ونحن نجزم أنه لا يوجد أحد من العلماء أو العقلاء يقول بإلغاء المذاهب الفقهية أو إزالتها، وكنا نود من الدكتور أن يذكر لنا واحداً يقول بهذا القول !
…ولكن الذي قاله الناس – ونحن منهم – وذلك لما رأوا من أتباع المذاهب من التعصب الأعمى لأقوال المذاهب وأصحابها، إلى حدٍّ لو جاء قول المذهب مخالفاً لقول الرسو صلى الله عليه وسلم وللثابت في الكتاب والسنة، فهم مع قول المذهب ويقدمونه على قول الرسول صلى الله عليه وسلم .!
…يتعصبون لخطأ المذهب كما يتعصبون للحق الذي فيه .. فهم يدورون مع المذهب حيثما دار ولو أدى بهم إلى مخالفة صريح السنة !!
…لما رأوا ذلك قالوا وقولهم حق: لا يجوز التعصب لقول المذهب إلى حدٍّ تضرب به النصوص الشرعية وتُرد ..!
…قالوا: المذاهب يحتمل فيها الحق والباطل، والصواب والخطأ، فيؤخذ منه الحق والصواب، ويُرد عليه الخطأ والباطل، بخلاف نصوص الشريعة – الكتاب والسنة – فإنها كلها حق وصواب، لا يمكن أن ينتابها الخطأ بأي وجه من الوجوه .
…قالوا: كل يؤخذ منه ويرد عليه عدا صلى الله عليه وسلم ، كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: كلٌّ يُؤخذ منه ويُرد عليه عدا صاحب هذا القبر؛ مشيراً إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم
…قالوا: لا يجوز التقديم ين يدي النص الشرعي – الكتاب والسنة – أو التعقيب عليه بقول المذهب أو أحدٍ من الخلق ..!
…قالوا: المذهب الصحيح في اتباع الدليل الصحيح، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم والاجتهاد، فلا ينبغي أن نغفل عن أصولهم السنية التي اجتمعوا عليها، ونحن في غمرات التقليد والتعصب ..!
جميع الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم والاجتهاد قالوا: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وكلهم ثبت عنهم قولهم: إذا جاء قولي مخالفاً للنص الشرعي فاضربوا بقولي عرض الحائط ..فعلام نعكس القول والأمر بحيث إذا جاء قول المذهب مخالفاً لقول صلى الله عليه وسلم نرد قول صلى الله عليه وسلم ونضرب به عرض الحائط ..؟!!
…فأين متعصبة المذاهب من هذه التوجيهات القيمة لأئمتنا رحمهم الله تعالى ..؟!
…قالوا: الحجة الملزمة – الذي يأثم مخالفها – في الدليل الشرعي من الكتاب والسنة، وليس في قول المذهب مجرداً عن النص .
… قالوا وقولهم حق: من أراد أن يتمذهب فعليه أن يتبع ولا يقلد؛ والفرق بين الاتباع والتقليد شاسع وكبير كالفارق بين البصير والأعمى .
…المتبع: يرد أقوال المذاهب إلى الدليل، فيأخذ أقرب الأقوال إلى الدليل الشرعي، أو على الأقل يتبع أقوال المذهب مقرونة بأدلتها الشرعية من الكتاب والسنة، فإن عجز فإنه لا يعجز أن يسأل شيخ المذهب الذي يتتلمذ على يديه أو يأخذ العلم منه – فيما يخصه ويريده من أمور الدين – عن الدليل من الكتاب والسنة فيما يفتي به ويقول .
…بينما المقلد: يتبنى أقوال المذهب لذات المذهب – كأنها نصوص
شرعية – مجردة عن أدلتها الشرعية، سواء وافقت النصوص الشرعية أم خالفتها فلا فرق عنده ..!
…فالفرق بينهما شاسع، وشتان أن يستويا ..!
…هذا الذي قاله الناس ونقوله يا دكتور: فعلام تحرف القول وتبدله..؟!!
…تبدل قولنا بوجوب إزالة التعصب المذهبي الأعمى – وهو مطلب جميع أهل العلم والعقلاء – إلى إزالة المذاهب الفقهية الأربعة وإلغائها ..!
…فالفرق بين القولين شاسع وكبير، وهو واضح لكل منصف وطالب حق .
…5- تأمل قوله: يقول لك المذاهب ده فرقت المسلمين، إيه معنى مالكي، وشافعي، وحنبلي، وإباضي، وزيدي وكذا ..الخ !!
…تأمل كيف أنه أقحم الإباضية وهي إحدى فرق الخوارج، وكذلك الزيدية وهي إحدى فرق التشيع التي تقول بقول المعتزلة في كثير من المسائل الاعتقادية، إضافة إلى قولها
في الصحابة المغاير لقول أهل السنة والجماعة .. وألحقهما بالمذاهب الفقهية السنية، وأنه كما لك يا عبد الله أن تتبع أحد المذاهب الفقهية الأربعة فلك كذلك لو شئت أن تكون إباضياً أو زيدياً لا فرق ..!
…فهو بذلك جعل حكم المذهب الفقهي القائمة أصوله على أصول أهل السنة والجماعة، كحكم الفرق الضالة المنحرفة التي أطبق أهل العلم على ضلالها وانحرافها ..!
…فالإباضية وكذلك الزيدية ليستا مذهباً فقهياً وحسب، بل هما إضافة إلى ذلك لهما أصولهما والتصور والعقائد المغايرة – في كثير من الجوانب والمسائل العقدية - لعقائد وأصول أهل السنة والجماعة، فهما طائفتان يميزهما التكتل الطائفي القائم على أساس الانتماء إلى الفرقة والطائفة أكثر من كونهم يتبعون مذهباً فقهياً تحتمل آراؤه الخطأ والصواب..
…ومع ذلك لا حرج عند الدكتور ولا مانع أن تكون من خوارج الإباضية أو من شيعة الزيدية، كما أنك لو تكون من أتباع المذهب الشافعي أو المالكي، أو الحنبلي .. فتأمل !!
…6- تأمل قوله المتكرر: المهم سيظل الناس يختلفون .. لا بد للناس أن تختلف .. طبيعة الناس لازم أن تختلف .. الخ !(54/156)
…فهو لا يريد من ذلك مجرد التوصيف لواقع الناس عندما تبتعد عن دين ربها ( ، وإنما يريد أن يقول: ما دام هذا الاختلاف أمر حتمي ولازم ولا بد منه، فهو إذاً أمر شرعي؛ لأن الله تعالى لا يحاسب الناس على أمرٍ لا بد لهم منه ..!!
…وهو مثله في ذلك مثل من يقول: أن الناس لا بد لهم من الوقوع في الخطأ والمعاصي والآثام، وأن من طبع الناس الزلل وأن يعصوا ربهم لأن العصمة للأنبياء فقط، وما دام الأمر كذلك فالمعاصي مشروعة ومباحة ولا حرج فيها لأن الله تعالى لا يحاسب الناس على أمرٍ لازم لهم ولا بد لهم منه ..!!
…فقوله الآنف الذكر يشابه هذا القول ويماثله علم بذلك الدكتور أم أنه لم يعلم .
…7- قوله أن الصحابة اختلفوا، وكانوا مختلفين .. الخ !!
…أقول: هذا القول منه جاء في سياق يوحي أن الصحابة كانوا دائمي الاختلاف، وكأنهم لم يعرفوا الاتفاق على شيء .. وعلى هذا القول الجائر نسجل الملاحظات التالية:
…أولاً: أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين كانوا أكثر الناس اتفاقاً وتوحداً، وتآلفاً، واعتصاماً بحبل الله جميعاً، كما تقدم في الأثر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال:" لم يكن أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم متحزقين.. فإذا أُريد أحد منهم على شيء من أمر الله، دارت حماليق عينيه كأنه مجنون " لشدة استجابتهم لأمر الله تعالى، وما بهم من جنة .
…وقوله" لم يكن أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم متحزقين " أي لم يكونوا متقبضين ومتجمعين في حِزق وجماعات وتكتلات متفرقة ومتناحرة، وإنما كانوا جماعة واحدة، وما حصل بينهم من خلاف في بعض المراحل – اقتضتها ظروف معينة - فهو لاشيء بالنسبة إلى مجموع حياتهم وتاريخهم النبيل، الحافل بالمواقف المشرفة .
…ثانياً: هذا القول من الدكتور يتضمن إساءة خفية لنصوص الكتاب والسنة؛ وهو كأنه يقول أن نصوص الشريعة حمالة أوجه، وهي من الغموض والتعسير ما يجعل كل صحابي أن يكون له فهمه ورأيه واجتهاده المخالف لفهم ورأي الصحابي الآخر .. وهذا يتعارض مع البيان
والوضوح والتيسير الذي نزل به التنزيل،وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
…ثالثاً: لا نخفي أن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا في بعض المسائل تحتمل الاختلاف لغة وشرعاً، وهم في ذلك كلهم مجتهدون ومعذورون ..
…رابعاً: ما اختلفوا فيه لا يعني ولا يستلزم أن جميع اختلافاتهم وآرائهم المتغايرة – وبخاصة فيما يسمى باختلاف التضاد – هي حق، وللمسلم أن يختار أي قول أو رأي يشاؤه منها من دون أن يرد أقوالهم المختلفة إلى ضوابط الترجيح المقررة في الشريعة، أو يراعي أقرب الأقوال والاجتهادات إلى النص الشرعي، وإلى مراد الشارع .. وهذا لا يمنع أن نعتقد أن جميع الصحابة مأجورون، من أصاب منهم ومن أخطأ؛ لأنهم كلهم من أهل الاجتهاد الذي يؤجر المصيب منهم بحسنتين، والمخطئ منهم بحسنة واحدة .
…خامساً: في كثير من الأحيان التي اختلف فيها الصحابة في حياة صلى الله عليه وسلم كان صلى الله عليه وسلم ينكر عليهم اختلافهم، ويحذرهم من فتنة وعواقب الاختلاف، كما في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال: سمعت رجلاً قرأ آية سمعت رسولَ ا صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده فانطلقت به إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهة، وقال:" كلاكما محسنٌ، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا ".
…وكذلك ما أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: خرج رسول ا صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ والناس يتكلمون في القدر، قال: فكأنما تفقأ في وجهه حبُّ الرمان من الغضب، فقال:" ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعضٍ، بهذا هلك من كان قبلكم ".
…هذا قول النبي المعصوم r ، أما قول الدكتور الشيخ: اختلفوا .. لا بد لكم من الاختلاف .. خُلقتم من أجل الاختلاف .. وإن أدى ذلك إلى هلاككم ودماركم !!
…سادساً: ما اختلف فيه الصحابة رضي الله عنهم لا يرقى إلى درجة الاستدلال به على جواز الاختلاف في الأهداف والغايات والوسائل والمناهج، فضلاً عن أن يُستدل به على جواز تشكيل الأحزاب السياسية وبخاصة العلمانية منها كما يزعم الدكتور ويريد !!
…8- قوله: تختار أي واحدٍ من الصحابة، فتحوا لنا باب تنوع المنازع وتعدد المشارب؛ ابن عمر مشدد، وابن عباس ميسر، والمشدد عايز ابن عمر خليك يا سيدي مع مذهب ابن عمر، بتحب التيسير خليك مع مذهب ابن عباس .. الخ !!
…أقول: هذا قول باطل ومردود من أوجه:
…منها، أن هذا الاختيار بين الصحابة وأقوالهم لا يجوز أن يخضع للهوى والمزاج، وبحسب ما يحب المرء ويهوى ويريد، وإنما الواجب أن يخضع الاختيار إلى ضوابط الترجيح – كما تقدم – المبينة في الشريعة، فما أصاب منها مراد الشارع يُؤخذ، وما كان دون ذلك يُرد ويُعرض عنه بغض النظر عن صاحبه، مع إثبات الأجر للجميع كما تقدم .
…فإن قيل كلهم – مهما تعددت أقوالهم وتباينت وتغايرت – قد أصابوا مراد الشارع؛ لأنهم صحابة، والصحابة لا يخطئون ..!(54/157)
…أقول: هذه العصمة ما زعمها الصحابة – حاشاهم – لأنفسهم، ولا زعمها لهم أحد من أهل العلم المعتبرين، وهو قول لا يصح عقلاً ولا شرعاً .
…ومنها، إذا كان لكل امرئٍ أن يختار من يشاء من الصحابة، ويتمذهب بمذهبه، والصحابة يتجاوز تعدادهم الآلاف، فأين هذا الذي يختارمحمدا صلى الله عليه وسلم ويختار سنته، ثم لماذا هذا التغييب المتعمد لذكر صلى الله عليه وسلم وذكر سنته، وما يجب له على أمته من طاعة وانقياد واتباع ..؟!
…أم أن صلى الله عليه وسلم وأقواله من الغموض والعسر ما يجعل الناس من الصعب عليهم أن يختاروه ويتبعوه ..؟!
…أهكذا يكون التأصيل العلمي يا دكتور، وهكذا تكون الطريقة المثلى في تعليم الناس – عبر الأثير – شؤون دينهم، وحب نبيهم صلى الله عليه وسلم .؟!
…ومنها، لا يجوز أن يقدم قول الصحابة مهما على قدره وشأنه على قول صلى الله عليه وسلم ، أو يُقدم بين يديه بقول أو فهم أو رأي، كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم . يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالكم
وأنتم لا تشعرون } الحجرات:2-1.
…وهذا خطاب يشمل الصحابة رضي الله عنهم، وجميع المؤمنين من بعدهم وإلى يوم القيامة، قال ابن القيم في الأعلام 1/51: فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم، فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه، أليس هذا أولى أن يكون محبطاً لأعمالهم ا-هـ .
…وقال تعالى: { فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم } النور:63.
…قال الإمام أحمد رحمه الله: الفتنة هي الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه، وجعل يتلو هذه الآية: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} .
…وقيل له: إن قوماً يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان، فقال: أعجب لقومٍ سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته ويدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، قال الله: { فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } أتدري ما الفتنة؟ الكفر، قال الله تعالى: { والفتنة أكبر من القتل} فيدعون الحديث عن رسول ا صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي(1).
…وعن إسحاق بن قبيصة عن أبيه: أن عبادة بن الصامت غزا مع ـــــــــــــــــ
(1) عن الصارم المسلول لابن تيمية:56.
معاوية أرض الروم، فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كِسَرَ الذهب بالدنانير، وكسر الفضة بالدراهم فقال: يا أيها الناس، إنكم تأكلون الربا، سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول:" لا تبتاعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثلٍ، لا زيادة بينهما ولا نَظِرَة " .
…فقال له معاوية: يا أبا الوليد، لا أرى الربا في هذا إلا ما كان من نظرة . فقال عبادة. أحدثك عن رسول ا صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن رأيك ؟! لئن أخرجني الله لا أساكنك بأرضٍ لك علي فيها إمرة (1).
…وعن أبي سلمة أن أبا هريرة قال لرجل: يا ابن أخي، إذا حدثتك عن رسول ا صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال(2).
…وعن عمران بن حُصين قال: قال صلى الله عليه وسلم :" الحياء لا يأتي إلا بخير ". فقال بُشَير بن كعب : مكتوب في الحكمة أن من الحياء وقاراً، وإن من الحياء سكينة . فقال له عمران: أحدثك عن رسول الله وتحدثني عن صحيفتك ؟!(3).
…وكان ابن عباس يقول: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر !!
…9- ما تقدم لا يمنعنا من أن نجزم – كما دلت على ذلك النصوص الشرعية – أن الصحابة رضي الله عنهم – قياساً لمن جاء بعدهم – هم الأعلم والأحكم والأسلم، وهم الأفقه بمراد الله تعالى ومراد رسوله ــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن ابن ماجة:18. (2) صحيح سنن ابن ماجة . (3) صحيح الأدب المفرد:985.
r ، لذا فإن المنهج الحق الذي يجب على الأمة أن تسلكه يكمن في اتباع الكتاب والسنة على ضوء فهم الصحابة لنصوص الوحيين، ومن تبعهم بإحسانٍ، واستن بسنتهم، وسار طريقهم ومنهجهم من علماء سلف الأمة .
…10- قوله أن ابن عمر مشدد، وابن عباس ميسر .. الخ !!
…مفهومه أن ابن عمر له مذهب مستقل قائم على التشدد في الدين، وهو إذا خير بين أمرين فإنه يجنح إلى الرأي المتشدد لأن مذهبه قائم على التشدد، بغض النظر هل هذا التشدد هو الأقرب إلى الحق وإلى مراد الشارع أم لا ..!!
…بينما ابن عباس على خلافه فهو يجنح دائماً إلى التيسير، ومذهبه قائم على التيسير، حتى أنه عُرف عند الناس – أمثال الدكتور القرضاوي – بصاحب المذهب التيسيري، وذلك لجنوحه إلى التيسير بغض النظر هل هذا التيسير هو الموافق للحق والمراد من الشارع أم لا..!
…وهذه لا شك أنها إطلاقات جائرة لا تليق بحق الصحابيين الجليلين لتضمنها قلة الأدب بحقهما، إضافة إلى أنها تخلو من المستند العلمي الصحيح .…(54/158)
…11- عندما تكلم الشيخ الدكتور عن إمكانية قيام جماعات على أساس الاختلاف في تحديد الأهداف والأولويات .. لماذا غيب الجماعة التي تقول:لا، التوحيد أولاً.. لماذا غيب ذكر منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله ..؟!!
…ربما لأن الشعوب كلها ممثلة في حكوماتها الرشيدة – عند الدكتور – قد حققت التوحيد في نفسها وفي واقع حياتها، وهي لا تحتاج إلى قيام جماعة تذكر بهذا الهدف العام الذي أُرسلت الرسل من أجل تحقيقه ..!!
…سؤال: من المعروف أن الإسلاميين يطالبون الأنظمة التي لا تحكم بالإسلام بالسماح لهم بتشكيل حزب سياسي وفق مفهوم ضرورة وجود تعددية سياسية، وفي الوقت نفسه يطرح الإسلاميون أن التعددية في ظل حكمهم أي في ظل حكم الإسلام لا تجوز، وربما يكون الشيوعيين أو العلمانيين لا يُسمح لهم بتشكيل حزب سياسي في ظل التعددية في ظل الإسلام، كيف يستقيم الأمر، كيف يطالب الإسلاميون الآن بتشكيل أحزاب سياسية، وعندما يصلون إلى الحكم لن يسمحوا للآخرين بتشكيل حزب سياسي، أليس هذا ازدواجية ..؟
…أجاب الدكتور القرضاوي: هذا طرح خلاف الفقه الذي ندعو إليه ونؤمن به، بعض الناس يقولون: إن الإسلاميين هم من حقهم فقط والآخرون لا وجود لهم، لا، نحن نسمح للآخرين ..!!
الرد والتعقيب: يكمن في النقاط التالية:
1- ها قد جاءك الغيث أيها القارئ، قد جاءك ما كنا نصبرك لأجله، قد جاءك ما كان الشيخ يخفيه في طيات عباراته وكلامه، لكن يأبى الله إلا أن يُظهر ما في قلبه من اعتقاد وزيغ؛ فها هو الشيخ يكشف عن حقيقته ويصرح بملء فيه أنه يسمح للآخرين؛ أي للشيوعيين والعلمانيين أن يشكلوا أحزاباً سياسية تتناوب على السلطة في ظل الدولة الإسلامية إن شاء الشعب ذلك.
والقضية عند الشيخ ليست من قبيل السياسة أو التكتيك بحسب ما تقتضيه المرحلة، بل هي ترقى عنده إلى درجة الإيمان والاعتقاد، ودعوة الناس والآخرين لهذا الاعتقاد .. فتأمل !!
2- تبين أن استدلاله بتنوع الآيات الكونية وباختلاف ألوان الجبال والصخور، وكذلك تعدد المذاهب الفقهية .. أنه يريد من ذلك الاستدلال على حرية وشرعية تشكيل مطلق الأحزاب السياسية بغض النظر عن هويتها أو عقيدتها الموافقة أو المغايرة لعقيدة الإسلام ..!!
وأنه إذ كان ينافح عن مبدأ التعددية السياسية فهو يريد من ذلك مطلق التعددية؛ الإسلامية منها وغير الإسلامية، وهذا بخلاف ما كان يوحي كلامه السابق للسامعين ..!!
3- إذا كان الدكتور الشيخ يسمح للأحزاب الشيوعية الملحدة وغيرها من الأحزاب العلمانية المرتدة بأن تنشط لبرامجها الكفرية بين الناس، بل وأن تستلم البلاد وتحكم العباد بقوانينها وشرائعها الكفرية .. إذا كان الدكتور يسمح بذلك فأين يذهب بمئات النصوص من الكتاب والسنة – وقد تقدم بعضها – التي تحض وتوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تقضي كذلك بأن الرضى بالكفر كفر وخروج عن الملة، فضلاً عمن يدعو وينشط حراً مختاراً لنشر هذا الكفر ..؟!!
…كيف يتعامل الشيخ الدكتور مع هذه النصوص المحكمة، وكيف
يفسرها، وكيف يفهمها .. أم أنها لم تعد داخلة في مفردات دعوته ومبادئه ..؟!
…4- هذه الدعوة من الشيخ بالسماح للأحزاب الشيوعية والعلمانية بأن تنشط لبرامجها وكفرها في المجتمعات الإسلامية، وفي ظل دولة الإسلام – كما يريد الدكتور – وأن تحكم البلاد والعباد لو اختارها الشعب .. هذا يستلزم منه بالضرورة أن يعترف بشرعية وحرية ارتداد المسلمين عن دينهم؛ لأن هذه الأحزاب الباطلة عندما تترعرع وتنشأ في بلاد المسلمين وفي مجتمعاتهم فإن مادتها وعناصرها وضحاياها يكونون من المسلمين ومن هذه المجتمعات، ولن يكونوا من غيرها ..!!
…وهذا أمر مناقض لصريح الأدلة، وما هو معلوم من الدين بالضرورة .
…سؤال: تسمح للآخرين بما فيهم الشيوعيين ..؟!
…أجاب الدكتور القرضاوي: إذا كان سيحترمون الدستور .. نحن ذكرنا شرطين أساسيين؛ إذا احترموا هذين الشرطين يُعرضوا أنفسهم على الأمة، وإذا كانت الأمة مسلمة لن تقبل الشيوعيين ..!
…في الحالة ديت يبقى تغيرت هوية الأمة، لم تعد الأمة مسلمة، لم يعد المجتمع مسلماً، يبقى محتاجين إلى أن نبني الأمة من جديد، إنما إذا وجدنا أمة مسلمة، وجدنا مجتمعاً مسلماً فلن يختار إلا الأقوياء الأمناء الذين يمثلون الإسلام حقيقةً !
…أما القول: بأن نحن نطالب الغير الإسلاميين بأن يسمحوا لنا، فإذا
سمحوا لنا وصلنا عن طريق التعددية منعنا الآخرين، هذا لا يليق حتى أخلاقياً، لا يجوز هذا ..!!
…التعقيب والرد: يكمن في النقاط التالية:
…1- قوله عن احترام الدستور، والتحاكم إلى الدستور .. قد تكرر في حديثه أكثر من مرة، موهماً السامعين أنه يريد بالدستور الإسلام، والحقيقة هي غير ذلك؛ فالدستور الذي يريده ويقصده شيء، والإسلام شيء آخر .(54/159)
…وذلك أن الدستور عادة – وبخاصة في المجتمعات التي تقوم على التعددية السياسية والحزبية – تُصاغ مبادئه من خلال اجتماع جميع الأطراف والأحزاب الموجودة – بما فيها العلمانية وغيرها من الأحزاب الباطلة – على تلك المبادئ واتفاقهم عليها، وبطريقة تضمن مصالحهم وترضي جميع الأطراف والاتجاهات القائمة والموجودة .
…ودستور كهذا – يخضع لأهواء ورغبات ومصالح الأحزاب والاتجاهات الباطلة – لا يجوز أن يُسمى دستوراً إسلامياً، وبالتالي لا يجوز احترامه، فضلاً عن أن يُتحاكم إليه كما يزعم ويريد الشيخ الدكتور ..!!
…2- للمرة الثانية والثالثة يكرر الدكتور أن القضية موقوفة عند حد الاحترام فقط، وأنه يكفي للاعتراف بشرعية الأحزاب الشيوعية وغيرها من الأحزاب الباطلة وللتعايش معها أن تحترم ثوابت الأمة .. وبعد ذلك فلهذه الأحزاب أن تفعل ما تشاء وبمطلق الحرية!!
…كيف يفترض الشيخ الدكتور أحزاباً شيوعية ملحدة قائمة على الإلحاد ومحاربة الله ورسوله، وبنفس الوقت هي تحترم ثوابت الأمة ..؟!!
…فإن قوله الآنف هذا هو من قبيل القول بالشيء وضده في آنٍ معاً، ومن باب تحميل الأمور مالا تحتمل، وتوصيفها بما لا تتصف ..!! …3- قوله: يُعرضون أنفسهم على الأمة .. الخ !
…هو توكيد لما تقدم من أن الحكم - عند الدكتور وحزبه – الذي ترد إليه النزاعات والخلافات هي الأمة والناس والجماهير – كما تقول الديمقراطية – وليس شرع الله تعالى بغض النظر عن موافقة الأكثرية أو معارضتها ..!
…وهذا التكرار والتوكيد على الالتزام بحاكمية الشعب إنما يدل على أن القضية – عند الدكتور - ليست عبارة عن هفوة لسان قد يقع بها المتكلم، وإنما هي عقيدة ومبدأ ومنهاج يتبنونه بكل وقاحة ومن دون أدنى حياء ..!
…4- عزاء الدكتور ومن لف لفه هو زعمهم المتكرر بأن الأكثرية لن تكون إلا معهم، وبالتالي لا خوف من الأحزاب الباطلة الأخرى، لو نشرت كفرها وعرضت نفسها على الناس ..!
…وهذه مراهنة ومقامرة بدين الله تعالى، وبسلامة دين العباد لا يجوز الإقدام عليها تحت ذريعة أن الأكثرية لن تكون إلا مع الحق .. وقد تقدم الرد على هذا الزعم الساقط بما يغني عن التكرار هنا .
…ولكن نضيف هنا: أنه ليس من الدين ولا العقل أن نضع الناس – على ما معهم من رصيدٍ إيماني ضعيف – بإرادتنا في وسط لهيب الفتن
والأهواء، والآراء الضالة المنحرفة، وفي أجواء يسودها تحريش الغرائز والشهوات بفنون الفجور والفسق، ثم نقول لهؤلاء الناس المساكين: لا عليكم، نحن إذ رخصنا بذلك لأننا نعلم أنكم لن تُفتنوا، ولن تتأثروا بباطلهم في شيء، وأنكم مهما كانت إغراءات أهل الباطل كبيرة وضخمة فلن تلتفتوا إليها، وأنكم دائماً ستكونون إلى صفنا لأننا نحن على الحق ..!
…وهؤلاء مثلهم مثل من يلقي المرء في وسط البحر الهائج ثم يقولون له نحن إذ نفعل فيك ذلك لأننا نعلم أنك لن تغرق ولن تتبلل ..!
…ومثلهم كذلك مثل من يلقي المرء في النار الهائجة ثم يقول له: حذار أن تحترق أو تتأثر بحرها ولهيبها ..!
…وفات هؤلاء الضلال أن القلوب مهما تعاظم فيها الإيمان فإنها تتأثر سلباً وإيجاباً بالمحيط الذي تعيش فيه؛ فإن كانت تعيش في أجواء يسودها الإيمان والطهر والعفة فإن الإيمان في القلوب يقوى ويزداد وينمو إلى أن يُصبح كالجبال، وإن كانت تعيش في أجواء الكفر والعهر والفسوق فإنها لا محالة سوف تضعف وتضعف حتى يذبل فيها الإيمان ويذهب بريقه إلى أن يصبح كالذرة، وربما – مع الاسترسال في المعاصي والإهمال –يذهب أثره ووجوده كلياً من القلب .. لذلك شرع الله تعالى الهجرة، وشرع غض الطرف عن الحرام، واجتناب الفواحش والمنكرات، واعتزال مجالس أهل الباطل والأهواء، وشرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى .
قا صلى الله عليه وسلم :" تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نُكتت فيه نكتة سوداء .." مسلم .
…وعن ابن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل .البخاري .
…وقد تقدم قول صلى الله عليه وسلم في القوم الذين استهموا على سفينة في البحر وفيه:" فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً " .
…لكن الدكتور وحزبه – كما هو ظاهر من منطوقهم وأدبياتهم – من الفريق الذي يقول: اتركوهم يخرقون السفينة بمعاولهم كيفما يشاؤون، اتركوهم يغرقون المجتمعات بالمنكرات والمعاصي، فهذا من الحرية التي لا ينبغي أن نسلبهم إياها، اتركوهم يدمرون المجتمعات بمعاول الكفر والإلحاد وإن أدى ذلك إلى هلاك البلاد والعباد ..!!
…هذا هو خيار الدكتور وهذا هو قوله وموقفه؛ فهو مع الهلاك والدمار وليس مع النجاة والعافية ..!
…ثم كون الإيمان يزداد بالطاعات، وينقص ويضعف بالذنوب والمعاصي فهو مما دلت عليه عشرات النصوص من الكتاب والسنة، وهو من جملة الأصول والمبادئ التي اجتمعت عليها عقيدة أهل السنة والجماعة، وبحث ذلك له موضع آخر .(54/160)
…5- قول الدكتور: هذا لا يليق أخلاقياً، لا يجوز هذا .. الخ !!
…يقصد ويريد أنه لا يجوز للمسلمين بعد أن يصلوا إلى الحكم أن
يمنعوا الشيوعيين وغيرهم من الأحزاب الكافرة المشركة أن ينشطوا لباطلهم وكفرهم، أو أن يمنعوهم من حكم البلاد والعباد لو اختارتهم الأكثرية.. وهذا قول مفاده تحريم ما أحل الله، وإبطال ما أوجب الله تعالى؛ فالله تعالى أوجب على المسلمين أن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر ويزيلوه وبخاصة إن كان هذا المنكر يرقى إلى درجة الكفر والشرك والارتداد عن الدين، ومع ذلك يقول الشيخ الدكتور: هذا لا يجوز، ولا يليق أخلاقياً ..!!
…ومفاد إطلاقه الجائر هذا – إضافة إلى ما تقدم – أنه يصف دين الله وشرعه الذي أوجبه على عباده بأنه غير أخلاقي .. فتأمل !!
…نسأل الله تعالى الثبات وحسن الختام .
…سؤال: هذا يدفعنا إلى سؤال عن كيفية تداول السلطة في ظل التعددية أيضاً، كيف يتم تداول السلطة في ظل التعددية ؟
…أجاب الدكتور القرضاوي: من أهم مظاهر التعددية أمران أساسيان: وجود معارضة للسلطة، وإمكانية تداول السلطة، ممكن السلطة تتداول، الناس بعد كل مدة يختارون من يحكمهم، فالبعض يقولون: بعدما نحكم بالإسلام يعني نعرض نفسنا إننا نسقط في الانتخابات ؟
…والله إذا كنت أنت أخذت ثقة الناس وأنت لم تحكم، إذا بعد أن حكمت في الإسلام وصارت السلطة في يدك، وفي يدك مقاليد الأمور ثم أسأت حتى فقدت ثقة الناس، يبقى أنت لست أهلاً لأن تحكم، فالمفروض أن المسلمين الذين أوصلهم الناس بآرائهم وبأكثريتهم إلى سدة الحكم وإلى السلطة بعد أن تكون السلطة في أيديهم يكونوا أكثر خيراً وأكثر نفعاً للناس، وأكثر إفادة لهم وأكثر تطبيقاً للإسلام، فيزداد الناس تعلقاً بهم وحباً لهم..
…إنما إذا كان في الحكم أساءوا وفرطوا أو أفرطوا حتى فقدوا الثقة، يستهلوا إيروحوا في داهية !!
…التعقيب والرد: يكمن في النقاط التالية:
…1- جواب الدكتور بان أهم مظاهر التعددية وجود المعارضة، وإمكانية تداول السلطة .. هو جواب ينطلق من نظرة الديمقراطية لهذا الأمر، وليس من منطلق الإسلام ومنظوره، لأن هذا التقسيم والتنظير من الشيخ ليس عليه أدنى دليل من شرع الله تعالى، فالشيخ الدكتور يتكلم كأنه إنسان ديمقراطي صرف، لأن هذا السؤال الذي وجه إليه لو وجه إلى أرباب الديمقراطية في بلاد الغرب موطن نشأتها لأجابوا بما أجاب به الشيخ ومن دون أن يزيدوا عليه كلمة واحدة ..!!
…2- قول الشيخ الدكتور: ممكن السلطة تتداول، الناس بعد كل مدة يختارون من يحكمهم .. هو تأكيد من الشيخ لما تنص عليه الديمقراطية بأن أنظمة الحكم وإدارتها تتغير وتتبدل بحسب اختيار وإرادة الشعب؛ فإذا الشعب يوماً أراد الكفر والإلحاد والشرك أن يعلو ويحكم البلاد والعباد فيجب – على قول الشيخ الدكتور – أن يحكم البلاد والعباد، وإن أرادوا يوماً أن يجربوا الحكم بالإسلام فلهم ذلك ..!!
…والشاهد أن مرد هذا الأمر الهام – في نظر الشيخ – الذي له
مساس بالعقيدة والتوحيد إلى الشعب وإلى إرادته واختياره ومزاجه، وليس إلى الله تعالى وإرادته ؟!!
…3- ليس بالضرورة – كما يزعم الدكتور – أن الناس يختارون غير المسلمين بسبب ممارساتهم الخاطئة في الحكم .. فإن عوامل التأثير على قرار وتفكير الناس التي تحدد سيرها واختيارها في اتجاه دون اتجاه كثيرة جداً، وهي لا تخفى على دهاقنة الحكم والسياسة، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك .
…وفي تجارب عديدة معاصرة في أكثر من قطر نجد أن الناس اختاروا غير الإسلاميين، ولأسباب قد لا تتعلق بالممارسات الخاطئة للمسلمين ..!
…4- إذا اختار الناس غير المسلمين وغير دولة الإسلام – لأي سببٍ كان – اتروح دولة الإسلام والتوحيد في داهية ..؟!!
…أهكذا يكون التأصيل العلمي الشرعي يا دكتور، وهكذا يكون إضمار الخير الواجب – الذي لا يصح الإيمان إلا به – للإسلام والمسلمين..؟!
…وإذا كان الإسلام والمسلمون ايروحوا في داهية .. فهذا من لوازمه أن تقول مرحباً بدولة الكفر والإلحاد التي يختارها الناس كبديل عن الإسلام ودولته ..!!
…نرجو أن تُتهم في عقلك يا شيخ قبل أن يتهمك الناس في دينك، وقد فعلوا ..!
…سؤال من مداخل: قال الشيخ بالانتخاب ممكن الناس يعرفوا أهل الحل والعقد، مع احترامي لفضيلة الشيخ، هذا الكلام في عصرنا الحاضر مستحيل، لأن عملياً أن أهل الحل والعقد هم الذين يملكون المال والجاه ويملكون مزايا أخرى، أما الذين يملكون الفهم والفكر ولا يملكون هذه المؤهلات الأخرى في هذا الزمن الأمريكي، في نظري لم يعودوا أهلاً لا للحل ولا للعقد، وأعتقد أن الانتخاب خطأ ..
…أجاب الدكتور القرضاوي: كيف يصل الإسلاميون يا أخي بأي طريقة، ما هي الطريقة التي تقترحها ليصل الإسلاميون ..؟!
…الآن ما الذي يُفعل، الغرب يؤيد الديمقراطية إلا في بلاد الإسلامية للأسف، فهو يحارب الديمقراطية إذا جاءت بالإسلاميين حتى ولو جاءت بهم جزئياً كما حدث في تركيا لما جاء حزب الرفاه ..!(54/161)
…وأنا أقول للأخ: في المجتمعات الكبيرة والمعقدة كيف نصل إلى أهل الحل والعقد، يعني إذا لم يكن بالانتخاب كيف نعرف أهل الحل والعقد فيها ..؟!
…مثلاً 130 مليون مثل الباكستان أو بنغلادش، أو 200 مليون أندونيسيا، بلاد واسعة وعشرات الملايين، ليس هناك من حل إلا أن نقسم البلاد إلى دوائر، ونضع شروط ممكن أن نضع شروط للناخب، ونضع شروط للمرشح، ما نأخذ واحد سكير، لازم يكون إنسان مرضي السيرة، واحد شهد الناس بسوء أخلاقه أو بسوء سيرته لا يصلح ..!
…التعقيب والرد: يكمن في النقاط التالية :
…1- السائل يسأل – على وجه الاعتراض على قول الدكتور – أننا لا يمكن أن نفرز أهل الحل والعقد عن طريق الانتخابات الديمقراطية، وفي هذا الزمن الأمريكي .. كما قال .
…بينما يأتي جواب الدكتور وتعقيبه – وبخاصة الشطر الأول من كلامه – عن كيفية وصول الإسلاميين إلى الحكم أو المناصب الحكومية .. فالسؤال من هذا الوجه في وادٍ والجواب في وادٍ آخر !
…2- قول الدكتور معترضاً على السائل: كيف يصل الإسلاميون بغير طريق الديمقراطية والانتخابات .. يريد من ذلك أن يقول أنه لا سبيل إلى تحقيق الأهداف إلا عن طريق الديمقراطية وصناديق الاقتراع ..!!
…وهذا قول باطل مردود بنصوص الكتاب والسنة، ويكفي هنا أن أرد القارئ إلى ما كتبناه في نهاية هذا الكتاب تحت عنوان " المسلمون لا يصلون إلى غاياتهم عن طريق الديمقراطية " وعنوان " ما هو البديل وكيف السبيل " .
…3- قول الشيخ الدكتور الذي يوحي أنه لا بديل عن الانتخابات الديمقراطية لإفراز أهل الحل والعقد، وأنه لا يمكن معرفتهم إلا عن طريق الانتخابات .. هو قول باطل ومردود، وذلك من أوجه:
…منها، أن المسلمين عبر تاريخهم المديد، وبرغم توسع دولتهم في أطراف الأرض كان لهم أهل الحل والعقد ومن دون أن يجربوا الانتخابات الديمقراطية أو يفكروا بها أصلاً..!
والدين يقتضي منا أن نتلمس الطرق التي سلكها سلفنا الصالح في إفراز أهل الحل والعقد، فنسلكها ونهتدي بها.
…ومنها، أن الانتخابات الديمقراطية – بحكم قوانينها وأنظمتها الملاصقة بها والتي لا يمكن لها الفكاك عنها – تفرز شرائح من الشاذين والمنحرفين لا يمكن بأي حالٍ أن يكونوا من أهل الحل والعقد ..!
…ومنها، أن الانتخابات الديمقراطية وسيلة شركية يستوي فيها الكافر والمؤمن، والجاهل والعالم، لها مساس بالعقيدة والتوحيد، وهي ليست مجرد وسيلة إدارية وتنظيمية يمكن اعتمادها كما يصور الدكتور القرضاوي ..!
…وللجواب على سؤال الدكتور القرضاوي – الذي جاء بصيغة الرد والتعقيب على السائل – : كيف للمسلمين أن يعرفوا أو يفرزوا أهل الحل والعقد من غير طريق الانتخابات ..؟!
…أقول: عند الحديث عن هذا الموضوع الهام، لا بد من التفريق بين المجتمع المسلم الذي تخضع جميع مؤسساته ومناحي الحياة فيه إلى حكم الإسلام وقانونه، وبين المجتمع الذي يخضع لحكم الطاغوت وقوانينه الكفرية .. وهذا التفريق هام وضروري لمن أراد ضبط المسألة وبيان وجهة الحق فيها .
…أولاً: إفراز ومعرفة أهل الحل والعقد في ظل المجتمع المسلم الذي يُحكم بالإسلام وشرائعه .
…ويتم ذلك من خلال تحديد المعايير والصفات التي تعين على إفراز أهل الحل والعقد إلى حيث الوجود؛ من هذه المعايير اعتبار ومراعاة تاريخ الرجل الجهادي، فمن كان له سابقة جهاد وابتلاء في نصرة هذا الدين يُقدم على من لا جهاد له، ولم يكن له سابقة ابتلاء في سبيل إعلاء كلمة هذا الدين .
…وهذا أمر قد دلت عليه السنة، حيث كان صلى الله عليه وسلم يخص أهل بدر بأمورٍ لم يخص غيرهم بها، كما في الحديث الصحيح:" إن الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " . وقا صلى الله عليه وسلم :" لن يدخل النار رجل شهد بدراً والحديبية " مسلم. وكان أهل بدر يُميزون بالمشورة وغيرها حتى في عهد الخلفاء الراشدين ..
…ومنها، مراعاة الأقدمية في الدخول ونصرة هذا الدين، فالأقدم يُقدم في الشورى على من كان حديث عهد بهذا الدين، وهذا مقرر في الشريعة، كما قال تعالى: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد اللهُ الحسنى والله بما تعملون خبير} الحديد:10.
…وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم :" لا تسبوا أحداً من أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مٍثل أحدٍ ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه ".
…وذلك أن عبد الرحمن بن عوف كان من السباقين في الدخول في هذا الدين، الذين شهدوا المشاهد مع صلى الله عليه وسلم كبدر، وبيعة الرضوان تحت الشجرة وغير ذلك، وهؤلاء أخص بصحبة صلى الله عليه وسلم وافضل ممن أسلم بعد الحديبية أو فتح مكة، ولم يشهد ما شهده الأوائل من تضحيات ومواقف بطولية مع صلى الله عليه وسلم ، وفي نصرة هذا الدين فاتت من أسلم بعدهم أو تأخر إسلامه .(54/162)
بل إن صلى الله عليه وسلم كان يراعي هذا المبدأ في التعامل والاصتفاء حتى مع شخصي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، على عظم فضلهما وتقارب منزلتهما في الإسلام، كما في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي الدرداء قال:" كنت جالساً عند صلى الله عليه وسلم ، إذ أقبل أبو بكرٍ آخذاً بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبتيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما صاحبكم فقد غامر – أي دخل في غمرة الخصومة – فسلَّم، وقال: إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقا صلى الله عليه وسلم : يغفر الله لك يا أبا بكرٍ ثلاثاً، ثم أن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكرٍ فسأل أثَمَّ هو ؟ فقالوا: لا، فأتى صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فجعل وجه صلى الله عليه وسلم يتمعَّر حتى أشفق أبو بكر – أي أشفق على عمر لما رأى من غضب صلى الله عليه وسلم عليه، فجثا – أي أبو بكر – على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلَمُ مرتين، فقال صلى الله عليه وسلم : إن الله بعثني إليكم، فقلتم كذبت وقال أبو بكرٍ صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي، فهل أنتم تاركو لي صاحبي – مرتين – فما أُذي بعدها " .
…وقا صلى الله عليه وسلم :" لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً، لا يبقين في المسجد خَوخَةٌ إلا سُدت إلا خوخة أبي بكر " متفق عليه . وذلك لأسبقية أبي بكر ( في نصرة هذا الدين ورسول هذا الدين .
…والأحاديث الدالة على العمل بهذا الأصل والمبدأ – في إفراز القيادة وأهل الحل والعقد - أكثر من أن تُحصر في هذا الموضع .
…ومنها، إضافة إلى ما تقدم ينبغي مراعاة الأتقى والأعلم والأقوى؛ وهناك القرائن العديدة التي تعين على تمييز هؤلاء عن غيرهم من الناس، لا يمكن أن تخفى على دولة صادقة في تعيين وإفراز أهل الحل والعقد للبلاد .
…ومنها، مراعاة أهل التخصص والكفاءات العلمية المتنوعة .. ويمكن الاستفادة في ذلك من جميع أفراد الأمة بغض النظر عن انتماءاتهم القطرية والجغرافية .
…أما عن الآلية التي يتم بها اختيار هذه الصفوة، هل يتم ذلك عن طريق الانتخاب والتصويت، أو عن طريق اختيار لجان متخصصة تُفرز لهذه المهمة، أو عن طريق اختيار الحاكم المسلم لها .. فكل هذه الطرق واردة وممكنة ولا حرج فيها من الناحية الشرعية .
…المهم أن يكون هذا الاختيار – إن تم إفرازهم عن طريق الانتخاب والتصويت – بين الأصلح والأصلح، أو على الأقل بين الصالح والأصلح، والحسن والأحسن، فالأصوات في هذه الحالة أينما دارت واستقرت فإنها تستقر على الأحسن والحسن .. وهذا بخلاف الديمقراطية – التي يريدها الدكتور وحزبه – التي تجعل التنافس على الحكم وقيادة البلاد ممكناً بين الكافر والمؤمن، وبين الطالح والصالح، والأصوات على أيهما تستقر وتختار فهو الفائز وهو الذي يحكم البلاد والعباد وبالدين الذي يشاء ..!!
…الطريقة الشرعية هي التي تجعل الانتخاب ممكناً عندما يكون اختيار الأمة بين علي وعثمان رضي الله عنهما، بينما الانتخابات الديمقراطية – كما تقدم – هي التي تجعل التصويت والاختيار بين علي ( ومسيلمة الكذاب ممكناً ومباحاً .. أرأيت الفارق ؟!
…الطريقة الشرعية هي التي تُقصر التصويت والانتخاب على الأشخاص دون المناهج والأفكار والبرامج، إذا لا خيار للمسلمين أن يختاروا غير الإسلام، إلا في حال آثروا الكفر على الإيمان، والمروق من الدين فحينها ليس بعد الكفر ذنب ..!
…بينما الطريقة الديمقراطية تجعل التصويت والاختيار يشمل العقائد والأفكار كما يشمل الأشخاص، فتجعل التصويت على الدين والعقائد كالتصويت على الأشخاص لا فرق ..!
…الطريقة الشرعية تلزم الناخب الذي يدلي بصوته لاختيار الحاكم المسلم أن يكون مسلماً عدلاً؛ أي لا يجوز للمطعون في عدالته وأخلاقه أن تُقبل شهادته في هذا الأمر الهام، فضلاً عن أن تقبل شهادة الأعداء من المشركين والمرتدين، كما قال تعالى: { وأشهدوا ذوى عدلٍ منكم وأقيموا الشهادة لله } الطلاق:65.فمن شروط صحة الشهادة عدالة الشاهد، فإن قيل هذا في النكاح والزواج، أقول: اشتراط العدالة في الناخب الذي يدلي بشهادته في تحديد هوية الحاكم المسلم الذي يحكم البلاد والعباد بالإسلام أولى وأوكد .
…بينما الطريقة الديمقراطية – كما تقدم – تستوي فيها شهادة أتقى وأعلم أهل الأرض مع أكفر وأجهل أهل الأرض .. فتأمل !
…ثانياً: إفراز أهل الحل والعقد في ظل الأنظمة الديمقراطية العلمانية .(54/163)
…أما في ظل المجتمعات التي تخضع لحكم وقوانين الكفر والشرك، فإنه يتعسر على الأمة أن تحدد أهل الحل والعقد على مستوى الأمة أو القطر وفق المعايير والشروط الآنفة الذكر – وهذا واقع نعايشه ونلمسه – وبالتالي لا يمكن أن يقال أن ما تفرزه الانتخابات الديمقراطية في تلك المجتمعات من عناصر نيابية وقيادية – بغض النظر عن انتماءاتهم وتوجهاتهم – هم بمثابة أهل الحل والعقد في الإسلام؛ لأن الانتخابات الديمقراطية – كما تقدم – لا تخضع لشروط ومعايير الإسلام في تحديد هوية وشخصية أهل الحل والعقد .
…ولكن بقي أن نشير إلى أن الطائفة المنصورة المجاهدة التي من الممكن أن تتواجد في بعض تلك المجتمعات، لها أن تحدد الآلية – وفق المعايير والشروط الآنفة الذكر – في اختيار أهل الحل والعقد من عناصرها وأفرادها بالنسبة إليها كجماعة وليس كأمة، والله تعالى أعلم .
…4- قول الدكتور ممكن أن نضع شروط للناخب، ونضع شروط للمرشح، ما نأخذ واحد سكير .. الخ !
قد يوحي للسامع أو القارئ أن الشيخ قد ضبط المسألة وقيدها بقيودها الشرعية.. والحقيقة أن الأمر ليس كذلك .
…وحتى يُفهم كلام الدكتور جيداً، ونُنزله منزله الذي يريده ويقصده، لا بد أن نعرف في أي المجتمعات والدول يريد الشيخ أن يشترط شروطه الآنفة الذكر، فإن قال أقصد وأريد هذه الدول العلمانية التي تحصل فيها تجارب ديمقراطية – وهذا الذي يحتمله سؤال السائل – نقول له: قد أخطأت وتشبعت بما لم تُعط، وتظاهرت بما ليس عندك، وأنت واهم؛ لأنك أعجز وأضعف من أن تفترض شروطك تلك على القوم، ولو فعلت فسوف تكون محطة سخرية الجميع؛ لأن الجميع سيقولون لك: ما تشترطه ممكن أن يتحقق في غير المجتمعات الديمقراطية، أما في ظل المجتمعات الديمقراطية النيابية لا يمكن أن نقبل بشيء اسمه شروط تحدد من حريات ورغبات الشعب ..!!
…فإن قال: لا ، أنا أقصد وأريد المجتمع المسلم، وعندما يكون للمسلمين سلطان ودولة .. !!
…نقول له: قد تقدم من كلامك أنك تجيز للشيوعيين وغيرهم من العلمانيين أن ينتخبوا وأن يرشحوا أنفسهم، بل وأن يحكموا البلاد لو اختارتهم الأكثرية .. وذلك كله في ظل دولة الإسلام وفي المجتمع المسلم .. وبالتالي ما قيمة شروطك الواهية هذه مع كلامك المتقدم هذا ؟!!
…ثم أيهما أشد خطراً وانحرافاً الشيوعي الملحد الذي رخصت له، أم السكير الذي تريد منعه، وتحذر الأمة من أن يُسمح له أن ينتخب أو يرشح نفسه ..؟!
…وهل القضية تنتهي – عندك يا دكتور – بمجرد أن يكون المرء حسن السيرة وغير سكِّير، ثم له بعد ذلك كل شيء، وكامل الحقوق في أن يكون حاكماً للبلاد والعباد وبالدين الذي يشاء ..؟!!
…سؤال من مُداخل: بالنسبة للدولة كالعراق توجد 50% شيعة، و 50% سنة، وإذا صارت الانتخابات حسب المذاهب، ممكن تتقسم إلى دويلات صغيرة بحسب الانتماءات الطائفية ..؟!
…أجاب الدكتور القرضاوي: أمتنا لا يمكن أن تقوم لها قائمة إلا إذا توحدت ونسيت الخلافات الجزئية، كن شيعياً، كن سنياً، كن كردياً .. كن أيَّاً ما تكون، ولكن الوحدة هي سبيل الخلاص، لا بد أن توجد أساليب كيف يتعامل المختلفون عرقياً، كيف يتعامل المختلفون مذهبياً ..!
…نحن للأسف لم توجد عندنا هذه السبل، بحيث نستطيع ونحن مختلفون تختلف آراؤنا، وتختلف اتجاهاتنا، ولكن الاتجاه الأساسي واحد وهو مصلحة الجميع، والمصلحة العليا للجميع ..!!
…التعقيب والرد: يكمن في النقاط التالية:
…1- إذا كان الخلاف بين السنة والشيعة الروافض – الضارب الجذور عبر التاريخ وإلى يومنا هذا – خلافاً جزئياً لا يرقى أن يكون خلافاً عاماً له مساس بالأصول وثوابت هذا الدين، يتحدد لأجله ولاء وبراء، فمتى يكون ..؟!
…هل تكذيب الشيعة الروافض للقرآن الكريم وقولهم بتحريفه، هو خلاف جزئي يا دكتور ..؟!
…وهل تكذيبهم للسنة وردهم لما جاء في صحيحي البخاري ومسلم، هو خلاف جزئي ..؟!
…وهل بغضهم وسبهم وتكفيرهم للصحابة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – هو خلاف جزئي ..؟!
…وهل قولهم بعصمة الأئمة، وأن الوحي يتنزل عليهم كما كان يتنزل على صلى الله عليه وسلم هو خلاف جزئي ..؟!
…وهل نسبة خصائص الإلهية والربوبية لأئمتهم .. هو خلاف جزئي .. ؟!!
…كقول أحدهم:" فإن للإمام مقاماً محموداً ودرجة ساميةً وخلافة تكوينية، تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون .. وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل .. فإن جميع الأوامر الصادرة عن الأئمة في حياتهم نافذة المفعول، وواجبة الاتباع حتى بعد وفاتهم .. لأن الذين لا نتصور فيهم السهو أو الغفلة ونعتقد فيهم الإحاطة بكل ما فيه مصلحة للمسلمين .. إن تعاليم الأئمة كتعاليم القرآن لا تخص جيلاً خاصاً، وإنما هي تعاليم للجميع في كل عصر ومصر وإلى يوم القيامة يجب تنفيذها واتباعها .."، وهذا كله قاله إمامهم الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية !!.
…والشاهد هل هذا كله – يا دكتور – خلاف جزئي يمكن تجاوزه وغض الطرف عنه .. ؟!
…وهل عبادتهم للقبور؛ وما أكثر قبورهم التي يعبدونها من دون الله
تعالى .. هو خلاف جزئي ؟!(54/164)
…فإذا كان كل ما تقدم هو خلاف جزئي لا ينبغي أن يفسد للود قضية .. فمتى يكون الخلاف عندك يا دكتور خلافاً عاماً وغير جزئي..؟!
…2- قوله كن شيعياً، كن سنياً، كن كردياً، كن أياً ما تكون، ولكن الوحدة هي سبيل الخلاص .. الخ !
…هو قول باطل وخاطئ لا ينطق به رجل يريد لأمته الخير، وهي دعوة صريحة إلى الشر وصنوف الأهواء والبدع يوجهها الدكتور للناس عبر الأثير المرئي ..!
…ولا نتجاوز الحق لو قلنا: أنها دعوة – من الشيخ الدكتور - إلى الكفر والشرك، وبخاصة بعد أن علمنا الكفر والشرك الذي عليه الشيعة الروافض، الذي يريد الدكتور من الناس أن يكونوا منها، وعلى قولها واعتقادها ..!!
…بل هو تجاوز ذلك إلى ما هو أوسع منه حيث جعل الباب مفتوحاً على مصراعيه لاختيار الناس المذهب أو الدين الذي يريدون ويشاءون، وهذا المستفاد والمفهوم من قوله" كن أيَّاً ما تكون " ..!!
…فهذا كله ليس مهماً – عند الدكتور – وإنما المهم الوحدة الوطنية التي يتحقق بها سبيل الخلاص، والمصلحة العليا للجميع ..؟!
…3- مثل الدكتور القرضاوي مثل من يقول بالشيء وضده في آنٍ معاً، ومثله مثل من يلقي على النار الوقود ثم يقول لها لا تشتعلي ولا تلتهبي .. وهكذا الشيخ فهو لا يبالي أن يمزق الأمة شر ممزق في فرق
ومذاهب وأحزاب متباينة ومتغايرة، تحت زعم شرعية وحرية الاختلاف، ثم هو في المقابل يطالب الجميع أن يكونوا يداً واحدة، وقلباً واحداً على من سواهم .. !!
…وهو يعلم المحاولات العديدة المتكررة عبر مئات السنين الماضية التي استهدفت التقريب بين السنة والشيعة، والتي باءت كلها بالفشل الذريع وانقلبت على أصحابها إلى فرقة وانقسامات أشد بسبب تجاهل سنن الاتحاد، ولعمق الخلافات والجراح التي يصعب التئامها أو تفاديها إلا بأطر فريق الباطل إلى الحق راغمين .
…4- دعوة الشيخ الدكتور إلى وجود الفرق، والمذاهب، والأحزاب المتعددة والمتغايرة في الاعتقاد والتوجه، والمناهج، والآراء وغير ذلك في مجتمع واحد، تتحد في النهاية على اتجاه واحد يحقق المصلحة العليا للجميع .. هي دعوة مبطنة وخفية إلى العلمانية، والنظام العلماني الكافر ..!!
…لأن العلمانية ذاتها تنص على حرية الاعتقاد، والفرق، والأحزاب المختلفة والمتغايرة .. لكنها بنفس الوقت تلزم الجميع بتغييب الولاء والبراء على أساس الانتماء الديني أو العقائدي، وتوحد ولاءاتهم على أساس الانتماء إلى الوطن والتراب، على اعتبار أن مصلحة الوطن هي المصلحة العليا التي يجب أن تتحد عليها الجهود وجميع الاتجاهات، لأن مصلحة الوطن هي مصلحة للجميع؛ ومن هنا كان من شعارات العلمانية التي رفعت وناضلت من أجلها " الدين لله والوطن للجميع " و" دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله "، ولكن ما كان لله فهو يصل إلى قيصر، وما كان لقيصر فهو لا يصل إلى الله .. تعالى الله عما يقولون .
…أقول: ما تقدم من كلام للدكتور القرضاوي هو نفس التأصيل والقول الذي تقول به العلمانية .. فتأمل!!
…سؤال من مداخل: من الملاحظ أن كثيراً من الأحزاب السياسية ذات التوجه الإسلامي في عالمنا العربي والإسلامي حاولت الوصول إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع فحوربت على خلاف بقية الأحزاب الأخرى، وكذلك عندما حاولت عن طريق الانقلابات العسكرية كذلك حوربت، ما هو السبيل لهذه الأحزاب ..؟!
…أجاب الدكتور القرضاوي: هذا رد على الأخ الذي قال: فرطوا بالقوة وعولوا على الانتخاب .. حتى القوة ما نستطيع أن نصل بها، السودان استطاع أن يصل بالقوة في فترة كان لا بد أن يثب على الحكم بدل من أن يثب عليها الشيوعيون . دخل الإسلاميون من دون أن يريقوا قطرة دم، لو استطعنا أن نستخدم القوة دون إراقة قطرة دماء هذا يعني .. ولكن ليس هذا من السهل، وأنا الحقيقة لا أرى إننا نصل إلى الحكم بطريق القوة، هذا يكون استثناءً يُحفظ ولا يُقاس عليه، وأرى الطريق أن نصل برغبة الناس وبرضى الناس ..
…القضية قائمة على الرضى والاختيار والرغبة، لا على أساس القمع والقسر، فالأصل في الحكم في الإسلام أن يقوم على رضى الناس ورغبتهم ورضاهم وبيعتهم، وهذا ما يجب أن نحرص عليه ونصر عليه !!
التعقيب والرد: يكمن في النقاط التالية:
…1- نلحظ هنا بوضوح كيف أن الدكتور يستهجن طريق القوة؛ طريق الإعداد والجهاد الذي شرعه الله تعالى وأمر به العباد، وبالمقابل كيف أنه يستحسن طريق الوصول عبر إرادة الشعب واختياره ورغبته – عن طريق صناديق الاقتراع – كما هو متبع في الطريقة الديمقراطية ..!
…فهو من هذا الوجه يستهجن ويستبعد المشروع والواجب شرعاً، ويستحسن ويفضل الطرق الديمقراطية الملتوية والمحرمة ..!!
…2- الشيخ لا يمانع طريق الجهاد والقوة لكن بشرط أن لا تُراق قطرة دمٍ واحدةٍ؛ فهو يفترض الشيء ثم يشترط له المستحيلات، فكيف يكون جهاد وقتل وقتال من دون أن تراق قطرة دم واحدة ..؟!!
…والله تعالى يقول: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن} التوبة:111.(54/165)
…وهل الإسلام وصل إليك يا دكتور – هذا الدين الذي تنقض عراه بمذاهبك الجديدة عروة عروة – من دون أن تراق قطرة دم واحدة، أو يُقتل أحد في سبيل الله ..؟!
…أتريد المجد والسؤدد لهذا الدين من دون أن تضحي في سبيل الله بقطرة دم واحدة .. إنه والله البخل الذي ليس بعده بخل ؟!!
…أترى يا دكتور تدافع الحق مع الباطل من دون إراقة دماء ..؟!
…أين قراءاتك عن التاريخ والسير .. أين أحاديثك الأولى أيام العز
والشباب عن الجهاد والاستشهاد .. أم أنه الفقه الجديد الغريب الذي ينسخ ما قبله، والذي فاجأت به الجميع ..؟!!
…نسأل الله تعالى الثبات وحسن الختام .
…3- قدر هذه الأمة – إن أرادت العزة والحياة – الجهاد في سبيل الله، ولا مناص لها من اختيار غير طريق الجهاد .. رضي من رضي وأبى من أبى، بذلك نطقت مئات النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وأكدته سنن التدافع والصراع بين الحق والباطل .
…أين تذهب يا شيخ بالآيات والأحاديث – والله سائلك عنها يوم القيامة – التي توجب الجهاد في سبيل الله على الأمة، والتي تجعل الجهاد سبيلها الوحيد للخلاص من ظلم وبطش وكفر الطواغيت ..؟!
…كيف ترد على مئات الآيات والأحاديث النبوية الصحيحة التي تأمر المسلمين بالجهاد وتحضهم عليه ..؟!
…أترانا تاركي أوامر الله تعالى وتعاليم نبي صلى الله عليه وسلم لنتبع أراجيفك وما يراه عقلك وهواك ..؟! لا .. وألف لا .
…4- قول الشيخ الدكتور أن الأصل في الحكم الإسلامي أنه يقوم بناءً على رضى الناس ورغبتهم واختيارهم .. الخ !!
…من لوازمه ودواعيه أن الناس لو اختاروا ورغبوا وارتضوا غير الإسلام ديناً وحكماً، أن نحترم إرادتهم واختيارهم ورغبتهم، وأن لا نكرههم على خلاف ما يختارون ويرغبون ..!
…وبالتعبير الشرعي لو أن الناس اختاروا الارتداد عن الإسلام يجب
– على قول الدكتور – أن نحترم ارتدادهم عن الدين، ما داموا قد ارتضوا واختاروا الردة عن الدين !!
…ومن لوازمه ودواعيه كذلك أن نضرب النصوص الشرعية التي توجب قتال أهل الردة عرض الحائط، وأن لا نلتفت إليها مراعاة لرغبة واختيار الشعب ..!!
…ومن لوازمه كذلك أن أبا بكر وجميع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين قد أخطأوا عندما قاتلوا مسيلمة الكذاب ومن معه من المرتدين؛ لأنه أكرههم على خلاف ما يرغبون ويختارون .. فتأمل!!
…5- يجب أن نتذكر – حتى لا يأتي من يحمل المعاني مالا تحتمل – أن الشيخ الدكتور عندما يتكلم عن احترام رغبة الناس واختيارهم، وعدم إجبارهم على الرضى بما لا يحبون ولا يكرهون .. فهو لم يقصد اليهود والنصارى، أو من كان كفره أصلياً، وإنما يقصد ويريد المسلمين الذين يعيشون في البلاد والمجتمعات الإسلامية؛ لأنهم هم المعنيين والمقصودين من كلامه، وهؤلاء – في دين الله تعالى – لا يجوز أن يكون لهم اختيار غير الإسلام وحكمه، كما لا يجوز أن يُقروا لو اختاروا غير الحكم الإسلامي؛ لأن اختيارهم لغير الحكم الإسلامي يعني اختيارهم للكفر ورفضهم للإسلام، وهذا عين الارتداد عن الدين والمروق منه ..
…والمرتد ليس له في دين الله إلا أن يتوب ويقلع عن الكفر الذي أخرجه من دائرة الإسلام، أو القتل والقتال، كما في الحديث الصحيح:" من بدل دينه فاقتلوه " .
…وقا صلى الله عليه وسلم :" لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجل زنى وهو محصن فرُجم، أو رجل قتل نفساً بغير نفسٍ، أو رجل ارتد بعد إسلامه "(1). وفي رواية:" والتارك لدينه المفارق للجماعة ".
…هذا حكم الله ورسوله، أما حكم الشيخ الدكتور فاتركوه واحترموا رغبته، واختياره وإرادته ..؟!
…سؤال: هل يجوز الائتلاف مع الأحزاب العلمانية لتشكيل حكومة كما حدث في تركيا لحزب الرفاه، أو الائتلاف مع أحزاب شيوعية للوصول إلى السلطة ؟
…أجاب الدكتور القرضاوي: هو الائتلاف مع القوى الأخرى يجوز في إطار ما نسميه فقه الموازنات، فقه السياسة الشرعية، هذا باب واسع جداً .. ومعنى فقه الموازنات أن نوازن بين المصالح وبين المفاسد .. بناءً على هذا بنشوف إذا كان تعاوننا مع بعض الكفار ضد كفر أكبر منه، نتعاون مع بعض الأشرار لظلم أشر، والقرآن أشار إلى هذا في أوائل سورة الروم حينما حزن المسلمون لانتصار الفرس على الروم، انتصار المجوس على النصارى .. وكلاهما في نظر المسلمين كفار، كل من لا يؤمن برسالة مَحَمَّد فهو كافر..!
…وإنما عليه الصلاة والسلام تحالف مع خزاعة، كان من ضمن شروط الحديبية أن ليحب يدخل في حلف مع مَحَمَّد من قبائل العرب ـــــــــــــــ
(1) صحيح سنن ابن ماجه: 2052 .
يدخل، وليحب يدخل مع قبائل قريش يدخل ..!
…كل هذا يجيز للمسلمين أن يتحالفوا مع غيرهم إذا رأوا في ذلك مصلحة للإسلام، ومصلحة للدعوة الإسلامية، ومصلحة للأمة الإسلامية !
…التعقيب والرد: يكمن في النقاط التالية:(54/166)
…1- لا أريد هنا أن أناقش مسألة جواز التحالف مع الكافر كفراً أصلياً، متى يجوز ومتى لا يجوز، وهل الأصل فيه الإباحة أم أن الأصل فيه الحرمة ولا يباح إلا لضرورة، وفي حال إباحته للضرورة مَن من الأمة مخول بعقد مثل هذا التحالف، ثم ما هي شروط صحة عقد هذا التحالف، وهل المسألة محل اتفاق أهل العلم أم أن الخلاف فيها وارد .. فهذه مسائل لا نريد بحثها هنا خشية الإطالة والخروج عن الموضوع .
…2- ولكن الذي نجزم به أنه لا خلاف أنه لا يجوز في دين الله تعالى عقد التحالفات مع الشيوعيين المرتدين وغيرهم من أتباع الأحزاب العلمانية المرتدة؛ وذلك أن المرتد حكمه القتل حداً وكفراً لا يصح له عهد ولا أمان بخلاف الكافر كفراً أصلياً فإن له عهد وأمان .
…لذا لم يعرف عن أحد من أهل العلم المعتبرين من جوز التحالف مع المرتدين، كما يزعم ويريد الدكتور القرضاوي !
…3- كلام القرضاوي المتقدم دل أنه لا يرى فقط حرية وشرعية الأحزاب الشيوعية الملحدة في بلاد المسلمين، بل هو يرى كذلك جواز وشرعية التنسيق والتحالف معها للوصول معاً – وجنباً إلى جنب – إلى مقاعد الحكم والسلطة، تحت ذريعة مزاعمه ودعواه الكاذب: مصلحة
الدعوة(1) !!
…4- فقه الموازنات الذي يقتضي الترجيح بين المصالح والمفاسد، ودفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر وارد في الشرع، ولكن يجب أن ينضبط بقواعد ونصوص الشريعة؛ بعيداً عن تأثير الأهواء والرغبات والعقول، وما تميل إليه النفس .
…وأكثر الذين ضلوا وأضلوا – ومنهم الدكتور القرضاوي – كان بسبب تعاملهم مع فقه الموازنات بعيداً عن ضوابط وقواعد الشريعة، معتمدين في ذلك على ما تستحسنه أهواؤهم وعقولهم، بحيث تراهم لأزهد مصلحة يضحون بمصلحة التوحيد متذرعين بفقه الموازنات هذا ..!
…ومن الأدلة على هذا النهج الباطل قول الدكتور المتقدم بجواز التحالف مع المرتدين الشيوعيين وغيرهم من الملحدين العلمانيين، من أجل مصلحة لا ترقى أن تكون وهمية لا واقع لها ..!!
ـــــــــــــــــ
(1) يقول المرشد العام للإخوان المسلمين السابق محمد حامد أبو النصر:" نحن نعتقد أن الحكم الإسلامي لا بد أن يسمح بتعدد الأحزاب السياسة لأنه كلما كثرت الآراء وتنوعت كلما كثرت الفائدة، ونحن نعتقد أيضاً أنه لا بد من أن يمنح الحكم الإسلامي حرية تشكيل الأحزاب حتى للتيارات التي قلت عنها إنها تصطدم بالإسلام كالشيوعية والعلمانية وذلك حتى يكون من المتاح مواجهتها بالحجة والبرهان، وهذا أفضل من أن تنقلب هذه التيارات إلى مذاهب سرية، وعلى ذلك فلا مانع عندنا من إنشاء حزب شيوعي في دولة إسلامية " [ مجلة المجتمع الكويتية عدد 777، 22ذي القعدة، 1406 هـ، عن كتاب الحصاد المر ص74 ].
…5- تأمل كيف تلفظ اسم صلى الله عليه وسلم - وفي موضعين – هكذا " مَحَمَّد " بفتح الميم، ومن دون أن يُقرن اسم صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه، وهذا يتكرر منه كثيراً في حديثه عبر الأثير.. !!
…وهذا لا شك أنه لا يليق بما يجب على المسلمين من توقير وتعظيم للنبي r ، ومن وجه آخر لا يليق بالشيخ الدكتور أو الدكتور الشيخ وبسمعته العلمية ..!!
…سؤال: بالنسبة للمعارضة في ظل التعددية السياسية الإسلامية، ما هو شكل المعارضة، هل هناك ضوابط، هل مسموح بالمعارضة ؟
…أجاب الدكتور القرضاوي: لنا في هذا ما فعله علي بن أبي طالب ( وهو أحد الخلفاء الراشدين الذين أُمرنا أن نتبع سنتهم، كان في الخوارج، والخوارج هؤلاء استباحوا دماء المسلمين واستباحوا علي بن أبي طالب نفسه، قالوا: لا حكم إلا لله؛ أنكروا على علي أنه قبل التحكيم بين المسلمين في النزاع بينهم .. وقالوا: هذا خرج عن الدين لأنه حكم الرجال في دين الله والله تعالى يقول: لا حكم إلا لله(1)، رد عليهم علي فقال: كلمة حق يُراد بها باطل، ثم قال لهؤلاء الخوارج لكم علينا ثلاث: أن لا نمنعكم مساجد الله، أن لا نمنعكم الجهاد، أن لا نبدأكم بقتال .. مع أنهم معارضة، وكانت معارضة مسلحة، ومعنى هذا أنه أقر وجود حزب ـــــــــــــــ
(1) لا توجد آية كريمة لفظها:" لا حكم إلا لله "، وإنما الثابت قوله تعالى: { إن الحكم إلا لله} يوسف:40.
له رؤية مخالفة لرؤيته، وفكر مخالف لفكره مادام لا يستعمل العنف ضد الدولة، وهذه كانت أبرز تعددية وبإقرار علي بن أبي طالب ومن معه من المسلمين !!
…التعقيب والرد: يكمن في النقاط التالية:
…1- عاد الدكتور إلى سيرته الأولى، إلى التقميش والتحطيب بليلٍ بهيمٍ ليخرج لنا ما يحسبه ويظنه دليلاً في المسألة يحسم به الخلاف، فمن قبل استدل علينا بتعدد ألوان الجبال والصخور على تعدد الأحزاب السياسية، وهاهو الآن يستدل بالخوارج هذه الفرقة الضالة التي ثبت ذمها والأمر بمحاربتها وقتالها في عشرات الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم . يستدل بهذه الفرقة المارقة عن الدين على شرعية وجود الأحزاب والتعددية السياسية في النظام الإسلامي .. واستدلال الدكتور بالخوارج على شرعية الأحزاب هو أشنع عليه من استدلاله بألوان الجبال والصخور ..!(54/167)
…2- وجود فرق الأهواء والضلال وعدم تعامل سلفنا الصالح معها بالسيف، لا يفيد ولا يستلزم الاعتراف بشرعية هذه الفرق، وبحقها في النشاط لبرامجها وأفكارها الباطلة، فضلاً عن أن تحكم البلاد والعباد بباطلها لو اختارتها الأكثرية ..!!
…3- إمساك علي ( عن قتال الخوارج بادئ ذي بدئٍ قبل أن يحدثوا ما يستدعي قتالهم شرعاً، لا يستلزم مطلقاً أن علياً ومن معه من المسلمين قد أقروا للخوارج صفة المعارضة الشرعية، وأن لهم الحق في
الدعوة إلى باطلهم، أو أن يتناوبوا على السلطة والحكم مع علي بن أبي طالب ( إن اختارهم الشعب، أو فازوا بأكثر أصوات الناخبين كما هو حال الأحزاب السياسية المعارضة اليوم ..!
…وبالتالي فإن قول القرضاوي: وهذه كانت أبرز تعددية وبإقرار علي بن أبي طالب .. هو قول خاطئ من كل جوانبه، لا يليق بالدكتور أن يقع فيه ..!
…4- الخوارج تحديداً هم الفرقة من بين فرق الضلال الأخرى التي وردت في حقها النصوص الشرعية والأوامر النبوية التي تلزم الأمة بوجوب قتلهم وقتالهم إن لم يتوبوا ويعودوا عن غيهم وباطلهم وعدوانهم، كما في الحديث:" طوبى لمن قتلهم وقتلوه ".
وقا صلى الله عليه وسلم :" يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " .
…وعن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن لمن قتلهم أجراً يوم القيامة ".
…وقا صلى الله عليه وسلم :" سيخرج من أمتي قوم يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلواتكم إلى صلواتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يرون أنه لهم وهو عليهم، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية ".
…ثم قال علي ( محمساً للناس على قتالهم: لو يعلم الجيش الذين يصيبون ما لهم على لسان نبيهم r لاتكلوا على العمل .
…وقا صلى الله عليه وسلم :" إن بعدي من أمتي قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة ".
…وقال صلى الله عليه وسلم " سيخرج من أمتي ناس ذلقة ألسنتهم بالقرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإنه يؤجر قاتلهم ".
…وقال صلى الله عليه وسلم " يدعون إلى كتاب الله وليسوا من الله في شيء فمن قاتلهم كان أولى بالله منهم "(1).
…لذا كان علي ( أول من بدأهم بالقتال وحرض المسلمين على قتالهم، ولم يخالفه أحد من المسلمين في وجوب قتالهم .
…والشاهد أين الدليل مما تقدم من أقوال صلى الله عليه وسلم ، وأقوال علي ( الدالة على شرعية التعددية أو إقرارها ممثلة في الاعتراف بالخوارج كحزب معارض كما يزعم القرضاوي ويريد ..؟!
…إلا إذا فهم الدكتور الأمر بقتلهم وقتالهم هو أمر بالاعتراف بهم كحزب معارض، وهذا ليس ببعيدٍ عليه ..؟!!
…5- قوله: ما دام لا يستعمل العنف ضد الدولة .. الخ !
…كان الأصوب والأفضل أن يقول: مادام لا يستعمل العنف ضد ـــــــــــــــ
(1) هذه أحاديث كلها صحيحة ولله الحمد، بعضها مخرج في الصحيحين .
المسلمين، فهي كلمة أعم وأشمل من كلمة الدولة التي من الممكن أن تجير لصالح الدول الطاغية الكافرة في هذا الزمان ..!
…قال الدكتور القرضاوي: قضيتنا مع الأنظمة العلمانية، قضيتنا أن الأنظمة العلمانية لا تسمح بوجود حزب إسلامي للأسف، معظم البلدان حتى الحزب الإسلامي لا يسمح له في الوجود، وبتعلاتٍ شتى ..
…وأحياناً تتخذ بعض الأحزاب الإسلامية عناوين غير إسلامية حتى يمكن لها السماح بالتعبير عن ذاتها، مثل أخوانا في تركيا: حزب السلامة، حزب الرفاه، حزب الفضيلة ..!
…هؤلاء إذا وصلوا إلى السلطة، إذا وصلوا بطريقة جزئية كما في تركيا لا يتوقع منهم أنهم لحيغيروا البلاد إلى إسلامية، يتعاملون في حدود إمكانياتهم، يعني شيء أحسن من لا شيء .. ونصل بالتدرج، فنستطيع أن نكسب اليوم أخذنا 21% من المقاعد، والمرة الجاي نأخذ 30%، ومرة الجاي نأخذ 40% ..
…شكرنا الجزائر، ذهبت أنا والشيخ الغزالي رحمه الله إلى الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد لنشكره على أنه أول مبادرة قامت بها بلد إسلامي للسماح بحزب إسلامي بالوجود، لأن للأسف البلاد الأخرى تمنع وجود الأحزاب الإسلامية ..!
…التعقيب والرد: يكمن في النقاط التالية:
…1- الأنظمة العلمانية – كما يقول الدكتور – تمنع المسلمين أن يشكلوا أي حزب يوصف أو يُسمى بالإسلامي، حتى ولو كان هذا(54/168)
الحزب لا يحمل في مضمونه سوى مسمى الإسلام أو التعاطف على استحياء ووجل مع القضايا الإسلام فهم حتى هذا لا يسمحون به ويحاربونه كما في تركيا التي يستدل بها، ومع ذلك فالدكتور ومن لف لفه وقال بقوله، يعطون العهود والمواثيق – وهم لا يزالون في مرحلة الاستجداء والاستعطاف وطلب الاعتراف بهم كأنهم جسد غريب عن هذه الأمة – أنهم في حالة التمكين والوصول إلى السلطة سيسمحون للأحزاب العلمانية الكافرة في الوجود، وأنت تتداول السلطة والحكم عبر إرادة الشعب، وهذا كما زعموا من المروءة والأخلاق والجود والكرم .. فتأمل !!
…2- قضيتنا – كما يقول الدكتور الشيخ – مع العلمانية وطواغيتها أنهم لا يسمحون بتشكيل حزب إسلامي .. فقط يا دكتور ؟!
…أين قضايا الكفر والإيمان .. قضايا التوحيد المغيب .. قضايا الحكم بما أنزل الله.. قضايا الجهاد في سبيل الله .. قضايا خيرات هذه الأمة التي تنهب وتُسلب على مرأى ومسمع من الناس لتصب في جيوب الأعداء من اليهود والنصارى ومن يشايعهم من الطواغيت .. قضايا كليات هذا الدين التي غيبت عن الوجود بسبب سياسات الكفر والطغيان التي تمارس من طواغيت الأرض ..؟!
…أين ذهبتم بهذه القضايا، أم أنها لم تعد من اهتماماتكم .. ولم يبق لكم هم ومشكل إلا كيف تسمح الأنظمة العلمانية لكم بتشكيل حزب إسلامي مشوه الصورة والمضمون ..؟!!
…3- قوله نستطيع أن نكسب اليوم 21% من المقاعد، وهكذا بالتدرج ..الخ !
…نقول للقرضاوي: أين قولكم الأول بأن الشعوب معكم، وأن الناس لن يختاروا غيركم ..؟!
…ألم نقل لكم أنكم تقامرون، لكن ليس بالدرهم والدينار، وإنما بدين الله تعالى..!
…4- هذه المصالح الجزئية – على افتراض تحققها – التي يشير إليها الدكتور ، لا يمكن أن توازي أو ترجح على المفاسد الضخمة والمتنوعة والمحققة جراء الدخول في دهاليز الديمقراطية وألاعيبها ..وقد تقدم ذكرها.
…5- شكرتم لطاغوت الجزائر كيف سمح لكم بتشكيل حزب إسلامي يخوض دهاليز الديمقراطية وألاعيبها كغيركم من الأحزاب .. وهاهي الجزائر المكلومة اليوم تدفع ثمناً باهظاً من دماء أبنائها لما كنتم قد شكرتم الطاغوت عليه !!
…قال تعالى: { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذُكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} المائدة:14.
- مقارنة بين موقف القرضاوي القديم وموقفه الحديث من الأحزاب.
…من جملة التناقضات المتغايرة التي فاجأ الدكتور بها الناس، موقفه من التعددية الحزبية، حيث كان له موقف منها مغاير لما يقوله الآن، فها هو يقول قبل أكثر من عشر سنوات: التعددية ظاهرة مفروضة، فرضها غياب فريضة كبرى من فرائض الإسلام، فإذا عدنا إلى الصدر الأول، عهد النبوة المطهرة، وعهد الخلافة الراشدة التي أجمع عليها المسلمون فلا نجد إلا جماعة واحدة، تحت قيادة واحدة، هي جماعة المسلمين تحت إمامة واحدة لرسول ا صلى الله عليه وسلم ، ثم تحت إمامة الخليفة الراشد من بعده .
…وظل العمل للإسلام على هدي جماعة واحدة وتحت إمامة راشدة واحدة حتى اختفت الخلافة الراشدة المبايعة بيعة راشدة من مسلمي الأرض، فقام أعلام الدعاة المصلحون المخلصون بالدعوة إلى الله من أجل الإسلام، ومن ثم نشأت الجماعات وتعددت .. أي أنه لا تعدد في الجماعات الإسلامية إذا كان المسلمون يعيشون تحت سلطان خلافة راشدة، انعقدت ببيعة شرعية، أما اليوم وقد غابت الخلافة عن حياة المسلمين فعلى الجماعات الإسلامية أن ينسق بعضها مع بعض، وأن يكون هناك قدر من التفاهم والتعاون بينها (1) ا-هـ .
ــــــــــــــــ
(1)… انظر مجلة المجتمع، عدد 916، 11 شوال 1409 هـ، الوحدة والتعددية في العمل الإسلامي، للدكتور محمد أبو الفتح البيانوني .
…تأمل الفارق بين القولين والموقفين، وكيف أنه يناقض نفسه بنفسه، ويرد على كلامه بكلامه، فمن قبل قال لا توجد إلا جماعة واحدة تحت قيادة واحدة؛ أي أنه لا تعدد في الجماعات الإسلامية – فضلاً عن غيرها – في ظل الدولة الإسلامية .. ثم هاهو اليوم يقول بأن الإسلام قام على التعددية، وأن الإسلام يجيز قيام أحزاب سياسية متعددة ومتغايرة في ظل دولة الإسلام .. ويستدل على قوله هذا بأدلة واهية باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، قد تقدم الرد عليها !!
…ونحن نسأل: ما الذي تغير وتبدل، هل تغير الإسلام أو تغير تاريخه .. هل تغيرت أصوله وثوابته .. هل تغير حلاله وحرامه؛ فحرام الأمس حلال اليوم .. أم أن الذي طرأ عليه التغيير والتبديل هو القرضاوي ذاته؛ فكره ومنهجه وعقله ..؟!!
…لا شك أننا نجزم أن الذي تغير وتبدل هو القرضاوي وليس دين الله ..!
نسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه وتوحيده .. إنه تعالى سميع قريب .
- التمثيل النيابي، ودخول البرلمانات .
…يعتبر التمثيل النيابي، والعمل البرلماني من أبرز الأسس والمبادئ التي يقوم عليها النظام الديمقراطي الحر، حيث أن العملية الديمقراطية برمتها تتجسد وتتمثل في هذا المبدأ، وهي بوجوده توجد الديمقراطية، وبانتفائه تنتفي الديمقراطية !(54/169)
…وتتم عملية التمثيل النيابي عن طريق قيام الشعب بترشيح وانتخاب ممثلين ينوبون عنه في مهمة الحكم والتشريع، ويتم ذلك بعد حملة دعائية انتخابية تقوم بها الأحزاب والشخصيات التي ترشح نفسها للتمثيل النيابي، والذي يكسب أكثر الأصوات من نسبة المنتخبين والمصوتين – مهما كان اتجاهه الفكري والعقدي، أو كانت أخلاقه وسلوكياته بعيدة عن هدي الإسلام – هو الذي تؤول إليه مهمة حكم البلاد والعباد، بالهوى والشرع والدين الذي يريد ..!
…وقبل أن نخوض في بيان المزالق الشرعية للعمل النيابي، لا بد أولاً من أن نشير إلى المزالق والمآخذ والمخالفات الشرعية التي تتحصل خلال الحملة الانتخابية، وإجراء الانتخابات في النظام الديمقراطي .
- مآخذ وملاحظات على الانتخابات الديمقراطية.
…نجمل أبرز الملاحظات والمآخذ على الانتخابات الديمقراطية في النقاط التالية:
…1- من شأن نظام الانتخابات في النظام الديمقراطي الحر، أنه يتيح الحرية لجميع الأحزاب والاتجاهات – الصالحة منها والطالحة – أن يعبروا عن مناهجهم وبرامجهم الانتخابية، ونظرتهم المستقبلية لطريقة حكم وإدارة البلاد، بالطريقة التي يرونها مناسبة وتشد إليهم أنظار الناس، كما لا يخلو أن تكون بعض هذه البرامج الانتخابية – وهي الأصل والأكثر – ترفع شعارات العلمنة والكفر بدين الله ( .
…كما يستلزم من جميع الأطراف والشخصيات المشاركة في العملية الانتخابية، أن تعترف بعضها ببعض، وبحق كل طرف أن يبدي من برامجه وأفكاره وعقائده ما يشاء ويريد ..!!
…وهذا أمر مما لا شك فيه أنه باطل، وبطلانه مما هو معلوم من ديننا بالضرورة، وقد تقدمت الإشارة إلى أن أصل التعامل مع المنكر – وبخاصة إن كان هذا المنكر يرقى إلى درجة الكفر – إنكاره وتغييره، وليس إعطاؤه الحرية في أن يتحرك لباطله وكفره كيفما يشاء، أو الاعتراف به وبشرعيته .. حيث لا حرية للمنكر والإفساد في الإسلام .
…قال تعالى: { كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } آل عمران:110. فأمة الإسلام خير الأمم لقيامها بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – وليس لانتمائها إلى عرق أو لون أو جنس أو لغة - ومتى تتخلى عن هذه الخاصية – خاصية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – فإن ذلك من لوازمه أن ينفي عنها خاصية الخيرية والفضل التي خصها الله تعالى بها، لتصبح من شرار الأمم وفي آخرها مرتبةً وفضلاً !
…وقال تعالى في صفات المؤمنين الموحدين: { الذين إن مكناهم في
الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} الحج:41. وهذا بخلاف ما يقسم عليه الديمقراطيون البرلمانيون – بمختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم – أنهم إن مكنوا في الأرض واستلموا السلطة فسوف يحافظون على المنكر، وسيسمحون لأحزاب المنكر والكفر بالوجود والعمل لمنكرها وباطلها(1) ..!!
…وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، وليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه فتدعونه فلا يستجيب لكم "(2).
وقا صلى الله عليه وسلم :" إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه "(3). وقال صلى الله عليه وسلم " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان "مسلم.
فلا مناص للمؤمن من إنكار المنكر – ولو في القلب – إلا بالخروج من دائرة الإيمان؛ لأنه ليس وراء إنكار القلب إلا الرضى، والرضى بالكفر كفر، كما في الرواية الأخرى:" وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " .
ـــــــــــــــــ
(1) من عجائب القوم وكذبهم أنك لو سألتهم لماذا تشاركون في العمل النيابي الديمقراطي، يقولون لك بكل وقاحة: أنهم قرروا المشاركة من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. !!
(2) صحيح سنن الترمذي:1762. (3) أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع:1974.
…2- من المآخذ كذلك على الانتخابات الديمقراطية، أنها تلزم جميع الأطراف المشاركة في العملية الديمقراطية بالاعتراف بشرعية حكم من يفوز بأكثر أصوات الناخبين، وأن له كامل الحق في حكم البلاد والعباد – ولو كان كافراً زنديقاً ومن أفسد الناس – بالدين والنظام الذي يريد ..!
…وحاكم كهذا لا يجوز الاعتراف به – فضلاً عن العمل على تمكينه وتثبيت حكمه – وإن اختاره الناس كل الناس، فاختيار الشعب أو الأكثرية – في نظر الإسلام – لا يحيل الباطل حقاً ولا الحق باطلاً، ولا يمكن أن يصبغ على الباطل الشرعية؛ لأن الشعب ليس هو المقياس الذي به يُعرف الحق من الباطل، والحسن من القبيح، فمرد ذلك كله يجب أن يكون إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة رسول صلى الله عليه وسلم لا غير .
…قال تعالى: { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} النساء:141.
وأي سبيل أشد وأظهر على المسلمين من أن يحكمهم كافر معاند عدو لله ولرسوله وللمؤمنين ..؟!
وقال تعالى: { وإذا ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } البقرة:124.(54/170)
فالظالم – وبخاصة إن كان من الكافرين المشركين – لا ينال عهد الله تعالى في الإمامة والحكم والولاية، واختيار الشعب له أو لكونه
ينتمي إلى بيت النبوة لا يسوغ له شرعاً أن يحكم البلاد والعباد ..
ولو كان مدار الأمر على اختيار الشعب – أياً كان هذا الشعب وكان هذا الاختيار – لكان لمسيلمة الكذاب كامل الحق في الحكم والولاية وليس لأبي بكر الصديق ( ؛ لأن الشعب وقتها أكثره ارتد عن دينه ووقف مع مسيلمة الكذاب في قتاله لأبي بكر ( ومن معه من المسلمين ..!
…ولو أرادها أبو بكر ( في حينها ديمقراطية – على طريقة دعاة الديمقراطية – من باب احترام رأي وإرادة الأكثرية على مبدأ الانتخابات الديمقراطية الحرة لفاز بالحكم مسيلمة الكذاب بأكثر أصوات الشعب، ولحكم البلاد والعباد ..!
وهكذا نجد أن كثيراً من الصراعات بين الحق والباطل حصلت عبر التاريخ الإسلامي حُسمت عن طريق السيف، وليس عن طريق الديمقراطية ورد الأمر إلى الشعب أو إلى الأكثرية ..!
ولو كان الأمر مرده دائماً إلى حكم الأكثرية فأين يكون موقع الأنبياء – في نظر الديمقراطية – الذين لم يؤمن بهم إلا الرجل الواحد، ومنهم من لم يؤمن به أحد، وأين يكون موقع الطائفة المنصورة التي تصلح ما يفسده الناس، كما في الحديث الذي يرويه مسلم، قال صلى الله عليه وسلم " طوبى للغرباء، قيل ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناسٍ سوء كثير، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ".
فهم ناس قليل في ناسٍ سوء كثير، وأتباعهم – بدلالة النص –
أقل ممن يعصونهم ويعارضونهم، ومع ذلك هم الطائفة المنصورة المرضية – في نظر الشرع – التي يجب تكثير سوادها، وأن تحكم البلاد والعباد بدين الله تعالى وشرعه .
3- تتضمن قوانين الانتخابات الديمقراطية إلزام جميع الأطراف برد النزاعات فيما بينها – وبخاصة منها من يحكم البلاد والعباد – إلى الشعب وإلى الأكثرية، وليس إلى الله وإلى رسوله ..!
فالأحزاب في حقيقتها وواقع أمرها هي متنافسة ومتنازعة فيما بينها على منصب حكم البلاد والعباد، وعلى الدين والقانون الذي ينبغي أن يحكم العباد والبلاد، والحكم الذي يفصل بينهم نزاعاتهم هذه هو الشعب الذي تم الاتفاق عليه كحكم أوحد لجميع ما يقع بينهم من نزاعات وخلافات، وكسيد لا تعلو سيادته سيادة ..!!
وهذا – مما لا شك فيه – مخالف ومغاير للعقيدة الإسلامية التي تقرر أن السيادة العليا لله تعالى وحده، والتي تلزم جميع المسلمين بوجوب رد النزاع – أي نزاع – إلى الله ورسوله، كما في قوله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} النساء:59.
وقال تعالى: { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} الشورى:10.
…4- إن الموافقة على القوانين الكفرية للانتخابات المتقدم ذكرها، تتضمن طاعة الكفار فيما هو كفر ومضاد لشرع الله تعالى ..
…وطاعة الكفار فيما هو كفر كفر أكبر مخرج عن الملة، قال تعالى: { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} الأنعام:121.
…أي لئن أطعتموهم في حل أكل الميتة إنكم لمشركون في تحليلكم لما حرم الله تعالى، ولطاعتكم إياهم فيما هو كفر وشرك، وإذا كان مجرد طاعتهم في حل أكل الميتة كفر وشرك، فمن باب أولى أن تكون طاعتهم في المبادئ الكفرية للانتخابات الديمقراطية – الآنفة الذكر – كفر وشرك أيضاً .
…قال تعالى: { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوَّل لهم وأملى لهم . ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزَّل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم} محمد:25-26.
…وفي قوله تعالى: { إن الذين ارتدوا ..} ،قال ابن كثير في التفسير 4/193: أي فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر ا-هـ .
…قلت: هؤلاء كفروا وارتدوا عن دينهم بسبب أنهم قالوا للمشركين الذين كرهوا ما نزل الله تعالى من الدين والتوحيد سنطيعكم في بعض الأمر من باطلكم الذي أنتم عليه، وظاهر الآية يوحي بأنهم اقتصروا على القول ولم يتجاوزوه إلى العمل والسلوك ومع ذلك كفروا وارتدوا بما قالوا، فما يكون حكم وحال من يقول لهم سنطيعكم في كل الأمر، سنطيعكم في كل الباطل والشرك الذي تنص عليه الديمقراطية، ثم يتبع قوله هذا استجابة واقعية تتجسد في سلوك يبرهن عن صدق ما قاله لهم بلسانه .. لا شك أنه أولى بالكفر والارتداد عن الدين ممن يطيعهم في بعض أمرهم، أو ممن يطيعهم في حل أكل الميتة بعد أن حرمها الله تعالى .
5- من شأن الانتخابات الحرة .. أن تعرض المرشحين للاستشراف في طلب الإمارة والرياسة والزعامة، وقد يصل استشرافهم – كما حصل في بعض البلدان – إلى أن يشتروا أصوات الناس بالمال والموائد الشهية على مبدأ " طعمي التم بتستحي العين "، ولربما يصل استشرافهم في طلب الرياسة أحياناً إلى حد التقاتل والتضارب مع المخالفين والمعارضين لهم ..!!
…وهذا خلق مشين لا يقره الإسلام ولا يرضاه، كما في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه:" إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه ".(54/171)
…وعند مسلم كذلك:" إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة". وقا صلى الله عليه وسلم :" من تكفل لي أن لا يسأل الناس لي شيئاً أتكفل له بالجنة "(1).
…قلت: ومن يتأمل الحملات الانتخابية الديمقراطية، يجد أن المرشحين للعمل النيابي من أكثر الناس استشرافاً وإلحاحاً في سؤال الناس بأن يدلوا بأصواتهم لصالحهم ..!!
…فإن قيل: قد دلت بعض النصوص الشرعية كما في قصة يوسف ـــــــــــــــــ
(1) صحيح الترغيب والترهيب:807 .
عليه السلام وغيرها، على جواز سؤال الإمارة والعمل، فكيف يتم التوفيق مع ما تقدم ..؟
…أقول: الأصل عدم جواز سؤال الإمارة والولاية لدلالة النصوص العامة الآنفة الذكر، إلا في حالات ضيقة واستثنائية خاصة، تنضبط بضوابط الضرورات، ومبدأ تقديم المصالح على المفاسد، لكن لا نرى جواز قياس ما يجري في الانتخابات الديمقراطية البرلمانية على هذا الجانب الخاص الاستثنائي المباح في الشرع، لتباين الحالتين من حيث الوصف، ومن حيث ضرورة الباعثة على طلب وسؤال الإمارة .
…ولو تأملت سيرة الصحابة رضوان الله تعالى عنهم الذين اختارهم عمر بن الخطاب ( لتختار الأمة منهم خليفة للمسلمين(1)، نجد أنهم قد التزموا بيوتهم والصمت من دون أن يكلموا أحداً عن أنفسهم، أو يطلبوا من أحدٍ بأن يختار فلاناً دون فلان، وإنما تُرك الأمر إلى عبد الرحمن بن عوف – بعد أن أخرج نفسه منه – ليتحسس رأي الناس ورغبتهم فيمن يريدون ويختارون، فوجدهم لا يعدلون عن عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين .
…وهذا – لا شك أنه - من جملة الأدلة التي تعضض الدلالة على المبدأ والخلق الإسلامي الآنف الذكر؛ وهو عدم الاستشراف في ـــــــــــــــ
(1) حيث جعل عمر بن الخطاب ( مرد الخلافة بعده شورى بين ستة أنفار وهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين .
سؤال الآخرين الإمارة والولاية، فالإمارة عند السلف كانت تأتي ولا تؤتى، أما في زماننا فإنها تؤتى ولو على جثث الجماهير والشعوب المغلوب على أمرها ..!!
…6- من شأن الانتخابات الحرة إضافة إلى ما تقدم، أنها تعرّض المرشَّحين لأن يُزكوا أنفسهم على الله تعالى، فيذبحون أنفسهم بالتمادح والرياء، وذكر البطولات والإنجازات الكاذبة وغير الكاذبة ..!
…وهذا من لوازمه – كما هو حال القوم – انتقاص الآخرين واحتقارهم، والتقليل من شأنهم وشأن ما يعملونه، فيبخسون الناس أشياءهم لينفردوا بأصوات الناخبين، ورضى الجماهير ..!
…كما يضطرون للكذب على الناس والجماهير المغفلة – وذلك من متطلبات نجاح الدعاية الانتخابية – بإعطائهم المواعيد الكاذبة؛ فيمنونهم الأماني والحياة الرغيدة السعيدة لو صوتوا لهم وانتخبوهم دون غيرهم ..!
…وهذا كله مما يُعلم بالضرورة من ديننا بطلانه، وأن الإسلام ينكره ويحرمه أشد التحريم، قال تعالى: { ألم ترَ إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يُظلمون فتيلاً} النساء:49. وقال تعالى: { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} النجم:32.
…وفي السنة، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إياكم والتمادح فإنه الذبح "(1).
___________________
(1) أخرجه ابن ماجه، صحيح الجامع:2674.
…وفي الحديث المتفق عليه:" من كان مادحاً أخاه لا محالة، فليقل: أحسب فلاناً، والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه ".
فقول صلى الله عليه وسلم :" لا محالة " يفيد أن الأصل عدم المدح والإطراء، ولكن إن اضطر المرء لمدح أخاه وكان لا بد له من ذلك، فليقل أحسبه كذا ولا أزكيه على الله .. كما ورد في الحديث .
…وقال صلى الله عليه وسلم " من سمَّع الناس بعمله، سمع الله به مسامع خلقه وصغره وحقَّره "(1).
…والنائب – كما هو ملاحظ في الأنظمة الديمقراطية - من أكثر الناس عرضة لتسميع الناس بعمله وإنجازاته ليكسب ودهم ورضاهم، ليضمن الفوز في الحملة الانتخابية القادمة .. فهو عندما يخط بيانه الانتخابي الأول، فإنه أول ما يبدأ به التعريف عن نفسه، وعن شهاداته وإنجازاته، وخصائصه وصفاته ..!
…7- مما يؤخذ أيضاً على نظام الانتخابات الحرة، أن عملية التصويت لاختيار من يحكم البلاد والعباد تقوم بها جميع شرائح المجتمع وفئاته، الصالح منها والطالح، وبغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعقدية، وأخلاقهم وسيرتهم الذاتية؛ فما يحق لأتقى الناس وأصلحهم وأعلمهم، يحق لأكفر الناس وأفجرهم وأجهلهم، فيستوي في ذلك العالم العامل ـــــــــــــــ
(1) أخرجه الطبراني، والبيهقي، وأحمد، صحيح الترغيب:23.
المجاهد مع المرأة العجوز العقور الكافرة التي ربما لا تعي ما تقول، وكلاهما لهما نفس الأثر في اختيار من يحكم البلاد والعباد ..!!(54/172)
…وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة بطلانه وفساده، لا يقول به إلا زنديق كافر أو جاهل أعمى البصر والبصيرة، قال تعالى: { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} الزمر:9. وقال تعالى: { أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون} القلم:36. وقال تعالى: { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} السجدة:18. وقال تعالى: { مثل الفريقين كالأعمى والأصم، والبصير والسميع هل يستويان مثلاً أفلا تذكَّرون} هود:24.
…لا شك أنهما لا يستويان مثلاً، لكن الديمقراطية والديمقراطيين يقولون بكل وقاحة أنهما يستويان مثلاً ..!
…وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودُّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر} آل عمران:118.
…ولا شك أن تفويض اختيار من يحكم البلاد والعباد – أهم القضايا وأخطرها على أمن وسلامة المسلمين – للكفار والزنادقة والمرتدين الملحدين هو من اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، وهو من أعظم ما أحدث في ديار المسلمين .
…قيل لعمر ( : إن ههنا رجلاً من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك ؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون
المؤمنين .
…وروي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذمياً، فكتب إليه عمر ( يعنِّفه وتلا عليه هذه الآية: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} .
…قال القرطبي في التفسير 4/179: وقد انقلبت الأحوال في هذا الزمان، باتخاذ أهل الكتاب كتبةً وأمناء، وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء ا-هـ .
…قلت: كيف بزماننا حيث أصبحوا – تحت شعار الديمقراطية وغيرها – هم الأمراء والولاة في ديار المسلمين، ولهم الكلمة في تحديد من يحكم البلاد والعباد ..!!
…8- من شأن الانتخابات الحرة أنها تفرز أشخاصاً إلى سدة الحكم لا تمثل رغبة وإرادة أكثر الناس، وهذا بخلاف ما يزعمون وينعقون، وبرهان ذلك:
…أن الساحة الديمقراطية من شأنها أن تفرز أحزاباً عديدة، كلها تطمع وتعمل للوصول إلى الحكم، ولو افترضنا أن خمسة أحزاب – والباب مفتوح لمن يريد – رشحت نفسها للانتخابات :
أ_ الحزب الأول حصل على نسبة 30% من أصوات الناخبين .
ب- الحزب الثاني حصل على نسبة 25 %من أصوات الناخبين.
ج- الحزب الثالث حصل على نسبة 20 % من أصوات الناخبين .
د- الحزب الرابع حصل على نسبة 15 % من أصوات الناخبين.
هـ- الحزب الخامس حصل على نسبة 10 % من أصوات الناخبين .
فالحزب الذي يخول – حسب قانون الانتخابات الحرة – أن يحكم البلاد والعباد هو الحزب الذي حصل على 30 % من أصوات الناخبين، بينما 70 % من الناخبين – بحكم تفرق أصواتهم بين الأحزاب الأخرى – لا يريدونه وهو لا يمثلهم، وإن أضيف إلى هؤلاء عدد القاعدين عن الانتخابات أصلاً الذين قد يزيد عددهم أضعاف الذين صوتوا وانتخبوا علمنا بالضرورة أن هذا الحزب الحاكم لا يمثل أكثرية الشعب، ولا نصفه، ولا حتى ربعه، وأن قولهم بأن الديمقراطية تفرز حكم الأكثرية هو كذب صريح يضحكون به على الشعوب المغفلة ..!
9- في الانتخابات الديمقراطية تتدخل عدة عوامل خارجية غير قانونية وأخلاقية، تجعل من نتائج الانتخابات غير منصفة ودقيقة، ولا تمثل الرغبة الحقيقية لأكثرية الشعب كما يزعمون، منها:
أ- عامل المال وأثره الواضح على نجاح الحملة الدعائية للانتخابات، فبقدر ما يُصرف على الحملة الدعائية من مالٍ بقدر ما تكون قوية وناجحة، ويكون النجاح حليف المرشَّح، وإن كان في الحقيقة لا يمثل تطلعات وآمال أكثرية الشعب !
…وفي كثير من البلدان الفقيرة التي تحصل فيها مثل هذه التجارب، يلعب المال وأكياس الأرز والطحين دوراً فاعلاً في إنجاح شخص دون شخص، أو حزب دون حزب، حيث يشترون أصوات الناس بثمن بخس مستغلين فقرهم وحاجتهم للعيش ..!!
ب- عامل القرابة أو القبيلة، حيث أن الولاء القبلي أو العائلي – وبخاصة في البلدان العربية – يحتم على أفراد القبيلة – ولو بالإكراه أو الحياء أحياناً – أن يصوتوا لصالح ابن قبيلتهم وعشيرتهم، وإن كان في الغالب لا يمثل تطلعاتهم وآمالهم ..!
ج- العامل الإعلامي الذي يلعب دور الساحر لعقول وأذهان الناس، حيث كلما توفرت قدرة إعلامية عالية تخدم المرشح، وتصنع منه – خلال الحملة الانتخابية – بطلاً ورمزاً دونه كل الرموز والأبطال – وإن كان في الحقيقة غير ذلك وهو على خلافه – بقدر ما يكون النجاح حليف هذا المرشح ..!!
…علماً أن شخصيات أخرى عديدة قد تكون أفضل منه بكثير، وأكثر تمثيلاً للناس ومصالحهم وتطلعاتهم، لكن لعدم وجود الإعلام القوي لديهم الذي يغطي متطلبات الحملة الانتخابية، ويعرِّف الناس عليهم جيداً لا يفوزون في الانتخابات ..!!
…د- تدخل الأنظمة والساسة وأصحاب المصالح والقوى والنفوذ باستغلال نفوذهم وقوتهم لإنجاح شخص دون شخص، أو حزب دون حزب لتحقق مصالحهم من خلال هذا الحزب والاتجاه دون الآخر، وهذا أمر يدركه من عنده أدنى دراية بأساليب اللعبة الانتخابية الديمقراطية ..!
…ع- الانتخابات الديمقراطية تمكّن قوى الطغيان العالمية أن(54/173)
تتدخل في شؤون وسياسة أي بلد – وبخاصة إن كانت من ذوي الدول الفقيرة أو الضعيفة - عن طريق وضع ثقلها المادي والسياسي والإعلامي، وربما العسكري في إنجاح فريق دون آخر، أو حزب دون آخر الذي من خلاله تفرض هيمنتها وإرادتها على البلاد والعباد، وتؤمن لنفسها المصالح والمكاسب الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تسعى من أجلها ..!
…والشاهد مما تقدم أن الإنسان في الأنظمة الديمقراطية – حتى في أمريكا وبلاد الغرب – غير حر، وهو مأسور لكثير من المؤثرات والعوارض الخارجية التي تجعله يسير في غير الاتجاه الذي يريد، وبالتالي فإن الأنظمة والتشريعات والنتائج تأتي غير ممثلة لطموحاته الحقيقية التي يريد .. وهذا يعني أن الديمقراطية غير محققة – وهي غير واقعية – حتى في دار منشأها في أوربا وأمريكا !
إلى هنا نكون قد انتهينا من بيان أهم المآخذ على نظام الانتخابات الديمقراطية الحرة، لنشرع – مستعينين بالله تعالى - في بيان أهم المزالق والمآخذ التي يقع بها النائب المرشَّح بعد دخوله قاعة البرلمان وممارسته لمهام العمل النيابي التشريعي .
- المآخذ والمزالق بعد دخول البرلمان وممارسة العمل النيابي التشريعي .
جميع ما تقدم ذكره هو خاص بالمزالق والمآخذ التي تتحصل للنائب المرشَّح خلال الحملة الانتخابية في ظل الأنظمة الديمقراطية، وقبل أن يصبح نائباً، وهي تختلف عن المزالق الأشد خطراً التي لا مناص له من الوقوع فيها بعد دخوله البرلمان وممارسته للعمل النيابي التشريعي، من أهم هذه المآخذ والمزالق :
أولاً: أول ما يجب على النائب الفائز أن يقوم به هو إعطاء القسم والأيمان والعهد(1) – حراً مختاراً غير مكره – على الوفاء والإخلاص للدستور الكفري الجاهلي الذي يحكم ويحدد سياسة البلاد الداخلية والخارجية، والذي يعتبر في نظر الإسلام طاغوت كبير يجب الكفر به والبراء منه ومن أنصاره وأوليائه وأتباعه .
وهذا مزلق عقدي خطير ينفي مطلق الإيمان عن صاحبه، كما قال تعالى: { ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً } النساء:60. فاعتبر سبحانه وتعالى إيمانهم زعماً وكذباً لا حقيقة له في القلب ولا وجود، وبرهان ـــــــــــــــــ
(1) من الصيغ التي يلتزم بها النائب في قسمه كما في بعض الأمصار:" أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً للملك والوطن وأن أحافظ على الدستور .." !
ذلك وعلامته أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت – في أمر من أمور الدين أو الدنيا – رغم أنهم أمروا بالوحي أن يكفروا به ويتبرؤوا منه !
ولا شك أن من يقسم الأيمان المغلظة على أن يحافظ على العمل بدساتير وشرائع الطاغوت أنه أغلظ كفراً ونفاقاً، وأشد نقضاً وتكذيباً لدعوى الإيمان من أولئك الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت في أمر من أمور حياتهم ..
فالإيمان بالله تعالى وبالطاغوت معاً لا يمكن أن يجتمعا في قلب امرئٍ واحد، قال تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} البقرة:256.
فقدم الله تعالى الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله لاستحالة اجتماع الإيمان بالطاغوت مع الإيمان بالله تعالى، أو الإيمان بالله قبل الكفر بالطاغوت .. والقول بخلاف ذلك من لوازمه القول بالشيء وضد في آنٍ واحد؛ ومثاله كأن تصف المرء بأنه موحد ومشرك، أو أنه حي وميت، أو أنه موجود وغير موجود في آنٍ واحد .. وهذا لا يستقيم عقلاً ولا شرعاً(1) .
ــــــــــــــــ
(1) فإن اعترض معترض وقال: كلامك مردود عليه بقوله تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} يوسف:106. فسماهم الله تعالى مشركين مع إيمانهم بالله تعالى !
أقول: لا تعارض بين ما تقدم وبين قوله تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون }، فالإيمان المراد في الآية هو إيمانهم بالربوبية، وإشراكهم في الألوهية =
قال تعالى: { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد} الزمر:17.
فهذه الآية الكريمة أفادت معنى من معاني الكفر بالطاغوت؛ وهو الاجتناب والاعتزال، والبعد عن الطاغوت وعبادته وكل ما يقرب إليه، فهؤلاء الذين يعتزلون الطاغوت ويجتنبونه ولا يقربوه في شيء، ثم يؤمنون بالله تعالى ويوحدونه، هؤلاء هم الذين – وحدهم – لهم البشرى بالرضوان ونعيم الجنان يوم القيامة .
ونحوه كذلك قوله تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} النحل:36. فالرسل – على مدار التاريخ – ليست لهم مهمة في هذا الوجود سوى تحقيق التوحيد ولوازمه والكفر بالطاغوت وكل ما يقرب إليه .
والطاغوت هو كل مألوه أو معبود مطاع من دون – أو مع – الله تعالى، ولو في وجه من أوجه العبادة والتنسك، وحتى ندرك معنى الطاغوت على وجه التفصيل، وهل الدساتير الوضعية الجاهلية الحاكمة في ـــــــــــــــــ(54/174)
= وتوحيد العبودية، كما كان عليه حال كفار قريش وغيرهم، حيث آمنوا بالربوبية وكفروا بالألوهية، فوصفهم الله تعالى بما تقدم ذكره في الآية، واستحقوا على ذلك القتال والجهاد، لأن إيمان كهذا لا ينفع صاحبه في شيء لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا الذي أردنا الإشارة إليه من كلامنا المتقدم، وهو استحالة اجتماع الإيمان النافع مع الشرك الأكبر في شخص واحد، أو عبادة الله وتوحيده مع عبادة الطاغوت والإيمان به .
بلاد المسلمين تدخل في معنى الطاغوت الذي يجب اجتنابه والكفر به، نقف على قول ابن القيم رحمه الله تعالى في تعريف الطاغوت وما يدخل في مسماه ومعناه، حيث يقول في الأعلام 1/50: الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قومٍ من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، ومن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته .
وقال: من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسو صلى الله عليه وسلم فقد حكَّم الطاغوت وتحاكم إليه ا-هـ .
فإن قيل: نحن إذ نقسم بالله على احترام الدستور الجاهلي الحاكم، فإننا ننوي في قلوبنا الدستور الإسلامي، أو احترام الدستور ما لم يخالف الشرع، والأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، كما أفتى بذلك الشيخ ابن عثيمين أكثر من مرة وفي أكثر من موضع(1) ..!!
وهذه شبهة ما أكثر ما سمعناها من أنصار وأتباع الطريق ــــــــــــــــــ
(1) انظر مجلة الفرقان، عدد 73، السنة الثامنة، مايو 1996م. في إجابة للشيخ عن حكم المشاركة في المجالس النيابية ..!
الديمقراطي النيابي، والجواب عليها من أوجه:
1- أن تُستحلَف على شيء ثم تنوي قي قلبك خلافه، هو بخلاف ما دلت عليه السنة، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي يرويه مسلم وغيره، أنه قال:" يمينك على ما يُصَدقُك عليها صاحبك ". أي يمينك على ظاهره، وينعقد على ما يستحلفك عليه صاحبك، فإن استحلفك مثلاً على احترام الكفر والشرك فحلفت له بذلك حراً غير مكره، فيمينك على ما استحلفك عليه، وتلزمك تبعاته ومضاعفاته ونتائجه، ولا يتشفع لك أن تضمر في قلبك احترام الحق والتوحيد ..!
…2- القول بخلاف ما تقدم يستلزم منه الكذب، وضياع كثير من الحقوق، ومثال ذلك: أن يستحلفك صاحبك على أن ترد له دَينه في السنة القادمة، وعندما تأتي السنة القادمة ويحين وقت السداد تقول له: أنا عندما حلفت لك نويت في قلبي أن يكون السداد بعد عشر سنين وليس بعد سنة، لذا فالذي ينفذ علي هو ما أضمرته وليس ظاهر ما استحلفتني عليه .. وهذا عين الغدر والكذب واللصوصية !
3- النية الحسنة لا تحيل السيئة إلى حسنة، ولا المعصية إلى طاعة، والقول بخلاف ذلك يستلزم منه استباحة جميع المحرمات والمحظورات مادامت النية حسنة وسليمة !
فهذا تراه يعبد الأصنام ثم يقول لك أنا أنوي في قلبي عبادة الله، وذاك يسرق ثم يقول لك نيتي في قلبي أن أنفق على الفقراء والمساكين، وأبني المساجد، والآخر يزني ثم يقول لك نيتي في ذلك التقوي على الطاعة .. وهكذا نجد لكل معصية وجريمة نية حسنة أو تفسير باطني يبيحها ويحلها !!
4- إضافة إلى ما تقدم فإن هذا الموقف فيه تضليل لعوام المسلمين تجاه الباطل والكفر؛ لأن العامة يرون من النائب – الذي يقسم الأيمان على الالتزام بالدستور الجاهلي – ما يظهره من مواقف موالية للكفر لا ما يبطنه من نوايا حسنة .. فهو بموقفه هذا يضل ويُضل .
لأجل هذه الأوجه المتقدمة الذكر نقول: إن هذه الفتوى باطلة وهي لا تصح شرعاً ولا عقلاً، كما أنها لا تنم عن دراية أصحابها بواقع المسألة .. وكنا نتمنى للشيخ أن يصون نفسه عن مثل هذه الفتاوى والمزالق المشينة التي تسيء لشخصه وسمعته الواسعة بين المسلمين، وأن لا يجعل من شهرته سيفاً مسلطاً على الحق وأهله يقاتل به الديمقراطيون البرلمانيون ..!
ثانياً: اعترافه – بلسان الحال والقال – للآخرين من زملائه النواب على مختلف اتجاهاتهم ومشاربهم الكفرية والفكرية، بحقهم في التشريع وسن القوانين، والتحليل والتحريم، وهذا أمر لا بد منه لأن التشريع من جملة الوظائف والأعمال الموكولة إلى النائب.
…وهذا يعني اعترافه لهم بخصائص الإلهية والربوبية التي تتضمن التشريع والتحليل والتحريم، كما قال تعالى عن اليهود والنصارى عندما أطاعوا أحبارهم ورهبانهم، واتخذوهم مرجعاً – من دون الله – يرجعون إليهم في التشريع والتحليل والتحريم: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يُشركون} التوبة:31.(54/175)
…قال البغوي في التفسير 3/285:فإن قيل إنهم لم يعبدوا الأحبار والرهبان – بمعنى الركوع والسجود – قلنا: معناه أنهم أطاعوهم في معصية الله واستحلوا ما أحلوا وحرموا ما حرموا، فاتخذوهم كالأرباب ا-هـ .
…وقال تعالى: { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} الأنعام:121. أي لأن عبدتموهم من جهة طاعتكم إياهم في تحليل ما حرم الله، فإنكم لمشركون بعبادتكم من جهة طاعتكم إياهم من دون الله ( .
…وقال تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} الشورى:21.
…وقال تعالى: { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنمَ كذلك نجزي الظالمين} الأنبياء:29.
…والنائب بكل وقاحة يقول عن نفسه أنه إله، وذلك عندما يزعم لنفسه مهمة التشريع من دون الله، وهو بذلك مثله كفرعون عندما قال تعالى عنه: { وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري} القصص:38. أي ما علمت لكم من حاكم ومشرع ترجعون إليه في جميع شؤون حياتكم غيري، والفرق بين فرعون والنائب في البرلمان أن فرعون كان أكثر وقاحة وصراحة لقومه عندما قال لقومه: { ما علمت لكم من إله غيري}، بينما النائب يقولها على استحياء وخجل وبطريقة مبطنة يمكن تمريرها على عوام الناس وجهلتهم: ما علمت لكم من مشرعٍ غيري .. أنا الذي يحق له التشريع، والتحليل والتحريم، وما عليكم إلا طاعتي واتباعي ..!!
…وعليه فإننا نجزم بأن النائب في البرلمان طاغوت من هذا الوجه، لكونه يُعبد من دون الله تعالى من جهة طاعته فيما يُشرع ويحلل ويحرم .. يجب الكفر به والبراء منه .
…ثالثاً: من المزالق التي يقع فيها النائب ولا يمكن له تفاديها إقراره وموافقته على المبدأ الباطل الذي ينص على أن التشريعات والقرارات والأحكام الملزمة هي القرارات والأحكام التي تحظى بغالبية أعضاء مجلس النواب، بغض النظر عن مدى موافقتها للحق المسطور في الكتاب والسنة أو معارضتها له، حيث أن التشريعات النافذة والمعتبرة عند القوم – كما تقدم – هي التي تحظى بموافقة الأغلبية ولو اجتمعت على الكفر والباطل !
…وقد تقدمت الأدلة الشرعية التي تبين بطلان وكفر هذا المبدأ، والتي تدل على أن الأكثرية بل الشعب بكامله لا يمكن أن يحيل الحق باطلاً، ولا الباطل حقاً، وأن مرد الأحكام والتشريع، والتحسين والتقبيح، وغير ذلك من التحليل والتحريم إلى الله تعالى وحده لا شريك له .
…وقد تقدمت الإشارة كذلك إلى أن الموافقة على مثل هذا المبدأ الكفري – طوعاً من غير إكراه – يعد من ضروب الرضى بالكفر، والرضى بالكفر كفر بلا خلاف .
…وفي قوله تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون ومَن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون} المائدة:50.
…يقول ابن كثير في التفسير 2/70: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدَل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان الذي وضع لهم الياسق؛ وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير(1) ا-هـ .
ــــــــــــــــــ
(1) قلت: ومثل ياسق التتار في زماننا، الكتاب الأخضر – وما حوى من كفر وضلالات – الذي يفرضه الطاغوت على المجتمع الليبي، وقبله الميثاق الوطني الذي وضعه الطاغوت عبد الناصر وفرضه على الشعب المصري المسلم بالحديد والنار، وكذلك الدساتير الجاهلية التي تحكم أكثر بلاد المسلمين، والتي يفرض لها القدسية والطاعة والإجلال، وتُقدم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . هذه الدساتير ونحوها كلها لها حكم ووصف ياسق التتار ، وعلى أتباعها ودعاتها يُحمل كلام =
رابعاً: من لوازم موافقتهم على مبدأ حكم الأكثرية، وأن الأحكام والقرارات تُؤخذ بناءً على ما تجتمع عليه رغبة الأكثرية ولو اجتمعت على باطل، موافقتهم على المبدأ الآخر الذي يتضمن إخضاع كل شيء مهما سمت قداسته إلى عملية التصويت والاختيار، والرد والقبول، ولو كان هذا المصوت عليه هو دين الله، وحكمه وشرعه .. وهذا هو الذي يمارسه النواب في جميع مجالسهم النيابية (1) !
وهذا مزلق عقدي ينقض الإيمان لا يستطيع النائب المسلم أن يتفاداه أو الفكاك من أسره وتبعاته، يترتب عليها مزالق عديدة بعضها أغلظ من بعض !
منها، أن عملية التصويت هذه تتضمن تسوية صريحة وواضحة ـــــــــــــــــ
= ابن كثير رحمه الله: فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحكَّم سواه في قليل ولا كثير .(54/176)
(1) في عهد الديمقراطية وحرية الأحزاب في السودان – قبل البشير – كان الصراع فيما بين الأحزاب حول تطبيق الشريعة الإسلامية! فقالوا: لا بد أن يأخذ الموضوع طريقه للتصويت لنرى من يريد شريعة الله، ومن يريد شريعة كتشنر – الطاغوت – وأي الشريعتين تنال وتفوز بأكثر الأصوات من النواب هي التي تحكم البلاد والعباد!
وبعد إجراء عملية التصويت ورفع الأيدي وخفضها، فازت شريعة الطاغوت بأكثرية الأصوات، وأقصوا شرع الله عن الحكم ..!!
وهذا الذي جرى في السودان يجري في جميع الأمصار التي رضيت بالديمقراطية والعمل النيابي ديناً وطريقاً وأسلوباً في الحكم والحياة ..!…
بين شرع الله (وبين شرع الطاغوت؛ حيث كلاهما يخضعان بالتساوي لعملية التصويت، والرد والقبول، والاختيار .. !
…وهذا عين الكفر البواح، وأصحابه لهم سوء الجزاء يوم القيامة، كما قال تعالى: { فكبكبوا فيها هم والغاوون . وجنود إبليسَ أجمعون . قالوا وهم فيها يختصمون . تالله إن كنا لفي ضلالٍ مبين . إذ نسويكم برب العالمين} الشعراء:94-98 . ومن تسويتهم للطواغيت برب العالمين تسوية حكمهم وشرائعهم بحكم وشرائع الله ( وجعلهما سواء في المرتبة والتعامل ..!
…ومنها، أن هذا التصويت يتضمن ظاهرة الاختيار في قبول أو رد حكم الله، وهذا من خلق المنافقين الكافرين، كما في قوله تعالى: { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين . وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} النور:47-48.
…هذا موقف الكافرين الذين لا يؤمنون ولا يرجون لله وقاراً، أما موقف الذين آمنوا إذا دعوا إلى حكم الله ورسوله قالوا: سمعنا وأطعنا، وانقادوا لحكم الله تعالى ظاهراً وباطناً، كما قال تعالى: { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} النور:51.
…وقال تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} الأحزاب:36.
…بينما من يجعل لنفسه الحق في أن يرد أو يقبل حكم الله تعالى وقت يشاء، فهذا بنص القرآن الكريم ليس بمؤمن ولا مسلم،كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} النساء:65 .
…وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم . يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالُكم وأنتم لا تشعرون} الحجرات:1-2.
…قلت: إذا كان مجرد رفع الصوت فوق صوت صلى الله عليه وسلم يُخشى منه أن يحبط العمل كلياً، ولا يحبط العمل إلا الكفر والشرك، فكيف بمن يرفع يده – كما يحصل ذلك في المجالس النيابية – معرباً عن رفضه لحكم الله ورسوله، لا شك أنه أولى بحبوط العمل، وبحكم الكفر والشرك .
…ومنها، أن مبدأ التصويت المعمول به في المجالس النيابية التشريعية ينص على تحكيم الأكثرية، ويعتبرها الجهة الوحيدة التي لها حق التشريع وسن القوانين وهذا عين الكفر والشرك، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك .
…خامساً: من لوازم المشاركة في العمل النيابي، والوقوف في ظل مظلة النظام الكافر الجاهلي، إضفاء الشرعية على هذا النظام، وتحسين صورته القبيحة في أعين الناس، وإطالة أمده وعمره، وبخاصة إن كان هذا المشارك من خواص المسلمين وأعلامهم ممن ينظر إليه عوام الناس على أنه قدوة ومثل يُقتدى به ..!
…فهو بمشاركته هذه يضل ويُضل، ويهلك ويُهلك، ويكون بمثابة شاهد زور في الباطل كما في قول صلى الله عليه وسلم :" يليكم عمال من بعدي يقولون ما يعملون، ويعملون بما يعرفون، وطاعة أولئك طاعة، فتلبثون كذلك دهراً، ثم يليكم عمال من بعدي يقولون ما لا يعلمون، ويعملون ما لا يعرفون، فمن ناصحهم ووازرهم وشد على أعضادهم، فأولئك قد هلكوا وأهلكوا، خالطوهم بأجسادكم وزايلوهم بأعمالكم "(1).
…هلكوا بأنفسهم لما ضلوا وكانوا الأداة التي يتقوى بها أمراء السوء والضلال، وتتقوى بها سياساتهم وأنظمتهم الباطلة والفاسدة على شعوبهم، ومن جهة أخرى أهلكوا غيرهم من عوام الناس ممن يقلدونهم وينظرون إليهم كمثل وقدوة يحتذى بهم، لما صوروا لهم أمراء السوء والضلال وأنظمتهم الباطلة على غير حقيقتها القاتمة والفاسدة، وأظهروها لهم بالمظهر الحسن والمقبول .. وهذا كله مع أمراء السوء والضلال الذين لم يبلغ بهم ضلالهم وانحرافهم درجة الكفر الأكبر، أما إذا كانت هذه المشاركة والمناصحة مع حكام زنادقة مرتدين كما هو واقع الحال، فإن الهلاك والدمار لا شك أنه يكون أعم وأشمل .
…وقال صلى الله عليه وسلم " ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منهم فلا يكوننَّ عريفاً ولا شرطياً ولا جابياً ولا خازناً "(2).
ـــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الطبراني وغيره، السلسلة الصحيحة:457. (2) أخرجه ابن = …(54/177)
فإذا كانت هذه المفاصلة والمباينة واجبة بحق أمراء مسلمين يحكمون بما أنزل الله، لكن فيهم هاتين الخصلتين السيئتين: تقريبهم لشرار الناس، وتأخيرهم للصلاة عن مواقيتها .. فهي من باب أولى أن تتعين وتكون أوجب في حق حكام كفرة مجرمين، لا يحكمون بما أنزل الله، ويحاربون الإسلام والمسلمين بكل ما يملكون من قوة، ومن وسائل الترهيب والترغيب ..!
…وقا صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:" إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذيك، وإما أن تبتاعَ منه، وإما أن تجد ريحاً طيبةً، ونافخُ الكير إما أن يحرقَ ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً منتنةً " .
…وهكذا جليس طواغيت الحكم والفجور فإنهم لا يدعونه حتى يحرقوه كلياً، ويسيئوا إلى دينه وسمعته وشرفه وكرامته .. وقد وجدنا من المشايخ والدعاة ممن وضع لهم القبول في الأرض وأقبلت عليهم أفئدة الناس، وكثر الثناء عليهم بالخير، قد انقلب عليهم هذا القبول إلى بغضٍ ونفرة من الناس، وانقلب الثناء الحسن إلى شتم ولعن وثناء بالسوء، كل ذلك كان بسبب قربهم من طواغيت الحكم والتصاقهم بهم، وعملهم عندهم، وولوجهم نفق العمل النيابي المظلم .
صدق رسول ا صلى الله عليه وسلم حيث يقول:" من أتى أبواب السلطان ـــــــــــــــــ
= حبان وغيره، السلسلة الصحيحة: 360.
افتتن، وما ازداد أحد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً "(1). ومن يزدد من الله بعداً يوضع له البغض في السماء والأرض .
قال ابن الجوزي: من تلبيس إبليس على الفقهاء مخالطتهم الأمراء والسلاطين ومداهنتهم، وترك الإنكار عليهم مع القدرة على ذلك، وربما رخصوا لهم فيما لا رخصة لهم فيه لينالوا من دنياهم عرضاً، فيقع بذلك الفساد لثلاثة أوجه:
…الأول: الأمير يقول لولا أني على صواب لأنكر عليَّ الفقيه، وكيف لا أكون مصيباً وهو يأكل من مالي .
…والثاني: العامي يقول لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله، فإن فلاناً الفقيه لا يبرح عنده .
…[ وقد وجدنا من عوام المسلمين وخواصهم في هذا الزمان من يستشهد بقرب بعض الشيوخ من طواغيت الحكم كدليل على إسلامهم وعدالتهم، وحسن سيرتهم ..!].
…والثالث: الفقيه فإنه يُفسد دينه بذلك .[ فيدخل عليه بدين فيخرج بلا دين !].
…وقد كان سفيان الثوري يقول: ما أخاف من إهانتهم لي، إنما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم(2).
وكان سعيد بن المسيب يقول: مَن رأيتموه يعتاد أبواب السلاطين ـــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد، السلسلة الصحيحة:1272. (2) تلبيس إبليس:148-149.
فهو لص؛ أي لا يؤتمن على دين ولا دنيا ولا يؤخذ منه العلم .
…وجاء رجل خياط إلى سفيان الثوري فقال: إني رجل أخيط ثياب السلطان، هل أنا من أعوان الظلمة ؟ فقال سفيان: بل أنت من الظلمة أنفسهم، ولكن أعوان الظلمة من يبيع منك الإبرة والخيوط !!
…قلت: هذا فيمن يخيط للسلطان المسلم الظالم الثياب، فما ظنك فيمن يعين حكام الكفر والفجور والردة على تنفيذ سياساتهم ومخططاتهم الكفرية والباطلة التي تضاد شرع الله تعالى ..؟!
…قد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من أعان ظالماً بباطل ليدحض بباطله حقاً برئ من ذمة الله ( وذمة رسوله "(1) .
سادساً: من المزالق التي لا يمكن للنائب تفاديها، إظهار الموالاة للحاكم الكافر، وإضفاء عبارات التفخيم والتبجيل والسيادة عليه وعلى نظامه وحكومته . وفي كثير من الأمصار التي خاضت التجربة النيابية تُلزم النائب بالقسم على الإخلاص والوفاء للملك أو الحاكم الكافر، وهذا يتعارض مع عقيدة الولاء والبراء في الإسلام، وما يجب على المسلم من إظهار للعداوة والبغضاء والمفاصلة نحو ملل الكفر وأربابها .
قال تعالى: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسولَه ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الطبراني وغيره، السلسلة الصحيحة:1020 .
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} المجادلة:22.
…وقال تعالى: { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير} آل عمران:28 .
…وقال تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم} المائدة:51. أي كافر مثلهم .
…وقال تعالى: { ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون} التوبة:23. أي فأولئك هم المشركون؛ لأن الظلم يُطلق أحياناً – كما في هذا الموضع – ويُراد به الشرك الأكبر، كما في قوله تعالى: { إن الشرك لظلم عظيم} لقمان:13.
…وقال تعالى: { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء} المائدة:81. فالآية أفادت أن من يتخذهم أولياء لا يكون مؤمناً بالله والنبي ولا بما أنزل إليه من القرآن .
…وفي السنة فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" سيليكم أمراء بعدي يُعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون،فمن أدرك ذلك منكم فلا طاعة لمن عصى الله"(1).(54/178)
…وقال صلى الله عليه وسلم " سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها "، فقال عبد الله بن مسعود: يا ــــــــــــــــ
(1) السلسلة الصحيحة:590 .
رسول الله إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال:" تسألني يا ابن أم عبد كيف تفعل ؟ لا طاعة لمن عصى الله "(1).
…وقا صلى الله عليه وسلم :" لا تقولوا للمنافق سيدنا، فإنه إن يك سيدكم فقد أسخطتم ربكم ( "(2). وفي رواية:" إذا قال الرجل للمنافق: يا سيد فقد أغضب ربه تبارك وتعالى ". هذا فيمن يقول للمنافق يا سيد، فكيف بمن يخاطب طواغيت الحكم والجور بعبارات التفخيم والتبجيل، والإجلال والإكرام كما هو حال الذين سلكوا نفق العمل النيابي أو الوزاري عند الطواغيت، لا شك أنه أدعى لسخط الله وغضبه .
…سابعاً: المجالس النيابية لا تخلو من مظاهر الطعن والاستهزاء والكفر بآيات الله ( وأحكامه، وذلك عن طريق إخضاع شرع الله تعالى للتصويت والاختيار، وعملية رفع الأيدي وخفضها .. والنائب مهما حسنت نيته لا مناص له من مشاركة القوم على كفرهم هذا ولو بمجرد الجلوس، والجلوس في مجالس الكفر والاستهزاء بالدين – من غير إكراه ولا إنكار – كفر، لتضمنه الرضى بالكفر، والرضى بالكفر كفر بلا خلاف.
…قال تعالى: { وقد نزَّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره ــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد وغيره، السلسلة الصحيحة:2/139. (2) أخرجه أبو داود، والبخاري في الأدب المفرد، وأحمد وغيرهم، السلسلة الصحيحة:371.
إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً} النساء:140.
…قال سليمان بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله: إن معنى الآية على ظاهرها، وهو أن الرجل إذا سمع آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها، فجلس عند الكافرين المستهزئين من غير إكراه ولا إنكار ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره فهو كافر مثلهم، وإن لم يفعل فعلهم لأن ذلك يتضمن الرضى، والرضى بالكفر كفر (1).
…وقال ابن جرير في التفسير 4/330: وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله، ويستهزئ بها وأنتم تسمعون آيات الله يكفر بها ويُستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتوه منها، فأنتم إذاً مثلهم في
ركوبهم معصية الله ا-هـ .
…وقال القرطبي في كتابه الجامع 5/418: { إنكم إذاً مثلهم}، مَن لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضى بالكفر كفر، فكل مَن جلس في مجلس معصيةٍ ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء ا-هـ .
…وقال الشوكاني في التفسير 1/527: قوله { إنكم مثلهم} أي إنكم إن فعلتم ذلك ولم تنتهوا فأنتم مثلهم في الكفر ا-هـ .
…وقال تعالى: { لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان
ـــــــــــــــــ
(1) مجموعة التوحيد:48.
داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} المائدة:77-78 .
…جاء في التفسير: أن بني إسرائيل لما وقعت في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله بعضهم ببعضٍ ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم .
…قلت: إذا كان هذا مصير من يجالس أهل المنكر بعد أن ينهاهم عن باطلهم، ويقوم بواجب الإنكار عليهم، فما يكون القول فيمن يجالسهم على باطلهم ومنكرهم من غير إنكار ولا نهي .. لا شك أنه أولى بنزول اللعنة عليه من علماء بني إسرائيل .
…وفي السنة، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقاً حلقاً إمامهم الدنيا، فلا تجالسوهم، فإنه ليس لله فيهم حاجة " (1).
…قلت: من باب أولى اعتزال مجالس الطواغيت التي يكثر فيها الاستهزاء والطعن في الدين، كما هو حال المجالس الشعبية أو النيابية التي يتسابقون للمكث والجلوس فيها..!
…وقا صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي أخرجه مسلم:" سيكون أمراء تعرفون وتنكرون، فمن نابذهم نجا، ومن اعتزلهم سلم، ومن خالطهم هلك ".
ـــــــــــــــــ
(1) أخرجه الطبراني، الصحيحة:1163 .
هلك من جهة جلوسه معهم على ما هم عليه من المنكر والظلم والباطل، فيطاله نفس الإثم والوزر وإن لم يشاركهم الفعل، كما تقدم .
…وهلك من جهة حرقه في أعين الناس، والإساءة إلى سمعته ودينه وشخصه ..
…وهلك من جهة سكوته عن المنكر وكتمانه للعلم الذي أمر ببيانه والصدع به، وعجزه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا الموضع لا يعذره لأنه دخل إليهم وجالسهم بإرادته من غير إكراه .
…وهلك من جهة تحسين صورة الباطل في أعين الناس ..
…وهلك من جهة كونه سبباً في إفساد العباد وإضلالهم، وصدهم عن الحق وأهله..
…وهلك من جهة بعده عن الله ( بسبب قربه من سلاطين الجور والضلال ..
…وهلك من جهة البغض الذي يوضع له في الأرض، وفي قلوب العباد ..
…وهلك من جهة الخذي والعذاب الأليم الذي ينتظره ويستحقه يوم القيامة .. فكل هذه المعاني ترد في معنى كلمة " هلك " الواردة في الحديث .(54/179)
…وقد ورد في السيرة كما في مجموعة التوحيد 299 : أن خالد بن الوليد لما وصل إلى العرض قي مسيره إلى أهل اليمامة لما ارتدوا قدَّم مائتي فارس طليعة، وقال: من أصبتم من الناس فخذوه، فأخذوا مجاعة في ثلاثة وعشرين من قومه، فلما وصل إلى خالد، قال له: يا خالد لقد علمت أني قدمت على رسول ا صلى الله عليه وسلم في حياته فبايعته على الإسلام، وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس، فإن يك كذّاباً – وهو مسيلمة الكذاب – قد خرج فينا فإن الله يقول: { ولا تزرُ وازرة وزر أخرى} .
…فقال خالد: يا مجاعة تركت اليوم ما كنت عليه الأمس، وكان رضاك بأمر هذا الكذاب وسكوتك عنه وأنت أعز أهل اليمامة، وقد بلغك مسيري، إقراراً له ورضاءً بما جاء به، فهلاَّ أبيت عذراً وتكلمت فيمن تكلم، فقد تكلم ثمامة ورد وأنكر، وتكلم اليشكري .. ؟
…فإن قلت: أخاف قومي، فهلاَّ عمدت إلي أو بعثت إلي رسولاً ؟!
…فقال: إن رأيت يا ابن المغيرة أن تعفو عن هذا كله ؟!
…فقال خالد: قد عفوت عن دمك، ولكن في نفسي حرج من تركك !!
فتأمل كيف أن خالداً اعتبر مجاعة تاركاً عما كان عليه بالأمس من الإسلام والإيمان، وأنه راضٍ بأمر مسيلمة الكذاب لمجرد بقائه في سلطانه وأرضه – مع استطاعته الخروج – من دون أن يبدي عذراً مقبولاً شرعاً يبرر بقاءه، ولولا صراحة مجاعة وصدقه مع خالد لكان له خبر آخر عند خالد والله تعالى أعلم .
ثامناً: لم تقتصر مسؤولية النائب – كما في الأنظمة الديمقراطية المتبعة – على الجانب التشريعي وحسب، بل هي تمتد لتشمل مسؤوليته عن السياسة التنفيذية للحكومة، ومراقبة مدى التزامها بالقوانين التي تُصدر إليها من جهة المجالس النيابية التشريعية، ومحاسبتها على أدنى تقصير يحصل في ذلك (1).
وبالتالي فهو – أي هذا النائب المعمم ذو الصيت الإسلامي الواسع – مسؤول عن المنكر والكفر الذي يُمارس من قبل الحكومة الكافرة، وتطاله جميع تبعاته وعواقبه في الدنيا والآخرة، لأن الحكومة إذ تنفذ ما تنفذه من الكفر والباطل فهي تنفذه باسمه واسم قرنائه من المشرعين في مجلس النواب .
فإن قيل: النائب الإسلامي لا يرضى عن سياسة الحكومة الكافرة وله الحق في أن يعترض عليها ..!
ــــــــــــــــــ
(1) من المهازل المضحكة المبكية، والمكفرة أن دساتير بعض الأنظمة الطاغية الحاكمة التي تزعم الديمقراطية: تنص صراحة على أن الملك أو الرئيس فوق المساءلة أو المحاسبة، وهو لا يُسأل عما يفعل مهما كان منه من عمل، بينما تراهم بنفس الوقت يُخضعون شرع الله تعالى للمساءلة والمحاسبة، وللتصويت والاختيار .. فطاغوتهم الكافر لا يُسأل عما يفعل وهو فوق ذلك، ومن يتجرأ على المساءلة ومخالفة الدستور فقوانين الجور والظلم تطاله وتردعه، بينما الله تعالى تطاله المساءلة وهو يُسأل عما يفعل ويشرع كما يزعمون .. قاتلهم الله ولعنهم أنى يؤفكون، وتعالى الله علواً كبيراً عما يقولون !
وهذه الدساتير هي نفسها التي يقسم الإسلاميون البرلمانيون على احترامها والعمل بها ..والسؤال: إذا كان الريس الكبير فوق المساءلة ولا يجوز أن يُسأل عما يفعل، فما قيمة هذه المعارضة التي يتكلمون عنها وما أثرها أمام فيتو الطاغوت الحاكم ..؟!!
نقول: لكنه من جهة أخرى هو موافق عليها لكونها تمثل رغبة وإرادة الأكثرية .
لذا فإن اعتراضه الهزيل والفاتر الأول ينسخه وينقضه رضاه وموافقته على المبدأ العام الذي ينص ويُلزم باحترام رغبة وإرادة الأكثرية .. وهو في ذلك مثله مثل من يقول بالشيء وضده في آنٍ معاً، واعتراض كهذا لا يغير من الواقع الباطل شيئاً، بل هو يزيده قوة وتثبيتاً لأنه مرَّ للتنفيذ بعد أن قالت المعارضة قولها ورأيها فيه، وهو بذلك أكثر قبولاً عند الناس وأمام الرأي العام من الحالة التي يُفرض فيها فرضاً من شخص الحاكم أو غيره من دون أن تقول المعارضة فيه قولها .
فالمعارضة على الطريقة الديمقراطية وكما هي تمارس على أرض الواقع، كالمقبلات التي تضفي على الطعام شهية وإقبالاً من قبل الناس، وبالتالي لا يفرحن هذا النائب الموهوم – الإسلامي! – بمعارضته التي يتبجح بها، ولا يحملن الأمور ما لا تحتمل .. !
ومما يمرر في هذه الأيام من مؤامرات خسيسة ظاهرة تفضي إلى تسليم فلسطين كل فلسطين لليهود الصهاينة باسم عملية السلام المزعومة، والاعتراف لهم بدولتهم الباطلة على أرض فلسطين .. فإن ذلك كله يمر ويتم عبر مهازل التصويت ورفع الأيدي وخفضها في مجالس النواب على مرأى ومسمع من الشعوب المقهورة !
فبيع فلسطين لليهود بثمنٍ بخس – بل بلا ثمن – لا حرج فيه مادام البيع تم عبر إرادة الشعب، وممثلي إرادة الشعب، بما في ذلك الفريق المعارض(1) ..!!
ـــــــــــــــــ
(1) من الملفت للنظر أن إسرائيل تشترط على الأنظمة العربية إن أرادوا التطبيع والسلام معها التزامهم بالنظام الديمقراطي النيابي الحر .. ففرح لذلك المغفلون الضالون – من أبناء جلدتنا وديننا – وطبلوا وزمروا، وأشاعوا بين الناس أن إسرائيل تريد للشعوب العربية الحرية، وأن يرتفع عنها جور وحكم الفرد ..!(54/180)
وفات هؤلاء أن إسرائيل لا يمكن أن تفكر إلا بصالحها، وفيما يعود عليها بالنفع والفائدة ولو أدى ذلك إلى هلاك الشعوب بكاملها غير بني يهود، ومصلحة إسرائيل في هذا الشرط والمطلب أن ما يمكن لإسرائيل تحقيقه من مصالح عن طريق الديمقراطية لا يمكن لها تحقيقه عن طريق العساكر وعملائها من الجنرالات ..!
فعن طريق الديمقراطية والتصويت والاختيار تغتصب إسرائيل الأرض وتنتهك العرض،والنفوس بذلك راضية ومقتنعة، ولما لا ما دامت صفقات الخيانة والبيع تمر كلها علانية عبر قنوات الشعب، وممثلي إرادة الشعب ..!!
وهل التصويت في بعض المجالس النيابية العربية على عملية السلام، إلا وهو في حقيقته تصويت صريح على بيع فلسطين لليهود ..؟!
فالذي يصوت على دين الله وشرعه ما الذي يردعه من التصويت على بلاد المسلمين وأراضيهم ..؟!
وفي إحدى المناظرات مع المخالفين من الإسلاميين البرلمانيين المسجلة، يقول أحدهم – وهو يحمل شهادة دكتوراه في العلوم السياسية مما ينم على دراية الرجل بالسياسة الدولية - : إن المعسكر الديمقراطي الحر المتمثل في أمريكا ودول أوربا لا يمكن أن يعترف بديمقراطية أية دولة أو حركة أو جماعة إلا بشرطين، وهما:
أولاً، الاعتراف بإسرائيل ودولتها على أرض فلسطين وأن لها لحق في ذلك ..!
ثانياً، الاعتراف بمصالح الغرب في بلاد المسلمين ..! =
ومن قبل خسرت ماليزيا سنكافورا بعد أن كانت جزءاً من أراضيها، تحت ذريعة الاحتكام إلى التصويت والنزول عند رغبة الأكثرية الكافرة ..!
وقبل أشهر انفصلت تيمور الشرقية عن إندونسيا، كذلك تحت ذريعة الاحتكام إلى التصويت ورغبة الأكثرية .. !
واليوم تُطرح فكرة استقلال جنوب السودان عن السودان الأم عن طريق التصويت ورفع الأيدي وخفضها .. وهكذا فالحبل جرار في كل مكان يتكاثر فيه أهل الباطل، ويكون لصالح أمريكا والغرب الصليبي تحقيق الانفصال(1) ..!!
ــــــــــــــــــ
= وفي حال عدم الاعتراف أو الإقرار بهذين الشرطين، فإن هذه الدولة أو الحركة أو الجماعة مهما التزمت بمبادئ الديمقراطية فهي في نظر القوم تعتبر إرهابية ومتطرفة وغير ديمقراطية ..!
قلت: فالرجل – إذ كان ينافح عن الديمقراطية – فقد أدان نفسه بنفسه، ومع ذلك فهو وحزبه لا يزالون يرون في الديمقراطية وولوج العمل النيابي الحل الأمثل، والطريقة الأفضل لتحقيق غاياتهم ومآربهم ..وإن أدى ذلك إلى ضياع الدين، وإلى الاعتراف لليهود بحقهم في فلسطين، وللغرب الصليبي بحقهم في نهب خيرات بلاد المسلمين ..!!
(1) هذه القاعدة تتخلف عندما يكون الانفصال لصالح المسلمين، كما هو الحال في الشيشان فالروس ووراؤهم الغرب الصليبي الداعم للحملة العسكرية الروسية في هذه الأيام لا يمانعون أن يبيدوا شعباً بكامله - بما فيهم الأطفال والنساء والشيوخ العجز - على أن لا يعطوا الاستقلال للمسلمين في الشيشان، علماً أن الاستقلال =
أرأيت كيف تضيع البلاد، وكيف تفقد الأمة جزءاً من أراضيها باسم الديمقراطية الملعونة، وهل أرادها لنا الأعداء إلا لذلك ..؟!
ــــــــــــــــــــــ
= هو رغبة الشعب الشيشاني بكامله .. أرأيتم الازدواجية في المواقف، وكيف أن الديمقراطية تتغير من بلدٍ إلى آخر ومن شعب إلى آخر بحسب المصالح والأهواء .. إنه الحقد الصليبي والتمييز الطائفي لا غير !!
قالوا بكل وقاحة وقلة حياء :إن مطالبة الشعب المسلم الشيشاني بالاستقلال عن دولة الوحوش الروسية الملحدة هو إرهاب .. بينما أن يبيد الجيش الروسي - المدعوم من الغرب الصليبي - شعباً بكامله، وأن ينذر أطفال ونساء وشيوخ العاصمة الشيشانية كروزني بإخلاء المدينة خلال أسبوع، فإن لم يخلوا المدينة أو عجزوا عن الخروج خلال هذه المدة فهم في عداد الإرهابيين المقاتلين الذين ستشملهم حرب الإبادة .. أن يفعلوا هم ذلك فهذا ليس من الإرهاب ..؟!!
- مزالق غير مباشرة .
توجد مزالق أخرى غير مباشرة للعمل النيابي الديمقراطي، أهمها :
أولاً: تشويه مفهوم ومدلول شهادة التوحيد " لا إله إلا الله " في أذهان وحياة الناس .
حيث أن لا إله إلا الله تعني لا معبود بحق في الوجود إلا الله تعالى، وتعني كذلك الكفر بالطواغيت وتحطيم جميع الأصنام والأوثان – على اختلاف أشكالها وأنواعها – التي تُعبد من دون الله، والمرء لا يصح إيمانه ولا يقبل منه عمل إلا بعد أن يحقق شرط الكفر بالطاغوت، ويأتي بشهادة التوحيد بمفهومها المتقدم اعتقاداً وقولاً وعملاً .
بينما تأتي الديمقراطية لتقرر في أذهان العباد وواقع حياتهم خلاف ذلك؛ فهي تقرر ألوهية المخلوق، وعبادة المخلوق للمخلوق، وتفرز آلهة عديدة تُعبد من دون الله، كما تقرر شرعية وحرية تكاثر الآلهة والأصنام التي تعبد من دون الله ..!
فكيف لهذا المرء في ظل هذا الواقع المتناقض المتغاير أن يجمع بين التوحيد الواجب عليه وبين الديمقراطية التي تلزمه – على الأقل – بالاعتراف بشرعية وحرية وجود الآلهة المزيفة التي تعبد من دون الله(1)!!
ــــــــــــ(54/181)
(1) من الدول التي تتبنى النهج الديمقراطي النيابي دولة ماليزيا، والقطاع الأكبر للحركة الإسلامية فيها قد تبنوا هذا النهج، وهي دولة يغلب على سكانها – بعد أن كان المسلمون فيها هم الأكثرية والأغلبية – عبادة الأوثان والأصنام والمجسمات من البوذيين والهندوس وغيرهم، حيث تكثر فيها المعابد الوثنية التي تنتشر في =
ــــــــــــــــ
= جميع أنحاء وأطراف البلاد، وهي تُعنى بكامل الرعاية والحماية والاحترام من قبل الحكومة الطاغية التي تحكم البلاد !
كل ذلك يتم تحت شعار الالتزام بالديمقراطية التي تكفل وترعى التعددية على اختلاف مشاربها ومذاهبها !
أما هذا المسلم المسكين الذي يعيش في تلك الديار قد ألف منظر هذه الآلهة والأصنام بل قد ألف احترامها كواقعٍ لا مناص منه، حيث لم يعد يرى تعارضاً بين شهادة التوحيد التي يتلفظ بها ويكررها على لسانه عشرات المرات في اليوم، وبين وجود هذه الأصنام والأوثان المنتشرة في جميع أطراف البلاد ..!
بل قد وجدنا من المسلمين من يبيعها ويروج لها في محلاتهم وأسواقهم مقابل ثمن بخس يُعطَوه، ولا يرون في ذلك بأساً ولا تعارضاً مع دينهم الذي تعلموه في أجواء الديمقراطية والتعددية ..!
ولشدة احترام الحكومة الديمقراطية – التي يسمونها مسلمة والتي تشارك فيها الحركة الإسلامية – لمشاعر الوثنيين ولآلهتهم وأوثانهم ومعابدهم الوثنية، فإنها قد شرعت قوانين تمنع بموجبها المسلمين من دعوة الوثنيين المشركين إلى الإسلام وإلى عبادة الله تعالى وحده ..!!
ولما سألنا أهل الدعوة من جماعة التبليغ عن سبب امتناعهم عن دعوة هؤلاء الوثنيين إلى الإسلام، تعذروا بتلك القوانين الكافرة الصادرة عن الحكومة وبضرورة احترامها والعمل بها .. ومما قالوه كذلك: أن مهمتهم تنحصر فقط في الحفاظ على رأس المال؛ أي حصر الدعوة بين المسلمين فقط ..!
أرأيت كيف يتشوه التوحيد وتضيع معالمه في ظل هذه الديمقراطية التي ينشدونها ويتباكون عليها ..؟!
ومما يُذكر كذلك أن عدد المسلمين في ماليزيا كان قبل عشرين عاماً ما يزيد على =
ــــــــــــــــــ
= 80% من مجموع عدد السكان، وفي هذه الأيام فإن عددهم – كما تشير إلى ذلك بعض الإحصائيات – لا يزيد عددهم على 40% من مجموع عدد السكان..!
وعندما سألنا بعض عقلاء القوم عن سبب ذلك أجابونا: بأن الحزب العلماني الحاكم لكي يضمن فوز حزبه بأكثر الأصوات، وتكون له حصة الأسد في الحكومة سهل ولا يزال يسهل تجنيس عدد كبيرٍ من الصينيين البوذيين من عبدة صنم بوذا، وغيرهم من الهندوس الذين يعبدون البقر والأوثان، لأنه يعلم أن هذه الشريحة من الناس لا يمكن أن تصوت يوماً من الأيام لصالح الأحزاب الإسلامية الموجودة على الساحة، وأن أصواتهم ستكون لصالح حزبه ..!
وفات هؤلاء الأغبياء أن هذه الأكثرية في مرحلة من المراحل يمكن أن تستغل أكثريتها المتنامية لصالح التصويت من أجل الانفصال وإخراج ماليزيا كلياً من هويتها الإسلامية، واعتبارها دولة وثنية كتيلاند وسنكافورا التي كانت يوماً من الأيام إحدى ولايات ومحافظات الدولة الماليزية ..!!
لكن هذا في نظر الأحزاب غير مهم، وضياع البلاد والعباد كذلك غير مهم، وإنما المهم أن يبقى الزعيم على سدة الحكم، وأن يحصل الحزب على الأكثرية التي تمكنه من حكم البلاد ولو لمرحلة زمنية محددة ..!
ومما يؤكد ما ذكرناه قول محمد الغزالي في كتابه " حصاد الغرور " بعد التقائه برجلين من زعماء المسلمين في ماليزيا، وسماعه منهما: كنت أعلم أن المسلمين في الملايو كثرة، فإذا هم اليوم قلة تبلغ 45% من جملة السكان، فكيف حدث هذا ؟! يرجع ذلك إلى أمرين مهمين:
الأول: أن الصينيين يهاجرون إلى البلاد في أعداد كبيرة، ويكسبون الجنسية الملاوية بسرعة ! =
إنه التشويه لحقيقة هذا الدين، والضياع الذي ليس بعده ضياع، وبخاصة عندما يُطرح العمل بالديمقراطية من قبل المشايخ والدعاة، فحينها لا تسأل عن حجم الخسارة التي تصيب المسلمين في دينهم وعقيدتهم ..!
ومن صور هذا التشويه المتعمد الخسيس ما تقوم به بعض الأنظمة الخسيسة الذليلة من تشويه منظم لعقائد الناس ممن يعيشون تحت سلطانهم وحكمهم بتبنيها للديمقراطية وفرضها على الناس، لا حباً بالديمقراطية والتزاما بها وإنما من أجل استجداء الأموال والعطايا من دول الغرب الصليبي التي تشترط لعطاياها لأي نظام أن يكون ديمقراطي التوجه !
…وهؤلاء الطواغيت الظالمين المتسولين يذكروننا بالآباء الظالمين الذين يمتهنون الشحاذة والتسول؛ فيقومون بتشويه أجساد أبنائهم وأطفالهم ليستجدوا عليهم العطايا والصدقات من الناس ..!
…لكن مهما كان فإن تشويه عقائد الأمة وثقافتها من أجل استجداء الأموال من الغرب، لهو أشد جرماً وإثماً من تشويه أجساد الأطفال من أجل الشحاذة والتسول ..!!
ثانياً: تغييب مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
من مضاعفات العمل الديمقراطي – وبخاصة عندما يُطرح كمطلب من قبل المشايخ والدعاة !- تغييب مبدأ الأمر بالمعروف والنهي ــــــــــــــــ
= والآخر: أن التناسل بين الصينيين يزداد دون عوائق .. ا -هـ .(54/182)
لكن الشيخ لم يتساءل لماذا يكسب الصينيون الجنسية بسرعة، ومن وراء تجنيسهم هذا .. فالجواب ما تقدم ذكره وبيانه !
عن المنكر الواجب على المسلمين من أذهانهم ومن واقع حياتهم، لأن الديمقراطية – كما تقدم – تقوم على المنكر، وحماية المنكر، وتقديس حريته، وأي مساس به هو مساس بالديمقراطية وبثوابتها ذاتها !
ولك أيها المسلم أن تتصور حجم الفوضى والخراب والفساد الذي يعم المجتمع عندما يُغيب فيه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..!
…ثم أن أمة الإسلام عندما تتخلى عن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي تلقائياً تفقد خاصية الخيرية التي خصها الله بها من بين الأمم، بل تفقد الغاية والمبرر من وجودها، كما قال تعالى: { كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} آل عمران:110.
فهي خُصت بالخيرية والفضل على سائر الأمم لقيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقيامها بدور الحارس الأمين الذي يحرس المجتمعات من التسوس والتلف والخراب والهلاك، ويقودها إلى دار النجاة والصحة والعافية، وهي متى تفقد هذه الخاصية وهذا الدور الذي شرفها الله به، فهي لزاماً تتخلى عن خاصية الخيرية، وعن دورها الريادي على باقي الأمم والشعوب التي هي الأخرى قد فقدت هذا المبدأ العظيم منذ زمن بعيد، وأصبحت تعيش كالبهائم والدواب محكومة تحت ضغط الأهواء والغرائز والشهوات، لا تستطيع الفكاك منها ومن أسرها .
فقدوا خاصية القوامة والخيرية منذ أن عبدوا المخلوق، ورضوا لأنفسهم أن يتخذوا بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله ..!
…ثالثاً: تغييب عقيدة الولاء والبراء .
من إفرازات العمل النيابي الديمقراطي تغييب عقيدة الولاء والبراء في الله، وكذلك مبدأ التمايز والمفاصلة الذي يجب على أهل الحق نحو أهل الباطل وتجمعاتهم، حيث أن الجميع يجالس الجميع، والكل يعايش الكل بسلام ووئام تجمعهم عقيدة الانتماء إلى الوطن، أو قل عقيدة الانتماء إلى الإقليم أو الجنس، أو القوم، أو العشيرة، أو الحزب، وغيرها من الانتماءات الجاهلية الوثنية ..!
المهم – عند القوم – تغييب عقد الولاء والبراء في الله، وعلى أساس الإيمان بالله، والتقوى والعمل الصالح، وكذلك تغييب الفوارق بين المواطنين على أساس الكفر والإيمان، والهدى والضلال، فالكل – كافرهم ومؤمنهم – في الوطن وحب الوطن إخوان(1) ..!
ولك أن تعجب من قول هذا الرجل الذي اتسعت فتنته أكثر مما اتسعت شهرته، في كتابه الموسوم بأولويات الحركة الإسلامية، حيث ـــــــــــــــ
(1) من الآلهة التي تُعبد من دون الله تعالى الوطن والوطنية، وبخاصة بعد سقوط الرابطة الإسلامية المتمثلة في الخلافة العثمانية، حيث قام الكتاب والمثقفون المتأثرون بالثقافات الغربية الوافدة على بلاد المسلمين بتصوير الوطن على أنه المعبود الذي يجب أن يُعقد فيه الولاء والبراء، والحقوق والواجبات، مبعدين في ذلك الولاء والبراء اللذان يُعقدان على أساس الانتماء إلى الدين والعقيدة .. من ذلك ما قاله أحمد محرم في مصر: =
يقول: أذكر أنني منذ سنوات دُعيت إلى المشاركة في ندوة الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي، التي نظمتها منتدى الفكر العربي في العاصمة الأردنية عمان .
وقد دُعي إلى هذه الندوة مسلمون ونصارى وشيوعيون وقوميون من مختلف الفصائل والاتجاهات . ومما لا أنساه ما ذكره لي بعض الأخوة المشاركين وهو نصراني قومي، فقد قال لي ونحن على مائدة الغداء: لقد ــــــــــــــــ
= فإن يسألوا ما حب مصر فإنه …
دمي وفؤادي والجوانح والصدر
أخاف وأرجو، وهي جهد مخافتي
ومرمى رجائي، لا خفاء ولا نُكر
هي العيش والموت المبغّض والغنى
لأبنائها والفقر والأمن والذعر
هي القدر الجاري هي السخط والرضى
هي الدين والدنيا هي الناس والدهر
بذلك آمنا، فيا من يلومنا
لنا في الهوى إيماننا ولك الكفر !!
ومن ضروب هذا الغلو والكفر ما يقوله شوقي كذلك:
…ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيتُ بك الشبابا
…وكل مسافر سيئوب يوماً إذا رُزق السلامة والإيابا
…ولو أني دُعيت لكنت ديني عليه أقابل الحتم المجابا
…أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فُهتُ الشهادة والمتابا !!
غيرنا فكرتنا عنك على طول الخط . قلت: وماذا كانت فكرتكم ؟ قال: أنك متعصب متشدد ! قلت: ومن أين جاءتكم هذه الفكرة عني ؟ قال: لا أدري ولكن هذا كان انطباعنا عنك ورأينا فيك بصراحة. قلت: والآن ؟ قال: عرفنا بالسمع والمشافهة والمشاهدة والاحتكاك المباشر ما نسف تلك الفكرة الظالمة التي كوناها عنك من قبل، فقد وجدنا فيك رجلاً يحترم المنطق، ويُحكم العقل، ويستمع إلى وجهات النظر المخالفة، لا يتزمت، ولا يتشنج، بل فاق غيره في المرونة والتسامح(1) .
ــــــــــــــ
(1) عن كتاب أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، ص 168. وهو من أسوأ ما كتبه الرجل، وهو ينسخ كثيراً مما كان قد كتبه في شبابه وفي نشاطه الأول لهذه الدعوة ..!(54/183)
ومما خطه في كتابه المذكور تحت عنوان " الحركة وقضايا الحرية السياسية والديمقراطية " قوله: والواجب على الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة أن تكون دائماً في صف الحرية السياسية المتمثلة في الديمقراطية الصحيحة غير الزائفة ..!
والحركة الإسلامية والصحوة الإسلامية لا تتفتح أزهارها، ولا تنبت بذورها، ولا تتعمق جذورها، أو تمتد فروعها إلا في جو الحرية، ومناخ الديمقراطية ..!
لهذا لا أتصور أن يكون موقف الحركة الإسلامية إلا مع الحرية والديمقراطية السياسية ..!
الأدوات والضمانات التي وصلت إليها الديمقراطية هي أقرب ما تكون إلى تحقيق المبادئ والأصول السياسية التي جاء بها الإسلام لكبح جماح الحكام .. فهنا تبرز قوة السلطة النيابية القادرة على سحب الثقة من أية حكومة تخالف الدستور، وكذلك قوة الصحافة الحرة، والمنبر الحر، وقوى المعارضة، وصوت الجماهير .. ا-هـ . =
قلت: قد فات هذا العالم الدكتور أن الأخوة التي عقدها للمشرك النصراني القومي ذي الكفر المركب والمغلظ، لا يجوز أن يعقدها إلا للمسلمين المؤمنين الموحدين، كما قال تعالى:( إنما المؤمنون أخوة ( الحجرات:10.
وقال تعالى:( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعضٍ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ( المائدة:51. ـــــــــــــــــ
= فتأمل: فهو لا يرى موقف حركته الإسلامية إلا مع حرية الكفر والإلحاد والعهر، والديمقراطية السياسية التي تنص على الشرك وعلى ألوهية المخلوق من دون الله تعالى كما عرفت ذلك من خلال ما تقدم !
…ثم تأمل كيف ينص على التمسك والحفاظ على الدستور من دون أن يقيده بوصفه الإسلامي، ولما انعدم وجود الدولة التي لها دستورها المستمد من الكتاب والسنة لا غير، علمت أن الرجل يريد من الدستور الدساتير الباطلة الكافرة السائدة والحاكمة في أمصار المسلمين ..!
…ولا يفوتنا كذلك أن ننبه القارئ على الفارق بين الصحافة الحرة التي يريدها الدكتور – كما سماها – والتي تشمل جميع أنواع الصحافة الكافرة منها وغير الكافرة، والطالحة التي تنشر كلمة الكفر والفجور وغيرها، وبين الصحافة الإسلامية التي تلتزم وتتقيد بقيود الشرع، وآداب الكلمة الطيبة .. والشاهد أن الدكتور يريد الأولى لا الثانية !!
…وما يقال في الصحافة الحرة، كذلك يُقال في المنبر الحر، وقوى المعارضة، وصوت الجماهير .. إذ أن هذه الإطلاقات حمالة أوجه ومعانٍ، وهي أقرب إلى المعنى الباطل منها إلى الخير !!
وأي ولاية أوثق وأعلا من ولاية الأخوة .
عن محمد بن سيرين قال: قال عبد الله بن عتبة: ليتق أحدُكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر، قال: فظنناه يريد هذه الآية( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء( (1).
وقد فاته كذلك أن ثناء النصارى ورضاهم عنه وإعجابهم به وبأفكاره هو حقيقته مسبة له، ودليل على انحرافه عن جادة الحق والتوحيد واتباعه لهم في بعض باطلهم مما جعلهم يرضون عنه، كما قال تعالى:( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من وليٍّ ولا نصير( البقرة:120.
فرضى اليهود والنصارى وغيرهم من ملل الكفر عن المسلم – بدلالة الآية أعلاه – لهو دليل على انحرافه عن جادة الحق والصواب، وعلى متابعته لهم فيما هم عليه من الباطل، وهو مدعاة لهذا المسلم أن يتهم نفسه ويراجعها، وينظر أين هو من دين الله تعالى، لا أن يستشهد بمدحهم له وثنائهم عليه بالخير !
رابعاً: تغييب مبدأ الجهاد في سبيل الله .
لأن من لوازم العمل الديمقراطي النيابي، الاتفاق والرضى بمبدأ تعاقب الحكومات وإحداث التغيير عن طريق تداول السلطة عبر صناديق ـــــــــــــــ
(1) تفسير ابن كثير:2/71 .
الاقتراع والانتخابات؛ وهذا يعني إلغاء واستهجان مبدأ الجهاد في سبيل الله الذي نصت عليه مئات النصوص الشرعية من الكتاب والسنة .
فالديمقراطية والعملية النيابية تُطرح كبديل عن طريق الجهاد في سبيل الله؛ لذا فإن القائلين بالديمقراطية من أشد الناس محاربة لخيار استخدام القوة أو أي مشروع جهادي هادف .. وهم أول من يقف بوجه أي عمل جهادي على أنه مغاير للخيار الديمقراطي الذي ارتضته الأمة كما زعموا (1)..!!
