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ ، فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ لَهُ : أَنْشُدُكَ اللَّهَ آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ ، وَقَالَ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ ، وَوَعَاهُ قَلْبِي ، فَقُلْتُ لَهُ : هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ ! يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ ، وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا ، وَاللَّهُ يَقُولُ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) قَالَ : فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ : أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ، وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ " [ أخرجه مسلم ] ، عَنْ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قال : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّا كُنَّا بِشَرٍّ ، فَجَاءَ اللَّهُ بِخَيْرٍ فَنَحْنُ فِيهِ ، فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ، قُلْتُ : هَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الشَّرِّ خَيْرٌ ؟ ، قَالَ : " نَعَمْ " ، قُلْتُ : فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ، قُلْتُ : كَيْفَ ؟ قَالَ : " يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي ، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ ، قُلْتُ : كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : " تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ ، وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ " [ أخرجه مسلم ] .
سأل رجل علياً رضي الله عنه : ما بال المسلمين اختلفوا عليك ، ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر ؟ فقال : لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي ، وأنا اليوم وال على مثلك [ مقدمة ابن خلدون 203 ] ، يشير رضي الله عنه إلى وازع الدين ، فكأن من لديه دين لا ينازع الأمر أهله ، ومن ليس لديه دين فإنه يحارب ولاة أمره ويشنع عليهم ويكيل لهم التهم الباطلة ، فهل هذا أهل لأن يكون حاكماً أو يكون داعية متبعاً ، كلا ورب الكعبة ليس هو كذلك ، بل هو الذي لابد أن ينابذ بالسيف ويخرس لسانه وتقطع أركانه ، لإثارته الفتن والقلاقل ، ولإيجاد المشاكل .
وقد حرم العلماء بالإجماع الخروج على ولي الأمر مهما ظهر فسقه وشاع جوره وظلمه .
قال الحنفية : يُدعى له بالصلاح ونحوه ، ولا يجب الخروج عليه .(55/317)
وقال الدسوقي : يحرم الخروج على الإمام الجائر ، لأنه لا يُعزل السلطان بالظلم والفسق وتعطيل الحقوق بعد انعقاد إمامته ، وإنما يجب وعظه وعدم الخروج عليه ، إنما هو لتقديم أخف المفسدتين ، إلا أن يقوم عليه إمام عدل ، فيجوز الخروج عليه وإعانة ذلك القائم .
ونحن نقول : هل وجدنا على ولاة أمرنا ما ننقمه عليهم ، بل ظاهر أمرهم الخير والعدل وما دعوتهم إلى فعل الخير وبذل المعروف إلا دليل على ذلك ، فهاهم يحثون الناس على إقامة الصلوات في بيوت الله تعالى ، ويأمرون الناس بإخراج زكاة أموالهم ، ويرغبون في أداء الحج والعمرة ، والمشاركة في المشاريع الخيرية الهادفة البناءة ، ثم هاهم يدعمون جمعيات تحفيظ القرآن الكريم ويكرمون طلبتها والمشاركين فيها ، وهاهم يدعون إلى وحدة الكلمة بين المسلمين ، ودعم الفقراء داخل وخارج البلاد ، فهلا عقل المسلمون ذلك ؟ وأعرضوا عن أولئك المخربون الداعون إلى الفساد والإفساد .
قال الإمام مالك رحمه الله : إن كان الإمام مثل عمر بن عبد العزيز وجب على الناس الذب عنه والقتال معه ، وأما غيره فلا ، دعه وما يراد منه ، ينتقم الله من الظالم بالظالم ، ثم ينتقم من كليهما .
وفي ولاية الواثق اجتمع فقهاء بغداد إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، وقالوا : هذا أمر قد تفاقم وفشا ـ يعنون إظهار القول بخلق القرآن ـ نشاورك في أنا لا نرضى بإمرته ولا سلطانه ، فقال : عليكم بالنكرة بقلوبكم ، ولا تخلعوا يداً من طاعة ، ولا تشقوا عصى المسلمين .(55/318)
هكذا كان العلماء النبلاء الفضلاء ، يرعون حق الراعي والرعية ، ويخشون من تفاقم الوضع وخطورته حال الخروج على ولي الأمر من سفك الدماء المعصومة بغير وجه حق ، فالخير والشر موجودان في بني الإنسان ، ولا يظنن ظان أن شأنه كله خيراً ، أو كله شراً ، وإن كان هناك من العلماء من شأنه الخير كله ، لكن جل الناس اليوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، فعسى الله أن يتوب علينا وعليهم ، والكمال مطلوب ، والتقصير موجود ، إذ لا يمكن أن يكون هناك حاكم يُرضي جميع الأهواء ، فالله جل جلاله ، ورحمته بخلقه لم يُرضهم بل قالوا : " إن الله فقير ونحن أغنياء " ، وقالوا : " يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " ، فرب العزة والجلال تعرض لأذى بني الإنسان ، فكيف بالإنسان نفسه ، لا يمكن بحال أن يرضي الأهواء والرغبات ولكنه التسديد والمقاربة ، ومحاولة ترميم القلوب ، ورأب الصدع ، ليعود الأمن والاستقرار إلى ربوع البلاد ، فرضا الناس غاية لا تدرك ، وهذا مفهوم معلوم لدى العامة والخاصة ، فإذا كان ذلك كذلك ، فيجب طاعة ولي الأمر بالمعروف ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ " [ أخرجه البخاري ] ، عَنْ عَلِيٍّ بن أبي طالب رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلمسَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ ، فَغَضِبَ فَقَالَ : أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلمأَنْ تُطِيعُونِي ، قَالُوا : بَلَى ، قَالَ : فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا ، فَجَمَعُوا ، فَقَالَ : أَوْقِدُوا نَارًا فَأَوْقَدُوهَا ، فَقَالَ : ادْخُلُوهَا ، فَهَمُّوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا ، وَيَقُولُونَ : فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّارِ ، فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] ، وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ : دَعَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلمفَبَايَعْنَاهُ ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا : أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا ، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا ، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ " [ أخرجه البخاري ] ، وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أيضاً قَالَ : بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمعَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ رَضِي اللَّه عَنْه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .(55/319)
فتلكم النصوص تدل دلالة قاطعة على وجوب الطاعة لولي الأمر ما لم يأمر بمعصية الخلق جل وعلا ، فإذا أمر بذلك فلا طاعة له ، كمن يأمر بخلع حجاب المرأة ، أو يأمر بإشاعة الزنا واللواط والمتعة بالنساء واستعارة الفروج ، أو يأمر بالربا والرشوة ويأمر الناس بذلك ، فهذا لا طاعة له ، لكن على جميع المكلفين العارفين من العلماء وطلبة العلم ومن لهم الكلمة بذل النصيحة والتحذير من تفاقم الوضع ، فلربما حقت كلمة العذاب على تلك الديار ، بسبب المعاصي وشيوع الآثام ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " الدِّينُ النَّصِيحَةُ " ، قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَالَ : " لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ " [ أخرجه مسلم ] ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمقَالَ : " خِيَارُ أَئِمَّتِكُمِ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمِ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ " ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ ؟ ، فَقَالَ : " لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ ، فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ ، وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ " [ أخرجه مسلم ] ، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ : وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلميَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، فَقَالَ رَجُلٌ : إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ ، يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ، فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ " [ أخرجه الترمذي واللفظ له وأبو داود وابن ماجة ] .
ونحن في هذه البلاد المباركة بلاد الحرمين الشريفين حرسها الله من كل سوء ومكروه ، وبارك في ولاة أمرها ، وأعانهم على أمور دينهم ودنياهم ، نحن نعيش في ظل أمن وراف ، وأمان عام ينعم به العامة والخاصة ، ولله الحمد والمنة ، ولم نر من ولاة أمرنا ما يدعو لقتالهم لا سمح الله ، ولا ما يدعو للخروج عليهم ، أو التحريض عليهم وعلى حكمهم ، بالمظاهرات والكتابات المشينة ، أو هتك الأسرار ، وبث الأخبار ، فكل ذلك من الخروج على ولي الأمر بلا بينة ، القصور موجود في كل زمان ومكان ، فالفقراء موجودون في عهد صلى الله عليه وسلم ، وكذلك بعض الكبائر ، كل ذلك وجد في العصور المفضلة ، والقرون الأولى .
ألا فليعلم كل مسلم ومسلمة أن ما تدعوا إليه قناة الإصلاح ، ومن يتشدقون فيها بأفواه الكفار والمنافقين والعلمانيين والشيعة الرافضة واليهود والنصارى ، ليعلم الجميع أنما يريدون أن يحل ببلادنا ما حل بإخواننا في فلسطين والعراق اليوم ، وما حل لسبإ بالأمس ، قال تعالى : " لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور " [ سبأ 15 - 17 ] ، وقال تعالى : " وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " [ النحل 112 ] ، فتلكم عاقبة الكفر بنعم الله تعالى ، وعدم شكره على مننه وأفضاله ، والبعد عن تعاليم شرعه ، واقتراف نهيه وزجره .
فتلكم القناة التي تدعو إلى الإصلاح في ظاهر أمرها ، وهي في حقيقة باطنها تدعو إلى الاختلاف والفرقة ، والخروج عن تعاليم الكتاب العظيم ، والسنة المطهرة ، ونبذ ولاة الأمر وفقهم الله لكل خير ، فماذا يريدون ؟ وإلى ماذا يدعون ؟ ولماذا يخططون ؟(55/320)
إنهم يريدون المساس بأمن البلاد والعباد ، ويدعون إلى الحرية والتفسخ من تعاليم الشرع الحنيف ، والسنة النبوية ، يريدون أن تخلع المرأة جلبابها ، وتهتك ستارها ، يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وقد قال الله تعالى في محكم التنزيل : " إن الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون " [ النور 19 ] ، فأولئك الإصلاحيون ـ زعموا ـ ما هم إلا تخريبيون مظللون ، درسوا في الغرب واستقوا شريعتهم الكافرة ، ورضعوا أفكارهم المسمومة المشوهة ، انتكست مفاهيمهم ، وتغيرت فطرهم ، وغسلت أدمغتهم ، ولويت أعناقهم ، فرأوا المنكر حقاً ، والمعروف باطلاً ، تحركهم أيد الخراب اليهودية ، والدمار النصرانية ، تديرهم أيد عابثة شيعية وأخرى علمانية ، هدفهم نزع الدين من قلوب المسلمين ، وإخراج المرأة المسلمة من بيتها ، حتى تكون فريسة لشهواتهم الحيوانية ، ورغباتهم السفيهية ، ونزواتهم البهيمية ، يتحركون كالريموت بأيد الكفار والمنافقين والمرجفين في الأرض ، لا يريدون الاصلاح ولا الصلاح ، وإنما الفساد في الأرض أرادوا ، وأي إصلاح يبتغون وهم يفضحون ولاة أمرهم ، وقادتهم وحكامهم ، ويتتبعون عوراتهم ولا شك أن ذلك منكر من القول والعمل ، وربما انطلى الأمر على البعض ممن جهل حيلهم وألاعيبهم ، ولكن المفرح لنا والمحزن لهم أن الجميع هنا عرفوا باطلهم فتركوه ، وأيقنوا بمخططاتهم فنبذوها وأعرضوا عنها ، وعلم الجميع أن هناك أيد خفية تريد المساس بالأمن ، ونزع الأمان ، تريد أن تدخل القوات الأجنبية إلى بلاد الحرمين الشريفين ، ووالله لن يتم لهم ذلك بحول الله وقوته إلا وقد قدمنا جماجمنا فداءً للدين والوطن ، وسيرنا أجسادنا جسوراً للجهاد في سبيل الله تعالى ، من أجل حماية الدين والعرض والوطن ، ودفاعاً عن ولاة الأمر حفظهم الله تعالى .
وما تلكم المظاهرات إلا نتاجاً سيئاً من نتائج أعمالهم ، ودليلاً بيناً لسوء نياتهم ، وخبث طوياتهم ، فمن يا ترى سيذهب ضحية تلك الفوضى العارمة والمظاهرات الفاشلة ؟ أليس كل أخ أو قريب لنا في هذه البلاد ، فالمتظاهر من بلدنا والمدافع ورجل الأمن من بلدنا ، فالكل يهمنا ، فهل اهتم أهل الإصلاح بذلك ؟ لا والله ما اهتموا ولن يهتموا ، فربما قتل الأخ أخاه ، والجار جاره ، فأصبحنا نطالب بدماء بعضنا بعضاً ، حتى تسيل الدماء وتقع البغضاء ، وليس لها من دون الله كاشفة .
مخططاتهم لا تخفى على السفيه فضلاً عن العاقل الفطن ، الذي وهبه الله العقل والتفكير ، فهم يخططون لزرع البغضاء ، وإيجاد الشحناء بين الراعي والرعية ، يثيرون الفتن ، ويؤججون نيران المحن ، ويؤلبون الناس على حكامهم ، وأنهم فعلوا بهم كذا وكذا ، يفترون الكذب ، ويختلقون الافتراء ، وطويتهم تخفي العداء ، يريدون الإطاحة بمن يحكم بشريعة الله تعالى ، فإن أطاعهم الناس في ذلك فحتماً ستقع من البلايا والرزايا ما لا يعلمه إلا الله تعالى .
قولوا لي بربكم : كيف تسير الأمور وقد خرجت عن نصابها ؟ كيف وقد أصبحنا في غابة لا حاكم لها ؟ ستحدث الفوضى ، ويكثر الهلكى ، كما شاهد ملايين البشر ما حدث في العراق الشقيق إبان الإطاحة بحاكمه ورئيسه ، لقد رأينا بأم أعيننا ما حصل من جرائم تصفيات جسدية ، وسرقات علنية ، ونهب واضح ، وتعد على الأعراض والممتلكات ، لا أمن ولا أمان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
إن من يريدون الإصلاح يدعون إلى قيادة المرأة للسيارة ، ولا ريب أن كل مسلم غيور ، وعلى قول الحق جسور ، لا يرضى بقيادة المرأة للسيارة لما في ذلك من الفتن والمفاسد التي ربما قضت على الأمن والاستقرار في ربوع البلاد ، وهم يدعون إلى ذلك ، ويرغبون الناس فيه لاسيما الطبقات المترفة في البلاد ، ويدعون إلى الإباحية لما شاهدوه في بلاد الكفر والعهر والفجور ، يريدون خروج المرأة عارية وشبه عارية إلى الأسواق والمنتديات العامة ، يريدون المرأة المسلمة السعودية الأبية بنت القبائل والرجال أن تخرج وتخالط الرجال حتى ينقض عليها سفلة الذكور منهم ، فيمزقون حياءها ، ويدمرون شرفها ، ويدنسون عفافها ، ويضعون كرامتها .
وأي أب أو أخ أو زوج يرضى بمثل تلك الدعاوى الباطلة ، والحجج الزائفة ، والأفكار الغادرة التي تدعو لها قناة الإصلاح ؟
يدعون للإصلاح وفي الحقيقة يسعون في الأرض فساداً ، لقد حق عليهم قول ربنا تعالى : " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون " [ البقرة 11 ] .
يريدون أن يحصل لنا من الشرور والمفاسد ما حصل ويحصل الآن في العراق وفلسطين وغيرهما من الدول والشعوب ، من اختلاف في الرأي والمشورة والهدف ، وهاهو العالم بأسره يرى ما يحصل في كثير من بلدان العالم بسبب الخلاف على الرئاسة وتنحية الرؤساء من حروب أهلية ، وتناحرات عصبية ، وويلات تئن منها الأوطان والبلدان .(55/321)
يريدون أن تحل الديموقراطية المزعومة في بلادنا ، يريدون العلمانية شعاراً ونبراساً ، يريدون احتلال أراضي المسلمين ، والاستيلاء على المقدرات ، ونهب النفط والثروات ، ولا غرابة أنهم يريدون ذلك ، لأن وراء تلكم القناة البائسة دولتي الكفر الصليبية واليهودية ، فمنشؤها بريطانيا وأمريكا ، وتمولها إسرائيل وغيرها ممن يظهرون العداء لأهل السنة والجماعة من الشيعة وغيرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ، أطماعهم معروفة مفضوحة والله لهم بالمرصاد ، فالله يدافع عن الذين آمنوا .
يطمعون في زعزعة الأمن ، وإزاحة الحاكم الإسلامي الذي يحكم بشرع الله تعالى ، وفق منهج النبي صلى الله عليه وسلم
لقد حق عليهم قول الله تعالى : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو أشد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد " [ البقرة 204-206 ] ، ويقول الله فيهم : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون " [ الأنفال 36 ] .
فلم لا يذهبون إلى الدول المحيطة بنا ، والبعيدة عنا فينشرون صلاحهم وإصلاحهم ، ويبسطون هناك آمالهم ، في دول فسد فيها الراعي والرعية ، وهلك السائل والمسؤول ، لا لا يمكن أن يذهبوا هناك ، فهناك هلك الدين ، وهُجرت سنة الحبيب r ، وتم تحكيم القوانين الوضعية البشرية ، وتم الاستغناء عن الكتاب والسنة إلا في أمور سهلة بسيطة ، لم لا ينشرون هناك مخططاتهم ، ويبثون شرهم ، وينفثون سمومهم ، لأنها بلاد تعمل بحكم الطواغيت ، وتدين لهم ، وتلين في أيديهم ، بينما في بلاد الحرمين ، لا حكم إلا لله ولرسول صلى الله عليه وسلم ، يريدون القضاء على ذلك ، وهيهات هيهات أن يكون لهم ما يبغون ، أو يُحقق لهم ما يرجون ، قال تعالى : " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " [ الحجر 9 ] ، وقال تعالى : " يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواهم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " [ التوبة 32،33 ] .
حكامنا كانوا ولا يزالون مناضلين عن الدين ، وعنه منافحين ، نصروا الدعاة والعلماء من لدن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، وحتى يومنا هذا ، بنوا المساجد ، والجامعات ، وأسسوا دور العلم والتعليم ، وأناروا للناس طريق العلم الصحيح ، ووقفوا في وجه التيارات المعادية لأهل السنة وأناخوا رقابهم ، فجزاهم الله عنا وعنا المسلمين خير الجزاء .
أينقمون علينا أن حكمنا شرع الله تعالى ، وسنة نبي صلى الله عليه وسلم ؟
نحن والحمد لله والمنة له سبحانه نعيش حياة استقرار ، واستتباب أمن وأمان ، نؤدي شعائر ديننا كما يجب ، نصلي الفروض الخمسة في بيوت الله تعالى ، يسافر المسافر لا يخاف إلا الله تعالى ، يطبق الجميع سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم في ظل حكومة رشيدة تحكم بشرع صلى الله عليه وسلم ولا تخرج عنه قيد أنملة ، المرأة لدينا عزيزة مكرمة ، تحتجب الحجاب الكامل بينما في بعض الدول كفرنسا وتركيا محرم على المرأة أن تتحجب بل الأمر هناك بأن تخلع الحجاب حتى تكون سهلة الافتراس ، نحن ولله الفضل ننعم بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى ألا وإن من أعظمها نعمة الأمن التي يعيشها سكان المملكة العربية السعودية والتي يحسدهم عليها كثير من أهل الدول والشعوب ، ثم ننعم بنعمة الوظيفة والراتب المجزئ ، وإن كان هناك قصور فهو قصور له أسبابه ، ويزال إذا زالت الأسباب ، فلربما كانت هناك أسباباً سياسية واقتصادية لا يعلمها كثير من الناس ، بل لا يعلمها إلا خاصة الخاصة ، فلا نكلف الدولة فوق طاقتها ، ولا نطلب المستحيل لا سيما في ظروف الوضع الراهن التي تعيشه دول العالم أجمع ، فلنلتمس الأعذار ، ولو لم يكن هناك أعذار فلنختلق الأعذار ، هذا هو ديدن المؤمن الصادق .
المواطن ينعم بنعمة العمران والسكن ، ينعم بنعمة الحرمين الشريفين وما قدمته الحكومة الموفقة إزاء ذلك ، فكل مسلم زار هذه البلاد المقدسة يقدم شكره وتقديره وعرفانه للدولة حرسها الله تعالى ، ولقد سمعنا كثيراً من دعوات المسلمين الخاصة بذلك الشأن .
ثم أعود وأقول : إن كان هناك قصور وهو موجود فله أسبابه الخاصة يزول متى زالت الأسباب بإذن الله الوهاب ، والكمال منشود والقصور موجود ، فالصبر الصبر فالفرج مع الصبر ، واليسر مع العسر .
سبحان الله أيريدون أن يكون قادتنا أنبياءً أو ملائكة ؟ هذا هو الذي لا يمكن حصوله أبداً ، ووالله لو قلب الحصيف بصره ، والعاقل عقله ، لغابت الهفوات والسقطات في خضم أعمال شامخات ، ولغرقت الزلات في بحار هائلة وأمواج متلاطمة من أعمال البر والخير ، فجزا الله الحكومة خير الجزاء ، وأثابها خير الثواب .(55/322)
وكل ذلك ليس بمسوغ على أن يخرج المسلم على ولاة أمره ، أو يهينهم أو يسبهم ويعلن العداء لهم ، فهم لم يقصروا ، وليسوا شمساً شارقة ، ونجمة بارقة ، يحصون كل شاردة وواردة ، بل ربما كان القصور من غيرهم من بطانة السوء ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلَّا لَهُ بِطَانَتَانِ ، بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ " [ أخرجه البخاري ] ، وعند الترمذي من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا وَلَا خَلِيفَةً إِلَّا وَلَهُ بِطَانَتَانِ ، بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوهُ خَبَالًا ، وَمَنْ يُوقَ بِطَانَةَ السُّوءِ فَقَدْ وُقِيَ " [ قَالَ الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ] .
إن من يدعون إلى المظاهرات ، وتغيير الحكم ، ومن يسعون في الأرض فساداً بالتفجير والتدمير والتخريب والقتل ، إنما ينشدون الفرقة ليعيش الناس في ظلام دامس ، وظلال مستطير ، في ظل تفكك الأمن والحروب بين القبائل والفصائل والعشائر ، وحصول القتل وسفك الدماء ، يريدون حصول الفوضى بدل الاستقرار ، والخوف بدل الأمان ، يريدون زرع الهلع والذعر في قلوب الناس .
إن كانوا يريدون الكمال فالكمال لله وحده ، وإن كانوا يريدون العصمة من الزلل والخطأ فهذا هو المستحيل بعينه ، فلا عصمة إلا لله ولأنبيائه .
بل الطبيعة والجبلة البشرية أن الخطأ والصواب مجبول عليهما الإنسان ، ولكن المؤمن كلما أخطأ تذكر فاستغفر ربه ثم أناب ، فعليكم يا أهل المظاهرات والمناورات أن تصلحوا داخلكم ، وأن تطيبوا نياتكم ، حتى يُقبل قولكم ، إن ما تدعون إليه ما هو إلا شر محض ، وفساد صرف ، فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه في السر والعلن ، واحذروا كل الحذر تلكم المخططات المكشوفة ، والألعاب المعروفة ، فلقد انكشفت السرائر ، وظهرت البواطن ، حتى عُلمت المقاصد ، وعُرفت المفاسد .
فالحل ياعباد الله أن نتقي الله تعالى في أنفسنا وفيمن ولانا الله أمره من أبنائنا وبناتنا وزوجاتنا وغيرهن ، وأن نحيطهم بالرعاية والنصح والإرشاد ، وأن نتقي الله في ولاة أمورنا ومن ولاه الله أمرنا ، وألا نخرج عليهم مهما كانت الظروف والأحوال كما ثبت ذلك في الأحاديث السالفة الذكر ، وأن نحارب تلك القناة الهوجاء ذات الأفكار الغوغاء ، التي تدس السم في الدسم ، لتدمير الدين والعقيدة والعرض والوطن .
فالله الله أيها المسلمون في كل مكان وخاصة بلاد الحرمين ، عليكم بالتكاتف ومراجعة النفس ، والالتفاف حول العلماء والحكام ، فالعلماء هم بإذن الله المخرج من مدلهمات الأمور ، فعليكم بعلمائكم سلوهم عن كل صغيرة وكبيرة في أمر دينكم ودنياكم فهم كما عليه الصلاة والسلام ورثة الأنبياء قال الله تعالى : " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " [ الأنبياء 7 ] ، العلماء هم المخرج من المحن ، والسلوى في الفتن ، واحذروا استماع الكلام الزائف المنمق ، وعليكم بمراجعة ولاة أمركم ومناصحتهم في كل منكر ترونه فأبوابهم مشرعة ، وقلوبهم رحبة ، يستمعون للجميع ، وينفذون ما تدعو الحاجة إليه .
كانت تلكم كلمات صادقة في حق ولاة الأمر ، ورداً وذباً عن أعراضهم وحقوقهم ، خرجت من القلب وأسأل الله عز وجل أن تصل إلى كل قلب طلب الحق والعدل ، ولم أرد فيها إلا النصيحة لإخواني المسلمين ، والتحذير من الإشاعات والخرافات والأقاويل التي تبثها دول الكفر عن طريق المعارضة ، ومعلوم عند الكافة من الناس أن دول الكفر لم تدخل دولة من الدول إلا بوجود ثغرة المعارضة ، فيدخلون باسم التحرير والإصلاح ، ثم لم يلبثوا أن تظهر أطماعهم ونياتهم ، فالله المستعان وعليه التكلان ، هو حسبنا ونعم الوكيل .
اللهم يا حي يا قيوم أدم على بلادنا أمنها واستقرارها ، وأهلك عدوها ، اللهم من أراد بلادنا بسوء فأشغله بنفسه ، واجعل تدبيره تدميراً عليه ، اللهم أفسد مخططاتهم وأدر الدائرة عليهم ، اللهم نكس رؤوسهم واجعل الخوف لباسهم ، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، ودمر أعداء الدين ، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار برحمتك يا عزيز يا غفار .
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام(55/323)
المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي خطأ فادح وجهل بالواقع السياسي
إبراهيم عبد العزيز
03-12-2005
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:
فيما يلي النص الكامل للمقابلة التي أجراها بعض طلبة العلم مع فضيلة الشيخ إبراهيم بن عبد العزيز بركات حفظه الله ونفع بعلمه آمين :
فضيلة الشيخ بداية نشكرك على إتاحة الفرصة لنا لعقد هذه المقابلة التي نسأل الله أن ينفعنا بها ، وكما يعلم فضيلتكم أن المرحلة القادمة مرحلة حاسمة لذا عذرا لطرح بعض الأسئلة عليك وإن كان فيها نوع من الإحراج .
فضيلة الشيخ : لا عليكم، بارك الله فيكم سلوا عن أي شي ، فإن كان جوابه عندنا أجبنا عنه بكل وضوح وصراحة ، وإن لم يكن عندنا جوابه فأقول لكم لا أدري.
فضيلة الشيخ سؤالنا الأول متعلق بنظرتكم المستقبلية للسياسة المحلية خاصة في ظل هذه التناقضات الجمة والخلافات الكثيرة ؟
جواب : الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمي الأمين وعلى من سار على هديه إلى يوم الدين أما بعد :
فأشكر لكم زيارتكم وثقتكم وحسن أدبكم ، أما جوابي عن هذا السؤال فهو معروف ، وقد أجبت عنه في كثير من المناسبات وبينت الحقائق التي يجب على كل مسلم معرفتها ، فنحن نمُر في أزمة حقيقية يعلمها الجميع ، ويجب علينا أن لا نخدع بتلك الشعارات البراقة التي تُأمّل الناس بالفرج القريب ، فلا يوجد حل حقيقي للقضية الفلسطينية إلا بالرجوع إلى الإسلام كدين شامل وليس مجرد شعارات تطلق هنا وهناك من هذه الجماعة أو تلك ، ففلسطين كلها أرض إسلامية لا يجوز التنازل عن أي شبر من أرضها سواء كان ذلك فيما يسمى بمناطق ال48 أو 67 وهذا ما أصبح مع الأسف في طي الزمن الغابر عند معظم أهل فلسطين ، إذ تنحصر التطلعات الحالية إلى جزء بسيط من أرض فلسطين ، ولا شك بأن هذه التطلعات مخالفة للدين من باب ، وإضعاف للحق الثابت لأهل فلسطين من باب آخر، فعلى المسلمين في فلسطين أحد أمرين إما المطالبة بجميع أرضهم المغتصبة ، أو التفاوض على ما بقي منها ، والأمر الأول في هذه الظروف الراهنة مستحيل ، والثاني تفريط في الحق الثابت وتنازل عن أرض لا يمتلكها أصلاً الفلسطينيون فهي أرض إسلامية للمسلمين جميعهم ، ولن يرضى المخلصون من أبناء هذه الأمة بتقسيم فلسطين وإبقاء شيء من أرضها بيد المغتصبين ، ونظرتنا للقضية لا بد أن تنطلق من قواعد شرعية لا غير وعليه ستبقى المسألة في دائرة مغلقة وصراع مستمر .