ـــــــــــــــ
(1) من الكلمات التي سمعناها من مشايخ الديمقراطية في حملاتهم الدعائية الانتخابية قولهم للناس: أن طريق الديمقراطية أسهل وأفضل، فهو لا يكلف سوى أن نضع هذه الأوراق في صناديق الاقتراع، وفي اليوم التالي تخرج لنا دولة الإسلام التي نريد، بينما طريق الجهاد هو طريق شاق وصعب، وهو محفوف بالمكاره والمخاطر، والقتل والقتال ..!
فأيهما أفضل دولة إسلامية تأتي – برداً وسلاماً – عن طريق صناديق الاقتراع، وأنت تتوسد فراشك الوثير في بيتك وبين أطفالك، أم الدولة التي تأتي عن طريق الأشلاء وسفك الدماء، والقتل والقتال ..!
هكذا _ بكل بساطة واستخفاف بعقول الناس – يطرحون الموضوع والقضايا على مسامع الناس، ليصدقوهم ويتبعوهم على ما هم عليه من الباطل .
وهذا كلام باطل من وجهين:(54/184)
أولهما، من الوجهة الشرعية فهو كلام باطل وخطير لتضمنه تفضيل سبل الباطل التي شرعها الطاغوت وسنها لعملية التغيير والتناوب على السلطة، على السبيل الشرعي المنصوص عليه في الكتاب والسنة، والذي يكمن في الجهاد في سبيل الله! =
والأمة التي تغيب مبدأ الجهاد في سبيل الله من عقيدتها وثقافتها، وتربيتها ووسائلها لحقيق بها أن تعيش بين الركام على هامش الحياة والتاريخ، وأن تعيش الذل والهوان والضعف بكل أبعاده ونتائجه، لتكون لقمة سائغة سهلة يطمع بها الأعداء الغزاة متى يشاءون .. وهذا الذل ـــــــــــــــــــ
= فمعنى كلامهم المتقدم هذا أن سُبل الطاغوت خير وأفضل وأسلم من السبيل الشرعي الذي شرعه الله تعالى وأوجبه على العباد .. فالقول والفعل من هذا الوجه كفر صريح .
ثانياً، فهو باطل لأنه طرح غير واقعي ويستحيل تحقيقه، وهو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع الملموس؛ ولا أدل على ذلك من الواقع المشاهَد الذي أثبت استحالة وصول المسلمين عن هذا الطريق، بل استحالة إمرار أي مشروع إسلامي هام إلى حيز الوجود والتنفيذ، يمكن أن يرتد على الإسلام والمسلمين بالخير ..!
ولشدة إجرام القوم وحقدهم على الإسلام والمسلمين فهم لا يتورعون عن استخدام القوة وإنزال الجنود والدبابات إلى الشوارع – كما حصل في تركيا والجزائر وتونس وغيرها من البلدان – لمنع أي تقدم يمكن أن يحققه المسلمون ..!
ولقد وصل حقد الديمقراطية في تركيا إلى إسقاط الجنسية التركية عن النائبة التركية " مروى قاوقجي " وطردها من مجلس النواب بسبب ارتدائها الحجاب فقط ..فتأمل !!
فهم لا يطيقون النظر إلى امرأة محجبة لكونها محجبة فقط، فكيف تراهم يُطيقون النظر إلى الإسلام وهو يحكم البلاد والعباد ..؟!
والديمقراطيات الأخرى الموجودة في الشرق الأدنى وغيرها من البلدان المتخلفة والمتقدمة سواء ليست أرحم وأحسن حالاً للإسلام والمسلمين من الديمقراطية التركية، وهذا معنى قد نعود إليه في الأسطر القادمة إن شاء الله .
والهوان الذي تعيشه الأمة على جميع المستويات ما هو إلا بسبب ركونها إلى الدنيا ومتاعها وتخليها عن الجهاد في سبيل الله .
كما قال تعالى:( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ( التوبة:24.
وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم "(1). أي حتى ترجعوا إلى الجهاد في سبيل الله الذي تركتموه وتخليتم عنه .
خامساً: تفريق كلمة المسلمين وإضعاف شوكتهم(2) .
ــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود وغيره، السلسلة الصحيحة:11 .
(2) من يتأمل سبب الانقسامات والفرقة التي تحصل للجماعات الإسلامية المعاصرة، وهذا الكم الهائل من الجماعات المتعددة والمختلفة فيما بينها والمتزايدة يوماً بعد يوم، يجد أن الطرح الديمقراطي وراء أكثر هذا البلاء وهذه الفرقة : فهذه جماعة ترى العمل الديمقراطي والتمثيل النيابي، وتلك لا تراه .. وهذه جماعة أخرى ترى الانخراط والمشاركة قي أجهزة الدولة والحكم، وتلك لا تراه .. وهذه جماعة ترى أسلوب الحوار والتعايش السلمي مع الأنظمة الحاكمة ، وتلك لا تراه .. وأخرى ترى الأسلوب العلني في الدعوة والعمل، وتلك لا تراه .. وهذه جماعة ترى التحالف مع الأحزاب العلمانية، وتلك لا تراه .. وهكذا هلمَّ جرَّا ! =
إذا لم يكن للعمل الديمقراطي النيابي من سيئة سوى تفريق كلمة المسلمين، وتشتيتهم في جماعات متفرقة ومتناحرة متدابرة بسبب خلافهم على شرعية هذا العمل وعلى الفائدة المرجوة منه قياساً للمفاسد التي لا يمكن تفاديها، لكفاه سيئة تمنع المسلمين من المسير في هذا الطريق المظلم المحفوف بالمزالق والمخاطر .
وعلى قول المخالفين في المسألة فإن العمل النيابي لا يرقى عندهم عن كونه مباحاً، بينما وحدة كلمة المسلمين واعتصامهم بحبل الله جميعاً فرض عين نصت على وجوبه نصوص الكتاب والسنة .
والشاهد كيف يُقدم – عند القوم – المباح الذي لا يأثم تاركه على الواجب والفرض الذي يأثم تاركه، ويطاله عليه الوعيد والعذاب يوم القيامة .
ـــــــــــــ
= وهذا كله – كما يسميه القرآن الكريم – بسبب نسيان حظٍّ من الدين والتوحيد، كما قال تعالى: ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاءَ إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ( المائدة:14 .
- خلاصة حكم الإسلام في العمل النيابي والنواب .(54/185)
…هذه أهم المزالق المباشرة والغير مباشرة التي تترتب وتتحصل نتيجة العمل الديمقراطي النيابي، وعلى أساسها نبين حكم الإسلام في العمل النيابي والنواب سواء، فنقول : إن العمل النيابي – للمزالق العقدية والشرعية الآنفة الذكر – هو كفر بواح بدين الله تعالى، لا يجوز الإقدام عليه مهما كانت المسوغات أو المبررات .. والقول بخلاف ذلك لا يقدم عليه إلا كل جاهل بدين الله تعالى وبواقع المسألة سواء .
…أما النواب أنفسهم – من ذوي الاتجاه الإسلام – الذين سلكوا هذا النفق المظلم، فالقول فيهم : أن من غلبت منهم شبهاته وتأويلاته وأدلته، مزالقَه وأخطاءه .. فمثل هذا نرى الإمساك عن تكفيره بعينه – مع بقاء القول بكفر فعله ومسلكه – إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية التي تدفع عنه الجهل بما وقع به من مخالفات ومزالق وانحرافات .
…أما من غلبت مزالقه وأخطاؤه شبهاته وتأويلاته وأدلته، وعلت عليها، وضاقت في حقه ساحة التأويل الشرعي المستساغ لشدة انحرافه وفداحة مزالقه، وصراحة كفره .. فمثل هذا القول فيه: أنه يكفر بعينه – ولا كرامة – لانتفاء موانع التكفير عنه، وتحقق شروطه فيه، ولا يتشفع له كونه ينتمي إلى الاتجاه الإسلامي أو مرشح عنه(1).
ــــــــــــــ
(1) أما كيف من الممكن أن يكفر نائب دون آخر مع أنهما كلاهما متلبسان بجرم العمل النيابي؛ فهذا يعود إلى ثبوت موانع التكفير أو انتفائها بحق كلٍّ منهما، لذا = أما حكم الذي ينتخب من المسلمين ويصوت لصالح النواب أو بعضهم، فالقول فيهم كالتالي:
…1- الفعل ذاته هو كفر بدين الله تعالى؛ لتضمنه الرضى والموافقة على ألوهية المخلوق من دون الله تعالى، وعلى العملية النيابية برمتها وما يترتب عليها من مزالق قد تقدم ذكرها .
2- أما الشخص ذاته فهو على حالتين: حالة يكفر بها بعينه، وحالة لا يكفر بها، وإنما يشمله العذر والتأويل .
…الحالة التي يكفر بها بعينه: تكون عندما نلمس منه -بلسان القال أو الحال - أنه عالم بمهمة النائب الحقيقية التي يزاولها في مجلس النواب، وبالمزالق الشرعية التي يقع بها، وبمناقضتها للشريعة، ثم هو مع ذلك يصوت – حراً مختاراً - للنائب وللعملية النيابية؛ أي أنه يصوت للنائب كمشرع من حقه وخصائصه التشريع من دون الله تعالى .. فمثل هذا لا مناص من تكفيره بعينه .
أما الحالة التي لا يكفر بها، وإنما يشمله العذر والتأويل إلى حين بلوغه الحجة الشرعية التي تدفع عنه العجز فيما قد جهل به وخالف، وهم غالب الناس الذين يُشاركون في هذا العمل المشين؛ وذلك عندما نلمس من أحدهم بلسان الحال أو القال أنه لا يعلم حقيقة عمل النائب، ولا ــــــــــــــــ
= نجد أن الإمام أحمد كان يمسك عن تكفير من يقول بخلق القرآن، وبنفس الوقت يقول بكفر بعضهم بأعيانهم؛ علماً أن كلاهما متلبسان بنفس الكفر والجرم وهو القول بأن القرآن مخلوق وليس كلام الله تعالى ..
يعلم المزالق الشرعية التي يقع فيها، بل هو يعلم خلاف ذلك من الصور المشرقة الحسنة التي سمعها من دعاة ومشايخ الديمقراطية، وعلى أساسها أدلى بصوته وشارك في العملية الانتخابية .. فمثل هذا لا مناص من الإمساك عن تكفيره،والإقبال على تعليمه وتبصيره بمصائر الأمور إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية .
…وتكفير هذه الشريحة من الناس – على الإطلاق ومن دون مراعاة للتفصيل المتقدم – هو ضرب من الغلو المذموم، والجرأة على الله وعلى دينه بغير علم، لا تحمد عواقبها ومآلها ..
…وعليه فإننا لا نوافق ولا نرتضي الفتاوى المتسرعة الصادرة عن بعض الأخوة المتحمسين التي تفيد تكفير عموم من يُشارك في العملية الانتخابية أو يدلي بصوته، ومن دون مراعاة لمقاصد العباد(1) !
…ولكون عملية التكفير في هذه المسألة شائكة وهي على درجة من الدقة - كما تقدم – تحتاج إلى علم وتقوى واجتهاد ومتابعة وترجيح ومعرفة بواقع المسائل؛ لذا لا أرى لآحاد الناس ممن هم حديثو عهد بهذا العلم أن يتجرأ بإصدار الفتاوى والأحكام بالكفر على أعيان العباد، وأرى من السلامة لدين المرء ونفسه أن يكتفي بالحديث عن كفر المسألة ـــــــــــــــ
(1) الكفر البواح ليس من لوازم تكفير صاحبه تتبع أو مراعاة قصده فيما بدر منه من كفر بواح، وهذا بخلاف الكفر المحتمل المتشابه فإنه لا بد من مراعاة قصد فاعله ومعرفة الدافع الذي حمله على هذا الكفر المحتمل والمتشابه .. وهذه مسألة هامة تفصيلها له موضع آخر .
كمسألة، وعن كفر العمل بها، وإن وجدت الضرورة – ولا بد – لمعرفة حكم الإسلام في شخص بعينه لاستفحال شره وضرره، يسأل عنه أهل العلم والدراية، فإليهم تُرد الفتوى وعليهم يتم التعويل، كما قال تعالى:( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( النحل:43.
…وهذا ليس من قبيل الإمساك عن تكفير الكافر الذي يجب تكفيره، والذي يكفر من لا يكفره أو شك في كفره، وإنما هو من قبيل الإمساك عن الخوض في المتشابهات والأمور المشكلة بغير علم، والسلامة تقتضي عدم إقحام النفس فيما لا يعنيها ولا هو من اختصاصها، فجاهل الشيء كفاقده، وفاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه، والسلامة لا يعدلها شيء ..(54/186)
-كلام لمحمد قطب في التمثيل النيابي ودخول البرلمانات.
…للشيخ – حفظه الله – كلام طيب نستحسنه ونستصوبه، يذكر فيه بعض ما يترتب على العمل النيابي من مزالق ومخاطر، نذكره هنا للفائدة، حيث يقول: فهو يحتوي – أي العمل النيابي – على مزالق خطيرة تصيب الدعوة في الصميم .
…المزلق الأول: هو المزلق العقيدي؛ فكيف يجوز للمسلم الذي يأمره دينه بالتحاكم إلى شريعة الله وحدها دون سواها، والذي يقول له دينه إن كل حكم غير حكم الله هو حكم جاهلي لا يجوز قبوله ولا الرضى عنه، ولا المشاركة فيه، كيف يجوز له أن يشارك في المجلس الذي يشرع بغير ما أنزل الله، ويعلن بسلوكه العملي في كل مناسبة أنه يرفض التحاكم إلى شريعة الله ؟!
…كيف يجوز له أن يشارك فيه، فضلاً عن أن يقسم يمين الولاء له، ويتعهد بالمحافظة عليه وعلى الدستور الذي ينبثق عنه، والله يقول سبحانه:( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره إنكم إذاً مثلهم ( .
…وهؤلاء حديثهم الدائم مخالفة شريعة الله والإعراض عنها، ولا حديث لهم غيره ينتظره المنتظر حتى يخوضوا فيه .. فكيف إذاً يقعد معهم..؟!
كل ما يقال من مبررات: أننا نُسمعهم صوت الإسلام، أننا نعلن
رفضنا المستمر للتشريع بغير ما أنزل الله .. أننا نتكلم من المنبر الرسمي فندعو إلى تحكيم شريعة الله .. كل ذلك لا يبرر تلك المخالفة العقيدية الواضحة ..
والمزلق الثاني: هو تمييع القضية بالنسبة للجماهير .. إننا نقول للجماهير في كل مناسبة أن الحكم بغير ما أنزل الله باطل، وإنه لا شرعية إلا للحكم الذي يحكم بشريعة الله، ثم تنظر الجماهير فترانا قد شاركنا فيما ندعوها هي لعدم المشاركة فيه، فكيف تكون النتيجة ؟!
وإذا كنا نحن لا نجد لأنفسنا المبررات للمشاركة في النظام الذي نعلن للناس أنه باطل، فكيف نتوقع من الجماهير أن تمتنع عن المشاركة، وكيف تنشأ القاعدة الإسلامية التي يقوم عليها الحكم الإسلامي، القاعدة التي ترفض كل حكم غير حكم الله، وترفض المشاركة في كل حكم غير حكم الله ؟!
إننا نحسب أننا بدخولنا البرلمانات نقوم بعمل ييسر قيام القاعدة الإسلامية، لأنه يدعو إليها من فوق المنبر الرسمي الذي له عند الناس رنين مسموع، ولكنا في الحقيقة نعوق قيام هذه القاعدة بهذا التمييع الذي نصنعه في قضية الحكم بما أنزل الله .. فلا يعود عند الجماهير تصور واضح للسلوك الإسلامي الواجب في هذه المسألة .
ومن ثم فالجماعات الإسلامية – الداخلة في التنظيمات السياسية لأعداء الإسلام – هي الخاسرة في لعبة الدبلوماسية، والأعداء هم الكاسبون، سواء بتنظيف سمعتهم أمام الجماهير بتعاون الجماعات
الإسلامية معهم، أو تحالفهم معهم، أو اشتراكها معهم في أمرٍ من الأمور . أو بتمييع قضية الإسلاميين في نظر الجماهير وزوال تفردهم وتميزهم الذي كان لهم يوم أن كانوا يقفون متميزين في الساحة، لا يشاركون في جاهلية السياسة من حولهم، ويعرف الناس عنهم أنهم أصحاب قضية أعلى وأشرف وأعظم من كل التشكيلات السياسية الأخرى، التي تريد الحياة الدنيا وحدها وتتصارع وتتكالب على متاع الأرض، فضلاً عن مناداتهم بالشعارات الجاهلية وإعراضها عن تحكيم شريعة الله(1).
ــــــــــــــ
(1) واقعنا المعاصر:463-465 .
- شروط العمل في الدوائر الحكومية .
قد يسأل البعض: هل يُفهم مما سبق بيانه أنه لا يجوز مطلقاً العمل في الوظائف التابعة لدوائر وأجهزة الحكومات العلمانية المعاصرة ..؟
وللجواب على هذا السؤال نقول: إن أي عمل أو وظيفة يقوم بها المسلم، يُشترط لها شروط، نجملها في النقاط التالية:
1- أن لا يؤدي العمل إلى مخالفات شرعية ظاهرة، كالعمل في سلك القضاء والمحاماة، لما في ذلك من تعامل مباشر مع القوانين الوضعية والعمل بمقتضاها، والتي تُعتبر في نظر الإسلام طاغوت يجب الكفر به .. فالرزق الحلال لا يُطلب إلا بوسيلة شرعية حلال، وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال" إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله "(1). فلا داعي لأن يُطلب بالحرام .
…2- أن لا يكون في العمل أو الوظيفة تقوية للباطل وأهله، وفيه إعانة لهم على المنكر والإثم والعدوان، لنهي الشارع عن ذلك كما في قوله تعالى:( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ( المائدة:2.
…3- أن لا يكون العمل ذاته فيه موالاة للطواغيت، وإعانة لهم على ظلمهم وطغيانهم وكفرهم ..
قال تعالى:( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من ــــــــــــــ
(1) أخرجه الطبراني، صحيح الجامع:1630 .
دون المؤمنين ( النساء:144.
…وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من أعان ظالماً بباطلٍ ليدحض بباطله حقاً، فقد برئ من ذمة الله ( وذمة رسوله "(1).(54/187)
…وقا صلى الله عليه وسلم :" اسمعوا، هل سمعتم أنه سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يُعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه، وهو وارد علي الحوض "(2).
…فليتقِ الله هؤلاء الذين يجندون أنفسهم لخدمة الطواغيت والذود عنهم، ويعملون عندهم كوشاة وجواسيس يتجسسون على عورات المسلمين لصالحهم وصالح أمنهم .. كل ذلك من أجل حفنة يسيرة من الدراهم !
…4- أن لا يكون العمل مما نص الشارع على حرمته، كما في الحديث:" فلا يكونن عريفاً، ولا شرطياً، ولا جابياً، ولا خازناً " وكذلك وزيراً، أو مستشاراً، أوعيناً ..
مع مراعاة هذه الشروط فليتقدم المسلم – على بركة الله – على أي عمل كان، والمسلم الكيس هو الذي يقدر العمل الذي يخدم الإسلام والمسلمين فيقوم به، والعمل الذي يتخلله الحرام أو فيه إعانة للطواغيت على ظلمهم فيبتعد عنه .
ـــــــــــــ
(1) أخرجه الطبراني، والحاكم، السلسلة الصحيحة:1020 . (2) صحيح سنن الترمذي:1843 .
وقد كان سلفنا الصالح يهربون من العمل عند سلاطين الجور حتى لا يكونوا سبباً في تقوية ظلمهم للعباد، فاجتناب طواغيت الكفر والردة من باب أولى، كما روي عن الشعبي أنه كان يلعب بالشطرنج لما طلبه الحجاج لتولية القضاء، رأى أن يلعب به ليفسق نفسه، ولا يتولى القضاء للحجاج، ورأى أن يحتمل مثل هذا ليدفع عن نفسه إعانة مثل الحجاج على مظالم المسلمين، وكان هذا أعظم محذوراً عنده، ولم يمكنه الاعتذار إلا بمثل ذلك، وروي عن سعيد بن جبير مثل ذلك(1) .
فأين هؤلاء الذين يترامون على عتبات الطواغيت – متذرعين بمصلحة الدعوة – يستشرفون الفُتات اليسير الذي يُرمى إليهم من قبل الطاغوت .. أين هم من أخلاق سلفنا الصالح وسيرتهم الرفيعة النزيهة مع سلاطين الجور ؟!
يقول محمد قطب: الأصل في المسلمين أن يكونوا بقدر الإمكان في مواقع بعيدة عن ضغط الحكم الجاهلي عليه . ولكن هذا لا يتوفر في جميع الأحوال فكثير من الناس تضطرهم ظروف المعيشة أن يدخلوا تحت هذا الضغط من أجل إعالة أنفسهم وإعالة ذويهم ..
فأي الوظائف تحت هذه الضرورة أن يعملوا فيها ؟ لا يوجد تحديد دقيق في الحقيقة، ولكنا نقول: يصح لهم بصفة عامة إنه كلما قربت الوظيفة من السلطان فقد بعد موقع المسلم منها بالضرورة .. ولكن في ـــــــــــــــــ
(1) قاله ابن تيمية في الفتاوى:32/238و245 .
جميع الحالات لا ينبغي للمسلم أن يكون وزيراً، فإنه عندئذٍ يقع تحت الضغط المباشر للجاهلية، بحيث لا يستطيع الفكاك، وأبسط ذلك أن يُقسم يمين الولاء للحكم الجاهلي الذي ينكره،أو للطغاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله..ولا أن يكون في موضع التعامل المباشر مع التشريع المخالف لما أنزل الله، فإنه لا يستطيع عندئذٍ أن ينجو من مخالفة أمر الله (1).
وفي هذا يقول سيد رحمه الله في كتابه العظيم " المعالم ": ولكن الإسلام – كما قلنا – لم يكن يملك أن يتمثل في نظرية مجردة، يعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة، ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلاً، فإن وجودهم على هذا النحو – مهما كثر عددهم – لا يمكن أن يؤدي إلى وجود فعلي للإسلام، لأن الأفراد المسلمين نظرياً الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتماً للاستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية ..
…سيتحركون – طوعاً أو كرهاً بوعي أو بغير وعي – لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده، وسيدافعون عن كيانه، وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه، لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا .. أي أن الأفراد المسلمين نظرياً سيظلون يقومون فعلاً بتقوية المجتمع الجاهلي الذي ــــــــــــــــ
(1) واقعنا المعاصر:508-509 .
يعملون نظرياً لإزالته، وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد ! وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا بها ويقوى، وذلك بدلاً من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي لإقامة المجتمع الإسلامي ! انتهى .
- شبهات وردود .
يثير المخالفون في المسألة بعض الشبهات ليشغلوا بها عوام الناس عن الجد والمهم، وليظهروا أمامهم أن الدليل معهم فيما ذهبوا إليه، وأصلوا له، وهم في الحقيقة ليسوا على شيء ذي بالٍ يُلتفت إليه؛ ليس عندهم سوى الهوى والشغب والرغبة الجامحة في حب الرياسة والزعامة والظهور، والارتماء على عتبات وموائد الطواغيت، ولو كان في ذلك هلكتهم وضياع دينهم، وأحسنهم – ممن أفتى في المسألة عن حسن نية – الذي يلقي كلامه على عواهنه من دون أن يلم بأطراف المسألة وبواقعها، فيفسد أكثر مما يصلح ويهدم ولا يبني، ويَضل ويُضل كل من تعلق بشباك فتواه وكلامه .(54/188)
…وبعد التدقيق والتأمل في مجموع كلامهم وشبهاتهم وأدلتهم وجدناها لا ترقى إلى أن تكون شبهة دليل في المسألة، فضلاً عن أن تكون دليلاً يعتمد عليه ويستدل به، ومع ذلك من باب الإعذار وبيان الحق، وإقامة مزيدٍ من الحجج والبراهين الساطعة الماحقة لبطلان مذهب الديمقراطيين البرلمانيين ومتعلقاتهم الواهية، سنتعرض إلى ذكر شبهاتهم بشيء من التفصيل، ونرد عليها شبهة شبهة إن شاء الله تعالى:( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ( الأنفال:42.
…1- الشبهة الأولى: قصة عمل يوسف عليه السلام عند ملك كافر .
…قالوا: كان يوسف عليه السلام يعمل كوزير عند ملك كافر، وهذا
دليل على جواز العمل كوزير أو نائب عند الحكام الكافرين المعاصرين!!
…ومنهم من تجاوز حد الأدب الواجب للأنبياء صلوات ربي عليهم جميعاً، فرموا يوسف عليه السلام ببهتانٍ عظيم، حيث قالوا عنه أنه في عمله لم يكن يحكم بما أنزل الله، وإنما كان يحكم بشريعة الملك الطاغوت ..!!
…أقول: قد رُمي يوسف عليه السلام - زوراً وظلماً – مرتين: مرة عندما نسبوا إليه الفاحشة، وأنه راود امرأة العزيز عن نفسها وحاشاه . ومرة أخرى لما رماه دعاة الديمقراطية في زماننا بأنه لم يكن يحكم بما أنزل الله، وإنما كان يحكم بشريعة الملك الطاغوت، وصوروه للناس بصورة الرجل الضعيف – الذي لا حول له ولا قوة - المنقاد لإرادة وشريعة الملك الطاغية ..!!
…ولعمر الحق فإن الثانية لأشد على يوسف عليه السلام من الأولى، وهي في حقه أكثر مسبة وطعناً من الأولى .. وهو لا شك أنه أشد براءة منها مما نُسب إليه ظلماً وعدواناً مع امرأة العزيز ..!
وحتى يتبين للقارئ وجهة الحق، ويدرك مدى صحة استشهاد القوم بقصة يوسف عليه السلام على ما هم عليه، لا بد أولاً من استعراض قصة يوسف عليه السلام مع الملك كما وردت في القرآن الكريم، ثم بعد ذلك نجري المقارنة المطلوبة بين الواقع الذي كان عليه يوسف عليه السلام وبين الواقع الذي عليه دعاة العمل النيابي والوزاري عند الحكومات المعاصرة، وليدرك مدى صحة قياس واقعهم المشين على واقع يوسف عليه السلام المشرف العظيم .
…قال تعالى:( ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين . قال لا يأتيكما طعامٌ تُرزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون . واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ( يوسف:36- 38 .
…نستخلص من هذه الآيات ثلاثة أشياء تعنينا في بحثنا، وهي:
…1- أن الأولوية عند يوسف عليه السلام كانت هي الدعوة إلى التوحيد المنافي لجميع مظاهر الشرك، وتعريف من معه في السجن بحقيقة هذا الدين؛ حيث تبين لنا الآيات الآنفة الذكر أن يوسف عليه السلام لم يجب صاحبيه إلى تعبير رؤاهما إلا بعد أن دعاهما إلى التوحيد، وعرفهما على نفسه ودعوته، وهذا المعنى أشار إليه القرطبي في التفسير 9/191 ، حيث قال: فاسمعوا أولاً ما يتعلق بالدين لتهتدوا، ولهذا لم يعبّر لهما حتى دعاهما إلى الإسلام .
…وقال سيد في الظلال 4/1988: وينتهز يوسف هذه الفرصة ليبث بين السجناء عقيدته الصحيحة؛ فكونه سجيناً لا يعفيه من تصحيح العقيدة الفاسدة والأوضاع الفاسدة، القائمة على إعطاء حق الربوبية للحكام الأرضيين، وجعلهم بالخضوع لهم أرباباً يزاولون خصائص
الربوبية، ويصبحون فراعين ا-هـ .
…نسجل ذلك لنبطل مزاعم المخالفين الذين يقولون: إن الأولوية عند يوسف كانت تصحيح الأوضاع الاقتصادية، ورفع المستوى المعيشي للناس، ثم العمل من أجل هذا الدين ..!
…وهذا الكلام منهم إضافة إلى كونه مخالف لمنهج يوسف ومن قبله من الأنبياء والرسل عليهم السلام في الدعوة إلى الله، فهو مخالف لمنهج نبينا وأسوتنا صلى الله عليه وسلم ولهديه؛ الذي أبى إلا أن تكون أولاً معركة العقيدة والتوحيد مع الشرك وأهله .. حيث لم يكن يقبل صلى الله عليه وسلم من المشركين أي عرض دنيوي مهما كان ضخماً ومغرياً قبل أن يُعطوه أولاً كلمة التوحيد وينقادوا إليها ..!
…2- إذا كان يوسف عليه السلام يدعو إلى التوحيد ويعطيه الأولوية في حديثه ودعوته وهو في السجن قبل التمكين، فكيف به وهو خارج السجن وبعد التمكين ..؟!
…وإذا كان عليه السلام يستغل حاجة صاحبيه في السجن فلا يجيبهما على تعبير رؤاهما إلا بعد أن يدعوهما إلى التوحيد، ويعرفهما على قباحة الشرك وما هما عليه من ضلال، فكيف ترونه – يا دعاة الديمقراطية – لا يستغل حاجة الشعوب إليه وإلى ما بيده وهو سيداً حاكماً على خزائن مصر يتحكم بتوزيع الأقوات على العباد كيفما يشاء، ثم هو لا يدعوهم إلى التوحيد وإلى عبادة الله تعالى وحده ..؟!
…والله تعالى يقول:( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة(54/189)
وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونَهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ( الحج:41. وذروة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك والكفر .
…نسجل ذلك ليتذكر دعاة الديمقراطية والعمل البرلماني أنهم جعلوا التوحيد وراء ظهورهم وفي آخر أولوياتهم قبل التمكين وبعد التمكين، وأنهم من أبعد الناس عن واقع وسيرة يوسف عليه السلام .
…3- إعلان يوسف عليه السلام براءته من الشرك الذي منه التحاكم إلى شرائع الطاغوت، وأنه على ملة إبراهيم عليه السلام ؛ ملة التوحيد التي منه إظهار العداوة والبغضاء والبراء من المشركين ومما يعبدون من دون الله تعالى، كما قال تعالى:( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاءُ أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده( الممتحنة:4. وقال تعالى عن إبراهيم أيضاً:( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون . إلا الذي فطرني فإنه سيهدين ( الزخرف:26-27. وقال:( أفرأيتم ما كنتم تعبدون . أنتم وآباؤكم الأقدمون . فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ( الشعراء:75-77. وقال:( أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ( الأنبياء:67.
…هذا كله من ملة إبراهيم عليه السلام الذي يعلن يوسف عليه السلام على الملأ عن التزامه بها، ويدعو الآخرين إليها قبل التمكين فضلاً عما هو عليه بعد التمكين والقوة، فحاشاه وألف حاشاه أن يُرمى بشيء مما يخالف ذلك .
…وهذا أمر مهم جداً أن يعرفه المخالفون قبل أن يتحدثوا عن يوسف عليه السلام ، وقبل أن يقيسوا أنفسهم وواقعهم المزري عليه ..!
…ولنا بعد ذلك أن نسأل: أين أنتم يا دعاة الديمقراطية من هذا الالتزام بهذه الملة الحنيفية التي كان عليها يوسف عليه السلام، نجدهم – وللأسف – قد رغبوا عنها، وشُغلوا عنها بالتي هي أدنى، وعدّوها من ضروب الفتن التي ينبغي تجنيب شباب الصحوة من الوقوع فيها، أو الاقتراب منها ومن أهلها، حتى لا يُصابوا بعدوى التوحيد ..!!
…وهؤلاء لا شك أن حظهم من كتاب الله تعالى، قوله تعالى:( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ( البقرة:130. والسفيه هو من لا عقل له يزبره عن الغي والضلال وما هو مُشين .
…عودة إلى الآيات التي تتكلم عن يوسف ودعوته ومواقفه:( يا صاحبي السجن ءأربابٌ متفرقون خير أمِ اللهُ الواحد القهار . ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطانٍ إن الحكمُ إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( يوسف:39-40 .
…لا يزال يوسف عليه السلام يدعو صاحبي السجن إلى التوحيد، ويفصل لهم فيه .. وهنا يبين يوسف عليه السلام بوضوح أن من لوازم توحيد الله تعالى في العبادة توحيده ( في الحاكمية والتشريع، وأن كلاً منهما لازم للآخر، وأن التشريع والحكم يعد من أخص خصوصيات الله تعالى؛ فكما أنه تعالى لا معبود بحق سواه كذلك لا حاكم ولا مشرع بحق سواه .
…وأي مخلوق يجترئ على أن يزعم لنفسه خاصية الحكم والتشريع فقد جعل من نفسه نداً لله تعالى في أخص خصائصه، وزعم الألوهية من أوسع أبوابها، وأي مخلوق يعترف له بهذا الحق المزعوم فقد اتخذه إلهاً ومعبوداً من دون الله تعالى .
…وهذا المعنى كثيراً ما يفر منه دعاة حاكمية الشعب والجماهير، ولا يأتون على ذكره تلميحاً ولا تصريحاً !
…يقول سيد رحمه الله في الظلال 4/1991 : ومرة أخرى نجد أن منازعة الله الحكم تُخرج المنازع من دين الله – حكماً معلوماً من الدين بالضرورة – لأنها تخرجه من عبادة الله وحده، وهذا هو الشرك الذي يخرج أصحابه من دين الله قطعاً . وكذلك الذين يقرون المنازع على ادعائه، ويدينون له بالطاعة وقلوبهم غير منكرة لاغتصابه سلطان الله وخصائصه .. فكلهم سواء في ميزان الله .
…ويقرر يوسف عليه السلام أن اختصاص الله ( بالحكم تحقيقاً لاختصاصه بالعبادة هو وحده الدين القيم:( ذلك الدين القيم ( . وهو تعبير يفيد القصر، فلا دين قيماً سوى هذا الدين، الذي يتحقق فيه اختصاص الله بالحكم تحقيقاً لاختصاصه بالعبادة .
…وإن الطاغوت لا يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدة الخالصة عن قلوب الناس، فما يمكن أن يقوم وقد استقر في اعتقاد الناس فعلاً أن الحكم لله وحده، لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده، والخضوع للحكم عبادة، بل هي أصلاً مدلول العبادة .
…لقد رسم يوسف عليه السلام بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة كل معالم هذا الدين، وكل مقومات هذه العقيدة، كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزاً شديداً ا-هـ .
…قلت: هذا كله يقوم به يوسف عليه السلام وهو لا يزال في السجن في مرحلة الاستضعاف قبل التمكين، فما ظنكم به – يا دعاة حاكمية الشعب والجماهير – وهو في مرحلة القوة والتمكين والأمان ..؟!(54/190)
…ومن نوازع الهوى عند القوم أنهم يغضون الطرف عن كل هذه الآيات عند الحديث عن يوسف عليه السلام ودعوته، فهم لا يعرفون يوسف إلا يوسف الذي يعمل عند الملك، أما يوسف الداعية إلى حاكمية الله تعالى وحده، الداعية إلى التوحيد المنافي لجميع مظاهر الشرك والطغيان .. فهذا الجانب لا يعرفونه ولا يتكلمون عنه، ويغضون الطرف عنه رهبة أو رغبة!
…تراهم يستدلون بعمل يوسف عليه السلام على كل عمل مشين يقومون به يصب في خدمة الطواغيت؛ فإذا أراد أحدهم أن يكون وزيراً ينفذ سياسة الطاغوت استدل بيوسف .. وإذا أراد أحدهم أن يكون نائباً مشرعاً من دون الله تعالى استدل بيوسف .. وإذا أراد أحدهم أن يكون عيناً من بطانة الطاغوت استدل بيوسف .. وإذا عمل أحدهم جاسوساً عند الطاغوت يتجسس على عورات المسلمين استدل بيوسف .. وإذا أراد أحدهم أن يكون جندياً في جيوش الطواغيت استدل بيوسف .. وهكذا كل مشينة مخزية يقومون بها تراهم يلصقونها بيوسف وعمله عند الملك، ليعطوا لأنفسهم الشرعية فيما يقومون به من عمل !!
…ويوسف عليه السلام لا شك أنه بريء من هذا كله كبراءة الذئب من دمه وأشد، وهو وعمله الشريف العزيز في واد، والقوم وواقعهم المشين الذليل في واد، وهذا ليس من قبيل التقول بغير علم، بل الآيات القرآنية البينات هي التي تنطق بذلك .
…قال تعالى:( وقال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين . قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم . وكذلك مكّنا ليوسفَ في الأرض يتبوَّأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نُضيع أجر المحسنين ( يوسف:54-56 .
…نستخلص من الآيات الدلالات التالية:
…1- تفيدنا الآيات أن الملك هو الذي بدأ الطلب من يوسف عليه السلام أن يعمل معه وليس العكس، كما هو شائع في أذهان الناس .
…وهذا ظاهر في قوله تعالى:( وقال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي (، فالملك هو الذي بدأ بالطلب والعرض، والذي فعله يوسف عليه السلام أنه اختار – بعزة وإباء – العمل الذي يريده ويناسبه ( قال اجعلني على خزائن الأرض ( ، وكان له ما أراد .
…وهناك فرق ظاهر بين طلب العمل وسؤاله إلى حد الاستشراف، وبين اختيار العمل المناسب من مجموع الأعمال المعروضة عليك من غير سؤال لها ابتداءً .
…كما أن يوسف عليه السلام - رغم كرب السجن والسنوات الطوال اللاتي قضاهن في السجن – لم يستجب لطلب ورغبة الملك من أول مرة، وآثر البقاء في السجن على أن يلبي دعوة الملك له للمثول بين يديه إلى أن يُبرّأ على الملأ وفي حضرة الملك مما نُسب إليه – زوراً وظلماً – مع النسوة، كما قال تعالى:( وقال الملكُ ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بالُ النسوة الّلاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ( يوسف:50.
…فأين هؤلاء الذين يترامون على عتبات الطواغيت – بزعم مصلحة الدعوة – من أول إشارة تُرمى إليهم من قبل الطاغوت، فضلاً عن أن يوجه إليهم رسولاً ملكياً يدعوهم لزيارته .. أين هم من إباء وعزة وإيمان يوسف عليه السلام حتى يقيسوا أنفسهم عليه، وحالهم على حاله ؟!
…يقول سيد رحمه الله في الظلال 4/2005 : فيا ليت رجالاً يمرغون كرامتهم على أقدام الحكام – وهم أبرياء مطلقو السراح – فيضعوا النير في أعناقهم بأيديهم، ويتهافتوا على نظرة رضى وكلمة ثناء، وعلى حظوة الأتباع لا مكانة الأصفياء .. يا ليت رجالاً من هؤلاء يقرأون هذا القرآن، ويقرأون قصة يوسف، ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح – حتى المادي – أضعاف ما يدره التمرغ والتزلف والانحناء ا-هـ .
…2- ( فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين ( ، ماذا كلمه، وماذا قال له يوسف عليه السلام ، هل تراه قال له كما يقول هؤلاء المتملقون الذين يترامون على عتبات الطواغيت يستجدون منهم عبارة رضى أو ثناء أو فُتات زهيد يُرمى إليهم ..؟!
…هل قال له: عشت يا مولانا ويا قائدنا إلى الأبد تاجاً فوق رؤوسنا وجباهنا، هل أضفى عليه عبارات التبجيل والتعظيم والتقديس .. هل قال له – كهؤلاء المتزلفين - : أنا عبدك وخادمك المطيع أفديك بالدم والروح ؟! كلا وألف كلا ..
…هل تراه كلمه عن النسوة وعن كيدهن وما فعلن به، وقد بُرئت ساحته من قبل، وحصحص الحق، وانتهى الأمر ..؟!
…أم أنه أعاد عليه تعبير الرؤيا بعد أن عبرها له من قبل ..؟!
…لا هذا ولا ذاك يليق بمقام يوسف النبي عليه السلام ؛ لأنه من التكرار والعبث الذي لا فائدة منه، والذي ينزه عن مثله الأنبياء .
…بقي الاحتمال الوحيد الراجح الذي دلت عليه النصوص الأخرى؛ وهو أن يوسف عليه السلام قد كلمه عن نفسه كنبي ورسول لله ( ، وعن الأسرة والسلسلة النبوية الشريفة التي ينتمي إليها، وعن دعوة التوحيد التي بعث بها وهو ومن قبله من آبائه الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين .. هذا الذي يليق بيوسف عليه السلام وهذا ما يقتضيه مبدأ الأخذ بالأولويات ومراعاة الأهم فالأهم الذي تقدمت الإشارة إليه، ولا أهم عند يوسف – لحظة اختلائه بالملك التي كان من الممكن أن لا تتكرر – من بيان دعوة التوحيد، ودعوة الملك إليها(1) .(54/191)
كما قال تعالى:( ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله ـــــــــــــــــ
(1) هذا المعنى مستفاد من رسالة " الديمقراطية دين " لأخينا أبي محمد المقدسي .
واجتنبوا الطاغوت ( النحل:36.
…وقال تعالى:( وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ( التوبة:31.
…وهذا حري بيوسف عليه السلام وهو النبي الرسول أن يقوم بإيصاله وتبليغه للملك منذ اللحظة الأولى من لقائه به .
…وسؤالنا الآن: أين هؤلاء الذين يترامون على عتبات الطواغيت يستجدون لأنفسهم العمل في بلاطهم وقصورهم ومجالس برلماناتهم .. أين هم من عمل يوسفعليه السلام .. أين هم من دعوته واهتماماته ورجولته وشجاعته ؟؟!
…3- جواب الملك ليوسف عليه السلام ( إنك اليوم لدينا مكين أمين ( ، جاء بعد أن كلمه يوسف عن نفسه ودعوته كنبي، وبعد أن دعاه إلى التوحيد وإلى عبادة الله تعالى وحده .. مما دل أن الملك قد أسلم وآمن، وأنه تابع يوسف على دعوته ودينه ..
…يدل على ذلك ما يلي:
…أولاً، أن الآيات القرآنية قد دلت دلالات قطعية على أن طواغيت الكفر ومن يشايعهم على كفرهم من المستحيل أن يرضوا عن التوحيد وعن دعاة التوحيد، فضلاً عن أن يعملوا على تمكينهم في الأرض، كما قال تعالى عنهم:( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ( البقرة:217.
…وقال تعالى:( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا
أو لتعودُنَّ في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ( إبراهيم:13.
…أفادت الآية أن ما من رسول لله ( إلا قال له الكافرون وطغاتهم:( لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا (، وهذه سياسة يتبعها الطواغيت مع الأنبياء وأتباعهم في كل زمان وإلى يوم القيامة !
…تأمل قول ورقة بن نوفل للنبي r عندما أخبره بما رأى من الوحي: ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم :" أومخرجي هم ؟" قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً .
…والسؤال: لماذا لم يقل الملك – إن كان كافراً مستمراً على كفره وطغيانه – لرسول الله يوسف عليه السلام لنخرجنك يا يوسف من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ملة الكفر، بل قال له كلاماً مخالفاً لذلك تماماً:( إنك اليوم لدينا مكين أمين (، وقلده المكانة والمنصب الذي يريد، وأطلق يده في ملكه يفعل ما يشاء ..؟
…لم يبق سوى القول بأن الرجل قد أسلم وآمن، وتابع يوسف على دعوته.. والله تعالى أعلم .
…ثانياً، قد ورد الأثر بإسلام الملك، كما روى الطبري في التفسير بسنده عن مجاهد أنه قال: أسلم الملك الذي كان معه يوسف .
…وقال البغوي في التفسير: قال مجاهد وغيره فلم يزل يوسف عليه السلام يدعو الملك إلى الإسلام ويتلطف به حتى أسلم وكثير من الناس ا-هـ .
…ثالثاً، نلاحظ أن الملك قد صدق يوسف عليه السلام في تعبير الرؤيا وما
سيصيب دولته من اضطراب وشدة ورخاء على مدار أكثر من أربعة عشر عاماً قادمة، من غير أدنى نقاش أو جدال أو اعتراض، وهذا بالنسبة للملك غيب لم يكن ليصدق به بهذه الصورة لولا أنه صدق أولاً بنبوة يوسف، وأن هذا التعبير للرؤيا هو علم صادق لا يمكن أن يتخلف قد أوحى الله به إلى يوسف كنبي ورسول، وأن تعبيره حق وهو واقع لا محالة .
…وكيف لا يصدق بيوسف وقد رأى بأم عينيه ترجمان تأويله وما أخبر به على أرض الواقع، من غير زيادة ولا نقصان ؟!
…لأجل هذه الأوجه نرى القول بإسلام الملك هو الراجح، ولا نجزم به لغياب النص الصريح الذي يحسم الخلاف، لكن الذي نجزم به أن إسلام الملك محتمل وهو الراجح، كما أن كفره محتمل وهو المرجوح، وورود هذا الاحتمال مهم جداً لإبطال استدلال القوم بعمل يوسف عند الملك، على ما هم عليه من عمل عند طواغيت الكفر والردة؛ لأن القاعدة تقول: إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال .
…4- العمل الذي قام به يوسف عليه السلام لا يقدر عليه أحد من الأمة إلا يوسف، وتخليه عن هذا العمل يعني الموت المحقق للشعوب بكاملها، ويعني انتشار الجريمة والفساد – الذي عادة يسود في أجواء الفقر والجوع والحرمان – على أوسع نطاق ..
…فالعمل الذي قام به يوسف عليه السلام مغرم وليس مغنماً، لا يقدم عليه إلا ألو العزم من الرجال، ولخطورة المهمة لم نجد أحداً – غير يوسف - ممن عاصر المحنة قد تجرأ أن يفكر في تحمل المسؤولية في تلك الفترة
العصيبة التي قد تكلف صاحبها رأسه وحياته، بما في ذلك الملك ذاته لم يتجرأ على تحمل المسؤولية، وإنما أوكل الأمر كل الأمر إلى يوسف عليه السلام ليسلم بنفسه من غضب وجوع الجماهير ..!(54/192)
وهذا المعنى أشار إليه سيد في الظلال 4/2005 ، حيث قال: ولم يكن يوسف يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض، إنما كان حصيفاً في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة، وليكون مسؤولاً عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره طوال سبع سنوات، لا زرع فيها ولا ضرع، فليس هذا غنماً يطلبه يوسف لنفسه، فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد إنه غنيمة، إنما هي تبعة يهرب منها الرجال، لأنها قد تكلفهم رؤوسهم، والجوع كافر، وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون .
…طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أول بها رؤيا الملك، خيراً مما ينهض بها أحد في البلاد، وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحاً من الموت وبلاداً من الخراب، ومجتمعاً من الفتنة – فتنة الجوع – فكان قوياً في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وكفايته وأمانته ا-هـ .
…وهذا المعنى مهم جداً أن نتذكره عند المقارنة بين عمل يوسف العظيم وبين عمل دعاة حاكمية الشعب والجماهير عند طواغيت الكفر
والردة .
…5- عمل يوسف عليه السلام كان تمكيناً حقيقياً له ولدعوته – لا وهماً وزعماً – يفعل ما يشاء، ويقضي بما يشاء، أمره وقضاؤه نافذ على كل من يعيش في سلطانه بما في ذلك الملك ذاته الذي انقلب – بفضل الله تعالى – إلى عبد مطيع ليوسف ينفذ أوامره وتوجيهاته، ويطاوعه في كل ما يريد .
…وهذا هو المراد من قوله تعالى:( وكذلك مكنا ليوسُفَ في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نُضيع أجر المحسنين ( .
…روى الطبري في التفسير بسنده عن السدي قال: استعمله الملك على مصر، وكان صاحب أمرها، وكان يلي البيع والتجارة، وأمرها كله، فذلك قوله:( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء(.
…قال الطبري: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قوله:( يتبوأ منها حيث يشاء ( ، قال: ملكناه فيما يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا، يصنع فيها ما يشاء، فوِّضت إليه ا-هـ .
…وقال القرطبي في التفسير: قال ابن عباس في يوسف: فجلس على السرير ودانت له الملوك، ودخل الملك بيته مع نسائه، وفوِّض إليه أمر مصر .
…قال القرطبي: ولما فوض الملك أمر مصر إلى يوسف تلطف بالناس، وجعل يدعوهم إلى الإسلام حتى آمنوا به، وأقام فيهم العدل،
فأحبه الرجال والنساء .
…ومما جاء عن وهب والسدي وابن عباس وغيرهم قول الملك ليوسف لما رآه منه من حكمة بالغة في إدارة الحكم وبسط العدل: فوضت إليك الأمر فافعل ما شئت، وإنما نحن لك تبع؛ وما أنا بالذي يستنكف عن عبادتك وطاعتك، ولا أنا إلا من بعض مماليكك، وخوَل من خولك ا-هـ .
…وفي تفسير البغوي: قال ابن إسحاق، وابن زيد: وكان لملك مصر خزائن كثيرة فسلم سلطانه كله إليه، وجعل أمره وقضاءه نافذاً ا-هـ .
…وقال سيد في الظلال 4/2014:( يتبوأ منها حيث يشاء ( ، يتخذ منها المنزل الذي يريد، والمكان الذي يريد، والمكانة التي يريد، في مقابل الجب وما فيه من مخاوف، والسجن وما فيه من قيود .
…وكذلك لم يبرز السياق الملك ولا أحداً من رجاله بعد ذلك في السورة كلها، كان الأمر كله قد صار ليوسف، الذي اضطلع بالعبء في الأزمة الخانقة الرهيبة، وأبرز يوسف وحده على مسرح الحوادث،وسلط عليه كل الأضواء،وهذه حقيقة واقعية . انتهى.
…قلت: قد أطبقت كتب التفسير – قديمها وحديثها – على أن شؤون الحكم والملك قد آلت كلها إلى يوسف عليه السلام ، وأنه كان الآمر الناهي الحقيقي، يفعل ما يشاء من غير حسيب أو رقيب من البشر .
…- مقارنة بين واقع وعمل يوسف عليه السلام وواقع وعمل البرلمانيين دعاة حاكمية الشعب والجماهير .
…من خلال التمهيد الضروري المتقدم تظهر الفوارق العديدة والمتباينة بين ما كان عليه يوسف عليه السلام ، وبين ما عليه دعاة حاكمية الشعب والجماهير من البرلمانيين وغيرهم، نجمل أهم هذه الفوارق في النقاط التالية:
…1- كان يوسف عليه السلام داعية إلى التوحيد ونبذ الشرك بكل مظاهره وأنواعه، قبل التمكين وبعد التمكين، وكان يعد ذلك على رأس أولوياته واهتماماته .
…بينما دعاة العمل البرلماني الديمقراطي فهم دعاة إلى الشرك وإلى حاكمية الشعب والجماهير، وألوهية المخلوق قبل التمكين وبعد التمكين، والتوحيد لا يُعنى عندهم في شيء، فضلاً عن أن يكون من اهتماماتهم وأولوياتهم ..!
…2- كان يوسف عليه السلام يعمل عند ملك الراجح – كما تقدم – أنه قد أسلم وآمن بيوسف وبدعوته.
…بينما دعاة حاكمية الشعب والجماهير يعملون عند طواغيت كفرة مرتدين ليس لهم في دين الله تعالى إلا السيف والقتال ..!
…والشاهد كيف يقيسون عملهم عند حكام زنادقة مرتدين على العمل عند حاكم كفره محتمل ومرجوح .. ؟!
…والقاعدة الأصولية تقول: إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال .
…3- كان يوسف عليه السلام هو الحاكم المتنفذ الفعلي، والآمر الناهي الحقيقي، وكان الملك وجوده صورياً لا أثر له، وجوده وعدمه سواء .(54/193)
…بينما دعاة العمل البرلماني – وبخاصة في بلدان الشرق الأوسط – فهم عبيد وتبع لأسيادهم وحاكميهم، ينفذون ما يملى عليهم من قوانين وأوامر باطلة من قبل طواغيت الحكم والجور ..!
…فهم على مستوى العمل النيابي، فالنائب – إضافة إلى مهنته الشركية كمشرع – يلتزم وينفذ قوانين العمل البرلماني الشركي الذي يجب على جميع أعضاء البرلمان الالتزام بها، وكذلك على مستوى العمل كوزير، فهو لا يعدو أن يكون منفذاً لسياسة وقوانين الطاغوت التي تُملى عليه، لا يملك أن يحيد عنها قيد أنملة، وأي انحراف أو تقصير في التنفيذ – مهما كان يسيراً – فهو يُعرض للمساءلة والعقوبة، وربما إلى الطرد والإقالة .. فأين هم من يوسف عليه السلام ؟!
…4- كان ليوسف عليه السلام كامل الصلاحية والحرية في أن يفعل ما يشاء، ويحاسب ويسأل من يشاء، حتى أنه كان – كما في بعض التفاسير – يحدد وجبات الطعام التي تُقدم للملك لما شكاه الجوع !
…بينما البرلمانيون وغيرهم من الوزراء المسيسين في زماننا لا يستطيعون أن يسألوا ملوكهم وحكامهم عن المليارات من الدولارات التي تذهب في حساباتهم الخاصة، والتي تُخصص كمصاريف لقصورهم وشهواتهم ..!!
…5- العمل الذي قام به يوسف عليه السلام فيه حياة حقيقية لشعوب
بكاملها، وتخليه عنه يعني الموت المحقق لكثير من الناس؛ وبخاصة منهم المستضعفين من النساء والولدان . فمن يجرؤ أن يزعم لنفسه – من البرلمانيين وغيرهم – هذا الزعم، ويدعي أنه لو ترك العمل عند الطاغوت ستهلك شعوب بكاملها ..!
…فالعمل الذي قام به يوسف عليه السلام مصلحته ظاهرة وواضحة وراجحة، بينما العمل الذي يقوم به البرلمانيون مفسدته ظاهرة وواضحة وراجحة .
…6- يوسف عليه السلام - في عمله – لم تُسجل عليه مخالفة شرعية واحدة – حاشاه - ، بينما دعاة حاكمية الشعب والجماهير من البرلمانيين وإخوانهم الوزراء لا مناص لهم من الوقوع في عشرات المخالفات الشرعية، وقد تقدم ذكرها ..
…7- مما يُرد به كذلك على المخالفين – في حال وجود التعارض – أن شرع من قبلنا غير ملزم لنا في حال وجود النصوص في شرعنا الناسخة والمغايرة لشرع من قبلنا، كما في مسألتنا هذه ؛ حيث قد وردت النصوص – وقد تقدم ذكر بعضها – المانعة من العمل عند أئمة الكفر والجور:" فلا يكونن عريفاً، ولا شرطياً، ولا جابياً، ولا خازناً "، وبخاصة إن جاء كفر الحكام من جهة الردة والزندقة – أي أن كفرهم طارئ وليس أصلياً – فإن إجماع أهل العلم قد تحقق على وجوب الخروج عليهم بالقوة – لا على العمل عندهم والدخول في موالاتهم – إلى أن يُعزلوا ويُستبدلوا بحاكم مسلم عدل .
…ثم أن في شريعة يوسف عليه السلام كان يُشرع السجود للآخرين كتحية، وكذلك في شريعة سليمان عليه السلام حيث كانت تصنع التماثيل والأصنام والتصاوير، وهذا كله لا يجوز في شريعتنا لوجود الدليل المانع والناسخ .
…والشاهد أنه ليس كل ما كان مشروعاً للأنبياء من قبلنا، هو مشروع لنا لكون الأنبياء من قبل فعلوه وأقروه، كما قال تعالى:( لكلٍّ جعلنا منكم شِرعةً ومنهاجاً ( المائدة: 48. فنحن من أمة صلى الله عليه وسلم ، وحظه من بين الأمم، فلا يسعنا إلا اتباعه وامتثال أوامره وتعاليمه وسنته .
…8- الاستدلال بعمل يوسف عليه السلام هو من القياس – مع وجود الفارق الضخم بين المقيس والمقيس عليه كما تقدم – مع ورود النص الذي يمنع من اللجوء إلى القياس، والقاعدة تقول:" لا قياس مع النص "، وبخاصة إن كان النص مخالفاً لما هو مقيس عليه كما في مسألتنا هذه .
…والنصوص المانعة من القياس في هذه المسألة كثيرة، منها قوله تعالى:( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً ( النساء:141. وقال تعالى:( وقاتلوهم حتى تكون فتنة ويكون الدين كله لله ( الأنفال:39.
…وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" سيكون أمراء تعرفون وتنكرون، فمن نابذهم نجا، ومن اعتزلهم سلم، ومن خالطهم هلك "، وقد تقدم .
…وعن عبادة بن الصامت قال: دعانا النبيُّ صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فيما أخذ
علينا أن بايَعَنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسْرنا ويُسرنا، وأثرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهلَه، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان . متفق عليه .
…9- استدلال دعاة العمل البرلماني الديمقراطي بعمل يوسف عليه السلام على ما هم عليه من عمل – مع وجود الفارق الضخم – هو من قبيل الاستدلال بالمتشابهات وترك المحكمات في ديننا .
…والمحكم في مسألتنا هذه – الذي لا يسع أحد مخالفته و الخروج عنه – يتمثل في النصوص الشرعية الكثيرة الظاهرة المعنى التي تحض على جهاد الكفار والمرتدين، وعلى مفاصلتهم والبراءة منهم، وعدم الدخول في طاعتهم وموالاتهم .. وهي أكثر من أن تُحصر في هذا الموضع .(54/194)
…ومن مكر القوم وباطلهم أنهم يغضون الطرف – رغبة أو رهبة – عن مجموع هذه النصوص ذات العلاقة بالموضوع، حتى أنك لا تجد لها أثراً يذكر في أدبياتهم ونشراتهم ومحاضراتهم وكأنها ليست من دين الله تعالى .. ليسلطوا كل أضواءهم ومنطقهم الفاسد على قصة يوسف عليه السلام ، وكأنه لا يوجد في دين الله مما يستدل به على المسألة غير قصة يوسف !
…وهؤلاء حظهم من كتاب الله، قوله تعالى:( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ( آل عمران:7.
…وبعد، من خلال ما تقدم ندرك أن يوسف عليه السلام في وادٍ،
والبرلمانيين الديمقراطيين دعاة حاكمية الشعب والجماهير في وادٍ آخر، وقياس عملهم على عمل يوسف عليه السلام هو قياس باطل لا يجوز، وهو من ضروب قياس الشيء على ضده .. !
…وعليه فإن تعلقهم بقصة يوسف عليه السلام هو تعلق فاسد واهٍ لا تنهض به حجة، فضلاً عن أن يعتمد كدليل صحيح في المسألة .
…2- الشبهة الثانية: استدلالهم بالنجاشي !
…حيث قالوا: إن النجاشي كان ملكاً وحاكماً، ولم يكن يحكم بما أنزل الله، ومع ذلك لما مات صلى عليه صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب وترحم عليه، وقال للناس:" إن أخاً لكم قد مات بأرض الحبشة " .
…وهذا - كما قالوا – فيه دليل على جواز المشاركة – كنائب أو وزير – في الحكومات المعاصرة التي لا تحكم بما أنزل الله !
…أقول: استدلال القوم بالنجاشي على واقعهم المنحرف الباطل استدلال فاسد لا يصح، ولا تقوم به حجة، لعدم وجود التشابه بين عمل وظرف النائب أو الوزير وعمل النجاشي وظرفه الذي يسمح بقياس واقعتهم وحالهم على واقعة النجاشي وحاله، ومن أبرز الفوارق بين واقع النجاشي وعمله وبين عمل النائب والوزير في زماننا التي تبطل صحة القياس والاستدلال، هي:
…1- النجاشي كان ملكاً وحاكماً أعلى لدولته؛ حيث لا توجد سلطة لمخلوق عليه، يظهر ذلك عندما أجمعت بطارقته وحاشيته على لزوم تسليم الصحابة – ممن هاجر إليه – إلى مشركي قريش وردهم إلى مكة، فردهم وأجابهم بقوله: فوالله لا أسلمهم إليكم أبداً ولا أُكاد . ثم قال للصحابة: اذهبوا فأنتم سيومٌ بأرضي – والسيوم الآمنون – من سبكم غُرِّم، ثم من سبكم غرم، ما أحب أن لي دَبْرى – أي جبلاً – ذهباً وأني آذيت رجلاً منكم .
…فكان هو صاحب القرار والكلمة، بينما النواب أو الوزراء في زماننا – وبخاصة في البلدان العربية – يخضعون لسلطات عديد ومتفرقة، وهم مأسورون بقوانين باطلة لا فكاك لهم من تنفيذها والخضوع لها، وهم بعد كل ذلك تبع وعبيد لإرادات ملوكهم ورؤسائهم .. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك .
…2- النجاشي دخل الإسلام وهو ملك على أمة نصرانية؛ فالملك بالنسبة له واقع مفروض عليه قبل أن يسلم وبعد أن أسلم، بينما المخالفون من البرلمانيين دعاة حاكمية الشعب والجماهير هم الذين يسعون إلى درجة الاستشراف والتذلل لما يتوهمونه أنه ملك ورياسة في ظل حكومات طاغوتية ناصبت الإسلام والمسلمين الحرب والعداء ..!
…3- النجاشي دخل الإسلام وهو يعيش ظروف الاضطرار التي تبرر له شرعاً الوقوع في بعض المحظورات والمخالفات؛ فهو ملك على أمة نصرانية ليس من السهل أن يحملها على الإسلام، كما أنه ليس من السهل عليه أن يخالفها في كل شيء، ولو فعل لربما كان الموت والقتل محقق له لا محالة، كما حصل لضغاطر الرومي – وهو من عظماء الروم وملوكهم – عندما أظهر إسلامه، وألقى ثيابه التي كانت عليه، ولبس ثياباً بيضاً وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام وشهد شهادة الحق، فقاموا إليه فضربوه حتى قتلوه . فلما رجع دحية إلى هرقل ونقل له خبر ضغاطر، قال له هرقل: قد قلت لك إنا نخافهم على أنفسنا، فضغاطر كان أعظم عندهم مني(1) .
…بينما المخالفون من البرلمانيين دعاة حاكمية الشعب والجماهير هم الذين يسعون بإرادتهم للوقوع في ظروف الاضطرار ليبرروا لأنفسهم بعد ذلك الوقوع في المخالفات، وارتكاب المحظورات ..!
…4- بقاء النجاشي حاكماً كملك فيه مصلحة راجحة؛ فهو من جهة استطاع أن يحمي نفسه بالقوة من خطر الناقمين والخارجين عليه، كما استطاع أن يحمي ويرعى أكثر من ثمانين صحابياً وصحابية لجؤوا إليه بأمر من صلى الله عليه وسلم ، إضافة إلى المئات الذين آمنوا من أهل الحبشة، كان موتهم وهلاكهم محققاً لو تنازل النجاشي عن الملك، فالملك بالنسبة له وسيلة لا بد منها لحماية نفسه ومن معه من المؤمنين الموحدين، وهذا المعنى قد أشار إليه النجاشي بقوله:" ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته – أي صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل نعليه "، لكن ظروف الملك القاهرة هي التي حالت بينه وبين مراده .
…ومن حديث أم سلمة، قالت:" أقمنا عنده – أي النجاشي – بخير دار مع خير جار . فوالله إنا على ذلك إذ نزل به؛ يعني من ينازعه في ـــــــــــــــ
(1) انظر فتح الباري لابن حجر: 1/56 .(54/195)
ملكه، قالت: والله ما علمنا حزناً قط كان أشد من حزنٍ حزناه عند ذلك، تخوفاً أن يظهر ذلك على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرفه ".
…فأين المخالفون البرلمانيون من هذه المصالح الراجحة، فهم رغم ما يقدمون من تنازلات وفروض الطاعة التي تسترضي الطاغوت عليهم، لا يستطيعون أن يحموا أنفسهم فضلاً عن أن يحموا غيرهم من المسلمين، وهذه الحصانة الطاغوتية المزعومة المكذوبة التي يكثرون الافتخار بها والحديث عنها، يكذبها الواقع الملموس والمرئي عندما نرى عشرات النواب ممن يخيل إليهم أنهم أحرار، عندما يتجاوزون الخطوط الحمراء، والسياسات والكلمات المرسومة لهم يُزج بهم في السجن، ويهانون، ويُضربون على قفاهم ورؤوسهم على مرأى ومسمع من الناس ومن أنصارهم وأحزابهم وجماعاتهم، وقصة الشيخ النائب الذي ضُرب في مسجده في الأردن – تحت طائلة قانون مكافحة طول اللسان ! – حتى كاد أن يموت ويُقتل، معروفة للجميع ..!
…5- النجاشي كان حاكماً مسلماً على أمة نصرانية .. ومسألتنا في جواز العمل عند حكام مرتدين يحكمون المسلمين بقوانين الكفر .. والفرق بين المسألتين واضح لكل ذي لب وعقل، لا يجوز قياس أحدهما على الأخرى .
…6- لا يوجد دليل صحيح صريح يثبت أن النجاشي قد خالف أمراً بلغه عن صلى الله عليه وسلم في الفترة التي كان فيها مسلماً ..
…بينما نحن نستطيع أن نثبت أن المخالفين البرلمانيين يقعون في عشرات المخالفات الشرعية، ولا فكاك لهم من ذلك .. وقد تقدم ذكر بعضها في هذا الكتاب .
…7- أي تقصير يُنسب إلى النجاشي ذكره بعض أهل العلم في كتبهم، فهو يحمل لسببين: إما لعجزٍ لا يمكن دفعه، كعدم بلوغه النص الشرعي فيما قد حصل فيه التقصير، وإما لعجزه على حمل الأمة النصرانية على الهداية وعلى تنفيذ مراد الشارع فيما بلغه من العلم .. والعجز باتفاق أهل العلم يرفع التكليف عن صاحبه إلى حين تحقق القدرة والاستطاعة .
…كما قال تعالى:( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ( البقرة:286. وقال تعالى:( فاتقوا الله ما استطعتم ( التغابن:16.
…وفي الحديث المتفق عليه:" وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ".
…فأين المخالفون البرلمانيون من هذا الوصف، حيث أننا نراهم يخالفون الشرع عن علم، وسابق إرادة وتصميم ..!
…8- استدلال القوم بقصة النجاشي هو من القياس مع وجود النص؛ وقد تقدم ذكر النصوص التي تمنع من اللجوء إلى القياس في هذه المسألة، وبخاصة إن جاء هذا القياس مخالفاً لنصوص الشريعة ..!
…9- الاستدلال بقصة النجاشي في هذا الموضع هو من قبيل الاستدلال بالمتشابهات وترك المحكمات، والمحكم في هذه المسألة هو عشرات النصوص التي تفيد كفر من لم يحكم بما أنزل الله، أو كفر من يحتكم إلى شرائع الطاغوت معرضاً عن حكم الله تعالى وعن شرعه .
…وعليه فإننا نجزم أنه ليس في قصة النجاشي ما يُستدل به على شرعية وصحة عمل البرلمانيين الديمقراطيين .. وحمل واقع دعاة حاكمية الشعب والجماهير وعملهم على واقع وعمل النجاشي هو من القياس الفاسد الذي لا يجوز القول به بأي حال من الأحوال لوجود الفارق الكبير بين المقيس والمقيس عليه، وعدم وجود نقاط تشابه بينهما .
3- الشبهة الثالثة: استدلالهم بحلف الفضول !
…قالوا: أن حلف الفضول قد ضم أطرافاً من الكفار، تحالفوا فيما بينهم على نصرة المظلوم، و صلى الله عليه وسلم قد أثنى عليه خيراً، وتمنى أن لا ينقضه ولو بحمر النعم .. وهذا يدل على جواز المشاركة في نظام كافر يرأسه أناس كفار، كما هو حال بعض الجماعات الإسلامية اليوم مع أنظمة الكفر الحاكمة في بلاد المسلمين !!
…نجيب على هذه الشبهة الواهية، وهذا المتعلق الفاسد، بالنقاط التالية:
…1- لا بد أولاً من ذكر الحديث الخاص بحلف المطيبين أو الفضول – لا فرق – ثم نرى بعد ذلك وجه الشبه بين دعاة حاكمية الشعب والجماهير وبين حلف الفضول، وهل يصح قياس أحدهما على الآخر .
…أخرج البخاري – في الأدب المفرد – بسنده عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال:" شهدت مع عمومتي حِلف المطيبين، فما
أحب أن أنكثه وأن لي حمر النعم "(1) .
…قال ابن الأثير في النهاية: اجتمع بنو هاشم، وبنو زهرة، وتيم في دار ابن جدعان في الجاهلية، وجعلوا طيباً في جفنة، وغمسوا أيديهم فيه، وتحالفوا على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم، فسُموا المطيبين ا-هـ .
…2- لا بد ثانياً من أن نشير – على وجه الإيجاز والاختصار – إلى مدى شرعية التحالف مع الكفار، وهل الحكم فيه الجواز أم المنع؛ لأن معرفة ذلك يؤثر على صحة الاستشهاد بحلف الفضول وغيره من الأحلاف التي حصلت في أول مراحل الدعوة، وبخاصة إن جاء الجواب بالمنع والحظر .
…أقول: الحلف هو عقد عهد بين طرفين أو أكثر على التناصر والتعاضد والتعاون، يتم الاتفاق عليه بين الأطراف المتحالفة .
…والراجح في عقد التحالفات مع الكفار – بعد اكتمال الرسالة – أنه مقطوع ولا يجوز، وما حدث من تحالفات ومعاهدات مع الكفار في أوائل مراحل الدعوة فهي منسوخة بآية السيف وغيرها من النصوص الشرعية .(54/196)
كما قال تعالى في آية السيف: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . فسيحوا في الأرض أربعة أشهرٍ واعلموا ــــــــــــــ
(1) صحيح الأدب المفرد:441 . وفي رواية:" شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام ..".
أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ( إلى قوله:( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ( التوبة:1-5 .
…قال البغوي في التفسير 2/269: قال الحسين بن فضل هذه الآية نسخت كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء ا-هـ .
…وقال ابن كثير في التفسير 2/350: وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم أنها نسخت كل عهد بين صلى الله عليه وسلم وبين أحد من المشركين، وكل عقد وكل مدة ا-هـ . ونقل نحوه عن ابن عباس وغيره .
…وكذلك قوله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين . فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين( المائدة:51-52.
…والولاية المرادة في هذه الآيات هي ولاية التحالف؛ لأن الآيات نزلت فيما كان بين الأنصار واليهود من تحالفات تناصر، فقال المؤمنون نبرأ إلى الله ورسوله من ولاية وحلف يهود، ونتولى اللهَ ورسوله . وقال المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أُبي: إنا نخاف الدوائر، لا نبرأ من ولاية يهود وحلفهم، فأنزل الله تعالى فيهم قوله:( فترى الذين في قلوبهم مرض يُسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ( .
…وهذا الذي تذرع به المنافقون الأوائل هو نفسه يتذرع به منافقوا هذا الزمان عندما تراهم يصرون على التحالف مع أحزاب الكفر والردة من أجل حطام الدنيا وزينتها، أو كرسي أعرج الساق يحظون به عند الطاغوت ..!
…يقول سيد في الظلال 6/909 : يحسن أن نبين أولاً معنى الولاية التي ينهى الله الذين آمنوا أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى .. إنها تعني التناصر والتحالف معهم، ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم ، فبعيد جداً أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين، وإنما هو ولاء التحالف والتناصر ..
…إن المسلم مطالب بالسماحة مع أهل الكتاب، ولكنه منهي عن الولاء لهم بمعنى التناصر والتحالف معهم ا-هـ .
…ومن الأدلة كذلك الدالة على النسخ قوله صلى الله عليه وسلم " لا تحدثوا حلفاً في الإسلام "(1). وقول صلى الله عليه وسلم :" لا حلف في الإسلام ". وقول صلى الله عليه وسلم كذلك:" حليف القوم منهم "(2). وهو كقوله تعالى:( ومن يتولهم منكم فإنه منهم (. فإن القرآن والسنة يصدقان بعضهما البعض .
…قال ابن الأثير في النهاية: قيل المحالفة كانت قبل الفتح، وقوله " لا حلف في الإسلام " قاله زمن الفتح، فكان ناسخاً ا-هـ .
…قوله: المحالفة كانت قبل الفتح .. يراد منه ما كان بين المسلمين من تحالفات، فنسخت زمن الفتح – مطلق التحالفات – وبقية أخوة الإسلام؛ لأن أخوة الإسلام أوثق رابطة وعقداً من عقد التحالف .
…فإن قيل: الذي تم نسخه في الحديث هو عقد التحالفات فيما بين المسلمين ..!
…نقول: أن ينسخ التحالف بين المسلمين وغيرهم من باب أولى، وبخاصة إذا عملنا بمجموع النصوص ذات العلاقة بالمسألة .
…3- على افتراض أخذنا بالقول المرجوح، وهو أن التحالف – وفق شروط معينة – مع قوى الكفر غير منسوخ، فأين يكمن الشبه – ليصح بعد ذلك القياس – بين حلف الفضول الذي قام على مبدأ شرعي نصت عليه الشريعة وأمرت به، وهو الانتصار للمظلوم وإنصافه من ظالمه .. وبين المشاركة في العمل النيابي أو الوزاري في أنظمة طاغية مرتدة ناصبت الإسلام والمسلمين الحرب والعداء، مع ما في ذلك من مزالق ومخالفات عقدية وشرعية لا يمكن تجاوزها قد تقدمت الإشارة إليها ..؟!
4- حلف الفضول قام على مبدأ واحد فقط لم يتعداه؛ وهو نصرة المظلوم والانتصاف له من ظالمه، وهذا أمر شرعي كما تقدم . بينما الأنظمة الطاغية المعاصرة التي يريد المخالفون البرلمانيون المشاركة فيها لم تقم على مبدأ واحد فقط لينظر بعد ذلك في مدى شرعية هذا المبدأ، ويتم ــــــــــــــ
(1) صحيح سنن الترمذي:1289 . (2) أخرجه الطبراني، صحيح الجامع:3156.
القياس بعد ذلك على حلف الفضول، وإنما تقوم على مجموعة هائلة من المبادئ والقوانين الوضعية أكثرها – إذا لم يكن كلها – تخالف وتضاد وتضاهي شرع الله تعالى .
…فأين هي من حلف الفضول حتى تقاس عليه ..؟!(54/197)
…5- القائمون على حلف الفضول في الجاهلية كانوا كفاراً أصليين . بينما الأنظمة الطاغية الحاكمة في بلاد المسلمين كفرها يأتي من جهة الردة والزندقة .. والفرق ظاهر – في نظر الشرع – بين الكافر كفراً أصلياً، وبين الكافر ردة ومن جهة الزندقة، وما يمكن أن يقال شرعاً في الكافر الأصلي لا يمكن أن يقال في الكافر ردة وزندقة .. وهذا معتبر عند حصول التقييم والقياس على حلف الفضول .
…6- الاستدلال بحلف الفضول هو من القياس في مورد النصوص الشرعية العديدة المحكمة المغايرة لما يريدون الاستدلال عليه من حلف الفضول، وقد تقدم ذكر بعضها .. والقاعدة تقول: لا قياس مع النص .. والأصل رد المتشابه إلى المحكم وليس العكس .
…وبعد، من خلال ما تقدم يثبت لنا بالدليل أنه لا متعلق للقوم بحلف الفضول، وأنه ليس لهم فيه شبهة دليل على ما هم عليه من عمل ونهج وسلوك مشين، وأن حلف الفضول في وادٍ والقوم في وادٍ آخر سحيق .
…إلى هنا ينتهي ردنا على هذه الشبهة، لننظر إلى الشبهة التي تليها وهي الشبهة الرابعة من شبهاتهم ومتعلقاتهم .
…4- الشبهة الرابعة: استدلالهم بالمصلحة .
…حيث قالوا: إن مشاركتنا في العمل النيابي البرلماني هو من قبيل تحصيل المصالح وتفويت المفاسد، وديننا جاء بجلب المصالح ودفع المفاسد، ولزوم اختيار أخف الضررين ! …وهذا كلام وجيه – طالما تذرعوا به – لو كان صحيحاً أو ينطبق عليهم، وردنا على هذه الشبهة من أوجه :
1- استدلالهم بالمصلحة هو اعتراف منهم بعدم وجود دليل شرعي صحيح على ما هم عليه؛ لأن المصلحة المرسلة هي الوصف الذي لم يثبت اعتباره ولا إلغاؤه بنص من قبل الشارع .
…وهذا يعني إبطال ما استدلوا به من قبل، كتعلقه بقصة يوسف عليه السلام، وقصة النجاشي، وحلف الفضول .. إذ لو كانت هذه الأدلة والقصص أدلة صريحة تنهض كحجة في المسألة لما جاز لهم أن يتركوها ويذهبوا إلى دليل المصلحة المرسلة، وإكثار الدندنة عليه ..!
…2- الوصف الذي هم عليه ثبت إلغاؤه بنصوص شرعية محكمة وعديدة من قبل الشارع، وقد تقدم ذكر بعضها عند الحديث عن مزالق العمل النيابي، وبالتالي فإن المصلحة التي يتكلمون عنها تخرج عن وصفها الشرعي الذي يبرر الاستدلال بها ..
…3- للمصلحة الشرعية المعتبرة ضوابط تميزها عن المصلحة الموهومة الغير شرعية، منها: تضمنها المحافظة على المقاصد الكلية للشرع، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال . وأي مصلحة تتعارض مع هذه المقاصد الكلية أو بعضها فهي مفسدة وليست مصلحة .
…وجميع المقاصد الكلية للشرع المذكورة أعلاه، وغيرها من الغايات والوسائل فإنها تأتي كوسيلة ترخص في سبيل تحقيق غاية الغايات، وأصل الأصول، الذي لأجله خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وشُرع الجهاد، والولاء والبراء .. ألا وهو: إفراد الله تعالى وحده بجميع مظاهر العبادة الظاهر منها والباطن، والكفر بكل مألوه معبود مطاع سواه، كما قال تعالى:( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( الذاريات:56. وقال تعالى:( وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويُؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ( البينة:5. أي لم يُخلقوا لشيء، ولم يؤمروا بشيءٍ إلا بعبادة الله تعالى وحده، والكفر بالطواغيت، كما قال تعالى:( ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ( النحل:36.
والشاهد أن الوصف الذي عليه المخالفين البرلمانيين يتعارض تعارضاً كلياً – كما تقدم – مع التوحيد، ومع هذه الغاية العظيمة لهذا الدين، وينقضه من أصوله .. فبطل بذلك – شرعاً وعقلاً – أن تكون مصلحتهم المزعومة مصلحة معتبرة في الشرع يمكن الاستدلال بها ..!
ومنها: أن لا تأتي المصلحة معارضة لشيء من أدلة الكتاب والسنة؛ فإن عارضت نصاً واحداً من الكتاب أو السنة فهي ليست مصلحة معتبرة، بل هي مفسدة يجب اعتزالها.
…وقد تقدم بيان معارضة ما عليه المخالفين من وصف لكثير من نصوص الكتاب والسنة، فبطل بذلك اعتبار ما هم عليه من وصف أن
يكون من المصالح المعتبرة شرعاً ..
…ومنها: أن لا تفوت المصلحة مصلحةً أرجح منها وأعظم أو تساويها؛ فلا يُعقل مثلاً تحت ذريعة مصلحة إسماع الناس صوت الحق من المنابر البرلمانية أن نفوت لأجل ذلك مصلحة التوحيد حق الله تعالى على العباد .. كما هو شأن المخالفين البرلمانيين، دعاة حاكمية الشعب والجماهير !
…أما قولنا: " أو مصلحة تساويها "؛ لأن استدراك مصلحة على حساب تفويت مصلحة تساويها في النفع والفائدة، هو من العبث الذي لا فائدة منه، والمؤمن نُهي عن العبث وتضييع الأوقات فيما لا طائل منه ولا فائدة .. ومثل هذا النوع كمن يعمل عملاً يدر عليه ربحاً ديناراً واحداً، ويخسره ديناراً آخر في آنٍ معاً !
…ومنها: الاستدلال بالمصلحة أو المصالح المرسلة يحتاج إلى فقه وعلم بترتيب الأولويات على ضوء مقصد الشرع بحسب الترتيب والأهمية، وليس إلى رعاع وجهال يأتون بأم المفاسد ثم يحسبونها من المصالح، وأنهم على شيء !(54/198)
…وكذلك فهو يحتاج إلى تقوى وورع وخشية من الله تعالى، حتى لا تدخل المصالح الشخصية الذاتية الوضيعة تحت ذريعة العمل من أجل مصلحة الدعوة؛ ففي ظاهرهم يعملون لمصلحة الدعوة، وفي باطنهم وحقيقة أمرهم يعملون لمصالحهم الذاتية الشخصية أو الحزبية ..يظهر لك ذلك عند أدنى اختبار تتعارض فيه مصالحهم الشخصية مع مصلحة
الدعوة الحقيقية ..!
…فمصلحة الدعوة – في كثير من الأحيان – كلمة حق يُراد بها باطل، وبخاصة عند أهل الأهواء والبدع طلاب الكراسي والشرف والزعامة عند الطواغيت !
…يقول سيد قطب رحمه الله: إن كلمة مصلحة الدعوة يجب أن تُرفع من قاموس أصحاب الدعوات، لأنها مزلة ومدخل للشيطان يأتيهم منه حين يعز عليه أن يأتيهم من ناحية مصلحة الأشخاص، ولقد تتحول مصلحة الدعوة إلى صنم يتعبده أصحاب الدعوة وينسون معه منهج الدعوة الأصيل .
…إن مصلحة البشر متضمنة في شرع الله، كما أنزله الله، وكما بلغه عنه رسول الله .. فإذا بدا للبشر ذات يومٍ أن مصلحتهم في مخالفة ما شرّع الله لهم، فهم أولاً: واهمون فيما بدا لهم( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ( النجم:23.
…وهم ثانياً: كافرون .. فما يدعي أحد أن المصلحة فيما يراه هو مخالفاً لما شرع الله، ثم يبقى لحظة واحدة على هذا الدين، ومن أهل هذا الدين ا-هـ .
…ومنها، أن صلى الله عليه وسلم قد عُرضت عليه مصالح حقيقية وعظيمة جداً من قِبل المشركين؛ قد عرضوا عليه الملك، والسيادة، والرئاسة، والمال وكل ما تتمناه الأنفس وتريده مقابل أن يعطيهم جزءاً يسيراً مما يعطيه الآن البرلمانيون الإسلاميون للطواغيت، لكن صلى الله عليه وسلم أبى إلا أن يجيبوه أولاً إلى التوحيد، إلى شهادة أن لا إله إلا الله .. وينبذوا ما هم عليه من الشرك وعبادة الأوثان والأصنام .
…وكلمت صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب التي كانت جواباً حاسماً على ما عُرض عليه من قريش، مشهورة ومعروفة للجميع:" يا عمُّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته ".
…وفي هذا عبرة وعظة بالغة لهؤلاء الذين يتنكبون طريق الأنبياء؛ من دعاة التقارب والتعايش والعمل مع الطواغيت – باسم المصلحة – الذين تهفو قلوبهم، ويسيل لعابهم لأدنى إشارة أو عظم يُرمى إليهم من قبل الطاغوت ..!
…أما الاستدلال بقاعدة ارتكاب أخف الضررين، فهذا يكون وفق الضوابط والشروط التالية:
…1- الوقوع عن غير قصد أو تصميم مسبق في ظروف الإكراه والاضطرار المبرر لارتكاب أخف الضررين وأهون الشرين؛ بحيث يُكره المرء على الوقوع في محظورين لا بد له من أحدهما، فهنا يُعمل القاعدة الآنفة الذكر ويختار أقلهما ضرراً ومخالفةً للشرع، ومتى يُرفع عنه الإكراه أو الاضطرار لا يجوز له اقتراف هذا المحظور، أو الاستمرار به، للقاعدة الفقهية التي تقول:" ما جاز لعذر بطل بزواله ".
وكلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم الذي يستدل به المخالفون ويضعونه في غير موضعه، كله من هذا القبيل .
وسؤالنا: أين القوم من هذا الضابط حتى يُعملوا قاعدة اختيار أخف الضررين ؟! أتراهم يمارسون المحظورات والمزالق الشرعية المتقدمة الذكر تحت ظروف الضرورة والإكراه، أم أنهم يمارسونها بكامل حريتهم واختيارهم، وعلى أنه جهاد في سبيل الله ..؟!
كذلك يوجد فرق بين من يستشرف الحرام وساحات الفتن – كما هو حال المخالفين – ثم هو بعد ذلك يقع في ظروف الاضطرار والإكراه، وبين من يهرب من ساحات الفتن ومظانها ولا يقصدها في شيء، ثم هو يقع في ظروف الإكراه والاضطرار قدراً، فالأول غير معذور لو وقع في المحظور، ولا تتشفع له قاعدة " ارتكاب أخف الضررين "، بينما الآخر معذور لو وقع في المحظور، وهو فقط الذي ينتفع من استخدام قاعدة ارتكاب أخف الضررين .
2- أن تكون المصلحة المرجوة من الوقوع في المحظور أكبر من ذات المفسدة المرتكبة .. وعليه فأي مصلحة يرجونها - المخالفون - وهم يمارسون أم المفاسد وأعظمها ألا وهو الكفر والشرك ..!
فأي مصلحة تعلو مصلحة التوحيد، وأي مفسدة تعلو وترجح على مفسدة الشرك.. ؟!
3- أن لا يكون هناك سبيل آخر مشروع لدفع هذه المفسدة، أو تحقيق تلك المصلحة .. وفي مسألتنا لم تنعدم السبل الشرعية في دفع المفاسد التي يزعم البرلمانيون دفعها عن طريق المجالس البرلمان الشركية ..!
4- الضرورات تقدر بقدرها؛ فلا يجوز التوسع في المحظورات
أكثر مما تستدعيه الضرورة، والقاعدة تقول:" إذا اتسعت ضاقت " .
والمخالفون البرلمانيون من أكثر الناس توسعاً في الوقوع في المحظورات، تحت ذريعة الوقوع في ضرورات وهمية لا حقيقة لها !!
5- إذا استوت المفاسد مع المصالح، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح .. وفي مسألتنا مع المخالفين مفاسد عظيمة يقابلها مصالح زهيدة أكثرها وهمية غير محققة !
6- البرلمانيون عندما اختاروا العمل النيابي لم يختاروا أخف الضررين وأهون الشرين، بل اختاروا أشد وأعظم الضررين؛ اختاروا الضرر الذي لا يعلوه ضرر وشر، اختاروا ضرر الكفر والشرك ..!(54/199)
وبعد، فلك أن تعجب من صاحب كتاب " مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية! " الذي حشاه بالأباطيل، وبأقوال لابن تيمية رحمه الله أنزلها في غير منزلها الصحيح، قال فيه: وقد ذكر بعض الأخوة مفاسد الديمقراطية فبلغت خمسين مفسدة . ونحن نستطيع أن نضيف خمسين أخرى، بل مائة أخرى ولا يعني هذا تحريم الدخول إلى المجالس البرلمانية !! ا-هـ .
فتأمل كيف أن دخول المجالس البرلمانية الطاغوتية الشركية – عند الرجل – غاية عظمى، يهون في سبيلها ارتكاب مائة وخمسين مفسدة نصت عليها الشريعة بغض النظر عن طبيعة وحجم هذه المفاسد ..!!
…مما يجعلنا نرجح أن القضية عند القوم ليست مجرد ارتكاب أخف الضررين عند حصول الاضطرار والإكراه، وإنما هي استراتيجية ومنهج
حياة يوالون ويعادون فيه، قائم على الهوى والهوى وحسب .. وهم عندما يطرحون مثل هذه الشبهات الآنفة الذكر فهم يطرحونها من قبيل الجدل والتشويش على عامة الناس، وليس من قبيل الاحتكام إلى قواعد وأحكام الشرع ..!
والمشكلة في هذا الرجل أنه سلفي، ومحسوب على أهل العلم والاتجاه السلفي، يسوِّق ضلالاته على أتباعه باسم السلف والسلفية ..!!
5- الشبهة الخامسة .
…وهي قولهم: أن رفضنا للنظام الديمقراطي الحر يعني قبولنا بالنظام الديكتاتوري الذي يكمم الأفواه ويحكم بالحديد والنار .. وبالتالي فإن الديمقراطية هي خيارنا الوحيد الذي لا مناص لنا منه !!
…ثم أن النظام الديمقراطي – سواء اعترفنا به ووافقنا عليه أم لم نعترف به ولم نوافق عليه – مفروض علينا وهو أمر واقع، وما دام الأمر كذلك فعلام لا نتبناه، ونستغله لصالح العمل للإسلام والمسلمين ..؟!
…والجواب على هذه الشبهة من أوجه:
…أولاً: يجب الاعتراف أولاً أن كلا النظامين الديمقراطي والديكتاتوري هما من صنيع البشر ووضعه، والنظامان في نظر الإسلام من حكم الجاهلية الذي يجب الكفر به والبراءة منه ..
وقوله تعالى:( أفحكم الجاهلية يبغون ( المائدة:50. يشمل النظام الديمقراطي والديكتاتوري سواء، وكل نظام هو من وضع البشر
وصنيعهم .
…ثانياً: أن يكون الأمر مفروضاً عليك من دون إرادتك أو رغبة منك، وأنت لا تستطيع دفعه أو رده، مع بذل قصارى جهدك في ذلك .. فهذا شيء تُعذر عليه شرعاً لأن الله ( لا يكلف نفساً إلا وسعها، كما قال تعالى:( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ( البقرة:286. وقال تعالى:( فاتقوا الله ما استطعتم ( التغابن:16.
…وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه "(1).
…والمطلوب منك – يا عبد الله – في مثل هذا الظرف أن لا تعترف طوعاً بشرعية الباطل أو تقره، أو ترضاه في قلبك، أو تطالب به .. وهذا أمر تستطيعه – لا سلطان لمخلوق عليك فيه – لا تُعذر شرعاً لو قصرت في شيء من ذلك .
…فالعجز عن القيام – في مرحلة من المراحل – بتبعات النهوض بالمشروع الإسلامي العام، وفرضه كنظام حاكم على أرض الواقع، لا يبرر مطلقاً تلمس الطرق الشركية الباطلة كالديمقراطية أو الاشتراكية أوغيرها من المذاهب الكفرية ..!
ثالثاً: للمسلم أن يستغل – بما لا يتعارض مع عقيدته ودينه – جميع الظروف والأجواء المحيطة به على قدر الاستطاعة – الديمقراطية منها ـــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد، وابن ماجة، والطبراني، والحاكم، صحيح الجامع:1731.
أو الديكتاتورية – لما فيه خير الإسلام والمسلمين، ويجب عليه أن يتحرك لدينه في جميع الأجواء .. لكن هذا لا يستدعي ولا يستلزم منه، ولا يبرر له أن يعترف طواعية بشرعية الباطل وسيادته على الحق وأهله لو اختارته الأكثرية أو الجماهير .
…فاستغلال الشيء والاستفادة منه لهذا الدين – بما لا يتعارض مع الشريعة – لا يستلزم الاعتراف بشرعية هذا الشيء إن كان باطلاً ..
…رابعاً: كون النظام الديمقراطي أهون علينا شراً من النظام الديكتاتوري الوضعي الذي يقوم على الإرهاب الجسدي والفكري، وحكم الفرد، لا يستلزم منا أن نتبنى النظام الديمقراطي .. لأنه عندنا البديل الأمثل والأطهر والأعلى الذي هو أفضل بكثير من النظام الديمقراطي، ومن جميع الأنظمة الأرضية الوضعية التي تعبد العبيد للعبيد، وتكرس ألوهية المخلوق من دون الله تعالى .. ألا وهو الإسلام .
…فنحن عندما نقول: لا للديمقراطية، لا يعني أننا نقول نعم للديكتاتورية والظلم والبطش .. لا، بل الذي نعنيه ونريد قوله للناس جميع الناس: لا للديمقراطية، وجميع الأنظمة الأرضية الوضعية .. نعم للإسلام .
…لا لحكم الجاهلية – أيَّاً كان مصدر هذه الجاهلية، سواء كان مصدرها فرد أم طبقة، أم شعب بكامله – .. نعم لحكم الله ( .
…لا لجور الأديان، كل الأديان .. نعم لعدل الإسلام .
…لا للشرك بكل أنواعه وضروبه؛ شرك القبور والقصور سواء ..نعم للتوحيد .
…فالديمقراطية ليست هي خيارنا الوحيد – كما يقولون! – بل خيارنا الوحيد هو الإسلام .. وأي خيار نرتضيه غير الإسلام، يعني اختيار الطاغوت والوقوف في صفه وتحت مظلته وقبته، والخروج من دين الله تعالى إلى دين الطاغوت .(54/200)
…فالاعتراف بالخيار الديمقراطي كسبيل للتغيير والبناء والحكم .. يعني إلغاء المشروع الإسلامي كلياً .. وأي امرئٍ يقف مع خيار الديمقراطي فهو يقف ضد الخيار الإسلامي، وضد المشروع الإسلامي الكلي الذي يشمل جميع مناحي ومرافق الحياة، علم بذلك أم لم يعلم .
…6- الشبهة السادسة .
…وهي قولهم: اعتزال العمل السياسي(1)؛ يعني تفريغ الساحة ـــــــــــــــــ
(1) المخالفون الديمقراطيون عندما يطلقون كلمة " العمل السياسي " فهم يريدون منها العمل النيابي والمشاركة النيابية، لعلمهم أن كلمة " العمل السياسي " مستساغة عند المسلمين، ولا يمكن لأحدهم ردها أو التعقيب عليها باعتبار أن السياسة من الدين، بخلاف كلمة " العمل النيابي أو المشاركة النيابية " فهي تعبير محدث، وتنطوي على معانٍ غير شرعية،وبالتالي فهي لا تلقى القبول عند المسلمين كالكلمة الأولى .. فهم يستخدمونها ليس من باب إحياء السياسة الشرعية، وإنما لتسويغ =
للعلمانيين، وتركهم يتفردون بشؤون الحكم، وإصدار القرارات من دون أن يجدوا أي منافسة من قبل الإسلاميين ..!
…والجواب على هذه الشبهة من أوجه:
منها، قصر وحصر العمل السياسي على العمل النيابي البرلماني خطأ ظاهر، فالعمل السياسي أعم من أن يُحصر في العمل النيابي، ونحن إذ ندعو ونطالب باعتزال العمل البرلماني التشريعي في ظل هذه الأنظمة الطاغية، لما يترتب عليه من مزالق عقدية وشرعية وسياسية لا تُحمد عقباها، وليس إلى اعتزال العمل السياسي مطلقاً، فاعتزال العمل السياسي شيء، واعتزال العمل التشريعي عند الطواغيت شيء آخر ..!
ومنها، أن اعتزال العمل النيابي التشريعي لا يعني ولا يستلزم تفريغ الساحة للعلمانيين، وإنما الذي نعني ونريد أن نجاهد العلمانيين وغيرهم من المجرمين بالوسائل الشرعية المباحة والمبينة في الكتاب والسنة، وليس بالوسائل الشركية الباطلة .. فالغاية عندنا لا تبرر الوسيلة، وبخاصة إن كانت هذه الوسيلة هي الشرك !
ومنها، أن السباق على المجالس النيابية التشريعية هو من السباقات الباطلة التي تنتهي إلى الكفر والشرك، ومن ثم إلى الخسران والندم – ولات حين مندم – حيث جهنم وبئس المصير .
ـــــــــــــــ
= باطلهم على عوام الناس ..!
فالسياسة أو العمل السياسي كلمة حق يريدون بها باطلاً، لذا فإننا نسجل تحفظنا تجاه هذه الكلمة عندما تأتي من جهة هؤلاء المخالفين ..!
فالقوم يُسارعون إلى جيف كلاب نتنة، فلا يجوز للمسلم – بعد أن أعزه الله بالتوحيد – أن يُشارك القوم في هذا النوع من السباقات المخزية؛ فالكفر ليس شيء يُشد إليه الرحال أو يُسابق إليه، كما قال تعالى:( ولا يحزنك الذين يُسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم ( آل عمران:176. وقال تعالى:( وترى كثيراً منهم يُسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ( المائدة:62.
…وإنما السباق الحقيقي يكون إلى التوحيد، إلى مغفرة من الله (، وطلب جنة عرضها السماوات والأرض، كما قال تعالى:( وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ( آل عمران:133.
…ومنها، أن سياسة اعتزال الباطل وتجمعاته هي من سياسة الأنبياء والصالحين ومن منهجهم، الذين أُمرنا باتباعهم والاقتداء بهم، كما قال تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام :( وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ( مريم:48.
…وقال تعالى:( فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً ( مريم:49. فوهب الله لإبراهيم إسحاق ويعقوب لما اعتزل الكفار وما يعبدون من دون الله، جزاءً على اعتزاله لهم ..
…وقال تعالى عن فتية أصحاب الكهف الصالحين:( وإذ
اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً ( الكهف:16. فالرحمة تُنشر مع اعتزال الباطل وأهله، لا بمعايشته وخلطته ..
…وقال تعالى:( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره إنكم إذاً مثلهم ( النساء:140.
…وبعد، فهل يصح أن يُقال أن الأنبياء عندما اعتزلوا المشركين ومجالسهم الباطلة، وما يعبدون من دون الله استجابة لأمر الله تعالى قد فرغوا الساحة للكفار، أو أنهم بذلك اعتزلوا العمل السياسي .. كلا، لا يرمي الأنبياء بذلك إلا كل منافق زنديق .
…ومنها، إضافة إلى ما تقدم فإن اتباع سياسة الاعتزال والمفاصلة والمباينة لمجالس الطاغوت وأعماله الكفرية هي أبلغ في الزجر والنفع، وفي إيصال الرسالة من سياسة المخالطة والمجالسة والمشاركة للطاغوت في أعماله الكفرية، وبما يعود عليه وعلى نظامه بالنفع والعافية؛ لأن الشر لا يمكن أن يعيش، لذا يحرص أن يخالطه قليل من الخير – يضلل به الجماهير – ليتمكن من النهوض أو البقاء .(54/201)
لذا نجد كثيراً من الأحيان أن الطاغوت يتأذى من تمايز الحركة الإسلامية عندما لا تشاركه – بالطريقة التي يريدها – ما يقترفه من شرك وإثم وعدوان ومرض .. فيحمله ذلك على أن يضغط عليها بطرقه ووسائله الخاصة حتى تشاركه الإثم والعدوان كبقية الأطراف اللاإسلامية
الأخرى الموجودة على الساحة، لتتحمل معه المسؤولية فيما يقوم به من جرائم بحق البلاد والعباد، وليفقدها جاذبية التمايز والاستعلاء بالإيمان الذي كان يؤذيه من قبل، مما يجعلها تفقد كثيراً من رصيدها الشعبي ..!
وبرهان ذلك ما سمعناه في كثير من الأحيان عن بعض القيادات الإخوانية وغيرهم قولهم: أن مشاركتهم في العمل النيابي تأتي استجابة لنداء الملك أو الرئيس، ونزولاً عند رغبته وإرادته، مع علمهم السابق بانعدام الجدوى من المشاركة ..!
…ومنها، أن العمل السياسي ليس مانعاً من موانع التكفير؛ يرفع عن صاحبه الملامة أو التكليف، أو يمنحه الرخصة والحصانة في أن يقول ويفعل ما يشاء كما يصور ويظن البعض .. فلا يفرح دعاة التفلت من القيود الشرعية – بدعوى العمل السياسي – بسياستهم؛ فإن السياسة الممدوحة في الشرع هي السياسة التي تُضبط بضوابط الشرع، وتسوس الدنيا والأنام بالدين والشرع، وما سوى ذلك فهي سياسة باطلة ومردودة وإن سُميت سياسة أو عمل سياسي، فالسياسة كأي كلام، حسنه حسن وسيئه سيئ، ثم أن إضفاء مسميات الحق وشاراته على الباطل لا تحيل هذا الباطل حقاً!
…7- الشبهة السابعة: استدلالهم بفتاوى بعض أهل العلم .
حيث قالوا : نحن فيما فيه من مشاركة نيابية أو في العمل الوزاري .. لنا مرجعيتنا من أهل العلم الذين أفتونا بجواز المشاركة، فعليهم التعويل، ومنهم نستمد الشرعية على ما نحن فيه من عمل ..!
…نجيب على هذه الشبهة في النقاط التالية:
…1- كما يوجد رجال من أهل العلم أفتوا بجواز المشاركة، كذلك يوجد رجال من أهل العلم – وقد تقدم ذكر بعضهم – أفتوا بعدم المشاركة، ولكن المسألة لا تناقش بهذا الأسلوب، رجال مقابل رجال من دون النظر إلى أدلة كل فريق فيما اعتمدوه وأفتوا به ..!
…2- من خلال المتابعة فإننا نعتقد أن كثيراً من أهل العلم – وبخاصة منهم المتقدمين - فُسر كلامهم خطأ وحُمل من المعاني مالا تحتمل، وأنزلوه في غير منزله وموضعه(1)؛ فها هو ابن تيمية رحمه الله يتكلم عن قاعدة ارتكاب أخف الضررين، ودفع أكبر المفسدتين .. وإذا بالقوم يفرحون بذلك أشد الفرح، ويحسبون في كلامه دليلاً لهم ويقولون: ابن تيمية يجيز المشاركة في المجالس البرلمانية التشريعية ..!
…أما المجيزون من أهل العلم المعاصرين، فهم فريقان: فريق قيدوا المشاركة بقيود وشروط ينتفي معها إمكانية تحقيق المشاركة بالبرلمانات التشريعية على طريقة دعاة حاكمية الشعب والجماهير ..!
وفريق من أهل العلم قولوهم ما لم يقولوا، وردوا المحكم من ــــــــــــــ
(1) كما فعل الدكتور عبد الرزاق الشايجي عندما جمع أقوالاً - تتكلم عن فقه وقاعدة ارتكاب أخف الضررين - لبعض أهل العلم كابن تيمية، والعز بن عبد السلام، وابن القيم الجوزية وغيرهم .. وأدرج أسماءهم وكلامهم - على أنهم من المؤيدين للعملية الديمقراطية النيابية - تحت عنوان كتابه الموسوم : فتاوى وكلمات في حكم المشاركة بالبرلمانات !!.
قولهم إلى المتشابه، وجعلوا المتشابه من قولهم حكماً على المحكم ..وهذا بخلاف ما تقتضيه الأمانة العلمية !…
وفريق ثالث من خلال المتابعة لأقواله في المسألة، تبين أنه غير ملمٍ بأبعاد المسألة وفقهها وواقعها، وأدلتها، وما يترتب عليها من مزالق .. ومثل هذا لا يلتفت إليه، ولا يمكن أن يُعتد بقوله ورأيه، وإن ضرب صيته الأمصار .. وندعو له بالهداية وأن يبصره الله بالحق (1) !
3- من أصول أهل السنة والجماعة أن كل إنسانٍ مهما بلغت درجته من العلم فإنه يخطئ ويصيب، ويؤخذ منه ويرد عليه، عدا النبي صلى الله عليه وسلم .
…وبالتالي استشهادهم بأقوال بعض أهل العلم – مع وجود المخالفين لهم – يحتمل الخطأ والصواب، وما كان كذلك لا تقوم به حجة أو دليل يُلزم به الناس وبخاصة المخالفين لهم .
…4- الحل الشرعي الصحيح لكل نزاعٍ أو خلاف يحصل بين المسلمين يكمن بالرجوع إلى حكم الكتاب والسنة وليس إلى أي شيء آخر، كما قال تعالى:( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ( النساء:59.
ـــــــــــــــ
(1) هذه النماذج الثلاثة لأهل العلم المعاصرين تجد أمثلة عليها في كتاب الدكتور الشايجي المتقدم الذكر، لكن الرجل سوى بينهم وأدرج أسماءهم كلهم على أنهم من المؤيدين المجيزين للمشاركة بالبرلمانات التشريعية في الحكومات المعاصرة .. والله المستعان!!
…قال ابن القيم في الأعلام 1/50: جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء الآخر ا-هـ .
…وقال تعالى:( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ( الشورى:10.(54/202)
…5- مسألتنا هذه التي حصل فيها الخلاف والنزاع لها مساس وعلاقة – كما تقدم – بالعقيدة والتوحيد، ومسائل الاعتقاد والتوحيد لا يجوز تقليد الرجال فيها من دون معرفة الدليل الشرعي فيما يقررونه إيجاباً أو سلباً .. فتقليد الرجال في الدين مذموم، وأسوأه أن يكون في مسائل الاعتقاد والتوحيد .
…إلى هنا نكون قد انتهينا من الرد على هذه الشبهة، وبانتهائنا منها نكون قد انتهينا من الرد والجواب على أكثر شبهات المخالفين انتشاراً على ألسنة الناس.. وإن كانت هناك توجد بعض الشبه الأخرى نحسب أننا قد رددنا عليها في طيات هذا البحث وصفحاته، ما يغني عن إعادتها هنا ثانية، والحمد لله الذي تتم بفضله الطيبات الصالحات .
- لا يمكن للمسلمين أن يصلوا إلى غاياتهم عن طريق الديمقراطية .
…لا يستطيع المسلمون أن يصلوا إلى غاياتهم، أو يحققوا شيئاً من أهدافهم الإسلامية العامة عن طريق الديمقراطية أو النظام الديمقراطي، وذلك لأوجه، أهمها:
…أولاً: الإسلام دين الله تعالى الذي شرعه للعباد؛ له غاياته ووسائله الخاصة به كدين رباني المصدر والنشأة، وغاياته لا تؤتى إلا من خلال وسائله الشرعية المبينة في الكتاب والسنة، وأيما غاية شرعية تُطلب من غير طريقها الشرعي الصحيح فهو ضرب من الضلال والشرود عن الحق، وهو كذلك من قبيل تلمس الطاعة بغير المشروع والمسنون، فتكون أقل أحكامه أنه بدعة ضلالة، والله تعالى لا يقبل من عباده عبادتهم له ( إلا بما شرع لهم وأمرهم به، كما قال تعالى:( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ( الكهف:110.
وفي الحديث الذي أخرجه ابن أبي عاصم في السنة عن جابر بن عبد الله قال: كنا جلوساً عند صلى الله عليه وسلم ، فخط خطاً هكذا أمامه فقال:" هذا سبيل الله ( "، وخط خطاً عن يمينه، وخط خطاً عن شماله وقال:" هذه سبل الشيطان " ثم وضع يده قي الخط الأوسط ثم تلا هذه الآية:( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ( .
ولا شك أن الديمقراطية من سبل الشيطان التي تفرق العباد وتُبعدهم عن صراط الله المستقيم، مَن سلك طريقها وأخذ بوسائلها فقد سلك طريق الشيطان، وأنّى لسالك طريق الشيطان أن يصل بسفينة الإسلام إلى شاطئ النصر والأمان ؟!
…أما قول المخالفين بأن حكم الوسائل يختلف عن حكم الغايات؛ بحيث لا يسعنا مخالفة الشرع والمنصوص في الغايات والمقاصد، بينما هذا لا يشترط في الوسائل والسبل التي يمكن فيها التغيير ومخالفة المشروع والمسنون بحسب ما تقتضيه الظروف والمصالح .. فهذه مقولة باطلة وفاسدة لا تصلح شرعاً ولا عقلاً وهي أشبه بمقولة اليهود اللعينة: الغاية تبرر الوسيلة !!
…صدق رسول ا صلى الله عليه وسلم :" لتتبعن سُنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضَبٍّ تبعتموهم " قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال:" فمن ". أي من يكون غيرهم، والحديث متفق عليه .
…وقا صلى الله عليه وسلم :" حتى لو أن أحدهم ضاجع أمه بالطريق لفعلتم ". أي لوجد منكم من يفعل فعلهم الشنيع هذا !
…وهذا إن يكون فهو يكون في أجواء الإباحية والحرية الشخصية التي تعتبر من أبرز مبادئ وأسس الديمقراطية الغربية ..!
ثم نسأل: هل سبل التغيير من أجل استئناف حياة إسلامية هي مما بينه الشارع، أم أنها – على أهميتها – قد تُركت فراغاً للأهواء والعقول
من غير بيان من الله ورسوله ؟
…إن كان الجواب أنه مما بينه الشارع، نقول: عرفت فالزم .. إنه لا يسع أحد مخالفة المشروع والمسنون .
…وإن كان الجواب أنها مما تركت ولم تُبين، نقول: هذا مغاير للنصوص الشرعية التي تفيد اكتمال الدين، وأنه ما تُرك شيء يحبه الله ويرضاه إلا وقد بينه وذكره، كما في قوله تعالى:( اليومَ أكملت لكم دينَكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ( المائدة:3 .
…وقال تعالى:( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ( النساء:59.
…قال ابن القيم في الأعلام 1/49: قوله( فإن تنازعتم في شيء ( ، نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دِقه وجِله، جَلِيه وخَفِيه، ولو لم يكن في كتاب الله بيان حكم ما تنازعوا فيه ولم يكن كافياً لم يأمر بالرد إليه، إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى مَن لا يوجد عنده فصل النزاع .ومنها أن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسو صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته ا-هـ .
…وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله ويقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه".
…ثانياً: أن التمكين والاستخلاف في الأرض للمؤمنين مرهون(54/203)
بتوحيدهم لله (، واجتناب الشرك ومظانه وكل ما يؤدي إليه، كما قال تعالى:( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ( النور:55 . الاستخلاف في الأرض، والتمكين، والأمن بعد خوف، كل هذا العطاء والخير مقابل تحقيق التوحيد واجتناب الشرك .
…بينما الديمقراطية – كما ذكرنا من قبل – هي فكرة شركية، تقوم على الشرك وعلى تأليه المخلوق في صورة جعله مصدر الحكم والتشريع، والتحليل والتحريم، وما كان كذلك كيف يُنشد نصر الله تعالى عن طريقه، ففاعل ذلك كمن يتخذ الشرك والكفر وسيلة لنصرة الإسلام والتوحيد، وهذا لن يكون ..!
…قال تعالى:( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ( محمد:7.
أي إن تنصروا الله في طاعته فيما أمر، وتنتهوا عما نهى عنه وزجر ينصركم الله بالتمكين والاستخلاف في الأرض، وهو جواب لشرط لا بد من استيفائه أولاً، فإن انتفى الشرط انتفى جوابه ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، فمفهوم الشرط هنا أن من لا ينصر الله لا ينصره الله، ولا يعزه .
…ونحوه قوله تعالى في حق صلى الله عليه وسلم :( وإن تطيعوه تهتدوا (
النور:54. أي إن لم تطيعوه لن تهتدوا وبالتالي لن تنصروا، ومن طاعة صلى الله عليه وسلم اجتناب الشرك وكل ما يؤول إليه، والذي منه الديمقراطية هذه التي تؤله المخلوق من دون الله ( .
…فلا يحملنكم – يا قوم – استبطاء النصر على أن تطلبوه بالشرك والتماس دروب الباطل، فإن ما بيد الله ( لا يطلب إلا بطاعته وتوحيده .. علم بذلك من علم، وجهل ذلك من جهل .
…يقول سيد قطب رحمه الله: أذكر أن الأخ علي العشماوي أخبرني أن في مصر أخاً سودانياً زائراً وهو مندوب عن الإخوان هناك، وقد يزورني . ولكن لم يُحدد موعد ولم تتم الزيارة، غير أني علمت من الأخ علي أنه قابله مرة أو مرتين في الغالب، وأنه وصف له حوادث السودان ودور الإخوان الأساسي فيها، مما أدى إلى إنهاء الحكم العسكري هناك على ما هو معروف . كما أبدى له تفاؤله الكبير بقرب قيام حكم إسلامي في السودان نتيجة للانتخابات التي كانت لم تجر بعد .
…وأذكر أنني علقت وقتها مع هذا كله أن قيام حكم إسلامي في أي بلد لن يجيء عن مثل هذه الطرق وأنه لن يكون إلا بمنهج بطيء وطويل المدى، يستهدف القاعدة لا القمة، ويبدأ من غرس العقيدة من جديد والتربية الإسلامية الأخلاقية، وأن هذا الطريق الذي يبدو بطيئاً وطويلاً جداً هو أقرب الطرق وأسرعها .
…وقلت له كذلك: إنهم لم يمروا بعد بالتجارب التي مررنا بها في مصر، ولذلك لا بد أن يتركوا ليجربوا إذْ أنني أظن أنهم لن يقبلوا منا
توجيهاً في فورة الحماسة والتفاؤل(1) ا-هـ .
…ثالثاً: كذلك من الأسباب التي تمنع المسلمين من الوصول إلى أهدافهم الإسلامية عن طريق الديمقراطية أو الانتخابات الشعبية وصناديق الاقتراع سنة التدافع والصراع بين الحق والباطل منذ أن وجدت الحياة على وجه الأرض، وأرسل الله الرسل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
…فالعدو الكافر – بكل فِرقه ومذاهبه – لن يرضى أو يسمح أن تقام للإسلام دولة أو أن تكون له شوكة وقوة مادام يملك القوة أو القدرة التي تمكنه من تحقيق ذلك، وإن أدى ذلك إلى خوض الحروب وقتل الآلاف من الناس الأبرياء، وهتك الحرمات، فعندما تكون المعركة ضد الإسلام والمسلمين يصبح المحظور مباحاً، والممنوع جائزاً، والقيام به قانونياً ودستورياً، عليه توقيع وموافقة مجلس الأمم(2) ..!
ـــــــــــــ
(1) لماذا أعدموني:66. قلت: صدقت نظرة سيد رحمه الله، فإن الإسلاميين في السودان قد جربوا الانتخابات الديمقراطية أكثر من مرة، وفي كل مرة ترتد عليهم وعلى المجتمع السوداني بنتائج وخيمة لا تحمد عقباها ..!
(2) تأمل ماذا يحصل في هذه الأيام بحق الشيشان المسلمة، وبحق شعبها المسلم الأبي الذي تكالبت عليه جميع قوى الكفر والشر والنفاق؛ يقتلون أطفالهم، ونساءهم، وشيوخهم، ويهدمون عليهم – بالدبابات والصواريخ والطائرات – منازلهم .. يفترش الأطفال والنساء الثلوج، ويلتحفون السماء هرباً من إرهاب الوحوش الآدمية .. يتم ذلك كله على مرأى ومسمع جميع العالم الكافر الذي لم يحرك ساكناً، أو =
يدل على هذه المسلَّمة البدهية – التي لا يختلف عليها إلا دعاة حاكمية الشعب والجماهير – النصوص القرآنية، وكذلك الواقع الملموس الذي نعايشه ونراه .
…أما أدلة القرآن، كقوله تعالى:( ولولا دفعُ اللهِ الناس بعضَهم ببعضٍ لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضلٍ على العالمين ( البقرة:251.
وقال تعالى:( ولولا دفعُ الله الناسَ بعضهم ببعضٍ لهدمت صوامع وبيعٌ وصلوات ومساجدُ يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ( الحج:40.
وقال تعالى:( كذلك يضرب الله الحق والباطل ( الرعد:17.
وقال تعالى:( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ( البقرة:120 ـــــــــــــــــ
= يقول كلمة فاعلة بحق طغيان المعتدين ..!(54/204)
ولك أن تسأل عن الذنب الذي اقترفوه هؤلاء المستضعفين، الذي استعدى عليهم قوى الكفر والشرك مجتمعين .. فالجواب يأتيك أنهم يقولون ربنا الله .. أنهم يقولون لا للإلحاد والكفر المتمثل في الطاغوت الروسي .. أنهم يقولون نريد أن نعيش الإسلام الذي نتدين به ونؤمن به !!
فهذا هو جرمهم الحقيقي الذي لا يمكن أن يغتفر أو يسكت عنه في عرف وقوانين الأمم المتحدة على الإسلام .. !!
فأي ديمقراطية تريدون أيها المخدوعون .. وأي دولة تقيمون عن طريق صناديق الاقتراع .. وأنتم محكومين بقوانين ومخالب الوحوش الآدمية الكافرة ؟!
.
وقال تعالى:( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ( البقرة:217.
وقال تعالى:( ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم ( البقرة:109.
…وقال تعالى:( وكيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمةً ( التوبة:8. وغيرها كثير من الآيات التي تدل على أن الحق والباطل في صراع وتصادم وتدافع مستمر، وأن الباطل لا يمكن أن يرضى عن الحق وأهله موجوداً بجواره، فهو لا يهدأ له بال ولا تستريح له نفس، ولا تقر له عين إلا بأحد خيارين؛ إما أن يصدهم عن دينهم الحق، وينقلهم إلى دين الباطل والكفر إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وإما إبادتهم عن الوجود، وافتعال الحروب والقتل والقتال .. بهذا نطقت آيات القرآن الكريم ، ( ومن أصدق من الله قيلاً ( النساء: 122.
…أما دلالة الواقع الذي نعايشه ونراه فهو يصدق ما نصت عليه الآيات القرآنية الآنفة الذكر؛ فإن ما جرى في تونس، ومصر، والسودان – قبل البشير -، وتركيا، والجزائر، وماليزيا وغيرها من البلدان التي جرب فيها المسلمون الديمقراطية وصناديق الاقتراع، وكانت نتائج الانتخابات نسبياً لصالحهم .. رأينا كيف تحولت ديمقراطية الطغاة إلى دكتاتورية صريحة، وكيف أنهم جوزا لأنفسهم – باسم الديمقراطية – ما تحرمه عليهم الديمقراطية ذاتها، وعلى مرأى ومسمع من أرباب الديمقراطية
في العالم !!
…وكيف أن القوانين والدساتير وحالة السلم تُلغى، ويُعلن عن حالة الطوارئ، وتنزل الدبابات إلى الشوارع، ويُزج بالآلاف من المسلمين في السجون، ليحافظوا – كما زعموا – على سلامة الديمقراطية من خطر الإرهابيين ..!!
وهذه حقيقة يعرفها المخالفون جيداً، وهم يظهرونها في كتبهم وأدبياتهم .. ومع ذلك يكابرون ويخالفون، ويأبون المسير إلا في هذا الطريق المظلم، وكأنهم استعذبوا سياط الجلادين وهم يسوقونهم إلى غياهب السجون ..!!
…يعرفون أن الإسلام لن يصل عن هذا الطريق، ولا يمكن أن يحقق شيئاً من أهدافه، ومع ذلك عبثاً يحاولون – ويكررون المحاولة – غير مستفيدين من التجارب وقساوة الدروس، ولا آبهين بالنتائج المدمرة التي تلحق بالأمة وشبابها جرّاء محاولاتهم هذه ..!!
…وكأنهم نسوا أو تناسوا قول نبيهم صلى الله عليه وسلم" المؤمن كيِّس فَطِن لا يلدغ من جحرٍ مرتين ". بينما القوم يُلدغون من جحرٍ واحد عشرات المرات ولا يتعلمون !!
- ما هو البديل وكيف السبيل ؟
…كثير من يسأل: إذا كانت الديمقراطية ليست هي البديل ولا الطريق الصحيح، والمسلمون لا يستطيعون أن يحققوا شيئاً من أهدافهم عن طريقها .. فما هو البديل، وكيف السبيل لنصرة الإسلام وتثبيت سلطانه في الأرض ؟!
…والجواب على هذا السؤال ليس من عندنا ولا من أهوائنا أو بنات عقولنا، وإنما هو من كتاب الله تعالى وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، ويتلخص بكلمتين: الإعداد، ثم الجهاد(1) في سبيل الله ( .
…وقولنا الإعداد؛ نقصد به الإعداد الشامل – بجميع أبعاده المادية والمعنوية من دون تفريط أو تقصير في بذل جهد مُستطاع – الذي يراعي ويأخذ بجميع الأسباب المشروعة لتحقيق النصر والغلبة على الأعداء، ـــــــــــــــ
(1) فريق من الناس يرى " الإعداد والجهاد "؛ حيث عنده تحفظ على حرف العطف " ثم " الذي يفيد الاستبطاء والترتيب ..!
ولهؤلاء نقول: الإعداد والجهاد، عندما يقوم الجهاد على سوقه، وتسير كتائبه، وتشرع راياته؛ لأن مسيرة الإعداد لا تنتهي عند حدٍّ وهي ترافق جميع مراحل وتطورات الجهاد .. أما قبل الشروع بالجهاد وإعلانه، ووجود الحد الأدنى من متطلباته ولوازمه لا بد أولاً من تأمين الحد المطلوب والمعقول من الإعداد الذي يمكننا من إعلان الجهاد والمضي به من دون نكبات قد تؤخر الجهاد والعمل الإسلامي برمته إلى الوراء عشرات السنين .. ففي هذه المرحلة الصواب فيها أن يقال: الإعداد ثم الجهاد، وليس الإعداد والجهاد .
ويمكن من النهوض والاستمرار بتبعات أعباء الجهاد.
كما قال تعالى:( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيءٍ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ( الأنفال:60 .
وفي صحيح مسلم، عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول:( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة (؛ ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ".(54/205)
…وفي الصحيح كذلك:" من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى " .
…وكان r يشجع المسلمين على الرمي ويحضهم عليه – لما له من دور مهم في قهر العدو ودحره _ كما في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه أن صلى الله عليه وسلم مر على نفرٍ من أسلم ينتضلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان "، قال الراوي:فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم :" ما لكم لا ترمون ؟" قالوا: كيف نرمي وأنت معهم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" ارموا فأنا معكم كلكم ".
…والإعداد – بمفهومه الشامل – من حيث الحكم الشرعي هو واجب عيني على جميع المسلمين – أفراد وجماعات – كل بحسب استطاعته ومقدرته – لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها – وإن قل حجمه ونوعه، فإن القليل عندما يضاف إلى بعضه البعض يصبح كثيراً وقوياً ومؤثراً .
…ودليل الوجوب من وجهين: من جهة النصوص الشرعية التي تأمر بالإعداد فإنها تنص على الوجوب وتدل عليه، من غير وجود دليل صارف إلى الندب .
…أما الوجه الآخر فإن فريضة الجهاد لا تتم ولا يمكن القيام بها إلا إذا سبقها الإعداد المحكم الذي يكفي للنهوض بفريضة الجهاد، كما قال تعالى:( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ( التوبة:46.
والقاعدة الفقهية تقول:" ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ".
يقول سيد في الظلال 3/1543: فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد، والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها .…
وقال: فهي حدود الطاقة إلى أقصاها .. بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها ا-هـ .
…أقول: والإعداد الذي نقصده هنا ليس ذاك الإعداد الطويل الأمد الذي يقوم على التسويف وإضاعة الوقت، ويكون ذريعة للتنكب عن طريق الجهاد في سبيل الله، ولا كذلك الإعداد الناقص المتسرع الذي لا يكفي للنهوض بفريضة الجهاد وتكاليفه، فتأتي النتائج في غير ما نحب ونرضى .. فإننا لا نعني هذا ولا ذاك – وهما موجودان على الساحة وللأسف – وإنما نعني ونقصد الإعداد المرشد والمنظم الذي يقنع أهل العلم والاختصاص من أهل الجهاد والرباط بأنه كافٍ للشروع في الجهاد في سبيل الله ..
نقول ذلك لأن أكثر مسائل الدين – في هذا الزمان – هي بين الإفراط والتفريط، والغلو والجفاء، منها مسألة الإعداد هذه؛ حيث فريق تراه يضع للإعداد شروطاً وصفاتاً تعجيزية مفادها تعطيل الجهاد وإبطال أي مشروع جهادي جاد يمكن أن يقوم . وفريق آخر بالمقابل يتهاون بقدر الإعداد وأهميته فيخوض غمار الجهاد – حماسة – قبل أن يأخذ بأسبابه الشرعية الصحيحة، فتأتي النتائج مدمرة للأمة وللعمل الإسلامي بخاصة .. والمذهبان كلاهما على خطأ كبير، والحق الذي نعتقده وسطاً وهو بينهما .
…أما كون الجهاد في سبيل الله هو الطريق الصحيح للنصر والتمكين والاستخلاف في الأرض، فهو لأسباب نجملها في النقاط التالية(1):
…أولاً: أن طريق الجهاد وحي قد أمرنا الله به، وأوجبه علينا بنصوص الكتاب والسنة، وهو قدر هذه الأمة لا فكاك ولا مناص لها أن ــــــــــــــــ
(1) هذه المسألة كنت قد بحثتها في كتاب " تنبيه الدعاة المعاصرين إلى الأسس والمبادئ التي تعين على وحدة المسلمين "، وللأهمية وإتمام الفائدة نعيد ما كتبناه هناك مع شيء من التعديل والتصرف .
تتفلت منه، أو أن تستبدله بطرقٍ أخرى ما انزل الله بها من سلطان .
…قال تعالى:( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ( البقرة:216.
وهو كقوله تعالى:( كتب عليكم الصيام ( البقرة:183. فكما أن الأمة كتب عليها الصيام ولا بد لها من القيام به، كذلك قد كتب عليها القتال ولا بد لها من القيام به، فلا فرق بين الآيتين من حيث دلالة المشروعية والوجوب .
…وقال تعالى:( فقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ( الأنفال:39. وقال تعالى:( فقاتل في سبيل الله لا تُكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً ( النساء:84. وقال تعالى:( انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ( التوبة:41. وقال تعالى:( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً ( النساء:75.
…وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم كما في البخاري وغيره، أنه قال:" أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام،وحسابهم على الله".
…وقا صلى الله عليه وسلم :" بُعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعبد الله تعالى(54/206)
وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذلُّ والصغار على من خالف أمري "(1). وعند البخاري في صحيحه:" واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ".
…وفي صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم " من مات ولم يغزُ ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق " .
…وقا صلى الله عليه وسلم :" من لم يغز أو يجهز غازياً، أو يخلف غازياً في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة "(2).
…فالمسلم ليس له إلا أن يكون واحداً من ثلاث، إما غازياً، وإما يجهز غازياً، وإما يخلف غازياً في أهله بخير، وليس له وراء ذلك إلا قارعة تنزل بساحته – عاجلاً أو آجلاً – لا يعلم ماهيتها وشدتها إلا الله تعالى.
…ومن يتأمل القوارع الشداد التي تنزل بالأمة في هذا الزمان – وما أكثرها – يُدرك أن سبب ذلك كله يعود إلى تخليها عن الجهاد، وعن نصرة المجاهدين .
…وبعد، أين هؤلاء المتنكبون عن طريق الجهاد – تحت عناوين وشارات ما أنزل الله بها من سلطان - .. أين هم من هذه النصوص الصريحة المحكمة، وكيف لهم – وهم يزعمون أنهم مسلمون – أن يتفلتوا من دلالاتها وإيحاءاتها ولوازمها ..؟!
ــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع:2831. (2) صحيح سنن أبي داود:2185.
…ثانياً: الجهاد في سبيل الله دواء لكثير من الأدواء التي تشكو منها الأمة، فإنه لا شيء – بعد التوحيد – يعدل الجهاد نفعاً للبلاد والعباد .
…فهو طريق قد تكفل الله بهداية سالكيه، كما قال تعالى:( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ( العنكبوت:69 . لذلك كان السلف إذا أشكل عليهم أمر من أمور الدين يسألون أهل الثغور والجهاد .
…وهو كذلك باب من أبواب الجنة يُذهب الله به الهمّ والغم، كما في الحديث:" عليكم بالجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فإنه باب من أبواب الجنة يُذهب الله به الهمّ والغم "(1).
…وبه تُحفظ مقاصد الدين، وتُصان الحرمات، كما في قوله تعالى:( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً ( النساء:75.
…وقال تعالى:( ومَن جاهد فإنما يُجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ( العنكبوت:6. أي أن الخير العائد أو المتحصل من الجهاد مرده على أنفسنا إن جاهدنا في سبيل الله؛ فالله تعالى غني عنا وعن جهادنا .
…وهو كذلك باب عظيم من أبواب التمحيص يُعرف به المؤمن الموحد من المنافق المتسلق الذي يتشبع بما لم يُعط، والذي يُحب أن يُحمد
ـــــــــــــــ
(1) أخرجه الحاكم وغيره، السلسلة الصحيحة:1941 .
بما لم يفعل، فالجهاد تُرجمان التوحيد، وهو دليل على صدق الموحد .. ومن لم يكن له سابقة عهد مع الجهاد والبلاء في سبيل نصرة هذا الدين لا يحق له أن يتصدر مواقع الزعامة والقيادة – مهما أوتي من علم وحسن بيان – وهو إن فعل فهو يتشبع ويتظاهر بما ليس عنده، وهو كلابس ثوبي زور ..!
…وما أحوج الأمة إلى هذا الميزان والكشاف في هذا الزمان الذي كثر فيه المتسلقون والمنافقون، والمتاجرون ..!
…قال تعالى:( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ( آل عمران:142.
…وقال تعالى:( والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً ( الأنفال:74.
…وقال تعالى:( الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون ( التوبة:20.
…وقال تعالى:( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ( الحجرات:15.
…فاعتبر ( جهادهم دليلاً على صدق إيمانهم وتوحيدهم، وأنهم هم المؤمنون حقاً؛ أي الموحدون حقاً، وهم الصادقون الفائزون في الدنيا والآخرة .
أما الذين لا يجاهدون، الذين ترتاب قلوبهم كلما نادى منادي الجهاد، أو فتح في الأمة باب للجهاد .. فهؤلاء متهمون في إيمانهم، وفي صدق دعواهم أنهم مؤمنون .
قال تعالى:( إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون . ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبَّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ( التوبة:45-46 .
فاعتبر ( تخلفهم عن الجهاد مع رسول ا صلى الله عليه وسلم دليلاً على نفاقهم وعدم إيمانهم، كما اعتبر عدم الإعداد والأخذ بأسباب الجهاد دليلاً على عدم صدقهم ورغبتهم في الخروج للجهاد في سبيل الله، فلكل دعوةٍ وزعمٍ برهان ودليل، وزعم اللسان – من دون عمل – لا يكفي .
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 28/438: فهذا إخبار من الله بأن المؤمن لا يستأذن الرسول في ترك الجهاد وإنما يستأذنه الذين لا يؤمنون، فكيف بالتارك من غير استئذان ؟! ا-هـ .
قلت: فكيف بمن يثبط الأمة عن الجهاد، ويؤثم المجاهدين ويجرمهم لجهادهم ..؟!
كيف بمن يستبدل الجهاد في سبيل الله بالطرق الشركية الباطلة كالديمقراطية، ويحسنها ويزينها في أعين الناس .. لا شك أنه أولى بالنفاق من غيره .(54/207)
كيف بمن يكره الجهاد والمجاهدين، ويستعديهم، ويستعدي الناس
عليهم لأنهم يجاهدون في سبيل الله ..؟!
وهو – أي الجهاد في سبيل الله – إلى جانب ما تقدم لا يعدله شيء من العبادات نفعاً وخيراً، كما في الصحيحين، عن أبي هريرة قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد ؟ قال:" لا تستطيعونه "، فأعادوا عليه مرتين وثلاث كل ذلك يقول:" لا تستطيعونه "، ثم قال:" مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد ".
وقال صلى الله عليه وسلم " رباط يوم في سبيل الله خيرٌ من ألف يوم فيما سواه من المنازل "(1).
وقال صلى الله عليه وسلم " الغدوة والروحة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها " متفق عليه.
قلت: خاب وخسر – في الدنيا قبل الآخرة – من آثر الدنيا وزينتها على الجهاد في سبيل الله .
وقال صلى الله عليه وسلم " من اغبرت قدماه في سبيل الله فهو حرام على النار "(2).
قلت: فما قولكم فيمن يغبر وجهه في سبيل الله، ويلامس غبار الجهاد شغاف قلبه ..؟!
وإذا كان هذا الخير كله يتحقق من جراء الجهاد في سبيل الله تعالى، فإن ــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن النسائي:2971. (2) صحيح سنن النسائي:2919.
ترك الجهاد والركون إلى الدنيا ومتاعها .. لا شك أن مآله إلى العذاب والخسران والذل والهوان، وضياع حرمات البلاد والعباد ..
…قال تعالى:( إلا تنفروا يُعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير ( التوبة:39.
…وقال تعالى:( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ( التوبة:24.
…فإيثار هذه الأصناف الواردة في الآية مجتمعة أو بعضها – وما أعزها على الأنفس – على حب الله ورسوله، والجهاد في سبيل الله مآله إلى العذاب والفسق والضلال، وضياع جميع المصالح الدينية والدنيوية .
…وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذُلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم "(1). أي ترجعوا إلى الجهاد في سبيل الله، ولا تنشغلوا عنه بشيء مما ذُكر .
…وقال صلى الله عليه وسلم " يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذٍ ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ـــــــــــــــ
(1) السلسلة الصحيحة: 11. بيع العينة: نوع من التعامل الربوي؛ وصفته أن تبيع شيئاً إلى غيرك بثمن مؤجل، ثم تعيد شراءه منه ثانية بثمن أقل يدفع نقداً .
ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقال: يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت "(1) .
…فمهما كان للجهاد في سبيل الله من تبعات وتكاليف فهي أقل بكثير من تبعات وتكاليف التخلي عن الجهاد والركون إلى الدنيا ولهوها وملذاتها؛ فالجهاد مهما علت تكاليفه وتعاظمت تضحياته فهي لا تساوي جزءاً يسيراً من الضريبة الباهظة التي يقدمها الشعوب إلى أسيادهم من الطواغيت، الذين لا يرضون بحدٍّ من حدود العطاء، فهي ضريبة تشمل جميع ما يملك الإنسان من عرض ونفس ومال وعزة ودين وأرض، ولو أمكنهم الخروج من جلودهم في سبيل الطواغيت لطالبهم الطواغيت بذلك من غير تردد ..!!
لو قدمت الشعوب جزءاً يسيراً مما تقدمه في سبيل الطاغوت في طريق الجهاد في سبيل الله لتغير حالهم إلى أحسن حال، ولكان لهم شأن آخر يختلف عما هم عليه من الذل والخنوع والهوان، والعبودية للطواغيت(2) .
ــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود وغيره، السلسلة الصحيحة:958.
(2) جاءت إحصائيات الهيئات الرسمية أن عدد النساء المسلمات في البوسنة اللواتي انتهكت أعراضهن واغتصبن مِن قبل جنود الكفر الصربيين ما يزيد عن ستين ألف امرأة وفتاة، هذا المعلن والمخفي أعظم وما يمارسه جنود الأمم المتحدة على الإسلام والمسلمين من انتهاكات للحرمات – باسم المحافظة على الحرمات - ومحاولات =
ثالثاً: إن الولاية لا تتحقق للعبد إلا بالمتابعة والجهاد في سبيل الله، كما قال تعالى:( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ( المائدة:54.
…هذه صفة الأخيار الذين يحبهم الله ويرضى عنهم؛ إنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخشون في الحق لومة اللائمين من المخذلين والمرجفين، وليس هم أولئك الناس الذين يختارون طرق الدعة والباطل كالديمقراطية ــــــــــــــــــ(54/208)
= للابتزاز واستغلال الظروف القاسية، وحاجة الناس للطعام ما هو معروف لدى الجميع .. وما جرى مؤخراً في سراييفو حيث شُرد – بفعل الحقد الصليبي الصربي – أكثر من مليون مسلم، تاهوا في وديان الأرض وغاباتها، يستجدون العطف الصليبي العالمي، ورحمة الأمم المتحدة على الإسلام .. إضافة إلى عشرات الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ الذين قُتلوا بالآلة العسكرية الصربية بطريقة وحشية بشعة جبانة خسيسة لم يعرف التاريخ لها مثيل ..!!
…وهؤلاء المساكين – ضحايا الطاغوت - لو حملوا السلاح، وأعلنوا الجهاد في سبيل الله، وأعدوا له عدته، ودافعوا عن أنفسهم وحرماتهم بأنفسهم .. أتراهم يحصل لهم ما حصل، أتراهم يقدمون الضحايا التي قدموها كضريبة باهظة للذل والهوان والركون للطواغيت ..؟! لا ..!
لكن اختيار الجهاد كطريق وحيد إلى العزة والنصر والتمكين اختيار صعب – يحتاج إلى عزمة صادقة قوية – لا يختاره إلا أولو العزم من الرجال المؤمنين الصادقين .
وغيرها، ثم يحسبون أنفسهم أنهم على شيء، وأنهم بقية الخير على الأرض.. !
…قال ابن تيمية في كتابه العبودية: قد جعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول، والجهاد في سبيل الله؛ وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، وفي دفع ما يبغضه من الكفر والفسوق والعصيان ا-هـ .
…رابعاً: إن عدم الاتفاق على مبدأ الجهاد كسبيل للتمكين وإعلاء كلمة الله في الأرض، يستلزم بالضرورة تسليم الأعناق وجميع الحرمات إلى رحمة وسيوف الكفار الذين لا يألون في المؤمنين إلاًّ ولا ذمة .
…قال تعالى:( كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمة ( التوبة:8. أي لا يراعون فيكم حرمة القرابة والرحم، ولا حرمة العهود التي قطعوها لكم، فهم إن وجدوا السبيل للاستئصال والقتل والتشريد لا يتورعون لحظة عن فعل ذلك .
…وهم لا يزالون – من غير فتور أو كلل – يقاتلون المسلمين ويمكرون ضدهم ليفتنونهم عن دينهم إن استطاعوا، ويكونون معهم في الكفر سواء، كما قال تعالى:( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ( البقرة:217. وقال تعالى:( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ( البقرة:120 .
…فلو سالمتهم يا مسلم فهم لا يسالمونك إلا بشرط التخلي عن دينك، وتدخل في موالاتهم وطاعتهم، وبخاصة إن كانوا هم الطرف القوي في المعركة، وإن طمعت يوماً أن يرضوا عنك من دون أن تتبع ملتهم فأنت واهم، وعليك بقراءة القرآن من جديد، ومراجعة التاريخ القريب منه والبعيد لتقرأ صفحات الغدر والحقد والإجرام التي مورست – ولا تزال تُمارس – بحق الإسلام والمسلمين !
…ولن أنسى تلك المرأة من مسلمات البوسنة – وقد رُوعت بقتل زوجها وأطفالها وتدمير منزلها – وهي تقول: ظللنا نتكلم أن الإسلام دين سلام .. دين سلام .. حتى ذبحونا من الوريد إلى الوريد !!
…فهل نعتبر، أم أننا استمرأنا الذل والهوان، وأصبحنا نستعذب سياط الجلادين، ومد الأعناق إلى حبال مشانقهم(1) ..؟!!
…خامساً: الجهاد في سبيل الله من أخص خصائص الطائفة الناجية المنصورة، التي يجب أن نكثر سوادها ونحرص على أن نكون منها، وأن لا نتنكب طريقها ..
كما في الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لن يبرح هذا ــــــــــــــــ
(1) مما يؤسف له أن كثيراً من الجماعات الإسلامية المعاصرة أخذت موقفاً سلبياً من مبدأ الجهاد، وحرمته على نفسها وأتباعها وأنصارها، ووقفوا عند الآية الكريمة:( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة ( النساء:77. ولم يتجاوزوا النظر إلى ما سواها من الآيات الأخر الناسخة والتي تحض وتأمر بالجهاد ..!
آثروا سياسة الاكتفاء بالصبر والشكوى إلى الله، وإلى المخلوق .. سياسة اتباع تسمين القطيع – رهبة أو رغبة - ليسلموها فيما بعد إلى الذئاب البشرية المسعورة تفتك بأجسادها كيفما تشاء من غير أدنى حراك أو اعتراض ..!!
الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة " مسلم.
…وقا صلى الله عليه وسلم :" لا تزال طائفة من أمتي يُقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة " مسلم . فتأمل وصف صلى الله عليه وسلم لهم بالقتال وبأنهم مستمرون على هذا الوصف ..
…وقال صلى الله عليه وسلم " لا تزال طائفة من أمتي يُقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم حتى يُقاتل آخرهم المسيح الدجال "(1).
…وعن سلمة بن نفيل الكندي، قال: كنت جالساً عند رسول ا صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله، أذال الناس الخيل(2) ووضعوا السلاح، وقالوا: لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها ! فأقبل رسول ا صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال:" كذبوا، الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق ويُزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة "(3).
وقا صلى الله عليه وسلم :" لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة "(4).(54/209)
وغيرها كثير من النصوص التي تدل على أن طريق الطائفة المنصورة المرضية لإعزاز هذا الدين هو الجهاد في سبيل الله .. فمن أراد أن يكون منهم أو يتشبه بهم لا بد له من المسير على درب الجهاد مهما طال المسير .
ـــــــــــــــ
(1) صحيح سنن أبي داود:2170. (2) أي استخفوا بها وتركوها .
(3) صحيح سنن النسائي: 3333. (4) صحيح سنن ابن ماجه:6.
لأجل هذه الأوجه مجتمعة – وواحد منها يكفي – نقرر ونجزم: أن الجهاد هو خيارنا الوحيد لإعزاز الحق وإعلاء كلمة الله تعالى، ورد الحقوق إلى أصحابها، لا بديل لنا عنه ولا خيار، وهو قدر هذه الأمة لا مناص لها أن تتخلف عن القيام بواجباته وتبعاته .. وأي تردد يحصل في اختيار هذا الطريق فهو يرتد على الأمة بالذل والضياع والخسران .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأقتل " مسلم.
وقا صلى الله عليه وسلم :" ولأَن أُقتلَ في سبيل الله أحبُّ إلي من أن يكون لي أهل الوبَرِ والمَدَرِ "(1) .
فهل نحن – دعاة الاقتداء ب صلى الله عليه وسلم - كذلك ..؟!
ـــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن النسائي: 2955.
- تنبيهات ضرورية .
…حتى لا يُفهم كلامنا خطأً ويُحمل على غير الوجه الذي نريد، نسجل التنبيهات التالية :
…التنبيه الأول: مما يدخل في مسمى الجهاد في سبيل الله الجهاد بالمال والبيان، فرب كلمة حق ينطق بها المؤمن – في أجواء الجور والنفاق – عند سلطان جائر كافر تعدل ضرب السيوف وتزيد، ولها أثر جيوش جرارة بإذن الله، كما في الحديث:" سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله "(1).
…وقال صلى الله عليه وسلم " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه "(2).
…ولكن أفضل الجهاد والمجاهدين كما قال سيد المجاهدين وإمامهم صلى الله عليه وسلم" أفضل الجهاد من عُقِرَ جواده وأُهريق دمه "(3).
…وقيل يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ فقال:" مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله " البخاري .
…التنبيه الثاني: قولنا بأن الجهاد في سبيل الله هو السبيل الوحيد للنصر والتمكين والاستخلاف، لا يستلزم منه ولا يُفهم إهمال بقية الوسائل الشرعية الأخرى كالدعوة إلى الله، وتربية النفس وتزكيتها وحملها على التحلي بأخلاق هذا الدين، والاهتمام بطلب العلم الشرعي ــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الحاكم، السلسلة الصحيحة:374. (2) أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع:1934. (3) السلسلة الصحيحة .
تعلماً وتعليماً، والعمل على إيجاد الطليعة العريضة التي ترتفع إلى مستوى هذا الدين خُلقاً وسلوكاً واعتقاداً ، وغير ذلك من الأمور الشرعية التي تعين على بناء التجمع الإسلامي السليم .. فهذه من الأمور الضرورية لكل أمة تريد أن تنهض، وهي تدخل في معنى ومسمى الإعداد بمفهومه العام كما تقدم .
…التنبيه الثالث: قولنا بالجهاد في سبيل الله .. لا ينبغي أن يُفهم منه الفوضى والتصرف الفردي اللامسؤول، أو وضع قنبلة هنا وهناك من دون اكتراث بالعواقب والنتائج، أو استعجال القتال قبل استيفاء مقدماته الضرورية؛ فمن تعجل شيئاً قبل أوانه عُوقب بحرمانه .
…التنبيه الرابع: الجهاد في سبيل الله كبقية العبادات يُشترط لها الاستطاعة، فإذا انتفت الاستطاعة وتحقق العجز رُفع التكليف إلى حين تحقق القدرة؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها .
لكن هذا العجز لا ينبغي أن يُقعد المؤمن عن الإعداد للجهاد قدر استطاعته، فالمؤمن إما أنه يُجاهد في سبيل الله، أو أنه يعد للجهاد عدته وقت سقوطه للعجز، فالميسور لا يسقط بالمعسور .
قال ابن تيمية في الفتاوى 28/259: يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز، فإن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب ا-هـ .
التنبيه الخامس: شُرع الجهاد في سبيل الله لدفع المفاسد وجلب المصالح – وأعظم المفاسد الشرك وأنفع المصالح وأعلاها التوحيد – ومتى يكون الأمر على خلاف ذلك لا يُشرع الجهاد، ولا يؤذن به، وهو كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث يجب تقدير المصالح والمفاسد – وفق ميزان الشرع وضوابطه – عند الإقدام أو الإحجام . لأجل هذا الاعتبار وغيره شُرع الصلح المؤقت مع العدو، والجنوح إلى السلم إن جنحوا .. والله تعالى أعلم .(54/210)
التنبيه السادس: فشل المجاهدين في موقعة من المواقع أو مرحلة من المراحل، لأسباب قد تكون من عند أنفسهم، وسوء تقديرهم للأمور، وعدم أخذهم بالأسباب المطلوبة .. لا يستلزم اعتبار خيار الجهاد في سبيل الله خيار باطل وفاشل، كما لا يستلزم استعداء الجهاد والمجاهدين، فالجهاد الشرعي شيء، وخطأ المجاهد شيء آخر، والبراء يكون من خطأ المجاهد وصنيعه الباطل وليس منه أو من جهاده، كما حصل لما أخطأ خالد ابن الوليد ( عندما قتل أولئك الذين قالوا صبأنا فأخطأوا التعبير، وكانوا يريدون أن يقولوا أسلمنا .. فلما بلغ ذلك صلى الله عليه وسلم قال:" اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، ثلاثاً "، ولم يتبرأ من خالد أو جهاده، أو الجهاد ذاته حاشاه صلى الله عليه وسلم
والذي دعانا إلى هذا التنبيه أن كثيراً ممن يُحسَبون على العمل الإسلامي – أحزاباً وجماعات وأفراداً – يستعدون الجهاد، وينفرون الناس عنه متذرعين بواقع وفشل بعض الجماعات والحركات الجهادية هنا وهناك، أو ببعض الأخطاء – التي قد تكون عن غير قصد - التي لا بد أن يقع بها المجاهد عندما ينزل إلى الواقع وميدان المعركة .. وهذا عين الظلم والجور.
…ولكن هذا لا ينبغي أن يُفهم منه الاستهانة أو التسامح بالأخطاء الناتجة عن أصول وعقائد فاسدة، كأصول الخوارج الغلاة !
إلى هنا تنتهي التنبيهات الضرورية التي أردنا الإشارة إليها، وبانتهائنا منها، تنتهي – بفضل الله ومنته وعونه – آخر فصول وكلمات هذا الكتاب، راجياً من الله تعالى القبول في الأرض وفي السماء، وأن ينفعني الله بهذا العمل – الذي هو من فضله ورحمته- وجميع المسلمين، وأن يحقق منه الغاية والمراد .. إنه تعالى سميع قريب مجيب .
…( ويا قومِ مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار . تدعونني لأكفُرَ بالله وأُشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار . لا جرَمَ أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأنَّ مردَّنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار . فستذكرون ما أقول لكم وأفوِّض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ( غافر:41-44.
…( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أُنيب ( هود:88.
…وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم .
… وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين .
عبد المنعم مصطفى عبد القادر حليمة
أبو بصير
الفهرس
الموضوع………………الصفحة
إهداء ………………………………. …1 مقدمة الطبعة الثانية ……………………. …5
مقدمة الطبعة الأولى …………………… …9
معنى الديمقراطية ……………………… …17
مناقشة مبادئ وأسس الديمقراطية ………….. …26
أولاً: مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات …… …26
ثانياً: مبدأ حرية التدين والاعتقاد ………….. …31
ثالثاً: مبدأ اعتبار الشعب الحكم الذي يرد إليه النزاع …33
رابعاً: مبدأ حرية الكلمة والتعبير …………... …35
خامساً: مبدأ فصل الدين عن الدولة ………… …41
سادساً: مبدأ الحرية الشخصية ……………. …43
سابعاً: مبدأ حرية تشكيل الأحزاب والتجمعات .. …45
ثامناً: مبدأ اعتبار موقف الأكثرية …………. …51
تاسعاً: مبدأ التصويت والاختيار ………….. …55…
عاشراً: مبدأ المساواة على أساس الانتماء الإنساني والوطني …58
حادي عشر: مبدأ أن المالك الحقيقي للمال هو الإنسان …59
كلام لمحمد قطب في الديمقراطية …………… …61
بيان الحكم في الديمقراطية ……………………65
فتوى بعض العلماء في الديمقراطية …………… …66
الديمقراطية دين ………………………... …70
الديمقراطية والشورى ……………………. …75
حكم استخدام الديمقراطية كمصطلح ………… …78
قول الشيخ أحمد ياسين في الديمقراطية ………… …79
مناقشة بيان وزع للإخوان المسلمين حول الديمقراطية …80
الكلمة العربية المرادفة لكلمة الديمقراطية ………. …96
حكم الشعب ليس حكم الله وإن حكم بالإسلام .. …98
الأمة تُزاول السلطة وليست مصدر السلطة …….. …106
الأمة تُزاول سلطة التشريع الإداري والتنظيمي بشروط …109
لماذا الديمقراطية تسير بصورة مقبولة في بلاد الغرب …111
موقف الإسلام من الأحزاب ………………. …114
موقف الإسلام من الأحزاب العلمانية وغيرها من
الأحزاب الكافرة ……………………… …115
موقف حسن البنا من الأحزاب ……………. …129
موقف حسن البنا من العمل النيابي …………. …131
موقف الإسلام من تعددية الأحزاب الإسلامية …134
الأحزاب في ظل دولة الإسلام ……………. …134
شبهة يقول بها حزب التحرير وغيره، والرد عليها… …152
شروط تغيير المنكر ……………………. …157
مناقشة موقف فتحي يكن من التعددية ……… …167
العمل الحزبي الجماعي في ظل دولة علمانية لا تحكم
بما أنزل الله ………………………… …171
ضرورة العمل للإسلام من خلال جماعة منظمة عليها
أمير مطاع ………………………… …174
إقرار الشيخ الألباني بشرعية العمل الجماعي المنظم …177
فيمن يعلقون الجهاد إلى حين نزول الخليفة …… …182
شروط وقيود على العمل الجماعي المنظم ……. …186
أولاً: وجود الضرورة الملزمة لذلك ………… …186
ثانياً: أن يقوم هذا العمل على أساس الالتزام بالكتاب
والسنة …………………………… …186
ثالثاً: أن تكون الغاية التعاون على البر والتقوى، وعلى(54/211)
إحياء فريضتي الإعداد والجهاد …………… …188
رابعاً: أن يقوم العمل الجماعي المنظم على أساس
توحيد كلمة المسلمين في جماعة واحدة ……… …190
خامساً: أن لا تتشكل هذه الجماعة في حال وجود
الجماعة المتقدمة عليها ………………… …191
سادساً: أن تعيش الجماعة اهتمامات الأمة من غير
تفريق أو تمييز بين المسلمين …………………194
سابعاً: الالتزام بمبدأ الموالاة والمعاداة في الله …… …196
صور من الولاء الحزبي المذموم …………… …198
الولاء الحزبي الممدوح ………………… …200
ثامناً: أن تحل نفسها وتنصهر مع مجموع الأمة في
حال قيام دولة الإسلام ……………… …202
وقفات مع الدكتور القرضاوي في مقابلة له مع
الجزيرة عن الأحزاب والديمقراطية ………… …204
استدلاله على شرعية الأحزاب والاختلاف بالإرادة
الكونية على الإرادة الشرعية، والرد عليه …… …205
مفهوم الآية ( لا إكراه في الدين ( ………… …218
استدلال الدكتور بتعدد ألوان الجبال والصخور
على تعدد الأحزاب ………………….. …220
الفرق بين المذاهب الفقهية والأحزاب …………222
شروط القرضاوي لتشكيل الأحزاب والرد عليها …226
آراء شاذة وخطيرة جداً ……………….. …232
الرد على زعمه بأن الصحابة كانوا مختلفين ….. …241
القرضاوي يجيز الأحزاب الشيوعية في الدولة الإسلامية …248
القرضاوي يقول عن دولة الإسلام إذا رفضها أكثرية
الناس، اتروح في داهية ………………… …255
إفراز أهل الحل والعقد في ظل المجتمع المسلم …260
إفراز أهل الحل والعقد في ظل الأنظمة الديمقراطية
العلمانية ………………………… …265
القرضاوي يدعو الناس إلى أن يكونوا من الشيعة
الروافض ………………………… …267
لا مانع – عند الدكتور - من استخدام القوة لقيام
دولة الإسلام، شريطة أن لا تراق قطرة دم …… …271
حكم التحالف مع الأحزاب الكافرة ……….…275
استدلاله بالخوارج على شرعية وجود الأحزاب المعارضة …278
مقارنة بين موقف القرضاوي القديم وبين موقفه الحديث
من الأحزاب ………………………… …285
التمثيل النيابي ودخول البرلمانات …………… …287
مآخذ وملاحظات على نظام الانتخابات الديمقراطية .. …287
المآخذ والمزالق بعد دخول البرلمان وممارسة العمل النيابي
التشريعي …………………………… …303
مزالق مباشرة ………………………… …303
أولاً: القسم على احترام الدستور الجاهلي والتحاكم إليه …303
ثانياً: الاعتراف المتبادل بين النواب على أحقيتهم في
التشريع وسن القوانين ………………… …308
ثالثاً: إقرار النائب على أن الأحكام والتشريعات تؤخذ
بناءً على رغبة وإرادة أكثرية النواب ………… …310
رابعاً: موافقته على مبدأ الاختيار والتصويت …… …312
خامساً: إضفاء الشرعية على الأنظمة الجاهلية …… …314
سادساً: إظهار الموالاة للطواغيت وأنظمتهم …… …318
سابعاً: مشاركته في المجالس التي لا تخلو من الطعن
والاستهزاء بالدين …………………………320
ثامناً: تحمله لأوزار السلطة التنفيذية للحكومات الجاهلية …324
مزالق غير مباشرة ……………………… …330
أولاً: تشويه مفهوم ودلالات شهادة التوحيد …… …330
ثانياً: تغييب مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. …333
ثالثاً: تغييب عقيدة الولاء والبراء …………… …335
رابعاً: تغييب مبدأ الجهاد في سبيل الله ………… …339
خامساً: تفريق كلمة المسلمين وإضعاف شوكتهم .. …342
خلاصة حكم الإسلام في العمل النيابي والنواب … …344
كلام لمحمد قطب في التمثيل النيابي ودخول البرلمانات …348
شروط العمل في الدوائر الحكومية …………… …351
شبهات وردود ……………………... …356
الشبهة الأولى: قصة عمل يوسف عليه السلام عند ملك كافر …356
مقارنة بين واقع وعمل يوسف عليه السلام وبين واقع وعمل
البرلمانيين …………………………… …373
الشبهة الثانية: استدلالهم بالنجاشي ………… …378
الشبهة الثالثة: استدلالهم بحلف الفضول ……… …383
الشبهة الرابعة: استدلالهم بالمصلحة ………… …389
شروط وضوابط العمل بالمصلحة ………….…389
ضوابط العمل بقاعدة أخف الضررين ……… …393
الشبهة الخامسة ……………………… …396
الشبهة السادسة …………………….. …399
الشبهة السابعة: استدلالهم بفتاوى بعض أهل العلم …403
لا يمكن للمسلمين أن يصلوا إلى تحقيق شيء من
أهدافهم عن طريق الديمقراطية …………… …407
ما هو البديل وكيف السبيل ……………. …416
تنبيهات ضرورية …………………… …433
الفهرس …………………………. …437
ويقول أيضا :
بسم الله الرحمن الرحيم
ـ هذه هي الديمقراطية فهل أنتم منتهون ـ
إلى الذين لا يزالون يعتبرون الاختلاف على الديمقراطية هو اختلاف في الوسائل والفرعيات التي لا تمس الأصول والاعتقاد .. !!
…إلى دعاة الترقيع ، والتقميش ، والتوفيق .. !!
…إلى الذين لا يزالون يتذرعون بجهل حقيقة الديمقراطية .. !!
إلى الذين يُلبسون الديمقراطية ـ زوراً وبهتاناً ـ ثوب الشورى والإسلام ..!!
…إلى الذين يرون في الديمقراطية الحل الأمثل لمشكلات الإسلام والمسلمين .. !!
…إلى الذين يروجون للديمقراطية ، ويدعون لها ، ثم يزعمون بعد ذلك أ نهم مسلمون .. !(54/212)
…إلى هؤلاء وغيرهم نقول : الديمقراطية تعني حكم الشعب ، واختيار الشعب ، والاحتكام إلى الشعب ؛ فلا تعلو سيادة الشعب سيادة ، ولا إرادته إرادة بما في ذلك إرادة الله ، التي لا اعتبار لها وليست لها أيَّة قيمة في نظر الديمقراطية والديمقراطيين .. …
…الديمقراطية تعني أن مصدر التشريع والتحليل والتحريم هو الشعب وليس الله ، ويتم ذلك عن طريق اختياره لممثلين ينوبون عنه في مهمة التشريع وسن القوانين ..
…وهذا يعني أن المألوه المعبود المطاع ـ من جهة التشريع ـ هو الإنسان وليس الله جلَّ في علاه .. وهذا مغاير ومناقض لأصول الدين والتوحيد ، يدل على ذلك قوله تعالى : ( إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ) . وقوله تعالى : ( ولا يشرك في حكمه أحدا ) . وقوله تعالى : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله ) . وقوله تعالى :(و إن أطعتموهم إنكم لمشركون ) . أي لأن عبدتموهم من جهة طاعتكم إياهم في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله ، فإنكم لعابدون لهم من دون الله ؛ لأن الشرك لا يطلق في القرآن أو السنة إلا لنوع عبادة تصرف لغير الله عز وجل .
…وكذلك قوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) ، فهم أرباب من دون الله لماَّ اعترفوا لهم بحق التشريع والتحليل والتحريم وسن القوانين من دون الله تعالى .
…الديمقراطية تعني رد أي نزاع أو اختلاف بين الحاكم والمحكوم إلى الشعب ، وليس إلى الله والرسولل .. وهذا مغاير ومناقض لقوله تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ، بينما الديمقراطية تقول : فحكمه إلى الشعب ، وليس غير الشعب .. !
…وقال تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) ، فجعل الله عز وجل من لوازم الإيمان رد النزاع ـ أي نزاع ـ إلى الله والرسولل ؛ أي إلى الكتاب والسنة ..
…الديمقراطية تعني مبدأ حرية الاعتقاد والتدين ؛ فللمرء ـ في حكم الديمقراطية ـ أن يعتقد ما يشاء ، ويتدين بالدين الذي يشاء ، ووقت يشاء ، ولو أراد أن يرتد من الإيمان إلى الكفر والإلحاد فلا راد له ولا مُعيب عليه ..
…أما حكم الإسلام فهو على نقيض ذلك ، وهويتمثل في قول صلى الله عليه وسلم : " من بدل دينه فاقتلوه " ، وليس فاتركوه . وقول صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة .. " ، وقول صلى الله عليه وسلم : " بعثت بين يدي الساعة بالسيف ، حتى يُعبد الله تعالى وحده لا شريك له .. " .
…ومعلوم أن الإسلام انتهى حكمه في أهل الكتاب إلى إحدى ثلاث : إما الإسلام ، وإما الجزية وهم صاغرون ، وإما القتل والقتال . أما عبدة الأوثان من مشركي العرب وغيرهم فليس لهم إلا الإسلام أو القتل والقتال ..
…وكذلك يوم نزول عيسى عليه السلام ـ كما دلت على ذلك السنة ـ فإنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ويسقط الجزية ، ولا يقبل من مخالفيه ـ بما فيهم أهل الكتاب ـ إلا الإسلام ، أو القتل والقتال ..
…على ضوء هذه الحقائق والنصوص ، وغيرها من النصوص الشرعية ذات العلاقة بالمسألة يجب أن يفهم قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) …
…الديمقراطية تعني مبدأ حرية التعبير والإفصاح ، أيَّاً كانت صفة هذا التعبير ؛ ولو كان شتماً لله ولرسوله ، وطعناً في الدين ، إذ لايوجد في الديمقراطية شيء مقدس يحرم الخوض فيه أو التطاول عليه بقبيح القول .. وأي إنكار على ذلك يعني إنكار على النظام الديمقراطي برمته ، ويعني تحجيم الحريات المقدسة في نظر الديمقراطية والديمقراطيين ..
…وهذا عين الكفر في دين الله ؛ إذ لا حرية في الإسلام لكلمة الكفر والشرك ، للكلمة التي تفسد ولا تصلح ، وتدمر ولا تبني ، وتفرق ولا توحد ..
…قال تعالى : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) .
…وقال تعالى:( قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون . لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم).
…وهذه آيات نزلت في نفرٍ قالوا وهم في طريقهم إلى غزوة تبوك عن أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ، ولا أكذب ألسناً ، ولا أجبن عند اللقاء .. فكفروا بذلك بعد أن كانوا مؤمنين .
…وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار " .
…وعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال : قلت يارسول الله ما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ بلسان نفسه ، ثم قال : " هذا " .
…وقا صلى الله عليه وسلم : " من وقاه الله شر ما بين لحييه وشر ما بين فخذيه دخل الجنة "
…وقا صلى الله عليه وسلم : " وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم"
…فأين الديمقراطية من هذا الأدب الرفيع الذي جاء به ديننا الحنيف .. ؟(54/213)
…الديمقراطية ـ يا قوم ـ تعني العلمانية بكل أبعادها ؛ حيث تقوم على مبدأ فصل الدين ـ أي دين ـ عن الدولة والحياة ، فالله تعالى ليس له في نظر الديمقراطية سوى الزوايا ، والمساجد ، والكنائس والمعابد شريطة أن لا يكره أحد على دخول هذه الأماكن ، وما سوى ذلك من جوانب الحياة السياسية والاقتصادية ، والاجتماعية وغيرها فهي ليست من خصوصياته ، وإنما هي من خصوصيات الشعب وحده .. وللشعب كذلك صلاحيات التدخل في شؤون والمساجد لو اقتضت الضرورة ذلك ..
…( فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ) .
…وقال تعالى : ( ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً أليما ) .
…( أولئك هم الكافرون حقاً ) هو حكم كل ديمقراطي علماني يفصل الدين عن الدولة والسياسة ، وشؤون الحياة .. وإن زعم بلسانه ـ ألف مرة ـ أنه من المسلمين المؤمنين .
…الديمقراطية تعني مبدأ الحرية الشخصية للفرد ، فالمرء له ـ في ظل الديمقراطية ـ أن يفعل ما يشاء ، من الموبقات والفواحش والمنكرات .. من غير حسيب ولا رقيب !
…والإباحية التي عرفت بها فرق الزندقة عبر التاريخ ، ماذا تعني غير ذلك .. ؟!
…الديمقراطية تعني أن الذي يختاره الشعب هو الذي يحكم البلاد والعباد ، ولو كان المختار كافراً زنديقاً مرتداً عن دين الله ..
…وهذا مناقض لقوله تعالى : ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً ) .
…وهو كذلك مناقض لإجماع الأمة على أن الكافر لاتجوز له ولاية على المسلمين ولا على بلادهم ..
…الديمقراطية تعني مساواة الناس جميعاً في الحقوق والواجبات ، بغض النظر عن انتمائهم العقدي الديني ، وسيرتهم الذاتية الأخلاقية ؛ حيث أن أكفر وأفجر وأجهل الناس يتساوى مع أتقى وأعلم وأصلح الناس في تقرير أهم القضايا وأخطرها ، وهي من يحكم البلاد والعباد .. !
…وهذا مناقض لقوله تعالى : ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون ) .
…وقال تعالى : ( أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ) .
…وقال تعالى : ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون ) . في دين الله لا يستوون ، بينما في دين الديمقراطية نعم يستوون .. !!
…الديمقراطية تقوم على مبدأ حرية تشكيل التكتلات والأحزاب السياسية وغير السياسية ، أيَّاً كانت عقيدة وأفكار ومناهج هذه الأحزاب ، ومهما كثر تعدادها ، ولها تمام الحرية في نشر كفرها وباطلها وفسادها بين البلاد والعباد ..
…وهذا يعني ـ من منظور الشرع ـ الإقرار طواعية بشرعية وحرية الكفر والشرك ، والارتداد والإفساد .. وهو مناقض لما يجب القيام به نحو الكفر والمنكر من تغيير وإنكار ، كما قال تعالى : ( وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله ) .
…وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " . أي لا مناص من إنكار المنكر وتغييره ولو في القلب عند حصول العجز عن إنكاره باليد أو اللسان ، أما أن يمتد التعامل مع المنكر إلى حد الرضى به أو المطالبة فهو عين الكفر البواح ، وهذا الذي يدل عليه قول صلى الله عليه وسلم : " فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " . أي ليس وراء إنكار القلب سوى الرضى ، والرضى بالكفر كفر ينفي مطلق الإيمان عن صاحبه .
…وكذلك قول صلى الله عليه وسلم في حديث السفينة ، كما في صحيح البخاري وغيره ، وفيه : " فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً " .
…وهذا مثل الديمقراطية ، فهي تقول ـ بكل وقاحة ووضوح ـ : دع للأحزاب حريتها أن تخرق السفينة ليغرقوها بمن فيها من الأنفس والحرمات ، بمعاولهم الهدامة ..
…ثم إذا كان مجرد ترك الأحزاب الباطلة ـ المنكر الأكبر ـ من دون أن ننكر عليها أو نأخذ على أيديها بالزجر والإنكار والمنع مؤداه إلى هلاك المجتمعات بما فيها من المسلمين ، فما يكون القول فيما لو اعترفنا طوعاً بشرعيتها وحريتها في أن تفعل ما تشاء وتريد .. ؟!
…وهو ـ أي الاعتراف بشرعية الأحزاب الباطلة ـ كذلك فإن مؤداه إلى تفريق الأمة ، وإضعاف شوكتها ، وتشتيت ولاءاتها وانتماءاتها في أحزاب شيطانية متناحرة متباغضة ، متنافرة ما أنزل الله بها من سلطان ..
وهذا مناقض لقوله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) . ولقول صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة ، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أ بعد ، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة " .
…الديمقراطية تقوم على مبدأ اعتبار وإقرار موقف ورأي الأكثرية ، مهما كان نوع هذه الأكثرية ، وأيَّاً كان موقف هذه الأكثرية ، هل وافقت الحق أم لا ، فالحق في نظر الديمقراطية والديمقراطيين هو ما تجتمع عليه الأكثرية ولو اجتمعت على الباطل أو الكفر الصريح ..!(54/214)
…بينما الحق المطلق ـ في نظر الإسلام ـ الذي يجب التزامه والعض عليه بالنواجذ ـ ولو فارقك جماهير الناس ـ هو الحق المسطور في الكتاب والسنة . فالحق ما وافق وطابق ما في الكتاب والسنة وإن اجتمعت جماهير الناس على خلاف ذلك ، والباطل ما حكم عليه الكتاب والسنة بالبطلان ولو اجتمعت جماهير الناس على خلاف ذلك . فالحكم لله وحده ، وليس للبشر أو الأكثرية .