سؤال : فضيلة الشيخ : كما تعلم بأن التنازل عن مناطق ال48 بات حقيقة واقعية بل هنالك إجماع فلسطيني على ذلك ، والمسألة الآن دائرة حول قيام دولة فلسطينية على أرض ال67 فهل من الممكن قيام الدولة الفلسطينية ووضع حلول نهائية لها ؟
جواب : يا أخي بارك الله فيك من أين هذا الإجماع الفلسطيني الذي تزعمه ، فقد قلت لك : إن المخلصين من أبناء هذه الأمة لا يفرطون بشبر من أرضها ، صحيح أن القوى السياسية وبعض الجماعات الإسلامية تكالباً على تحقيق بعض المصالح الخاصة بها على استعداد بأن يغيّبوا الحقائق الساطعة ولكنهم لا يمثلون إلا أنفسهم ولا يمثلون المخلصين من أبناء هذه الأمة ، ثم إن جوابي عن هذا السؤال له شقّان ، الأول أن تقوم الدولة الفلسطينية على أرض قطاع غزة والضفة الغربية فقط دون القدس ، الثاني أن يشمل قيامها القدس الشرقية ، والاحتمال الثاني غير موجود أي لن يسمح الإسرائيليون بحال في التفريط بالقدس وإعطائها على طبق من ذهب للجانب الفلسطيني ، وأما الاحتمال الأول فممكن على أن تحتفظ إسرائيل ببعض المستوطنات الأساسية على أراضي الضفة الغربية .
سؤال : ولكن فضيلة الشيخ نحن نعرف عزم السلطة الوطنية على تحرير أرض القدس الشرقية وجعلها عاصمة للدولة الفلسطينية ، بل إن السلطة لا تفاوض الجانب الإسرائيلي إلا بناء على ذلك ، فكيف ينسجم هذا الأمر مع قولكم ؟
جواب : يا أخي دعك مما يذاع ويشاع وانظر إلى الواقع بعين نورانية تنطلق من القواعد الشرعية وليس من الشعارات والخطابات والتمجيد في البطولات الزائفة ، إن القدس بالنسبة لإسرائيل قضية مصيرية محورية لا يمكن لأي سلطة منهم التنازل عن شبر من أرض القدس وذلك لاعتبارات عدة منها :
أولاً : ارتباط القدس ارتباطاً حتمياً بعقيدتهم ، فهم يعتبرونها أرضاً مقدسة لا يجوز بحال التنازل عنها .
ثانياً : وجود أماكن مقدسة بالنسبة لهم كحائط البراق المسمى عندهم بحائط المبكى وحي سلوان الذي يعتبر بالنسبة لهم مدينة داوود عليه السلام ، ومقابر اليهود التي تملأ جبل الطور وغيرها من الأماكن التي يستحيل فصلها عن القدس الشرقية .
ثالثاً : تداخل الأحياء اليهودية بالأحياء العربية بحيث أنك لا تستطيع التنقل في الأحياء العربية إلا بمرورك من الأحياء اليهودية .
رابعاً : امتلاك اليهود لكثير من البيوت والأراضي الفلسطينية ملكية بيع وشراء وهذه قضية لا مجال لإنكارها فهي مسألة واقعية ، نعم إن هنالك ممتلكات فلسطينية تم اغتصابها ، إلا انه هنالك الكثير أيضاً من الممتلكات الفلسطينية في القدس تم بيعها لليهود منها بعقود قديمة تم تسليمها حديثاً ، ومنها من بيع بعقود جديدة .
خامساً : عدم وجود قوة رادعة لليهود تحملهم على التخلي عن أرض تعتبر أساسية بالنسبة لهم .
سادساً : قوة المعارضة الداخلية والخارجية والتي منها ما يتحكم بتوجيه قرارات القوى العظمى لصالحهم ، وكما تعلم فإن اليهود لا يعطون الناس نقيراً وهم على ضعف فكيف وهم يعتقدون أنفسهم أعظم قوة في العالم على المجالات كافة .
ناهيك عن نسبة عالية من أهل القدس يحملون الجنسية الإسرائيلية ، وآخرين يفضلون العيش تحت السيادة الإسرائيلية فراراً من السلطة الفلسطينية ، فكل هذه الأسباب تحول دون انسحاب إسرائيل من القدس الشرقية ، ولا أدل على ذلك من الجدار الفاصل بين مناطق السلطة وإسرائيل والذي احتوى على القدس الشرقية بكاملها .
سؤال : ولكن كما يعلم فضيلتكم بأن إسرائيل سبق لها أن انسحبت من أراضٍ كانت تعتبرها مقدسة كانسحابها من أرض سيناء وطابا وغزة ، بل كانت إسرائيل تتفانى في الادعاء بأنها أرض إسرائيل الكبرى التي لا يحق لأحد التنازل عن شبر منها ، فما المانع من انسحاب إسرائيل من القدس الشرقية رغم ما تفضلت به كما سبق لها الانسحاب من غيرها ؟
جواب :أخي الحبيب الوضع في القدس مختلف للغاية ، فإن في انسحاب إسرائيل من بعض الأراضي التي احتلتها مصلحة كبيرة بالنسبة لها ناهيك بأن هذه المناطق كانت عبئاً حقيقاً على دولتهم ، فماذا كانت تستفيد إسرائيل من أرض سيناء خاصة وأنها بانسحابها ضمنت حماية حدودها من ناحية مصر حماية كاملة ، وانسحابها من غزة جعلها دولة سلام في نظر من تحرص على تأييدهم لها ، ناهيك عن المصاريف الباهظة التي كانت تتكلفها لتأمين الحماية لبعض مواطنيها الذين لا يتجاوزون المئات ، وتجنيد أعداد كبيرة من جيشها مما يكلفها الكثير الكثير ، بل إن انسحاب إسرائيل من المناطق التي ذكرت كان حقيقة في مصلحتها على المسارات كافة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، أما بالنسبة للقدس فهي مسألة خاصة الكل يعلم ذلك ، بل لو رجعنا للوراء قليلاً رجعنا إلى عهد رئيس السلطة الفلسطينية السابق ياسر عرفات أبي عمار فماذا نجد ، نجد أن الرجل كان على استعداد كامل لعقد اتفاقية سلام مع إسرائيل والخوض في خطة الفصل النهائية وكان مطالباً بتحكيم القانون الدولي ، فلم يكن ينادي بالقضاء على إسرائيل ، أو بالخروج عن القوانين الوضعية الدولية بل كان دوماً يرفع شعار سلام الشجعان ، وكلنا يعرف ما هي بنود الاتفاق التي قام عليها سلام الشجعان ، إذن لماذا جهدت إسرائيل في محاصرته والتضييق عليه ومنعه من مزاولة حقوقه الرئاسية والمطالبة بتنحيته أحياناً وبتصفيته أحياناً أخرى ، وهنالك أقوال تشير إلى قتله على أيديهم وإن لم يكن هنالك أدلة صريحة على ذلك إلا أن ما ذكرت من التضييق عليه كان واضحاً لا مجال لرده ، حقيقة هذا سؤال يجب أن يطرح ، أخي المسألة سهلة: إن المفوضات مع أبي عمار وصلت إلى طريق مسدود كان من الصعب تجاوزه ، فهل كان الطريق المسدود متعلقاً بغزة أو بأراضي الضفة أو باللاجئين ؟ الجواب : كلا طبعاً ، إنما كان متعلقاً بالقدس الشرقية ، فلم يكن أبو عمار مستعداً للتخلي عن القدس لأسباب كثيرة وإن كانت ترجع إلى مفاهيم وطنية وليست إسلامية ، وهذا ما جعله يقف بين خيارين ، الأول : تخليه عن القدس والرضوخ لإسرائيل ، الثاني : خروجه عن الخطة الإسرائيلية ، وما فعله هو الخيار الثاني مما جعله أيضاً تحت خيار لا غنى له عنه وهو دعم بعض الجماعات الجهادية الإسلامية وغيرها لضرب بعض المصالح الإسرائيلية للضغط على اليهود ، إذ لا يمكنه أن يتبنى هو ذلك العمل المخالف للقوانين الدولية التي وافق عليها ، وإلا هدم كل ما بناه ، ولأجل ذلك عملت إسرائيل على القضاء عليه وتقييده قدر المستطاع ، وأرجع بكم أيضاً إلى الوراء قليلاً ، ما هو الأمر الذي فجر الأوضاع في فلسطين وقامت لأجله الانتفاضة الثانية ؟ أليس دخول شارون للمسجد الأقصى، ألم يكن شارون وقت إذ يمثل الحزب اليمني المتطرف ، لماذا إذن حكومة باراك سمحت وقت إذ لشارون بدخول المسجد الأقصى وأثقلته بالحماية ؟ لماذا اختار شارون دخول المسجد الأقصى دون غيره ؟ ألم تكن الحكومة الإسرائيلية تفاوض السلطة الفلسطينية على الحل النهائي ؟ أخي الحبيب كل هذا يجعلنا ندرك بأن القضية هي قضية القدس لا غيرها ، فهل يعقل أن توافق إسرائيل أن تتنازل عن القدس وتفاوض السلطة عليها برئاسة أبي مازن وتترك التفاوض عليها مع أبي عمار الذي كان أكثر قوة وتأثيراً على شعبه ، وأكثر مقدرة على توحيد شعبه تحت راية السلطة ، لماذا تطلق إسرائيل العنان لأبي مازن إن كان ملتزماً بسياسية أبي عمار ؟ الجواب واضح هو إخراج القدس الشرقية من المفاوضات الحالية والمستقبلية وحصرها في التفاوض على غزة والضفة الغربية ، وحدود الجدار التي تتكلف إسرائيل مليارات الدولارات لإقامته أكبر دليل على إخراج القدس من بنود التفاوض.(55/324)
سؤال : فضيلة الشيخ، يفهم من خلال حديثك الشيق أن القضية الفلسطينية ستبقى في صراع دائم ، وهذا ما لا تريده إسرائيل ، إذ كل ما قامت به من تنازلات مزعومة ما كان إلا لتأمين أمنها وسلامة شعبها ، فما الفائدة من تأجيجها للوضع من جديد إن كان أمنها متعلقاً بتسليم القدس الشرقية للسلطة الفلسطينية ؟
جواب : هذا سؤال ذكي ، نعم إنه سؤال حقاً يطرح ، ولكن الجواب عنه بسيط وله وجه شرعي ، وآخر سياسي ، ودعني أبدأ بالوجه السياسي ليس تقديماً على الشرع معاذ الله ، ولكن لما له من تعلق بالشرع إذ تستدل عليه بالوجه الآخر فهو من باب ذكر المسألة والتدليل عليها ، والوجه السياسي له متعلقان، الأول : سياسة المماطلة بعيدة الزمن فعلى سبيل المثال الحكومة الإسرائيلية تتمثل بالحزب الحاكم وهو الحزب الذي يحصل على أكبر عدد مقاعد فيما يسمى بالكنيست ، ويتنافس على ذلك الحزبان الكبيران وهما حزب الليكود ، وحزب العمل ، فحزب الليكود يمثل الوجه اليميني ، وحزب العمل يمثل الوجه اليساري ، وكلا الحزبين لا يستطيعان تشكيل حكومة إلا بتأمين العدد القانوني للمقاعد وهي 62 مقعداً حسب ما أذكر وتأمين هذه المقاعد أمر مستحيل لكلا الحزبين مما يلجأ الحزب الأكثر مقاعداً للتفاوض مع أحزاب صغيرة يحقق من خلالها العدد المطلوب ، وأي حزب ينسحب من الحكومة بعد ذلك يؤثر على الحكومة بشكل مباشر مما يسقطها أو يدفعها لتغير سياستها ، فكيف الأمر إذا كان المتنافس على الحكومة ثلاثة أحزاب رئيسية أعني بذلك حزب شارون الجديد والذي يحظى بدعم يوازي دعم الحزبين الرئيسيين ، أفهمت ما أقصد ؟ أقصد بأن الحزب الذي يحصل على العدد الأكبر من المقاعد يحتاج إلى ضم أحزاب كثيرة لحكومته مما يجعل المسألة أكثر تعقيداً خاصة إذا كانت متعلقة بقرارات مصيرية كالتنازل عن القدس الشرقية .
المتعلق الثاني مرتبط بالسلطة الفلسطينية ، فهل تكون السلطة على استعداد لمحاربة إسرائيل ونقض جميع الاتفاقيات من أجل القدس الشرقية ، وتهدم كل ما بنته وهي تعلم علم اليقين ما يترتب عليها وقت إذ ؟ الجواب عندكم .
وأما الوجه الشرعي فله متعلقان أيضاً ، الأول: قد أخبرنا الله سبحانه أن اليهود :( كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم ) . وأنهم : ( لا يأتون الناس نقيراً ) . وغيرها من الآيات الدالة على عدم التزام إسرائيل بأي اتفاق يكون مخالفاً لأهوائها وأطماعها .
الثاني : أن الله سبحانه ضرب على بني إسرائيل من يذلهم ويسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة ، فلن تجد إسرائيل بوعد الله لها الأمن والأمان إلا بدخولها في دين الله سبحانه ، وكذلك فإن المسلمين المتخاذلين وعدهم الله سبحانه بالذل والصغار فلن يجد المسلمون الأمن والأمان إلا بتمسكهم بالكتاب والسنة ، وما تقوم عليه المفاوضات الحالية مخالف لأحكام الله وشرعه مما يترتب على ذلك الهوان لا العيش بسلام ، وعليه لا بد من بقاء المنطقة في صراع دائم ولكن كما قال تعالى : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) .
سؤال : إذن الوضع كما تفضلتم به ، فما هي سياسة الحركات الإسلامية اتجاه هذا الوضع ؟
جواب : التحدث عن الحركات الإسلامية ومواقفها من الوضع الراهن ينطلق من عدة اعتبارات ، فهنالك حركات لا تعنى بالسياسة أصلاً ، وهنالك حركات لا تعدو كونها صاحبة شعارات وخطابات وليس لها أدنى تأثير على أرض الواقع ، وبعضها متابع للسلطة الفلسطينية ولا ينظر للأمور إلا بمنظارها ، ولا شك أن كل هذه الحركات لا وجود لتأثيرها في الواقع السياسي ، وأما ما يهمنا هنا هي الحركات الإسلامية التي لها تأثير ونشاط واضح وهي لا تخرج عن حركتين رئيسيتين وهما ، حركة المقاومة الإسلامية المتمثلة بحماس ، وحزب الجهاد الإسلامي الفلسطيني ، فهاتان الحركتان لهما وجود في الساحة السياسية وتأثير واضح ، ولكل حركة منهما سياستها الخاصة ، فحزب الجهاد كما تعلمون معارض للسياسية الحالية وقد أعلن عن مقاطعته لانتخابات المجلس التشريعي رغم موافقته على الهدنة مع إسرائيل ، ويرجع ذلك في رأيي إلى أمرين الأول : أن مشاركته في المجلس التشريعي لن يعطيه حقه المأمول فهو يعاني من قلة أفراده وتقييد حرية معظمهم من ناحية ، ومن ضعف إمكانياته وقاعدته التي ينطلق منها من ناحية ثانية، فلو قبل حزب الجهاد المشاركة في المجلس التشريعي لما حظي بالمقاعد التي تؤهله للمنافسة وتحقيق بعض طموحاته ، وأما من الناحية العملية ، فإن معظم كوادر الجهاد مكشوفون لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وأكثرهم إما داخل السجون ، وإما تحت قيود عسكرية مشددة تحول دون تحركهم ، وهذا ما يضمن لكلا إسرائيل والسلطة الوطنية عدم تحرك حزب الجهاد إلا من خلال دائرة محدودة لا تؤثر على سير الخطة العامة ، ومن ناحية أخرى فإن حزب الجهاد لا يريد أن يجد نفسه في مواجهة مع السلطة لذا قبل بالهدنة وامتنع عن المشاركة في المجلس التشريعي ، وعليه سيكون دوره محدوداً للغاية ، وإلا دخل فيما فر منه .
ويبقى عندنا حركة المقاومة الإسلامية حماس ، فقد قبلت بالهدنة هي الأخرى وأعلنت عن قبولها الدخول في المجلس التشريعي ، أما قبولها بالهدنة فراجع إلى عدم رغبتها بالخروج عن السياسة الحالية والدخول في مواجهات مع السلطة وقد بررت ذلك على ألسنة كثير من كوادرها بتجنب الفتنة الداخلية ولحمة الصف ، وأما قبولها الدخول بالمجلس التشريعي فيرجع أيضاً لثقتها بكوادرها وما تتمتع به من شعبية قد توازي في بعض المناطق السلطة بل قد تفوق ، وعلى هذا فإن دور الحركة الإسلامية يكون دائراً في دائرة السلطة متماشياً مع السياسية الحالية مما يضمن لإسرائيل التواصل في خطتها ومماطلتها .
سؤال : فضيلة الشيخ ماذا عن سياسة حماس لو حصلت على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي ، هل ستغير من السياسية الحالية مما يؤدي ذلك إلى الضغط على إسرائيل فتنسحب من أراضي القدس الشرقية ، وحمل السلطة الفلسطينية على التحاكم إلى شرع الله ؟
جواب : يا أخي الحبيب علينا أن نكون منطقيين في فكرنا ، غير متطلعين إلى أحلام البؤساء ، فإن السياسة الحالية ليست بيد المجلس التشريعي ، بل وليست في يدي السلطة وغيرها ، إن ما نمُر به هو سياسية عالمية تخطها الدول العظمى ، لا تستطيع حركة إسلامية مخالفتها أو التغيير من سيرها ، فدخول الحركة الإسلامية حماس إلى المجلس التشريعي يجعلها تطفي الصفة الشرعية للسلطة الفلسطينية والموافقة على سياستها ، فللدخول في المجلس التشريعي شروط عديدة تتعارض مع أصول ديننا الحنيف ، من أبرز هذه الشروط الثابتة ; أن يكون نظام الدستور الفلسطيني نظاماً علمانياً يقوم على فصل الدين عن الدولة ، وأن يعترف بالكيان الإسرائيلي كدولة شرعية لها حق الوجود والأمن لشعبها ، وضمان حماية حدودها ، والتنازل عن ما يسمى بأرض ال48 باعتبارها أرض إسرائيلية لا تجوز المطالبة بها ، وغيرها من الشروط التي لا يوافق عليها المخلصون من أبناء هذه الأمة ، إذن فليست القضية الفلسطينية قضية جزئية تحتاج إلى بعض الترقيع هنا وهناك في دستورها أو محاسبة المسؤولين عن سرقاتهم وفسادهم ، المسألة أكبر من ذلك بكثير وعليه إما أن تكون الحركة الإسلامية جادة في نهجها وتعلن بصدق وصراحة مخالفتها للسياسية الفلسطينية وبهذا تمتنع عن المشاركة في المجلس التشريعي وتقف احد موقفين، الأول: موقف حزب الجهاد فتعتزل السياسية الحالية ولا تعدو عن كونها حركة إصلاحية فترجع إلى ما كانت عليه بعد توقيع اتفاقية أوسلو ، الثاني: مقاومة السلطة الفلسطينية والتصادم معها بحيث ينشأ عن ذلك حرب أهلية لا يعلم ضررها إلا الله سبحانه ، أو ترضى بسياسية السلطة وتخضع للشروط المذكورة فتكون حينها فصيل من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية تحترم النظام العام للمنظمة ولا تخرج عليه ولكن تحت شعارات إسلامية براقة حصيلتها الدعوة لإصلاح بعض الخروقات الاجتماعية التي لا تغني ولا تسمن من جوع ، ومع الأسف فإن سياسة حماس هي السياسية الثانية وهذا واضح للغاية في نهجها ، لذا نجدها تعمل بجد ونشاط لحشد التأييد لها وكسب أكبر عدد من الأصوات لصالحها ، فهي لضمان مشاركتها في المجلس التشريعي تعتمد كما قلت على أمرين أساسيين ، الأول : كوادرها والمؤيدين لها ، الثاني : القاعدة الشعبية ، وهذا ما تنبهت له السلطة الوطنية وعملت على سحب البساط من تحت أرجل الحركة الإسلامية من خلال عمل الإصلاحات في صفوف السلطة الوطنية والإعلان عن عقد انتخابات داخلية لضمان سلامة ثقة كوادرها بالمرشحين ، كما عمدت على استغلال بعض الحركات الإسلامية الموالية لها لضرب حركة حماس من خلال تفريغ المنابر والإمامة لهم فلا يسمع الناس إلا ما تريد السلطة إسماعه لهم ، وعليه أخي الحبيب الأمر أصعب مما تتوقع وأقولها بكل صراحة : إن دخول الحركات الإسلامية للمجلس التشريعي وإن كان محرماً أصلاً ، جهل في السياسة الحالية ، وتثبيت للمخططات الاستعمارية ، وتوسيع لدائرة الخلاف في صفوف المسلمين ، ولكن نأمل من إخواننا في الحركة الإسلامية أن يفهموا ذلك جيداً ، وأن يقفوا مع إخوانهم المسلمين صفاً واحداً كي نتمكن من رد كيد أعدائنا ، ولا نجعل تطلعنا تطلعاً حزبياً ضيقاً هدفنا الأول والأخير هو تحقيق المصالح الذاتية الفانية التي لا تزيدنا إلا ضعفاً وتراجعاً وبعداً عن الهدف الأصلي وهو إقامة دين الله سبحانه ليكون ظاهراً على كل دين .
سؤال : فضيلة الشيخ حفظك الله تعالى ونفع بعلمك : نحن نعلم بأن حركة المقاومة الإسلامية حماس قبلت بالمشاركة في المجلس التشريعي لإصلاحه والحيلولة دون تمرير مخططات الاستعمار فإن تركت المشاركة في المجلس التشريعي كيف لها أن تصلح الفساد هل تقف من كيد أعدائها مكتوفة الأيدي ؟
جواب : يا أخي لماذا يفترض علينا أن نكون أحد رجلين ، إما مشاركاً للفساد بحجة إصلاحه ، وإما معتزلاً لا دخل له بالواقع البتة ، هذا افتراض خاطئ ، بل لماذا لا نكون مشاركين للظالمين غير مكتوفي الأيدي داعين للإصلاح عن غير المنابر المشبوهة التي وضعت أصلاً لتمرير خطط الاستعمار وليس لمحاربتها ودحضها ، الواجب على كل مسلم أن يعمل ويصلح قدر المستطاع ، كما انه يحرم عليه مشاركة الظالمين ، وقد فصلت مسألة المشاركة في الدخول بالمجلس التشريعي برسالة مخصصة فلتراجع إن شاء الله ، لا أقول نعتزل ولا أقول نشارك الظالمين هذا افتراض خاطئ بل أقول يجب علينا أن نعمل ونبذل قصارى جهدنا للإصلاح ولكن فيما يتوافق مع الأحكام الشرعية ، وليس المصالح الحزبية .
سؤال : فضيلة الشيخ أثقلنا عليك فعذراً وسؤالنا الأخير لك هو ، هل هنالك من حل للقضية الفلسطينية ؟
جواب : بارك الله فيكم لا بأس فإن أسئلتكم جيدة وقد استفدت من الوقت معكم واسأل الله العظيم أن يكون ذلك في صحائف حسناتنا يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم اللهم آمين ، وجوابي عن سؤالكم : نعم هنالك حل للقضية الفلسطينية ، هو الحل الشرعي الذي لا يكون إلا برجوع المسلمين إلى سابق عهدهم إلى عقيدتهم ومنهجهم ، فما سبب كل هذه المصائب التي تتنزل علينا إلا ذنوبنا وبعدنا عن المنهج الرباني علماً وعملاً منطلقين من الإيمان والإخلاص لله تعالى ، فإنه لا يتسلط علينا عدونا إلا بما اقترفته أيدينا من المعاصي والذنوب قال تعالى : ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ) . فما كان لعدونا سبيل علينا إلا لذلك وعليه فإن السبيل الأوحد للخروج من مصائبنا هو الرجوع إلى الحق المبين وترك الجري وراء الأهواء والشبهات فإن النصر بيد الله سبحانه وحده وهو من المؤمنين قريب ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، أما من خلال الترقيع والتجزيء فلن نصل إلى شيء.
أسأله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه ولينا ونعم النصير وجزاكم الله خيراً وبارك في جهودكم الطيبة .
فضيلة الشيخ : جزاك الله خيراً وبارك فيك ونفع بعلمك ورفع منزلتك وجعل ذلك في صحيفة حسناتك ونشكر لك هذا العمل النبيل بارك الله فيك .(55/325)
حكم المشاركة في المجلس التشريعي
إبراهيم عبد العزيز
20-03-2005
السؤال: شيخنا الفاضل حفظك الله ورعاك ونفع بعلمك، ما هو حكم المشاركة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية وغيرها من التشريعات الوضعية وجزاك الله خيراً ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فليس غريباً أن يرفع بعض المنسلخين عن الشريعة الداعين إلى الخروج عن الأخلاق والقيم راية الكفر والزندقة، ولكن المستغرب حقاً أن تدخل بعض الجماعات التي ترفع راية التوحيد في صفوف الداعين إلى تطبيق أنظمة الكفر والشرك والنفاق على المسلمين، وقد علم هؤلاء يقيناً أن الواجب على المسلم هو الانقياد إلى حكم الله ورسوله ظاهراً وباطناً قال سبحانه: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ). (65) النساء
فهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على وجوب الانقياد لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في كل صغير وكبير، فقوله تعالى: ( فيما شجر ) يتناول الأمور كلها دون استثناء، وقد جعل الله سبحانه هذه الآية شرطاً في صحة الإيمان، أي إن كان إيمانكم إيماناً صحيحاً فهو يقودكم إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، ومخالفة ذلك الأمر دليل على عدم صحة الإيمان ، وقد أكد المولى سبحانه على هذا الحكم بالقسم إذ قال سبحانه: ( فلا وربك ) أي يقسم الله سبحانه بنفسه المقدسة أن الزاعمين للإيمان لا يؤمنون حقيقة حتى يخضعوا لحكم الله سبحانه ظاهراً وباطناً، ولم يكتف بذلك أيضاً حتى لا يجدوا في أنفسهم حرجاً من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم، ويسلموا له تسليماً فالمؤمن الصادق هو الذي لا يرضى بغير حكم الله حكماً، فهو على علم ويقين بأنه لا يجوز له أن يتخير في مسألة حكم الله سبحانه فيها، قال سبحانه: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً ). (36) الأحزاب
ففي هذه الآية الكريمة ينفي الله سبحانه عن المؤمنين الخيرة من أمرهم إذا جاءهم الحكم من عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومفهوم المخالفة أن الذين يتخيرون بين حكم الله سبحانه وحكم غيره ليسوا بمؤمنين على الحقيقة.
ومن الأمور التي ألزم الله سبحانه بها المؤمنين، التحاكم إلى شرعه المشتمل على كل خير قال سبحانه: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ). (50) المائدة
فهذه الآيات الكريمة تبين أن الناس إما أن يكونوا خاضعين لحكم الله الحق العدل، وإما أن يكونوا متبعين لأهوائهم غارقين في جاهليتهم، ولا شك من أن المسلم الحق يكون متبعاً لحكم الله سبحانه غير مارق منه، على خلاف أهل الباطل والشبهات فهم متبعون لأهوائهم الجاهلية.
وقد بين الحق سبحانه أن التحاكم إلى غير شرعه كفر وردة قال سبحانه: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ). (44) المائدة.
وقال سبحانه: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ). (61) النساء
والمتتبع لآيات الله سبحانه المتعلقة بالحكم يجد أن الله سبحانه قد حكم على المخالفين لحكمه المتبعين لغير أمره، بالكفر، والظلم، والفسق، والنفاق، أو بعدم الإيمان، وكل هذا يدل على أن مسألة الحكم لا تتعلق بمسائل فرعية، بل هي مسألة من صميم العقيدة لا يزيغ عنها إلا أصحاب الأهواء والشبهات الباطلة الذين لم يترسخ الإيمان في قلوبهم الذين يصفهم الله سبحانه بصريح العبارة بالنفاق والكفر، وذلك أن الخضوع لغير حكم الله خضوع لحكم الطاغوت الذي أمرنا باجتنابه ، قال سبحانه: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ). (36) النحل
وقال سبحانه: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) . (18) الزمر
بل إن الكفر بالطاغوت شرط لصحة الإيمان وذلك لقوله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). (256) البقرة
فقدم الله سبحانه الكفر بالطاغوت على الإيمان به من باب ارتباط الأمر بلازمه، أي لا يصح الإيمان إلا بالكفر بالطاغوت، فمن لم يكفر بالطاغوت لا يكون مؤمناً في حقيقة الأمر. وهذا ما بينه صلى الله عليه وسلم بقوله: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه ). حديث صحيح رواه مسلم
فالذي ينتفع بالشهادة، هو الذي يعبد الله سبحانه وحده، ويكفر بكل ما سواه، ومن تحاكم إلى غير حكم الله سبحانه عالماً غير جاهل، راضياً غير مكره، فقد وقع في الكفر والشرك أعاذنا الله سبحانه من ذلك، ذلك أن التحاكم إلى غير الشرع عبادة لغيره سبحانه قال تعالى: (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ). (40) يوسف
ففي هذه الآية الكريمة ربط المولى سبحانه الحكم بالعبادة: ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ). وقد دل سياق الآية على الحصر، أي لا يكون الحكم إلا لله، فلا يكون لغيره بأي حال أو تحت أي ظرف، بل الواجب على المسلمين أن يُرجعوا الأمور المتنازع فيها إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ). (59) النساء
وعليه لا يكون الحكم إلا لله سبحانه، وإن خلاف ذلك كفر وردة عن الإسلام، - لازم هذا القول ليس بلازم أي لا يلزم من قولي هذا إنني أكفر كل من يتحاكم إلى غير شرع الله، فالحكم على المسألة شيء، والحكم على المعين شيء آخر-.