…قال تعالى : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) .
…وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن من الأنبياء من لم يصدقه من أمته إلا رجل واحد " . فأين موقع هذا النبي ومعه الرجل الواحد في ميزان أكثرية الديمقراطية ..؟!
…قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لعمرو بن ميمون : جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة ، والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك .
…وقال ابن القيم في أعلام الموقعين : اعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان وحده ، وإن خالفه أهل الأرض . انتهى .
الديمقراطية تقوم على مبدأ الاختيار والتصويت ، حيث كل شيء مهما سمت قداسته أو قلَّت يجب أن يخضع لعملية التصويت والاختيار ، ولو كان المصوت عليه هو شرع الله سبحانه وتعالى ..
…وهذا مناقض للخضوع والانقياد ، والاستسلام التام ، والرضى المنافي لأدنى تعقيب أو تقديم أو اعتراض ، الذي يجب على العبد نحو ربه سبحانه وتعالى ، والذي لا يستقيم للعبد دين ولا إيمان إلا بذلك ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم . يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) .
…فإذا كان مجرد رفع الصوت فوق صوت صلى الله عليه وسلم مؤداه إلى حبوط الأعمال ، ولا يحبط الأعمال إلا الكفر والشرك ، فما يكون القول فيمن يرفع حكمه أو قوله فوق حكم وقول صلى الله عليه وسلم ، لا شك أنه أولى في الكفر والارتداد ، وأن يحبط عمله كل عمله ..
…وقال تعالى : ( ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) .
…بينما الديمقراطية تقول : نعم لهم أن يختاروا وأن يعقبوا ، ويرفضوا ..!!
…وقال تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ) .
…الديمقراطية تقوم على نظرية أن المالك الحقيقي للمال هو الإنسان ؛ وبالتالي فله أن يكتسب المال بالطرق التي يشاء ، كما ينفق ماله بالطرق التي يشاء ويهوى ، وإن كانت هذه الطرق محرمة ومحظورة في دين الله ، وهذا مايسمونه بالنظام الرأسمالي الحر ..
وهذا بخلاف ما عليه الإسلام الذي يقرر أن المالك الحقيقي للمال هو الله سبحانه وتعالى ، وأن الإنسان مستخلف عليه ، وهو مسؤول عنه أمام الله تعالى : كيف اكتسبه ، وفيما أنفقه ..
…فالإنسان في الإسلام كما ليس له أن يكسب ماله بالحرام والطرق غير المشروعة ، كالربا ، والرشوة ، والسحت والمتاجرة فيما هو حرام وغير ذلك ، كذلك لا يجوز له أن ينفق ماله في الحرام والطرق الغير مشروعة ، بل إن الإنسان في الإسلام لا يملك نفسه في أن يفعل بها ما يشاء بعيداً عن هدي الإسلام ؛ لذلك عُدَّ إنزال الضرر في النفس والانتحار من أكبر الكبائر التي يجازي الله عليها بالعذاب الأليم ، وهذا المعنى نجده في قوله تعالى : ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ) . وقال تعالى : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتُلون ويُقتَلون ) . وهذا شراء ما يملك سبحانه وتعالى ـ خاص بالمؤمنين ـ إمعاناً في الكرم والجود والفضل ، وترغيباً بالجهاد والاستشهاد .
…وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعزي أحداً في مصابه ، يقول له : " إن لله ما أخذ ، وله ما أعطى " . وبالتالي ليس للإنسان أن يعترض على أخذ شيء منه هو لا يملكه ، وإنما ملكه لغيره ؛ وهو الله سبحانه وتعالى .
…هذه هي الديمقراطية باختصار …
…وبناء على ما تقدم : فإننا نقول جازمين غير مترددين ولا شاكين في أن الديمقراطية حكمها في دين الله تعالى هو الكفر البواح الذي لا يخفى إلا على كل أعمى البصر والبصيرة . وأن من اعتقدها ، أو دعى إليها ، أو أقرها ورضيها ، أو حسَّنها ـ على الأسس والمبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية الآنفة الذكر ـ من غير مانع شرعي معتبر ، فهو كافر مرتد عن دينه وإن تسمى بأسماء المسلمين ، وزعم زوراً أنه من المسلمين المؤمنين ، فالإسلام وحال هذا وصفه لا يجتمعان في دين الله أبداً .(54/215)
…أما من كان يقول بالديمقراطية جاهلاً للمعاني والأسس والمبادئ ـ الآنفة الذكر ـ التي تقوم عليها الديمقراطية ، فمثل هذا نرى الإمساك عن تكفيره بعينه ، مع بقاء القول بكفر قوله ، إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية التي تبين له كفر الديمقراطية ، ومناقضتها لدين الله تعالى ، لأن الديمقراطية من المصطلحات والمفاهيم المستحدثة والمشكلة على كثير من الناس ، التي يمكن أن يعذر فيها بالجهل إلى أن تقوم الحجة الشرعية التي بها يندفع جهل الجاهل .
…وكذلك الذي يقول بالديمقراطية وهو لا يريد المعاني والأسس الآنفة الذكر ، وإنما يستخدمها كمصطلح يريد بها الشورى ، أو حرية التعبير والإفصاح عن الكلمة البناءة ، أو رفع القيود والرقابة التي تمنع الناس من ممارسة حقوقهم الشرعية والأساسية في الحياة ، وغير ذلك من التأويلات والتفسيرات الفاسدة التي لا تحتملها الديمقراطية أساساً ، فمثل هذا ـ رغم خطئه ـ إلا أنه لا يكفر ، ولا ينبغي أن يُكفَّر .. هذا ما يقتضيه العدل والإنصاف، وتلزم به قواعد الدين وأصوله.
…أما حكم الإسلام في العمل النيابي والنواب ، فإننا نقول : إن العمل النيابي ـ للمزالق العقدية والشرعية التي لا يمكن تفاديها ـ هو كفر بواح بدين الله تعالى ، ولا يجوز القول بخلاف ذلك .
…أما النواب أنفسهم الذين سلكوا هذا النفق المظلم ، فإننا نقول فيهم : من غلبت منهم شبها ته ، وتأويلاته ، وأدلته ، مزالقه وأخطاءه ، فمثل هذا نرى فيه أن يمسك عن تكفيره بعينه ـ مع بقاء القول بكفر فعله ومسلكه ـ إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية التي تدفع عنه ما وقع فيه من مخالفات وجهالات ..
…أما من غلبت مزالقه وأخطاؤه ، شبهاته وتأويلاته وأدلته ، فمثل هذا ، القول فيه : أنه يكفر بعينه لانتفاء موانع التكفير عنه ، وتحقق شروطه فيه ، والله تعالى أعلم .
…هذه هي الديمقراطية ، وهذا هو حكمها ، وحكم القائل والعامل بها .. فهل أنتم منتهون ، فهل أنتم منتهون .. ؟؟
اللهم إني قد بلَّغت فاشهد .
11/ 2/ 1999 0 عبد المنعم مصطفى حليمة
أبو بصير
ويقول العلامة أبو قتادة فك الله أسره في كتابه مقالات بين منهجين :
العبودية والصراع
" ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي في قلبي، وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة"
ابن تيمية
حقيقة الصراع
كيف صور القرآن الكريم معركة الحق مع الباطل؟ يعتري هذا البحث تصورات ومفاهيم تحتاج إلى تجلية وبيان، إلا أنه ما يلزمنا هنا أن نستطلع الحق القرآني ليرشدنا في كشف (المنهزمين ) أمام الباطل، وكيف دخل في روعهم روع الباطل فاستحكم تلبيسه عليهم فظنوه شيئا يستحق الخوف والتقوى، فصار كل جهدهم قائم في ترضية الباطل وطلب الرخصة منه في مزاولة حقهم - إن كان لديهم حق -، وصاروا يرددون مع أهل الجاهلية أن كافة أوراق القضية في يد البيت الأبيض حينا، وفي أدراج قصر الإليزيه حينا آخر، وفي أروقة السياسة الإنجليزية حينا آخر، فهم على الدوام كرويبضة الأرض؟ لا يقر قرارها في السعي المكوكي عند هؤلاء الطواغيت وغيرهم ليشرحوا لهم صورة (إسلام ) الاستسلام، وديمقراطية الإسلام، وسلامة الإسلام من أن يفكر بالعداء لهم، أو التحرش بهم، ولعل المراقب (ضعيف النظر) يستطيع أن يلاحظ هذا الكم من الندوات والمؤتمرات التي تعقد في بلاد الردة، وفي بلاد الغرب تحت عنوان "علاقة الإسلام بالغرب". وهذه الندوات كلها تدور في فلك الفتوى العصرية التي يسعى من أجلها الغرب في ترويض الإسلام، وإزالة عوارض وموانع الغزو الحضاري الغربي بأبعاده الفكرية الكافرة، وبما تحمل من حِمل أخلاقي يدعو إلى الحرية والإباحية، وكذلك من حمل سياسي في ترويج الديمقراطية المزعومة، هذه الندوات واللقاءات والمؤتمرات شهد بعض الاخوة صورها في بريطانيا تحت عنوان "علاقة الإسلام بالغرب. علاقة تعاون أم تصادم؟". أو قريباً من هذا العنوان. كان شعار المؤتمر يحمل مضمونه، حين دمج الشعار صورة المئذنة (الإسلامية المزعومة) ودولاب حركة التقدم الفيزيائي (الغربي)، وهو شعار يثير في النفس مجموعة من التساؤلات والملاحظات المصاحبة للغضب، وأبرز هذه الملاحظات تلك الانحرافات التي نحن بصددها، وهي حالة الانهزام الكبرى التي يعيشها تيار (الإسلام الغربي المنحرف)، فهم لا يرون في الإسلام إلا قيما روحية (بالمفهوم الكنسي)، وأما عجلة الحياة فالذي يفرزها الغرب (الحضاري!!) فحق الإسلام في عقول هؤلاء القوم هو المسحد، ولقيصر بعد ذلك كل شيء، وقد يستغرب بعض الاخوة من هذا الاتهام الذي نوجهه لهذا التيار الإسلامي الضال، ولكن المنصف يستطيع أن يدرك هذا من رؤيته السقف الأعلى من المطالب التي يريدها هذا التيار المنحرف.(54/216)
إن هذا التيار المنحرف، يحصر دوره في الإصلاح الاجتماعي فقط، فهو بما يحمل من مفاهيم (الكنيسة = إسلامية) قادر على منع الجريمة في المجتمعات، ويقضي على مظاهر الفساد فيها، وكل هذا حق، لكنه يطرح هذه البرامج من خلال مظلة الجاهلية الحاكمة، فقد سقطت من أذهان هذا التيار المقولة المكذوبة أننا نريد أن نصل إلى الحكم لنعيد الحق إلى صاحبه (الله ) سبحانه وتعالى، وصار عامة ما يردد هذا التيار المنحرف الطلب من الجاهلية أن تأذن له ليقضي على ما يعيق التنمية تحت مظلة الجاهلية.
ومن نازعنا في هذه الأحكام فهو بلا شك ليس ضعيف النظر في المراقبة، بل أعمى البصيرة مع فقدان قوة الإدراك كذلك.
وأما المسألة الأخرى التي تستوقفنا في هذا المؤتمر، فهو ما قاله أحد رواد هذا التيار المنحرف راشد الغنوشي عند دعوته إلى انخراط الشباب المسلم في أوربا في داخل المجتمعات، وعدم وضع الفواصل المعارضة لهذا الاندماج، بل ذهب أكثر من هذا، حين صور الغرب صورة حضارية إنسانية سامقة، وجعلها الحاملة لمشعل التفكير العلمي المتألق، وأما شبابنا الإسلامي في أوروبا، فما زالت عالقة في ذهنه قيم الانحطاط التي يحملها، إرثا تاريخيا ضربة لازب.
وإن شئت المزيد فانظر إلى بعض شباب هذا التيار المنحرف وعملهم في مؤسسة مقرها بريطانيا شعارها "مؤسسة نشر الديمقراطية في العالم ". أو قريبا من هذا العنوان، ترى القائمين عليه من الشباب من العالم الإسلامي هم شباب "الإخوان المسلمين" ومن هؤلاء بعض الشباب الذي تجرأ في نقد حركة الإخوان المسلمين (وهو منها) بأنها ما زالت معوقة في دخولها في الفهم الديمقراطي، واعتبر أن سبب هذه الإعاقة كونها متأثرة بفكر سيد قطب (المتكلس ) أي (المتجمد)، فهذا التيار بما فيه من عوامل الانهزامية وصلت الدعوات فيه إلى تسمية القيود الشرعية: بالعوائق التي تمنع تقدم مسيرة الحركة بأن تصبح حزبا سياسيا كحزب الخضر (حزب يدعو فقط إلى الحفاظ على البيئة من التلوث والتخريب)، وذهب هؤلاء الشباب إلى تبني إمامة حسن الترابي (إمام هذا التيار - أو كما يحلو أن يسمى نفسه "ليبرالي حر").
وصورة أخرى من ممارسات هذا التيار: هناك محاولة إسلامية !! قامت في أوروبا بإخراج مجلة تطرح التفكير الإسلامي الأصولي!! بثوب إنساني عصري متطور، وإذا أردت أن تعرف ما تحمل من أفكار انهزامية فانظر إلى عنوانها "الإنسان " ومن أبحاثها الأولى في عددها الأول: محاولة لقراءة تجربة محمد علي الألباني. الذي حكم مصر في بداية القرن الماضي، والذي أجمع أهل العقول الإسلامية أنه رائد الكفر العصري في الدول الإسلامية، إذ أنه أول "من دفع أهل الإسلام إلى حضن الجاهلية عن طريق الابتعاث، واستيراد النظم الدستورية الأوروبية (اقرأ ملزما: "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" لمحمود شاكر، وهى في صدر كتابه ""المتنبي")، هذا الكاتب في مجلة "الإنسان" يجعل تجربة محمد على تجربة إسلامية حضارية لم تأخذ أبعادها.(54/217)
حين نتحدّث عن حركات الجهاد في العالم الإسلامي، فإنّنا نقصد تلك التّجمّعات والتّنظيمات التي قامت من أجل إسقاط الأنظمة الطّاغوتية الكافرة في بلاد الردّة، وإحياء الحكومة الإسلاميّة التي تقوم على تجميع الأمّة تحت راية الخلافة الإسلامية، وبعيداً مؤقّتاً عن الحديث عن التّوصيف الشرعيّ للواقع الذي تعيشه دار الرّدة التي قامت على أنقاض دولة الخلافة، فإنّنا نبدأ ببيان قرب بعض الجماعات من هذه الجماعات الجهاديّة، حيث نرى تجمّعات وتنظيمات لا نستطيع أن ندخلها في الحديث عن حركة الجهاد بهذا المفهوم الذي تقدّم، لأنّ هذه التّجمّعات يغلب عليها طابع عمل الحسبة، فهي تزاول أعمال الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في داخل المجتمعات، وليس لها من تطلّع واضح كما يظهر من أدبيّات الجماعات في إقامة دولة الخلافة، وطبيعة عمل الحسبة يقوم على الاهتمام بما هو داخل المجتمعات من معاصي، فهذا رجل يشرب الخمر، وهذه امرأة سافرة، وصور أخرى كثرت في مجتمعاتنا، فتقوم هذه الجماعات بواجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بمرتبته المتقدّمة من التّغيير باليد، وعلى ضوء هذا العمل الشّرعي تسارع الدولة المرتدّة في ملاحقة هذه التّجمّعات، وإقامة القوانين الوضعيّة عليهم، وحينئذٍ قد يتأزّم الصّراع بين الدّولة وهذا التّجمّع، فتبدو للنّاظر من بعيد كصورة تغيير شامل لهذه الدّولة، لكن قد يظهر عدم الوضوح عند هذه الجماعة حين تبدأ عمليّة شدّ الحبل بينهم وبين الدّولة، فقد يعلن بعض قيادات هذه الجماعات بأنّه لو فتحت لهم الدّولة العمل داخل المساجد، أو سمحت لهم بالعمل الدّعويّ فقد يخفّفوا الوطأة في صراعهم مع هذه الدّولة، وللأسف كثيراً جدّاً ما نرى بعض المناظرات بين ممثل الدولة المرتدّة وبين هذه الجماعات تقوم على الخلاف في مشروعيّة التّغيير باليد لآحاد الرّعيّة، وهذا الأمر يكون خطاباً وخلافاً بين دولة مسلمة ورعاياها من المسلمين، وليس بين دولة كافرة مرتدّة وبين جماعة تسعى لقلبها وتغييرها، ولكنّ هذا لا يمنع هذه الحركات من التّقدّم إلى موضع أماميّ في هذا الصّراع، وهو الموضوع المطلوب وذلك بتبيّن حقيقة الصّراع بين الحركة الجهاديّة التي تقدّم وصفها وبين هذه الدّولة المرتدّة، وهذا التّقدّم يتمّ عادة باحتكاكها خلال مسيرتها بتجمّعات جهاديّة واضحة المعالم أو بسبب ظروف خاصّة فتقترب هذه الجماعات من مفهوم حركة الجهاد الصّحيح، وممّا ينبغي التّأكيد عليه وهو مهمّ جدّاً الاهتمام به وعدم نسيانه أو تغافله وهو أنّ حركات الجهاد ليست هي التي تحمل السّلاح أو هي التي تؤمن بحمل السّلاح فقط فهذا خطأ منتشر بين كثير من الشّباب الجهادي لأنّ حركة الجهاد هي الحركة الشّموليّة الحضاريّة، المنبثقة من مفهوم التّوحيد الصّحيح بشقّيه توحيد العبادة وتوحيد الاتّباع، وهي التي تحمل بعداً تاريخيّاً في فهمها بكبوات أمّتنا الفكريّة والنّفسيّة وتملك الرؤية المستقبليّة لعالم يسوده الإسلام بشمول عطائه، الظّاهريّ والباطني، وباستغراق أحكامه الكبيرة والعامّة ولذلك ليس من المقبول أبداً من حركات الجهاد (الأمل) أن لا تهتمّ بجانب التّوحيد من جميع جوانبه لأنّنا نرى حركات جهاديّة نشأت في واقع فيه شرك النّسك من عبادة القبور والقباب، ولم يظهر شيء من أدبيّات هذه الجماعة يشير إلى هذا الشّرك من قريب أو بعيد، وكأنّ هذا الأمر لا يعنيهم، كذلك تكون هذه الجماعات قد نشأت في مجتمعات غلب عليها التّعصّب المذهبيّ المقيت للمذاهب والطّرق، فلا ترفع لهذه الأمور رأساً، وكأنّ هذه الحركات هي حركات سياسيّة لكنّها اتّخذت حمل السّلاح وسيلة من وسائل العمل السّياسيّ.
إنّ هذه الطّروحات في معالجة الإرث التّاريخيّ السّيّء لأمّتنا ومجتمعنا ضروريّة جداً لحركات الجهاد، لأنّها تصبغ هذه الحركات بالبعد الشّرعيّ الذي يقرّبها من جيل الصّحابة رضي الله عنه.(54/218)
إنّ الحركة الجهاديّة الأمل هي حركة سلفيّة التّصوّر والرّؤى، سلفيّة المنهج والطّريق، بريئة كلّ البراءة من الإرث المنحرف في فكر الأشاعرة، والماترديّة، سليمة كلّ السّلامة من آثار المنهج الصّوفي الضّال، لا تنتسب إلى أيّ مذهب وطريق إلاّ طريق الكتاب و السّنّة، بصيرة بحال أهل زمانها، تصبغ أعمالها بالبعد التّعبّديّ لحركة الصّحابيّ الأول في الأرض، إذا عرفنا هذا تبيّن لنا أنّ حركات الجهاد في العالم الإسلامي لم تصل إلى الأمل المنشود ولكنّها إن شاء الله تشدّ الخطى نحوه، وقد رأينا إذا طال الزّمن في مسيرة الحركات أن تتبيّن المسالب والأخطاء أكثر، فالحركة الجهاديّة في سوريّا كانت مليئة بمثالب وأخطاء الإخوان المسلمين وقد حاول قادتها - رحمهم الله - أن يصحّحوا المسيرة خلال الأزمة فلم يدركهم الوقت، بل إنّهم وقعوا في حفرة الارتباط بجماعة الإخوان المسلمين، فلم يخرجوا عن شعارهم بل تسمّوا باسم الطّليعة المقاتلة للإخوان المسلمين، وبرّروا ذلك أنّ هذا للوفاء للرّجال الذين أناروا لهم الطّريق بدمائهم أمثال سيّد قطب وعبد القادر عودة ومحمّد فرغلي وغيرهم، لكن ليس هذا الأمر ممّا يمكن أن يقع لولا عدم الوضوح بهذه الأمور التي سبق ذكرها من شروط حركة الجهاد الأمل.
نعم إنّ الحركة الجهاديّة تتنامى بفكرها ومنهجها (فقد كانت بعض الجماعات تطلق على العمل السّريّ أنّه بدعة معاصرة)، وتكتسب كلّ يوم مواقع جديدة، وخلال الطّريق سيتساقط الذين يصرّون على الوقوف بدون تقدّم، كما توقّفت الحركات الإسلاميّة عموماً في التّقدّم نحو الأفضل، ومن الأمثلة الصّريحة على ذلك صنيع الإخوان المسلمين، فقد كان سيد قطب رحمه الله تعالى هو النّتيجة الجيّدة، والموقع المتقدّم بعد حسن البنّا، لكنّ الجماعة بقادتها الجدد كانت أصغر من هذا الموقع، فأبت التّنامي معه، ووقفت حيث هي، والحركة السّلفيّة كذلك، فها هو سفر الحوالي ومعه سلمان العودة يمثّلان الموقع المتقدّم لحركة الإحياء في الجزيرة العربيّة، ولكنّ الكثير من مشايخ حركة الإحياء الأولى يأبون الإقدام الصّحيح، وتشدّهم مواقعهم الأولى، وممّا يؤسف له أنّ القبول لهذا الإقدام يكون في أغلبه من خارج هذه الحركات، مع استجابة الكثيرين الّذين لا يكونون حول المركز في هذه الجماعات، وحركات التّصادم مع الطّواغيت سيقع فيها ما وقع في هذه الحركات، فسيصبح دور هؤلاء القدماء هو البحث عن الأدلّة في تمرير قول المتقدّمين، وهي نفس الحفرة التي وقعت فيها أمّتنا من اتباع الأئمّة، بالقيام بدور الشّارح لكلام الإمام، ثمّ اختصار الشّرح، ثمّ التّعليق والتّهميش وهكذا تبقى الدائرة حول مركز الشّيخ، أو حول دائرة المؤسّس.
وبقي أمر آخر بالنّسبة لهذه الحركات (الجهاديّة) ، وهو أنّ هذه الحركات كما تعتمد على شموليّة الموضوع والنّظرة، فينبغي لها وجوباً أن تنظر إلى شموليّة المكان واتّساعه، وأقصد بهذا أنّه قد تفتح أماكن جديدة للجهاد في غير بلدها، وهذا المكان إمّا أن يكون وصفه مكان إعداد فقط، أو يكون الأمل فيه بتحقيق الهدف المرجوّ أكبر من غيره، حينئذٍ على الحركة الجهاديّة أن تنظر لنفسها كوحدة واحدة، ولأنّ طبيعة الصّراع هو معركة، فالقائد هو الذي استطاع أن يحقّق هذه المكاسب، أو أن يستفيد من الظّرف الذي وقع له، وعلى الآخر إن كان قديماً في وجوده أن يلتحق بهذا الأمل الجديد، وأن يسانده، بل إذا امتدّ الأمر وأخذ بعده المطلوب وجب عليه أن يكون جنديّاً لهذا القائد الجديد، وعليه أن لا يأتي ليقول للنّاس: أنا الأوّل، أنا السّابق، فالمسألة ليست للسّابق بمقدار حصول الفضل الإلهيّ لأحدٍ حصل له مقدّمات مساعدة لم تحصل لغيره.
ومن هنا يتبيّن لنا أنّ الحركات الجهاديّة كما أنّها هي المتقدّمة عن غيرها في فهمها لدين الله تعالى، وهي الأمل إن شاء الله تعالى، إلاّ أنّ سنّة الله تعالى لا تحابي أحداً، فحيث حصل الإيمان حصل النّصر، وحيث تخلّف الإيمان الواجب فليس لأحدٍ أن يلوم إلاّ نفسه.
جذور حركات الجهاد السّلفيّة في العالم الإسلاميّ متشعّبة ومتعدّدة، ولا تعود إلى جهة واحدة، وليس هناك من أحد يستطيع أن يزعم أنّه صاحبها، ومن قدر الله تعالى الحسن لهذه الأمّة المحمّديّة أنّ البلاد التي حكمها الإسلام قلّما تجد بلداً يخلو من وجود حركة جهاديّة قامت من أجل قتال الطّواغيت المرتدّين منذ عشرات السّنين، ولكنّ عدم التّواصل بين هذه الحركات، ثمّ ما يعقب عدم التّواصل من عدم استفادة الواحد من الآخر، هو الذي يجعل الحركات الإسلاميّة وكأنّها تعيش مرحلة طفوليّة في كلّ أدوارها.
وجود هذه الحركات الجهاديّة القتاليّة المنبثقة من تصوّرات ومفاهيم السّلف الصّالح يجعلها أحق النّاس دخولاً في مفهوم الطائفة المنصورة، لأنّ من شروط هذه الطّائفة هو التّواصل وعدم الانقطاع (لا تزال طائفة من أمّتي ...) وإذا أردنا - وهو مطلوب واجب - أن نبحث عن الأسس الشّرعيّة التي تدفع هذه الحركات للنّشوء والعمل في داخل مجتمعات الإسلام قبل غيرها، لوجدنا أنّ هذه الحركات تعتمد على القواعد التّالية:(54/219)
1 - أنّ الديار التي يعيشها المسلمون، وكانت قبل دار إسلام وأمان، قد انقلبت إلى دار كفر وردّة، لأنّها حكمت من قبل المرتدّين، ولأنّ الكفر قد بسط سلطانه عليها من خلال أحكامه ودساتيره، وأدلّة كفر هذه الطّوائف وردّتها هو الذي سنبحث عنه فيما يأتي من مقالات، وممّا ينبغي الإشارة إليه لأهميّته في هذا الموطن هو:
أ - حين نقول عن الدّيار هي ديار كفر وردّة، فليس يعني هذا من قريب أو بعيد حكماً على أهلها، فلسنا نقول بقول بعض فرق الخوارج أنّه إذا كفر الحاكم كفرت الرّعيّة، نعوذ بالله من الضّلال، وأمّا أقسام النّاس في هذه الدّيار فهم:
- مسلمون، وهؤلاء من علم إسلامه واشتهر، أو من قام بأعمال الإسلام الدّالّة عليه كتشهّده أو صلاته أو تسميته على الذّبيحة، لقول صلى الله عليه وسلم : ((من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذاكم المسلم الذي له ذمّة الله، وذمّة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمّته)) رواه البخاريّ عن أنس. وهذا كلّه بشرط عدم الإتيان بناقض من نواقض التّوحيد.
- كفّار أصليّون، أو مرتدّون، فالأصليّون كالنّصارى واليهود والمجوس وغيرهم، والمرتدون من دان من المسلمين بغير دين الإسلام كالبعثيّة والعلمانيّة والشّيوعيّة وغيرها، أو من أتى بناقض من نواقض التّوحيد، كسبِّ الله أو سبِّ الرسول أو ترك الصّلاة على الصّحيح من قوليْ أهل العلم، ومن هذا الباب لا يقال للكافر الأصليّ من يهود ونصارى أهل ذمّة، لأنّ أهل الذمّة في مصطلح أهل الفقه والدّين هم الكفّار الذين دخلوا بأمان المسلمين في دار الإسلام، وأمّا إذا عدمت دار الإسلام فليس لهم ذمّة وعهد، بل هم كفّار حربيّون.
- أمّا مستور الحال من المسلمين، وهو من علم إسلامه بنسك من نسك المسلمين الدّالّ عليه كما تقدّم، ولم يعلم إنكاره لحكم المرتدّين، فهذا مسلم صحيح الإسلام ولا يتوقّف في شأنه، لأنّ من درجات الإنكار التي رضيها الشّارع للمسلم هو الإنكار بالقلب لحديث: ((من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم عن أبي سعيد. فاحتمال وجود الإنكار في القلب، وعدم متابعة الكافرين والرّضا عنهم يوجب على المسلم أن يحكم بإسلامه للدّليل الدّالّ عليه، وللبراءة الأصليّة واستصحاب الحال، وهذا فارق بين أهل السّنّة وبين جماعات التّوقّف والتّبيّن، فإنّ هؤلاء يحكمون على مستور الحال بالتوقّف في أمره حتّى يتبيّن لهم حاله، وعلى هذا فلا يتوقّف في أئمّة المساجد والمصلّين إلاّ إذا اشتهر إمام مسجد ما، بالشّرك مثل عبادة القبور وموالاة المرتدّين وغيرها من النّواقض. أمّا مجهول الحال ممّن لم يعرف منه شيء يدلّ على إسلامه، ولم يعرفه الشّخص الذي يريد أن يتعامل معه كأن يناكحه، فالأولى حينئذٍ سؤاله عن دينه، وسؤال الآخرين عنه ليتوثّق من كونه مسلماً، لئلاّ يكون كافراً أصليّا أو مرتدّاً.
ب - حين نقول عن الطّوائف الحاكمة أنّها طوائف كفر وردّة، فهذا يستدعي منّا أن نعرف الطّائفة من هي؟.
معرفة الطّائفة يعرف من خلال معرفتنا علّة الردّة الحاصلة، فالردّة سببها هو توسيد حقّ الألوهيّة والحاكميّة لغير صاحبها الحقّ، وهو ربّ العالمين، فهذه هي علّة الردّة في هذه الطّوائف، مع أنّ كثيراً من الطّوائف في هذه المجتمعات قد ارتدّت لغير هذا السّبب، كالشّيوعيين والعلمانيين وتاركي الصّلاة، وعبّاد القبور، ولكنّنا هنا نتكلّم عن الطّائفة المالكة للشّوكة والقوّة والمنعة، فعلّة كفر هؤلاء الذي اجتمعوا من أجله وتمالوا عليه هو التّشريع، فالمشرّع الباطل ومقنّن هذا التّشريع والحاكم به وحاميه، والدّاعي له ومزيّنه هم الذين نطلق عليهم "طائفة الردّة".(54/220)
ج- هل حكمنا على الطائفة أنّها طائفة ردّة يستلزم كفر وردّة جميع أفرادها عينا، ثمّ الحكم عليهم بالخلود في جهنّم؟. بحث هذه المسألة متشعّب والأدلّة فيه تحتاج إلى توقّف ودراسة، ,لكم من المعيب حقّاً هو اتّهام من قال بكفرهم عيناً أنّهم من أهل غلوّ وبدعة أو اتّهام الذين يتوقّفون في أعيانهم أنّهم أهل إرجاء وبدعة، فهذه المسألة هي من مسائل التّصوّر، ومن المسائل التي يحتمل فيها الخلاف، وهي تعود إلى مسألة إعمال الموانع، موانع التّكفير في الطّائفة الممتنعة. لا إلى مسألة أنّ الموالاة الظّاهرة لا تكفّر حتّى نتحقّق من وجود الموالاة الباطنة، فصاحب هذا القول هو من غلاة المرجئة كما تقدّم في الحلقات السّابقة، ولا ينفعه احتجاجه بابن خطيب الري - المعروف بالرّازي - فمثل هذا الرّجل لا يحتجّ به في مثل هذا الموطن، وعسى أن ننشط لبسط هذه المسألة في موطن أوسع إن شاء الله تعالى. ولكن هذا لا يمنعنا من الحكم على الكثير من أفرادها بالكفر والردّة لتحقّقنا من امتناع وجود هذه الموانع فيهم، فهؤلاء الذين يتخصّصون بالتّعامل مع الجماعات الإسلاميّة من قوى الأمن في طوائف الردّة، حيث يدرسون الشّريعة دراسة مستوعبة ثمّ يحفظون منها أكثر من الذين يتخرّجون من المعاهد العلميّة كالأزهر أو كلّيّات الشريعة، وهم يفعلون ذلك من أجل مناظرة الإخوة خلال التّحقيق معهم، فلا أدري ما هو المانع الذي يمنع إلحاق وصف الكفر بهم عيناً، وقد يتحقّق البيان وينتشر، فتتمايز الصّفوف، فيعلم كلّ جنديٍّ إنما هو يدافع عن أنظمة الكفر ضدّ جند الإسلام كما حصل في أفغانستان وكما هو الآن الواقع في الجزائر (هذا حسب علمي) فالقول بعدم تكفير أعيان الجند هي مماحكة، وقد يدخل أمر مكفّر آخر في الطّائفة غير ما تقدّم من علّة اجتماعها مثل انتشار سبّ الله والرّسول في هذه الطّائفة، فبعض البلاد قد غلب على جندها سبّ الله أو الرّسول أو دين الإسلام، فهؤلاء كفّار عيناً ولا كرامة.
2 - القاعدة الثّانية: وجوب جهاد هذه الطّوائف، وعدم موالاتها أو نصرتها، فإذا تبيّن لنا أنّ هذه الطّوائف هي طوائف ردّة وكفر، وجب على المسلمين جميعاً - وجوب جهاد الدّفع - أن يقاتلوا هذه الطّوائف حتّى تزول أو تعود إلى الإسلام، وحكم قتال هذه الطوائف هو حكم قتال الدّفع، وهو فرض عين، ولا شرط لوجوبه سوى القدرة، فإذا عدمت القدرة وجب الإعداد، فليس هناك من حال تجيز للمسلم أن يخرج عن هذه الأحكام - جهاد الطّائفة أو الإعداد لهذا الجهاد - مع التّنبيه أنّ القدرة هي شرط وجوب لا شرط صحّة، فمن قاتلهم وقد أيقن بهلاكه وعدم حصول الغلبة فهو مجاهد مأجور غير مأزور، فإن عدمت القدرة على الإعداد وجبت الهجرة، فإن عدم القدرة عليها وجبت العزلة، وحينها يكون الأمر النّبويّ الماثل في حديث حذيفة - أمين سرّ النّبيّ r - هو الواجب اتّباعه.
هبّات حركة الردّة على أمّتنا ليست جديدة في هذا العصر، وليست هي أوّل مرّة بل هي قديمة قدم الإسلام، ومعالجات الأمّة من علماء وقادة لها واضحة المعالم، دقيقة التّفاصيل، ولكنّ الشّيء الجديد لهذه الظّاهرة في العصر الحديث هي حالة الهروب من المواجهة، ومحاولة التّهوين من شأنها، والتّقليل من خطرها، على الرّغم أنّ هذه الهبّة الجديدة هي أخطر مواجهة أصيب بها الإسلام، ومع وضوح وجلاء هذه الهبّة الجديدة إلاّ أنّ غلبة فكر الإرجاء المنحرف منع مشايخنا من اكتشافها أو استبصارها كما هي بكلّ أبعادها وجذورها، ثمّ غلبة فكر الجبر المنحرف منعت من اكتشف شيئاً منها أن يقوم لها كما ينبغي لها في دين الله تعالى وشرعه، وكما في سنّته سبحانه وتعالى في كونه.
إنّ تسمية طوائف الردّة بهذا الاسم، أو انقلاب الدّار من دار إسلام إلى دار ردّة مبسوط في كتب الفقه بكلّ جرأة ووضوح، فلماذا الهروب من المواجهة؟ ولماذا يتصوّر البعض أنّ ما تقوله حركات الجهاد القتاليّ السّلفيّة ضدّ طوائف الرّدّة هي بدعة من القول وزورا؟.
إنّ الإرهاب الذي يمارسه مشايخ السلطان، ثمّ مشايخ الإرجاء، فعوامّ المسلمين الذين ينعقون كالببّغاوات، هي التي تجعل الكثير يمارس عمليّة دفن الرأس في الرّمل، مخافة الاتهام بعقيدة الخوارج، أو الغلوّ والتّطرّف، حتّى صارت أعظم المكفّرات يوجد لها عند هؤلاء تخريجاً أنّها لا تستلزم كفر المعيّن، فهؤلاء الذين يسبّون الله والرّسول والإسلام في كثير من المجتمعات، ثمّ يوجد من يقول: إنّه لا بدّ من استحلال السّابّ حتّى يكفّر، أو يقول لعلّه جاهل بحكم السّبّ!!.. إلى آخر هذه القائمة، وكأنّ هؤلاء المؤوّلة لا يرون كفراً ينشأ من ردّة وتغيّر دين!!، فكيف يتصوّر من هؤلاء أن يبصروا ما تقوله حركات الجهاد القتاليّ السّلفيّة؟!.(54/221)
وإنّ من آخر ما تفتقت عنه ذهنيّة هؤلاء المبتدعة هو نبذ من يقول بكفر الحكّام المبدّلين لشريعة الرّحمن وطوائفهم بجماعات التّكفير، فحيث ذكر فلان من هؤلاء يقال: هذا تكفيريّ، أو كقول بعضهم بلهجته العامّيّة: المكفّراتيّة، وأنت لو رحت تسأل هذا الجاهل عن معنى هذا اللفظ لما درى بماذا يجيب، ولم يدرِ هؤلاء الجهلة أنّ التّكفير هو شقّ الإسلام الذي لا يصحّ إسلام المرء إلاّ به، إذ أنّ المسلم يبدأ إسلامه بكلمة التّوحيد - لا إله إلاّ الله - وشقّ هذه الكلمة - لا إله - وهو كفر بكلّ الآلهة الباطلة، وكفر بعابديها، وكفرٌ بأوليائها، كما قال سبحانه وتعالى: {فمن يكفر بالطّاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}، فهل الإسلام إلاّ كفر بالطّاغوت وإيمان بالله؟ ثمّ ألا يعلم هؤلاء أنّ عدم تكفير الكافر هو كفر بالله تعالى، وقد وصل الأمر بحال هؤلاء أن يتوقّفوا في كفر اليهود والنّصارى، ويزعمون أنّهم جهلة، فسبحان من قسّم العقول فأضلّ أقواماً، وهدى آخرين.
قلنا إنّ هبّات حركات الردّة على أمّتنا ليست بجديدة، ففي آخر حياة النّبيّ r أطلّ مسيلمة برأسه، وزعم نزول الوحي عليه، فسمّاه رسول ا صلى الله عليه وسلم : مسيلمة الكذّاب، وظهر كذلك مرتدٌّ آخر في حياة النّبي r ، وغلب على أهل اليمن وهو الأسود العنسي، وقام له رجل صالح يسمّى فيروز الدّيلميّ مع جماعة من جند الإسلام وقتلوه في حركة عسكرية انقلابية، وأعادوا اليمن إلى حظيرة الإسلام، أمّا أمر مسيلمة قد امتدّ شأنه، بعد وفاة النّبيّ r ، وشاعت حركة الردّة حتّى عمّ شرّها الجزيرة العربيّة، فزعم قومٌ النّبوّةَ، فتنبّأت سجاح بنت الحارث، ولقيط بن مالك الأزديّ، وتوحّى طليحة (وقيل أنّ طلحة ارتدّ في زمن النّبيّ r فوجّه النّبيّ r ضرار بن الأزور إلى عمّاله على بني أسد في ذلك، وأمرهم بالقيام في ذلك على كلّ من ارتد)، وعاد النّاس إلى ما كانوا عليه من أمر الجاهليّة فتحلّلوا من فروض الشّريعة، فمنهم من تركها جميعها، ومنهم من أنكر الزّكاة، وزعم أنّها تجب للرّسو صلى الله عليه وسلم فقط، وليس لأبي بكر حقّ فيها، ومنهم من أعلن أنّه سيؤدّيها بنفسه، ولن يؤدّيها إلى أبي بكر الصّدّيق، وظنّ ضعاف الإيمان أنّ سيف الإسلام قد قصرت شفرته بوفاة رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فاغتنموا الفرصة للخروج من هذا الدّين، وغلبت الرّدّة على الجزيرة العربيّة، ولم يبق على الإسلام إلاّ مكّة والطّائف وجواثى بالبحرين والمدينة، فعمّت الردّة القبائل والقرى والتّجمّعات، فقام لها أصحاب الرسو صلى الله عليه وسلم حقّ القيام، ونشطوا في صدّها ومنعها، ورفعوا لها رأس الجدّ والجهاد، ورؤي من أبي بكر رضي الله عنه صلابة لم تعهد فيه من قبل، حتّى أنّ الرّسل كانت تأتيه بالأخبار السّيّئة التي يرهب منها الرّجال فما كان منه إلاّ أن يأمر بالمزيد من الحرب والنّار، حتّى قال ضرار بن الأزور: فما رأيت أحداً ليس رسول ا صلى الله عليه وسلم أملأ بحرب شعواء من أبي بكر، فجعلنا نخبره - أي أخبار الشّرّ عن الردّة وعظمها - ولكأنّما نخبره بما له ولا عليه. وكانت وصاياه للجند تدور حول جزّ الرّقاب بلا هوادة أو تباطؤ، حتّى أنّه رضي الله عنه حرّق رجلاً يسمّى إياس بن عبد الله بن عبد يا ليل ويلقّب بالفجاءة، لماّ خدعه في أخذ أموال لجهاد المرتدّين، ثمّ لحق بهم، أو على الصّحيح، صار بها قاطع طريق، ودارت رحى الحرب شاملة كلّ الجزيرة، ولم يجزع أحد من أصحاب رسول الله منها، بل كانوا رجالها وأهلها، حتّى عادت الجزيرة إلى حكم الإسلام وسلطانه.
- كذاك الدّهر دولته سجال……فيوم من مساءة أو سرور
- لبّث قليلاً تأتك الحلائب……يحملن آساداً عليها القاشب
كتائب يتبعها كتائب(54/222)
وفي غفلة من أهل الحقّ وضعفهم غلب قوم من المرتدّين على المغرب، ثمّ على مصر، وهم الإسماعيليّون العبيديّون، فقد تأسّست الدّولة العبيديّة في المغرب، وقوي شأنها، فبدّلو الشّريعة، وغيروا الأحكام، فقام لها جهابذة الإسلام في المغرب من علماء المالكيّة الأفذاذ، فقاتلوهم بلا تردّد، وعندما قام أبو يزيد الخارجيّ، وكان على مذهب الأباظيّة، تردّد بعض النّاس في قتال المرتدّين تحت راية الخوارج، فكان نداء الأئمّة العلماء يوم ذاك: نقاتل تحت راية من آمن بالله ضدّ راية من كفر بالله، نعم قاتلوا تحت راية الخوارج، ضدّ المرتدّين الزّنادقة، ولبس الإمام الجهبذ - حيّة الوادي ربيع القطّان - المصحف في عنقه، وخرج مقاتلاً للمرتدّين حتّى استشهد، وفي تلك الفترة أفرز علماء المالكيّة أصحاب سحنون من الفتاوى العظيمة ما تعدّ غرّة في تاريخ أهل العلم من أمّتنا، وعلم المرتدّون أنّ أرض المغرب ليست بأرض استقرار وهناء، فوجّهوا هاديهم إلى مصر فغلبوا عليها، واستقرّ لهم الحكم في مصر بمساعدة الصّوفيّة الخبيثة التي مهّدت لهم الطّريق، حتّى أنّهم دخلوا الفسطاط بغير حرب وسيف، وبقي أمرهم في مصر إلى ثلاثة عشر متخلّفاً (كما قال السّيوطي)، حتّى جاء صلاح الدّين الأيّوبيّ، وأنقذ مصر من العبيديين، وأعادها إلى سلطان الإسلام، وكان من جرأة علماء المغرب، وصلابتهم في الحقّ أن كفّروا كلّ خطيب خرج على المنبر يخطب لبني عبيد، أو يوهم النّاس أنّهم مسلمون، وهي فتوىً عظيمة الشأن جليلة القدر، أجمع عليها أهل زمانها، ومدحها القاضي عياض المالكيّ، وأشار إليها باحترام الإمام شمس الدّين الذّهبيّ في "سير أعلام النّبلاء"، وقد قمت بتحقيق هذه الفتوى، ودراسة ظرفها، والرّدّ على الشّبه التي سيثيرها الجهلة حولها، والفتوى قد طبعت في ورقات مستقلّة.
وحركات الرّدّة لا تفتأ تطلّ برأسها وتنشئ لها دولا ومعاقلا، فالإسماعليّون أقاموا لأنفسهم دولة في اليمن، وقضى عليها صلاح الدّين، وأقاموا لهم معقلاً خطيراً في قلعة آل موت، وقد اشتهروا باسم الحشّاشين أو الفِداوية، وبقيت مصدر إزعاج وقلق للمسلمين، وكانوا يمارسون طريقة الاغتيال ضدّ خصومهم، فاغتالوا بعض أهل العلم، واستطاعوا أن يقضوا على خليفة من خلفاء بني العبّاس، وحاولوا اغتيال صلاح الدّين فلم يفلحوا، وبقي أمرهم يشتدّ وقلعتهم جدّ منيعة حتى قضى عليها التتار خلال هجومهم على العالم الإسلامي. وليس هذه فحسب بل حركات الردّة التي غزت أمّتنا تحتاج إلى دراسة شاملة، تهيئ قبول المسلم لهذه الظّاهرة، وأنّها ليست بالجديدة، وأنّ معالجات أهل العلم لهذه الظّاهرة ليست بالأمر المحدث الجديد.
إنّ هذه الردّة المعاصرة هي من أخطر ما واجهت الأمّة، وهي عميقة الجذور، متشعّبة الوجود، ومع شدّتها وخطورتها، إلاّ أن القليل من أهل البصيرة أدركها حقّ إدراكها، أو رفع لها رأس الجهاد والاستشهاد، وسبب هذا الجهل بحقيقة هذه الردّة أنّها جاءت على فترة من الجهل بحقيقة التّوحيد، وبحقيقة العبوديّة لربّ العالمين، فخلال عقود طويلة سرت في الأمّة جرثومة الإرجاء الخبيثة، وأختها جرثومة الجبر، وكان معهما الصّوفيّة تغذّيهما بقيح الفكر وصديده، وهي مع ذلك ترتكز عليهما في بثّ تصوّرها الرّذيل عن الكون والحياة، حتّى صارت هذه الأمراض وكأنّها جزء من طريقة تفكير المسلم لا تنفكّ عنه، ولا يعيش إلاّ بها.
والآن كيف استثمرت العلمانيّة (الردّة) فكر الإرجاء وارتكزت عليه؟.(54/223)
على الرّغم أنّ طبقات المرجئة ليست على نسق واحد، وطريقة واحدة، إلاّ أنّها تلتقي جميعاً في عدم إدخال الأعمال البدنيّة في مسمّى الإيمان، فبعضهم يرى أنّ الإيمان هو القول، وبعضهم يرى أنّ الإيمان هو التّصديق القلبي، وآخرون يرون الإيمان هو قول اللسان وتصديق القلب، إلا أنّها جميعها لا تعترف أنّ الأعمال البدنيّة داخلة في مسمّى الإيمان، وترتّبت على ذلك كذلك إرجاء في التّكفير، فهناك إرجاء في مسمّى الإيمان، وإرجاء في التّكفير، وقد ذكرنا طبقات المرجئة، في التّكفير في المقالات المتقدّمة، وقلنا إنّها ثلاث طبقات في التّكفير بالأعمال المكفّرة، فهناك طبقة لا تطلق الكفر على من سمّاه الله كافراً لعمل من الأعمال أو قول من الأقوال مطلقاً، وهؤلاء كفّرهم أهل العلم، وهناك طبقة لا تكفّر بالعمل المكفّر أو القول المكفّر حتّى تتحقّق من وجود الاستحلال والجحد، وهؤلاء كفّرهم بعض أهل العلم كالإمام أحمد - رحمه الله تعالى - كما ذكر شيخ الإسلام في كتابه "الإيمان الكبير"، وهناك الثّالثة: وهي تكفّر من كفّره الله تعالى من الأعمال المكفّرة، وتفسّر كفره بسبب الجحد أو الاستحلال، وتقول إنّه لعلم الله تعالى أنّ هذه الأفعال لا تقع إلاّ من مستحلٍّ أو جاهل فقد كفّره الله تعالى، وواقع المذاهب المتأخّرة التي غلبت على الأمّة، أنّها تبنّت القول الأوّل والثّاني، وقليل من يقول بالقول الثّالث، فأغلب المدارس المذهبيّة على القول الأوّل والثّاني، فالإرجاء لا يعلّق أحكام الإيمان على الأعمال، فالنّاس مسلمون بغضّ النّظر عن أعمالهم، والحكم على الإيمان متعلّق بمسائل التّصديق والتّصوّر، وما من دين على ظهر الأرض سواء كان سماوي الأصل والوضع، أو أرضيّ النّشوء، إلاّ وهو يحمل في داخله شقّين فيما يتعلّق بأتباعه وأصحابه: الأوّل: شقّ يتعلّق بالتّصوّر والتّصديق. والثّاني: شقّ يتعلّق بالأحكام والتّكاليف، فالنّصرانيّة المحرّفة مثلاً، فيها شقّ يتعلّق بالتّصوّر والتّصديق مثل عقيدة الخطيئة والفداء والصّلب، وأمّا الأحكام فهناك بعض الأحكام فيما يخصّ قانون الحرب. إذا ضربك على خدّك الأيمن فأدر له الخدّ الأيسر لكنّها فيما يتعلّق بجملة الأحكام ترتكز على قاعدة "دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، وهي قاعدة تجعل لقيصر الحقّ أن يفرض من الأحكام ما يحبّ ويرضى، وأمّا ما كان لله من أمور التّصوّر وبعض أعمال النّسك كالصّلاة فهي تعود إليه لا لغيره، ولو أخذنا الشيوعية كمثل آخر، فإنّها تحمل في داخلها قضايا تتعلّق بالتّصوّر والتّصديق مثل نفي عالم الغيب، ومنها قضايا تتعلّق بالأحكام والأقضية كالاشتراكيّة في الاقتصاد، والإباحيّة في الاجتماع، والدكتاتوريّة في السّياسة والحكم، ولذلك ففي دين الله تعالى تسمّى الشّيوعيّة ديناً، ولكنّها دين باطل كافر، والنّصرانيّة دين لكنّها دين باطل كافر. ولفظ الدّين قد يطلق على شقّ التّصوّر والتّصديق منفرداً، كما يطلق على شقّ الأحكام والقضاء منفرداً، لكن إن أطلق - أي لفظ الدّين - من غير تقييد كان شاملاً للطّرفين. فالشّيوعيّة دين، والاشتراكية دين، والدّكتاتوريّة دين، وهكذا.. وقد اكتشف مشايخنا، وكذلك أمّتنا أنّ الشّيوعيّة كفر وردّة، وسبب هذا الاكتشاف المبكّر أنّ الشّيوعيّة تعارض قضايا التّصوّر والتّصديق. الشّقّ الأوّل وهو شقّ يعلّق الإرجاء عليه أحكام الإيمان والكفر. فلو سألت سائلاً: لماذا تكفّر الشّيوعيّة؟ لقال لك: لأنّها لا تؤمن بالغيب. ومع ذلك: لمّا اكتشفت الشّيوعيّة أنّها لم تثمر في الأمّة الإسلاميّة لمصادمتها قضايا التّصوّر، فإنّها الآن بدأت تتنازل عنها مقابل نشر قضايا الأحكام والقضاء - الاشتراكية والإباحيّة والدّكتاتورية - ونجحت خطّتهم، فقد توقّف المسلمون ومنهم المشايخ في تكفير الشّيوعيّ، فهذا عدنان سعد الدّين - من الإخوان المسلمين السّوريّين - في لقاء معه مع إحدى الصّحف يعترف بوجود الشّيوعيّ المسلم، وأنّه لا يستطيع أن يكفّر كلّ شيوعيّ، فبعض الشّيوعيين يصلّون الصّلوات الخمس، وكذلك الشّيخ السّلفيّ محمّد بن إبراهيم شقرة - بعد زيارته لموسكو قبل سقوط الشّيوعيّة - اعترف أنّه لا يستطيع أن يكفّر الشّيوعيين لأنّه اكتشف أنّ بعض الشّيوعيين الحمر يصلّون.(54/224)
قلنا: إنّه من السّهل أن يعلّق مشايخنا أحكام الكفر والرّدّة على شقّ التّصوّر والتّصديق (وهو ما يسمّى بالاعتقاد)، لأنّه هو الذي يتعلّق بمسمّى الإيمان عندهم، وعليه فقط يعلّق حكم الكفر كذلك. وأمّا شقّ الأحكام والقضاء، لمّا كان لا يدخل في مسمّى الإيمان عند المرجئة، ولا يعلّق عليه حكم الكفر والردّة، فإنّ من فرض منهجاً يتعلّق بالأحكام والقضاء دون تدخّلٍ في التّصوّر والتّصديق فلن يكفّره أحد، أو يكتشف ردّته إلاّ من برّأه الله تعالى من جرثومة الإرجاء الخبيثة، وعلى هذا لمّا جاءت العلمانيّة - وهي دين - ولم تقترب من قريب أو بعيد في مسائل التّصوّر والتّصديق، بل تركت للنّاس حرّيّة اختيار هذا الشّق، وربّما دعمت اختيارك وساعدتك، فكونك تؤمن بالغيب أو لا تؤمن بالغيب، أو كون الرّجل يصدّق باليوم الآخر أو لا يصدّق، يؤمن بعذاب القبر أو لا يؤمن، كلّ هذه الأمور وغيرها بدءاً من وجود الله تعالى إلى أيّ قضيّة في مجال التّصديق والتّصوّر (الاعتقاد) فإنّ العلمانيّة لا تعارضك في ذلك كلّه، ولكنّها تتدخّل بقوّة فيما يتعلّق بشقّ الأحكام والقضاء، فهي تفرض دينها في السّياسة، وتطرح دين الديموقراطيّة، وهي تفرض دينها في الاجتماع، وتطرح دين الحرّية الاجتماعية، وهي تفرض دينها في الاقتصاد، وتطرح دين الرأسماليّة. فالعلمانيّة دين شامل لكلّ الحياة، كالشّيوعيّة والنّصرانيّة والبوذيّة... الخ. إلاّ أنّها في مسائل التّصوّر والتّصديق تترك للنّاس حرّيّة اختيارهم (لعقائدهم) مع شيء من الهامش لبعض أعمال النّسك، إذا فهمنا هذا أدركنا أنّ العلمانيّة استطاعت تمرير نفسها على أمّتنا لعدم مصادمتها الشّقّ الذي يعلّق عليه المرجئة حكم الإيمان وحكم الكفر، وتبقى مسألتها دائرة في دائرة المعصية فقط، إذ يمكن للرّجل أن يكون علمانيّاً، ولا يقدح في شيءٍ من إسلامه وعقيدته، وقد يكون الرجل ديمقراطيّاً مسلماً، ورأسماليّاً مسلما،... الخ هذه القائمة السوداء. ولا يرى أنّ هناك مصادمة في هذه الثّنائيّة! فمن هو هذا الرّجل الذي يستطيع أن يطلق وصف الكفر على رجل يصوم ويصلّي ويؤمن بالغيب، ويصدّق ببعثة الرسو صلى الله عليه وسلم ويؤمن بأنّ القرآن هو كلام الله، ويبكي إذا ذكرت النّار، ويفتح كلامه بالحمد له والصّلاة وغيرها، ولكنّه يمارس العلمانيّة في شقّ من أحكامها وقضاياها، ويتبنّاها منهج الحياة، كالديمقراطيّة أو الرأسماليّة أو الحريّة الاجتماعية؟ بل من الذي يستطيع أن يكفّر رجلاً يؤمن بعلمانيّة الدّولة على قاعدة اختيار الشّعب لسلطاته الثّلاثة: التّشريعيّة، والقضائيّة، والتّنفيذيّة؟.
ومن هنا استطاعت العلمانيّة - الردّة - أن تبسط سلطانها على المسلمين دون أن تجد اعتراضاً من مرجئة المسلمين، إلاّ اعتراضاً بمقدار تسمية ما يقوم به العلمانيّ من أعمال أنّه عاص لله فقط، ولكنّه لا يخرج من دائرة أهل الإسلام، بل ربّما يردّ عليك المرجئ أنّ هذه المعاصي التي تقترفها الدّولة لا تزيد عن كونها شبيهة بمعصية الحجّاج بن يوسف الثّقفيّ، أو بمعاصي دولة المماليك أو الدّولة العثمانيّة. فدولتنا فيها الخمر وفيها الرّبا وفيها الزّنا وكذلك الدّولة العبّاسيّة والمماليك والعثمانيّة؛ ونحن نقرّ أنّها معاصي وذنوب، ولكن أن يتعلّق بهذه المعاصي كفر وإسلام، فهذا لا يجوز، وهذا الحكم انحرافه كبير في فهم الدّين أوّلاً، وانحراف آخر يوازيه في فهم الواقع الذي أطلق عليه الحكم.
قلنا إنّ الحكم الصّادر عن مجلس الشّعب أو البرلمان لا يسمّى إسلاميّاً وإن كان يلتقي مع الحكم الشّرعيّ في صورته وظاهره، وعلى هذا فلو أنّ مجلس الشّعب قرّر تحريم الخمر على الشّعب فإنّ هذا القرار لا يعدّ إسلاميّاً وإن التقى مع الشّريعة الإسلاميّة في صورة النّهي وتحريم الخمر، وسبب ذلك أنّ الحكم الشّرعيّ لا يكون شرعيّاً إسلاميّاً إلاّ إذا كان تكييفه شرعيّاً إسلاميّاً. وتفصيل ذلك.
حقيقة الحكم الشّرعيّ
إنّ أركان الحكم الشّرعيّ داخلة في تعريفه حيث قال الفقهاء الأصوليّون: إنّ الحكم الشّرعيّ هو: خطاب الله تعالى للمكلّفين بالوضع أو الاختيار أو الطّلب، فأركانه أربعة وهي: الحاكم والمحكوم عليه والمحكوم فيه ونفس الحكم. ا. هـ. المستصفى (1/83). فإذا اختلّ ركن من هذه الأركان لا يسمّى شرعيّاً، والحاكم هنا هو الله تعالى، قال الغزاليّ: أمّا استحقاق نفوذ الحكم فليس إلاّ لمن له الخلق والأمر، فإنّما النّافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلاّ الخالق. ا. هـ. (نفس المرجع السّابق). قال الآمدي شارحاً هذا الأمر: الحكم الشّرعيّ ليس هو نفس الوصف المحكوم عليه بالسّببيّة، بل حكم الشّرع عليه بالسّببيّة. ا. هـ. الإحكام (1/182). وقال الغزالي: فالحكم الشّرعيّ خطاب الشّرع وليس وصفاً للحكم ولا حسن ولا قبيح ولا مدخل للعقل فيه ولا حكم قبل ورود الشّرع. ا. هـ. المستصفى (1/8) وقول الغزالي خطأ من وجه وهو كون الحكم الشّرعيّ لا يدرك حسنه وقبحه إلاّ بالشّرع، بل الصّحيح يدرك حسنه وقبحه بالعقل. وأمّا قوله: "ولا حكم قبل ورود الشّرع" فهو صواب خلافاً للمعتزلة.(54/225)
إذاً الحكم الشّرعيّ ليس هو فقط نفس الحكم أي صورة الحكم، بل هو خطاب الشّارع بهذا الحكم، فمن فعل فعلاً لوجه من الوجوه. غير وجه امتثال الشّريعة الإسلاميّة، فإنّ فعله لا يدخل في مسمّى الحكم الشّرعي، فباذل المال للفقراء والمساكين لا يمكن إدخاله في قوله تعالى: {ويطعمون الطّعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيرا}. لأنّ الله سبحانه وتعالى عقّب بعدها قائلاً: {إنّما نطعمكم لوجه الله} أي أنّهم امتثلوا هذا الأمر لأنّه صادر من الله تعالى، وهم يفعلونه امتثالاً لأمره، ورغبة ممّا عنده، فهؤلاء هم منفّذون للحكم الشّرعيّ، فالحكم الشّرعيّ هو خطاب الله تعالى، وما لم يكن المحكوم منفّذاً الحكم لأنّه أمر الله تعالى فليس هو من النّاجين من عقوبة ترك الأمر أو اقتراف النّهي. والشّارع في دين الله هو السّيّد الحقيقيّ، أي من له حقّ السّيادة على البشر، فهو الخالق لهم وهو الحاكم عليهم، ولذلك من أسماء الله تعالى السّيّد - كما جاء في الحديث الصّحيح - وهو يسمّى كذلك حقّ التأليه، فالإله هو السّيّد، ولا يكون السّيّد مطلقاً حتّى يكون إلهاً حقيقيّاً، ولذلك من مبرّرات اعتقادنا أنّ سيّدنا وإلهنا هو الله، هو اعتقادنا أنّنا ملك له، ولولا هذا الملك الحقيقيّة ما قبلنا سيادته، ومن مقتضيات هذه الملكيّة التي برّرت السّيادة هو إصدار الأوامر التّكليفيّة التي ترتّب عليها إثابة الطّائع ومعاقبة المخالف.
حقيقة البرلمان
المنظومة الدّيمقراطيّة على اختلاف صورها تقوم على إسناد حقّ السّيادة لغير الله، وهذه المنظومة منبعثة من العقيدة العلمانيّة التي ترى أنّ النّاس أحرار في إصدار التّشريعات التي يرونها تناسب عقولهم ومعطيات حياتهم، وقد أفرزت العلمانيّة في الدّول المرتدّة في بلادنا قانوناً أوجب سلوك هذا الطّريق، فالشّقّ السّياسي في العقيدة العلمانيّة يفرض اعتقاد وسلوك المنهج الدّيمقراطيّ الذي يرى إسناد حقّ السّيادة للشّعب، ومعنى السّيادة في المفهوم الدّيمقراطيّ هو نفس معنى السّيادة في الدّين الإسلاميّ، حيث يقول دهاقنة القانون الوضعيّ أنّ السّيادة هي: سلطة عليا مطلقة (لا سلطة فوقها) لها الحقّ في تقييم الأشياء والأفعال، وتقييم الأشياء بتحسينها وتقبيحها وتقييم الأفعال بتحليلها وتحريمها.
والمنظومة العلمانيّة هي التي أعطت البرلمان حقّ إصدار التّشريعات، فأركان الحكم الدّيمقراطي هي نفس أركان الحكم الشّرعي أي الحاكم والمحكوم عليه والمحكوم فيه ونفس الحكم. والحاكم هو السّلطة التي فوّضها الشّعب (كونه الحاكم الأصلي) في إصدار القوانين، فحين يصدر قانون من البرلمان أو مجلس النوّاب أو مجلس الشّعب فإنّه يكتسب قوّته بكونه صادراً من السّيّد الحاكم، فهو حكم شعبيّ برلمانيّ ديمقراطيّ علمانيّ، أي هو في دين الله تعالى حكم شركيّ طاغوتيّ.
وممّا ينبغي التّنبيه الضّروريّ عليه ههنا هو أنّ الأحكام الصّادرة من البرلمان قد اكتسبت قوّتها من طرفين في البرلمان وليس من طرف واحد، هذان الطّرفان هما الأغلبيّة والمعارضة، فالمعارضة وإن عارضت القانون قبل صدوره إلاّ أنّها ملزمة به بعد إقراره بالأغلبيّة، وهي قد أكسبت القانون قوّة بكونها جزءً في البرلمان المشرّع، فعلاقة الأعضاء في البرلمان (أغلبيّة ومعارضة) علاقة تضامنيّة، فلولا وجود المعارضة لن يكتسب القانون قوّته في المفهوم الدّيمقراطيّ، فالإسلاميّون وإن زعموا المعارضة في البرلمان فهم جزء من المشرّع، والقانون يصدر باسمهم كما يصدر باسم الأغلبيّة المؤيّدة، وهم شركاء في إصدار القرار واكتسابه القوّة الدّستوريّة ليكون شرعيّاً دستوريّاً قانونيّاً، صادراً من الشّعب صاحب السّيادة، فلو صدر قانون إباحة الخمر للنّاس فالإسلاميّون - المعارضة - وغيرهم هم أصدروا هذا القانون كما أصدره الأغلبيّة الموافقة لأنّ علاقة القانون بهم واحدة بعد صدور القانون وإن اختلفت مواقفهما قبل إقرار القانون.
ولو صدر قانون حرمة الخمر للنّاس فلا يجوز أن يقال أنّ الحكومة قد قرّرت تطبيق الحكم الشّرعيّ، لفقده التكييف الشّرعي كما قدّمنا.
العلمانيّون يفهمون هذه المعادلة، فهل حقّاً يجهلها المسلمون الدّيمقراطيّون؟.
إبعاد الحكم الشّرعيّ في الحكم والقضاء مرّ في مراحل متعدّدة، ولا نستطيع في مثل هذه المقالات السّريعة أن نحيط بها إحاطة تامّة ولكن الملاحظ بوضوح هي القضيّة التّالية:(54/226)
كان الأوائل من دعاة العلمانيّة - فصل الدّين الإسلامي عن الحكم والقضاء - يؤطّرون لنظريّتهم من خلال المصادر الشّرعيّة، فعلي عبد الرزّاق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" اعتمد في رؤيته هذا الفصل على مجموعة رؤى ذاتيّة أسقطها على الكتاب والسّنّة والحقبة النّبويّة والفترة الرّاشدة، فهو ادّعى أنّ الإسلام لا يوجد فيه سلطة زمانيّة تتمثّل بالخلافة والملك والسّلطان، واستدلّ على هذا بالكتاب والسنّة نفسها، فعلي عبد الرّزّاق ومجموعة أخرى تلته في هذا المضمار كانت تقنّن لهذه الرّؤية الكفرية من النّصوص الشّرعيّة، وفعلوا ذلك لعلمهم أنّ أيّ إحلال لغير حكم الله تعالى في هذه المسألة في ذلك الوقت لن يكون مقبولاً بحال من الأحوال، وعلى جميع المستويات، ولمّا صار أمر هذا الفصل حقيقة واقعة، وأينعت ثماره في المجتمعات المتحوّلة قد بدأ العلمانيّون في طرح قضيّتهم على صيغتها الصّحيحة، هذه الصّورة لا تبحث في إشكاليّة فهم الإسلام بنصوصه لهذه القضيّة - علاقة الدّين بالدّولة - ولكن صار الإشكال الآن مطروحاً على صورة واضحة وهي: لمن الحكم؟. أي من له الحقّ في إصدار التّشريعات والقوانين، الله أم الإنسان؟ وفي آخر إصدار لكبار العلمانيين في المجتمعات المتحوّلة تمّ طرح هذه القضيّة كمحورٍ مفصليٍّ بين الإسلام والعلمانيّة. الإسلام مصدره الوضع الإلهي، العلمانيّة مصدرها الوضع البشري. هذان الكتابان هما "العلمانيّة من مفهوم مختلف" للدّكتور عزيز العظمة، والكتاب من إصدارات مركز دراسات الوحدة العربيّة. والكتاب الثّاني هو "الأسس الفلسفيّة للعلمانيّة" للدّكتور عادل ضاهر من إصدارات دار السّاقي. لندن.. والكتابان يمثّلان عمدة الفكر العلمانيّ وفلسفته، وبنيا أركان المفارقة بين الإسلام والعلمانيّة على هذه القضيّة:
يقول عادل ضاهر: فإذا تبيّن مثلاً، أنّ المعارف المطلوبة لتنظيم المجتمع لا يمكن حتّى من حيث المبدأ اشتقاقها من المعرفة الدّينيّة، إذن على افتراض أنّ هناك نصوصاً قرآنيّة تؤيّد هذا القول بوجود علاقة بين الدّين والدّولة في الإسلام فإنّه سيكون لزاماً علينا في هذه الحالة أن نؤوّل هذه النّصوص على نحو يجعل هذه العلاقة، في أفضل حال، علاقة تاريخيّة لا أكثر وإلا نقع في التّناقض. ا. هـ. (ص12).
ويقول عزيز العظمة: ليس هناك مجال وسط بين العلمانيّة والعداء للعلمانيّة تقطن فيه الدّيمقراطيّة أو العقلانيّة، فهما لا ينفصلان عن أسس العلمانيّة التي أكّدها في معرض ذمّ أمر نقّاد العلمانيّة: الدّعوة إلى التّحرّر من القيود الدّينيّة على المعرفة، وافتراض الكون مستقلاًّ تفسيره، قواه وأنماط انتظامه الخاصّة والحركة غير المنقطعة للطّبيعة والمجتمع، ومقالة التّطوّر المستمرّ الذي ينتفي معه ثبات القيم الأخلاقية والروحية. ا. هـ. (ص310).
مقالات بين منهجين سبع وأربعون
على الرغم من تفاوت نيّات الوالجين في العملية الانتخابية التشريعية، وعدم وضوح تصوراتهم لها، واختلافاتهم في تحديد المراد منها، فإنّ هذه النيات لا قيمة لها في تحديد الحكم الشرعي لهذه العملية الشركية.
إذا توضح التوصيف الشرعي لواقع مجلس الشعب (البرلمان)، والتوصيف الشرعي مبني على أصلين هما: معرفة حقيقة البرلمان كما يريده أهله، وثانيهما: معرفة حكم الله تعالى في أمثاله، ثمّ عرفنا أنّ البرلمان هو مجلس شركيّ طاغوتيّ، لأنّ فيه إسناد حقّ التأليه لغير الله تعالى، فهو المشرّع في الدّيانة العلمانيّة، فهل يجوز للمسلم أن يدخله بنيّة أخرى تخالف حقيقته؟ وبمعنى أوضح: لو قال رجل مسلم: أنا أعرف حقيقة البرلمان والدّيمقراطيّة، وأنّهما كفر وشرك، ولكن لا أتعامل مع البرلمان من وجهة نظر أهله له ولكن أتعامل معه من وجهة نظري أنا، فأنا لا أوافق على العلاقة التّضامنيّة فيه (وقد قدّمنا معناها في العدد السّابق)؛ وأنا فقط أريد أن أبلّغ كلمة الحقّ فيه وعلى منبره، وأريد أن أقلّل الشرّ في التّشريع الوضعيّ، وأريد.. وأريد..؟ فهل لهذه الأقوال اعتبار؟ وبمعنى أكثر وضوحاً: هل فتوى بن باز في جواز الدّخول في البرلمان إذا كانت نيّة الدّاخل في الإصلاح وتبليغ الشّريعة صحيحة أم باطلة؟.
ومقدّما نّقول: إنّ هذه النيّات لا قيمة لها، ولا أهميّة لها في تغيير التّوصيف الشّرعيّ لهذه العمليّة ولا للقائم بها وعليها.
وللتّفصيل نقول:
أ - متى تعتبر المقاصد في الأفعال المكفّرة؟. الأفعال المكفّرة تنقسم إلى قسمين من جهة دلالتها على التّكفير:
1 - القسم الأوّل: صريح في دلالته.
2 - القسم الثّاني: احتماليّ في دلالته.(54/227)
أمّا القسم الأوّل فلا ينظر فيه إلى المقاصد والنّيّات، ومثاله من سبّ الله تعالى أو رسول صلى الله عليه وسلم فهذا فعل كفر وردّة، بغضّ النّظر عن قصده، لأنّ هذا الفعل لا يحتمل إلاّ معنى واحد وهو الخروج من الإسلام، فلو قال رجل أنا أسبّ الله ومع ذلك فأنا أعترف بألوهيّته وربوبيّته، فلا قيمة لقوله هذا، لأنّ ذات السبّ ناقض للتأليه في كلّ وجه، وممّا ذكره أهل العلم كذلك للتّفريق بين تبيين القصد أو عدم تبيينه سبّ الصّحابة رضي الله عنهم، فإنّ من سبّ أحداً من الصّحابة فإنّه لا يكفر (إلاّ من اتّهم عائشة رضي الله عنها بالفاحشة فإنّه يكفر لتكذيبه القرآن)، لأنّ من سبّ أحداً من الصّحابة له وجه وهو عدم التّكفير، كما كان بعض الصّحابة يسبّ بعضهم بعضا لأمر اجتهاديّ أو لأمر دنيويّ، أمّا من سبّ جميع الصّحابة فإنّه لا وجه لسبه إلاّ أنّه مبغض للإسلام وأهله ولا وجه له آخر يحتمله، وكذا قاتل النّبيّ فلا يقال له: هل قتلته وأنت مكذّب بنبوّته أم مصدّق لها ولكنّك لا تريد متابعته؟. أم هل قتلته نفياً لنبوّته أم لقضايا شخصيّة بينك وبينه؟ وسبب عدم النّظر إلى المقصد أنّ الفعل لا يحتمل إلاّ معنى واحداً وهو الكفر والدّلالة على الكفر (ولا نقصد هنا بقولنا الدّلالة على الكفر أي على الكفر القلبيّ بمعنى نفي التّصديق كما تقول المرجئة). فإذا كان الفعل لا يشير إلاّ إلى اتّجاه واحد فلا قيمة للمقاصد، أمّا إذا كان الفعل محتملاً فلا بدّ من سؤال الفاعل عن قصده، ومثاله: لو أنّ رجلاً سبّ دين رجل مسلم فهل نكفّره بمجرّد سبّ الدّين؟ أم أنّنا لا بدّ أن نسأله عن مراده في كلمته ههنا؟ فإن قصد دين الإسلام فهو كافر، وإن قصد دينه (أي سلوكه والعمل الذي ينتهجه) فلا يكفر لهذا المعنى، ومن الأمثلة القويّة على هذا الأمر هو حكم الجاسوس؛ فقد اختلف العلماء في حكم الجاسوس المسلم فبعض أهل العلم يرى أنّ هذا الفعل مكفّر وفاعله مرتدّ، وحكمه حكم المرتدّ، وبعضهم يرى أنّ هذا الفعل ليس من أفعال الردّة المكفّرة، فحكمه دائر بين قتله حدّاً وبين تعذيره، والأقوال الثّلاثة في مذهب أحمد؛ والصّحيح أنّ الجاسوس المسلم دائر بين هذه الأحكام، فقد يكون فعله دالاّ على الردّة وقد يكون معصية من المعاصي لا تخرج صاحبها من الإسلام، وههنا للتّمييز بين الجاسوسين لابدّ من تبيّن القصد، والقصد إن كان أمراً قلبيّاً إلاّ أنّه يمكن معرفته بالقرائن، كقول الفقهاء في التّمييز بين القتل العمد وشبه العمد، أنّ الفارق بينهما هو القصد، فإذا قصد الرّجل القتل فهو عمد، وإن لم يقصد فهو شبه العمد: وطريقة معرفة القصد هي الآلة المستخدمة في القتل، فإن كانت الآلة ممّا يقتل بها عادة فهو قاصد، وإن كانت الآلة لا يقتل بها عادة، فهو غير قاصد، فقد عرف القصد بالآلة أي بالقرينة، وكذلك الجاسوسيّة فلا بدّ من القرينة لنعرف فاعلها هل هو مرتدّ أم لا؟ إن فهمت هذه حلّ إشكال مسألة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ورسالته إلى قريش، فقرائن الحال من سابقته في الإسلام وكونه من أهل بدر ثمّ صيغة الرّسالة تدلاّن على أنّ الفعل بقرائنه لا يفيد حكم الردّة.
ب - هل لا بدّ من شرط نيّة الكفر ليكفر الرّجل؟.
من المعلوم شرعاً أن عدم القصد هو مانع من موانع التّكفير بعد ثبوت تهمة الفعل على الفاعل، فما المقصود بقولهم: عدم القصد مانع من موانع التّكفير؟.
إنّ المقصود من قولهم هذا: هو عدم قصد الفعل، وليس قصد الكفر، فمن فعل فعلاً مكفّراً وهو قاصد له فهو كافر سواء قصد الكفر أو لم يقصد، وأدلّة اعتبار عدم القصد مانع من موانع التّكفير كثيرة منها: حديث فرح الله تعالى بتوبة العبد، وقول الرّجل: اللهمّ أنت عبدي وأنا ربّك، قا صلى الله عليه وسلم : ((أخطأ من شدّة الفرح)). فهذا الرجل قال قولاً لم يرده، وأخطأ فيه، ومع أنّ قوله كفر إلاّ أنّه لا يعود على قائله حكم القول لأنّه لم يقصد هذا القول وإنّما أراد غيره، فذهل ذهنه عنه فأتى بضدّه وللتّفريق بين قصد الفعل وقصد الكفر نضرب هذا المثال: لو أنّ رجل داس على المصحف وهو لا يدري؛ لكونه لا يراه كأن يكون في الظّلمة، فهذا رجل لم يقصد الفعل فلا يقال له كافر لدوسه على المصحف، لكن لو أنّ رجلاً داس المصحف عالماً بفعله، وأنّه يدوس على المصحف (كلام الله) فإنّه يكفر سواء أراد بفعله هذا أن يعبّر عن خروجه عن الإسلام أم لا، فربّما يدوسه غضباً من أحد لقراءته له، وربّما يدوسه ذهولاً عن اعتقاده فيه، وربّما يدوسه مع تصديقه أنّه كلام الله، ولكن داسه تلهّياً وتلعّباً، فهذا الرّجل وإن لم يقصد الكفر، فإنّه يكفر و لا شك. وممّا قرّره شيخ الإسلام ابن تيميّة - رحمه الله - في "الصّارم المسلول" أنّ القليل من البشر ممّن ينوي الكفر، بل أغلبهم حين كفره لا ينوي الخروج من الإسلام، ولكنّ هذا القصد لا يمنع خروجهم من الإسلام.
وعلى هذا فالنّيّات لا تنفع في رفع الحكم الشّرعيّ وتغيير وصفه.
لكن ههنا مسألة وهي: هل يعني الكلام المتقدّم أنّ كلّ من شارك في العمليّة الانتخابية التّشريعيّة هو كافر ولا عذر له؟.(54/228)
الذي أعتقده أنّ الجواب هو: لا، وسبب ذلك:
أ) أنّ واقع العمليّة الانتخابية التّشريعيّة كما هي في دستور أصحابها لم تتّضح لكثير من علية القوم من علماء ومشايخ وقادة، فهي لا زالت في عالم المجهول، فعذر الجهل واقع لا شكّ، وعلى الاخوة الذين تبيّن لهم حقيقتها تمام التّبيّن أن لا يعاملوا النّاس على هذا الوضوح، فما يزال الأمر يحتاج عند الآخرين لكشف وتوضيح، وخاصّة أنّ أمرها هو من الحداثة الجديدة التي لم يتكلّم عنها السّلف حتّى تكون واضحة للأمّة، والجهل بالواقع مانع من موانع لحوق الحكم، فلو أنّ رجلاً قال كلمة يظنّها مدحاً فكانت في حقيقتها قدحاً، فإنّه لا يؤخذ بها لجهله بحقيقتها كالعجميّ في لغة العرب، والعربيّ في لغة العجم.
ب) إنّ الفتاوى الكثيرة لمشايخ ينظر إليهم النّاس كأمناء على منهج السّلف بجواز الدّخول في العمليّة البرلمانيّة تجعل هذه المسألة من المشتبهات على النّاس، فقد قامت جريدة خاصّة بحزب الإصلاح اليمني بتجميع أقوال المشايخ الذين أجازوا هذا الطّريق الشّركي خلال حمي الانتخابات البرلمانيّة اليمنيّة ممّا أوحى للقارئ أنّ المسألة لا خلاف حولها، فهذا ناصر الدّين الألبانيّ (وقد قيل أنّه غيّر رأيه) وهذا ابن باز وابن عثيمين وعبد الرحمن عبد الخالق، ويوسف القرضاوي ومحمّد الغزالي.. وغيرهم ممّا لا تحصيهم هذه الورقات كلّهم أجازوا لمن أراد الإصلاح أن يرشّح نفسه للبرلمان، وأوجبوا على النّاس (وجوباً) أن ينتخبوا الأصلح، ممّا يجعل هذه المسألة من المشتبهات، وقد تبيّن من كلام السّلف وخاصّة من كلام ابن تيميّة أنّ مثل هذه المسائل التي تدقّ أو تخفى فإنّ المرء معذور بها.
لكن لا تمنع هذه الأعذار لحوق حكم الكفر بالبعض لإبائه واستكباره بعد علم الأمر ووضوحه.
ثمّ هناك مسألة وهي: هل الحكم القضائيّ يعامل النّاس باعتقاداتهم أم باعتقاد القاضي والحاكم؟.
أهل السنّة والجماعة لا يعاملون المخالفين بعقائدهم الباطلة، ولا بالتزاماتهم البدعيّة، فالخارجي وإن كان يكفّر مخالفيه بالذّنوب غير المكفّرة، فإنّه لا يجوز للسّنّي أن يحكم على الخارجيّ بالكفر إذا اقترف كبيرة من الكبائر، بحجّة أنّ هذا الرّجل قد كفر حسب مقتضى عقيدته، فهذا خطأ، فإنّ السّنّي يعامل النّاس باعتقاده هو لا باعتقادات النّاس الباطلة البدعيّة.
والقاضي يحكم على المذنب باعتقاده هو لا باعتقاد المذنب: فلو أنّ رجلاً ترك الصّلاة بحجّة أنّ تارك الصّلاة في بعض مذاهب العلماء لا يكفر، ثمّ رُفع هذا الرّجل إلى القاضي وكان القاضي يرى كفر تارك الصّلاة، فإنّ القاضي يحكم بكفره، ولا ينظر إلى اعتقاد المرء في ترك الصّلاة، ثمّ لو كان هذا الرّجل حنفيّاً مثلاً وهو لا يعتقد أنّ تارك الصّلاة حكمه القتل، فإنّ القاضي يحكم بقتله ردّة، ولا عبرة باعتقاد المذنب، فنحن لا نعامل النّاس بمذاهبهم الباطلة، ولا بموازينهم الرّديّة، بل عند أهل السنّة من الحقّ ما يكفيهم ويغنيهم عن أخذ باطل الآخرين وأقوالهم الضّعيفة.
مرّت فتراتٌ متقطّعة من أعمال الجهاد واقعة يتقمّصها غير أصحابها، ويتاجرُ بها غيرُ أبنائها، وسبب ذلك عائدٌ إلى عواملَ منها: رضا الجماهير المسلمة عن هذا الجهاد، ومن أجل الرِّفعة والظّهور على أكتاف المجاهدين، فتسارع هذه التّنظيمات الطّفيليّة إلى تقمّص دور البطولة، وإظهار نفسها في موقع الرّيادة في هذا الجهاد، فترتفع الأرصدة الإعلاميّة، وبالتّالي ترتفع الأرصدة الماليّة، وحينئذٍ يصبح الجهاد في مأزق حقيقيّ، حيث يضرب المجاهدون ضرباً شرساً وذلك ليصبحوا تحت وطأة هؤلاء اللصوص وقطّاع الطّريق إلى الله تعالى، فتظهر الأمراض العجيبة، وتتكشّف النّفوس الخبيثة، ويقع الفِصام النّكد بين المجاهد الحقيقيّ والمموّل الخبيث (لص بغداد)، وأمثلة هذا كثيرة الوقوع وعديدة فمِن أفغانستان إلى فلسطين إلى البوسنة والهرسك إلى سوريا .. إلى .. إلى ..، ومن هذه العوامل كذلك: إرضاء القواعد التّحتيّة المتململة، فالإنسان المسلم الفطري السويّ تتوق نفسه فطريّاً إلى الجهاد، وإلى المشاركة في مواطن العبوديّة لله ضدّ الكفر بجميع صنوفه وأشكاله، فمن أجل تفريغ هذا المِرجل من بخاره الغاضب، فلا بدّ من بعض المنفّسات للتّفريغ الذّكيّ الخبيث، فتسارع الجماعة إلى تبنّي أعمال جهاديّة لتقنع القيادة قواعدها أنّها لم تغيّر الطّريق، أو لتعريف قواعِدها أنّ هناك فرقاً بين ما هو معلن من أجل الغطاء السّياسي، وبين ما هو مخفيّ حقيقيّ.
هناك جماعاتٌ طفيليّة ووصوليّة في هذا الباب معروفة لدى القاصي والدّاني، وهي تملك في خطابها نوعين من المضمون، نوع يتعاملُ مع الأفكار والمفاهيم بكثير من الشّرعيّة والأصوليّة، ونوع يتعامل مع الواقع بكثير من الميكافيليّة والثّعلبة.
فجماعةٌ ترى عدم شرعيّة الانتخابات الشّركيّة مثلاً ولكنّها لا تفتأ بل لا تتوانى في تأييد جماعات العمل البرلمانيّ، خاصّة إذا أخذت هذه الجماعات خطوات متقدّمة في الحضور الإعلاميّ، والوجود الجماهيريّ الشّعبيّ.(54/229)
هذه نقطة على الجماعات السّلفيّة المجاهدة أن تحسمها منذ البداية، عليها أن تحسمها وجوداً وكوناً وذلك بقطع الأيدي والأرجل التي تحاول التّسلّق طفيليّاً على أسوار الجهاد السّلفيّ الواضح، وعليها أن تحسمه فكريّاً وذلك ببيان الفوارق الشّرعيّة بين هذه الجماعات الطّفيليّة وبين المجاهدين الموحّدين.
نعم في الجهاد السّلفيّ الواضح هناك قضايا لا يمكن أن يتحمّلها الطّفيليّ الوصوليّ، وإنّه وإن حاول الالتفاف الخبيث حيناً من الدّهر، فإنّه لا يستطيع أن يواصل بالشّوط إلى نهايته.
في الجهاد السّلفيّ ميّزات وخصائص عن عموم الجهاد في المفهوم العرفيّ لدى عوامّ النّاس ومن هؤلاء العوامّ قادة الحركات البدعيّة، وقادة الحركات الطّفيليّة الوصوليّة، ومن أهمّ هذه الفوارق هي:
صفة الجهاد وطبيعته ونوعه: حركات الجهاد السّلفيّ تقاتل في بلاد الردّة تحت راية واضحة، وكذلك تصف العدوّ وصفاً واضحاً، فهي تصف هذه الطّوائف المعادية أنّها طوائفَ ردّةٍ وكفر، لأنّها اجتمعت بقوّة وشوكة على أمرٍ مكفّر، أجمعت على كفره ملّة الإسلام، فنوع قتال هؤلاء الخصوم، وجنس هذا القتال، أنّه قتال المرتدّين، وهذا القتالُ له أحكامه الخاصّة التي تجتمع وتفترق عن قتال الكفّارِ الأصليين، وحين تقاتل هذه الطّوائف السّلفيّة المجاهدة تحت هذه الرّاية، فإنّها لا تفرّق في هذا القتال بين مرتدٍّ «دكتاتور» متسلّط، وبين مرتدّ «ديمقراطيّ» سِلميّ، فهي لا تفرّق بين قتال معمّر القذافي، المرتدّ الظّالم، وبين حسني مبارك (هذا إذا اعتبرناه قائداً ديمقراطيّا) فكلاهما في منهج هذه الجماعات السّلفيّة المجاهدة في الحكم سواء، وأنّهما مرتدّان، وليس لهما إلاّ السّيف، وبالتّالي لا حوار، ولا هدنة، ولا أمان، ولا عقود، لأنّ هذه هي الأحكام الشّرعيّة المستقرّة في قتال المرتدّين.
الجماعات الأخرى قد تحمل السّلاح حيناً، وقد تشجّع على حمل السّلاح حيناً، وقد لا تستنكر من حمل السّلاح ضدّ المرتدّين، هذا إن وجدت أنّ الحوار مع المرتد مرفوض من قِبَله لا من قِبَلها هي، لكن إن فتح المرتدّ باب الحوار، وكفّ عن الملاحقة الظّالمة، أو تشريد أفراد هذه الجماعة فإنّها تنقلب بغير علّة شرعيّة إلى موقف المؤيّد للنّظام والسّاكت عنه، والمانع القويّ لحصول الصّواعق الجهاديّة في هذا البلد.
الجماعات السّلفيّة الجهاديّة الموحّدة لا تفرّق بين صدّام حسين العراقيّ البعثيّ اليمينيّ، وبين حافظ أسد السّوريّ البعثيّ اليساريّ، فكلاهما في حكم الله سواء، وليس أحدُهما أولى بالقتال من الآخر، ولكن جماعات البدعة والوصوليّة لها رأي آخر.
الجماعات السّلفيّة الجهاديّة الموحّدة لا ترى فرقاً بين حكومة السّعوديين (آل سعود) المرتدّين وبين حكومة نجيب الأفغانيّ فكلاهما في حكم الله سواء، وليس أحدهما أولى بالقتال من الآخر، لكنّ جماعات البدعة الوصوليّة لها رأي آخر.
الجماعات السّلفيّة المجاهدة الموحّدة لا ترى فرقاً بين زروال الجزائريّ المرتد وحكمه ونظامه وبين الحسن الثّاني المغربيّ المرتدّ، فكلاهما في دين الله تعالى مرتدّ كافر، وأن حكمها في القَتل والقتال سواء، لكنّ جماعات البدعة والوصوليّة لها رأي آخر.
الجماعات السّلفيّة المجاهدة الموحّدة لا ترى فرقاً بين معمّر القذّافي المرتد جباراً متسلّطاً، وغير آبه بالحوار، ولا يفتح باب التّعدّديّة الحزبيّة، ولا بنشر الحريّة السّياسيّة، وبين معمّر القذّافي الذي يسمح بالتّعدّديّة الحزبيّة، والحريّة الديمقراطيّة، فكلاهما في حكم الله سواء، ليس لهما إلاّ القَتل والقتال، ولكن جماعات البدعة والوصوليّة لها رأي آخر.
الجماعات السّلفيّة المجاهدة الموحّدة لا ترى فرقاً بين شرطة عرفات تحت راية وقيادة عرفات وبين الجيش اليهوديّ، وشرطة اليهود إلاّ فرقاً واحداً وهو أنّ عرفات وحكومته وشرطته أشدّ كفراً فهم أشدّ حكماً من اليهود، لكنّ كلاهما له القتل والقتال، أمّا جماعات البدعة والوصوليّة لها رأي آخر.
الجماعات السّلفيّة المجاهدة لا ترى فرقاً بين المرتدّ الملك حسين حاكم الأردن وهو متسلّط ديكتاتور وبين الملك حسين وهو يأذن للإسلاميين!! بتشكيل أحزابٍ سياسيّة والوصول إلى قبّة البرلمان الشّركيّ، وأنّ الملك حسين مرتدّ في الأولى ومرتدّ في الثّانية وليس له إلاّ القتل والقتال هو وشرطته وجهاز مخابراته. أمّا جماعات البدعة الوصوليّة فلها رأي آخر.
فالرّاية والمقصد ونوع القتال يفرق بين جهاد الموحِّد، وجهاد الوطنيّ (الوثنيّ)، وجهاد المصلحة الموقوتة التي تتقلّب حسب السّياسات الجاهليّة، والنّظرات الذّاتيّة.
في الجزائر تزعم جماعتان الجهاد (أو لنقل بتغييب بعض الحقائق كالشّمس: إعلاميّاً)، جماعة اسمها «الجماعة الإسلاميّة المسلّحة»، وجماعة أخرى اسمها «الجيش الإسلاميّ للإنقاذ»، فكيف يستطيع المرء أن يفرّق بين جهاد الموحّدين وجهاد المبتدعة والوصوليين؟.(54/230)
الجماعة الإسلاميّة المسلّحة تقول: نحن نقاتل حتّى نعيد الحقّ إلى نصابه، وأن نرجع الضّائع إلى أصحابه، والحقّ هو حكم الله تعالى وحكم المسلمين لأرض الجزائر وكلّ بلاد المسلمين، ولا نعترف فيما يقول النّاس ويدّعون: فنحن لا نعترف بالدّيمقراطيّة ولا بحكم الشّعب، ولا بدستوريّة القانون الوضعيّ، ونحن نقاتل قبل أن توجد الانتخابات ونقاتل أثناءها ونقاتل بعد إلغائها، فعلّة قتالنا لهؤلاء موجودة مع كلّ هذه الأحوال.
والجماعة الأخرى المزعومة إعلاميّاً تقول نحن نقاتل حتّى نعيد خيار الشّعب، ونعيد النّاس إلى المسار الانتخابيّ، فقتالُنا لمن سرق خيار الشّعب.
{فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن إن كنتم صادقين% الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}.
الجهاد الآن قد شرع في ليبيا، وقامت به حركة جهاديّة موحّدة سلفيّة، وصفّقت بعض الجماعات البدعيّة الوصوليّة لهذه الأعمال الجهاديّة، وسبب هذا التّصفيق أو المباركة أنّ القذّافي ديكتاتور متسلّط، لكن تعالوا غداً إذا فتح القذّافي باب الدّيمقراطيّة، وسمح بتشكيل الأحزاب وبقي القانون هو القانون، فماذا ستعمل هذه الجماعات؟ هذه الجماعات ستفصل كل فرد يحاول أن يشير إلى القذافي بكلمة فيها حُكمُه وأنّه مرتدّ وكافر.
ألم أقل لكم سابقاً: إنّ الإخوان المسلمون في الأردن جمّدوا عضوية فرد من أفرادهم قديماً لأنه توقّف في تكفير الملك حسين - مع أنّ حبل الودِّ والصداقة لم تنقطع بين الحزب والملك حسين - وهو نفس الشخص الآن مجمَّد من العضوية لأنه يرى كفر الملك حسين.
جماعة حماس في فلسطين على المسلمين أن ينظروا إليها من هذا الباب، فها هي تَسقط في لعبة الديموقراطية الكافرة، وتتنازل شيئاً فشيئاً.
فهذا فارق مهم في التّفريق بين جهاد الموحّدين السلفيين وبين جهاد المبتدعين الضالين، فليس مجرّد رفع راية الجهاد كافٍ لإدخال المرء في طائفة التّوحيد والجهاد، وهذا الأمر يوجب على الشباب السّلفي المجاهد أن يتوثّق لدينه وأن يتبيّن راية جماعته، ولا يجوزُ له أن يقاتل تحت راية عمية لا يدري أين تسير به، ففي يوم تسمّيه البطل المجاهد، وبعد حين تقذفه بأقبح الأوصاف وأشنعها.
وهذا الفارق الذي ذكرناه يعود إلى قضيّة رئيسيّة، بل هي أمّ القضايا في دين الله تعالى، هذه القضية هي فهم المرء للتوحيد، وفهمه لمنهج السّلف في الإيمان، فإن معرفة المرء للتوحيد وتبيينه له بشكل واضح جليّ يمنعه من الانزلاق في متاهات الجاهلية المظلمة، ويردعه من التنازل عن حق الله تعالى، فإنه يجوز للمرء أن يتنازل عن حقِّه، وهذا من باب الفضل، ولكن لا يجوز أن يتنازل عن حقّ الله تعالى، فالجماعة الموحدة المجاهدة تعفو عمّن ظلمها من المسلمين، وتتجاوز عن حقوقها، ولا توالي على أساس قرب الناس منها، ولا تعادي على أساس بعد الناس عنها، بل هي توالي النّاس على أساس محبّتهم لله، ومحبّة الله لهم، وتعادي على قواعد الملّة المحمّدية في البراء من أعداء الله تعالى، وهذا الأمر من أ شدّ الأمور وضوحاً في دين الله تعالى، وعند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
فقد نهى رسول ا صلى الله عليه وسلم عن الخروج على الحاكم إذا ظلم رعيته: ((أطع أميرك وإن جلد ظهرك وأخذ مالك))، فحقُّ الإنسان المسلم يتنازل عنه مقابل مقاصد الوحدة وجمع الشمل، ودرءً للفرقة وذهاب الريح، وقد أوجبت الشريعة الخروج على الحاكم إذا كفر بالله ((إلا أن تروا كفراً بواحاً)).
هذا هو دين الله تعالى، فعلّة القتال فيه عدم إيمان المشركين بالله، واجتماعهم بقوّة وشوكة على هذا الأمر {قاتِلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يَدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون}.
بهذا الأمر الجليِّ الواضح تكتَشِف الفارق، وهو أهمّ هذه الفوارق، بين جهاد الموحد السلفي وبين المبتدع الأصولي.
وهذا الأمر - وهو عدم تبيّن الناس لحقيقة الجماعات المقاتلة - يُحسَم من خلال إعلان جماعات الجهاد السلفيّ براءتها من جماعات البِدعة، ويوجب عليها أن تؤَصِّل نظرتها من خلال الرّؤى السلفيّة لواقع الجماعة البِدعيّة، وعليها أن تعلن ذلك ولا تُخفيه، وليس هناك من مصالح شرعيّة تمنع إعلان الفارق بيننا وبينهم.
بقي أمرٌ يتعلق بهذه النقطة، وهو وجود أقوام تسَربلوا بأثواب مُستعارة من السّلفية أو بشاراتٍ خادعةٍ لا حقيقة لها مثل أهل السنة والجماعة، وهؤلاء الأقوام قد يخفى أمرهم على المسلم العاديّ غير المتبصّر بحقّ هؤلاء المبتدعة، وبقليل من البحث ونور والبصيرة سيكتشف النّاس أنَّ عقول هؤلاء القوم ما زالت تعمل خارج الإطار السَّلفي، وأنها خرجت من البدعة مع بدعتها، ولكنَّ غلبةَ الأمّية على أمّتِنا منَعت الكثير من البشر من اكتشافهم.
نعم علينا أن ندرك ونفهم أنّه ما زال أبو الحسن الأشعري متكلماً.
وفي كتابه النفيس الجهاد والاجتهاد :
موجبات وجود حركات الجهاد في العالم (1)(54/231)
جماعات الجهاد قامت على عمد كل عمود فيها كاف في جعل هذه الحركات واجبة الوجود والحدوث، وليعلم المسلمون أن الانضمام لهذه الجماعات ليس نافلة من القول، وليس هو موسمي الوقوع، بل هو واجب على كل مسلم، أي واجب أن يعمل المسلم في عمل جهادي، إما أن يدعو إلى الجهاد أو يعد له، أو يعمل به، ولا ينفك هذا الوجوب إلا بدليل شرعي خاص، أي كون الرجل من أصحاب الأعذار، الذي عذرهم الشرع الكريم، أي فكرة في الوجود لا يمكن أن تعمل نفسها في الحياة إلا من خلال جماعة، إذ أن الجماعة هي اللبنة الأولى لأي عمل أو مهمة.
فما هي موجبات حركات الجهاد في العالم الإسلامي؟.
نقصد بحركات الجهاد تلك الجماعات المجاهدة داخل دار الإسلام السليبة، وليس خارجها، وهي الجماعات المجاهدة العاملة لإعادة رأس المال، وليس هذا إنكارا لغيرها، ولكن حديثنا عن جهاد الدفع، وهو جهاد واجب على كل مسلم. أما موجبات حركات الجهاد في ديار الردة فهي:
1 - إعادة العقد الجامع لشتات المسلمين، أي دولة الخلافة الضائعة: فلما سقطت الخلافة انفرط عقد الأمة، فلم تعد تستحق اسم الأمة، نعم هناك مسلمون في أرض الشتات، وهناك عباد وقوام، وزوامل علم وحجاج، وذاكرون وذاكرات، ولكن كل هؤلاء لا يدخلون أبدا في مسمى الأمة، فلا يوجد هناك أمة إسلامية، لأن أول مقومات الأمة لا توجد بين هذه الحبات المتناثرة بلا ضابط، ولا حبل جامع، ونعني بها وجود الدولة، فليس للمسلمين دولة ولا شوكة ممكنة، ولا منعة حافظة، وقد بذل الكفر جهودا متتالية في دفع دولة الخلافة وإسقاطها، كر المرة تلو المرة، حتى كان له ما أراد، ولكن والحق يقال: إن العوامل الداخلية في دار الإسلام، عوامل الهزيمة والانحطاط، هي السبب الرئيسي لإسقاط هذه الدولة، فليس ما عمله الكفار بمعادل ما عملته الأمة بنفسها، فلو نظرنا نظرة فاحصة إلى صورة المجتمع الإسلامي في دار الإسلام قبل إزالتها، لوجدنا أن هذه الدار كانت تفيض بعوامل الانحطاط والتخلف، ومن أهم هذه العوامل: فساد التصور العقدي، إذ انتشرت في الأمة جرثومة الصوفية، التي ما دخلت في أمة من الأمم إلا جعلتها أثرا بعد عين، الصوفية التي شغلت الناس في الوصول إلى حالة العرفان والجذبة، فأرهقت المر ء المسلم في سعيه لهذه الخيالات الجنونية، وعطلت المسلم عن البحث والنظر، لأن الصوفي يظن أنه بمجرد وصوله لهذه المرتبة سيدرك حقائق الأشياء، وسر الكون، فلا ضرورة إذن للسعي والجد في اكتشاف سنن الكون والحياة، لأن الصوفية تؤمن أنه بمجرد كون الرجل وليا عارفا فإنه سيملك ناصية هذا الكون، فيتحكم في سننه من أمراض وظواهر كونية من ماء ونار ومطر ورعد، وسيكون مالكا لإكسير الحياة وسر الأشياء، وسيسيطر على حجر الكيمياء، هذا الحجر الذي يستطيع مالكه أن يغير الأشياء وحقائقها، فبه ينقلب الحديد ذهبا، وبه تنقلب المياه جواهر ودررا، فأفسدت النظر إلى الكون والحياة. انتشرت الصوفية في الأمة وتغلغلت فيها إلى الصميم، ولا يقولن قائل: إن الصوفية لم تكن شائعة، أو أنها كانت محصورة في بعض جوانب الحياة، فهذا خطأ شنيع، لأن الصوفية كانوا قادة الحياة، وسادة المجتمعات الإسلامية، بل إن الصوفية وإلى الآن هي التي تسيطر على عقول قادتنا ومشايخنا، فهذا سعيد حوى يريد أن يعيد إحياء الأمة عن طريق التربية الصوفية، فيؤلف للناس كتابا في هذه التربية الروحية، ويدعو الشباب إلى الدخول في مدارس إحياء الربانية، ويقصد بها السلوك على يد مشايخ الصوفية، بل إن أكثر القادة ت حررا من القديم بكل ما فيه من خير وشر، لم نسمع منه كلمة واحدة، ولا رأينا له مشروعا في تحطيم هذا المرض الخبيث، فهذا حسن الترابي يعيش في مجتمع تغلغلت فيه الصوفية إلى الصميم، ومع ذلك لم نسمع منه كلمة واحدة نحوها، بل ولا اهتم من قريب أو بعيد بجوانب الشرك التي تنتشر في مجتمعه.
إن البعد الداخلي في الإنسان المسلم، وفي الجماعة المسلمة، ما لم يتحرر من هذه المخلفات النتنة فلن نخطو الخطوة الصحيحة إلى أهدافنا، وهذا يجعلنا نكرر المرة تلو المرة أن جماعات الجهاد ليست تلك الجماعات التي تحمل السلاح فقط، بل هي جماعات التجديد لما اندرس من معالم هذا الدين، وهي جماعات التجديد أي إعادة صورة الإسلام إلى الحالة التي كان عليها وهو جديد في أول أمره.(54/232)
إن طرح الجهاد كمشروع وحيد لإحياء الأمة هو الواجب، لأن الجهاد هو الإطار الذي يحرر المسلم من أهواء نفسه ومن مخلفات مجتمعه، ومن انحرافات مذاهب البدع، لأن الجهاد هو الحامل لروح التمرد على كل ما هو فاسد في داخلنا، فالمجاهد اليوم لن يكون كذلك إلا بعد أن يتحرر من سلطة الكهنوت القابعة على صدر الأمة باسم العلم والعلماء، هذه السلطة التي تضرب بسيف الدين كل من حاول أن يستخدم عقله الذي طال الزمن عليه بالتغير والإقصاء، هذا الكهنوت الذي لم يخرم غرزا مما عند النصارى برهبانهم واليهود بأحبارهم، إن هذا الصنف من البشر وأقصد بهم طبقة الكهنوت هم من أرذل خلق الله، وهو الجدار الأول الذي يمنع المسلم من استعمال حقه في استخدام عقله الذي كرمه الله به، وهو الجدار الأول الذي يمنع المسلم من تحرير إرادته في أن يتقدم الخطوة الأولى نحو أهداف الإسلام الصحيحة، نعم لو قدر لرجل مسلم يحترم عقله أن يرى شيخ الأزهر وهو يتكلم في إحدى محطات التلفزيون لأيقن أنه لا نهضة لأمتنا، ولا خروج من مأزقها حتى ترفع شعار: اقتلوا آخر حاكم مرتد بأمعاء آخر قسيس خبيث.
كان دور العالم دوما اكتشاف الخطأ مبكرا قبل غيره، لأنه الأقدر بما أوتي من موهبة ربانية، وعطاء إلهي في أن يتقدم الصفوف في كل شيء صحيح، وكان دوره دوما الرائد الذي لا يكذب أهله في تضحيته بنفسه، ليكون وقودا لشعلة الصلاح في مجتمعاتنا، أما أن يكون دور العالم إسباغ الشرعية على الفساد، وإطلاق عبارات الشرع المدحية على الشر والضلال، فهذا تزوير وانحراف، وجريمة لا تعدلها جريمة، وهي أعظم جرما من الاتجار بالمخدرات، لأنه يسوق الرذائل تحت أسماء جميلة حسنة، وهذه الجريمة هي أول جريمة بدأها إبليس في التاريخ الإنساني حين سمى شجرة المعصية شجرة الخلد وملك لا يبلى.
إن أمراض الأمة المشتتة بحاجة إلى جهود مضنية، وإلى قادة مخلصين، ليتم إحياء الأمة على منهج صحيح صائب، لأننا اليوم نعيش على مرقب عال، نرقب مستقبلا يتناوشنا فيه العدو من جانب، هذا المستقبل الذي حاول فيه العدو أن يرسم معالمه ليكون حسب سياسته ومراده، وهو يملك أدوات التطبيق، فهو الذي يملك المال والقوة، فعنده الآلة العسكرية الرهيبة، وعنده العديد من الاحتمالات التي يمكن أن يستعملها متى يريد، وفوق ذلك في أمتنا التربة الصالحة لهذه الاحتمالات الكفرية الخبيثة، أما عدتنا نحن، فليس هناك من شيء سوى الحق إن جردناه عن شوائب الأفكار المنحرفة، وعلمناه على حقيقته كما هو من غير بدع الإرجاء والجبر، ومن غير هوى الآراء والأفكار، وعلينا أن نملك عقيدة الجهاد، وروح الجهاد، ونفس الجهاد، هذه العقيدة التي تهون أمامها الصعاب، وتتصاغر في وجهها الجبال، هذه الروح التي تنطوي على حب الموت والرغبة فيما عند الله، والترفع عن الدنايا والصغائر، والزهد في الدنيا، هذا النفس إن ملكناه أو تملكناه كنا أعاصير لا تبقي للكفر أثرا، ولا للظلام وجودا.
الجهاد والدولة الإسلامية المقبلة (الشوكة والتمكين)
الدولة المنشودة التي ستقوم عن طريق الجهاد، هي الدولة الوحيدة التي تملك الشرعية، وهي الدولة التي ستعبر بحق عن حقيقة هذا الدين، وذلك للأسباب التالية:
كثير من أهل العقل حينما يفكرون بالدولة الإسلامية المقبلة، فإنهم يصورونها، أو يتصورونها على شكل الدولة المعاصرة العلمانية، بكل ما فيها من هياكل ومؤسسات، وإنما يجعلونها إسلامية ببث بعض الألوان الباهتة على هذه الهياكل ليتم صبغها بصبغة إسلامية، وعلى ضوء هذا التفكير فإنهم يجابهون بمجموعة من الأسئلة الحرجة عن صورة الدولة الإسلامية، هذه الأسئلة التي تدفعهم لتقديم التنازلات الفقهية، وذلك بالبحث عن الآراء الشاذة للفقهاء لتلائم صورة الدولة المعاصرة، وهذه المسائل تبدأ من عقيدة الدولة إلى أصغر شيء فيها:
يسألونهم عن الديمقراطية والتعددية الحزبية: ومهما يحاول مشايخنا فإنهم ولا شك أمام خيارين: أولاهما: الخروج من الإسلام، وذلك بالفتوى أن الدولة الإسلامية تجيز التعددية الحزبية، لأن التعددية الحزبية تعني جواز الأحزاب الكافرة والمرتدة، هذه الأحزاب التي سيسمح لها أن تمارس نشاطات الدعوة إلى الكفر والشرك، وهي التي سيسمح لها كذلك بالبلوغ إلى الحكم، وحيث أجاز الشيخ هذا الفعل فإنه جدير بلفظ: كافر ومرتد.
والغريب من هؤلاء المشايخ أنهم بلغوا إلى حالة من الانهيار الخلقي والفكري في توهم أدلة التعددية الحزبية إلى درجة لا يمكن أن تخطر على بال مسلم: فهذا شيخ يستدل على وجود الأحزاب الكافرة في الدولة الإسلامية بوجود المنافقين زمن دولة الرسو صلى الله عليه وسلم ، فهؤلاء المنافقون (وهم كفار على الحقيقة) كانوا يمثلون حزبا سياسيا، ورسول ا صلى الله عليه وسلم يعرفهم، فلم يمنعهم من ممارسة حقهم الحزبي.
وشيخ آخر يقول: بوجود الخوارج زمن علي بن أبي طالب، وأن عليا رضي الله عنه لم يمنعهم من ممارسة حقهم الفكري، وإنما قاتلهم لحملهم السلاح ضد المجتمع المسلم، فالخوارج بصورتهم الحقيقية هم كصورة الحزب السياسي المعاصر.(54/233)
وشيخ آخر يستدل بوجود المعتزلة والروافض... الخ في داخل المجتمع الإسلامي، وهؤلاء أحزاب معارضة سياسية.
وأنا والله يأخذني العجب من هذه الآراء والدلائل، لا لضعفها ولكن لقلة حياء أصحابها، ولا أدري عن هؤلاء المشايخ أينظرون إلى المرآة كل يوم أم لا؟ لأني أجزم أن الذي فوق أكتافهم ليس شيئا يسمى العقل، بل هو شيء آخر يوجد عند بعض خلق الله تعالى.
إن من حق الناس أن يسألوا جماعات الإسلام الديمقراطي (وهي ثنائية تعادل الإسلام المسيحي، والإسلام اليهودي، والإسلام البوذي). أقول إن من حق الناس أن يسألوا هذه الجماعات عن التعددية السياسية في دولتهم بعد استلامهم الحكم، ذلك لأنهم وصلوا الحكم عن هذا الطريق، وبعد توقيعهم واعترافهم على هذا المبدأ، فهل يجوز لمن وصل بهذا الطريق أن يلغيه أو يتجاوزه؟. وأما الخيار الثاني: فهو استخدام المعاريض.
سيسألون عن المرأة وحريتها الشخصية، وعن الأقليات الدينية، وعن الموسيقى، وعن علاقة حسن الجوار مع الدول الأخرى، وعن بقائهم تحت حكم الأمم المتحدة، وأسئلة أخرى لا تنتهي، وهم في الحقيقة على حق في هذه الأسئلة، لأنهم يعرفون ما معنى دولة الإسلام، فهي حاضرة في أذهانهم كدولة بديلة لكل ما هو موجود في هذا العصر، حاضرة في أذهانهم أنها دولة القوة، ودولة الفضيلة، ودولة الدعوة والجهاد، ومن حقهم أن يروا هذه الدولة متناقضة مع كل ما يعيشونه من رذائل ومفاسد، لكن مشايخنا لهم رأي آخر، فقد استطاعوا بكل ذكاء أن يلبسوا الكفر إسلاما، والرذائل فضائلا.
إذا قامت دولة الإسلام عن طريق الجهاد فهي قد اكتسبت شرعيتها من القوة التي يملكها أهلها، قوة وشوكة ومنعة وصلت إلى حد التمكين، ومن حق القوي أن يفرض ما يريد، فهو الذي يكتب التاريخ، وهو الذي يرسم معالم الحياة.
نعم إن القوة هي التي تكتب التاريخ والحياة، وأنا أعلم أن البعض ممن خدعتهم مظاهر الحياة سيقول غير هذا، ولكن هذا التاريخ أمامكم بماضيه وحاضره، اقرؤوه، وعوه، فهل تجدون أمة من الأمم، ودولة من الدول قامت من غير قوة، ثم حافظت على نفسها من غير قوة؟ لقد أنزل الله الحديد فيه بأس شديد، والأفكار لا تحمى إلا بالبأس والحديد. فإذا قامت دولة الإسلام عن طريق الجهاد، ولن تقوم بالجهاد حتى تحرق كل الرذائل في طريقها، فالجهاد هو النار التي ستقضي على كل بذور الشر في مجتمعنا، فإذا قامت الدولة بالحرب والقتال، فليس من حق أحد أن يطالب في رسم معالم دولتنا ومجتمعنا، وحينئذ سيحكم الإسلام الذي نعرفه، لا الإسلام الهجين الدخيل.
خلال مرحلة الجهاد: ستطهر الأرض من غربان الشر، وأبوام الرذيلة، ستلاحق هذه المسوخ التي تسمى كذبا وزورا بالمفكرين، وسيصفى الرتل تلو الرتل: العلمانيون، والشيوعيون، والبعثيون، والقوميون، وتجار الأفكار الوافدة، نعم نحن نعرف أننا لن نصل حتى نعبد الطريق بجماجم هؤلاء النوكى، وليقل العالم أننا برابرة، فنحن كذلك لأن البربر في عرف هذا العصر هم الذين يدافعون عن حقوقهم، ويطالبون بحقهم في الحياة (وللذكر فإنه لا يجوز للمسلم أن ينبز أخاه بالبربري، لأن البربر قبائل مسلمة، وهذا من التنابز بالألقاب، ومن أخلاق الجاهلية). وسيقولون عنا: أنتم أعداء الحضارة. نعم نحن أعداء حضارة الشيطان، وقتلة رموزها ورجالها. وسيقولون عنا: إرهابيون، نعم نحن كذلك، لأن الشر لا يخنس إلا بالسيف والنار. أما هؤلاء المشايخ الذين يتحللون من كل فضيلة مخافة الاتهام بالعنف والإرهاب والدكتاتورية، فلن يرضى عنهم اليهود ولا النصارى، حتى يخلعوا اسم الإسلام كذلك.
هاهم يتسابقون في اكتشاف الأقوال الشاذة الفاسدة، ليقدموها إلى العالم أنها تمثل الإسلام الأصيل، فما الذي جنوه؟ ملئوا الدنيا جعجعة إن الإسلام هو الديمقراطية، فهل سمح لهم بتكوين حزب سياسي؟، بكوا على أعتاب بابه السنين والأيام فما جنوا غير الخزي والعار. إن أشد الدول ديمقراطية لن تستطيع أن تكون بديمقراطيتها كما يريد راشد الغنوشي في دولته الديمقراطية، فما الذي جناه هو وحركته من طاغوت تونس؟ راشد الغنوشي يتحدى أن يوجد في برنامجه السياسي بند تطبيق الشريعة الإسلامية، وليس همه حين يستلم الحكم أن يطبق الشريعة، بل همه نشر الحرية، وتوفير فرص العمل، فهل بعد ذلك كله رضي له الكفر أن يمارس حقه في أن يعيش؟!!.
خلال مرحلة الجهاد: ستقطف رؤوس الصحفيين المفسدين في الأرض، فنحن لسنا بحاجة إلى سحرة فرعون، وليسمنا الناس أعداء الفكر والرأي، فنحن رأينا من حرية قوانينهم ما تشيب منه العثانين.
نعم: لن أحدثكم بهذه الفضائل التي جنيناها في زمن الديمقراطية والحرية والنظام العالمي الجديد، لكن يكفي أن نقنع أنفسنا أننا في هذا الزمن المتقدم والمتحضر: قد أكلنا السمن والعسل، ونمنا في أوطاننا بأمن واطمئنان، وكنا سواسية كأسنان المشط، فمن قال لكم أيها المغفلون إن فلسطين قد ضاعت، فاليهود أبناء عمومتنا، ومن حق ابن العم أن يأكل من قصعة ابن عمه!
الطريق إلى الدولة كونا وشرعا
(الديمقراطية والشرعية)(54/234)
إن الدولة الوحيدة التي تملك الشرعية وتمثل صورة الإسلام الصحيح، وتنطوي على جوهره هي الدولة التي تقوم عن طريق الجهاد (القتال).
فلو سأل سائل: لو أنه قدر لبعض التجارب الديمقراطية أن توصل الإسلام إلى سدة الحكم، فهل يعني هذا أن الحكم لا يسمى إسلاميا؟.
وقبل الجواب على هذا التساؤل فإنه ينبغي أن يعلم أن دولة الإسلام الضائعة لن تقوم بهذا الطريق الشركي، وعلى الإسلاميين الديمقراطيين أن يكبحوا جماح أحلامهم في تحصيل الخير أو بعضه عن طريق البرلمان والديمقراطية، مع أن أصحاب هذا المنهج تختلف تصوراتهم في توصيف أسباب دخولهم البرلمان: فلو أخذنا الديمقراطيين الإسلاميين من الإخوان المسلمين في الأردن وسألناهم عن سبب ولوجهم هذا الطريق لرأينا العجب العجاب: فهذا الدكتور همام سعيد يعلن: أننا لن نسعى إلى أن نكون الأغلبية في البرلمان الأردني. ا.هـ. وهذا شيء يضحك منه الديمقراطيون في العالم أجمع، لأن كل كثلة برلمانية في العالم تسعى إلى تكوين الأغلبية للوصول إلى الحكم، أما تعليل الدكتور همام سعيد - وهو من "الإخوان المسلمين" - لعدم السعي لتحصيل الأغلبية في البرلمان فيقول: حتى لا نصبح مشرعين، إد أن التشريع كفر، وإنما نحن معارضة، نوصل كلمة الإسلام للبرلمان ولأصحاب الشأن. ا.هـ. والصحيح أن السبب الحقيقي هو: أن الأغلبية في البرلمان الأردني (مجلس النواب ) لا قيمة لها، ولا أهمية لها في الثقل السياسي الأردني، لأن القانون الأردني لا يوجب على الدولة أن تقبل بالتنازل عن السلطة لشيء يسمى الأغلب ية البرلمانية، فلو فرضنا أن عدد الإخوان المسلمين بلغ في البرلمان الأردني 80/80 أي أنه يسيطر على جميع مقاعده، فلا يلزم أن للإخوان المسلمين الحق في تشكيل الحكومة الوزارية، بل هم سيبقون في عداد المعارضة، وتصور الدكتور همام ليس هو تصور جميع الديمقراطيين هناك، فإن مراتب النظر إلى البرلمان ودور حركة الإخوان المسلمين في البرلمان تتفاوت إلى درجة رهيبة تصل إلى أن بعضهم ينظر إليه من حيث أنه من خلال البرلمان يستطيع أن يقضي حوائج عشيرته لما يمثله البرلمان من ثقل وجاهي عشائري.
وفي لقاء بين إخواني أردني وإخواني يمني رأى الناس فارقا عجيبا بين نظرة كل واحد إلى البرلمان ودور الحركة الإسلامية فيه، فالبرلماني الأردني يرى كفر النظام، وأن البرلمان هو طريق للتغير الشمولي، وأنه سيساعد أو سيقوم بذاته في عملية التغيير الانقلابي للدولة. الإخواني البرلماني اليمني انتفض لهذه النظرة، فهو يرى أن أعضاء الإخوان المسلمين في البرلمان اليمني هم جزء من تشكيلة الدولة الشرعية في اليمن، فكيف سينقلب الرجل على نفسه، فالإخوان جزء من الدولة فكيف سيغيرون أنفسهم، إذا فالبرلمان جزء من الدولة لترشيدها ولأداء دور داخل الكيان لا خارجه ولا لقلبه.
جبهة الإنقاذ الجزائرية كان لها رؤية أخرى للدخول في المسار الديمقراطي الشركي (ونحن نصر ونؤكد أن هذا المسار شركي كفري لأن البرلمان هو مالك السيادة التشريعية في النظم العلمانية وهو عندنا في دين الله تعالى لله رب العالمين، ومن لم يفقه هذا لم يفقه شيئا من الواقع أو الوحي)، وهي رؤية كانت بمجملها في لفظين "المطالبة وإلا المغالبة" أو حسب قول مسئول فيهم بقوله: إذا قالوا انتخاب انتخبنا وإلا قاتلنا.
ومجمل قولهم أنهم سيدخلون في اللعبة الديمقراطية لثقتهم أن الشعب سينتخبهم فيبلغوا إلى درجة تخولهم أن يغيروا الدستور، ومع أن الجبهة هي كاسمها: خليط غير متجانس، كل حسب رؤيته ومفهومه، وفيها من عوامل الانهيار الذاتي مما يجعلها غير قادرة على الخروج برؤية واضحة للأحداث والعقبات، ويدل على ذلك أمران: أولاهما: أزمة الخليج، وثانيهما: ضرب الدولة وتشتت الجبهة إلى ما هي عليه الآن، ولا أدري لم يجعل بعض الناس ممن يكفر بالديمقراطية جبهة الإنقاذ حالة خاصة تخرج عن زمرة الديمقراطيين الإسلاميين، فهم يتكلمون عن الإخوان وديمقراطيتهم بكثير من الحماس الناقد، فإذا اقتربوا من جبهة الإنقاذ كاعوا ورجفوا، وكأنها ليست على النسق والتساوي مع الآخرين من الديمقراطيين، ولعل الخطاب الثوري الذي كان يردده علي بن حاج هو الذي جعل هؤلاء يخرجون الجبهة عن هذه الزمرة، وهذا خطأ كبير لأن العلة التي تلحق الجماعة بهذه الزمرة متحققة في الجبهة كما هي متعلقة بغيرها من النهضة والإخوان والجماعة الإسلامية الباكستانية وغيرها من الجماعات السالكة طريق الديمقراطية.
هذا التغاير في الهدف، والتغاير في التوصيف للعمل الديمقراطي يجعل هؤلاء القوم من أبعد الناس عن تحصيل الهدف، وذلك لعدم تصورهم له أو معرفتهم بحقيقة الأسلوب لا من الوجهة الشرعية ولا من الوجهة الواقعية.
لكن لو افترضنا جدلا أن فرقة من الفرق وصلت إلى سدة الحكم عن طريق الديمقراطية وحكمت الشريعة فهل يكون الحكم إسلاميا بهذه الطريقة؟ الجواب بكل وضوح: لا، فكل قانون وإن كان يلتقي مع الشريعة الإسلامية في حده ووصفه وفرض عن طريق البرلمان وخيار الشعب لن يكون إسلاميا، بل هو قانون طاغوتي كفري.
لماذا هذا؟.(54/235)
أي حكم حتى يكون شرعيا إسلاميا لا بد من النظر إلى أركانه وأهم أركانه هو النظر إلى الحاكم ومن هو؟ فإن كان الحاكم (المشرع) هو الله كان الحكم إسلاميا، وإن كان الحاكم (المشرع) غير الله كان الحكم طاغوتيا كافرا. ومن هنا فإن الأخلاق الصحيحة التي يدعو إليها الدين النصراني لا تعتبر إسلامية، لأن الجهة الحاكمة (المشرعة) لهذا الحكم ليست الجهة الحاكمة للحكم الشرعي. فالحكم الشرعي يكتسب قوته لأنه صادر ممن له الحق في إصدار هذا الأمر وهو رب العالمين، وحتى يكون شرعيا لا بد أن يكون تكييفه شرعيا وإلا فلا. والحكم الصادر عن البرلمان يكتسب قوته من مالك السيادة في النظام الديمقراطي، فقد يكون الشعب فقط وقد يكون الشعب والملك معه أو الأمير وهكذا، فلو صدر قانون منع الخمر من البرلمان فهو قانون تكييفه الشرعي قانون كفري طاغوتي، وإذا قال الحاكم نحن حرمنا الخمر لأن الله أمرنا بهذا لكان قانونا مسلما. وللتمثيل نقول: ما الفرق بين النكاح والسفاح من وجهة شرعية مع أنهما يعبران عن حقيقة واحدة؟ النكاح جائز لأنه بكلمة الله - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((واستحللتم فروجهن بكلمة الله)) وكلمة الله هنا معناها حكمه وليس العقد كما يقول البعض -، وا لسفاح تم بكلمة أخرى غير كلمة الله تعالى، فكان حراما وإثما.
فالقانون الصادر عن البرلمان مصدر بكلمة: باسم الشعب، أو قرر مندوبو البرلمان، فهو قانون طاغوتي اكتسب قوته من إله باطل.
أما القانون الإسلامي فهو المصدر بكلمة باسم الله. فالذين يبحثون عن تحكيم الشريعة الإسلامية عن طريق البرلمان عليهم أن يراجعوا أركان الحكم الشرعي، وكيف يكون إسلاميا، وكيف يكون الحكم طاغوتيا كافرا؟.
قلنا إن الحكم الصادر عن مجلس الشعب أو البرلمان لا يسمى إسلاميا وإن كان يلتقي مع الحكم الشرعي في صورته وظاهره، وعلى هذا فلو أن مجلس الشعب قرر تحريم الخمر على الشعب فإن هذا القرار لا يعد إسلاميا وإن التقى مع الشريعة الإسلامية في صورة النهي وتحريم الخمر، وسبب ذلك أن الحكم الشرعي لا يكون شرعيا إسلاميا إلا إذا كان تكييفه شرعيا إسلاميا.
حقيقة الحكم الشرعي
إن أركان الحكم الشرعي داخلة في تعريفه حيث قال الفقهاء الأصوليون: إن الحكم الشرعي هو: خطاب الله تعالى للمكلفين بالوضع أو الاختيار أو الطلب، فأركانه أربعة وهي: الحاكم والمحكوم عليه والمحكوم فيه ونفس الحكم.ا.هـ. (1) فإذا اختل ركن من هذه الأركان لا يسمى شرعيا، والحاكم هنا هو الله تعالى، قال الغزالي: أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق.ا.هـ. (2) قال الآمدي شارحا هذا الأمر: الحكم الشرعي ليس هو نفس الوصف المحكوم عليه بالسببية، بل حكم الشرع عليه بالسببية. ا.هـ. (3) وقال الغزالي: فالحكم الشرعي خطاب الشرع وليس وصفا للحكم ولا حسن ولا قبيح ولا مدخل للعقل فيه ولا حكم قبل ورود الشرع.ا.هـ. (4) وقول الغزالي خطأ من وجه وهو كون الحكم الشرعي لا يدرك حسنه وقبحه إلا بالشرع، بل الصحيح يدرك حسنه وقبحه بالعقل. وأما قوله: "ولا حكم قبل ورود الشرع" فهو صواب خلافا للمعتزلة .
إذا الحكم الشرعي ليس فقط نفس الحكم أي صورة الحكم، بل هو خطاب الشارع بهذا الحكم، فمن فعل فعلا لوجه من الوجوه. غير وجه امتثال الشريعة الإسلامية، فإن فعله لا يدخل في مسمى الحكم الشرعي، فباذل المال للفقراء والمساكين لا يمكن إدخاله في قوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا}. لأن الله سبحانه وتعالى عقب بعدها قائلا: {إنما نطعمكم لوجه الله} أي أنهم امتثلوا هذا الأمر لأنه صادر من الله تعالى، وهم يفعلونه امتثالا لأمره، ورغبة فيما عنده، فهؤلاء هم منفذون للحكم الشرعي، فالحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى، وما لم يكن المحكوم منفذا الحكم لأنه أمر الله تعالى فليس من الناجين من عقوبة ترك الأمر أو اقتراف النهي. والشارع في دين الله هو السيد الحقيقي، أي من له حق السيادة على البشر، فهو الخالق لهم وهو الحاكم عليهم، ولذلك من أسماء الله تعالى السيد - كما جاء في الحديث الصحيح - وهو يسمى كذلك حق التأليه، فالإله هو السيد، ولا يكون السيد مطلقا حتى يكون إلها حقيقيا، ولذلك من مبررات اعتقادنا أن سيدنا وإلهنا هو الله، اعتقادنا أننا ملك له، ولولا هذا الملك الحقيقي ما قبلنا سيادته، ومن مقتضيات هذه الملكية التي بررت السيادة إصدا ر الأوامر التكليفية التي ترتب عليها إثابة الطائع ومعاقبة المخالف.
(1) - المستصفى (1/83).
(2) - نفس المرجع السابق
(3) - الإحكام (1/182).
(4) - المستصفى ( 1/8).
حقيقة البرلمان(54/236)
المنظومة الديمقراطية على اختلاف صورها تقوم على إسناد حق السيادة لغير الله، وهذه المنظومة منبعثة من العقيدة العلمانية التي ترى أن الناس أحرار في إصدار التشريعات التي يرونها تناسب عقولهم ومعطيات حياتهم، وقد أفرزت العلمانية في الدول المرتدة في بلادنا قانونا أوجب سلوك هذا الطريق، فالشق السياسي من العقيدة العلمانية يفرض اعتقاد وسلوك المنهج الديمقراطي الذي يرى إسناد حق السيادة للشعب، ومعنى السيادة في المفهوم الديمقراطي هو نفس معنى السيادة في الدين الإسلامي، حيث يقول دهاقنة القانون الوضعي إن السيادة: سلطة عليا مطلقة (لا سلطة فوقها) لها الحق في تقييم الأشياء والأفعال، وتقييم الأشياء بتحسينها وتقبيحها وتقييم الأفعال بتحليلها وتحريمها.
والمنظومة العلمانية هي التي أعطت البرلمان حق إصدار التشريعات، فأركان الحكم الديمقراطي هي نفس أركان الحكم الشرعي أي الحاكم والمحكوم عليه والمحكوم فيه ونفس الحكم. والحاكم هو السلطة التي فوضها الشعب (كونه الحاكم الأصلي) في إصدار القوانين، فحين يصدر قانون من البرلمان أو مجلس النواب أو مجلس الشعب فإنه يكسب قوته بكونه صادرا من السيد الحاكم، فهو حاكم شعبي برلماني ديمقراطي علماني، أي هو في دين الله تعالى حكم شركي طاغوتي.
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا هو أن الأحكام الصادرة من البرلمان قد اكتسبت قوتها من طرفين في البرلمان وليس من طرف واحد، هذان الطرفان هما الأغلبية والمعارضة، فالمعارضة وإن عارضت القانون قبل صدوره إلا أنها ملزمة به بعد إقراره بالأغلبية، وهي قد أكسبت القانون قوة بكونها جزء في البرلمان المشرع، فعلاقة الأعضاء في البرلمان (أغلبية ومعارضة) علاقة تضامنية، فلولا وجود المعارضة لما اكتسب القانون قوته في المفهوم الديمقراطي، فالإسلاميون وإن زعموا المعارضة في البرلمان فهم جزء من المشرع، والقانون يصدر باسمهم كما يصدر باسم الأغلبية المؤيدة، وهم شركاء في إصدار القرار وإكسابه القوة الدستورية ليكون شرعيا دستوريا قانونيا، صادرا من الشعب صاحب السيادة، فلو صدر قانون إباحة الخمر للناس فالإسلاميون - المعارضة - وغيرهم هم أصدروا هذا القانون كما أصدره الأغلبية الموافقة لأن علاقة القانون بهم واحدة بعد صدور القانون وإن اختلفت مواقفهما قبل إقرار القانون.
ولو صدر قانون حرمة الخمر للناس فلا يجوز أن يقال إن الحكومة قد قررت تطبيق الحكم الشرعي، لفقده التكييف الشرعي كما قدمنا.
العلمانيون يفهمون هذه المعادلة، فهل حقا يجهلها المسلمون الديمقراطيون؟. إبعاد الحكم الشرعي في الحكم والقضاء مر في مراحل متعددة، ولا نستطيع هنا أن نحيط بها إحاطة تامة ولكن الملاحظ بوضوح القضية التالية:
كان الأوائل من دعاة العلمانية - فصل الدين الإسلامي عن الحكم والقضاء - يؤطرون لنظريتهم من خلال المصادر الشرعية، فعلي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" اعتمد في رؤيته هذا الفصل على مجموعة رؤى ذاتية أسقطها على الكتاب والسنة والحقبة النبوية والفترة الراشدة، فقد ادعى أن الإسلام لا يوجد فيه سلطة زمانية تتمثل بالخلافة والملك والسلطان، واستدل على هذا بالكتاب والسنة نفسها، فعلى عبد الرازق ومجموعة أخرى تلته في هذا المضمار كانت تقنن لهذه الرؤية الكفرية من النصوص الشرعية، وفعلوا ذلك لعلمهم أن أي إحلال لغير حكم الله تعالى في هذه المسألة في ذلك الوقت لن يكون مقبولا بحال من الأحوال، وعلى جميع المستويات، ولما صار أمر هذا الفصل حقيقة واقعة، وأينعت ثماره في المجتمعات المتحولة بدأ العلمانيون طرح قضيتهم على صيغتها الصحيحة، هذه الصورة لا تبحث في إشكالية فهم الإسلام بنصوصه لهذه القضية (علاقة الدين بالدولة) ولكن صار الإشكال الآن مطروحا على صورة واضحة وهي: لمن الحكم؟. أي من له الحق في إصدار التشريعات والقوانين، الله أم الإنسان؟ وفي آخر إصدار لكبار العلمانيين في المجتمعات المتحولة تم طرح هذه القضية كمحور مفصلي بين الإسلام وال علمانية. الإسلام مصدره الوضع الالهي، والعلمانية مصدرها الوضع البشري. هذان الكتابان هما "العلمانية من مفهوم مختلف" للدكتور عزيز العظمة، والكتاب من إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية. والكتاب الثاني هو "الأسس الفلسفية للعلمانية" للدكتور عادل ضاهر من إصدارات دار الساقي. لندن.. والكتابان يمثلان عمدة الفكر العلماني وفلسفته، وبنيا أركان المفارقة بين الإسلام والعلمانية على هذه القضية:
يقول عادل ضاهر: فإذا تبين مثلا، أن المعارف المطلوبة لتنظيم المجتمع لا يمكن حتى من حيث المبدأ اشتقاقها من المعرفة الدينية، إذن على افتراض أن هناك نصوصا قرآنية تؤيد هذا القول بوجود علاقة بين الدين والدولة في الإسلام فإنه سيكون لزاما علينا في هذه الحالة أن نؤول هذه النصوص على نحو يجعل هذه العلاقة، في أفضل حال، علاقة تاريخية لا أكثر وإلا نقع في التناقض.ا.هـ. (1)(54/237)
ويقول عزيز العظمة: ليس هناك مجال وسط بين العلمانية والعداء للعلمانية تقطن فيه الديمقراطية أو العقلانية، فهما لا ينفصلان عن أسس العلمانية التي أكدها في معرض ذم أمر نقاد العلمانية: الدعوة إلى التحرر من القيود الدينية على المعرفة، وافتراض الكون مستقلا تفسيره، قواه وأنماط انتظامه الخاصة والحركة غير المنقطعة للطبيعة والمجتمع، ومقالة التطور المستمر الذي ينتفي معه ثبات القيم الأخلاقية والروحية.ا.هـ. (2)
(1) - ص 12
(2) - ص 310
المجالس الشعبية والانتخابات
الحكم الشرعي على الرغم من تفاوت نيات الوالجين في العملية الانتخابية التشريعية، وعدم وضوح تصوراتهم لها، واختلافاتهم في تحديد المراد منها، فإن هذه النيات لا قيمة لها في تحديد الحكم الشرعي لهذه العملية الشركية.
إذا توضح التوصيف الشرعي لواقع مجلس الشعب (البرلمان)، والتوصيف الشرعي مبني على أصلين هما: معرفة حقيقة البرلمان كما يريده أهله، وثانيهما: معرفة حكم الله تعالى في أمثاله، ثم عرفنا أن البرلمان مجلس شركي طاغوتي، لأن فيه إسناد حق التأليه لغير الله تعالى، فهو المشرع في الديانة العلمانية، فهل يجوز للمسلم أن يدخله بنية أخرى تخالف حقيقته؟ وبمعنى أوضح: لو قال رجل مسلم: أنا أعرف حقيقة البرلمان والديمقراطية، وأنهما كفر وشرك، ولكن لا أتعامل مع البرلمان من وجهة نظر أهله له ولكن أتعامل معه من وجهة نظري أنا، فأنا لا أوافق على العلاقة التضامنية فيه؟ وأنا فقط أريد أن أبلغ كلمة الحق فيه وعلى منبره، وأريد أن أقلل الشر في التشريع الوضعي، وأريد.. وأريد..؟ فهل لهذه الأقوال اعتبار؟ وبمعنى أكثر وضوحا: هل فتوى بن باز في جواز الدخول في البرلمان إذا كانت نية الداخل في الإصلاح وتبليغ الشريعة صحيحة أم باطلة؟.
نقول: إن هذه النيات لا قيمة لها، ولا أهمية لها في تغيير التوصيف الشرعي لهذه العملية ولا للقائم بها وعليها.
وللتفصيل نقول:
1 - متى تعتبر المقاصد في الأفعال المكفرة؟. الأفعال المكفرة تنقسم إلى قسمين من جهة دلالتها على التكفير:
القسم الأول: صريح في دلالته.
القسم الثاني: احتمالي في دلالته.(54/238)
أما القسم الأول فلا ينظر فيه إلى المقاصد والنيات، ومثاله من سب الله تعالى أو رسول صلى الله عليه وسلم فهذا فعل كفر وردة، بغض النظر عن قصده، لأن هذا الفعل لا يحتمل إلا معنى واحدا وهو الخروج من الإسلام، فلو قال رجل أنا أسب الله ومع ذلك فأنا أعترف بألوهيته وربوبيته، فلا قيمة لقوله هذا، لأن ذات السب ناقض للتأليه في كل وجه، ومما ذكره أهل العلم كذلك للتفريق بين تبيين القصد أو عدم تبيينه سب الصحابة رضي الله عنهم، فإن من سب أحدا من الصحابة فإنه لا يكفر (إلا من اتهم عائشة رضي الله عنها بالفاحشة فإنه يكفر لتكذيبه القرآن)، لأن من سب أحدا من الصحابة له وجه وهو عدم التكفير، كما كان بعض الصحابة يسب بعضهم بعضا لأمر اجتهادي أو لأمر دنيوي، أما من سب جميع الصحابة فإنه لا وجه لسبه إلا أنه مبغض للإسلام وأهله ولا وجه له آخر يحتمله، وكذا قاتل النبي فلا يقال له: هل قتلته وأنت مكذب بنبوته أم مصدق لها ولكنك لا تريد متابعته؟. أم هل قتلته نفيا لنبوته أم لقضايا شخصية بينك وبينه؟ وسبب عدم النظر إلى المقصد أن الفعل لا يحتمل إلا معنى واحدا وهو الكفر والدلالة على الكفر (ولا نقصد هنا بقولنا الدلالة على الكفر أي على الكفر القلبي بمعنى نفي الت صديق كما تقول المرجئة). فإذا كان الفعل لا يشير إلا إلى اتجاه واحد فلا قيمة للمقاصد، أما إذا كان الفعل محتملا فلا بد من سؤال الفاعل عن قصده، ومثاله: لو أن رجلا سب دين رجل مسلم فهل نكفره بمجرد سب الدين؟ أم إننا لا بد أن نسأله عن مراده في كلمته هنا؟ فإن قصد دين الإسلام فهو كافر، وإن قصد دينه (أي سلوكه والعمل الذي ينتهجه) فلا يكفر لهذا المعنى، ومن الأمثلة القوية على هذا الأمر حكم الجاسوس؟ فقد اختلف العلماء في حكم الجاسوس المسلم فبعض أهل العلم يرى أن هذا الفعل مكفر وفاعله مرتد، وحكمه حكم المرتد، وبعضهم يرى أن هذا الفعل ليس من أفعال الردة المكفرة، فحكمه دائر بين قتله حدا وبين تعزيره، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد؟ والصحيح أن الجاسوس المسلم دائر بين هذه الأحكام، فقد يكون فعله دالا على الردة وقد يكون معصية من المعاصي لا تخرج صاحبها من الإسلام، وهنا للتمييز بين الجاسوسين لابد من تبين القصد، والقصد وإن كان أمرا قلبيا إلا أنه يمكن معرفته بالقرائن، كقول الفقهاء في التمييز بين القتل العمد وشبه العمد، إن الفارق بينهما هو القصد، فإذا قصد الرجل القتل فهو عمد، وإن لم يقصد فهو شبه العمد: وطريقة معرفة القصد هي الآلة المستخدمة ف ي القتل، فإن كانت الآلة مما يقتل بها عادة فهو قاصد، وإن كانت الآلة لا يقتل بها عادة، فهو غير قاصد، فقد عرف القصد بالآلة أي بالقرينة، وكذلك الجاسوسية فلا بد من القرينة لنعرف فاعلها هل هو مرتد أم لا، إن فهمت هذه حل إشكال مسألة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ورسالته إلى قريش، فقرائن الحال من سابقته في الإسلام وكونه من أهل بدر ثم صيغة الرسالة تدلان على أن الفعل بقرائنه لا يفيد حكم الردة.
2 - هل لا بد من شرط نية الكفر ليكفر الرجل؟.
من المعلوم شرعا أن عدم القصد هو مانع من موانع التكفير بعد ثبوت تهمة الفعل على الفاعل، فما المقصود بقولهم: عدم القصد مانع من موانع التكفير؟.
إن المقصود من قولهم هذا: عدم قصد الفعل، وليس قصد الكفر، فمن فعل فعلا مكفرا وهو قاصد له فهو كافر سواء قصد الكفر أو لم يقصد، وأدلة اعتبار عدم القصد مانع من موانع التكفير كثيرة منها: حديث فرح الله تعالى بتوبة العبد، وقول الرجل: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، قال صلى الله عليه وسلم ((أخطأ من شدة الفرح)). فهذا الرجل قال قولا لم يرده، وأخطأ فيه، ومع أن قوله كفر إلا أنه لا يعود على قائله حكم القول لأنه لم يقصد هذا القول وإنما أراد غيره، فذهل ذهنه عنه فأتى بضده وللتفريق بين قصد الفعل وقصد الكفر نضرب هذا المثال: لو أن رجلا داس على المصحف وهو لا يدري؟ لكونه لا يراه كأن يكون في الظلمة، فهذا رجل لم يقصد الفعل فلا يقال له كافر لدوسه على المصحف، لكن لو أن رجلا داس المصحف عالما بفعله، وأنه يدوس على المصحف (كلام الله) فإنه يكفر سواء أراد بفعله هذا أن يعبر عن خروجه عن الإسلام أم لا، فربما يدوسه غضبا من أحد لقراءته له، وربما يدوسه ذهولا عن اعتقاده فيه، وربما يدوسه مع تصديقه أنه كلام الله، تلهيا وتلعبا، فهذا الرجل وإن لم يقصد الكفر، فإنه يكفر ولا شك. ومما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في "الصارم المسلول" أن القليل من البش ر ممن ينوي الكفر، بل أغلبهم حين كفره لا ينوي الخروج من الإسلام، ولكن هذا القصد لا يمنع خروجهم من الإسلام.
وعلى هذا فالنيات لا تنفع في رفع الحكم الشرعي وتغيير وصفه.
حكم المشاركة في الانتخابات التشريعية
لكن هاهنا مسألة وهي: هل يعني الكلام المتقدم أن كل من شارك في العملية الانتخابية التشريعية كافر ولا عذر له؟.
الذي أعتقده أن الجواب يأتي بالنفي، وسبب ذلك:(54/239)
1 - أن واقع العملية الانتخابية التشريعية كما هي في دستور أصحابها لم تتضح لكثير من علية القوم من علماء ومشايخ وقادة، فهي لا زالت في عالم المجهول، فعذر الجهل واقع لا شك، وعلى الإخوة الذين تبين لهم حقيقتها تمام التبين أن لا يعاملوا الناس على هذا الأساس، فما "يزال الأمر يحتاج عند الآخرين لكشف وتبيين، وخاصة أن أمرها هو من الحداثة الجديدة التي لم يتكلم عليها السلف حتى تكون واضحة للأمة، والجهل بالواقع مانع من موانع لحوق الحكم، فلو أن رجلا قال كلمة يظنها مدحا وهي في حقيقتها قدحا، فإنه لا يؤاخذ بها لجهله بحقيقتها كالعجمي في لغة العرب، والعربي في لغة العجم.
2 - إن الفتاوى الكثيرة لمشايخ ينظر إليهم الناس كأمناء على منهج السلف بجواز الدخول في العملية البرلمانية تجعل هذه المسألة من المشتبهات على الناس، فقد قامت جريدة خاصة بحزب الإصلاح اليمني بتجميع أقوال المشايخ الذين أجازوا هذا الطريق الشركي خلال حمى الانتخابات البرلمانية اليمنية مما أوحى للقارئ أن المسألة لا خلاف حولها، فهذا ناصر الدين الألباني (وقد قيل إنه غير رأيه) وهذا ابن باز وابن عثيمين وعبد الرحمن عبد الخالق، ويوسف القرضاوي ومحمد الغزالي.. وغيرهم ممن لا تحصيهم هذه الورقات كلهم أجازوا لمن أراد الإصلاح أن يرشح نفسه للبرلمان، وأوجبوا على الناس (وجوبا) أن ينتخبوا الأصلح، مما يجعل هذه المسألة من المشتبهات، وقد تبين من كلام السلف وخاصة من كلام ابن تيمية أن مثل هذه المسائل التي تدق أو تخفى يعذر بها المرء.
ولكن لا تمنع هذه الأعذار لحوق حكم الكفر بالبعض لإبائه واستكباره بعد علم الأمر ووضوحه.
ثم هناك مسألة وهي: هل الحكم القضائي يعامل الناس باعتقاداتهم أم باعتقاد القاضي والحاكم؟.
أهل السنة والجماعة لا يعاملون المخالفين بعقائدهم الباطلة، ولا بالتزاماتهم البدعية، فالخارجي وإن كان يكفر مخالفيه بالذنوب غير المكفرة، فإنه لا يجوز للسني أن يحكم على الخارجي بالكفر إذا اقترف كبيرة من الكبائر، بحجة أن هذا الرجل قد كفر حسب مقتضى عقيدته، فهذا خطأ، فإن السني يعامل الناس باعتقاده هو لا باعتقادات الناس الباطلة البدعية.
والقاضي يحكم على المذنب باعتقاده هو لا باعتقاد المذنب: فلو أن رجلا ترك الصلاة بحجة أن تارك الصلاة في بعض مذاهب العلماء لا يكفر، ثم رفع هذا الرجل إلى القاضي وكان القاضي يرى كفر تارك الصلاة، فإن القاضي يحكم بكفره، ولا ينظر إلى اعتقاد المرء في ترك الصلاة، ثم لو كان هذا الرجل حنفيا مثلا وهو لا يعتقد أن تارك الصلاة حكمه القتل، فإن القاضي يحكم بقتله ردة، ولا عبرة باعتقاد المذنب، فنحن لا نعامل الناس بمذاهبهم الباطلة، ولا بموازينهم الردية، بل عند أهل السنة من الحق ما يكفيهم ويغنيهم عن أخذ باطل الآخرين وأقوالهم الضعيفة.
الدولة الإسلامية بين الحلم والحقيقة
يتهمنا خصومنا أننا أصحاب أوهام وأحلام، وأننا حين نتحدث عن دولة الإسلام القادمة، وأنها دولة هجرة وعزة أننا نتحدث عن أضغاث أحلام، لكننا بفضل الله تعالى الأقدر على فهم سنة الله تعالى في الحياة، والذين أتعبتهم رقابهم وهي تنظر إلى حضارة الكفر بانبهار وانهزام هم الذين لا يفهمون سنة الله تعالى في الحضارات وسقوطها، وإذا أردنا أن نستشرف المستقبل الذي نرتقبه لهذه التركيبة لحضارة الشيطان، ومن خلال معطيات أولية، وحتى نحضر أنفسنا لهذا المستقبل، فإن هذه المعطيات الحقيقية تقول لنا التالي:(54/240)
1 - قوة أي دولة تكمن في مركزيتها، والعالم بلا شك الآن يمثل قرية صغيرة، عاصمتها حضارة الشيطان في الغرب، وعلى الخصوص في هذا الوقت أمريكا، واستناد كافة الولايات في العالم قائم على المركز، منه يستمد قوته، ومنه يكتسب هيبته، مع التنبيه على أن بعض أطراف هذه الدولة العالمية ضعيفة الصلة بهذا المركز، ومن خلال هذا الضعف تكتسب حركات الجهاد مواقعها وتحافظ على نفسها من الانتهاء والتلاشي، وهذه البور الضعيفة تمد هذه الولايات المهمة عصارة الحق ببقاء صوت الإسلام والتوحيد والجهاد مدويا وحاضرا في نفوس مادة الجهاد وهم الشعوب، هذا المركز العالمي عوامل الفناء الحضاري قائمة فيه وبقوة، وحديث القرآن عن سبب الفناء الحضاري هو بسبب ما بالأنفس من فساد عقدي، وانهيار خلقي، ومظالم اجتماعية، وهي نفس صرخات العقلاء في هذه الحضارة ك"توينبي" حين يصرخ في بني قومه أن مجتمعاتهم إلى زوال، ولا بد من التنبيه إلى نقطة مهمة بها تفترق هذه الحضارة في هذا الزمان عن بقية الحضارات وهي تسارع الدورة الاجتماعية من المبتدأ إلى السقوط - وهو داخل في حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم بتسارع الزمن - فما كان يحتاج من الوجهة الاجتماعية إلى سنة صار يحتاج إلى أقل منها بك ثير، وهذا بسبب اكتشاف السنن الكونية التي أعانت حركة الإنسان، وجعلت تحقيق إرادات قلبه ممكنة الحصول وبسرعة فائقة، ثم لعل هذا قريب الشبه بأخبار رسول ا صلى الله عليه وسلم على علامات الساعة وأنها في آخر الزمان تتسارع كحبات العقد منفلتة من عقالها وحبلها، وهذا يفيدنا أن السقوط سيكون مفاجئا حتى لأكثر الناس إساءة ظن بهذه الحضارة، {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) ولعل انفجار أوكلاهوما كشف لنا شيئا عن التيارات الخفية المتنامية داخل هذه المجتمعات، والتي ستكون البدائل الحقيقية لهذه المركزية الصارمة، لأن الروابط بين المركز وغيره تتزايد ضعفا وهشاشة، وقبل انفجار أوكلاهوما ما حصل في لوس أنجلوس من ثورة فجرها الرجل الأسود ضد الظلم والقهر المفروض عليه في مجتمعه وأهل بلده، أما في أوروبا فالكلام عليها يطول من كشف هذه التيارات الخفية، ويكفي أن نعلم أن تيارات التعصب الديني والعرقي قد أوجدت لها مقاعد داخل السلطات التشريعية في البرلمان وغيره، بل إن بعضها قد صار أمل وصوله إلى الحكم وشيك الوقوع.
2 - عند سقوط هذه الدول من مركز وولايات ما هو البديل؟ وبعيدا عن الأوهام والأحلام نقول لن تسقط ولاية كاملة بيد بديل واحد سواء كان إسلاميا أو كفريا، فالبديل هو التوحش، وسبب هذا الجزم أنه لا يوجد تجمع واحد قادر أن يحتوي هذه الثمرة الناضجة إلى جرينه، والذين يتصورون أن الإسلام هو البديل الوحيد لهذه الحضارة الشيطانية، واهمون، وسبب وهمهم أنه لا يوجد مقدمة موضوعية لهذا الأمل، وليس هذا حديثا عن الإسلام وقدرته، ولكنه حديث عن المسلمين وعجزهم، وحتى تكون الصورة أقرب إلى الأذهان فبين يدي الباحث عدة أمثلة تبين لنا عجز الحركات الإسلامية عن تلقي الثمرة وهي ساقطة سقوطا حرا علاوة على عجزهم من قطفها بأنفسهم، هذه الأمثلة: هي أفغانستان، والولايات الإسلامية الخارجة من الحكم الروسي.
أما أفغانستان: قد شاركت الحركات الإسلامية في سقوطها، وقد سقطت، لكن هل كان المسلمون وعلى الخصوص أهل السنة والجماعة عندهم من المقدمات ما يؤهلهم لوراثة هذه الثمرة.. النظرة تكفي الجواب.
أما الولايات الإسلامية الخارجة من الحكم الروسي: فقد سقطت مركزية الحضارة الشيوعية وتناثرت حباتها، فهل يوجد حبة واحدة من هذه الثمار وقعت بيد المسلمين؟ سوى طاجكستان، مع أن الفرحة لم تتم.
وفي هذا الوقت لو سقطت أي حلقة من حلقات الردة في العالم، هل يوجد عند الحركات الإسلامية القدرة على تلقي التساقط ليكون وارثا له؟، وهل تملك هذه الحركات المقدمات الموضوعية لهذه الوراثة؟.
لو تصورنا هذه اللحظة أن المملكة السعودية ضعفت مركزيتها الآن وانتهى حكم آل سود، فكيف هو التصور الموضوعي لهذا الإرث؟ الجواب: بكل وضوح لن يكون من الوارثين أحد يسمى (الوارث الإسلامي) بل ستكون بدائل جاهلية جديدة، كما هي البدائل الحاصلة في الصومال حين سقوط الدولة.
وأنا ضربت مثالا بالجزيرة العربية كون العلمنة فيها إلى الآن لم تصل إلى أهدافها داخل الشعوب، مع وجود مقدمات جاهلية خادمة لخصومنا مثل القبلية وغيرها، أما إن ضربت مثلا بتونس فالصورة قاتمة ولا شك، كون عرى الإسلام قد هدمت من أصولها في الشعوب علاوة على الحكم والقضاء.
3 - هذا التوحش الذي سيكون وارثا لهذه الولايات بعد انفلاتها من المركز يوجب علينا عدة أمور أهمها:(54/241)
أ- بناء تنظيمات مسلحة، قادرة على الترقي من مرحلة شوكة النكاية إلى شوكة التمكين، وإن كانت هذه التنظيمات تحمل من اسمها: القلة وعدم الانتشار إلا أنها حتى تقود هذا التوحش ثم تعيد صياغته من جديد فإنها بحاجة إلى السلاح والقدرة على إدارة التوحش، أو بمعنى آخر على إدارة الفوضى. وهذه التنظيمات وإن كانت في كثير من البلاد في هذا الوقت ليست بقادرة على تحقيق تقدم نوعي، أو حتى كمي، فإن وجودها قد يزدهر بدخول عوامل جديدة على هذه المعادلة الخاسرة، ثم لأن هذه التنظيمات هي الخط الرئيسي في الدفاع عن إسلام الأمة وتوحيدها، ثم هي بنكايتها الضيفة تعطي هامشا جديدا لحركات البلاغ والدعوة داخل مجتمعاتنا المتحولة، فانشغال حكومات الردة بحركات الجهاد المقاتلة يشغلهم عن الوعاظ والمدرسين ومشايخ التربية، وخطباء المساجد عملا بالقاعدة العقلية: ارتكاب أخف الضررين. وهذه التنظيمات واجبة القيام على الأمة أصلا.
ب - التوحش أو الفوضى ستعم العالم، وخاصة في بلادنا. أما الغرب فهم موصوفون أصلا بالقدرة على قيادة هذه الإدارة في بلادهم تاريخيا وهم المقصودون بقول عمر بن الخطاب: "وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة" والحديث في صحيح المسلم.. هذا التوحش - أو الفوضى- القادم على العالم سيجزئ الدولة الواحدة إلى تجمعات صغيرة تختلف من تجمع لآخر من حيث رابطتها، فبعضها قلبي، وبعضها فكري، وبعضها مذهبي، وبعضها طائفي، كما كنا نرى في لبنان وأفغانستان والصومال، وكما سنراها لاحقا في كثير من البلاد، إما بصورة جماعية وهو الأقوى نظرا، وإما على صورة تتابع في سقوط متتالي.
هذا التوحش يوجب علينا تعلم فن إدارة هذا التوحش، وهو سلاح ذو حدين - أقصد التوحش -، إما أن يجتثنا أو نفيد منه. وإفادتنا منه تكون بسبب ضعف المركزية مما يجعل لحركات الجهاد هامشا من الحركة غير المراقبة، من تدريب وإعداد وتنظيم، كما حصل في أفغانستان، وهنا لا بد من التنبيه على ضلال دعوة بعض قادة الحركات المهترئة بوجوب الحفاظ على النسيج الوطني، أو اللحمة الوطنية، أو الوحدة الوطنية، فعلاوة على أن هذا القول فيه شبهة الوطنية الكافرة، إلا أنه يدل على أنهم لم يفهموا قط الطريقة السننية لسقوط الحضارات وبنائها.
ثم هذا التوحش يوجد للغرباء مأوى يستترون فيه بعيدا عن طلبات اللجوء إلى بلاد الغرب، هذا إذا استطاعت حركات الجهاد أن توجد لها مكانا في قطعة الجبن المتناثرة.
ج - القدرة على إعادة التشتت إلى لحمة جديدة تحمل صورة الإسلام الصحيحة، وهذا يستدعي وجود قادة لهم نظر ثاقب في الإدارة والحرب، وحتى أقرب الصورة أكثر فإن القارئ الباحث يستطيع أن يستطلع شيئا مما هو مقبل من خلال معرفته معرفة حقيقية لواقع المجتمع الإسلامي قبل الحروب الصليبية وخلالها وبعدها، فإنه قد يعيد التاريخ نفسه إذا وجدت نفس المعطيات، والمعطيات متشابهة هاهنا وليست متطابقة.
د - وبقيت هنا نقطة وهي السؤال الذي تقدمت الإشارة إليه وهو: كيف سيعالج الغرب حالة الفوضى التي ستجتاحه؟.
ولأن الجواب له علاقة بواقع مجتمعاتنا فلا بد من الإجابة عليه.
عادة الغرب أنه كلما تضخمت مشاكله الداخلية، وضاقت موارده الاقتصادية، واضطربت معالم بنائه، وتزايد العاطلون عن العمل وتزايدت حدة اللصوصية والجريمة، فإن الغرب بطريقة ذكية يتقنها، يوجه المشاكل إلى حالة استنفار نحو خصومه التقليديين في المشرق الإسلامي، وهذا مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسل : ((والروم كلما كسر لها قرن ذر لها قرن آخر))، لكن يبقى السؤال: من الذي سيكسر هذا القرن؟.
موجبات وجود حركات الجهاد في العالم ( 2)
ومن عمد موجبات جماعات الجهاد في العالم الآن: فك العاني (الأسير)، ونصرة المظلوم، وردع الظالم:
المتمعن لقصص الأنبياء في القرآن الكريم يجد للأنبياء عليهم السلام قضية محورية يلتقون حولها جميعا، ويدعون الناس إليها، ألا وهي كلمة التوحيد، ثم إننا نرى كذلك أن النبي كان يأتي ويحمل قضية أو قضايا مهمة مع التوحيد، وكانت تشكل هذه القضية الأخرى امتحاناً لموضوع الاستجابة لألوهية الله على عباده، فلوط عليه السلام كان مع دعوته للتوحيد داعيا إلى التخلص من الرذائل الخلقية المعروفة مثل إتيان الذكران والتبارز بالضراط في المجالس، وهي التي قال فيها الرب سبحانه وتعالى: {وتأتون في ناديكم المنكر}، فهذه القضايا التشريعية تشكل الامتحان لمدى الاستجابة لكلمة التوحيد، ولقضية تأليه رب العالمين.(54/242)
وقد حدثنا القرآن الكريم كثيرا عن موسى عليه السلام، وتكررت أحاديث القرآن عن هذا النبي العظيم، وهو من أولي العزم من الرسل، وكانت قضية التوحيد مدار دعوته، وحمل معها قضايا مهمة أخرى، ومن أهم هذه القضايا التي نازع موسى عليه السلام الأرباب الباطلة بها إخراج بني إسرائيل من حكم الطاغية: قال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ}الأعراف.
وقال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى} طه.
ثم حكى الله تعالى هذه القضية في سورة الشعراء آمرا موسى وهارون عليهما السلام: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}.
فهذه قضية حكاها القرآن الكريم في ثلاثة مواطن، قضية إخراج بني إسرائيل المعذبين من حكم فرعون الطاغية، وهي كذلك هاهنا في هذا العصر، قضية مهمة، عظيمة القدر؟ قضية إخراج المساجين والأسرى والمعتقلين من سجون أهل الكفر والشرك، ومن سجون ا لمرتدين.
والسجن هو إحدى صور العذاب التي يمارسها الطغاة ضد الموحدين، قال تعالى على لسان فرعون: {قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ} الشعراء، وقال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}الأنفال.
وهنا نكتة بديعة على الأنبياء، وهم أعظم الناس قدرا وأرفعهم منزلة وأوثق الناس بربهم، هذا الفعل هو الهروب والتخفي، فموسى عليه السلام خرج من مصر أول الأمر {خائفاً يترقب} ثم خرج ببني إسرائيل على وهدة من عيون فرعون وقومه، وكذلك خروج صلى الله عليه وسلم من مكة متخفيا خوفا من قريش وبطشها، ولم يعتبر هذا الصنيع قادحا في حق هؤلاء الأنبياء، أو خادشا في رجولتهم وعصمتهم وعظمتهم، أقول هذا الكلام تنبيها على ما سمعت من أن بعض قادة الأحزاب الإسلامية الديمقراطية لما عرض عليه الهرب وقد حضر جند الطاغوت للقبض عليه في مقر حزبه أنف هذا الفعل، واعتبره خادشا لشرعية وجوده، وقال: أنا رئيس حزب شرعي ولست لصا حتى أهرب، ولعله كذلك أنف وترفع أن يتدلى بحبل من مكتبه ليخرج من الشباك حتى لا يقبض عليه جند الطاغوت، وهذه النفسية مصيبة ولا شك، فهي تدل على أن قادة العمل الإسلامي الديمقراطي هم من أبعد الناس عن نفسية الرجل المقاتل، أو نفسية الرجل الواعي لطبيعة الصراع بين الحق والباطل.
فالسحن أحد أساليب الطغاة في ردع الدعاة والمصلحين، والسجون الآن تعج بكثرة الموحدين فيها، وقد تبجح الكفر الآن وعربد بما لم يكن له مثيل في يوم من الأيام، فما هو السبيل الشرعي والكوني لردع هؤلاء المجرمين عن غيهم؟! وما هو الطريق الشرعي والكوني لإخراج هؤلاء المساجين من معاقل الطغاة؟ إنه ولا شك الجهاد في سبيل الله تعالى.
وفك العاني واجب شرعي على المسلمين حيث وقع لقوله صلى الله عليه وسلم ((فكوا العاني وأطعموا الجائع، وعودوا المريض)) . (1) قال ابن حجر: قال ابن البطال: فكاك الأسير واجب على الكفاية وبه قال الجمهور .ا.هـ. (2) ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لأن أستنقذ رجلا من أيدي الكافرين أحب إلي من جزيرة العرب). وروي أن الحجاج بن يوسف الثقفي غضب على واليه في السند غضبا شديدا، وذلك بسبب امرأة أسرت من المسلمين وأدخلت إلى بلاد السند فجهز الجيوش المتواصلة، وأنفق بيوت الأموال حتى استنقذ المرأة وردها إلى أهلها ومدينتها. (3)
وفك العاني المسلم صورة من صور الولاء بين المسلم وأخيه المسلم.
وليعلم أن ما يعانيه المسلم السجين هو شيء يفوق الوصف والخيال، حتى أنهم قديما كانوا يعدون السجين كأنه منفي من الأرض، وأنه خارج الحياة. يقول الشاعر:
إذا جاءنا السحن يوما لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا(54/243)
والحضارة الشيطانية المعاصرة ابتكرت من الأساليب الوحشية لتعذيب خصومها شيئا يفوق الخيال، وليس سجين اليوم مجرد رجل محبوس في جب فقط، مع أن مجرد هذا الحبس عذاب شديد، ولكنهم يمارسون على هذا السجين ألوان العذاب وصنوف القهر ما الله به عليم، فإذا علمنا هذا تبين لنا الواجب الشرعي الملقى على عاتق الأمة في تخليص هؤلاء الأسارى، جاء في "القوانين" لابن الجوزي: يجب استنقاذهم (أي الأسارى) من يد الكفار بالقتال، فإن عجز المسلمون عنه وجب عليهم الفداء بالمال. (4)
قال ابن تيمية في الرسالة الماتعة المسماة ب "الرسالة القبرصية"، يدعو فيها صاحب قبرص إلى الإحسان إلى أسارى المسلمين عنده، ويبين سعيه الجاد في استخلاص أسارى المسلمين بل وأسارى أهل الذمة يوم ذاك، قال: وقد عرفت النصارى كلهم أني لما خاطبت التتار في إطلاق الأسرى، وأطلقهم قازان... فسمح بإطلاق المسلمين، ثم بين بعدها طلبه في إطلاق أسارى أهل الذمة.
هذه النصوص وغيرها تبين مدى الواجب الملقى على المسلمين في إطلاق أسارى المعتقلين والمساجين من سجون المشركين والمرتدين، ولقد بلغ عدد الموحدين الذين نقم منهم الطاغوت طهرهم وعفافهم وإيمانهم بالله تعالى الأعداد الكبيرة، ففي مصر لوحدها عدد المساجين من الجماعات المسلمة في سجون الطاغوت المصري أكثر من خمسين ألف سجين، علاوة على أولئك الشباب الذين ما يكاد الواحد منهم يخرج حتى تدركه مسالحة (شرطة) الشرك وتعيده مرة أخرى، وهنا نقطة مهمة، وهي أن المسلم المجاهد عليه أن يسعى إلى عدم تسليم نفسه إلى مسالحة المشركين الملاعين في بلادنا، بل عليه أن يسعى جهده أن يفر منهم وإلا فليقاتل حتى يقتل.
(1) - رواه البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه.
(2) - فتح الباري (6/193).
(3) - عن الموالاة والمعاداة (1/327).
(4) - ص 172
عند أنصار فلسفة مذهب ابن آدم الأول
جرى بعض الباحثين على تسمية السجن بالمدرسة اليوسفية - نسبة يوسف عليه السلام - والحق أن القرآن لم يحك لنا شيئا عن أهمية السجن ليوسف عليه السلام، ولم يذكر لنا شيئا عن أثر هذه المدرسة - إن كانت مدرسة - على يوسف عليه السلام، بل الذي اهتم به القرآن هو:
1 - أن يوسف عليه السلام اشتغل بالدعوة إلى الله في السجن، ولم يشغله السجن عن هذه المهمة، بل كان يستغل أصغر الأمور ليوجه أنظار أهل السجن معه إلى تأليه الله وتوحيده، قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ ألاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}يوسف.
2 - محاولة يوسف عليه السلام الخروج المبكر من السحن وذلك حين قال لصاحبه: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}يوسف.
3 - حمده لله تعالى أن أخرجه من السجن، قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ}يوسف.
4 - قبوله دخول السجن - إن كان لا بد منه - على تبديل المواقف وتغيير المبادئ {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}.
وهذه الأمور وغيرها ليس فيها شيء يتعلق بأن يكون السجن مدرسة، يتخرج المرء منها شهادة يتميز بها المرء عن غيره، ولكن مما لا شك فيه أن من دخل هذا الامتحان فصبر فهو خير من غيره ممن دخله ولم يصبر.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن نذكر هنا أن هناك مدرسة حديثة معاصرة، مقطوعة النسب، لا تلتقي في شيء مع منهج خير القرون، هذه المدرسة تدعو إلى غريب القول، وعمدة هذا القول يقوم على فلسفة تبرير الابتلاء كطريق على المرء أن لا يسعى للخروج منه بنفسه، أو يدافعه ويعاديه، وكان أول قطر هذه المدرسة كتاب يسمى "مذهب ابن آدم الأول" للسوري جودت سعيد، وهو يعد نفسه من مدرسة مالك بن نبي، ثم تتابع القطر فكان من عمد هذا المذهب كتاب آخر اسمه "ظاهرة المحنة" لخالص جلبي. تقول هذه المدرسة: إن سبب سقوط الحركة الإسلامية وعدم تقدمها إلى مواقع جديدة نحو أهدافها هو تبني الحركة للعنف ضد خصومها وانتهاجها العمل السري، فتبني الحركة للعنف والسرية أعطى لخصومها المبرر أن تضربها وتقضي عليها، والطريقة المثلى للخروج من هذا المأزق هي التالي:(54/244)
1 - أن تبتعد الحركة الإسلامية عن نفسية الصدام ضد خصومها وأن تتعامل معهم كما تعامل ابن آدم الأول مع أخيه حين قال له: { لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}. وتطور الاحتجاج لهذا المذهب حتى وصل إلى الاحتجاج بطريقة غاندي ضد خصومة الإنجليز.
2 - على الحركة الإسلامية أن تجعل من السجن سبيلا إلى حالة جماعية بها يتم التثقيف والتربية ومن خلاله يتم مد الفكرة إلى الآخرين.
تنتهي هذه النظرية بالخلاصة التالية: أن الخصم سيمارس العقاب تلو العقاب ولن يجابه إلا بالسلبية في الرد، وبالصفح الجميل، وبعد أن يدرك الخصم أنك لن ترد عليه ستثور في نفسه عقدة الندم ويلقى السلاح ويولي منهزما، وحينئذ سيقع النصر الموعود...
إن من غرائب الأقوال في هذا الزمان، وهو من الحادثات التي نبتت ولا يعرف لها سلف في التاريخ - سلف مؤمن أو كافر - مذهب غريب، يدعو للعجب من القول، يدعو إلى نبذ العنف ووسائله وأهمها السرية، والعنف والمقصود به الجهاد والقتال. يقول هذا التيار:
إن سبب انتكاسة الحركة الإسلامية، وعدم حصولها على أهدافها أو الاقتراب منها، هو تبني الحركات الإسلامية للعنف، فحيث تبنت الحركة العنف فإنها أعطت الخصوم المبرر لضربها والإجهاز عليها، فلو أن الجماعات الإسلامية واجهت عنف الدولة بالصبر وكف الأيدي، واحتملت الأذى، فإن الدولة بعد ممارستها العذاب تلو العذاب على المسلمين ستصاب بعقدة الندم، وبعدها ستلقي السلاح جانبا، وبعدها سيكون وصول الإسلام إلى الحكم سهلا ميسورا!.
قال جودت سعيد: (وهو إمام هذا المذهب المعاصر وصاحب كتاب "مذهب ابن آدم الأول":
أ - أؤكد أن لا نمارس العنف بجميع أشكاله، ونتقبل العنف الذي يصدر من الآخرين بصدور مفتوحة، وأن نجعلهم يملون من ممارسة العنف بصبرنا على تحمله، وعدم مقابلة العنف بأي عنف، وإنما نقابل العنف بقوله تعالى: {لا تطعه واسجد واقترب}، وبقوله تعالى: { كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة} وبقوله تعالى: { لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين}، بهذا نقابل العالم . ا.هـ. (1)
ب - ينبغي فورا أن نقلص ونتخلص نهائيا من الجيش والسلاح، وخاصة الأسلحة المتطورة .ا.هـ. (2)
ج - الجيش والسلاح عقبة في سبيل تحرير الأمم.
2 - يجب على الحركة الإسلامية تبني السلم، وأفضل صور السلم هو الديمقراطية الغربية، يقول جودت سعيد: نحن ينبغي أن لا نرفض الديمقراطية، وإنما ينبغي أن نزيدها فعالية، وذلك بنشر المعرفة والعلم، لأن الديمقراطية إن لم يكن وراءها علم ومعرفة في فستعجز عن حل المشكلات .ا.هـ. (3)
وعلينا أن نقبل بالديمقراطية حتى لو أدت إلى إزالة الحكم الإسلامي إن وجد. يقول جودت سعيد: الذي أريد أن أذكر به هنا هو ماذا سيفعل المسلمون في المستقبل إذا بدأوا يخسرون الإمارة بالديمقراطية؟ هذا ينبغي أن يكون في البال ماذا سنفعل؟، هل نقبل ترك الحكم بالديمقراطية؟ أم نصير مثل الذي يعمله الآن السكارى بالكراسي؟... ويواصل قائلا: ينبغي أن نصبر ونتذكر قوله تعالى: { ولنصبرن على ما آذيتمونا}... الخ . (4)
3 - ترك أي إشارة أو كلمة فيها عداوة لأعداء الدين. يقول جودت سعيد: أن نكون شهداء لله وقوامين بالقسط مع الذين يسيئون إلينا وعلينا أن ندرب أنفسنا أن نكون كذلك، ونتواصى بذلك، ونتواصى بالصبر عليه، حتى أننا لسنا في حاجة أن نطلق لفظ العدو عليهم وإنما اختلفنا في التفسير، والله تعالى علمنا أن نقول: { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}ا.هـ. (5)
4 - على الحركة الإسلامية أن تقبل التحدي وذلك بالذهاب إلى السجون والرضا بذلك وعدم الاعتراض عليه:
أ - انظر كتاب ظاهرة المحنة لتلميذ جودت سعيد وهو الدكتور خالص جلبي كنجو.
ب - يقول جودت سعيد: إذا أخذ واحد من المسجد لأنه علم الناس في المسجد، فلنملأ مكانه ونقبل التحدي، ونقبل السجن .ا.هـ. (6)
ويقول كذلك: لا نضرب، لا نهرب، لا نطالب بالإفراج عن المسجونين، بل نطالب أن يأخذونا نحن أيضا إلى السحن.ا.هـ. (7)
5 - عدم الاهتمام أو الاستدلال بالكتاب والسنة وإنما العقل، يقول جودت سعيد: إنني لم أعد ترهبني قعقعة الكلمات: الروح، النفس، أو الله، أو الرسول، أو قال فلان وفلان (وهي حسب السياق، قبل هذه الجملة يعني قال الله، قال الرسول) نريد أن نتحدث ماذا يحدث لنا، وكيف يحصل الفهم؟ وكيف نعرف ما فهمناه أننا فهمناه، وكيف يحدث الفهم؟ وكيف انتقلت إلى هذه الأفكار؟ دعونا من الحديث عن السماء، ولنبحث في الأرض، لنعد إلى الإنسان المولود على الفطرة.ا.هـ. (8)
ويقول: إن الذي سيعلمنا ليس القرآن، وإنما نفس حوادث الكون والتاريخ هي التي ستعلمنا.ا.هـ. (9)
ويقول: فالمرجع ليس الكتاب وإنما العودة إلى الحدث أو الشيء.ا.هـ. (10)
ويقول: إن صخرة ما أدل على نفسها من كلام يقال عنها حتى لو كان كلام الله.ا.هـ. (11)(54/245)
ويصف أوامر الله بالقتال بأنها خرافية، يقول: نسأل الله أن يثبتكم، وأن لا يفلت الزمام من أيديكم، وأن لا تستسلموا للأوامر الخرافية (أي أوامر العنف حسب تعبيره) ا.هـ. (12)
وفي لقاء مع خالص جلبي لأحد الاخوة قال له: أنا أسجد للعقل.ا.هـ.
وكلام جودت سعيد في معرض الأمر الشرعي، وليس الخلق الكوني فانتبه.
هذه خلاصة أفكار هذه المدرسة، مدرسة كف الأيدي والرضا بالصبر - من كتاب "مذهب ابن آدم الأول".. إلى كتاب "ظاهرة المحنة"-.
أما الرد عليهم: فإن أول ما يقفز لذهن المسلم السني أمام هذا الغثاء هو القصة التالية: ذكر الذهبي في "ميزان الاعتدال" أنه ذكر لعمرو بن عبيد (من أئمة المعتزلة) حديثا يخالف هواه، رواه الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عمرو: لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعته من زيد بن وهب لما صدقته، ولو سمعت ابن مسعود يقوله لما قبلته، ولو سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله عز وجل يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا.ا.هـ. فهؤلاء القوم لا ندري من أين نبدأ معهم، فهم كما قال جودت سعيد: "لا ترهبهم الكلمات حتى لو كانت كلمات الله"، وهم لا يكنون أي احترام لكلام السلف، بل قد صرح أنه قد اكتشف شيئا لم يعرفه الصحابة رضي الله عنهم، يقول جودت سعيد: إن المسلمين سواء في زمن أبي ذر أو الآن لم يفهموا هذا جيدا.ا.هـ. (13)
وعامة احتجاج هذه الطائفة بما فعل غاندي. (14) ومما فعل الخميني ، (15) وبما فعل عبد السلام ياسين إمام جماعة العدل والإحسان المغربية، لأن هذا هو الحدث أو الشيء الذي ينبغي أن يعد مرجعا وليس المرجع هو القرآن كما يقول جودت سعيد، إذن فهؤلاء القوم لا يرجى لهم عودة لأن البدعة قد استحكمت فيهم كما يستحكم داء الكلب بصاحبه، وصدق رسول ا صلى الله عليه وسلم حين قال: ((لا يرجعون إلى الإسلام حتى يرتد السهم إلى فوقه)) . (16) فلا يعود البدعي عن بدعته، وإن عاد فلا بد من علوق بعض الشيء فيه ولا يخرج منها إلا بنوع خاص من العلم، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.
وهؤلاء القوم يتذكر المرء معهم قوله تعالى: { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}، هذا هو اعتقادنا في أئمتهم، وليعلم الناس أن العقل الذي يزعمونه هو عين الهوى، ولذلك فإن أمثالهم سماهم أهل السنة قديما بأصحاب الأهواء، وإن زعموا أنهم أهل العقل والمنطق، لأن مدار أمرهم على رغبات النفوس والتشهي، وليس على اتباع الحق، وإلا فما معنى قولهم: أنا لم تعد ترهبني الكلمات.. الله أو الرسول أو قال فلان أو قال فلان؟.
(1) - سلسلة فانظروا (عدد 43 ص 2) - وهي رسالة موجهة إلى الشباب المسلم في الجزائر.
(2) - المصدر السابق (ص 3).
(3) - السابق (ص 2).
(4) - السابق (ص 3).
(5) - السابق (ص 8).
(6) - السابق (ص 4).
(7) - السابق (ص 5).
(8) - سلسلة نشرة فانظروا (عدد 40 ص 43).
(9) - السابق (ص 7).
(10) - السابق ص 7
(11) - السابق (ص 7).
(12) - فانظروا ( 43 ص 9 ).
(13) - فانظروا (عدد 43 ص 5).
(14) - مقدمة الطبعة الثانية لكتاب ظاهرة المحنة.
(15) - ظاهرة المحنة، وسلسلة فانظروا عدد 43.
(16) - انظر فتح الباري (ج 12/295) وما بعدها.
الجهاد والابتلاء: القيادة والقاعدة
ترقيق العبارة وسلوك سبيل السّلامة معناه في لغة الدّعوة والبيان في هذا الزّمان ترك ما هو حقّ لترضى عنك طوائف الشرّ من كفرةٍ ومشركين ومبتدعةٍ وغيرهم.
وقد يظن الجاهل المتلعِّب أنَّ سلوك سبيل كلمة الحق معناه البحث عن الهلكة ونسي أن العلاقة بين كلمة الحق وبين البلاء علاقةُ تلازُم لا انفكاك بينهما.
وعلى كل حال نبارك لهم طرائقهم التي ستؤمِّن لهم الأمن والدعة، ولكننا رضينا هذا الطريق فسنسلُكه حتى النهاية.
سنبقى نفرح ونعلن فَرَحَنا لكلِّ عملٍ جهاديّ فيه قتل الكافرين وتعذيبهم، وسننشُر هذا الفرح وسنبقى الصوت النشاز بين كل الأصوات الشيطانية السَّاكتة أو الناعقة.
سنبقى نفرح ونُعلِن فَرَحنا لكل عملٍ استشهادي فيه دمار مَعقِلٍ من معاقل الطاغوت أو لكل عمل رائع فيه صد طاغوتٍ وجندلته، وسنقتدي بهدْي القرآن في لَعنِ المشركين والكافرين ونردِّدُ من غير خوفٍ ولا وجل {تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد}.
سنلعن أبا لهبٍ في كلِّ عصرٍ وسنلعن دولته وجُنده وأهله وامرأته حمّالة الحطب.
قولوا ما شئتم، سمّوا هذا ما شئتم، واختاروا من معاجمكم الجديدة في قلب الحقائق ما أحببتم.
هل يسعنا أن نرمي رسالة الشيخ عمر عبد الرحمن في أدراج المهملات مخافة اتِّهامنا بأننا أنصار المتطرفين والإرهابيين؟. فوالله لو فعلنا ذلك لخِفنا أن يخسف الله بنا ويضرب قلوبنا ويختم عليها.
هل يسعُنا أن نفعل كما فعل أهل السِّياسة الشيطانية من جماعة الضلال، وجماعات الخِزي والعار في التسابق على استنكار كلِّ عمل جهاديٍّ، وكأنه مفروض عليهم أن يموتوا وهم على بغض الخير؟.(54/246)
أيُّ كلمة صادقة هذه إن لم تكن هذه الكلمة في هذا الزمان تؤدِّي بك إلى السِّجن أو النفي أو عدم الأمن؟.
إن البحث عن كلمة صادقةٍ كل الصدق، واضحةٍ كل الوضوح قريبةٍ إلى قلوب المؤمنين يرضى عنها ساكنو السماء وأولياءُ الله في الأرض ثمَّ تكون بغيرِ ثمنٍ تدفعه هي كلمةٌ لا يُمكن أن تكون صادِقة ولا يمكن أن تكون حقاً من كل وجه.
أيُّ دين هذا وأي حقٍّ هذا الذي نحمله، وأيُّ كلام هذا الذي ننشره ونبتغي منه حركة الأمِّة وإصلاح شأنها وخروجها من حمأة الذلِّ والعار ثم نحن نجمجم فيه ونجمله ليرضى عنه أشباه الأنعام ممن لا عقل لهم ولا نظر صحيح {إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضل}. إنَّ كلمات الحق ليست برسِيماً تفرَح له البقر إن رأته، بل هي حِمَم حقٍّ كلَّما رأوها كلَّما ازدادوا لها بغضاً وازدادوا عنها بُعداً ما دامت قلوبهم لا تؤمن بالله وبمحمد r.
الإعلام الإسلامي والدعوة إلى الله ليست امرأة نزيِّنها للخُطَّاب من كلِّ جِنس ليشمّ منها ما يرضيه ويحبه.
نعم نحن نحبّ الخير للناس، ومن محبَّتنا الخير لهم أن نقول لهم الخير والحقَّ وإن كان مُرّاً على أنفسهم، فإن أقبلوا عليه أقبلوا على الحق كما هو في نفسه من غير تزيينٍ باطلٍ، ولا تزويرٍ دجليٍّ.
لو أنَّ بدعيًّاً جاءَك وسألك عن حكم الله في بدعته، فما الواجب عليك لتهديه إلى الحق؟. عندما جاء الرجل إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم وقال له: أين أبي؟ بم أجابه رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو إمام الحِكمةِ وسيِّد الكلمة الحسنة، هل قال غير كلمة الحق التي أصابت منه ألماً؟. قال له: ((هو في النار)).
ماذا سنقول للمشركين حين يسألونا عن موتاهم وعن عقائدهم وعن مذاهبهم؟ هل نقول لهم - إن استحسنوا الديمقراطية - أنّ في ديننا الديمقراطية ليرضوا عناّ وعن ديننا؟ أو نقول إن الإسلام فيه الكثير من الديمقراطية ليحبوا الإسلام ويرغبوا فيه؟.
يا قوم مالكم كيف تحكمون؟ أي كتبٍ هذه التي تقرؤونها فتهديكم إلى هذا الشرِّ المبير والمَهْلَكة العظيمة؟؟.
يا قوم هما طريقان: طريق يؤدي إلى الابتلاء، وطريق ترضى به عنك الأغيار، أما الأول فهو طريقُ الحقّ وأما الثاني فهو طريقُ الباطل وإن تسمّى بكل الأسماء الجميلة الكاذبة الخادعة.
نحن لا نحبُّ ولا نرغَبُ أن يرضى عنّا مشايخ السلطان، ولا طلاّب السلامة ولا أبواق الدعايات، ولا مؤسَّسات الكذب والدَّجل، ووالله إنّنا نخاف أن نسمع أنّ أحداً من هؤلاء مَدَح ما نقول أو أُعجِب بما نقول.
نحن نقولها بكل صراحة: نحن نحبُّ أن يَبغضنا أعداء الله، ونحن نحبُّ أن يبغضنا أهل البدع، لأن بُغضهم زاد الطَّريق كما قال ابن حزم رحمه الله تعالى: لكل شيءٍ فائدةٌ ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعةً عظيمة، وهي أنه توقَّد طبعي، واحتدم خاطري، وحمى فكري، وتهيّج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف عظيمةِ النفع، ولولا استثارتهم ساكِني، واقتداحهم كامني ما انبعثْتُ لتلك التّواليف. (مداواة النّفوس ص 48)، فلولا وجودهم ما عرفنا للحقّ طعماً، وصدق عمر رضي الله عنه حين تمثل قائلاً: ذكّرتَني الطّعن وكنت ناسياً. هكذا هو الحقّ، وهكذا غربته في كلّ زمانٍ، وأنا أعجب لأولئك القوم الذين يضعون على أعيُنِهم عصاباتٍ غليظةٍ تمنعهم من رؤية الشرِّ الذي سرى في الأمّة، وأقول مرّات ومرّات لعلّهم فسدت أمزجتهم فصاروا يرون الباطل حقّاً، والحلو مرّاً، وتغيّرت معالم الأشياء وأسماؤها وهكذا يكون صاحب الفطرة المتغيّرة والقلب المنكوس، فإنّه لا يعرف معروفاً ولا يُنكر منكراً، وحين يصل المرء إلى هذه المرتبة لن تملك له شيئاً، والله الهادي والموفّق.
نعم بعض الأحبّة يُشفقون علينا ولكنّها شَفَقةُ ابن هرمة وهو يمدح الحكم بن عبد المطّلب بن عبد الله بن المطّلب بن حنطب حين قال:
لا عيب فيك يُعاب إلاّ أنّني أمسي عليك من المنون شفيقا
ولكن من رحمة الله بنا أنّ هذه المنون لن تُبقي أحداً فالقاتل ميّتٌ كما المقتول، وعند الله تجتمع الخصوم فلِمَ الحُزن والشّكوى وإنّما بين المتقدّم والمتأخّر لحظات ثمّ نزور المقابر.
الفقيه والسلطان والاجتهاد
"إن كان المرء العالم في كفاف من العيش، من وجه مرضي، فليحمد الله عز وجل، وليقنع به، وليعمل لدار القرار، ولا يسره الإكثار من أحجار وخرق يتركها عما قريب، أو تتركه" ابن حزم
المجتهد والمفكر
من أجل استتمام الأمر على صورته الكاملة انطلق هؤلاء المنهزمون تحت شعارات عدة، وإلى مواقع عدة لخدمة هذا الانحراف: من هذه الشعارات التي استخدموها شعار (الفكر الإسلامي) و(المفكر الإسلامي) هذا الشعار بدأ استخدامه كبديل عن صورة "المجتهد" في اصطلاح أئمتنا.(54/247)
مصطلح المجتهد يحمل في ذهن المسلم مجموعة من الشروط التي لا يقبل أن يتنازل عنها بسهولة، مع أننا نعترف أن كثيرا من هذه الشروط ليست صحيحة، لكن هذه الصورة على العموم لا تسمح للمدعي أن يلج إلى هذا المصطلح ويتلبس به بسهولة، ومما استغله أصحاب هذا الشعار، أن الفقه الإسلامي باعتباره مصطلحا، صار قاصرا في موضوعه على مجموعة من الأبحاث لا يتعداها، مثل العبادات والمعاملات، وهكذا فإنهم اقتصروا في اجتهاداتهم على هذه الأمور، فالفقيه الإسلامي في هذا العصر هو الذي يتكلم في شئون فقه الصلاة، وفقه الصوم، وفقه الزكاة، وفقه الحج، وأحكام الدماء والطهارة وما جرى على هذا المنوال، وأما المفكر الإسلامي فهو الذي يبحث فيما لا يدخل في اختصاص الفقيه الإسلامي (حسب قسمة عقلية الانحطاط المتأخرة). ومن هذه الأمور التي ولج فيها المفكر الإسلامي بقوة: مسائل السياسة الشرعية، فهو يتكلم عن الديمقراطية في الإسلام، والاشتراكية في الإسلام، والعدالة الاجتماعية في الإسلام، ونظام الحكم في الإسلام...الخ هذه القائمة الطويلة، وهذا المفكر بهذه اللعبة الغريبة سمح لنفسه أن يجتهد في أعظم مسائل الدين والفقه، ولكن تحت دعوى أنه مفكر إسلامي، وليس فقيها أو مجتهدا، مع أنه في الواقع فقيه ومجتهد (ولكن ليس كل مجتهد مصيبا) وباستخدامه كلمة المفكر أسقطت عنه الكثير من المسدلات والعوائق التي ستقع لو أطلق على نفسه وصف الفقيه أو المجتهد، وحتى تتضح لك الصورة أكثر خذ هذا المثال: الشيخ المجتهد الفقيه راشد الغنوشي، ( أظن أنك لن تستسيغ هذه الأوصاف لهذا الرجل، لكنها الحقيقة على كل حال)، ويقابله في الصورة الأخرى: المفكر الإسلامي عبد العزيز بن باز (أظن أنك لن تستسيغ هذا الوصف كذلك، لكنها الحقيقة على كل حال).
والسؤال: لماذا لم تستسغ هذه الأوصاف؟، وما هو الشيء الاجتهادي الذي يخوض فيه الأول ومحرم على الآخر؟. وما هو الشيء الاجتهادي الذي يخوض فيه الثاني ومحرم على الأول؟.
راشد الغنوشي: فقيه ومجتهد ولا شك، وهو يصول ويجول في أكثر مسائل الدين والعبادات تعقيدا، (ويغوص) حتى أذنيه في مسائل فقهية كان كبار الأئمة يتورعون عن الاقتراب منها. ولكن كيف استطاع تمرير أفكاره؟ وكيف استطاع إسقاط المسائلة عنه؟. إنه برفعه شعار: المفكر الإسلامي. فهو لا يتكلم في مسائل الصلاة والصوم والزكاة، ولكنه يتكلم في الفكر الإسلامي.
إن رفع شعار (الفكر الإسلامي) على هذه الصورة، وهذا المنوال لعبة ضلالية - قصد أصحابها أو لم يقصدوا - وهم به سمحوا لهذا الدين أن يصبح ألعوبة بيد الصبية، يلغون فيه كما يشاءون، وإلا فمن الذي سمح لفهمي هويدي أن يتكلم في عظائم الشريعة، ويقول فيها ما يحلو له ويسقط أحكام أهل الذمة من كتب الفقه؟.
ومن الذي سمح لمحمد عمارة أن يتكلم في عقائد المسلمين فيصلح منها البالي كعقائد المعتزلة ويرمي في المزبلة الحق والصواب؟.
ومن الذي سمح لحسن الترابي أن يجدد في أصول الفقه، ويجعل البرلمان الإسلامي صورة الإجماع التي لها الحق في نسخ الشريعة؟.
ومن الذي سمح لجودت سعيد أن يجعل مذهب ابن آدم الأول يلغي دين محمد بن عبد ا صلى الله عليه وسلم ، ثم يتجرأ بعد ذلك بأن يجعل الحكم القدري (الواقع ) هو الذي يفسر النصوص في الشريعة وليس البيان العربي؟.
ومن الذي سمح لخالص جلبي أن يجعل مذهب غاندي أحب وأسلم من دين محمد بن عبد ا صلى الله عليه وسلم .
من الذي سمح لهذا الغثاء - من المفكرين - أن يقودوا الحركة الإسلامية ويصدروا الأحكام فيها.
أي فكر هذا؟. وما هي شروطه؟.
وما هي ضوابط الحكم عليه؟!.
أجيبونا يا أهل الرأي والفكر.
الاختراق (تلوين الشريعة حديثا)
جاءت الاشتراكية بارتباطها العقدي وطريقتها الاقتصادية وزورت لباسها على المسلمين بهذا التفريق ( أي التفريق بين العقيدة والطريقة )، ومع أنها في بداية الأمر ككل المذاهب والنحل الوافدة طرحت نفسها بصورتها الحقيقية وبأبعادها الشاملة فلما سل عليها حكم التكفير والزندقة عادت لتتخفى بهذا التفريق المذكور، فانطلت الحيلة وصار الإسلام اشتراكيا أو بالمصطلح الذي ذكرناه: أسلمت الاشتراكية، وبالتالي أصبح الإسلام: الطريقة =صوفية، الحكمة = فلسفية، الاقتصاد = اشتراكية.
ثم جاءت الديمقراطية، وكانت عند أصحابها دينا إنسانيا لها بعدها العقدي (الأيديولوجي) ولها بعدها السياسي الليبرالي، وكما قال الأوائل عن الصوفية الأولى وعن الفلسفة الأولى أنها كفر وزندقة، وسلت عليها سيوف العلم والجهاد، حيث قالوا عنها أنها دين جديد له كل خصائص الدين، وأنها طريقة وعقيدة، عادت وتخفت وخرجت لنا بالثوب الجديد، وهو التفريق بين الديمقراطية كدين وبين الديمقراطية كوسيلة (طريقة)، مع أن ارتباط الحقيقة (العقيدة) بالطريقة (الوسيلة) هو ارتباط حتمي وعضوي، والتفريق بينهما هو تزوير للحقيقة والواقع، لكنهم بعد هذا التفريق صيروا الإسلام ديمقراطيا أو بالتعبير السابق: أسلمت الديمقراطية.
هل يمكن تصور عدم تأثر العقيدة مع تغير الطريقة؟.(54/248)
الجواب ابتداء: لا وألف لا، فإن هذه الطريقة هي طريقة خداعية لتمرير القضية خطوة خطوة، وهكذا مذهب إبليس وطريقته - خطوات الشيطان - فعندما يرفض الناس المذهب جملة واحدة فلا مانع من إعطائه لهم جرعات متفرقة بدءا بالأخف وانتهاء بالأشد.
نعم استقرت الصوفية في الإسلام، وصارت هي الإسلام، والإسلام هو الصوفية، وليس من حرج أن نكرر مرة أخرى - أسلمة الصوفية أو تصوف الإسلام - ولكن هل استقرت الصوفية في الإسلام كطريقة فقط، أم أنها بعد ذلك حملت الناس من الطريقة إلى العقيدة؟ لقد استعملت الصوفية التقية في موضوع العقيدة، وبقيت تظهرها بعد أن يبلغ المرء منتهى الاستسلام، ولذلك ليس مستغربا أن يأتي لنا شيخ محدث مثلا ليجعل عقيدة الإسلام هي وحدة الوجود، انظر كلام الغماري في شرحه حديث ((من عادى لي وليا)) ورده على الإمام الذهبي - والشيخ من المعاصرين -، هذا غيض من فيض، لقد سيطرت الصوفية بعقيدتها مع طريقتها على عقائد جملة من الناس تحت اسم الإسلام والاهتداء بالكتاب والسنة.
وكذا فعلت الحكمة الفلسفية، أدخلت المنطق إلى طريقة التفكر والنظر، واستقر المنطق في كتب العقائد ، (1) واستقر بعد ذلك في أصول الفقه، (2) وبعد أن تم لها هذا لم تجبن في عرض عقيدتها بعد أن صار لاسمها الاحترام والتقدير، فانتهى الأمر أن العقيدة الفلسفية هي نفس العقيدة الإسلامية. (3)
والآن جاءت الديمقراطية: المشايخ يطرحونها باعتبارها طريقة حكم، ووسيلة سياسة، ويفرقون بينها وبين عقيدتها (العلمانية)، ويقولون إن الديمقراطية هي لب الإسلام وجوهره، حتى أن الشيخ المعمم يوسف قرضاوي لم يخجل من القول إن الإسلام يستوعب الديمقراطية بكل تجلياتها.
ولكن، هل هؤلاء في الحقيقة لا يعتقدون عقيدة الديمقراطية؟ الجواب يظهر من تصريحاتهم وبياناتهم وأنهم صاروا يعتقدون العقيدة الإنسانية التي تعطي الإنسان استقلالية حياته في هذه الدنيا عن الغيب والآخرة.
صار الإسلام إنسانيا أي لم يعد الإسلام الذي عرفه الصحابة رضي الله عنهم، والذي جعل هذه الدنيا محطة للآخرة، وأن الإنسان عبد الله، بل صارت الدنيا هي غاية المنى وعلى ضوء أحكامها ومصالحها يستنبط الناس الأحكام والتشريعات دون النظر إلى المقصد ا لأخروي.
وكما حارب الناس قديما من حارب الصوفية، وكما حارب الناس قديما من حارب المنطق وعلم الكلام فها هو التاريخ يتجدد على هذا النسق مع الديمقراطية، إذ صار المسلم المتنور والمفكر الذكي الواعي والمستنير هو المفكر الديمقراطي، وحتى الذين يعرفون منشأ الأسلوب (الطريقة) الديمقراطية، ويعرفون منبتها وعقيدتها فإنهم يفرقون بين العقيدة والطريقة، وهذا عندهم منتهى الأصولية، أي أننا أمام نوعين من المسلمين: مسلم يؤمن بالديمقراطية وجميع تجلياتها، ومسلم يؤمن بالطريقة ويكفر بالعقيدة، لكنا نقول كما قال سلفنا: كلاهما كفر وردة وحكمنا فيهم أنهم زنادقة.
قال الشافعي ومالك رحمهما الله: علماء الكلام زنادقة.
قاعدة التفريق بين الطريقة والعقيدة ( الدين وسيلة أم غاية..؟!):
من أساليب أهل البدع الآرائيين التفريق بين الطريقة والعقيدة، فهم يمررون المذهب الجديد والنحلة الوافدة تحت باب إضفاء الفاعلية والحركة على هذا الدين، وذلك بأخذ الطريقة من المذهب والنحلة الوافدة، كما رأينا هذا واضحا مع الصوفي والفلسفة سابقا، وهذا هو الواقع مع الديمقراطية، فإنهم لأسلمة الديمقراطية أو لتحريف الإسلام في البداية فرقوا بين العقيدة الديمقراطية وبين أسلوبها، فهم يزعمون أنهم أخذوا الديمقراطية بآليتها وحركتها وتنظيمها وأسلوبها ورفضوها عقيدة (وأيدلوجية)، وهذا التفريق مرحلي عند البعض، وإلا فإن الكثير صار ديمقراطيا باعتقاده، أي أنه ذهب يفسر الإسلام من خلال أصل النحلة الديمقراطية وعقيدتها، فصار الإسلام إنساني الوضع، دنيوي الأحكام، لا علاقة له بالآخرة، ولا قيمة لضرورة الدين والرضى الإلهي، وهذا قد بسطناه قليلا فيما سبق عند ذكرنا لمفهوم المصلحة الشرعية والمصلحة في عرف الآرائيين.
وإن من أخطر هذه المظاهر لهذا الاختراق هو الحديث عن الإسلام باعتباره دينا نافعا لا بحقيقة أنه الدين الوحيد الصحيح، وشرح المسألة كما يلي:
مبدأ العلاقة بين المسلم وبين الإسلام هي التعبد، وأنه ما خضع لهذا الدين إلا لكونه صادرا ممن له حق الأمر والنهي، فلو أمر الله تعالى عباده بما فيه ضررهم وعذابهم فعلى العباد أن يطيعوه ويمتثلوا أمره كما أمر الله تعالى عبده وخليله إبراهيم عليه السلام أن يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام -، وأساس ذلك تصديقهم خبر صلى الله عليه وسلم أنه صادر من الله تعالى ولو لم تحتمله عقولهم، نعم كان من رحمة الله تعالى بعباده أنه ما من أمر أمرهم إياه إلا وفيه تحقيق لمنفعتهم في الدنيا والآخرة، وما من خبر أعلمهم إياه إلا وفي عقولهم القدرة على فهمه وإدراك معناه، وهذا هو لب دين الإسلام ومعناه وجوهره، وأما المبتدعة الجدد والآرائيون والحداثيون فلهم تصور آخر مع هذه الحقيقة وسأسوق قصتين بهما أستطيع إيصال هذا الفارق لإخواني:(54/249)
القصة الأولى: من المعلوم أن الشيوعية لا تؤمن بالأديان السماوية، وتنفي عالم الغيب بكل ما فيه، ومن هذا الغيب الله سبحانه وتعالى، وقد حاربت الشيوعية الأديان كلها، ولها تعامل خاص مع الإسلام وأهله، فالشيوعيون يكنون حقدا وعداء خاصا للإسلام ولا نريد أن نأتي على شرح أسباب هذا الخصوص، أقول: ومع أن الشيوعية تنكر الأديان، لكن هذا لم يمنع ستالين من أن يفتح الكنائس ويستدعي القساوسة ليدخلهم إلى جبهات القتال، ويفتح لهم أماكن الاجتماعات ليواجهوا الرعايا وذلك خلال الحرب العالمية الثانية، وعندما اجتاح هتلر روسيا، وسبب ذلك أن ستالين رأى في الدين عاملا مهما لتحقيق النجاحات والانتصارات ضد هتلر والألمان والنازيين، فهو لا يعتقد بالأديان ولكن رأى أنه يمكن استغلال الدين في هذه المرحلة لدفع الناس للمقاومة والجنود للحرب، ولهذا أمر بالكنائس أن تضرب النواقيس، وللقساوسة أن يأخذوا دورهم في التحريض والمقاومة، فأنت ترى أن ستالين لم يكن يهمه صحة الدين أو عدم صحته وصواب الدين أو عدم صوابه، بل رأى في الدين عاملا نافعا لهذه المرحلة.
القصة الثانية: الجنرال باتون الأمريكي، أحد القادة في الحرب العالمية الثانية كان بحاجة في إحدى معاركه إلى يوم صحو لتحقيق بعض الإنجازات العسكرية ضد الألمان، فاستدعى رجل الدين النصراني المرافق للجيش، وطلب منه أن يكتب له صيغة صلاة ليسأل فيها ربه لتحقيق يوم صحو، وبالفعل كتب له صيغة الصلاة وقدر الله أن يكون اليوم الذي طلبه صحوا، وبعد المعركة استدعى الجنرال باتون القس العسكري وقلده وساما خاصا لحسن علاقة القس مع ربه كما قال الجنرال.
القصة حقيقية وتظهر لنا أن الدين بالنسبة لهذا النوع من البشر هو لتحقيق مقصد دنيوي، به تحصل المنفعة، وهي صورة تتكرر في استخدام الدين باعتباره يحقق مصلحة لا باعتباره دينا حقا، يحقق العبودية لرب العباد، كما استخدم الجيش المصري شعار "الله أكبر" في معركة أكتوبر ضد اليهود، وكما تضع الكثير من المؤسسات العلمية والاجتماعية بعض الشعارات الدينية، سواء كانت إسلامية من آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، أو غير إسلامية.
فالدين إذا عند هؤلاء هو أحد العوامل التي تستخدم لتحقيق الهدف الدنيوي، لا أن الدين بنفسه هو الهدف، وهو شبيه برفع الدولة السعودية شعار لا إله إلا الله محمد رسول الله، ورفع صدام البعثي شعار "الله أكبر"، وغيرها من الأمثلة، فالدين عندهم وسيلة لا غاية لتحقيق العبودية لرب العباد التي هي غاية الغايات بالنسبة للمسلم الصادق، ولذلك مصلحة الدين تقدم على أي مصلحة، وضرورة الدين لا تعادلها ضرورة، فالنفوس تموت من أجل الدين، والأموال تنفق لرفعة الدين، وكل المصالح تنهار في سبيل تحقيق إقامة الدين وإعلائه.
(1) - انظر شرح المقاصد.
(2) - انظر "المستصفى" للغزالي.
(3) - انظر "تهافت التهافت" لابن رشد.
قراءة في التحالف الآرائي العلماني
كيف نقرأ هذا التوجه في لهم الدين عند الآرائيين المبتدعة؟.
في اللقاءات التي تقع بين هؤلاء المبتدعة وبين القوميين والوطنيين، وكذلك في مؤتمرات الأديان، نرى أن القضية تجاوزت، بل لم تعد تجد الاهتمام في عقول المبتدعة في أمر دعوة الخصوم إلى الإسلام، وبيان حق الله تعالى على العبيد {يعبدونني لا يشركون بي شيئا}، {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله...} بل صارت هذه اللقاءات تعقد للاتفاق على ضرورة استخدام كل طرف لقواه الفاعلة لتحقيق أهداف مشتركة، مثل الوقوف أمام الإلحاد، أو تحقيق الوحدة الوطنية، أو تعميق مبادئ الديمقراطية والحرية أو الوقوف ضد الطغيان الأجنبي وإليك الأمثلة:
في بيروت من تاريخ ( 10-12 تشرين الأول / أكتوبر سنة 1994) تم عقد المؤتمر القومي الإسلامي، وبتمثيل من الجانبين القومي والإسلامي كونت مجموعة من الشيخ غير المعمم راشد الغنوشي والدكتور خير الدين حسيب، والدكتور أحمد صدقي الدجاني، ومن عصام نعمان (ممثلا عن الدكتور حسن الترابي)، قدم الإسلاميون ، (1) قلت قدم المبتدعة ورقة عمل بتكليف من اللجنة المذكورة، وكان ممثلو التيار الإسلامي هم: فهمي هويدي، محمد سليم العوا، محمد عمارة، يوسف القرضاوي، وقالوا الكثير من الضلالات في ورقتهم وما يهمنا هنا هو البنود والتوصيات ا لتالية:
8 - (حسب تسلسل الورقة المقدمة) ولأن التحديات على درجة من الخطورة غير مسبوقة في تاريخنا المعاصر، والانهيارات في الجبهات العربية تتوالى بسرعة مخيفة، فإن التيار الإسلامي لا يرى أي جدوى من إنفاق الأوقات التي تخصص لهذه اللقاءات في مناقشة الماضي، أو محاولات كل تيار لتبرئة ساحته مما يرميه البعض به من تهم، وإنما الذي نراه مجديا ومؤثرا هو أن يتطلع المفكرون والقياديون المجتمعون إلى الحاضر والمستقبل، يحاولون في الحاضر مقاومة الاستسلام الرسمي لمحاولات الاستتباع والإضعاف وقهر الإرادة الوطنية، ويحاولون في المستقبل صنع ا لوسائل الكفيلة بتغير الواقع المر باستعادة السيادة الوطنية واستقلال القرار العربي وفرض الحق على الناكبين عنه والرافضين له.(54/250)
قلت: لا يوجد في هذه النقطة ولا في كل الورقة إشارة إلى صراع الإسلام باعتباره دين الله تعالى مع أديان الشيطان ومذاهبه، ولا قضية التوحيد مع الشرك، ولا يوجد إشارة ولو خفيفة إلى أساس الخصومة {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}.
13 - ويفتح هذا اللقاء أبواب التفاهم الاستراتيجي بين التيارين القومي والإسلامي حول القضايا التي يجب حسمها في سبيل صياغة مشروع للنهضة العربية في مواجهة محاولات ترسيخ الاستذلال والاستتباع للصهيونية والغرب.
قلت: التيار القومي مدعو إلى المشاركة في صياغة مشروع النهضة العربية وهو التيار الذي صنع الكثير من المصائب السياسية والاقتصادية والفكرية، وما الحزب القومي السوري وأعمدته عنا ببعيد، فإن أغلب العلمانيين الحاقدين على الإسلام من نتاج هذا الحزب وهذا التيار، فهل يقال بعد هذا أن القوميين الكفرة مدعوون لصياغة مشروع النهضة للأمة المحمدية، سبحانك هذا كفر صريح.
14 - وأولى هذه القضايا هي قضية المرجعية الإسلامية العامة لهذه الأمة، فالتيار الإسلامي يرى أن هذه المرجعية لا تكون إلا للإسلام، وأن عوامل القوى الأخرى للاعتزاز القومي بالتاريخ وبالنضال والأبطال وبالمواقف يجب أن تكون إضافة مقدرة إلى رصيد المرجعية الإسلامية ولا يجوز أن تكون تحت أي ظرف خصما من هذا الرصيد أو عبئا عليه.
قلت : أرأيت أخي المسلم ما هو مفهوم الإسلام عند هؤلاء المبتدعة؟ إنه إسلام التاريخ، والانتساب الحضاري، لا إسلام الاستسلام لرب العباد، واعلم أن هذا الذي يقولون هو عين ما يقوله البعثيون والقوميون عن الإسلام وهو نفس قول ميشيل عفلق النصراني البعثي عن الإسلام، ولهذا لا تعجب من التحالفات التي تقوم بين هؤلاء المبتدعة وبين المرتدين.
15 - والانتقال من القاعدة الديمقراطية إلى الواقع العملي يبين أن الإسلام هو الطاقة الأقدر على تحريك الجماهير نحو موقع حضاري متقدم، وهو القوة الدافعة لنضال مستمر يخرج بالأمة من نكبتها الحالية إلى الموقع الحضاري المناسب.
قلت: إذا كان هذا هو الإسلام الذي يدعو إليه المبتدعة الآرائيون، الإسلام النافع لا الإسلام الصحيح الوحيد.
وبودي لو ذكرت شيئا من ورقة القوميين، ولكن ضيق المساحة يمنعني من هذا، ولكن البيان الختامي كان بمثابة تحقيق لما قلناه وهو أن الإسلام كان مستخدما نافعا لقضايا الشعوب بعيدا عن تدينهم، وبعيدا عن عبوديتهم لرب العباد، فاستخدم الإسلام لقضية تجميع الطاقات لمواجهة التحديات الراهنة ورد الهجمة الحضارية الغربية بإنشاء نموذج حضاري متميز بالعروبة والإسلام.
وهكذا يصبح الإسلام دينا نافعا لتحقيق أهداف الأحزاب والتنظيمات، وليس هو الدين الصحيح، والحق الوحيد، وما عداه كفر وضلال.
{قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين}، {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}، {ودوا لو تدهن فيدهنون}، {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}، {إن الدين عند الله الإسلام} هذه الآيات القرآنية وغيرها من آيات شاهدة على ذلك، أن الدين الذي يعتقده هؤلاء المبتدعة في واد وهم في واد آخر، { متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون}.
(1) - حسب تعبيرات العلمانية الصلبة، يعنون بما الإسلاميين الأصوليين، وإذا كان راشد والترابي من الأصوليين فقد هزلت وبان هزالها حتى سامها كل مفلس.
حال من قاتل تحت راية خيار الشعب والمسيرة الانتخابية الشركية:
اعلم أن راية الديمقراطية راية كفرية شركية، وقد علم القاصي والداني أن الإسلام والديمقراطية دينان مختلفان، فأما الإسلام فهو حكم الله لعباده، والديمقراطية حكم البشر بعضهم لبعض، واعلم أن محاولة البعض مساواة الإسلام بالديمقراطية هي محاولة الزنادقة الذين يريدون أن يبدلوا دين الله تعالى موافقة لأهواء البشر، فإنه وإن التقت الديمقراطية والإسلام في حق اختيار الأمة لحكامها، فإن الإسلام يكفر من خير الناس في أحكامهم، إذ يجب على الناس أن يحكموا بالإسلام وأن يكون الأئمة مسلمين، أما الديمقراطية فهي تجعل للناس حق اختيار أحكامهم وتشريعاتهم، وهذا هو لب الديمقراطية وجوهرها وحقيقتها، فمن جعل الإسلام كالديمقراطية فحاله حال من سوى بين الإسلام واليهودية بجامع أن كلا منهما يعترفان بنبوة موسى عليه السلام، ويقران بوجوب خضوع الناس لسياسة الأنبياء وامتثالهم لأمر النبي المرسل، وشتان بين الإسلام واليهودية {أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون}.
إذا تبين لنا هذا فإن من قاتل تحت هذه الراية فإنه كافر مشرك ويقاتل مقاتلة المشركين (بعد إقامة الحجة الرسالية عليه).
وقد يقول قائل: إن هؤلاء القوم المعنيون يريدون أن يقاتلوا لإعادة الناس إلى البرلمان من أجل أن يحكموا بالشريعة، إذا تبين بالواقع أن حكم الإسلام هو المقصود.(54/251)
فنقول: إن تطبيق حكم ما عن طريق البرلمان ومجلس النواب لا يدخله في مسمى الحكم الشرعي وإن التقى معه في الصورة، وقد قدمنا هذا سابقا، حيث تبين لكل من عقل وفهم دين الله تعالى أن الحكم لا يسمى شرعا إسلاميا وإن كانت صورته تلتقي مع الحكم الشرعي حتى يطبقه المرء بتوصيفه الشرعي، وهو كونه حكما صادرا عن الله تعالى، والحكم الصادر عن البرلمان الشركي هو حكم شركي وإن كان ظاهره يلتقي مع الحكم الشرعي، فالآن قد تبين أن هؤلاء القوم يقاتلون من أجل حكم الشعب لا من أجل حكم الله تعالى، هذا هو حال من قاتل الأجنبي ليحكم الوطني الكافر، فهو يقاتل من أجل راية الوطنية لا من أجل حكم الإسلام الذي أمر الله تعالى بالقتال من أجله كما قال صلى الله عليه وسلم ((اغزوا باسم الله، وقاتلوا من كفر بالله)) ولقوله صلى الله عليه وسلم ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله تعالى)).
فجماعة يمثلها رجل لأنه اختير من قبل الشعب، وجماعة ترى أن الصراع في بلدها هو صراع للعودة إلى المسار الانتخابي الذي أوصل بعض رجالهم إلى قبة البرلمان، فهل تسمى هذه الجماعة بأنها جماعة إسلامية مجاهدة؟ أم أنها جماعة بدعية وبدعتها مكفرة ومخرجة من الملة؟. اللهم إنها جماعة تقاتل مقاتلة الكفار والممتنعين عن الشريعة.
وهنا تنبيه مهم وهو أن الطوائف المقاتلة لا تعامل معاملة أفرادها الجهلة أو حسني النية، بل تعامل معاملة الراية والقيادة كما تقدم سابقا إذ لا يقدر عليها إلا بالقتال، واعلم حفظك الله أن قول من قال: إننا نقاتل من أجل إعادة رجالنا إلى البرلمان هو إسقاط وإهمال لكثير من الآيات كقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}، والدولة الديمقراطية لن يكون فيها الدين كله لله، بل إنها ابتداء تقوم على إلغاء حق الله تعالى في التشريع والحكم والقضاء، فباسم الشعب لا باسم الله تصدر الأحكام وتطبق في القضاء والمحاكم.
(1) - رواه مسلم من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
(2) - انتهى "باب الياء فصل العين".
(3) - الطبري.
(4) - والحديث في المسند (1/353) من حديث ابن إسحاق إلا أن فيه رجلا مبهما ما بين ابن إسحاق وعكرمة والحديث له شواهد وأصله في صحيح البخاري (كتاب المغازي) بغير هذه الزيادة. انظر شرح أحمد شاكر على المسند (2/3310).
(5) - المحلى 11/200.
سبيل أهل السنة والجماعة: نقد التزييف
أذكر نفسي وإخواني بأن الفتن كاشفة للرجال، كما قال الرجل لسعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: يا سعيد في الفتنة يتبين لك من يعبد الله ممن يعبد الطاغوت. (1) وقوله هذا حق فإنهم في الوسع يرفعون شارة الإسلام ورايته، وكلهم يزعم أنه وليه وصاحبه، ولكن بعد الامتحان والاختبار يعرف الناس حقائق أنفسهم وعقائدهم. فهؤلاء المتمسكون بشعار جبهتهم وحزبهم، هذا الحزب الذي لم يعلم قادته وأفراده قط التوحيد الصافي، فبعضهم صار وزيرا في دولة الردة، وبعضهم نهق بعداء المجاهدين، وبعضهم ارتمى في أحضان الشرق أو الغرب، فأي توحيد علمهم حزبهم هذا وتجعهم هذا. ثم يأتي بعد ذلك من يأتي متبجحا قائلا: إن راية هذا الحزب والتجمع هي راية أهل السنة والجماعة"، فلا أدري عن أي سنة وجماعة يتكلمون!!.
واعلم وفقك الله لأرشد أمرك أن هذه المسألة جد خطيرة، وليست هي بكثرة الناعقين والمرجفين، ولا بكثرة العمائم المدورة، والشهادات العالية المزركشة بل هي بالدليل والبرهان، ثم عليك أن لا تطمع كثيرا بهداية أهل الأهواء والبدع، فإن البدع قد دخلت في كل مفاصلهم وشربتها قلوبهم حتى الثمالة، ثم اتفقوا وتمالؤوا على الكذب والبهتان فالصدق منهم كعنقاء مغرب غرابة وقد صدق أبو بكر مسلم الزاهد ذكر يوما المخالفين وأهل البدع فقال: "قليل التقوى يهزم العساكر والجيوش". وصدق الشاعر حين قال:
من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة
فاهرب من هؤلاء المبتدعة، ولا ترخي لهم سمعك لئلا يمرضوا قلبك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا تجالسوا أصحاب الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب"، وأي مرض أعظم من أن يذهبوا بك إلى دين يضاد دين صلى الله عليه وسلم من كل وجه (أعني دين الديمقراطية) فإياك وتسللهم في قلبك.
عن حبيب بن أبي حبيب قال: شهدت خالد بن عبد الله القسري بواسط في يوم أضحى وقال: ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله علوا كبيرا عما يقول الجعد بن درهم، ثم نزل فذبحه. (2)
وقد مدح الأئمة الأعلام فعل القسري عند ذبحه الجعد، قال ابن القيم في نونيته:
وكذاك قالوا ماله من خلقه أحد يكون خليله النفسان
وخليله المحتاج عندهم وفي ذا الوصف يدخل عابد الأوثان
الكل مفتقر إليه لذاته في أسر قبضته ذليل عاني
ولأجل ذا ضحى بجعد خا لد القسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان(54/252)
شرح الأبيات: هذه الأبيات في أوائل نونية ابن القيم في العقيدة (3) حيث بدأ ابن القيم يعدد خصال الجهمية المعطلة (4) ويقصد بالمعطلة: أنهم يعطون صفات الله تعالى وينفونها ويزعمون أن الله ذات مجردة، وهم وإن كانوا متأولين إلا أن نهاية قولهم هو القول بتعطيل الخالق، إذ لا يتصور العقل ذاتا من في غير صفات إلا لمن لا حياة له، أو نهاية أمره هو القول بوحدة الوجود، وهو أن الله هو كل موجود، وقد ورث الأشاعرة هذه العقيدة (التعطيل)، مع أنهم ينسبون هذه الصفات إلى الله تعالى إلا أنهم يجردونها عن حقيقتها بتأويلها فينسبون لله صفة المحبة ولكنهم يفسرونها أنها إرادة الخير من الله للإنسان. فابن القيم يقول عن الجهمية أنهم نفوا عن الله تعالى صفة الخلة وهي صفة جاءت في الحديث: ((لو كنت متخذا من الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكني خليل الله))، والخلة هي أعلى مراتب المحبة لأنها لا تقال إلا إذا تخلل الحبيب كل القلب، كما قال الشاعر:
تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا
ولهذا سمي إبراهيم عليه السلام خليل الله تعالى.
فالجهمية نفت صفة الخلة وجعلوا الخلة هي حاجة المرء لربه، فرد عليهم ابن القيم أن هذه الصفة لا يتميز المسلم بها عن الكافر لأن جميع الخلق (مؤمنهم وكافرهم) محتاجون إلى الله تعالى، وجميع الخلق في قبضته وأسره.
وبسبب نفيهم صفة الخلة عن الله تعالى وقولهم بتعطيل صفات الله تعالى كالكلام وكذا علوه على خلقه استحقوا القتل، وقد قتل القسري الجعد بن درهم لقوله بهذه العقيدة الفاسدة.
وقد مدح العلماء (أهل السنة) صنيع خالد القسري هذا وكذا مدحه ابن القيم بقوله: "لله درك من أخي قربان".
لقد احتاج الشباب المسلم المجاهد قفزة نفسية هائلة حتى استقرت في أذهانهم مصطلحات السلف، وصاروا يستعملونها دون حرج ودون شعور بالنقص، نعم كانت الدائرة التي يتوقف عند حدودها الشباب في المناقشة حول القرب من الصواب، فمن أصوبنا؟ ومن أقربنا إلى الحقيقة؟ وهذا بسبب التربية البدعية التي نشأوا عليها والتي تجعل كل قول ينتسب إلى الإسلام قولا إسلاميا، وأنه يجب اعتباره واحترامه وتقديره، واختلط في أذهانهم عدم الفرق بين المسائل الاجتهادية والمسائل الخلافية فلم يعودوا يفرقون بينهما، فكل مسألة اختلف أهل الإسلام حولها هي مسألة يصح فيها اعتبار الأقوال وعدم العيب فيها على المخالف حتى صرنا نسمع بوجود مصطلحات غريبة عن الفقه الذي كتبه علماؤنا مثل مصطلح الثوابت ومصطلح المتغيرات، ولم يعد الشباب الذين ربوا تربية بدعية في بعض التنظيمات يعرف الحد الفاصل بين ما هو ثابت وما هو متغير، لأنه قد سمع من قادته ومشايخه أنه لا فرق بين أهل السنة والشيعة في القواعد والأصول فربنا واحد ورسولنا واحد وقبلتنا واحدة وفقط (هذه هي الثوابت عندهم وغيرها من المتغيرات)، إلى هذا الحد وصل تجريد الإسلام عن حقائقه وتعريته من أصوله وقواعده، وتفريغه من مضمونه، ولهذا وجب على كل الدعاة إلى الله أن يقرأوا كتب السلف الصالح وأن يتربوا عليها لأن هذه الكتب هي التي تصنع المزاج السني زيادة على المنهج السني، فإن المزاج السني يحتاج إلى طرق ومهمات تربوية لإعادة صياغته وبنائه وإصلاحه من الدمار الذي أصابه، والتشويه الذي لحق به.
هناك كتب سلفية لا ينبغي للمرء المسلم السني المجاهد أن تغيب عن ناظريه، بل يجب عليه أن يعود لها المرة تلو المرة حتى يستقيم منهجه ويصح مزاجه، ومن هذه الكتب العظيمة:
1 - كتاب "السنة" للإمام أحمد الله بن أحمد بن حنبل.
2 - كتاب "الرد على بشر المريسي" للإمام الدارمي.
3 - كتاب "الرد على الجهمية" للإمام البخاري.
4 - كتاب "الإبانة الكبرى" لابن بطة العكبري.
5 - كتاب "الشريعة" للآجري.
6 - كتاب "التوحيد" لابن خزيمة.
ففي هذه الكتب وما نسج على منوالها تستطيع أن تدرك الفارق العظيم بين ما نحن فيه من أخطاء وعيوب وبين ما كان عليه السلف من نصاعة ووضوح.
في هذه الكتب المزاج السلفي الصريح بهجران المبتدعة وتنفير الناس منهم وتحذيرهم من الاقتراب منهم.
هذه الكتب تعينك على فهم ضلالة المفكرين الآرائيين حيث أنهم يرومون هدم الإسلام من قواعده وتدمير أركانه حيث جعلوا شعار الإسلام من حق كل أحد قال أنا مسلم.
هذه الكتب تصنع مزاجا حقيقيا لقيمة السنة وعظمتها ومحبة أهلها، وتصنع مزاجا حقيقيا ببغض المبتدعة والبدعة، وتدفعك بقوة إلى قول كلمة الحق دون مواربة أو تقية.
(1) - "الابانة الكبرى" لابن بطة 2/769.
(2) - رواه البخاري في الرد على الجهمية (ح رقم 3) وفي "التاريخ الكبير" (1/1/14 ) الدارمي والأجري في "الشريعة".
(3) - سميت بذلك لأن قافيتها نون.
(4) - أتباع جهم بن صفوان الخزري وقيل الترمذي ثم قتل زندقة لأقواله هذه.
تهافت المبتدعة (السلف والخلف)(54/253)
المحدثون المعاصرون يريدون منك حاملا لقاعدة الحق النسبي: أي أن الحق الذي تحمله من فهم السلف الصالح لدين الله هو حق نسبي لا مطلق، فعليك أن تعترف لغيرك بالوجود، ولغيرك بأنه يملك رؤية عليك أن تحترمها وتقدرها فإن خلافك مع المبتدعة لا يفسد للود قضية، وأننا علينا أن نتعاون على ما اتفقنا عليه (حتى مع الشيعة الروافض) ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه (حتى لو اختلفنا حول هل شيء هو إسلام واجب أم هو كفر غليظ الديمقراطية والدخول في العمل البرلماني).
وها أنا قد سقت لك مقدمة من تعامل السلف مع المبتدعة، حيث مدح أهل السنة والدين قتل خالد القسري الجعد بن درهم، ولو حدثت الحادثة في هذه الأيام لتصايح الآرائيون بأن هؤلاء (أهل السنة) يقتلون مخالفيهم ولا يحتملون وجود الرأي الآخر، هؤلاء منغلقون ومتحجرون ومتخلفون!!. هذه عبارات الآرائيين.
وأنا أذكرك بأن ما قاله الجعد بن درهم أهون ألف مرة مما يقوله مبتدعة هذا الزمان، ألا ليت مبتدعة هذا الزمان كشجاعة الجعد بن درهم، وليتهم قائلون للحق أمام الطواغيت كالجهم بن صفوان.
إن معايير السلف قد ضاقت في عقولنا إلى درجة هائلة، ولو أننا تعاملنا مع موازينهم في الرجال والحركات لكان ما يقوله هؤلاء المبتدعة في هذا الزمان عند الأوائل زندقة:
فلو أن رجلا قال أمام الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -: إن حديث الذبابة لا آخذ به لأن محمدا r ليس متخصصا في الكيمياء، فماذا سيحكم عليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى؟!!، بل لو عرض هذا القول على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فماذا سيرد عليه، هل سيرد عليه بأن يقول: هذا قولك وأنا أخالفك، وخلاف الرأي لا يفسد للود قضية، أهذا هو دين الله الذي انتصر به السلف أم هو دين الزنادقة.
ولو أن رجلا قال أمام الإمام البخاري رحمه الله: إننا لن نحكم بالإسلام حتى يقبل الناس هذا الحكم، فلو اختار الناس الإلحاد لجاز لهم أن يحكموا به، فهذا الرجل أيصنفه الإمام البخاري مع الجعد بن درهم أم مع ابن الراوندي؟.
يا قوم قليلا من تقدير الله تعالى، وقليلا من احترام فهم الصحابة لدين الله تعالى.
هذه القفزة النفسية الرائعة بتسمية المبتدعة بأسمائهم احتاجت إلى جهد شاق من القراءة المتتابعة لكتب السلف، ثم احتاجت إلى بصر واع للواقع الذي يعيشه الناس وإلى معرفة واقع القوم الذين يزورون دين الله تعالى باسم الإسلام والدين.
قال أبو عبد الله (أحمد بن حنبل): ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي أم صليت خلف اليهود والنصارى، ولا يسلم عليهم، ولا يُعادُون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم. قال عبد الرحمن بن مهدي: هما ملتان (دينان يفترقان عن دين الإسلام) الجهمية والرافضة. (1)
قوله: لا يعادون: لا يزارون في مرضهم، وقوله لا يشهدون: أي جنائزهم.
كان شأن سلفنا الصالح رضي الله عنهم عظيم، مع أهل البدع، ولا يرون شيئا أضر على دين الإسلام منهم، والقارئ المتمعن لكتب السلف لا يرى هذه الهنات النفسية التي وقع فيها الخلف من الإخوان المسلمين وحزب التحرير، ولا يرى فيها التنازلات المقيتة التي وقع فيها المتأخرون من أصحاب التجمعات البدعية، والسلف من أهل الحديث والسنة لم يكن عندهم هم التجميع والتكثير على حساب المنهج بل كان المنهج قبل كل شيء، والتوحيد بجلائه ووضوحه هو أساس المحبة والولاء، والبدعة والشرك هما مناط البغض والعداء والبراء، لكن لما هانت السنة على الناس، وصار الحديث عند أصحاب الفهم الحضاري للإسلام عن الجنة والنار والغيب والآخرة والثواب والعقاب هو حديث السذج من الناس، ضاعت معالم الدين واندرست آثاره، وبدأت المصطلحات الجديدة تغشى الإسلام وشعاره المجرد فصار هناك الإسلام الحضاري، والإسلام الديمقراطي، والإسلام الليبرالي، وصار مقدم القوم هو من يحسن لوك الألفاظ المفخمة، ويتقعر في حديثه متجنبا السنة وآثارها، فتضخمت الرؤوس بالأفكار، والألسن أصابها داء السرطان فطالت مرضا، وقل العمل، وضعفت عبودية الناس لربهم، وقل الشوق إلى الآخرة، حينئذ ضرب الله قلوب الناس بالشبه والأهو اء، فالعبقري الذي لا يفري فريه هو من يحسن رد السنة بالهوى، ومن يقدم الجنة للناس بلا تكاليف، هذا حال أهل الرأي الذين جعلوا الوحي حضارة والنص الغيبي فكرا، فتأنس الإسلام على أيديهم، إذ صار الإسلام هو مصلحة الرجل والجماعة لتحقيق شهواتهم في الدنيا، وكل تكليف ومشقة تلحق الناس في عمل من الأعمال ردوه بحجة الضرورة ورفع الحرج، فتوسع الناس في التأويل وحفظ الرخص ومزالق العلماء وأخطائهم.(54/254)
وقوم آخرون زعموا التمسك بالسنة وبفهم السلف الصالح، وأخرجوا الناس من تقليد الأوائل ولكنهم لم يبرأوا من جرثومة التقليد فأخرجوا الناس من تقليد الشافعي إلى تقليد ابن باز ومن تقليد مالك إلى تقليد ابن عثيمين ومن تقليد أحمد إلى تقليد الألباني، تحاور الرجل منهم الساعة والساعتين وتلقي بوجهه الدليل تلو الدليل فلا يجد في قلبه من الشر إلا أن يقول لك: ولكن الألباني يقول بغير ذلك!!، ولكن ابن باز لم يقل هذا!!، هل قال بهذا ابن عثيمين وابن باز والألباني؟، من قال بهذا؟، ولو قلت له قال الأئمة العظام لعارض هذا القول في نفسه ما يقول هؤلاء الذين اتخذهم آلهة من دون الله، لا يقول إلا ما يقولون، ولا يدين إلا بمذهبهم، وكأنهم أنبياء هذا الزمان، وكان من مقت الله تعالى لهؤلاء القوم أن مسخ الله قلوبهم وعقولهم حيث جعلوا الإمامة (وهي أعلى المراتب وأشرفها في هذه الدنيا) من حق من مسخ الله قلبه وأتى المكفرات العظيمة، فانتسابهم للسلف لم يعلمهم التوحيد الذي يوجب عليهم البراءة من كل طواغيت الأرض، وإني لأعلم عالما (سلفيا!!) اسمه يطرز على كتب الحديث تحقيقا وتخريجا ومع ذلك هو في حزب علماني من أهل بلده، ولا يرى الحرج في ذلك فأي قوم هؤلاء؟! وأي سنة صحيحة ينتسبون إليها؟!!.
هذا حال المتدينين في هذا الزمان، وأهل السنة والحديث كالملح في الطعام؟ غرباء بين أهل الإسلام، ولولا أن الله برحمته يرطب قلوبهم بالإخلاص وذكر الآخرة لضاقت بهم الحياة وانفطرت قلوبهم حزنا وغما.
إن حدثوا الناس بالسنة والعمل قال أهل النفاق: هؤلاء أهل القشور.
وإن حدثوا الناس بكفر الحاكمين بغير ما أنزل الله وطوائفهم قال أهل النفاق: هؤلاء خوارج.
وإن حدثوا الناس بالجهاد في سبيل الله ضد المرتدين قال أهل النفاق: هؤلاء متسرعون لا يفقهون السياسة.
وإن حدثوا الناس بكفر الديمقراطية وكفر العمل البرلماني التشريعي قال أهل النفاق: هؤلاء غلاة.
وإن حدثوا الناس بوجوب تجريد الأتباع ونبذ الأغيار قالوا: هؤلاء متكلسون.
فأي نصر يرجونه من الله ؟!! وأي تأييد إلهي سيقع عليهم؟!!.
لقد جاءت الفرص الكثيرة والكبيرة جدا لتحقيق أماني المسلمين بوجود دولة لهم ترعاهم، وبيضة تمنعهم وتحميهم، وملاذا يؤوبون إليه، ولكن خيب الله ظنونهم، وضاعت هذه الفرص من أيديهم لأنهم لا يستحقونها، ولعلم الله تعالى أنهم أدنى من أن يقع عليهم المن الإلهي بالفوز والظفر. وإني لأعتقد أن الله قد خبأ هذا الخير - دولة الإسلام - لمن يستحقه من أهل التوحيد والسنة والجهاد. وإن جاز لنا أن نحمد هؤلاء القوم على عدم توفيقهم لحمدناهم، ولكن لا يحمد المرء على جهله، فإنهم لو وفقوا لدولة لهم يحكمونها لساموا أهل السنة والحديث والجهاد سوء العذاب.
فلو أن الإخوان المسلمين حكموا دولة من الدول، ثم جاء الخميني بدولته الرافضية اللعينة فماذا سيصنع هؤلاء المبتدعة؟.
لقد علمنا صنيعهم، ورأيناهم وهم يتراكضون عليه يؤممونه ويسيدونه ويوسدونه، حتى قال قائلهم وهو يخطب في جمع من الغثاء بعد أن عاد من إيران الرافضية وتنعم بالسلام على اليد "المباركة"، يد الإمام الشيعي آية الله الخميني، قال: لقد رأيت في وجهه صورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلو أن مثل هؤلاء القوم حكموا بلاد المسلمين فماذا ستكون النتيجة؟، النتيجة أنهم سيسلمون رقابنا إلى إمامهم الأكبر وسيدهم الأعظم الخميني فيفعل بأهل السنة الأعاجيب، كما صنع أستاذه وسيده ابن العلقمي نصير الدين الطوسي في أهل بغداد عندما فتح بغداد لهولاكو فاستباح دماء الناس وأعراضهم حتى قتل أكثر من مليون شخص.
(1) - "خلق أفعال العباد" للإمام البخاري 53، 54.
قدر الموحدين
إني أعتقد أن الفضل الإلهي بدولة الإسلام الناصعة، القائمة على التوحيد الصافي والاتباع المجرد لله لن يصيب - إن شاء الله تعالى - إلا أهله، ولكن بشرط (وشرط أكيد) أن لا يضعفوا، ولا يتنازلوا عن شيء من السنة والدين مقابل مصالح موهومة، أو من أجل هم التجميع والتكثير، أو بسبب طول الطريق وكثرة المعوقات.
نعم يا أهل التوحيد والجهاد لقد ضاقت بكم السبل وقل الناصر وكثر الخصوم فلا تغفلوا عن باب الله المفتوح لكم في كل حين، وهو أوسع الأبواب وأرحمها وأرحبها.
نعم يا أهل الحق لم نصل بعد إلى أن ننشر بالمناشير، ولم نصل إلى أن نقول بل نصرخ: متى نصر الله؟!!.
نعم يا أهل التوحيد والجهاد أئمتنا يسجنون ويقتلون ويقتنصون لكنها ضريبة الطريق، وحتمية السنن.
نعم يا أهل التوحيد والجهاد عمر عبد الرحمن يسجن ويقيد، وأصحاب العمائم النخرة يلهون ويلعبون ويتحدثون أمام الطواغيت عن فضائلهم التي لم تكتشفها الشعوب إلى ا لآن.
نعم يا أهل التوحيد والجهاد لقد رماكم الناس عن قوس واحدة، وتكالبت عليكم قوى الشرق والغرب، وتبرأ منكم أهل البدعة والفرقة والشقاق، لكنها إرهاصات النصر إن شاء الله تعالى.
فإياكم والوهن والتبديل والتغيير، وإياكم ثم إياكم أن يأتيكم الموت وقد بدلتم وغيرتم.(54/255)
أليس من سننية النصر أن يفترق الناس إلى فريقين، وينقسم الناس إلى معسكرين: معسكر إيمان لا نفاق فيه ومعسكر كفر لا إيمان فيه؟ فكيف يحصل هذا بدون محنة وبلاء وعذاب ومشقة؟ لكن اعلموا أن أهل البدعة والضلالة وإن ملكوا الأموال والمناصب، وإن سارت بأسمائهم الركبان، وإن فتحت لهم السدود والحدود فإن ذل المعصية والبدعة مضروب على جباههم، معلق على صدورهم، فها هو الطاغوت يتلعب بهم، ويلهو الشيطان لهم، ويدحرجهم كما تدحرج الكرة، فكفى بذلك لك عبرة، فإياك أن تمر بك الآيات دون نظر وعبرة: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}.
واحذروا من زمزمة القراء، وكثرة المتشدقين، قال صلى الله عليه وسلم ((أكثر منافقي أمتي قراؤها))، وعليك بالسنة والأثر والرجوع إلى فهم السلف ومنهجهم فهم أعلم الناس بدين الله تعالى.
أهل التحريف والتحليل السياسي:
نظرية العمالة والمؤامرة نموذجا
على مدار التاريخ الإسلامي كان الشيطان يصب في عقلية التيارات المنحرفة بعض البدع والحوادث فيجعلها قواعد وأصول في تلقيهم للحكم الشرعي، فلو أخذنا مثلا الصوفية فإن بعض أئمتهم - الغزالي - في كتاب له لتربية النفس وصقلها صوفيا وعرفانيا نبه المبتدئ في الطلب إلى عدم قراءته للقرآن الكريم وجعل سبب هذا التحذير أن قراءة القرآن تشتت اجتماع النفس، ولا بد للطالب من جع همته والتركيز على أمر واحد لحظة الخلوة، وقارئ القرآن الكريم تتشتت همته فإذا قرأ سورة البقرة مثلا فإنه يقرأ الآيات الأولى وفيها ذكر المؤمنين، ثم ذكر الكافرين ثم ذكر المنافقين، ثم ذكر آدم وقصته ثم ذكر بني إسرائيل، فهذه القراءة لهذه المتعددات تشتت الهمة وتوزع الفكر وهذا يفسد السالك الصوفي، فانظر إلى هذه المعوقات الشيطانية التي استقرت كقواعد في أذهان أصحاب هذا المذهب في التنفير من القراءة لكتاب الله تعالى وهي معوقات ذوقية.
بعض أهل الرأي ومتعصبو المذاهب منع من العمل بالحديث حتى يعرضه على إمام مذهبه، أو على أقوال مذهبه، فإن أخذ به إمامه أخذ به وإن رده إمامه رده هو.
أهل الكلام جعلوا ضابط الأخذ بالقرآن والسنة عرضها على العقل، فإن قبلها كان بها وإن أنكرها ردت أو أولت.
والقائمة طويلة، وللشيطان فنون في صد الناس عن تطبيق الحكم الشرعي.
أما في زماننا هذا فللشيطان مع صبية الفقه ومفكري الإسلام ممن لم يتضلعوا بالسنة النبوية ولم يقرأوها ولم يتشبعوا بها طريقة أخرى، فإنه استدرجهم لرفض الحكم الشرعي من باب جديد وهو باب يعادل الذوق الصوفي والعقل الفلسفي والنظر البدعي في رد الحكم الشرعي، هذا الباب هو التحليل السياسي.
هذه اللعبة الجديدة يمارسها أدعياء الفقه، وصبية الفكر في اتهام أي عمل يقوم به المجاهدون أنه داخل ضمن اللعبة الدولية، وهو خادم لإحدى قطبي النزاع في أي منطقة من العالم، فإنه ما من شك لأن عالمنا (الإسلامي!!) منطقة نزاع بين أقطاب دولية، وكل دولة تحاول أن تهيمن على جزء منه، وهناك صراع دولي على الفوز بأكبر كمية من هذه الدول الضائعة بين أقدام اللاعبين الكبار(!!).
وبالتالي فإن أي معركة يقوم بها المجاهدون، ومن خلال تحليل سياسي إبليسي، يستطيع هذا المأفون السياسي(!!) أن يجعل جهاد المجاهدين في مصلحة قطب من أقطاب هذا الصراع الدولي.
وقد سبق للناس جميعا أن سمعوا تحليل أصحاب الأهواء - خدمة لأعداء الله تعالى - للجهاد في أفغانستان حيث جعلوا الجهاد هناك خدمة لأمريكا، فبالتالي فإن عبد الله عزام في عقلية هؤلاء المأفونين خادم لأمريكا، وبعضهم يرقق العبارة ليحدث لها القبول فيجعله مغفلا نافعا - والحديث عن المغفل النافع طويل - بل إن بعض ضلال هذا التيار صار يعلق الأحكام الشرعية على مناطات يفتريها المحلل السياسي، وبالتالي فعبد الله عزام عميل أمريكي، والعميل كافر، فعبد الله عزام كافر، وقد كان بعض أصحاب هذه اللعبة الشيطانية يقولها بملء فيه، وبعضهم يقف بها إلى بعض الحدود، ولكن بعضهم توقف عن ذلك عند مقتل الشيخ عبد الله عزام، ولكنك لن تعدم وجود محللا سياسيا آخر يزعم أن أسياده هم الذين قتلوه بعد أن انتهت مهمته.
التحليل السياسي يستطيع أن يفسر لك أي حركة ربانية في هذه الدنيا ضمن مساقات دولية معينة لا دور للإسلام فيها، ولا لمصلحة الإسلام فيها ذرة.(54/256)
لأهل الهوى الآرائية ضروب من التفنن المنطقي في صرف حكم الله من إيقاعه على وجهه الصحيح، فمرة يدخل عليهم من باب الذوق النفسي فيجعلونه حاكما على الشريعة، وهذا منتشر بين كثير من الناس حين يجابهون الحكم الشرعي بعدم اطمئنانهم له، فيقول لك أحدهم: أنا لا أطمئن لهذا الحكم. أو قول بعضهم: إن نفسي لا ترتاح لهذا الرأي. وليت القائل قد تضلع بالسنة، وتشربها حتى ملأت عليه جوانحه ومشاشه، بل هو رجل لم يمر على السنة إلا لماما، وأخذ منها حديثا أو حديثين، ولم يقرأ القرآن قراءة درس وفهم، بل هذًّا سريعا، فكيف لمثل هذا الرجل أن يكون رأيه قريبا من السنة، أو يكون مزاجه قريبا من الحق؟!!، وللذكر فإن من جعل ذوقه حاكما على الشريعة يحسن ويقبح من جهة نفسه وهواه كافر زنديق، فليحذر المرء من هذا الباب فإنه من باب القول على الله تعالى بلا علم، وهو أعلى مرتبته من الشرك كما قال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (الأعراف) فانظر حفظك الله تعالى إلى ذكر مراتب المعصية وكيف رتب الله درجاتها حيث جعل أعلى المعاصي القول على الله بلا علم نعوذ با لله من الخذلان. ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى كلام نفيس في بداية كتابه الاستقامة فارجع إليه فإنه مهم.
قلنا سابقا إن من صوارف الشيطان الظنية في إبعاد الناس عن الحكم الشرعي هذه الأيام ما يسمى بالتحليل السياسي، وهو باب غريب وللناس فيه مذاهب وطرق تحار فيها حينا وتعجب منها حينا، وقبل أن أبين معارضة هذا الظني لقواعد الأصول فإني سأمر مرورا سريعا لتحديد بدايات هذا المأخذ الشيطاني في محاولة لكشف مصدره.
أعتقد أن أوائل وأسياد هذا المذهب في بلادنا هم اليساريون، فهم الذين فتحوا هذا الباب ليخدموا به مذهبهم وطريقتهم، فهم في سبيل إقامة الثورات ضد الحكومات (اليمينية) أو الحكومات (الرجعية) كما يقولون، جعلوا يرددون صباح مساء، وفي كل موطن أن حكوماتنا حكومات عميلة للغرب، وخاصة لأمريكا الجديدة وبريطانيا القديمة، وبريطانيا ومن معها من الدول الاستعمارية التاريخية ثم من لحق بها من العالم الجديد كأمريكا لها حضور سيء قبيح في أذهاننا، وهذا الحضور سببه تلك الآثار السيئة والتي لا تزال شاهدة على هذا السوء إلى يومنا هذا، مثل هذا التفرق والحدود التي اصطنعتها في بلادنا، ثم النهب السيء لخيرات بلادنا، ثم تاريخها مع فلسطين واليهود، فالعقل المسلم مليء ولا شك بهذا الواقع السيء من تاريخ الغرب في بلادنا، فبمجرد أن يلوح الخطيب بارتباط جماعة أو فرد بالغرب يكون كافيا بأن يسقط من أعين الناس واحترامهم.
فإذا أردت تدمير عدو لك ما عليك إلا أن تصفه بالعمالة ابتداء وبالتالي صارت هذه الكلمة تقال جزافا، فما أن يقوم انقلاب في بلادنا حتى يبرر الانقلابيون ذلك بأنهم وطنيون، وأن سلفهم عملاء للاستعمار، وكفى بذلك مبررا.
هذه البداية الصغيرة تطورت في تفسير أحداث الكون حتى صار مشهودا بين الناس المثل القائل: لو رأيت السمك يقتل في البحر ففكر بالإنجليز. ومع قليل من التهويل صار المسلم كلما قرع له بالشنان فكر بالأيدي العميلة المدبرة لأحداث الكون وأحداث الحياة، فليس هناك ثم صغيرة أو كبيرة فوق هذه الأرض وفي داخل البحر إلا وللدول الكبرى فيها يد، وصار المجتهد الجهبذ هو من يبعد لك النجعة في تحليل الخبر وتفسيره ضمن هذا السياق في فهم هذه الأحداث، وهناك بعض الكتب ساهمت في صنع هذه العقلية بغض النظر عن صواب بعض أحداثها وتحليلها أم لا، مثل كتاب "حكومة العالم الخفية" وكتاب "أحجار على رقعة الشطرنج" ومثلها كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون" وكتاب "لعبة الأمم" وغيرها من الكتب، فإن هذه الكتب أوحت لقارئها (المؤمن بما فيها) أن أحداث الكون بصغيرها وكبيرها محاطة ومرسومة من قبل عالم خفي!، بعضهم أطلق عليه الماسونية وبعضهم قال هي حكومة أندية الروتاري وغيرها، وعقلية المسلم المتخلفة رأت في نفسها التطور للخروج من تحليل الأحداث على قاعدة الجن والشياطين إلى عالم المؤامرة والحكومات الخفية، فبدل أن تكون صوفية متخلفة تحلل الأمور على أنها من فعل الجن والشياطين وهذا تخلف، فالعلمية هي تسمية هذا العالم بالحكومة الخفية.
ولا يفهم من كلامي أني أنفي عالم الجن والشياطين وأن لهما صلة بواقعنا، أو يفهم من كلامي أي أنفي مبدأ وجود الأعداء المخططين ضد الإسلام وأهله، فأنا بفضل الله تعالى مازلت في مكاني لم أبرح عليه عاكفا.
أي أني أعتقد بوجود عالم الشياطين في الجن والإنس، وأعتقد قوله تعالى: {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} ولكني لا أعتقد أن محمد علي كلاي كان ينتصر لأنه كان يستعين بجن مسلم يقاتل معه ضد جون فريزر الذي كان يستعين بجن كافر يلاكم معه.(54/257)
المهم أن المناط الوحيد الذي صار يعلق الناس أحداث الحياة عليه هو العمالة وتخطيط الحكومة الخفية، والارتباط بإحدى أقطاب الصراع في العالم، وكان أئمة هذا الشأن من الجماعات الإسلامية هم حزب التحرير، فإنه ما فتئ يردد للناس من خلال نشراته أن الصراع بين أمريكا وبريطانيا على أشده في اقتسام العالم العربي، ولم يخرج رئيس ملعون أو حاكم مرتد أو رئيس قبيلة أو قائد تنظيم من هذه المعادلة الجديدة، وما من معركة تقوم ولا انقلاب يحدث إلا ضمن هذا السياق والتحليل، فهذا بلد محكوم لأمريكا والانقلاب قام من أجل عمالة بريطانيا، وهذا بلد عميل لبريطانيا وما الانقلاب إلا من أجل عمالة أمريكا، وهكذا ما من حدث إلا ضمن هذه المعادلة، لا يخرج عنها شيء البتة، وانتشر هذا التحليل حتى عند صغار الناس وصار الوعي الكامل والفهم الثاقب البرهنة على أن هذا الحدث ضمن معادلة دولية، وعمالة خفية. وللذكر فإن هذا النوع من التحليل لا يرى للمعسكر الاشتراكي (يوم أن كان معسكرا) وجودا في المنطقة. وقد استخدم بعضهم نفس الأسلوب ضد حزب التحرير فاتهمه بأنه عميل بريطاني، فانقلب السحر على الساحر، وصدق من قال:
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
وفي المقابل هناك قوم يحللون الأمر على جهة الحكومة اليهودية: هنا يهود، وهناك يهود، فهذا بلد صنعه اليهود، وهذا حزب وراءه اليهود، فاليهود هم قادة الأحداث كلها في هذا الكون.
وقد قابلت أقواما يحللون كل شيء على مناط الشيوعية، فكل من حارب الدول الديمقراطية واليمينية شيوعي - علم أم لم يعلم - فهو يرى أن الشيخ سلمان العودة وسفر الحوالي صنيعة شيوعيةلأنهما يحاربان الدولة التي ما زالت أقدامها راسخة في محاربة المد الشيوعي، وهذا تيار موجود في الأردن وله رجاله وله مذهبه، بل إنه يرى أن كل من تكلم على الحكام وكشف شرهم وحرض الأمة على الخروج عليهم صنيعة يهودية - علم أم لم يعلم - ويحللون أحداث الكون على هذا النسق وهذه المعادلة، وهكذا تتغير التفسيرات ولكنها تبقى ضمن إطار واحد ونوع واحد وهو التفسير التآمري للأحداث.
أما ما يهمنا فهو خطورة هذه الطريقة في فهم أحداث الكون والحياة، وبالتالي ما يتعلق بها من أحكام شرعية.
لو نظرنا إلى أدلة هؤلاء المحللين لرأينا هشاشة أدلتهم وعدم قبولها إلا للأطفال والصبية، فبعضهم يجعل فلانا عميلا بمجرد أنه رآه مشتريا مجلة فيها صورة لحاكم من الحكام، وبعضهم يجعل فلانا عميلا لأنه رآه اشترى حذاء من صنع الدولة المعنية، وهكذا..، فلما كانت هذه الأدلة لا تقبل ولا تصلح، كانت العمالة عندنا تعني الولاء والنصرة وبالتالي فمن كان عميلا لدولة كافرة هو كافر مثلها، وحكمه في دين الله تعالى هو القتل، وهذا هو حكم الجاسوس عند جمهور العلماء، كان إطلاق لفظ العمالة والجاسوسية على رجل أو حركة خطير جدا لا يصلح معه اللعب والفهلوة، نعم عليك بالحذر والكيس والفطنة ولكن عليك أن لا تكفر الناس بالظنة، فالأمر خطير.
هذه مسألة أولى تتعلق بأولئك القوم الذين يضربون بالرمل ويدعون علم السياسة فيستسهلون القول بأن فلانا أو تلك الحركة عميلة للطواغيت، فليعلموا أن معنى حكمهم هذا هو تكفير هذا الفرد وهذه الطائفة وتجويز قتله وقتاله لأي أحد من المسلمين.. هذه واحدة.
أما الثانية: فهي ما قدمنا من إبطال أي عمل جهادي ضد طاغوت من الطواغيت..
****************(54/258)
(54/259)
ـ هذه هي الديمقراطية فهل أنتم منتهون ـ
إلى الذين لا يزالون يعتبرون الاختلاف على الديمقراطية هو اختلاف في الوسائل والفرعيات التي لا تمس الأصول والاعتقاد .. !!
…إلى دعاة الترقيع ، والتقميش ، والتوفيق .. !!
…إلى الذين لا يزالون يتذرعون بجهل حقيقة الديمقراطية .. !!
إلى الذين يُلبسون الديمقراطية ـ زوراً وبهتاناً ـ ثوب الشورى والإسلام ..!!
…إلى الذين يرون في الديمقراطية الحل الأمثل لمشكلات الإسلام والمسلمين .. !!
…إلى الذين يروجون للديمقراطية ، ويدعون لها ، ثم يزعمون بعد ذلك أ نهم مسلمون .. !
…إلى هؤلاء وغيرهم نقول : الديمقراطية تعني حكم الشعب ، واختيار الشعب ، والاحتكام إلى الشعب ؛ فلا تعلو سيادة الشعب سيادة ، ولا إرادته إرادة بما في ذلك إرادة الله ، التي لا اعتبار لها وليست لها أيَّة قيمة في نظر الديمقراطية والديمقراطيين .. …
…الديمقراطية تعني أن مصدر التشريع والتحليل والتحريم هو الشعب وليس الله ، ويتم ذلك عن طريق اختياره لممثلين ينوبون عنه في مهمة التشريع وسن القوانين ..
…وهذا يعني أن المألوه المعبود المطاع ـ من جهة التشريع ـ هو الإنسان وليس الله جلَّ في علاه .. وهذا مغاير ومناقض لأصول الدين والتوحيد ، يدل على ذلك قوله تعالى : ( إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ) . وقوله تعالى : ( ولا يشرك في حكمه أحدا ) . وقوله تعالى : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله ) . وقوله تعالى :(و إن أطعتموهم إنكم لمشركون ) . أي لأن عبدتموهم من جهة طاعتكم إياهم في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله ، فإنكم لعابدون لهم من دون الله ؛ لأن الشرك لا يطلق في القرآن أو السنة إلا لنوع عبادة تصرف لغير الله عز وجل .
…وكذلك قوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) ، فهم أرباب من دون الله لماَّ اعترفوا لهم بحق التشريع والتحليل والتحريم وسن القوانين من دون الله تعالى .
…الديمقراطية تعني رد أي نزاع أو اختلاف بين الحاكم والمحكوم إلى الشعب ، وليس إلى الله والرسولل .. وهذا مغاير ومناقض لقوله تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ، بينما الديمقراطية تقول : فحكمه إلى الشعب ، وليس غير الشعب .. !
…وقال تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) ، فجعل الله عز وجل من لوازم الإيمان رد النزاع ـ أي نزاع ـ إلى الله والرسولل ؛ أي إلى الكتاب والسنة ..
…الديمقراطية تعني مبدأ حرية الاعتقاد والتدين ؛ فللمرء ـ في حكم الديمقراطية ـ أن يعتقد ما يشاء ، ويتدين بالدين الذي يشاء ، ووقت يشاء ، ولو أراد أن يرتد من الإيمان إلى الكفر والإلحاد فلا راد له ولا مُعيب عليه ..
…أما حكم الإسلام فهو على نقيض ذلك ، وهويتمثل في قول صلى الله عليه وسلم : " من بدل دينه فاقتلوه " ، وليس فاتركوه . وقول صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة .. " ، وقول صلى الله عليه وسلم : " بعثت بين يدي الساعة بالسيف ، حتى يُعبد الله تعالى وحده لا شريك له .. " .
…ومعلوم أن الإسلام انتهى حكمه في أهل الكتاب إلى إحدى ثلاث : إما الإسلام ، وإما الجزية وهم صاغرون ، وإما القتل والقتال . أما عبدة الأوثان من مشركي العرب وغيرهم فليس لهم إلا الإسلام أو القتل والقتال ..
…وكذلك يوم نزول عيسى عليه السلام ـ كما دلت على ذلك السنة ـ فإنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ويسقط الجزية ، ولا يقبل من مخالفيه ـ بما فيهم أهل الكتاب ـ إلا الإسلام ، أو القتل والقتال ..
…على ضوء هذه الحقائق والنصوص ، وغيرها من النصوص الشرعية ذات العلاقة بالمسألة يجب أن يفهم قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) …
…الديمقراطية تعني مبدأ حرية التعبير والإفصاح ، أيَّاً كانت صفة هذا التعبير ؛ ولو كان شتماً لله ولرسوله ، وطعناً في الدين ، إذ لايوجد في الديمقراطية شيء مقدس يحرم الخوض فيه أو التطاول عليه بقبيح القول .. وأي إنكار على ذلك يعني إنكار على النظام الديمقراطي برمته ، ويعني تحجيم الحريات المقدسة في نظر الديمقراطية والديمقراطيين ..
…وهذا عين الكفر في دين الله ؛ إذ لا حرية في الإسلام لكلمة الكفر والشرك ، للكلمة التي تفسد ولا تصلح ، وتدمر ولا تبني ، وتفرق ولا توحد ..
…قال تعالى : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) .
…وقال تعالى:( قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون . لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم).
…وهذه آيات نزلت في نفرٍ قالوا وهم في طريقهم إلى غزوة تبوك عن أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ، ولا أكذب ألسناً ، ولا أجبن عند اللقاء .. فكفروا بذلك بعد أن كانوا مؤمنين .
…وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار " .(54/260)
…وعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال : قلت يارسول الله ما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ بلسان نفسه ، ثم قال : " هذا " .
…وقا صلى الله عليه وسلم : " من وقاه الله شر ما بين لحييه وشر ما بين فخذيه دخل الجنة "
…وقا صلى الله عليه وسلم : " وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم"
…فأين الديمقراطية من هذا الأدب الرفيع الذي جاء به ديننا الحنيف .. ؟
…الديمقراطية ـ يا قوم ـ تعني العلمانية بكل أبعادها ؛ حيث تقوم على مبدأ فصل الدين ـ أي دين ـ عن الدولة والحياة ، فالله تعالى ليس له في نظر الديمقراطية سوى الزوايا ، والمساجد ، والكنائس والمعابد شريطة أن لا يكره أحد على دخول هذه الأماكن ، وما سوى ذلك من جوانب الحياة السياسية والاقتصادية ، والاجتماعية وغيرها فهي ليست من خصوصياته ، وإنما هي من خصوصيات الشعب وحده .. وللشعب كذلك صلاحيات التدخل في شؤون والمساجد لو اقتضت الضرورة ذلك ..
…( فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ) .
…وقال تعالى : ( ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً أليما ) .
…( أولئك هم الكافرون حقاً ) هو حكم كل ديمقراطي علماني يفصل الدين عن الدولة والسياسة ، وشؤون الحياة .. وإن زعم بلسانه ـ ألف مرة ـ أنه من المسلمين المؤمنين .
…الديمقراطية تعني مبدأ الحرية الشخصية للفرد ، فالمرء له ـ في ظل الديمقراطية ـ أن يفعل ما يشاء ، من الموبقات والفواحش والمنكرات .. من غير حسيب ولا رقيب !
…والإباحية التي عرفت بها فرق الزندقة عبر التاريخ ، ماذا تعني غير ذلك .. ؟!
…الديمقراطية تعني أن الذي يختاره الشعب هو الذي يحكم البلاد والعباد ، ولو كان المختار كافراً زنديقاً مرتداً عن دين الله ..
…وهذا مناقض لقوله تعالى : ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً ) .
…وهو كذلك مناقض لإجماع الأمة على أن الكافر لاتجوز له ولاية على المسلمين ولا على بلادهم ..
…الديمقراطية تعني مساواة الناس جميعاً في الحقوق والواجبات ، بغض النظر عن انتمائهم العقدي الديني ، وسيرتهم الذاتية الأخلاقية ؛ حيث أن أكفر وأفجر وأجهل الناس يتساوى مع أتقى وأعلم وأصلح الناس في تقرير أهم القضايا وأخطرها ، وهي من يحكم البلاد والعباد .. !
…وهذا مناقض لقوله تعالى : ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون ) .
…وقال تعالى : ( أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ) .
…وقال تعالى : ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون ) . في دين الله لا يستوون ، بينما في دين الديمقراطية نعم يستوون .. !!
…الديمقراطية تقوم على مبدأ حرية تشكيل التكتلات والأحزاب السياسية وغير السياسية ، أيَّاً كانت عقيدة وأفكار ومناهج هذه الأحزاب ، ومهما كثر تعدادها ، ولها تمام الحرية في نشر كفرها وباطلها وفسادها بين البلاد والعباد ..
…وهذا يعني ـ من منظور الشرع ـ الإقرار طواعية بشرعية وحرية الكفر والشرك ، والارتداد والإفساد .. وهو مناقض لما يجب القيام به نحو الكفر والمنكر من تغيير وإنكار ، كما قال تعالى : ( وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله ) .
…وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " . أي لا مناص من إنكار المنكر وتغييره ولو في القلب عند حصول العجز عن إنكاره باليد أو اللسان ، أما أن يمتد التعامل مع المنكر إلى حد الرضى به أو المطالبة فهو عين الكفر البواح ، وهذا الذي يدل عليه قول صلى الله عليه وسلم : " فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " . أي ليس وراء إنكار القلب سوى الرضى ، والرضى بالكفر كفر ينفي مطلق الإيمان عن صاحبه .
…وكذلك قول صلى الله عليه وسلم في حديث السفينة ، كما في صحيح البخاري وغيره ، وفيه : " فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً " .
…وهذا مثل الديمقراطية ، فهي تقول ـ بكل وقاحة ووضوح ـ : دع للأحزاب حريتها أن تخرق السفينة ليغرقوها بمن فيها من الأنفس والحرمات ، بمعاولهم الهدامة ..
…ثم إذا كان مجرد ترك الأحزاب الباطلة ـ المنكر الأكبر ـ من دون أن ننكر عليها أو نأخذ على أيديها بالزجر والإنكار والمنع مؤداه إلى هلاك المجتمعات بما فيها من المسلمين ، فما يكون القول فيما لو اعترفنا طوعاً بشرعيتها وحريتها في أن تفعل ما تشاء وتريد .. ؟!
…وهو ـ أي الاعتراف بشرعية الأحزاب الباطلة ـ كذلك فإن مؤداه إلى تفريق الأمة ، وإضعاف شوكتها ، وتشتيت ولاءاتها وانتماءاتها في أحزاب شيطانية متناحرة متباغضة ، متنافرة ما أنزل الله بها من سلطان ..(54/261)
وهذا مناقض لقوله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) . ولقول صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة ، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أ بعد ، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة " .
…الديمقراطية تقوم على مبدأ اعتبار وإقرار موقف ورأي الأكثرية ، مهما كان نوع هذه الأكثرية ، وأيَّاً كان موقف هذه الأكثرية ، هل وافقت الحق أم لا ، فالحق في نظر الديمقراطية والديمقراطيين هو ما تجتمع عليه الأكثرية ولو اجتمعت على الباطل أو الكفر الصريح ..!
…بينما الحق المطلق ـ في نظر الإسلام ـ الذي يجب التزامه والعض عليه بالنواجذ ـ ولو فارقك جماهير الناس ـ هو الحق المسطور في الكتاب والسنة . فالحق ما وافق وطابق ما في الكتاب والسنة وإن اجتمعت جماهير الناس على خلاف ذلك ، والباطل ما حكم عليه الكتاب والسنة بالبطلان ولو اجتمعت جماهير الناس على خلاف ذلك . فالحكم لله وحده ، وليس للبشر أو الأكثرية .
…قال تعالى : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) .
…وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن من الأنبياء من لم يصدقه من أمته إلا رجل واحد " . فأين موقع هذا النبي ومعه الرجل الواحد في ميزان أكثرية الديمقراطية ..؟!
…قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لعمرو بن ميمون : جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة ، والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك .
…وقال ابن القيم في أعلام الموقعين : اعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان وحده ، وإن خالفه أهل الأرض . انتهى .
الديمقراطية تقوم على مبدأ الاختيار والتصويت ، حيث كل شيء مهما سمت قداسته أو قلَّت يجب أن يخضع لعملية التصويت والاختيار ، ولو كان المصوت عليه هو شرع الله سبحانه وتعالى ..
…وهذا مناقض للخضوع والانقياد ، والاستسلام التام ، والرضى المنافي لأدنى تعقيب أو تقديم أو اعتراض ، الذي يجب على العبد نحو ربه سبحانه وتعالى ، والذي لا يستقيم للعبد دين ولا إيمان إلا بذلك ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم . يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) .
…فإذا كان مجرد رفع الصوت فوق صوت صلى الله عليه وسلم مؤداه إلى حبوط الأعمال ، ولا يحبط الأعمال إلا الكفر والشرك ، فما يكون القول فيمن يرفع حكمه أو قوله فوق حكم وقول صلى الله عليه وسلم ، لا شك أنه أولى في الكفر والارتداد ، وأن يحبط عمله كل عمله ..
…وقال تعالى : ( ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) .
…بينما الديمقراطية تقول : نعم لهم أن يختاروا وأن يعقبوا ، ويرفضوا ..!!
…وقال تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ) .
…الديمقراطية تقوم على نظرية أن المالك الحقيقي للمال هو الإنسان ؛ وبالتالي فله أن يكتسب المال بالطرق التي يشاء ، كما ينفق ماله بالطرق التي يشاء ويهوى ، وإن كانت هذه الطرق محرمة ومحظورة في دين الله ، وهذا مايسمونه بالنظام الرأسمالي الحر ..
وهذا بخلاف ما عليه الإسلام الذي يقرر أن المالك الحقيقي للمال هو الله سبحانه وتعالى ، وأن الإنسان مستخلف عليه ، وهو مسؤول عنه أمام الله تعالى : كيف اكتسبه ، وفيما أنفقه ..
…فالإنسان في الإسلام كما ليس له أن يكسب ماله بالحرام والطرق غير المشروعة ، كالربا ، والرشوة ، والسحت والمتاجرة فيما هو حرام وغير ذلك ، كذلك لا يجوز له أن ينفق ماله في الحرام والطرق الغير مشروعة ، بل إن الإنسان في الإسلام لا يملك نفسه في أن يفعل بها ما يشاء بعيداً عن هدي الإسلام ؛ لذلك عُدَّ إنزال الضرر في النفس والانتحار من أكبر الكبائر التي يجازي الله عليها بالعذاب الأليم ، وهذا المعنى نجده في قوله تعالى : ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ) . وقال تعالى : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتُلون ويُقتَلون ) . وهذا شراء ما يملك سبحانه وتعالى ـ خاص بالمؤمنين ـ إمعاناً في الكرم والجود والفضل ، وترغيباً بالجهاد والاستشهاد .
…وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعزي أحداً في مصابه ، يقول له : " إن لله ما أخذ ، وله ما أعطى " . وبالتالي ليس للإنسان أن يعترض على أخذ شيء منه هو لا يملكه ، وإنما ملكه لغيره ؛ وهو الله سبحانه وتعالى .
…هذه هي الديمقراطية باختصار …(54/262)
…وبناء على ما تقدم : فإننا نقول جازمين غير مترددين ولا شاكين في أن الديمقراطية حكمها في دين الله تعالى هو الكفر البواح الذي لا يخفى إلا على كل أعمى البصر والبصيرة . وأن من اعتقدها ، أو دعى إليها ، أو أقرها ورضيها ، أو حسَّنها ـ على الأسس والمبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية الآنفة الذكر ـ من غير مانع شرعي معتبر ، فهو كافر مرتد عن دينه وإن تسمى بأسماء المسلمين ، وزعم زوراً أنه من المسلمين المؤمنين ، فالإسلام وحال هذا وصفه لا يجتمعان في دين الله أبداً .
…أما من كان يقول بالديمقراطية جاهلاً للمعاني والأسس والمبادئ ـ الآنفة الذكر ـ التي تقوم عليها الديمقراطية ، فمثل هذا نرى الإمساك عن تكفيره بعينه ، مع بقاء القول بكفر قوله ، إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية التي تبين له كفر الديمقراطية ، ومناقضتها لدين الله تعالى ، لأن الديمقراطية من المصطلحات والمفاهيم المستحدثة والمشكلة على كثير من الناس ، التي يمكن أن يعذر فيها بالجهل إلى أن تقوم الحجة الشرعية التي بها يندفع جهل الجاهل .
…وكذلك الذي يقول بالديمقراطية وهو لا يريد المعاني والأسس الآنفة الذكر ، وإنما يستخدمها كمصطلح يريد بها الشورى ، أو حرية التعبير والإفصاح عن الكلمة البناءة ، أو رفع القيود والرقابة التي تمنع الناس من ممارسة حقوقهم الشرعية والأساسية في الحياة ، وغير ذلك من التأويلات والتفسيرات الفاسدة التي لا تحتملها الديمقراطية أساساً ، فمثل هذا ـ رغم خطئه ـ إلا أنه لا يكفر ، ولا ينبغي أن يُكفَّر .. هذا ما يقتضيه العدل والإنصاف، وتلزم به قواعد الدين وأصوله.
…أما حكم الإسلام في العمل النيابي والنواب ، فإننا نقول : إن العمل النيابي ـ للمزالق العقدية والشرعية التي لا يمكن تفاديها ـ هو كفر بواح بدين الله تعالى ، ولا يجوز القول بخلاف ذلك .
…أما النواب أنفسهم الذين سلكوا هذا النفق المظلم ، فإننا نقول فيهم : من غلبت منهم شبها ته ، وتأويلاته ، وأدلته ، مزالقه وأخطاءه ، فمثل هذا نرى فيه أن يمسك عن تكفيره بعينه ـ مع بقاء القول بكفر فعله ومسلكه ـ إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية التي تدفع عنه ما وقع فيه من مخالفات وجهالات ..
…أما من غلبت مزالقه وأخطاؤه ، شبهاته وتأويلاته وأدلته ، فمثل هذا ، القول فيه : أنه يكفر بعينه لانتفاء موانع التكفير عنه ، وتحقق شروطه فيه ، والله تعالى أعلم
…هذه هي الديمقراطية ، وهذا هو حكمها ، وحكم القائل والعامل بها .. فهل أنتم منتهون ، فهل أنتم منتهون .. ؟؟
اللهم إني قد بلَّغت فاشهد .
11/ 2/ 1999 0 عبد المنعم مصطفى حليمة
أبو بصير
==========================(54/263)
(54/264)
الديمقراطية والإسلام.. توأمان أم ضدان؟
بقلم: حسن الحسن
لا بدّ من مناقشة فكرة الديمقراطية وأبعاد تجسيدها في العالم الإسلامي بمنتهى الهدوء والروية وحسن التبصر.
قد يتصور البعض أنّ نقاش فكرة الديمقراطية وتحديد مدى علاقتها بالإسلام، إنما هو جدلٌُ سفسطائي لا طائل منه. والصحيح أنّ هذا الحكم هو في منتهى السطحية، ذلك أنّ مدار بحث الديمقراطية بات شأناً عالمياً، حيث يروج لها الغرب الذي تهيمن حضارته ونفوذه على العالم، على أنها النموذج الأوحد الذي يصلح للعيش البشري السويّ، ويدعو بالتالي إلى نشره وإرسائه، بل وقد يتدخل بالقوة لفرضه، لا سيّما في العالم الإسلامي. كما باتت معاييرُ سلامة الوضع الاجتماعي والثقافي والسياسي العام في أيٍ من دول العالم، تعتمد على مدى ترسيخها القيم الديمقراطية، ودلالات صحتها وعافيتها تقاس بمدى تحقق التحول الديمقراطي فيها.
ويفترض الغربُ أنّ العالم الإسلامي سيبقى معرضاً للاهتزاز والاضطراب وانعدام الاستقرار طالما غابت الديمقراطية عنه، وطالما بقي الحكم الشمولي الدكتاتوري مستمراً فيه، مما يجعله في نظرهم بؤرة توترٍ ومصدر قلقٍ دائمٍ لباقي العالم، وأنّ انعتاق المسلمين من أتون الظلم والقهر والتخلف، هو رهنٌ بمدى التقدم الديمقراطي في بلادهم.
ولقوة الدول التي تستند إليها الفكرة الديمقراطية، مضافاً إليها ذلك الوهج الذي حظيت به في العقود الأخيرة، باتت أغلب الفئات الناشطة في الميدان السياسي في العالم الإسلامي، تدّعي الديمقراطية وتدعو لها، بل وتزعم أنّها الهدف الأساسي لها، رغم مناقضتها لها عملياً أو عقائدياً أو كليهما في أغلب الأحيان.
وبهذا تتضح مدى حساسية القضية، إذ أنها تتعلق بفرض رؤية ما ينبغي أن يكون عليه واقع ومستقبل الأمة الإسلامية. ولهذا كان لا بدّ من مناقشة فكرة الديمقراطية وأبعاد تجسيدها في العالم الإسلامي بمنتهى الهدوء والروية وحسن التبصر.
وتبدو الحاجة أكثر إلحاحاً لفهم ماهية العلاقة بين الديمقراطية والإسلام، كونه يعتبر العامل الحاسم في تشكيل هوية الأمة التي تعتنقه وتعتبره وحده الصالح لإسباغ الشرعية على أية نظم أو قوانين أو أفكار تنظم شؤون حياتها، وفي حالة عدم شرعية تلك الأفكار والأحكام، فإنّه لن يكتب لها العيش في حضن هذه الأمة حتما، إلا غصبا.
وُلدت الديمقراطية كفكرة زمن الإغريق، وقد تلى ولادتها بعد عدة مئات من السنين قدوم السيد المسيح عليه السلام، ولم تذكر في الإنجيل قطّ، كما قدم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ليختم الرسالات السماوية بالإسلام، ولم يرد في القرآن الكريم الذي أوحي إليه، أو السنة النبوية التي رويت عنه، نصٌ ما، يحبذ أو يحظر لفظة الديمقراطية، وعلى الرغم من ترجمةِ كثيرٍ من كتب التاريخ والفلسفة بأنواعها العقائدية والحكمية، فإنّ فكرة الديمقراطية لم تستوقف علماء الإسلام البتة، مع أنهم وقفوا طويلاً أمام أفكار دونها أهمية بكثير، وردت جراء تفاعل الأمة مع غيرها من حضارات وفلسفات الروم والفرس واليونان والهند، وكانت ترجمات كتب وأفكار حكماء اليونان كسقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم قد قتلت بحثاً، وقد ناقشها علماء الإسلام ليبدوا الموقف الشرعي منها.
كما نرى فإن القرآن الكريم لم يأت فيه ذكر الديمقراطية في ٍأية آية من آياته لا تلميحا ولا تصريحا، كما أنها لم ترد في الكتب السماوية الأخرى كالإنجيل وغيره، كذلك فهي لم ترد في العقيدة أو الشريعة ولا حتى في أي من كتب فقهاء المذاهب باختلافها، كما أسقطتها الأمة كذلك طوال تاريخها السياسي والحضاري من أجندتها الثقافية والفكرية والسياسية، ولم تلق الديمقراطية بثقلها على العالم الإسلامي، فارضة نفسها بقوة فيه، إلا مع احتلال بلاد الإسلام من قبل الفرنسيين والإنكليز، وخضوعها للاستعمار العسكري المباشر ، فضلاً عن الهيمنة السياسية المطلقة، والغزو الفكري والثقافي، وانهيار دولة الخلافة الإسلامية.
إذن فنحن أمام محاكمة لفكرة، ليست هي بهامشيةٍ ولا بجديدةٍ أو طارئةٍ على المسلمين، كما يتوهم بعض من ينتظر فتوى لمجتهدٍ يُعمل فيها نظره، ويطل عليها باجتهادٍ معاصر!
فالديمقراطية وباتفاق، تعني حكم الشعب، الذي يضع قوانينه وينتخب حكامه على حدٍ سواء. وهذا هو تماماً ما كان معمولاً به في أثينا مصدر الفكرة قبل 500 سنة من ميلاد المسيح عليه السلام.(54/265)
وقد أخذت الديمقراطية شكلاً أكثر تنظيماً إبّان الثورة الفرنسية وحصول النهضة الحديثة في أوروبا في القرن الثامن عشر، حيث باتت تشكل وجهة نظر متكاملة في الحياة، تضع تصوراتٍ للمجتمع، وتُنظِّمُ علاقة الإنسان بالدين والدنيا على حدٍّ سواء، ونتيجة لاحتدام الصراع بين الفلاسفة والمفكرين من جهة، ورجال الدين سدنة السلطة الحقيقيين من جهة أخرى، أعادت الديمقراطية الإغريقية تجديد نفسها لتفرض فصل الدين عن الحياة كأساسٍ لها، ولتجعل الشعب هو الحاكم أمام فكرة حكم الله والبابوات الذين يدعون تمثيله، ولتحصر الدّين في أماكن خاصة بالعبادة، كما نتج مقتٌ للدين إثر ذلك الاستغلال البشع له في أوروبا من قبل الحكام، حيث كان يصر رجال الدين على الجمود إلى درجة ينفر منها العقل وتحدّ من التطور والتقدم الذي تفرضه العلوم الحديثة، ممّا شكل حالة تضاد بين الكنيسة ممثلة الدين في أوروبا والعلم الذي أنتجه المفكرون والفلاسفة والمبدعون، وكذلك بين إرادة من يمثل الله على الأرض بعقل معطل وبين حاجة المجتمع إلى عقلٍ مواكب للتطورات المادية والبشرية، مما اضطر المفكرين في تلك الأجواء إلى فرض الإقامة الجبرية على الدين ليمكث في الكنيسة، وجعل الدين يختص بالفسلفات الغيبية، ومعالجة الأمور النفسية والروحية الفردية منها فقط لا غير.
والناظر للإسلام يرى أنّه قد جعل كافة المخلوقات ملكا لله تعالى يتصرف فيها كيفما شاء، قال تعالى ( ألا له الخلق والأمر)، وقد أخضع الخالق المادة لنظام قسري يسير بموجب قوانين وسنن كونية، قال تعالى (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) وأوجب على الإنسان اتباع الرسول والتزام رسالته، إلا أنه صنع له إرادة وعقلا يميزانه عن بقية الكائنات، وبهما كان لديه القدرة على الاختيار (إنّا هديناه السبيل إما شاكراً وإمّا كفورا)، وقد اعتبر الله تعالى الإسلام وحده الحق المقبول اتباعه في الحياة (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه)، من ارتبط به نجا ومن تركه هلك (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى)، وجعل منه منهج حياة ونظاما للحكم (إن الحكم إلا لله)، (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)، (وإن اختلفتم في شيء فردّوه إلى الله والرسولل).
ومن حيث تنظيم المجتمع وطبيعة كيان الدولة، النظام السياسي فيه، فإنّ نظام الحكم في الإسلام يقوم على قواعد أربعة، على رأسها، قاعدة السيادة للشرع والسلطان للأمة، حيث يستمد الإسلام معالجات شؤون البشر التشريعية، في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، من مصدرين وحيدين هما القرآن والسنة، إضافة لمجموعة من القواعد والأصول الشرعية المستمدة منهما. وبهذا يكون الإسلام قد ناقض جوهر الديمقراطية، حيث رفض حق الشعب كله أو أكثريته أو ممثليه بوضع قوانين يتوافقون عليها فيما بينهم دونما اعتبار لدين كالذي تقتضيه وتفرضه الديمقراطية حسب توصيف أهلها لها، ولا يقال هنا فما عيب الديموقراطية إذا حصل أن الناس اتفقوا على وضع تشريع متوافق مع الوحي!؟ الجواب: إن كان كذلك، فلا داعي لموافقتهم، لكون الشرع قد أصدر حكمه فيه وانتهى، وأما إن كان فيه مناقضة لواحدٍ من الأحكام الشرعية، فيردّ ذلك الرأي لا محالة، وإن صوتت عليه جماهير الناس بالغالبية الساحقة، يقول تعالى (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) ويقول أيضا (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله(.
ومن هنا يظهر مدى التباين بين الديمقراطية والإسلام من حيث أصل ما بنيتا عليه، وأن كل ما يجمع بين جوهر الفكرتين وأساسهما إنما هو علاقة تضاد واضحة.
من التجني اختصار الديمقراطية بالشورى أو العكس، فالديمقراطية وجهة نظر متكاملة في الحياة ولا قداسة لشيء البتة سوى رغبات الشعب.
نتناول في هذا البحث علاقة الشورى بالديمقراطية؟ وهل هناك حقاً ثمة تطابق بينهما، تجعل الديمقراطية جزءا من الإسلام أو العكس؟
إنّ واقع الديموقراطية هو حكم الشعب الذي يقابل حكم الله حتماً، وليس حكم الفرد كما يتصور البعض، إذ أنّ مصطلح الحكم يأخذ وجهين، الأول هو التشريع، وهو الذي يمنح من خلاله الناس حق الاستفتاء والتصويت على القوانين مباشرةً أو بإنابتهم عنهم من يقوم لهم بالتشريع لهم، والثاني هو التنفيذ وهو ما لا يتصور حصوله من قبل شعبٍ من الشعوب أصلاً، إذ أنّ الذي ينفذ الأحكام ويفصل بين الناس هو جهات مختصة، كالوزراء والقضاة وأجهزة الدولة المختلفة، وهذه الجهات تتأهل لذلك من خلال دراساتٍ أكاديمية ومعرفية وخبرات فنية، وبهذا كان حكم الشعب في الفلسفة الديموقراطية هو مقابل حكم الله، هذا هو واقعها وهذا هو ما يؤكده السياق التاريخي والإجرائي لها حتى يومنا هذا.
واستناداً إلى ما سبق نجد أنّ الديمقراطية تتناقض مع جوهر الإسلام الذي يحصر التشريع بالله تعالى حيث يقول "إن الحُكمُ إلا لله" وبذلك لا يكون هناك داعي للاستطراد في بحث بقية الفروع، لأن تباين جذري العقيدتين، الديمقراطية والإسلام، وتضادهما يغنيان عن بحث التفاصيل.(54/266)
إلا أن إصرار البعض على دمقرطة الإسلام وإقحامها فيه، يضطرنا للتعرض لبعض أهم تلك الاعتراضات، بغية إزالة كل لبس يشوب حقيقة المسألة.
وعليه، فقد التبس ارتباط الديمقراطية بالإسلام لدى البعض، من خلال وجود مفهوم الشورى، والذي يعتبر واحداً من الأحكام الشرعية التي تضبط علاقة الحاكم بالأمة. وبما أن الحكم على الشيء هو فرع عن تصوره، كان لزاماً توضيح واقع الشورى من الجانب الذي يشير إلى شبهة ذلك الارتباط، من غير الغرق في تفاصيل كثيرة ليست ذات صلة وثيقة بالبحث.
فالشورى هي أخذ الرأي، وتكون ملزمة في حالات، وهو ما يهمنا هنا، لأن الديمقراطية تتحدث عن فكرة إخضاع الحاكم لرأي الأمة. ومن خلال قراءة متفق عليها بين كل من اطلع على الفكر الإسلامي يجد أنه لا شورى في الأحكام الشرعية الأربعة، أي في الواجب والمندوب والمكروه والحرام، ولذلك يبقى أخذ الرأي محصوراً في الدائرة الخامسة وهي المباح.
كما يؤخذ الرأي من الجهة المتعلق بها، كأصحاب الاختصاص والخبرات فيما هو مرتبط بالأمور العلمية والتقنية والفنية وفي الإدارة والتصميم، وهذا ما فعله النبي الكريم في معركة بدر حيث نزل عند رأي الحباب بن المنذر في ترتيب وضع تمركز الجيش، وعند رأي سلمان الفارسي في حفر الخندق، وهما رجلان فقط، لكنهما من أهل الاختصاص، وقد اكتفى برأييهما دون إجراء مباحثات ومناقشات واسعة في ذلك مع جمهور الصحابة. كما يكون رأي عامة الناس في بعض القضايا المتعلقة بشأنهم كجماعة ملزما، كحال نزول النبي الكريم عن رأيه الذي يرجحه هو في غزوة أحد، إبان مشاورته لأهل المدينة بقتال قريش خارج المدينة أو داخلها. كما ترك الإسلام للحاكم تبني ما يراه مناسباً في قضايا كثيرة وألزم الأمة بطاعته، حتى تشكلت القاعدة الدستورية "رأي الإمام يرفع الخلاف" و"رأي الإمام نافذ" استناداً للنصوص الكثيرة المتضافرة، والتي عطفت طاعة ولي أمر المسلمين الشرعي، في طاعة الله، على طاعة الله ورسوله، كما في قوله تعالى "(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)".
ومن التجني اختصار الديمقراطية بالشورى أو العكس. فالديمقراطية هي وجهة نظر متكاملة في الحياة، وهي فكرةٌ أساسية عن الحياة، لا تترك شيئا من أمورها إلا وتمنح الإنسان حق إبداء رأيه فيه والتعليق عليه ونقده، فلا قداسة لشيء البتة سوى رغبات الشعب، وتلزم الأكثرية (ولو شكلياً) الحاكم، سواء من خلال استفتاء عام أو بأغلبية برلمانية (نسبية) في كافة القضايا. فيما تعتبر الشورى حكماً شرعياً فرعياً، لا يحلل ولا يحرم ولا دور لها البتتة خارج دائرة الإباحة، التي تحكمها تفاصيل سبق وتطرقنا لبعضٍ منها أعلاه.
وخلاصة القول هي: إن الإسلام يخضع الإنسان لقاعدة "الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع" وأن بغض الإنسان أو حبه لأمر ما لا يعنيان الشيء الكثير، حيث يقول الله تعالى (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) وأن إجماع الغالبية العظمى من الناس على أمرٍ ليس مبرراً لقبوله حيث يقول الله تعالى (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ).
أما بالنسبة لحق انتخاب الأمة لحاكم عام لها، ولممثلين ينوبون عنها يتولون شئون محاسبة الحاكم ونصحه وتقويمه وتسديد أداء الدولة وأجهزتها، إنمّا هو حكم شرعيٌ استمد من الشريعة نفسها وليس من رغبات الناس، يقول النبي الكريم (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه) ويقول (لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمّروا عليهم أحدهم)، فقد أناط الشرع سلطة انتخاب الحاكم بالناس أي بالأمة. كما بين شرعية جواز النيابة وتمثيل الآخرين حيث طلب ذلك النبي الكريم صراحة من وفد المدينة، عندما سألهم أن يخرجوا له منهم اثني عشر نقيبا يكونون كفلاء له على قومهم. وأما المحاسبة والتقويم فتدخل ضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضمن التعاون على البر والتقوى ... وهي عبارة عن أحكام شرعية منضبطة بأدلتها المستقاة من الكتاب والسنة ومحددة بكيفيات وترتيبات معينة.
كما أن النصح والتسديد والتقويم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هي أحكامٌ شرعية منفصلة عن حكم الشورى، وهدفها ضمان أمثل تنفيذ للإسلام وإحسان رعاية شؤون الأمة به، وليس النزول عند رغبة الأكثرية! يقول النبي الكريم "مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مَرُّوا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا فى نصيبنا خرقاَ ولم نؤذِ مَنْ فوقَنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاًَ، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعاً".(54/267)
فمهمة الحاكم المبايع من قبل الأمة وكذلك الممثلين لها هو إبقاء كيان الدولة مسيساً بالشريعة منفذاً لها على اعتبارها تعلو ولا يعلى عليها وهي السيد في المجتمع، وأنّ أية رعاية لشؤون الناس ومصالحهم ينبغي ضبطها بما يرشد إليه الإسلام نفسه، ولذلك كانت بيعة الأمة لحاكمها مشروطة بالحكم بكتاب الله وسنة نبيه. أولا ينسف هذا مفهوم السيادة للأمة، أوليس هذا بالنقيض مما هو عليه النظام الديموقراطي!؟
ولا ينبغي أن ينصرف ذهن القارئ إلى أن هذا يعني ترسيخاً للاستبداد وتكريساً للدكتاتوية في المجتمع الإسلامي، إذ أن الإسلام قد جعل الشرع السيادة للشرع لا للحاكم، وأوجب على الناس الاحتكام إليه، وهو فوق الحاكم والمحكوم وبينهما، وينبغي خضوعهما له سويةً، وكان الحاكم نائباً ووكيلاً عن الأمة في تنفيذ الشرع وليس سيدا وصيّا على المجتمع أو على الأمة، وكانت صلاحياته منضبطة بمدى ارتباطه بعقد البيعة الشرعي، وعلى هذا الأساس يفهم قول الخليفة أبو بكر الصديق (أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أطعت فأعينوني، وإن عصيت فقوموني... أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم). وكذلك تنص القاعدة الإسلامية المعروفة على أنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الله).
مما يلفت النظر إلى أن موضوع الحاكم الفرد المستبد لا مكان له في المجتمع الإسلامي من حيث نظام الحكم في الإسلام، اللهم إلا إذا حصل انحراف عن منهج الله، وعندها ينبغي تقويم الخلل بمعالجته وتصويبه، كما هو شأن أي نظام يقع فيه مثل ذلك. ومن هنا جاءت الأحكام الشرعية التي تتناول معالجة كفر الحاكم أو خروجه عن الشريعة ومتى يخلع من منصبه أو ينخلع، ومتى يعزل من منصبه أو يخرج عليه لعدم استمرار شروط صحة ولايته.
ولذلك ينبغي اتخاذ الآليات المناسبة وتبني الأساليب والوسائل السليمة التي تحفظ العدل في الأمة، وتمنع الجور من الاستمرار، وتضمن استقرار الإسلام كسيد في المجتمع، وهذا مما يلزم الإبداع فيه، لأن انحراف الحاكم قد يجرف الأمة إلى الهاوية، إن استهانت بحقوقها واستهترت بواجباتها، ولم تتدارك التقصير من جانب الحاكم في رعاية شؤونها بحسب الإسلام، وعليه كان لا بد من الاستفادة من كل المعطيات الحديثة من وسائل وأساليب وتقنيات تضمن الأداء الحسن للحاكم والمحكوم، فيما ينطبق عليه قاعدة: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
ولا يعني هذا إلغاء النظام الإسلامي واستبداله بنظام آخر بحجة الاستفادة مما توصلت إليه البشرية، فنظام الحكم في الإسلام عبارة عن أحكام شرعية ينبغي الانضباط بها وتجسيدها كما جاءت، والمطلوب هو اتخاذ الخطوات التي تؤدي إلى ذلك لا إلى نقيضه. كما أنه ينبغي إدراك أن أي نظام سياسي في الدنيا معرضٌ طالما أن منفذيه هم من البشر للتعرض لهزات أو لخللٍ ما، سواء لهشاشة محتواه أو لسوء تنفيذه أو لكليهما، بما في ذلك النظام الديمقراطي نفسه، وما أكثر وقوع ذلك فيه. وتكون معالجة ذلك برد الأمور لنصابها والاستفادة من الثغرات التي تقع لإيجاد ما يقلل من تعرض النظام السياسي لمثلها.
وبذلك يتضح أن نظام الحكم في الإسلام هو تلاحم بين الحاكم والمحكوم لضمان إحسان تطبيق شرع الله ومنهجه. وكون أن الإسلام أجاز انتخاب الحاكم من قبل الأمة مباشرة أو من يمثلها من أهل الحل والعقد، كما هو حاصلٌ في النظام الديمقراطي الرأسمالي أو النظام الاشتراكي الشيوعي أو حتى في نظام دولة الفاتيكان حيث يجتمع الكرادلة من أنحاء مختلف العالم لاختيار البابا، فإن ذلك لا يلغي كل تلك الفوارق الشاسعة بين تلك المبادئ والإسلام، ولا يعقل دمجهم سوية بحال لتشابههم في جزئية، فيصبح أحدهما جوهر الآخر رغماً عن أنفه. كما لا يمكن جعل المبدأ كله يأخذ بحالٍ حكم واحدٍ من أحكامه الفرعية، إذ أن في ذلك تعسفاً في الفكر، وإخراجاً للأشياء عن حقيقة ما هي عليه.
ومن هنا يظهر مدى التباين بين الديمقراطية والشورى من حيث أصل ما بنيتا عليه أو من حيث دلالاتهما ومعنى الالتزام بهما.
الديمقراطية والإسلام..توأمان أم ضدان (3) ... الإسلام والاستفادة من الديمقراطية
بقلم: المهندس حسن الحسن
قد يتساءل البعض، أولم يفتح الإسلام آفاق العلم والمعرفة أمام الإنسان، أولم يأخذ المسلمون الكثير من الاكتشافات والإنجازات المدنية عن الآخرين، فلِمَ ذلك الرفض للديمقراطية، أوليست مجرد آلية انتخاب ممكن الاستفادة منها؟(54/268)
والجواب على ذلك هو: بلى، إنّ الإسلام أطلق ملكات الإنسان ومواهبه لاستثمار خصائص الطبيعة واستغلال كافة المكونات التي يتميز بها هذا الكون الفسيح فيما يعينه على عمارة الأرض واستعمالها على النحو الأمثل، فيما يحقق له الرقي والرفاهية والطمأنينة أثناء إقامته فيها، وله أن يستفيد من تجارب الآخرين من غير أدنى شك، فالعلم عالمي والمعارف المجردة عن وجهة النظر في الحياة هي مادة يبنى عليها ولا يصح إلغاؤها أو إهمالها، بل إن هذا هو نفس ما فعله النبي الكريم عندما استفاد من خبرات الفرس بحفر الخندق حول المدينة، وكذلك ما استفاد منه الخلفاء الراشدون من تدوين الدواوين وما يتعلق بشؤون الإدارة، حيث التمسوها من عند غيرهم من الأمم.
لكن كل ما سبق يندرج تحت عموم أدلة عمارة الأرض التي تترك أمور الدنيا ومنجزاتها المادية للبشر، فقد قال النبي الكريم (إن كان أمر دنياكم؛ فشأنكم، وإن كان أمر دينكم؛ فإليَّ(. وهذا على خلاف الأفكار والقوانين ذات الصبغة التشريعية التي تقدم معالجات شؤون الإنسان سواءً الخاصة به، أو تلك التي ترتب علاقته بربه أو بغيره، والتي تخضع لدائرة التشريع الإلهي وتنم عن وجهة نظر في الحياة حيث يقول الله تعالى"وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" كما يقول " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ "، ويقتصر فهم الحكم واستنباطه في ذلك على الوحي وما يستمد منه حصراً يقول الله تعالى "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" وقوله " مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ"، ويسخر الإنسان في هذا الجانب ملكاته وخبراته المعرفية لفهم مراد الله تعالى من خلال قراءة الإسلام، بما يفيد ويشرح تلك الرسالة من غير حشوٍ فيها ولا تجويفٍ لها ولا إفراغ لها من مضمونها، بل ينبغي التوقف عند دلالات النصوص بحسب ما تقتضيه المعارف اللغوية والشرعية اللازمة لذلك.
ولا ينبغي أن يولّد هذا الفهم أن هناك تعارضاً أو هوةً بين العلم والإسلام، على العكس من ذلك، فإنّ في ذلك إشارة على صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، فهو يتعامل مع الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً له حاجات عضوية وغرائز معينة مستقرة لا تتأثر بتغير الزمان والمكان. أمّا الأشكال المادية وما يوفره العلم من اختراعات وتطورات مشهودة فقد كانت دائمة العرضة للتغير، وهي من الوسائل التي يستعملها الإنسان ليكيف حياته مع ما يؤدي بها إلى الرقي المدني والرفاهية. وهذا ما أطلق فيه عقل الإنسان ويده حيث قال النبي الكريم ("أنتم أعلم بأمر دنياكم".)
من هنا اعتبر العقل أداة الإيمان ومفتاح فهم سر الخلق، حيث يسلم تماماً بكل ما بني على ذلك الإيمان لجزمه ويقينه بأساس ما بني عليه. كما ينطلق نفس العقل مبحراً في العلم المتعلق بشؤون المادة وأشكال الحياة ليبدع في معرفة آلاء الله وعظيم خلقه وليستثمره على وجهه الأمثل.
واستناداً لما سبق، فإنه ينظر في الفكرة المطروحة للنقاش، فإن كانت تحمل صبغة تشريعية تنظم وتعالج شؤون البشر وعلاقاتهم الإنسانية، كان ينبغي ضبطها بما أتى به نص أو وقع عليه اجتهاد مؤيد بالوحي يقول تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) كما يقول (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)، وأما إن كانت متعلقة بالإدارة والوسائل والأساليب فتؤخذ من غير أية غضاضة.
والديمقراطية محل البحث ليست بطائرة أو ناقلة أو أداة اتصال وتواصل أو اختراع تقني أو آلة طبية أو وسيلة ترفيه، كما أنها ليست تنظيماً إدارياً لبعض مرافق الحياة، إنّما هي باتفاق الباحثين طريقة عيش ونظام حياة، تبلورت في صيغتها المشاهدة نتيجة صراعٍ مريرٍ في أوروبا بين الدين والعلم، أقرّ جراءه بسلطة الدين على أماكن العبادة مع عزله عن الحياة، حيث يتحكم بها البشر بما يرغبون به ويرونه مناسباً لهم، والمتطابقة مع تعريفها إثر نشوئها في أثينا (500 ق.م) بمعنى: حكم الشعب بالشعب، والذي ترجع كل أشكال الديمقراطية مهما اختلفت تسمياتها إليه حتماً.
فكيف يلتقي فكرٌ قائمٌ على أساس تقديس الإنسان وجعله سيداً في الكون من غير قيدٍ له سوى رأيه وهواه وما يتصوره مصلحة له، مع الإسلام الذي يحذر من الإعراض عن شرع الله تعالى حيث يقول " أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" بل يعتبر أن الإنسان قاصرٌ عن إدراك كنه الأشياء وتحديد مصلحته، يقول تعالى ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم . والله يعلم وأنتم لا تعلمون ).(54/269)
وقد يقال لماذا لا نأخذ إذن الديمقراطية على اعتبارها مجرد انتخابات، وهي آلية لتنصيب الحاكم ومبايعته؟ والجواب هو أن هذا الادعاء هو منتهى العبث، فدولة الفاتيكان التي تمثل النصرانية تعتمد نظام الانتخاب لتنصيب البابا فلمَ لا نقول أن الإسلام هو نصرانية، وكذلك الأمر فالشيوعية تبنى على الإلحاد المطلق وهي تعتمد آلية الانتخاب، فلمَ لا نقول عن الإسلام شيوعية!؟
والحقيقة هي أن المبادئ تبنى على عقائد تستند إلى قواعد فكرية، وأما الآليات والوسائل والأساليب فمن الممكن اشتراك كافة المبادئ والمذاهب والأديان فيها من غير أي داع للخلط بينها. والديمقراطية قد تتم من خلال انتخاب ممثلين عن الشعب أو من خلال الاقتراع والاستفتاء المباشر أو من خلال العصيان المدني والتظاهر الخ وليست الانتخابات هي الحتمية الوحيدة لها، وهي حين تقوم بإنفاذ إحدى تلك الآليات إنما مقصودها هي جعل الشعب هو السيد والمرجع وهو الآمر الناهي، بينما تجد الإسلام يحدد مرجعيته بقوله تعالى (يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر).
وقد يقال لم لا نأخذ الانتخابات من الديمقراطية إذن طالما أنها مجرد آلية؟ والجواب هو طالما أن الانتخاب ليس حكراً على الديمقراطية، فلم لا تأخذها من حيث شئت، بل لم لا تؤخذ من الإسلام نفسه، فقد قال النبي الكريم للأنصار (أخرجوا إليّ منكم إثني عشر نقيبا)، أولم تنتخب جموع الصحابة أبا بكر الصديق حاكماً عليهم، أوليست الانتخابات متوفرة في الإسلام فلماذا التمسح بالديمقراطية إذن.
وبهذا فإن انتخاب الأمة لمن ينوب عنها في تطبيق الإسلام عليها أو انتخاب من يمثل مجموعة ما في محاسبة الحاكم أو لمجلس الشورى أو كوكيلٍ في أي قضية ما هو أمرٌ ليس فيه أي غضاضة، ولم يكن هناك حاجة لتجريد الفلسفة الديمقراطية من جوهرها لتقزيمها ووضعها في الانتخابات كي تتواءم مع الإسلام.
ولهذا ينبغي محاكمة حقيقة الديمقراطية كما هي، لا ما يحاول البعض أن يصوره على أنه ديمقراطية، والمشكلة الكبرى هي أن الذين يتحدثون عن تلخيص الديمقراطية بالانتخابات، فإنهم يتجاوزون ما هو أهم من ذلك بكثير، ففوق أن الديمقراطية كمصطلح هي مفهومٌ يُعنى بمقدس واحد في الحياة هو الإنسان لا شيء سواه، وهو حرٌ بتحقيق رغباته كما يشتهي ويهوى ويراه منفعة له، فإنّ لها أركاناً ينبغي الوقوف عليها ومحاكمتها قبل أن نصل إلى موضوع الانتخابات التي تشكل إحدى آليات تنفيذها وليست الحتمية الوحيدة.
تعتبر الحريات العامة هي أركان الديمقراطية، والتي تتمثل بالحرية الشخصية، حيث يلبس المرء أو يتعرى ويتزوج أو يزني بمن يشاء وكيفما شاء. الحرية العقائدية، وتشمل حق اختيار عبادة الله أو الشيطان أو التناوب بينهما أو الإلحاد فيهما، حسبما يقضي به هواه. وحرية الرأي والفكر والتعبير حيث يعتبر المرء طليقاً من القيود حراً باختياره وبمناداته بالسلوك الفطري الطبيعي أو بالشذوذ بكل أشكاله الجنسية والفكرية والطعن بالعقائد ونقد الأنبياء وانتقاصهم، ولا مانع طبعاً من ادعاء الألوهية. وتطلق حرية التملك للمرء حيثما تمكَّنَ من التكسب، بغض النظر عن القيم الأخلاقية أو الدينية أو الإنسانية.
ولو حاكمنا أركان الديمقرطية لوجدناها تتناقض مع الإسلام على نفس مستوى تناقض الفكرة الأساسية لعقيدة الإسلام، حيث الحكم لله لا للشعب. فالحرية الشخصية منضبطة بحسب أحكام الإسلام في الملبس والمأكل والمشرب بنمط معين لا يصح الخروج عنه ولا العدول إلى سواه، وحرية العقيدة فعلى الرغم أن الإسلام لا يجبر غير المسلمين على اعتناقه (لا إكراه في الدين) إلا أن من اعتنق الإسلام فإن حكمه الموت إن ارتدّ بعد إيمانه ولم يتب، يقول النبي الكريم (من بدل دينه فاقتلوه) وهذا مناقض لحرية العقيدة. وكذلك حرية الرأي والتعبير حيث يقول الله تعالى (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيبٌ عتيد) ويقول النبي الكريم (وهل يكب الناس على مناخرهم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم)، بل إن هناك تعابير عقوبتها القتل كمن ينتقص الرسول عليه الصلاة والسلام. وأما التملك فإن الأصل في الإنسان بحسب أحكام الإسلام أن المال لله وأن الإنسان مجرد وكيل عن الله في التصرف فيه وأنه محاسب على كل ما امتلكه حيث يقول النبي الكريم (وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه).
لذلك كله نجد أن الديمقراطية تتناقض مع الإسلام سواء من حيث العقيدة أو أركانها الأساسية. ولا يمكن بحال القول بالتوأمة بين الديمقراطية والإسلام. حيث تبنى الأولى على استقلال الإنسان عن الله وحريته المطلقة بينما يحدد الإسلام دور الإنسان وغايته ويضع له نظاماً خاصاً يفرض عليه نمطاً معيناً في العيش . ومن هنا نجد مدى اتساع الهوة والتضاد بين الإسلام والديموقراطية، حيث لا إمكانية لتزاوجهما أو دمجهما إلا بإلغاء أحدهما الآخر حكماً.
ارتقاء المسلمين واستقرارهم في الإسلام لا في الديموقراطية
بقلم: حسن الحسن(54/270)
الغرب الديمقراطي يعاني من التفكك الأسري والانحلال الأخلاقي وسيطرة الفردية الأنانية على سكانه الذين يجتمعون ويتفرقون على أساس فكرة المنفعة.
ميدل ايست اونلاين
يتساءل البعض أوليست الديمقراطية هي التي أمنت الرقي والاستقرار في الغرب!؟ أوليست تلك القيم هي غاية ما يسعى لتحقيقه البشر!؟ أوليس من الغباء أن نترك مجتمعاتنا طريحة التخلف والاضطراب يعبث بها حكامٌ فاسدون ومفتون منافقون، بينما نستطيع أن نسمو بها من خلال الديمقراطية!؟
والجواب هو: لا شكّ بأن الغرب قد حقق تقدماً ملحوظاً في المجال السياسي والاقتصادي، وقد وضع أسساً تتسم بالاستقرار عموماً في هذين المجالين، كما أنّه متفوقٌ مادياً على العالم الإسلامي بشكلٍ واضحٍِ لا ينكره أحد. إلا أنّ المغالطة الكبرى الواقعة في البحث هي ربط تلك النهضة التي يحياها الغرب بتحقق الديمقراطية فيه، كما أنّ المغالطة الأكبر هي ربط الواقع المأساوي البشع الذي تحياه الأمة الإسلامية بالإسلام.
فبإطلالةٍ سريعةٍ على تاريخ الغرب الديمقراطي يظهر النقيض من ذلك الادعاء، حيث غرقت أوروبا الديمقراطية في عدة صراعاتٍ دمويةٍ طاحنةٍ، وكانت الحربان العالميتان أشنع ما أنتجت تلك الديمقراطيات من حروب على مر التاريخ. ويتضح من خلال تتبع أحوال الغرب عموماً أن الخيار الديمقراطي لم يكن دوماً هو الأسلم أو الأكثر ضماناً للأمن والاستقرار، ويكفي التذكير بأنّ هتلر وموسوليني وبوش إنما أوصلهم النظام الديمقراطي إلى كرسي الحكم، مع أنّ برامج هؤلاء كانت تقوم على فكرة إبادة الخصوم وتحطيم الآخرين والحرب الوقائية، بغية تحقيق أهدافٍ نفعيةٍ أو عصبيةٍ عنصريةٍ وأخرى هشةٍ وتافهةٍ في مجملها.
ومن الجدير ذكره أن تلك الحالات لم تكن نشازاً في الغرب الديمقراطي، إذ طالما نشأت صراعاتٌ داميةٌ بين القوى المختلفة فيه. أضف إلى ذلك أن دول الغرب الديمقراطية عموماً مارست ومازالت تمارس الاستعمار بأبشع أشكاله بحق الشعوب المغلوبة على أمرها، كما هو الحال الواقع في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، مما يضع علامات استفهامٍ حول ماهية معنى التغول الديمقراطي الذي يطلق العنان للإنسان للإطباق على أخيه الإنسان، ضمن قوانين يسنها ويتحكم بها الأقوى للسيطرة على الأضعف، مزيناً إياها بوضعها في خانة عولمة قيمه الخاصة تحت عنوان القيم الإنسانية المطلقة، مستعملاً إمكانياته الضخمة وآليات الاتصال الحديثة لتحقيقها، معتبراً أن قوته تمنحه الحق بفرض هيمنته وتصوراته على الآخرين، ليس لإنهاضهم وتحريرهم إنما من أجل استغلالهم واستعبادهم، وهذا مشاهدٌ على مدار قرون من الزمان،وما زال قائماً محسوساً في أيامنا هذه.
وما حلّ بالعالم الإسلامي جراء تحكم الغرب الديمقراطي فيه إلا نماذج ساطعة على ذلك، فها هي مأساة أهل فلسطين ماثلة للعيان، وقد صنعتها لهم بريطانيا العظمى أهم وأقدم ديمقراطية موجودة في العالم الحالي، إضافة إلى جريمة تقسيم بلاد المسلمين التي دبرت بمكيدة فرنسية بريطانية صرفة، وبالسيطرة على ثروات الأمة الإسلامية ونهبها وتنصيب أتباعهم الخلص لهم عليها من حكامٍ تربأ وحوش الغاب أن تتشبه بهم، بل ودعمهم معنوياً ومادياً وسياسياً بكل ما يلزم لشل الأمة الإسلامية ولشد القيد على معصميها وإرغامها على التقوقع والانكفاء عن حركة النهضة والارتقاء. فهذه نماذج لا يمكن أن تخطئها العين أو تنساها الذاكرة مما أنتجته الديمقراطية الغربية في العالم ككل وفي العالم الإسلامي بشكلٍ خاص. ثم هذه إفريقيا تكاد لا تزال تعيش القرون البدائية بعد حوالي قرنين من الاستعمار والاستعباد. بينما نجد في المقابل أن الإسلام دخل الأندلس لينقلها في عقود معدودة الى مستويات تعدل مستوى بلاد الفاتحين أنفسهم ، بل تفوقه في بعض جوانب الحياة. فأين الثرى من الثريا؟
وبوضع فكرة الديمقراطية ومقتضياتها في سياقها الطبيعي والمنطقي الذي يحكمها من خلال معطيات الفكرة نفسها، نجد أنّ فكرة تقديس الإنسان لنفسه ورغباته وجعله الحكم والحاكم على الأفعال والأشياء بالخير والشر والحق والباطل والمحظور والمسموح، إنما تعزز لا محالة عند صاحبها الناحية الفردية، فتسيطر عليه الأنانية وتجعله يرى العالم ويتعاطى معه من زاوية واحدة معينة هي مصلحته فقط، مما يعلي عنده القيمة المادية على غيرها من القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية فتهيمن عليها تدريجياً إلى أن تسحقها، لأن الأصل لديه هو تحقيق أكبر قدرٍ من السعادة التي يتصورها لنفسه، بمعزلٍ عن تلك القيم، التي قد تستغل بدورها في تحقيق طموحه ورغباته، مما يطلق العنان للغريزة لإشباعها إلى حد التخمة، ويتحول العقل إلى مجرد أداة تستعمل في استثمار كل شيء لتحقيق أكبر قدرٍ من اللذة، حيث تساوي هذه لديه السعادة الوحيدة ذات المعنى المبرر عقلاً. ولا يغير من هذه النتيجة شيئاً أن يشرّع للناس مجموعة منتَخَبة من بينهم، لأن فكرة المنفعة القائمة على تحقيق القيمة المادية الخالصة هي المُشَكٍّلَة لمفاهيمهم والمسيطرة على إرادتهم.(54/271)
وانطلاقاً مما سبق فقد نتج في الغرب الديمقراطي عموماً التفكك الأسري والانحلال الأخلاقي وسيطرت الحياة الفردية الأنانية على سكانه، الذين يجتمعون ويتفرقون على أساس فكرة المنفعة، مما يلغي آدمية الإنسان ويحوله إلى بهيمة، ترى الإشباع المادي هو كل شيء. وبما أن إشباع الجوعات العضوية منها والغرائزية متناهيةٌ ومقصورةٌ على أعمالٍ طبيعية محددة، يندفع الكثيرون، خصوصاً المترفون منهم، إلى البحث عن أنماطٍ جديدةٍ غير مألوفةٍٍ للإشباع، وهو ما يعزز استباحة فكرة الشذوذ على أوسع مدىً ممكن. كما يؤدي ركون الإنسان إلى القيمة المادية بسد آفاق الناحية الآدمية لديه، فيوصله إلى الاكتئاب ويحفزه على الانتحار.
ومن هنا كانت الديمقراطية تُعنَى بشكلٍ مباشرٍ ومتلازم بعزل الدين وأبحاثه ومتعلقاته وكل ما يتصور أن له قداسة ما عن التأثير بحياة الإنسان، لِيُترَك له هو وحده الخيار المطلق لتحديد معالم سيره في الحياة استناداً إلى حقائق نسبية وأخرى مطلقة نتاج قوانين طبيعية مزعومة، والتي تخلص إلى كف إرادة الخالق عن التدخل بشؤون الإنسان وتحريره من كل قيدٍ سوى ما يراه مناسباً لاستمرار تلك الحرية على أمثل وجه يراه في الحياة، مما لزم معه فرض العقد الاجتماعي ونموذج الدولة المدنية الحديثة لتأمين استمرارية إطلاق الفرد لحريته وضمان عدم المس بها (وهذا كله مقدوحٌ بصحته إذ يتحول معه الإنسان إلى مجرد عبدٍ أسيرٍ لقوانين أصحاب اللعبة من الأقوياء والمتنفذين وغالباً ما يعامل كالسلعة المجردة لا أكثر).
من هنا نرى أن ما أنتجه الغرب من فلاسفة وباحثين ومن أنظمة حكمٍ بمختلف أشكالها واختراعاتٍ تقنيةٍ بمختلف إبداعاتها بإيجابياتها وسلبياتها ليس من لوازم فكرة الديمقراطية، كما أنها ليست أصلاً من أصولها ولا حتى فصلاً من فصولها، بما فيها أبرز ما في أنظمة الحكم القائمة في الغرب في أيامنا هذه من فصل السلطات الثلاث، إذ هي مما ارتآه المفكرون مناسباً لضمان استقرار المجتمعات بعيداً عن استئثار شريحةٍ منه أو فئةٍ ما دون غيرها بالملك والسلطة وتحويلها إلى مزرعة خاصة بها مملوءة بالعبيد تمتلكها تلك الفئة ويتوارثها الأقوياء!! بل إن وجود السلطة أصلاً هو مخالفٌ لحرية الإنسان لما تفرضه من قيودٍ وأنظمة، وتلك السلطات لم تكن موجودة قط في ديمقراطية أثينا، حيث كان الناس هم الحكام والمحكومين وكانوا يقترعون بشكلٍ مباشرٍ في المدينة على كل شيءٍ. والسلطة المجردة هي أمرٌ لا بد منه من باب الحاجة إليها لتنظيم شؤون الناس وليس لأنها واجبة، ولذلك لا يوجد عهدٌ أو عقدٌ ثابتٌ ملزمٌ حتميٌ لنظام الحكم، إنما يترك أمر اختياره وتطويره للناس أنفسهم.
وبالتالي فقد يطرأ تغيرٌ على تلك النظرة لموضوع السلطات خاصة في ظل التحولات الهائلة في ثقافة الإنسان ومعارفه وسرعة الاتصال والتواصل، وصراع الحضارات وتنافس الأقوياء أو توافقهم في زمن العولمة، مما يفرض دراسات تعالج كيفية إدارة شؤونه في ظل عدم جدوى استمرار السلطات القطرية والوطنية وصغر حجم الكوكب نسبياً، حيث ينبغي أن يخضع الجميع لقانون الأقوى الذي يصدر القرار ويلزم الجميع بالتنفيذ على الصعيد العالمي، بل ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون البشر، مما يلغي الشأن الداخلي للدول، ويفرض نظاماً ذات صبغة عالمية، تحكمه قوانين نسبية مستمدة من ثقافة القوى المتحكمة. مما يعني أن فصل السلطات هو اقتضاء مرحلي يعالج أزمة حكم زمانية ومكانية معينة يمكن الانصراف عنها إلى ما يوائم الواقع أكثر حين تغيره من المنظور الديمقراطي وهو ما نشاهد حصول بعض منه على الصعيد العالمي الآن.
لذلك فإن الرخاء والاستقرار الاقتصادي والسياسي الذي يحياه الغرب يرجع في مجمله إلى عوامل أخرى لا أثر للديمقراطية فيها إلا بقدر ما تؤمن تلك العوامل، وعلى رأسها انسجام شعوب الغرب مع أنظمة الحكم فيها، ووفرة الثروات الناتجة عن استعباد الآخرين والهيمنة على مقدراتهم، إضافة إلى التقدم التقني الكبير والقوة العسكرية الضخمة والهيمنة السياسية والاستئثار بمقدارت 80% من ثروات شعوب الأرض لصالح البقية القليلة.
أما بالنسبة للأمة الإسلامية فقد عاشت ثلاثة عشر قرنا من الزمان تتنسم فيها معنى الوجود، حملت فيها رسالة الإسلام بسماحته الخالصة، لتخرج الناس من عبادة المادة إلى عبادة الله، وبنت فيها حضارة زاهرة في الأندلس وآسيا الوسطى وما بينهما من طنجا إلى جاكرتا مروراً بالقاهرة ودمشق وبغداد، واتسمت أحوالها بشكلٍ عام بالاستقرار والوحدة ورهبة الجانب والعزة والاعتزاز بما لديها، مع الاعتراف بوقوع كثيرٍ من العثرات والشكاوى والإساءات التي وقعت هنا وهناك بسبب التقصير في تطبيق الإسلام وبسبب طبيعة حياة البشر التي لا تخلو من كدرٍ وهمٍّ وتقصير وصراع، وهذه هي سنة الله في خلقه وهي ما يدفع بالعباد على الدوام إلى الإبداع والتغيير والتحسين، وهي ما يحفز الأمم عادة بالعمل على دوام الارتقاء.(54/272)
كانت الأمة تهيمن عليها حقيقة واحدة وهي: أن علاج مشاكلها إنما يكون بالثبات على الإسلام وأن تصحيح أوضاعها المعوجة إنما يكون بالتزام منهجه وتطبيق معالجاته وتجسيد أنظمته، إذ كانت معايير تمييز رقي الأمة من انحطاطها دوماً مرتبطةً بمدى ارتباطها بدينها. وبهذا الميزان كانت تسير الأمة حتى زمن إسقاط دولة الخلافة عام 1924 وإزاله نظام الحكم في الإسلام تماماً من واقع الوجود في العالم، حيث تحول المسلمون نهبة لغيرهم، ولقمة سائغة يلتهمها أعداؤهم، يحكمهم التخلف والتشرذم والضعف والجمود الذي رسم لهم بعناية فائقة. وبات المسلمون يلهثون وراء كل ناعقٍ يصيح لهم بالتنوير والتطور والتقدم والسير على درب الغزاة المستعمرين ممن حارب الأمة واحتل ديارها وشرذمها وأذلها وسامها سوء العذاب، وصار المسلمون يتأرجحون بين اشتراكية شيوعية ملحدة تغنوا بها ردحاً من الزمان، وليبرالية ساقطة ساقتهم من خذلانٍ إلى خذلان، وبين هذه وتلك سقطوا في فخ القطرية الضيقة والوطنية المقيتة والقومية المنتنة، وعندما ثاب المسلمون إلى رشدهم وبدأوا يعون حاجتهم إلى الارتباط بدينهم والالتزام بشرع ربهم وإعادة دولة الإسلام دولة الخلافة الراشدة من جديد، بدأت مرحلة جديدة من إلغاء الدين، حيث اكتفى البعض بالمطالبة بتطبيق مقاصده العليا بعد تفريغه من محتواه وحشوه بما ينقض غزله عروة عروة من ديمقراطية تشترط خضوع الإنسان لثقافة غربية غريبة عن الإسلام، لا يمكن أخذها من غير أخذ مفاهيمها عن الحياة والمناخات التي تشكلت فيها والتي تؤمر الأمة اليوم بأخذها جملة أو سحقها جملة.
ونسي المطالبون بالارتماء في أحضان الغرب، المنادون بثقافته وديمقراطيته وقيمه، الداعون إلى مسايرته لتخليصهم مما ابتلاهم هو فيه، أن من لا يستطيع أن يحرر إرادته من براثن أزلام أعدائه، لهو أعجز من أن يتخلص من عدوه الحقيقي، ولهو أشد عجزاً من أن يأخذ ويطالب بالمزيد، لأنه عبدٌ مأمور وليس بسيدٍ مختارٍ.
إن الأزمة الفكرية الحقيقية التي تكمن عند تبيان علاقة الإسلام بالديمقراطية، هو ما رسخ من مفاهيم عن علاقة الديمقراطية بالكنيسة وإسقاطها على الإسلام متناسين طبيعة الظروف التي نشأت فيها الديمقراطية والمناخات التي تحكمها، وغافلين عن طبيعة الإسلام في نفس الوقت، حيث أن فصل الدين عن الحياة في أوروبا ساهم بشكلٍ مباشر في إحداث نقلة نوعية في تاريخها، لخلوّ النصرانية التي حكمت أوروبا من التشريع أصلاً، مما كان يعني أن استمرار تطبيقها هو لتأمين مصالح فئة ضيقة منتفعة منها، وهو ما فرض قيود التخلف والظلام على تلك الشعوب عدة قرون.
أما الإسلام فإنه لا يمكن مقارنته بحال مع تلك النصرانية، حيث كان سبباً واضحاً لاستقرار الأمة ورقيها وتقدمها، وما سحقُ الأمة الإسلامية لجبروت فارس والروم وتحرير البلاد والعباد من ظلمهما، وهيمنتها على الوضع الدولي قروناً طويلة، ودخول شعوب بأكملها فيه، إلا بعض دلائل ذلك النجاح الباهر ودلائل واضحة على عظم أثر الإسلام في الشعوب التي اعتنقته وجاهدت في سبيل نشره.
ولذلك كانت عصور النهضة والرقي والإشراق في حياة الأمة هي زمن إحسان تطبيق الإسلام فيها. وأن المشكلة الحقيقية التي جابهت الأمة وجعلتها تتلكأ، هي ما لحق دولة الخلافة من ثغرات إثر التهاون بالتطبيق الكامل لأحكام الشرع، كغمط الأمة حقها في انتخاب حكامها، وتحول الدولة إلى ملك وراثي، وقلة المحاسبة وما شاكل. لذلك كان التقصير في تطبيق الإسلام، هو الذي أنتج تلك الإخفاقات. وهذا على خلاف الكنيسة التي كان وجودها في السلطة سبب إنهاك البلاد وإهلاك العباد، حيث تحولت إلى وسيلة يستثمرها الحكام وأصحاب النفوس الدنيئة في السيطرة وجمع الثروات واستعباد الآخرين. والحق يقال أن رجال تلك الكنيسة الظلامية المشؤومة في أوروبا في عصور نعتت بأنها القرون الوسطى وعصور الظلمة، تشبه أحوال حكام العرب والمسلمين في أيامنا هذه، حيث أنهم على أتم استعداد للتضحية بالأمة ومصالحها في سبيل نزواتهم واستتباب أمور الحكم لهم، ولو كان ذلك فوق جثث الناس الذين يطالبونهم بأبسط حقوقهم المشروعة.
ولذلك فإن العودة إلى الإسلام تغني عن المناداة بالديمقراطية، تلك التي لم تشعر الأمة بعازة إليها ولا إلى غيرها من الثقافات طوال فترات تطبيقها دينها، بل كانت الأمم الأخرى عالة على المسلمين وعلى حضارتهم الرائعة، فأمة أعزها الله بالإسلام، أرقى من أن تتركه لاهثة وراء فضلات البشرية.
الديمقراطية: مشروع استعمارٍ أم نهضة؟
------------------
بقلم: حسن الحسن
يتصورُ البعضُ أنّ مسايرةَ الغرب في فكرة الديمقراطية أمرٌ ضروري وأن مسألة التوافق مع الديمقراطية هي أمرٌ شكلي ومجرد وسيلة لارتقاء سلم الصعود إلى السلطة، ويتساءل ما الضير في استعمال أهداف الغرب لتحقيق مآرب نبيلة؟ هؤلاء يغفلون حقيقة أنّ الغرب ليس بساذجٍ ليخدعوه بمثل تلك الانحناءات.
ميدل ايست اونلاين
" بوش: يجب على سكان العالم الإسلامي أن يختاروا الديموقراطية."
"Bush: People of Islamic Wo r ld Must Choose Democ r acy".(54/273)
هكذا لخصت كاثلين رم Kathleen T. r hem من وزارة الدفاع الأميركية كلمة الرئيس بوش التي ألقاها في جامعة غالطة سراي في استنبول في 2004-06-29، والتي تناول فيها الحديث عن أهمية نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير.
ويُستخلصُ من كلمة بوش أنّ القضية ليست هي البحث عمّا يناسب العالم الإسلامي، أو ما يحبذه وينشده المسلمون لهم من منهجٍ للحياة عن رضىً وطواعيةٍ منهم، إنّما هي إملاءات يجب عليهم تنفيذها بغض النظر عن مدى موافقة الديمقراطية لعقيدتهم من عدمها، وبغض النظر عما إذا كان المسلمون بحاجة لهذه الديموقراطية أم لا. إنّما الواضح أنّ المطلوب أميركياً هو وجوب انصياع المسلمين لها رغم انفهم، وبغض النظر عن قناعاتهم، مع الخضوع التّام لها ولحلفائها في العالم الغربي.
وتحت هذه السياسة المعلنة تندرج تلك النداءات من بعض المبهورين بالغرب وبضاعته الفاسدة الداعية إلى دمج الديمقراطية بالإسلام، والحوار أو التوافق حتى التلاحم بين الحضارات، بالطبع لصالح الحضارة الغربية وسيادتها في العالم.
من هنا كانت تلك الجهود الضخمة والمنصبة على إلغاء كل الفوارق والفواصل والتعارض القائم بين الديمقراطية والإسلام، لِيُزَالَ التناقض الموجود حتما بينهما فيتحولا إلى توأمين، ذلك لأنَّ الإسلام يقف كالطود الشامخ أمام الفكرة الديموقراطية الرأسمالية، وهو الذي يمنع استتباب السيطرة لها على العالم الإسلامي، رغم ضعف المسلمين الحالي بسبب غياب الإسلام عن حياتهم ومكر حكامهم به وبهم، لذلك كان لا بدّ لهم من العمل على إزالته من الطريق، ولاستحالة ذلك، تمّ تبني تسوية تلك العوائق من خلال تأويل الإسلام ليقرّ بقبول الديموقراطية ويعترف بشرعيتها، وهو أمرٌ لن يشعر الغرب بالطمأنينة والسكينة والاستقرار وتحقق النصر الكامل له، قبل أن يجسد ذلك في العالم الإسلامي، حيث يراد تحويله إلى ما يشبه أميركا اللاتينية إن لم يكن أسوأ.
وعليه كان لا بدّ من استعراض بعض الأمور التي ينبغي تسليط الضوء عليها لبلورة أبعاد نشر الديمقراطية في العالم الإسلامي.
1. إنّ الديمقراطية لا تقتصر على الانتخابات كما يتوهم ويدندن لها البعض، بل هي وجهة نظرٍ في الحياة، تشتمل على ثقافةٍ وقيم ومفاهيم خاصة بها، تتناول الفرد والدولة والمجتمع. وأساس ما تقوم عليه وجهة النظر تلك، تقديس رغبات الإنسان وجعله السيد الأوحد في هذا الكون، وهذه هي القاعدة الفكرية للديموقراطية، والتي ينبغي أن تبنى كافة الأنظمة والقوانين على أساسها.
2. ليس الهدف من دمقرطة العالم الإسلامي استبدال الاستبداد والظلم والطغم الحاكمة فيه بالعدل والحق والخير (مع نسبية كثيرٍ من هذه المفاهيم)، إنما المقصود منها هو تغيير ثقافة الأمة وقيمها وتصورها للحياة، وبالتالي إتمام عملية ضم الأمة الإسلامية إلى حظيرة العالم الرأسمالي الغربي حضارياً بعد أن تمّ سياسياً.
3. إنّ غالب الأنظمة الطاغوتية الاستبدادية المتوحشة القائمة في العالم الإسلامي إنما هي أذرع الأخطبوط الأميركي الذي طالما وما يزال يستعملها لتحقيق مصالحه. وما تَفلّتَ من تلك الأنظمة من أميركا فليس بريئا بحال، إذ هو من بقايا المد الاستعماري القديم الإنجلو-فرنسي. ولو كان الغرب بريئا في دعوته إلى شعاراته لتخلى عن تلك الأنظمة المتعفنة، بدلاً من مدها بآلات القمع والتعذيب وأدوات التجسس على المواطنين وتغطية جرائمها طوال استمرار خدمة تلك الأنظمة لها.
4. إنّ انتصار الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بمشروعهم الهادف إلى دمقرطة العالم الإسلامي، يعني إلغاء آخر الحضارات الممتنعة عليهم، والتي تشكل تهديداً حقيقياً لهم على المدى البعيد، والذي يبدأ مع بداية ظهور نقطة ارتكاز للأمة، تتمثل بدولة الخلافة التي تجسد مفهوم دار الإسلام. تلك الدولة التي تعني تقديم نظم اقتصادية وسياسية واجتماعية بديلة لما عليه الغرب، وتحدّياً لأطماعه ووقفاً لنهب ثروات الأمةالإسلامية وغيرها من دول العالم المغلوب على أمرها.
5. إنّ العالم الحالي وبطبيعة سيطرة المبدأ الرأسمالي الديمقراطي عليه، يتحكم فيه معياران هما: القوة والمنفعة. وبما أن العالم الغربي هو من يتحكم بمفاتيح القوة وبمقدرات وثروات البشرية، فإنه الأقدر على الهيمنة والانتصار في ميادين الصراع في مختلف أنحاء العالم، وهو يفعل ذلك لتأمين استمرار استئثاره واستيلائه على مقدرات الأمم بغية تحقيق أعلى درجةٍ من المكاسب له، مما يعني نهاية التاريخ فعلاً لصالحه حضارياً ومادياً، كما تعني أيضا استقرار البشرية على الفكرة الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية الفردية الجشعة النهمة التي تنذر بسيادة شريعة الغاب في أبشع صورها على العالم.
إنّ ما سبق وليس تأويلات اللاهثين وراء تطويع الإسلام للديمقراطية، هو ما يفسر ذلك الإصرار من قبل الغرب عموماً على إكراه العالم الإسلامي على احتضان قيمه ومثله ونظرته إلى الحياة، بل وإلزامه بجعل الديمقراطية ومقتضياتها هي المعيار الأساس للحكم على مدى نهوض الأمة أو انحطاطها، بعد أن كان الإسلام وحده هو العامل الحاسم في تحديد ذلك.(54/274)
واستناداً إلى ذلك يتم إدراك معنى دمقرطة العالم الإسلامي، الذي يسوسه الغرب بحسب قاعدة إما وإلا، بمعنى إما أن تقرّ الأمة الإسلامية بفكرة فصل الدين عن الحياة وإطلاق الحريات على النمط الليبرالي ومنح المرأة الحقوق الكاملة من منظور الفكر الغربي الديمقراطي الذي يجعل المساواة والتماثل في الحقوق والواجبات بين الذكر والأنثى هو الأساس، إضافة إلى بناء كل القوانين والتشريعات على أساس تلك القواعد الفكرية، وإلا فمنطق الإكراه المستند إلى قوة مطرقة الغرب هو من سيتكفل بمعالجة استعصاء العالم الإسلامي عليه، وهو ما سيمنح الغرب القدرة على التحكم بمناهج الأمة التعليمية وخطابها الإعلامي والسياسي والديني والثقافي عموماً، ليصيغها بحسب فلسفته هو لما ينبغي أن تكون عليه الحياة.
ومن أجل ذلك تمّ بناء مراكز فكرية وثقافية وأكاديمية وإطلاق محطات فضائية لتسويق الديمقراطية ونشرها في العالم العربي والإسلامي، كما قامت مراكز قرارٍ غربية بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر، بتمويل حركاتٍ سياسيةٍ ودينيةٍ ودعم مفكرين ومثقفين وإبرازهم، بعد أن ارتضى هؤلاء تطويع الإسلام ودمج الديمقراطية فيه، بل وجعلها جوهر الإسلام وقلبه. وبغض النظر عن نوايا أصحاب تلك الحملة، فإن ذلك يصب مباشرة في جعبة الحملة لتغريب الإسلام وتفريغه من محتواه وجعله شكلاً بمكوناتٍ تنقضه عروة عروة.
وليس من قبيل الصدفة إطلاق صفة الفكر الإسلامي الوسطي المعتدل المنفتح المتنور والمتطورعلى من يتبنى الترويج للديمقراطية ويعتبرها قضيته الأولى، فيما يعتبر من يفترض التضاد بين الديمقراطية والإسلام ويدعو إلى تطبيق الإسلام وجعله قضيته المصيرية الأولى متشدداَ متطرفاً وأصولياً متزمتاً.
ولذلك وجد أصحاب ما يطلق عليه التيار المعتدل الغطاء الإعلامي والسياسي والمالي وفسحة رحبة واضحة من المنابر التي انبرى من خلالها هؤلاء بالذبّ عن الديمقراطية وبتجميلها في أعين الناس، وذلك من أجل التأثير على شرائح واسعة من المسلمين، بخاصةٍ مع تطور وسائل الإعلام وسيطرتها على أذهان الناس وقدرتها الواسعة على التأثير في أفهامهم.
أخيراً، يتصورُ البعضُ أنّ مسايرةَ الغرب في فكرة الديمقراطية في هذا الوقت هو أمرٌ ضروري لازمٌ، إذ أن التغيير من داخل العالم الإسلامي أمرٌ ميؤوس منه، وأن مسألة التوافق مع الديمقراطية هي أمرٌ شكلي وأنها مجرد وسيلة لارتقاء سلم الصعود إلى السلطة، ويتساءل هؤلاء، ما الضير في استعمال أهداف الغرب لتحقيق مآرب نبيلة؟
يغفل هؤلاء حقيقة أنّ الغرب ليس بساذجٍ ليخدعوه بمثل تلك الانحناءات، بل إن الغرب يستعملهم وهو يعي نواياهم تماماً، وهو إنما يريد منهم إنفاذ مهمات محددة، وينتهي دورهم فور إنجازهم إياها، ولذلك فإنهم على رغم ادعائهم عدم مصادمتهم للغرب وقبولهم بقيمه وتسليمهم بديمقراطيته فإنه لا يثق بهم، وإنما يمتطيهم طالما أنهم يخدمون أهدافه الثقافية والفكرية بما لهم من وزنٍ لدى عامة الناس، هو نفسه الذي منح أكثرهم إياه، لإدراكه براغمياتهم وطريقة تفكيرهم، التي هو أكثر خبرة ودهاء في استعمالها، لأنها صنعته الخالصة.
والمستيقن حتماً هو أن الغرب لن يدع أحداً يصل إلى السلطة إلا إذا استوثق من أنه مؤمن فعلاً بقيمه محافظاً له على مصالحه، ضمن آليات يحرص على أن تكون مقاليدها الحقيقية بيديه، حتى يمنع من أن يعبث أحدٌ بمصالحه فضلاً عن أن ينقلب عليه.