فكل حكم يخالف حكم الله ورسوله فهو كفر، ومن ذلك ما يسمى بالديمقراطية والعلمانية وغيرها من المسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي محض حكم الطاغوت الذي أُمر المسلمون أن يكفروا به، فلا يُتصور من مسلم فاسق يتحاكم إلى غير شرع الله، لأن ذلك كما بين الله سبحانه كفر، وشتان بين الكفر والمعصية، فالكفر أكبر من الكبائر، فكيف بالمسلم المتبع؟!
وما يسمى بالانتخابات التشريعية، من الكفر لأن ذلك تحاكم إلى غير شرع الله، فهي تعني أن السيادة المطلقة للشعب، فالشعب هو الذي يختار الأحكام التي تطبق عليه، فإن أراد الإسلام يحكم به، وإن أراد غيره فله الخيار، وإن اختلف الشعب في الأمر يرجع الحكم إلى رأي الأغلبية، أي أغلبية الشعب، وهذا لا شك من الكفر البواح وذلك للأمور التالية:
أولاً: أن المؤمن ملزم بالتحاكم إلى شرع الله سبحانه فهو غير مخير في المسألة قال سبحانه: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً ). (36) الأحزاب
قال ابن كثير: فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ). النساء:65 وفي الحديث: ( والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به). ولهذا شدد في خلاف ذلك، فقال: ( ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا )، كقوله تعالى: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) النور:63. تفسير القرآن العظيم.
وقال الطبري رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره: لم يكن لمؤمن بالله ورسوله، ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما فيعصوهما، ومن يعص الله ورسوله فيما أمرا أو نهيا (فقد ضل ضلالا مبينا) يقول: فقد جار عن قصد السبيل، وسلك غير سبيل الهدي والرشاد. جامع البيان للطبري.
فهذه الآية تبين أنه ليس للمؤمن الخيار إذا قضى الله ورسوله أمراً، بل مخالفة أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ضلال مبين، وجعل الأمر راجعاً إلى رأي الأغلبية يعتبر خروجاً عن أحكام الله سبحانه، فقد بين الله في محكم التنزيل أن الحكم لا يكون إلا له قال سبحانه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ). (40) يوسف. ويأتي هؤلاء ليقولوا لنا: إن الحكم الذي يطبق علينا هو رأي الأغلبية، فهل بعد ذلك من ضلال؟
ثانياً: جعل الشعب هو مصدر التشريع منازعة لله سبحانه، فالله هو المشرع، ولا حكم مع حكمه، ولا قضاء مع قضائه، قال سبحانه: (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ). (88) القصص.
وهذا السياق يقتضي الحصر، إذ تقديم ما حقه التأخير، على ما حقه التقديم، من موجبات الحصر، فكما أن العبادة لله سبحانه لا تكون لغيره، كذلك الحكم لا يكون إلا لله، ومن نصّب نفسه مشرعاً من دون الله فقد ضل ضلالاً مبيناً، قال سبحانه: ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ). (21) الشورى.
قال ابن كثير: وقوله: ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) أي: هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، من تحريم ما حرموا عليهم، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل الميتة والدم والقمار، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة، التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم، من التحليل والتحريم، والعبادات الباطلة، والأقوال الفاسدة. تفسير القرآن العظيم لابن كثير.
وقال ابن عاشور رحمه الله تعالى: ومعنى الاستفهام تقضيه ( أم ) التي للإضراب هو هنا للتقريع والتهكم، فالتقريع راجع إلى أنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، والتهكم راجع إلى من شرعوا لهم من الشرك، فسئلوا عمن شرع لهم دين الشرك: ألهم شركاء آخرون اعتقدوهم شركاء لله في الإلهية وفي شرع الديان كما شرع الله للناس الأديان؟ وهذا تهكم بهم لأن هذا النوع من الشركاء لم يدعه أهل الشرك من العرب. وهذا المعنى هو الذي يساعد تنكير ( شركاء ) ووصفه بجملة ( شرعوا لهم من الدين ). أهـ تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور.
ثالثاً: وضع دستور للشعب من تلقاء نفسه، يعتبر تحاكماً إلى الطاغوت الذي أُمر المسلمون أن يكفروا به قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ). (61) النساء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذه الآيات: ( لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم وقد أمروا أن يكفروا بهم. وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه وتعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً). (62) النساء.
فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول - والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته - أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علماً وعملاً بهذه الطريق التي سلكناها والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية. أ هـ الفتاوى 5/18 .
وقال في تفسير قوله تعالى : ( وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48)وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ(50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) النور ـ 47 ـ 51.
فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن، وأن المؤمن هو الذي يقول: سمعنا وأطعنا، فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره، مع أن هذا تركٌ محض، وقد يكون سببه الشهوة، فكيف بالتنقص والسب ونحوه؟ أهـ الصارم المسلول.
قال ابن القيم في أعلام الموقِّعين (1/85): ( ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكّم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة له ).أهـ
وقال أيضاً: ( أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يُحكِّموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه ولم يكتف منهم أيضاً بذلك حتى يسلِّموا تسليماً وينقادوا انقياداً ). أهـ إعلام الموقعين 1/86.(55/325)
وقد أوضحت ذلك في رسالتي - عقيدتنا بين الولاء والبراء -.
رابعاً : إن غير حكم الله سبحانه هو حكم الجاهلية التي أنقذ الله سبحانه المؤمنين منها، قال سبحانه: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ). (103) آل عمران
قال الطبري رحمه الله تعالى في قوله تعالى: (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ) يعني بقوله جل ثناؤه وكنتم، يا معشر المؤمنين، من الأوس والخزرج، على حرف حفرة من النار. وإنما ذلك مثل لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام. يقول تعالى ذكره: وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فأنقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له. أهـ جامع البيان للطبري.
ولا شك أن الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه جاهلية، قال سبحانه: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ). (50) المائدة.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وقوله: ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) .ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان، الذي وضع لهم اليساق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال الله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون ) أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء. أهـ تفسير ابن كثير.
خامساً: التحاكم إلى غير شرع الله سبحانه كفر وشرك: قال تعالى: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ). (44) المائدة
قال الطبري في تفسير هذه الآية: يقول تعالى ذكره: ومن كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه وجعله حكماً بين عباده، فأخفاه وحكم بغيره، كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتجبيه والتحميم، وكتمانهم الرجم، وكقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعض بنصف الدية، وفي الأشراف بالقصاص، وفي الأدنياء بالدية، وقد سوى الله بين جميعهم في الحكم عليهم في التوراة ( فأولئك هم الكافرون ) يقول: هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنزل الله في كتابه، ولكن بدلوا وغيروا حكمه، وكتموا الحق الذي أنزله في كتابه ( هم الكافرون ) يقول: هم الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينه، وغطوه عن الناس، وأظهروا لهم غيره، وقضوا به، لسحت أخذوه منهم عليه. أهـ جامع البيان.
سادساً: الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه اتباع للهوى قال سبحانه: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) . (48) المائدة
قال ابن كثير رحمه الله في هذه الآية: وقوله: (ولا تتبع أهواءهم ) أي: آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسوله؛ ولهذا قال: (ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) أي: لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء. أهـ تفسير ابن كثير.
سابعاً: الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه ظلم وفسق، قال سبحانه: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ). (45) المائدة
وقال سبحانه: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ). (47) المائدة
فكل هذه أدلة قاطعة على حرمة التحاكم إلى غير شرع الله سبحانه، فكيف بمن ينصب نفسه مشرعاً من دون الله، أو يرضى بالتشريعات الوضعية التي تناقض شرع الله سبحانه من كل وجه، وتفتح أبواب الضلال والفساد؟
ورغم تلك الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة نجد بعض الجماعات الإسلامية تنادي بالمشاركة في المجالس التشريعية متذرعة بمبررات هي أوهى من خيوط العنكبوت منها:
1 : قصة يوسف عليه السلام:
يستدل هؤلاء بقصة يوسف عليه السلام التي تدل على أن يوسف عليه السلام عمل في حكم الملك الكافر واستلم منصباً وزارياً، واستغله في باب الإصلاح، ونحن موافقون في هذا الأمر لنبي الله يوسف عليه السلام، ولو كان الأمر محرماً لما وقع ذلك من نبي معصوم.
أقول: سبحان الله كيف يستدلون على مسألة عظيمة بما لا يعرفون، فهم يوفقون بين عمل نبي الله يوسف عليه السلام، وبين دخولهم في المجالس التشريعية ويجعلون الحكم في المسألتين واحداً. ومن كانت عنده مسكة علم بما جاء به الأنبياء يعلم يقيناً أن دعوتهم تتفق على دعوة الناس إلى عبادة الله سبحانه وحده لا شريك له، والتبرؤ من كل ما يعبد من دونه، قال سبحانه: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ). (36) النحل
ومن الطاغوت الذي دعا الأنبياء عليهم السلام إلى اجتنابه، التحاكم إلى غير شرع الله، فهو كما بينت شرك وكفر، فكيف يجوز على نبي من أنبياء الله أن يقع في الكفر والشرك وما أرسله الله سبحانه إلا للدعوة إلى التوحيد؟
ومن ناحية ثانية، فالله سبحانه قال على لسان يوسف عليه السلام: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ). (40) يوسف
فيوسف عليه السلام يدعو صاحبيه إلى توحيد العبادة مبيناً لهما أن الحكم لا يكون إلا لله سبحانه، ثم يقع هو فيما ينهاهما عنه، فهل يقول بذلك مؤمن؟
وأما ما فعله يوسف عليه السلام فلا دخل له بقضية التشريع، فالتشريع شرك لا يقع بمثله عامة من وقر الإيمان في قلوبهم، فكيف بأنبياء الله سبحانه؟
وما أعجبني ذلك الرد الذي قالوا فيه، إن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، وهذا الرد أسخف مما قبله إذ لا يكون الشرك جائزاً في ملة الأنبياء السابقين، وهو محرم في شرعة رسولنا صلى الله عليه وسلم، بل الشرك ومنه الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه محرم في دين الله عموماً.
2 : الأخذ بالمصالح المرسلة :
ومن أدلة القوم، الأخذ بالمصالح المرسلة، ويعتبرون الغاية مبررة للوسيلة، فهم يدخلون المجالس التشريعية على نية إصلاح الفساد المنتشر في الأنظمة الكفرية، وعليه يجوزون الدخول في تلك المجالس الفاسدة.
أقول وبالله التوفيق: إن هذا التعليل عليل، بل هو أكثر علة من العليل، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة أي لا يجوز السير في الطريق المعوج من أجل تحصيل مصلحة شرعية، خاصة إذا كانت القضية متعلقة بمسألة من مسائل العقيدة، وقد بين الله سبحانه أن الواجب على المسلم هو اجتناب الطاغوت لا الانخراط في صفوف الطواغيت من أجل الإصلاح قال سبحانه: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ). النحل
واجتناب الشيء هو أن تجعله في ناحية غير الناحية التي تكون فيها، لا أن تلوث نفسك في خبائثه، وعليه لا يجوز للمسلم بأي حال من الأحوال أن يجاري الطواغيت ويركن إليهم، قال سبحانه: ( وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) . (75) الإسراء
قال الطبري رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره: ولولا أن ثبتناك يا محمد بعصمتنا إياك عما دعاك إليه هؤلاء المشركون من الفتنة ( لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) يقول: لقد كدت تميل إليهم وتطمئن شيئا قليلاً وذلك ما كان صلى الله عليه وسلم هم به من أن يفعل بعض الذي كانوا سألوه فعله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر حين نزلت هذه الآية، ما حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة، في قوله (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
القول في تأويل قوله تعالى: ( إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ). (75) يقول تعالى ذكره: لو ركنت إلى هؤلاء المشركين يا محمد شيئاً قليلاً فيما سألوك إذن لأذقناك ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات. أهـ جامع البيان.
وقال سبحانه: (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) (9) القلم.
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره: يقول الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( فلا تطع المكذبين ) الذين كذبوك وعاندوا الحق، فإنهم ليسوا أهلاً لأن يطاعوا، لأنهم لا يأمرون إلا بما يوافق أهواءهم، وهم لا يريدون إلا الباطل، فالمطيع لهم مقدم على ما يضره، وهذا عام في كل مكذب، وفي كل طاعة ناشئة عن التكذيب، وإن كان السياق في شيء خاص، وهو أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، أن يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم، ويسكتوا عنه، ولهذا قال: (ودوا )أي: المشركون ( لو تدهن ) أي: توافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه، ( فيدهنون ) ولكن اصدع بأمر الله، وأظهر دين الإسلام، فإن تمام إظهاره، بنقض ما يضاده، وعيب ما يناقضه. أهـ تفسير السعدي.
فإذا كان مجرد الركون والمداهنة إثماً عظيماً يستحق أصحابه عليه غضب الله ولعنته، فكيف بمشاركتهم والتعامل معهم بل ومعاونتهم؟.