لذلك فإنّ القضية ليست بتلك السذاجة التي يتوقعها البعض، فضلاً عن أن المراد هو تحرير الأمة جذرياً من التبعية للغرب وعتقها من ربقة استعباده لها، ولا يكون ذلك بشد وثاقها بحجج واهية إلى حضارته، وتمكين خصومها وأعدائها فكرياً وثقافياً منها بعد أن تمكنوا منها سياسياً، بل وعن رغبة وطواعية ودعوة مؤصلةٍ إلى تبني ثقافته وفكره ورؤاه!
من هنا أتت أهمية الحذر من الوقوع في فخ استدراج الغرب لتضليل الأمة من خلال شخصيات مرموقة لها وقعها على أسماع الناس. ولذلك كان لا بد من التنبه دائماً إلى ما يقال لا إلى من يقول.
وخلاصة القول إن الدعوة إلى الديموقراطية في العالم الإسلامي هي مشروعٌ استعماريٌ صرفٌ يدفع الأمة إلى الاستغناء عن هويتها الثقافية والحضارية وقيمها الخاصة بها، ودفعها نحو الذوبان في الغرب والانصهار فيه إلى درجة الانسحاق. بينما يكمن الحل الحقيقي الذي ينهض العالم الإسلامي في العودة إلى تعاليم الإسلام بنقائها وصفائها، وفي العمل من أجل تحقيق تغيير جذريٍ في الأمة الإسلامية بغية تحريرها من براثن الغرب وعتقها من الطواغيت والظلاميين ومن طواقم المستبدين، ودفع كل المجرمين الذين رهنوا مقدرات الأمة وماضيها وحاضرها لإعدائها إلى محاكم عادلة لينالوا ما يستحقونه جراء أفعالهم المشينة وجرائمهم الشنيعة بحق أمتهم ودينهم.
الديموقراطية .. والخارجون عن القانون الإلهي !
لعل ما كتبه الكاتب تجده عمليا من خلال النظر إلى المجالس النيابيّة البرلمانيّة، فتجدهم أحيانا يعلنون التصويت على تطبيق الشريعة أو عدم تطبيقها ..!!! وأحياناً يصوتون على وجود الخمور.. هل يسمح بها أو لا يسمح ؟؟!!(54/275)
والأمثلة على ذلك كثيرة، والنتيجة في التصويت للأغلبيّة إذا كانت ضد الإسلام، أمّا إذا كانت لصالح الإسلام فما أهون من أن يُحلّ المجلس فيسقط التصويت والمشروع الذي صوّت عليه .. والواقع يشهد بذلك.
وهكذا تكون المشاورة والتصويت على أي أمر كان دون النظر إلى حكمه الشرعي أو كونه يُرضي الله عز وجل أو يُسخطه، بل وحتى لو كان الأمر كفريّا ينظر إلى ما يقوله الشعب ويُرجّحه !!!
وهذا يصطدم صراحةً مع أصل أصيل في الإسلام، إذ أن الحكم في الشريعة الإسلاميّة لله وحده، حيث يعتبر الوحي بشقيه: الكتاب والسنّة، هما المصدر التشريعي الوحيد للأمّة الإسلاميّة.
قال تعالى:" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما" والحرج كما قال العلماء: هو أدنى ما يشعر به الإنسان من الضيق والكدر، وهو من أعمال القلوب التي تخرم بنقضها أصل الإيمان وتخرج صاحبها إلى الكفر الأكبر. وهذا يقال في من وجد في قلبه(حرج) من أحكام الله، فما ظنك بمن يكرهها، قال تعالى: " والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم". فتأمل كيف كان كفرهم بسبب كرههم لما أنزل الله، ولا مناص من تفسير الكفر هنا إلا بالكفر الأكبر المخرج من الملة، لأنه كان سبباً في إحباط عملهم، والكفر الأصغر لا يحبط العمل كما هو معلوم.
وقال أيضاً: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون". على وفق التفصيل السلفي الأثري المعروف، والذي لخصه حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس في قاعدة: "كفر دون كفر"، بحسب حال المتلبس في الفعل. (ولإسقاط الحكم الشرعي في هذه المسألة الحساسة على واقع الحكام في هذا الزمان ينظر إلى فتاوى العلماء الأكابر من أمثال الشيخ ابن باز والألباني وابن العثيمين).
وقال سبحانه وتعالى: "إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه" حيث يدل الاستثناء في الآية الكريمة على إثبات حصر التحاكم لله وحده، ونفيها عن غيره، وأنها من تمام العبودية له سبحانه وتعالى، فهي تدخل بذلك في توحيد الألوهية، وتدخل في توحيد الربوبية باعتبار أن لا حاكم إلا الله، وتدخل أيضا في توحيد الأسماء والصفات، لأن من أسمائه سبحانه وتعالى: الحكم والحكيم.
وكما بين الكاتب للأسف الشديد نجد أن كثيرا من المسلمين يعتقد أن الديموقراطيّة كالشورى في الإسلام، وهذا خطأ وخلط عجيب، لأن الشورى في الإسلام تقوم على مشاورة العلماء والحكماء وأهل الاختصاص، وهي أول نقطة افتراق بين الشورى والديموقراطية، حيث أن الأخيرة تقوم على مشاورة ممثلي الشعب الذين تفرزهم الدوائر الانتخابية والتي لا يخلو تقسيمها من مصلحة سياسية للحكومة، تلعب بها على الشعب المغفل، فدوائر القبليين تفرز قبليا، ودوائر النفعيين تفرز برجماتيا، ودوائر الطائفيين تفرز مذهبيا، ودوائر الرقاصين تفرز رقاصا!!! وهكذا بحسب ما يفرزه المجتمع والذي لا تؤدي إفرازاته بالضرورة إلى النتائج السليمة، فتصبح في النهاية أمام برلمان مسخ جمع الناس كدراً، وفرق الجهود والمصالح هدراً.
ونقطة الافتراق الثانية: أن المشاورة في نظام الشورى تكون في شؤون الحكم والسياسة التي لا تتعارض مع الكتاب والسنّة كإعلان الحروب ومعاهدات السلام واختيار الولاة وتنظيم الشؤون الإدارية للدولة وغيرها من الأمور التي ترك فيها الشرع مجال للنظر والمشورة حسب ما يقتضيه واقع الحال وتغيرات الزمان.
ومن خصائص الديموقراطيّة أنها تسمح بحريّة الإعتقاد: وهي أن للإنسان الحريّة فيما يعتقده، والله سبحانه وتعالى يقول: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، وله الحرية بأن يمارس عبادته سواء كان كافراً بوذيّاً أم مجوسيّاً أم نصرانيّاً أم يهوديّاً أو من أي ملّة كانت، بل وله الحريّة في إظهار شعائره وطقوسه كما يريد، فلا تعجب إذا رأيت رجلا في الشارع يسجد لصنم أو بقرة وإلا فأنت لست ديموقراطيّاً..!! وكأن الإسلام جاء ليحمي الكفار ويضمن لهم حريّة الكفر بالله..!!!
فإن قلت: إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". قلنا لك: أكمل الآية: "إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا" فهل كان الله يخير أم يستهزئ بالكفار ويُمهلهم !!(54/276)
وإن قلت: فإن الله تبارك وتعالى يقول: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" قلنا لك: إرجع أولاً إلى سبب النزول فيتبين لك مناسبة نزول الآية ومعناها ولا تحاول أن تتوسع أو تتعسف في إسقاط معناها على ظروف وملابسات مختلفة. ثانياً: إننا لا نكره أحدا على اعتناق الاسلام، بل ما نعتقده يقيناً أن أصل الإيمان في القلب، فلا فائدة إذن من إكراه الناس على دخول ديننا، ما دامت قلوبهم لم تأت بأصل الايمان، وما دام الأمر كذلك، فإكراهنا لهم على دخول الإسلام لا يفيدهم ولا يفيدنا، مثلاً: هل يستطيع أحد أن يرغمك على حب أحد، الجواب: لا، لأن الحب والكره من أعمال القلوب التي لا يستطيع أحد أن يرغم صاحبها على اعتناقها، وكذلك الإيمان بالله، وبمعرفة هذا تتهافت أمامك شبهة انتشار الإسلام بالسيف، إذ لا فائدة من إكراه الناس على أمر لا تعتنقه قلوبهم التي هي أصل ومدار التكليف.
لكن هناك فرق دقيق بين مفهوم "عدم الإكراه" وبين مفهوم "حرية الإعتقاد" فالأول لا يقودنا بالضرورة إلى الثاني، إذ لا تلازم بينهما، فعدم إكراهي لك على الإسلام لا يلزم منه أنك حر في اعتقاد وفعل ما تريد، ولا يعني كذلك صواب الخيارات الأخرى المتاحة التي هي لازم الحرية بمفهومها الشرعي، ولا يعني بداهة توفير و تسهيل وتقنين هذه الخيارت. لأن الإسلام في الأصل يعطل هذه الخيارات ويحذر منها، فكيف يلتقيان إذن؟ أعني مفهوم "حرية الإختيار" مع التحذير منه؟ نضرب لذلك مثلاً: هب أن مدرساً يقول لطلابه: من أراد أن ينجح في الاختبار فعليه بهذا الكتاب، ففيه مادة الامتحان، فقال له أحد طلابه: فما رأيك بكتاب كذا وكذا: قال المدرس: ما أضمنه هو كتابي هذا فقط، لا أجبرك على أن تدرس منه، لكنه الوحيد الذي سيؤهلك لاجتياز الامتحان بجدارة وأما الكتب التي ذكرتها فهي غير وافية وفيها بعض الأخطاء فلا أنصح بها وسأحاول منعها والتحذير منها .. لكن الأمر في النهاية لك، فأنا لا أستطيع أن أجبرك على شئ! فهل تفهم من المدرس –حقيقة- أنه يخير طلابه؟؟!
ومن خصائصها كذلك الحريّة الشخصيّة: وهي تعني أن للإنسان أن يمارس حقه الشخصي في فعل أي شئ من لزنا ولواط وشرب الخمر دون التدخل في خصوصياته..!! لأن ذلك من حقه الشخصي الذي تعطيه إياه الديموقراطيّة، فانظر كيف تغيب القيم والأخلاق والمصالح العامة تحت ستار الحريات الشخصية، التي هي في الحقيقة أحط درجات العبودية والانقياد، لإنها عبودية للذات وانقياد للغرائز والشهوات.
ولأن الدول التي تحكم بالديموقراطيّة مأمورة باحترام حقوق الأفراد وحريّاتهم وضمانها، لهذا أنشأت شواطئ العراة..!! وأصدرت قوانين تجيز زواج الرجل برجل آخر وغير ذلك من القرارات الشاذّة، وباسم الحرية فليزن الرجل بأمه أو أخته أو حتى نفسه!! ألم يصرح أحدهم بأن: نعم .. لا مانع .. المهم رضى الطرفين !!!! ولا تقل لي: لا .. لا يا سيدي .. هناك فرق ؟؟! سأقول لك حينها: وما الفرق؟ وما ضابط هذا الفرق؟؟ وما هو حده؟ وتحت أي شعار ستقدر قدره؟!! والناس مختلفون .. ذكورة وأنوثة .. حرارة وبرودة .. أمزجة وأهواء وطبائع .. عادات وتقاليد وأعراف .. ولو تركنا كل واحد يضع ناموسه لاتسع الخرق على الراقع، ولعمت الفوضى، فلا بد من تدخل عادل نزيه، يترفع عن الصفات البشرية، والمصالح الفردية، والمكاسب اللحظية.
ومن الحريّات التي تكفلها الديموقراطيّة أيضاً حريّة التعبير عن الرأي، فأنت تستطيع أن تتقدم إلى أي وسيلة من وسائل الإعلام وتقول ما شاء سواء كان الكلام كفراً، أم ردّة، أم إلحاداً، أم فجوراً، دون معاقبة لأن الدستور يكفل لك ذلك..!! ولا مانع من مداعبة الجمهور وإضحاكه بسرد النكت حتى لو كان بطلها هو: الله .. أو رسم كاريكتير ساخر لنبي مرسل، أو ملك مقرب !!!
فالديموقراطية إذن هي فن التمرد على الأخلاق والقيم باسم الحرية ..
هي فن التمرد على الحدود البشرية .. والخوض في مطلقات الطبائع الحيوانية ..
هي فن إيلاف الفجور .. ووأد الحياء .. وقتل الغيرة والمروءة ..
هي فن يحول الإنسان إلى بهيمة .. لا هم له إلا إشباع غرائزه .. فلا حدود ولا ضوابط ولا مبادئ ..
ولا ضمان لحياة كريمة ..
ما يهم أن تثبت أنك حي! ما دمت تقوم بكل الوظائف البيولوجية الطارئة ..
بغض النظر عن المكان والزمان .. ومع أي شخص كان !!
فلا يلبث المجتمع أن يتحول إلى مجتمع غابة ممسوخ ..
البقاء فيه للأسفه .. للأوقح .. وليس للأقوى .. فضلاً عن الأصلح ..
هي فن لا يتقنه إلا الخارجين عن القانون الإلهي ..
فن العصابات والسماسرة .. وإن تغنى به الملوك والقياصرة ..!!
المصدر
http://70.84.212.52/vb/showth r ead.ph...8&page=1&pp=15
=================(54/277)
(54/278)
الإسلام والديمقراطية
د. عبد الستار قاسم
الإسلام والديمقراطية صنوان.. هذا رأي بعض المفكرين المسلمين. بينما يرى المفكرون العلمانيون أن الإسلام والديمقراطية ضدان لا يلتقيان. ويحظى الفريق العلماني بتأييد شريحة من الإسلاميين المتشددين الذين يرون الديمقراطية كفرًا؛ لأنها تجعل الحاكمية للشعب، في حين ينبغي أن تكون هذه الحاكمية لله.
وبعض الإسلاميين يرى أن الإسلام له تصوره الخاص للحريات. وأن هذا التصور أرقى من التصور الديمقراطي، بحيث يصير من قبيل ظلم الشريعة وإحباط تميزها أن نقول بأن الإسلام ديمقراطي.
وشريحة رابعة من الإسلاميين ترى أن الإسلام وسّع نطاق الحقوق والحريات، لكنه جعل الحرية مسؤولة ومرتبطة بحدود الله وشرعته. وفصيل خامس من الإسلاميين قال: إنه لا قيد ألبتة في الإسلام على الحريات؛ لأن كل إنسان مطالب بعرض حججه، وتقديم بيناته وعلى كل مكلف أن يختار، حيث لا إجبار على عقيدة في الإسلام.
كما ترى أخي القارئ الكريم، التصور السياسي الإسلامي يتضمن اجتهادات إسلامية خمسة فيما يتعلق بالديمقراطية وأطر الحريات. في هذه الورقة يقدم الكاتب الدكتور عبد الستار قاسم اجتهادًا يراه البعض ثورة في رؤية الإسلاميين للإسلام في علاقته بالديمقراطية. ما هو هذا الاجتهاد؟ وهل أصاب فيه الكاتب أم اخطأ؟ طالع معنا محاور هذه الرؤية:
==================
التصور الإسلامي بين الفردية والجماعية
قرأت في مواطن كثيرة أن من مهام المشروع الإسلامي تعزيز الديمقراطية. وبما أنني من طلاب الفكر السياسي وممن لديهم معرفة متواضعة بالفكر الإسلامي وجدت أن الجملة قد خرجت فلسفيًا عن السياق الإسلامي. وربما تم استحضارها تمشيًا مع موجة ترسيخ أو البحث عن الديمقراطية المشتعلة في العالم الآن. وفي هذا ما يدفعني إلى الكتابة حول الموضوع، محاولاً توضيح بعض الافتراضات الفلسفية الأساسية وما ينبثق عنها من مفاهيم واشتقاقات ذات انعكاس على أرض الواقع.
فالفكرة الديمقراطية تغزو العالم في الوقت الحاضر، وتجد لها مساحات واسعة في النشاطات الإعلامية والثقافية، سواء على مستوى الندوات أو المحاضرات أو اللقاءات المرئية أو صفحات الجرائد. ولا شك في أن للفكرة بريقًا قويًا خاصة بالنسبة للشعوب التي تعاني من القهر والاستبداد.
وقد حوّلها هذا البريق من بُعد فكري وإطار نظري لترتيب المجتمع السياسي إلى ممارسات عملية تتعلق بحريات أساسية ومنها حرية التعبير والتنقل والتنظيم. والناس عامة لا يكترثون في البحث عن الأسس الفلسفية التي تنطلق منها الديمقراطية بقدر ما يهتمون ببعض المظاهر والممارسات السياسية التي يرتاحون لها، ويثنون عليها، ويودون أن تكون جزءًا من واقعهم؛ علّهم ينعمون ببعض الخير الذي تنعم به الشعوب التي أقامت نظمًا سياسية ديمقراطية.
ساد هذا الانطباع الجماهيري العام عن الديمقراطية في العالم الإسلامي والوطن العربي حتى بات المفهوم الشعبي لها مرادفًا للحرية. ولا يقوم في أذهان الناس أن الحرية قد تكون أكثر شمولاً أو أقل اتساعاً من الديمقراطية، وأن لكل مفهومًا خاصًا ربما يتقاطع مع الآخر ولكن لا يتطابق بالضرورة معه.
وربما هذا ما قاد بعض المفكرين أو الكتاب المسلمين إلى القول بأن الإسلام ديمقراطي، وأن القيم الديمقراطية قيم إسلامية يجب الدفاع عنها. وبدل أن يركزوا على البحث في مجال الحريات في الإسلام انطلقوا يحدثون عن الحداثة الإسلامية بثوب ديمقراطي، بينما انبرى آخرون للهجوم على الديمقراطية على اعتبار أنها نظام كفر وعرّفوا الحرية بالإيمان الذي يتقيد بالكثير من الأوامر والنواهي إلى درجة لم يعد المرء يفرّق بين الحرية والقفص.
من منطلق معرفتي المتواضعة بالنظام الديمقراطي والنظام الإسلامي أسوق المقارنات المختصرة التالية، والتي يمكن أن تشكل أساسًا لكتاب في الحريات المقارنة. وقد أعطيت أهمية في البداية لبعض الافتراضات الأساسية، وانتقلت بعدها إلى بعض المقارنات التطبيقية.
الفردية والجماعية
تنطلق الديمقراطية كنظام سياسي من مبدأين رئيسين هما الفردية والتحررية. كنظام منبثق أصلاً من حصيلة التجربة السياسية الغربية استندت على مجمل التفاعلات الفلسفية التي زخرت بها التجربة الغربية على مدى سنين، وعلى العلاقة الجدلية الديناميكية بين هذه التفاعلات وحركة الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الغربي. تميزت هذه التفاعلات بقطبية ثنائية شهدت مشادة ما بين الفردية والجماعية، والتي حسمت في هذه المرحلة التاريخية لصالح الفردية.(54/279)
باختصار كبير تقول الفردية بأن الفرد هو أساس المجتمع وليس العكس، وهو سابق على المجتمع عمليًا من ناحية الولادة ونظريًا من ناحية الاستقلالية كشخص غير تابع لتصورات أو أفكار مسبقة. والسلوك الاجتماعي عبارة عن سلوك فردي ويمكن تفسيره بناء على دوافع واستعدادات الأفراد وميولهم. وكل وضع اجتماعي أو حدث عبارة عن نتيجة لتشكيل محدد من قبل الأشخاص وليس بمبادرات جماعية تعكس مصلحة عامة. وإبداعات المجتمع هي في الأساس إبداعات الأفراد، وكل عقبة أمام تقدم الفرد هي بالتأكيد عقبة أمام المجتمع ككل. فصالح المجتمع يتحقق من خلال تحقيق كل فرد لمصلحته ولما يعتقد أنه صالحه. وعليه فإن مؤسسات المجتمع تقوم على افتراضات فردية. إنها تفترض أن الفرد يستجيب للثواب والعقاب، سواء كانا نفسيين أو ماديين.
ولذا فإن الأفراد يسلكون حسب القواعد المتبعة؛ لأن موافقتهم تؤدي إلى المكافأة وعدم الالتزام يؤدي إلى العقاب.
تعدد الانتماءات واقتسام الولاءات
ينتمي الفرد إلى عدد من التجمعات والجمعيات والمؤسسات، وبذلك يكون له عدد من الولاءات تبعًا للأهداف المختلفة التي تعمل على تحقيقها. وهو بالتالي يتصرف بطرق مختلفة وحسب الدور المتوقع منه، وسلوكه يتغير تبعًا لتغير القواعد. وهذا هو السلوك الاجتماعي للفرد. إنه يتغير مع تغير المعايير والنظم والضوابط والظروف. ولهذا فإنه ليس من المستبعد أن يتصادم الفرد مع نفسه؛ لأن مصالح المجتمعات والمؤسسات قد تتضارب. وفي هذا ما يدفع الفرد للعمل على إيجاد نقطة التوازن من خلال تكيفه مع مختلف الأوضاع والتجمعات.
أما التحررية فتفترض انطلاق الفرد عندما يخرج من دائرة العام إلى الموقع الخاص. في موقعه العام يتقيد الفرد بسلوكيات أو قواعد يضعها هذا الموقع؛ لأنه هو الذي اختار أن يكون ضمن الموقع ولم يجبر على ذلك، أما في الموقع الخاص فهو الذي يقرر بماذا يتقيد وبماذا لا يتقيد. القيم التي تحكمه في موقعه الخاص قيم ذاتية بحتة، يضعها هو لنفسه، وبالطريقة التي يراها مناسبة في نسج علاقاته الخاصة، وفي توجهه نحو اختيار الموقع العام. فإذا رأى أن الإباحية مثلاً هي القيمة العليا المحمودة فلا كوابح على ترتيب شؤونه الخاصة بهذا الاتجاه، ولا كوابح أمامه للعمل في مؤسسة أو الانتماء لجماعة تتخذ الإباحية قيمتها العليا. وإذا رأى أن الحياة لا تسمو إلا بمقيدات أخلاقية ذات بُعد عام فله أن يرتب أموره حسبها. ومثلما يتمكن الفرد من صياغة شؤونه بصورة ديناميكية دون الافتراض بثبات الأرضية الأخلاقية التي ينطلق منها، تستطيع المؤسسة أن تفعل ذلك أيضًا، إنما دون الإخلال بالقانون المعمول به والمصادق عليه ضمن أطر سياسية تقوم على الفردية التي تفترضها الديمقراطية.
يحدد القانون مسألة الحلال والحرام، أما ما يقع خارجه فهو من حرية الفرد.
على مستوى الجماعية، يسود في الأوساط الفلسفية تعبير العضوية كمصطلح يدلل على أن الجماعية ليست مجرد نسيج قانوني وسياسي، وإنما عبارة عن كل حي تتشابك فيه الحيوات والنشاطات ويشكل قاعدة التقدم وإطاره.
يفترض العضويون أن الدولة أو المجتمع عبارة عن كائن حي متكامل ولا يختلف جوهريًا عن أي كائن حي آخر. الدولة أو المجتمع عبارة عن كائن حي ومميز، وأن أجزاء هذا الكائن (الأفراد والمؤسسات) تعتمد على بعضها البعض اعتمادًا متبادلاً، وأن هذه الأجزاء لا قيمة لها ولا معنى بدون الكل، ولا يكون لها هدف إلا من خلال الكل. وعليه فإن كل جزء منها يعمل على القيام بوظيفته أو واجبه خير قيام، تمامًا كالجسد الإنساني الذي يتكون من أجزاء تعتمد على بعضها البعض في تحقيق المعنى والهدف والقيام بالوظيفة. وحتى يتم تحقيق دولة كهذه لا بد من منهاج تربوي ينشئ الفرد على ما ينسجم مع القانون الطبيعي العضوي.
منطلقات مختلفة للإسلام
يختلف الإسلام في افتراضه الأساسي عن النظم الفردية والجماعية بحيث إنه يجمع بين الفردية والجماعية، الأمر الذي يعتبر غريبًا على تاريخ الفلسفة السياسية. من ناحية الجماعية، واضح من القرآن الكريم أن الله خلقنا أزواجًا كحالة طبيعية ولم يخلق الناس فرادى. تقول الآية: "وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى" (النجم، 45)، لم يخلق الله سبحانه فردًا ذكرًا وفردًا أنثى، وإنما خلق الناس زوجين: زوج ذكر وزوج أنثى. وتنص آية أخرى: "ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون" (الذاريات، 49)؛ حتى أن خلق الزوجين كان من ذات النفس وذلك حسب الآية: "سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون" (يس، 36)، وآية أخرى تؤكد الخلق من نفس واحدة وجَعٌل (الخلق ليس ابتداء) الزوجية: "خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج..." (الزمر، 14).(54/280)
الزوج ليس فردًا وإنما مكمل لآخر، وبذلك يكون غير مهيأ لأن يبقى منفردًا، وليس بإمكانه أن يفعل ذلك حسب خلقه الذي هو طبيعته. من الممكن أن يعيش المرء وحيدًا تحت سقف معين لكن هذا لا يفقده أهليته الطبيعية، وإذا حاول أن يكون فردًا فإنه يحاول أن ينفي أهليته الطبيعية إلا إذا كان معبرًا عن وضع يصدف أن يكون فيه وليس عن حالة ذهنية أو نفسية.
لا يقف الأمر عند الأزواج، بل يتعداه إلى جعل الناس شعوبًا وقبائل. جعل الله (أي خلقهم بمعنى أضاف خلقًا على خلق) الناس شعوبًا وقبائل وذلك حسب الآية: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" (الحجرات، 13)، في هذه الآية ما يقطع بصورة باتة أن الإنسان لا يمكن أن يكون فردًا؛ لأنه بالخلق عبارة عن زوج، وبالجعل عبارة عن عضو في قبيلة أو شعب. وفي هذا ما يبين موقف الإسلام من أطروحات تكوين المجتمعات، والتي اعتمدت لدى أغلب الفلاسفة على مبدأ الحاجة أو الضرورة.
من المفروض أن ينتبه المؤلفون إلى دقة التعبير في القرآن الكريم، وأن يتجنبوا الخلط بين الألفاظ والمعاني.
وقد قرأت لعدد لا بأس به من المؤلفين ووجدت من بينهم من يقول بأن الإسلام جماعي، ومنهم من يقول بأن الإسلام فردي، وذلك حسب تفسيرات من الصعب الأخذ بها. تارة يرى المؤلف أن الإسلام فيه شبه من الاشتراكية؛ لأنه جماعي، وتارة أخرى يظهر مؤلف ليقول بأن الإسلام ديمقراطي؛ لأنه فردي.
الإسلام ليس جماعيًا فقط، والدليل على ذلك أن المسؤولية تقع على الشخص الواحد، سواء في الدنيا أو الآخرة ويتلقى ثوابًا وعقابًا عما قام به من أفعال. والآيات حول هذا الأمر كثيرة أذكر منها: "كل نفس بما كسبت رهينة" (المدثر، 38)، و"لا تزر وازرة وزر أخرى* وأن ليس للإنسان إلا ما سعى* وأن سعيه سوف يرى* ثم يجزاه الجزاء الأوفى" (النجم، 38ـ41). وما دام الحساب يقوم على أساس شخصي فإن الممارسة الشخصية في الحياة الدنيا تبقى حاسمة، وذلك لأن الحساب الشخصي يفترض أن الشخص مسؤول عن عمله. فإذا ذاب الشخص في جماعة أو أُجبر على ذلك فإنه يتحرر من مسؤوليته الذاتية، ويصبح أعضاء الجماعة أو الذين أجبروه على الذوبان هم موضوع الحساب. وبما أن الله يحاسب كل نفس على عملها باعتبارها مسؤولة عن كل ما تقوم به؛ فإنه لا يعقل أن يذيب الإسلام الإنسان الواحد في جماعة أو أن يجبره على ذلك. قال تعالى: "وكل إنسان ألزمناه طائرة في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا* اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا" (الإسراء، 13 - 14).
أي أن الإنسان فردي وجماعي في آن واحد، وفي هذا ينفرد الإسلام عن غيره من النظم العالمية. لكن هل من الممكن الجمع بين هذين النقيضين أو - إن شئت - الضدين؟ يجمع الإسلام بينهما على اعتبار أن العمل ضمن الجماعة عبارة عن فضيلة تعود بالنفع على الذات، إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة، ومن المحتمل في الدارين.
فالعمل للصالح العام مثل الإنفاق أو المساهمة العلمية أو الجهاد عبادة تعود على صاحبها بالثواب، وهو يحاسب على عدم القيام به. إنه واجب عليه لأن الله قد أوجبه عليه من حيث أنه عضو في جماعة، وهو حق للإنسان لأنه يرى نفسه من خلاله كعضو مشارك وفاعل ويجزى عليه الجزاء الأوفى. والعمل للصالح الفردي واجب وحق أيضًا لأن على المرء أن يعمل ويعتمد على نفسه، وله أيضًا أن يكون منتجًا حتى يكون لحياته معنى ومضمون، وهو أيضًا عمل من أعمال العبادة ويُثاب عليه. فعندما يقوم المرء بعمل لصالحه الذاتي تبقى عينه على الصالح العام فلا يلحق به ضررًا، بل يعززه، وعندما يقوم بعمل عام تبقى عينه على الصالح الخاص فلا يلحق به ضررًا، بل يعززه.
الفردي يكمل الجماعي فلا يطغى أحدهما على الآخر، وفي كل منهما خدمة للشخص بعينه وللمجتمع أو للأمة كل. يقع التكامل المتبادل هذا ضمن إطار عبادة هدفها تطبيق شريعة تعتمد نظامًا أخلاقيًا متكاملاً، سواء كان على مستوى العقيدة أو الحق والباطل أو الحلال والحرام. وهذا بالتحديد ما يميز المنطلق الأساسي الإسلامي عن المنطلق الديمقراطي أو الشيوعي أو الرأسمالي. إنه نظام يزاوج بين الشخص والجماعة، ولا يضعهما نقيضين، وإنما يعملان معًا، ليس ضمن تعايش، وإنما ضمن تكامل يحافظ على شخصية الإنسان؛ فلا يذيبه في الجماعة، ولا يغذي المصلحة الخاصة على العامة. إنه تكامل الأضداد الذي ينسجم تماما مع التكامل الكوني، سواء كان في إطار النواميس الجسمانية (البشرية) أو الإنسانية. إنه يحرص على الشخص ويحترم خصوصيته وطموحاته في التقدم والإنجاز، وعلى الجماعة فلا يطغى عليها الفرد ويسخرها لصالحه. إنه منطلق يميز الشخص عن الجماعة ولا يفصله عنها، أما المنطلق الديموقراطي فيميز الفرد ويفصله والمنطلق الشيوعي لا يميز الشخص ولا يفصله.
=====================
رؤية تأسيسية لحرية الاختيار(54/281)
بتكامل الفردي والجماعي يتكامل السلوكي والخلقي، التشريعي والكوني، الذاتي والموضوعي. وبما أن الإنسان جماعي بالخلق وبما أن التشريع يُلزم المرء بأن لا يفرِّط في هذا أو ذاك وأن يكون وسطًا بحيث لا يفقد التوازن بين الذاتي والموضوعي، فإن الإسلام يؤسس لسلوك لا يتناقض مع الخلق بل ينسجم معه. وهذا من الناحية الفلسفية في غاية الإحكام لأن الذي خلق الكون ضمن نواميس وقواعد محددة لا يمكن أن يشرع سلوكيًا بصورة متناقضة مع الطبائع التي فطر الله تعالى الكون عليها. علمًا أن الذات الإلهية ليست خاضعة لعقلانية أو منطقية، وتبقى المسألة ضمن قدرتنا النسبية على صياغة الأمور صياغة منطقية، واستيعابها عقليًا.
يقودنا هذا إلى إشكالية حرية الاختيار. يقول الغربيون: إن الديمقراطية وحدها هي التي تكفل حرية الاختيار وتدافع عنها. أما الإسلام حسب عدد من مؤلفيهم لا يكفل هذه الحرية، ويصر على تسيير الإنسان حسب قواعد جامدة تسلبه حريته وقدرته على الإبداع والمشاركة في أعمال المجتمع. ويعزز بعض الإسلاميين الذين يتعاملون مع الإسلام على أنه شيء من الماضي هذه النظرة ويقولون بأن الإسلام قد وضع حلولاً لكل المشاكل، وما يطرأ من أمور، وأن المسلم لا يحتاج إلى إبداع وإنما إلى معرفة التفاصيل الشرعية، وإذا كان له أن يُعمل عقله فإن له ذلك ولكن بحدود القواعد الشرعية وتفصيلها، وعدم الانطلاق نحو إبداعات أو اجتهادات قد تخطّئ الماضي. ويعزز بعض المجددين الإسلاميين هذه النظرة أيضًا بجنوحهم نحو تمجيد الديمقراطية، وذلك على اعتبار أن الإسلام لا يتناقض معها، ويجعلونها - بقصد أو بغير قصد - المرجعية التي يمكن قياس التعاليم والسلوكيات الإسلامية حسبها.
فارق جوهري وحاسم
حرية الاختيار في الإسلام خَلٌقية أما في الديمقراطية فتاريخية اجتماعية، والفرق بين الحريتين كبير جدًا ولا يمكن تجسيره. إنهما ذواتا منطلقين مختلفين تمامًا على الرغم من تشابه أو تطابق بعض انعكاساتهما العملية. حرية الاختيار في الإسلام خلقية لأن القدرة على التمييز خلقية، إنها مترتبة على قدرة فطر الله الإنسان عليها.
قال تعالى: "ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها" (الشمس، 7-10)، وقال: "وهديناه النجدين" (البلد، 8). فالإنسان عاقل، ويفكر، ويستطيع أن يقرر عن نفسه ولنفسه، وأن يميز الأشياء طيبها وخبيثها، خيرها وشرها. تأكيدًا على عقلانيته طلب منه الله سبحانه في القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا أن يتفكر ويتعقل بآيات الله ليدرك المعجزة الإلهية وليفقه وتتطور لديه الحكمة. فمثلاً خاطبه الله بالقول: "فلينظر الإنسان مم خلق". (الطارق، 5)، وخاطبه أيضًا: "فلينظر الإنسان إلى طعامه" (عبس، 24). إنه خطاب موجه إلى عاقل من أجل استخلاص العبر والحكم والارتقاء بالمعارف والعلوم من خلال اكتشاف أسرار الكون ونواميسه الإلهية. فلا يكتفي الخالق جل وعلا بالقول بخلق الإنسان من طين؛ بل عليه أن يبحث في هذه المسألة ليصل إلى نتائج، ولا يكفي أن ينظر إلى أصناف الطعام ويتعجب بل عليه أن ينظر في مكوناتها وأسرارها. إنه قادر على فعل ذلك لأنه خُلق وفيه القوة التي تؤهله للقيام بذلك. والإنسان يتذكر ما يعمل مما يعزز عقلانيته. قال تعالى:"يوم يتذكر الإنسان ما سعى" (النازعات، 35). وهو لا يتوقف عند التذكر، بل هو قادر على وزن أعماله وإصدار حكم حولها. إنه يعرف ما يقوم به من عمل ومدى جنوحه عن الطريق الحق، فتقول الآية: "بل الإنسان على نفسه بصيرة" (القيامة: 10). إنه قادر على محاكمة نفسه ومحاسبتها.
القدرة التمييزية خلقية وحرية الاختيار مترتبة عليها، وإلا انتفت حكمة التمييز وانتفت معها صلاحية بعض التشريعات الإسلامية، مثل حرية الاختيار بين الإيمان والكفر، وانتفت معها أيضًا مسؤولية الإنسان عما يقوم به من أفعال وأعمال.
الحرية الخلقية تعني أن الإنسان لم يختر أن يكون حرًا، وإنما قدّر الله له أن يكون حرًا. ولم يخترع فكرة الاختيار، وإنما ولد وهي جزء لا يتجزأ من تركيبته النفسية الذهنية. إنها قدر إلهي كما أن كل نواميس الكون قدر إلهي لا رادّ لها ولا يملك الإنسان طاقة أو قدرة على إلغائها أو تخفيفها أو تجنبها. إنها ناموس كوني ثابت لا يملك الإنسان إلا دراسته، ومحاولة اكتشاف أسراره وتبعاته، والعوامل التي تؤدي إلى رقي الإفادة منه، وصقل الطاقات الإنسانية نحو مزيد من الاكتشاف والابتكار والمعرفة. أما محاولة القفز عن هذا القَدَر أو الحقيقة الخلقية أو إلغائه لا تقود فقط إلى إلحاق أضرار بالإنسان والمجتمع؛ وإنما تشكل اعتداء على ما قدّر الله.(54/282)
ولقد تعزز خلق الله للحرية مع خلقه الإنسان نفسه بتشريعات واضحة، حيث تقول الآية الكريمة: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف، 29)، وتقول أخرى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى…" (البقرة، 256): بمعنى أن سلب حرية الاختيار من الناحية التشريعية عبارة عن اعتداء على حدود من شأنها تنظيم العلاقات بين الناس.
إذا تمت ترجمة الطبيعة الخَلقِية في حرية الاختيار إلى فكر سياسي نجد أن فهمنا لها يمنعنا من ممارسة كبت الحريات؛ لأن ذلك عبارة عن تعرض لمسألة خلقية لها علاقة بالإرادة الإلهية، وفي هذا عبث. إنه من السذاجة والغباء أن يقف امرؤ في وجه قدر إلهي أو إرادة إلهية؛ لأنه لن يقدر على أية مقاومة أو تغيير. وهو بذلك كمن يحاول طي الشمس لتظهر علينا من الغرب أو الجنوب. أما إذا حاول أحد القيام بذلك، وقد تمت المحاولات تاريخيًا في كل مكان، فإنه يصنع أجواء غير صحية تتميز بالكبت والقهر والظلم والشعور بالضعة والهوان والكراهية والتآمر وعدم الاستقرار... إلخ. والثابت تاريخيًا فشل محاولات حرمان الناس من حريتهم في الاختيار في الاستمرار، وأن هذه المحاولات العقيمة ولدَّت ردود فعل متعددة الأنواع، وانتهت إلى التغيير.
إسلاميًا، السبب واضح وهو أن الاعتداء على حرية الاختيار عبارة عن اعتداء على شيء طبيعي خلق به الإنسان؛ مما يولد تناقضًا ما بين الطبيعي والاجتماعي. وبما أن الطبيعي متأصل، فإن الإنسان، رضي أم لم يرض، سيثور حتمًا ضد ما يناقض طبيعته مهما طال الزمن. قد يطول عمر الممارسة الاجتماعية السلبية، والتي هي في هذه الحالة الاستبداد والطغيان، لكنها لن تعمر أبدًا، وتبقى تناقضاتها مع الحالة الموضوعية الخَلقِية مصدرًا للمشاكل والهموم والآلام. فمهما استعمل الحاكم أو المسؤول من قوة للموقوف في وجه ما فُطر الإنسان عليه فإن حكمه لن يدوم. أي أن عوامل الدفع باتجاه التمشي مع ما هو طبيعي فاعلة وقوية ولا تختفي أو تموت.
البعد المؤسسي لتنظيم الحرية في الإسلام
في هذا الإطار لدينا محور هام من محاور الاختلافات بين الإسلام والديمقراطية، تفسر الديمقراطية تطورها على أنه نتاج تفاعلات تاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية ديناميكية وحيوية ومتشابكة التشعبات، وأنها مرتبطة بتطور الفكر الإنساني الذي أدرك عبر العصور أن نظام المصالحة والتسامح أفضل بدرجات من أنظمة الأيديولوجيا والفرد الواحد وسيادة الرأي الواحد على الآراء الأخرى. وبناء على هذا التفسير الذي يأخذ الأبعاد التاريخية والوعي الإنساني كركائز أساسية في تفسير الظاهرة السياسية تبني الديمقراطية مؤسساتها وتضع دساتيرها وقوانينها وتعليماتها.
أما الإسلام، إذا أراد المتمسكون به النجاح، فلا بد أن يبنوا مؤسساتهم بطريقة مختلفة لأن منطلقاتهم الفلسفية مختلفة. فما يصلح من ضوابط وتعليمات لقاعدة تقوم على بُعد اجتماعي لا يصلح لقاعدة تقوم على أبعاد أخرى.
لكن الإسلام لم يتجاهل الوعي الإنساني؛ فزاوجه مع المسألة الخَلقِية، وذلك من خلال التشريع. لقد ترك التشريع للإنسان حرية الاختيار بين الإيمان والكفر، التوحيد والشرك، الهداية والغواية، وحمله مسؤولية هذا الاختيار. ووضع الإسلام تعليمات وضوابط ومحفزات ومثبطات تُعنى بمختلف أوضاع السلوك الإنساني، وشجّع الإنسان على توخي الحذر والتفكير بمختلف البينات والأحكام؛ ليكون قادرًا على تكوين رأي يحكم سلوكه الذي قد يقوده إلى فوز في الدنيا والآخرة أو فوز في الدنيا وخسران في الآخرة أو خسران في الدنيا والآخرة: أي أن الشارع الإسلامي عمل على تحفيز المسلم نحو مراكمة الوعي الذي يقود التوجهات ويبرر التصرفات. وهذا واضح مثلاً في سورة النبأ التي ورد فيها:"وبنينا فوقكم سبعًا شدادا، وجعلنا سراجًا وهاجًا، وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجا، لنخرج به حبًا ونباتا" (النبأ، 12-15)، وفي سور أخرى متعددة كالانفطار والتكوير وعبس وغيرها. وهناك آيات كثيرة تتحدث عن ميزات الإيمان ومساوئ الكفر والعصيان.
ضمانة حرية الاختيار في الإسلام
يزاوج الإسلام بين الخَلق والتشريع، بين الموضوعي الذي هو إرادة الله وبين الوعي الذي من المفروض أن يتراكم حتى يدرك الموضوعي، ويدعم الخلق والتشريع. أما الديمقراطية فلا تفعل ذلك وتتجاهل القضية الخلقية. والفرق هنا واضح في عمق الطرح، وهو أن الإسلام لا يُخضِع قضية حرية الاختيار لأحوال اجتماعية وظروف متغيرة، لكنه لا يترك الإنسان كالدابة يُساق دون علم ومعرفة، فيخاطبه عقليًا ليكون على وعي بكيفية ترتيب حياته على مختلف الصعد. فقد تتغير حدة الوعي وتتبدل مع الزمن وتبعًا للظروف. لكن حرية الاختيار تبقى قائمة حتى في ظل أقسى أوقات التخلف الإنساني. أما الديمقراطية فلا تضع معيار طبيعيًا لحرية الإنسان في الاختيار وتترك المسألة ضمن سياق تاريخي ـ اجتماعي معرّض للتبدُّل والتغيير. فأي النظامين يعطي هذه الحرية الضمان الأوفى؟ وأيهما تبعًا لذلك يمكن أن يتسع صدره لحريات أوسع؟.(54/283)
إن مزاوجة الإسلام للخَلق والتشريع من أجل ترسيخ الموضوعي والذاتي مزاوجة عقلانية. الله هو خالق هذا الكون وهو الذي أتقن خلق كل شيء تبعًا لنواميس دقيقة تكمل بعضها بعضًا بحيث أنها تشكل كلاً متكاملاً بنواحيه المادية والمعنوية. إنه كون لا تتناقض مكوناته، وإنما تنسجم مع بعضها البعض، فتشكل منظومة لا تنفصل أجزاؤها على الرغم من تميزها. الإنسان جزء من هذا الكون ولا بد أن النواميس التي تحكم وجوده الجسدي والمعنوي منسجمة مع مختلف النواميس الكونية ولا تتناقض معها. أي أن الإنسان في نشاطاته المختلفة المادية والذهنية والنفسية يبقى ضمن الإطار الكوني العام الذي أبدع الله صنعه. ولهذا لا يمكن أن يأتي التشريع مناقضًا للنواميس التي خلقها الله سبحانه، ولا بد أن يصب ضمن القاعدة الأمثل التي تضع الإنسان في عجلة الانسجام الكوني.
أصف هنا التشريع بالذاتي لأن تطبيقه منوط بالإنسان وليس لأنه يحتمل التبديل والتغيير. إنه ذاتي لأن اجتهاد الإنسان يُعمل عليه ولأن للإنسان أن يختار بين تطبيقه والتخلي عنه. من خلال التشريع. يقول الله سبحانه للإنسان بأن هذا هو التشريع الإلهي الذي ينسجم مع النواميس الكونية وله أن يطبقه إن شاء مع العلم بأن لاختياره عاقبة. فإن اتبع الإنسان التشريع يكون قد انسجم مع نفسه (التوافق مع الذات) ومع العالم خارج ذاته (التوافق مع الموضوع)؛ لأن التشريع يعكس التناغم الذي يجب أن يتوفر بين الطاقات الداخلية للإنسان ذاتها، وبينها وبين العالم خارجها، وبه يتحقق التلاؤم والانسجام الطبيعيين. أي أن الإنسان يتصرف طبيعيًا عند التزامه بالتشريع وهذه هي حريته، ويخرج عن الطبيعة التي فُطر عليها إذا خالف التشريع ويكون بذلك قد قيَّد نفسه ووقف ضد حريته.
الاجتهاد ومشكلة الذاتية والموضوعية
لكن تبقى هناك مشكلة وهي متعلقة بتفسير التشريع. التشريع مطلق نصا لأنه من الله سبحانه والإنسان نسبي، ولا يمكن للنسبي أن يدرك المطلق. وأرجو ألا يتسرع أحد ويقول بأن هذه جملة خاطئة ويرد بأن النسبي يدرك المطلق. من الناحية الفيزيائية ومن ناحية الإيمان لا يمكن أن يتم هذا. فعلى الصعيد الفيزيائي، نجد أن النسبي ينتمي إلى عالم مختلف الأبعاد عن المطلق، وعلى الصعيد الإيماني ينتقص هذا القول (القول بإمكانية إدراك النسبي للمطلق) من قدر صاحب الحكمة المطلقة والتعظيم والرحمانية وهو الله سبحانه. في أحسن الحالات، يصر النسبي على تطوير معارفه بحيث يقترب رويدًا رويدًا من إدراك المطلق، الإدراك الذي لن يكتمل ضمن البعد الإنساني إلا يوم الدين. ولهذا أكثر القرآن الكريم من أوامر التدبر والتفكر والنظر والتعقل، ولم يأمر الإنسان بالتوقف عن البحث والتنقيب لأن الحقيقة بكل تفاصيلها قد أصبحت جاهزة بين يديه، ومهما اتسعت معارف الإنسان ومداركه، ومهما تعددت وسائله يبقى أمامه الكثير الذي لا ينتهي. قال تعالى: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" (محمد، 24)، في إشارة واضحة إلى أن الذين يعزفون عن تدبر القرآن (أي دراسته والتمعن فيه) إنما هم كالأنعام لا يفقهون.
إن الإسلام ثنائي في بنيته. وهو يختلف في هذا عن كل الفلسفات التي أعرفها. فالإسلام يوحد بين الطبيعي والاجتماعي، بين المطلق والنسبي، بين الخلقي والتشريعي، بين الفردي والجماعي، بين الداخلي والخارجي، بين الموضوعي والذاتي. ولا يمكن لدين أن يكون دينًا بدون هذا الجمع المحكم؛ لأن الخالق لا يزرع متناقضات لا يمكنها أن تحوز الانسجام فيما بينها.
==============(54/284)
(54/285)
الشورى.. والسلطة التشريعية
د. بشار عواد معروف**
ربط المفكرون الإسلاميون فكرة الشورى بالديمقراطية، فمنهم من رفض الديمقراطية وجعل الشورى هي البديل، ومنهم من حاول -في سعيه للتجديد والمعاصرة- محاولة التقريب بينهما، ومنهم من دعا إلى الأخذ بالديمقراطية باعتبارها نظام حكم وآلية للمشاركة، وأن التغاير بين المشروع الحضاري الإسلامي والديمقراطية هو من باب التنوع والتمايز لا التضاد والخصومة.
يقول السيد فهمي هويدي: "لا يحسبن أحد أنه يمكن أن تقوم لنا قيامة بغير الإسلام، أو أن يستقيم لنا حال بغير الديمقراطية، إذ بغير الإسلام تزهق روح الأمة، وبغير الديمقراطية -التي نرى فيها مقابلا للشورى السياسية- يحبط عملها. بسبب ذلك نعتبر أن الجمع بين الاثنين هو من قبيل (المعلوم بالضرورة) من أمور الدنيا".
اقتباس:
مفهوم "الشورى" الذي عرفه الإسلام بنصوصه أو تطبيقاته، هو غير مفهوم "الشورى" السائد بين الأوساط السياسية الإسلامية.
ويقول الدكتور حيدر إبراهيم علي معلقا على رأي السيد فهمي بقوله: "يمثل هويدي هنا قمة التوفيقية أو الانتقائية الحائرة، فقد كان بإمكانه التوقف عند الشورى فقط طالما هي مقابل الديمقراطية، ومن صميم الدين، ولكنه يُفصل الديمقراطية على مقاس الشورى على رغم اختلاف السياقين التاريخيين للمفهومين، ويحاول أن يختزل الديمقراطية إلى مفهوم ديني بحيث يقول: الديمقراطية التي نقبلها ونعتبرها مقابلا للشورى، أو ترجمة معاصرة لها، هي تلك التي لا تحل حراما ولا تحرم حلالا، فهذه لغة دينية تطمس السياسي في مفهوم الديمقراطية، فهي لم تأت لتحديد أحكام شرعية أو فقهية، بل لتنظيم العلاقة بين الحكام والمحكومين وتأكيد الحريات وحقوق الإنسان بحسب رؤيتها وتاريخيتها".
ويلاحظ أن السيد فهمي هويدي استخدم الديمقراطية مقابل الشورى، وكأن الشورى نظام حكم واضح المعالم في الإسلام نظريا وتاريخيا. كما أن الدكتور حيدر عد الشورى أمرا دينيا فنعى على السيد فهمي استعماله.
وواضح أن مفهوم "الشورى" الذي عرفه الإسلام بنصوصه أو تطبيقاته غير مفهوم "الشورى" السائد بين الأوساط السياسية الإسلامية، فقد لاحظنا في عصرنا هذا مفهوما مختلفا لهذا المصطلح، فقد أريد له أن يعني ما يتصل بشئون الحكم والمشاركة والعلاقة بين الحاكمين والمحكومين، فوجدنا بعض أنظمة الحكم العربية تستعمل "مجلس الشورى"، بمعنى "مجلس النواب" أو "مجلس الشيوخ"، ووجدنا دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية يعتمد الشورى فيعتبر: مجلس الشورى الإسلامي، ومجلس شورى المحافظة، والقضاء، وأمثالها، من مراكز صنع القرار وإدارة شئون الدولة.
ومع إيماننا بأنه لا مُشاحة في الاصطلاح، لكن يتعين علينا التنبيه إلى أن هذا المفهوم للشورى يخالف المفهوم النظري الذي جاءت به النصوص الإسلامية، وهو غير التطبيق التاريخي العملي لمبدأ الشورى.
"الشورى".. في القرآن
جاء لفظ الشورى في آيتين من القرآن الكريم، الأولى في سورة آل عمران (الآية 159) في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.
يقول الطبري في تفسير هذه الآية: "إن الله عز وجل أمر نبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه، تألفا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه معها فتنة الشيطان، وتعريفا منه أمته مأتى الأمور التي تحزبهم من بعده ومطلبها، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا في ما بينهم، كما كانوا يرونه في حيات صلى الله عليه وسلم يفعله.
فأما صلى الله عليه وسلم فإن الله كان يُعرفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صواب ذلك. وأما أمته، فإنهم إذا تشاوروا مُستنين بفعله في ذلك، على تصادق وتوخ للحق وإرادة جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هدى، فالله مُسددهم وموفقهم.
وأما قوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللهِ} فإنه يعني: فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك، وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما شاوروا به عليك أو خالفها".
وأما الآية الثانية ففي سورة الشورى (الآية 38)، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يقول الطبري: "وإذا حزبهم أمرٌ تشاوروا بينهم".
وذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره أن صلى الله عليه وسلم كان يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث؛ تطييبا لقلوبهم، ليكونوا فيما يفعلونه أنشط لهم، كما شاورهم يوم بدر، ويوم أُحد، ويوم الخندق، فكان r يشاورهم في الحروب ونحوها".(54/286)
ويلاحظ من تفسير الطبري للآية الأولى أن صلى الله عليه وسلم إنما كان يشاور تطييبا لقلوب أصحابه -مع عدم إلزامية هذه الشورى له والمضي فيما أُمر به وإن خالف ما أشار به أصحابه- وتعليما لمن يأتي بعده بضرورة المشاورة.
ومن هنا يتعين الفصل بين الشورى في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم ، وممارسات الشورى لمن جاء بعده، فالاستشهاد بالتطبيقات العملية للشورى في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم فيه الكثير من عدم الدقة، ذلك أن شخصية الرسو صلى الله عليه وسلم شخصية رسالية يصعب التمييز دائما بين تصرفاته الرسالية المتأتية من الوحي، والاجتهادات الشخصية الدنيوية، فعقد صلح الحديبية -مثلا- كان وحيا من الله مع أنه من الأمور الدنيوية، والتوكل الذي أشارت إليه الآية في سورة آل عمران، سواء أجاء موافقا أم مخالفا لأهل الشورى، هو أمر من الله، ويمكن الاستشهاد بالعديد من الأمثلة المشابهة.
أما الخلفاء الذين جاءوا بعد صلى الله عليه وسلم فكانوا يستشيرون الصحابة، ولكن الآراء لم تكن ملزمة لهم باتباع ما أشير به، والأمثلة على ذلك كثيرة، وهو الموافق لمبدأ الشورى نظريا وعمليا، فكل إنسان قديما وحديثا يستشير، ولكنه غير ملزم باتباع ما أشير إليه دائما، وإلا فلا معنى للفظ "الشورى".
اقتباس:
التطبيقات العملية التي مارسها الخلفاء أو الأمراء أو الحكام عبر العصور كانت ملائمة لعصورهم، وليست أموراً دينيّة.
إننا نعتقد أن الإسلام وضع قاعدة كلية اسمها "الشورى" حين أمر بالمشاورة، فالمشاورة بين المسلمين مأمور بها، لكن الإسلام لم يضع التفاصيل، كما هو حاله في كثير من الأمور، لتكون ملائمة لكل زمان ومكان، وليمكن تطوير مؤسساتها بحسب الحاجة. فالمجتمع الإسلامي يستطيع اليوم أن يضع القوانين والنظم والتعليمات الخاصة بالشورى بحسب ما يراه ملائما لعصره دفعا للاستبداد بالرأي، من غير اعتبار للتطبيقات العملية التي مارسها الخلفاء أو الأمراء أو الحكام عبر العصور؛ لأنها كانت ملائمة لعصورهم، وليست أمورا دينية.
إن مفهوم "المستشار" هو الإنسان المتخصص الذي يستعان برأيه في مسألة من المسائل في الشئون العسكرية أو الأمنية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية ونحوها في كل منحى من مناحي الحياة، ففي جميع الدول اليوم مستشارون، سواء أكانوا على شكل هيئات ومؤسسات أم أفرادا يستعين بهم صاحب القرار عند اتخاذ قراره، ولا شك في أن آراءهم غير ملزمة له؛ لأن صاحب القرار يطلع على مجمل الآراء ويتخذ قراره، وهذه هي الشورى، فلا داعي بعد ذلك إلى الأبحاث التي تحاول أن تدرس إلزامية الشورى أو عدم إلزاميتها.
وأرى أن أهل الشورى هم أهل الذكر {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} (الأنبياء: 7)، ومع أن الآية المذكورة جاءت في معرض سؤال علماء أهل القرآن أو أهل الكتب من التوراة والإنجيل، لكنها عامة في ضرورة سؤال أهل الاختصاص والمعرفة.
ولما كانت الشورى بطبيعتها غير إلزامية، فإن ربطها بما يساوي البرلمانات في عصرنا فيه تقليل من شأن هذه المؤسسات الضرورية في أي نظام حكم، وحرف لها عن مهماتها في مراقبة السلطة التنفيذية، فالمفروض في مثل هذه المؤسسات أن تكون قراراتها ملزمة، كما أن ربط "الشورى" بالمجالس التي تقترح القوانين وتصادق عليها فيه تقليل من شأن هذه المجالس، فإن الذين يقترحون القوانين والتعليمات هم الفقهاء العلماء المجتهدون العارفون باستنباط الأحكام من الشريعة الإسلامية بعد الاستعانة بالمستشارين، فيبقى المستشار هو المستشار، سواء استشاره رئيس الدولة أو الوزير أو ممثل الشعب أو العالم أو أي هيئة أو شخص يمكن أن يستفيد منه.
مفهوم الحاكمية
ومثلما اختلف الباحثون الإسلاميون في مفهوم نظام الحكم في الإسلام، فإنهم اختلفوا كذلك في مفهوم الحاكمية، فلم يقتصر بعض الكتاب الإسلاميين على أن الله هو المشرع، سواء أكان ذلك عن طريق القرآن الكريم أم السنة المشرفة، ولكنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك حين فسروا شعار الخوارج المشهور "لا حكم إلا لله" بأنه ينطبق على الحُكم والسلطة في اتساعها، مستدلين بقوله تعالى: { وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة: 44) أو {هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45) أو {هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة: 47)، وقد وصف أبو الأعلى المودودي الدولة الإسلامية بأنها "دولة شاملة محيطة بالحياة الإنسانية بأسرها، تطبع كل فرع من فروع الحياة الإنسانية بطابع نظريتها الخلقية الخاصة، وبرنامجها الإصلاحي الخاص، فليس لأحد أن يقوم بوجهها، ويستثني أمرا من أمورها قائلا: إن هذا أمر شخصي خاص لكيلا تتعرض له الدولة".(54/287)
لقد حاول الفكر الإسلامي الحديث أن يطور مفهوم الحاكمية بأن يجعل السيادة لله أو للشريعة، وأن يجعل السلطان للشعب أو الأمة، كما هو حال حركة الإخوان وحزب التحرير وغيرهما، وهو ما عبر عنه أحد الكتاب الإسلاميين بقوله في معرض التمييز بين الدولة الدينية والدولة الإسلامية بقوله: "الفارق الأساسي بين الدولة الدينية والدولة الإسلامية هو أن الأولى تقوم على فكرة أن الله هو مصدر السلطة، بينما في الثانية -الإسلامية- فإن الله هو مصدر القانون، بينما الأمة هي مصدر السلطة. ومن ثم فلا حصانة ولا عصمة لحاكم، وإنما القانون فوق الجميع والحاكم في المقدمة منهم".
الشريعة والسلطة التشريعية
وإذا أخذنا بالفكرة الأخيرة ووجدنا الأدلة التي تقوي فكرة كون الأمة هي مصدر السلطة، فلا شك في أن المقصود بالسلطة هنا هو "السلطة التنفيذية": ولم يتمكن الباحثون الإسلاميون من دراسة مفهوم "السلطة التشريعية" ذات المصدر الإلهي دراسة علمية معمقة، فسلم أكثرهم بأن الله هو المشرع، سواء أكان ذلك عن طريق القرآن أم السنة، وأن الفقهاء مجرد مفسرين، وهو أمر يحتاج إلى إعادة نظر، فنحن نعتقد أن الإسلام وضع قواعد كلية ومبادئ عامة ومقاصد لهذه الشريعة تضمنها القرآن الكريم والثابت من السنة النبوية، وهي ما يمكن أن يصطلح عليه "بالبينات"، وأنه قلما تناول القضايا التفصيلية إلا في حالات خاصة في الحدود والإرث ونحوهما، وترك الأمور الأخرى يجتهد فيها الفقهاء، ويضعون القوانين والتعليمات المحققة لمقاصد هذه الشريعة بما يتلاءم ومصالح الناس.
اقتباس:
توسيع دائرة الاجتهاد ووضع الأسس الكفيلة بأن يكون ممثلاً لعلماء الأمة هو المفهوم الأمثل لما يسمّى في عصرنا "بالسلطة التشريعية".
ومما يؤسف عليه أن بعض الإسلاميين ظنوا -غلطا- أن "الشريعة" هي ما كتبه الفقهاء في الأحكام، وما ارتآه المنظرون الإسلاميون في العصور الإسلامية في أساليب الحكم والإدارة (مثل أبي يوسف والماوردي، وأبي يعلى الفراء، وابن تيمية، وابن خلدون، وغيرهم)، مع أن الفقه بمجمله فكر وليس شريعة، وأن تلك النظريات هي أفكار وليست شريعة واجبة الاتباع، فالفقهاء علماء مجتهدون حاولوا فهم الشريعة وتفسيرها استنادا إلى فهمهم واجتهادهم في زمن معين؛ ولذلك فهم مختلفون فيما بينهم قليلا أو كثيرا، وهو بمجمله رحمة لأنه يوسع دائرة الفهم والتفسير، ويقدم حلولا متنوعة للمسألة الواحدة. ومن ثم فإن تقليص الدور الذي يمارسه أهل العلم في تقنين القوانين والتعليمات المستمدة من روح الشريعة (القواعد والمقاصد) ليس في صالح النظام الإسلامي؛ لأن الذي ذكرت يقدم مرونة في فهم المقصود "بالسلطة التشريعية" عند المُحدثين، وهو يدحض الرأي القائل بأن الفقهاء المجتهدين مجرد مفسرين.
إن توسيع دائرة الاجتهاد، ووضع الأسس الكفيلة بأن يكون هذا الاجتهاد ممثلا لعلماء الأمة الذين توافرت لديهم أدوات الاجتهاد بعد استشارة أهل الذكر، هو المفهوم الأمثل لما يسمى في عصرنا "بالسلطة التشريعية"، مع اختلافنا في المصطلحات؛ لأن المُشرع في الأصل هو الله سبحانه، ونحن نقر بأن الشريعة إلهية بقواعدها ومقاصدها، وأن تفاصيلها تبنى على تلك القواعد وتحقق المقاصد فيما لم يأت به نص صريح؛ فسلطة البناء إنما تقوم على هذه الشريعة الإلهية، وتفصل لها، وتقنن لأصولها وتُفرع لكلياتها. وكذلك فإن لهذا الإنسان سلطة الاجتهاد فيما لم ينزل به شرع سماوي، شريطة أن تظل السلطة التشريعية محكومة بإطار الحلال والحرام الشرعي، أي محكومة بإطار فلسفة الإسلام في التشريع.
إن تحديد المفاهيم في غاية الأهمية لتطبيق الأمر على واقع الحال. وهذا النموذج المقدم لثلاثة من المفاهيم يمكن تطبيقه على الكثير منها؛ بغية توضيح دلالاتها والغاية المرجوة منها.
http://www.islamonline.net/A r abic/contempo r a r y/2005/02/a r ticle04.shtml
===============(54/288)
(54/289)
حوار في الديمقراطية
مجلة البيان - (ج 58 / ص 31)
جمال سلطان
نشر الأستاذ فهمي هويدي في منبره الأسبوعي بجريدة الأهرام المصرية فتوى مثيرة للشيخ القرضاوي حول مسألة (الديمقراطية) ، أراد منها الشيخ القرضاوي - وفقه الله وإيانا - أن يكشف للإسلاميين عن حقيقة الموقف الإسلامي الشرعي من (الديمقراطية) أو كما يعبر الأستاذ فهمي هويدي بقوله : (إن الشيخ القرضاوي أراد أن يحسم في فتوى مفصلة تلك العلاقة المتوترة بين بعض الإسلاميين والديمقراطية ، وأن يؤصل من منطق شرعي موقف الإسلام من مختلف القيم التي تقوم عليها الديمقراطية).
القضية على جانب كبير من الأهمية ، وعندما يدلي فيها بدلوه فقيه في موقع يوسف القرضاوي ، فإن الأمر يزداد خطورة وأهمية ، وإذا أضفت إلى ذلك المنبر أن الذي نشرت من خلاله الفتوى يظفر بقراءة ما لا يقل عن مليون ناطق بالعربية ؛ فإن الخطر - ولا شك - يتعاظم ، ويفرض نفسه على كل صاحب قلم وحامل فكر.
والفتوى - في صورتها التي نشرت بها - غير ذات موضوع أصلاً ، وشبه معدومة القيمة ، وحسبك أن تكون أمام كلام لا تستطيع أن تقول عنه إنه صواب ، ولا تستطيع أن تقول إنه خطأ ، وانما ثمة التباس غريب ، وحقائق موضوعية وتاريخية غابت عن الشيخ أدت إلى خلل في حديثه، يستدعي مني وقفة غير قصيرة أناقش فيها (حيثيات) الفتوى، مطمئناً إلى سعة صدر صاحبها ، لما نعلمه عنه من حرصه على استبانة الحق حيثما كان ، وهمه المخلص -إن شاء الله- بالقضايا الكبرى التي تشغل الشباب المسلم في هذا العصر
سؤال الفتوى -كما أثبته الأستاذ فهمي- هو: هل الديمقراطية كفر حقاً؟
فافتتح الشيخ حديثه بالقول: (إن جوهر الديمقراطية أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم ، وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه، أو نظام يكرهونه ، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله إذا انحرف، وألا يساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ، ولا يرضون عنها. هذا هو جوهر الديمقراطية).
ثم يضيف الشيخ معقباً: (الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام) وهذا المدخل هو الخطأ الأول والجوهري ، الذي ترتب عليه خطأ الفتوى برمتها.
لقد قرر الشيخ أن جوهر الديمقراطية هو أن يختار الناس من يحكمهم .. الخ ، وهذا هو ناتج أساسي من نواتج الديمقراطية ، أو مظهر بارز من مظاهرها ، وإنما الديمقراطية هي - في جوهرها - رفض (الثيوقراطية) أي سلطة الدين والحكم باسم الله في الأرض ، والميلاد التاريخي للديمقراطية كان نتيجة صراع الدولة ضد الكنيسة ، الحكم المدني ضد الحكم الديني ، الحكم باسم الشعب والبشر ضد الحكم باسم الله والدين ، وبوجه آخر نقول : إن الديمقراطية هي وجه العملة الآخر للعلمانية ، وكان من مترتبات ذلك أن ترفع وصاية أي بشر مهما كان جبروته وسلطانه ، عن كاهل الشعب ، لأننا إذا رفعنا وصاية الدين والإله ، من أجل الشعب ، فكل وصاية دونها على الشعوب تكون مرفوضة بطريقة الحتم والمنطق ، ومن هنا تولدت الوسائل والنظم التي تحكم إرادة الشعوب لمجتمعاتها بحيث. تحول دون ظهور القهر والتسلط والاستبداد أو بأي وجه يكون ، وذلك بعد أن حققت (الدولة المدنية) بمفكريها ورجالاتها النصر النهائي على الكنيسة ورجال الدين، وانتزعت السيادة منهم على النحو الذي يعرفه ببساطة أي دارس للتاريخ الأوربي الحديث.
وكان من مترتبات هذا النصر النهائي للحركة الديمقراطية ، أن نزعت صفة القداسة عن أي وضع وأية قضية وأي معنى ، ما لم يقرر الشعب أنه مقدس ، والحرام هو ما غلب رأي الناس أنه حرام ، والحلال هو ما غلب رأي الناس أنه حلال ، بغض النظر عن أي مرجعية أخرى ، دينية أو غيرها ، لأنه إذا قررت أن ثمة مرجعية تشريعية هي فوق البشر أو قبل رأي الشعب ، فأنت بذلك قد نقضت أصل الديمقراطية ، لأنك إذا قلت مثلاً: إن هذا الأمر لا يجوز للناس العمل به بنص القرآن ، فأنت بذلك جعلت الحكم لله ، وليس للشعب ، وطالما سحب الحكم والتشريع من الشعب ، فقد انتهت القصة (الديمقراطية).
هذه هي قصة الديمقراطية - باختصار - وهذا هو جوهرها ، الذي يعلمه علم اليقين الأستاذ فهمي هويدي وتياره الفكري ، فهل يا ترى نستطيع أن نقول مع الشيخ : (إن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام؟!) ، أو أن نقول معه أيضاً: (إن الإسلام قد سبق الديمقراطية بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهرها ، ولكنه ترك التفصيلات لاجتهاد المسلمين وفق أصول دينهم ، ومصالح دنياهم ، وتطور حياتهم) الواضح تماماً من فتوى الشيخ ، أنه تصور الديمقراطية على صورة معينة يأملها ويتمناها ثم أصدر فتواه مفصلة على هذا (الخيال) الذي داعب أمانيه ، لا على الحقيقة التاريخية والموضوعية التي صاغت مصطلح (الديمقراطية) في الفكر الإنساني الحديث.(54/290)
ولعله من أبين ما يدلك على ذلك ، قول الشيخ في فتواه : (وقول القائل إن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب ، ويلزم منها رفض المبدأ القائل إن الحاكمية لله ، قول غير مسلم فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية لا يخطر هكذا ببالهم ، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه هو رفض الديكتاتورية المتسلطة ، رفض حكم المستبدين بأمر الشعوب ، من سلاطين الجور والجبروت) أ. هـ.
وأنا - في الحقيقة - لم أستوعب قول الشيخ إن (الذين ينادون بالديمقراطية لا يخطر هذا ببالهم ، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه هو...) هل أجرى الشيخ إحصاءاً أنتج له هذه الحقيقة؟ وإذا قال مخالفه : (إن أكثر الذين ينادون بالديمقراطية هذا ما يدور ببالهم) ما الذي يرجح قول أحدهم على صاحبه؟
إن الفتوى الشرعية تحتاج إلى ضبط في الكلام بصورة أكثر دقة وإحكاماً من مثل هذه العبارات العاطفية الفضفاضة ، وإني لأعذر الشيخ في حماسته هذه في الدفاع عن قيم العدل والحرية وحفظ حقوق الإنسان وكرامته ، فمثله ومثلي ، يعرف كم هي قاسية سياط الجلادين ، وكم هي موحشة سجون المستبدين ، بيد أن حديث العدالة والحرية وحقوق الإنسان شيء ، وضبط مصطلح فكري سياسي لإجراء حكم شرعي عليه شيء آخر ، كما أن الواقع يبقى دائماً ما كان لا ما ينبغي في تقديري أن يكون ، ولنتأمل قول الشيخ : (والمسلم الذي يدعو إلى الديمقراطية إنما يدعو إليها باعتبارها شكلاً للحكم ، يجسد مبادئ الإسلام السياسي في اختيار الحاكم ، وإقرار الشورى والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومقاومة الجور ، ورفض المعصية ، وخصوصاً إذا وصلت إلى كفر بواح ، فيه من الله برهان) أ.هـ.
وأنا هنا أوافق الشيخ تماماً على ما حدده من منهج للحكم الإسلامي ، ولكن ما الذي يدعوك - يا سيدي - لكي تضع خاتم الديمقراطية على هذا الحديث وذاك المنهج؟! ما هي بالضبط القداسة التي يحملها مصطلح غربي التكوين والنشأة والتاريخ والصراع والدلالة ، لكي تستميت في الدفاع عنه وتحسين صورته أمام المسلمين ، بالقدر الذي يذكرنا بالهوس الذي طاف بعقول بعض المسلمين في الخمسينات والستينات حول مصطلح (الاشتراكية) حتى جعلوها والإسلام وجهين لعملة واحدة! وها هي التجربة تعود مرة أخرى مع مصطلح (الديمقراطية).
إن الديمقراطية ليست ما تفصله أنت على مقاسك ، أو يفصله غيرك ، الديمقراطية منهج كامل لصياغة البناء الاجتماعي ، إما أن تقبله وإما أن ترفضه وتبحث لك عن منهج آخر يولد لك مصطلحات أخرى تناسب عقيدتك ودينك وتاريخك وإنسانك.
وإذا جاز أن نقبل المصطلح مع إجراء بعض التعديل عليه ليناسب بيئتنا ، فما قولك في مصطلح (الثيوقراطية) ، وهو (الحكم الإلهي) فقط سنستبعد منه احتكار رجال الدين للحكم باسم وصاية السماء على ما عرفه التاريخ الكنسي الأوربي ويبقى لنا أنها تعني جعل حكم الله هو المهيمن على البشر والمحدد لشريعة المجتمع ، هل نستطيع أن نقول حينئذ أن جوهر الديمقراطية (حكم الله) هو الإسلام؟!
إنه بالقدر الذي تقول به : إن الديمقراطية من الإسلام ، يصح القول إن الثيوقراطية من الإسلام!! أما نحن فنقول : إن الديمقراطية والثيوقراطية كلاهما مصطلح أوربي النشأة والتكوين والتاريخ والدلالة ، ولا يعنينا أمرها كمسلمين لأن الإسلام لم يعرف حكم طبقة رجال الدين كما لم يعرف يوماً (صكوك الغفران) كما لم يعرف الصراع بين الدولة المدنية والكنيسة أو بين الدين والدولة إجمالاً لأن الإسلام كدين وتاريخ وحضارة يختلف عن المسيحية كدين وتاريخ وحضارة ، مما يعزز لنا -بالبديهية المحضة- اختلاف المصطلحات الفكرية والسياسية والمنهجية بين كلا المنظومتين.
القضية هنا ، أن بعض المسلمين يتخيل أن حقوق الإنسان والعدالة والحرية وحق تداول السلطة ومنع التجبر في الأرض هي أمور حكر على التنظيم الديمقراطي للمجتمع، بحيث لا يمكن لهم تصور هذه المبادئ تتحقق تحت أي مظلة أخرى مصطلحية في الإسلام، وهذا خلل خطير ، إن هذه الحقوق والمبادئ الإنسانية مجرد ناتج لميلاد العلمانية/الديمقراطية في المجتمع الأوربي ، ولكنها أيضاً يمكن إنتاجها وحمايتها وفرضها في المجتمعات الأخرى عن غير طريق العلمانية/الديمقراطية.
ولكن الهيمنة الفكرية الغربية على تيارات الفكر والسياسة في المجتمع المعاصر ، والجبروت الذي تمارسه المركزية الأوربية على عقول ونفوس أبناء العالم الثالث - ومنهم كثير من المسلمين - لم تدع فرصة للعقل غير الأوربي أن يفكر بأصالة ، أو يتخيل نتاجاً فكرياً ومنهجياً لا يجذب إلى (القطب الأوربي) ومنهاجه ومصطلحاته ، فكانت معظم الجهود (العالمثالثيه) في مجال الأفكار والمناهج والمصطلحات - ومنه هذه الفتوى - مجرد تذييلات وهوامش على المتن الأوربي ، بيد أننا في الحالة الإسلامية يأبى الضمير الإسلامي إلا أن يسجل تحفظاته الخجلى على الديمقراطية ، ويتجاهل أن هذه التحفظات تعني في الواقع الموضوعي رفض الديمقراطية ولكننا نصر على الاحتفاظ بالمصطلح والدفاع عنه رغم أننا - موضوعياً - أبطلناه.(54/291)
إن حزب الفراشة الإيطالي - حزب المومسات - فرض نفسه على الساحة الحزبية ، ودخلت بعض أعضائه إلى البرلمان الإيطالي لكي يكون (صوت المومس) كافياً لتشريع أي قانون جديد في المجتمع إذا تساوت الأصوات ، الذي لا يريد أن يعترف به الشيخ القرضاوي أن حزب الفراشة يمارس حق الديمقراطية ، وأنك إذا رفضت وجوده أو رفضت دخوله البرلمان ، أو رفضت الاعتداد بأصوات أعضائه ، فأنت غير ديمقراطي ، وهذا فعل ضد الديمقراطية ، هذه حقيقة موضوعية لا حيلة لك فيها ، ولا مهرب لك من الإقرار بها.
صحيح أنك ترفض ذلك وأنا كذلك أرفضه ، ولكن معنى ذلك أننا نرفض الديمقراطية كإطار منهجي للحكم في بلاد الإسلام ، ويبقى أن نبحث أنا وأنت عن مصطلح جديد ومنهج جديد ، يربط بين الدين والدنيا ، الشريعة والمجتمع ، العدالة والأخلاق ، الحرية والقيم ، حق الله وحق العباد ، وهي كلها جوانب لا صلة للديمقراطية بها ابتداءاً ، ولا يؤرقك يا سيدي أن يرفض الغرب الاعتراف بمصطلحك الجديد ومنهجك الجديد ، فهو يرفض دينك من حيث الأصل(1) ، كما أن المنطق الذاتي للديمقراطية التي تحكم حياته يلزمه بقبول وضعية التعددية ، هذا إذا أحسنا الظن بالتزامهم أي مبدأ لا سيما العلاقات الدولية.
في فتوى الشيخ يوسف القرضاوي عن الديمقراطية ، هناك خلل آخر في محاولته تحليل مشروعية بعض الجوانب الإجرائية في الممارسة الديمقراطية ، حيث حمل على فهم بعض الإسلاميين لها ، وأنا أترك نص الحديث له ثم يكون تعقيبنا:
يقول الشيخ : ومن الأدلة عند هذا الفريق من الإسلاميين على أن الديمقراطية مبدأ مستورد ، ولا صلة له بالإسلام ، أنها تقوم على تحكيم الأكثرية ، واعتبارها صاحب الحق في تنصيب الحكام ، وفي تسيير الأمور ، وفي ترجيح أحد الأمور المختلف فيها ، فالتصويت في الديمقراطية هو الحكم والمرجع فأي رأي ظفر بالأغلبية المطلقة أو المقيدة في بعض الأحيان فهو الرأي النافذ وربما كان خطأ أو باطلاً.
هذا مع أن الإسلام لا يعتد بهذه الوسيلة ولا يرجح الرأي على غيره لموافقة الأكثرية عليه ، بل ينظر إليه في ذاته أهو صواب أم خطأ ، فإن كان صواباً نفذ ، وإن لم يكن معه إلا صوت واحد، أو لم يكن معه أحد، وإن كان خطأ رفض، وإن كان معه(99) من الـ(100)!!
بل إن نصوص القرآن تدل على أن الأكثرية دائماً في صف الباطل وفي جانب الطاغوت كما في مثل قوله تعالى: ((وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)) [الأنعام:116] ، ((ومَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ )) [يوسف:103]، وتكرر في القرآن مثل هذه الفواصل القرآنية ((ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) [الأعراف:187] .
ثم يضيف الشيخ معقباً على ذلك بقوله : وهذا الكلام مردود على قائله وهو قائم على الغلط والمغالطة. فالمفروض أن نتحدث عن الديمقراطية في مجتمع مسلم أكثره ممن يعلمون ويعقلون ويؤمنون ويشكرون ولسنا نتحدث عن مجتمع الجاحدين أو الضالين عن سبيل الله.
ثم إن هناك أموراً لا تدخل في مجال التصويت ولا تعرض لأخذ الصوت عليها ، لأنها من الثوابت لا تقبل التغيير إلا إذا تغير المجتمع ذاته ولم يعد مسلماً.
فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع وأساسيات الدين وما علم منه بالضرورة إنما يكون التصويت في الأمور الاجتهادية التي تحتمل أكثر من رأي ، ومن شأن الناس أن يختلفوا فيها ، إذا اختلفت الآراء في هذه القضايا فهل تترك معلقة أو تحسم؟ هل يكون ترجيح بلا مرجح؟ أم لابد من مرجح؟
إن منطق العقل والشرع والواقع يقول لا بد من مرجح ، والمرجح في حالة الاختلاف هو الكثرة العددية فإن رأي الاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الواحد وفي الحديث : «إن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد» ، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر وعمر: «لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما» أ. ط..
وهذا الكلام يحتاج إلى بعض التفصيل لما فيه من أوهام ومغيبات وبداية أنا أتعجب من كون الشيخ وضع رأي مخالفيه الذين يرى بطلان قولهم وصدره بأنهم يرون أن الديمقراطية مبدأ مستورد ، ولا صلة له بالإسلام ، فهل يرى الشيخ القرضاوي - يا ترى - أن الديمقراطية مبدأ غير مستورد ، وأنه مبدأ أصيل نشأ وتولد وترعرع في حنايا التاريخ الإسلامي وتحولاته الحضارية والمنهجية والدينية والسياسية ؟! فمتى إذا حدث ذلك؟ وفي أي زمن منذ بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي؟! ومتى استوردت أوربا الديمقراطية من المسلمين؟! وما ملابسات ذلك الحدث التاريخي الفذ والمثير الذي خفي على العالمين هذه القرون الطويلة؟(54/292)
أظن إنه ما كان يليق بالشيخ أن يصدر حديثاً بتلك العبارة وذلك أنه أو أي مسلم آخر لا يستطيع الادعاء بأن الديمقراطية مبدأ غير مستورد من المنظومة الأوربية ، وإنما الخلاف هو في موقف الإسلام منها ، هذه واحدة ، أما قول الشيخ في رده (المفروض أن نتحدث عن الديمقراطية في مجتمع الجاحدين أو الضالين عن سبيل الله) ، فهذا فساد موضوعي ظاهر ، فالديمقراطية لا تعني بهوية الإنسان وإيمانه وكفره ، نوعية القيم التي يحملها ، فالكل سواء ، عالم الدين والبغي والمسلم والنصراني ، أما إذا قلت بأن حق الممارسة الديمقراطية في المجتمع المسلم موقوف على المسلم المتدين ولا يدخل فيه غير المتدين ، أو الشاذ جنسياً أو النصراني أو اليهودي أو الملحد ، فأنت بذلك تتحدث عن نظام آخر ، ومنهج آخر ، سمه ما شئت ، إلا أنه - على وجه القطع - ليس الديمقراطية ، وكذلك قول الشيخ (ثم إن هناك أموراً لا تدخل مجال التصويت ولا تعرض لأخذ الأصوات عليها لأنها من الثوابت التي لا تقبل التغيير ، إلا إذا تغير المجتمع ذاته ولم يعد مسلماً.
والمفارقة التي يستغربها الشيخ هنا أن المجتمع إذا تغير ولم يعد مسلماً أمكن له أن يكون ديمقراطياً ، أما إذا ظل مجتمعاً مسلماً فقطعاً لن يكون ديمقراطياً ، لأنه يملك منظومة أخرى من الثوابت والعقائد والقيم التي يستحيل إخضاعها لرأي البشر.
وهنا نعود إلى أصل الخلل في تصور الشيخ لماهية الديمقراطية وجوهرها ، ففي الديمقراطية الشعب هو المرجع ، وهو الحاكم ، وهو المشرع ، وهو الثابت الوحيد ، فإذا قلت : إن هناك أموراً لا تخضع للتصويت أو لا تدخل في مجال التصويت ، فأنت بذلك غير ديمقراطي قطعاً ، وإذا قلت : إن هناك ثوابت فكرية أو دينية أو خلقية أو اقتصادية أو سياسية لا تقبل التغيير فأنت بذلك غير ديمقراطي ، وكذلك قول الشيخ (فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع) قول غير ديمقراطي ، لأن تقريرك أن هناك شرعاً يحكم فوق إرادة البشر فهذا طعن في صلب الديمقراطية وجوهرها.
هل اتضحت الصورة الآن أمام الشيخ وهويدي وتياره؟ إنني أوافقهم تماماً على كل الضوابط والحدود والأطر التي وضعوها لسياسة المجتمع المسلم ، ولكن الخلل الأساسي أنهم يأبون - ولا أدري لماذا - إلا أن يضعوا شعار الديمقراطية على منهج الله ونظام الإسلام السياسي ، هل يظنون أنهم يجملون الإسلام ومنهجه بوضعهم هذه اللافتة المستوردة عليه؟ إن الإسلام - يا أصحابي - أجمل وأعلى وأطهر وأعدل من الديمقراطية ومن كل تصور بشري وضع لسياسة المجتمع ، لا أقول ذلك مجرد انتصار للدين ، أو حماسة إيمانية مجردة وإنما هي قناعة راسخة من تجوال البحث والنظر والتأمل في تحولات التاريخ الإنساني القديم والحديث ومآلات الأوضاع في العالم الإنساني المعاصر.
يا إخواني : إنكم بذلك تثيرون الارتباك والحيرة والتشتت الذهني في عقول وضمائر شباب الصحوة الإسلامية ، الذي تأمل من الأمة تحقيق نهضتها المرتجاة. لماذا لا تبحثون عن فكرة أصيلة بناءة ، تصوغون بها مشروعاً إسلامياً أصيلاً للنهضة لتنظيم الفعل الاجتماعي الإسلام الجديد؟ هل أصبحت وظيفة الفقيه المسلم أو المفكر الآن أن ينتظر البضاعة الغربية فكرية أو مادية لكي يضع عليها الشعار التقليدي : (مذبوح على الطريقة الإسلامية)؟.
يا إخواني : ألم يعرف الإسلام نظاماً ومجتمعاً وحضارة ونظريات سياسية وأنماط إدارية قبل ظهور الديمقراطية؟ ألم يعرف الإسلام ومجتمعه عدلاً ورحمة وحرية واستنارة وتحضراً وشورى وتعددية فكرية ومذهبية وغير ذلك قبل ظهور الديمقراطية؟!
إذا كان الإسلام يعرف ذلك فحدثونا عنه ، وأعيدوا صياغته ، وطوروا آلياته ومؤسساته ، ودققوا في تنظيماته ووسائل تحقيقه ، وولدوا ما تحتاجون إليه من مصطلحات أصيلة وشعارات مسلمة تعبر عن خصوصية منهج الإسلام في الحكم بدلاً من هذا التسول الفكري والمذهب الاصطلاحي المزري والمهين عند أعتاب الفكر الأوربي الحديث.
فضيلة الشيخ يوسف ، الديمقراطية والعلمانية وجهان لعملة أوربية واحدة ، ومن قال لك غير ذلك فقد كذبك ، وكلاهما مرفوض إسلامياً ، ولكن ليس معنى رفضهما أننا - بالحتم - نرفض بعض النتاجات التي تولدت عنها والتي تتشابه مع بعض القيم الإسلامية، فحق الأمة في اختيار الحاكم وحق عزله إذا انحرف أو محاسبته إذا أخطأ ، وحرية الرأي وحق الاختلاف ، وحفظ كرامة الإنسان وآدميته ، وحق تداول السلطة ، واحترام حقوق الأقليات ونحو ذلك كل هذه أركان أصيلة في منهج الإسلام في الحكم بنص كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنها أركان تقوم على أسس تصورية وعقيدية، وتحكمها ضوابط وأطر منهجية ، تختلف تماماً عن الأسس والضوابط التي تمثلها (الديمقراطية) كمنهجية لسياسة المجتمع البشري.
يا فضيلة الشيخ، ليس هذا دورك، ولا تلك قضيتك ، وإنما هذه تهويمات أدعياء الاستنارة والمترفين فكرياً ، والذين لا يحملون هموم الأمة ونهضتها ولا يعرفون قدر دينهم ومعنى أنهم يحملون رسالة الإسلام للعالمين.(54/293)
يا فضيلة الشيخ، لقد سارت فتواك في الناس،واطلع عليها الجمع الغفير من مثقفي الأمة، إني أسألك بحق العهد والميثاق الذي تحملونه (لتبينه للناس ولا تكتمونه) أن تعيد النظر وتجيله فيما أثبته في هذا الحوار ، لعل الله يهدينا لأقرب من هذا رشداً ، والحمد لله أولاً وآخراً ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
1- بل يرفض الديمقراطية نفسها إذا أحس أن المسلمين سينتفعون منها ، كما هو حاصل في أكثر من مكان في العالم الإسلامي.
- التحرير -
==============(54/294)
(54/295)
الإسلاميون وسراب الديمقراطية (عرض)
مجلة البيان - (ج 67 / ص 91)
مكتبة البيان
الإسلاميون وسراب الديموقراطية
تأليف : عبد الغني الرحال
عرض : أبو أنس
يعتبر الكتاب بحق إضافة هامة للمكتبة الإسلامية في حقل شديد الحساسية وهو شرعية دخول الإسلاميين للبرلمانات ، والموضوع وإن طرقه الكثيرون سابقاً وكتبوا فيه ، لكن كل ما كتب - فيما أعلم - إما أن يكون تبريرات عاجلة في وريقات قليلة او اتهامات شديدة على عجل وقد نشر بعض منها في مجلات إسلامية في أوقات متفرقة.
وبالتالي فإن هذا الكتاب يعتبر الأول من نوعه في هذا المضمار حيث إنه دراسة أصولية شرعية مستفيضة لمشاركة الإسلاميين في المجالس النيابية.
الكاتب يقرر ابتداء عتدم الموافقة على دخول الإسلاميين البرلمان ثم هو ينقد الإسلاميين المجلسيين كما يسميهم في إجازتهم لأنفسهم الدخول فيه من دون دراسة لحكم الدخول في تلك المجالس دراسة شرعية متعمقة.
ويقوم الباحث بجمع كافة المبررات والمسوغات التي يحتج بها هؤلاء الإسلاميون وبالأخص قضية المصلحة ثم يفندها بنداً بنداً مؤصلاً لمبدأ مهم وهو أن المشاركة في هذه البرلمانات هو تأصيل لواقعها المخالف لدين الله دستورياً وقانونياً.
والكاتب بذل جهداً مضنياً ومستفيضاً في دراسته التي استغرقت - كما يقول - سنين طويلة.
وتبدأ الدراسة بمقدمة ضافية تمثل دراسة نقدية موجزة للواقع المعاصر وموقف الجماعات الإسلامية منه ، وهي مقدمة رائعة - حبذا لو نشرت مستقلة - ثم يتبعها ثلاثة أبواب بفصولها ومباحثها المتعددة وهي كالتالي :
الباب الأول : الديمقراطية ، وفيه فصول :
- النظام الديمقراطي.
- مصلحة الأنظمة الحاكمة من النظام الديمقراطي.
- مصلحة الإسلاميين المجلسيين من النظام الديمقراطي.
الباب الثاني : المجالس النيابية ومقاصد الشرع ، وفيه مباحث ؛
* الاندراج في مقاصد الشرع ، وفيه فصول :
- مصلحة تحكيم الشريعة.
- مصلحة الإصلاح.
- مصلحة عدم تمكين أعداء الله من الانفراد بالسلطة.
- مصلحة نشر الدعوة.
- مصلحة الدفاع عن حقوق المسلمين في العالم.
* عدم المعارضة للكتاب والسنة ، وفيه فصول :
- حق التشريع.
- تضييع حدود الولاء والبراء..
- تثبيت أركان الأنظمة المتبرقعة بالديمقراطية.
- تضييع المنهاج النبوي في طريقة تغيير الواقع الشركي إلى واقع إيماني.
- التلبيس على المسلمين في عقيدتهم من خلال إضفاء ثوب إسلامي على أنظمة غير إسلامية.
- الرضا بواقع الأنظمة الديمقراطية.
* عدم المعارضة للقياس ، وفيه فصلان :
- القياس..
- وقفات مع استدلالهم بالقياس.
* عدم تفويتها مصلحة أهم منها أو مساوية لها ، وفيه فصول:
- إجمالي المصالح التي تضيع بمشاركة الإسلاميين في المجالس النيابية.
- ميزان النظر في المصالح.
الباب الثالث : مصالح متوهمة أمام أبوب مغلقة ، وفيه فصول :
- عدم اندراجها في المصالح المرسلة.
- عدم اندراجها في باب سد الذرائع.
- عدم اندراجها في باب الضرورة.
يختم الكاتب بحثه بخلاصة موجزة لأهم النتائج التي حصل عليها ويقول إن النتيجة النهائية التي يُخرج بها من هذه الدراسة أن الإسلاميين المجلسيين اختطوا بمشاركتهم في المجالس النيابية منهجاً في التغيير مخالفاً لمنهج الأنبياء في ذلك ، متجردين عن الدليل الشرعي ، مما أدى إلى إضاعة الجهود الكثيرة في غير ما طائل ، فضلاً عن صرف الأنظار عن المنهاج النبوي في مواجهة الملأ وتغيير الواقع الشركي إلى واقع إيماني ثم يقول : «وبصوت عال أدعو الإسلاميين المشاركين في المجالس النيابية أن ينسحبوا منها ويوظفوا جهودهم لصالح خدمة الإسلام وفق منهاج الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن يبينوا للناس حقيقة تلك المجالس بعد أن عرفوها من الداخل وعرفوا أساليبها في الوقوف في وجه أي مشاريع إسلامية جادة».
وأخيراً فالكتاب جدير بالقراءة ، مع التركيز والتمعن فالكتاب عميق في طرحه دقيق في معالجته.
الهوامش :
* الكتاب صدر حديثاً (1413) عن مؤسسة المؤتمن للنشر والتوزيع - السعودية في (536) صفحة من القطع الكبير ، ويمثل الجزء الأول ، ويليه مستقبلاً الجزء الثاني عن التجربة المصرية والسورية..
==============(54/296)
(54/297)
رؤية اسلامية لاشكاليات مفهوم الديمقراطية
مجلة البيان - (ج 90 / ص 34)
هموم ثقافية
رؤية إسلامية لـ: إشكاليات مفهوم الديمقراطية
بقلم: سامي محمد صالح الدلال
الديمقراطية كلمة أجنبية، جرى عليها قلم التعريب؛ فهي في لغة قومها Democ r acy ومعناها: السيادة للشعب، وتطبيقها العملي يعني: أن يحكم الشعب نفسه بنفسه عن طريق ممثلين له في مجلس ينتخبه يطلق عليه: (مجلس الشعب) أو (مجلس الأمة) أو (المجلس النيابي) أو غير ذلك من الأسماء المعبرة عنه.
ولا أريد أن أتكلم هنا عن الغور التاريخي الذي تبلورت من خلاله الديمقراطية المعاصرة، كما إنني لا أريد أن أفصّل في أنواع الديمقراطية، سواء أكانت سياسية أو غير سياسية، ولكن أريد أن أشير إلى أهم المعاني التي ينطوي عليها مفهوم الديمقراطية، وذلك من خلال الإشكاليات التي تغلف أزمة تبعثر ذلك المفهوم في أوساط الداعين إليها.
وسيكون حديثي من خلال الإشارة إلى ست إشكاليات، تتضمن كل منها عناصر متعددة:
الإشكالية الأولى:
مبادئ الديمقراطية: طالما أن المحصلة النهائية للإيقاع الديمقراطي هي حكم الشعب بالشعب، فإن متطلبات ذلك تدفع إلى السطح بأربعة عناصر رئيسة تؤلف فيما بينها النغم الأخير.
- العنصر الأول (الحرية):
إن الحرية في المجتمع الديمقراطي تتعدى كثيراً ذلك التقييد الذي ذكره الدكتور علي الدين هلال في بحثه المعنون (مقدمة الديمقراطية وهم الإنسان العربي المعاصر) عندما حصرها بقوله: الحرية، أي: احترام الحريات المدنية والسياسية للمواطنين؛ الحريات المدنية مثل: الحريات الشخصية، وحرية الانتقال، والزواج.. والحريات السياسية مثل: حرية التعبير والرأي والحق في الاجتماع والتنظيم..(1).
إن جميع ما ذكره منطو في مفهوم الحرية في المجتمعات الديمقراطية، لكن المفهوم الشامل ـ عند أصحابها ـ أعمّ من ذلك؛ فهي حرية مطلقة، لا يقيدها دين سماوي، بل تسورها قوانين أرضية غير متفق على نصوصها، فهي أسوار متحركة، لها مسارات متعرجة بحسب البلاد والمجتمعات.
وعندما تكون الحرية مبتوتة التحديد عن دين الله الذي هو الإسلام، فإن تقييد إطلاقها سيكون خاضعاً لعقول البشر وأهوائهم، ومن هنا: ستختلف معاني الحرية بحسب ذلك، وبناء عليه: فإن مفهوم الحرية في النظام الاشتراكي مغاير لمفهومها في النظام الرأسمالي، وفي داخل المنظومة الاشتراكية: فإن مفهومها في الصين ـ مثلاً ـ قد تراه مغايراً لمفهومها في كوبا، ومثل ذلك يقال في إطار النظام الرأسمالي، فإن مفهوم الحرية في فرنسا مثلاً قد تراه مغايراً لمفهومها لدى ألمانيا، ويعود سبب اختلاف المفاهيم إلى تراكم ظروف حياتية وموضوعية أدت في النهاية إلى صياغة قوانين متغايرة، سواء في إطار المنظومات العقدية (كالاشتراكية والرأسمالية)، أو في إطار مكوناتها (أي: الدول التي تنتظمها).
وبسبب ذلك: فإن ممارسة الحرية في تلك الدول أو المجتمعات لن تكون بالقدر نفسه.
إلا أن القاسم المشترك بينها جميعاً هو انبتاتها عن التقييد الرباني، فالحرية الجنسية والحرية الاقتصادية والحرية السياسية والحرية الثقافية والحرية الاجتماعية والحرية الفكرية والعقدية: جميع تلك الحريات وغيرها هي حريات يطلق للشعب أسلوب التعبير عنها، كل بطريقته وذلك من خلال الأطر التي يضعها ممثلوه المنتخبون.
إن مهمة المجلس النيابي في الظاهر هي إيجاد الأوضاع التشريعية التي من خلالها تُمارس الحرية المنوه عنها بما يكفل المصلحة لأفراد الشعب، وبما أن مفهوم الحرية ليس محدداً وموحّداً لدى أولئك الممثلين للشعب، فإن الصيغة النهائية ستكون محصلة تغلّب أصوات أصحاب مفهوم معين على أصوات أصحاب مفهوم آخر، وحتى تلك الصيغة النهائية لن تكون سوى حلول وسط لدى أصحاب المفهومين، وكل ذلك ليس بالضرورة أن يكون معبراً عن وجهة نظر الشعب.
ولما كان الأمر يغذ السير في هذا الاتجاه؛ فإن مفهوم الحرية لن يبقى ثابتاً، سواء لدى الأفراد، أو المجتمعات، ومع تطور أو تغير مفهوم الحرية تتطور أو تتغير المفاهيم الديمقراطية، ومثال ذلك: ما ذكره الدكتور إسماعيل صبري عبد الله في بحثه المعنون (المقومات الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية في الوطن العربي)، إذ قال عن تطور مفهوم الديمقراطية الغربية: كانت أولى خطواته: هي حق تكوين النقابات، ثم الأحزاب، وظل هذا الحق مرفوضاً في فرنسا بالذات إلى ما قبل مائة عام. الخطوة الثانية كانت: حق الاقتراع العام، وهذا المبدأ لم يسر بصفة عامة إلا في نهاية القرن الماضي وأوائل القرن الحالي. الخطوة الثالثة في ذلك كانت: الاعتراف بالحقوق السياسية للمرأة، وهذا حدث قريباً جداً؛ في فرنسا لم تنل المرأة الحقوق السياسية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، سويسرا ما زالت لا تعطي للمرأة الحقوق السياسية حتى الآن. الخطوة الرابعة كانت: الاعتراف بحق الأحزاب وبحق العمال في التأمينات الاجتماعية، وبالذات التأمين ضد البطالة(2).(54/298)
وكما أن الحرية الفردية المبتوتة عن الإطار الإسلامي غير متفق على تحديد أبعادها لدى الديمقراطيين، مما أعطاها صفة الإطلاق عند النظر إليها من حيث العموم، فإن الحرية بمعناها الأشمل تتوفر لها هذه الخصائص نفسها(3) في المساحة الجماعية التي تمثل الحرية الفئوية.
ففئة العمال لهم فهم للحرية ليس بالضرورة أن يتطابق مع فهم فئة الموظفين لها، ومثل ذلك يمكن أن يقال عن فئة الفلاحين، وعن فئة المثقفين، وعن فئة السياسيين.. وهكذا.
ومن هنا: تتبنى كل فئة إطاراً يُعبّر عن فهمها للحرية تتحرك من خلاله، فانبثقت من مضامين هذا التصور مسميات منوعة هي عناوين معروفة لتلك الفئات، مثل: النقابات، والأحزاب، والهيئات، واللجان... وسواها، تتوسّم كل فئة أن تمارس فهمها للحرية تحت شعار عنوانها.
ونظراً لأن هذه الحرية لها صفة الإطلاق: فإن كل فئة تنزع إلى توسيع دائرة حركتها في تلافيف تلك الصفة المطلقة لمفهوم الحرية بما يجعلها تتجاوز مساحاتها إلى مساحات الفئات الأخرى، فيقع الصدام الذي تنشأ عنه طاقات شعورية وعاطفية لها منحى الدفع باتجاه التوسع على حساب الآخرين مما يسبب ضحايا بشرية ومادية، والتي مهما عظمت فإنها تبقى دون الآثار السلبية المترتبة على الشقاق والافتراق، مما يؤدي إلى بعثرة الأمة وإضعافها باسم ممارسة الحرية!!.
ومن هنا: فإن عنصر الحرية الذي هو المبدأ الأول في الديمقراطية، عندما ننظر إليه من خارج المنظور الإسلامي نراه متردّياً في إشكاليتين رئيستين:
إشكالية تحديد مفهومه في مجالاته الفردية.
إشكالية تحديد مفهومه في مجالاته الجماعية.
إن مجرد وجود هاتين الإشكاليتين كاف لجعل الريح تهوي بالديمقراطية إلى مكان سحيق!!.
- العنصر الثاني (المساواة):
ولها وجهان (إفرازي) و(تنفيذي)، ولكل وجه ما يناسبه من المناقشة والتحليل.
الوجه الإفرازي: وهو الوجه الذي من خلاله يُفرَز النواب الناجحون في الانتخابات فيدلفون المجلس، وبموجب المساواة: فإن جميع الناخبين ـ بغض النظر عن مستوياتهم الثقافية وخبراتهم الحياتية ـ لهم وضع متساوٍ في الإدلاء بأصواتهم لصالح مرشحيهم، ولكل فرد صوت واحد فقط، إما لصالح مرشح واحد أو لصالح قائمة من المرشحين. وفي هذه الحالة يتساوى صاحب شهادة الدكتوراة العلمية مع العامي الجاهل الذي لا يعرف كيف يتوضأ، في إدلاء كل منهما بصوته لصالح مرشح أو قائمة مرشحين!! ويتساوى العالم الفاضل التقي مربي الأجيال ـ في الإدلاء بصوته ـ مع بنت الهوى التي تعرض مفاتنها في الملاهي الحمراء، ويتساوى الإداري صاحب العقل المنظم وواضع برامج التعليم أو التنمية في الإدلاء بصوته مع جامع القمامة الأمي، ويتساوى مدير المدرسة أو رئيس الجامعة في الإدلاء بصوته مع الطالب الناشيء الذي يدرّسه. وعندما تفرز الأصوات ربما يفوز مرشح بسبب صوت أدلى به الأمي على مرشح آخر جلّ أصوات ناخبيه من المثقفين.
ففي هذه الإشكالية أطاحت مساواة الأصوات بأهمية ثقل الكفاءات.
ثم نُيمّم وجوهنا شطر ناحية أخرى، وهي انعدام المساواة في قدرات المرشحين في دعاياتهم الانتخابية، فربّ صافق في الأسواق لا يكاد يخط اسمه يفوز بعضوية المجلس على حساب مربّ عريق بسبب تفاوت القدرات المالية، وأحياناً ربما بسبب الانتماءات الحزبية أو التعصبات القبلية، فهذه إشكالية أخرى إزاء دعوى المساواة!!.
الوجه التنفيذي: وهو الوجه الذي يكتسب من خلاله النواب واجهات اجتماعية ومواقع نفوذية بحكم موقعهم، لا بحكم القانون، ففي الواجهة الاجتماعية قد يلقى النائب الأمي من الترحاب في المجالس والدوائر الحكومية والمؤسسة الشعبية ما لا يلقاه العالم الجليل المجتهد أو صاحب رسالة الدكتوراة المتفوق صاحب الأبحاث والدراسات، لا لشيء سوى لأن الأول نائب في مجلس الشعب والآخر ليس كذلك، بل الأنكى من ذلك: اندفاع الناس لتنفيذ أوامر ذلك النائب الأمي، وأحياناً لا تكون أوامر بل إشارات، بمقابل عدم اكتراث أولئك الناس بحضور العالم مجلسهم، فضلاً عن أن يصدروا عن أمره!!.
وأما من ناحية النفوذ: فإن أتباع النائب وأنصاره يحظون بالمكاسب المادية الناشئة من توليهم الإدارات ومراكز متقدمة سواء في الحكومة أو الشركات، أو الناشئة من استلالهم لأحقية تنفيذ المناقصات ذات الأرقام الفلكية، أو من تمكنهم من اصطناع أفكار وهمية يجسدونها بمؤسسات اقتصادية يجعلونها غطاءً لابتزازاتهم المالية... وهكذا.
إن جميع ذلك مقتصر على حضرات النواب أو من كان في حكمهم كالوزراء، دون غيرهم ولو كانوا علماء فضلاء أو عاملين نجباء.
إن الديمقراطية تقف عاجزة إزاء حل إشكالية لعنصر من أهم عناصرها، وهو عنصر المساواة.
- العنصر الثالث (التمثيل النيابي):(54/299)
على أعتاب التمثيل النيابي تتصارع الأهواء، تارة لابسة لبوس الحق أو ملتبسة به، وتارة متدرعة بالأفكار الزائفة والآراء الباطلة، التي يخيل لمستمعيها من سحر بهرجة إعلام الداعين إليها، أنها نور يتلألأ يضيء الظُلمة، أو ماء رقراق يروي غليل العطشان!! إلا أنّ انبلاج الأمر يسفر عن زيف هذا وذاك معاً!!. وهذا لا يقحمنا في إشكالية واحدة، بل يزجّ بنا في حقل إشكاليات، هذه بعض مظاهرها وأنواعها:
1- ممارسة الحق الإلهي: إن نواب المجلس النيابي يمارسون التشريع على وجه الاستقلال عن أي قيد يحدّ من ذلك، وهم يفعلون هذا ضمن صلاحياتهم الممنوحة لهم من الدستور، والتي بموجبها يُحِلّون ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون، مما ليس فيه حق للبشر، إذ إن التحليل والتحريم حق خاص لله (تعالى)، ففعلهم ذاك هو ممارسة لحق إلهي ينقض عقيدة لا إله إلا الله، ويحل محلها عقيدة: لا إله إلا المجلس النيابي!!
2- الأقلية والأغلبية: وينظر إليها من زاويتين: (عامة) و(خاصة).
فأما العامة: فإن نواب المجلس ـ عند التحقيق ـ لا يمثلون أغلبية الأمة بل يمثلون أقليتها؛ فالمجلس لا يصل إلى عضويته إلا من كان غنيّاً، بنفسه أو بقومه، ولو كان جاهلاً أو سفيهاً، أو كان وجيهاً بنسبه أو بصدارته قبيلته أو عشيرته أو طبقته أو فئته، ولو كان صاحب هوى أو فكر منحرف، أما المتوسطون من الشعب وهم الأغلبية الحقيقية فلا ممثل لهم.
وأما الخاصة: فإن تشريعات المجلس تصدر بالأغلبية النيابية، وعند إعمال النظر النزيه يتضح جليّاً أن النجاح سيكون حليف القضية المعروضة إذا كانت مكرسة لمصالح الأغلبية المجلسية، ومشتتة أو ملغية لمصالح المعارضين.
3- الاستمرار والحل: قرار استمرار عمل المجلس النيابي أو حَلّه يقبض على مفتاحه رئيس البلاد، الذي هو في الواقع رأس هرم مراكز القوى فيها، إن لعبة شد الحبل بين المجلس والحكومة (وهي التي تمثل مراكز القوى إما بأشخاصها أو برئيسها) تتم غالباً من جانب واحد. وعندما يشد المجلس الحبل في اتجاهه فيصوبه إلى الخط الأحمر يصدر فوراً قرار الحل.
وتعاد اللعبة من جديد!! وفي الدول الإسلامية ذات النظام الديمقراطي فإن الخط الأحمر غالباً ما يتمثل باختلال توازن تشكيلة المجلس بما يمكّن من تمرير المطالبة بتحكيم الشريعة الإسلامية!، إن هذه الإشكالية واحدة من الصخور الصلداء التي تتهشم على نتوءاتها جهود الإسلاميين النيابيين التي يهدرون زمناً طويلاً في حشدها بغية تحقيق الحلم المتمثل في الوصول إلى تحكيم شرع الله من خلال المجلس النيابي!، ومن المؤسف أن نقرر أن الإشكالية البارزة هنا هي: أن أولئك الإسلاميين لم يدركوا بعد أنهم يحرثون في الهواء ويزرعون بذور الوهم، فهل سيحصدون سوى الخواء!!
4- الجزئية الكلية: إن مسحاً شاملاً لمكونات شعب من الشعوب سيظهر فيه عدداً من الأديان والطوائف والقبائل والمهن والطبقات والأجناس وغيرها، وكل واحدة من هذه المكونات تتألف من شعب وبطون وأفخاذ واختصاصات وأعراق، منها كلها أو من بعضها، وإن المجلس النيابي مهما كان الإعداد له دقيقاً فإنه يقصر عن إيجاد الصيغة العادلة للتمثيل الكلي لتلك المكونات، ولذلك: فإن حقيقة ذلك المجلس لا تتجاوز تمثيل أجزاء من تلك المكونات من استيفاء دعوى الكلية، مما يحمل في طياتها معنى البهتان، ويُلحق بها وزر الافتئات.
5- قصور التخصصات: ما إن ينعقد المجلس النيابي حتى يشرع في تكوين لجانه المختلفة، ولكل لجنة تخصص محدد، ويخضع تعيين أعضاء كل لجنة في الغالب إلى مزايدات الأحزاب والفئات التي يتشكل منها المجلس، وقد يحدث أحياناً أن يكون جميع أعضاء اللجنة ليس بينهم نائب واحد يحمل التخصص الموكول لتلك اللجنة تمثيله!! مما يؤدي إلى استعانة اللجنة برجال متخصصين من خارجها!!.
6- انخفاض المستويات: بما أن المجلس النيابي يضطلع بمسؤوليتي الرقابة والتشريع، فإنه بحاجة إلى مستويات ثقافية ذات ارتقاء تخصصي وخبرة تنفيذية تمكنه من أداء دوره، إلا أن الانتخابات النيابية بأساليبها الالتفافية تدفع إلى كراسي المجلس بتشكيلة عجيبة، بينهم من لا يعرف كيف يكتب اسمه ومن لا يحسن سوى بيع بعض الخضروات، فما هو دور هؤلاء البسطاء في الرقابة والتشريع؟!، وإذا ادعى بعض الإسلاميين أنهم سينجحون في تمرير التشريعات الإسلامية من خلال: المجلس فكيف يكون هذا ومعظم ـ إن لم يكن كل ـ تخصصات النواب لا علاقة لها بالشريعة ولا يعلمون شيئاً عن أصول التشريع الإسلامي؟!.
7- العام والخاص: رغم أن عضوية المجلس النيابي تكليف لأداء العمل العام، فإن كثيراً من أعضائه يبتزونه لصالح النفع الخاص، إما لهم أو لأقاربهم أو لقبائلهم أو لمعارفهم، ويتم ذلك كله في إطار القانون والحصانة البرلمانية، وبالتالي: يتحول أداء كثير من النواب من الخدمة المؤسسية إلى المصلحة الشخصية.(54/300)
8- ضياع مصالح الأمة: ما إن يسند أعضاء المجلس النيابي المنتخب ظهورهم إلى كراسيهم المجلسية الوثيرة، حتى يبدأ تشكيل الدوائر الشللية، سواء حزبية أو قبلية أو مصلحية، وكثيراً ما يرتفع صراخ المهاترات ويتراشق الجميع بالاتهامات، وتحتدم المعارك الصوتية وتعلو النبرات وتنتفخ الأوداج، وكأن قاعة المجلس ساحة حرب، (صبّحكم مسّاكم) فإذا حمي الوطيس رأيت كراسي تطير في الهواء وقبضات تتوجه نحو الوجوه، وأخذاً بالتلابيب ورشقاً بالأحذية (كرمكم الله) مما يستدعي تدخل الآخرين لفك الاشتباك بعد أن استبد بالجميع الإنهاك!! فكيف لا تضيع مصالح الأمة في خضم أمواج تلك الخزعبلات؟، وقد شاء الله أن أرى واحدة من تلك المسرحيات، أقصد الجلسات، منقولة على الهواء مباشرة عبر قنوات التلفزيون في إحدى البلاد الإسلامية.
9- التسرّب والتسريب: تعتبر المجالس النيابية فرصة لا تعوض يستغلها أعداء الأمة لتسريب عملائهم بشكل قانوني، ومن خلال انتخابات معترف بها ـ محليّاً ودوليّاً ـ إلى تلك المجالس، ومن خلال أولئك النواب المسرّبون تتسرب جميع أسرار الدولة إلى أعدائها دون أن يتجرأ أحد على اختراق الحصانة البرلمانية لإيقاف تلك المهزلة!! بل يستطيع أولئك المسرّبون أن يؤثروا على قرارات الدولة لصالح أسيادهم!!.
10- استغلال المنبر المجلسي: يتخذ أصحاب الأديان والطوائف من المجلس النيابي منبراً يدعون من على أعواده لأديانهم وطوائفهم ويستعملونه ستاراً لتمرير ودعم أتباعهم وأنصارهم، وكل حزب بما لديهم فرحون، وهكذا تتمكن مؤسسات تلك الأديان والطوائف من الاستفادة من مؤسسات الدولة والقطاع الخاص بما تلاقيه من تغطية نيابية محصنة.
11- الهاجس!!: إن تحليلاً دقيقاً لتصرفات معظم نواب المجالس النيابية سيشير بما لا يدع مجالاً للشك أن هؤلاء النواب يباشرون أعمالهم المجلسية وفي نفوسهم هاجس الترشيح للانتخابات القادمة، ولذلك فإنهم يدرسون تصرفاتهم ويوجّهونها بما لا يؤدي إلى وقوفها عائقاً دون آمالهم النيابية المستقبلية، إن هذا الهاجس قد يجعل بعض النواب يقفون حجر عثرة أمام مشاريع القرارات التي يعيق تأييدها احتمال فوزهم في المجلس المقبل، حتى وإن كانت تلك المشاريع المعروضة على المجلس فيها مصلحة للأمة وتوطيد لكيانها.
12- الانتهازية: تسعى بعض الأنظمة إلى عرض الوزارة على بعض الفائزين في الانتخابات، وهنا ينتهز النائب الذي تعرض عليه الوزارة الفرصة للمفاضلة بين أيهما ألمع جاهاً وأوسع كسباً، آلوزارة أم النيابة؟، فأيهما رجحت في ذهنه كفتها بادر باختيارها، وأحياناً تكون الانتهازية حزبية وليست شخصية؛ فيبادر الحزب الممثل في المجلس إلى دفع أحد أعضائه للمشاركة الوزارية أو النيابية حسب ما تقتضيه مصلحته الحزبية.
13- التلوّن والبرمجة: إن كثيراً من المرشحين النيابيين يلوّنون أفكارهم ويبرمجون تصرفاتهم بحسب ما يودّه منهم ناخبوهم، فإن كان ذلك يقتضي منهم الصلاة صلوّا!!، أو الزكاة زكوّا، أو العربدة عربدوا!!. إنهم يلبسون لباس الجماهير ويكتحلون بلون كحلهم!!.
تلك كانت ثلاث عشرة إشكالية فرعية في موضوع التمثيل النيابي في المفهوم الديمقراطي، وكل واحدة منها كافية لهدم الهيكل وتقويض البناء، فكيف لو أضفنا إليها إشكالية الصراع بين النواب وبين الحكومة (التي تمثل مراكز القوى الحاكمة والمسيطرة)، وإشكالية دور الإعلام المحلي والوافد في صياغة توجهات الناخبين وأفكارهم، وإشكالية الدعم المالي والمعنوي الموجود والموعود الذي يدفع ببعض المرشحين نحو الصدارة، وغير ذلك من الإشكاليات الفرعية الأخرى... لا شك أن ذلك سيزيد الصورة قتامة ويكسي الواقع سواداً.
- العنصر الرابع (الواقع الدستوري):
لم أقل الدستور، بل قلت الواقع الدستوري، وأقصد به الدستور وما يكتنفه من ملابسات، وتلفه من ظروف، وتنجم عنه من إفرازات، ومن أهمها:
1- مصلحة الزعيم: سواء أكان رئيساً أو غير رئيس.
فالدستور لابد أن يلبي مصلحة الزعامة، وعلى الديمقراطية أن تكيّف أحوالها لأداء خدمة تلك المصلحة، وينبغي أن تصاغ بنود الدستور في ذلك الإطار، فإذا اقتضت مصلحة الزعامة حل المجلس يُحلّ، وينبغي أن تلبي مواد الدستور تلك الرغبة الزعامية، وإذا اقتضت تجميده يجمّد، أو إلغاءه يُلغى، وكل ذلك بتغطية دستورية. وإذا عجزت صيغ الجمل الدستورية عن القيام بتلك التغطية فإن الدستور يُعدّل وينقح خدمة لعين الزعيم.
وفي بعض الأحيان لا يحتاج الزعيم لأي من هذا كُلّه؛ فيدوس فوق الدستور ويمضي قُدماً لتحقيق مصلحته، دون أن ينسى القول: إن الذي فعله ليس إلا لمصلحة البلاد وسعادة العباد!!.
((مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ)) [ غافر: 29].
2- مزاج الزعيم: نعم مزاجه!! فالواقع الدستوري يخضع أحياناً لأمزجة الزعماء وأهوائهم، والزعيم ليس مطالباً بتبرير قراراته، فقد جعله بعضهم في مقام من لا يُسأل عمّا يفعل!!.(54/301)
وإن استفسرت عن ألوان أمزجة أولئك الزعماء: فما عليك إلا النظر إلى ألوان الطيف الضوئي وما يمكن أن يستجد من ألوان أخرى بخلط بعضها ببعض، فأمزجة الزعماء قد تبدأ باللجان الشعبية، وتمر بمناجل الفلاحين، واتحاد القوى العاملة، وأصناف النقابات، وشعارات الأحزاب، وكراسي مجلس الشعب.. وقد تنتهي عند إشارات الدستور ومقتضياته ومفهوماته بل ونكهاته، وقد لا تنتهي.
3- إرادة الدول الأجنبية: إن كثيراً من الدول الديمقراطية هي في الواقع في إطار النفوذ الأجنبي رغم علم الاستقلال الذي يرفرف فوق مؤسساتها الرسمية، ويبقى موضوع استمرار الديمقراطية فيها أو إيقاف عجلاتها منوطاً بإرادة تلك الدول صاحبة النفوذ، الذي له أوجه متعددة، منها: النفوذ الاقتصادي، والنفوذ العسكري، والنفوذ السياسي.. وغيره من ألوان النفوذ، وكل لون من تلك الألوان له حظه في التأثير على الصيغة النهائية للواقع الدستوري، بما في ذلك القرار السياسي المتعلق بالعلاقات الخارجية، أو القرار الداخلي المتعلق بالإجراءات الأمنية، أو القرار الاقتصادي المتعلق بالميزانية العامة للدولة أو...
4- تعليق الحريات: إن بعض الأنظمة ـ عندما تريد بلورة الواقع الدستوري حسب رغباتها ومقتضيات مصالحها ـ تلجأ إلى اعتقال المناوئين ومصادرة حرية كلمتهم أو تعليقها بما لا يسمح لهم بالمشاركة في الانتخابات الدستورية، وبالتالي يفقدون فرصتهم المتاحة للوصول إلى المجلس النيابي ويتم تعليق الحريات المعارضة للنظام في إطار الدستور الذي ينص على أن الحريات الشخصية مكفولة في إطار القانون، وهؤلاء المعتقلون قد خالفوا القانون، أي النظام، فلابد من تكميم أفواههم ووضع الأغلال في أيديهم، ليهنأ الزعيم وينام على فراشه الوثير!!.
5- مراكز القوى: وهي جماعات الضغط التي ترى أن يُفصّل الدستور بما يحقق مصالحها ويُدعّم نفوذها، كما أنها تتخذ من مظلة الدستور مواقع انطلاق في داخل المجلس النيابي وفي خارجه لحماية مكاسبها الذاتية؛ ولذلك تراها تضع العراقيل أمام أي مشروع قرار يحول بينها وبين أهوائها ومطامحها الابتزازية، وإذا فشلت نصوص الدستور في توفير تلك المظلة سعت جماعات الضغط إلى تنقيحه واستبدال بعض فقراته لتناسب تحقيق آمال وأهداف مراكز القوى التي تشمل فعاليات سياسية واقتصادية وعسكرية.
6- المحاباة: تلجأ بعض الفئات، بصفتها الحزبية أو الشخصية إلى محاباة وتملق النظام الحاكم، إما بالدفاع عن دستوره أو بمؤازرة رموزه، رغم أن ما ترفعه من شعارات لا يسمح لها بهذا ولا بذاك. وللأسف إن هذا الوصف ينطبق على بعض الجماعات الإسلامية أو الأفراد الإسلاميين المتورطين في حمأة المجالس النيابية؛ فرغم أن دستور بلادهم علماني، مجافٍ للشريعة، بل مضاد لها، فإنهم يدعون إلى احترام ذلك الدستور المضاد لتنزيل رب العالمين ولسنة خاتم المرسلين، محاباة للنظام، ويتسامرون مع رموزه تملقاً لهم، أو انتهازية منهم. وإذا أردنا دراسة الواقع الدستوري والمؤثرات التي تحيط به وتبلور توجهات فهم نصوصه أو تنقيحها فإنه لا يسعنا أن نغض الطرف عن إحصاء أصوات النواب المحابين والمتملقين!!
الهوامش :
1- كتاب الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي: ص10، مطبوعات مركز دراسات الوحدة العربية.
2- المصدر السابق: ص111.
3- أي عدم تحديد الأبعاد.
=============(54/302)
(54/303)
إشكالية مفهوم الديمقراطية من خلال مدارسها
مجلة البيان - (ج 104 / ص 42)
هموم ثقافية
إشكالية مفهوم الديمقراطية
من خلال مدارسها(*)
بقلم: سامي محمد صالح الدلال
ليس هناك مفهوم موحد للديمقراطية، بل هو مبدأ تتعدد مفاهيمه بحسب المدارس الفكرية، ولعلي أشير هنا إلى المدارس التالية:
ـ الليبرالية. ـ الاشتراكية.
ـ الدكتاتورية. ـ المصلحية.
ـ الجبرية. ـ الإسلامية!.
المدرسة الليبرالية:
وهي المدرسة الديمقراطية بالمفهوم الرأسمالي التقليدي، وتقوم على أسس:
ـ الانتخابات. ـ مجلس نيابي.
ـ حكومة تنفيذية.
وتتضمن هذه المدرسة:
ـ تعدد الأحزاب.
ـ فصل السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.
ـ استقلال القضاء.
ـ وجود ظاهرة الأغلبية والمعارضة في داخل المجلس النيابي.
وسبق أن ناقشت أهم أفكار هذه الإشكالية عند الحديث عن إشكالية مبادئ الديمقراطية.
سمات هذه المدرسة:
إن أهم ما يميز هذه المدرسة ما يلي:
1- أن انتخاباتها وإن كانت حرة في الغالب، إلا أن نتائج الانتخابات لا تعبر عن الرأي الحقيقي للناخبين، بسبب خضوعهم للزخم الإعلامي الذي يدخلهم فيما يشبه التنويم المغناطيسي.
2- أن كثيراً ممن يحق لهم ممارسة الانتخاب لا يحضرون الانتخابات، إما بسبب أعذار يعتذرون بها، أو بغير أعذار أصلاً، أو لعدم اقتناعهم بالمرشحين، أو لعدم اقتناعهم بالديمقراطية مطلقاً، أو لشعورهم أن الديمقراطية تفوّت مصالح لهم، أو غير ذلك من الأعذار.
3- لو نظرنا إلى الناخبين في هذه المدرسة لوجدنا أن شرائحهم في الأغلب لا تتجاوز:
ـ طلبة الجامعات والدراسات العليا.
ـ الموجّهين التربويين في مختلف المراحل التعليمية.
ـ العمال. ـ الفلاحين. ـ المهنيين. ـ الموظفين. ـ التجار.
ـ القادة السياسيين.
ـ المفكرين، والعلماء، والباحثين.
إن الإشكالية هنا ناشئة من ممارسة عملية محددة المعالم رغم الاختلافات الهائلة بين مستويات الذين يمارسونها، فالقائد السياسي المحنّك له في العملية الانتخابية صوت واحد مكافئ لصوت الطالب الجامعي في سنته الأولى، فيمكن لستة طلاب أن يدفعوا بمرشح إلى الفوز بكرسي المجلس، مقابل منافس له من القادة السياسيين لم يحظ إلا بخمسة أصوات!!!.
ومثل ذلك يقال عند المقارنة بين تأثير الأصوات للمفكرين والعلماء والباحثين بالعمال أو الفلاحين.. وهكذا.
4- أن طبيعة الوسط الانتخابي، أو بيئته، تترك آثاراً اضحة على العملية الانتخابية، فالبيئة البدوية أو الزراعية لها إفرازات انتخابية تختص بها مغايرة لتلك التي تختص بالبيئة المدنية أو الحضرية.
5- أن التزوير يكاد يكون الميزة الملتصقة بالانتخابات النيابية باستمرار، وله أشكال شتى، فإما أن يقع بشراء الأصوات، أو عند فرزها، أو من خلال التلاعب بصناديق الاقتراع، وإما أن يتم بإجبار الناخب على إعطاء صوته لمرشح بعينه، أو بحجب من يحق له الإدلاء بصوته من المشاركة في الانتخابات، أو بطرق أخرى غير ذلك، محصلتها النهائية: أنها لون من ألوان التزوير.
6- قلّما تنتهي انتخابات نيابية دون أن تترك وراءها آثاراً سلبية من العداوات والبغضاء والشقاق الذي يقع بين الأحزاب والطوائف والقبائل والأفراد، فالانتخابات بحدّ ذاتها تعتبر واحدة من أدوات التفتيت الاجتماعي، والضعف السياسي، والتبديد الاقتصادي، والدجل الإعلامي!!.
7- أن المرشح في الديمقراطية الليبرالية لا بد أن يكون غنيّاً رأسماليّاً قادراً على تمويل حملته الانتخابية، أو أن يكون مدعوماً ماليّاً من جهات حزبية أو من جهات أخرى لها مصلحة من إيصاله لكرسي المجلس النيابي، وهنا يتضح دور اليهود في استفادتهم من هذا اللون الديمقراطي، حيث إن مكانتهم المالية توظف بشكل مركز لإيصال المرشحين الذي يحقّقون مآربهم إلى قاعات المجالس النيابية.
8- لا يشترط في المرشح في الديمقراطية الليبرالية أي مواصفات أخلاقية تتعلق بحسن السيرة الذاتية، فشرب الخمر، والزنا، والشذوذ الجنسي، لا يعتبر قدحاً في المرشح، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن هذه الموبقات أصبحت من العادات المباحة لدى كثير من أفراد الشعوب الديمقراطية الليبرالية في أمريكا وبلاد الغرب عموماً.
9- المكانة العلمية والمستوى الثقافي لهما أثرهما في نجاح المرشح؛ حيث إن ذلك يترك صداه المميز في الوجاهة الاجتماعية.
10- الاستعلاء الشخصي، وإبراز المميزات، وتزكية الذات، والحط من قيمة المرشحين الآخرين، وتسفيه آرائهم وذكر مثالبهم.. من أهم سمات مرشحي الديمقراطية الليبرالية.
11- أن أكثر الفائزين بكراسي المجالس النيابية يتنكرون لوعودهم لناخبيهم، ويخالفون ما ذكروه في شعاراتهم الانتخابية بمجرد أن يستدفئوا بحرارة كراسي المجلس.
12- في الديمقراطية الليبرالية: فإن نبض المجلس النيابي بمناقشاته وقراراته لا يعبر دائماً عن النبض الشعبي وتوجهاته، فهو في حالات كثيرة يعبّر عن مصالح النواب الشخصية، وأحياناً أخرى يتوافق نبضه مع نبض الحكومة، خاصة إذا شعر بقرب رفع سيف الحلّ على رأسه!!!(1).(54/304)
13- أن المجلس النيابي في الديمقراطية الليبرالية يتمتع بصلاحيات مطلقة، وله الحرية التامة غير المقيدة في اتخاذ أي قرار مهما كان منافياً للدين أو القيم الإنسانية المعتبرة عرفاً؛ ولذلك: فإن بعض المجالس النيابية الغربية أباحت ممارسة الشذوذ الجنسي (فعل قوم لوط)، كما أباحت زاوج المرأة بالمرأة والرجل بالرجل.
14- أن الليبرالية الديمقراطية الغربية هي نتاج طبيعي لغياب احتكام الشعوب الغربية لمنهاج رباني، لذا: فإنها إفراز حتمي للشعور البشري بحاجته لتنظيمات وترتيبات يقيم عليها شؤون حياته وطريقة صياغة نظم تحصيل مصلحته؛ فهي اجتهاد بشري محض لإيجاد وسيلة تشريعية ملزمة للجميع؛ ولذلك: يجب أن يشترك الجميع في صياغتها الدستورية، ولو بشكل نظري له إيقاع عملي يتم من خلال المجلس، والمجلس هو الذي عبر بطريقته الخاصة عن ذلك الإيقاع، آخذاً بعين الاعتبار وبشكل خاص ومحدد تحقيق مصالح أعضائه أولاً.
15- أن قرارات الحرب والسلام وميزانية الدولة والسياسات المختلفة لا تأخذ مجراها في الديمقراطية الليبرالية إلا عن طريق موافقة المجلس النيابي عليها، وبالتالي: فإن القرارات الكبرى هي بيد المجلس النيابي أكثر مما هي بيد رئيس الدولة.
وأخيراً أقول: إن الليبرالية الديمقراطية قد مدت بساط نفوذها وتنفيذها في كثير من دول العالم الثالث وخاصة الدول الإسلامية، وهي تغذ السير ضاغطة بشدة على دفة المسار الديمقراطي في دول الاتحاد السوفييتي السابق؛ لتحذو حذوها وتختط مسارها.
المدرسة الاشتراكية:
إن المدرسة الاشتراكية تمثل وجهاً من وجوه الحكم الشمولي(2)، وبالتالي: فإن إلحاق الوصف الديمقراطي بهذه المدرسة بحاجة إلى موائمة تبريرية، فبقدر ما يبرز الإيقاع الفردي في الديمقراطية الليبرالية، يختفي هذا الإيقاع في الديمقراطية الاشتراكية؛ ذلك أن المدرسة الاشتراكية تعتمد على التعبير الجماعي عن الحس الجماهيري، وذلك من خلال تحالف المفردات الإنتاجية في أطر تنظيمية بإشراف الدولة تحت شعار: (لا إله، والحياة مادة)، ولذلك: فإنني بعد هذه المقدمة سأوضح المفهوم الديمقراطي في المدرسة الاشتراكية في النقاط التالية:
1- تقوم الدول الاشتراكية على الأحادية الحزبية، فلا مكان لتعدد الأحزاب؛ فالحزب الحاكم ـ وهو الحزب الوحيد ـ هو الذي يضع قانون الانتخابات، وهو الذي يحدد طريقة الأداء الانتخابي، كما أنه هو الذي يحدد المساحة النيابية التي يشغلها المستقلون.
2- إن المستقلين لا يمثلون في مجلس الشعب الاشتراكي موقع المعارضة، فالأنظمة الحاكمة في الدول الاشتراكية لا تتسع صدورها لأي شكل من أشكال المعارضة، فالمستقلون النيابيون يمثلون حالة الانتماء فقط.
3- إن تقسيمة مجلس الشعب الاشتراكي تعتمد بشكل أساس على التوزيع المعدّ مسبقاً للمساحات النيابية التي تحدد لكل مرفق عامل، أو كما يسمّونه هم: مرفق منتج أو إنتاجي، وهم العمال والفلاحون بشكل أغلب.
4- إن مجلس الشعب الاشتراكي يمثل صيغة تحالفية للقوى المنتجة، فهو تعبير عن تحالف قوى الشعب العاملة، التي تتشكل قاعدتها ممن يسمون بالبروليتاريا.
5- لا ينفرز انتخابيّاً في مجلس الشعب الاشتراكي إلا الحزبيون الذين يتسنمون مواقع حزبية قيادية.
6- إن قيادات القوات المسلحة لها مداخلات معينة تؤثر على قرارات مجلس الشعب الاشتراكي.
7- إن مجلس الشعب الاشتراكي يجب أن يكون في خدمة السياسة العامة للحزب الحاكم، وفي حال تسرب عناصر لها اجتهادات مخالفة لتوجهات الحزب الحاكم: فإن المجلس يُحَلّ، وفي حال تمرده على الحل: يقمع بالقوة.
8- باستثناء العدد القليل من المستقلين، فإن مجلس الشعب الاشتراكي لا يمثل الشعب بأي حال من الأحوال، بل يمثل القوى الحزبية، ولذلك: فإن قراراته لا تصب في مصلحة الشعب، بل تصب في مصلحة الحزب، وبتعبير أدق: تصب في مصلحة المتنفذين الحزبيين، وهي في كل الأحوال منعتقة عن التقيد أو الاسترشاد بأي شرعة ربانية حقة: كالإسلام، أو محرفة: كاليهودية أو النصرانية.
9- وبناء على ما ذكرت: فإن الديمقراطية الاشتراكية هي تعبير اصطلاحي أكثر مما هي تعبير واقعي عن المفهوم اللغوي للكلمة أو المفهوم الغربي التطبيقي لها، فهي مبنية على الولاء الحزبي وعلى المرتبة القيادية لدى الذي يشغل كرسي مجلس الشعب، أما المقاييس الأخلاقية: فلا مكان لها في القاموس الاشتراكي، كما أن الوجاهة الاجتماعية ليست معتبرة لدى المرشحين لشغل كراسي المجلس.
10- إن القياديين الحزبيين يشكلون مراكز قوى ابتزازية وانتهازية غير منظورة، إذ إنهم يستفيدون ماديّاً من مواقعهم الحزبية، من خلال سيطرتهم على مرافق الإنتاج؛ ولذلك: فإنهم يشكلون طبقة رأسمالية ترتدي قلنسوة اشتراكية.
إن هذه الطبقة هي التي يتشكل منها مجلس الشعب الاشتراكي، فإذا كانت قرارات المجلس تكرّس المصلحة الحزبية في العموم، فإنها تكرّس ـ بوصف أدق ـ مصلحة أولئك القياديين الحزبيين.(54/305)
11- إن ديمقراطية الاشتراكيين، نظراً لكونها معبرة عن تطلعات الحزبيين، فإنها تحظى بمعارضة شعبية واسعة، تلك المعارضة التي لا تستطيع الشعوب أن تعبر عن مكنونها، حتى ولو بطريقة إظهار مجرد الامتعاض، خشية من شدة بطش القمع الاشتراكي الديمقراطي، إن المكوّنات الجنينية للثورة الشعبية المضادة إنما تترعرع في رحم ذلك الامتعاض، حيث تتنامي شيئاً فشيئاً، إلى أن تصل إلى مرحلة التعبير عن الذات عبر ولادة قيصرية تصاحبها آلام مبرحة، تنتهي بالإطاحة بهذه الديمقراطية الاشتراكية المستغلة، وقد يحدث هذا من خلال تضحيات قليلة ـ كما حصل في الاتحاد السوفييتي ـ أو من خلال تضحيات جسيمة ـ كما حصل في رومانيا ـ والله وحده يعلم ما هي التضحيات التي ستصاحب الإطاحة الشعبية بالاشتراكية الصينية.
المدرسة الديكتاتورية(3):
هل للديكتاتورية مدرسة ديمقراطية؟!:
نعم، إنها ديمقراطية اللهيب والنار، ديمقراطية القمع والبطش، ديمقراطية السجون والتعذيب.
إن حديثنا عن مفهوم الديمقراطية الديكتاتورية يمكن تلخيصه في النقاط التالية:
1- إن رواد الأنظمة الديكتاتورية لا يؤمنون بالديمقراطية إطلاقاً، لكنهم يتوشحون بها لتلميع صورهم البشعة، ويفعلون ذلك من خلال اصطناع مجلس نيابي.
2- إن هذا المجلس لا يعبر عن الإرادة الشعبية، ولا يمثل طبقات الشعب، ولا يتشكل من خلال انتخابات حرة نزيهة، بل من خلال انتخابات موجهة محسوبة سلفاً، ومحسومة مسبقاً لصالح النظام الديكتاتوري الحاكم، ذلك النظام الذي ربما كان حزباً متسلطاً أو فرداً طاغياً أو مجموعة أفراد متجبرين.
3- وبناءً عليه، فإن تركيبة المجلس تكون معدّة سلفاً من قِبَل النظام الحاكم، ولا يصل إلى المجلس النيابي إلا من وافق النظام الديكتاتوري على وصوله.
4- ولذلك: فإن أعضاء المجلس النيابي في ذلك النظام الديكتاتوري ليس لهم وظيفة إلا التسبيح بحمد النظام الحاكم، وسنّ القوانين التشريعية التي توطد هيمنته، وتعزّز مصالح أفراده.
5- وبناء عليه: فإنه لا يشترط في أعضاء ذلك المجلس أي مستوى ثقافي رفيع أو وجاهة اجتماعية معتبرة أو مقدرة مالية ظاهرة، إلا بقدر ما يكون في ذلك من خدمة للنظام (الديكتاتوري) الحاكم، ولذلك: ما أكثر ما يتاجر أولئك الأوغاد النيابيون بالرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، وما أكثر ما يسيطرون على الشركات والمؤسسات، ويفرضون عليهم الإتاوات السرية، مستغلّين نفوذهم ومستفيدين من عضويتهم المجلسية، وهم في كل ذلك يسابقون الزمن انتهازاً للفرصة قبل أن يأتي أوان انقضائها!!.
6- ولذلك: فإن هذه المجالس النيابية في ظل الأنظمة (الديكتاتورية) لا تتمتع بأدنى درجة من درجات المصداقية أمام شعوبها، فالعلاقة بين تلك المجالس النيابية وشعوبها مبنية على عدم الثقة، وعلى التشكيك في النوايا، وعلى استشراء التوجّسات والتربص بالمواقف.
7- ورغم كل ذلك: فإن تلك المجالس النيابية تبذل جهوداً جبارة؛ لاطناع الوجه الحسن للنظام (يكتاتوري) الحاكم لتجميل (كتاتوريته أمام الشعوب المنكوبة بتلك الأنظمة، ولتلميع صورته أمام العالم، إنها مهمة شعبية ودولية! فيا لهم من منافقين، كم لهم من الوجوه؟!!.
8- إن مراكز القوى في الأنظمة الديكتاتورية الطاغوتية الحاكمة تتحكم في قرارات تلك المجالس النيابية بطريقة التحكم بالآلة عن بُعد (ريموت كونترول)، فتصدر تلك المجالس النيابية قراراتها بإشارة من النظام الحاكم، وتلحسها بإشارة أخرى!!.
9- ومن ذا الذي يجرؤ من أعضاء تلك المجالس النيابية على أن يفعل أو أن ينفعل بخلاف ذلك؟! فلو فعل، فسرعان ما تسحب الحصانة المجلسية منه.
10- وإذا كان ذلك جائزاً على عضو المجلس، فهو جائز على أعضائه أجمعين، ففي لحظة يقوم بإصدار أمره المتعالي بحل المجلس النيابي، وإحالة أعضائه إلى القضاء الجائر لمحاكمتهم.
11- وعندما يتأكد النظام الديكتاتوري الطاغوتي من حسن التزام المجلس النيابي بتوجيهاته وأوامره؛ فإنه يتخذ منه وسيلة لقمع شعبه بتشريع القوانين التي تعطيه صلاحيات واسعة، وأحياناً مطلقة، للأجهزة الأمنية لتدلي بدلوها القذر في اعتقال الأبرياء وسجن المستضعفين وتعذيب المعتقلين وإعدام المعارضين.
ـ وأخيراً: لا بد من لفت الانتباه إلى أن الأنظمة الديكتاتورية هي تلك الأنظمة التي يسيطر على دفة قيادتها العسكريون في الأغلب.
المدرسة المصلحية:
تمتاز هذه المدرسة بأن روادها ليسوا ليبراليين ولا اشتراكيين ولا ديكتاتوريين ولا إسلاميين، ولا يمثلون أي انتماء آخر.
إن روادها هم المصلحيون (الوصوليون)، تلك الفئة التي رأت أن مكاسبها تزداد وجيوبها تنتفخ وتجارتها تزدهر إذا سلكت مسلك الديمقراطية.(54/306)
إن إشكاليتها ليست في تأصيل الفكر العقدي والنظري، بل في تأصيل الفكر النفعي والمصلحي؛ فأفكارها لا تتجاوز هذه الدائرة، إن هؤلاء النفعيين والمصلحيين قد يرتدون لباس الليبرالية وليسوا بليبراليين، وقد يرتدون لباس الاشتراكية وليسوا باشتراكيين، وقد يلبسون لباس الإسلام وليسوا بإسلاميين، إنهم يدورون مع مصلحتهم حيث دارت، فإذا اقتضت المصلحة خلع لباس الليبرالية وارتداء لباس الإسلاميين فعلوا ذلك، غير هيّابين ولا وجلين، بل ولا مستحين، وإذا اقتضت المصلحة خلع لباس الإسلاميين وارتداء لباس الاشتراكيين أو الليبراليين أو القوميين أو الوطنيين فعلوا ذلك، ظاهرين غير مستترين.
فما هي معالم ديمقراطية هؤلاء القوم؟!:
يمكننا رصد تلك المعالم بما يلي:
1- أن الهيكل العام الأغلب لهذه الديمقراطية ليبرالي؛ لذا: فإنه ينطبق عليها كثير من الأوصاف التي ذكرتها حول المدرسة الليبرالية.
2- من خلال الممارسة قد تتطعم ببعض مواصفات المدرسة الاشتراكية والديكتاتورية.
3- يمارس المرشحون خلال فترة الانتخابات جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة للتأثير على الناخبين لاجتذاب أصواتهم، فربما اشتروا الأصوات، وربما دخلوا في تحالفات انتخابية، وعيونهم ـ خلال كل ذلك ـ منصبّة على حجم المكاسب ومقدار المنافع وعدد المصالح التي سيجنونها إذا أفلحوا في الوصول إلى المجلس النيابي، وفي سبيل ذلك: يكيلون الوعود الكاذبة لناخبيهم، وليس في نيّتهم إلا الخداع والغش والدجل.
4- يعتبر النواب المصلحيون نجاحهم في احتلال كراسي المجلس النيابي فرصة ينبغي استغلالها حتى الثمالة، إنها فرصة العمر لتحقيق أوسع المصالح الذاتية في أقصر المُدَد الزمنية.
5- لذلك: تراهم منهمكين في استصدار القوانين التشريعية التي تكرس مصالحهم، وإن كانت على حساب المال العام للأمة.
6- ما إن يحتل هؤلاء المرشحون كراسي المجلس حتى يبادروا بتأسيس الشركات، وافتتاح المؤسسات ـ في كافة الخدمات، ولجميع أنواع التخصصات ـ بأسماء أسرهم وأقربائهم، مستفيدين من مواقعهم الجديدة التي تنفتح أمامها جميع الأبواب وتذلل كافة الصعوبات وتزال جميع العقبات.
7-وإذا ما اقترب المجلس من نهاية مدته المقررة سارع النواب المصلحيون إلى المزايدة على شعوبهم، من خلال طرح بعض المشاريع التي تدغدغ عواطف الناس، لعلهم يحظون منهم بجميل إعادة انتخابهم للمجلس النيابي الجديد.
8- أن كثيراً من النواب المصلحيين لا يجدون في تصرفاتهم غضاضة، ولا يستشعرون في قلوبهم أي حرج إذا أقروا ووافقوا على الصلح مع اليهود مثلاً، طالما في ذلك تدعيماً لمصالحهم واستبقاءً لكراسيهم، وقد يوافقون الحكومة على توقيع المعاهدات التي تسوّد بياض البلاد وتكبل حرية العباد.
9- أن دستور المدرسة الديمقراطية المصلحية قابل للتنقيح في أي لحظة يراها أصحاب تلك المدرسة، مما يعزز مصالحهم، ولكنه في البلاد الإسلامية غير قابل للتنقيح إذا كان ذلك لمصلحة الإسلام!!! فتأمل!!.
المدرسة الجبرية(4):
إنها ديمقراطية الالتقاء الجبري، إنها ديمقراطية التعايش الحرج...
إنها الخيار الأوحد عند أصحابها.. فإما هي وإما الكارثة!! هكذا يقولون!!.
إنها ديمقراطية الطوائف والأديان قبل أن تكون ديمقراطية الجماعات والأحزاب.
إن خير مثال للمدرسة الجبرية هو لبنان.
ذلك البلد الذي فيه من ينتسبون إلى الإسلام (حقّاً أو باطلاً) وهم طوائف عدة: السنة، والشيعة، والدروز.
ومنهم من ينتمي إلى النصرانية، وهم أيضاً طوائف، من أشهرها المارونية.
وأما الأحزاب فحدث ولا حرج...
إن أهم ما يميز هذه المدرسة هو:
1- أن الانتخابات في إطارها الواقعي ـ وليس القانوني ـ تتم في الأطر الدينية ثم الطائفية.
2- أن توزيع الرئاسات يتم في الإطار العرفي المتفق عليه، ففي لبنان مثلاً: رئيس الجمهورية نصراني ماروني، ورئيس الحكومة مسلم سني، ورئيس المجلس النيابي شيعي.
3- أن المصالح الطائفية مقدمة على المصالح الوطنية.
4- تسود أعمال المجلس النيابي روح التربص أكثر من روح التعاون.
5- أن الخلافات في داخل المجلس النيابي تستمد خلفيتها من الصراع الطائفي، وليس من اختلاف وجهات النطر المتعلقة بالمصلحة البحتة.
6- أن استمرار بقاء الديمقراطية الجبرية متعلق باستمرار وجود حالة التوازن في التمثيل الطائفي.
7- أن البديل للديمقراطية الجبرية هو التقسيم الجغرافي على أسس طائفية، ذلك التقسيم الذي لا يمكن أن يحصل إلا عبر حرب أهلية، وعندما تعجز كافة الأطراف عن تحقيق مكاسب على الساحة الجغرافية يعود الجميع قسراً وجبراً إلى التعايش الحرج في إطار الديمقراطية الجبرية.
8- أن تمرير أي طائفة من الطوائف لقرار من القرارات من خلال المجلس النيابي يعتمد ـ بالإضافة إلى عدد الأصوات الداعمة له ـ على القوى المختلفة التي تدعمه من خارج المجلس، وخاصة القوى العسكرية والقوى السياسية المحلية والوافدة.
9- إن حلّ المجلس النيابي في دول الديمقراطية الجبرية يعتبر من أصعب القرارات السياسية؛ بسبب ما يمكن أن يؤدي ذلك إلى اندلاع الحرب الأهلية وسقوط البلاد في حمامات من الدماء.(54/307)
10- حتى القرارات الوطنية البحتة والمتعلقة بأمن البلاد واستقرارها وتحريرها من القوات الأجنبية الغازية، يمكن أن تكون محل خلاف ولا تتفق الأطراف الطائفية في المجلس على إقرارها، مما يكرّس السيطرة الأجنبية ويساعد على إبْقائها.
المدرسة الإسلامية:
لا توجد في الإسلام ديمقراطية أصلاً(*³)، وإنما أقحمت الديمقراطية على المسلمين إقحاماً، وبالتالي: عندما سنناقش هذا الموضوع لاحقاً تحت عنوان (إشكالية الإسلاميين في فهم الديمقراطية) فإننا لن نناقشه من باب صحة هذا الإقحام، بل من باب ما تورط فيه الإسلاميون من انزلاقهم في هذا المنحدر الخطر، وعلى هذا الأساس أقول: لا توجد مدرسة إسلامية ديمقراطية، بل توجد مدرسة ديمقراطية للإسلاميين الديمقراطيين فحسب.
إن خصائص هذه المدرسة وإفرازاتها ـ التي تمثل ورطة حقيقية للمسلمين ـ ستكون محل بيان وتوضيح عند مناقشتنا للإشكالية المتعلقة بهذا الموضوع، التي نوهت عنها قبل أسطر.
الملامح المشتركة لمدارس مفهوم الديمقراطية:
من خلال تطواف سريع بالمدارس الديمقراطية التي ذكرتها، يمكننا الإشارة إلى الملامح المشتركة لها كما يلي:
1- جميع تلك المدارس تشترك في كونها نتاج البشر، متحررة تماماً من أي استدلال رباني.
2- أنها تستمد شرعيتها الحقيقية من مراكز القوى الحاكمة، سواء أكانت طبقة، أو حزباً، أو عسكراً، أو عائلة، أو طائفة.. ومع ذلك: فإنها جميعاً تدعي استمداد شرعيتها الحقيقة من الشعب!.
3- أن المجالس النيابية، رغم كون دورها تشريعيّاً ورقابيّاً، فإنها لا تمارس هذه الصلاحيات بشكل مستقل، بل بحسب ما يوده النظام الحاكم.
4- إن النظام الحاكم يستطيع شراء عدد غير قليل من ذمم النواب بما يغدقه عليهم من الأعْطية والامتيازات، بما يجعلهم في النهاية موظفين لصالح خدمة مصالحه.
5- من خلال المجالس النيابية يصادَر أي تحرك شعبي، حيث إن حجة النظام الحاكم جاهزة: ممثلوكم في المجلس، فعلام هذا التحرك؟!!.
6-الأخلاقيات والسلوكيات تهدر قيمها الحقيقية في جميع المدارس الديمقراطية.
7- فيما يخص العالم الثالث: فإن المجالس النيابية كالخاتم في يد النظام الحاكم يلبسه متى يشاء، ويخلعه متى يشاء.
تلك هي أهم القواسم المشتركة في المدارس الديمقراطية، وإن كل قاسم منها هو كارثة حقيقية في ذاته!!.
((فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأََلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [المائدة: 100].
الهوامش :
*) تناول الكاتب في مقالتين سابقتين بالعددين 97، 98 من : إشكالية زاوية النظر للديمقراطية.
1) إن ذلك قلّما يحدث في البلاد الغربية، لكنه كثير الحدوث في بلاد ما يسمى بالعالم الثالث ذات نظام الحكم الديمقراطي.
2) لقد تقلصت المدرسة الاشتراكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تقلصاً كبيراً، ولم يبق لها إلا بعض الرموز كالصين وكوبا وبعض المخلفات في العالم الثالث.
3) لفظة (الديكتاتورية) ليست لفظة عربية، بل هي لفظة أجنبية دخلت الاستعمال العربي اصطلاحيّاً؛ للتعبير عن (حالة) معينة، هي واحدة من الحالات الكثيرة التي يشملها اللفظ القرآني: (الطاغوت).
4) لا نقصد بهذا التعبير الاصطلاح المعروف عن مفهوم طائفة الجبرية في العقيدة.
*) قد يتعجب القارئ من هذا القول، ولكنه في نظرنا له وجهه، وقد بحث الموضوع باستفاضة في العديد من الدراسات، من أشملها (نظام الحكم في الإسلام) د/محمود الخالدي، وقد تطرق لبيان هذا الموضوع الشيخ الصادق عرجون (رحمه الله) في كتابه (موسوعة سماحة الإسلام) في فصل (أسطورة الديمقراطية).
- البيان -
==============(54/308)
(54/309)
إشكالية التعبير العملى عن الديمقراطية (1)
مجلة البيان - (ج 107 / ص 118)
هموم ثقافية
إشكالية التعبير العملي عن الديمقراطية
(1)
بقلم: سامي محمد صالح الدلال
ما إن نتجاوز المعاني النظرية لمفهوم الديمقراطية ـ وفق المدارس التي ذكرتها ـ إلى التطبيقات العملية لتلك المدارس: حتى نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام الإشكاليات التالية:
- إشكالية التعريف.
- إشكالية البلورة الاجتماعية للديمقراطية.
- إشكالية البلورة الثقافية للديمقراطية.
- إشكالية البلورة الاقتصادية للديمقراطية.
إشكالية التعريف:
قد اصطُلح على تعريف الديمقراطية بأنها «حكم الشعب بالشعب» ، أي: «السيادة للشعب» ، ولدى التطبيق العملي انقسم الناس في طريقة التعبير الواقعي عن هذا التعريف؛ ومن هنا: نشأت المدارس المختلفة التي عبر كل منها عن فهمه للديمقراطية بأسلوب يختلف عن الآخر ، فمن أين نشأ هذا الاختلاف؟!.
لقد نشأ الاختلاف من تنوع زاوية النظر لكل كلمة من كلمات التعريف المذكور ، مما دفع إلى سطح الواقع تفسيرات شتى لذلك التعريف.
فكلمة «الحكم»،
وكلمة «الشعب»،
وكلمة «السيادة» أو «بالشعب»،
لم يتم الاتفاق على تفسيرها.
إن كلمة «الحكم» لها معانٍ تعبيرية شتى:
ـ فمعناها لدى المدرسة الليبرالية: أن المجلس النيابي ـ المعبِّر عن الشعب ـ يضع الدستور الذي تقوم الحكومة على تنفيذ بنوده.
ـ ومعناها لدى المدرسة الاشتراكية: أن مجلس الشعب ـ المعبِّر عن اتحاد القوى العاملة ـ يسن التشريعات التي تقوم الحكومة بتنفيذها بعد إقرارها مما يسمى باللجنة المركزية.
ـ ومعناها لدى المدرسة الديكتاتورية: أن المجلس النيابي هو أداة تشريع القوانين التي تكرِّس هيمنة الملأ الطاغوتي ، ورغم أنه منتخب من قبل الشعب ـ بطريقة خاصة ـ إلا أنه يعامل طوعاً لإرادة الطغمة الديكتاتورية الحاكمة ، فهو معبِّر عنها وليس معبِّراً عن الشعب.
ويلاحظ في هذه المدارس الثلاث أن مزاولة «الحكم» من المنظور الأمني تتم من خلال مؤسسات تمارس أفعالاً بشعة ، بما لها من صلاحيات تستمدها من التعابير الفضفاضة للقوانين؛ فمؤسسات المباحث والمخابرات العسكرية وتوابعهما تعتبر مؤسسات مغلقة لا يكاد يعلم أعضاء المجلس النيابي عنها شيئاً.
ـ ومعناها لدى المدرسة الجبرية: أنها وسيلة لحل إشكال تناقضات التعايش القسري في دولة واحدة لطوائف وأديان شتى؛ لذلك: فإن كلمة «الحكم» لدى هذه المدرسة هي معنى اصطلاحي لواقع متناقض التوجهات ، أفرز في واجهته أشخاصاً اختص كل منهم برئاسة مرفق دستوري (رئاسة الدولة، رئاسة الحكومة ، رئاسة المجلس النيابي ، قيادة الجيش، قيادة الأمن العام..).
ـ ومعناها لدى المدرسة المصلحية: أنها وسيلة دستورية لتحقيق مصالح أعضاء المجلس النيابي بغطاء شعبي مصطنع.
ـ ومعناها لدى المدرسة الإسلامية النيابية: أنها مجرد وسيلة متاحة يمكن استغلالها من خلال المشاركة الجزئية وإن كانت محدودة جدّاً ، على أمل أن تتسع هذه المحدودية لتشكل أغلبية ساحقة في المستقبل البعيد ، فيتمكن الإسلاميون من تنفيذ أحكام الشريعة بتقنينات نيابية.
فالنتيجة التي وصلنا إليها هي:
لا يوجد اتفاق على تفسير عملي لكلمة «الحكم» بين المدارس الديمقراطية المختلفة.
وأما كلمة «الشعب»: فهي أيضاً محل خلاف عند التطبيق.
فمن هم أفراد الشعب؟!.
هناك نظرتان رئيستان في هذا الصدد.
الأولى: أنهم الأفراد الذين يقعون ضمن حدود جغرافية معترف بها دوليّاً ، ويعبِّر عنهم نظام سياسي حاكم.
إن جميع المدارس الديمقراطية تعترف نظريّاً بهذا التعريف.
الثانية: أن الشعب هو مجموع الأفراد الذين يطبّق عليهم القانون ، وهم العامة أو الغوغاء، أي: الذين لم يسجِّلوا عضويتهم في الحزب الحاكم. وأما المنضوون في الحزب الحاكم فهم إما فوق القانون ، أو يطبّق عليهم القانون بطريقة خاصة ، فهم بهذا المعنى فوق الشعب!! وتشمل هذه النظرة المدرستين الاشتراكية والديكتاتورية.
وهذا يعني: أنه لا يوجد اتفاق على تفسير عملي لكلمة «الشعب» بين المدارس الديمقراطية المختلفة.
وأما كلمة «السيادة» ، أو «بالشعب»: فهي أيضاً لها مفاهيم منوعة لدى المدارس الديمقراطية.
ـ ففي المدرسة الليبرالية: الشعب لا يحكم نفسه ، بل هناك أفراد مقتدرون ماليّاً ، ولهم وجاهات اجتماعية ، يبحرون على متن سفنها التي تلقي مراسيها تحت قبة المجلس النيابي ، فيمارسون التشريع وفق ما يرونه هم ، وليس وفق ما يراه الشعب ، فهم أقلية يحكمون أغلبية ، لكنهم لا يعبرون عنها تعبيراً حقيقيّاً وشاملاً. فالديمقراطية في المدرسة الليبرالية هي حكم الأغلبية بالأقلية مع ملاحظة تناقض المصالح بين الأغلبية والأقلية ، التي تعني أن الأقلية تستثمر طاقات الأغلبية ، أي طاقات الشعب ، لتحقيق مصالحها أولاً ، ولا يضر أن تلك المصالح قد يشاركهم فيها الشعب بشكل جزئي.
ـ وأما في المدرسة الاشتراكية: فالسيادة هي لمجموع القوى العاملة من خلال ممثليها في مجلس الشعب ، ولا بد أن يكونوا حزبيين حُكماً ، أي: إن مفهوم الديمقراطية في هذه المدرسة هو: حكم الشعب بالحزب الحاكم.(54/310)
ـ وأما في المدرسة الديكتاتورية: فالمجلس النيابي ليس سوى صورة مجردة من الأبعاد والألوان ، مهمتها تشريع القوانين التي تخدم الطغمة الديكتاتورية الحاكمة ، فمفهوم الديمقراطية في هذه المدرسة هو حكم الشعب بالطاغوت الديكتاتوري.
ـ وأما في المدرسة الجبرية: فمعناها حكم الشعب ـ أي حكم الطوائف المكونة للشعب ـ بقوانين يصطلح على سنِّها مجموع ممثلي الطوائف في المجلس النيابي ، أي إن الأحكام التي تنفذ على طائفة معينة منها ليست أحكامها الخاصة ، بل ولا حتى المعبرة عنها ، ذلك أنه لا توجد أحكام تنفذ على كل طائفة بشكل مستقل في هذه المدرسة ، وهذا يعني أن مفهوم الديمقراطية في هذه المدرسة هو حكم الطائفة، من أي دين كانت أو من أي عرق، بواسطة مجموع آراء جميع الطوائف المشكلة للشعب من خلال قوانين يتفق على سنّها.
ـ وأما في المدرسة المصلحية: فمعناها حكم الشعب بواسطة القوانين التي يشرعها أصحاب المصالح الذين وجدوا في حياض المجالس النيابية مرتعاً خصباً ومقبولاً ، للوصول من خلاله إلى مآربهم ، فمفهوم الديمقراطية في هذه المدرسة هو حكم الشعب بأصحاب المصالح.
ـ وأما في المدرسة الإسلامية النيابية فهي بحسب ما يكونون فيه من مدارس ، فهم ليس لهم وضع مستقل. لكنهم يقولون: إن مفهوم الديمقراطية عندهم هو حكم الشعب من خلال مجلس نيابي تتمثل فيه جميع الطوائف والأديان والأحزاب ، فهو حكم الشعب بممثلي الطوائف والأديان والأحزاب.
ومن ذلك يتبين لنا: أنه لا يوجد اتفاق على تفسير عملي لكلمة «السيادة» أو «بالشعب» بين المدارس الديمقراطية المختلفة.
إذن: إن إشكالية التعريف تتناول كل كلمة من كلمات مفهوم الديمقراطية ، وليس هناك اتفاق بين المدارس المختلفة على أي كلمة من كلمات تعريف الديمقراطية ، مما نتج عنه اختلاف التعبيرات العملية للديمقراطية في الإطار السياسي وغيره من الأطر.
إشكالية البلورة الاجتماعية للديمقراطية (1):
إن التحدي الذي تواجهه أي مدرسة من مدارس مفهوم الديمقراطية التي ذكرتها هو مدى النجاح الذي تحققه في بلورة الصياغة الاجتماعية لمجموع الشعب؛ بحيث تتوافق مع أفكار وأهداف تلك المدرسة.
ولكي تتضح أمامنا صورة هذا التحدي فلا بد من تكثيف الضوء على الأجزاء الرئيسة والمعالم البارزة التي تجتذب بصر الناظر إلى تلك الصورة ، وهي كالتالي:
ـ التفاوت الطبقي:
إن التفاوت الطبقي يعتبر ظاهرة تكاد تعم جميع مجتمعات الأرض دون استثناء ، وإن العلاقة الجدلية للصراع بين تكريس هيمنة الأغنياء واستخلاص حقوق الفقراء تتوسع دائرتها يوماً بعد يوم ، أما متوسطو الدخل فهم وإن كانوا يؤيدون مطالب الفقراء ، ويكرهون تسلط الأغنياء ، إلا إنهم ينؤون بأنفسهم عن الوقوع بين فكي كماشة ذلك الصراع الذي يمكن أن يتطور إلى ثورة غير مسيطر على توجهاتها ولا على اضطرام أوارها.
وعندما اصطلح الجميع على الاستظلال بمظلة الديمقراطية: فشل ذلك الحل في برمجة مشروع عملي لتفكيك تلك العلاقة الجدلية للصراع ، لإعادة ترتيب مفاصل الربط فيها وتغيير مجرى قنواتها ، بل يمكن القول باطمئنان: إن الديمقراطية كرّست إبقاء ذلك الصراع بغطاء دستوري ، فُصِلت بنوده بحيث تحمي مصالح الأغنياء ، والمفارقة العجيبة في ذلك: أنه يتم بدعم من أصوات الفقراء!!.
وعند التحقيق نرى بوضوح: أن الديمقراطية لم تنجح في بلورة لحمة اجتماعية من زاوية نظر التفاوت الطبقي ، وهذا لا يختص بمدرسة واحدة ، بل بجميع المدارس.
ـ التنوع الديني:
إن الجميع متفقون على أن كل دين يضفي على أتباعه ثوباً معيناً من العلاقات الاجتماعية ، سواء على مستوى الأفراد أو مستوى الأسر أو مستوى الوحدات الاجتماعية (عائلات ، قبائل...).
وبالتالي: فإن لكل دين أحكامه وتشريعاته ، سواء أكان ذلك للمسلمين أو للنصارى أو لليهود(2).
إن الديمقراطية جاءت لتقول لكل هؤلاء: ألقوا ما عندكم من أحكام وتشريعات ، وتعالوا نصطلح على أحكام وتشريعات جديدة يوافق عليها الجميع.
وبمعنى آخر تقول: ألغوا الصيغ الاجتماعية التي انفرزت من تلك الأحكام والتشريعات عبر القرون ، وتعالوا لنوجد صيغة اجتماعية موحدة بجرة قلم نيابي!! وأنّى لأي نوع من الديمقراطية أن تنجح في فعل ذلك؟!.
إلا أن معنى الديمقراطية يفرض عليها أن تلج نفق تلك المفارقة الصعبة ، وهذا يعني أنه لا بد لممثلي الأديان في مجلس النواب من الاتفاق على تشريعات توفيقية ، ولا بد للشعب أن ينصاع لها.
وهذا يعني غرس بذور المواجهة بين:
1- المجلس النيابي من جهة ، والمنتسبين لكل دين من جهة أخرى ، والغلبة في هذه المواجهة هي للمجلس النيابي ، إذا نظرنا إليها من زاوية قدرته على إمرار ما يريد بقوة القانون.
إن الانكسار النفسي الذي يتولد في صدور المنتسبين لتلك الأديان يغذي حالة الاستعداد للتمرد في يوم من الأيام بسبب التشتت الاجتماعي الذي أصبح مقنناً بواسطة المجلس النيابي.(54/311)
2- المنتسبين لكل دين بعضهم ضد بعض ، فالمسلمون سيؤيدون التشريعات التي تتوافق مع دينهم وسيعتبرون ذلك انتصاراً له ، في حين يعارض ذلك اليهود والنصارى ، وهذان الأخيران سيؤيدان التشريعات التي تتوافق مع ما هم عليه ، وسيعارضهم المسلمون ، وسيترتب على هذا مزيد من تعميق وتكريس التباعد والتناقض الاجتماعيين ، وهذا بدوره سيوجد لوناً إضافيّاً من الصراع ، ذا قاعدة اجتماعية وإطار تخاصمي تشريعي.
3- المنتسبين للدين الواحد بعضهم ضد بعض ، ذلك أن القوانين التشريعية الجديدة التي يشرعها المجلس النيابي قد تلاقي توافقاً مع أهواء بعض المنتسبين لذلك الدين ، رغم أنها تتناقض مع تشريعات وأحكام دينهم. فيتقمّصونها ، ويدافعون عنها ، مع استعدادهم للمواجهة الفعلية مع التيار المتمسك بدينه ، وهذا بدوره سيفتت اللحمة الاجتماعية للمنتسبين للدين الواحد.
ولنتصور كيفية حدوث ذلك ، أضرب مثالاً واحداً:
مثال:
-أقر المجلس النيابي فعل الشذوذ .
المسلمون والنصارى واليهود رفضوا ذلك ، لكن المجلس النيابي انتصر بقوة القانون (الحالة الأولى) .
-أقر المجلس النيابي شرب الخمر.
المسلمون رفضوا ، النصارى واليهود وافقوا ، لقد كرّس هذا القانون المواجهة بين الطرفين (الحالة الثانية).
-أقر المجلس النيابي الإجهاض.
المتمسكون بدينهم من الأديان الثلاثة رفضوا ذلك ، غير المتمسكين وافقوا عليه؛ لأنه يوافق أهواءهم (الحالة الثالثة).
إن الصدام الاجتماعي سيقع بين الموافقين والرافضين في الحالات الثلاث ، انتهى المثال.
وما يهمني هنا هو: الإشارة إلى أن مبدأ التنوع الديني في موقع إصدار التشريعات وسن القوانين مرفوض إسلاميّاً ، إلا أن موافقة الإسلاميين المجلسيين على الديمقراطية والمشاركة في المجالس النيابية جعل هذا المرفوض مقبولاً عندهم حكماً ، لكنهم اختلفوا في تفسير هذا القبول ، فمنهم من قال بقبوله ضرورة ، ومنهم من قال بقبوله منهجاً ، إن هذا الاختلاف في التفسير له أثره البيّن في تفتيت اللحمة الاجتماعية على مستوى القابلين بالديمقراطية.
إن سبب هذا التفتيت هو التفاوت الحاصل عند تعبيرهم العملي عن ذلك.
ومثاله: إن الذين يقولون بقبوله ضرورة يصرّون على التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية ، وهذا يعني الارتقاء الاجتماعي الشمولي من حضيص الواقع إلى قمة الإسلام ، لكن الذين يقولون بقبوله منهجاً قد لا يطالبون بالتطبيق الكلي للشريعة الإسلامية مراعاة لليهود والنصارى ، وإذا طالبوا بها فإنهم قد(3) لا يطالبون بتطبيقها فوراً للسبب نفسه ، إن الإفرازات الاجتماعية لهذين الطرحين تأخذ مساري المجابهة والمواجهة في تسارع حثيث على مدرج الصدام!!.
إن تلك المواجهة لن تنحصر في إطار الممثلين الإسلاميين في المجلس النيابي ، بل ستتسع دائرتها لتشمل أنصار الطرفين في عموم الشعب.
المواجهة الاجتماعية الأخرى ستقع بين المؤيدين من المسلمين للمشروع الديمقراطي والمعارضين له ، ذلك أن المؤيدين للمشروع الديمقراطي ستصطبغ حياتهم الاجتماعية بالألوان المفرزة من قبل المجلس ، في حين أن المؤيدين للمشروع الإسلامي(إن صح التعبير) (4) سيجاهدون من أجل الحفاظ على حياتهم الاجتماعية المتميزة بالانتماء الإسلامي ـ أي: اللون أو الصبغة الإسلامية ، ((صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أََحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)) [البقرة: 138] ـ.
إن التفاوت في التعبير الاجتماعي بين المؤيدين للديمقراطية والمعارضين لها سيؤدي إلى خلل في اللحمة الاجتماعية ، تحمل في طياتها بذور الصدام أيضاً!!.
__________
1) وتشمل: 1 ـ التفاوت الطبقي. 2 ـ التنوع الديني. 3 ـ التعدد التكويني. 4 ـ التباين الثقافي. 5 ـ الاستقطاب الحزبي النوعي. 6 ـ نوعية الحكم السلطوي.
2) نحن لا نقر ما عليه النصارى واليهود من أحكام وتشريعات ، ولكننا نقرر ما هو واقع حالياً بالفعل.
3) أرجو من القارئ أن يعير انتباهاً خاصاً لكلمة «قد».
4) أنا لا أميل لهذا التعبير ، لكني تكلمت بلغة القوم!!.
=============(54/312)
(54/313)
إشكالية التعبير العملي عن الديمقراطية (2)
مجلة البيان - (ج 108 / ص 78)
هموم ثقافية
إشكالية التعبير العملي عن الديمقراطية
بقلم: سامي محمد صالح الدلال
تعرض الكاتب في الحلقة الأولى بالتوضيح لإشكاليات التعبير العملي عن الديمقراطية، فعالج: إشكالية التعريف ، وإشكالية البلورة الاجتماعية للديمقراطية ، ملقياً الضوء على ظاهرتي التفاوت الطبقي والتنوع الديني ، ويواصل في هذه الحلقة عرض جوانب أخرى من الموضوع.
- البيان -
ـ التعدد التكويني:
أقصد بذلك: الأعراق والأجناس والقبائل التي يتألف الشعب من مجموعها ، وكذلك هي الممُثّلة أيضاً في المجلس النيابي.
إن الذي قلناه بخصوص التفكك الاجتماعي الناشئ من تعدد الأديان في إطار المفهوم الديمقراطي ، ينطبق هنا أيضاً ، مع ملاحظة التفاوت الذي يضفي مزيداً من التفتت في حالتنا هذه.
ذلك أن المنتسبين إلى كل دين ، من المسلمين واليهود والنصارى يتكونون من أعراق وأجناس وقبائل شتى ، ولكل عرق وجنس وقبيلة حصيلة عادات وأعراف اجتماعية في إطار المفهوم الاجتماعي لذلك الدين المنتسبين إليه.
إن السهام الديمقراطية المنطلقة من قوس مفهومها الاجتماعي المقنن والمتلون بصبغتها ، إن لم تُصِبْ مقتلاً في العلاقات الاجتماعية لتلك الأعراق والأجناس والقبائل ، فإنها على الأقل تؤدي إلى جروح غائرة في تلك العلاقات ، ليست فقط غير قابلة للاندمال ، بل هي متجددة ومتفجرة دائماً!!.
وهذا يعني ـ باللغة العملية الواقعية ـ تفتيتاً شاملاً لوحدة المجتمع الإسلامي، تلك الوحدة التي أمرنا الله (تعالى) بالمحافظة عليها من خلال اعتصامنا بكتابه وسنة نبيه، قال (تعالى): ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)) [آل عمران: 103].
فهلا انتبه الإسلاميون النيابيون إلى هذه الحقيقة؟!!.
مثال توضيحي:
أقر المجلس النيابي الاختلاط في التعليم الثانوي.
نطبق الحالة على مستوى القبيلة:
1- بعض عائلات القبيلة ممن يضفون على أنفسهم صفة العصرية والتقدم سيسارعون إلى تأييد قرار المجلس النيابي ، عائلات أخرى من القبيلة نفسها ممن لهم سمت التمسك بالإسلام سيسارعون إلى رفض قرار المجلس النيابي ، النتيجة هي: احتدام الصراع الاجتماعي بين المؤيدين والرافضين.
2- ننتقل إلى دائرة أضيق ، وهي دائرة العائلة الواحدة: الأب والأم الغيوران على بناتهما سيرفضان إرسال بناتهما إلى تلك المدارس الثانوية التي أُقر فيها الاختلاط، لكنهما سيوافقان ـ في الأغلب ـ على إرسال أولادهما الذكور إلى تلك المدارس؛ لعدم توفر البديل!.
الأولاد الذكور سيتعرفون على بنات في تلك المدارس، سينشأ عنها ـ في الأغلب ـ علاقات قد تصل إلى حالة انهيار جدار العفة، مما يترتب عليه حالة من الانفصال الاجتماعي بين عائلتي الطرفين ، لا يستبعد أن تتصاعد إلى مراحل التصفية الجسدية المؤطرة بالمحافظة على العرض.
النتيجة:
ـ تفتت العائلة اجتماعيّاً.
ـ تفتت القبيلة اجتماعيّاً.
ـ إيجاد حالة صراع اجتماعي ذي طبيعة مستغرقة في الزمن.
على نسق المثال المذكور يمكن أن تساق أمثلة أخرى تبين حالة الانفصام الاجتماعي للأعراق والأجناس التي قد تنشأ بسبب قرارات نيابية!!.
ـ التباين الثقافي:
إن التباين الثقافي بين الأفراد في إطار الدين الواحد أمر طبيعي ، والخلل المؤثر اجتماعيّاً الناشئ عنه يمكن احتواؤه ، وليس عن هذا حديثنا.
بل حديثنا عن أثر التباين الثقافي بين المنتسبين للأديان والطوائف المختلفة على بلورة الواقع الاجتماعي في المجتمع المحكوم ديمقراطيّاً.
ولا نشك أن الثقافة مهما لبست من أكسية علمانية فإن حامليها لا يستطيعون إخفاء ألوان أجسادهم ذات الألوان المصطبغة ثقافيّاً بالدين أو الطائفة التي ينتسبون إليها.
إن الثقافة ليست مجرد مجموع المعارف المكتنزة ذهنيّاً ، بل هي أيضاً: إبراز الصياغة المعرفية العملية المجسدة والموضحة لتلك المكتنزات ، ولا يختلف اثنان على أن العلاقات الاجتماعية وما يتجلى عنها من آثار نتيجة تداخلاتها أو اندماجاتها هي واحدة من تلك الصياغات المعرفية.
فالثقافة الإسلامية لها أثر معرفي في صياغة العلاقات الاجتماعية بين المسلمين ، وكذلك: فإن الثقافة اليهودية، والثقافة النصرانية.. لهما أثران معرفيان في صياغة العلاقات الاجتماعية بين اليهود وبين النصارى ، كلٍّ على حدة.
إن هذه الصياغات المعرفية المعبِّرة عن اللون الثقافي لكلٍّ من منتسبي الأديان المذكورة ليست وليدة العقود المتأخرة (1) التي سادت فيها الديمقراطية، بل هي محصلة المجموع التراكمي لحصيلة خمسة عشر قرناً بالنسبة للمسلمين ، وأكثر من ذلك بالنسبة لليهود والنصارى ، وبالتالي: فإن العلاقات الاجتماعية المتأثرة بتلك الثقافات تخضع للمعادلة نفسها لذلك المجموع التراكمي.
وإننا على يقين تام بأن الديمقراطية لن تتمكن خلال عقود قليلة من الإطاحة بذلك المجموع التراكمي الممتد عبر القرون.(54/314)
إن النتاج الثقافي للديمقراطية هو من لون خاص ، ليس إسلاميّاً ولا يهوديّاً ولا نصرانيّاً ، بل هو مزيج من ذلك كله ، إضافة لغيره من الثقافات العلمانية ذات المضامين الإلحادية والقومية والوطنية.
إن هذا النتاج الثقافي سيفرز علاقات اجتماعية جديدة ، ليست مألوفة لدى أتباع الأديان الثلاثة، مما يترتب عليه اصطدام هذه العلاقات الاجتماعية الوليدة بالعلاقات الاجتماعية السائدة،وبما أن الانضباط الترابطي في العلاقات الاجتماعية لدى اليهود والنصارى مصاب بالترهل الشديد والتآكل البيّن: فإن الثقافة الديمقراطية الناشئة ستكون أكثر قدرة على التغلغل لدى أولئك ، في حين أنها ستصطدم بمعوقات كثيرة لدى محاولة التأثير على العلاقات الاجتماعية لدى المسلمين؛ بسبب ما لديهم من مضادات ثقافية ذاتية من الكتاب والسنة وتراث سلف الأمة تركت آثارها البارزة في أدق تفاصيل العلاقات الاجتماعية بين المسلمين.
إن النتيجة المتوقعة لتفاوت تأثير الثقافة الديمقراطية على منتسبي الأديان الثلاثة ستؤدي حتماً إلى تعميق العلاقات الاجتماعية بينهم.
وهذا يعني: أن البلورة الاجتماعية الناشئة عن التباين الثقافي المذكور ستكون ذات طابع تهديمي وتهشيمي في ظل الواقع الديمقراطي لنظام حاكم ، وإن هذا التهديم والتهشيم سيكونان أعمق أثراً لدى المسلمين مقارنة مع غيرهم من أصحاب الأديان الأخرى.
ـ الاستقطاب الحزبي النوعي:
في ظل الديمقراطية: فإن حرية تشكيل الأحزاب مطلقة للجميع ، وهذا يعني إنارة الضوء الأخضر لكل فئة سياسية أو طائفة دينية أو مجموعة عرقية أو فئة قبلية لأن تشكل حزباً خاصّاً بها ، ومن خلال هذا الحزب فإنها تدفع بأكبر عدد من مرشحيها ليكونوا نواباً في المجلس النيابي ، إن النواب الفائزين بكراسي المجلس تمثل مجموعاتهم الأحزاب التي يمثلونها ، وهذا يعني أنهم يعتبرون واجهة لنظرة أحزابهم لمجموع العلاقات الإنسانية ، التي منها العلاقات الاجتماعية ، فإذا كان نواب طائفة معينة يشكلون أغلبية المجلس النيابي ـ كطائفة الشيعة في إيران مثلاً ـ فإن الشق الاجتماعي من التشريعات والقوانين الصادرة عن المجلس ستعمِّم ألوان علاقاتها الاجتماعية على مجموع الشعب عن طريق القانون ، وهذا ينطبق أيضاً على الفئات السياسية المعبِّرة عن نفسها حزبيّاً ، كحزب البعث مثلاً.
وهذا يعني أن تلك الطائفة أو الفئة ـ المهيمنة حزبيّاً على المجلس النيابي ـ ستسعى لبلورة الواقع الاجتماعي ليكون متماشياً مع ما هي عليه ، وهذا يدخلها في صراع اجتماعي ، أحد طرفيه يملك قوة القانون وإمكانية الدولة ، والآخر مجرد من هذين السلاحين معاً ، وإن إيران تعتبر من أحسن الأمثلة لبيان كيفية حدوث هذا الصراع والنتائج المترتبة عليه ، حيث إن الطائفة الشيعية تريد فرض علاقاتها الاجتماعية المنبثقة من العقيدة الشيعية على السّنة ، وذلك عن طريق الدستور وباستعمال إمكانات الدولة الهائلة ، مما ولّد صراعاً شاملاً ، تضمّن فيما تضمّن صراع العلاقات الاجتماعية ، وهذا لون من ألوان إشكالية البلورة الاجتماعية للديمقراطية.
إن قبول بعض الإسلاميين للديمقراطية وانخراطهم في تلافيفها يجعلهم وجهاً لوجه مع هذه الحقائق البيّنة ، حيث إنهم لن يتمكنوا من بلورة اجتماعية إسلامية من خلال الديمقراطية إلا إذا كانوا أغلبية في المجالس النيابية التي لا يملكون مفاتيح التحكم في دروبها ومساراتها؛ مما يحول بينهم وبين حصولهم على الأغلبية المتمكّنة ، وإن الجزائر لتعتبر خير مثال على قلب ظهر المجن على الإسلاميين؛ لأنهم شكلوا في الانتخابات النيابية أغلبية فائزة لكنها غير متمكنة ، مع ملاحظة أن سبيل التمكن للإسلاميين عن طريق الديمقراطية هو طريق مسدود ، إن لم يكن محليّاً فدوليّاً ، لكن الواقع الحالي يبين اجتماع الاثنين معاً!!.
ولذلك: نقول للإسلاميين النيابيين: طالما أن طريق الديمقراطية الذي تسعون من خلاله ـ فيما تسعون إليه ـ إلى توطيد الاستقرار الاجتماعي هو طريق مسدود ، فلماذا لا توظفون تلك الجهود المضنية ـ المبذولة في غير ما طائل ولا فائدة ـ في الإطار الصحيح الذي تبنى دعائمه على سلوك المنهج النبوي في الدعوة إلى الله (تعالى) ، بما يتضمن ذلك من ملابسات منوعة لأشكال كثيرة من ألوان الصراع مع أعداء الإسلام ، مهما تنوعت عقائدهم وتعددت راياتهم.
ـ نوعية الحكم السلطوي:
وأقصد بها المؤسسة الحاكمة صاحبة السلطة ، حيث إن لكل مؤسسة حاكمة نظرة معينة في صياغة البلورة الاجتماعية ، وذلك بحسب الآلية الفكرية أو المنطلقات النظرية التي تشكل مرجعيتها لدى الممارسة العملية.
وفيما عدا المرجعية الإسلامية ، فإن جميع المدارس السلطوية المستظلة بالديمقراطية تحاول التدرج في صياغة البلورة الاجتماعية ، آخذة بيدها نحو العلمانية الإباحية.
وبما أن المجتمعات الإسلامية تملك رصيداً دينيّاً من التمنّع الذاتي ، فإن وصول تلك المدارس عبر الديمقراطية إلى أهدافها سيستغرق زمناً طويلاً فيما يخص البلاد الإسلامية.(54/315)
لقد بيّنت سابقاً أن مالكي الحكم السلطوي ، سواء أكانوا حزباً ، أوطائفة ، أو قبيلة ، أو فئة سياسية ، أو طغمة عسكرية ديكتاتورية ، أو أي لون آخر غير إسلامي ، سيحاول كل منهم أن يصبغ العلاقات الاجتماعية بصبغته الخاصة ، وأن ذلك سيقود نحو شكل أو أشكال من الصراع الاجتماعي ، يحاول كل طرف من أطرافه أن يعزز فيه مواقعه من جهة ، وأن يحرز إلى صفّه مواقع جديدة من جهة أخرى ، مما سيؤدي بطبيعة الحال إلى الاحتكاكات الاجتماعية التي تأخذ أحياناً مسارات حادة.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن العلمانية الإباحية هي القاسم المشترك للبلورة الاجتماعية غير الإسلامية ، فإن الصراع المتوقع في العالم الإسلامي على المستوى الاجتماعي سيكون بين هذه الصبغة العلمانية والصبغة الإسلامية.
إن هذا الصراع سيشمل كافة المرافق الرسمية ، أي: مؤسسات الدولة ، كمجلس الأمة ، والوزارات ، وسائر المنتميات الحكومية ، ويشمل أيضاً: جميع الشرائح الشعبية على مختلف مواقعها الجغرافية والنوعية.
في المنظور الواقعي: فإن الإسلاميين النيابيين لن يشكلوا أغلبية في أي مجلس نيابي ، وإذا حصل ذلك مرة في مجلسٍ ما ، فلن يكون له طابع الديمومة والاستمرار ، وذلك بسبب وجهات نظر موضوعية تبرر هذه الوجهة.
وهذا يعني أن نتيجة الصراع في الساحة التشريعية على مستوى التقنين الاجتماعي محسومة سلفاً لصالح الوجهة العلمانية ، (ومثال ذلك في دولة الكويت مثلاً: فقد فشل الإسلاميون النيابيون في إقرار هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها سلطة حكومية ، تدعم عملها في إطار إرجاع مؤشر التوازن الاجتماعي إلى حالة الاستقرار وفق الشريعة الإسلامية).
وأما على الساحة الشعبية: فإن العلمانية الاجتماعية ستمارس جميع أنشطتها تحت مظلة قانونية صاغ بنودها الحكم السلطوي العلماني.
إن أبرز الانبثاقات الاجتماعية تحت تلك المظلة هي ما يلي:
1- السفور ومحاربة الحجاب.
2- الاختلاط في جميع المرافق الرسمية والشعبية ، في إطار غير منضبط ، وجو ينعدم فيه الاحتشام.
3- التفكك الأسري بسبب الطلاق ، الناشئ عن استحداث علاقات محرمة من جهة الرجال أو النساء على السواء ، أو بسبب انعتاق الأبناء من ضوابط المراقبة الأسرية ، مما يؤدي إلى إقامة اتصالات غير شرعية قد تصل إلى مرحلة الزنا ، ينشأ عنها جيل من الأولاد غير الشرعيين ، مما يجعل للإجهاض وجهاً ضاغطاً ذا تيار شعبي ، يبرر إيجاد غطاء قانوني له.
وهناك أسباب أخرى كثيرة.
4- فشو الجريمة ، التي يزداد أوار اضطرامها بسبب عدم الاحتكام لأحكام الحدود الشرعية.
5 - استفحال ظاهرة الانتحار بسبب حالة اليأس النفسي ، أو الاضطراب العاطفي.. أو غير ذلك.
6- إباحة الخمور،مع ما يتبع ذلك من سلبيات خطيرة على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع.
7- انتشار المرافق السياحية والترفيهية ذات الطابع الانفتاحي ، ويدخل في ذلك: النوادي السياحية ، والسواحل البحرية ، والسينمات ، والملاهي الليلية ، وقاعات عروض الأزياء أو ملكات الجمال ، وسوى ذلك.
8- المؤسسات الإعلامية ، من إذاعة وتلفزيون وصحافة ونشر ، وما يتخلل برامجها وصفحاتها من دعوات سافرة للتحلل الاجتماعي والفساد الأخلاقي.
9- سوء استخدام وسائل الاتصالات الحديثة ، حيث أصبحت معبراً سريعاً مُختصِراً للزمن والجهد ، يتم من خلالها ترتيب المواعيد المحرمة ، واستشعار الحالات الجنسية المتخيلة ، بما اصطلح على تسميته الزنا عبر الهاتف!!.
10- ازدياد الفقير فقراً والغني غنًى؛ بسبب جشع الأغنياء المسيطرين على المجالس النيابية ، حيث يستغلونها لصالح تشريع قوانين تدعم مصالحهم ، يرتكز أكثرها على استمرار ازدياد النزف المادي من جيوب أفراد الشعب على شكل ضرائب ، أو رسوم ، أو مجهود حربي.. أو ما شابه ذلك ، مما يعزز فشو الرشوة والمحسوبية وأمراض الجشع المالي.
وهناك انبثاقات اجتماعية أخرى سوى التي ذكرتها.
إن نوعية الحكم السلطوي لها أثر بالغ في تكريس كل ذلك ، أو الحد منه ، أو إلغائه ، وإنني أقول باطمئنان: إن الحد من ذلك أو إلغاءه لن يتم إلا عن طريق الحكم بالإسلام.
وبما أن الإسلام لن يتم الحكم به من خلال الديمقراطية ، وبما أن الإسلاميين النيابيين لا يزالون يشاركون في (اللعبة) الديمقراطية دون أي تأثير لهم يذكر في تصحيح المسار الاجتماعي: فإن جميع تلك الانبثاقات ستتوطد دعائمها وتستشري آثارها ، مما يعني أن البلورة الاجتماعية الناشئة من الحكم السلطوي القائم الآن في البلاد الإسلامية على أسس ديمقراطية هي بلورة علمانية ، سماتها الغالبة هي الفساد والخلاعة والبذاءة (أَجَلّكم الله).
وهكذا: يتبين لنا أن إشكالية البلورة الاجتماعية للديمقراطية من الزاوية العملية تمثلت فيما يلي:
ـ التفاوت الطبقي.
ـ التنوع الديني.
ـ التعدد التكويني.
ـ التباين الثقافي.
ـ الاستقطاب الحزبي النوعي.
ـ نوعية الحكم السلطوي.
وسنتكلم في الحلقات المقبلة ـ إن شاء الله ـ عن إشكالية البلورة الثقافية للديمقراطية ، ثم البلورة الاقتصادية للديمقراطية ، معقبين ذلك بالحديث عن إشكالية النتائج.
الهوامش :(54/316)
1) هذا بالنسبة للعالم الإسلامي ، وأما في الدول العربية : فالديمقراطية قديمة كما هو معلوم ، لكنها تخلفت عن الحكم لقرون طويلة.
===============(54/317)
(54/318)
إشكالية نتائج وإفرازات الديمقراطية (1)
مجلة البيان - (ج 118 / ص 92)
هموم ثقافية
إشكالية نتائج وإفرازات الديمقراطية
بقلم: سامي محمد الدلال
يحق لنا أن نقف موقف الانبهار عند شروعنا في الحديث عن إشكالية النتائج بشأن التعبير العملي عن الديمقراطية، حيث إن كل نتيجة منها هي إشكالية بحد ذاتها.
ونظراً لتزاحم إشكاليات النتائج فإني سأسوقها ضمن نقاط، ليس شرطاً أن تأخذ نمطاً منطقياً في تتابع ذكرها، كما أني أستميح القارئ عذراً في اضطراري أن أقتطع جزءاً نفيساً من وقته وهو يتابع هذه النتائج المهمة بتركيز شديد؛ فلنبدأ معاً:
1- اعتقد كثير من الإسلاميين ـ ولا يزالون يعتقدون ـ أن الديمقراطية ليست شيئاً يذكر في مجال التهيب والوجل، فهي ليست إلا مجرد مجلس نيابي يمكن لهم أن يحققوا من خلاله بعض المكاسب.
وقد تبين لنا خطأ هذا التصور وسطحيته؛ ذلك أن الديمقراطية، كما تبين لنا، تعني علمنة الدولة والمجتمع على كافة المستويات.
وبسبب التجذر العميق للمفاهيم الإسلامية في أمة المسلمين، فإن الانتقال بها إلى هاوية العلمنة يقتضي اجتثاث تلك الجذور من أصولها، ولما كان ذلك ليس سهلاً ولا هيناً، بل صعباً وشاقاً، بل هو في مرتبة الارتقاء نحو الاستحالة؛ خاضت العلمنة من خلال الطرح الديمقراطي صراعاً مريراً لتصل إلى تلك النتيجة، ولقد أظهرت تجليات الوقائع أن الديمقراطيين قد حققوا بعض النجاحات في هذا الاتجاه، لكنهم أيضاً أصيبوا ببعض الإخفاقات، إلا أن من أهم نجاحاتهم البارزة جداً هو تمكنهم من سحب كثير من قيادات الإسلاميين من مواقعهم المتحصنة بعقيدة الإسلام إلى ساحات الانكشاف الديمقراطي، فأصبحوا كمن لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع. وبعد أن نجح العلمانيون في ضم الإسلاميين النيابيين إلى صفوفهم الديمقراطية شرعوا في تعميق مؤثراتهم على المستوى الجماهيري التي تنأى بالمسلمين عن الحياة الإسلامية، لقد طرح العلمانيون الديمقراطية منهجاً للحياة يستوعب جميع مناحيها الفكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والفنية وغيرها؛ ولذلك فإنهم خاضوا الصراع، ولا يزالون في تلك المناحي جميعاً بقصد علمنتها فكرة وحركة. لقد نجح العلمانيون في استخدام وتوظيف كافة الوسائل والأساليب [من مثل: الإعلام، المناهج التربوية، الصيغ الاجتماعية، المؤسسات الاقتصادية (البنوك وغيرها)، الاستباحات الترفيهية] لتعميق المفهوم الديمقراطي في المناهج الحياتية للمسلمين.
ولقد كانت نتائج الصراع في هذا الاتجاه لصالحهم حتى الآن، إلا أن الإخفاقات التي واجهتهم هي فشلهم في استيعاب جميع المسلمين في تلك الأطر التي خاضوا الصراع ضمنها. إن تمسك كثير من المسلمين بالكتاب والسنة بمفهوم السلف الصالح جعل استيعابهم في المخطط العلماني الديمقراطي مستعصياً، وإن كان العلمانيون قد نجحوا في استمالة بعض الشخصيات السلفية نحو أفكارهم الديمقراطية إلا أن العبرة بجمهور المتمسكين بالكتاب والسنة وليس بآحادهم.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن سيطرة العلمانيين على الوسائل السالفة واستخدامهم الأساليب المختلفة لا يعني أنهم تمكنوا من الاختراق الشامل للمضامين الإسلامية المتراكمة في نفوس المسلمين عبر القرون الطويلة.
وهذا يعني أن صراع العلمانيين نحو علمنة المجتمعات الإسلامية عبر الجسر الديمقراطي سيستمر، وأن توظيف نتائج ذلك ـ ليصب في مكتسباتهم ـ سيتواصل.
2- لقد فطن العلمانيون إلى مربط الفرس في معمعة ذلك الصراع، واستقر في أذهانهم أن نجاحهم في تنفيذ مخططاتهم لا يمكن أن يتوالى ويستمر إلا إذا حصل على الدعم القانوني، إضافة إلى الإمكانات المادية والجموع البشرية؛ ولذلك فإن إيجاد مؤسسة تقوم عليها أركان الدولة وتحقق تلك الغاية بات أمراً ملحاً ومطلباً علمانياً مستعجلاً، إن من أهم مواصفات تلك المؤسسة أن يكون لتقنينها طابع قدسي وبرغبة جماهيرية. ولقد جاءت فكرة المجالس النيابية في الأنظمة الديمقراطية ملبية لتلك الأغراض مجتمعة، ثم إنها أخذت قدسيتها من التعاقب على تبنّيها في عالم غير المسلمين عبر القرون. وعندما أفلح العلمانيون في إقحام الديمقراطية على الدول الإسلامية التقطوا تلك البلورة وصاغوها في أطر مجالس نيابية هي طبق الأصل في فكرتها لتلك التي في الدول الغربية.
ورغم أن كثيراً من الدول الإسلامية خضعت إلى أنظمة حكم ديكتاتورية فإن تلك الأنظمة كانت ولا تزال ترى أن لها مصلحة عظمى في علمنة المجتمعات الإسلامية؛ ولذلك فإن بعضها فطن أو لقن أن تبنيه للديمقراطية يحقق له تلك المصلحة العظمى، وهي بقاؤه ممسكاً بالسلطة، فسارع إلى الأخذ بها. ولأجل أن تكتسب القوانين المشرعة من قبل المجالس النيابية قوة تنفيذية أوسعَ، وتأثيراً نفسياً أعمق كان لا بد من أن تستوعب تلك المجالس النيابية أكبر عدد ممكن من الشرائح الجماهيرية ذات التوجهات العلمانية، دون إغفال توريط بعض الإسلاميين في إقحامهم في ذلك المجهول لاتخاذهم دريئة تتترس بها، وعلى الجماهير ألا تحتج على أي قانون وإن خالف دينها؛ إذ إن ذلك القانون قد صدر من المجلس النيابي الذي يحضره ممثلوها!(54/319)
إن خلاصة ما ذكرناه في هذه النتيجة هو أن الفئات العلمانية نجحت في استخدام الديمقراطية في علمنة المجتمعات الإسلامية بالقانون وبدعم إسلامي!!
3- إن الديمقراطية تعني الانفتاح الفكري بغير حدود ولا قيود، وتعني أيضاً ممارسة الحرية المعبرة عن ذلك. إن الديمقراطية لدى معتنقيها هي فوق الأديان جميعاً، وإن للمجلس النيابي الكلمة الفصل في التحليل والتحريم وذلك بحسب ما يراه أعضاؤه من توجهات خاصة بهم أو بأحزابهم أو قبائلهم، إن الحرية الديمقراطية أطلقت العنان لكل صاحب عقيدة أن يدعو إلى عقيدته وإن كانت إلحادية بحتة، وإن كانت تحارب الله ورسوله جهاراً نهاراً، بدون قيد ولا شرط.
ولقد استغل العلمانيون مظلة الديمقراطية أيما استغلال، وراحوا يدعون من على منابرها المجلسية النيابية وأجهزتها الإعلامية المسموعة والمقروءة والمرئية إلى وأد الفضيلة ونشر الرذيلة بحماية قانونية ودعم من المواد الدستورية.
4- رغم أن الفئات العلمانية نجحت في استخدام الديمقراطية لعلمنة المجتمع الإسلامي، ورغم توقعنا استمرار جهود تلك الفئات، بل وتصعيدها، ورغم تحقيقها مكاسب شيطانية تتعلق بممارسة التحليل والتحريم وفق أهواء البشر؛ رغم كل ذلك فإن الديمقراطية لن تتمكن من مواصلة طريقها عبر المجتمع الإسلامي إلى نهايته؛ وذلك لأسباب، من أهمها:
ـ أن الإسلام بوصفه عقيدة، قد تجذرت آثاره العملية من خلال الممارسة في أعماق المجتمع الإسلامي عبر قرون طويلة.
ـ وأن الله (تعالى) قد تكفل بحفظ دينه؛ فلا يكاد يمر قرن من الزمان إلا وفي طيات سنيه جهابذة من العلماء المصلحين يقومون بدورهم في تجديد الدين.
ـ ولأن الجسد الإسلامي كالجسد الآدمي، فيه من المناعة الذاتية ما يقاوم به الفيروسات الوافدة، سواء كانت في أشكال عقدية أو فكرية أو حركية، ثم لا يلبث أن يلفظها أو يقضي عليها.
ـ ولأن كنوز التراث الإسلامي لم تندثر، بل لا تزال محفوظة في المكتبات العربية والإسلامية والأجنبية.
إن توفر تلك المقومات جميعاً، وغيرها التي لم أذكرها هنا، لهي كفيلة ـ إذا رجع المسلمون إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام ـ بأن تواصل حبل الحاضر بماضيه وتمده إلى مستقبله.
وبالتالي فإن الديمقراطية ستخفق في فك الارتباط بين المجتمع الإسلامي المعاصر وبين تاريخه، على كافة المستويات العقدية والثقافية والسلوكية، إذا توفرت المقومات التي نوّهت عنها، ومن أهمها ـ بعد الاستمساك بالكتاب والسنة ـ: بعث التراث الإسلامي من جديد.
5- إن النتيجة التي ذكرتها في (4)، تصطدم بمعوقات كثيرة؛ ذلك أن الجهود الحالية: المحلية والدولية، منصبّة على إقناع الجماهير الشعبية بأهمية الديمقراطية وأنها هي المخلص لتلك الجماهير من حالة التسلط الديكتاتوري، ومن حالة الجهل والفقر والمرض... إلخ. وإننا سنكون قد خدعنا أنفسنا إذا ادعينا أن العلمانية قد أخفقت في مشروعها الديمقراطي بهذا الخصوص.
ولقد وجدنا أن كثيراً من المنتسبين للإسلام يهاجمون الإسلام من منطلق الديمقراطية.
وبالتالي فإن الإسلام لا يتعرض حالياً لمحاولة إجهاض انبعاثه من قبل السلطات الحاكمة فحسب، بل من شرائح متعددة من الطبقات الشعبية، تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم.
وهكذا فإن الديمقراطية ساعدت على نقل الصراع ضد الإسلام من انفراد التصدي السلطوي إلى مزاوجة السند الشعبي لذلك التصدي، أي إن الإسلام في ظل الديمقراطية يفقد سواد معتنقيه.
6- وبناء على ذلك فإن الشعوب الإسلامية ـ في ظل الديمقراطية ـ ستبدأ في فقد هويتها المميزة. تلك الهوية المتمثلة في كونها شعوباً تدين لله (تعالى) بعقيدة التوحيد، وأن تلك العقيدة قد أضفت عليها لبوساً حضارياً منفرداً، تغلغلت آثاره في كافة مناحي حياتها، شاملة جميع مكوناتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
إن الديمقراطية، بطبيعتها العلمانية، لا تستطيع أن تقدم نموذجاً يضفي هوية مميزة على أي مجتمع يعتنقها عقيدة وتطبيقاً.
ولذلك فإن دورها في حياة المسلمين هو دور تهشيمي، يهشم مقوماتها الإسلامية ويحتّ أصالتها الانتمائية، وينتهي بها إلى فراغ اللاشيء!!
7- إضافة إلى ذلك، فقد تبين لنا أن الديمقراطية بما وفرته من الحرية غير المنضبطة بالإسلام قد أدت إلى التفتيت الأسري، ثم إلى التفكيك الاجتماعي.
ولقد لاحظنا أن الديمقراطية تتوحد مع الديكتاتورية في هذا الاتجاه.
وقد ترتب على ذلك أن فقد المجتمع الإسلامي مقوماً مهماً من مقوماته هو مقوم الوحدة والاندماج. إن بديل الوحدة الاجتماعية هو التضعضع والتخلخل، مما يؤدي إلى الضعف والوهن، ولذلك فإن حكومات الدول الديمقراطية والديكتاتورية، بعد أن شعرت أنها قد وصلت إلى هذه النتيجة، وهي توهين الشعوب وإضعاف إرادتها، لم تتردد في عقد معاهدات الصلح مع اليهود، في أجواء احتفالية وزخارف ابتهاجية ترفرف عليها أعلام الديمقراطية، إن إشكالية هذه النتيجة ذات طابع خطير؛ لأنها ستحمّل الأجيال المقبلة تبعات وتركات حالة الانهزام التي تمر بها الأجيال المعاصرة.(54/320)
8- لقد تعلقت آمال كثير من المسلمين بأحلام الرفاهية والطمأنينة والسلام والأمن إذا تمكنوا من حكم أنفسهم بأنفسهم في ظل نظام ديمقراطي؛ إلا أن تلك الآمال ذهبت أدراج الرياح بعد أن حكمتهم الديمقراطية بأنياب لا تقل حدة عن أنياب الطغاة الديكتاتوريين.
لقد سيق كثير من الإسلاميين إلى غياهب السجون، بل وعلقوا على أعواد المشانق، في ظل الحكام الديمقراطيين، فلم يشفع لهم مجلس الشعب.
إن كثيراً من الطغاة المتجبرين استغلوا مدة تربعهم على عرش السلطة ليفتكوا بالإسلاميين، ثم هم أنفسهم بعد ذلك يدعون إلى الانتخابات النيابية، وإقامة الحكومات الديمقراطية.
فليعلم الجميع بأن الإرهاب الديمقراطي لا يقل عن الإرهاب الديكتاتوري في بعض الحالات.
وقد أعجبني ـ بهذا الصدد ـ ما قاله الدكتور توفيق الواعي في مجلة (المجتمع) الكويتية عدد 1103، المؤرخ: 4 محرم 1415هـ الموافق 14 يونيو 1994م تحت عنوان (هل عاد زوار الفجر) إذ قال: (نعم عادوا، ولكنهم ليبراليون ديمقراطيون، ومصطلح زوار الفجر أطلق في العصر الحديث على عصابات الأنظمة البوليسية في العالم الثالث، وعلى الفرق المخابراتية في الأمم المتخلفة، التي كانت تطارد الأحرار والعناصر الفاعلة والنابهة في الأمة، تباغتهم ليلاً وتنزعهم من أحضان أسرهم ومن بين أطفالهم وذويهم، إلى حيث يغيبون في سجون، أو قل في قبور، بحيث لا يعرف عنهم طير ولا إنس ولاجان أي أثر، يلاقون من العذاب ما يشيب له الولدان وتضع له كل ذات حمل حملها، ثم تلفق لهم القضايا وتنتزع منهم الاعترافات..)، ثم ساق أبياتاً من قصيدة للدكتور يوسف القرضاوي يذكر فيها سوقه إلى السجن في ظل الحاكم الديكتاتوري الديمقراطي!! (عبد الناصر)، يقول فيها:
يا سائلي عن قصتي اسمع لها أمسك بقلبك أن يطير مفزعاً فالهول عات والحقائق مرة والخطب ليس بخطب أرض وحدها في ليلة ليلاء من نوفمبر فإذا كلاب الصيد تهجم بغتة فتخطفوني من ذويّ وأقبلوا وعُزلت عن بصر الحياة وسمعها ما كدت أدخل بابه حتى رأت في كل شبر للعذاب مناظر قصص من الأهوال ذات شجونِ وتول عن دنياك حتى حينِ تسمو على التصوير والتبيينِ بل خطب هذا المشرق المسكينِ فزعت من نومي لصوت رنينِ وتحوطني عن شمأل ويمينِ فرحاً بصيد للطغاة سمينِ وقُذفت في قفص العذاب الهونِ عيناي ما لم تحتسبه ظنوني يندى لها ـ والله ـ كل جبين
ثم قال الدكتور الواعي: (لهذا يلجأ بعض الفارين من مطاردة الشعوب إلى الاختباء وراء ديمقراطيات مزورة وحريات مغشوشة، علهم يفلتون، وما أظن ذلك يغني عنهم من عذاب الله من شيء، أو من المصير المحتوم، أو من هجمة الشعوب وانطلاقة الأمم، وقد يكون ذلك إلى حين..).
إن كثيراً من الديمقراطيات التي تحكم العالم الإسلامي إنْ هي إلا واجهات لحكم الطغاة. فالرأي هو رأي الحاكم، وعلى المجلس النيابي أن يبصم، بطريقة أو بأخرى!!
9- لقد وجد التجار وأصحاب رؤوس الأموال في الديمقراطية ضالتهم ليحكموا سيطرة رأس المال على رقاب الشعوب باسم الديمقراطية.
وقد جاءت النتائج الواقعية مدعمة لهذه الحقيقة، وهكذا تحولت المجالس النيابية إلى مواقع انطلاق دستورية لامتصاص عرق الكادحين وابتزاز جهود العاملين، وراحت المجالس النيابية تصدر القرارات تلو القرارات بزيادة الضرائب وفرض الرسوم ورفع أسعار الخدمات، كل ذلك لأجل مصلحة الشعب!!
كذبوا؛ ليس ذلك إلا لمصلحة جيوبهم التي أتخمها المال الحرام!
إن إشكالية هذه النتيجة تتجسد في رضوخ هذه الشعوب المنكسرة إلى هذا اللون من الجور الديمقراطي. أليست هي رضيت بالديمقراطية منهجاً وطريقاً؟
ولكن إلى متى؟
نعم، سيستمر هذا الواقع المهين إلى أن تدرك الشعوب المسلمة أن الحكم بالديمقراطية لا يزيد في إفلاسه عن الحكم باسم القومية العربية أو الاشتراكية العلمية ـ كما يسمونها زوراً وبهتاناً ـ أو البعثية أو... وعندها لا بد أن تتملل هذه الشعوب المسلمة، ثم تتحرك، ثم تندفع كالرياح العاتية لتقتلع الأصنام الحديثة المتدثّرة بالديمقراطية.
إن الديمقراطية في العالم الثالث هي أحد منابع الانفجار الاجتماعي المرتقب؛ ولكن هل ستعي هذه الشعوب المسلمة أن لا بديل عن الإسلام؟
نعم، إنها ستعي ذلك، ولكن بعد أن تدفع الثمن غالياً نتيجة سيرها ولهاثها خلف الشعارات الديمقراطية الزائفة.(54/321)
10- إن الناخبين يعلقون آمالاً كباراً على مرشحيهم لاعتقادهم بامتلاك أولئك المرشحين لعصا سحرية سرعان ما يلمع بريقها في ردهات البرلمان؛ فتحل بذلك جميع مشاكل الذين انتخبوهم وأوصلوهم إلى سدة المجلس العتيد؛ وبسبب استحواذ تلك الآمال الوضاءة على أفئدة الناخبين؛ فإنهم لا يبالون بما يبذلون من جهد ووقت ومال لدفع مرشحيهم إلى تلك المواقع المتقدمة، يفعلون ذلك وهم سادرون في أوهام الشعارات التي يرفعها المرشحون، ولكن ما إن يستتب الأمر، ويصل المرشح إلى كرسي المجلس حتى تبدأ آمال الناخبين بالتلاشي شيئاً فشيئاً بما يرون من عدم مبالاة المرشحين بقضاياهم الحقيقية وانشغالهم بالقضايا الذاتية. إن هذه السمة ليست من اختصاصات ديمقراطية العالم الثالث فحسب، بل هي من السمات الملصقة بالديمقراطية حيثما وجدت.
إن نائباً مثل (برنار تابي) وهو رئيس نادي ميلانو الإيطالي لا يبالي بقضايا فقراء إيطاليا؛ ذلك أنه منهمك في تثمير أمواله وتوجيه دفات قنواته التلفزيونية، ومثل ذلك يقال عن (سلفيو برلسكوني) الفرنسي الذي كوّن، بسبب قدرته المالية الفائقة، حزباً سياسياً خلال شهرين ليفوز بواسطته بالأغلبية الانتخابية ثم يتولى منصب وزير أول(1)، نعم لقد استفاد جداً من كونه رئيساً لنادي أوليمبيك مرسيليا، ولكن ماذا استفادت الجماهير التي انتخبته؟.
إنها تقوم بالمظاهرات احتجاجاً على الأداء السيئ لنواب الشعب المنهمكين في سباقهم مع الزمن لتحصيل مصالحهم قبل انقضاء مدة المجلس!!
إن إشكالية النتائج هنا تتعلق بخيبة الأمل التي تصيب الجماهير بالإحباط لأن الثقة التي أعطوها للنواب كانت كسراب بقيعة، مما أفقد الجماهير ثقتها بنفسها أيضاً، بسبب وضوح عدم وصولها مرحلة الرشد التي تؤهلها لاختيار من يمثلها تمثيلاً صحيحاً!!
الهوامش :
(1) صحيفة شؤون عربية 19/6/94، مقابلة مع محمد مواعدة.
=============(54/322)
(54/323)
إشكالية نتائج وإفرازات الديمقراطية (2)
مجلة البيان - (ج 119 / ص 96)
هموم ثقافية
إشكالية نتائج وإفرازات الديمقراطية
بقلم: د. سامي محمد الدلال
بيّن الكاتب في الحلقة السابقة خطأ التصور الذي مؤداه: (أن الديمقراطية ليست إلا مجرد مجلس نيابي يمكن تحقيق بعض المكاسب من خلاله، وأوضح أن الديمقراطية التي تعني علمنة الدولة والمجتمع هي الأسلوب المزيّن لولوج العلمانية إلى نخاع المجتمع وسريانها في جميع أوصاله، وفي هذه الحلقة بقية الموضوع.
- البيان -
11- الإشكالية المدهشة هي: أن النظام الديمقراطي الحاكم يسمي مظاهرات الاحتجاج الجماهيرية مؤامرة!! فعندما سأل الصحفيّ زعيمَ حزب التجمع في مصر خالد محيي الدين: لماذا اتهمك السادات بأنك من المسؤولين عن مظاهرات 18، 19 يناير 1977م؟ وهل كانت حقاً انتفاضة حرامية كما أسماها السادات؟
أجاب: السادات اتهم حزب التجمع؛ لأننا في المعركة الانتخابية سنة 1976م رفعنا شعارات رددها المتظاهرون في 18و 19 يناير.... وجد السادات أن الشعارات التي كنا نرددها في الانتخابات رددها المتظاهرون من الجنوب إلى الشمال، فقال السادات: هذه مؤامرة من حزب التجمع، وهذا غير صحيح.. وكانت الجماهير في المظاهرات تقول: (يا أنور بيه.. كيلو اللحمة بـ 2 جنيه) وسبب هذه المظاهرات أن الحكومة في ذلك الوقت منحت الجماهير الأمل في تخفيف العبء عليها، ولو عدنا إلى عناوين الجرائد السابقة للمظاهرات من 15 يوماً.... سنجد أن جرعة الأمل مرتفعة، وأن كل شيء سيتم إصلاحه، وفجأة صدرت قرارات صدمت الجماهير.
الصحفي: يعني لم تكن انتفاضة حرامية؟
خالد: لا، المحكمة حكمت بعكس ذلك، وقالت إن هذه المظاهرات ليست انتفاضة حرامية، وإنما هي شعبية، وأن الجماهير كانت معذورة، وأنهم خرجوا ليعبروا عن رأيهم...والخطأ خطأ الحكومة) ا. هـ (1).
نعم الخطأ خطأ الحكومة!
فأين كان المجلس؟!! إن النواب من عادتهم في حالة إخفاقهم في تحقيق رغبات الشعب أن يرموا القفاز في وجه الحكومة.
وفي كل الأحوال: أليست الحكومة جزءاً من مجلس الشعب؟
إن الجماهير الشعبية هي دائماً التي تدفع الثمن غالياً. إن سكتت على ضيم، وإن احتجت قال النظام: إنها مؤامرة وإن الشعب حرامية!!
حقاً إنها مفارقة تدعو إلى التأمل.
12- في ساحة إشكاليات النتائج، لنا وقفة مع بعض آراء محمد مواعدة رئيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين التونسية، ووقفتنا معه ستكون في أربع محطات:
* قال مواعدة: (أعتبر أن الفكر الديمقراطي الغربي يجتاز أزمة لا تقل خطورتها عن الأزمة التي شهدها الفكر الماركسي وأدت إلى انهياره. وأعتبر أن الفكر الاشتراكي والديمقراطي يخضعان لمنهج سلفي حيث يجري تمثّل مقولات اشتراكية أو ديمقراطية أنتجت في بداية القرن على واقع مختلف في نهاية القرن. وهي إشكالية يقرها اليوم الفلاسفة والمفكرون الغربيون الذين أتابع يومياً مؤلفاتهم الجديدة) أ. هـ (2).
نعم لا أشك أن الفكر الديمقراطي الغربي يمر في أزمة، شأنه شأن الفكر الماركسي والفكر الوجودي؛ ذلك أن جميع هذه الأفكار هي من صنع البشر ووضعهم.
إن تطور وتنوع الطروحات البشرية للمناهج الحياتية، سواء ما كان منها عقدياً أو سلوكياً، يدل على استمرار حالة القصور؛ إذ إن كل طرح جديد يدل على قصور ما قبله، وهكذا.
إن جميع المناهج البشرية ستبقى عاجزة عن طرح فهم عقدي له طابع الديمومة والثبات. وبما أن الديمقراطية واحدة من تلك المناهج البشرية فهي تخضع حكماً للمعادلة المذكورة نفسها، وخلاصتها: أن إسقاط معنى الديمقراطية يتغير من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، إنها مثل لإشكالية العجز البشري.
* قال مواعدة: (وإضافة للمعطيات المميزة للمرحلة، تعتبر خصوصيات مجتمعنا العربي الإسلامي وشخصيته المتميزة ـ بإيجابياتها وسلبياتها ككل المجتمعات ـ منطلقاً يتوجب أخذه بعين الاعتبار؛ وهو معطى أكدته التجارب والتطورات التاريخية التي شهدها العالم؛ حيث لم تعد هنالك نمطية عالمية للنموذج الاشتراكي ولا للنموذج الديمقراطي. وتأكد أن لكل مجموعة حضارية خصوصياتها وتاريخها وتراكماتها، إذن لها تجربتها الديمقراطية الذاتية) أ هـ(3).
لقد اعتبر مواعدة النموذج الاشتراكي وكذلك الديمقراطي كأنه حتم لازم للمجتمعات لا انفكاك لها منه. وعلى هذا الأساس فلكل مجموعة حضارية تجربتها الديمقراطية الذاتية.
إن تجاهل مواعدة للإسلام ودوره القيادي الريادي على مدى أربعة عشر قرناً خلت مثير للاستغراب حقاً!
فمعلوم أن الأمة الإسلامية خلال تلك القرون لم تعش التجربة الديمقراطية التي يتحدث عنها مواعدة، بل عاشت في ظل الإسلام الوارف، تعبّ من معينه بحسب حال قوتها وضعفها. أما التجارب الديمقراطية فإنها لم تتسلل إلى الأمة الإسلامية إلا خلال هذا القرن، فأحدثت فيه فجوة لا تزال تتسع.
إن هذه الفجوة الديمقراطية لا تزال تحدث تآكلاتها في المجموعة الحضارية الإسلامية على حساب خصوصياتها وتاريخها وتراكماتها وتوسعاتها.(54/324)
إن الأمة الإسلامية ليست بحاجة إلى النمطية الاشتراكية أو النمطية الديمقراطية؛ وذلك لانتمائها إلى الصبغة الربانية، فهي الوحيدة التي تمتلك نمطية الصياغة العالمية لمجموع البشرية على اختلاف خصائصهم الذاتية أو المكتسبة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
* قال مواعدة: (يعتبر مثال رواندا نموذجياً ـ في الاتجاه السلبي ـ بالنسبة للتجارب الديمقراطية في إفريقيا، فقد كانت تحكم رواندا قبيلة أقلية، هي قبيلة ـ التوتسي، وعندما طبق النظام الديمقراطي التعددي بشكل طبيعي فازت الأغلبية في الانتخابات، وهي قبيلة ـ الهوتو ـ التي انبثق منها الرئيس الجديد. وانطلاقاً من الشرعية الانتخابية التي حصل عليها حاول إجراء عدة تغيرات في أجهزة الدولة، لكنه سرعان ما اصطدم بنفوذ القبيلة الحاكمة في الأجهزة العسكرية والأمنية والحرس الجمهوري ومصالح القبيلة المتداخلة مع مؤسسات الدولة؛ وأدى ذلك إلى تعقيدات ومواجهات، فوقعت الكوارث والحرب الأهلية، واغتيل الرئيس نفسه، ودخلت البلاد في متاهات) ا. هـ(4).
إن الذي ذكره (مواعدة) هنا يؤكد ما ذكرته عند الحديث عن إشكالية القبيلة في الحكم الديمقراطي؛ وهي مجرد واحدة من إشكاليات عديدة، وليس شرطاً أن تتكرر الإشكالية نفسها في جميع أنماط الحكومات الديمقراطية؛ فربما كانت لكل ديمقراطية واحدة أو أكثر من الإشكاليات التي سبق أن ذكرتها. ولكن ما يهمنا الإشارة إليه هنا، بل التأكيد عليه:
أن إشكالية النتائج في حالة رواندا تجسدت بأبشع أنواع الاقتتال الأهلي بسبب إشكالية واحدة من إشكاليات الديمقراطية.
* قال مواعدة: (ومن سوء الحظ أن الوضع في الجزائر وصل إلى مأساة عنف دموي يومي بين مجموعات مسلحة تعتمد العنف للاستيلاء على السلطة، وبين سلطة مركزية تسعى وتحاول تجنيب البلاد العنف القائم، ولا شك أن الرئيس زروال، وهو شخصية محترمة ونظيفة ومناضل معروف، سيسعى إلى حل الأزمة بالأسلوب السياسي والحوار. وأعتقد أن موضوع التعامل مع التطرف لا ينبغي أن يكون بالحلول الأمنية فقط؛ لأن ظاهرة التطرف ذات طبيعة مجتمعية شمولية، ولهذا تطرح المعالجة الشمولية كحل، مع ضرورة الاعتراف بأن استتباب الأمن مسألة جوهرية..) ا. هـ(5).
لا أدري لماذا تجاهل مواعدة الأسباب التي أدت إلى الاصطدام الدموي في الجزائر!
لا شك أن ذلك الاصطدام المروّع الذي يحدث في ذلك البلد المسلم ما هو إلا إفراز من إفرازات الاحتكام إلى الديمقراطية.
ذلك أن إشكالية الديمقراطية لا تتعلق بحقيقة التعبير عن رأي الأغلبية، بل تتعلق بحقيقة إحكام الطوق بواسطة النخبة، أو الملأ إن شئت، حول رقاب الذين ينادون بالعودة إلى الاستظلال بحكم الإسلام.
وعندما تجاهلت جبهة الإنقاذ المَعْلَمَ الإسلامي المميز، ورضيت بالتنزل عنه لصالح الديمقراطية، لم يرض الديمقراطيون العلمانيون ذلك منها؛ لأن صهوة الديمقراطية مخصصة لراكب واحد؛ وهو الراكب العلماني فقط! فعندما اجتاحت جبهة الإنقاذ المراكز الانتخابية، وشكلت فوزاً ساحقاً في الانتخابات الأولى، كان واضحاً أن صهوة الجواد الديمقراطي ستكون مخصصة لها. وهذا خلاف الهدف المطروح أصلاً، وهو استغلال الديمقراطية لاحتواء الإسلاميين؛ فوقعت الكارثة!!.
ليست الإشكالية هي تسمية تلك الكارثة بالتطرف، ولكن الإشكالية هي أن المنادين بالديمقراطية يستخدمونها في اتجاه واحد، وهو تحقيق أهدافهم فقط، فإذا فاز الإسلاميون بأغلبية مقاعد المجلس النيابي من خلال انتخابات حرة، تنكّب المنادون بالديمقراطية لمبدئهم الديمقراطي وأطاحوا بصرحه وإن أدى ذلك إلى سفك الدماء وتعليق المشانق.
إن الإشكالية الأدهى من ذلك أن الإسلاميين النيابيين لم يفهموا اللعبة بعدُ!
13- إن جميع الشعارات الأرضية تُرفع عالياً باسم الشعوب، تحت دعوى توفير أسباب السعادة الإنسانية، سواء كانت تلك السعادة متعلقة بآفاق الانفتاح العقلي أو آفاق الانبساط المادي. ولا شك أن الشعار الديمقراطي يأتي في مقدمة تلك الشعارات المرفوعة، وخاصة بعد انهيار الشيوعية وتداعي بنيانها.
إن الديمقراطية تُطرح الآن في المزاد الدولي باعتبارها المفتاح السحري لكنوز الرفاهية البشرية.
إلا أن الواقع خلاف ذلك؛ حيث إن الجريمة والفقر لا يزالان يعششان في أعرق الدول الديمقراطية كبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة.
إن السعادة بمفهمومها المادي لم يستمتع بها في الإطار الديمقراطي سوى الملأ وحاشيته.
وعند الاستقراء المحايد والنزيه نجد أن واحدة من إشكاليات الديمقراطية، باعتبارها نتيجة واقعية وقائمة، هي إخفاقها في توفير أسباب السعادة للإنسانية على المستويين الروحي والمادي.(54/325)
14- في الوقت الذي تدعي فيه الدول الرائدة للديمقراطية أنها حاملة لواء العدالة وممتشقة حسام الحرية وداعية حقوق الإنسان، فإنها هي نفسها، وليس غيرها، التي تمارس أبشع أنواع القهر والقتل والبطش بالمسلمين في مواقع كثيرة من العالم، بل تمارس ذلك على شعوبها أيضاً. إن الدول الديمقراطية الغربية لا تزال تقود حملات الإبادة ضد الشعوب المسلمة، إما بإذكاء المؤامرات الداخلية التي تؤدي إلى الفتن والاقتتال، كأفغانستان، أو بإثارة الحروب فيما بينها، كالكويت والعراق وإيران، أو بتأييد ومساعدة من يباشر التصفية الجسدية للمسلمين، سواء من خلال دعم الأنظمة الحاكمة بالعلمانية، أو من خلال دعم الدول والفئات التي تمارس ذلك على مستوى الشعوب، كدعم الصرب في تصفية المسلمين في البوسنة والهرسك، وكدعم روسيا في سحق المسلمين الشيشان.
إن الإشكالية المطروحة هنا هي: أن الديمقراطية ما هي إلا غلاف لوعاء مملوء بالزيف والظلم والاستعباد وانتهاك حقوق الإنسان.
15- إن واحدة من أهم النتائج التي توصلنا إليها هي أن النظام الحاكم ـ الملأـ هو الذي يقرر مصلحته من مشاركة الإسلاميين في لعبته الديمقراطية ـ كالأردن والكويت ومصر ـ أو عدم مشاركتهم ـ كسوريا وتونس ـ أو تصفية الوضع الديمقراطي كلية إذا حاز الإسلاميون على الأغلبية ـ كالجزائر.
وهذا يعني أن الديمقراطية هي ورقة في يد النظام الحاكم ـ يلوّح بها كالطعام الذي يدلى به إلى السمك، ما إن يراه حتى ينقضّ عليه يحسبه غذاء وما هو إلا مقتله.
إن الإشكالية هنا أن الإسلاميين في ظل الأنظمة الديمقراطية لا يملكون زمام المبادرة في أي شيء، بما في ذلك استمرار الديمقراطية التي اختاروا لأنفسهم أن يكونوا جزءاً منها.
16- لقد حظيت الديمقراطية بدعم واسع النطاق من قِبَلِ دول الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، حتى أصبح شعار الديمقراطية من أبرز الشعارات المرفوعة على المستوى العالمي، وأصبح مطلب تطبيق الديمقراطية في العالم الثالث بالذات مطلباً ملحاً على المستوى الأممي، وراحت أبواق الأمم المتحدة تردد هتافات الديمقراطية وتنادي بتبنيها كنظام حاكم في جميع دول العالم.
فما هو السر في كل ذلك؟! وهل دول النصارى ومن ورائهم اليهود حريصون على الإطاحة بالحكام الديكتاتوريين الذين صنعوهم على أيديهم؟
إن المتمعن في سير تصاعد الصحوة الإسلامية في مختلف دول العالم الإسلامي يمكنه أن يرى بوضوح أن الجماهير الإسلامية ستصل إلى مرحلة المواجهة الشاملة مع تلك الأنظمة الطاغوتية التي تحكمها بغير ما أنزل الله. ولقد أوضحت صفحات التاريخ أن إرادة الشعوب لا تستطيع الأنظمة الحاكمة قهرها إلى الأبد؛ وهذا يعني من خلال المنظور المستقبلي أن جماهير الصحوة الإسلامية تغذّ السير نحو استلام دفات السلطة في بلادها لترفع راية الإسلام خفاقة فوق روابيها. وهذا ما لا يرضي النصارى ولا اليهود؛ إذ إن الخطوة التي تليها ـ وهي تحرير فلسطين وطرد اليهود منها وإرجاعها إلى جنة التوحيد ـ ستكون خطوة حتمية.
ومن هناك برز السؤال المهم، وهو: كيف يمكن أن تلتف قوى اليهود والنصارى على توجهات الصحوة الإسلامية لتحيد بها عن السير نحو تلك الغاية؟
إن الديمقراطية هي الحل!!
حيث إنها ستتيح الفرصة لمشاركة كافة الفئات في الحكم، سواء كانت إسلامية أو قومية (سواء كانوا من المسلمين أو اليهود أو النصارى أو غيرهم من كافة الأديان والأعراق والأجناس).
إن ذلك سيحقق نتيجتين هامتين:
الأولى: ألا ينفرد الإسلاميون بالسلطة.
الثانية: أن تتاح الفرصة تحت علم الديمقراطية لنشر الفساد والإلحاد(6).
إن إشكالية النتيجة في هذه الحالة تتعلق بعدم إدراك الإسلاميين لطبيعة هذا المخطط والنتائج الخطيرة المترتبة عليه.
17- لقد نجح اليهود والنصارى في جعل الإسلاميين يتبنون الدعوة إلى الديمقراطية بحرارة واندفاع لافِتَيْن للنظر.
ولقد شهدت الساحة الإسلامية مدّاً لبساط المناداة بالديمقراطية، يقابله انحسار في الدعوة إلى تبني الإسلام؛ وراح الخطاب الدعوي الإسلامي لدى كثير من الحركات الإسلامية يلهث وراء هذا السراب اللامع الخادع.
ولقد زيّن الشيطان لكثير من المسلمين زخرف الديمقراطية، وأوهمهم أن دعوتهم للديمقراطية لا تتعارض مع دعوتهم إلى الإسلام، ومن هنا، انبرى كثير من الإسلاميين للمشاركة في اللعبة الديمقراطية مدعين أنها الطريق الأمثل والأفضل والأحسن، وعند بعضهم الطريق الوحيد، للوصول إلى الحكم بالإسلام، وأن الإسلام لا يمكن تطبيقه إلا من خلال المجالس النيابية المنتخبة بإدارة شعبية، بزعمهم!!
وهكذا راح الإسلاميون ينفقون أموالهم بسخاء عجيب لدعم حملاتهم الانتخابية، موظِّفين شعارات الإسلام وتطبيقه في خدمة مأرب وصولهم إلى كراسي المجلس العتيد، وقد تكشفت النتائج عن أمور مخزية!!
إن الإشكالية هنا تتلخص في أن كثيراً من الإسلاميين استنفروا جهودهم وأموالهم تحت شعار: (لا وصول للإسلام إلا عن طريق الديمقراطية)!!(54/326)
18- إن الإشكالية السابقة أفقدت كثيراً من الإسلاميين تحسس المفهوم الشرعي للولاء والبراء، بما أثر على موقفهم من الأنظمة التي لا تحكم بما أنزل الله.
وقد حاول كثير من الإسلاميين المجلسيين بعد أن أصبحوا نواباً أن يحافظوا على سمت مميز خاص بهم، محاولين بكل جهودهم أن يتمنّعوا، ويستعصوا على المناورات الحكومية التي تريد توظيفهم في تنفيذ مخططاتها. ولكن للأسف لم يصمد كثير منهم في قلعة ذلك التمنّع، فاستطاعت الحكومات بأساليبها الشيطانية أن تطوّعهم، عبر وسائل الإغراء والتحذير، لصالح مآربها. وشيئاً فشيئاً فَقَدَ عدد من النواب الإسلاميين تميزهم وصاروا جزءاً لا يتجزأ من توجهات الحكومة التي لا تحكم بما أنزل الله. وقد سعى عددٌ من الحكومات إلى اختيار بعض وزرائها من الإسلاميين المنتخبين نيابياً؛ وما إن دخلوا الحكومة حتى أصبحوا بوقاً من أبواقها، خلافاً لحالهم قبل دخولها، والأشد إيلاماً من ذلك أنهم أعطوا أصواتهم النيابية ضد بعض المشاريع الإسلامية التي عرضت على تلك المجالس، محادّين في موقفهم ذلك لله ورسوله وللمؤمنين، وموافقين للطاغوت والشيطان والهوى؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن إشكالية النتيجة في هذه الحالة هي فَقْدُ الإسلاميين النيابيين لمعالم الولاء والبراء، وهم مستبشرون!!
19- لا شك أن الإشكالية السابقة لم تحظ بمباركة وتأييد كثير من الإسلاميين، وقد أدى ذلك إلى انشقاق بين الإسلاميين أنفسهم، بين الموافقين وبين الرافضين.
وكذلك لم يسلم معسكر الموافقين من الانشقاق؛ ذلك أن الإسلاميين الموافقين على المشاركة في المصيبة الديمقراطية ينتمون إلى أحزاب إسلامية مختلفة ترفع شعارات شتى. وهكذا راح الإسلاميون يشهّرون ببعضهم على الملأ خدمة لمصالحهم الذاتية أو مصالح الأحزاب والجماعات التي ينتمون إليها، غير عابئين بما يعود من ذلك من خسائر فادحة على سير العمل الإسلامي وانبثاق دعوته المباركة.
وانشقاق آخر دوماً يأخذ مجراه بين الإسلاميين الذين تنجح الحكومة في ضمهم إلى صفوفها كوزراء؛ وبين الإسلاميين الذين وقف حظهم العاثر (حسب زعمهم) عند حدود وصولهم كراسي المجلس ولم يتجاوزوه إلى كراسي الوزراة!!
وانشقاق آخر يخط طريقه بعنف وشدة يحدث بين القبائل والعشائر والعوائل التي ينتمي إليها أولئك الإسلاميون النيابيون المختلفون، تعصباً لنوابهم، لا يغذيه إلا الانتماء مجرد الانتماء لتلك القبائل والعشائر والعوائل.
وهكذا تتعدد الانشقاقات وتتنوع الاختلافات، التي لا تعود على العمل الإسلامي إلا بالضعف والتشتت والانكسار.
تلك هي إشكالية هذه النتيجة الخطيرة.
20- ومن الغرائب حقاً، أن أولئك الإسلاميين النيابيين المختلفين فيما بينهم، لم يقفوا من خصومهم العلمانيين كموقفهم من بعضهم البعض.
ففي الوقت الذي راح أولئك الإسلاميون النيابيون يقطعون جسور الوصال فيما بينهم، فإنهم راحوا في ذات الوقت يبنون تلك الجسور مع العلمانيين بشتى راياتهم ومختلف شعاراتهم.
إنها مفارقة عجيبة حقاً.
ولقد شهدت الساحات الانتخابية قيام تحالفات مثيرة للاستغراب بين جماعات إسلامية تنادي بالإسلام وأحزاب أرضية تحارب الإسلام جهاراً نهاراً؛ بل أكثر من ذلك قد حصل؛ حيث وافقت بعض الأحزاب الإسلامية أن تنزل إلى الساحات الانتخابية مستظلة بمظلات الأحزاب العلمانية، كمظلة حزب الوفد المصري العلماني. ولتسويغ ذلك فإن بعض الشخصيات الإسلامية راحت تنفي بكل ما أوتيت من قوة البيان صبغة العلمانية عن تلك الأحزاب(7).
إن إشكالية النتيجة هنا تتقرر في أن الإسلاميين النيابيين أقاموا جسور الود والوصال مع العلمانيين خدمة للديمقراطية، ونحروا علاقات بعضهم ببعض على مذبحها.
21- ومن ذلك يتبين لنا ما يمكن أن تجنيه التوجهات الديمقراطية من التمكين والتوطد، مشيدة ذلك على قاعدة متينة، من تأييد الإسلاميين النيابيين؛ ذلك أن توطيد دعائم الديمقراطية له روافد شتى، منها ما ذكرته في الإشكالية السابقة، ومنها ما هو نتاج التزاوج الفكري بين الطرح الإسلامي والطرح العلماني. إن هذا التزاوج ـ وهو ما تدعمه جميع المؤسسات النصرانية واليهودية ـ سيقود التيار الإسلامي النيابي في نهاية المطاف إلى التبني الكامل لحماية ما يطرحه العلمانيون؛ لأن جميع ذلك لا حرج فيه ولا تثريب عليه، طالماً تم تحت راية الديمقراطية التي وافق الجميع من الإسلاميين وعلمانيين أن يستظلوا بها.
بل إن العلمانيين قد أصبح لهم من المسوّغات والحجج القوية ما يردون بها على الإسلاميين النيابيين إذا اعترضوا أو تأففوا من بعض نتائج التصويت التي تتم تحت مظلة المجلس النيابي في غير صالح الإسلام، أو إذا استاؤوا من بعض ما يكتبه العلمانيون في الصحف والمجلات ساخرين من الإسلام ودعاته..
إنهم سيقولون لهم ببساطة: هذه هي الديمقراطية... إنها تعني حرية الرأي وهذا رأينا، ولا حق لكم في الاحتجاج عليه طالما أنتم رضيتم بالديمقراطية، وطالما أننا لم نخرج عن حدودها.(54/327)
وهكذا فإن علمنة المجتمع أصبحت مسوغة؛ لأنها لم تتم بواسطة انفراد العلمانيين بالسلطة، بل تمت بمشاركة الإسلاميين فيها، سواء على مستوى المجلس النيابي أو على مستوى الحكومة.
إنها إشكالية مزدوجة، إشكالية حرية نشر الفكر العلماني، وإشكالية علمنة المجتمع بمشاركة الإسلاميين!
22- لقد طمع كثير من الإسلاميين في تطويع الديمقراطية لصالح العمل الإسلامي، ولقد أخفقوا في ذلك أيما إخفاق. ونحن نعتبر أن هذا الإخفاق كان طبيعياً ومتسايراً مع السنن الربانية، فقد قضى الله في سنته أن نصره للمؤمنين مرتبط بنصرهم لدينه على الوجه الذي أنزله في كتابه وبينه رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: ((إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) [محمد: 7] ولما كانت الديمقراطية مضادة للإسلام ومخالفة لعقيدته وشريعته، فإنه من الجهل البيّن أن تتخذ وسيلة وطريقة لنشره ونصره.
إن إشكالية النتيجة هنا تتوضح في عدم تبين الإسلاميين النيابيين لهذه الحقيقة الناصعة التي دُونَها ضياء الشمس.
إن عدم التبين هذا، هو الذي جعل بعض الكتاب الدعاة من الإسلاميين المعروفين والمشهورين يعمدون إلى كتابة مقالات وكتيبات يسوّغون فيها مشاركة الإسلاميين في المجالس النيابية والحصول على حقائب وزارية!
وإنني أدعو هؤلاء الدعاة إلى قراءة هذه الكلمات بإمعان وتفحّص متجردين في ذلك من أحكامهم المسبقة غير المؤسسة على أدلة يعتد بها ويعتبر.
إن إشكالية النتائج، كما ذكرتها جديرة بالدراسة والاعتبار من قِبَلِ جميع الإسلاميين المنساقين في دهاليز الديمقراطية المظلمة.
23- إن سقوط كثير من الإسلاميين في هوة الديمقراطية السحيقة قد أطاح بالمشروع الحضاري الإسلامي الذي ينبغي بناؤه على أنقاض المشروع الحضاري الغربي الذي نجح أيما نجاح في التغلغل داخل حصوننا في كافة المجالات الحياتية بأنماطها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها؛ هذا فضلاً عن حالات التصدع والتشويه التي أحدثها في الجدر العقدية للأمة الإسلامية.
إن انجراف الإسلاميين وراء سراب الديمقراطية قد بدد الآمال في بلورة أوضاع إسلامية صحيحة حاكمة وغالبة، وإن تجدد تلك الآمال مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعودة الصادقة لهذه الأمة إلى الكتاب والسنة وفق فهم السلف الصالح، ذلك الفهم الذي جمع بين العلم والعمل.
إن أمتنا الإسلامية بحاجة ماسة إلى تأطير توجهاتها الدعوية بأطر مؤسسية تأخذ بأسباب العصر المتفقة مع عقيدتها والتي تختط طريقها وفق مسالك متميزة مصطبغة بصبغة الله تعالى، لا بصبغة المناهج والآراء والأساليب المستوردة كالديمقراطية وأشباهها. إن إشكالية النتيجة هنا مجسدة في المعاول الديمقراطية التي تهدم المشروع الحضاري الإسلامي خطاباً وحركة.
وأخيراً: فإن إشكالية النتائج كما ذكرتها، وهي ثلاث وعشرون إشكالية جديرة بالدراسة والاعتبار من قِبَلِ جميع الإسلاميين المنساقين في أنفاق الديمقراطية المظلمة.
الهوامش :
(1) صحيفة (الوطن) الكويتية 28/2/94.
(2) صحيفة (شؤون عربية) 16/9/94.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر السابق.
(5) المصدر السابق.
(6) لقد فصلت هذه النقطة في كتابي (الانهيار) ـ الجزء الأول ـ فليرجع إليه.
(7) راجع كتاب (الإسلاميون وسراب الديمقراطية) للأستاذ عبد الغني الرحال.
===============(54/328)
(54/329)
مخالب الديمقراطية
مجلة البيان - (ج 121 / ص 1)
كلمة صغيرة
مخالب الديمقراطية
كثيراً ما يدعو علمانيو عصرنا في عالمنا العربي والإسلامي إلى المنهج الديمقراطي بدعوى أنه وسيلة مثلى لتمثيل الشعوب في المجالس النيابية، ولمواجهة الحكومات بأساليب حضارية، ومن ثَمّ فرض آرائهم بالأسلوب نفسه، وقد ثبت أن ذلك (قبض الريح).
غير أن أدعياء الديمقراطية في عالمنا الثالث عموماً ممن تمسكوا بالسلطة لا يمكن بحال من الأحوال أن يسمحوا للرأي الآخر الذي يناقضهم في المبادئ ويخالفهم في المنطلقات.
ولذا نجدهم كثيراً ما يحرصون على تقزيم ذوي الرأي المغاير والتهوين من شأنهم، بل يعملون جاهدين على حرق أوراقهم تماماً: سواء بتشريع منعهم من المشاركة الديمقراطية بدعاوى سخيفة، أو بالتلاعب بصناديق الاقتراع من قِبَلِ السلطات المشرفة على العملية الانتخابية التي لا تستحيي عادة من إعطاء الحزب الحاكم نسبة الأصوات المطلقة والكافية مما يجعل البقية الباقية أقليات هزيلة تسهم في رسم الصورة الديمقراطية ليس إلا.
والموقف العلماني في تركيا حيال (حزب الرفاه) شاهد عيان على زيف ديمقراطية العلمانيين؛ ففي الوقت الذي نال فيه الحزب الأغلبية؛ أصرت الأيادي الخفية على تنحية الحزب من الوزارة، وها هم المتسلطون بأمرهم يحاكمونه بشتى الدعاوي لإسقاط الاتجاه الإسلامي وإلغائه كما تشير كثير من المعطيات.
والعجيب أن يستمر هذا النهج بمباركة الغرب الذي كثيراً ما يتدخل في شؤون الدول الأخرى ويعاقبها بدعوى الخروج على النهج الديمقراطي.
هؤلاء هم ديمقراطيونا الذين يدوسون الديمقراطية باسم الديمقراطية في سبيل بقاء سلطاتهم.
=============(54/330)
(54/331)
أسلمة الديمقراطية .. حقيقة أم وهم ؟ (1/2)
24-6-2006
بقلم محمد بن شاكر الشريف
"...فالديمقراطية وإن كانت قد انطلقت من نقطة أن الحكم للشعب لكنها انتهت واقعا وفعلا لحكم الأقلية، الأقلية الغنية المثقفة المنظمة التي استطاعت أن تحول القضية لصالحها فيما يطلق عليه حكم النخبة ..."
عقيب الانهيار المدوي للاتحاد السوفييتي وسقوط دولته، كان هذا إعلانا بغياب القوة الرئيسة المنافسة لليبرالية الغربية، وكان في الوقت نفسه إعلانا بانتصار الليبرالية الغربية وتربعها على القمة العالمية، ومن تلك اللحظات بدأت الدعوة إلى الديمقراطية على أنها السند الشرعي لأي نظام تقوى وتنتشر، على أساس أن مرحلة الديمقراطية تمثل أفضل نظام سياسي يمكن أن تتوصل إليه البشرية، وأن التاريخ قد توقف عند هذا الحد فيما يعرف بـ"نهاية التاريخ" (كما يذكر فوكوياما) .
من هنا بدأت أغلبية الدول تسارع إلى هذا الخيار لعدم قدرتها على مناوأة الدولة العظمى المتسيدة للنظام العالمي الجديد والداعية إلى تغليب نظرتها الديمقراطية، وذلك في الوقت الذي فقدت فيه تلك الدول الحماية التي كانت تتمتع بها من الاتحاد السوفييتي الزائل، ويظن كثير من الناس أن دعوة أمريكا إلى تبني النموذج الديمقراطي وفرضه على العرب والمسلمين كان نتيجة مباشرة لما اشتهر بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد أظهرت أمريكا بعد هذا الحدث رغبة عارمة في نشر الديمقراطية في بلاد العرب والمسلمين على أنها العلاج الأكيد والناجع - من جهة مصلحتها - لهمجية العرب والمسلمين - بزعمها - .
فوجئت أمريكا في تلك الأحداث بهجمات عنيفة دامية، حيث هوجمت قلاعها الاقتصادية والعسكرية ، مما دعاها لإعلان حربها العالمية على الإرهاب، والتي كان منها الدعوة لنشر الديمقراطية حسب ما جاء في مشروع الشرق الأوسط الكبير وتبنيها لدعاوى الإصلاح، وقد فرح بذلك الكثير من الإسلاميين ورأوا فيها الفرصة الكاملة للوصول إلى الحكم لتنفيذ مشروعهم السياسي، على أساس أن نشر الديمقراطية صار مطلبا أمريكيا يخدم مصلحة أمنها القومي ولذلك فهي تدعم ذلك التوجه وتعززه، وبذلك زاد زخم الحديث عن الديمقراطية، وعن توافقها مع الإسلام، وأن الإسلام قد سبق الديمقراطية وقرر أهم خصائصها، وإذا كان هذا الحديث ليس بالجديد كلية إلا أن زخمه قد زاد بعد الحملة الأمريكية ووجد له أنصارا كثيرين .
موقف بعض الإسلاميين من الديمقراطية :
الطور الأول من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) يزعم أن جوهر الديمقراطية موجود في الإسلام، وأن الإسلام قد سبق بما أتت به الديمقراطية، أو أنه يمكن أن تتوافق الديمقراطية مع الإسلام، وأن ما يُرى بينهما من اختلاف من الممكن إزالته، يقول خالد محمد خالد بعدما ادعى أنه يوجد لحكام وقادة غير مسلمين لكنهم ديمقراطيون شواهد قريبة من سلوك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : "من أجل هذا قلنا وسنظل نقول إن الديمقراطية إسلام" ويقول : "كان عرضنا هذه المشاهد - وهي قليل من كثير - تبيانا لديمقراطية الحكم في الإسلام، واكتشافا للتخوم الواسعة المشتركة بين الإسلام كدين وبين الديمقراطية كمنهج ونظام" .
ويقول الشيخ يوسف القرضاوي : "الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام" ، وكلام كثير جدا من مثل هذا .
وأما في وقتنا الحاضر بعد ظهور اعتراضات كثيرة من الناحية العقدية على الديمقراطية وهي واضحة وقوية، فقد نحا الطور الثاني من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) إلى الفصل بين الفكر التنظيري الديمقراطي، وبين آليات الديمقراطية، فابتعد عن القبول بالأسس النظرية التي تقوم عليها الديمقراطية، لما تشتمل عليه من مصادمة صريحة للمقررات العقدية الإسلامية، بينما قبل الآليات الديمقراطية، على أساس أن الآليات هي مجرد وسائل عملية لا تنطوي على فكر أو عقيدة، بل هي آليات محايدة يستخدمها المسلم كما يستخدمها الكافر، كالسيارة التي يستخدمها المسلم في الذهاب إلى المسجد ويستخدمها النصراني في الذهاب إلى الكنيسة، وهكذا .
من أجل هذا رغبتُ في كتابة هذا المقال لبيان حقيقة الديمقراطية وهل حقا أتى بها الإسلام، أو أنه من الممكن إزالة ما بينهما من تعارض مع احتفاظ كل منهما بخصائصه المميزة، أو أنه يمكن التخلص من الأساس النظري لها وعدم التقيد به والاستفادة مما فيها من آليات مجردة عن أصولها المذهبية، وهذا أوان الشروع في المقصود :
ماذا تعني كلمة الديمقراطية ؟ :
الديمقراطية كلمة لا تينية وهي مكونة من شقين : الشق الأول demos وتعني الشعب ، والشق الثاني c r atie وتعني حكم أو سلطة، فاللفظ على ذلك يعني حكم الشعب، أو الحكم للشعب، "وإذا كان للديمقراطية مصطلحات عديدة ... إلا أن لها مدلولا سياسيا والذي شاع استعماله في كل الأدبيات والفلسفات القديمة والحديثة وأنها مذهب سياسي محض تقوم على أساس تمكين الشعب من ممارسة السلطة السياسية في الدولة" ، فالكلمة العليا والمرجعية النهائية إنما هي للشعب ولا شيء يعلو فوقه، فهي "تعني أن يضع الشعب قوانينه بنفسه، وأن يحكم نفسه بنفسه، ولنفسه" .(54/332)
والحكومة التي تقبلها النظرية الديمقراطية "هي الحكومة التي تقر سيادة الشعب وتكفل الحرية والمساواة السياسية بين الناس وتخضع فيها السلطة صاحبة السلطان لرقابة رأي عام حر له من الوسائل القانونية ما يكفل خضوعها لنفوذه" .
وقد تبلورت هذا الفكرة فيما بعد تحت مصطلح السيادة، وقد عُرِّفت السيادة :بأنها سلطة عليا مطلقة لا شريك لها ولا ند متفردة بالتشريع الملزم، فيما يتعلق بتنظيم شئون الدولة أو المجتمع، فلها حق الأمر والنهي والتشريع والإلزام بذلك، لا يحد من إرادتها شيء خارج عنها، ولا تعلوها أو تدانيها سلطة أخرى ، والسيادة في الفكر الديمقراطي إنما هي للشعب وتتمثل ممارسة الشعب للسيادة في ثلاثة جوانب رئيسة :
1- إصدار التشريعات العامة الملزمة للجماعة التي يجب على الجميع الالتزام بها وعدم الخروج عليها، وهذه تمارسها السلطة التشريعية .
2- المحافظة على النظام العام في ظل تلك التشريعات، وهذه تمارسها السلطة التنفيذية .
3- حل المنازعات سلميا بين المواطنين انطلاقا من هذه التشريعات، وهذه تمارسها السلطة القضائية ، ويتبين من ذلك أن السلطة التشريعية هي أم السلطات الثلاث .
تطور الديمقراطية باختلاف الأزمان والبيئات :
وليس من شك في أن الديمقراطية تطورت مع الزمن تطورا كبيرا ولم تبق على شكلها الأول الذي ظهرت به أول مرة في أثينا ، فقد كان الشعب الذين يحق لهم الحكم في بداية الفكرة قليلا بالنسبة للعدد الفعلي، فقد أخرج منه الأرقاء كما أخرج منه النساء، كما اشترط لذلك بعض الشروط كامتلاك نصاب مالي معين، والتمتع بكفاءة أو وجاهة في المجتمع، وبمرور الزمن تغير كثير من كل ذلك، إلى أن وصل إلى حق الاقتراع العامة .
كما اختلفت الصورة التي تمارس بها الديمقراطية فبعد أن كانت الديمقراطية تباشر من قبل الشعب بلا واسطة فيما عرف بالديمقراطية المباشرة، احتاجوا مع تطور الأوضاع، والانتقال من دولة المدينة - صغيرة المساحة قليلة العدد - إلى الدولة القومية - ممتدة المساحة كبيرة العدد - وقيام عوائق في سبيل العمل بالديمقراطية المباشرة، إلى تغيير الصورة من الديمقراطية المباشرة إلى الديمقراطية غير المباشرة (النيابية)، التي ينوب فيها عن الشعب أفراد يختارهم الشعب ليحكموا بدلا عنه، كما ظهر التزاوج لاحقا بين الصورتين فيما سُمي بالديمقراطية شبه المباشرة، وذلك للتغلب على بعض السلبيات من إلغاء الديمقراطية المباشرة كليا، حيث تكون هناك موضوعات يحكم فيها الشعب حكما مباشرا، وموضوعات أخري يحكم فيها الشعب حكما نيابيا .
كما تعددت أشكال الحكومات ، فهناك النظام الرئاسي ، حيث تتركز السلطة في يد رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب، وهو الذي يعين الوزارة، ويكون هناك فصل شبه حاد بين السلطة التنفيذية "رئيس الجمهورية"وبين السلطة التشريعية "البرلمان" .
وهناك النظام البرلماني ، حيث تتركز السلطة في يد مجلس "برلمان" منتخب من الشعب، وهو الذي يعين الوزارة، ويوجد هنا تداخل بين أعمال السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية .
وهناك نظام حكومة الجمعية ، حيث تتركز السلطة في يدجمعية منتخبة من الشعب وهي تجمع في يدها سلطات واختصاصات السلطتين التشريعية والتنفيذية .
ومع كل هذه التطورات والتغيرات في الأشكال والصور، ظلت الديمقراطية تحافظ على أمر جوهري لم تحد عنه أبدا، وهو الأمر الذي تكون اسمها منه وهو أن الحكم للشعب، فلا شيء يعلو عليه، وكل سلطة في المجتمع فإنما تستمد منه، فالشعب (السياسي) كله له الحكم : فالأغلبية لها حق التفرد بالحكم، والأقلية لها حق المعارضة للأغلبية .
تأثير الفكر الديمقراطي على الدساتير العربية :
وقد ظهر هذا واضحا في دساتير البلاد العربية التي كتبت في بدايات القرن العشرين وما تلا ذلك ففي الدستور المصري المادة رقم 3 : "السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها" ، وفي المادة 86 : "يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع" .
وفي الدستور السوري المادة رقم 2 في الفقرة الثانية : "السيادة للشعب، ويمارسها على الوجه المبين في الدستور" ، وفي المادة رقم 5 : "يتولى مجلس الشعب السلطة التشريعية على الوجه المبين في الدستور" .
وفي دستور السودان الانتقالي لسنة 25 في الباب الأول الفقرة الثانية : "السيادة للشعب وتمارسها الدولة، طبقا لنصوص هذا الدستور والقانون" .
وفي الدستور الأردني مادة 24 : "الأمة مصدر السلطات" ، ومادة 25 : "تناط السلطة التشريعية بمجلس الأمة والملك" .
وفي الدستور التونسي مادة رقم 3 : "الشعب التونسي هو صاحب السيادة يباشرها على الوجه الذي يضبطه هذا الدستور" ، وفي المادة 18 : "يمارس الشعب السلطة التشريعية بواسطة مجلس نيابي" .(54/333)
وفي الدستور الجزائري مادة رقم 6 : "الشعب مصدر كل سلطة، السيادة الوطنية ملك للشعب وحده" ، وفي المادة رقم 7 : "السلطة التأسيسية ملك الشعب، يمارس الشعب سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها" ، وفي المادة 98 :"يمارس السلطة التشريعية برلمان يتكون من غرفتين وهما المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة، وله السيادة في إعداد القانون والتصويت عليه" .
وفي الدستور المغربي مادة رقم 2 : "السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة بواسطة المؤسسات الدستورية" .
وفي الدستور القطري مادة 59 : "الشعب مصدر السلطات ويمارسها وفقا لأحكام هذا الدستور" ، وفي المادة 61 : "السلطة التشريعية يتولاها مجلس الشورى على الوجه المبين في هذا الدستور" .
وفي الدستور الكويتي مادة 51 : "السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وفقا للدستور" .
وبقية الدساتير لا تخرج عن ذلك من حيث المضمون وإن اختلفت الصيغ، كما أن هذه الدساتير تنص على أن نظام الحكم نظام ديمقراطي، وهي الصيغة السياسية لمصطلح السيادة الشعبية .
وهذه الخصيصة التي تميزت بها الديمقراطية على تعاقب الدهور تعد أكبر اختلاف حقيقي بين الإسلام وبينها، فإن قاعدة الإسلام هي توحيد الله تعالى، والتي تعني أن يكون المسلم عابدا لله وحده، وذلك بالاحتكام إلى ما شرعه الله تعالى في أموره كلها من صلاة وصيام وحج، ومعاملات بين الناس وخصومات، وفي شئونه كلها.
فقد ورد في مواضع عديدة من كتاب الله قصر الحكم عليه سبحانه فقال تعالى : { أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ} [الأنعام :62 ] ، وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [يوسف : 4، وقال تعالى : { َفالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12] والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء :59] فلم يُحكم الله تعالى في موارد النزاع أحدا غير الكتاب والسنة، وقال تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيما} [النساء :65 ] فأوجب تحكيم الرسو صلى الله عليه وسلم في كل ما يشجر بين المسلمين، وأمر رسوله أن يحكم بين الناس بما أنزله عليه فقال تعالى : {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة :48] ، وقال تعالى في الآية التي تليها : {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} [المائدة :49] .
فالحق عند المسلم هو ما أمر به الله تعالى ورسول صلى الله عليه وسلم أو دعا إليه، والباطل هو ما نهى الله عنه ورسول صلى الله عليه وسلم ، فالله تعالى هو الذي يشرع، وهو الذي يأمر وينهى، وهو الذي يُلزم، وهو الذي يعاقب على المخالفة ويثيب على الطاعة، فالسيادة الكاملة إنما هي لله تعالى وحده، وقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (السيد الله) .
بينما الحق في الديمقراطية هو ما أمر به الشعب، والباطل هو ما نهى عنه الشعب، وإرادة الشعب هي معيار الخطأ والصواب، فما أقرته وقبلته فهو الصواب وما تركته ولم تقبله فهو الخطأ، فالإرادة الشعبية معصومة، ومن هنا فإن الديمقراطية قد رفعت الشعب إلى المنزلة التي لا تليق إلا بالله تعالى، وهذا الفرق لا يستطيع أن ينكره أحد، إلا عن طريق الكذب والتضليل لخداع الناس وإيهامهم، وتعريفات الديمقراطية في بلد المنشأ تدل على ذلك، بل ابتعاد الديمقراطية عن الدين هو أحد مسوغات الدعوة إليها .
والديمقراطيون الحقيقيون لا يعدون هذا عيبا أو نقصا يحاولون التبرؤ منه، بل هو عندهم من مميزات الديمقراطية، فكما يبين أحدهم أنه يستحيل تعريف الديمقراطية "دون تحرير الذهن من الأحكام المسبقة مهما كانت، أي إعطاء مسئولية القرار للشعب دون تقيد مسبق بأي قيد نصي أو تشريعي أو فقهي، فالناس وفق هذا المنطق هم الذين يملكون حق السيادة والمرجعية في شئونهم التعاقدية الوضعية" ، وبهذا يتم فك أي ارتباط إيجابي بين الديمقراطية وبين الدين، فالديمقراطية تبعد الدين عن التدخل في الحياة العامة للمجتمع، وهي بذلك تكون الوجه السياسي للعلمانية، وهذا لا شك اختلاف جذري بين الإسلام والديمقراطية ولا يمكن تقريب الديمقراطية من الإسلام إلا بالتخلي عن هذا الوصف الجوهري في الديمقراطية، لكن إذا أمكن التخلي عن هذا الوصف في محاولة التقريب، هل يظل ما بقي منها باسم الديمقراطية ؟(54/334)
في حين لا يمثل الشعب أية مرجعية في الحكم، هذا ما تأباه قواعد اللغة ويأباه العقل والمنطق، ولا يمثل الإبقاء على الاسم في هذه الحالة إلا القبول بالتبعية الفكرية، واختزال الفكر الإنساني كله في الفكر الغربي .
لكن هل استطاعت الديمقراطية أن تحقق هذا الذي زعمته وادعته ؟
يقسم الفكر الديمقراطي الشعب إلى فئتين :إحداهما يمكن تسميتها بالشعب السياسي، وهو الذي تكون له السيادة، والفئة الثانية هي المتبقية من مجموع الشعب، وهي التي لا دخل لها بهذه السيادة، وهذه الفئة تغيرت بتغيير الأزمان، فقد كانت في أول الأمر تشمل الأرقاء وتشمل النساء والأطفال غير البالغين، والرجال غير المتعلمين، والفقراء، وغير النبلاء في المجتمع، وهم يمثلون الأغلبية العددية في المجتمع، وقد كان النظام الذي يمنع كل هذه الفئات من السيادة ينظر إليه على أنه نظام ديمقراطي، مما يبين أن السيادة الشعبية كانت مجرد شعار لا رصيد لها يسندها من الواقع، ثم بمرور الزمن تغيرت هذه الفئة، لكنها ما زالت حتى الآن تشمل الصبيان الذين لم يبلغوا سنا معينة (18عاما) إضافة إلى المحكوم عليهم في بعض القضايا التي تحددها القوانين .
وإذا تجاوزنا هذه النقطة وانتقلنا إلى الدستور الذي يعد أعلى وثيقة قانونية في النظام الديمقراطي يلتزم بها الجميع ويحنون هاماتهم لها، واتخذناه مثالا للحديث، نجد أن الشعب لم يكن هو الذي وضع هذه الوثيقة، وإنما وضعها مجموعة من الناس ممن تخصصوا في الأمور القانونية والمسائل السياسية، وهي لا شك مجموعة صغيرة جدا جدا بالمقارنة إلى عدد الشعب (السياسي) مما يعني أن السيادة الشعبية لم تكن هي التي صاغت أعلى وثيقة قانونية يتحاكم إليها في البلاد، ولو قيل : لكن هذا الدستور لا يُقَر إلا بعد الموافقة عليه من الشعب عن طريق التصويت وأخذ الآراء، فإن ذلك أيضا لا قيمة له لعدة أمور :
أولا: تشتمل هذا الوثائق على مسائل فنية تخصصية لا يدركها إلا المتخصصون وهم قلة قليلة في أي مجتمع، فموافقة غيرهم عليها ليس له قيمة حقيقية ، وكذلك اعتراضهم لا قيمة حقيقية له، فإن الموافقة أو الاعتراض الناشئين عن مجرد الرغبة أو الاستجابة للدعابة ووسائل الإعلام، من غير علم حقيقيي بالمسألة والقدرة على تبيان ما فيها من إيجابيات أو سلبيات لا يساوي شيئا في ميزان تقويم الآراء .
ثانيا : لو تجاوزنا هذه النقطة فإنه دائما ما لا يحصل إجماع على تلك الوثائق، بل يقبلها طائفة ويرفضها آخرون، ذلك أنه في ظل عدم وجود مرجعية متفق عليها بين الناس ويخضعون لها - خارجة عن الإنسان نفسه - فإنه يستحيل أن يتفق الناس كلهم أو أغلبهم على رأي واحد في عشرات بل مئات المسائل المهمة، وإذا أُقرت هذه الوثائق لكون الموافق عليها أكثر من المعترض، فمعنى ذلك أن هناك مجموعة كبيرة من الشعب (السياسي) وهي قد تصل إلى الثلث أو قريب من النصف (على حسب الأغلبية المعتد بها في هذه المسائل)، لم يكن لنصيبها من السيادة الشعبية أثر في إقرار هذه الوثيقة، على أن موافقة الموافق لا تعني بالضرورة موافقة حقيقية، إذ ربما تكون الموافقة نتيجة ضغوط من أطراف خارجية، أو تدخل الإعلام الموجه الذي يقوم بدور كبير في صناعة وتشكيل آراء الناس وتصوراتهم، أو نتيجة الاتفاق على تقسيم المغانم بين الفئات المؤثرة في التصويت، وأقرب مثال لذلك ما حدث في إقرار الدستور العراقي الذي وضع بعد الاحتلال .
بل إن الأساس الذي يعتمد عليه في بيان الأغلبية المعتد بها، هل هو الأغلبية المطلقة (أي ما زاد على 5% ولو كان بصوت واحد) أو أغلبية الثلثين أو غير ذلك، هو نفسه يحتاج إلى إجماع الشعب (السياسي) حتى يمكن أن يؤسس عليه ما يأتي بعده، وإلا لم يكن هناك أي معنى للحديث عن السيادة الشعبية المتخذة عن هذا الطريق، وهذا الإجماع نادر الحدوث، وعادة ما لا يحدث أبدا .
ثم إن الذين يحق لهم الدخول تحت مسمى الشعب السياسي، كثير منهم لا يشارك في عمليات الانتخاب والتصويت، مما يجعل الأغلبية عند حدوثها هي أغلبية من شارك في التصويت لا أغلبية الشعب السياسي، ولو أننا أخذنا مثالا قريبا من انتخابات قد جرت في مصر فقد فاز الرئيس المصري بالانتخابات بنسبة تجاوزت الثمانين في المائة لكن لو نظرنا كم فردا اشترك في الإدلاء بصوته ممن يحق لهم المشاركة، لم نجده يتجاوز نسبة الـ (24%)، حسب الإحصاءات الرسمية، وما يجري في كثير من الدول لا يختلف عن هذا .
ثالثا : ولو تجاوزنا هذه النقطة ونظرنا إلى الدستور الذي تم إقراره، فإنه بعد جيل أو جيلين يكون الذين أقروا هذا الدستور جيفا تحت التراب، وهذا يعني إثبات السيادة والإرادة لأناس أموات، وهو ما يعني في الوقت نفسه، أن الأحياء محكومون بإرادة الموتى، وليس بإرادتهم، فأين السيادة الشعبية في هذا .
رابعا : ولو تجاوزنا مرة أخرى هذه النقطة، فإن الأطفال الذين كانوا أطفالا وقت كتابة الدستور وإقراره، قد صاروا بعد زمن رجالا لهم جزء من السيادة، فأين تأثير هذه السيادة على الدستور والقوانين المنبثقة عنه في إدارة البلاد .
وفي تحديد الشعب نفسه :(54/335)
ما الذي يجعل العربي والكردي في العراق يمثلون شعبا واحدا، وكذلك الكردي والتركي في تركيا يمثلون شعبا واحدا، والعربي والبربري في الجزائر يمثلون شعبا واحدا، كل فرد منهم له جزء من السيادة، بينما العربي الأردني أو المصري أو السوري المقيم في بلد عربي آخر لا يعد من شعب ذلك البلد، ومن ثم لا يمثلون شعبا واحدا ؟ ولا شك أن هذا المقيم في بلد ما تجري عليه أحكام هذا البلد، وهو في الوقت نفسه لا يعد من الشعب فليس له أية حقوق في ممارسة الحكم فيه، (وهذا أمر يقره الفكر الديمقراطي) ما يعني أنه ليس له نصيب في السيادة الشعبية، وهنا تخفق الديمقراطية في تقديم التفسير المقنع لرضوخ هذا المقيم أو إجباره على الالتزام بأحكام البلد الذي يقيم فيه، من غير أن يكون له نصيب من السيادة أو ممارسة الحكم فيه .
وبالانتقال من كل ذلك نجد أن المؤهلين لممارسة الحكم باقتدار حقا، ليسوا هم الشعب كله، بل هم مجموعة أناس معينين محدودين، مما يجعل الحكم محصورا فيهم إلى حد كبير، وبذلك يتحول دور الشعب من كونه الممارس للحكم، إلى الاقتصار على اختيار القادة الأكفاء ليقوموا بممارسة الحكم، وهو لا يمارس هذا الحق إلا مرة كل عدة سنوات عندما تحين مواعيد الانتخابات، وفي كل هذا قضاء على قضية السيادة الشعبية، وهو ما يؤول في النهاية أن تكون الديمقراطية بحق هي حكم الأقلية وليس حكم الأكثرية .
فالديمقراطية وإن كانت قد انطلقت من نقطة أن الحكم للشعب لكنها انتهت واقعا وفعلا لحكم الأقلية، الأقلية الغنية المثقفة المنظمة التي استطاعت أن تحول القضية لصالحها فيما يطلق عليه حكم النخبة "ففي الأنظمة الغربية لا يحكم الشعب كما تفترض النظرية، ولكن الذي يحكم هي تلك الأقلية التي تسمى النخبة، ومن ثم ففي الغرب نخبة ديمقراطية تحكم بسبب ما يتوفر لها من قدرة على التحكم في الموارد الطبيعية ومصادر الثروة والقوة، وبحكم بعض المزايا الموروثة وغيرها من العوامل "ويحق لنا بعد ذلك كله أن نقول : إن اعتبار الشعب هو الذي يحكم في النظام الديمقراطي، يعد من الخدع الكبرى في تاريخ الأنظمة السياسية" .
هذا العيب الجوهري في الديمقراطية الذي يجعل السيادة للشعب - وهو الأمر الذي تشبثت به ولم تستطع تحقيقه في واقعها، وذلك لعدم واقعيته - هو نقطة الضعف القاتلة لها في شريعة الإسلام، وهو ما دعا الكثيرين ممن يريدون جعل الديمقراطية من مكونات النظام السياسي الإسلامي أو إدخالها فيه - وذلك بغرض الخروج من حالة الاستبداد التي تعيشها كثير من شعوب الأمة الإسلامية - إلى تجاوز هذه النقطة تحت الدعوة إلى الاستفادة من آليات الديمقراطية، دون التمسك بالأساس النظري لها أو الاعتماد عليه، على أساس أن هذه النظرة المذهبية أو الفلسفية للديمقراطية كانت مرتبطة بزمن النشأة وظروفها، وقد تجاوزتها الديمقراطية في تطبيقاتها المعاصرة، ولم تعد تعول على هذا الأساس، أو ترتبط به .
فهم يرون أن الديمقراطية كفلت الكثير من الحقوق والحريات التي تتحقق بها إنسانية الإنسان كحرية التنقل، والاستقلال في الرأي والتفكير، والمشاركة في القرار السياسي وفي اختيار الحكومة، وفي القدرة على الإنكار على الحكومات، وتغييرهم عند الخروج عن الجادة، وفي حق التملك وحق الأمن وغير ذلك، كما يحقق المساواة للجميع أمام القانون، ويرون أن هذه الأمور لا ترتبط بالأساس النظري للديمقراطية الذي قامت عليه الديمقراطية، بل هي آليات تنظيمية، وطرائق عملية للحفاظ على حقوق الناس وحرياتهم، وتأمين تداول السلطة بينهم بطريقة سلمية، كما أنها من الأمور المشروعة في الإسلام .
لكن هنا نقطة مهمة غابت عن أصحاب هذا الرأي، الذين يحاولون سلخ الديمقراطية من أصلها وذلك أن هذا رأيهم ولا يعبر عن الشعب السياسي كله، فالشعب السياسي حسب الفكر الديمقراطي يدخل فيه المواطن المسلم كما يدخل فيه المواطن الكافر، والمسلمون منهم المسلم حقيقة ومنهم غير ذلك كالعلمانيين والحداثيين والقوميين وغيرهم، وهؤلاء يصرون على ارتباط الديمقراطية بأصلها الذي خرجت منه، ولا سبيل - ديمقراطيا - بإلزامهم بغير ذلك .
ولا شك أن العمل الديمقراطي القائم على الأساس الفلسفي للديمقراطية يتناقض مع المقررات الإسلامية كما ظهر، فإن جعل التشريع بيد الشعب هو إلغاء لشريعة الله تعالى وهذا ما لا يقول به مسلم أو يقبله، ولعل في ظهور هذا العيب الواضح في الديمقراطية، ما يدعونا إلى عدم الوقوف أمامه ويكفي فيه ما تقدم، ويبقى الحديث عن التصور الذي يتناول الديمقراطية بوصفها آليات، أو منهج عمل، من غير استناد إلى فكرة أو تصور مذهبي أو فلسفي، وهذا هو موضوع المقال القادم إن شاء الله .
=============(54/336)
(54/337)
الشورى .. لا الديمقراطية
قال الله تعالى: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأَمْرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} [الشورى: 380]، وقال تعالى: {فبما رحمة من الله لنِتَ لهم ولو كنتَ فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفرْ لهم وشاورْهم في الأمر فإذا عزمتَ فتوكّلْ على الله إن الله يحب المتوكلين} [آل عمران: 159].
لقد ساءني كثيراً ما رأيت من الآثار السلبية التي تركتها ممارسة الديمقراطية في المجتمعات التي تتعاطها، وأيقنت بمدى الإثم الكبير الواقع على المسلمين الذين يرضَوْن بهذا الواقع الأليم وعدم السعي للتغيير من خلال التوعية والنصح والإرشاد، فالمراقب لأحوال المجتمعات التي تمارس الديمقراطية من أجل اختيار "ممثلين لهم" ـ كما يقولون ـ في مواقع "القرار" يَهوله كم كانت النتيجة سلبية للغاية. فالعائلة الواحدة تمزقت وتقاطعت والقرية قُسِّمت، والمدينة شُلّت... كل ذلك نتيجة الضغط الإعلامي الكثيف الذي يدعوهم لينحازوا إلى هذه الجهة أو تلك معلِّلاً هذه الدعوات بمحاسن مبتكرة مزعومة متغاضياً عن كل المساوىء الظاهرة.
ولقد رأيتُ أن أكتب هذه الكلمات مبيناً عدداً من الآثار السلبية التي تفضح كذب الديمقراطية الزائفة، وأنّها الطريقة المثلى التي تحمل في طياتها السعادة للبشرية، ومُوضِّحاً للطريقة المثلى التي شرعها الله لنا في اختيار القادة والمسؤولين وفي أخذ القرارات والتوجُّهات، خاصة أن بعض المسلمين كلما تقدمت بهم التجارب في هذا المضمار أدركوا أن سراب نعيم الديمقراطية المزعوم يلوّحون به للناس ما دامت تصبّ في مصلحة "السادة الكبار"، أما إذا كان الأمر عكس ذلك فلا ديمقراطية مقبولة عندهم ولا نتائجها لها اعتبار ولو كانوا يتغنَّوْن بها صباحَ مساء. هذا عدا عن أنها تفرض في كثير من الأحيان على الإسلاميين المؤمنين بجدواها تحالفات مشبوهة تجعل القاعدة الإسلامية في حالة إرباك وتشويش فكري وعقائدي مع ضياع مبدأ الولاء والبراء بقصدٍ أو بغير قصد حيث تصبح المصلحة المزعومة هي التي تتحكم في المواقف والتوجُّهات.
* مفهوم الديمقراطية:
فالديمقراطية تقوم على أسس ومبادىء عديدة بالإضافة إلى عمليات التطبيق، التي في معظمها يحمل مخالفات واضحة للشريعة الإسلامية:
1 ـ في التسمية والمبادىء:
الديمقراطية Democ r acy كلمة مشتقة من كلمتين يونانيتين "Demos" (الشعب) ـ "K r atos" (سلطة). فيكون معناها الحكم الذي تكون فيه السلطة للشعب.
وقد ظهرت فلسفة الديمقراطية كنزعة عدائية للكنيسة في أوروبا بعد الثورة الفرنسية وذلك بسبب اضطهاد الكنيسة للكثير من العلماء والمفكرين فجاءت الديمقراطية ناقمة على كل شيء اسمه "دين" ومن أهم مبادئها:
ـ الشعب مصدر السُلطات ومصدر التشريع.
ـ حرية الاعتقاد مكفولة أياً كان هذا الاعتقاد.
ـ حرية التعبير والإفصاح مكفولة أياً كان هذا التعبير ولو كان مخالفاً لكل المبادىء والآداب والعقائد.
ـ فصل الدين عن الدولة.
ـ حرية تشكيل الأحزاب والتجمعات أياً كانت عقائدها ومبادئها.
ـ الحق عندها ما اجتمعت عليه الأكثرية وإن كان على ضلال.
ـ ليس لشيء عندها قَداسة بل كل شيء خاضع للتصويت.
وبالنظر إلى هذه الأمور مجتمعة نجد بأن الديمقراطية من منظار إسلامي تعني الإباحية بشكلها الكامل فكل شيء عندها مباح ما دامت تجتمع عليه أكثرية الأصوات، وهذا الحكم لا ينافيه أن بعض آلياتها لا يتعارض مع الإسلام بل لا مانع من الاستفادة منها.
2 ـ في التطبيق:
أ ـ مبدأ المساواة في التصويت: فالعالم والمفكر والعبقري والسياسي وغيرهم من أصحاب العلم والفكر يتساوون مع العاميّ والأميّ وحتى المعتوه من الناس: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}؟.
ب ـ مبدأ الترشيح للمنصب وأسلوب الدعاية الذي نراه: إذ غالباً ما يقوم على أساس الوعود الكاذبة وإظهار المحاسن المبتكرة وإخفاء المساوىء الظاهرة وكثيراً ما تلعب الماديات دوراً بارزاً في هذا المجال وفي التأثير على عقول الناس ومبادئهم.
ج ـ ضياع المبادىء: إذ في العملية التطبيقية للديمقراطية يضيع المبدأ عند ممارسيها لأن الهدف الوحيد يصبح عندهم هو تجميع الكمّ الأكبر من عدد الناخبين ولو كان ذلك بتحالفاتٍ مشبوهة أو طرق وأساليب خسيسة أو وعود كاذبة.
د ـ استبدادية الديمقراطية: إذ عند التطبيق تتحول الأكثرية إلى أقلية وذلك لأن الشعب يختار ممثليه وتصبح زمام الأمور في أيديهم من غير أن يحق للشعب إقالتهم أو مناقشتهم ومحاسبتهم فكل أمر يصدر عن هذه الأقلية يصبح تشريعاً واجباً على جميع أفراد الشعب تطبيقه واتِّباعه ولو رفضه الشعب أو أكثره "فهل هناك استبدادية أكبر أو دكتاتورية أعظم من هذا"؟!!!
وبعد هذه العُجالة حول مفهوم الديمقراطية وتطبيقها وما تحمله من سلبيات على المجتمع وعلى الأمة فلا ينبغي لنا إلا العودة إلى الأصول التي شرعها الله لنا وسار عليها السلف الصالح رضوان الله عليهم فعدلنا عنها نتيجة الغزو الفكري والاستعمار الحضاري والبُعد عن الدين.(54/338)
فمبدأ الشورى الذي رسمه الله لنا من خلال كتابه الكريم وطبقه النَّبيّ r في ظلّ أصعب الظروف التي مرّت عليه في حياته هو الأصل الواجب اتباعُهُ والعودةُ إليه ودعوة الأمة إلى تطبيقه في جميع شؤون حياتها.
* مفهوم الشورى:
فالمقصود بالشورى عن عرض أمر من الأمور التي تهم الفرد أو المجتمع أو الأمة والتي لم يظهر فيها وجه الصواب بدليله الشرعي من الكتاب والسُنّة أو لم يبيِّن الدليل كيفية تنفيذ هذا الأمر فيُعرَض على أهل الحل والعقد وهم أولو الأمر من وجهاء المسلمين وأعيانهم وعلى رأسهم العلماء والزعماء وذوو الخبرة والاختصاص المتميزون.
فالشورى نظام رباني وضعه الله سبحانه وأمرنا به لأنه الأعلم بهذا الإنسان وبالأساليب التي يحصل من خلالها على حياة سعيدة كريمة. فالحاكم في الإسلام أياً كانت درجة حكمه خاضعٌ لسلطان الله المتمثل بالشريعة الغَرّاء، فهو يحكم بهذه الشريعة على نفسه وعلى رعيته وإن استشارهم في أمرٍ من الأمور وتفحّص آراءهم وقلّب وجهة نظرهم فهو ليس ملزماً أن يأخذ برأي الأكثرية فيتعطّل دوره، بل الواجب عليه أن يأخذ بما ترجَّح عنه أنه الأقرب إلى الصواب والأرجح أن يكون الحق عنده.
فالحاكم في الإسلام مقيَّد بالشريعة الإسلامية فلا رأي لمن كان رأيه مخالفاً لشرع الله ولا مصلحة لمن يرى أن المصلحة في أمر مخالف لتعاليم الإسلام، فالكل يجب أن يكون خاضعاً للكتاب الله وسنّة رسوله. والشورى ركن من أركان ممارسة الحكم أو الإمارة في الإسلام فواجبٌ على الجميع تطبيقها حكاماً كانوا أو محكومين.
والشورى كما بيّنا تختص بالنخبة من أصحاب العلم والاختصاص والتقوى والورع والالتزام وهي بذلك تقطع الطريق على الرِّعاع من الناس الذين تلعب بهم الأهواء ويميلون مع الرغبات وينظرون إلى المصالح الآنيّة والرغبات الشخصية حتى لا يوصلوا إلى مراكز القرار وحكم الناس من هو ليس أهلاً لذلك كما هو حاصل في الذين توصلهم الديمقراطية إلى مناصب رفيعة تحت ضغط التأثير الإعلامي والمادّي والوعود بتحقيق الرغبات والنزوات الشخصية.
وتطبيق الشورى بين المسلمين واحد من العبادات التي أمرهم الله بها، وهل هناك أَدَلّ على هذا من أن الأمر بها أتى بين عبادتَيْ الصلاة والزكاة؟
وقد بينها الله لنا وأمر بها النَّبيّ r في أشدّ مراحل الدعوة وبعد حدث جلل كان له الأثر الكبير على المسلمين. فهذا هو النَّبيّ r يستشير أصحابه في الخروج إلى لقاء العدو أو البقاء في المدينة فأخذ برأي من أشار عليه بالخروج ولكن النتيجة كانت سلبية إذ وقعت الهزيمة في (أُحُد) وقُتل عدد من كبار الصحابة وأُصيب النَّبيّ r. ومع هذا كله فإن المبدأ الرباني أكبر من الحدث الضيق، فالمبدأ فيه تربية للأمة وتنشئتها على أساس متين لذا جاء الأمر بعد الحدث وبعد الخسارة وبعد الشورى: بالتأكيد على مبدأ الشورى وعلى أنه أساس يجب التمسك به والعمل بمقتضاه. وما أجمل الكلمات والتوجيهات التي جاءت عقب كلمة الشورى في الآية الكريمة من سورة آل عمران: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله....{
فبعد تقليب وجهات النظر والتوجُّه لأخذ واحد من الآراء فإذا عزمتَ على المُضيّ في اتجاه معيَّن فتوكل على الله وسِرْ ما دمتَ قاصداً بذلك مرضاة الله ونُصرَة الإسلام والمسلمين وإياك أن تلتفت إلى النتائج لأن الأمر بيد الله يجعل النتيجة حيث يشاء وكيف يشاء.
==============(54/339)
(54/340)
الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية
د. محمد عمارة*
الشورى: مصطلح إسلامي خالص وأصيل ... وهو اسم - من "المشاورة" - التي تعني، في اصطلاح العربية: استخراج الرأي ... فهي فعل إيجابي، لا يقف عند حدود "التطوع" بالرأي ... بل يزيد على "التطوع" الى درجة "العمل" على استخراج الرأى/ استخراجاً واستدعائه قصواً ؟
وإذا قلنا: أشار فلان على فلان بالرأي ... فإن معناه - في اصطلاح العربية : أمره به! .. وليس مجرد إبراء الذمة بإلقاء الرأي فقط؟!...
والشورى، في الفكر السياسي الإسلامي، هي فلسفة نظام الحكم ... والإجتماع ... والأسرة ... لأنها تعني إدارة أمر الإجتماع الانساني، الخاص والعام ، بواسطة الائتمار المشترك والجماعي، الذي هو سبيل الانسان للمشاركة في تغيير شئون هذا الاجتماع ... فالشورى، أي الائتمار المشترك، هي السبيل إلى الإمارة، أي القيادة والنظام والسلطة والسلطان إمارة الإنسان في الأسرة ... وفي المجتمع ... وفي الدولة ... أي في تنظيم المجتمع وحكمه، صغيراً كان المجتمع أو كبيراً ...
ولما كان التصور الفلسفي الإسلامي لوجود الإنسان في هذه الحياة، ولوظيفته ومكانته فيها، ولعلاقته بالآخرين، قائم على حقيقة أن هذا الإنسان مخلوق لله سبحانه وتعالى، ومستخلف عنه في عمارة الكون ... كانت مكانة الإنسان في العمران هي مكانة الخليفة عن الله ... فهو ليس سيد الكون حتى تكون حريته مطلقة دون حدود، وشوراه وائتماره وإمارته وسلطته دون ضوابط وأطر ... وفي ذات الوقت، فإن خلافته عن الله سبحانه تعني وتقتضي أن تكون له سلطة وإرادة وحرية وشورى وإمارة تمكنه من النهوض بتكليف العمران لهذا الوجود ... فهو، لهذا ليس الكائن المجبر المسيَّر المهمش بإطلاق ...
إنه في المكانة الوسط ... ليس سيد الكون ... وليس العبد المجرد من الحرية والإرادة والاستقلال والمسئولية ... وإنما هو الخليفة عن سيد الكون، وله في أطار عقد وعهد الاستخلاف السلطات التي تمكنه من النهوض بمهام هذا الاستخلاف.
وانطلاقاً من هذه الفلسفة الاسلامية، في مكانة الانسان في هذا الوجود، يتميز المذهب الاسلامي في "إطار الشورى" ... فبنود عقد وعهد الاستخلاف الإلهي، التي هي قضاء الله الحتمي في كونه ... وكذلك احكامه التي جعلها إطاراً حاكماً لحرية الإنسان وسلطاته ... هي "الوضع الإلهي"، الذي تظهر فيه عبودية وما { المخلوق للخالق، وقضاء الله الذي لا شورى فيه ولاخيار ولا اختيار كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله امراً ان يكون لهم الخبرة من . } أمرهم ومن بعض الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً
هنا، وفيما يتعلق بهذا الإطار الحاكم، نحن أمام " سيادة الله ... وحاكميته "، المتمثلة في قضائه الحتمي، وشرعيته الممثلة لبنود عقد وعهد الاستخلاف ... على الخليفة - الانسان - أن يجعلها الإطار الحاكم لحريته وشوراه ولسلطته وإمارته، ولحركته أثناء قيامه بالوكالة والنيابة والاستخلاف...
وإذا كان الإنسان قد اختار -دون سائر المخلوقات- حمل أمانة الخلافة في عمران هذه إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها { الأرض . فإن الله سبحانه } وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا وتعالى، إعانة منه للإنسان على أداء هذه الأمانة، قد ميزه بالاختيار والحرية، ودعاه إلى أن يمارس "حاكمية إنسانية" و "سلطة بشرية"، هي مُرادة لله سبحانه وتعالى، ومُفّوَّضه منه للإنسان كجزء من استخلافه لهذا الإنسان ... وبعبارة الإمام ابن حزم الأندلسي { 384، 456هـ، 994 - 1064م } : " فإن من حكم الله أن يجعل الحكم لغير الله "، أي أن جعل للإنسان حاكمية السلطة التي ينفذ بها حاكمية شريعة الله، لينهض بالأمانة التي فوضها إليه الله ...
وإذا كان الانفراد بالرأي والسلطة، في أي ميدان من ميادين الرأي والسلطة، هو كلا إن الانسان ليطغى، أن رآه { المقدمة للاستبداد والاستفراد والطغيان وهي سنة قرآنية، صدق عليها تاريخ الانسان والنظم والحضارات ... } استغنى فان المنقذ للانسان وللعمران البشري من هذا الطغيان هو نظام الشورى الاسلامية، الذي يكفل للإنسان -مطلق الإنسان- المشاركة في تدبير شئون العمران، صغيرها وكبيرها، فتنجو دنياه من الطغيان، وذلك دون أن يطغى هذا الإنسان على التدبير الإلهي المتمثل في الشريعة الإلهية، والتي -هي الأخرى- مقوِّم من مقوِّمات العدل في هذا العمران.
ولهذه الحقيقة - من حقائق مكانة الشورى - جعلها الإسلام " فريضة إلهية "، وليست مجرد "حق" من حقوق الإنسان ... أي أنه لا يجوز للإنسان أن يتنازل عنها حتى بالرضا والاختيار إن هو اراد! ... كما عمم الإسلام ميادينها لتشمل سائر ميادين الحياة الإنسانية، العام منها والخاص ... من الأسرة ... إلى المؤسسة الى المجتمع ... إلى الدولة ... إلى الاجتماع الانساني ونظامه الدولي وعلاقاته الدولية!... فهي ليست شأناً من شئون النظام السياسي للدولة لا تتعداه...(54/341)
ففي " مجتمع الأسرة " يعتمد الاسلام الشورى فلسفة للتراضي والمشاركة في تدبير شئون الاسرة، لتتأسس عليها المودة والتراضي والانتظام { والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين لمن اراد ان يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس الا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أراد فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن اردتم ان تسترضعو اولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف، واتقوا الله واعلموا ان الله بما تعملون بصير .
وفي شئون الدولة يفرض الاسلام ويوجب ان تكون الشورى شورى الجماعه ، هى الفلسفة والآلية لترتيب الآمور... سواء أكان ذالك فى داخل مؤسسات الدولة، أو فى العلاقة بين هذه المؤسسات وبين جمهور الآمة ،، ففى ادارة مؤسسات الدولة لشئونها يلفت القرأن الكريم انظارنا الى معنى عظيم عندما لايرد فيه- القرآن-مصطلح "ولى الآمر" بصيغة المفرد التى تدل على " الانفراد والاستفراد" وإنما يرد فيه هذا المصطلح، فقط، بصيغة"الجمع"- {أولى الأمر}- الى الجماعية" وتزكية للمشاركة والشورى"يا أيها الذين آمنوا وأطيعوا الله والرسولل وأولى الأمر منكم }-النساء59 ..{واذاجاءهم امر من الأمن أوالخوف أذاعوا به ولو ردوه الى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}-النسأء:83-كما يحرص القرآن الكريم على التنبيه على ان يكون {أولو الأمر} من الأمة " حتى تكون السلطة نابعة من الأمة وليست مفروضة عليها من خارج .. حتى لكأنه يشير الى مبدأ "السيادة الوطنيه.. والقوميه.. والحضاريه" للأمم والشعوب والمجتمعات؟؟"
اما فى العلآقه بين الدوله " وبين جمهور "الأمه " فان القرآن يجعل الشورى والمشاركه فى صنع القرار "فريضة إلهية" حتى ولو كانت "الدولة" يقودها رسول ا صلى الله عليه وسلم {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر فاذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين }-آل عمران :159-..فالعزم " اى تنفيذ القرار "هو ثمرة للشورى اى المرحله التاليه لاشتراك الناس في انضاج الرأي وصناعه القرار.هذا القرار الشوري الذي يضعه ولاة الامربالعزم في الممارسه والتنفيذ.وهذا المعني هو الذي جعل مفسري القرآن الكريم يقولون في تفسيرهم لهذه الآيه نقلا عن المفسر الكبير "ابن عطية"(481 - 542 - 1088 - 1148 م)* :"إن الشوري من قواعدالشريعه وعزائم الاحكام ومن لا يستشير اهل العلم والدين فعزله واجب.وهذا مما لاخلاف فيه(1)"فالشورى من قواعد الشريعه ومن عزائم الاحكام.اما اهلها فالامه لانها فريضه علي الامه ينهض بها كفريضه كفائيه_اهل الكفاءة بحسب موضوعاتها وميادينها لذلك جاء في عبارة المفسرين لايآتها الاشارة لاهل "العلم" واهل" الدين" وليس فقط اهل" الدين" وايضا ليس فقط اهل" العلم" دون اهل" الدين".
وكون النهوض بفريضة الشورى من الفرائض الكفائيه التي اذا قام بها البعض سقطت عن الباقين يجعلها اهم وآكد من الفرائض الفردية لأن الاثم في التخلف عن آداء الفريضة الفردية يقف عند الفرد وحده بينما الإثم في التخلف عن اقامة الفريضه الكفائية يلحق الامة باسرها.
ويؤكد هذه الحقيقة حقيقة توجه التكليف الاسلامي بالشورى الي الامه جميعا انها قد جاءت _اي الشورى _في القرآن الكريم صفة من صفات الأمة المؤمنة وليست وقفا علي فريق دون فريق (والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ) _الشورى:38... فهي ليست امتيازا" للاحرار ..الاشراف..الملاك..الفرسان" كما كان حال "الديمقراطيه"عند الاغريق والرومان وهي ليست مجرد"حق"من حقوق الانسان حتي يجوز له التنازل عنه بالرضا والاختيار ..وانما هي فريضة الهية وتكليف سماوي علي الكافة ..وضرورة من ضرورات الاجتماع الانساني صغيرة او كبيرة دائرة هذا الاجتماع .بل لقد بلغ الاسلام في تزكيه الشورى الي الحد الذي جعل "العصمه" للامة ومن ثم للرأي والقرار المؤسس علي شوراها فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم "إن أمتي لا تجتمع علي ضلالة".رواه ابن ماجه.وذلك لتطمئن القلوب الي حكمه الرأي وصواب القرار اذا كانا مؤسسين علي شوري الامة في امورها بواسطة اهل العلم والدين من ابنائها ..(54/342)
ولقد جاءت السنة النبوية العملية والقولية البيان النبوى للبلاغ القرآني في الشورى ..وكانت السابقة الدستورية التي تمثل النموذج والاسوة للنظام الاسلامي في المشاركه بصنع القرار ..فحتي المعصوم r كان التزامه بالشوري علي النحو الذي يروى ابو هريرة فيقول :"ما رأيت أحداً اكثر مشورة لاصحابه من رسول الله ..."_رواه الترمذي_.. وكان صحابته رضوان الله عليهم حريصين في زمن البعثة علي التمييز بين منطقه"السيادة الالهية وفيها السمع والطاعة و إسلام الوجه لله " وبين منطقة السلطه البشريه" ليمارسوا فيها الشورى المؤسسة والمثمرة لصنع القرار فكانوا يسالون رسول ا صلى الله عليه وسلم في المواطن التي لا تتمايز فيها هاتان المنطقتان بذاتهما فيقولون :يا رسول الله اهو الوحي ؟ ام الرأي و(المشورة ).
فاذا كان المقام من مقامات الرأي والمشورة "السلطه البشريه"شاركوا في انضاج الرأي وصناعة القرار والتزموا به عند العزم علي وضعه في الممارسة والتطبيق , حدث ذلك في مواطن كثيرة من اشهرها تحديد المكان الذي ينزل به جيش المسلمين في موقعة بدر والموقف من مصالحة بعض المشركين في موقعه"الخندق"بل ان الالتزام بثمرات الشوري وقرارتها لم يكن وقفا علي الصحابه وحدهم, وانماشمل رسول ا صلى الله عليه وسلم ايضالانه في غير التبليغ عن الله سبحانه وتعالي "مجتهد" والاجتهاد ابداع بشرى غير معصوم ومن ثم فهو من مواطن الشوري بل هو واحد من مستوياتها العليا ..وفي هذا المعني وعلي ضوء هذه الحقيقة نقرأ حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه لابي بكر الصديق (51 ق هـ، 13 هـ 573-634 م) ولعمر بن الخطاب (40 ق هـ-23هـ584-644م) رضي الله عنهما: " لو إجتمعتما في مشورة ما خالفتكما "- رواه الإمام احمد - ... وفيه تشريع لقاعدة الأكثرية والإقلية في القرارت الشورية، واعتماد رأي الأغلبية عند اتخاذ القرار، حتى ولو كانت الأقلية فيها رئيس الدولة، رسول ا صلى الله عليه وسلم !... ونقرأ -كذلك- حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم ، الذي يقول فيه " لو كنتُ مُؤمَّراً احداً دون مشورة المؤمنين لأمَّرتُ ابن أم عبد " { عبدالله بن مسعود} - رواه الترمذي وابن ماجة والامام احمد ... فتعيين أمير للجيش، هو اجتهاد في الشئون السياسة والعسكرية، ولذلك كانت الشورى هي السبيل لاتخاذ القرار فيه، ولا يجوز لرئيس الدولة الإنفراد بتعيين امراء الجيوش دون مشورة أهل الشورى، حتى ولوكان رئيس الدولة هو رسول ا صلى الله عليه وسلم ...
وعلي هذه السنة النبوية سارت الخلافة الراشدة ... ففي عهد أبي بكر الصديق، كانت كل الأمور تبرم بالشورى، وجميع القرارات تتأسس على المشاركة الشورية ... حتى القوانين التي يقضي بها بين الناس، إذا لم يرد بها نص في الكتاب او السنة " فعن ميمون بن مهران، قال : " كان ابوبكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى، وان لم يكن في الكتاب، وعلم من رسول ا صلى الله عليه وسلم ، في ذلك الأمر سنة قضى به، فأن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول ا صلى الله عليه وسلم ، قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله فيه قضاء، فيقول ابوبكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول ا صلى الله عليه وسلم ، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به... "
أما عمر بن الخطاب، فهو القائل : " الخلافة شورى" ... و " من بايع عن غير مشوره المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه" .
ولقد شهد عهد سيدنا عمر بن الخطاب - الذي اتسعت فيه الدولةالإسلامية واكتملت الصورة المعتددة للشوري المؤسسة فكان هنالك مجلس للشوري من سبعين عضوا يجتمع في مكان محدد بأوقات محددة في مسجد المدينة - الذي كان دار الحكومة - والشورىهي التي بنت الحضارة بالمؤسسات الأهلية -مؤسسات الفقهاء والعلماء والمحدثين والمقرين والنحويين واللغويين والأدباء والشعراء والصوفية والتجار والصناع ... تلك التي ارخ لها من " الخطط " في التاريخ الاسلامي - كما أن " الامة " هي التي حولت صناعة الحضارة، بواسطة "الأوقاف" ... فكانت الحضارة الاسلامية صناعة اهلية، اقامتها "الأمة"، ولم يجن عليها انحراف "الدولة" ...
وفي هذه الحضارة الإسلامية، ظلت الامة وفية لفريضة الشورى الإسلامية ... بنت بها مذاهبها الفقهية والكلامية، وطبقتها في مؤسساتها الأهلية، التي اقامت النسيج الاجتماعي على العدل والشورى، بينما كانت "الدولة" - في كثير من الأحيان فريسة للاستفراد والطغيان !...(54/343)
لكن "الدولة الحديثة "، التي قامت في المجتمعات الإسلامية عبر القرنين الماضيين، والتي جاءت إلى بلادنا من نمط " الدولة القومية " الأوربية، منذ عهد محمد علي باشا الكبير { 1184 - 1265هـ1770-1849م} قد مثلت نموذج الدولة الشمولية، متعاظمة النفوذ والسلطات، فمدت استبدادها - عندما استبدت - الى مختلف ميادين الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الامر الذي قلب المعادلة، فحل " تعظيم الدولة" محل "تحجيمها "، الأمر الذي أدى الى "تحجيم الأمة" بدلاً من من "تعظيمها" فحدث الخلل في العلاقة بين "الدولة" و "الأمة"، وتراجعت "الأمة" ومذاهب علمائها وسلطات أعلامها، وافترست " الدولة " أغلب حريات الإنسان !... ولقد كانت معركة دولة محمد علي باشا، في العقود الأولى من القرن التاسع عشر الميلادي ضد عمر مكرم { 1168-1237هـ 1755-1822م} ومن ورائه الأزهر ومؤسسات المجتمع الأهلي، التجسيد لهذا التحول والانقلاب في هذا الميدان ... وساعد على استحواذ " الدولة " على ذلك مخاطر الغزو الاستعماري الغربي الحديث، التي استدعت تعظيم سلطان " الدولة " لأنها الأقدر على حراسة الأمن الوطني والقومي والحضاري من ثغرات الاختراق الاستعماري لأوطان عالم الاسلام ...
لذلك، كان من واجبات حركة الإحياء الإسلامي - الحديثة والمعاصرة - إقامة التوازن بين " الامة " و "الدولة"، بجعل الشورى الاسلامية منهاج الحياة لمختلف الميادين، وبلورة إرادة الامة وسلطاتها في " المؤسسات القادرة على تدبير امور المجتمعات التي تعقدت شئونها على نحو لا تجدي معه شورى الأفراد ... وعلى النحوالذي يجعل الشورى شاملة لمؤسسات " الدولة " و " الأمة " جميعاً، فتكون حراسة الأمن الوطني والقومي والحضاري " بالشورى "، وليس " بالاستبداد " قل هذا عن الشورى الاسلامية، في " الفكر " ... و " التطبيق " ... و "التأريخ".
وإذا كانت هذه هي " الشورى الإسلامية " ... الفريضة، التي لابد من تحويلها الى فلسفة حياة للإجتماع والنظام الإسلامي ... فإن هناك قضية برزت من خلال الاحتكاك الحضاري بين الإسلام وامته وبين الفكر الغربي وتجاربه في العصر الحديث ... وهي مشكلة موقف الشورى الاسلامية من الديمقراطية الغربية ... التي تبنتها أحزاب ومدارس فكرية واجتماعية في العديد من البلاد الاسلامية ... وهل بينهما - الشورى ... والديمقراطية - تطابق كامل؟ أم تناقض مطلق؟ أم اوجه للشبه وأوجه للافتراق؟...
وبادئ ذي بدء، فلابد من التأكيد على حق الأمم والشعوب والحضارات في التمايز والاختلاف في النماذج والخيارات السياسية والثقافية والحضارية ... فهذا هو منطق " الليبرالية " في الديمقراطية الغربية ... ومنطق " التعددية " التي هي في الاسلام سنة كونية، وقانون حاكم وسائد في كل عوالم المخلوقات ... فلا حرج ولا ضير إن اختلفت الشورى عن الديمقراطية، او تمايزت الديمقراطية عن الشورى ... المهم هو وفاء كل نموذج بتحقيق المقاصد الانسانية التي تحددها رؤية الانسان للكون في كل حضارة من الحضارات ... وجدارة كل نموذج بتفجير طاقات الخلق والإبداع في هذا الانسان ...
وبعد الاتفاق على هذه " الحقيقة - الأولية "، لابد من التنبيه - في الحديث عن علاقة الشورى الاسلامية بالديمقراطية الغربية - ضرورة التمييز - في هذه الديمقراطية - بين "الفلسفة" وبين " الآليات ... والخبرات ... والمؤسسات "...
فالديمقراطية، نظام سياسي - اجتماعي، غربي النشأة ... عرفته الحضارة الغربية في حقبتها اليونانية القديمة، وطورته نهضتها الحديثة والمعاصرة ... وهو يقيم العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة وفق مبدأ المساواة بين المواطنين في حقوق المواطنة وواجباتها، وعلى مشاركتهم الحرة في صنع التشريعات التي تنظم الحياة العامة، وذلك استناداً الى المبدا القائل بأن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر الشرعية ... فالسلطة، في النظام الديمقراطي، هي للشعب، بواسطة الشعب، لتحقيق سيادة الشعب ومقاصده ومصالحه...
هذا عن فلسفة الديمقراطية الغربية ...
أما "النظام النيابي "، الذي ينوب فيه نواب الأمة المنتخبون عن جمهور الأمة، للقيام بمهام سلطات التشريع، والرقابة والمحاسبة لسلطات التنفيذ في " الدولة" فهو من " آليات" الديمقراطية، وتراث مؤسساتها، وبه توسلت تجاربها عندما تعذرت "الديمقراطية المباشرة "، التي تمارس فيها الامة كلها، وبشكل مباشر، هذه المهام والسلطات ... توسلت الديمقراطية الحديثة بهذه " الآلية" الى تحقيق مقاصدها وفلسفاتها ...
وإذا كان البعض يضع الشورى الاسلامية في مقابلة الديمقراطية -سواء بالتسوية التامة بينهما ... أو بالتناقص الكامل بينهما - فإن هذا الموقف ليس بالصحيح إسلامياً ... فليس هناك تطابق بينهما باطلاق ... ولا تناقص بينهما بإطلاق ... وإنما هناك تمايز بين الشورى وبين الديمقراطية، يكشف مساحة الاتفاق ومساحة الاختلاف بينهما.(54/344)
فمن حيث الآليات والسبل والنظم والمؤسسات والخبرات "التي تحقق المقاصد والغايات من كل الديمقراطية والشورى، فانها تجارب وخبرات إنسانية ليس فيها "ثوابت مقدسة " ... وهي قد عرفت التطور في التجارب الديمقراطية، ومن ثم فإن تطورها وارد في تجارب الشورى الاسلامية، وفق الزمان والمكان والمصالح والملابسات ... والخبرات التي حققتها تجارب الديمقراطية في تطور الحضارة الغربية، والتي افرزت النظام الدستوري، والتمثيل النيابي عبر الانتخابات، هي خبرات غنية وثروة انسانية، لا نعدو الحقيقة إذا قلنا انها تعتبر خلافة لما عرفته حضارتنا الاسلامية، مبكرا، من اشكال اولية وضنينة في " البيعة" و "المؤسسات"...
أما الجزئية التي تفترق فيها الشورى الإسلامية عن الديمقراطية الغربية، فهي خاصة "بمصدر السيادة في التشريع الابتدائي "...
فالديمقراطية تجعل "السيادة" في التشريع ابتداء للشعب والامة، إما صراحة، وإما في صورة ما أسماه بعض مفكريها بـ " القانون الطبيعي " الذي يمثل بنظرهم- أصول الفطرة الانسانية ... ومن ثم، فإن "السيادة"، وكذلك "السلطة" في الديمقراطية، هما للإنسان ... للشعب والأمة ...
أما في الشورى الإسلامية، فإن " السيادة" في التشريع ابتداء، هي لله، سبحانه وتعالى، تجسدت في " الشريعة" التي هي " وضع إلهي " وليست إفرازاً بشرياً ولا طبيعياً ... وما للإنسان في " التشريع" إلا سلطة البناء على هذه الشريعة الإلهية، والتفصيل لمجملها، والاستنباط من نصوصها وقواعدها واصولها ومبادئها، والتفريع لكلياتها والتقنين لنظرياتها ... وكذلك، لهذا الانسان سلطة الاجتهاد فيما لم ينزل به شرع سماوي، شريطة ان تظل "السلطة البشرية" محكومة بإطار معايير الحلال والحرام الشرعي، أي محكومة بإطار فلسفة الاسلام في التشريع ...
ولذلك كان الله سبحانه وتعالى في التصور الإسلامي، هو " الشارع" لا الانسان... وكان الانسان هو "الفقيه"، لا الله ... فأصول الشريعة ومبادؤها وثوابتها وفلسفتها إلهية، يتمثل فيها "حكم الله وحاكميته "...
أما البناء عليها، تفصيلاً وتنمية وتفريعا وتطويراً واجتهاداً للمستجدات ولمناطق "العفو" التي هي المساحة الأوسع في المتغيرات الدنيوية، فهو فقه وتقنين، تتمثل فيهما سلطات الإنسان، المحكومة بحاكمية الله ... وفي هذا الجانب يتمثل الفارق الجوهري والاختلاف الاساسي بين الشورى الإسلامية وبين الديمقراطية الغربية ...
ولهذا التمايز والاختلاف -بين الشورى والديمقراطية- صلة وثيقة بنظرة كل من الحضارتين -الاسلامية-والغربية- للكون، ولحدود نطاق عمل وتدبير الذات الإلهية ... وحدود تدبير الإنسان، ولمكانته في الكون ... وللعلاقة بين الإنسان وبين الله ...
ففي النظرة اليونانية القديمة، وخاصة عند "ارسطو" { 384-322 ق م } وهي التي مثلت تراث النهضة الغربية الحديثة - نجد أن الله قد خلق العالم، وحركه، ثم تركه يعمل وفق طبائعه وقوانينه والأسباب الذاتية المودعة فيه، دونما تدخل أو رعاية او تدبير إلهي لحركة هذا العالم ... فالعالم هنا، وفي هذه الفلسفة، مستقل بذاته ... بعد الخلق عن تدبير الله، وحاكمية شرائعه السماوية ...
وهذه - النظرة لحدود التدبير الإلهي، وجدناها في النهضة العلمانية الغربية الحديثة تعتمد على المبدأ الانجيلي الذي يجعل مالقيصر لقيصر ومالله لله، فيفصل بين إطار التدبير الإلهي الذي وقف عند "الخلق" وعند خلاص الروح ومملكة السماء - وبين إطار التدبير الإنساني - الذي أعطاه السيادة في تدبير العمران الإنساني، والملكوت الدنيوي، دونما قيود من الحاكمية الإلهية على هذه السيادة والسلطة البشرية فكلما أن العالم في هذه الفلسفة الغربية للديمقراطية - مستقل بذاته عن تدبير خالقه تديره الأسباب والقوى الذاتية المودعة فيه ... فكذلك الانسان في هذه الفلسفة مستقل بذاته، يدير الدولة والمجتمع بالعقل والتجربة، دونما حاكمية إلهية ولا رعاية شرعية سماوية ... فهو "سيد الكون "، الحر والمختار بإطلاق ... ومن هنا كانت له "السيادة" في التشريع، مع "السلطة" في التنفيذ، بتعميم وإطلاق ... بل إن له هذا الاستقلال والحرية المطلقة في العلمانية الشاملة، منظومة للقيم والأخلاق .
هذا عن - البعد الفلسفي للرؤية الكونية ... ونطاق عمل الذات الإلهية ... ومكانة الإنسان في الكون ... وحريته وسيادته، في الاساس الفلسفي للديمقراطية الغربية ... والتي كانت، لذلك، علمانية - في النشأة والتطبيقات ...(54/345)
أما في - النظرة الإسلامية، فان الله سبحانه وتعالى، ليس مجرد "خالق" وفقط ... وإنما هو " خالق ... ومدبر " وكما أن خلقه دائم ابدا، فان تدبيره دائم ابدا، وله "حاكمية" في التكوين وفي التشريع معا، ورعاية لكل عوام المخلوقات. ونحن نقرأ، في القرآن الكريم عن نطاق عمل الذات الإلهية ": " الا له الخلق والأمر " ... قال فمن ربكما يا موسى .. قال ربنا الذي اعطى كل شئ خلقه ثم هدى " وإذا كان الله سبحانه وتعالى، قد استخلف الإنسان لعمران هذه الأرض " واذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " ... فإن هذا الاستخلاف قد جعل الانسان -في التصور الإسلامي- بالمرتبة الوسط ... فهو نائب ... ووكيل وحر .. وقادر ... ومستطيع ... ومبدع، لكن في حدود الشريعة الإلهية، التي هي بنود عقد وعهد الاستخلاف ... نعم، إنه ليس الفاني في الذات الإلهية ... لكنه، ايضاً، ليس "سيد الكون" وإنما خليفة لسيد الكون ... وبعبارة الإمام محمد عبده { 1265-1323 هـ 1849-1905م } فإن هذا الإنسان " عبدالله وحده، وسيد لكل شئ بعده ".
إنه - الانسان خلقه الله ... واستخلافه عن الله لا يخرجه من مظلة التدبير الإلهي، بل يجب أن يظل دائماً وابداً في إطار هذه الرعاية وهذا التدبير، حتى أن عبوديته لله هي قمة حريته، لأنها هي التي تحرره من العبودية لكل الطواغيت ... " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له " وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " ولذلك، كانت شهادة أن لا إله الا الله، جامعة لحرية الانسان وتحرره، ولعبوديته لله وحده، حتى لكأنها وجهان لعملة واحدة !..
- تلك هي على وجه الحصر والتحديد، الجزئية الفلسفية التي تتمايز فيها الشورى الإسلامية عن الديمقراطية الغربية ...
أما ما - عدا ذلك، من تأسيس الحكم والسلطة على رضا الأمة وراي الجمهور واتجاه الرأي العام ... وجعل السلطة في اختيار الحكام، وفي مراقبتهم ومحاسبتهم، وفي عزلهم، هي للأمة ... وكذلك لك اختيار الآليات والنظم النيابية لتكوين المؤسسات الممثلة لسلطات التقنين والتنفيذ والرقابة والقضاء ... فإنها على وجه الإجمال مساحة اتفاق بين الديمقراطية الغربية وبين الشورى الإسلامية ..
وكذلك - الحال مع مبدأ ونظام الفصل بين السلطات -سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء ... وهو المبدأ الذي تعارفت عليه الديمقراطية الغربية ... فإنه مما تقبله وتحتاجه الشورى الإسلامية ... بل ربما ذهبت فيه تجربة الحضارة الاسلامية أبعد وأعمق وأفضل مما ذهبت التجارب الديمقراطية الغربية، ذلك أن تمييز سلطة الاجتهاد الفقهي في النظام الشوري الإسلامي عن السلطات الرقابية والتنفيذية والقضائية، يجعل السلطات -في النظام الإسلامي ... اربعاً بدلاً من ثلاث ... كما يجعل سلطة التشريع فوق الدولة، بسبب إلهية الشريعة، الأمر الذي يحرر القانون من سلطان الاستبداد البشري والأهواء البشرية ... وفوق ذلك، يحقق هذا النظام الإسلامي الفصل الحقيقي بين السلطات، ذلك أن التجربة الديمقراطية الغربية، التي آلت فيها سلطة التشريع للبرلمان، قد جعلت -من الناحية العملية- سلطة التشريع وسلطة التنفيذ متماهيتان في الهيئة البرلمانية لحزب الأغلبية الحاكم، الأمر الذي جعل الفصل الحقيقي بين سلطتي التشريع والتنفيذ باهتاً الى حد كبير ... أما استقلال سلطة خاصة بالاجتهاد والتقنين، مع التزامها بحاكمية الشريعة الإلهية، فهو الأقرب الى تحقيق مبدأ فصل السلطات، والأكثر تحقيقا لسيادة القانون على باقي السلطات ...
ولقد - أدرك هذه الحقيقة - حقيقة هذا التمايز بين الشورى الإسلامية وبين الديمقراطية الغربية ... في عصور القانون بكل منهما -العلماء الغربيون الذين خبروا وتخصصوا في الشريعة الإسلامية وفي القانون الروماني، وقارنوا بين الفقه الاسلامي وبين المدونات القانونية في الحضارة الغربية ... أدركوا هذه الحقيقه،ولفتوا إليها الأنظار وسلطوا عليها الأضواء ...
لقد - كتب المستشرق " دافيد دي سانتيلانا " {1845 - 1931م } عن فلسفة التشريع في القانون الوضعي الغربي " إن معنى الفقه والقانون بالنسبة إلينا وإلى الأسلاف : مجموعة من القواعد السائدة التي اقرها الشعب، إما رأساً أو عن طريق ممثلية÷ وسلطانه مستمد من الإرادة والإدراك وأخلاق البشر وعاداتهم ".
- فهو قانون "دنيوي" أي "علماني" خالص الدنيوية ...
ثم - استطرد " سانتيلانا "، مقارنا هذه الفلسفة العلمانية للقانون في الديمقراطية الغربية، بالفلسفة الإسلامية في التشريع والفقه الإسلامي، فقال " إلا أن التفسير الإسلامي للقانون هو خلاف ذلك ... فالخضوع للقانون الإسلامي هو واجب اجتماعي وفرض ديني في الوقت نفسه، ومن ينتهك حرمته لا يأثم تجاه النظام الاجتماعي فقط، بل يقترف خطيئة دينية ايضاً ... فالنظام القضائي والدين، والقانون والأخلاق، هما شكلان لا ثالث لها لتلك الإرادة التي إستمد منها المجتمع الإسلامي وجوده وتعاليمه، فكل مسألة قانونية إنما هي مسألة ضمير ... والصبغة الأخلاقية تسود القانون ... فالشريعة الإسلامية شريعة دينية تغاير أفكارنا اصلاً ...".(54/346)
وذات - هذه الحقيقة - حقيقة اختلاف فلسفة الشورى وقانونها الاسلامي عن الديمقراطية وقانونها الوضعي العلماني -يؤكد عليها المستشرق السويسري " مارسيل بوازار " ... فيقول -عن اختلاف المصدر والمقاصد بينهما ... ( ومن المفيد أن نذكر فرقاً جوهرياً بين الشريعة الإسلامية والتشريع الأدبي الحديث ، سواء في مصدريهما المتخالفين، او في اهدافهما النهائية ... فمصدر القانون في الديمقراطية الغربية هو : ارادة الشعب، وهدفه: النظام والعدل داخل المجتمع أما الاسلام، فالقانون صادر عن الله، وبناء عليه يصير الهدف الأساسي الذي ينشده المؤمن هو البحث عن التقرب الى الله، باحترام الوحي والتقيد به ... فالسلطة يجب في الاسلام تفرض عدداً من المعايير الاخلاقية ... بينما تسمح في الطابع الغربي ان يختار الناس المعايير حسب الاحتياجات والرغبات السائدة في عصرهم ...)
هكذا - شهد العلماء الخبراء الغربيون بالتمايز -في البعد الفلسفي- بين الشورى الاسلامية وفقهها وبين الديمقراطية الغربية وقانونها ...
إن - الشورى في حقيقتها- هي اسم من "المشاورة" ... والمشاورة هي استخراج الرأي فهي -في حد ذاتها- أدخل في "الآليات" ... آليات استخراج الرأي ... وهي -بهذا الاعتبار- لايمكن ان تكون نقيضاً لآليات الديمقراطية ... اما التمايز بينهما فإنه يأتي في الموضوع الذي تعمل فيه هذه الآليات ... وفي نطاق عمل هذه الآليات ... فعلى حين لا تعرف الديمقراطية حدودا إلهية لسلطات عمل وإعمال آلياتها، تميز الشورى الإسلامية بين نطاقين من "الأمر" ... أمر هو لله .. أي تدبيره الذي يختص به سبحانه ... "وأمر"، اي تدبير، هو في مقدور الإنسان، وفيه تكون شوراه ... وفي القرآن الكريم عن "الأمر" الأول ( الا له الخلق والأمر ) - وعن " الأمر " الثاني " ( أمره ... وتدبيره ) ... وبحكم خلافة الانسان لله، سبحانه وتعالى، فان " امره ... وتدبيره " أي حاكميته الانسانية محكومة بإطار و ( امر الله وتدبيره ) التي هي حاكمية الله وحدود شريعته الإلهية...
ففي - المرجعية ... وفي الفلسفة ... وفي الحدود ... وفي المقاصد يرد التمايز بين الشورى الاسلامية وبين الديمقراطية الغربية ... وليس في الآليات ... والمؤسسات ... والنظم ... والخبرات ...
ان - الديمقراطية كفكر وضعي وفلسفة دنيوية لاتمد بصرها الى ما هو ابعد من صلاح دنيا الانسان، بالمقاييس الدنيوية لهذا الصلاح ... على حين نجد الشورى كفريضة الهية تربط بين صلاح الدنيا وسعادة الآخرة، فتعطي الصلاح الدنيوي بعدا دينيا، يتمثل في المعيار الديني لهذا الصلاح.
مع - ضرورة التنبيه والتأكيد على أن الاستبداد مفسد للدنيا والآخرة جميعا، ذلك ان " نظام الدين كما يقول حجة الاسلام ابو حامد الغزالي {450-505هـ 1058 - 1111م } لا يحصل الا بنظام الدنيا ... فنظام الدين، بالمعرفة والعبادة لا يتوصل اليهما الا بصحة البدن، وبقاء الحياة، وسلامة قدر الحاجات، من: الكسوة والمسكن والاقوات والامن ... فلا ينتظم الدين الا بتحقيق الامن على هذه المهمات الضرورية ... فنظام الدنيا شرط النظام الدين ".
فحتى - لو وقفت فوائد الديمقراطية عند صلاح الدنيا، فيجب عدم الاستهانة بذلك، وخاصة اذا كان البديل هو الاستبداد، المفسد للفرد والمجموع، وللدين والدنيا جميعا !...
- وأخيراً ... فسواء أكان أمر الشورى الإسلامية، أو أمر الديمقراطية الغربية، فان هناك فارقاً بين " المثال " وبين " الواقع " عند الممارسة والتطبيق ... وإنها لحكمة إلهية أن تظل التطبيقات لكل المبادئ والفلسفات دون " المثال " الذي يصوره الفكر لهذه المبادئ والفلسفات، وذلك حتى يظل السعي الإنساني دائباً ودائماً على طريق الإقتراب "بالواقع" من " المثال " فينفسح الأمل دائماً وأبداً أمام التسابق الإنساني على طريق التقدم والارتقاء ... وإلا فلو حقق الانسان كامل المثال لا نتهي " جدول أعمال " الحياة الإنسانية، وحل القنوط محل التطلع لتحقيق المزيد من الآمال ...
لقد - كانت تطبيقات الشورى الإسلامية، في تأريخ الأمة والحضارة الإسلامية، ادنى بكثير من جداً من " مثال " هذه الشورى في الفكر الاسلامي ... وكذلك حال التطبيقات الغربية للديمقراطية، لم تمنع هذه الحضارة الديمقراطية من انتاج العنصرية ... والحروب الدينية ... والقومية ... والاستعمارية والنظم الفاشية ... والحروب الكونية التي جعلت هذه المجتمعات الديمقراطية تتفوق على وحشية الإنسان البدائي في الإبادة والتدمير!... ولم تمنعها من أثرة الرأسمالية المتوحشة، التي جعلت وتجعل 20% من البشر _ هم سكان الشمال الديمقراطي -يتأثرون بـ 86% من خيرات العالم، تاركين 14% من ثروات العالم لـ 80% من السكان !! ... ناهيكم عن أن هذه التطبيقات الغربية للديمقراطية لم تمنع من أن تكون التجارة الأولى للدول الديمقراطية هي تجارة السلاح ... تليها تجارة المخدرات ... تليها تجارة الدعارة!! ... ولم تمنعها من ان يكون ماينفق على القطط والكلاب والخمور والترف المستفز اضعاف ما ينفق على الصحة والغذاء والتعليم!..(54/347)
فلا - الشورى تمثل الوصفة السحرية للتقدم والإصلاح ... ولا الديمقراطية هي الحل السحري لمشكلات المجتمعات المعاصرة ... وإنما الحل هو الكدح الإنساني كي تكون التطبيقات للشورى ... او الديمقراطية - اقرب ما تكون إلى تحقيق إنسانية الإنسان.
الهوامش:
1. القرطبي ( الجامع لأحكام القرآن ) ج2 ص 249، طبعة دار الكتب المصرية - القاهرة.
2. روى البخاري ذلك في البيعة العامة للراشد الثالث عثمان بن عفان.
3. انظر : ( موسوعة السياسة ) المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 1981م.
4. سانتيلانا (القانون والمجتمع) ضمن كتاب (تراث الاسلام) ص 411، 438، 431 ترجمة جريس فتح الله. طبعة بيروت سنة 1972م.
5. لواء احمد عبدالوهاب (الاسلام في الفكر العربي ) نصوص ص 81 - 83 طبعة القاهرة سنة 1993م.
6. الغزالي ( الاقتصاد في الاعتقاد ) ص 135 طبعة مكتبة ومطبعة صبيح - القاهرة بدون تاريخ.
* كاتب إسلامي مصري
=================
موسوعة المقالات والبحوث العلمية - (ج / ص 1)
الشورى في الإسلام
إعداد / باسل علوظي برلين 5/9/1424
30/10/2003
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله...وبعد،
قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}- 159سورة آل عمران.
وقال تعالى: { وَالَّذِين اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ...} 38سورة الشورى.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: "أي لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه".
وروى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سئل رسول ا صلى الله عليه وسلم عن العزم، فقال: "مشاورة أهل الرأي ثم إتباعهم".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن صلى الله عليه وسلم قال: "المستشار مؤتمن".
وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما". قال الشيخ د/ يوسف القرضاوي حفظه الله في كتابه السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها: "معناه: أنه يرجح رأي الاثنين على رأي الواحد ولو كان هو رسول ا صلى الله عليه وسلم ". وقال حفظه الله: "سمي أهل الشورى في الإسلام أهل الحل والعقد فإذا لم يكن لرأيهم وزن فماذا يحلون ويعقدون إذا؟".
والمتأمل لسيرت صلى الله عليه وسلم يجده كثير التشاور مع أصحابه وحتى مع زوجاته عليه السلام، بل كان أصحابه رضي الله عنهم يبادرونه بالرأي والمشورة، فكانوا يسألون رسول ا صلى الله عليه وسلم ، أهو الرأي والمشورة أم هو وحي من الله، فإذا قال بل الرأي والمشورة بادروه بآرائهم، وكان عليه السلام يأخذ بآرائهم إذا شاورهم أو بادروه بالمشورة إلا إذا حسم الأمر بالوحي، وكان ينزل عند رأي الجمهور - الأغلبية - حتى وإن كان يرى غيره أفضل منه، وسيأتي مثال مشهور من سيرته على ذلك، وكان عليه السلام أمر الصحابة مرة بعدم تأبير النخل (تلقيحه) فلما تركوه لم يحمل النخل ثمرًا، فعاد وقال لهم: "... أنتم أدرى بأمور دنياكم". وهذا تشريع وليس مجاملة يطيب بها خاطرهم، ولم يكن هذا الحدث عبثا بل جعله الله ليشرع به هذا الموقف المهم.
وفي تفسير قوله تعالى: "وشاورهم في الأمر" يقول شهيد الصحوة الإسلامية سيد قطب - رحمه الله- الذي قال كلمة حق أمام سلطان جائر فقتله، في كتابه المعروف "في ظلال القرآن": يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم - حتى ومحمد رسول ا صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولاه، وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه...
أما شكل الشورى والوسيلة التي تتحقق بها، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها، وكل شكل وكل وسيلة، تتم بها حقيقة الشورى - لا مظهرها - فهي من الإسلام.
وقد نزلت هذه الآية بعد هزيمة المسلمين في "أحد" وكان رسول ا صلى الله عليه وسلم يميل إلى البقاء في المدينة ومواجهة من يدخلها عليهم في الداخل، ولكنه نزل على رأي جمهور الصحابة الذين أرادوا الخروج لملاقاة العدو خارج المدينة فنزلت الآية: "فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر" ليقرر مبدأ الشورى في مواجهة أخطر الأخطار التي واجهت استعماله، وليثبت هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة، أيًا كانت الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق، وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة، كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة، ولو كان هو انقسام الصف كما وقع في "أحد" والعدو على الأبواب، لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ، ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق...
ويقول الشيخ د/ يوسف القرضاوي في "الفتاوى المعاصرة":(54/348)
"ومن القواعد الشرعية المقررة: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن المقاصد الشرعية المطلوبة، إذا تعينت لها وسيلة لتحقيقها، أخذت هذه الوسيلة حكم ذلك المقصد".
ولا يوجد شرعًا ما يمنع اقتباس فكرة نظرية أو حل عملي، من غير المسلمين، فقد أخذ صلى الله عليه وسلم بفكرة "حفر الخندق" وهو من أساليب الفرس.
ويقول: "أن من حقنا أن نقتبس من غيرنا من الأفكار والأساليب والأنظمة ما يفيدنا.... ما دام لا يعارض نصًا محكمًا، ولا قاعدة شرعية ثابتة. وعلينا أن نحور فيما نقتبسه، ونضيف إليه، ونضفي عليه من روحنا ما يجعله جزءًا منا، ويفقده جنسيته الأولى. (من كتاب الحل الإسلامي فريضة وضرورة).
الخلفاء الراشدون والشورى:
بعد وفاة رسول ا صلى الله عليه وسلم اجتمع أهل الحل والعقد من أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم من الأنصار ومن قريش لتنصيب خليفة لرسول ا صلى الله عليه وسلم (وأهل بيته وأبناء عمومته عليه الصلاة والسلام كانوا منشغلين بتكفين جثمانه الشريف r) فأخذوا يتناقشون حول كيفية ترشيح الخليفة، أيكون من الأنصار؟ أم من المهاجرين؟ أم واحد من هؤلاء وواحد من هؤلاء؟ حتى استقروا بعد نقاش مستفيض على أبي بكر رضي الله عنه وبايعوه جميعًا ثم خرج يخطب في الناس خطبة توليه الخلافة وقبوله البيعة، فكان مما قال: "أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم...".
وبعد حكم عامين أوصى أبو بكر بالخلافة لعمر رضي الله عنهما - وذلك بعدما استشار كبار الصحابة - ولم تنعقد الخلافة لعمر (رضي الله عنه) بمجرد وصية أبي بكر (رضي الله عنه)، بل كانت هذه الوصية بمثابة ترشيح من أبي بكر لعمر، وكان عمر الفاروق هو المرشح الوحيد الذي اختاره أبو بكر لدرايته به وبإمكانياته وأمانته وجدارته وتوقعه قبول الناس به، فلما مات أبو بكر (رضي الله عنه) أعلن أهل الحل والعقد قبولهم بعمر - مرشح أبي بكر (رضي الله عنه) - لهذا المنصب، فبايعوه ليبايعه عامة الناس من ورائهم، وبهذه البيعة انعقدت الخلافة شرعًا لعمر (رضي الله عنه) وليس بمجرد ترشيح أبي بكر له، فخطب بالناس خطبة شبيهة بخطبة أبي بكر، وكان مما قال فيها: "أيها الناس من رأى في اعوجاجًا فليقومني..."ويرد عليه واحد من الجمهور أمام الناس فيقول: "والله يا ابن الخطاب لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بحد سيوفنا!".
فكان يحض الناس ويشجعهم ويفتح لهم الباب للتدخل لتقويمه وإصلاح خطأه، فلم تكن البشرية آنذاك قد عرفت مجالس الشورى المنتخبة ذات الصلاحية الرسمية لمحاسبة الرئيس إذا ظهر منه اعوجاج عن الدستور المنظم لمصالح البلاد، ولو كانت موجودة وقتها لسارع عمر رضي الله عنه لأسلمتها لحماية دستور الأمة الإسلامية (الشريعة المستقاة من القرآن والسنة الصحيحة..) من استبداد أمير أو حتى سهوه وخطأه غير المتعمد، حتى ولو كان ذلك الأمير هو عمر نفسه رضي الله عنه، فما أحرصه وأغيره على هذه الأمانة العظيمة - هذا الدين الحنيف -، فهو الذي قام بأسلمة نظام الديوان الفارسي وطوعه لخدمة الإسلام والمسلين.
وهو الذي ردت عليه امرأة رأيه وهو فوق المنبر أمام الناس، فلم يجد في نفسه غضاضة، بل قال أمام الملأ: "أصابت امرأة وأخطاء عمر" وتراجع عن رأيه.
وكان عمر رضي الله عنه إذا حزبه أمر لم يجده في الكتاب والسنة، جمع له أصحاب صلى الله عليه وسلم وجعله شورى بينهم!.(54/349)
ومن شدة حرصه على مصلحة الأمة حين أراد أن يرشح لهم خليفة - ولم يجد واحدًا مميزًا جدًا يعلم أن الأمة ستجتمع عليه- فيسميه ويرشحه للخلافة من بعده، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه فاختار من الصفوة ستة، رشحهم لهذا المنصب، ولم يكتف بذلك بل وسنَّ لهم أول نظام عرفه العالم في انتخاب الرئيس، وذلك قبل ظهور ديموقراطية أوروبا بأكثر من ألف عام، ففي ذلك الوقت ما كانت تعرف البشرية هذه الانتخابات، وكان للفرس ملك (شاه) يدعى كسرى، وكان للروم ملوك هم القياصرة يتوارثون الملك ويستبدون بالشعوب بلا رقيب ولا حسيب ولا دستور ضابط أو مرجعية تحسم الخلاف. وكان للإسلام دستور هو القرآن والسنة ومرجعية وهم العلماء الذين يستنبطون الأحكام من القرآن والسنة وفق منهج بينه لنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:{ "وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } 83- النساء. الذين يستنبطونه هم العلماء، فأولو الأمر ليسو فقط الأمراء بل هم الأمراء والعلماء، وهي بصيغة الجمع كناية عن أهل الحل والعقد، فلم يقل سبحانه إلى الأمير أو إلى الخليفة بل قال: "وإلى أولي الأمر منهم"، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}59- النساء، ففي الشطر الثاني عند ذكر النزاع لم يذكر ولاة الأمر لأنهم قد يكونون طرفًا في النزاع فإلى من يرد الأمر عندها؟ إلى الله والرسولل، ومن يستنبط حكم الله والرسولل؟ هم العلماء ومن يفصل في النزاع إذا كان ولي الأمر طرفًا فيه؟ هم القضاة، وهذا وقع في تاريخ الإسلام عدة مرات لما كانت الأمة في عافيتها.
وجد عمر أن الستة يمكن أن يصيروا ثلاثة مقابل ثلاثة، فحتى يحسم نتيجة الانتخاب بوضوح رشح ابنه عبد الله - ليس لأنه ابنه فجمع الناس يعرفون قدر عبد الله بن عمر - رشحه كعضو في هذا المجلس، ولكن أعطاه حق التصويت فقط ولم يعطه حق الترشيح، فليس لعبد الله بن عمر أن يرشح نفسه بل له فقط أن يعطي صوته لأحد المرشحين إذا تساوت الأصوات، والعبرة هنا ليس بتحديد العدد بل بالفكرة التي أحدثها عمر في الإسلام على أسس الإسلام خدمة لمقاصده، فأقر مبدأ التشاور والترشيح والتصويت والانتخاب، بل وزاد على ذلك أن كلف إحدى القبائل بمحاسبة أعضاء هذا المجلس إذا هم أخفقوا في التوصل إلى حل في مدة ثلاثة أيام، وقال لهم أن يقتلوا كل هؤلاء المرشحين إذا لم يتوصلوا إلى حل ويتفقوا بعد ثلاثة أيام. وأعود فأقول ليست العبرة هنا بالمدة التي حددها عمر رضي الله عنه ولا بنوع العقوبة، بل بالمبدأ الذي أقره، وأقره عليه الصحابة بقبوله وتطبيقه وفق فهمهم لمنهج النبوة الذي كانوا على عهد قريب به، وهو محاسبة أولي الأمر وأهل الحل والعقد بالإضافة إلى موضوع الانتخاب.
إن تطورات الأمور في هذا المجلس أدت إلى أن بقي مرشحان هما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعثمان بن عفان رضي الله عنه، وكانت الكلمة التي تحدد من منهما يكون الخليفة هي كلمة أو لنقل صوت الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وهذا الصحابي لم يرد أن يغامر في هذه المسؤولية ويختار للأمة إلا بعد أن يسألهم ليطمئن أنه اختار لهم من يقبلوه، فذهب يسأل أهل المدينة بيتًا بيتًا، حتى أنه كان يسأل النساء أيضا (علي أو عثمان) وكانت نتيجة هذا الاستفتاء تميل إلى كفة عثمان، ليس رفضًا لعلي رضي الله عنه بل ميلًا إلى سهولة وسخاء عثمان مقارنة بشدة علي - في الحق طبعًا - وعند انقضاء المدة أعلن عبد الرحمن بن عوف بيعة عثمان، وبايعه علي رضي الله عنه ثم بايع سائر الناس، فكم من درس يمكن أن نستنبط من هذه القصة؟؟؟
وفي خلافة عثمان رضي الله عنه رأى عثمان ألا يجمع الناس بين الحج والعمرة في وقت الحج، فقال للناس في الحج: "أتموا الحج وأخلصوه في أشهر الحج، فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل فأن الله قد أوسع في الخير"، فقال له على رضي الله عنه: "عمدت إلى سنة رسول ا صلى الله عليه وسلم ورخصة رخص الله للعباد بها في كتابه، تضيق عليهم فيها وتنهي عنها، وكانت لذي الحاجة ولنائي الدار" ثم أهل علي رضي الله عنه بعمرة وحج معًا، فأقبل عثمان بن عفان رضي الله عنه على الناس فقال: "إني لم أنه عنها، إنما كان رأيًا أشرت به، فمن شاء أخذه ومن شاء تركه". فكون عثمان هو الخليفة والأمير لم يمنع عليًا أن يواجهه بالخلاف بالرأي ويصوبه، ولم يتعال عثمان على الحق، فسارع ليبين للناس أن رأيه ليس بلازم للأمة الأخذ به.