والقاعدة التي بنى عليها القوم مذهبهم على غير ما يظنون، فالأخذ بالمصالح المرسلة جائزة إذا ما تعارضت مع النصوص الشرعية، أو ما كان في أصله مباحاً يتوصل به إلى العبادة الشرعية، نحو رفع المآذن في المساجد بغية إيصال الصوت إلى أبعد مدى، أو المنبر الذي يوضع للخطيب وغير ذلك من الوسائل التي يستعان بها على فعل الطاعة، أما إن كانت هذه المصالح في أصلها محرمة، فإن العمل بها محرم شرعاً، فهي تفتح أبواب الشرور على أهلها والعياذ بالله، وتؤدي إلى تميع الأحكام الشرعية والتهاون بها، والواجب على المسلمين هو الصدع بدعوتهم وبيان أحكام دينهم من غير خوف أو تردد أو مداهنة أو مداراة قال سبحانه: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ). (95) الحجر
وهذه الآية الكريمة تضمنت أمرين، الأول: الصدع بالدعوة، والثاني: الإعراض عن المشركين وخطاب الله سبحانه لرسوله، خطاب لأمته، فالواجب على المسلمين أن يصدعوا بما أمروا به من عبادة الله سبحانه، والتبرؤ مما سوى ذلك، ولا ريب أن مشاركة الطواغيت في مثل هذا الأمر العظيم يعتبر كتماناً للحق، ومداهنة للظالمين، وقد علمت أخي الحبيب ما أعد الله سبحانه للمداهنين.
3 : المحافظة على وحدة الصف:
ومن أدلتهم التي يستندون إليها في إباحتهم المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي، وحدة الصف واجتماع الكلمة، متذرعين بأن عدم المشاركة يؤدي إلى وقوع فتنة بين المسلمين.
أقول: وهذا قول باطل مخالف لقواعد الحق، فإن الواجب على المسلمين إقامة الولاء والبراء في الحق، لا في الأباطيل، وإقامة الولاء على أساس الوطن أو ما شابهه، من الجاهلية التي أمرنا الله سبحانه ورسوله باجتنابها، فهي مشروع فاشل يبغضه الله ورسوله وصالح المؤمنين، فليس الولاء في الأمة على الأسس الوطنية الواهية النتنة التي من شأنها أن تفرق المسلمين وتخالف بينهم، بل الولاء في المسلمين يقوم على أساس العقيدة قال سبحانه: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). (71) التوبة
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: لما ذكر الله تعالى صفات المنافقين الذميمة، عطف بذكر صفات المؤمنين المحمودة، فقال: (بعضهم أولياء بعض ) أي: يتناصرون ويتعاضدون، كما جاء في الصحيح: ( المؤمن للمؤمن كالبنان يشد بعضه بعضا) وشبك بين أصابعه. وفي الصحيح أيضا: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر). وقوله: ( يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) كما قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ):104 آل عمران. وقوله تعالى: ( ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة )أي: يطيعون الله ويحسنون إلى خلقه، (ويطيعون الله ورسوله ) أي: فيما أمر، وترك ما عنه زجر، (أولئك سيرحمهم الله ) أي: سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات، (إن الله عزيز حكيم )أي: عزيز، من أطاعه أعزه، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، (حكيم ) في قسمته هذه الصفات لهؤلاء، وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة، فإن له الحكمة في جميع ما يفعله، تبارك وتعالى. أهـ تفسير ابن كثير.
وثبت في الأحاديث الصحيحة أن أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: ( أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله ). رواه الطبراني وهو حديث حسن.
فعلى هذا تُبنى العلاقات بين المسلمين، تبنى على الوحدة على أساس العقيدة، لا على أساس القومية والوطنية، بل جعل الله سبحانه كل من يقيم مودته على اعتبار الوطن والقربى من الظالمين قال سبحانه: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ). (22) المجادلة.(55/325)
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: أي: لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمناً بالله واليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملاً على مقتضى الإيمان ولوازمه، من محبة من قام بالإيمان وموالاته، وبغض من لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقرب الناس إليه. وهذا هو الإيمان على الحقيقة، الذي وجدت ثمرته والمقصود منه، وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان أي: رسمه وثبته وغرسه غرساً، لا يتزلزل، ولا تؤثر فيه الشبه والشكوك. وهم الذين قواهم الله بروح منه أي: بوحيه، ومعونته، ومدده الإلهي وإحسانه الرباني. وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار، ولهم جنات النعيم في دار القرار، التي فيها من كل ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وتختار، ولهم أكبر النعيم وأفضله، وهو أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا، ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات، ووافر المثوبات، وجزيل الهبات، ورفيع الدرجات بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية، ولا فوقه نهاية. وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، وهو مع ذلك مواد لأعداء الله، محب لمن ترك الإيمان وراء ظهره، فإن هذا إيمان زعمي لا حقيقة له، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدقه، فمجرد الدعوى، لا تفيد شيئاً ولا يصدق صاحبها.أهـ تفسير السعدي.
وقال سبحانه: ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ). (24) التوبة
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أمر الله تعالى بمباينة الكفار به، وإن كانوا آباء أو أبناء، ونهى عن موالاتهم إذا (استحبوا ) أي: اختاروا الكفر على الإيمان، وتوعد على ذلك كما قال تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار )الآية: (22 )المجادلة.
وروى الحافظ أبو بكر البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله فيه هذه الآية: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر )الآية: 22 المجادلة.
ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله وعلى رسوله وجهاد في سبيله، فقال: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها ) أي: اكتسبتموها وحصلتموها (وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها ) أي: تحبونها لطيبها وحسنها، أي: إن كانت هذه الأشياء (أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا ) أي: فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم؛ ولهذا قال: (حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ).
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن لهيعة، عن زهرة بن معبد، عن جده قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال: والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه). فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي. فقال رسول الله: (الآن يا عمر)
انفرد بإخراجه البخاري، فرواه عن يحيى بن سليمان، عن ابن وهب، عن حيوة بن شريح، عن أبي عقيل زهرة بن معبد، أنه سمع جده عبد الله بن هشام، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا وقد ثبت في الصحيح عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) وروى الإمام أحمد، وأبو داود - واللفظ له - من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني، عن عطاء الخراساني، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم).
وروى الإمام أحمد أيضا عن يزيد بن هارون، عن أبي جناب، عن شهر بن حوشب أنه سمع عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك وهذا شاهد للذي قبله، والله أعلم. أهـ تفسير ابن كثير.
فالواجب على المسلمين بغض ومعاداة المشاقين لله ولرسوله لا المحافظة عليهم والعمل في أُطرهم، قال سبحانه: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ). (4) الممتحنة.
وفقد بينت حكم موالاة الظالمين في رسالتي عقيدتنا بين الولاء والبراء بما يغني عن الإعادة.
ثم يأتي هؤلاء ليقيموا دولتهم على الوحدة الوطنية الجاهلية التي تنسف قواعد الولاء والبراء التي تقوم عليها عقيدة التوحيد.
4 : العمل على تقليل الضرر قدر المستطاع:
يعتبر أولئك القوم أن المشاركة في المجلس التشريعي تؤدي إلى دفع الضرر عن المسلمين قدر المستطاع، فهم يدخلون تلك المجالس - الفاجرة- عملاًً بقاعدة وجوب درء الفتنة عن الأمة.
أقول وبالله التوفيق : إن هذا القول فيه مخالفة صريحة لنصوص الوحيين، الكتاب والسنة، فإن أدلة الكتاب والسنة تدل على أن رفع الضرر عن الأمة لا يكون إلا بتمسكها بالكتاب والسنة، لا بخروجها عن الكتاب والسنة ورضاها بالحلول الجزئية المنطلقة من المداهنة والركون إلى أعداء الله سبحانه، قال سبحانه: (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ). (120) آل عمران
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار، باستعمال الصبر والتقوى، والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم، فلا حول ولا قوة لهم إلا به، وهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته، ومن توكل عليه كفاه. تفسير ابن كثير.
وقال الطبري رحمه الله تعالى: وأما قوله:( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) . فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تصبروا، أيها المؤمنون، على طاعة الله واتباع أمره فيما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه: من اتخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم من دون المؤمنين، وغير ذلك من سائر ما نهاكم ( وتتقوا) ربكم، فتخافوا التقدم بين يديه فيما ألزمكم وأوجب عليكم من حقه وحق رسوله (لا يضركم كيدهم شيئا)، أي: كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم.
ويعني بـ (كيدهم)، غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين، ومكرهم بهم ليصدوهم عن الهدى وسبيل الحق.جامع البيان للطبري.
فهذه الآية يبين الله سبحانه فيها، أن المؤمنين إذا صبروا على دينهم، واتقوا ربهم في ما أمرهم به، ونهاهم عنه، لن يضرهم كيد الكافرين شيئاً، و- شيء - اسم جنس جاء في سياق الشرط فدل على عموم، أي لن يضر كيد الكافرين المؤمنين لا بقليل ولا بكثير، ومفهوم المخالفة، أن كيد الكافرين يصيب المؤمنين إذا تخلوا عن الصبر والتقوى.
وقال سبحانه: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ). (141) النساء
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: أي: تسلطا واستيلاء عليهم، بل لا تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، ولا يزال الله يحدث من أسباب النصر للمؤمنين، ودفع لتسلط الكافرين، ما هو مشهود بالعيان. حتى إن (بعض) المسلمين الذين تحكمهم الطوائف الكافرة، قد بقوا محترمين لا يتعرضون لأديانهم ولا يكونون مستصغرين عندهم، بل لهم العز التام من الله، فله الحمد أولا وأخراً، وظاهرا وباطنا.أهـ تفسير السعدي.
والقول في هذه الآية، كالقول في الآية قبلها، فإن - سبيلا- اسم جنس نكرة جاء في سياق النفي فدل على عموم، أي لن يكون هنالك من سبيل للكافرين على المؤمنين، وهذا مع الإيمان الصحيح، ويؤيد ذلك ما رواه مسلم في صحيحه وغيره عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا).
فالحديث صريح الدلالة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل ربه ألا يسلط على أمته عدواً مما سوى أنفسهم، فاستجاب المولى سبحانه دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعصم أمة نبيه من تسلط الأعداء عليها حتى يكون ذلك بسبب ذنوبها وغفلتها كما قال سبحانه: ( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ). (165) آل عمران
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة) وهي ما أصيب منهم يوم أحُد من قتلى السبعين منهم، (قد أصبتم مثليها) يعني يوم بدر فإنهم قتلوا من المشركين سبعين قتيلاً، وأسروا سبعين أسيراً (قلتم أنى هذا) أي من أين جرى علينا هذا؟ (قل هو من عند أنفسكم)، عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل اللّه (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم) بأخذكم الفداء رواه ابن أبي حاتم، وهكذا قال الحسن البصري وقوله (قل هو من عند أنفسكم) أي بسبب عصيانكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم، يعني بذلك الرماة، (إن اللّه على كل شيء قدير) أي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه. أهـ تفسير ابن كثير.
وقال سبحانه : (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ). (30) الشورى
فهذه الآيات المذكورة تدل على أن ما أصاب المسلمين إنما هو بما كسبت أيديهم، بل ترك لنا القرآن عبرة في غزوة أحد إلى يوم القيامة قال سبحانه: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ). (152) آل عمران
جاء في تفسير القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قال محمد ابن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحد وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر! فنزلت هذه الآية. وذلك أنهم قتلوا صاحب لواء المشركين وسبعة نفر منهم بعده على اللواء، وكان الظفر ابتداء للمسلمين غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة، وترك بعض الرماة أيضا مركزهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب الهزيمة.
روى البخاري عن البراء بن عازب قال: لما كان يوم أحد ولقينا المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا من الرماة وأمَّر عليهم عبدالله بن جبير وقال لهم: (لا تبرحوا من مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تعينونا عليهم) قال : فلما التقى القوم وهزمهم المسلمون حتى نظرنا إلى النساء يشتددن في الجبل، وقد رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فجعلوا يقولون: الغنيمة الغنيمة. فقال لهم عبدالله: أمهلوا! أما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا، فانطلقوا فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقتل من المسلمين سبعون رجلا. ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف علينا وهو في نشز فقال: أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجيبوه) حتى قالها ثلاثا. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجيبوه) ثم قال: أفي القوم عمر بن الخطاب؟ ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجيبوه) ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه دون أن قال: كذبت يا عدو الله! قد أبقى الله لك من يخزيك به. فقال: اعْلُ هُبَل؛ مرتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجيبوه) فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: (قولوا الله أعلى وأجل). قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، (أجيبوه). قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا (الله مولانا ولا مولى لكم). قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
وفي البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال. وفي رواية عن سعد: عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد. يعني جبريل وميكائيل. وفي رواية أخرى: يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده. وعن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة معهم يومئذ، ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر. قال البيهقي: إنما أراد مجاهد أنهم لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به. وعن عروة بن الزبير قال: وكان الله عز وجل وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين: وكان قد فعل؛ فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم وترك الرماة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ألا يبرحوا من منازلهم، وأرادوا الدنيا، رفع عنهم مدد الملائكة، وأنزل الله تعالى (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه): آل عمران 152. فصدق الله وعده وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء. وعن عمير ابن إسحاق قال: لما كان يوم أحد انكشفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد يرمي بين يديه، وفتى ينبل له، كلما ذهبت نبلة أتاه بها. قال ارم أبا إسحاق. فلما فرغوا نظروا من الشاب؟ فلم يروه ولم يعرفوه. وقال محمد بن كعب: ولما قتل صاحب لواء المشركين وسقط لواؤهم، رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية؛ وفي ذلك يقول حسان:
فلولا لواء الحارثية أصبحوا يباعون في الأسواق بيع الجلائب
و ( تحسونهم) معناه تقتلونهم وتستأصلونهم. (بإذنه) بعلمه، أو بقضائه وأمره. (حتى إذا فشلتم) أي جبنتم وضعفتم. يقال فشل يفشل فهو فشِل وفشْل. وجواب (حتى) محذوف، أي حتى إذا فشلتم امتحنتم. ومثل هذا جائز كقوله (فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء): الأنعام 35 فافعل. وقال الفراء: جواب (حتى)، (وتنازعتم) والواو مقحمة زائدة؛ كقوله (فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه): 103 - 104 الصافات أي ناديناه (وعصيتم). أي حتى إذا فشلتم وتنازعتم عصيتم. وعلى هذا فيه تقديم وتأخير، أي حتى إذا تنازعتم وعصيتم فشلتم. وقال أبو علي: يجوز أن يكون الجواب (صرفكم عنهم)، و- ثم- زائدة، والتقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم.