وفي فترة خلافة علي رضي الله عنه عارضه رجل في أمر، فقال له علي رضي الله عنه: "أصبت - وأخطأت، وتلا قوله تعالى: "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ" - 76سورة يوسف.(54/350)
وبعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ولم يكن عثمان قد قدم أي مرشح أو مجموعة مرشحين للخلافة من بعده، ومع توسع الدولة الإسلامية لم يعد سهلًا أن يجتمع أهل الحل والعقد في مكان واحد، وزاد على ذلك الخلاف الذي وقع بن علي رضي الله عنه وبين معاوية رضي الله عنه بداية حول القصاص بدم عثمان رضي الله عنه، فصارت فجوة، وظهر فراغ، أدى إلى فتنة واقتتال بين المسلمين حتى حسم بمقتل أحد الخليفتين وهو علي رضي الله عنه، ومما لا شك فيه بين أهل السنة أن المسلمين لو اتفقوا على علي أو على معاوية رضي الله عنهما لكان خيرًا من الاقتتال فكلاهما من أهل الفضل وإن زاد فضل علي على معاوية رضي الله عنه، فإنه يبقى صحابي جليل له فضله وقدره وجهاده في الإسلام، ولكنها الفتنة التي نريد أن نتعلم منها درسًا حتى لا نقع فيها، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وعلينا أن نجتهد في ذلك، ونتوكل على الله مع بذل الأسباب.
حصل درس آخر في عهد علي رضي الله عنه في العراق لا يجب أن نفوت الاستفادة منه في هذا المقام، ألا وهو ظهور الخوارج، رغم معارضتهم لعدة مسائل، قال فيهم علي رضي الله عنه: "لهم علينا ثلاث، لا نمنعهم مساجد الله، ونقاسمهم الفيء ما دامت أيديهم في أيدينا، ولا نبدأهم بقتال". فانظر أيها المتدبر إلى هذه القواعد التي استنبطها وسنها علي رضي الله عنه في التعامل الشرعي الحكيم والعادل الذي يرعى مصالح الناس وحقوقهم، حتى مع المعارضة المنظمة، ومن هذا يمكن أن نستنبط ونفهم التالي:
المعارضة والمخالفة للخليفة أو للحاكم ليست في حد ذاتها جريمة يعاقب عليها الشرع.
المخالفون يتمتعون بكامل حقوقهم في الدولة ويأخذون مالهم إذا أدوا ما عليهم.
المساجد لم تكن أماكن عبادة فقط في ذلك الوقت بل كانت أماكن تجمع للتشاور في المسائل العامة التي تعني الأمة وأماكن لتجييش الجيوش وأماكن للإعلان عن أمور هامة وللتباحث في المسائل العلمية، فلم يحرم أصحاب الرأي الآخر من دخولها فهي وسائل الإعلام والبرلمانات (مجالس الشورى) ومنتديات الحوار الهادف والجاد، ومن حق المعارضة ألا تحرم من هذه الأماكن، وإذا حرمت منها وأغلقت أمامها هذه الأبواب فستكون لهم حجة لاستخدام أبواب ممنوعة وعاقبتها وخيمة على الأمة الإسلامية لما يمكن أن يلحق بالأمة عن تفكك وانقسام، ولو حفظ أئمة الأمويين والعباسين هذه الحقوق للمسلمين لما تعرض أئمة مثل الإمام أحمد بن حنبل والإمام ابن تيمية وغيرهم للسجن والضرب والنفي لمخالفتهم في الرأي مع أنهم كانوا على الحق، وهذا ما بعد ذلك.(54/351)
(54/352)
أنهم لا يقاتلون ولا يسجنون ما داموا منضبطين بضوابط الخلاف يناقشون بالدليل والحجة، ويستوضحون ويوضحون آراءهم، فليس الصواب دائمًا مع الخليفة أو الأمير فهم في اعتقاد أهل السنة ليسوا معصومين، فكيف يتضح الصواب والخطأ إذا لم يفتح المجال للحوار والنقاش والاستدلال والتناظر، ومعروف أن هذا كان سائدًا في عهد الصحابة وفي عهد الخلفاء الراشدين، ورغم تناقصه في الفترة التي سمها الرسو صلى الله عليه وسلم (ملكًا عاضًا) إلا أن التاريخ لم يخل من شواهد مشرقة في هذا الجانب، فكان الشافعي رحمه الله يناظر العلماء في المسائل العلمية، وكان الأوزاعي وابن عساكر وغيرهم يناصحون الأمراء أمام الناس، وما كان الخلفاء يقتلون أو يسجنون أو ينفون كل من يخالفهم أو يناصحهم، ولكن الأحرى بالأمة أن تضبط هذا الأمر حتى لا يبقى عرضة لهوى الحاكم فإن لم يتق الله فالويل لكل من تسول له نفسه معارضته أو مناصحته أمام الناس، فيعدها خروجًا عن طاعته أو دعوة إلى فتنة لشق الصف فيطبق عليهم عقوبة ما ألصق بهم من تهم، وأحيانًا يصدر الحكم غيابيًا مع أن المتهم موجود ويمكن استدعاؤه واستجوابه في مجلس القضاء.
وهناك مسألة التحكيم المشهورة!!! فما هي؟... وما الفائدة التي تستفاد منها؟
في الفتنة التي وقعت بين الإمامين علي ومعاوية رضي الله عنهما، اتفق الفريقان على التحكيم، ولو قبل الطرفان بنتيجة التحكيم مهما كانت لكان هذا سببًا لتجنب الفتنة.
وهنا عاد الخوارج ليزيدوا المشكلة ويؤججوا نارها ويرفضوا التحكيم بحجة قالوها: "لا حكم إلا لله"، وهي مقولة حق في حد ذاتها، لكنهم استدلوا بها للتضليل وليرفضوا بذلك تحكيم البشر في النزاع، وهو خلاف ما قرره القرآن في أكثر من موضع، منها التحكيم بين الزوجين إن وقع بينهما شقاق، فالحكم لله ولكن من الذي يستنبط هذه الأحكام وينزلها باجتهاده على الحوادث؟ أليسوا هم الفقهاء؟ ليحلوا بها الخلاف ويحسموا بها القرارات! أليسوا هم أهل الحل والعقد؟ ولهذا رد عليهم علي رضي الله عنه بقولته المشهورة: "كلمة حق أريد بها باطل".
فهو يرد عليهم حجتهم ويدحضها ولم يستخدم سلطته في قمعهم، ليس جبنًا ولا ضعفًا ولكنها عين القوة التي تعلمها من بيت النبوة على منهاج النبوة: "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" ولا يعاقب أحدا بذنب لم يقترفه، فما داموا لم يحملوا السلاح، ولم يدعوا الناس لشق الصف، فلا يقاتلهم ما داموا ملتزمين بمنهج الحوار فلا سجن ولا نفي.
ولكن عندما خرجوا عن الضوابط الشرعية قاتلهم، وهذا عندما خرجوا عن القانون وخالفوه وليس عندما ظن أنهم سيخرجون عن القانون ويخالفوه، و إلا لا يعتبر كل من ناصح أو خالف الأمير صاحب فتنة لأن نصيحته أو مخالفته يمكن أن تؤدي يومًا ما - بقصد أو بدون قصد - إلى فتنة!!! فسبحان الله الذي قال: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ...".}
وحسب قاعدة سد الذرائع في الفقه الإسلامي، هل نمنع كل الآراء المخالفة، ونكمم الأفواه بحجة تجنب الفتنة المحتمل وقوعها ظنًا؟؟ أم نحاور أهل الآراء المخالفة لنفيدهم أو نستفيد منهم ولا نعاقب إلا من يرتكب ذنبًا، فيحمل علينا السلاح أو يسعى حقيقة بشكل ملموس لشق الصف والإفساد، ونسد بذلك ذريعة تكميم الأفواه والاستبداد، بحيث نضمن مجالًا من الحرية للناصحين بصدق وللمخالفين بحق، نشجعهم على ذلك كما فعل عمر اهتداء منه وتأسيًا بمنهج النبوة الذي تشربه من ينبوعه الصافي!!!
وعندما أراد معاوية رضي الله عنه استخلاف ابنه يزيد من بعده تصدى له فقهاء الصحابة ومنهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير فردوا عليه: "أتريد أن تجعلها هرقلية؟ ولن نبايع إلا أن تترك الأمر للمسلمين، أو تفعل كما فعل أبو بكر بترشيح رجل كفى ليس من أهله وولده، أو كما فعل عمر بترشيح نفر من الصفوة كلهم أكفاء وتركهم يختارون واحدا من بينهم".
ولكن معاوية لم يتراجع بالفعل عن قراره هذا - وهو قرار خاطئ لا محالة - فلو سكت جميع الصحابة لكان ذلك بمثابة إقرار للباطل، ومعاذ الله أن تجمع هذه الأمة على ضلالة، فما كان من أهل المدينة إلا أن بايعوا عبد الله بن الزبير خليفة، لأنهم لم يعترفوا ولم يقبلوا بطريقة استخلاف معاوية ليزيد،، وبقي عبد الله بن الزبير خليفة في المدينة ومكة نحو تسع سنين لا يخضعون ولا يعترفون بخلافة يزيد، حتى أرسل يزيد إليهم جيشًا بقيادة الحجاج - الظالم - فقتل عبد الله عند الكعبة بعدما حاصره فيها، فانظروا أيها الإخوة إلى العاقبة الوخيمة إذا ترك المسلمون التحاكم عند التنازع في الأمر إلى كتاب الله وسنة رسوله، وآثروا التحاكم إلى القوة والبطش والسيف الذي نهانا رسول ا صلى الله عليه وسلم أن نعمله ونشهره في صدور إخواننا، فقال عليه السلام: "إذا التقى مسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار"، فما أحوجنا إلى التحاور والتشاور والتحاكم حتى لا نقع فيما نهينا عنه من التخاصم والتدابر والتهاجر، وما قد ينجم عن ذلك من اقتتال والعياذ بالله!(54/353)
كلمة أخيرة: في الحديث الصحيح المعروف الذي يرويه حذيفة رضي الله عنه يرفعه إلى صلى الله عليه وسلم قال: "تكون النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكًا عارضًا ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكًا جبريًا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت". - رواه أحمد في مسنده وصححه الحافظ العراقي ووافقه الألباني.
والإجماع على أننا في مرحلة الملك الجبري، ولن يكون بعده حل وسط، إنما خلافة على منهاج النبوة، وقد تكون بوسائل جديدة كما فعل الخلفاء الراشدون باستحداث وسائل لم تكن على عهد صلى الله عليه وسلم ، المهم أن تكون على منهاج النبوة بموافقتها قواعد الإسلام وأصوله، وعدم معارضتها لنصوصه قطعية الثبوت والدلالة وتحقيقها لمقاصد الشريعة.
هذا والله أعلم، فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي، ومن رد علي بتصويب علمي وتجنب التجريح والتسفيه، فأسأل الله العلي القدير أن يثيبه عني وعن المسلمين خيرا.
=============(54/354)
(54/355)
سجال الديمقراطية وأزمة الإسقاط
20-8-2006
بقلم ماجد بن عائض الجعيد
"...إن تجاوز هذا الاختناق الفكري يتطلب تجاوز النظرة الجزئية - لواقع متداخل ومتكامل - إلى محاولةِ إحداث تكامل معرفي بين المعارف الثاوية في النصوص الشرعية والمعارف الكامنة في الواقع المشهود ..."
إن الاختلافات الفكرية التي تميز النشاطات النظرية والقرارات العلمية في دائرتي الخطاب والاجتماع تعود في جلّها إلى اختلاف النزعات النفسية والالتزامات المعيارية للمفكر والباحث ، بهذه العدسة كنتُ أراقب المساجلة الفكرية بين د. محمد الأحمري ود.لطف الله خوجه منذ لحظاتها الأولى في ديوانية آل مختار ، وكنتُ أزور الحديث في نفسي ثم أرجعُ النظر فيه فأفضلُ التزام الصمت وارحل ! بيد أن الحوار بدأ يأخذ أبعاداً أخرى لذا أحببت أن أسهم فيه ولو بنصيبٍ بخسٍ ، وأرمي مع الرامين وإن كنتُ لم أقرطس ، فكانت هذه النقاط من وحي هذه المساجلة :
- هذا الحوار الإسلامي الداخلي قد كشف عن ساق ، وأبان أن ثمة أزمة في الحوار بين فصائل العمل الإسلامي وقراءاته المتعددة داخل الإطار المرجعي الواحد ، فإذا كان الخلاف موجود مابقيت روحٌ في جسد ، وكان الطالب لضده قد كلف نفسه بما لايقدر عليه أحد ، فهل نصادم هذه الفطرة ؟ أم نصارع أقدار الحق بالحق للحق ؟
إننا اليوم نشهد نقطة نهاية تاريخٍ ما ساده التعصب المذهبي حد الترف ، ونعيش ولادة تاريخٍ جديد ترسم ملامحه الجماعات والعقول التي تتحرك بالإسلام والتي أسهبت كثيراً في الحديث عن (فقه الخلاف) نظرياً بينما الواقع في تجلياته يشهد خلاف ذلك ، لذا أليس من الجدير بأولوياتنا أن تسعى إلى (النضوج الفكري) من خلال ماتقرأه العقول ، لاسيما و مآخذنا تتنوع فيما يسوغ فيه الخلاف ، أليس من أولوياتنا أن نمارس فقه الخلاف على أرض الواقع بدل التدافع على سم الخياط ؟
- نعاني في تعاملنا اليوم مع واقعنا (المركب) من المنهجية الاسقاطية والتي تهتم بالاتساق الداخلي لرؤيتها بينما تكتفي باستقراءات بسيطة للواقع الاجتماعي لذا تبنت بعض الرؤى المنهج الاسقاطي في تعاملها مع الواقع الإجتماعي وتحليلها لشروط التغيير ، فربما كان حديث أصحاب هذا الاتجاه عن جانبٍ من جوانب النظرية الاسلامية حديثاً متصلاً بواقع اجتماعي لم يوجد بعد أو وجد في فترة زمكانية ماضية ، وعليه فإن هذه الأفكار تعطينا عدداً من التوجيهات القيمة وإن كانت في الواقع لم تقدم لنا حلولاً حقيقية ، وذلك لأن الحلول التي توحي بها إلينا هذه الأفكار لن تصادف في عقولنا العنصر الذي يكملها ضمناً ، والذي قد تجده تلقائياً في عصر ما ، لذا لايمكن أن نستورد واقعاً مثالياً بكافة تفصيلاته دون أن نقدم لهذه النتيجة بمقدمات ربما كانت (أهون الشرين) ، والحق يقال أن المنهجية الاسقاطية هذه قد حققت قدراً كبيراً من التواصل مع النظرية الإسلامية لكنها كانت على حساب فهم حدود الممكن والواجب والمستحيل الاجتماعي ، وبالتالي أدت هذه الرؤية التجزيئية إلى فقدان القدرة على التنظير لفعلٍ تاريخي يعيد ربط التصور الإسلامي بالحياة الإجتماعية .
- إن النظرية الإسلامية وهي تتصف بشمولها وصلاحيتها فليس مفهوم ذلك أنها تقدم نصوصاً جامدة أو قوالب جاهزة لواقع متغير ، ففي مسألة (الدولة الإسلامية) - مثلاً - جاءت النظرية الإسلامية في جملة أحكامها بقواعد عامة وأصولٍ كلية تختلف تطبيقاتها باختلاف تحقيق مناطاتها في الواقع الاجتماعي والتاريخي ، فشمول الشريعة ومرونتها ثنائية تشكل مبدأ الصلاحية لكل زمان ومكان .
وجملة القول :
أننا نخطئ كثيراً حين نعتقد أن الاجتهاد السياسي والاجتماعي يستمد من النص فقط بل إن النص الشرعي في جوهره يمثل تفاعلاً إيجابيا ومنظماً بين الفكرة والعقيدة والواقع ، وأن مرونتها تتم عبر "التحرك به وسط الواقع والبيئة والمتغيرات والمحدودات الكثيرة والممتدة والمتجددة" .
إن تجاوز هذا الاختناق الفكري يتطلب تجاوز النظرة الجزئية - لواقع متداخل ومتكامل - إلى محاولةِ إحداث تكامل معرفي بين المعارف الثاوية في النصوص الشرعية والمعارف الكامنة في الواقع المشهود ، وبطبيعة الأمر فإن التكامل المعرفي الذي نؤكد على ضرورته لاينفي النظر التخصصي بل يتطلبه نظراً لمحدوديات العقلية الفردية ، فهل نجعل من خلافنا هذا طريقاً لاتفاقنا ونسير على بساطٍ من الموضوعية والتجرد لتأسيس علاقة تكاملية بين قوة النظرية وتماسكها الداخلي وبين عمق الدراسة للواقع الاجتماعي وإحياء طرائق الاستدلال الاستقرائي للواقع لنحصد بإذن الله رؤيةً تجمع بين كليات الوحي والوجود في منظومة علميةٍ تكاملية .
==============(54/356)
(54/357)
عوائق أمام شرعية الديمقراطية
د. لطف الله خوجه 18/7/1427
12/08/2006
- خلاف داخلي.
- فصل وتبديل غير ممكن.
- فقرات لا تقوم إ لا ببرهان ؟!.
- أين الحل ؟.
- خلاف داخلي.
بين المعتقدين وجوب تطبيق الشريعة: انقسام حول الديمقراطية. لا يحسمه إلا إجابة مبرهنة على سؤال محوري تدور عليه القضية، يقول: هل يمكن التوفيق بين الشريعة والديمقراطية ؟.
الممانعون يقولون: كلا، لا يمكن ذلك، إلا بتعديل جذري في أحدهما.
والمؤيدون يقول: بلى، يمكن ذلك؛ فالديمقراطية: فكرة، وآلية.
الفكرة لا تتوافق مع الشريعة؛ لأنها تقوم على مبدأ: أن مصدر الأحكام هو الشعب. فهذا هو تفسير الديمقراطية (الشعب = demo، سلطة أو حكم = k r ates)، بينما في الشريعة: الله تعالى هو الذي له الحكم.
أما الآلية، فإنها طريقة تتضمن الخطوات السياسية، لاختيار الممثلين عن الشعب، واختيار الرئيس، من: تصويت، وترشح، وانتخابات، إلى مساءلة ومحاكمة أفراد الحكومة، على رأسهم الرئيس نفسه، وحصر نفوذ الحكومة في السلطة التنفيذية، ومنعها من السلطة التشريعية والقضائية.
فهذه آليات بعضها دل عليها الدليل الشرعي، وبعضها في دائرة الإباحة، وقد ثبتت جدواها باعتراف الجميع، فالنتيجة أنها غير مخالفة للشريعة.
وإذا كان كذلك، فنحن نأخذ هذه الآلية، ونجعلها تحت سلطة الشريعة، بدلا من سلطة الشعب.
والحامل على الأخذ بالديمقراطية: محاولة القضاء على التسلط والاستبداد بالحكم، الذي أضر بالفرد والمجتمع في الحقوق والحريات، وجعل منا أمة: متخلفة على الدوام.
وقد جربت أمم - خصوصا في أوربا - الديمقراطية، فهي الآن مثال العدالة، والتطور، والإصلاح.
* * *
- فصل وتبديل غير ممكن.
الممانعون ردوا فقالوا: أما أن الديمقراطية: فكرة، وآلية. فهذا صحيح.
وغير الصحيح هو: محاولة الفصل بين الفكرة والآلية، ثم إلحاق الآلية بفكرة جديدة.
إلا بشرط البرهنة على إمكانية الفصل والتبديل، والبرهان لا يتم إلا بتخطي ثلاثة معوقات، هي:
أولها: أن المصطلح نفسه يأبى ويرفض هذا الفصل؛ فإنه وضع لكليهما. وهكذا وضعه وفصله الذين ابتدعوه.
فهل يسوغ التصرف فيه بمثل هذا الفصل بين الفكرة والآلية، ثم إلحاق الآلية بفكرة جديدة ؟.
هنا جوابان: يسوغ، أولا يسوغ.
فمن قال: لا يسوغ. فقد أبطل فكرة الفصل والتبديل، وجرى على قانون يحترمه جميع العقلاء: أن الذي له الحق في التبديل هم الذين وضعوا قانونه، وأعطوه اسما.
فإذا جرى تبديله من آخرين، فليس لهم حق في ذلك الاسم الأول إذن؛ لأنه حينئذ يغدو شيئا آخر، غير ما وضع له، فليتخذوا له اسما جديدا، فيكون مصطلحا آخر جديد.
ومن قال: يسوغ. فقد خالف قانونا يتفق عليه العقلاء جميعهم: أن المصطلحات مهما كانت مضامينها، يجب أن تبقى كما هي.
وهذا الذي يسوغ التبديل، هو نفسه الذي لا يسمح لأحد أن يتصرف بمصطلحاته التي يقدسها، فحري به ألا يفعل ذلك مع غيره. حتى لو كان يعتقد أنها مهانة؛ لأنها تخالف الدين.
- فإنها إن كانت مهانة فلم حرص عليها، فأخذ بها ؟!.
- وإن لم تكن مهانة، فعليه أن يحفظ لأصحابها حقهم فيها، فلا يتدخل بتصرف.
وليس على الأرض أمة أولى بحفظ الحقوق والعهود، مثل أمة الإسلام.
ثانيها: أنه جمع بين متناقضين، من حيث الأصل.
فالشريعة: الحكم فيها لله تعالى وحده: "إن الحكم إلا لله".
والديمقراطية: الحكم فيها للشعب وحده.
ولأنهما متناقضان: اضطر هؤلاء لتعديل فكرة الديمقراطية، وإلى تكلف الأدلة لتسند جميع الآليات شرعا.
وثالثا: ورطة التطبيق؛ فإن محاولة ضبط الديمقراطية بالشريعة: ارتداد عن فكرة الديمقراطية، لن يسمح به الليبراليون، والعلمانيون، والديمقراطيون المخلصون. ولا يمكن تطبيق هذه المحاولة إلا في حالة واحدة هي:
إذا ما خلت الساحة من الليبراليين، والعلمانيين، والديمقراطيين المخلصين.
فهل هذا يمكن حصوله ؟.
وإذا لم يمكن، فهل سيسكت هؤلاء على عملية الفصل والتبديل، وينقادون طائعين لهذه العملية ؟!.
أم هل يمكن نفيهم، ومنعهم من الدخول في العملية الديمقراطية، كيلا يزاحموا، ويفسدوا عملية التبديل ؟.
إلى اليوم لم نر تجربة ديمقراطية تحت سقف الشريعة، بل كافة الديمقراطيات تحت سقف علماني..!!.
وإلى اليوم لم نر عملية ديمقراطية لا يشارك فيها المؤمنون بالديمقراطية الحقيقة الأصلية: الحكم للشعب. بل في الغالب هم المصيطرون الغالبون.
وبعد هذا: فالذي يبدو أن من الصعوبة، وربما الاستحالة، تخطي هذه المعوقات الثلاثة ؟!!.
- إلا بقانون يبيح لكل أحد التصرف في المصطلحات التي صنعها آخرون.!!.
- وبقاعدة عقلية جديدة تسمح الجمع بين المتناقضات..!!.
- وبتخلية الساحات من المؤيدين لفكرة الديمقراطية الحقيقية، من ليبراليين وعلمانيين..!!.
* * *
فقرات لا تقوم إ لا ببرهان ؟!.
إذا سدّ الطريق أمام الحل الديمقراطي: فكيف السبيل إلى التخلص من: الاستبداد، والفساد، والتخلف ؟.
هكذا يقول المؤيدون.. وكأنهم يشيرون إلى أنه لا سبيل إلى حياة عادلة، صالحة، متقدمة إلا بالديمقراطية.
وهذه دعوى ذات فقرات، تحتاج إلى برهان:(54/358)
فالتخلف، وهو التراجع عن خط الحضارة في العلوم والصناعات: مرتبط في نظرهم بالحكم الفردي.
وهذا الربط لا يثبت إلا بشرط: عدم وجود أمثلة على دول متقدمة، تحت حكم فردي غير ديمقراطي.
فإن وجدت بطل هذا الربط.
وعندما نجول ببصرنا: نجد دولا متقدمة، أو كانت كذلك، تقوم على فكرة الحزب الواحد، والحاكم المطلق. وأبرز مثال على ذلك الآن: الصين. وفي السابق: الاتحاد السوفيتي. وفي الماضي كانت أعظم دولتين في العالم قوة وحضارة، هما الفرس والرومان تحكمان حكما فرديا مطلقا. فبطلت هذه الفقرة من الدعوى.
والفساد؛ أي المالي، والسياسي، والأخلاقي، والثقافي.. إلخ، لا يصح ربطه بالحكم الفردي، وتبرئة الحكم الديمقراطي منه، إلا بشرط كسابقه: عدم وجود أمثلة على دول ذات حكم فردي خلت من الفساد.
فإن وجدت بطل هذا الربط.
وإذا سلمنا أنه من المتعذر، أن نجد صيغة تمثل العدالة الكاملة والخالية من الفساد في هذا العصر، حتى من بين الدول ذات الحكم الديمقراطي: فإنه من المؤكد أن التاريخ الإسلامي، ذات الصيغة الفردية في الحكم، قد ضم هذه الصيغ العادلة في فترات كثيرة:
- بدءا بالخلافة الراشدة، إلى نهاية ولاية معاوية، ثم خلافة عمر بن عبد العزيز، ثم الخليفة العباسي المعتضد.
- ثم السلطان نور الدين زنكي، إلى عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي.
- ثم السلطان محمود سبكتكين، إلى السلطان الغزنوي.
فهذه العهود وغيرها عهود نما فيها الإصلاح، وانتشر العدل. فبطلت هذه الفقرة الثانية من الدعوى.
والاستبداد، ومفهومه: احتكار السلطة، وتوريثها إلى القرابة، وما ينتج عنه من تحكم مطلق في الموارد المالية، وقمع للحريات، والمنع من المشاركة في القرار السياسي.
وهذا أيضا لا يصح ربطه بالحكم الفردي إلا بشرط كسابقه: عدم وجود أمثلة على دول ذات حكم فردي، عملت بالعدالة، في توزيع الثروات، وفتح الحريات دون إضرار بأحد، وأشركت الناس في القرار السياسي.
فإن وجدت بطل هذا الربط.
ولا نظن في أحد منازعة، في أن عهود الخلافة الراشدة مثال بارز على حكم فردي انتفى فيه الاستبداد، بكل صوره، ولو قلبت التاريخ وجدت أمثلة أخرى، متناثرة. فبطلت هذه الفقرة الأخيرة من الدعوى القائلة: إنه لا سبيل للتخلص من: التخلف، الفساد، والاستبداد إلا بالديمقراطية.
قد يكون الحكم الفردي سببا في هذه السلبيات، لكن أن يكون سببا لازما، فهذا باطل بالبراهين المتقدمة. فليس الحكم الفردي لازما لهذه السلبيات، وليست الديمقراطية حلا صالحا على الدوام لمنع هذه السلبيات؟!.
فإن كثيرا من الدول ذات الصيغة الديمقراطية تعاني تخلفا واضحا، ربما كانت أحسن حالا قبلها. فدول أمريكا الجنوبية، وأكثر دول شرق آسيا، وكل الدول العربية والإسلامية لم تتقدم خطوة معتبرة تقارع بها الغرب، مع أخذ كثير منها بالصيغة الديمقراطية منذ نصف قرن وزيادة.
وكذا الحال في مجالات: الإصلاح، والاستبداد. فالدكتاتورية عادت إلى هذه الدول، لكن بوجه ديمقراطي.
حتى الدول الغربية، مصدرة الديمقراطية: تعاني مشاكل كثيرة من وراء الديمقراطية..!!.
هي متقدمة: نعم. وكثير من الناس يعزو تقدمها إلى ديمقراطيتها، وهذا فيه نظر ؟!.
فدراسة فاحصة لهذا التطور الغربي، تبين أنه لولا انعقاد عزم ونية الرؤساء، والنافذين، وأصحاب المال على التقدم، لما حصل ذلك. وهذه النقطة وحدها تحتاج إلى تفصيل وبيان.
نعم الديمقراطية عامل في تقدمها، وهناك عوامل أخرى أكبر وأهم.
ومع تقدم هذه الدول إلا أنها تعاني فسادا، واستبدادا منظما مقننا، ودلائل هذا الفساد ظاهرة، فمنها:
1- مخالفة حكومات هذه الدول لشعوبها، في دخولها حروبا مدمرة، كحرب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانية في العراق. فلم تسمع لصوت شعوبها، ورفض الأغلبية، ومضت كما يمضي الدكتاتور.
2- نسب البطالة المرتفعة، والتسريح المستمر لمئات آلاف العمال، من الشركات العالمية الكبرى، دون ضمانات، تحفظ حقوقهم مستقبلا. والأمر سيزداد سوءا، فكل ما يعيشه الغرب من رفاهية لم يكن سببه الديمقراطية وحدها، بل وجود المعسكر الشيوعي، وقد زال.
3- التضليل الإعلامي الكبير في اختيار المرشحين للبرلمان، وللرئاسة، فلا يشترط في الذي يصل إلى هذه المراكز الكفاءة والأمانة، بل الثروة والنفوذ. فهذا شرط الترشح، والحصول على الدعاية الإعلامية المجانية، فالمرشح إما أن يكون ذا مال، أو متكفلا برعاية مصالح أصحاب المال.
* * *
إذا كانت السلطة في الحكم الفردي محتكرة في: أسرة، أو حي، أو قبيلة. فإنها كذلك محتكرة في الديمقراطية، لكن في أقلية ثرية ذات نفوذ مالي. فإما أن تحكم بنفسها، أو بالوكالة عنها؛ ولذا فإن غالب الأحزاب الفائزة بالحكم، لا تمس مصالح هذه الفئة المحظوظة، ولا تطبق عليها القانون، بل يتحايل لأجلها.
وفي أحسن الأحوال: فإن الديمقراطية قد لا تنجح في الحماية من استبداد كهذا دائما؛ لأن آلية الديمقراطية تسمح بمثل هذا التلاعب.
مع ملاحظة أن لكل قاعدة شذوذا، فلا يحتج لإبطال هذا التقرير بالحالات الشاذة، أو القليلة.(54/359)
وإذا كان ما يؤخذ ويسلب من حقوق الأمة، في النظام الفردي: يأتي عن طريق القوة والعنف. فإن السلب والاستحواذ في النظام الديمقراطي، يأتي من طريق الالتفاف على القانون.
نعم للديمقراطية إيجابيات، لكن لها سلبيات، كالحكم الفردي. والمنهج الصحيح في الاختيار ليس القائم على مجرد وجود المنافع في الأمر المختار، فإنه معارض بوجود المفاسد، وما من شيء إلا وفيه منفعة ومضرة.
إنما المنهج: الاختيار القائم على ترجح المصلحة والمنفعة، على المفسدة والمضرة، يقول تعالى: "وإثمهما أكبر من نفعهما"؛ أي فلهذا حرم الخمر والميسر، لا لمجرد أن فيهما ضررا، فإن فيهما منافع أيضا.
* * *
- أين الحل ؟.
فما الحل إذن ؟.. هل نبقى على هذا الحال، لا إصلاح، ولا تقدم، ولا عدالة ؟.
الحل يكمن في عدم الحصر في حل واحد.
هل من المعقول أنه لا توجد طريقة للإصلاح إلا الديمقراطية ؟.
ومن المسلم به: أن المسلمين لم يعرفوا هذا النمط من الحكم، وإن ادعاه من ادعاه ؟!!، فالحقيقة أن الديمقراطية كما صيغت في الغرب، لم تطبق في أي حكم إسلامي، منذ الخلافة إلى سقوط الخلافة العثمانية.
وإطباق المسلمين على ترك ذكرها، وعدم تعاطيه: دليل عدم وجودها في التراث الشرعي، والنص الإسلامي. فهي مغفلة بالكامل، وليست إليها إشارة. وهذا أمر يعرفه من درس القضية بوضوح، بعيدا عن التلفيق.
فإذا كانت النصوص الشرعية لا تحمل هذا الحل، والمسلمون لم يعرفوه طيلة عهود الإسلام، فهذا دليل على أن هناك حلولا أحسن منه، لو كان حسنا، وإلا لما أعرض عنه الشارع فلم يدلنا عليه، مع عظيم فائدته ؟!.
فإن من المقرر شرعا: أن الله تعالى دل المؤمنين على أحسن السبل، وأحسن الطرق للقيام بعمارة الأرض، والحياة فيها، وإقامة الدين. فلم يكن ليترك دلالتهم على النظام الديمقراطي، لو كان نفعه أكبر من إثمه.
إذن الحل ليس في الديمقراطية، هكذا تنطق النصوص، بل فيما شرعه الله تعالى:
- في الدعوة، والبلاغ، والنصيحة، للحاكم، والعالم، والعامي.
- في التربية، والإصلاح، والعون، والصدقة.
- في تعليم الناس أمور دينهم، وإرشادهم في أمور دنياهم.
- في الصبر والتقوى.
- في عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون".
فإن التضحيات حاصلة في كلا الطريقين: الديمقراطي، والإصلاحي بمنظور شرعي. فالديمقراطية لن تأتي على طبق من ذهب، بل تجربة أوربا تبين لنا: أن الشعوب تحتاج إلى مائة عام على الأقل حتى تصل إلى حقوقها، وليست كل الحقوق. فهل نحن بحاجة إلى مائة عام لتربية الناس على الديمقراطية ؟!.
فلتكن تربيتهم على الإسلام، ما دامت الثمرة تحتاج إلى قرن حتى تجتنى إذن، فالمشروع أولى بالبذل !!.
* * *
إن هذا لا يعني الانعزال، والبعد عن واقع الحياة، وترك الساحة لفئة تتحكم وتفعل ما تشاء..؟!!.
كلا، ليس كذلك، فإن هذا المبحث يختص ببيان الخلاف بين المؤيدين والمعارضين للفكرة الديمقراطية، وما يكون من نقاش بينهم حول قيام نظام ديمقراطي جديد غير مسبوق: هل تؤيد أم تمانع قيامه ؟.
ولا يختص بالموقف من نظام ديمقراطي قائم أصلا، لم يصنعه ولم يشارك في صنعه، لكنه مضطر للدخول فيه، للمزاحمة، وعدم ترك الساحة خالية.. فهذه قضية أخرى، لها توجيه آخر، ونظرة أخرى..؟!.
============(54/360)
(54/361)
أسلمة الديمقراطية .. حقيقة أم وهم
24-6-2006
بقلم محمد بن شاكر الشريف
"...فالديمقراطية وإن كانت قد انطلقت من نقطة أن الحكم للشعب لكنها انتهت واقعا وفعلا لحكم الأقلية، الأقلية الغنية المثقفة المنظمة التي استطاعت أن تحول القضية لصالحها فيما يطلق عليه حكم النخبة ..."
عقيب الانهيار المدوي للاتحاد السوفييتي وسقوط دولته، كان هذا إعلانا بغياب القوة الرئيسة المنافسة لليبرالية الغربية، وكان في الوقت نفسه إعلانا بانتصار الليبرالية الغربية وتربعها على القمة العالمية، ومن تلك اللحظات بدأت الدعوة إلى الديمقراطية على أنها السند الشرعي لأي نظام تقوى وتنتشر، على أساس أن مرحلة الديمقراطية تمثل أفضل نظام سياسي يمكن أن تتوصل إليه البشرية، وأن التاريخ قد توقف عند هذا الحد فيما يعرف بـ"نهاية التاريخ" (كما يذكر فوكوياما) .
من هنا بدأت أغلبية الدول تسارع إلى هذا الخيار لعدم قدرتها على مناوأة الدولة العظمى المتسيدة للنظام العالمي الجديد والداعية إلى تغليب نظرتها الديمقراطية، وذلك في الوقت الذي فقدت فيه تلك الدول الحماية التي كانت تتمتع بها من الاتحاد السوفييتي الزائل، ويظن كثير من الناس أن دعوة أمريكا إلى تبني النموذج الديمقراطي وفرضه على العرب والمسلمين كان نتيجة مباشرة لما اشتهر بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد أظهرت أمريكا بعد هذا الحدث رغبة عارمة في نشر الديمقراطية في بلاد العرب والمسلمين على أنها العلاج الأكيد والناجع - من جهة مصلحتها - لهمجية العرب والمسلمين - بزعمها - .
فوجئت أمريكا في تلك الأحداث بهجمات عنيفة دامية، حيث هوجمت قلاعها الاقتصادية والعسكرية ، مما دعاها لإعلان حربها العالمية على الإرهاب، والتي كان منها الدعوة لنشر الديمقراطية حسب ما جاء في مشروع الشرق الأوسط الكبير وتبنيها لدعاوى الإصلاح، وقد فرح بذلك الكثير من الإسلاميين ورأوا فيها الفرصة الكاملة للوصول إلى الحكم لتنفيذ مشروعهم السياسي، على أساس أن نشر الديمقراطية صار مطلبا أمريكيا يخدم مصلحة أمنها القومي ولذلك فهي تدعم ذلك التوجه وتعززه، وبذلك زاد زخم الحديث عن الديمقراطية، وعن توافقها مع الإسلام، وأن الإسلام قد سبق الديمقراطية وقرر أهم خصائصها، وإذا كان هذا الحديث ليس بالجديد كلية إلا أن زخمه قد زاد بعد الحملة الأمريكية ووجد له أنصارا كثيرين .
موقف بعض الإسلاميين من الديمقراطية :
الطور الأول من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) يزعم أن جوهر الديمقراطية موجود في الإسلام، وأن الإسلام قد سبق بما أتت به الديمقراطية، أو أنه يمكن أن تتوافق الديمقراطية مع الإسلام، وأن ما يُرى بينهما من اختلاف من الممكن إزالته، يقول خالد محمد خالد بعدما ادعى أنه يوجد لحكام وقادة غير مسلمين لكنهم ديمقراطيون شواهد قريبة من سلوك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : "من أجل هذا قلنا وسنظل نقول إن الديمقراطية إسلام" ويقول : "كان عرضنا هذه المشاهد - وهي قليل من كثير - تبيانا لديمقراطية الحكم في الإسلام، واكتشافا للتخوم الواسعة المشتركة بين الإسلام كدين وبين الديمقراطية كمنهج ونظام" .
ويقول الشيخ يوسف القرضاوي : "الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام" ، وكلام كثير جدا من مثل هذا .
وأما في وقتنا الحاضر بعد ظهور اعتراضات كثيرة من الناحية العقدية على الديمقراطية وهي واضحة وقوية، فقد نحا الطور الثاني من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) إلى الفصل بين الفكر التنظيري الديمقراطي، وبين آليات الديمقراطية، فابتعد عن القبول بالأسس النظرية التي تقوم عليها الديمقراطية، لما تشتمل عليه من مصادمة صريحة للمقررات العقدية الإسلامية، بينما قبل الآليات الديمقراطية، على أساس أن الآليات هي مجرد وسائل عملية لا تنطوي على فكر أو عقيدة، بل هي آليات محايدة يستخدمها المسلم كما يستخدمها الكافر، كالسيارة التي يستخدمها المسلم في الذهاب إلى المسجد ويستخدمها النصراني في الذهاب إلى الكنيسة، وهكذا .
من أجل هذا رغبتُ في كتابة هذا المقال لبيان حقيقة الديمقراطية وهل حقا أتى بها الإسلام، أو أنه من الممكن إزالة ما بينهما من تعارض مع احتفاظ كل منهما بخصائصه المميزة، أو أنه يمكن التخلص من الأساس النظري لها وعدم التقيد به والاستفادة مما فيها من آليات مجردة عن أصولها المذهبية، وهذا أوان الشروع في المقصود :
ماذا تعني كلمة الديمقراطية ؟ :
الديمقراطية كلمة لا تينية وهي مكونة من شقين : الشق الأول demos وتعني الشعب ، والشق الثاني c r atie وتعني حكم أو سلطة، فاللفظ على ذلك يعني حكم الشعب، أو الحكم للشعب، "وإذا كان للديمقراطية مصطلحات عديدة ... إلا أن لها مدلولا سياسيا والذي شاع استعماله في كل الأدبيات والفلسفات القديمة والحديثة وأنها مذهب سياسي محض تقوم على أساس تمكين الشعب من ممارسة السلطة السياسية في الدولة" ، فالكلمة العليا والمرجعية النهائية إنما هي للشعب ولا شيء يعلو فوقه، فهي "تعني أن يضع الشعب قوانينه بنفسه، وأن يحكم نفسه بنفسه، ولنفسه" .(54/362)
والحكومة التي تقبلها النظرية الديمقراطية "هي الحكومة التي تقر سيادة الشعب وتكفل الحرية والمساواة السياسية بين الناس وتخضع فيها السلطة صاحبة السلطان لرقابة رأي عام حر له من الوسائل القانونية ما يكفل خضوعها لنفوذه" .
وقد تبلورت هذا الفكرة فيما بعد تحت مصطلح السيادة، وقد عُرِّفت السيادة :بأنها سلطة عليا مطلقة لا شريك لها ولا ند متفردة بالتشريع الملزم، فيما يتعلق بتنظيم شئون الدولة أو المجتمع، فلها حق الأمر والنهي والتشريع والإلزام بذلك، لا يحد من إرادتها شيء خارج عنها، ولا تعلوها أو تدانيها سلطة أخرى ، والسيادة في الفكر الديمقراطي إنما هي للشعب وتتمثل ممارسة الشعب للسيادة في ثلاثة جوانب رئيسة :
1- إصدار التشريعات العامة الملزمة للجماعة التي يجب على الجميع الالتزام بها وعدم الخروج عليها، وهذه تمارسها السلطة التشريعية .
2- المحافظة على النظام العام في ظل تلك التشريعات، وهذه تمارسها السلطة التنفيذية .
3- حل المنازعات سلميا بين المواطنين انطلاقا من هذه التشريعات، وهذه تمارسها السلطة القضائية ، ويتبين من ذلك أن السلطة التشريعية هي أم السلطات الثلاث .
تطور الديمقراطية باختلاف الأزمان والبيئات :
وليس من شك في أن الديمقراطية تطورت مع الزمن تطورا كبيرا ولم تبق على شكلها الأول الذي ظهرت به أول مرة في أثينا ، فقد كان الشعب الذين يحق لهم الحكم في بداية الفكرة قليلا بالنسبة للعدد الفعلي، فقد أخرج منه الأرقاء كما أخرج منه النساء، كما اشترط لذلك بعض الشروط كامتلاك نصاب مالي معين، والتمتع بكفاءة أو وجاهة في المجتمع، وبمرور الزمن تغير كثير من كل ذلك، إلى أن وصل إلى حق الاقتراع العامة .
كما اختلفت الصورة التي تمارس بها الديمقراطية فبعد أن كانت الديمقراطية تباشر من قبل الشعب بلا واسطة فيما عرف بالديمقراطية المباشرة، احتاجوا مع تطور الأوضاع، والانتقال من دولة المدينة - صغيرة المساحة قليلة العدد - إلى الدولة القومية - ممتدة المساحة كبيرة العدد - وقيام عوائق في سبيل العمل بالديمقراطية المباشرة، إلى تغيير الصورة من الديمقراطية المباشرة إلى الديمقراطية غير المباشرة (النيابية)، التي ينوب فيها عن الشعب أفراد يختارهم الشعب ليحكموا بدلا عنه، كما ظهر التزاوج لاحقا بين الصورتين فيما سُمي بالديمقراطية شبه المباشرة، وذلك للتغلب على بعض السلبيات من إلغاء الديمقراطية المباشرة كليا، حيث تكون هناك موضوعات يحكم فيها الشعب حكما مباشرا، وموضوعات أخري يحكم فيها الشعب حكما نيابيا .
كما تعددت أشكال الحكومات ، فهناك النظام الرئاسي ، حيث تتركز السلطة في يد رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب، وهو الذي يعين الوزارة، ويكون هناك فصل شبه حاد بين السلطة التنفيذية "رئيس الجمهورية"وبين السلطة التشريعية "البرلمان" .
وهناك النظام البرلماني ، حيث تتركز السلطة في يد مجلس "برلمان" منتخب من الشعب، وهو الذي يعين الوزارة، ويوجد هنا تداخل بين أعمال السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية .
وهناك نظام حكومة الجمعية ، حيث تتركز السلطة في يدجمعية منتخبة من الشعب وهي تجمع في يدها سلطات واختصاصات السلطتين التشريعية والتنفيذية .
ومع كل هذه التطورات والتغيرات في الأشكال والصور، ظلت الديمقراطية تحافظ على أمر جوهري لم تحد عنه أبدا، وهو الأمر الذي تكون اسمها منه وهو أن الحكم للشعب، فلا شيء يعلو عليه، وكل سلطة في المجتمع فإنما تستمد منه، فالشعب (السياسي) كله له الحكم : فالأغلبية لها حق التفرد بالحكم، والأقلية لها حق المعارضة للأغلبية .
تأثير الفكر الديمقراطي على الدساتير العربية :
وقد ظهر هذا واضحا في دساتير البلاد العربية التي كتبت في بدايات القرن العشرين وما تلا ذلك ففي الدستور المصري المادة رقم 3 : "السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها" ، وفي المادة 86 : "يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع" .
وفي الدستور السوري المادة رقم 2 في الفقرة الثانية : "السيادة للشعب، ويمارسها على الوجه المبين في الدستور" ، وفي المادة رقم 5 : "يتولى مجلس الشعب السلطة التشريعية على الوجه المبين في الدستور" .
وفي دستور السودان الانتقالي لسنة 25 في الباب الأول الفقرة الثانية : "السيادة للشعب وتمارسها الدولة، طبقا لنصوص هذا الدستور والقانون" .
وفي الدستور الأردني مادة 24 : "الأمة مصدر السلطات" ، ومادة 25 : "تناط السلطة التشريعية بمجلس الأمة والملك" .
وفي الدستور التونسي مادة رقم 3 : "الشعب التونسي هو صاحب السيادة يباشرها على الوجه الذي يضبطه هذا الدستور" ، وفي المادة 18 : "يمارس الشعب السلطة التشريعية بواسطة مجلس نيابي" .(54/363)
وفي الدستور الجزائري مادة رقم 6 : "الشعب مصدر كل سلطة، السيادة الوطنية ملك للشعب وحده" ، وفي المادة رقم 7 : "السلطة التأسيسية ملك الشعب، يمارس الشعب سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها" ، وفي المادة 98 :"يمارس السلطة التشريعية برلمان يتكون من غرفتين وهما المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة، وله السيادة في إعداد القانون والتصويت عليه" .
وفي الدستور المغربي مادة رقم 2 : "السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة بواسطة المؤسسات الدستورية" .
وفي الدستور القطري مادة 59 : "الشعب مصدر السلطات ويمارسها وفقا لأحكام هذا الدستور" ، وفي المادة 61 : "السلطة التشريعية يتولاها مجلس الشورى على الوجه المبين في هذا الدستور" .
وفي الدستور الكويتي مادة 51 : "السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وفقا للدستور" .
وبقية الدساتير لا تخرج عن ذلك من حيث المضمون وإن اختلفت الصيغ، كما أن هذه الدساتير تنص على أن نظام الحكم نظام ديمقراطي، وهي الصيغة السياسية لمصطلح السيادة الشعبية .
وهذه الخصيصة التي تميزت بها الديمقراطية على تعاقب الدهور تعد أكبر اختلاف حقيقي بين الإسلام وبينها، فإن قاعدة الإسلام هي توحيد الله تعالى، والتي تعني أن يكون المسلم عابدا لله وحده، وذلك بالاحتكام إلى ما شرعه الله تعالى في أموره كلها من صلاة وصيام وحج، ومعاملات بين الناس وخصومات، وفي شئونه كلها.
فقد ورد في مواضع عديدة من كتاب الله قصر الحكم عليه سبحانه فقال تعالى : { أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ} [الأنعام :62 ] ، وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [يوسف : 4، وقال تعالى : { َفالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12] والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء :59] فلم يُحكم الله تعالى في موارد النزاع أحدا غير الكتاب والسنة، وقال تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيما} [النساء :65 ] فأوجب تحكيم الرسو صلى الله عليه وسلم في كل ما يشجر بين المسلمين، وأمر رسوله أن يحكم بين الناس بما أنزله عليه فقال تعالى : {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة :48] ، وقال تعالى في الآية التي تليها : {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} [المائدة :49] .
فالحق عند المسلم هو ما أمر به الله تعالى ورسول صلى الله عليه وسلم أو دعا إليه، والباطل هو ما نهى الله عنه ورسول صلى الله عليه وسلم ، فالله تعالى هو الذي يشرع، وهو الذي يأمر وينهى، وهو الذي يُلزم، وهو الذي يعاقب على المخالفة ويثيب على الطاعة، فالسيادة الكاملة إنما هي لله تعالى وحده، وقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (السيد الله) .
بينما الحق في الديمقراطية هو ما أمر به الشعب، والباطل هو ما نهى عنه الشعب، وإرادة الشعب هي معيار الخطأ والصواب، فما أقرته وقبلته فهو الصواب وما تركته ولم تقبله فهو الخطأ، فالإرادة الشعبية معصومة، ومن هنا فإن الديمقراطية قد رفعت الشعب إلى المنزلة التي لا تليق إلا بالله تعالى، وهذا الفرق لا يستطيع أن ينكره أحد، إلا عن طريق الكذب والتضليل لخداع الناس وإيهامهم، وتعريفات الديمقراطية في بلد المنشأ تدل على ذلك، بل ابتعاد الديمقراطية عن الدين هو أحد مسوغات الدعوة إليها .
والديمقراطيون الحقيقيون لا يعدون هذا عيبا أو نقصا يحاولون التبرؤ منه، بل هو عندهم من مميزات الديمقراطية، فكما يبين أحدهم أنه يستحيل تعريف الديمقراطية "دون تحرير الذهن من الأحكام المسبقة مهما كانت، أي إعطاء مسئولية القرار للشعب دون تقيد مسبق بأي قيد نصي أو تشريعي أو فقهي، فالناس وفق هذا المنطق هم الذين يملكون حق السيادة والمرجعية في شئونهم التعاقدية الوضعية" ، وبهذا يتم فك أي ارتباط إيجابي بين الديمقراطية وبين الدين، فالديمقراطية تبعد الدين عن التدخل في الحياة العامة للمجتمع، وهي بذلك تكون الوجه السياسي للعلمانية، وهذا لا شك اختلاف جذري بين الإسلام والديمقراطية ولا يمكن تقريب الديمقراطية من الإسلام إلا بالتخلي عن هذا الوصف الجوهري في الديمقراطية، لكن إذا أمكن التخلي عن هذا الوصف في محاولة التقريب، هل يظل ما بقي منها باسم الديمقراطية ؟(54/364)
في حين لا يمثل الشعب أية مرجعية في الحكم، هذا ما تأباه قواعد اللغة ويأباه العقل والمنطق، ولا يمثل الإبقاء على الاسم في هذه الحالة إلا القبول بالتبعية الفكرية، واختزال الفكر الإنساني كله في الفكر الغربي .
لكن هل استطاعت الديمقراطية أن تحقق هذا الذي زعمته وادعته ؟
يقسم الفكر الديمقراطي الشعب إلى فئتين :إحداهما يمكن تسميتها بالشعب السياسي، وهو الذي تكون له السيادة، والفئة الثانية هي المتبقية من مجموع الشعب، وهي التي لا دخل لها بهذه السيادة، وهذه الفئة تغيرت بتغيير الأزمان، فقد كانت في أول الأمر تشمل الأرقاء وتشمل النساء والأطفال غير البالغين، والرجال غير المتعلمين، والفقراء، وغير النبلاء في المجتمع، وهم يمثلون الأغلبية العددية في المجتمع، وقد كان النظام الذي يمنع كل هذه الفئات من السيادة ينظر إليه على أنه نظام ديمقراطي، مما يبين أن السيادة الشعبية كانت مجرد شعار لا رصيد لها يسندها من الواقع، ثم بمرور الزمن تغيرت هذه الفئة، لكنها ما زالت حتى الآن تشمل الصبيان الذين لم يبلغوا سنا معينة (18عاما) إضافة إلى المحكوم عليهم في بعض القضايا التي تحددها القوانين .
وإذا تجاوزنا هذه النقطة وانتقلنا إلى الدستور الذي يعد أعلى وثيقة قانونية في النظام الديمقراطي يلتزم بها الجميع ويحنون هاماتهم لها، واتخذناه مثالا للحديث، نجد أن الشعب لم يكن هو الذي وضع هذه الوثيقة، وإنما وضعها مجموعة من الناس ممن تخصصوا في الأمور القانونية والمسائل السياسية، وهي لا شك مجموعة صغيرة جدا جدا بالمقارنة إلى عدد الشعب (السياسي) مما يعني أن السيادة الشعبية لم تكن هي التي صاغت أعلى وثيقة قانونية يتحاكم إليها في البلاد، ولو قيل : لكن هذا الدستور لا يُقَر إلا بعد الموافقة عليه من الشعب عن طريق التصويت وأخذ الآراء، فإن ذلك أيضا لا قيمة له لعدة أمور :
أولا: تشتمل هذا الوثائق على مسائل فنية تخصصية لا يدركها إلا المتخصصون وهم قلة قليلة في أي مجتمع، فموافقة غيرهم عليها ليس له قيمة حقيقية ، وكذلك اعتراضهم لا قيمة حقيقية له، فإن الموافقة أو الاعتراض الناشئين عن مجرد الرغبة أو الاستجابة للدعابة ووسائل الإعلام، من غير علم حقيقيي بالمسألة والقدرة على تبيان ما فيها من إيجابيات أو سلبيات لا يساوي شيئا في ميزان تقويم الآراء .
ثانيا : لو تجاوزنا هذه النقطة فإنه دائما ما لا يحصل إجماع على تلك الوثائق، بل يقبلها طائفة ويرفضها آخرون، ذلك أنه في ظل عدم وجود مرجعية متفق عليها بين الناس ويخضعون لها - خارجة عن الإنسان نفسه - فإنه يستحيل أن يتفق الناس كلهم أو أغلبهم على رأي واحد في عشرات بل مئات المسائل المهمة، وإذا أُقرت هذه الوثائق لكون الموافق عليها أكثر من المعترض، فمعنى ذلك أن هناك مجموعة كبيرة من الشعب (السياسي) وهي قد تصل إلى الثلث أو قريب من النصف (على حسب الأغلبية المعتد بها في هذه المسائل)، لم يكن لنصيبها من السيادة الشعبية أثر في إقرار هذه الوثيقة، على أن موافقة الموافق لا تعني بالضرورة موافقة حقيقية، إذ ربما تكون الموافقة نتيجة ضغوط من أطراف خارجية، أو تدخل الإعلام الموجه الذي يقوم بدور كبير في صناعة وتشكيل آراء الناس وتصوراتهم، أو نتيجة الاتفاق على تقسيم المغانم بين الفئات المؤثرة في التصويت، وأقرب مثال لذلك ما حدث في إقرار الدستور العراقي الذي وضع بعد الاحتلال .
بل إن الأساس الذي يعتمد عليه في بيان الأغلبية المعتد بها، هل هو الأغلبية المطلقة (أي ما زاد على 5% ولو كان بصوت واحد) أو أغلبية الثلثين أو غير ذلك، هو نفسه يحتاج إلى إجماع الشعب (السياسي) حتى يمكن أن يؤسس عليه ما يأتي بعده، وإلا لم يكن هناك أي معنى للحديث عن السيادة الشعبية المتخذة عن هذا الطريق، وهذا الإجماع نادر الحدوث، وعادة ما لا يحدث أبدا .
ثم إن الذين يحق لهم الدخول تحت مسمى الشعب السياسي، كثير منهم لا يشارك في عمليات الانتخاب والتصويت، مما يجعل الأغلبية عند حدوثها هي أغلبية من شارك في التصويت لا أغلبية الشعب السياسي، ولو أننا أخذنا مثالا قريبا من انتخابات قد جرت في مصر فقد فاز الرئيس المصري بالانتخابات بنسبة تجاوزت الثمانين في المائة لكن لو نظرنا كم فردا اشترك في الإدلاء بصوته ممن يحق لهم المشاركة، لم نجده يتجاوز نسبة الـ (24%)، حسب الإحصاءات الرسمية، وما يجري في كثير من الدول لا يختلف عن هذا .
ثالثا : ولو تجاوزنا هذه النقطة ونظرنا إلى الدستور الذي تم إقراره، فإنه بعد جيل أو جيلين يكون الذين أقروا هذا الدستور جيفا تحت التراب، وهذا يعني إثبات السيادة والإرادة لأناس أموات، وهو ما يعني في الوقت نفسه، أن الأحياء محكومون بإرادة الموتى، وليس بإرادتهم، فأين السيادة الشعبية في هذا .
رابعا : ولو تجاوزنا مرة أخرى هذه النقطة، فإن الأطفال الذين كانوا أطفالا وقت كتابة الدستور وإقراره، قد صاروا بعد زمن رجالا لهم جزء من السيادة، فأين تأثير هذه السيادة على الدستور والقوانين المنبثقة عنه في إدارة البلاد .
وفي تحديد الشعب نفسه :(54/365)
ما الذي يجعل العربي والكردي في العراق يمثلون شعبا واحدا، وكذلك الكردي والتركي في تركيا يمثلون شعبا واحدا، والعربي والبربري في الجزائر يمثلون شعبا واحدا، كل فرد منهم له جزء من السيادة، بينما العربي الأردني أو المصري أو السوري المقيم في بلد عربي آخر لا يعد من شعب ذلك البلد، ومن ثم لا يمثلون شعبا واحدا ؟ ولا شك أن هذا المقيم في بلد ما تجري عليه أحكام هذا البلد، وهو في الوقت نفسه لا يعد من الشعب فليس له أية حقوق في ممارسة الحكم فيه، (وهذا أمر يقره الفكر الديمقراطي) ما يعني أنه ليس له نصيب في السيادة الشعبية، وهنا تخفق الديمقراطية في تقديم التفسير المقنع لرضوخ هذا المقيم أو إجباره على الالتزام بأحكام البلد الذي يقيم فيه، من غير أن يكون له نصيب من السيادة أو ممارسة الحكم فيه .
وبالانتقال من كل ذلك نجد أن المؤهلين لممارسة الحكم باقتدار حقا، ليسوا هم الشعب كله، بل هم مجموعة أناس معينين محدودين، مما يجعل الحكم محصورا فيهم إلى حد كبير، وبذلك يتحول دور الشعب من كونه الممارس للحكم، إلى الاقتصار على اختيار القادة الأكفاء ليقوموا بممارسة الحكم، وهو لا يمارس هذا الحق إلا مرة كل عدة سنوات عندما تحين مواعيد الانتخابات، وفي كل هذا قضاء على قضية السيادة الشعبية، وهو ما يؤول في النهاية أن تكون الديمقراطية بحق هي حكم الأقلية وليس حكم الأكثرية .
فالديمقراطية وإن كانت قد انطلقت من نقطة أن الحكم للشعب لكنها انتهت واقعا وفعلا لحكم الأقلية، الأقلية الغنية المثقفة المنظمة التي استطاعت أن تحول القضية لصالحها فيما يطلق عليه حكم النخبة "ففي الأنظمة الغربية لا يحكم الشعب كما تفترض النظرية، ولكن الذي يحكم هي تلك الأقلية التي تسمى النخبة، ومن ثم ففي الغرب نخبة ديمقراطية تحكم بسبب ما يتوفر لها من قدرة على التحكم في الموارد الطبيعية ومصادر الثروة والقوة، وبحكم بعض المزايا الموروثة وغيرها من العوامل "ويحق لنا بعد ذلك كله أن نقول : إن اعتبار الشعب هو الذي يحكم في النظام الديمقراطي، يعد من الخدع الكبرى في تاريخ الأنظمة السياسية" .
هذا العيب الجوهري في الديمقراطية الذي يجعل السيادة للشعب - وهو الأمر الذي تشبثت به ولم تستطع تحقيقه في واقعها، وذلك لعدم واقعيته - هو نقطة الضعف القاتلة لها في شريعة الإسلام، وهو ما دعا الكثيرين ممن يريدون جعل الديمقراطية من مكونات النظام السياسي الإسلامي أو إدخالها فيه - وذلك بغرض الخروج من حالة الاستبداد التي تعيشها كثير من شعوب الأمة الإسلامية - إلى تجاوز هذه النقطة تحت الدعوة إلى الاستفادة من آليات الديمقراطية، دون التمسك بالأساس النظري لها أو الاعتماد عليه، على أساس أن هذه النظرة المذهبية أو الفلسفية للديمقراطية كانت مرتبطة بزمن النشأة وظروفها، وقد تجاوزتها الديمقراطية في تطبيقاتها المعاصرة، ولم تعد تعول على هذا الأساس، أو ترتبط به .
فهم يرون أن الديمقراطية كفلت الكثير من الحقوق والحريات التي تتحقق بها إنسانية الإنسان كحرية التنقل، والاستقلال في الرأي والتفكير، والمشاركة في القرار السياسي وفي اختيار الحكومة، وفي القدرة على الإنكار على الحكومات، وتغييرهم عند الخروج عن الجادة، وفي حق التملك وحق الأمن وغير ذلك، كما يحقق المساواة للجميع أمام القانون، ويرون أن هذه الأمور لا ترتبط بالأساس النظري للديمقراطية الذي قامت عليه الديمقراطية، بل هي آليات تنظيمية، وطرائق عملية للحفاظ على حقوق الناس وحرياتهم، وتأمين تداول السلطة بينهم بطريقة سلمية، كما أنها من الأمور المشروعة في الإسلام .
لكن هنا نقطة مهمة غابت عن أصحاب هذا الرأي، الذين يحاولون سلخ الديمقراطية من أصلها وذلك أن هذا رأيهم ولا يعبر عن الشعب السياسي كله، فالشعب السياسي حسب الفكر الديمقراطي يدخل فيه المواطن المسلم كما يدخل فيه المواطن الكافر، والمسلمون منهم المسلم حقيقة ومنهم غير ذلك كالعلمانيين والحداثيين والقوميين وغيرهم، وهؤلاء يصرون على ارتباط الديمقراطية بأصلها الذي خرجت منه، ولا سبيل - ديمقراطيا - بإلزامهم بغير ذلك .
ولا شك أن العمل الديمقراطي القائم على الأساس الفلسفي للديمقراطية يتناقض مع المقررات الإسلامية كما ظهر، فإن جعل التشريع بيد الشعب هو إلغاء لشريعة الله تعالى وهذا ما لا يقول به مسلم أو يقبله، ولعل في ظهور هذا العيب الواضح في الديمقراطية، ما يدعونا إلى عدم الوقوف أمامه ويكفي فيه ما تقدم، ويبقى الحديث عن التصور الذي يتناول الديمقراطية بوصفها آليات، أو منهج عمل، من غير استناد إلى فكرة أو تصور مذهبي أو فلسفي، وهذا هو موضوع المقال القادم إن شاء الله .
==============(54/366)
(54/367)
مفهوم «التعددية الديمقراطية» وعلاقته بالأقليات
ما يشاع في وسائل الإعلام من أحاديث عن التعددية الديمقراطية، لا يخرج كله من مشكاة واحدة، فهذا المفهوم في دول الغرب له واقع مختلف عما يراد له في الدول العربية، أو حتى في البلدان الإسلامية على وجه العموم.
ـــــــ
فالتعددية في الغرب هي تعددية حزبية حقيقية، وتعني التعددية في البرامج السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وهذه التعدديات هي تعددية في الفكر السياسي، الذي يخضع لأنظمة الحكم الرأسمالية الديمقراطية المتبناة في البلدان الغربية، فلا علاقة لهذه التعددية بالقبلية والعشائرية، أو بالأعراق والطوائف، كما ولا علاقة لها بالأديان والمذاهب، بل تسير في أجواء المبدأ الرأسمالي الذي تسود القناعة به في بلاد الغرب لتثبيت هذا المبدأ وتقوية التمسك به وتطبيقه.
وبالمقابل فالتعددية الديمقراطية التي يريدها الغرب، وبخاصة أميركا، للبلاد الإسلامية، ليست تعددية في أجواء المبدأ الإسلامي الذي تسود القناعة به في بلاد المسلمين، ولا لتثبت هذا المبدأ وتقوية التمسك به وتطبيقه، بل إن التعددية المقترحة في البلاد الإسلامية تعني التعددية القبلية والشعوبية، وتعني كذلك التعددية المذهبية والطائفية، وإثارة الفرقة والتجزئة في بلاد المسلمين
فتعددية الغرب عنصر من عناصر قوة مبدئها وزيادة التمسك به، ومن عناصر قوة الدول، ووحدتها، وتماسك مجتمعاتها، وتجانسها، بينما التعددية المرادة في البلاد الإسلامية هي عنصر من عناصر محاربة مبدئها، ومن عناصر ضعفها، وتخلخلها، وهشاشة مجتمعاتها، وسهولة تفتيتها.
وتركيز أميركا على فكرة التعددية (كما تريده هي لبلادنا) لم يأت من فراغ، وليس من باب الصدفة تضمين هذه الفكرة في جميع مشاريع الإصلاح الأميركية للشرق الأوسط، فيبدو أن أميركا وجدت في هذه الفكرة ضالتها، لأن فيها من الخداع والجاذبية الموهومة ما يمكنها من إعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط صياغة جديدة، على وجه يجعلها منطقة تابعة لها ولا تختلف كثيراً عن جمهوريات الموز في أميركا اللاتينية التي تعتبر كمزارع لشركاتها الاحتكارية.
لذلك ليس غريباً أن تركز أميركا على ما تسميه حقوق الأقليات للإثنيات والمذاهب. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أن أميركا تظهر حرصاً زائفاً على الأقلية الكردية، فتحتضنها، وتمدها بكل أسباب القوة، وتتباكى على ما أصابها من لأواء في حلبجة، ونجدها كذلك تذرف دموع التماسيح على شيعة العراق لأنهم -كما تزعم- حُرموا من حقوقهم في العهود السابقة والتي سيطر فيها على العراق حكام من السنة، وكأن حكام البعث، ومن سبقهم من قوميين وملكيين، كانوا يحكمون العراق حكماً مذهبياً!.
وكذلك لم يكن مستغرباً أن تركز أميركا، ومن ورائها أوروبا، على إبراز الهوية الأمازيغية في دول المغرب العربي، وأن تحتضن الأقليات الأوزبكية والطاجيكية في أفغانستان، وأن تعمل على إثارة الأقلية القبطية في مصر، وأن تؤازر الأقليات المسيحية والوثنية في جنوب السودان، وأن تثير الضغائن والمنازعات بين الأقليات والدول تحت ذريعة التعددية، بينما هي في واقعها صورة جديدة من صور القاعدة المشهورة فرق تسد.
لقد مارست أميركا لعبة التعددية هذه بإتقان ودهاء شديدين، فأوهمت الشعوب بأن في التعددية خلاص لها من الدكتاتورية، واستغلت تفوقها بعد سقوط منافسها الدولي السابق الذي كان يتمثل في الاتحاد السوفياتي، وركَّزت على الأقليات وتعددها لتسيطر على الدول بأسلوب جديد، فرعت الأقليات ودعمتها، وتحالفت معها لتستخدمها كرأس حربة تحقق بها مصالحها الاستعمارية.
فمثلاً ساندت في أريتريا أسايس أفورقي وهو نصراني من قبيلة اليتجراي، وهي من الأقليات في أريتريا، ودعمته إلى أبعد الحدود، بالرغم من خلفيته الاشتراكية اليسارية، ومنحته دولة في سرعة قياسية، كان من الصعب إيجادها، أو تصور وجودها بمثل هذه السهولة، ثم أسندته في حربه مع أثيوبيا، ومكنته من ترسيم الحدود معها، وتثبيت هذه الدولة الفتية في القرن الأفريقي، وبعد ذلك دعمته في قمع رفاقه السابقين في الثورة لكونهم ينتمون إلى خط العروبة والاشتراكية، وظاهرته ضد الأكثرية العربية المسلمة في البلاد التي كان يتوقع لها أن تكون دولة عربية، وأن تدخل في جامعة الدول العربية. وقام أفورقي بعد أن حصل على هذا الغطاء الأميركي بمحاربة العرب والمسلمين في اليمن، حيث غزا جزر عربية يمنية، وفي السودان حيث دعم مجموعات متمردة، وفي داخل أريتريا حيث حارب اللغة العربية والحضارة الإسلامية، وتحالف مع إسرائيل، واتخذ منها أنموذجاً يقتدى به. وتم القيام بكل هذه الأعمال المشينة، والتي يعتبر القيام بها بمثابة تمرد على الواقع، وخروج عن الصف، وانسلاخ من جسم المنطقة، تم القيام بكل هذه الأعمال بمظلة أميركية وتحت شعار التعددية.(54/368)
ومثلاً دعمت أميركا جون قرنق في جنوب السودان وهو من قبيلة الدينكا، وهي أقلية من عدة أقليات في جنوب السودان، الذي يجمع العرب والوثنيين والمسيحيين والأفارقة في نسيج هادئ تحت سيطرة العرب والمسلمين منذ قرون. فضخمت أميركا دور قرنق، ومدته بكل أسباب القوة، حتى صار ممثلاً لكل أهل الجنوب بمختلف أقلياته، وربما ستستمر في دعمه ليصبح في المستقبل رجل السودان الأول والأقوى، وذلك بعد الفراغ من مؤامرة تقسيم الثروة والسلطة، علماً بأن هذا الرجل تسبب في مقتل وتشريد الملايين من السودانيين.
ومثلاً قوَّت أميركا مركز رئيس أوغندا يوري موسيفيني، وهو من أقلية التوتسي، لدرجة أن أصبحت أوغندا، تحت رئاسته، أهم دولة في وسط أفريقيا. وعندما جاء بوش إلى القارة الأفريقية انطلق من أوغندا، واستطاع موسيفيني، بفضل هذا الإسناد الأميركي، أن يساهم في تغيير رؤساء الكونغو، ورواندا، وبوروندي، والإتيان برؤساء معظمهم من التوتسي، وبذلك تحولت أوغندا إلى قطب الرحى في منطقة أفريقيا الاستوائية، والتي ما كانت لتصل إلى كل هذا النفوذ، لولا دعم أميركا لأقلية التوتسي وللرئيس موسيفيني، الذي كان له دور مشبوه في مذابح الهوتو والتوتسي، التي بلغ ضحاياها ما يقارب المليونان.
وأما في الصومال، فأميركا عندما لم تجد فيه أقليات عرقية أو مذهبية، لجأت إلى تمزيقه عن طريق إشعال الفتن والحروب الأهلية، بين أمراء الحروب الذين قاموا بدور الأقليات، وبذلك تم التآمر على الصومال بحرمانه من الدولة والاستقرار، لمدة زادت عن الإثنتي عشرة سنة، فقسمته إلى خمسة أقاليم هي: أرض الصومال، والصومال بوند، وصومال حسن صلاد والعاصمة مقديشو، بالإضافة إلى إقليم أوغادين الذي سلخته أثيوبيا عن الصومال.
وأخيراً في أفغانستان، فقد رأينا كيف استخدمت أميركا قبائل الطاجيك والأوزبيك لمحاربة الأكثرية البشتونية، فحل في أفغانستان ما حل من احتلال، وخراب، ودمار، وهلاك للبشر.
هذه أمثلة حقيقية على استخدام أميركا لورقة التعددية في هذه البلدان والتي أنتجت التفتت والتدمير، والمذابح والتشريد، وهذه هي الحصيلة الأولى فقط للسياسة التعددية التي انتهجتها أميركا، خلال العقد الأول من عصر الهيمنة الأميركي على العالم.
والظاهر أن أميركا قد استمرأت هذه اللعبة، وبدأت بتطويرها بديباجة الديمقراطية لتسهيل تسويقها، وأصبحت التعددية بفضل الإعلام الأميركي هي النغمة الأكثر عزفاً على لحنها، من قبل صنّاع السياسة الأميركية، وصارت جزءاً جوهرياً من أطروحاتها الإصلاحية. فإذا كانت هذه هي التعددية الديمقراطية المصممة لبلادنا، وهذا هو حصادها، فما هو موقف الحكومات والنخب السياسية العربية والإسلامية منها؟
إن موقفها -وبكل أسف- يتجاوب مع هذه الأكذوبة الأميركية عن التعددية المذهبية والقبلية والأقليات والطوائف، وتجاوبهم معها ناشئ بسبب التبعية والخوف من فقدان الكرسي. وإن موقف كثير من النخب السياسية الفاعلة في هذه الدول، سواء من الحكومات أم من المعارضة، هو موقف إنهزامي أناني يتعاطى مع هذه الأطروحات الأميركية، لا بوصفها مقنعة أو صحيحة، وإنما بوصفها أمراً واقعاً يستوجب الخنوع. وما يجري في العراق اليوم يعتبر أحدث نموذج لهذه الأطروحات الأميركية، حيث لم تكتف أميركا ورجالها في مجلس الحكم، وفي غير مجلس الحكم، من تقسيم العراق على أساس عرقي بين العرب، والأكراد، والتركمان، والأشوريين، بل وقسموه أيضاً على أساس مذهبي بين السنة والشيعة، وهذا كله يُبرَّر بذريعة التعددية الديمقراطية!!
إن هذه العدوى نراها اليوم تنتقل بسرعة إلى مناطق جديدة مثل أكراد سوريا، وشيعة الجزيرة العربية، وهذا هو أول القَطر الأميركي لهذه التعددية البغيضة، ولا ندري إلى أين سينتهي المطاف بها.
إن التعددية الديمقراطية المصممة لبلادنا هي داء أميركي عضال لا بد من علاجه، وعلاجه الوحيد الناجع الشافي يتمثل في دواء الإسلام، بوصفه فكراً وعقيدةً ونظام حياة، لا فصل فيه بين الدين والحياة، ولا بين العبادة والسياسة، وهو العلاج الوحيد الذي لا يختلف عليه أتباع مذهب، أو أبناء عرْق، أو حتى أهل ذمة، لأنه ينصف الكل، ويعدل مع الكل، ويوحد ولا يفرق، ويُغلِّب العفو والتسامح على العصبية والعنصرية، ويجعل قاعدة «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى» هي الأساس في النظر إلى الرعية، ويجعل الاخوة بين أفراد المجتمع تقوم على أساس اخوة العقيدة بدلاً من اخوة القبيلة مصداقاً لقول الحق وهو أصدق القائلين: { إنما المؤمنون إخوة } قرآن كريم
أحمد الخطيب - بيت المقدس
==============(54/369)
(54/370)
أفكار لتوسيع دائرة الديمقراطية
الفريضة الغائبة ... أفكار لتوسيع دائرة الديمقراطية
الأستاذ عماد كمال
بسم الله وصلاة وسلاماً على رسول الله .
لقد تفجرت الأحداث السياسية والعسكرية في العراق وفلسطين وأفغانستان والسودان وغيرها من بلاد المسلمين . وفي ظل هذا الانهيار الرهيب الذي يضرب كل مظاهر الحياة في الأمة من هزيمة حضارية وعسكرية وتردي اقتصادي وأزمات حياتية طالت كل شيء من صحة لإسكان لتعليم ... الخ في ظل كل هذا فقد أصبح الوضع على درجة من الغليان تحتم على الكل أن يراجع ما هو عليه، ويتساءل عما يجب أن يقوم به من أعمال، ليشعر معها أنه يقوم بشيء في مستوى سخونة الأحداث من حوله . ولكن وللأسف فإن وتيرة العمل تكاد لا تتغير رغم كل ذلك.
الشورى هي الأصل الثابت والديمقراطية هي التطبيق المتغير
من البديهيات المعروفة أن الإسلام عقائد وعبادات ومعاملات، والأولى والثانية محكومة في الشرع إجمالاً تفصيلاً فلا تحتمل زيادة ولا نقصان، أما الثالثة فمن رحمة الله أنها محكومة بأسس عامة فقط، وقد ترك لنا رب العزة سبحانه مساحة كبيرة للتحرك فيها حسب مقتضيات الظروف الخاصة لكل جماعة من المسلمين وحسب تبدل المكان وتغير الزمان. فإذا كان المسلم لا يستطيع في نطاق العقائد أن يتجاوز الأسس الثابتة لتوحيد الألوهية والربوبية ومبادئ العقيدة المختلفة، وإذا كان كذلك في العبادات لا يستطيع أن يؤدي عبادة نصية لله بغير ما فصلَها الشرع، فيزيد مثلاً من ركعات الصلاة المفروضة أو ينقص أو يستبدل شهر الصيام أو هيئته بغيره .. فإن العبد يستطيع في نطاق المعاملات أن ينقص ويضيف حسب أحواله وبالقدر الذي لا يتجاوز الأسس الثابتة والأمور المجملة في جانب المعاملات. وكان من نتيجة رحمة الله في ذلك أن صار لكل جماعة من المسلمين نظاماً في الحكم قد يختلفوا فيه عن غيرهم ويظلوا رغم ذلك مسلمين ، فالنظام الملكي في بعض الأقطار الإسلامية نظاماً إسلامياً ومثله الجمهوري أو نظام الخلافة .. ومثل ذلك في نظم إدارة الاقتصاد ووسائل التقاضي وقوانين البيع والشراء والتعليم والصحة والعلاج وخطط الحروب ووسائل إعداد وتسليح الجيوش ..الخ . فإسلامية أي نظام للمعاملات تنبثق من مطابقته لثوابت الشرع مهما كانت التفصيلات متبدلة ومتغيرة . وقد استفادت الحضارة الإسلامية في مهدها من هذه الميزة التشريعية فاقتبس المسلمون من حضارة غيرهم من الفرس والروم ما صلح منها وطابق الشرع، فاقتبس خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضوان الله عليه نظام الدواوين من الفرس، واقتبس المسلمون نظام العملة من الروم وغير ذلك كثير .
فالإسلام في نظام المعاملات ليس منشئاً بل ضابطاً، بمعنى أن الشرع الإسلامي لم يأت للبشرية بنظام البيع أو التقاضي أو التعليم أو الحكم، فتلك من ثمرات تطور الإنسان السابقة واللاحقة على ظهور الإسلام. وللأسف فإن بعض العلماء وبدافع الغيرة على الدين ومن منطلق العداء لأعداء الأمة فإنهم يصرون على رفض بعض الابتكارات البشرية في نظام المعاملات ويكتفون بالتطبيقات والممارسات الإسلامية القديمة في جانب المعاملات ويجعلونها بديلاً لما عند الغرب. ومن هذه الأمور نظام الشورى في مقابل الديمقراطية . وهذه النقطة مما كثر الخلاف حولها ، وزخرت المكتبة الإسلامية بمئات الكتب التي تقدم الشورى على أنها البديل الإسلامي للديمقراطية الغربية . وهو اشتباك قد ضر أكثر مما أفاد، لأنه يعمق الخلاف الحضاري بيننا وبين غيرناويحرمنا من ابتكار بشري فيه ما ينفعنا بإذن الله. فالشورى أصل ومبادئ حاكمة ، أما الديمقراطية فتطبيقات عصرية منها ما يوافق الشرع ومنها ما يجافيه . وكما فعلنا مثلاً في نظام إدارة الشركات الذي استوردنا تفصيلاته وأعدنا تهذيبها وضبطها على الشرع، فلا مانع من اقتباس ما صلح لنا من هذا الابتكار البشري.(54/371)
فالديمقراطية قد صارت الآن نهجاً سياسياً واجتماعياً في إدارة الشعوب له تفصيلات مرتبطة بالمرحلة الزمنية التي تعيشها البشرية الآن، نظام يستقي تفصيلاته من تجربة طويلة عاشتها الشعوب الحديثة تخللتها أخطاء وعثرات ناتجة عن عدم عدالة توزيع السلطة داخل الأمم، فاستأثر بالأمر حفنة قليلة من الناس أسرفوا في استخدام السلطة وفي التفرد بالقرار وفي قهر المعارضين والناصحين حتى كان تجبرهم سبباً في خراب هذه الشعوب وإيقاف نموها . وقد أنتجت هذه المعاناة نظاماً لتقسيم السلطة يسمح للقواعد الشعبية في كل بلد أن تقوم من خلال ممثليها المنتخبين باختيار ومراقبة أداء الحكام والمسئولين ومحاسبة وعزل من يتعدى حدوده منهم. إضافة إلى قائمة بحقوق التعبير عن الرأي تضمن لكل صاحب رأي أن يعبر عنه بحرية دون أن يجد نفسه محل اتهام أو يضار في بدنه أو رزقه. وكانت النتيجة أن قلت مظاهر الفساد الإداري وأمن كل مخالف في الرأي على نفسه وانفتحت أبواب الوظائف الإدارية أمام الأكفأ والأقدر عليها دون اعتبار لجنس أو ثروة أو قرابة من مسئول، وأصبح المعارضون يجتمعون في أحزاب وينافسوا أهل الحكم بالبرامج والدعاية السياسية حتى يصلوا إلى موضع السلطة فيجتهدوا في إنفاذ برامجهم وأفكارهم، بدلاً من أن كان المعارضون يزجون في السجون .
والديمقراطية ليست شكلاً واحداً، بل هي مبادئ عامة تقوم على حرية تداول السلطة وحق القاعدة في اختيار حكامها والرقابة عليهم وضمان حرية التعبير. ومن خلال هذه المبادئ أخذت كل أمة ما يناسبها، فهناك شعوب بغير دين خلت ديمقراطيتها من أي سلطان لله على العباد. وغياب الدين هنا ليس ناتجاً عن الديمقراطية، بل أن هذه الشعوب حتى ولو حكمت بغير الديمقراطية فلن تجعل للدين عليها من سلطان. وهناك بفضل الله في المقابل نماذج حكم إسلامية حققت تطبيقات للديمقراطية تجعل الدين حاضراً في التشريع ومهيمناً عليه . وحتى وإن كان هناك أخطاء وعثرات لهذه الدول أيضاً فهو مما لا يقارن بأي حال من الأحوال بما في بقية الدول التي غيبت الديمقراطية وزجت بالمعارضين في السجون وافترش فيها المسئولين المناصب حتى الممات.
وللأسف فالبعض وبدافع الحرص على الدين قد اتخذ موقفاً عدائياً غير مبرر من هذا الابتكار البشري في الحكم، وقد يكون هذا العداء مبرراً لو كانت شعوبنا التي ترفض الديمقراطية قد قدمت ومن خلال أي مسمى سياسي آخر نظاماً سياسياً يحترم آدمية المواطن ويحقق للشعوب النمو والازدهار، ولكن أن تكون شعوبنا العربية على هذا الحال المرزي من التخلف الحضاري والسياسي والقهر الذي وصل إلى مدى تشمئز منه النفوس السوية، ثم يخرج بعض الدعاة ليعترضوا على هذا الابتكار البشري الذي يقي الشعوب بعضاً من جور حكامها ، ثم نجد هذا الداعية المعارض للديمقراطية لفظاً وممارسة يغض الطرف عن جبروت الحكم في بلاد المسلمين، وتخلوا كتاباته التي تذم الديمقراطية من كلمة اعتراض تندد بواقعة واحدة جار فيها الحاكم على بعضاً من مسلمي بلاده، فأمر قد يوحي للبعض بسوء الظن ويؤدي إلى اتهام هؤلاء الدعاة بالعمل من تحت عباءة حكامهم . فمن يرفض الديمقراطية لابد أن يبدوا عليه أنه مهموم بأمر المسلمين وأنه مع العدل السياسي كمبدأ ولكنه يعترض على المسميات، ولكن أن تتحول قضية الحرية وطغيان الحكام إلى مساجلات سياسية وفكرية في المقارنة بين الشورى والديمقراطية دون الإلتفات إلى أصل الداء وهو القهر وسوء الحكم، فأمر يكرس الواقع المتردي للأمة. فالقضية هي العدل والحرية، والقضية هي استنزاف ثروات الأمة وخيرها لصالح حفنة من حكام القهر والجور، القضية هي آلاف الشباب والرجال والنساء المغيبين في السجون، القضية هي ملايين الأفواه المكممة، القضية هي فساد الحكم الذي أدى إلى تحول أمة كانت حاضرة العالم إلى أمة عالة على العالم تأكل وتلبس وتركب من كد المجوس وعبدة البقر. إن المثل السائر يقول ليست النائحة كالثكلى وعلى الدعاة ألا يجروا الأمة إلى مهارب فكرية وجدلية حول هذا النظام في الحكم أو ذاك، فمن ينادون بالشورى أو الديمقراطية لابد أن يتوجهوا بخطابهم إلى مصادر الجور لا إلى إخوانهم من الدعاة وأتباعهم من المسلمين..(54/372)
إن هذا الحديث الذي نقدم به لمطلبنا للإخوان بتعميق الديمقراطية، ليس دعوة للديمقراطية وليس اعتراضاً على الشورى ولكنه نداء للدعاة لتجاوز المسميات والانشغال بالمضمون، والانشغال بمصالح الناس عن مصالح السلطان، فالسلطان وإن كان في حاجة إلى دعاة يصرفون الناس عن المطالبة بالعدل، ويحذرونهم من مغبة الديمقراطية ويفرغون طاقات الأمل في العدل إلى مصارف من المساجلات الفكرية، إذا كان هذا يسعد السلطان ويأتي للدعاة بوافر العافية وموفور الشهرة والمال، فإن الحق أحق أن يتبع، وقد افترق السلطان والقرآن في أغلب بلاد المسلمين وصار حرياً بدعاة الحق أن يلتزموا جانب الله في عباده فيبصرونهم بحقوقهم المشروعة في حكم عادل ويوجهونهم للوسائل السلمية المشروعة في المطالبة بحقوقهم لدى حكامهم، فالوعي هو أصل التغيير. ولكن أن يستمر هذا الترف الدعوي وهذا الهجوم الشديد على من ينادون بالديمقراطية من الدعاة والجماهير بدلاً من الهجوم السلمي على من يؤصلون الظلم ويلتحفون بالجور فأمر والله نراه من أعاجيب الزمن.
والإخوان قد حسموا خيارهم للأمة في الديمقراطية المضبوطة بالشرع، وقد قدمت هذه الدعوة البرامج التي تراها مناسبة لإقامة المجتمع المسلم العصري القائم على الكتاب والسنة. ومن هذه البرامج ما قدمه الإخوان من مبادرة باسم ( مبادرة الإصلاح ) في شهر مارس لعام 2004 ميلادية ضمنوها أفكارهم للإصلاح. وهذه المبادرة تنادي في جزء كبير منها بالديمقراطية كوسيلة للحكم، وهو أمر يتفق عليه الكثيرين. ولكن يبقى السؤال هو هل هذه المناداة بالديمقراطية هي مناورة سياسية لإحراج الحكام واكتساب الأصوات في صراع سياسي على الحكم، أم هي قناعة حقيقية للجماعة؟ ونحن لا نتهم أحداً ولكن هذه الرسالة كلها تنطلق من منطق المكاشفة والمصارحة، وبهدف إذا صلحت نيتنا فيه فهو أن يتقوى هذا التيار الإسلامي المبارك ويراجع نفسه ويصحح عثراته حتى لا يجرفه التيار.
إن الديمقراطية نصوص ونفوس ، وكما نراها في سنة رسول ا صلى الله عليه وسلم سلوكاً فإننا نراها أيضاً في القرآن والحديث النبوي نصوصاً. فلماذا تقف ديمقراطية الإخوان دون غيرها وفي معظمها مجرد أعرافاً داخلية مرهونة بحسن تبني المسئول لها، وليست قوانين ونظم تقوم على المفردات الطبيعية للديمقراطية من السماح للقاعدة ممثلة في نوابها المنتخبين انتخابا حراً باختيار القيادة التنظيمية والرقابة على أداء المسئول ، ومن تحديد مدد لكل رجل في منصبه، ولائحة بمسئولياته تتضمن واجبات ومهام منصبه وحقوق القاعدة عليه، وإعلان تلك اللائحة للجميع.. إلى غير ذلك مما يضمن فرصاً متساوية للجميع للمشاركة المحمودة في اتخاذ القرار وبما يسمح بحراك إداري يأتي بالمسئول الأفضل لا المتاح، ورقابة فعالة تصون المختلف والمخالف من محاولات البعض لتنميطه واستئناسه تحت مظنة حماية الصف، حتى صار للأغلبية لون واحد ورؤية واحد في نفس القضايا ،وانعدمت المعارضة الداخلية التي تثري العمل ،وتجعل نجاحه مسئولية مشتركة بين الجميع قيادة وقواعد .
الفرد من الإخوان قد بدأ يستمع إلى العالم من حوله يتكلم بمفردات لغوية وعن قضايا اجتماعية وسياسية كحق القاعدة في اختيار قيادتها والرقابة عليها وحق عزلها واستبدالها، وعن الشفافية وعن حق إتاحة المعلومات والمكاشفة بالأخطاء، وعن المشاركة في صنع القرار ..بينما هو في القاعدة الدعوية قد يقضي عاماً لا يُستشار في شيء ، اللهم إلا إذا كانت المشاورة في تغيير موعد الأسرة الأسبوعي أو قرار خاص باللجنة التي يعمل بها لتحديد موعد رحلة الأشبال أو تغيير موعد حلقة المسجد ..وهذا أقصى ما يعرض عليه ليشاور ويشارك فيه..(54/373)
إن العصر قد اختلف ، والدعوة التي تهدف لتغيير العالم لابد أن تكون متقدمة في وسائلها عن العالم أو على الأقل متماشية معه . فلماذا الاكتفاء بالعرف في زمن شعاره سيادة القانون؟ وهل تأجيل الخطوات العملية التي تحيل الديمقراطية داخل الدعوة إلى قوانين مرعية، والاعتذار بالظرف الأمني وصعوبة التغيير يجعل مصداقية الإخوان في مطالبة الحكام بالديمقراطية داخل مجتمعاتنا محل تساؤل واستنكار من الآخرين؟ ولماذا طاعة الأمن والخوف على سلامة الصف في موضوع الانتخابات الداخلية فقط ، بينما نجد الإخوان عند الانتخابات البرلمانية يتحدون كل حصار أمني ويطالبون الإخوان جميعاً بالخروج في مسيرات وراء المرشحين رغم ما يجره ذلك من سلسلة اعتقالات تشمل الآلاف، فهل الانتخابات البرلمانية تستحق المجازفة بينما الانتخابات الداخلية السرية يعتذر عنه بسلامة الصف وبقبضة الأمن. وهل واقعة القبض على بعض الأعضاء منذ سنوات أثناء انعقاد مؤتمر انتخابي تكفي لتبرير سيطرة بعض الأفراد بشكل مؤبد ودون انتخاب على مقدرات هذه الجماعة الكريمة ؟وهل انقطعت لقاءات ومعسكرات واجتماعات الإخوان نتيجة لحصار الأمن؟ أم أن الأمر جاء كنجدة من السماء للرافضين للديمقراطية ليعتذروا للصف بالظرف الأمني؟ إن هذه الحجة قد صارت محل نظر، وفقدت مصداقيتها تماماً، والأمر لا يبدوا أكثر من شهوة الحكم التي تعمي الحكام في بلادنا والتي تقاتل عليها أناس من خيرة السلف والخلف غفر الله لهم جميعاً. إن من يعجز عن تغيير نفسه فلن يستطيع مطلقاً أن يغير الآخرين، ولا يحق له من الأصل أن يطالب بتغيير الآخرين .
غياب أوعية للشورى وقصر القرار في مستوياته المؤثرة على حفنة قليلة غير منتخبة قد حرم الدعوة من ميزة المشاركة الفعالة من جماهير الصف في تقرير مصير الدعوة في مختلف القضايا الجوهرية ، وحصر الشورى في دوائر محدودة غير متاحة أمام الجميع . وصارت هذه الفئة القليلة العدد تقود جماعة كبيرة جداً ،ويكاد يثقلها الحمل وضعف الكفاءة الإدارية فتقتات على مخزون الدعوة التنظيمي والذي صار هو كل ما لديهم لكل المواقف وتحت جميع الظروف فتعيد تقديم نفس الحلول لمختلف القضايا ، وتقتات على الميراث الحركي والتنظيمي خلال سنوات وسنوات من تواجدها في موضع المسئولية وفي ظل غيبة قانون يضرب لها أجلاً في مناصبها وفي غيبة رقابة ومحاسبة فعالة من لجان منتخبة تمثل القواعد . ثم تبرر دوماً قلة الفعالية وندرة الابتكار بالظروف الخارجية والظروف الأمنية ..الخ . حتى جمدت الأوضاع تماماً، وفقدت الدعوة بريقها وأصبح الهرم مقلوباً وهو لفظ يعلمه الإخوان ولا نريد أن نفشي به سراً .
ونحن نرى أن الحل هو في توسيع دوائر المشاركة وإتاحة المعلومات للجميع وخلق قوانين وأوعية ثابتة لتلقي إسهامات الأفراد، وفتح الباب لتولى المسئوليات الإدارية دون الارتكان للسلم الدعوي الطويل ، والذي تتولى فيه التربية ترقية وتقييم العضو بناء على شروط قد لا تمس عناصر الموهبة والكفاءة الإدارية ، فليس كل أخ في مرحلة العامل والتي يقتصر على أفرادها تولي المسئولية الإدارية، ليس كل من وصل إلى مرحلة العامل قادراً على الإسهام الإداري الفعال حتى نقصر الأمر عليه ، وليس كل أصحاب السبق والأقدمية أقدر من غيرهم على الإدارة والتوجيه والقيادة والتطوير فنسلم لهم الأمر كله ليديروا الدعوة من حجرات مغلقة تمارس فيها الشورى بحق ولكن بعيداً عن جسم الدعوة نفسه . وهو ما نحسبه يخالف سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في اختيار المسئولين أو في المشاورة ، فلو أن صلى الله عليه وسلم كان قد شاور في أمر بدر في حجرة مغلقة مع السابقين للإسلام من كبار الصحابة ، لحُرم من مشورة الحباب بن المنذر بتغوير آبار بدر وحرمان المشركين من الماء والتي كانت بإذن الله أحد أسباب النصر . ومثل ذلك في الخندق وغيرها من عظائم الأمور ، والتي كان المسلمين خلالها مستهدفين بأضعاف ما عليه الجماعة الآن ، ولكنها المشاورة الواسعة والتي أساسها ثقة القيادة حتى وإن كان علي رأسها نبي في قدرة القاعدة على المشاركة بالرأي الصائب . وحتى وإن أنتجت الشورى القرار الخطأ فلا مناص عنها، فحين دفع شباب الإسلام المتحمس الرسو صلى الله عليه وسلم للخروج لملاقاة مشركي مكة خارج المدينة في أحد ، وهي المشورة التي خالفت مراد صلى الله عليه وسلم ، وكانت من أسباب الهزيمة . ولكن جاء الخطاب القرآني العظيم ليقر مبدأ الشورى رغم كل شيء، فقبل أن يصل المسلمين إلى المدينة، وقبل أن يجد مبدأ الشورى من يشكك في جدواه من عامة المسلمين، نزل القرآن ليؤصل لتلك الوسيلة العظيمة في الإدارة مهما كانت تبعاتها ( فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الاَمر) . آل عمران: 159(54/374)
إن الديمقراطية صناعة تحتاج إلى أدوات ومواد خام ومقومات إنتاج لكل نحصل على منتج نهائي جيد ، وأهم تلك الأدوات هو إتاحة المعلومات، وأيضاً إعلان المشاكل والأخطاء، والسماح للقاعدة بالرقابة على أداء المسئولين، وإعلان لائحة تضم شروط الاختيار ومدة كل مسئول في منصبه، في هذا الجو تتسع المشاركات وتتفتح المواهب ويتقلص المقلدون ويتقدم المجددون. فالمشاركة بالرأي لا تبنى إلا على المعرفة الدقيقة بالأحوال، كما أن المساهمات تكون بطبيعتها مبنية على إدراك العثرات والإلمام الدقيق بالأخطار والأخطاء ، فتهدف لتقويم ما اعوج أو لإصلاح ما انكسر أو لتعجيل ما تأخر ، ولكن وفي غيبة المعلومات وفي ظل إمهار أغلب الموضوعات بخاتم ( سري للغاية ) ، وفي ظل سياسة ( كله تمام )، وفي ظل هذه الضبابية التي تجعل الأخ في القاعدة لا يدري شيئاً سواء عن اللائحة الداخلية أو عن مرحلته الدعوية أو عن المعيار الذي يتم تقييمه على أساسه، أو ماذا كان تقييمه لهذا العام أو العام الماضي، ولا يعرف ما هي تحديداً حقوقه على نقيب أسرته أو مسئول شعبته. كما لا يدري على أي أساس تم اختيارهم، أو ما هي الآجال المضروب لهم في مناصبهم. ولا يعلم تحديداً من الذي اختارهم لقيادته. ولا يعلم لماذا نقلوه من أسرته أو غيروا نقيبه ، ولا يعلم لماذا تم اختيار هذا المنهج الثقافي له دون غيره .ولا يعلم ما هو الدور الإداري أو الدعوي الذي ينتظره في المرحلة القادمة، أو ما هي الوسائل التي يستطيع بها أن يترقى دعوياً. ولا يعلم ما هي القرارات القادمة في الجماعة، أو أهم القضايا التي تفكر فيها الآن، أو ما هي أولويات التطوير القادمة والقائمة، أو ما هي نتائج الخطة الدعوية للعام الماضي....الخ . ، في ظل غياب كل هذا عمداً ، وفي ظل هذا الانفصال عن حقائق الأوضاع، وفي ظل هذا التبرير المبالغ فيه بالظروف الأمنية لتبرير قصر دوائر اتخاذ القرار على أهل الثقة والأقدمية، في ظل كل هذا فهل يستطيع أحد أن يشارك بفعالية ؟ ثم والعجيب أن تجد المسئول من القيادة في زياراته لإخوان القواعد الدعوية يتساءل لماذا لا تشاركون بالرأي!!
لذلك وحتى نحفظ المبدعين من سطوة التقليديين ، وحتى نفتح باب المشاركة للجميع فالمطلوب هو وضع هيكلاً وقيماً متميزة لإدارة عصرية تؤمن بأن لدى الكثير من صغار الأعضاء العشرات من الأفكار الجيدة و الحلول الرائعة لمشكلات قائمة أو قادمة . تلك الأفكار قابعة في العقل في حالة بيات شتوي عميق تنتظر الدفء الذي يبعثه جو المصارحة والمشاركة والحوار لتخرج من جحورها و تغمر الجميع بخيرها . تنتظر بيئة تتيح للجميع الوقوف على حقائق الأمور و تفاصيل المشكلات وتعلن معايير ثابتة لتقيم الإنجاز وتعلن الأخطاء وتخضع الجميع في ترقيهم الإداري لمعيار الكفاءة والكفاءة فقط. بيئات تتم فيها الإدارة بنظام [الإدارة على المكشوف] . بيئات تخرج كل من فيها من منطقة الراحة منطقة [كل شيء تمام و معمول حسابه و الإدارة عارفة هي بتعمل إيه ] إلى منطقة القلق و الإحساس الكبير بالخطر. بيئات تثق إدارتها أن العضو البسيط يستطيع من مكانه و في ميدان عمله أن يرى سلبيات وفرص للإصلاح لا تقل عما يراه الإداري من مواقعه0 بيئات تخلق آلية محددة لتلقى الأفكار الجديدة، وتحتفي بالمبدعين، و تعلن تجربتهم الناجحة على الملأ ليقلدهم غيرهم ويحصل المبتكر على شكل من الأشكال التكريم المعنوي الذي يستحقه.
إن العصر قد اختلف ، والدعوة التي تهدف لتغيير العالم لابد أن تكون متقدمة في وسائلها عن العالم . فلماذا الاكتفاء بالعرف في زمن شعاره سيادة القانون، وهل تأجيل الخطوات العملية التي تحيل الديمقراطية داخل الدعوة إلى قوانين مرعية، والاعتذار بالظرف الأمني وصعوبة التغيير يجعل مصداقيتنا في مطالبنا بتحقيق الديمقراطية داخل مجتمعاتنا المنكوبة بحكامها محل تساؤل من الآخرين؟ إن القاعدة تقول أن من يعجز عن تغيير نفسه لن يستطيع مطلقاً أن يغير الآخرين . كما أن الأخ قد بدأ يستمع إلى العالم من حوله يتكلم بمفردات لغوية وعن قضايا اجتماعية وسياسية كحق القاعدة في اختيار قيادتها والرقابة عليها وحق عزلها واستبدالها ، وعن الشفافية وعن حق المعرفة وعن المشاركة في صنع القرار ..بينما هو في القاعدة الدعوية قد يقضي عاماً لا يُستشار في شيء ، اللهم إلا إذا كانت المشاورة في تغيير موعد الأسرة الأسبوعي أو قرار خاص باللجنة التي يعمل بها لتحديد موعد رحلة الأشبال أو تغيير موعد حلقة المسجد ..وهذا أقصى ما يعرض عليه ليشاور ويشارك فيه..
نحن لا نرى الأشياء على حقيقتها ولكن نراها على حقيقتنا " حكمة صينية "(54/375)
مع اختلاف العصر الحالي عن سابقة ، والذي من سماته أن المعارف البشرية مجتمعة تتضاعف الآن كل 18 شهر تقريباً ، بينما كانت تتضاعف في بداية القرن الماضي كل 30 عام وفي القرن السابق عليه كل 75 عام . وفي مجتمع الانفجار المعرفي مجتمع التبدل السريع في كل شيء ، فقد صارت للقيادة مقومات أخرى تختلف عن ذي قبل ، وأصبح القرار يقوم على المعلومات وعلى الحيوية في رصد الواقع المتجدد وابتكار الجديد من الوسائل التي تناسبه. وبهذا أصبحت الخبرة والأقدمية في هذا السياق عائقاً أكثر منها داعماً للقرار الإداري، وتكريساً للنمطية في تعاطي واقع ووقائع هي غالباً جديدة وغير مسبوقة . لأن الخبرة تؤتي ثمارها عندما تتشابه الوقائع، فيجد الفرد نفسه أمام واقعة قد مرت عليه سابقاً، فيستدعي رصيد خبراته الجاهز ويعيد تكييفه مع القليل المختلف عما سبق ومر به، ويقدم بعد ذلك الحل الجاهز.
إن أحدث أعضاء الإدارة على مستوى مسئولي المناطق فما فوق، قد مر عليه أكثر من عشرون عاماً من الأقدمية، ومن التربي على نفس المصادر التربوية التي يتربى عليها صنوه ، لذلك فقد أنتجت وحدة مصادر التلقي وواحدية المسارات وطول الأمد نمطاً واحد من الأخوة الإداريين . فمسارات الصعود والترقي للمناصب الإدارية طويلة وحازمة في استبعاد المختلف .. فلابد ومن خلال شروط التقييم السنوي التي يترقى العضو بناء عليها ألا يكون قد تجاوز حدود ( الطاعة ) الإخوانية، والتي تعني الاستجابة والقناعة التامة بكل ما يقدم له بلا استثناء . فيستحيل تصعيد من لا يجد في وسيلة الكتيبة شيء مفيد فيمتنع عنها أو من لا يجد في مسئول أسرته أو شعبته مسئولاً مستحقاً للقيادة فيرفض الاستجابة له أو يتجرأ ويثير مشكلة مطالباً بتغييره ، ثم ولابد أن يكون مطيعاً راضياً بما يقدم له، فإذا قيل له ادرس هذا المنهج يدرس هذا المنهج ، اذهب إلى الكتيبة يذهب احفظ يحفظ سدد اشتراكك يسدد، تم تخطيك في الترقية إلى المرتبة الدعوية الأعلى يظهر القناعة والقبول، تم تكليفك بعمل يسارع بالتنفيذ ، تم تغيير نقيبك أو نقلك من أسرتك أو اختيار الأخ فلان لقيادة لجنتك أو شعبتك لا يناقش أو يعترض..الخ . ولا نغالي وندعي أن الأخ الذي سيعترض ويناقش سيُعاقب أو يُبعد، كلا مطلقاً، فحقوق الأخوة مرعية ونشهد بذلك، ولكن أن يتم تصعيده حتى يدخل دائرة القيادة وهو على حاله تلك فأمر مستحيل تماماً، فهو في نظر مسئول أسرته أخ ( ناقص تربية ) .. لذلك يبادر هذا المسئول وآلياً بالعمل وبكل روح الإخوة على ( تصحيح ) هذه الأخطاء من أخيه ، فمن البديهي ألا يقبل بمناقشة ما اقتنع هو به أو رفض ما قبله لنفسه . لذلك ففي موضع القيادة يكون بلا قصد حائط صد للمبدعين وأصحاب الرؤى المختلفة .فالمبدع والمفكر من بديهيات إبداعه أن يرى صور أخرى للأشياء المعروضة . ويرى في الواقع والوقائع قياساً على البدائل الذهنية المتعددة لديه سلبيات فيطالب بتغييرها. فيناقش أحياناً ويعترض أحياناً ويتدخل في أعمال الآخرين حين يرى سلبيات مطالباً بتصحيح هذا العمل أو ذاك أحياناً أخرى ..
الآثار السلبية للتنميط ومنع التعددية الفكرية:
هذا الفرد المبدع داخل الجماعة يشعر بحالة اضطراب نفسي نتيجة لعدم وجود بيئة أو مسئولين يتبنوا إبداعه ويفتحوا الأبواب لاستيعابه . ولما كان الإنسان يميل بطبيعته إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من القبول من جماعته البشرية التي ينتمي إليها . فإنه وبعد أن يعمل آلياً على الوصول لنقطة التعادل النفسي والمتمثلة في الموائمة بين رغباته وميوله وبين متطلبات انتمائه لجماعته البشرية بأن يحاول أولاً أن يؤثر في جماعته بقدر ما يتأثر بها. ولكن مع جماعة لا تؤمن بالتعددية الفكرية ولا تسمح بوجود اختلاف في الرؤى في الموضوع الواحد، فإن المبدع يجد نفسه محاطاً بحوائط صد تمنعه عن محاولة التأثير تلك . فيقوم لتجاوز هذا الصراع النفسي الناتج عن شعوره بالاختلاف عن أقرانه باختيار الأيسر، وذلك بإعادة تأهيل نفسه نحو التطابق مع رؤى الجماعة بعد عدة تجارب فاشلة في التأثير ، فيسترخي تماماً للواقع التنظيمي، ويبدأ بعدها في التشكل على الواقع المحيط ، ويذبل تميزه تدريجياً ويتحول إلى مجرد مُنفذ لأوامر الجماعة وليس عقلاً جديداً انفتحت عليه الجماعة.
أما الجماعات المنفتحة فأنها تفتح الباب لكل جديد، عن طريق الحفاوة بالمجدد، وإعطاء كل صاحب رؤية مغايرة الفرصة كاملة لتجربة رؤيته ووضعها موضع التنفيذ . مع فتح مواضع التأثير أمام المختلفين بنفس القدر الذي تفتح به الباب أمام التقليديين، ليحدث التدافع المحمود، والذي يجعل كل كسب بشري جديد هو في النهاية إضافة إلى حركة النمو العام للجماعة، فيستحيل بذلك أن يترهل شبابها أو تنطفئ فعاليتها ، وتلك إحدى النعم الكبرى للديمقراطية والتعددية. والعكس يكاد يكون العقوبة الإلهية لمحاولة صب الجميع في قوالب واحدة ،ومعاندة سنة الاختلاف البشري والذي جعله الله فطرة للعباد . " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم " [هود 118ـ119 .(54/376)
وما الثورات والانشقاقات وأعمال العنف، إلا نتاج طبيعي تماماً لمحاولة استبعاد المخالف وإغلاق منافذ التأثير أمامه، فيتحول الفريقين إلى قنابل موقوتة : الفريق الذي يحتكر القرار والذي تتضخم قناعاته بما عنده كنتيجة لغياب المعارضة المؤثرة. فيزداد إيمانه بأنه هو الصواب المطلق، فيصير متعصباً لما يمارسه ويعتنقه من وسائل وأفكار لم يعترض عليها أحد ولم يرى غيرها. والآخر المستبعد الذي انعدمت أمامه كل السبل المشروعة ليحصل على نفس الفرصة المتساوية لتجربة أفكاره ووضع ذاته موضع التأثير . فيضيق بالتنظيم ويبحث عن التوازن النفسي بأحد طرق ثلاثة :
1. الانسحاب الفردي أو الانشقاق الجماعي إذا وجد من يؤيده.
2. محاولة التغيير بالقوة .
3. الاستسلام والسلبية وفقدان الفعالية .
ويختلف رد الفعل هذا حسب نوع التنظيم البشري وحسب نوع الفرد المحجور عليه فكرياً . ففي جماعة سلمية كالإخوان تضم في بنائها الأيديولوجي غايات كبرى ، وتتخذ الإسلام منهجاً حركياً ، وفي ظل ندرة التنظيمات المماثلة التي تتبنى نفس الأهداف، وتستثمر الوازع الديني الفطري في الأفراد . في ظل كل هذا يستسلم الفرد القابل للاستئناس، ولكن تكون السلبية وانطفاء الفعالية هي رد الفعل الطبيعي له ولأمثاله، وهم الفئة العريضة من المعارضين متوسطي الفعالية والتوقد الذهني بحكم التكوين الطبيعي للبشر . فيزداد الخمول باستمرار ويتحول التنظيم الديني في نظر هؤلاء إلى بوتقة للتطهر فقط ، فلا يري العضو المتدين والمهزوم فكرياً وتنظيمياً في هذا التنظيم سوى فرصة لدخول الجنة والتمتع بحقوق الأخوة في الله ، فيفقد الانتماء حيويته ويتحول إلى عادة أو عبادة بالمعنى الذي أشرنا إليه . وبازدياد أعداد هؤلاء المتعطلين عن البذل الراغبين فقط في التعبد ومدارسة الشرع فيمكن أن تتحول الجماعة إلى ملاذ ومحطة للهاربين من مظاهر الخلل في المجتمع. أي ما يشبه الجيتو المنغلق الذي يتحول إلى مجتمع داخلي مغلق يأخذ من المجتمع أفراداً أكثر مما يعطيه أعمالاً وأفكاراً .
أما الفئة شديدة الفعالية شديدة الاعتداد بالذات ، فتلجأ إلى الحل الأول وهو الانسحاب. وللأسف فلدي الجماعة الآن تيار يزداد باستمرار من هؤلاء المنسحبين المتميزين والمستعصين على الانقياد التام نذكر منهم السادة :
كمال الهلباوي ، فريد عبد الخالق، حازم أبو إسماعيل ابن الشيخ صلاح أبو إسماعيل، الدكتور إبراهيم بيومي غانم ،الدكتور حامد عبد الماجد ،الدكتورة هبة رءوف ،هشام جعفر ،أبو العلا ماضي ،د. محمد عبد اللطيف د. صلاح عبد الكريم، مهندس محمد السمان ، مختار نوح ، الدكتور حامد عبد الماجد قويس ، د . عبد الستار فتح الله ...
وباستمرار هذا النزيف البشري للطاقات سواء بالانطفاء والانكفاء الحركي أو بالهروب التنظيمي، يتحول التنظيم إلى كيان متآكل يترهل تدريجياً ويفقد فعاليته وتضمحل أهدافه الكبرى وتأثيره الاجتماعي والسياسي .
فمعلوم أن قوة أية مؤسسة أو حزب أو جماعة لا تكمن فقط فيما يملكه من أفكار ومبادئ بل أيضاً فيما يملكه من رجال وطاقات ومواهب .. فأحقر المبادئ لو وجدت من يحسنون العمل لها والتحرك بها لسادت على غيرها. وأكرم المبادئ لو لم تجد من يحسنون عرضها وتجميع الناس حولها ثم إنفاذها في الواقع لذبلت وانزوت. فالأفكار العظيمة مرهونة بالهمم العظيمة .. لذلك فالعناية بالفرد وفتح كل آفاق المشاركة أمامه ،وتوفير المناخ الذي يساعد على إطلاق طاقاته ويفجر إبداعاته لا بد أن يأتي على رأس الأولويات، ويُقدَم على أية مشغلة أخرى إذا أراد التنظيم أن يستمر في طريق تحقيق أهدافه الكبرى وليس الاستمرار كجماعة وعظ فقط .
لذلك فالديمقراطية التي نطالب في هذه الدراسة بتوسيع دوائرها وتقديم أدواتها، ليست فرصة لصيانة ذاتية الفرد من الذوبان في المجموع وفقط ، ولكنها وهو الأهم فرصة لصيانة الجماعة ككل من التآكل التدريجي نتيجة لسيطرة الرؤية الواحدة . فالديمقراطية من ضمن معانيها هو السماح بوجود المختلفان معاً، وإعطائهما الفرصة المتساوية ليتدافعا تدافعاً محموداً يأتي بالصواب في النهاية، ويوسع دائرة الاكتساب البشري لتضم المبدع والتقليدي . وتستثمر كل منهما فيما يفيد .
والديمقراطية التي نعنيها والتي يمكن أن تحقق ذلك ، ليست مجموعة أشكال تنظيمية وحسب، ولكنها أيضاً فلسفة عمل ومنطق خطاب وأسلوب تربية . يشمل القواعد كما يشمل النخب. ويعطي الجميع حقوقاً متساوية في المشاركة بالرأي وتولي المناصب ،ويوسع دائرة الخيارات الممكنة أمام الفرد بالثقافة المتنوعة والنقد البناء ، ويخلق بعد توفير هذا المناخ آليات محددة تصون الفرد والفكرة المختلفان من الضياع وسط سطوة التقاليد الفكرية والتنظيمية وواحدية أشكال العمل ودوائره. فالديمقراطية نفوس ونصوص . وكما يقول الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين في وثيقة مقدمة لمؤتمر أولويات وآليات الإصلاح في العالم العربي" الذي عُقد بالقاهرة من 5 إلى 7-7-2004:(54/377)
" دائرة (الحرية) بغيابها تحل بالبشر أعظم كارثة، وتتجسد في حياتهم أعلى صورة من صور الفساد في الأرض؛ ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- خلق الإنسان، ومنحه (حرية المشيئة)، وعندما تصادر هذه القيمة الإنسانية العظيمة فإنما تتم المصادرة على معنى وجود الإنسان من الأساس، وتلك أبشع جريمة ترتكب على وجه الأرض، باعتبار أن رسالة جميع الرسل والأنبياء تهدف في الأساس إلى تحرير الإنسان من العبودية لغير خالقه سبحانه وتعالى... ويضيف .. الاستئثار بالسلطة يكاد يكون عيبًا إنسانيًّا لا يخلو منه بشر؛ لذا فإنه يتحتم على نحو صارم وضع القوانين والدساتير وأدوات المراقبة والمساءلة التي تحدّ من الآثار البشعة لهذا العيب على الشعوب والأوطان "
وما العلاج لكل هذا :
ما تحته خط من كلمات الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح هو نقطة بدايتنا لاقتراح ما نحسبه علاجاً لمشكلة غياب الديمقراطية بمعناها الشامل داخل التنظيم . ولكن لابد أولاً وحتى تأتي هذه المقترحات بثمارها المرجوة لابد من :
1. الكف عن إنكار حقيقة أن الديمقراطية الإخوانية ينقصها الكثير لكي تؤتي ثمارها المرجوة . والاعتراف بأن غياب الحرية بمعناها الشامل هي " أعظم كارثة تحل بالبشر وأعلى صورة من صور الفساد في الأرض .
2. الاعتراف بأن الاستئثار بالسلطة يكاد يكون عيبًا إنسانيًّا لا يخلو منه بشر والاعتراف بوجود فئة مؤثرة من الإداريين لا تعتمد الديمقراطية وسيلة للتعامل مع القواعد الدعوية.
3. الإقرار بأن المخرج من كل هذا ، وبعد الإيمان الحقيقي بالديمقراطية ، هو توفير أدوات المراقبة والمسائلة وإتاحتها للقواعد لتمارس بها الرقابة على السلطة.
ونود بداية أيضاً أن نؤكد على أن الفعالية التي ننشدها، والديمقراطية التي ستعيد للجماعة فعاليتها وحيويتها لن تتحقق إلا من القاع ومن القاعدة تحديداً . لذلك لن ننشغل بالحديث عن الانتخابات، وتعديل هياكل الإدارة العليا، وانتخاب فضيلة المرشد وتحديد مدته، وتعديل اللوائح الإدارية .. إلى غير ذلك من المقترحات التي تحدث عنها البعض، والذي لا يتجاوز في طرحه الإصلاحي أزمة الشرق عامة والمتمثلة في تصور التغيير قرارات تصدر بالسلطة والسلطان .
بل أن رؤيتنا تدور كلها في نطاق ديمقراطية المشاركة وتفعيل القواعد ، والتي تفتح الباب على مصراعيه للقاعدة البكر لكي تقود التغيير بنفسها، ومن مواقعها، ودون استهلاكها في الأعمال الإدارية الروتينية . ففكرتنا عن التغيير هي تفعيل الأطراف مقابل الرأس . ففي ظل ديمقراطية المشاركة التامة لن يفرق الأمر كثيراً أن يكون على الرأس فلان المنتخب أو المعين، لأنه بالفعل وفي ظل النظام الديمقراطي يفقد الهيمنة التامة على مقدرات الأمور، ويصير القرار النهائي في الغالب نابعاً من القاعدة وينفذ تحت وصايتها . والأمر يشبه النظام البرلماني الذي يتولى فيه ممثلوا القاعدة المنتخبين وضع السياسات، بينما تنحصر مهمة الحكومة في التنفيذ والعمل تحت رقابة البرلمان أيضاً .
أولاً :السماح للقاعدة بتكوين لجان للشورى تتولى الرقابة على أداء المسئولين في المناطق :
بداية وحتى لا نجور على أحد بالاتهام بالتقصير ، نود ونحن في معرض المناصحة والمصارحة على أن نؤكد على وجود مستويين في الدعوة من حيث السماح بالمشاركة والإطلاع على المعلومات وتلقي المساهمات . المستوى الأعلى في دائرة قيادة الجماعة وهم يكادون يتوسلون إلحاحاً على كل صاحب فكرة أن يذكرها، أو صاحب موهبة أن يبرزها، وعلى كل مشارك أن يتقدم بمشاركته. والمستوى الأدنى من مسئولي الأسر واللجان والشعب - وهو المستوى المباشر الذي يتعامل معه الفرد - وهؤلاء للأسف تختلط على كثير منهم معادلة الإسرار والإعلان ، ولا يحضر في أذهان بعضهم بقوة موضوع المشاركة وفتح الأبواب وإتاحة المعلومات . ونظن أن هذا الوضع هو من آفات شعوبنا جميعاً، حيث تغيب في أحيان كثيرة أهداف المنظمة عن صغار الموظفين ، فيحتمون باللوائح ويتعاملون مع الجميع بمنطق واحد ، وقد يدفع الحرص على حسن الأداء بأحدهم إلى الجمود بالأوضاع على نحو محدد يضمن عدم إثارة ما يظنونه مشكلات، أو ما قد يضر من وجهة نظرهم بسلامة العمل .
ونود أن نؤكد على أنه لا توجد جماعة ينتخب فيها جميع المسئولين . لذلك فمع الاحترام لحق القيادة في اختيار المسئولين الإداريين وتعيينهم بشروطها ، إلا أن غياب حقوق رقابية محددة ومعلنة للقاعدة داخل المناطق الدعوية في متابعة أعمال هؤلاء المسئولين الإداريين هو أصل الداء .وهو ما قد جعل البعض من هؤلاء المسئولين وكنتيجة للافتقار للمرونة أو للفهم الصحيح لمعادلة الوحدة والتباين بين أفراد الصف وبين البشر عموماً، أن يستبعد المخالفين والمجددين عن المشاركة.(54/378)
ونحن نقترح كعلاج أن يتم وضع أدوات للمراقبة والمسائلة التي تحد من الآثار الكبيرة لهذا العيب، بدلاً من الاكتفاء بأسلوب المناشدة الحالي .. ونحن نقترح لتحقيق فعالية هذه الرقابة على أداء المسئولين داخل المناطق والشعب واللجان والأسر أن يتم السماح بتكوين لجان رقابية منتخبة من بين أفراد القاعدة داخل كل شعبة ومنطقة، وتتكون في المتوسط من ثلاثة أفراد للشعبة الواحدة يتم انتخابهم انتخابا مباشراً من بين جميع الأعضاء من مرحلة العضو المنتسب فما فوق، ولمدة دورية مدتها ثلاثة سنوات في المتوسط . وينتخب من بينهم داخلياً على مستوى شعب المنطقة خمسة أفراد للمنطقة . ويتم إعطائهم سلطة وآليات لمتابعة المسئولين الإداريين، ومنحهم القدرة على مكافئة الإنجاز وتصويب الأخطاء ورفع التوصيات الملزمة عند الضرورة بعدم التجديد لمن لا يصلح من المسئولين التنفيذيين في نطاق المنطقة . مع التأكيد على أن يتم ذلك بالروح الحاكمة للإخوان، وهي روح الأخوة والأدب الإسلامي الجم . كما يتم تدريب أفراد هذه اللجان على مهام وظيفتهم بعد انتخابهم مباشرة . ويفرغون دعوياً خلال فترة توليهم لمهامهم. ويسمح لهم بالإلمام التام بجميع اللوائح المنظمة للعمل .
مزايا وجود مجالس منتخبة للشورى:
تعميق معاني التربية الديمقراطية وذلك بقيام القاعدة ممثلة في أعضاء منتخبين بالرقابة على أعمال المسئولين .
سوف يخفف عن مراكز القيادة والرقابة الإدارية العليا أعباء متابعة المسئولين التنفيذيين في المناطق، وذلك بانتقال أغلبها إلى مجالس الشورى المنتخبة، والتي ستعتبر المعاون الأول لها في الحكم والرقابة على كفاءة وأداء المسئولين الذين تقوم الإدارة بتعيينهم .
سوف يدعم هذا الوضع من مبدأ اللامركزية مما يخفف الضغط على قلب الجماعة وعلى العواصم الإدارية بالمحافظات بانتقال جزء كبير من مهام التخطيط والرقابة على أعمال المسئولين إلى القواعد .
سوف يخفف أي احتقان ينتج عن سوء استخدام البعض للسلطة ، بفتح قنوات لتلقى الشكاوى والعمل على حلها .
من تمرسوا في لجان الرقابة الإدارية سوف يكونون بعد انتهاء فترتهم الانتخابية رصيداً متميزاً لإمداد الصف بكوادر إدارية متميزة ومتمرسة وقفت أثناء عملها على الأخطاء وشعرت بنبض الصف وعالجت العديد من المشكلات الإدارية ..الخ مما يؤكد تميز أدائها في الموقع الإداري بإذن الله .
ثانياً :توفير مراكز دائمة للتطوير ولتلقي إسهامات الأفراد .
ويلي ذلك أيضاً أو يتزامن معه تعيين مجموعة دائمة بكل منطقة تتولى مهمة تلقي مساهمات الأفراد الفكرية ومناقشة الاقتراحات الجديدة ، وتشكل في صورة ( مجموعات ساخنة ) مستقلة من المتميزين فكرياً وحركياً وأصحاب الشخصيات غير النمطية في كل منطقة. وفي حدود سبعة أفراد، يجتمعون دورياً وبحرية تامة وبعيداً عن كل القيود والشروط التنظيمية لكي يفكروا في كل القضايا ويبتكروا الحلول ثم يرسلوا بتوصياتهم ومقترحاتهم للجان الشورى لتشارك في بحثها وإنفاذها بالتعاون والمشاركة مع الإخوة التنفيذيين.
ووسيلة المجموعات الساخنة تلك تستخدم حالياً في أغلب التجمعات البشرية في العالم المتقدم، سواء على مستوى الشركات الكبرى أو الأحزاب السياسية أو الحكومات . وهي تجمعات من المفكرين المتميزين داخل المؤسسة تعيد التفكير بحرية في كل الأعمال والنظم، وتناقش المسئولين وتحصل على المعلومات التي تريدها وتتابع كل جديد ثم تخرج بأفكار جديدة للتطوير وتذليل ما يواجهه العمل من عقبات .
والمجموعات الساخنة في كل منطقة ستتولى بنفسها مهمة بحث المشكلات واقتراح الحلول، بالمناقشة الحرة مع أفراد الصف والمسئولين ، وبالحصول على كل المعلومات المطلوبة . على أن تكون هذه المجموعات هي أيضاً المراكز الدائمة داخل الدعوة المسئولة عن تلقي إبداعات وإسهامات أفراد الصف، وتناقشهم فيها وتعدلها معهم، ثم ترفعها بعد بحثها وتنقيحها للجان الشورى المنتخبة وللمسئولين التنفيذيين داخل المنطقة ليقوموا بتنزيلها على الواقع.
لو تم هذا فسنكون وعن طريق لجان المتابعة المنتخبة قد رسخنا أحد أهم مبادئ الديمقراطية وهو حق القاعدة في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية. ونكون قد وفرناً قدراً هائلاً من الحماية للمفكرين والمبتكرين من عنفوان بعض أعضاء السلطة التنفيذية . ثم وعن طريق المجموعات الساخنة نكون قد وفرنا نافذة دائمة للتطوير وتشجيع مساهمة الأعضاء وتقديم المعلومات ، ومما يخلق في النهاية لا مركزية محمودة تساعد على تطوير العمل وتشجع الابتكار .
مزايا المجموعات الساخنة بكل منطقة :
سوف تستفيد كل لجان المنطقة وكذلك المسئولين التنفيذيين من وجود المجموعات الساخنة وذلك بإحالة المشكلات والمقترحات إليها لمناقشتها وتقديم الحلول المبتكرة لها ، مما يخفف من الضغط عليهم ويجعلهم أكثر تفرغاً لأعباء التنفيذ .(54/379)
ستزداد الابتكارات والأفكار غير التقليدية . فكل صاحب فكرة أو اقتراح سيجد وعاء تنظيمي قائم وجاهز ومخصص لتلقي إسهاماته ومناقشتها معه، وعلى مرحلة واحدة وبدون سلم لتصعيد الاقتراحات يختفي الاقتراح بعدها أو يرفع مشفوعاً بالنقد . كما أن المجموعات الساخنة بحكم تكوينها الغير بيروقراطي لن تضع للعضو خطوطاً حمراء مما سيفتح الباب للأفكار غير التقليدية .
المجموعات الساخنة ومجالس الرقابة المنتخبة تعتبر وعاء تنظيمي لاستيعاب المفكرين المتميزين داخل الجماعة ودعم جيد لقضية التنوع في فرص العمل داخل الصف .
وجود المجالس الرقابية المنتخبة سيضمن بإذن الله تذليل أية عقبات غير منطقية قد تعترض تنفيذ مقترحات وابتكارات المجموعات الساخنة بحماية هذه الإبداعات من التجمد عند مسئول يفتقد الميل للتجديد أو يخشى التغيير .
المجموعات الساخنة تخفف على المسئولين الإداريين جزء من الضغط الواقع عليهم والمتمثل في تلقي ومناقشة إسهامات الأعضاء وتجريبها وتنفيذها،ويحيل ذلك إلى أفراد الصف أنفسهم، وبما يعطي مساحة جيدة للمسئولين للتفرغ لإدارة العمل .
سيقل إرباك المستويات العليا الناتج عن قيامها حالياً بتلقي جزء كبير من أفكار ومقترحات الأفراد ومناقشتها ومتابعة تنفيذها.
ثالثاً : السماح بتداول المعلومات :
الهاجس الأمني كعائق في وجه تداول المعلومات : لا شك في أن الاعتذار بالظروف الأمنية هو من أكبر أسباب حجب المعلومات عن الأعضاء، والذي انتهي بقضية المكاشفة وتداول المعلومات لدى صغار المسئولين إلى الحسم بالمنع التام، مما أبعد القاعدة عن المشاركة وتصلب بأشكال التواصل على مسار من أعلى لأسفل بأضعاف ما هو من أسفل لأعلى .
لذلك ونحن في معرض مناقشة قضية المشاركة والإبداع وكيفية توفير متطلباتها فلابد من مناقشة قضية التوازن بين الإعلان والإسرار داخل الحركة. لأن توحش الجانب الأمني قد أتى على حساب تقلص الأمن الفكري والنفسي للفرد داخل الجماعة. لذلك نقترح كعلاج لتضخم الهاجس الأمني أن يتم تدريب هؤلاء المسئولين على التمييز بين تيارات ثلاث رئيسة داخل الحركة، لتأمين موضوع السرية والعلنية وتحديد حجم ونوع المعلومات التي تتاح لأفراد :
1- التيار الدعوي : وذلك يشمل جميع أعمال اللجان الدعوية وخططها السنوية ومسئوليات ومشكلات التنفيذ أو أسماء الأفراد العاملين ..الخ وتلك يوفر لها أقل درجات السرية وأكثر درجات تداول المعلومات بين الأفراد.
2- التيار الإداري : وهذا يشمل هياكل وخطط إدارة الشعب والمناطق والأشخاص القائمين عليها وهذه تتم إحاطتها بدرجة متوسطة من السرية .
3- التيار السياسي : وهو التيار القائم على اتخاذ القرارات الاستراتيجية الكبرى ووضع السياسات العليا من أقسام المحافظات ومجالس إدارتها..وهذا تحاط أعمالها وأشخاصها بأقصى درجات السرية .
ولو قسمنا هذه التيارات إلى نسب حسب الحجم العام للأعمال والأفراد فسنجد أن أعضاء وأعمال اللجان الدعوية تمثل ما يزيد عن 95% منها و 4% للإدارة و1% للتيار السياسي .
معنى هذا أن 95% من الأعمال عند عرضه على أفراد الصف سيخرج عن نطاق السرية الشديدة وستصبح المعلومات فيه متاحة لمن يريدها من الراغبين في المشاركة .
رابعاً : تطوير النظام التربوي الحالي :
الديمقراطية تربية بالدرجة الأولى ، فما فائدة القوانين واللوائح في جو لا يؤمن بالتعددية الفكرية. خاصة ونحن معشر العرب عامة والمصريين خاصة لم نتربى تربية ديمقراطية من الأساس ، ومجتمعنا كما وصفه الدكتور جمال حمدان ( مجتمع أبوي ) بحكم جذوره التاريخية . لذلك فنقطة البداية هي التربية وتوفير بيئة المشاركة وإتاحتها للجميع ، وتعليم الصف آداب وقوانين الديمقراطية .
1 - تطوير نظام التقييم والتقويم .
للجو النفسي والسياسي الذي يعيش فيه الفرد داخل جماعته البشرية أثر كبير في تحديد مدى فاعليته ومشاركته في حمل همومها وعلاج سلبياتها . ( فبما رحمةٍ من الله لِنتَ لهم ولو كنتَ فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك ) آل عمران 159 . وللأسف فهناك جو نفسي أُلبس ثوب الدين يكرس حالة اللامبالاة التي يعيشها البعض، ومنها عدم الفهم الصحيح للدوافع البشرية الفطرية واعتبارها أحياناً منافية للإخلاص والتجرد .
مكافأة المجتهد:(54/380)
أذكر أنه قد جمعني يوماً حديث طويل مع رجل فاضل في موضع المسئولية داخل الإخوان. واستدعى الحوار في أحد مراحله أن يقول لي محدثي أن " الإخوان أفراد متجردون وربانيون ولا يوجد بينهم من ينزع إلى رئاسة أو ينشغل بتقييم سنوي " .. فاعترضت علي هذا الوصف المبالغ فيه، لأنه يحرم فرد الإخوان تحت دعاوى التجرد والنزاهة من المطالبة بالكثير من الحقوق التي يتمتع بها الإنسان العادي في مؤسسته أو حزبه أو جماعته. وقلت أنه لا يعيب فرد الإخوان أن يكون بشراً عادياً يميل إلى كل ما يميل له الإنسان العادي، من حب للتقدير ونزوع أحياناً لتولي المسئولية ورغبة في الصدارة .. إلى غير ذلك من النوازع البشرية الفطرية التي يهذبها الإسلام ولا يمنعها . ويكفيه شرفاً أنه إنسان متطوع يعمل في جماعة محظورة ويتحمل المخاطر ويبذل من وقته وجهده وماله في وقت توحشت فيه ( الأنامالية ) بين كثير من الناس العاديين .فإن للإنسان دوافع فطرية لكي يعمل وينتج . بحثها أهل العلم والاختصاص ووجدوا على رأسها دافعاً أدهشني معرفته في حينه ألا وهو دافع الرغبة في الحصول على تقدير الآخرين . وهو ما وصفه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه ( عاجل بشرى المؤمن ) . وللأسف فإن إهمال هذا الدافع البشري في الحصول على التكريم والتقدير الأدبي، وعدم العناية الكافية بإشباعه من قيادات العمل تحت مظنة التجرد قد أصاب لكثيرين ولا يزال بدرجة من درجات الإحباط المعنوي الذي يتأخر بصاحبه ولا يتقدم، ويجعله يحجم عن المشاركة الفعالة لأنه يظن أن إنجازه مهملاً من إخوانه.
فنظام التقييم وتحت دعاوى التجرد يحرم المجيدين من أي شكل من أشكال التكريم المعنوي الذي يُشعر الفرد بأن إنجازه محل تقدير من جماعته . وهو التكريم الذي كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يحرص عليه مع أصحابه دائماً . فيدعوا لهذا ويصف ذاك بأنه أحب الناس إليه ويبشر البعض بالجنة. وقد أظهرت لنا السيرة كيف كان الصحابي يطير فرحاً بهذا التقدير . وهو نفس النهج الرباني في تقدير أصحاب الهمم العظيمة من المسلمين مثل قوله تعالي فيمن شاركوا في بيعة الرضوان ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) الفتح 18. وغير ذلك من الآيات ومواقف السيرة الكثير مما لا يسع المقام لحصره.
مناقشة المتأخر.
وكما أن نظام التقييم الحالي يحرم المجيدين من أشكال التكريم الذي يشعرهم بقيمة إنجازهم ، فإنه يجرح في المقابل مشاعر الآخرين ممن لم يحسنوا الأداء، وذلك بعدم مكاشفتهم بأسباب تأخرهم عن غيرهم. فالفرد في الأسرة يجد أن زميلاً له قد رقي للمستوى الدعوي الأعلى بينما هو لا يزال مكانه. وهو في قرارة نفسه شأنه شأن كل البشر يرى نفسه رجل إنجاز وحسن أداء. وقد يكون القليل الذي قدمه قد أخذ منه أضعاف الجهد الذي قدمه الآخر المتميز ، وذلك نظراً ربما لضيق وقته أو صعوبة ظروف عمله أو مشاغله الأسرية لكثرة أبناءه أو ظروف تعليمهم أو غير ذلك. فرب درهم سبق ألف درهم . فيجد العضو عند ذلك في نفسه. وقد وصل الأمر بالبعض إلى الخروج تماماً من الصف أو مكابدة شعور عميق بالإحباط . وهو بالطبع لا يستطيع أن يناقش تقريره لأنه أولاً لا يسمح له بالإطلاع عليه ولا يلمس إلا نتائجه . وثانياً لأن الرد معروف وهو الحديث عن التجرد ونكران ألذات وربانية العمل ..مما يلجم الألسن ويفتح الباب في المقابل لسوء الظن بالنفس أو الغير.
تعديل نظام التقييم لحماية المختلف :
لذلك ونحن لا زلنا في معرض الحديث عن تقديم الفرص المتساوية للجميع داخل الصف ما دام الكل يعمل في نطاق ثوابت وأهداف الجماعة أن يتم الآتي:
1- تعديل نظام التقييم وجعله لا يرتكز فقط على الجانب التربوي ولكن يشمل جوانب أخرى من الأداء . وذلك بتقسيمه إلى ثلاثة أقسام متساوية :
ثلث يقوم به مسئول الأسرة والتربية ويرتكز كما هو الحال الآن على الأداء التربوي للعضو .
ثلث يقوم به مسئول اللجنة الدعوية ويرتكز على إنجاز العضو في لجنته .
ثلث يرتبط بمساهمات الفرد الفكرية ونشاطه في ابتكار واقتراح وسائل إيجابية للنهوض بالعمل ، وتقوم به الجهة المنوط بها تلقي إسهامات الفرد .
2- وضع لائحة تضم معايير التقييم وإتاحتها للجميع والسماح للعضو بمناقشتها وإعطاءه دورة فيها .
3 - البدأ بالتقييم من العضو نفسه، بإعطائه استمارة تقييم تضم عناصر التقييم الرئيسة . مع السماح له بإعطاء نفسه درجة في كل بند . وتوضع له خانة يذكر فيها المعوقات التي تمنعه من الأداء الجيد في هذا البند أو ذاك . وإذا جاء تقييمه لنفسه قريباً من تقييم مسئولي العمل أو أقل منه فبها ونعم. وإذا كان غير ذلك فتتم مناقشته على انفراد وتذكر له إيجابياته وكذلك ما يراه المسئول من سلبيات، ويتم مناقشته في أسبابها، وتقترح معه الحلول لعلاجها. بحيث أن من يحصل على تقدير ضعيف تكون أسباب هذا الضعف قد اتضحت أبعادها تماماً له وللمسئول، والذي ينتقل بعدها لتقديم العلاج المحدد والذي يتناول أصل الداء. بدلاً من الاكتفاء بنقد الأداء فقط كما يحدث غالباً الآن.(54/381)
4 - إذا كان التقرير إيجابياً فيمنح المتميز شكلاً من أشكال التكريم المعنوي، والتي تبتكر خصيصاً لهذا الغرض: كحفل تكريم للمتميزين يحضره أعلى مستوى قيادي ممكن، أو تسليمه هدية رمزية ككتاب أو مصحف ، أو منحه لقب شرفي ( كفارس ) .. أو غير ذلك . ونفس الشيء يتم مع من يقوم خلال العام بعمل دعوي متميز أو يقدم اقتراح بناء أو يتم حفظ القرآن ..الخ
ومن مزايا هذه الوسيلة مقارنة بأسلوب التقييم السري الحالي :
معرفة الفرد لبنود التقييم يساعد على حسن الأداء . حيث أن دافع القبول الاجتماعي دافع فطري كما أسلفنا ولا مانع من استغلاله كحافز جيد على حسن العمل .
معرفة الفرد لشروط التقييم ومشاركته فيها يجعله أكثر تقبلاً لنتائجه. مما يقضي على الضغط النفسي الناتج عن التقييم السري. ويقضي على اتهام العضو للقائمين علي التقييم بعدم الموضوعية أو غير ذلك مما يجري الآن همساً أحياناً وتصريحاً أحياناً أخرى .
إتاحة الفرصة لغير المجيدين لذكر أعذارهم ومناقشتهم فيها بروح الود والأخوة ومساعدتهم على التغلب عليها. مما يعد إضافة جيدة لتطوير أداء الفرد والتعرف المباشر منه على المعوقات التي تواجهه .
هذه المناقشة مع غير المجيدين قد تساعد الإدارة على إعادة توجيههم لأقسام أخرى أكثر تناسباً مع قدراتهم.
مشاركة العضو في تقييم نفسه بشكل ابتدائي، وإن لم تكن هي الفيصل، إلا أنها سترضي الفرد نفسياً وستساعد المسئول على معرفة الفجوة - إن وجدت - بين نظرة العضو لنفسه وحقيقة أداءه، مما يساعد على فهمه ومساعدته .
تكريم المجيدين سيكون دافعاً جيداً لهم ولغيرهم على البذل وتطوير الأداء .
هذا الأسلوب المتطور في التقييم وبما يتيحه من مشاركة للعضو فيه ومناقشة السلبيات معه ومساعدته على علاجها سوف تزيد الفرد حباً في دعوته وشعوراً بأهميته فيها واستشعاراً لمدى حرصها عليه .
2 - تعديل المناهج لتسمح بتنوع الرؤى :
المناهج نوعان : منهج تربوي يهدف إلى تأصيل الإيمان وتقوية المرجعية الدينية للفرد كأساس للعمل والانتماء وهذا من الحتميات ويبذل فيه من الجهد الطيب الكفاية . ومنج تكويني يهدف إلى مساعدة الفرض على إدراك الواقع من حوله ومعرفة الوسائل التي يستطيع بها تنزيل الدين على الواقع . وهو لا يقف عند حدود تقديم المعارف الدينية ولكن يتناول دراسة أدوات فقه الواقع . ونحن نرى ضرورة البدأ به وإدخاله إلى البرامج التربوية والمناهج الدراسية ، مع توسيع دائرة تقديمه لتشمل الأسر واللجان .
ففرد الإخوان أصبح يعاني حالياً من عزلة ثقافية وفكرية، فالدعوة لا تفتح للأخ في المناهج الثقافية أي نوافذ على الواقع بأحداثه . فالمناهج تقدم بأسلوب ( التعلم المجرد ) الذي يقتصر على دراسة الأصول الشرعية وأمهات العلوم الدينية، من دون تطعيمها بأسلوب (التعلم الحدثي) القائم على التعلم من الأحداث اليومية والعلوم الحديثة والتجارب البشرية الأخرى ، لتوسيع استطاعات العضو في التعامل مع الواقع بشموله والتفاعل الجيد والإيجابي معه كعضو فاعل في مجتمع لا كداعية شبه معتزل عن صيرورة الحياة يتدارس النصوص الدينية فقط . فباستثناء العشر دقائق نشرة أخبار التي تقدم في منتصف بعض لقاءات الأسر لا توجد أية نافذة تربوية رسمية على الواقع .
ورغم أن تربية العزلة عن مسار الأحداث قد أثمرت الطاعة وتشابه الجميع والانبهار أحياناً بالقليل الذي لم يجرب من أفكارنا الإصلاحية ، إلا أنها أفقدت الفرد فعالياته في تعاطي الواقع من حوله وفي التأثير الإيجابي في جماعته بالرأي والمشورة المبنية على الفهم الدقيق لقضايا الساعة . ومنعت التعددية الفكرية التي تجعل هناك تعدداً في الرؤى في القضية الواحدة ، وبالقدر الذي يثري العمل في النهاية .. فصار الأخ يعرف عن أسباب هزيمة المسلمين في أحد أضعاف ما يعرفه عن هزيمة المسلمين في حرب 1967 ، وعن نظام الحسبة أضعاف ما يعرفه عن الدستور أو مهام المحليات وقوانين الجمعيات الأهلية ، وعن المنافقين في المدينة أكثر ما يعرف عن المنافقين من أذناب السياسة الأمريكية في المنطقة ، وعن مصادر دخل الدولة الإسلامية في عهد الراشدين أضعاف ما يعرف عن مصادر دخل بلده الآن .. وهكذا فهي مناهج لا تقدم له شيء مباشراً يساعده على فهم ما يجري من حوله . كما لم تعد الأفكار والتفسيرات الجاهزة والوعود الطيبة عن النصر القادم وعن سنة الابتلاء، وعن المؤامرات المحلية والدولية، وعن دور قبضة الأمن الغاشمة في منع الدعوة من إصلاح الواقع وتحقيق أستاذية العالم... لم يعد هذا الكلام المجرد رغم صدق أغلبه يكفي لفهم الواقع وتحديد دور الفرد في الإصلاح الشامل .. كما لم يعد يكفي لتبرير هذا الانقطاع عن المشاركة المؤثرة في صيرورة الأحداث .(54/382)
وقد أورثت ثقافة التجريد والاعتزال عن تفسير الواقع أثر في غاية الخطورة ، وهو التطرف الفكري وسيادة نظرية المؤامرة ، فالأخ المعزول عن دراسة الحقائق المادية للواقع ،وعن معرفة حجم وأسباب المشكلات والهزائم الحياتية، والذي اختصرت له القضية في ( غياب الإسلام )، قد صار يستسهل حل أعتي المشكلات باختزالها في عناوين فضفاضة كتطبيق الشريعة والعودة إلى الله ..الخ ويشعر في المقابل بأن غياب حلمه الوردي في إقامة المجتمع المسلم هو نتيجة لأخطاء ومؤامرات الفئة الحاكمة تحديداً والتي تغفل هذا الحل السهل البسيط. فامتلأ بالسخط الدفين عليها ، واحتقر كل الجهود التي تبذل للعلاج ، وانفصل عاطفياً وذهنياً عن المشاركة الفعالة، وعن تبني الجهود الإيجابية لكل من لا ينطلق مثله من نفس الثوابت الذهنية في تعاطي مشكلات الواقع، وصار لديه إيمان لا يتزعزع بأن جماعته وفكرته هي البديل للمجتمع ، ولم تعد الكلمات المرسلة عن أننا جماعة من المسلمين ولسنا جماعة المسلمين تجدي نفعاً في تخفيف حدة التعصب الداخلي للحل الإخواني لمشكلات الواقع ، والذي هو في حقيقته دليل عمل وليس حلاً بالمعنى الدقيق.
هذا ما نحسبه تشخيصاً وعلاجاً لمشكلة الديمقراطية ، وفي حدود الممكن خلال هذه الفترة ، على أن تتسع الدائرة تدريجياً بتوالي النجاحات بإذن الله . والله الموفق لما فيه الخير .
==============
نقد الديموقراطية المعاصرة في الفكر الغربي
د. بشير زين العابدين
دكتوراه في التاريخ السياسي من جامعة بندن
"يروق للسياسيين استخدام مصطلح الديمقراطية - الذي تحبه الجماهير - لأنه يمنحهم أفضل فرصة لتجنب المسؤولية، ويمكنهم من سحق خصومهم ... باسم الشعب" [جوزف شمبتر [(1)]].
يتميز الفكر الديمقراطي بأنه نشأ في عصر سابق للفترة التي نشأت فيها الإيديولوجيات الأوروبية كالقومية والرأسمالية والليبرالية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر. فقد استخدم مصطلح "الديمقراطية" [(2)] لدى فلاسفة اليونان خلال القرن الخامس قبل الميلاد، للتعبير عن نظام يمنح الشعوب حق حكم نفسها وتقرير مصيرها. ويعتبر المؤرخون بأن ظهور هذه الفكرة يمثل ردة فعل للأنظمة السائدة في ذلك العصر والتي تقوم على نفوذ النبلاء (الأرستقراطية) وتسلط الأقلية (الأوليجاركية) وحكم الفرد (الملكية).
وقد قامت الديمقراطية على افتراض أن الشعوب لا تحتاج إلى وصاية أقلية للقيام بأمرها، ولا بد - لتبني هذا الافتراض - من الثقة المطلقة بقدرة الشعوب على القيام بأمر الحكم وتحقيق المصلحة المشتركة، وتجنب الإضرار ببعضهم البعض، وأن أفراد الشعب متساوون في حقوقهم السياسية ولكل واحد منهم حق المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار وصياغة السياسات التي تحقق الأمن والرخاء للمجتمع.
وكان جان جاك روسو (1712 - 1778) من أبرز مفكري القرن الثامن عشر، الذين نادوا بتطبيق الديمقراطية الحقة حسب أصولها اليونانية، والتي نصت على ضرورة المشاركة الفعلية لجميع أفراد المجتمع الديمقراطي في سائر جوانب الحياة العامة. وقد جاءت جدليات روسو لتبين حجم التباين بين النظرية والتطبيق في الممارسة الديمقراطية في أوروبا الحديثة.
وتحاول هذه الدراسة تبيين أبرز نقاط الخلاف بين أصول الفكر الديمقراطي وتطبيقاتها خلال القرنين الماضيين. وقد استخدم المثال البريطاني لأنه يمثل أقدم ديمقراطية في العالم الغربي، ويعتبر مثالاً يحتذى في التطبيقات الديمقراطية المعاصرة.
بين النظرية والتطبيق:
حظيت الديمقراطية في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر باهتمام فئة من مثقفي الطبقة الوسطى، الذين أرادوا تحدي سلطة الملكية والكنيسة بشرعية الشعب. ويشير المؤرخ البريطاني ريتشارد جاي [(3)] إلا أن المنتمين إلى هذه الطبقة كانوا يسعون في الحقيقة إلى حماية ثرواتهم من تسلط الملكية وطمع الطبقة الفقيرة على السواء. ولذلك فقد اعتبرت "سلطة الشعب" سلاحاً استخدمه الأوروبيون في صراعهم الطبقي المرير، ووسيلة لاستبدال نظام مندثر بآخر يمكن لفئة جديدة من ممارسة السلطة بشرعية جديدة لا تعبر بالضرورة عن رأي الجماهير.
وقد وقع العبء على عدد من المفكرين الغربيين مثل جيرمي بنثام (1748 -1832) وإدموند بورك (1729 - 1797) وجيمس ميل (1806 - 1873) للتوفيق بين فرضيات القرن الخامس قبل الميلاد وواقع أوروبا في عهد الثورة الصناعية. ونتج عن ذلك صورة جديدة لديمقراطية معاصرة تتغاير في أصولها مع الديمقراطية اليونانية. ويمكن تلخيص أبرز محاور هذا التباين في النقاط التالية:
أولا) الوصاية على الشعب:
__________
(1) Capitalism, Socialism and Democa r cy, (London 1952), p. 268.
(2) وهي مزيج من كلمتين ديموس (Demos) وتعني: الشعب، وكراتوس (C r atos) وتعني: السلطة، أي سلطة الشعب
(3) صلى الله عليه وسلم Jay. Democ r acy. in (Political Ideologies), (London 1985) P. 162(54/383)
لم يكن لدى السياسيين في الحقيقة ثقة بقدرة الجماهير على حكم أنفسهم، فقد كانت الأكثرية من العمال والفلاحين تعيش في جهل وفقر مدقع تحت وطأة الأرستقراطية التي تحتكر السلطة السياسية، وقد زعم جيمس ميل بأنه يصعب تحميل هذه الطبقة من : "الجهلة، عديمي المسؤولية، والعاجزين عن تطوير أنفسهم فكرياً " مهمة الحكم المباشر. ولذلك فقد تم استحداث آلية برلمانية للموازنة بين سلطة الأرستقراطية في مجلس اللوردات وسلطة الشعب في مجلس العموم، واعتبار الملكية وصياً على هذا النظام الذي يتناقض في أصله مع النظرية اليونانية والتي تنص على ضرورة الثقة الكاملة بإمكانية حكم الجماهير أنفسهم. وقد استمر الجدال لفترة طويلة بين السياسيين الأوروبيين حول خطورة توسيع سلطة الشعب، والفوضى التي يمكن أن تنتج من جراء ذلك، وفي هذا المجال صرح السياسي البارز راندولف تشرشل، والد ونستون تشرشل، في الثمانينيات من القرن التاسع عشر: "إنني أثق بالشعب... ولا أخشى من الديمقراطية... فديمقراطية المحافظين تؤمن بأن الملكية - الوراثية - ومجلس اللوردات- الوراثي - هي أقوى الحصون التي شيدتها البشرية على مر العصور لحماية الحريات الديمقراطية، والتي تخضع وتدين بالولاء للمؤسسة الكنسية"!! [(1)].
وقد بقي هاجس الخوف من حكم الشعب مسيطراً على السياسيين الغربيين، فكان الاقتراع محصوراً على عدد محدود من الذكور ولم يسمح لطبقة العمال والنساء والأقليات بالتصويت إلا في مرحلة متقدمة من القرن العشرين. ويمكن القول بأن الممارسة الديمقراطية المعاصرة لا تزال تخدم فئة محدودة من السياسيين الذين يغلب عليهم الحذر الشديد من مغبة التوغل في مفهوم حكم الشعب المباشر.
ثانياً) التمثيل:
لقد كان من أبرز الانتقادات للفكر اليوناني أنه نظر إلى المجتمع نظرة بدائية لا تتناسب مع واقع الحياة الغربية وتعقيداتها في القرن التاسع عشر. وقد جادل المفكرون الغربيون بأن الحكم المباشر للشعب أمر يستحيل تحقيقه لأن مشاركة أعداد كبيرة من الجماهير في جميع الأمور سيخلق جوا من الفوضى السياسية التي تودي بالمجتمع إلى الهاوية. ولذلك فقد كان البديل هو استبدال حكم الشعب بحق اختيار الشعب لمن يحكمهم ويعتبر هذا التنازل هو المنعطف الرئيسي الذي عرقل مسيرة تحقيق الديمقراطية بأصولها. ولا تزال هناك فئة من المفكرين الغربيين تنادي بضرورة تطوير آليات الحكم المباشر للشعب بدلا من تطوير آليات وسبل تمثيل الشعب. ويمكن القول بأن الديمقراطية المعاصرة قد حجبت عن الشعب حق الحكم ومنحته حق اختيار الحاكم وشتان بين الأمرين.
وتكمن الإشكالية في مبدأ التمثيل بأن المجالس النيابية في صورتها الحالية لا تمثل التركيبة الاجتماعية للمنتخبين ولا تنطق عن أفكارهم.
لقد رأى كل من ميل وبينثام في أواخر القرن الثامن عشر أن الطبقة الوسطى تملك أوضح رؤية لتحقيق مصلحة الشعب إذا ما قورنت بالأغلبية من الفقراء أو الأقلية من الأرستقراطيين، ولذلك فإنه يجب أن يكون أساس الممارسة الديمقراطية قائما على النواب الذكور الذين ينتمون إلى هذه الطبقة وتتجاوز أعمارهم سن الأربعين [(2)]. ويبدو أن الديمقراطية الغربية لم تحقق الكثير من التقدم في مجال التمثيل، فمن المثير للاستغراب هو أن مجلس العموم البريطاني في أواخر القرن العشرين لا يزال يمثل هذه الأقلية من المجتمع، في حين أن الأغلبية لا تجد من يمثلها، ففي إحصائية لأعضاء البرلمان البريطاني عام 1981 تبين بأن 86.6% من حزب المحافظين 85.4% من حزب العمال هم من البيض المنتمين للطبقة الوسطى الذين تتجاوز أعمارهم سن الأربعين [(3)].
بل إن الحقيقة التي فرضت نفسها في انتخابات بريطانيا عام 1983 هي أن أعضاء المجلس لم يعكسوا تركيبة المجتمع، مما يعني أنهم غير قادرين على تمثيل الشعب، بل كانت أكثرية المجلس تمثل فئة واحدة وهي: البيض، الذكور، المنتمين للطبقة الوسطى، كما كان الحال في أواخر القرن الثامن عشر. ويوضح الجدول التالي توزيع النساء والأقليات في بريطانيا خلال الانتخابات الثلاثة الماضية [(4)]:
مجموع مقاعد مجلس العموم ... عدد الأقليات ... عدد النساء ... انتخابات عام
635 ... 0 ... 27 ... 1974
635 ... 0 ... 19 ... 179
650 ... 0 ... 23 ... 1983
__________
(1) صلى الله عليه وسلم J. White (ed) The Conse r vative T r adition, (London 1964) PP. 228-30.
(2) صلى الله عليه وسلم Jay, Democ r acy, in (Political Ideologies) (London 1985) P. 166.
(3) M. r yle, (The Commons Today), (London 1981) PP. 45-50
(4) D. Stephenson, (B r itish Gove r ment and Poltics) (London 1987), P. 103.(54/384)
فأين هي المساواة بين جميع أفراد المجتمع، وما قيمة الشعارات التي يتبناها الغرب ويفرضها على الآخرين في ضرورة تحقيق المساواة السياسية بين المرأة والرجل؟ وثمة مشكلة أخرى في مسألة التمثيل تتلخص في أن أغلب المفكرين الغربيين يجادلون بأن عضو المجلس هو في الحقيقة مفوض وليس ممثلاً لمنتخبيه، أي أن انتخابه يعكس ثقة الجماهير بكفاءته وقدرته على تمثيل مصالحهم في البرلمان، لا لأن يكون مجرد صدى لآرائهم وأفكارهم. بل إن الجهة الوحيدة التي يجب أن يمثلها عضو المجلس هي الحزب الذي ينتمي إليه وليس منتخبيه. و بهذه الصورة تكون قد انقرضت آخر معالم الديمقراطية التي بدأت بحكم الشعب، وتنازلت إلى اختيار الشعب من يمثله في الحكم، ثم تطورت بعد ذلك إلى اعتبار الشخص المنتخب ممثلاً للحزب "بتفويض من الجماهير".
ثالثاً) الحزبية:
يرى كل من جان جاك روسو وجيمس ميل أن دخول الأحزاب في المجالس النيابية مناقض للديمقراطية ومناف لأصولها. فالأحزاب في الفكر اليوناني تفرق الشعوب وتنشر فيهم أجواء الخلاف وتناقض مفهوم المجتمع الواحد. والأحزاب كذلك تمثل وسيطاً سلبياً بين الشعب وآلية الحكم، مما يجعلها عائقاً لمباشرة الجماهير أمور حياتهم، والتعبير عن أنفسهم.
فالجماهير في الديمقراطية البريطانية على سبيل المثال لا تختار أعضاء المجلس والحكومة التي تمثلهم، وإنما ينتخبون الحزب الذي يحكم رئيسه حسب ما يقتضيه برنامج الحزب وبحكم تصوره للمصلحة العامة دون وجود أي مرجعية للشعب. إن الأغلبية من المنتخبين لا يحصلون أثناء الحملة الانتخابية إلا على الوعود، ثم تسود فترة طويلة من احتكار الحزب لآلية اتخاذ القرار. وقد عبر عن هذه الظاهرة اللورد هيلشام عام 1976 بقوله: " إننا نشهد عصر الدكتاتورية المنتخبة "، في إشارة إلى هيمنة حزبين متناحرين على زمام السلطة في بريطانيا طوال قرن كامل من الزمان، فقبل الحرب العالمية الثانية كانت المنافسة بين المحافظين والأحرار، ثم تحولت إلى منافسة بين العمال والمحافظين بعد الحرب. وإذا أخذنا في الاعتبار بأن عدد المهتمين بالنشاط الحزبي في بريطانيا لا يتجاوز نسبة 5% فقط [(1)]، فإن الأغلبية المستقلة لا تجد من يمثلها في هذا النظام.
رابعاً) الأكثرية:
يتزعم ميل تيار المفكرين الذين يرون بأن ارتباط الأغلبية بالممارسة الديمقراطية أمر شديد الخطورة. فالديمقراطية في حقيقتها تسعى إلى حكم الشعب وليس حكم الأكثرية.
وقد نشأ مبدأ الاحتكام إلى الأكثرية لتحديد أعضاء المجلس وسياسة المجتمع من وجود خلل في التطبيق الديمقراطي لمبدأ الثقة بقدرة الجماهير على حكم نفسها، وضرورة وجود من يمثل الشعب في الحكم بدلاً من مباشرة الأفراد لذلك. ولهذا السبب فقد ارتبطت الأغلبية بالديمقراطية ارتباطاً وثيقاً وصارت الشرعية تستمد من الأكثرية. وتكمن الخطورة في هذه الصورة الجديدة من الشرعية في النقاط التالية:
أ) إن الذي وقع بالفعل هو استبدال تسلط الأقلية (في الأنظمة القديمة) باستبداد الأكثرية في الممارسة الديمقراطية الحديثة. فقد مكنت آلية الاحتكام للأكثرية إلى استفادة فئة من المجتمع على حساب المجموعات الأضعف من الأقليات الدينية والعرقية والنساء وطبقة الفقراء. وقد تبين معنا في الصفحات السابقة كيف سيطرت الطبقة الوسطى من البيض على زمام الممارسة الديمقراطية خلال قرن من الزمان. ومع مرور الوقت تزداد قوة الفئة المتحكمة، وتحتكر المزيد من السلطات على حساب الفئات الأخرى التي لا تتمكن من مباشرة الحكم بنفسها ولا تجد من يمثلها في هذا النظام.
ب) يتساءل الكثير من المفكرين الغربيين: هل الأغلبية دائماً على حق؟
وهل يعني تأييد الغالبية لرأي معين بأنه رأي صحيح؟ أليس من الخطأ افتراض أن الأقلية دائماً على باطل؟
والحقيقة هي أن الأكثرية تصوت لتحقيق المصالح الخاصة وليس لتحقيق المصلحة العامة ورفاهية المجتمع. وكثير ما لاحظ مؤرخو الغرب أن الشعوب تؤيد من يحقق مصلحة غالبية أفرادها ولو كان ذلك على حساب الأقلية أو على حساب الحرية أو الديمقراطية نفسها. ولذلك فقد اعتبر تأييد أغلبية المجتمع الألماني لأدولف هتلر في أواخر الثلاثينيات إجماع على باطل لأنه كان ضد الأقلية من اليهود!
ج) إذا وافقنا جدلاً على شرعية الأغلبية، فهناك مشكلة أخرى تتمثل في أن أنظمة الانتخابات لا تفرز حكومات مدعومة بأغلبية الشعب. ففي بريطانيا على سبيل المثال لم يحصل أي حزب خلال الخمسين عاما الماضية على 50% من أصوات الناخبين بل تكون النتيجة عادة هي أن الحزب الحاكم يمثل أصوات أكبر أقلية في المجتمع. ويشير إلى هذه الظاهرة روبرت دال بقوله: " إن الأكثرية لا تحكم أبداً، فالنظام السياسي يعطينا الخيار بين حكم أقلية أو حكم مجموعة من الأقليات" [(2)].
__________
(1) Ibid, P.174
(2) Ibid, P 1730(54/385)
ثم تأتي بعد ذلك لعبة توزيع مراكز الاقتراع، بحيث تتفاوت قيمة الأصوات. وسبب ذلك هو الخلل في آلية التصويت، فمحور الديمقراطية هو المساواة السياسية بين أفراد المجتمع، ولكن الواقع هو أنه قد يفوق صوت شخص واحد عشرات الأصوات في مكان آخر، وتدل نتائج الانتخابات البريطانية عام 1983 على هذا التباين الخطير:
مجموع مقاعد مجلس العموم ... نسبة الأصوات ... عدد الناخبين ... الحزب
379 ... 42.4% ... 13.012.315 ... المحافظون
209 ... 27.6% ... 8.456.934 ... العمال
23 ... 25.4% ... 7.780.949 ... الأحرار الاشتراكيون
فقد حصل العمال على 6ر27% من مجموع الأصوات وفازوا ب 209 مقعداً في مجلس العموم بينما حصل الأحرار/الاشتراكيون على 4ر25% من الأصوات وفازوا ب 23 مقعداً فقط، أي أن الفرق بين الحزبين هو 2.2% من الأصوات وفرق المقاعد هو 186 مقعداً! بينما حصل المحافظون على 42% من صوت الناخبين و61% من مقاعد مجلس العموم، فأين هي المساواة السياسية التي تنادي بها الديمقراطية؟
الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية:
لقد خاضت الرأسمالية الغربية حربين عالميتين ضد الفاشية والدكتاتورية، وحرباً ثالثة "باردة" مع الشيوعية، وفي هذه الأثناء تم استخدام الديمقراطية بديلاً إيديولوجيا، وأصبحت في قاموس المصطلحات السياسية رديفاً للحرية، وتحرير البشرية، واحترام حقوق الإنسان، وصيانة ملكية الفرد. ويمكن ملاحظة تطورين مهمين في المسار الديمقراطي في العالم:
1) اتجهت الحكومات الغربية نحو مزيد من المركزية في الحكم. وأبرز آثار هذه المركزية هو سيطرة الدولة على مقاليد أمور المجتمع بما في ذلك الاقتصاد، بينما تلعب أجهزة الاستخبارات دوراً رئيسياً في الداخل والخارج. ويشعر الأوروبيون بالخطر من تزايد سيطرة الدولة على جميع أمورهم، فالديمقراطية والرأسمالية على السواء تدعوان إلى محدودية دور السلطة في حياة الشعب، والواقع في أوروبا هو أن السلطة الحقيقية قد حجبت عن الجماهير لصالح الأحزاب التي تهيمن على آلية الحكم، ومع مرور الوقت فقدت المجالس البرلمانية نفوذها لصالح الحكومات التي قلما تمثل إرادة الشعب، أو حتى أغلبية الجماهير. وإذا اعتبرنا اللجان البرلمانية مقياساً لمدى مركزية النظام، فإن عهد رئيس الوزراء العمالي كليمينت آتلي (1945-1951) قد شهد تشكيل 466 لجنة لتحديد سياسات الدولة وصياغة القوانين، بالمقارنة مع 190 لجنة في عهد جيمس كالهان (1976-1979)، و150 لجنة فقط في الفترة (1979-1985) من عهد مارغريت تاتشر [(1)].
ويرى ريتشارد جاي بأن مستقبل الديمقراطية في الغرب لا يدعو إلى التفاؤل في ظل نمو البيروقراطية وتضخم أجهزة الحكم وتزايد اعتماد الجماهير على الدولة في تسيير شؤون حياتهم اليومية، وإذا استمر الحال على ما هو عليه فإن : " عوامل حكم الشعب نفسه معرضة للانقراض" [(2)]. والحقيقة هي أن السلطات السياسية في الغرب كانت كلما وسعت دائرة الناخبين لتشمل النساء والشباب والأقليات كانت في المقابل تحدد من سلطة الشعب، ويعترف الكثير من أعضاء مجلس العموم اليوم بأنهم لا يملكون أي سيطرة على آلية اتخاذ القرار لأن زمامها أصبحت في يد قيادة الحزب بالتحالف مع الشركات العملاقة وأجهزة الاستخبارات السرية وإمبراطوريات الصحافة.
2) أما التطور الثاني: فهو تحول الديمقراطية إلى نظام يفرض على حكومات وشعوب "العالم الثالث"، وارتباط المساعدات الاقتصادية والعلاقات الدبلوماسية بتبني النظام الديمقراطي. بل واحتلال بعض الدول وفرض الوصاية عليها حتى تحقق المزيد من التطور الديمقراطي. والملاحظ في هذه الصورة المشوهة هو أن الديمقراطية لا تعني سوى الانتخابات الشكلية،
دون الاكتراث بنظام الحكم إن كان ملكيا وراثياً أو دكتاتورياً عسكرياً أو حكم عصابة من تجار المخدرات، ودون الاهتمام برأي الجماهير في تلك الدول إذا كانت معادية للغرب لأنها شعوب: "جاهلة، غير واعية، وغير قادرة على تحمل المسؤولية" كما وصفها جيمس ميل. لقد هيمنت هذه الصورة المعاصرة من الديمقراطية وأصبحت الإيديولوجية التي يجب أن تسود العالم، والنظام الأوحد الذي تسير البشرية في ركابه. وهكذا تكتمل دورة تطور الفكر الديمقراطي للتمحور حول ثلاثة أصول:
أ) الوصاية على الشعوب غير الواعية.
ب) مركزية الحكم بسبب تعقد الحياة.
ج) فرض هذا النظام على جميع الشعوب لأنه يحقق الحياة الأمثل للبشرية.
__________
(1) Ibid, P. 24
(2) صلى الله عليه وسلم Jay, Democ r acy, in (political Ideologies) (London 1985) P. 181(54/386)
وهذه بحد ذاتها هي محاور إيديولوجيات الفاشية، والدكتاتورية الوحدوية، والشيوعية على السواء. وقد عبر عن هذه المخاوف كثير من مفكري الغرب وفلاسفته في القرن العشرين. إن من المؤسف أن نقد الفكر الديمقراطي قد أخذ بعداً سياسياً، فأصبح كل من يتكلم في نقد الديمقراطية بالمقابل: متشدداً، معادياً لحريات الشعوب وحقوق الإنسان، بل انبرى بعض المفكرين "الإسلاميين" للدفاع عن الديمقراطية وتبرير شرعية الأكثرية والنظم البيروقراطية والتعددية الحزبية، مع أن هذه الأفكار دخيلة على الفكر الديمقراطي ومنافية لأصوله كما مر معنا.