وجوز الأخفش أن تكون زائدة؛ كما في قوله تعالى (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم): 118 التوبة. وقيل (حتى) بمعنى - إلى- وحينئذ لا جواب له، أي صدقكم الله وعده إلى أن فشلتم، أي كان ذلك الوعد بشرط الثبات. ومعنى(تنازعتم) اختلفتم؛ يعني الرماة حين قال بعضهم لبعض: نلحق الغنائم. وقال بعضهم: بل نثبت في مكاننا الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه. (وعصيتم) أي خالفتم أمر الرسول في الثبوت. (من بعد ما أراكم ما تحبون) يعني من الغلبة التي كانت للمسلمين يوم أحد أول أمرهم؛ وذلك حين صرع صاحب لواء المشركين على ما تقدم، وذلك أنه لما صرع انتشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصاروا كتائب متفرقة فحاسوا العدو ضربا حتى أجهضوهم عن أثقالهم. وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلوبة، وحمل المسلمون فنهكوهم قتلا. فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله عز وجل قد فتح لإخوانهم قالوا: والله ما نجلس ههنا لشيء، قد أهلك الله العدو وإخواننا في عسكر المشركين. وقال طوائف منهم: علام نقف وقد هزم الله العدو؟ فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول فأوجفت الخيل فيهم قتلا. وألفاظ الآية تقتضي التوبيخ لهم، ووجه التوبيخ لهم أنهم رأوا مبادئ النصر، فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات لا في الانهزام. ثم بين سبب التنازع. فقال (منكم من يريد الدنيا) يعني الغنيمة. قال ابن مسعود : ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد. (ومنكم من يريد الآخرة) وهم الذين ثبتوا في مركزهم، ولم يخالفوا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم مع أميرهم عبدالله بن جبير؛ فحمل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل عليه، وكانا يومئذ كافرين فقتلوه مع من بقي، رحمهم الله. والعتاب مع من انهزم لا مع من ثبت، فإن من ثبت فاز بالثواب، وهذا كما أنه إذا حل بقوم عقوبة عامة فأهل الصلاح والصبيان يهلكون؛ ولكن لا يكون ما حل بهم عقوبة، بل هو سبب المثوبة. والله أعلم
قوله تعالى (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) أي بعد أن استوليتم عليهم ردكم عنهم بالانهزام. ودل هذا على أن المعصية مخلوقة لله تعالى. وقالت المعتزلة: المعنى ثم انصرفتم؛ فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين من المسلمين ابتلاء لهم. قال القشيري: وهذا لا يغنيهم؛ لأن إخراج الرعب من قلوب الكافرين حتى يستخفوا بالمسلمين قبيح ولا يجوز عندهم، أن يقع من الله قبيح، فلا يبقى لقوله (ثم صرفكم عنهم) معنى. وقيل: معنى (صرفكم عنهم) أي لم يكلفكم طلبهم.
قوله تعالى (ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة. والخطاب قيل هو للجميع. وقيل: هو للرماة الذين خالفوا ما أمروا به، واختاره النحاس. وقال أكثر المفسرين: ونظير هذه الآية قوله (ثم عفونا عنك): 52 البقرة. (والله ذو فضل على المؤمنين) بالعفو والمغفرة. وعن ابن عباس قال: ما نصر النبي صلى الله عليه وسلم في موطن كما نصر يوم أحد، قال: وأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عز وجل، إن الله عز وجل يقول في يوم أحد (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) - يقول ابن عباس: والحَس القتل - (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) وإنما عنى بهذا الرماة. وذلك أن النبّي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: (احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا). فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين انكفأت الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينتهبون، وقد التقت صفوف أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم، فهم هكذا - وشبك أصابع يديه - والتبسوا. فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس: الغار، إنما كانوا تحت المهراس وصاح الشيطان: قتل محمد. فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه قتل حتى طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين، نعرفه بتكفئه إذا مشى. قال: ففرحنا حتى كأنا لم يصبنا ما أصابنا. قال: فرقي نحونا وهو يقول: (اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبيهم). وقال كعب بن مالك: أنا كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين؛ عرفته بعينيه من تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين! ابشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل. فأشار إليّ أن اسكت. الجامع لأحكام القرآن- بتصرف يسير -.
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم فشلوا في غزوة أحد كما هو ظاهر القرآن ( فشلتم ) بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنه صلى الله عليه وسلم أصيب في تلك الغزوة، والمتتبع لهذا الحادث الجلل، يدرك أن سبب فشل المسلمين في غزوة أحد، ما وقعوا فيه من مخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم، والمخالفون بالنسبة لمجموع المجاهدين قلة، فكيف بزماننا هذا الذي كثرت فيه الفتن، وعظمت فيه المحن، وأصبح فيه المعروف منكراً، والمنكر معروفاً وفي الحديث عن زينبوبنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فزعاً محمراً وجهه يقول: ( لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح من اليوم من ردم يأجوج مثل هذه وحلق بإصبعين الإبهام والتي تليها، قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث). رواه البخاري.
فالأمة إذا كثر الفساد فيها يترتب عليها الهلاك لا النجاة، وطريق نجاتها لا يكون إلا برجوعها إلى دينها لما جاء في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلَّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) أخرجه أبو داود.
بل ما كان تسلط أعدائها عليها إلا بسبب ضعف الإيمان في قلوب أبنائها كما في حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأممُ أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن))، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: (حبّ الدنيا وكراهية الموت) أخرجه أبو داود.(55/325)
وعليه فإن طريق النجاة، هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، لا مشاركة الظالمين في ظلمهم، فقد جاء في الحديث الصحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن اللّه أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم ). رواه أحمد والترمذي.
وفي رواية قال رسول الله أنه قال: (كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم). أخرجه الترمذي أيضا.
فهذه الأحاديث تدل على وجوب الأخذ على يدي الظالم، لا مشاركته والانطواء تحت رايته إن أرادت الأغلبية ذلك، الواجب على المسلم الحق أن يعتزل أهل الباطل، فإن الله سبحانه لعن بني إسرائيل بسبب عدم تناهييهم عن المنكر كما بين ذلك المولى سبحانه بقوله: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ). (81) المائدة
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل، فيما أنزل على داود نبيه، عليه السلام، وعلى لسان عيسى ابن مريم، بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه. قال العوفي، عن ابن عباس: لعنوا في التوراة و في الإنجيل وفي الزبور، وفي الفرقان. ثم بيّن حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم، فقال: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون )أي: كان لا ينهي أحد منهم أحدا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يركب مثل الذي ارتكبوا، فقال: (لبئس ما كانوا يفعلون )؛ وقال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا يزيد حدثنا شريك بن عبد الله، عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم - قال يزيد: وأحسبه قال: وأسواقهم- وواكلوهم وشاربوهم. فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال: (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا ).
وقال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا يونس بن راشد، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ) إلى قوله: (فاسقون ) ثم قال: ( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا -أو تقصرنه على الحق قصرا ). وكذا رواه الترمذي وابن ماجه، من طريق علي بن بذيمة، به وقال الترمذي: حسن غريب. ثم رواه هو وابن ماجه، عن بندار، عن ابن مهدى، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة مرسلا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج وهارون بن إسحاق الهمداني قالا حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريكه -وفي حديث هارون: وشريبه، ثم اتفقا في المتن-فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء، ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، أو ليلعنكم كما لعنهم)، والسياق لأبي سعيد. كذا قال في رواية هذا الحديث. أهـ تفسير ابن كثير.
فالواجب علينا إذا أردنا أن ينصرنا الله سبحانه، هو الأخذ على يدي الظالم، والعمل على إصلاح أنفسنا لا مناصرة الظالمين والدخول فيهم، والركون إليهم بحجة واهية قامت الأدلة على خلافها.
ثم إن الأمر لو كان كما ذهبوا إليه، أي الحصول على مناصب من أجل إصلاح المجتمع، لقبل بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حين عرض عليه قومه الملك كما جاء ذلك في سيرته صلى الله عليه وسلم، ولكنه قال قوله المشهور: ( والله يا عم: لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ).
فهذا ما علمنا إياه رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يجب أن نتأسى به، لا بنيات الأفكار، وحثالة الآراء المخالفة لسبيل المؤمنين.
5 : وجوب طاعة الأمير:
لقد سمعنا عدداً من الأحباب، ينكرون قضية الدخول في مجلس التشريع المشؤوم، لكنهم يشاركون إخوانهم في الانتخابات تحت ذريعة وجوب طاعة الأمير فيما فيه مصلحة الجماعة.
أقول: إن طاعة الأمير منوطة بطاعته لله سبحانه قال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ). (59) النساء.
وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) صححه الألباني في الصحيح الجامع. فطاعة الحكام منوطة بطاعتهم لله ورسوله، فإن خرجوا عن طاعة الله ورسوله فلا طاعة لهم، ويؤكد ذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فقلت: يا رسول الله إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا ابن أم عبد ماذا تفعل ؟! لا طاعة لمن عصى الله ).
فالطاعة لا تكون إلا بالمعروف، وأما طاعة الأمراء فيما يحلون ويحرمون من غير دليل من الكتاب والسنة، أو في مخالفتهما فهو من الشرك المحذور الذي عاب الله سبحانه على أصحابه قال سبحانه: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ). (31) التوبة
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وقوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ). روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن جرير من طرق، عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه، أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، ورغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: ( بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عدي، ما تقول؟ أيفرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يفرك؟ أيفرك أن يقال لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله إلا الله )؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم، وشهد شهادة الحق، قال: فلقد رأيت وجهه استبشر ثم قال: ( إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون). وهكذا قال حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وغيرهما في تفسير: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا. وقال السدي: استنصحوا الرجال، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم.أهـ تفسير ابن كثير.
وقال البغوي رحمه الله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ) أي: علماءهم وقراءهم، والأحبار: العلماء، وأحدها حبر، وحبر بكسر الحاء وفتحها، والرهبان من النصارى أصحاب الصوامع فإن قيل: إنهم لم يعبدوا الأحبار والرهبان؟ قلنا: معناه أنهم أطاعوهم في معصية الله واستحلوا ما أحلوا وحرموا ما حرموا، فاتخذوهم كالأرباب. روي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي: ( يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك). فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) حتى فرغ منها، قلت له: إنا لسنا نعبدهم، فقال: ( أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه ؟) قال قلت: بلى، قال: ( فتلك عبادتهم) .أهـ تفسير البغوي.
ففي هذه الأخبار، جعل المصطفى صلى الله عليه وسلم طاعة الأكابر في معصية الله، عبادة لهم، وهذه الآيات وإن كانت في حق اليهود والنصارى إلا أنها عامة في كل من وقع في ذلك من منطلق عموم الأدلة الدالة على أن الله سبحانه هو وحده المعبود المطاع، وكل طاعة لغيره فيما نهى عنه أو أمر به، هي عبادة لغيره وهي بذلك شرك.
وعليه فالواجب على كل مسلم أن يتبع الكتاب والسنة وأن لا يتعداهما بحال، فهما الحق المبين، وهما الصراط المستقيم، والله سبحانه أعلم.
فإن قيل لنا: إذا ما شاركنا القوم في ضلالهم وغيهم، هل نقف مكتوفي الأيدي نتفرج؟ أم يجب علينا أن نعمل وإن وقعنا في بعض المخالفات الشرعية من باب الأخذ بقاعدة أخف الضررين.
أقول: أ : إن المشاركة في الانتخابات التشريعية، هي رضى بالكفر، ولا يجوز أن يقع الإنسان في الكفر في حال إلا إذا أكره وقلبه مطمئن بالإيمان لقوله تعالى: ( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ). (106)النحل
وهذه الآية واضحة الدلالة بأنه لا يجوز الوقوع في الكفر إلا لمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان بالقول دون العمل، ولا بد أن يكون الإكراه ملجأ وإلا فلا، ولا شك من أن الأمر ما وصل إلى درجة التفكير ناهيك عن الوقوع فيه فعلاً ، بل إن المدقق في الواقع العام المحقق لفقهه يجد أن المصلحة الشرعية تقتضي عدم المشاركة إن كانت المشاركة مباحة، فكيف إذا كانت محرمة؟
ب: إن ما يعقده الفلسطينيون من عقود بينهم وبين يهود، عقود لا يعول عليها، إذ لا عهد ليهود قال سبحانه: ( أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ). (100) البقرة وقال الحسن البصري في قوله: (بل أكثرهم لا يؤمنون ) قال: نعم، ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم، وينقضون غدا. نقلاً عن تفسير ابن كثير.
فاليهود لا عهود لهم، وما تقوم عليه الأسس التشريعية الفلسطينية هو على ما يتم الاتفاق عليه بين الجانبين - الفلسطيني واليهودي - فهو قائم على شفا جرف هار لا أسس له، فكيف بجماعة تؤمن بكلام الله سبحانه الدال على عدم إيفاء اليهود بعهودهم، ثم يبرمون معهم عهوداً مغلظة في أكثر القضايا تعقيداً ؟
ج: من المعلوم لكل ذي بصيرة بدينه، أن من المستحيل أن يوافق اليهود على استلام أي جماعة من الجماعات الإسلامية زمام الأمور إن قدر لها الفوز في الانتخابات الباطلة، بل هم يسعون جاهدين من أجل القضاء على المظاهر الإسلامية، والحيلولة دون رجوع المسلمين إلى سابق عهدهم المجيد، وها نحن نراهم ينفقون الأموال، ويحركون أذنابهم في كل مكان من أجل إخراج الناس من النور إلى الظلمات، وتثبيت عروشهم وهيمنتهم على العالم أجمع، وهم يدركون خطورة استلام أي جماعة صادقة زمام الأمور، لأن في ذلك تهديداً لوجودهم، وعليه فلن يسمح اليهود بشكل من الأشكال أن تفوز جماعة إسلامية في ما يسمى بالانتخابات المزعومة الباطلة، وإن حصل لها الفوز، فسيعمل اليهود على نقض ما أبرموا من عهود، ويعملوا على تغير سياستهم حفاظاً على أمنهم، ويدّعون بعد ذلك أنهم يريدون السلام، وإبرام عهود مع أناس غير إرهابيين مما يؤدي ذلك إلى الضغط على عملائها للتسبب في زعزعة داخلية تؤول نهاية إلى حرب أهلية يذهب ضحيتها العديد من أبناء هذا الشعب، كما هو الحال في الجزائر نسأل الله العفو والعافية.
وما أقوله هو قراءة لحقيقة الواقع ـ وهي ما لا يختلف عليه أهل فلسطين ، فهل بعد ذلك من عذر لمن يشارك في الانتخابات التشريعية بحجة رفع الضرر عن المسلمين في فلسطين من خلال أعمال تساعد على تأجج الواقع لا رفع الضرر والحرج عنه.
وخلاصة الأمر:
إن المشاركة في الانتخابات التشريعية لا تجوز بأي حال من الأحوال على ما ذكرنا من أدلة شرعية من أبرزها: أن الانتخابات هي حكم الشعب للشعب، وهذا مبدأ كفري يقوم على أساس السيادة للشعب لا لله سبحانه، وعليه لا يجوز لأي مسلم المشاركة فيها، أو الدعوة إليها، أو بذل أي عون يؤدي إلى عقدها والله سبحانه أعلى واعلم.
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم
وكتب: إبراهيم بن عبد العزيز بركات
9 صفر 1426 هـ
===================(55/325)
حكم التحزب في الإسلام
بقلم : إبراهيم بن عبد العزيز بركات
رئيس قسم الدعوة والإرشاد بجمعية أهل السنة الخيرية
الطبعة الأولى
1425هـ 2004 م
إصدار وتوزيع : جمعية أهل السنة الخيرية
القدس بين حنينا -طلعة حزما
هاتف 5849670 فاكس 5849829
http://www.asunnah.net
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فضيلة الشيخ حفظك الله تعالى ما صحة القول بوجوب العمل ضمن حزب أو جماعة إسلامية إذ يستدل أصحاب هذا الرأي بقوله تعالى : (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) . آل عمران 103 .
وهل المخالف لذلك يعتبر آثماً وفقك الله لما يحبه ويرضاه .
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد :
فأعلم يرحمك الله تعالى أن هذا القول لا أصل له ، بل هو مخالف للكتاب والسنة وما أجمع عليه أهل السنة والجماعة ،وذلك لما يلي :
أولاً : إن الآية لا تدل على ما ذهبوا إليه لا من قريب ولا من بعيد ، بل هو مخالف لما تتضمنه من أحكام ، فالآية صريحة الدلالة على وجوب القيام بأعمال ثلاثة وهي ، الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ومن المعلوم بالضرورة لكل ذي عقل وفهم أن المتصدي لهذه الأمور لا بد أن يكون عالماً بها ، إذ لا يستطيع الجاهل التصدي إلى أعظم الأمور التي تقوم عليها مصالح العباد في الدنيا والآخرة ، وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء ،ونستطيع أن ندلل على صحة هذا القول من خلال النقاط التالية :
1 : لفظ أمة له مدلول خاص فهو مشتق من الأم بفتح الهمزة وهو القصد ، ولذلك جاء في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام :) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) . (127) البقرة
وكذلك في قوله تعالى :( وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) . ((158) الأعراف وقال سبحانه عن إبراهيم عليه السلام :( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) . (119) النحل
وبذلك يتبين لك أن لفظ أمة له مدلول أخص من مدلول الجماعة ، ويؤكد ذلك الأمر اقتران هذا اللفظ بالأعمال التي نصت عليها الآية الكريمة وهي الدعوة إلى الخير ،والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
2 : إن الواجب لا يدل على قيام الجماعة ، بل يدل على وجوب التزام ما أنيط بالجماعة من أعمال ،فلو قامت جماعة ولم تقم بما طلب منها من أعمال لا يتحقق الهدف من قيامها وعليه يكون قيامها وعدمه سيان .
3 : من المعلوم أن هذه الأعمال وهي الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ،تحتاج إلى علم بقواعد الشريعة ولا يستطيعها إلا من عرف هذه الأحكام وكيفية التزامها ، وما يترتب عليها من مصالح ومفاسد ،ولا ريب أن الجاهل فاقد لذلك كله ، فتعين المراد من هذه الأمة وهم أهل العلم لا غير ويؤكد ذلك المعنى ما ثبت عن الضحاك رضي الله عنه قال : ( وهم الصحابة والرواة خاصة ) .وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء .
تنبيه قد يتوهم البعض أن مرادي من جمهور العلماء معظم العلماء أي هنالك علماء يقولون بقولهم .
فأقول إن المقصود بجمهور العلماء القائلين بأن المراد من الأمة طائفة العلماء خاصة وهم الذين قالوا إن( من ) للتبعيض ، وأما المخالفون فقالوا إن ( من ) لبيان الجنس ،وهذا من منطلق قولهم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم بعينه .
ثانياً : لو كان فهمهم للآية فهماً صحيحاً ، لكان لهم سلف في ذلك ، خاصة في عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فهم أحرص الناس على الإتباع والقيام بما أوجب الله سبحانه حق القيام،خاصة وأن الآية مدنية أي نزلت في المدينة المنورة في ظل حكم إسلامي ، وهذا ما لم يثبت عنهم لا بدليل صحيح ، ولا بدليل ضعيف ،فلم يقم الصحابة رضي الله تعالى عنهم حزباً أو أحزاباً بعد نزول الآية الكريمة ، بل لم ينقل عن أحدهم أن المراد بالآية إقامة حزب أو أحزاب سياسية أو منهجية ، وهذا واضح للغاية ، ولا يقال : إن الصحابة لم يفعلوا ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم ،إذ إن العبرة في عموم الأمر ، بل الأمر ابتداء موجه إلى الصحابة رضي الله تعالى عنهم والناس تبع لهم وما كان واجباً على الصحابة فهو واجب على سائر الأمة ، وما كان واجباً على الأمة فهو واجب على الصحابة ، فلا فرق بيننا وبين الصحابة رضي الله تعالى عنهم من حيث التزام أحكام الله سبحانه ، وكذلك لا يقال : إن الصحابة لم يفعلوا ذلك لوجود الدولة الإسلامية . وهذا القول أيضاً لا يخفى ضعفه ، فإن الآية نزلت في المدينة المنورة أي في ظل الدولة الإسلامية وهي عامة لا تخصص بزمان ،ويدلنا على هذا القول ما تعلق بالآية الكريمة من أحكام شرعية ، وهي الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ولا أظن أحداً من المسلمين يقول : إن هذه الأعمال لا تجب إلا في ظل الخلافة الإسلامية ، وعليه يكون مذهبهم مذهباً محدثاً قام على غير أصول يعتد بها لذا فهو يندرج تحت محدثات الأمور .
ثالثاً : إن القول بوجوب تعدد الأحزاب في الأمة الإسلامية مخالف لقواعد الشريعة الآمرة بوجوب التوحد ، ويتضح ذلك من عموم الأدلة الدالة على ذلك منها قوله تعالى:(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) . (102) آل عمران
وقال سبحانه : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ) .3 الصف وقال سبحانه : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون) .َ9)) .الحجرات
وقال :: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ). متفق على صحته من حديث أبي موسى الأشعري . وروى البخاري و مسلم من طريق زكريا عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد . إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) . وفي رواية عند مسلم ( المسلمون كرجل واحد . إن اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله ) .
فهذه الأحاديث دليل واضح على وجوب وحدة الأمة ،وهي دليل أيضاً على تحريم كل الأمور التي تحول دون الوحدة الكاملة ،فإن تمثيل الرسول المؤمنين بالجسد الواحد وكذلك بالبنيان الذي يشد بعضه بعضاً ،لدليل ما بعده دليل على حرمة التباغض والتدابر ، وقد حرص كل الحرص على توثيق الأخوة الإيمانية بين المسلمين ليكونوا أمة واحدة متعاضدة متراحمة ، على خلاف ما هي عليه اليوم من التباغض والتدابر ، ولا شك أن تعدد الأحزاب في الأمة يسهم إسهاماً كبيراً في تفرقها وعدم وحدتها ، بل وفي تخالف قلوبها وتشتيت جهودها ،وقد وصف الله سبحانه المؤمنين بأعظم صفات التلاحم والتوافق والتآخي فقال سبحانه : (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) . (29)الفتح وقال سبحانه : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (63) الأنفال
فأين هذه الصفات في الأمة اليوم ؟ بل أين الأمة التي تحقق فيها معنى الأخوة القائمة على الحب في الله والبغض في الله ؟ حتماً قد أصبحت هذه الصفات في ذاكرة التاريخ الإسلامي بعيداً عن الواقع العملي إلا فيمن رحم ربي سبحانه وهم قلة قليلة وصفهم صلى الله عليه وسلم بالغرباء . ولا ريب بأن الأحزاب الإسلامية لعبت دوراً واضحاً في تفريق المسلمين وتشتيت جهودهم ، وضياع سلطانهم ،إذ لا يشك عاقل بأن تعددهم ما هو إلا نتيجة الاختلافات القائمة بينهم المفضية إلى التنازع المؤدي إلى الفشل قال تعالى : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين ) .َ (46) الأنفال
رابعاً : إن التحزب نتيجة التفرق بين الأمة الواحدة ، وقد نهى الله سبحانه الأمة عن التفرق والاختلاف ،وتوعد أصحابه بالعذاب العظيم في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . (105) آل عمران وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) . (159)الأنعام
قال الطبري في تفسير هذه الآية : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله أخبر نبيه أنه بريء ممن فارق دين الحق ، وفرقه وكانوا فرقاً فيه وأحزاباً . جامع البيان . وقال مجاهد : إن الذين فرقوا دينهم من هذه الأمة ، هم أهل البدع والشبهات . واعلم أن المراد من الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة ، وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع . تفسير الفخر الرازي وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير قوله تعالى : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء ) . قال : هم الخوارج . وقيل أصحاب البدع ، والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له ، فإن الله بعث محمداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ،وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق فمن اختلف فيه : ( وكانوا شيعاً ) أي فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات ، فإن الله تعالى قد برأ رسوله مما هم فيه . تفسير ابن كثير
وقال الشوكاني في هذه الآية : إنها تشمل الكافرين والمبتدعين لأن اللفظ يفيد العموم فيدخل فيه طوائف أهل الكتاب ، وطوائف المشركين ، وغيرهم ممن ابتدع من أهل الإسلام ، ومعنى شيعاً ،فرقاً وأحزاباً ، فتصدق على كل قوم كان أمرهم في الدين واحداً مجتمعاً ثم اتبع كل جماعة منهم رأي كبير من كبرائهم يخالف الصواب ، ويباين الحق . فتح القدير .
وقد كثرت الأحاديث عن رسول الله في حرمة التفرق والاختلاف من ذلك ما رواه أبوهريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (( ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا )) . متفق عليه وخرج الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلي الله عليه وسلم قال ((سيصيب أمتي داء الأمم قالوا يا نبي الله وما داء الأمم قال الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج )) المستدرك وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية كان في أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة وتفرق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي ) رواه الترمذي وحسنه ورواه الحاكم وغيرهما .
فهذه الأحاديث تدل دلالة واضحة على حرمة التفرق والاختلاف ، ولا يقال هنا إن المقصود بالتفرق والاختلاف ما كان متعلقاً بأصل من أصول الشريعة ، أما ما كان متعلقاً بفرع فلا يدخل في هذا الباب ، أقول هذا القول صحيح إذا قيد بقيود وهي :
1 : أن لا يتعارض مع مسألة ثابتة بالكتاب والسنة ، أو قام الإجماع عليها ، وهي ما تتعلق بالبدع المحرمة التي تعارض الشريعة الحقة .لقوله ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) متفق على صحته وقوله ، ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) أخرجه مسلم في صحيحه ، وقوله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ، في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : قال ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بسند صحيح ،والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
2 : أن لا تحدث تفرقاً وتنازعاً بين المسلمين لما جاء في الحديث عن النَّزال بن سبرة قال سمعت عبد الله بن مسعود قال: سمعت رجلا قرأ آية سمعت من النبي خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله فقال : ( كلاكما محسن فاقرآ ) قال شعبة - أحد رواة الحديث - أكبر علمي أن النبي قال : (فإن من كان قبلكم اختلفوا فأُهلكوا ) . رواه البخاري .والحديث صريح بأن الخلاف الذي يكون أصله جائزاً إذا أدى إلى وقوع الخلاف بين المسلمين فهو يحرم لا لذاته ولكن لما يترتب عليه من معاداة وتباغض بين المسلمين ، ولا يشك مسلم بأن نشر العداوة والبغضاء بين المسلمين هو مدخل من مداخل الشيطان ، قال تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون ) .َ (91) المائدة
فالشيطان يهيج الأمة على المنكرات من أجل إيقاع العداوة والبغضاء بينهم ويصدهم عن سبيل الله المستقيم ، لذا جاءت الأحاديث مشددة على ذلك ، ومبينة عاقبة العداوة والبغضاء بين المسلمين ومن ذلك ما رواه أبو هُريرةَ رضي اللهُ عنه قال: قال رسوُل الله ::(لا تَحَاسَدُوا، ولا تَنَاجَشُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدَابَرُوا، ولا يَبعْ بَعْضُكُمْ على بَيْعِ بَعْضٍ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوَاناً، المُسْلمُ أَخُو المُسْلمِ: لا يَظْلِمُهُ، ولا يَكْذِبُهُ، ولا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى ههُنا - ويُشِيرُ إلى صَدْرِه ثَلاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِىءٍ مِنَ الشَّرِّ أن يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمِ، كُلُّ المُسْلِمِ على الْمسْلِم حَرَامٌ: دَمُهُ ومالُهُ وعِرْضُه ) . رواه مسلم
وقال : (دب إليكم داء الأمم قبلكم، البغضاء والحسد، والبغضاء هي الحالقة: ليس حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت لكم ذلك، أفشوا السلام بينكم) أخرجه الإمام أحمد والترمذي وحسنه الألباني .
3 : أن لا يجعل المسائل الفرعية أصلاً لفكره بحيث يقيم الولاء والبراء فيها ،أو يعتقد أن نفسه على الحق المبين ، وأن غيره مبتدعاً قال تعالى في وصف أهل الضلال : (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) . آل عمران 7 وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) . الآية
قالت : قال رسول الله : : ( فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) . رواه البخاري وغيره . وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أيضاً قال : قال : ( الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه).
فإن وقع في شيء من ذلك يكون ممن ينطبق عليهم قول الرسول في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات ، مات ميتةً جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة ، أو يدعو إلى عصبة ، أو ينصر عصبة ، فقتل فقتلة جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برها ، وفاجرها ، ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد عهده ، فليس مني ولست منه ) .
وبذلك نكون قد ميزنا بحمد الله وفضله بين الاختلاف الممدوح ، والاختلاف المذموم ، وهو ما يعرف عند أهل العلم باختلاف التنوع والتضاد .(55/325)