لقد كانت مشكلة الديمقراطية أنها بنيت على أصول باطلة وفرضيات مثالية يستحيل تطبيقها، فاضطر فلاسفة القرن الثامن والتاسع عشر لتسييرها في مسار "واقعي" بعيد عن أصولها الافتراضية. وكما استغلت الأقلية من الطبقة الوسطى شرعية الجماهير في معركتهم ضد الأرستقراطية فإن الدكتاتوريين في "العالم الثالث" يستخدمون الديمقراطية نفسها كمصدر شرعية للتسلط على رقاب الشعوب وبنسب تزيد في العادة عن 99% من الأصوات.
لقد اختصر جان جاك روسو مجمل بحثه في ديمقراطية الغرب بقوله: " يظن الشعب الإنجليزي نفسه حراً، ولكنه مخطئ في ذلك خطأ فادحاً... إنه حر فقط عند انتخاب أعضاء البرلمان، وبعد ذلك تهيمن عليه العبودية من جديد" [ ].
ربيع الأول / 1422 هـ
====================(54/387)
(54/388)
حكم التعددية السياسية
[الكاتب: حامد بن عبد الله العلي]
شيخنا الفاضل.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما هو مفهوم التعددية؟ وهل جاء الاسلام أو تبنى هذا المفهوم؟ وهل قيدها بقيود ام جعلها مطلقة؟ وما هي اهم المحاذير المترتبة على هذا المفهوم من المنظور الاسلامي؟
افيدونا افادكم الله.
وما ردك على من يدعو إلى التعددية الحزبية في واقع يكون فيه أحزاب علمانية ومرتدة، وضالة، ولا يمكن تقييدها بالإسلام، لان الدستور يسمح لها بحرية الفكر وهو لا يقيد الفكر والاحكام بالشريعة أصلا، بل يجعلها أحد المصادر فقط، ويحتجون بحجة أن عليا رضي الله عنه أقر الخوارج قبل أن يقاتلوا، وبحجة أن الفرق الضالة لم تزل في عصور الإسلام، وبحجة أن هذه الأحزاب واقع موجود فلماذا لاندعو إلى تنظيمه وتقنينه؟
* * *
الجواب:
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد:
الأصل الجامع لهذا الدين، وكل دين أرسل الله به المرسلين والنبيين، أن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، أن يعلوا أحكام هذا الدين، وهو كلمة الحق، وأن ينصروه.
وأن يقيموا العدل، وينصبوه، وأن يمنعوا الباطل من العلو والظهور، وكذا الظلم والفجور.
وأن معيار العلم بالحق والباطل، إنما هو الوحي، هو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال، قال سبحانه: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا}.
وذلك أن الله تعالى هو الحق، وهو رب الناس، ملك الناس، إله الناس، له الأمر كله، كما له الملك و الخلق كله، وقد أقام هذه السموات والأرض على الحق والعدل، وأنزل به الوحي، حاكما بين الناس، وأمر المرسلين والمؤمنين أن يقوموا به في الأرض، ويجاهدوا في سبيل إقامته، بالعلم واللسان، وبالقوة والسنان.
قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون * وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون * ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون}، وقال تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}، وقال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}.
فأمر الناس أن يقيموا دين الله وأن يجتمعوا عليه، ولا يتفرقوا.
والقرآن مليء بالأمر بالاجتماع على الحق ومدحه، وذم الافتراق عنه والتفرق فيه، والأمر بجهاد الباطل وأهله، وقد سماهم أهل الشقاق، وأهل النفاق، وأهل الكفر، أو الفسق والفجور، وجمع لهم أوصاف الذم وأسماءه.
هذا هو الأصل العظيم الجامع، المعلوم من الدين بالضرورة، من دفعه كفر وارتد، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه بإتفاق العلماء.
وعلى هذا الأصل أقيمت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام، بل جعل النظام السياسي كله قائما على هذا الأصل، فمقصوده إظهار الحق الذي تحمله الأمة بالوحي، إظهاره أي جعله ظاهرا بالقوة والعلو، بين المؤمنين، وعلى الأرض كلها بجهاد الطلب.
قال شيخ الإسلام: (وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي؛ فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر وهذا نعت النبي والمؤمنين؛ كما قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}.
وهذا واجب على كل مسلم قادر وهو فرض على الكفاية ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره والقدرة هو السلطان والولاية فذوو السلطان أقدر من غيرهم؛ وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هو القدرة؛ فيجب على كل إنسان بحسب قدرته، قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}.
وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى: مثل نيابة السلطنة والصغرى مثل ولاية الشرطة: وولاية الحكم؛ أو ولاية المال وهي ولاية الدواوين المالية؛ وولاية الحسبة.
لكن من المتولين من يكون بمنزلة الشاهد المؤتمن؛ والمطلوب منه الصدق؛ مثل الشهود عند الحاكم؛ ومثل صاحب الديوان الذي وظيفته أن يكتب المستخرج والمصروف؛ والنقيب والعريف الذي وظيفته إخبار ذي الأمر بالأحوال.
ومنهم من يكون بمنزلة الأمين المطاع؛ والمطلوب منه العدل مثل الأمير والحاكم والمحتسب وبالصدق في كل الأخبار والعدل في الإنشاء من الأقوال والأعمال: تصلح جميع الأحوال وهما قرينان، كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا}.(54/389)
وقال صلى الله عليه وسلم لما ذكر الظلمة: "من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه؛ ولا يرد علي الحوض ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه: وسيرد على الحوض".
وفي الصحيحين عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا".
ولهذا قال سبحانه وتعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين}، {تنزل على كل أفاك أثيم} وقال: {لنسفعن بالناصية}، {ناصية كاذبة خاطئة}) [مجموع الفتاوى: 28/65].
وكل هذا قد اتفقت عليه المذاهب الإسلامية من أهل السنة والجماعة.
غير أن هذا لا يعني أنه ليس في الإسلام مساحة لتعدد الآراء، والتسامح في الخلاف، ما دام ذلك لا يكون في دائرة المحكمات، والثوابت.
فالتعددية إن أريد بها هذا؛ فهي من الحق نفسه.
ولهذا لم يكن عند أحد من العلماء تعارض بين ما أمر الله به من إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المكر، وبين القاعدة المشهورة؛ أنه لا إنكار في المسائل الاجتهادية، لان الله تعالى شاء بحكمته أن يكون فيما أنزل محكمات هن أم الكتاب، يجتمع عليها أهل الحق ولا يتفرقون، ومتشابهات يجري وقد يسوغ فيها اختلاف النظر والاجتهاد.
ولهذا صح في الحديث: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله اجر).
ولهذا ذكر من ذكر من العلماء أنه لا يجوز للحاكم أن يلزم الناس في مسائل الاجتهاد برأيه.
قال شيخ الإسلام جوابا على سؤال؛ هل يلزم ولي الأمر الناس بمذهبه في مسائلا الاجتهاد؟
فأجاب: (ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب وللاسنة ولا إجماع ولا ما هو في معنى ذلك، لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار.
وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل.
ولهذا لما استشار الرشيد مالكًا أن يحمل الناس على "موطئه" في مثل هذه المسائل، منعه من ذلك، وقال: "إن أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الآمصار وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم".
وصنف رجل كتابًا في الاختلاف، فقال أحمد: "لا تسمه كتاب الاختلاف، ولكن سمه كتاب السعة".
ولهذا كان بعض العلماء يقول: "إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة".
وكان عمر بن عبد العزيز يقول: "ما يسرني أن أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لانهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا، كان في الأمر سعة".
وكذلك قال غير مالك من الأئمة: "ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه".
ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره؛ إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه.
ونظائر هذه المسائل كثيرة؛ مثل تنازع الناس في بيع الباقلا الأخضر في قشرته، وفي بيع المقاثي جملةً واحدةً، وبيع المعاطاة والسلم الحال، واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره، والتوضؤ من مس الذكر والنساء، وخروج النجاسات من غير السبيلين والقهقهة وترك الوضوء من ذلك، والقراءة بالبسملة سرا أو جهرًا وترك ذلك، وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه أو القول بطهارة ذلك، وبيع الأعيان الغائبة بالصفة وترك ذلك، والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين أو المرفقين والتيمم لكل صلاة أو لوقت كل صلاة أو الاكتفاء بتيمم واحد، وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض أو المنع من قبول شهادتهم) [مجموع الفتاوى: 30/79 - 81].
كما أن الإسلام لا يعاقب على الخطأ في غير المسائل الجليلة والمحكمات، ما دام المخطئ متأولا، ولهذا أقر عبر عصور الإسلام، الخلاف بين المذاهب الفقهية، في مسائل لا تحصى، وكثير منها الخطأ فيها واضح، لمخالفته النص، غير أنه لما كان ذلك في مسائل الفروع العملية، أو في مسائل دقيقة؛ يعذر فيها المخطئ بتأويل، فقد أقر فيها تعدد الآراء، واختلاف المذاهب.
وكذا إن أريد بالتعددية، التعددية السياسية المحضة، أعني التي هي سياسة مصالح الأمة في هدى الشريعة، كالأخذ بنظام سياسي يسمح بتداول السلطة بين أحزاب، في نظام سياسي قائم على الشرع، فتكون الأحزاب المتعددة تطرح حلولا للمشكلات الحياتية، لا يخرج كل حزب منها، عن الالتزام بأحكام الشريعة، في نظام الخلافة الإسلامية، بما يشبه ما كان يطلق عليه "وزارة التفويض".
فهذا غاية ما يمكن أن يقال فيه؛ إنه مشروع في الجملة، إن احتيج إليه كان بها.(54/390)
وإلا فمتى كان السلطان حاكما بالشرع، قائما بالعدل، ناصرا للملة، حافظا للحقوق - ومن أهمها حق الشورى لمن هو أهل للشورى - فقد أدى ما عليه، فمن يوجب عليه التعددية السياسية مطلقا؛ فهو مخطئ خطأ بينا، زاعم ما لا برهان له به من الشرع.
وقد ذكرنا فيما سبق، في غير موضع، أنه ليس ثمة في الكتاب والسنة، ما يمنع من الاستفادة من الوسائل العصرية السياسية التنظيمية، حتى في إدارة الدولة، ما دامت تحقق مقاصد الشريعة ولا تعارض نصا من نصوصها.
وكذا يقر الإسلام التعددية في الأفكار والابتكارات العلمية الدنيوية، والفنون المباحة، والعادات، ونحو ذلك مما فطر الله الخلق على التنوع فيه، لأن ذلك من طبيعة الخلق التي فطر الله الناس عليها، وهي تثري المجتمعات، وتضفي عليها تلونا جميلا، فهو أمر محمود مطلوب.
وما زالت أمتنا تحوي هذا التنوع المحمود في تاريخها منذ عصر الصحابة من غير نكير.
هذا ولم تزل أمتنا مزيجا متنوعا رائعا من شعوب شتى، تختلف في عاداتها والوان فنونها، ومعايشها، ولغاتها، غير أنها تجتمع على ثوابت الأمة العامة؛ وهي أصول هذا الدين العظيم.
أما التعددية في عرف العصر؛
فإنها يقصد بها في الغالب عند الإطلاق؛ السماح بما يسمى التعدد الثقافي - والسياسي تبع له - القائم على أصول تناقض أصول الشريعة، وليس المقصود هنا - في هذا العرف العصري - السكوت عن الباطل ما بقي اعتقادا بالقلب، أو إقرار أهل الأديان التي يكونون أهل ذمة على دينهم وعباداتهم، بالشروط الشرعية المرعية.
بل المقصود الإذن بإظهار الدعوة إلى الكفر والمنكر، وحماية الداعين إلى ذلك بالقوانين - كما تنص على ذلك الدساتير العلمانية الوضعية تحت شعار الديمقراطية -
فهذا من الكفر، بل هو الكفر نفسه، وما أشبه هذه العقيدة الكفرية بقول المشركين: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب}.
ومن الواضح أن هذا ليس من التعددية في ثقافة أمة في شيء، بل هو اختراق ثقافي لها، وغزو عقدي من ثقافة أمة إلى أمة أخرى، فتسميته تعددية من التلاعب بالألفاظ.
ومن يدعو إلى مثل هذا، دون ان يشترط أن تغير الاحزاب عقائدها وتدين بالإسلام، وتسلك في نظام لا يتحاكم إلا إلى الشريعة؛ يبين له حقيقة ما يدعو إليه، وأنه يناقض أصل الدين، فإن أصر فهو مرتد، له حكم أمثاله من المرتدين.
وأما من يحتج على جوازه بوجود الزنادقة في تاريخ الإسلام؛
فهو كالقدرية المشركة التي تستدل بوقوع الكفر على إباحته، كما قال تعالى: {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين}.
وما هذه الأحزاب العلمانية اللادينية، والمرتدة الضالة، الداعية إلى ما ينقض الإسلام؛ إلا زنادقة العصر، ومن طالب بأن يشرع لهم تشريع يبيح لهم الدعوة إلى كفرهم وحماية دعوتهم، فحكمه حكمهم.
وأما من يحتج على جواز ما يسمى "التعددية"، بوجود الفرق الضالة التي لم تخرج عن الإسلام، وجودها في تاريخ الإسلام؛
فيقال:
أولا: إن تلك الفرق كانت من جملة المسلمين، المقرين بالتنزيل والانقياد للوحي في الجملة، وإنما ضلوا في تأويله، لا في تنزيله، فلا يصح قياس الزنادقة عليهم، وهي هذه الأحزاب اللادينية العلمانية.
وثانيا: لا يحتج بما يقع في الوجود على أنه مشروع - كما تقدم - وقد وقع في تاريخ ملوك الإسلام من المخالفات الشرعية ما الله به عليم، وليس هذا بحجة.
وأما زعم الزاعم؛ إقرار العلماء لوجود الفرق الضالة!
فلم يقروه، بل أنكروا عليهم بدعهم، وبينوا ضلالهم وحذروا منهم، كما أمر صلى الله عليه وسلم بقوله: (فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم).
ولا أعلم عالما من أهل السنة، أباح لسلطان أن يشرع لأهل البدع والضلالة تشريعا يسمح لهم بالدعوة إلى منكراتهم وبدعهم، أو ينصب لهم منبراً يمكنهم من ذلك، كيف وقد أمر الله تعالى بإنكار المنكر إن ظهر، وجعل ذلك من أعظم واجبات الدين، وجعله حقا عاما للمسلمين؟!
ولهذا كان عمر رضي الله عنها يعاقب على إظهار منكرات البدع أشد العقوبة، وكان في ذلك قائما بالقسط، حاكما بالعدل، عاملا بالكتاب - كما فعل بصبيغ بن عسل -
وقد اتفق العلماء على وجوب منع أهل البدع من إظهار بدعهم، وأن السلطان يكون مفرطا فيما يجب عليه؛ إن لم يفعل، كما اتفقوا على وجوب قتال أهل البدع إن كانوا طائفة ممتنعة، وتنازعوا هل يجوز قتل الواحد منهم.
قال شيخ الإسلام: (وأما الواحد المقدور عليه من الخوارج والرافضة فقد روي عنهما - أعني عمر وعليا - قتلهما أيضا، والفقهاء وإن تنازعوا في قتل الواحد المقدور عليه من هؤلاء فلم يتنازعوا في وجوب قتلهم إذا كانوا ممتنعين).
وأما الرد على من زعم أن عليا رضي الله عنه أباح للخوارج الدعوة إلى ضلالهم، ومكنهم من ذلك؛
فنذكر أولا الرواية، ثم نبين بطلان هذا الاستدلال.
قال ابن كثير رحمه الله: (ذكر خروج الخوارج من الكوفة ومبارزتهم عليا رضي الله عنه بالعداوة والمخالفة وقتال علي إياهم وما ورد في ذلك من الأحاديث؛(54/391)
لما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومة الجندل اشتد أمر الخوارج وبالغوا في النكير على علي وصرحوا بكفره، فجاء إليه رجلان منهم - وهما زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي 0 فقالا: لا حكم إلا للهـ فقال علي: لا حكم إلا للهـ فقال له حرقوص: تب إلى الله من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، اذهب بنا إلى عدونا حتى نقاتلهم حتى نلقى ربنا.
فقال علي: قد أردتكم على ذلك فأبيتم، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا وعهودا، وقد قال الله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم... الآية}، فقال له حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه، فقال علي: ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه، ونهيتكم عنه.
فقال له زرعة بن البرج: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله لأقاتلنك، أطلب بذلك وجه الله ورضوانه، فقال له: تبا لك ما أشقاك! كأني بك قتيلا تسفى عليك الريح، فقال: وددت أن قد كان ذلك، فقال له علي: إنك لو كنت محقا كان في الموت تعزية عن الدنيا، ولكن الشيطان قد استهواكم.
فخرجا من عنده يحكمان أمرهما، وفشى فيهم ذلك، وجاهروا به الناس.
وتعرضوا لعلي في خطبه وأسمعوه السب والشتم والتعريض بآيات من القرآن، وذلك أن عليا قام خطيبا في بعض الجمع فذكر أمر الخوارج فذمه وعابه، فقام إليه جماعة منهم كل يقول: لا حكم إلا لله، وقام رجل منهم وهو واضع أصبعه في أذنيه يقول: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين}، فجعل علي يقلب يديه هكذا وهكذا وهو على المنبر يقول: حكم الله ننتظر فيكم، ثم قال: إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ما لم تخرجوا علينا، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا) أهـ
فليس في هذا - إن صح إسناده - حجة البتة على أنه يجوز تمكين أهل البدع من إظهار بدعهم، والدعوة إليها، والمطالبة بتأسيس حزب يدعو إلى الضلالة بقانون يحميهم، ولا يقول بهذا عالم يفقه هذه الشريعة، فيعارض النصوص المحكمة الآمرة بإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد - يد السلطان، ويد من يقدر وجوبا - قبل اللسان والقلب.
وإنما كان هذا القول من علي رضي الله عنه؛ تبرئة للذمة، وقطعا لأي حجة قد يحتج بها مبطل فيما لو قام رضي الله عنه فقاتلهم، فقال: "إن كنتم مع جماعة المسلمين لم تمنعوا من المساجد، وإن كانت أيديكم معنا في جهاد اعداءنا،لم تمنعوا الفيء، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا"، وسكت عما وراء ذلك، وكان بينه وبين القوم مناوشات، وكانوا طائفة خرجت من جيشه، في وقت يحارب أعداءه، وكان يتربص بهم حكم الله فيهم، وأن يحسهم حسا بسيفه فرحا بذلك، مستبشرا بما سيجريه الله على يديه من الخير العظيم بإنكار منكرهم العظيم.
وليس في هذا من الدلالة من شيء على أن الإمام له أن يأذن بإظهار البدع، أو يقر الدعاة إليها فلا يأخذ على أيديهم! عجبا لهذا الاستدلال ما أضعفه، وأبعده عن الفهم الصحيح!
بل ما يجب على الإمام العادل؛ من منع إظهار البدع، أعظم مما يجب من منع إظهار المعاصي، فالولايات أصلا لم تنصب إلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تقدم.
وقد كان علي رضي الله عنه، يمنع ويعاقب على بدع أدنى من بدع الخوارج.
كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وروي عنه بأسانيد جيدة أنه قال: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري، وعنه أنه طلب عبد الله بن سبأ لما بلغه أنه سب أبا بكر وعمر ليقتله فهرب منه، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر برجل فضله على أبي بكر أن يجلد لذلك، وقال عمر رضي الله عنه لصبيغ بن عسل - لما ظن أنه من الخوارج -: لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك، فهذه سنة أمير المؤمنين علي وغيره قد أمر بعقوبة الشيعة، الأصناف الثلاثة، وأخفهم المفضلة، فأمر - هو وعمر - بجلدهم).
وكذا كانت سنة الخلفاء.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: (فأما إذا كانت البدعة ظاهرة - تعرف العامة أنها مخالفة للشريعة - كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والجهمية؛ فهذه على السلطان إنكارها؛ لأن علمها عام، كما عليه الإنكار على من يستحل الفواحش والخمر وترك الصلاة ونحو ذلك.
ومع هذا فقد يكثر أهل هذه الأهواء في بعض الأمكنة والأزمنة حتى يصير بسبب كثرة كلامهم مكافئا - عند الجهال - لكلام أهل العلم والسنة حتى يشتبه الأمر على من يتولى أمر هؤلاء فيحتاج حينئذ إلى من يقوم بإظهار حجة الله وتبيينها حتى تكون العقوبة بعد الحجة.
وإلا فالعقوبة قبل الحجة ليست مشروعة، قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}.
ولهذا قال الفقهاء في البغاة إن الإمام يراسلهم فإن ذكروا شبهة بينها وإن ذكروا مظلمة أزالها، كما أرسل علي ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم حتى رجع منهم أربعة آلاف، وكما طلب عمر بن عبد العزيز دعاة القدرية والخوارج فناظرهم حتى ظهر لهم الحق وأقروا به، ثم بعد موته نقض غيلان القدري التوبة فصلب) أهـ.
والحاصل:(54/392)
أن التعددية بالمفهوم العصري كفر وضلال مبين، والتعددية - إن جاز هذا الإطلاق - التي وجدت في الإسلام، هي أمر آخر يختلف اختلافا عظيما، بل يتناقض تناقضا تاما مع التعددية في عرف العصر.
مع أنه يجب أن يعلم؛ أن ثمة فرق كبير بين التعاطي مع واقع سياسي مخالف لم يصنعه الإسلام، التعاطي معه بما يحقق مصلحة المسلمين، وبين إقامة أو المشاركة أو الدعوة إلى إقامة هذا الواقع المخالف بإسم الإسلام.
وذلك يشبه من وجه ما يقوله الفقهاء؛ قد يجوز استدامة، ما لا يجوز ابتداء.
وذلك أيضا كما يجوز للمسلم أن يرتكب أدنى الضررين ليدفع أشدهما عند التزاحم، ولا يجوز له أن يصنع الضررين بنفسه، ليختار أدناهما ضررا!
ومن الأمثلة على هذا أن المسلمين لا يجوز لهم أن يطالبوا بقضاء لا يقضي بالشرع، ولا أن يشاركوا في صناعة هذا النظام، لكن إن وجدوا في نظام قضائي يخالف الشرع، جاز لهم التحاكم إليه إن اضطروا لرفع الظلم عنهم، كما رفع نبي الله يوسف عليه السلام شكايته على ظلم الوزير إلى الملك الكافر؛ رسالة مع ساقي الملك الذي يسقيه الخمر.
فالعجب والله كل العجب ممن يقول؛ إن هذه الأحزاب المخالفة للإسلام ودعوتها إلى كفرها وضلالها، واقع ما له من دافع، فلماذا لا نقنن هذا الواقع بما يحميه، وينظمه، ويشرعه؟!
فما مثل هذا القائل - ليت شعري - إلا كمثل من يرى الخمر قد شاع شربها، والفاحشة قد ذاع فعلها، فدعا إلى تشريع ينظم العصابات القائمة على هذه المنكرات، وتنظيمها في ناظم يقننها!
بل الدعوة إلى تنظيم الداعين إلى المنكر في الاعتقادات، والعلم، والتصورات التي تفسد الإيمان، وتقنين دعوتهم، أشد قبحا، لو كانوا يعلمون.
وأخيرا:
فإن هذه التعددية العصرية الزائفة؛ ما هي إلا خداع ألقاه مفكروا الغرب التائهون إلينا، فاغتر به من خضع لضغط هذا الواقع الجاهلي المزيف، لتبقي هذه الأمة في حال الفرقة والخلاف.
أما العالم الغربي فقد بقى متشبثا بالجامع الذي يجمع الأمة، متعصبا له أشد التعصب، متطلعا لفرضه على العالم.
كما قال المفكر الدكتور عبد الوهاب مسيري عن الفكر المادي الغربي بشكل عام: (يمكن القول بأن النموذج الكامن وراء جميع الأيدلوجيات العلمانية الشاملة - ومثل لها بالليبرالية أيضا - هو ما يسمى "التطور أحادى الخط" - UNILINA r - أي الإيمان بأن ثمة قانونا علميا وطبيعيا واحدا للتطور تخضع له المجتمعات والظواهر البشرية كافة، وأن ثمة مراحل تمر بها كل المجتمعات البشرية تصل بعدها إلى نقطة تتلاقى عندها سائر المجتمعات والنظم بحيث يسود التجانس، وهذا ما يسمى أيضا "نظرية التلاقي" - CONVE r GENC THEO r Y -
والتلاقي هو تواجد النماذج كلها بحيث تبع نمطا واحدا وقانونا عاما واحدا، هو قانون التطور والتقدم بحيث يصبح العالم مكونا من وحدات متجانسة، ما يحدث في الواحدة يحدث في الأخرى، ويرى بعض المؤرخين أن العصر الحديث هو بحق عصر نهاية التاريخ) أهـ [الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ: 267].
ولهذا فإني لا أجد في وصف هذا الزيف الذي يسمى التعددية أحسن من وصف الكاتب "راسل جاكوب"ي في كتابه "نهاية اليوتوبيا" حيث قال: (فضلا عن أن "مونتييه" الذي ابتكر الشعار؛ عاش حياة لا يمكن أن توصف بالاستقامة، ولقي حتفه مختنقا في مبغى، وباختصار إن الشعار المرفوع كشعار للتعددية الثقافية الأمريكية؛ ليس فقط مفتقدا تراثا كلاسيكيا واضحا، بل مختلطا أيضا بالغموض والفضيحة، وهذا أحد مؤرخي القرن التاسع عشر، حين بحث في هذا التاريخ الشائك، وجدها أمرا مخزيا.
لقد كنا غير محظوظين بشكل استثنائي، في اختيار هذا الشعار، ومن الصعب أن تجد شعارا آخر أكثر ابتذالا، وأقل لباقة منه بالتأكيد، ليس ثمة شعار يمكن أن يكون نابيا وبلا دلالة مثله، شعار ذو أصل حديث مبتذل لا علاقه له بأصل كلاسيكي، شعار بلا مستدعيات أدبية أو تاريخيه، شعار مجرد تماما من أي صدى ديني أو أخلاقي، شعار يمكن أن يعني الإتحاد أو التفكك في أهواء كل فرد، ولسوء الحظ غالبا ما يعني المعنى الأخير لدى واضعيه الأصليين) [ص: 45].
وينبغي أن يعلم؛ أنه يجب على المسلمين الدعوة إلى الحق الذي نزل به الوحي، والاجتماع عليه، وجهاد ضده.
ثم إن لهم أحوالا:
1) أن يمكنوا في الأرض، فيجب عليهم أن يقيموه كما أمره الله تعالى، بالسلطان القاهر، والسيف الظافر، وأن يجتمعوا على الحق ولا يتفرقوا فيه، وأن يحكموا بين العباد بما أنزل الله تعالى، وأن يجاهدوا في الأرض لإعلاء كلمة الله.
2) أن لا يمكنوا فيجب عليهم الصبر على غربتهم، مع التمسك بالحق دون تنازل عنه، ولا مداهنة فيه، والسعي لتجميع أسباب القوة، حتى يمكن لحقهم ويعلون به على الجاهلية.
3) أن يستجمعوا أسبابا من القوة تمكنهم من الجهاد، فيجب عليهم أن يقوموا به، مجاهدين بالسلاح حتى يصلوا إلى التمكين.(54/393)
أما أن يجدوا أنفسهم في غربة بسبب تمسكهم بالحق، فيشتد عليهم بلاؤها، فيدفعونها عنهم جزعا بتأويل الشرع المنزل، ليوافق الواقع الجاهلي المبدل! فهذا هو الذي حذر الله تعالى منه نبي صلى الله عليه وسلم قائلا: {ودوا لو تدهن فيدهنون}، وهو البلاء المنتشر هذه الأيام، قد تكبكب الناس فيه زرافات ووحدانا، وضل فيه من ضل، وزاغ فيه من زاغ، وهو خلاف ما أمر الله به من الثبات على الهدى، والصبر على الغربة فيه، نسأل الله أن يثبتنا بفضله ومنه وكرمه.
وقد عاش من عاش من الأنبياء في غربة، فصبروا ولم يغيروا ولم يداهنوا، ومضى من مضى من الصالحين أولي بقية ينهون عن الفساد في الأرض؛ في غربة فثبتوا، وما بدلوا تبديلا.
وإنما الأمر لله، بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، علانيته وسره، ليس علينا سوى الاستقامة على ما أمر، والدعوة إلى دينه بالثبات والصبر.
والله أعلم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
=============(54/394)
(54/395)
الديموقراطية ؛ وسيلة لاحتواء التيار الإسلامي
[الكاتب: أبو سعد العاملي]
الحمد لله الذي أنزل الفرقان ليكون للعالمين نذيراً، القائل {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، وهادياً بإذنه وسراجاً منيراً، الذي خاطبه رب العزة بقوله {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْك}، وبعد
كثيرة هي البحوث والمقالات والكتب التي كتبت عن الديموقراطية، سواء لتزكيتها أو ذمها، والمجمع عليه هو أن الديموقراطية قد أصبحت ديناً جديداً، لها شرائعها وحدودها من حلال وحرام وشروط الانتماء إليها، مثلها مثل بقية الديانات الأخرى.
كما أن للديموقراطية - شأنها شأن باقي المذاهب والطرائق الوضعية أو المحرفة - سلبياتها وإيجابياتها، بعيداً عن كل الأهواء والحزازات، يكفي أن تكون من صنع البشر ليطالها النقص والعجز. فلكل شيء في هذا الوجود منافع ومفاسد، والحكم الشرعي بُغَلِّبُ دائماً المصلحة على المفسدة، وهو الأساس والمنطلق لتحريم الأشياء أو تحليلها، فمتى غلبت مفسدة الشيء على مصلحته صار حراماً، والعكس صحيح.
فحتى الخمر والميسر - اللذان يبدو ضررها وفسادهما واضحاً للعيان - ذكر الله سبحانه وتعالى السبب الحقيقي لتحريمها ولم ينكر أن فيهما منافع للناس {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}[البقرة].
لا أريد أن أعيد ما قيل وكُتب عن الديموقراطية انطلاقاً من ميزان الشرع الحنيف، فقد أجاد الكثير من علمائنا العاملين، وبينوا المفاسد والآثام الكبيرة لهذا "الدين الجديد" إلى جانب منافعه المعدودة والمحدودة، التي استغلها الناس في مجالات الإفساد أكثر مما استعملوها في مجالات الإصلاح.[1]
صلب الديموقراطية وجوهرها ؛
تقوم الديموقراطية أساساً على فصل الدين عن الدولة وتأليه الإنسان وجعله رباً من دون الله، يشرع ويسن القوانين وفق ما يراه موافقاً لأهواء للناس.
ويُعتبر الدين بالنسبة للديموقراطية العدو الأول والأكبر، كونه يحجم من صلاحياتها ويحاول منافستها في مجال الحكم ثم في المجال الاجتماعي والثقافي بصفة خاصة، حيث تعطي الديموقراطية الحرية المطلقة غير المحدودة - للفرد والجماعة - لممارسة ما يحلو لهم من عادات، واعتقاد ونشر كل ما يرونه موافقاً لأهوائهم حتى وإن كان ذلك مناقضاً ومهدماً للأخلاق والقيم.
كما أن الديموقراطية تسعى إلى هدم كل الحواجر والفوارق الفطرية بين الجنسين، ليتحول المجتمع الإنساني إلى مجتمع بهيمي، تنتشر فيه الفوضى والإباحية وتنخره من الداخل فيصبح قاعاً صفصفاً وخراباً بعد عمار.
هذه أهم الأسس التي يقوم عليها هذا الدين الجديد، المناقض - أصلاً وفصلاً - لدين الله تعالى، وهي الأهداف التي يتوخى أعداؤنا ترسيخها في مجتمعاتنا لكي يبعدوا العباد عن ربهم ويهدموا عقيدتهم ويستبدلوها بعقيدة اللذة والشهوة والهوى، واتخاذ مجموعة من السفلة والسفهاء أرباباً من دون الله، يشرعون لهم من الدين ما لم يأذن به الله، مصداقاً لقوله تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الشورى 21].
ديموقراطية الكفار وديموقراطية المرتدين ؛
وإن كنا لا نريد أن نصل إلى هذا التقسيم، لأن الديموقراطية كفر، والكفر ملة واحدة، وإن تعددت أشكاله وألوانه، ولكن لابد من الإشارة إلى أن هناك ما هو كفر وما هو زيادة في الكفر، لنبين خطورة الديموقراطية المطبقة في بلداننا والفرق الشاسع بينها وبين الديموقراطية الكفرية في بلاد الغرب.
ففي الجانب السياسي مثلاً، تجد بعض النزاهة والشفافية في اختيار الممثلين عن الشعب في المؤسسات التشريعية، ثم تتشكل الحكومة - وفقاً لنصوص الديموقراطية - من الحزب الحاصل على الأغلبية المطلقة أو بتشكيل حكومة ائتلافية من طرف الأحزاب الأكثر تمثيلاً في المؤسسة التشريعية، ثم يكون لهذه الحكومة بعض الصلاحيات الواضحة والاستقلالية في اتخاذ القرارات والآليات اللازمة لتنفيذ برامجها السياسية على مدى فترة حكمها، دون أن يكون لرئيس الدولة أو الملك أي سلطة على هذه الحكومة، إلا إذا ارتأت هي أن تنسحب وتقدم استقالتها قبل انتهاء مدة حكمها، أو يقدم بعض أعضائها على الانسحاب بسبب بعض الفضائح السياسية أو الأخطاء الفادحة، ليُعوَّضوا بأعضاء جدد.(54/396)
أما في بلداننا، فالديموقراطية تعتبر زيادة في الكفر، كونها جاءت بعد ترك حكم الله تعالى، الذي يعتبر كفراً في حد ذاته {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة 44]، واتخاذ دين جديد مكانه، هذا على مستوى تغليظ العقوبة من الوجهة الشرعية. أما من ناحية التطبيق العملي لهذه الديموقراطية، فهناك تحريف لها وتشويه كبير، حيث أنه منذ بداية العملية الانتخابية، ترى التزوير والخداع والغش والتلبيس على الناس، لتنصيب أشخاص أو اتجاهات سياسية معينة سلفاً من قبل السلطة العليا في البلاد (هذه السلطة العليا لا تتبدل ولا تتغير، وتتمثل أساساً في الملك أو الأمير أو الرئيس ومستشاريه بالإضافة إلى المؤسسات العسكرية والقمعية والمخابراتية التي تبقى في أيدي هذه السلطة العليا تتحكم فيها وتضمن ولاءها المطلق في كل حين). أما من يفوز بالمقاعد المعدودة للمؤسسة التشريعية، فيكون خليطاً من التوجهات السياسية المتناقضة، يصعب عليهم الاتفاق على موضوع واحد فضلاً عن المشاركة في تسيير حكومة موحدة، ولكن في بلداننا هناك ديموقراطية من نوع آخر، وتسمى الديموقراطية الملكية أو الرئيسية أو الأميرية، بمعنى أن هؤلاء الثلاثة هم الذين يقسمون المقاعد على كل حزب وفق ما يرونه مناسباً لمصالحهم هم، ثم يختارون رئيس الحكومة بأنفسهم، ويختارون بعد ذلك بقية أعضاء الحكومة، لتكون حكومة مشلولة وعاجزة عن تنفيذ أدنى برنامج نظري، وتظل السيادة الحقيقية بأيدي هذه السلطة العليا، التي تشكل حكومة الظل المتنفذة في البلاد، أحب من أحب وكره من كره، وما زوبعة الانتخابات التي تقام في بلداننا إلا ذر للرماد في عيون الغافلين.
أما في بلدان الكفر الأصلي فهي لا تعدو أن تكون هي الأخرى ألعوبة تتلهى بها الشعوب ويستغلها الساسة لتحقيق مآربهم وترسيخ نوع من الديكتاتورية أو رأي الحزب أو ما يسمى برأي بالأغلبية باسم الديموقراطية. ذلك أن الحزب الغالب هو الذي يفرض سياسته ومذهبه رغماً على أنف الجميع، على الأقل خلال فترة حكمه.
إن الديموقراطية لا تعدو أن تكون غطاء وقفازاً من حرير يخفي قبضة حديدية، يمارس بها النظام الحاكم شتى أنواع البطش والاستغلال والإفساد، ولا يجرؤ أحد من عبيد هذا الدين الجديد أن ينقدها أو يثور عليها حتى وإن لقي في سبيل ذلك الضرر والعنت، فالديموقراطية في نظرهم خيار لا رجعة فيه، ودين يستحق التضحية والفداء، ولا بأس من تفويت مصالح ما دام ذلك يرضي أهواء الأغلبية.
هذا بوجه عام الصورة الحقيقية للديموقراطية في بلداننا وبلدانهم، وهذه هي بعض الأسس التي تقوم عليها وبعض المقدسات التي لا يجوز الخروج عليها بأي حال من الأحوال.
الديموقراطية والتيارات الإسلامية ؛
لقد انقسم التيار الإسلامي - فيما يخص الموقف من الديموقراطية - إلى قسمين رئيسيين:
الأول: اعتبرها وسيلة "حضارية" لتحقيق مصالح الدعوة عن طريق الدخول في الميدان السياسي، ولا تتناقض مع الدين في نظره، ما دام ممارسوها يحترمون قواعد اللعبة، ولا يقودهم ذلك إلى التبرؤ علنياً من دينهم، فبالنسبة لهذا التيار، تعتبر الديموقراطية وسيلة فعالة لنشر الدين ومعالم الدعوة في المجتمع، ومزاحمة الأطراف المعادية للوصول إلى قلوب الناس والتأثير فيهم عبر القنوات السياسية والمنابر الاجتماعية، خاصة المنبر العاجي: "مجلس التشريع"، ولم لا بالنسبة لهم، محاولة الفوز ببعض المناصب الحكومية. ولقد راجت هذه النظرية ولاقت إعجاباً وقبولاً واسعاً في بعض الأقطار التي صارت تحت حكم المرتدين وأهلها مسلمون - وكل بلداننا تدخل تحت هذا المسمى - ، قلت: لقد دخل هذا التيار بقوة في ساحة العمل السياسي، تحت عباءات مختلفة، خاصة عبر جسر ما أسموه بالتحالف السياسي مع بعض الأحزاب المعترف بها من قبل الأنظمة الحاكمة.[2]
والبعض الآخر اضطر إلى تغيير اسمه، وإزالة كل ما هو إسلامي - ظاهراً وباطناً - ليلقى القبول من لدن الأنظمة الحاكمة، وليشارك في هذه اللعبة السياسية إلى جانب بقية الأحزاب القائمة - وأغلبها مرتدة -.[3]
والبعض الآخر أراد أن يبقي على جوهر الإسلام ويرفع شعاراته وادعاء الخضوع لتعاليمه فيما يتعلق بالمجالات الأخرى غير السياسية، وفي الوقت ذاته يرضى بحكم الطاغوت فيما يتعلق بالجانب السياسي، وهي معادلة يستحيل على المرء تحقيقها، إذ كيف يمكن للمسلم أن يجمع بين النقيضين في آن واحد، خاصة إذا تعلق الأمر بمسائل الحكم والتشريع. فإما حكم الله وإما حكم الطاغوت، فليس بينهما التقاء {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَل}.(54/397)
وفي نهاية المطاف نرى تورط هذه الجماعات وسقوطها في فخ العدو، الذي يريد أن يصل إلى ضبط الساحة والتحكم في كل الخيوط، حتى تكون جميع الأطراف المتحركة في ساحة العمل السياسي بعامة وفي ساحة العمل الإسلامي بخاصة، تحت مجهره، لكي يضبط كل حركاتها وسكناتها، هذا بالإضافة إلى المكاسب الكبيرة التي تحصل عليها الأنظمة الحاكمة من جراء التنازلات المتواصلة لهذه الجماعات، حتى لقد أصبح الكثير منها جزء من الكيان السياسي، وطرفا مباشر في الحكم والتشريع ، - وفق أسس الديموقراطية - حتى وإن كانت في موقع المعارضة الصورية - كما يزعمون- .
فنحن نعلم أن الديموقراطية لا قيمة لها ولا معنى بدون ما يسمى بالمعارضة، فسواء كانت هذه الجماعات طرفاً مباشراً في الحكم أو طرفاً من المعارضة، فهي من الناحية الشرعية آثمة بمشاركتها في الحكم والتشريع. بمجرد جلوسها في هذه المجالس التشريعية حيث الأغلبية تكون دائماً للمرتدين وكلمة الفصل لهم في جميع القرارات والتشريعات {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً}[النساء 140].
إن الديموقراطية وسيلة ناجعة لهذه الأنظمة الحاكمة ولأسيادهم الكفار، لإدخال هذه الجماعات في حظيرة الجمود أو التيه، وتجريدها من كل عناصر المقاومة والقوة، بل توريطها في مسلسل الحكم لتغرق في متاهات لا أول لها ولا آخر، وتتحول إلى مجموعة من الدجالين السياسيين، يقولون فلا يفعلون، ويَعِدُون فلا يُوفُون، لا لشيء إلا بسبب غياب الوسائل وعدم امتلاك زمام الأمور.
وهكذا تتحول الديموقراطية إلى ورطة حقيقية ومأزق محرج لهذه الجماعات، فينقلب سحرها عليها، وتؤتى من الجهة التي كانت تظن أنها الوسيلة الأنجع والأسلم والأسرع لتحقيق مآربها وأهدافها الشرعية. ويأبى الله إلا أن يبين لهؤلاء أن طريق الحق أرفع وأشرف وأسمى من هذه السفاسف، طريق لابد فيه من بلاء وعنت وتضحية وفداء، بالغالي والنفيس، بل بأغلى ما يملكه البشر {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة 111].
والأغرب من هذا كله، أننا نجد بعضاً من هذه الجماعات تقاتل في سبيل هذه الديموقراطية وفي سبيل ترسيخها وجعلها الحَكَمُ بينها وبين الشعوب، بدلاً من القتال في سبيل الله وإحقاق الحق عن طريق الجهاد.[4]
كما رأينا بعض الجماعات التي كانت تُحسب على التيار الثاني الرافض للديموقراطية، يغازل الأنظمة المرتدة ويراجع مبادئه ومناهجه، فيلمح بضرورة المشاركة في المسار السياسي، وتغيير الموقف من أركان هذا النظام المرتد، بدءأً من عدم تكفير الحكام الذي يشرعون ويحكمون بغير ما أنزل الله، وضرورة المشاركة معهم بل واعتبارهم ولاة أمور شرعيين للمسلمين، ينبغي طاعتهم والتعاون معهم.[5]
أما التيار الإسلامي الثاني : فهو الذي يعتبر الديموقراطية ديناً مناقضاً ومحارباً لدين الله تعالى، وفَهِمَ أبعاد هذه اللعبة القذرة، فلم يلهث وراء سرابها، وسلك الطريق الأصوب في بلوغ الغاية وتحقيق الأهداف الشرعية، طريق الكفر بالطاغوت وبألاعيبه، والإيمان بالله تعالى وبأوامره المقدسة {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}[الأنفال 39].
فلم تنطل عليه اللعبة، ولم يعط الفرصة لهؤلاء الطواغيت لمعرفة مكامن قوته ومواطن ضعفه، بل عمد إلى أسلوب الكر والفر، وإلى الإعداد الحقيقي بعيداً عن أعين هؤلاء الأعداء، ونجح في كبح جماح هواه للحصول على فتات السلطة وأوهامها مقابل التنازل ولو عن مثقال ذرة من مبادئه، ففهم قوله تعالى في شأن هؤلاء الأعداء {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون}[القلم 9]، بل إنه سارع إلى قطع كل الحبال الشيطانية التي ستؤدي به يوماً ما أو في لحظة من اللحظات إلى مجرد القعود معهم لمناقشة هذا الأمر فضلاً عن المشاركة فيه والانغماس في فتنه حتى النخاع. و{ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم}[الجمعة 4].¨
[عن مجلة الانصار]
1 - انظر على سبيل المثال لا الحصر: " الديموقراطية دين" الشيخ أبو محمد عاصم المقدسي ، "هذه هي الديموقراطية، فهل أنتم منتهون" للشيخ أبي بصير عبد المنعم حليمة…
2 - تبرز حركة "الإخوان المسلمون" في مصر، كأهم مثال في هذا المجال.
3 - انظر على سبيل المثال ما حصل في تونس وتركيا والجزائر والمغرب.(54/398)
4 - هذا ما فعلته بعض الفصائل في "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في الجزائر، بعد إجهاض المسلسل الانتخابي عام 1991، متمثلاً فيما يسمى بالجيش الإسلامي للإنقاذ، الذي ما فتئ يعلن بأن قتاله إنما هو من أجل إعادة المسار الديموقراطي والاحتكام إلى الشعب.
5 - هذا ما حصل لبعض القيادات التاريخية للجماعة الإسلامية في مصر داخل السجن، والتي نجحت في إقناع قاعدة عريضة من أتباع هذه الجماعة خارج السجن.
=============(54/399)
(54/400)
الديمقراطية .. الصنم العصري
[الكاتب: حسن محمد قائد]
تبرز من حين إلى حين آلهة تطغى على الناس ، وتكون لها الكبرياء والسيطرة المادية أو المعنوية على قطاع كبير من الخلق ، فطورا تكون تلك الآلهة متمثلة في قطع من الأحجار الصماء صنعتها ونحتتها أيدي عابديها ، وتارة تبرز وتتمثل في أشجار تملأ قلوب عبدتها خضوعا واستسلاما ومحبة ، وحينا ينال ذلك الوصفَ بشرٌ أو حزبٌ تنقاد له الجموع الغفيرة انقياد الأعمى لقائده .
ووراء هذه الآلهة كلها يكمن الإله الداعي إليها والمزين لها والمجمل لعبادتها في أعين الناس ألا وهو الشيطان والهوى ، قال الله تعالى {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} ، ويقول عن الهوى {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} .
ولعظم شر الهوى وسوء عاقبة من استسلم له وانقاد لداعيته لم يرد ذكر الهوى في القرآن إلا على سبيل الذم ، وما ذلك إلا لأنه لا يقود متبعه المنساق وراءه والمستسلم له إلا لكل ما هو مذموم ، وليس ثمة ذم للمرء أعظم من أن يكون عابدا لغير الله مشركا بربه ومولاه ، وهذا مما يبين وهم من يحسب أن الإله المعبود الذي قد يشرك به مع الله لا بد أن يكون مجسما محسوسا ملموسا كالأشجار والأحجار والبشر والصور وغيرها ، بل إن الأمر المعنوي يمكن أن يصير إلها معبودا من دون الله أو معه تنقاد له القلوب وتستسلم الأفئدة وتنصب الحروب وتخضع الرقاب كما هو الحال في الهوى ، كما قال سبحانه : {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله} الآية.
وإذا أردنا أن ننظر في أحد أبرز الآلهة التي خضعت لها رقاب الكثيرين من الخلائق في هذا العصر سواء في ذلك كبراؤهم وصغارهم قادتهم وشعوبهم لتجلى ذلك في " الديمقراطية " ، التي تشربت حبها القلوب ، ولهجت بذكرها الألسن ، وتفاخرت بعبادتها والتدين بها الدول ، وجردت لأجل نيلها أو نشرها وتحكيمها الأسنة ، ونبذت بسبب نبذها شعوب ، واشتغلت بمدحها وتزيينها والدعوة إليها الأقلام والصحف ، وسخرت الإذاعات مسموعها ومرئيها ، وأنفقت نفائس الأموال وكرائمها ، هذا الإله الذي اغتر به كثير من المسلمين وصاروا من الدعاة إليه المتشبثين بنهجه مغترين في ذلك بدعاوى مزخرفة ، وصخب هائم ، وتيارات هائجة وشعارات زائفة ، أغرقتهم في وحل الديمقراطية الآسن ومستنقعه المنتن حتى المشاشة تحت دعاوى الحرية العدالة والمساواة.
إن الأمة الإسلامية وهي تتجرع غصص المرارة ، وتلعق موائد الأسى من جراء تسلط أنظمة ديكتاتورية متغطرسة ، شعارها ولسان حالها ينادي على الملأ عبر أبواقها {أنا ربكم الأعلى} ،و {ما علمت لكم من إله غيري} ،و {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} ، بقيت تبحث عن بصيص أمل تخرج به من متاهات الظلمات الحالكة التي أحدقت بها من كل جانب ، وتنجو من القمع والبطش والإذلال والقهر والتنكيل الممارس عليها من تلك الأنظمة بالغدو والآصال ، وتتمنى الحصول على أدني حقوقها المنهوبة ، ونيل شيء من كرامتها المسلوبة ، فغدا حالها كالغرِق الذي يبحث عن ما ينقذه ولو كان قشة تتقلب بها الأمواج .
فلما طال الأمد بالأمة واستحكمت حلقات الظلم عليها وبلغ منها الجهد والقهر أيما مبلغ ، ضاقت بحالها ذرعا وعادت تتلمس أقرب مخرج وأدني منفذ ينجيها مما هي فيه ، وتستنشق منه شيئا من نفس الحرية والأمن ، وفي ذات الوقت كانت الدعاية العالمية بمؤسساتها الإعلامية الضخمة قد أوصلت النظام الديمقراطي أعلى المراتب ، وأظهرته على أنه المنقذ الوحيد للبشرية من ضيمها والمخرج لها من اضطهادها ، والكفيل بإعطائها حقوقها كاملة غير منقوصة ، والضامن لنيل حرياتها والتسوية بينها من غير حيف ولا إجحاف .
زد على ذلك ما رأته هذه الشعوب من تطبيق هذا النظام وافتتان الأنظمة والشعوب التي تبنته وأقامته واعتنقته به هذا مع ما انضاف إلى ذلك من عدم إدراك المفاسد العظيمة التي تضمنها هذا النظام الأرضي ، ومع انهيار النظام الشيوعي الذي أطبق العقلاء على مصادمته للفطرة البشرية وفشله الذريع في البلدان التي حكمها كافة .
فبهذه العوامل وغيرها كثير اتجهت كثير من الشعوب الإسلامية نحو ذلك النظام طامحة في الحصول على ما سلبه منها الديكتاتوريون .
ووجد بعض الطغاة المارقون أن في هذا النظام متنفساً لامتصاص امتعاض شعوبهم التي يحكمونها وتخديرها وشلها وأمن جانبها عن الثورة ضدهم ، فأظهروا انتماءهم لدعاته ومنظريه بل وللحاكمين به ، فأخذوا ذلك النظام بحذافيره من أهل الغرب المتهالك وسلكوا نهجهم حذو القذة بالقذة إلا أنهم اكتفوا فيه بالمظاهر واقتصروا على الظواهر ، وبقوا على حقائقهم وفي واقع أمرهم منتهجين سياسة {ما علمت لكم من إله غيري} ، وجعلوا دعاوى الانتماء لهذا النظام عصا غليظة ومقامع تطرق من أراد تغيير تلك الأنظمة بطرق تتناقض وهذا النظام واعتبر الخروج عن هذا النهج حجة دامغة تكفي للإدانة وإنزال أشد العقوبات وأنكاها بصاحبه.(54/401)
ولو وقف الأمر عند تبني تلك الأنظمة الديكتاتورية لمسلك الديمقراطية ـ ولو ظاهرا ـ والتمسح بمسوحه ، وتقمص ألبسته ، لهان الخطب والمصاب ، فهم بذلك لم يزيدوا على أن ينتقلوا من كفر إلى كفر آخر ، ومن ظلمة إلى ظلمة .
ولكن ما يدمي القلب ويعد مصيبة حقيقة تستحق الوقوف عليها والتمعن فيها ، هو تبني بعض الحركات الإسلامية للمسلك الديمقراطي ظاهرا وباطنا واعتناقها له قلبا وقالبا ، بل والدعوة إليه والانتصاب للدفاع عنه ، والحث على سلوكه واعتباره الطريق أو القناة الشرعية الوحيدة التي يمكن من خلالها نيل بغيتنا ، والوصول إلى مقصدنا ، ومن ذلك إقامة دولة الإسلام على منهاج النبوة ، بل فوق ذلك التشنيع على من خرج عن هذه القناة " الشرعية " ونعته بأشد الألفاظ وأقساها والتبرؤ منه ، وأصحاب هذا المنهج لا يخفون ذلك أو يسرون به ، بل ينادون به جهارا نهارا ويبثونه وينشرونه عبر الإذاعات والصحف والجرائد في مقالاتهم ولقاءاتهم مما ساعد في انتشار هذا التوجه وتغلغله في قلوب الناس واقتناعهم به.
إننا إذ نقول هذا الكلام لا نرمي به جزافا ، ولا نقوله حدسا ، ولا نسطره تخمينا ، ولكنه الحقيقة المرة الأليمة التي استمرأتها النفوس فلم تعد عندها بذاك المنكر الذي يعبأ به أحد ، ولا بتلك البشاعة التي تنفر عنها وتبتعد منها ، وإنه والله - لو يعلمون - عظيم فهو أول ما يكون مسخ وتشويه لدين الله تعالى كلية .
وهو استبدال دين جديد بدين الله سبحانه وتعالى بكل ما تعني هذه الكلمة وتحمله من الدلائل ، {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } .
وهو انبطاح واستسلام وخضوع وخنوع أمام هجمة الكفر الشرسة على شرع الله تعالى .
وهو تفلت من التكاليف وتنصل من الأعباء وتخل عن المبادئ والأصول بصورة مقيتة مهينة ، ومن ثم التفات إلى الدعة وبحث عن الراحة والركون للظالمين وارتماء تحت أقدامهم وعلى أعتابهم والتملق لهم لنيل رضاهم وكسب مودتهم .
وهو تهوين لعظائم الأمور وكبار المسائل المبتوتة التي لم تكن يوما ما مجالا للنقاش والجدل وإضعاف لها في قلوب الناس ، فأصبح الإسلام بقضاياه الكبرى ومسائله العظيمة غرضا لألسنة التافهين ممن تقمصوا للنيل منه أثوابا شتى " كالمفكرين والمحللين والمجددين " وغيرهم .
وهو تمييع للثوابت والعقائد والقطعيات وتمطيط لها لتوافق مجسم الديمقراطية الخبيث .
وهو فتح لباب الزندقة والإلحاد والمجون الخلاعة والفساد والإفساد وجعله جنبا إلى جنب مع دين التوحيد والنقاء والعفة والطهارة والصلاح والإصلاح .
وهو إعطاء للمسوغات والمبررات لما يقوم به كل ضال مضل أو علماني قذر أو شيوعي ملحد إذ العباءة تسع الجميع والكل فيها سواسية والحقوق مكفولة فلا فضل لمسلم على شيوعي أو نصراني أو يهودي أو علماني إلا بالقرب والولاء والالتزام بالنظام الديمقراطي .
وهو إلغاء وإزالة تامة للحدود والفواصل الواضحة الجلية بين سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين والتي جاء الإسلام ببيانها وإيضاحها والتحذير من خلطها وإدماجها .
وهو إماتة تامة لعقيدة الولاء والبراء والحب والبغض التي هي أوثق عرى الإيمان .
أليس هذا كله وزيادة هو حقيقة ما تدعو إليه الديمقراطية وتؤدي إليه مهما حاولنا أن نظهر محاسنها وننمق ثوبها ونجمل وجهها العبوس أمام الناس .
وأين أين دين الله الواضح الجلي الظاهر البين الساطع اللامع من هذه الترهات والظلمات الحالكات والدهاليز الملتوية ؟
وإلا فما هو موقع الولاء والبراء والحب والبغض في النظام الديمقراطي ؟
ما هو موقع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان في النظام الديمقراطي ؟
ما هو موقع إقامة الحدود وعلى رأسها حد الردة في النظام الديمقراطي ؟
ما هو موقع إقامة أحكام أهل الذمة بدءا بضرب الجزية وانتهاء بالشروط العمرية التي اتفق عليها العلماء؟
ما هو موقع القتال في سبيل الله بشقيه الطلبي والدفاعي في النظام الديمقراطي؟
وإذا كنا نقر بكل ما جاء من طرف هذا النظام ونمدحه ونثني عليه وندعو إليه وندعي مع ذلك كله أنه والإسلام لا يختلفان ولا يتنافران أو يتنافيان فإلى أي شيء ندعو الناس؟
ولماذا نبذل جهودنا في غير طائل ، ونضيع أوقاتنا دون مبالاة ، ونهدر طاقاتنا ونحن أحوج ما نكون إليها ، ونجري لاهثين وراء سراب لا ينتهي؟
لماذا لا نكون صريحين مع أنفسنا مستشعرين للأمانة العظمى المتمثلة في الحفاظ على نقاء وصفاء وتميز الدين الإسلامي بعقيدته وعباداته وشرائعه وشعائره ووسائله ومقاصده دون خلط أو لبس؟
أترى من قبل بهذا النظام وارتضاه له منهاجا هل أبقى لدينه الذي يدعو إليه شيئا ؟!
إن مما هو معروف لدى كل مسلم أن الغايات لا تبرر الوسائل ولا تجعل الباب مفتوحا للوصول إليها بأي سبيل كانت ، بل إن الشارع كما جعل المقاصد والغايات مصونة ومميزة لا تقبل التشويه والتحريف والخدش ، فكذلك السبل والوسائل الموصلة إليها لا تحتمل التشويه والتحريف والخدش بل هي مصونة مميزة ولها العناية الشرعية التامة المكافئة للعناية بالغايات .(54/402)
وإن من أعظم ما حرص الإسلام على بقاء صفائه ونقائه وتميزه ، هو شخصية هذا الدين وقبوله كما أنزل بأوامره وزواجره وحدوده وقواعده بعيدا عن التمييع والتشويه والغلو والإفراط والتفريط ، والحفاظ عليه من أن يَفرُط إليه وصم أو يلحقه ويلجه ما ليس منه ، وهذا ما جاء مؤكدا في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، قال الله تعالى : {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون خبير} وقال سبحانه : {واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين} ، وقال سبحانه {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} ، وقال سبحانه {فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم} ، وقال جل من قائل: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} وقال سبحانه {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} ، وغيرها من الآيات الكثيرة الدالة على ذلك .
وقال صلى الله عليه وسلم : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)) ونحو ذلك من الأحاديث .
والمقصود من ذلك أننا وفي غمرة السعي الدءوب لإقامة دولة للإسلام أفرادا وجماعات ينبغي أن لا نغفل عن هذه القضية الكبيرة ، حيث يصبح حالنا كمن يهدم ما يبنيه بيديه ، ويفسد ما يريد إصلاحه وتغدو أقوالنا تدعو الناس للتمسك بالإسلام وتعاليمه وسلوكه وقيمه وعقائده في الوقت الذي تكذب أفعالنا ما نقول وتعطي الناس صورة مغايرة بل مضادة لما تطبعه وتقرره أقوالنا في أذهانهم ، فكيف إذا اجتمعت أقوالنا وأعمالنا واعتضدت على الدعوة إلى مناهج أرضية ونظم جاهلية ما أنزل الله بها من سلطان ، بل هي من خالص ما أوحاه الشيطان إلى أوليائه لا شك أن الطامة عندها ستكون أكبر والمآلات السيئة أخطر.
ثم إن محاولة إظهار الدخول " للمسرح " الديمقراطي والمشاركة في " لعبتها " بأنه مجرد استغلال واستفادة من هامش الحريات التي يقررها هذا النظام ، مع زعم الحفاظ على تميز الإسلام وشخصيته المستقلة لَهُوَ ضرب من العبث ونوع من الاستخفاف بعقول الناس ومخادعة مكشوفة للأنفس ، إذ إن الواقع العملي والقولي ممن خاضوا غمارها من الإسلاميين يدل على خلاف ذلك تماما فلم يعد غريبا أن تسمع من يقول منهم : أنا لست ضد الديمقراطية ، أو أنا مع الديمقراطية بكل أبعادها ، أو إن الديمقراطية هي السبيل أو القناة الشرعية التي نتحصل من خلالها على الحقوق المهضومة والمسلوبة ، أو أنا مع التعددية المطلقة ، أو أنا ضد من يحارب النظام الديمقراطي.. إلخ ، وهذا على صعيد التصريحات والأقوال .
أما في جانب الأفعال فثمة ما هو أشد وأدهى وأمر وأنكى مما لا يحتاج إلى إثبات وبيان لظهوره وشيوعه ، فالواقع أفصح بيانا وأبلغ لسانا.
نعم .. جاءت الديمقراطية بشعار " حرية العقيدة " بكل ما تحمله هذه الكلمة من المعاني المطلقة من كل قيد والسائرة في كل درب فنادى المغرمون بها - من الإسلاميين - وهم في هيام الإعجاب ببهرجتها وعلو صخب دعاتها وذويها : أيها الديمقراطيون لم تأتوا بجديد ، فإن حرية العقيدة مما سبقكم إليه دين الإسلام ، فهي من مقرراته وآدابه وأصوله والدليل : {لا إكراه في الدين} ، إذاً وكما يريد الإسلاميون الديمقراطيون ـ هذا قاسم مشترك بين الديمقراطية والإسلام فلم الإنكار والتشهير.
إن من يكون له أدنى إلمام ببدهيات الإسلام ومسلماته يعلم علم اليقين أن " حرية الاعتقاد " بالمفهوم الذي تدعو إليه الديمقراطية وتجعله مبدأ من مبادئها ويعد أصلا لا ينفك عنها ، يصطدم اصطداما كليا ويضاد مضادة تامة أصولَ الإسلام وقواعده جملة وتفصيلا فضلا عن أن يكون جزءا منه أو من مقرراته التي يدعو إليها .
وأول ما تصطدم به وتناقضه " حد الردة " ، فإن صلى الله عليه وسلم قال في حديث صحيح صريح : ((من بدل دينه فاقتلوه)) رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه ، وهذا ما أجمع عليه العلماء من الصحابة ومن بعدهم وقرروه قولا وعملا ، وإنما خالف من خالف في المرأة المرتدة مع أن الأدلة مع من سوَّاها بالرجل لقول صلى الله عليه وسلم : ((أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فان عاد وإلا فاضرب عنقه ، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فان عادت وإلا فاضرب عنقها ))، قال الحافظ في الفتح : (وسنده حسن)، فالمقرر في شريعة الإسلام أن من ارتد عن دين الله تعالى إلى أي دين كان سواء صار يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا أو وثنيا أو شيوعيا أو علمانيا فليس له إلا الرجوع إلى الإسلام أو القتل مهما تدثر بثار الفكر والحرية والتجديد والنضوج والحضارة إلى آخر القائمة المعاصرة التي بها هدم الإسلام ومزقته السهام .(54/403)
فهل يمكن أن يتفق هذا الحكم الصريح المجمع عليه مع معنى " حرية الاعتقاد " الذي تقرره الديمقراطية بأي وجه من أوجه الاتفاق ، والذي طالما يريد الديمقراطيون أن يجعلوه من شريعة الإسلام المستقرة المقررة بحجة {لا إكراه في الدين} ؟!
فالديمقراطية تقول لمن أراد أن يكون شيوعيا ملحدا ، لك ذلك وكن ما شئت فلا حساب ولا عقاب ، والإسلام يقول مخاطبا المسلمين : ((من بدل دينه فاقتلوه)) .
والديمقراطية تقول لمن شاء أن يصير يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا أو متحللا من كل دين : لك ذلك ولا تثريب عليك ولا حرج ، والإسلام يقول للمؤمنين به السالكين سبيله: ((من بدل دينه فاقتلوه)) .
بل تزيد الديمقراطية لكل أولئك : أدع إن شئت إلى شيوعيتك أو يهوديتك أو نصرانيتك أومجوسيتك أوعلمانيتك أوإباحيتك فحقوقك مضمونة وحريتك محمية مصونة بموجب هذا النظام ، والإسلام يقول بصوت عال صريح فصيح : ((من بدل دينه فاقتلوه)) ، ويقول : ((من رأى منكم منكرا فلغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن فلم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان)).
فكيف بعد هذا كله يلتقيان ، وعند أي نقطة وفي أي طريق يجتمعان؟
وأين " حرية الاعتقاد " التي تدعو إليها الديمقراطية من قول الله سبحانه {لا إكراه في الدين} والذي يعلم كل مسلم بما يقرأه من سير التاريخ ويعلمه من بدهيات الشرع أن هذا المعنى لا يمكن أن يكون بحال من معاني هذه الآية ، فما لنا ندع المحكمات الواضحات من الآيات البينات ونحاول أن نستخرج أحكاما ننسبها للشرع وهي أقرب ما تكون إلى الخزعبلات والأوهام.
سارت مشرقةً وسِرتَ مغرباً ……شتّان بين مشرِّقٍ ومغربِ
ولهذا لما رأى بعض شيوخ الديمقراطية هذا التضاد الجلي والتصادم الواضح بين " حرية الاعتقاد " حسب المفهوم الديمقراطي ، وبين وجوب إقامة حد الردة في دين الله ، ذهب يبحث ويتحسس عن الأقوايل والمذاهب الشاذة والمغمورة لبعض العلماء ليتمكن بها من التلفيق بين دين الله تعالى وسبيله من جهة وبين الطريق والمفهوم الديمقراطي من جهة أخرى ، ولو أدى ذلك إلى التخلي عن الأحاديث الصحيحة الصريحة ومخالفتها ومخالفة إجماع الصحابة والعلماء وتخطئتهم .
ولم يكن ذلك عن استنباط منضبط واجتهاد صحيح واتباع للقواعد الأصولية المعروفة ولا نظر قويم في الأدلة الشرعية ، ولكن كان استسلاماً وانهزاماً وتراجعاً أمام الهجمة الشرسة للثقافة الغربية ، وإرضاء للديمقراطيين ونزولا عند رغباتهم بأي وسيلة كانت وإقناعا لهم بأن المفهوم الديمقراطي المنتشر والشائع لحرية الاعتقاد هو عينه المفهوم الإسلامي الأصيل!!
إن حرية الاعتقاد التي تدعو إليها الديمقراطية لسان حالها وربما مقالها يقول جهارا نهارا لأبي بكر الصديق والصحابة أجمعين بل وقبلهم للنبي صلى الله عليه وسلم لم هذا العنف وهذا التطرف ؟ وعلام تصادرون حقوق الآخرين وتهضمون أراءهم وتكبلون حرياتهم ؟ ولماذا تكرهون الناس على عقيدة لا يريدونها وتلزمونهم بشريعة لا يرغبون في اتباعها ؟ لقد كان عليكم - وفق النظام الديمقراطي المتحضر! - أن تفسحوا المجال لحزب مسيلمة الكذاب ، وحزب طليحة الأسدي وحزب سجاح ليبينوا برامحهم وتقبلوهم كمعارضة في دولتكم ويرشحوا أنفسهم للرئاسة جنبا إلى جنب مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويعرضوا خططهم وبرامجهم ويظهروا عقائدهم للناس الذين لهم القول الفصل في اتباع من شاءوا واختيار من أرادوا بعيدا عن سفك الدماء وعن إهدار النفوس وعن بذل كل تلك الطاقات والجهود والتضحيات والجراحات !!
هذا هو منطق الديمقراطية وتلك هي دعوتها ، ألا بعدا بعدا لهذه الحرية وسحقا سحقا لذلك الدين الأرضي الخبيث.(54/404)
نعم .. جاءت الديمقراطية قائلة لنا إن الناس تحت نظامها وعباءتها سواسية ما داموا منضبطين بقواعدها ومحترمين لأنظمتها ومستمسكين بقوانينها ، سواء في ذلك المؤمن والكافر ، والصادق والمنافق ، والموحد والملحد ، والصديق والزنديق ، والمغضوب عليهم الضالون والمتقون المهتدون ، ولكنا وجدنا كتاب الله الناطق بالحق الداعي إلى الهدى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم خبير يقول لنا: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون} ، ويقول : {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} ، ويقول :{أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} ، ويقول : {أفمن وعدناه منا وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين} ، ويقول :{أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون}، ويقول :{أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} ، ويقول : {وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون} ، ويقول:{أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} ، ويقول:{أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم}، ويقول:{لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} ، فأين هذا مما تدعو إليه الديمقراطية وتجعله أصلا من أصولها التي لا تقبل التحوير ولا التغيير؟
فلما ولج بعض الإسلاميين حلبة الديمقراطية وخاضوا غمارها ودخلوا لعبتها ووجدوا هذا الأصل الأصيل مرتكزا من مرتكزاتها بمفهوم واضح ومحدد وأنه ليس محلا للنقاش فضلا عن الإلغاء ، لم يجدوا بدا من البحث والتنقيب عن ما يسايرون به مفهومها من شريعة الإسلام ، ولكن أنى لهم هذا وصريح الآيات المذكورة آنفا يناقض هذا المفهوم ويضاده من كل الوجوه جملة وتفصيلا وهنا وقع الحرج بين اختيار النهج الديمقراطي كما هو بمفهومه ومن ثم طرح كل ما تدل عليه تلك الآيات ، أو قبول هذه الآيات بدلالاتها الواضحة الجلية ومن ثم التبرؤ من المسلك الديمقراطي وكشف حقيقته وبيان مصادمته لدين الله تعالى وأنه لا وجه لالتقائهما بأي حال من الأحوال .
وللأسف - ونقولها بمرارة- إن كثيرا منهم راح يلوك العبارات الممجوجة غير مكترث بشيء من تلك الأدلة مسويا بين النصارى والمسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم ، وصار النصارى - حسب عباراتهم - إخوانا لهم في الوطنية ، بل وجعل حق الترشح للرئاسة مشروعا لكل من هب ودب - ما دام محترما للمشروع الديمقراطي- بدءا من المسلم التقي وانتهاء بالشيوعي الملحد ، وعاد الأمر والقول الفصل في ذلك إلى الشعب ونسي قوله تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} وخالف الإجماع المنعقد على عدم ولاية الكافر على المسلم في أي شيء .
أما عن الشروط العمرية المعروفة والمجمع عليها على الجملة والمتعلقة بأهل الذمة ، فلم يكن ثمة أهون من تحويرها بل ردها وجعلها اجتهادا خاصا في زمن خاص لظروف خاصة وكأنهم لم يقرءوا {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} ، فانحسرت بل اندثرت بذلك أوثق عرى الإيمان ، وألغيت عقيدة الولاء والبراء ، فظهر فساد كبير وشر مستطير مصداقا لقول الله تعالى :{والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} .
فهل يعي الديمقراطيون مدى الكارثة والطامة والداهية التي يجرونها إلى أمتهم بذلك ، وكيف تصير الديمقراطية التي تدعو لتلك التسوية المطلقة من دين الله تعالى ، ألا يكفي لنبذها أن تصبح القضايا المسلمة والقطعية في شريعتنا موضع نقاش وأخذ ورد.
نعم.. جاءت الديمقراطية لتقول لنا إن الشعب في النظام الديمقراطي هو الحكم والمرجع ، وله كلمة الفصل والبت في كل القضايا ، فحقيقته في هذا النظام تقول : {لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، له الحكم وإليه يرجعون} إرادته مقدسة ، واختياره ملزم ، وآراؤه مقدمة محترمة ، وحُكمُه حكمة وعدل ، من رفعه رفع ومن وضعه وضع ، فما أحله الشعب هو الحلال ، وما حرمه هو الحرام ، وما رضيه قانونا ونظاما وشريعة فهو المعتبر ، وما عداه فلا حرمة له ولا قيمة ولا وزن ، وإن كان دينا قويما وشرعا حكيما من عند رب العالمين .
وهذا الشعار أعني حكم الشعب للشعب هو لب النظام الديمقراطي وجوهره ومحوره وقطب رحاه الذي تدور عليه كل قضاياه ومسائله فلا وجود له إلا بذلك ، فهذا هو دين الديمقراطية الذي تدعو إليه جهارا نهارا ويقرره منظروها ومفكروها ودعاتها على رؤوس الأشهاد ، وهو ما نشاهده ونلمسه في الواقع الذي نراه ونعاينه.(54/405)
فأين هذا الكفر والضلال والخبال مما هو معلوم في دين الله تعالى بالاضطرار من أنه لا حكم إلا لله ، ولا شرع إلا ما أنزله على نبيه ومصطفاه ، وأن الجاهلية وصف لكل شرع سواه ، والذي تقرره وتنص عليه آيات وأحاديث لا تعد ولا تحصى ألم يقل الله تعالى : {أفحكم الجاهلية يبغون ، ومن أحسن من حكما لقوم يوقنون} ، ألم يقل سبحانه : {إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه} ، ألم يقل : {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ، وإذا قيل لهم تعالوا إلى أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} ألم يقل {ولا يشرك في حكمه أحدا} ، ألم يقل :{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } والظالمون والفاسقون ، ألم يقل:{وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} ، والآيات الواردة في هذا الصدد يضيق المجال بذكرها هنا ، فلماذا نصم آذاننا ونعمي أبصارنا عنها ونوليها ظهورنا .
أليست هذه الآيات من الواضحات البينات الجليات التي لا مجال لتأويلها أو تحويرها أو تجاوزها ، أليس مدلول تلك الآيات كلها يصطدم اصطداما مباشرا لما تدعو إليه الديمقراطية وتعتبره لبها وحقيقتها ، أليس قبول هذه الأفكار والتسليم بها والاستسلام إليها يقابله اصطلام ونسف لقضية هي من أكبر وأعظم وأخطر القضايا في دين الله تعالى؟
إن ما يقره ويقبله النظام الديمقراطي من بعض الحدود والعقوبات والشرائع التي توافق دين الإسلام لم يقبلها أو يقرها لأنها دين ملزم وشريعة محكمة من عند الله سبحانه لا يجوز الخروج عنها أو ردها أو تعقبها ، ولم يقبلها استسلاما وإذعانا وانقيادا للأوامر الإلهية إنما تقر وتقبل ويعترف بها وتحترم لأن الشعب - وهو الحَكَم في هذا النظام - قد أقرها ورضيها وصوت لأجلها ، ولو أن القانون نفسه رفضه الشعب في جولة أخرى من جولاته التي لا تنتهي لكان ذلك القانون ملغى ولا قيمة له ولا وزن ولا يستحق أن يحترم أو يقدس ، فما أبعد هذا عن قول الله تعالى : {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} ، وعن قوله تعالى : {والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب} ، وأهله أحق الناس وأولهم دخولا فيمن نفى الله عنهم الإيمان مقسما بنفسه المقدسة وذلك بقوله: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما). الآية.
ومما يشار إليه في هذا الصدد أن الإسلاميين الديمقراطيين ورغم وضوح هذا التضاد والتعارض لكل مسلم بين نظام الديمقراطية ودين الله تعالى إلا أنهم أبوا إلا أن يقحموا هذا المفهوم الغربي الغريب في الإسلام بشتى الطرق وتكلفوا في ذلك تكلفا شنيعا وتعسفوا تعسفا فظيعا كقولهم : إن هذا من الشورى التي ذكرها الله في كتابه بقوله : {وأمرهم شورى بينهم} وقال لنبي صلى الله عليه وسلم :{وشاورهم في الأمر} ، فأصبحت - عندهم- " سلطة الشعب ورأيه " مع " الشورى " بالمفهوم الإسلامي وجهان لعملة واحدة ، وما هي - كما قال بعضهم - إلا بضاعتنا ردت إلينا فلم الحرج إذاً في قبولها؟!
بل لم يكتف بعض الديمقراطيين بذلك التكلف والتعسف ونظرا للأسئلة الملحة والمحرجة والمتكررة التي تأتيهم من هنا وهناك عن طبيعة رأيهم فيما إذا اختار الشعب أن يحكم بالنظام الشيوعي مثلا أو غيره من الأنظمة الكافرة مجيبا بكل صراحة ووضوح : لو فاز الحزب الشيوعي فسأحترم رغبة الشعب واختياره، ومثل هذه العبارات في تصريحاتهم ولقاءاتهم كثيرة جدا .
فليت شعري ما هو الإسلام الذي يدعو إليه هؤلاء وهم يقبلون ويعتنقون الديمقراطية - وهي دين كما ترى - بحذافيرها ويرددون شعاراتها ويقررون مبادئها ويمدحون ويزكون حقائقها كما سطرها أساطينها ، هلا إذ عجزوا عن المواجهة وتحمل أعباء التكاليف انزووا جانبا وحفظوا على أنفسهم دينهم وعقيدتهم وتجنبوا إدخال الناس في دوامة اللبس والتشويش وخلط الحق بالباطل.
إن تتبع تفاصيل مصادمة النظام الديمقراطي لدين الله تعالى لا يناسب هذا المقام وهو أفدح وأقبح مما يتصوره كثير ممن جروا في ركابها وانساقوا وراء بهرجتها واستظلوا بظلها ، ولكنا نقول في الختام :
إن فتنة الديمقراطية التي دهمت الساحة الإسلامية اليوم هي في حقيقتها وواقعها أعظم وأدهى من فتنة خلق القرآن التي أصيبت بها أمتنا حقبة من الزمن ، أو على الأقل لا تقل عنها خطورة ذلك أن فتنة خلق القرآن - مع فظاعتها وعظمها - كانت محصورة في جانب من جوانب هذا الدين حيث لم تتدخل في أخلاق الناس أو سلوكهم أو عباداتهم أو معاملاتهم أو علاقاتهم مع أعدائهم وما تقتضيه من العداوة والبغضاء والبراءة ، هذا مع وجود وتوافر العلماء الصالحين الأثبات الذين تصدوا لها بقوة ووقفوا أمامها بحزم حتى انكشفت غمتها وأزيلت ظلمتها ، ونالوا أوسمة الشرف والرفعة ووضع لهم القبول في الأمة .(54/406)
أما فتنة اليوم المتمثلة في هذا الدين الجديد - بما تحمل هذه الكلمة من المعاني - فإنها لم تترك شيئا من دين الله تعالى إلا ودخلت عليه وأفسدته ، فنال شرها وبلغ إفسادها العقائد والشرائع والأخلاق والعبادات ، وتجرأ الزنادقة على الله سبحانه وعلى دينه وأنبيائه وجاهروا بالكفر وتبجحوا به دون خشية ولا وجل .
زيادة على ذلك أن القائمين على هذا المشروع والمروجين له هم في نظر الناس الموجهون والقادة والصفوة والمفكرون ، فكلمتهم لها وزنها وأعمالهم محسوبة على هذا الدين مع قلة المنكرين وضعف صوتهم .
فلهذا لقيت تلك الفكرة رواجا في أوساط الناس ، وتهافت كثير من المسلمين عليها تهافت الفراش على النار .
فعلى من أقحموا أنفسهم في هذا النفق المظلم الخطير أن يتنبهوا ويحذروا فإن أمامهم يوما تبلى فيه السرائر ويظهر ما في القلوب والضمائر ، {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا} ، {يوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ، يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا} .
وعليهم أن يدركوا مدى المصيبة والفادحة التي يجرونها بأعمالهم لأمتهم وأن يعلموا أن ضريبة الذل والهوان التي يدفعونها تحت قبة البرلمان وفي مجالس الشرك والتشريع أو عند صناديق الاقتراع هي أكبر بكثير من ضريبة العزة التي سيقدمونها إذا ما وقفوا يدعون لدين الله تعالى بوضوح في العقيدة وصراحة في المنهج وجلاء في الفهم وتميز في العمل وتجرد من غير خلط ولا لبس وإن ظهر للعيان أن الأمر خلاف ذلك .
فهل ننتبه لهذا ونرجع إلى الحق ونخضع له وننقاد إليه قبل فوات الأوان فإن خير الخطاءين التوابون .
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
=============(54/407)
(54/408)
الحرية بين الإسلام والديمقراطية
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.
وبعد...
لا توجد كلمة تغنت بها الشعوب، واستهوتها قلوبهم ككلمة "الحرية"!
تنادوا بها في كل وادٍ ونادٍ، وفي كل خطبة ومقالٍ أو كتاب، ورفعوها شعاراً، وجعلوها غاية يرخص في سبيلها كل غالٍ ونفيس!
وفي كثير من الأحيان ينادون بها ولا يعرفون ما الذي يريدونه منها؟!
إلى أن أصبحت هذه الكلمة - لشدة فتنة الناس بها - مطية دهاقنة الحكم والسياسة إلى أهدافهم ومآربهم ومصالحهم الخاصة، وليصرفوا إليهم وجوه الناس!
وأصبحت الحرية - في كثير من الأحيان - ذريعة وسبباً لوأد الحرية، والحريات، وإعلان الحروب على كثير من الشعوب!
وصوروا أن الديمقراطية هي التي تحقق لهم الحرية، لأنها تقوم على الحرية، لذا جعلوا من لوازم مناداتهم بالحرية التنادي بالديمقراطية، وكأن كل واحدة منهما لازمة للأخرى ومؤدية إليها ولا بد، فمن كان محباً للحرية والتحرر لا بد من أن ينادي بالديمقراطية، ويكون محباً لها والعكس كذلك، وكل من كان عدواً للديمقراطية فهو عدو للحرية، كما زعموا!
والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة:
هل الديمقراطية - كما تمارس في أرقى الدول الغربية الديمقراطية - فعلاً تحقق الحرية التي يحتاجها ويريدها الإنسان، وترقى به إلى المستوى المطلوب والمنشود من الحرية؟!
وما هي نوعية وصفة وحدود الحرية التي تحققها الديمقراطية للشعوب؟!
وهل الإنسان الأمريكي أو الأوربي فعلاً هو حر، وهل الحرية التي يعيشها في بلاده ومجتمعاته فعلاً هي الحرية، أو من الحرية؟!
وهل الإسلام يتعارض مع مبدأ الحرية، أم أنه يقرها ويدعو إليها؟!
ثم - إن كان يقرها - كيف ينظر للحرية، وكيف يمارسها، وما هو الممنوع منها وما هو المسموح؟!
وهل الحرية التي يريدها الإسلام هي ذات الحرية التي تريدها الديمقراطية، أم يوجد فارق بينهما؟!
ثم أيهما أصدق لهجة وواقعاً مع الحرية المنشودة، الإسلام أم الديمقراطية؟!
هذه الأسئلة وغيرها تحملنا على المقارنة بين الحرية كما يريدها الإسلام، وكما مارسها لأكثر من ألفٍ وأربعمائة سنة خلت، ولا يزال يمارسها ويدعو إليها، وبين الحرية كما تريدها الديمقراطية، وكما تمارس في واقع أرقى الدول والمجتمعات الديمقراطية المعاصرة، لنرى أيهما أجدى نفعاً، وأصدق لهجة، وأولى بالسلامة، وأقرب للحق والصواب!
فأقول:
الحرية في الديمقراطية، يقوم بتحديدها، وتحديد المسموح منها من الممنوع الإنسان القاصر الضعيف، وفق ما تملي عليه أهواؤه ونزواته وشهواته، وهذا يعني أن مساحة الحرية في الديمقراطية تتسع أحياناً وتضيق أحياناً، بحسب ما يرتئيه الإنسان المشرِّع في كل يوم أو ظرف، بحسب ما يظن فيه المصلحة!
وهذا يعني أن الشعوب تكون حقل تجارب، وهي في حالة تغيير وتقلب مستمر مع ما يجوز لهم ومالا يجوز لهم من الحرية!
بينما الحرية في الإسلام، الذي يقوم بتحديدها، وتحديد المسموح منها من الممنوع، هو الله تعالى وحده، خالق الإنسان المنزه عن صفات النقص أو الضعف والعجز، العالم بأحوال عباده وما يُناسبهم وما يحتاجون إليه، وبالتالي فالحرية في الإسلام تمتاز بالثبات والاستقرار، فالذي يجوز من الحرية للإنسان قبل ألف وأربعمائة سنة يجوز له إلى قيام الساعة، فكل امرئٍ يعرف ما له وما عليه، والمساحة التي يمكن أن يتحرك بها كحق وهبه الله إياه!
كما أنها تمتاز بالحق المطلق والعدالة المطلقة؛ لأنها صادرة عن الله عز وجل، وهذا بخلاف الحرية في الديمقراطية الصادرة عن الإنسان الذي يحتمل الوقوع في الظلم والخطأ، والقصور!
الحرية في الديمقراطية، يكون الإنسان حراً في دائرة المباحات التي أذن له المشرعون من البشر أن يتحرك بها!
بينما الحرية في الإسلام، يكون الإنسان حراً في دائرة المباحات والمسموحات التي أذن الله بها، وأذن لعبده استباحتها والتنعم بها، والتحرك فيها!
الحرية في الديمقراطية، تحارب وتنكر الشر الذي يتفق عليه المشرعون من البشر بأنه شرٌّ، وهذا من لوازمه - بحكم جهلهم وقصورهم وعجزهم - أن يدخلوا كثيراً من الشر في دائرة الخير الجائز والمباح، كما من لوازمه أن يدخلوا كثيراً من الخير في دائرة الشر الممنوع والمحظور، عقلاً وشرعاً!
كم من أمر يجيزونه تحت عنوان الحرية ثم بعد ذلك يظهر لهم خطؤهم وظلمهم فينقضونه ويمنعونه، وكذلك كم من أمر يحرمونه ويمنعونه ثم يظهر لهم نفعه، فيجيزونه ويُبيحونه، وهذا كله يقلل من قيمة الحرية التي يدعونها!
بينما الحرية في الإسلام، تحارب وتنكر الشرَّ الذي حكم الله تعالى عليه بأنه شرٌّ، الذي ما بعده إلا الخير، وذلك لما ذكرناه آنفاً أن الله تعالى منزه عن الخطأ أو الزلل سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى لا يجيز إلا الخير والنافع، كما أنه لا يحرم إلا كل شرٍّ وقبيح!
فالله تعالى جميل يحب الجمال، وبالتالي فهو لا يُشرِّع إلا الجميل والجمال، فحاشاه سبحانه وتعالى أن يشرع القبيح أو يأذن به!(54/409)
ومنه نعلم أن الحرية في الإسلام، تتحرك في جميع ميادينها مع الجميل والجمال، وتبتعد كل البعد عن الخبائث والقبائح!
الحرية في الديمقراطية، تعبد العبيد للعبيد، فتجعل العبيد منقادين لعبيد ربما يكونون أقل منهم شأناً، يُشرعون ويُقننون لهم، يُحرمون ويُحلون لهم، وليس على الآخرين إلا الطاعة والاستسلام والانقياد، والخضوع!
فأي حرية هذه، مع العبودية للمخلوق هذه؟!
بينما الحرية في الإسلام، فإنها تعمل على تحرير العباد - كل العباد - من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد وحده سبحانه وتعالى!
فإن قيل: هي في نهاية المطاف عبادة وعبودية، فأين الحرية؟!
أقول: أجيب على هذا السؤال الساقط من أوجه:
منها: أن الله تعالى هو الذي خلق الإنسان، وأنشأه ورباه، وهداه النجدين، وسخر له الكون كله، وبالتالي من حقه سبحانه وتعالى أن يُعبد، ومن الواجب على عباده أن يعبدوه ويُخلصوا في عبادته سبحانه وتعالى، وشكره، واتباع أوامره!
فعبادة العبد لخالقه وحده، عز، وفخر، ورفعة، وشرف ما بعده شرف، بينما عبادته للمخلوق العاجز الضعيف، ظلم، وذل، وضياع، وعذاب ما بعده عذاب!
ومنها: أن المرء فُطر على العبودية والتدين، فهو إن لم يكن عبداً لخالقه، فسيكون لا محالة عبداً للمخلوق وفي الباطل، أياً كانت صورة ونوعية هذا المخلوق!
ومنها: أن إفراد الله تعالى وحده بالعبادة، هو عين التحرر من عبادة الآلهة الأخرى الوضيعة المكذوبة المزعومة!
الحرية في الديمقراطية، تُخضع الإنسان لكثير من المؤثرات والضغوط الخارجية التي تفقده كثيراً من حرية الاختيار والتفكير: ضغط الإعلام بجميع فروعه وتخصصاته ووسائله، ضغط إثارة الشهوات ووسائل اللهو بجميع أصنافها وألوانها، وما أضخمها، ضغط الحاجة والسعي الدؤوب وراء الرزق والكسب، ضغط سحرة الساسة والأحبار والرهبان ومدى تزويرهم للحقائق، ضغط المخدرات والمسكرات المنتشرة في كل مكان، وأخيراً التلويح باستخدام عصا الإرهاب والتهديد الجسدي والمادي لمن يستعصي على جميع تلك الوسائل والضغوطات، ولا يستعصي عليها إلا من رحمه الله، وما أقلهم!
فهذه الضغوط والمؤثرات تُسلب المرء صفة حرية الاختيار، والتفكير، واتخاذ المواقف التي يريدها ويرضاها بعيداً عن تلك المؤثرات الخارجية المصطنعة!
هذه الضغوط والمؤثرات التي يصعب الفكاك منها، تُسلب المرء حريته، وإن زعم بلسانه أنه حرٌّ، وظهر للآخرين بأنه حر!
لذلك نجد طغاة القوم ومستكبريهم، وأحبارهم ورهبانهم، لا يحتاجون إلى مزيد عناء عندما يريدون من شعوبهم أن تسير في اتجاه دون اتجاه، أو يريدون حملهم على استعداء جهة دون جهة، أو على اختيار شيء دون شيء، يكفي لتحقيق ذلك أن يُسلطوا عليهم قليلاً من تلك المؤثرات والضغوطات الآنفة الذكر، ولفترة وجيزة من الوقت!
هذه الضغوط والمؤثرات التي تسلب المرء حريته، هي المعنية من قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
ليس مكر الليل وحسب، أو مكر النهار وحسب، بل هو مكر الليل والنهار وعلى مدار الوقت، بحيث لا يُعطى المرء منهم لحظة واحدة يخلد فيها للراحة والهدوء والتفكير، حتى لا يهتدي إلى الحق، ويعرف أين هو من الصواب!
بينما الحرية في الإسلام، تحرر المرء من جميع تلك المؤثرات الخارجية التي تقلل من حريته وحرية اختياره وقراره، وربما تسلبها كلها، لتعيد له جميع قواه النفسية والجسدية والمعنوية، وترفع عنه جميع الأغلال والقيود، ثم تقول له بعد ذلك: اختر الذي تريده، {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.
الحرية في الديمقراطية، تمر بصاحبها على الجيف المتآكلة، وعلى القبائح، وعلى الأمراض، وعلى الفساد، وعلى كل ما يُفسد الذوق الجميل، والطبائع السوية، فتجرئه على الشذوذ والاعتداء، والإدمان على ذلك!
ومثله كمثل الذي يقود سيارة بلا كوابح، ولا ضوابط، ولا مراعاة لحقوق طريق أو مار، فيصطدم بالجميع، ويمر على الجميع، ويعتدي على الجميع!
بينما الحرية في الإسلام، تمر بصاحبها على كل ما هو جميل أو طيب، كما أنها لا تسمح له أن يتعدى ذلك، ليمر على الخبائث والجيف والأمراض، لتحافظ على سلامة ذوقه، وتفكيره، وصحته، وإيمانه!
ومثله كمثل الذي يقود سيارة بكوابح وضوابط، ينطلق حيث ينبغي الانطلاق، ويقف حيث ينبغي التوقف، ويُعطي كل ذي حقٍّ حقه، من غير إفراطٍ ولا تفريط!
الحرية في الديمقراطية، تظهر وكأنها منحة يمن بها الإنسان على أخيه الإنسان، يعطيه منها ما يشاء ويسلبها منه متى يشاء!(54/410)
بينما الحرية في الإسلام، حق وهبه الله تعالى لعباده، وفطرهم عليه، لا منة فيه لمخلوق على مخلوق، لا يجوز أن يُسلب أو يُنتقص منه شيء إلا بإذن الله، وبسلطانٍ بينٍ منه سبحانه وتعالى، يتجسد هذا المعنى في مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبعض أمرائه: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).
هذه هي الحرية في الديمقراطية، وهذه هي الحرية في الإسلام، فأي الفريقين أولى بالحرية، والسلامة، والحق؟!
الحرية في الديمقراطية أم الحرية في الإسلام؟!
{وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
عبد المنعم مصطفى حليمة؛ أبو بصير
8/3/1423هـ
=============(54/411)
(54/412)
الديمقراطية ؛ كما تريدها وتمارسها أمريكا
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.
لا نريد هنا أن نتكلم عن مزالق الديمقراطية والمآخذ التي أُخذت عليها كعقيدة وفكرة وطريقة ودين .. فهذا قد تناولناه في كتابنا " حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية " وغيره من الأبحاث والمقالات .. ولكن نود أن نشير إلى الديمقراطية كما تفهمها وتمارسها وتبشر بها راعية وحامية الديمقراطية في العالم " أمريكا "!
مما يُعين على فهم الديمقراطية ـ فتنة العصر ـ وتحديد الموقف منها أن ينظر المرء إلى رعاة ودعاة وحماة الديمقراطية: كيف يفهمون الديمقراطية، وكيف يمارسونها ويطبقونها .. وماذا يريدون من ورائها لشعوبنا وبلادنا!
لا خلاف بين جميع المراقبين العقلاء للمواقف الأمريكية وسياستها أن أمريكا تتخذ من الديمقراطية ذريعة للاستعلاء .. والاعتداء .. والاستيلاء .. والتدخل في شؤون الآخرين!
فالديمقراطية التي تعمل على تحقيق وحماية أطماع أمريكا .. ومصالحها .. وسياساتها الخارجية الداعمة والمؤيدة للصهاينة اليهود المستوطنين في فلسطين .. والمناهضة لأي توجه إسلامي جاد .. أو قوة إسلامية معتبرة .. فهي الديمقراطية المحمودة والمثالية والمتحضرة .. وأيما ديمقراطية تتعارض مع المصالح الأمريكية وأطماعها وسياساتها هذه .. فهي ليست بشيء .. وليست بديمقراطية معتبرة مهما تنادى أصحابها بالديمقراطية ومجدوا بها!
أمريكا تريد الديمقراطية التي تفرق الصفوف، وتشتت الكلمة .. وتُضعف الشوكة .. وذلك في تقسيمها للمجتمع الواحد ـ من بلاد المسلمين ـ المتجانس دينياً وثقافياً إلى عشرات ـ بل ومئات ـ من الأحزاب المتغايرة المتنافرة المتباغضة .. لكي تنتقي ـ فيما بعد ـ من هذه الأحزاب أقربها إلى أهدافها ومصالحها وسياساتها في المنطقة لتتكئ عليها وتُظهرها .. وتهدد بها الأحزاب الأخرى .. وتتخذها وسيلة وذريعة للتدخل في شؤون البلاد والعباد .. على مبدأ فرق تسد .. وهذا كله يتم باسم الديمقراطية .. والعمل من أجل تحقيق الديمقراطية!
أيما بلد أو دولة تخرج عن الطاعة والعبودية الأمريكية .. فأمريكا تملك كل المبررات والمسوغات التي تبرر لها إبادة تلك الدولة وإزالتها من الوجود ـ كما حصل في أفغانستان والعراق ـ باسم الديمقراطية .. والعمل من أجل تحقيق الديمقراطية!
أيما نظام يتعارض مع الأطماع والسياسة الأمريكية ـ ولو اختاره غالبية الشعب ـ فهو نظام غير ديمقراطي .. تغييره بالقوة فيه وجهة نظر .. وخيار محتمل .. وأيما نظام يسهر على حماية ورعاية المصالح والأهداف الأمريكية .. فهو نظام ديمقراطي متحضر .. وصديق حميم يستحق الدعم والتأييد الأمريكي .. ولو كان قمة في الديكتاتورية والظلم والإرهاب بحق الشعوب .. وما أكثر الأمثلة الدالة على ذلك لو أردنا الاستطراد أو الاستدلال!
لا يحق لأي بلد مسلم أن يملك القوة التي تحرره من التبعية والحاجة لأمريكا أو غيرها من دول الغرب .. وهذا من تمام مبادئ الديمقراطية الأمريكية والغربية .. التي يسهرون على تحقيقها باسم الديمقراطية .. والحفاظ على الديمقراطية!
أيما بلدٍ من بلاد المسلمين يتصرف بطريقة فيها استقلالية .. وسيادة .. وندية للسياسة الأمريكية .. فهو بلد غير ديمقراطي .. وبالتالي فهو عرضة لجميع أنواع العقوبات والتهديدات .. من أجل بسط الديمقراطية فيه من جديد!
لا بأس بقتل عشرات الآلاف من الناس الأبرياء .. بقنابل أمريكية ديمقراطية من نوع ووزن الطُّنِّ فما فوق .. وبالأسلحة الذكية الديمقراطية .. من أجل الديمقراطية .. وتحقيق الديمقراطية!
لا حرج بالصواريخ العابرة للقارات التي تدمر البيوت على ساكنيها الآمنين .. مادامت هذه الصواريخ صواريخ ديمقراطية أمريكية .. قذفت من على البوارج الأمريكية من أجل تحقيق الديمقراطية!
بكل دم بارد .. يدمرون المدن على ساكنيها .. ويقتلون الآلاف من الأبرياء .. ثم يقولون: هذا الذي نفعله من أجل الديمقراطية .. وتحقيق الديمقراطية في البلاد .. فالديمقراطية سلعة غالية ولا بد من التضحية في سبيلها!
تُكمَّم الأفواه .. وتُغلق الصحافة .. ويُقتل الصحفيون .. ويُسجنون .. وتُمنع قنوات البث الفضائية من أداء عملها على الوجه المطلوب .. عندما تتحرك ـ ولو قليلاً ـ في الاتجاه المعاكس للمصالح والسياسة الأمريكية .. وهذا التصرف كله من الديمقراطية .. ومن أجل حماية مكاسب الديمقراطية .. لا تعارض بينه وبين الديمقراطية مادام يصب في خدمة وصالح راعية الديمقراطية أمريكا .. ومادام أن الذي يقوم بكل هذه المصادرات والإجراءات التعسفية هي أمريكا!
لا بأس بالإرهاب ولا حرج فيه ـ ولو كان في أبشع صوره ومعانيه ـ إن كان ضحيته من المسلمين ـ كما هو الحال في فلسطين، وأفغانستان، والشيشان، والعراق، وكشمير وغيرها من البلدان ـ فهو إرهاب ديمقراطي متحضر ومشروع .. ومن أجل الديمقراطية!(54/413)
الذي يمارسه الصهاينة اليهود الدخلاء بحق المسلمين من أهل البلد في فلسطين من تقتيل للأبرياء، واغتيالات، وحصارات، وعقوبات جماعية، وتدمير للمنازل .. هو ـ في عرف أمريكا والمجتمع الدولي الغربي الديمقراطي ـ قمة الحق .. وقمة الديمقراطية .. ودولة المستوطنات التي تمارس كل هذا الإرهاب .. هي دولة ديمقراطية متحضرة لا غبار عليها!
أما الذين يُقاومون الاحتلال والغزاة .. أو يفكرون بالمقاومة .. والذود عن أنفسهم وحقوقهم، وحرماتهم .. فهم إرهابيون .. وأعداء للديمقراطية .. وتصرفهم غير ديمقراطي!
انظروا إلى تجربة أمريكا في العراق .. بعد هذا الدمار والخراب الذي أحدثته في البلاد .. وأنهك العباد .. وبعد أن أصاب جنودها النار التي كانت سبباً في اشتعاله .. هاهي تريد أن تنسحب انسحاباً صورياً .. ولكن بعد أن تجد البديل العراقي الذي تثق به وتتكئ عليه في تنفيذ سياساتها والمهام والواجبات نيابة عنها!
صرحت أكثر من مرة أنها لن تسمح بنظام ديني يخالف السياسة الأمريكية .. ويُخالف توجهاتها في المنطقة .. ولو اختاره كل الشعب العراقي .. وأنها لن تسمح إلا بنظام عراقي البشرة
أمريكي الجوهر والمعنى .. هذه هي الديمقراطية التي تعنيها وتريدها أمريكا في العراق .. والتي تنشد أن يكون نموذجاً لغيره من البلدان المجاورة!
وهاهي أمريكا اليوم تماطل في الانسحاب .. وتماطل في توكيل من ينوب عنها من الدول في العراق .. إلى أن تتمكن من إيجاد هذا الوليد العراقي الأمريكي المشوه الذي يحقق لها مصالحها وأهدافها من وراء غزوها للعراق .. وهذا كله يتم باسم الديمقراطية .. والسهر على حماية الديمقراطية .. فأمريكا لا تريد للعراق ولشعب العراق إلا الديمقراطية!
تتذرع أمريكا ـ كاذبة ـ بعدم وجود دستور للعراق .. وأن الديمقراطية لم تتحقق بعد .. لذا فمن المبكر الحديث عن الانسحاب والخروج من العراق .. والحقيقة أنها إلى الساعة لم تجد العميل العراقي القوي الذي تستطيع أن تركن إليه .. والذي يقدر على أن يحرس مصالحها نيابة عنها في العراق .. وإلى أن تجده فلن تتأخر ساعة في الخروج .. وإن لم تجده فهي على استعداد أن تمكث السنوات الطوال في العراق ـ مهما كانت تكاليف إقامتها باهظة ـ إلى أن تجد هذا العميل القوي!
أيما دولة من دول المنطقة ـ مهما كانت ديمقراطية ـ لا تعترف بشرعية دولة الصهاينة اليهود في فلسطين .. فهي ـ في نظر أمريكا والمجتمع الدولي الغربي ـ دولة غير ديمقراطية .. وفي محاربتها وغزوها .. وحصارها وحصار شعبها .. وتجويعه .. وجهة نظر .. وهو خيار محتمل ومفتوح، قابل للنقاش!
ما الفرق بين الديمقراطية الأمريكية والديكتاتورية الشيوعية إذا كان كل منهما يبسط نفوذه ونظامه، ويفرضه على الآخرين عن طريق القوة، والإكراه، والدمار، والأسلحة الذكية وغيرها من الأسلحة الغبية .. بل إن ما تمارسه أمريكا ومعها دول الغرب من إجرام وعدوان على حقوق وحرمات الآخرين .. وحصارات تجويع للشعوب والدول من أجل الديمقراطية .. ما لم تفعله الأنظمة الديكتاتورية الشيوعية مع مخالفيها .. وما فعلته أمريكا الديمقراطية في أفغانستان في أيامٍ لم تفعله روسيا الشيوعية الديكتاتورية في أشهرٍ وسنين .. وعدد الأطفال الذين قتلتهم
الديمقراطية الأمريكية الغربية بسبب حصارها لشعب العراق .. لم يحصل واحد بالمائة منه على يد النظام البعثي الديكتاتوري!!
فشعار أمريكا ودول الغرب: إما أن تكون مع الديمقراطية وإلا فلك الموت والجوع والفقر .. والحصار .. هو نفس شعار الديكتاتورية الشيوعية: إما أن تكون مع الشيوعية وإلا فلك الموت والجوع والفقر .. إذ لا خيار آخر لك .. لا فرق بين النظامين من حيث طريقة بسط نفوذهما ومن حيث طريقة تعاملهما مع الآخرين والمخالفين .. وإن كانت الطريقة الديمقراطية تبدوا للوهلة الأولى أنها أكثر نعومة ورقة من الطريقة الشيوعية الديكتاتورية.
لذا أقول: لا بد لبني قومي من أن يُراجعوا أنفسهم ومواقفهم من الكذبة الكبيرة الرائجة التي تُسمى بالديمقراطية!
كفاهم انبهاراً بها، وترويجاً لها .. وتحاكماً إليها .. ومناداة بها .. وهم يعلمون أن ليس لهم في الديمقراطية حظ إلا على قدر ما يقدمونه من خضوع وتبعية وخدمة للأسياد حماة الديمقراطية ورعاتها .. ولمخططاتهم!
ليس لهم من الديمقراطية حظ إلا على قدر انسلاخهم من عقيدة الأمة وثقافتها وأخلاقها .. ودخولهم في عقيدة الأسياد ـ أرباب الديمقراطية ـ وثقافاتهم وعاداتهم وأخلاقهم!
مهما كنتم ديمقراطيين فإنكم لن تحصلوا على شهادة أرباب الديمقراطية ورعاتها بأنكم ديمقراطيون حتى يرضوا عنكم .. ولن يرضوا عنكم حتى تتبعوا ملتهم، وتدخلوا في طاعتهم وقوانينهم، وأهوائهم، كما قال تعالى:? { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ?}.(54/414)
ثم أيما ديمقراطية قد توصل مالا ترضاه أمريكا ولا دول الغرب .. فهي نتيجة مرفوضة ومحاربة .. وغير ديمقراطية .. وفي مدى ديمقراطيتها نظر!
فإن قيل: ما هو البديل .. هل تريد أن تحكمنا الأنظمة الديكتاتورية الفاشية؟!
أقول: نحن لسنا كغيرنا ملزمين بأحد الخيارين: إما الديكتاتورية وإما الديمقراطية .. لا .. ليس هذا ولا ذاك .. فالبديل عندنا موجود .. وهو الإسلام .. ولا شيء غير الإسلام .. وهو دين الله الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
?
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإسْلامُ {? وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ?}.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
[عبد المنعم مصطفى حليمة ؛ أبو بصير الطرطوسي | 4/8/1424 هـ]
===============(54/415)
(54/416)
الديمقراطية بين الإسلاميين والعلمانيين
نفرٌ من إخواننا يرون أن مشكلة الإسلام، أو المسلمين على الأصح، هي في أنهم لا يسايرون عصرهم.
إذن لكي ينهض الإسلام، لا بد أن يكون " عصرياً " . ولكي يكون عصرياً لا بد أن يكون " ديمقراطياً " . لكن لكي تكون ديمقراطياً لا يصح أن تكون " أصولياً " كما يرى الغرب.
من هنا تبدأ المشكلة مع إخواننا " الديمقراطيين " هؤلاء :
فهم يرون أن مشكلة الحركة الإسلامية في عدم " ديمقراطيتها " ، فهي لا تسمح للشيوعيين والعلمانيين أن يقولوا إن " الإسلام تقاليد بالية لا تصلح للحكم..!! " .
وهي تسعى لتطبيق الشريعة، وهذا سوف يؤدي إلى أحادية تلغي التعددية !!
والمرأة في الحركة الإسلامية تنتقب ولا تختلط بالرجل.
والرجل في الحركة الإسلامية يطيل لحيته ويقصر ثوبه ويتحاشى الاختلاط بالنساء. وهذه كلها تصرفات وسلوكيات " غير عصرية " ، ولا تنسجم مع الممارسة الديمقراطية !.
على أساس من هذا الفهم " الديمقراطي " فقد رأى إخواننا هؤلاء أن من حق الشيوعيين والعلمانيين أن تكون لهم كلمتهم و " أحزابهم " في الدولة الإسلامية، وأن " شعار " تطبيق الشريعة لا يؤدي إلى الأحادية.
ثم عابوا على المرأة نقابها لأن الغرب ينفر منه، ولأن مظهره يضع المرأة المسلمة على النقيض تماماً من المرأة " العصرية " في " المجتمع الديمقراطي " .
واستكثر بعضهم علينا أن نطلق لحانا، لأن " اللحية المهذبة " اقرب الى المجتمع " العصري " ، ولأن الغرب أيضاً لا يحب اللحي الطويلة لأنها سمة الأصوليين.
ثم دعونا كذلك أن نختلط رجالنا ونساؤنا في ملتقياتنا العامة وأنشطتنا الفكرية لأن ذلك - كما يقولون - سوف يساهم في إبراز دور المرأة في الحركة الإسلامية، وسوف يطور مهاراتها ؛ ولا ندري هل تنمو مهاراتها باعتمادها على نفسها أم على الرجل في إدارة أنشطتها؟!.
ويقولون أيضاً ؛ أنه ليس في الإسلام مسجدان ؛ولا ندري هل التجمعات العامة كالمؤتمرات مساجد أم متلقيات يرتادها الصالح والطالح، والتقي وذو النفس المريضة؟! ولا ندري أي مصلحة تترتب على إزالة حواجز الحياء بين المسلم والمسلمة؟ وأي فائدة تعود حينما ترتع الأعين في ما حرم الله بقصد أو بغير قصد؟!.
هذا ما يقوله إخواننا عن " الديمقراطية " .
أما العلمانيون :
فكانوا يقولون إن الديمقراطية هي اختيار الشعب.
وإن الشعب من حقه أن يختار ممثليه.
وإن الإسلاميين ليسوا ديمقراطيين للأسباب التي ذكرنا شيئاً منها قبل قليل، والتي " تصدى " لها إخواننا وحاولوا أن يتبرأوا منها.
أقيمت الانتخابات في الجزائر وفازت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية بطريقة " ديمقراطية " .
قال العلمانيون الذين كانوا مع " حق الشعوب في أن تختار " ، إن الشعوب أثبتت أنها غير مؤهلة للاختيار حينما تعطى الفرصة. فها هي قد اختارت الفرقة والتمزق بدل الوحدة في كل من الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا. ثم هي " أي الشعب " يكرر نفس الخطأ في الجزائر فيختار الأصوليين ولا يختار العلمانيين !.
نقول لإخواننا :
ها هي " الديمقراطية " التي ستفهم كثيراً من السنن النبوية وبعض ثوابت الإسلام من أجلها.
وها هم " الديمقراطيون " الذين عبتم علينا، من أجلهم، " جهلنا " بأصول الحوار كما تقولون، ووصمتمونا من أجلهم بالتحجر والانغلاق وانتقاص حق المرأة !.
إخواننا. .
إن الديمقراطية التي يتشدق بها الغرب، ويرددها أصدقاؤكم العلمانيون هي حق كل طاغوت لا يرى لشرع الله حكماً في أن يسيطر.
إن الديمقراطية التي يريدها الغرب هي " ديمقراطية الولاء والتبعية " التي لا تمس مصالحه في أوطاننا، وتبقي على أتباعه وعملائه في موقف السيطرة في بلداننا. .
فهل أنتم منتهون؟
[بقلم : عبد الله العدناني | رجب 1412 هـ]
==============(54/417)
(54/418)
الديمقراطية... دين أم سياسة؟!
الحمد لله رب العالمين، الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته وتمسك بسنته الى يوم الدين.
وبعد...
كثر الكلام والجدال حول الديمقراطية وأختلفت الآراء حولها...
بين من عدَّها لا تتناقض مع الدين ودعا الى تطبيقها، وأنها وسيلة حضارية لتحقيق مصالح الدعوة.
وقسماً آخر؛ عدها ديناً متناقضاً ومحاربا لدين الله تعالى، وأعلن كفره بها، وتبرأ منها، لأنه يعدها طاغوتاً جديداً.
قال أبن تيمية رحمه الله: (الأسماء ثلاثة أنواع؛ نوع يعرف حده بالشرع كالصلاة، ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر، ونوع يعرف حده بالعرف...).
ولما كان لفظ الديمقراطية لم يرد في الشرع، ولا هو مما تعرفه العرب من لغتها، فلا بد لمعرفة معناه وحقيقته من الرجوع الى عرف أهله الذين وضعوه.
إن أصل لفظ الديمقراطية؛ يوناني، وهي دمجً واختصار لكلمتين "ديموس"، وتعني الشعب، و"كراتوس"، وتعني الحكم أو السلطة أوالتشريع، ومعنى هذا أن الترجمة الحرفية للديمقراطية هي "حكم الشعب".
كما يجب علينا معرفة كيف نشأت الديمقراطية وما هي الظروف التي كانت سبباً في ظهورها، وإن نشأة الديمقراطية وما صاحبها من أفكار؛ كانت كرد فعل للطغيان الذي مارسه الملوك ورجال الكنيسة على الناس بإسم الدين، فكفر الناس بهذا الدين الذي كان سبب شقائهم واستعبادهم وأتخذوه وراءهم ظهرياً، وكان أحد شعارات الثورة الفرنسية؛ "أشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس".
فهي في أصل نشأتها تمردٌ على سلطان الله لتعطي السلطان كله للإنسان، ليضع نظام حياته وقوانينه بنفسه دون أي قيود، أي؛ أعطت حق التشريع للأنسان.
فهذا يعني أن المألوه - المعبود المطاع - من جهة التشريع هو الإنسان وليس الله جلَّ ثناؤه، وهذا مغاير ومناقض لأصول الدين والتوحيد، يدل على ذلك قوله تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
وكذلك الحديث الذي يرويه الأمام أحمد والترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه - كان نصرانياً فأسلم - قال: أتيت رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة براءة، حتى أتى على هذه الآية {أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله...}، فقلت: يا رسول الله إنّا لم نتخذهم أرباباً؟! قال: (أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل لكم فتحرمونه؟)، فقلت: بلى، قال: (تلك عبادتهم).
قال الآلوسي في تفسير هذه الآية: (الأكثرون من المفسرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا أنهم آلهة العالم، بل المراد انهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم).
الديمقراطية؛ تعني "السيادة للشعب"، أما في الإسلام فالسيادة لله تبارك وتعالى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (السيد الله تبارك وتعالى) [رواه أبو داود، وإسناده صحيح].
الديمقراطية؛ تعني رد أي نزاع أو اختلاف بين الحاكم والمحكوم إلى الشعب وليس الى الله والرسولل، وهذا مناقض لقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شئ فردوه الى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}.
الديمقراطية؛ تقوم على مبدأ أعتبار وإقرار موقف ورأي الأكثرية - مهما كان نوع هذه الأكثرية، وأيا كان موقفها - سواءٌ وافق موقفها الحق أم لا، فالحق في نظر الديمقراطية والديمقراطيين هو ما تجتمع عليه الأكثرية، ولو أجتمعت على الباطل أو الكفر الصريح، وهذا خلاف ما جاء به الإسلام؛ فالحق ما وافق الكتاب والسنة وإن أجتمعت جماهير الناس خلاف ذلك، فالحكم لله وحده وليس للأكثرية، قال تعالى: {وإن تطع أكثر مَن في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}.
الديمقراطية؛ تقوم على مبدأ التصويت - على أي شيء ولو كان قواعد الدين وأصوله الثابتة - ولو كان المُصَّوت عليه هو شرع الله سبحانه وتعالى، وهذا مناقض لقوله تعالى: {ما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيَرةُ من أمرهم}.
الديمقراطية؛ تعني في المجال الاجتماعي إطلاق الحريات الشخصية دون قيود، كحرية الكفر وحرية الزنا والعري وشرب الخمر وغيرها، قال تعالى: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً}، وهذا مناقض لما يجب القيام به نحو الكفر والمنكر من تغيير وإنكار، قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}.
وقال الرسو صلى الله عليه وسلم (مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فأن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، أي لا مناص من إنكار المنكر وتغييره، ولو في القلب عند حصول العجز عن إنكاره باليد واللسان، أما ان يمتد التعامل مع المنكر الى حد الرضا به أو المطالبة به؛ فهو عين الكفر البواح.(54/419)
أن الإسلام عندما يرفض "الديمقراطية" فأن له تشريعا خاصا به في باب المشورة، ولا يلغي ضرورة مراجعة أهل الاختصاص في إنفاذ الأمور وتسيير شؤون الدولة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه رضي الله عنهم وينزل على رأيهم على الرغم من عصمته وإستغنائه عن آرائهم، ولكنه أراد أن نتأسى به ونتذكر حاجتنا الى المشورة.
مما تقدم يتضح لنا؛ أن الديمقراطية حكمها في دين الله تعالى هو الكفر البواح، فلا يمكن لمسلم أن يدخل فيها أو أن يدعو إليها، فهذا ارتداد عن الدين وخروج من الملة.
والكفار حين لجؤا الى الديمقراطية والى وضع الدساتير فلأنهم ليس لهم دين صحيح أو شريعة مستقيمة يرجعون إليها، وقد ذاقوا الويلات من ديانتهم المحرفة التي يبدل فيها الأحبار والرهبان كما يشاءون، فأصطلح الكفار على وضع كتب تحقق مصالحهم بحسب ما تدركه عقول البشر القاصرة - وهي الدساتير - وصاروا يحتكمون إليها كأنها كتب سماوية.
أما نحن المسلمين فقد أغنانا الله عن ذلك، فشريعتنا مصونة محفوظة من التبديل والتحريف، وشريعتنا كاملة تغني عما عداها، فلماذا نترك كتاب الله وسنة نبي صلى الله عليه وسلم ونقلد الكفار؟
إن الله سبحانه وتعالى قد أعطانا منهجاً كاملاً لحياتنا في ديننا ودنيانا، ولم يتركنا جل وعلا نطبق هذا المنهج وهذه الشريعة باجتهادنا وعلى أهوائنا، وأنما أعطانا الطريق لإقامة هذا المنهج وإقراره، قال تعالى: {ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قويٌ عزيزٌ}، وقال تعالى: {وكفى بربك هادياً ونصيراً}.
قال شيخ الإسلام أبن تيمية رحمه الله: (كتابٌ يهدي وسيفٌ ينصر).
فهذا هو الطريق الذي أمرنا به الله سبحانه وتعالى وسار عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، فهم آمنوا بالله وحده وأعلنوا البراءة من جميع الكفار ومعبوديهم، ولم يجاملوا الكافرين أو يداهنوهم، وإنما أمتثلوا أمر الله سبحانه وتعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)، وأعلنوا الجهاد ضد كل طواغيت الأرض في سبيل نشر توحيد الله سبحانه وتعالى وإقرار حاكميته في الأرض، ففتحت لهم آفاق الأرض ودانت لهم كل طواغيتها.
ولم يزالوا كذلك يفتحون الأمصار تلو والأمصار، ويجتازون الصحاري والبحار، الى أن تخلت الأمة عمَّا أمرها الله به وتركت الجهاد، فذهبت عزتها وسقطت هيبتهم، وحقَّ عليها قوله صلى الله عليه وسلم (ما ترك قومٌ الجهاد إلا أذلهم الله).
واقتضت مشيئة الله سبحانه وتعالى أن يمنَّ علينا بعودة روح الجهاد الى الأمة في هذا الوقت، بعد تخاذلٍ وتقاعسٍ دام مدة طويلة من الزمن، فهذا هو الطريق الذي أراده لنا الله سبحانه وتعالى وطبَّقه النبي صلى الله عليه وسلم وسار عليه أصحابه والتابعون من بعده، وبه تحقق عزة الأمة وتمكينها في الأرض.
فكيف يمكن لمسلم أن يترك طريق صلى الله عليه وسلم ويتبع طريق الكفار ويدخل في الديمقراطية - دين الكفار - ويدعي أنه يستطيع أن يغير من خلالها وأن يحقق أفضل مما يحققه في طريقمحمد صلى الله عليه وسلم ؟!
فهذا هو واقع حال الذين أتبعوا الكفار ودخلوا في ديمقراطيتهم وتركوا منهج النبي صلى الله عليه وسلم وطريقه الواضح وطعنوا في الجهاد والمجاهدين، فلا ينبغي لمن هذا حاله أن يدعي أنه من المسلمين المؤمنين، فالإسلام وحالٌ هذا وضعه لا يجتمعان في دين الله أبدا.
بقلم؛ اليمان بن عبد الله السلمان
جيش أنصار السنة / العراق
==============(54/420)
(54/421)
الإسلام الديمقراطي!
الحمد لله .
والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه .
وبعد:
تتعرض ديار المسلمين وعقائدهم في هذه الأيام لهجمة تتارية يهودية صليبية حاقدة تريد أن تأتي على الأخضر واليابس، فلم تكتف بسفك الدماء وانتهاك الحرمات، بل تبتغي أغلى ما يملكونه وما يعيشون به؛ ألا وهي معتقداتهم وأخلاقهم، وبدأ الغزو الفكري بإدخال مفاهيم غريبة على عقيدة المسلمين وديارهم، وأحدث هذه الغرائب ما قاله هبل في تصريحاته: (أنه يريد الإسلام الديمقراطي)، والغريب أنه وضع الاسم ثم وضع المعنى!!
فماذا يعني بالإسلام الديمقراطي؟!!
إنه يعني أن يكون المسلم مفرغًا من دينه فلا يعلم ولا يعمل ولا يدعو، بمعنى أن تختلط عنده الأحكام، ويستوي عنده الناس مسلمهم وكافرهم، وبمفهوم أوسع أن تضيع هوية المسلم فلا يكون مميزًا عن غيره في شيء، فلا شخصية متميزة بما أضفاه عليها الإسلام من العزة والكرامة والإباء ومحبة المؤمنين وبغض الكافرين والحذر منهم، ولا عقيدة صحيحة يتميز بها، لتصبح عقيدته عبارة عن مجموعة من المفاهيم القاصرة العاجزة الهشة، فيستوي عنده من يقول لا إله إلا الله، ومن يقول إن الله ثالث ثلاثة، يستوي عنده الحق مع الباطل، يستوي عنده العدل مع الظلم، ليكون عند ذلك صورة بغير روح، صنمًا أسك لا يصلح إلا لعبة في أيدي الصغار، وتلك نكبة أخرى.
لقد عاش الإسلام في المدينة مع اليهود ولكنه كان مميزًا بعقيدته التي لا تسمح بالتزايد، لدرجة أن اليهود طمعوا في المسلمين وظنوا أنهم سيجاملونهم فجاءوا لنبينا r ، وكانت قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة أدى مائة وسق من تمرًا فلما بعث رسول ا صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا ادفعوه إلينا فقالوا بيننا وبينكم رسول الله، فنزلت {سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين}، ويقول تعالى: {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين}.
فقد أخرج البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر أن اليهود جاؤوا إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال: (كيف تفعلون بمن زنى منكم؟)، قالوا: لا نجد فيها شيئا، فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم؛ في التوراة الرجم {فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين}، فجاءوا بالتوراة فوضع مدارسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم، فقال: ما هذه؟! فلما رأوا ذلك، قال: هي آية الرجم، فأمر بهما رسول ا صلى الله عليه وسلم فرجما قريبا من حيث توضع الجنائز عند المسجد.
قال عبد الله: (فرأيت صاحبها يحني عليها يقيها الحجارة).
ثم يذكّر القرآن النصارى فيقول: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}، لكن هل هؤلاء الغزاة الحاقدون لهم دين يرجعون إليه أو يعظمونه؟! هل لهم خلق يقدرونه أو يوقرونه ويتصفوا به؟!
يبرهن الغزاة الحاقدون بشتى الطرق أنهم مستمرون في صراعهم ضد الإسلام والمسلمين فهم يدعون الرقي والحضارة والثقافة وهم أهل الأساطير والخرافات، ومن يلق نظرة في التاريخ يعرف أيهم أرقي فكريا المسلمون أم النصارى، فهم يدعون الناس إلى مناصبة العداء للمسلمين فيتهموننا بالظلم والوحشية لينسى الناس الفظائع التي ارتكبتها الحملات الصليبية، وقد أباحوا لأنفسهم صنوف الأكاذيب ليستفزوا شعوبهم ضد المسلمين ولا بأس عندهم بالخيانة والغدر إذا كانت الخيانة والغدر تستنهض الهمم لمعاداة الإسلام والمسلمين.
لقد تخلت أمريكا عن كل تعهداتها السابقة من ادعاءات عن حقوق الإنسان، إلا إن كانوا يعرفون الإنسان أنه غير المسلم، فقد انتشرت عندهم المعتقلات وطرق التعذيب والاعترافات الوهمية، ولما انتهت تحقيقاتهم وعلموا أن المسلمين برآء من كل ما زعموه أخفوا نتائجها بزعم المحافظة على أمن أمريكا، لقد فشلوا فشلا ذريعًا في ديارهم، فجاءوا إلى ديارنا، فيقولون نريد الإسلام الديمقراطي، ومعناه الاستسلام الذليل المهان.
يريدون إسلامًا مهيض الجناح، منتهك القوى، إنهم كما قال القرآن عنهم {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل}.
يريدون إسلامًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، لكي يعطي كل ما يملك لإخوان القردة والخنازير وعبد الطاغوت عن طيب خاطر، فيقول للغزاة المجرمين سفاكي الدماء والأعراض؛ أنتم منقذو هذا العالم من الطغاة والمتجبرين.
الإسلام الديمقراطي:
أن لا تقوم لعقيدة الجهاد قائمة وأن يبقى المسلمون في ديارهم منزوعي الكرامة والعزة، لأنهم يعلمون أن قوة المسلمين في دينهم.(54/422)
روى أحمد أبو داود عن ابن عمر قال سمعت رسول الله يقول: (إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم).
إن هؤلاء الغزاة المجرمين إذا أرادوا أن يستبيحوا حرمة بلد من بلاد المسلمين لم يعجزوا عن اختلاق الأسباب المبررة لما أرادوا أن يفعلوا، والعذر الأقبح من كل ذنب قولهم أسلحة الدمار الشامل، وهذا العذر سيف موضوع الآن على أعناق جميع الحكام ليخضعوا ويستكينوا إلى أن يأتي عليهم الدور ألا لعنة الله على الظالمين، فمعلوم أن من دخل الحضانة أو الروضة لن يقف عندها بل هي مقدمة بين يدي التعليم الأساسي، وهذه مقدمة للمرحلة التالية، فعينه على الجامعة ولكن في حينها ثم الدراسات العليا ثم الدكتوراه، ثم على رئاسة القسم أو العمادة أو قل رئاسة الجامعة أو الوزارة وهكذا احتلال الشعوب، فليست العراق نهاية المطاف بل هي البداية، ومع تلك البداية الخبيثة بدأ هبل في شرح إسلامنا بموسوعة الإسلام الديمقراطي.
الإسلام الديمقراطي:
أن ينشغل المسلم بنفسه ولا يسأل عن أخيه، ولا يفكر في دعوة غيره إلى الإسلام، فهم يريدون إسلامًا باهتًا لا يتميز بشيء، أقول لو أن أبا جهل عرض عليه وعلى من معه من كفار قريش هذا الإسلام الديمقراطي لما ترددوا لحظة في قبوله لأنه غير مكلف فلا يغير سلوكا ولا يترتب عليه شيء لا عمل ولا تعبد، فهو دين بلا دين.
إن إسلامنا تميزه عقيدة صافية خالصة صحيحة تربط العبد بربه سبحانه، كما تربطه بالناس، فالعلاقة بالله تعالى تقوم على تقديسه وتنزيهه عن كل عيب ونقص، فلا تنسب لله تعالى الولد ولا الصاحبة لأن في ذلك سبًّا له سبحانه وشتما، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
فقد أخرج البخاري وأحمد والنسائي وابن حبان عن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل؛ كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني وشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، فأما تكذيبه إياي فقوله؛ لن يعيدني كما بدأني وليس الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه فقوله؛ اتخذ الله ولدا وأنا الله الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد).
بل يعتبر من نسب لله تعالى الصاحبة والولد كافرًا خاسرًا في الدنيا والآخرة إلا أن يتوب ويسلم لله رب العالمين، فعند ذلك يؤتى أجره مرتين.
فقد أخرج البخاري وأحمد والنسائي والبيهقي أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يؤتون أجورهم مرتين .... ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم أدرك صلى الله عليه وسلم فآمن به).
إن هذه العقيدة تشعر المسلم بانفراده بتعظيم الله بعبادته ومعرفته، وفي الوقت نفسه تربطه بالناس على أساس المحبة والبغض بناء على هذه العقيدة، وحتى الذين نبغضهم لا نظلمهم ولا نعتدي عليهم ولا ننتهك حرمتهم بل نعاملهم بالعدل، وأما من نحبهم فنعاملهم بالرحمة، كما ندعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، ونجادلهم بالتي هي أحسن.
أسأل الله تعالى أن ينجينا من شر هبل وأعوانه، وأن يكفينا شر تحريف الإسلام إلى ما يزعمونه الإسلام الديمقراطي، وشر تخطيط الغزاة المجرمين، وأن يرد كيدهم في نحورهم، وأن يكفيناهم بما شاء وكيف شاء إنه على كل شيء قدير.
{إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون}.
[بقلم؛ محمد رزق ساطور]
==============(54/423)
(54/424)
رسالة إلى مجاهدي العراق حول الديمقراطية والانتخابات
[الكاتب: أبو عمر السيف]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المجاهدين، نبينا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إلى إخواننا المجاهدين في العراق - نصرهم الله على أعدائهم -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد سطرتم بدمائكم وجهادكم وصبركم ملحمة من أعظم الملاحم في زماننا، التي ذكرتم الأمة بها في سالف عزها وصولة انتصاراتها.
وما تنعمون به من فرحة الانتصارات، وشفاء الصدور من أعداء الله الصليبين وحلفائهم، إنما هو نعمة من الله تعالى، ونصر من عنده، وقد قال تبارك وتعالى: {وما النصر إلا من عند الله}، وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
لقد خرجت الولايات المتحدة من ديارها رياءً وفخراً وطلباً للعلو في الأرض والصد عن سبيل الله تعالى، بصرف المسلمين عن إسلامهم وإدخالهم في دين الديمقراطية الكافرة، وقد زين لهم الشيطان أعمالهم الفاسدة، وصور لهم من خلال إعلامهم المضلل وغيره، أنهم يملكون أقوى دولة في العالم، وليس في الناس من يستطيع أن يغلبهم، كحال الذين قال الله تعالى عنهم: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ}.
أيها الإخوة:
إن الله تعالى شرع الجهاد في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.
وقال صلى الله عليه وسلم (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله).
وكلمة الله؛ هي كتابه، أي أن تكون شريعة القرآن هي العليا، فجهادكم للصليبين إنما هو دفاع عن دين الإسلام الذي يستهدف الأعداء إزالته من قلوب المسلمين ومن حياتهم، ويعاونهم في هذه الجريمة الديمقراطيون من أبناء جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا، الذين يسمون كفرهم وإفسادهم إصلاحاً، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}.
إن قيام الديمقراطية في العراق هو نصر للصليبين، حتى ولو انسحبوا من العراق وتركوا عملاءهم يحرسون طاغوت الديمقراطية الذي جعلوه إلهاً يُعبد من دون الله.
فالواجب على المجاهدين:
أن يجاهدوا جنود طاغوت الديمقراطية سواءً كانوا من الصليبين، أو من عملائهم الديمقراطين المرتدين، وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}.
أيها الإخوة:
إن دين الإسلام هو منهج ونظام للحياة، ويقوم على إقامة الدين وعدم التفرق فيه، ويأمر بالأخوة الإيمانية والاجتماع ووحدة الصف والكلمة، ويحرم الاختلاف والتنازع والتفرق الذي يقود إلى الفشل والهزيمة، وقد قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}، وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}، وقال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وقال صلى الله عليه وسلم (وأنا آمركم بخمس، الله أمرني بهن؛ السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع).
وقال أمير المرمنين عمر رضي الله عنه: (لا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة بلا إمارة، ولا إمارة بلا سمع وطاعة).
إن أهل السنة والجماعة هم الذين تمسكوا بالسنة واجتمعوا عليها، ولم تفرقهم وتتشعب بهم الأهواء والخلافات.
إن أعداء الله تعالى من الصليبين وطوائف الردة، على الرغم من اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم، فقد وحدوا صفهم وجمعوا كلمتهم على إقامة حكومة ديمقراطية كافرة في العراق.(54/425)
وفي المقابل، لا توجد للمجاهدين قيادة موحدة وإمام عام مبايع، وهذا مما حذر الله تعالى منه في كتابه، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}، أي إن لم يوالي بعضكم بعضاً وينصر بعضكم بعضاً تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
ومن الفساد الكبير أن تظهر الديمقراطية في بلاد المسلمين.
فالواجب على المجاهدين في العراق أن يوحدوا صفوفهم، وأن يبايعوا إماماً عاماً للمسلمين في العراق، قد توفرت فيه شروط الإمامة، ويتم اختياره من أهل الشورى من قادة المجاهدين ومن العلماء المجاهدين، ولا يدخل في الشورى المنافقون أو القاعدون عن الجهاد، لأنهم ليسوا من أهل الولايات في الإسلام.
وأما الإنتخابات العامة لاختيار الإمام العام، أو أعضاء مجلس الشورى، ولو في دولة تحكم بالإسلام؛ فإنها لا تجوز، وإنما هي من مسالك وسُبل النظام الديمقراطي الكافر، التي لا يحل ادعائها من الإسلام ونسبتها إليه.
ومن الأدلة على تحريم الإنتخابات العامة:
أن الحاكمية في الإسلام لله تعالى، وليست للشعب أو غيره، وإنما الواجب على الشعب الإنقياد لأمر الله وحكمه.
وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}.
ثانياً: إن إبطال الشروط الشرعية الواجب توفرها في الإمام أو أعضاء الشورى، وإبطال الطريقة الشرعية في اختيار الإمام واستبدالها بالإنتخابات الديمقراطية؛ هو من التحاكم إلى الطاغوت وتبديل حكم الله تعالى، وقد قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا}.
ثالثاً: أن مقصود الإمامة إقامة شريعة الله تعالى في جميع شؤون الحياة، وإقامة العدل، والأمر بالمعرو والنهي عن المنكر، ولتحقيق المقصود من الإمامة جاءت الشريعة بالشروط الواجب توفرها بالإمام؛ كالعدالة والاستقامة والعلم والشجاعة وغيرها من الشروط.
وأما الإنتخابات العامة فهي قائمة على أهواء الناس وشهواتهم، فإن أكثر الناس إنما ينتخبون من يحقق أهوائهم، دون إلتفات منهم إلى شروط الإمامة.
والله تعالى أمرنا باتباع أمره، وألا نتبع أهواء الناس، فقال تبارك وتعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}، وقال تبارك وتعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ* أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، وقال تبارك وتعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}، وقال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
رابعاً: أن الله تعالى خلق الجن والإنس لعبادته، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، وشروط الإمامة في الشريعة جاءت لتحقيق هذه الغاية، وأما الإنتخابات الديمقراطية العامة، فتلغي هذه الشروط، ويتم الاختيار بحسب أهواء الناس وشهواتهم - كما تقدم - وفي هذا مضادة لله تعالى في أمره وعبوديته.(54/426)
خامساً: لقد بين الله تعالى أن الأغلبية من الناس لا تتمسك بطاعته، ولا ترغب بشريعته وحكمه، بل تبتغي حكم الجاهلية، كقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}، وغيرها من الآيات التي تدل على تنكب أكثر الناس عن شرع الله وميلهم عن صراطه المستقيم.
فكيف يعلق مصير إقامة حكم الله في الأرض بهذه الأكثرية التي تبتغي حكم الجاهلية، وتعرض عن حكم الله تبارك وتعالى.
سادساً: أن الإسلام لا يُسوي في الدنيا ولا في الآخرة بين العالم والجاهل، والمسلم والكافر، والصالح والفاسق، وأما النظام الإنتخابي الديمقراطي؛ فيسوي بين جميع هؤلاء في الإنتخابات، وقد قال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ}، وقال تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}، وقال تبارك وتعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقال تبارك وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.
سابعاً: أن مبدأ الإنتخابات العامة قد لبس على كثير من الناس مفهوم الشرعية، فأصبح الكثير منهم يرى أن الشرعية تستمد من أغلبية الناس، وليس من كتاب الله تعالى وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا الضلال في مفهوم الشرعية الذي وقع فيه الكثير من الناس هو بسبب الشرك بالديمقراطية والتحاكم إليها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
============(54/427)
(54/428)
هذه هي الديمقراطية .. فهل أنتم منتهون؟
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الذين لا يزالون يعتبرون الاختلاف على الديمقراطية هو اختلاف في الوسائل والفرعيات التي لا تمس الأصول والاعتقاد!!
إلى دعاة الترقيع، والتقميش، والتوفيق!!
إلى الذين لا يزالون يتذرعون بجهل حقيقة الديمقراطية!!
إلى الذين يُلبسون الديمقراطية - زوراً وبهتاناً - ثوب الشورى والإسلام!!
إلى الذين يرون في الديمقراطية الحل الأمثل لمشكلات الإسلام والمسلمين!!
إلى الذين يروجون للديمقراطية، ويدعون لها، ثم يزعمون بعد ذلك أ نهم مسلمون!
إلى هؤلاء وغيرهم نقول:
الديمقراطية؛ تعني حكم الشعب، واختيار الشعب، والاحتكام إلى الشعب؛ فلا تعلو سيادة الشعب سيادة، ولا إرادته إرادة بما في ذلك إرادة الله، التي لا اعتبار لها وليست لها أيَّة قيمة في نظر الديمقراطية والديمقراطيين..
الديمقراطية؛ تعني أن مصدر التشريع والتحليل والتحريم هو الشعب وليس الله، ويتم ذلك عن طريق اختياره لممثلين ينوبون عنه في مهمة التشريع وسن القوانين..
وهذا يعني أن المألوه المعبود المطاع - من جهة التشريع - هو الإنسان وليس الله جلَّ في علاه.. وهذا مغاير ومناقض لأصول الدين والتوحيد، يدل على ذلك قوله تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه). وقوله تعالى: (ولا يشرك في حكمه أحدا)، وقوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله)، وقوله تعالى:(و إن أطعتموهم إنكم لمشركون). أي لأن عبدتموهم من جهة طاعتكم إياهم في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، فإنكم لعابدون لهم من دون الله؛ لأن الشرك لا يطلق في القرآن أو السنة إلا لنوع عبادة تصرف لغير الله عز وجل.
وكذلك قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)، فهم أرباب من دون الله لماَّ اعترفوا لهم بحق التشريع والتحليل والتحريم وسن القوانين من دون الله تعالى.
الديمقراطية؛ تعني رد أي نزاع أو اختلاف بين الحاكم والمحكوم إلى الشعب، وليس إلى الله والرسولل.. وهذا مغاير ومناقض لقوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله)، بينما الديمقراطية تقول: فحكمه إلى الشعب، وليس غير الشعب!
وقال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)، فجعل الله عز وجل من لوازم الإيمان رد النزاع - أي نزاع - إلى الله والرسولل؛ أي إلى الكتاب والسنة.
الديمقراطية؛ تعني مبدأ حرية الاعتقاد والتدين؛ فللمرء - في حكم الديمقراطية - أن يعتقد ما يشاء، ويتدين بالدين الذي يشاء، ووقت يشاء، ولو أراد أن يرتد من الإيمان إلى الكفر والإلحاد فلا راد له ولا مُعيب عليه.
أما حكم الإسلام فهو على نقيض ذلك، وهويتمثل في قوله صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه)، وليس فاتركوه. وقوله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة..)، وقوله صلى الله عليه وسلم (بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعبد الله تعالى وحده لا شريك له..).
ومعلوم أن الإسلام انتهى حكمه في أهل الكتاب إلى إحدى ثلاث: إما الإسلام، وإما الجزية وهم صاغرون، وإما القتل والقتال. أما عبدة الأوثان من مشركي العرب وغيرهم فليس لهم إلا الإسلام أو القتل والقتال.
وكذلك يوم نزول عيسى عليه السلام - كما دلت على ذلك السنة - فإنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويسقط الجزية، ولا يقبل من مخالفيه - بما فيهم أهل الكتاب - إلا الإسلام، أو القتل والقتال.
على ضوء هذه الحقائق والنصوص، وغيرها من النصوص الشرعية ذات العلاقة بالمسألة يجب أن يفهم قوله تعالى: (لا إكراه في الدين).
الديمقراطية؛ تعني مبدأ حرية التعبير والإفصاح، أيَّاً كانت صفة هذا التعبير؛ ولو كان شتماً لله ولرسوله، وطعناً في الدين، إذ لايوجد في الديمقراطية شيء مقدس يحرم الخوض فيه أو التطاول عليه بقبيح القول.. وأي إنكار على ذلك يعني إنكار على النظام الديمقراطي برمته، ويعني تحجيم الحريات المقدسة في نظر الديمقراطية والديمقراطيين.
وهذا عين الكفر في دين الله؛ إذ لا حرية في الإسلام لكلمة الكفر والشرك، للكلمة التي تفسد ولا تصلح، وتدمر ولا تبني، وتفرق ولا توحد.
قال تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم)، وقال تعالى: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون. لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم).
وهذه آيات نزلت في نفرٍ قالوا وهم في طريقهم إلى غزوة تبوك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء.. فكفروا بذلك بعد أن كانوا مؤمنين.
وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار).
وعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يارسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: (هذا).(54/429)
وقال صلى الله عليه وسلم (من وقاه الله شر ما بين لحييه وشر ما بين فخذيه دخل الجنة).
وقال صلى الله عليه وسلم (وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم).
فأين الديمقراطية من هذا الأدب الرفيع الذي جاء به ديننا الحنيف؟
الديمقراطية؛ - يا قوم - تعني العلمانية بكل أبعادها؛ حيث تقوم على مبدأ فصل الدين - أي دين - عن الدولة والحياة، فالله تعالى ليس له في نظر الديمقراطية سوى الزوايا، والمساجد، والكنائس والمعابد شريطة أن لا يكره أحد على دخول هذه الأماكن، وما سوى ذلك من جوانب الحياة السياسية والاقتصادية، والاجتماعية وغيرها فهي ليست من خصوصياته، وإنما هي من خصوصيات الشعب وحده.. وللشعب كذلك صلاحيات التدخل في شؤون والمساجد لو اقتضت الضرورة ذلك..
(فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون)، وقال تعالى: (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً أليما).
(أولئك هم الكافرون حقاً) هو حكم كل ديمقراطي علماني يفصل الدين عن الدولة والسياسة، وشؤون الحياة.. وإن زعم بلسانه - ألف مرة - أنه من المسلمين المؤمنين.
الديمقراطية؛ تعني مبدأ الحرية الشخصية للفرد، فالمرء له - في ظل الديمقراطية - أن يفعل ما يشاء، من الموبقات والفواحش والمنكرات.. من غير حسيب ولا رقيب!
والإباحية التي عرفت بها فرق الزندقة عبر التاريخ، ماذا تعني غير ذلك؟!
الديمقراطية؛ تعني أن الذي يختاره الشعب هو الذي يحكم البلاد والعباد، ولو كان المختار كافراً زنديقاً مرتداً عن دين الله..
وهذا مناقض لقوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً).
وهو كذلك مناقض لإجماع الأمة على أن الكافر لاتجوز له ولاية على المسلمين ولا على بلادهم..
الديمقراطية؛ تعني مساواة الناس جميعاً في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن انتمائهم العقدي الديني، وسيرتهم الذاتية الأخلاقية؛ حيث أن أكفر وأفجر وأجهل الناس يتساوى مع أتقى وأعلم وأصلح الناس في تقرير أهم القضايا وأخطرها، وهي من يحكم البلاد والعباد!
وهذا مناقض لقوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون)، وقال تعالى: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون)، وقال تعالى: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون)؟
في دين الله لا يستوون، بينما في دين الديمقراطية نعم يستوون!!
الديمقراطية؛ تقوم على مبدأ حرية تشكيل التكتلات والأحزاب السياسية وغير السياسية، أيَّاً كانت عقيدة وأفكار ومناهج هذه الأحزاب، ومهما كثر تعدادها، ولها تمام الحرية في نشر كفرها وباطلها وفسادها بين البلاد والعباد..
وهذا يعني - من منظور الشرع - الإقرار طواعية بشرعية وحرية الكفر والشرك، والارتداد والإفساد.. وهو مناقض لما يجب القيام به نحو الكفر والمنكر من تغيير وإنكار، كما قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله).
وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). أي لا مناص من إنكار المنكر وتغييره ولو في القلب عند حصول العجز عن إنكاره باليد أو اللسان، أما أن يمتد التعامل مع المنكر إلى حد الرضى به أو المطالبة فهو عين الكفر البواح، وهذا الذي يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، أي ليس وراء إنكار القلب سوى الرضى، والرضى بالكفر كفر ينفي مطلق الإيمان عن صاحبه.
وكذلك قول صلى الله عليه وسلم في حديث السفينة، كما في صحيح البخاري وغيره، وفيه: (فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
وهذا مثل الديمقراطية، فهي تقول - بكل وقاحة ووضوح -: دع للأحزاب حريتها أن تخرق السفينة ليغرقوها بمن فيها من الأنفس والحرمات، بمعاولهم الهدامة.
ثم إذا كان مجرد ترك الأحزاب الباطلة - المنكر الأكبر - من دون أن ننكر عليها أو نأخذ على أيديها بالزجر والإنكار والمنع مؤداه إلى هلاك المجتمعات بما فيها من المسلمين، فما يكون القول فيما لو اعترفنا طوعاً بشرعيتها وحريتها في أن تفعل ما تشاء وتريد؟!
وهو - أي الاعتراف بشرعية الأحزاب الباطلة - كذلك فإن مؤداه إلى تفريق الأمة، وإضعاف شوكتها، وتشتيت ولاءاتها وانتماءاتها في أحزاب شيطانية متناحرة متباغضة، متنافرة ما أنزل الله بها من سلطان.
وهذا مناقض لقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا). ولقوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أ بعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة).(54/430)
الديمقراطية؛ تقوم على مبدأ اعتبار وإقرار موقف ورأي الأكثرية، مهما كان نوع هذه الأكثرية، وأيَّاً كان موقف هذه الأكثرية، هل وافقت الحق أم لا، فالحق في نظر الديمقراطية والديمقراطيين هو ما تجتمع عليه الأكثرية ولو اجتمعت على الباطل أو الكفر الصريح!
بينما الحق المطلق - في نظر الإسلام - الذي يجب التزامه والعض عليه بالنواجذ - ولو فارقك جماهير الناس - هو الحق المسطور في الكتاب والسنة. فالحق ما وافق وطابق ما في الكتاب والسنة وإن اجتمعت جماهير الناس على خلاف ذلك، والباطل ما حكم عليه الكتاب والسنة بالبطلان ولو اجتمعت جماهير الناس على خلاف ذلك. فالحكم لله وحده، وليس للبشر أو الأكثرية.
قال تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون).
وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من الأنبياء من لم يصدقه من أمته إلا رجل واحد). فأين موقع هذا النبي ومعه الرجل الواحد في ميزان أكثرية الديمقراطية؟!
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لعمرو بن ميمون: (جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك).
وقال ابن القيم في أعلام الموقعين: (اعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان وحده، وإن خالفه أهل الأرض) انتهى.
الديمقراطية؛ تقوم على مبدأ الاختيار والتصويت، حيث كل شيء مهما سمت قداسته أو قلَّت يجب أن يخضع لعملية التصويت والاختيار، ولو كان المصوت عليه هو شرع الله سبحانه وتعالى..
وهذا مناقض للخضوع والانقياد، والاستسلام التام، والرضى المنافي لأدنى تعقيب أو تقديم أو اعتراض، الذي يجب على العبد نحو ربه سبحانه وتعالى، والذي لا يستقيم للعبد دين ولا إيمان إلا بذلك، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم * يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون).
فإذا كان مجرد رفع الصوت فوق صوت صلى الله عليه وسلم مؤداه إلى حبوط الأعمال، ولا يحبط الأعمال إلا الكفر والشرك، فما يكون القول فيمن يرفع حكمه أو قوله فوق حكم وقول النبي صلى الله عليه وسلم ، لا شك أنه أولى في الكفر والارتداد، وأن يحبط عمله كل عمله.
وقال تعالى: (ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).
بينما الديمقراطية تقول: نعم لهم أن يختاروا وأن يعقبوا، ويرفضوا!!
وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً).
الديمقراطية؛ تقوم على نظرية أن المالك الحقيقي للمال هو الإنسان؛ وبالتالي فله أن يكتسب المال بالطرق التي يشاء، كما ينفق ماله بالطرق التي يشاء ويهوى، وإن كانت هذه الطرق محرمة ومحظورة في دين الله، وهذا مايسمونه بالنظام الرأسمالي الحر.
وهذا بخلاف ما عليه الإسلام الذي يقرر أن المالك الحقيقي للمال هو الله سبحانه وتعالى، وأن الإنسان مستخلف عليه، وهو مسؤول عنه أمام الله تعالى: كيف اكتسبه، وفيما أنفقه.
فالإنسان في الإسلام كما ليس له أن يكسب ماله بالحرام والطرق غير المشروعة، كالربا، والرشوة، والسحت والمتاجرة فيما هو حرام وغير ذلك، كذلك لا يجوز له أن ينفق ماله في الحرام والطرق الغير مشروعة، بل إن الإنسان في الإسلام لا يملك نفسه في أن يفعل بها ما يشاء بعيداً عن هدي الإسلام؛ لذلك عُدَّ إنزال الضرر في النفس والانتحار من أكبر الكبائر التي يجازي الله عليها بالعذاب الأليم، وهذا المعنى نجده في قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء)، وقال تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتُلون ويُقتَلون). وهذا شراء ما يملك سبحانه وتعالى - خاص بالمؤمنين - إمعاناً في الكرم والجود والفضل، وترغيباً بالجهاد والاستشهاد.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعزي أحداً في مصابه، يقول له: (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى). وبالتالي ليس للإنسان أن يعترض على أخذ شيء منه هو لا يملكه، وإنما ملكه لغيره؛ وهو الله سبحانه وتعالى.
هذه هي الديمقراطية باختصار...
وبناء على ما تقدم:
فإننا نقول جازمين غير مترددين ولا شاكين في أن الديمقراطية حكمها في دين الله تعالى هو الكفر البواح الذي لا يخفى إلا على كل أعمى البصر والبصيرة. وأن من اعتقدها، أو دعى إليها، أو أقرها ورضيها، أو حسَّنها - على الأسس والمبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية الآنفة الذكر - من غير مانع شرعي معتبر، فهو كافر مرتد عن دينه وإن تسمى بأسماء المسلمين، وزعم زوراً أنه من المسلمين المؤمنين، فالإسلام وحال هذا وصفه لا يجتمعان في دين الله أبداً.(54/431)
أما من كان يقول بالديمقراطية جاهلاً للمعاني والأسس والمبادئ - الآنفة الذكر - التي تقوم عليها الديمقراطية، فمثل هذا نرى الإمساك عن تكفيره بعينه، مع بقاء القول بكفر قوله، إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية التي تبين له كفر الديمقراطية، ومناقضتها لدين الله تعالى، لأن الديمقراطية من المصطلحات والمفاهيم المستحدثة والمشكلة على كثير من الناس، التي يمكن أن يعذر فيها بالجهل إلى أن تقوم الحجة الشرعية التي بها يندفع جهل الجاهل.
وكذلك الذي يقول بالديمقراطية وهو لا يريد المعاني والأسس الآنفة الذكر، وإنما يستخدمها كمصطلح يريد بها الشورى، أو حرية التعبير والإفصاح عن الكلمة البناءة، أو رفع القيود والرقابة التي تمنع الناس من ممارسة حقوقهم الشرعية والأساسية في الحياة، وغير ذلك من التأويلات والتفسيرات الفاسدة التي لا تحتملها الديمقراطية أساساً، فمثل هذا - رغم خطئه - إلا أنه لا يكفر، ولا ينبغي أن يُكفَّر.. هذا ما يقتضيه العدل والإنصاف، وتلزم به قواعد الدين وأصوله.
أما حكم الإسلام في العمل النيابي والنواب:
فإننا نقول: إن العمل النيابي - للمزالق العقدية والشرعية التي لا يمكن تفاديها - هو كفر بواح بدين الله تعالى، ولا يجوز القول بخلاف ذلك.
أما النواب أنفسهم الذين سلكوا هذا النفق المظلم، فإننا نقول فيهم: من غلبت منهم شبها ته، وتأويلاته، وأدلته، مزالقه وأخطاءه، فمثل هذا نرى فيه أن يمسك عن تكفيره بعينه - مع بقاء القول بكفر فعله ومسلكه - إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية التي تدفع عنه ما وقع فيه من مخالفات وجهالات.
أما من غلبت مزالقه وأخطاؤه، شبهاته وتأويلاته وأدلته، فمثل هذا، القول فيه: أنه يكفر بعينه لانتفاء موانع التكفير عنه، وتحقق شروطه فيه، والله تعالى أعلم.
هذه هي الديمقراطية، وهذا هو حكمها، وحكم القائل والعامل بها.. فهل أنتم منتهون، فهل أنتم منتهون؟
اللهم إني قد بلَّغت فاشهد.
[عبد المنعم مصطفى حليمة؛ أبو بصير | 11/ 2/ 1999م]
============(54/432)
(54/433)
القسطية لا الديمقراطية
[الكاتب: جعفر شيخ إدريس]
الديمقراطية هي الفتنة الجديدة التي ابتلي بها المسلمون، بل الناس عامة. وزاد من الافتتان بها أن الولايات المتحدة، ولا سيما في عهد رئيسها الحالي، جعلت نشرها من أكبر أهدافها التي تنفق في سبيلها الأموال الطائلة وتقيم الحروب الطاحنة، وجعلت الالتزام بها هو معيار تقدم الأمة واستحقاقها لصداقة الولايات المتحدة، أو هكذا
ومما جعل مناقشتها مع مؤيديها والدعاة إليها والراضين بها من المسلمين أمراً صعباً أنه لم يعد لها معنى واحد عند الداعين إليها. بل صارت تشير إلى معان عدة يختار كل واحد منهم ما شاء منها، ولا يدري أن صاحبه يشير بالكلمة إلى معنى غير المعنى الذي يقصده هو.
هذا الاختلاف في مفهوم الديمقراطية أمر يشكو منه كبار منظِّريها وفلاسفتها المعاصرين؛ فهذا أحدهم يقول ما ترجمته: (هنالك ميل إلى وصف النظام بالديمقراطي فقط لأننا نوافق عليه. ولكننا عندما نفعل ذلك إنما نتحدث عن آرائنا لا عن النظام).
ويقول: (المعتقد عموماً أن "الديمقراطية" عبارة صارت تستعمل استعمالاً واسعاً جعلها كلمة غامضة، بل كلمة لا معنى لها. إن كل شكل من أشكال التنظيمات في المجال السياسي - بل وغير السياسي - أصبح يوصف بالديمقراطية أو الديمقراطي) [1].
سنحاول فيما يلي مناقشة صلة الديمقراطية بالإسلام بحسب المعاني المختلفة التي يقصدها أنصارها من المسلمين؛ لأن الإنسان إنما يسأل عن المعنى الذي قصده من عبارته، حتى لو كان استعماله للعبارة خطأ.
* * *
وقد أدرنا الحوار في مسائل الديمقراطية هذه بين مسلميْن يدعو أحدهما إلى نظام سياسي إسلامي خالص يسميه القِسْطِيَّة، وآخر من دعاة الديمقراطية.
يبدأ القِسْطي الحوار بقوله: دعونا نتفق أولاً على ما نعنيه بالقسطية، وما نعنيه بالديمقراطية. أما القسطية فهي كما يدل عليها لفظها الحكم بالقِسْط. والحكم بالقسط هو الحكم بما أنزل الله تعالى. وما أنزل الله يشمل الأحكام الجزئية التي تدل عليها الأدلة التفصيلية من كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، ويشمل المبادئ الأساسية التي يسميها الفقهاء بكليات الشريعة التي تقرر فيما تقرر أن كل ما حقق القسط فهو من شرع الله، فتفتح الباب واسعاً للاستفادة من كل تجربة بشرية نافعة أياً كان مصدرها.
وإذا كانت القسطية هي الحكم بما أنزل الله؛ فإن الديمقراطية هي الحكم بما يراه الشعب. هذا هو معناها الذي يدل عليه لفظها، وهو المعنى المتفق عليه بين منظِّريها. حكم الشعب معناه أن الشعب صاحب السيادة العليا في المسائل التشريعية، وأنه لا سلطة فوق سلطته التشريعية، وعليه فإن كل ما حكم به فيجب أن يكون هو القانون الذي يخضع له كل مواطن من مواطني القطر الذي اختار الديمقراطية نظاماً سياسياً له.
لا يمكن لإنسان يدعي الإسلام ويعرف معناه أن يؤمن بالديمقراطية بهذا المعنى؛ لأنه إيمان يتناقض تناقضاً بيناً مع أصل من أصول الإيمان التي جاء بها دينه، والتي تؤكدها كثير من آيات الكتاب وأحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم . من ذلك قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49 - 50]، {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا * وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء: 60 - 61]، {إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، {إنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40].
ماذا تعني أنت بالإسلام، وماذا تعني بالديمقراطية؟
الديمقراطي: أما الإسلام فأظننا متفقون على معناه، وأما الديمقراطية؛ فأنا لا أعني بها ما ذكرت. هل تتوقع من إنسان مسلم أن يقول إن من حق الناس أن يشرعوا تشريعات لم ياذن بها الله؟
- ماذا تعني بها إذن؟(54/434)
- لقد عانت الشعوب العربية كثيراً من الحكم الفردي الدكتاتوري. فالذي أريده هو أن يستبدل بهذا الحكم حكم ديمقراطي يكون من حق الشعب فيه أن يختار حكامه في انتخابات حرة نزيهة، وأن يحاسبهم، وأريده ان يكون حكماً يلتزم بما يسمى بحكم القانون فلا يفرق بين الناس في المعاملة، وأن يكون حكماً يستمتع الناس فيه بحقهم في الحرية، حرية التعبير، وحرية الحركة، وحرية تكوين الأحزاب والجماعات، وأن يكون حكماً يتميز بتداول السلطة، وأن يكون حكماً شفافاً لا تحاك الأمور فيه في الظلام بل تُعرض على الناس ليقولوا فيها رأيهم. فحكم الشعب في رأيي ليس المقصود به المقابلة بين ما يراه الشعب وما يحكم به الخالق سبحانه، وإنما المقصود به حكم الشعب في مقابلة حكم الفرد.
الاستعمال الصحيح للكلمات هو أن يقصد بها المعنى المتفق عليه بين مستعمليها، ولا سيما المختصين منهم بالأمر. فاستعمالك لكلمة الديمقراطية بهذا المعنى المحدود هو استعمال غالط؛ لأنه إذا كانت الديمقراطية هي حكم الشعب، لزم عن ذلك منطقاً أن كل ما ليس بحكم للشعب فليس بحكم ديمقراطي، سواء كان الحاكم به فرداً أو مجموعة من الأفراد، وحتى لو كان هو الخالق سبحانه.
لكنني تمشياً مع المبدأ الذي ذكرته ساناقشك في الديمقراطية بحسب فهمك الغالط هذا لها، فاقول لك: إن كل هذا الذي ذكرته هو من مبادئ الحكم التي اختارها الغربيون، فصارت الديمقراطية في نظرك ليست حكم الشعب، ومنهم شعب بلدك، وإنما هي حكم الشعب الأمريكي أو الإنجليزي.
لقد تداول مفكرو الشعب الأمريكي وممثلوه مثلاً الرأي في نوع الحكم الذي يرونه صالحاً لبلادهم، وتأثروا في اختيار ما اختاروه بكبار الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين، كما تأثروا بتاريخهم وقيمهم الدينية وغير الدينية، ثم اتفقوا بأغلبيتهم على وضع دستور يضمن تلك المبادئ. أما أنت فلا تريد لأمتك أن تفكر كما فكروا، بل تريد لها أن تكون أمة مقلدة تأخذ ما توصل إليه اولئك الأصلاء وتطبقه على بلدك مهما كان الاختلاف بينكم وبينهم.
- أنا لا أقول بما قلتُ؛ لأن الغربيين قالوا به، وإنما أقول به لأن تلك المبادئ الديمقراطية التي ذكرتها مبادئ إنسانية تصلح لكل البشر في كل زمان ومكان.
- هذا أولاً ليس بصحيح؛ فقد كان معظم المفكرين الغربيين ضدها، ولم تلقَ هذا القبول والشعبية إلا بعد الحرب العالمية الثانية؛ فهل تقول: إن الناس لم يكتشفوا شيئاً هو من لوازم بشريتهم إلا قبل من مئة عام؟ ثم إن المبادئ التي ذكرتها ليست من لوازم الديمقراطية بمعنى حكم الشعب، وليست من المتفق عليه بين كل الشعوب التي اخذت بالنظام الديمقراطي.
- هل تتكرم بذكر أمثلة لما ترى أنه ليس من لوازم الديمقراطية؟
- قد تستغرب إذا قلت لك إن النظام الحزبي ليس من لوازم الديمقراطية، وأن بعض من يسميهم الأمريكان بالآباء الذين صاغوا دستورهم كانوا ضدها وكانوا يعدُّونها مما يُذْكي الخلاف بين الناس ومما يؤدي إلى الفساد. ولذلك لا تجد لها ذكراً في دستورهم. وقد يزيد استغرابك إذا قلت لك إنه حتى الانتخابات ليست من لوازم الديمقراطية. إن كل ما تتطلبه الديمقراطية هو أن يختار الناس من يحكمهم. أما أن يكون الاختيار بهذه الطريقة المعينة؛ فليس من لوازم الديمقراطية.
- كيف يكون الاختيار إذن؟
- لقد كان الأثينيون يختارون المسؤولين بالاقتراع. ويرى بعض المفكرين الماركسيين اليوم أن طريقة الاقتراع أقرب إلى فكرة الديمقراطية التي تساوي بين الناس وتفترض أن كل واحد منهم من حقه أن يكون حاكماً، وهم يرون أن الانتخابات لا تحقق هذه المساواة؛ لأنها تفتح الباب لتأثير المال وتأثير الإعلام والدعايات، ويستدلون على عدم المساواة هذه بالنسبة الكبيرة للرجال في مقابل النساء، وبالنسبة الكبيرة لمن له مال، أو لمن تخرَّج في الجامعات في مقابل طبقات العمال والمزارعين والعامة. ولو كنت ممن يؤمن بالديمقراطية لاتفقت معهم.
- ننتقل إلى موضوع آخر. ألا ترى في الديمقراطية ما يتوافق مع الإسلام؟
- بلى فيها الكثير مما يتوافق مع الإسلام.
- فلماذا إذن لا نقول إن الديمقراطية التي نريدها هي هذه المبادئ الديمقراطية التي تتوافق مع ديننا؟
- لأنني لا أريد أن أنسب إلى الديمقراطية فضلاً ليس لها. فإذا كان ديني هو السابق إلى تلك المبادئ الحسنة؛ فلماذا أنسبها إلى الديمقراطية؟
- تنسبها إليها فقط؛ لأنها تتوافق معها.
- إن في النصرانية واليهودية الكثير مما يتوافق مع الإسلام مما هو أهم من تلك المبادئ السياسية التي ذكرنها، فهل نقول إن الإسلام نصراني أو يهودي؟
- هل تعني ان علينا أن لا نستفيد من تجارب غيرنا، وأن نغلق الباب دون كل فكر حديث وتجربة حديثة؟
- أنا لم أقل هذا، بل قلت لك: إن مثل هذه الاستفادة هي من لوازم الحكم بالقسط. لكنَّ هنالك فرقاً بين أن ألتزم بديني، ثم أستفيد من تجارب الآخرين فأضع كل جزئية استفدتها في إطاري الإسلامي، وبين أن أستبدل بإطاري الإسلامي إطاراً آخر، ثم أضع فيه ما يناسبه مما هو في ديني. وهذا الأخير هو ما تدعونا إليه أنتم معاشر الداعين إلى الديمقراطية.(54/435)
- نسيت أن أسألك: ما المبادئ الديمقراطية التي ترى انها تتوافق مع الإسلام؟
- منها: مبدأ حق الأمة في اختيار حكامها؛ فيكفيك فيه هذه القصة التي أوردها الإمام البخاري في صحيحه والتي سنجتزئ كلمات منها لضيق المجال. قال عبد الرحمن بن عوف لابن عباس وهم في منى: (لو رأيت رجلاً أتى أميرَ المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين! هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً؟... فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشيةَ في الناس فمحذرهم من هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم [2]... من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّة [3] أن يُقْتَلا) [4].
ومنها المبدأ المسمى بحكم القانون، فيكفيك فيه قول الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، وقوله تعالى: {فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152].
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (يا أيها الناس! إنما ضل مَنْ كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) [5].
ومنها: مبدا الإباحة الذي يسمى الآن بالحرية؛ فإن المبدأ الإسلامي يقول: إن الأصل في الأشياء الدنيوية هو الإباحة. فالإنسان يتحرك ويتكلم، ويأكل ويشرب، ويبيع ويشتري حتى يقول له الدين: لا تفعل كذا أو كذا. وإذا كان الإسلام قد جعل الدعوة إلى الله تعالى أعظم مهمة يقوم بها بشر، وإذا كان قد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصفات المميزة للمسلم؛ فكيف لا يبيح له أن يعبر عن نفسه؟ لكنها حرية في إطار القِيَم والأحكام الإسلامية كما أن الحرية في البلاد الغربية الديمقراطية هي في إطار قيمهم وقوانينهم.
ومنها: ما صار يسمى بالشفافية. هل رأيت دليلاً عليها أصدق من أننا ما نزال نعرف كل ما دار من كلام بين المسلمين في الشؤون العامة في عهد صلى الله عليه وسلم وفي عهد خلفائه الراشدين، بل نعرف كثيراً مما دار حتى بعد تلك العهود؟ ألسنا نعرف ما دار في اجتماع المسلمين لاختيار خليفة للرسو صلى الله عليه وسلم ؟ ألسنا نعرف ما دار بينهم في أمر قتال المرتدين؟ ألسنا نعرف كيفية اختيارهم للخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه؟
- إذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا تخلَّف المسلمون في عصورنا هذه في هذه الأمور؟ ولماذا عمت بلادهم إلا قليلاً الحكومات الاستبدادية؟
- هذه قصة طويلة لعلنا نناقشها في مناسبة أخرى. أما الآن فيكفي أن أذكِّركم بأن الدين إنما هو هداية وتوجيه، وأوامر ونواه؛ فليس فيه هو نفسه ما يجبر الناس على تطبيق ما يؤمرون به. فإذا كان هنالك من خطأ فهو في الناس وليس في دين الله. ثم إذا كان الناس لم يلتزموا بهذه المبادئ وهم يعلمون أنها من دين الله؛ فهل تظن أنهم سيلتزمون بها لأنها أتتهم من الغرب؟ إنه لا بد من عمل لإصلاح الأمة لتتقبل هذه المبادئ وتضحي في سبيلها.
- نحن ندعو إلى الديمقراطية؛ لأن فيها من الآليات ما يحول دون هذا الانحراف؟
- كلاَّ، ليس فيها شيء مما تتوهم، بل إن مفكريها يعترفون بأن النظم لا تصلح إلا بصلاح الأمم. وما يقال عن الإسلام يقال أسوأ منه عن الديمقراطية؛ فليس فيها ما يجبر الناس على الالتزام بكل مقتضياتها، ولذلك فإن أسوأ دكتاتور عرفه الغرب إنما جاء بانتخابات حرة، أعني هتلر، كما أن كثيراً من الحكومات المنتخبة كانت حكومات فاسدة. بل إن أكبر القرارات والسياسات الظالمة كانت في عصرنا هذا نتيجة قرارات ديمقراطية لا شك في ديمقراطيتها. فاستعمار الغربيين لكثير من بلدان العالم بما فيها البلدان الإسلامية كان نتيجة قرارات ديمقراطية، وغزو أفغانستان ثم العراق وقتل الآلاف المؤلفة من الأبرياء وتخريب البلاد كان نتيجة قرارات ديمقراطية لا يرتاب أحد في ديمقراطيتها. فإذا كان ما حدث في العالم الإسلامي إنما يعزى إلى البشر لا إلى الدين؛ فإن كثيراً مما حدث في البلاد الغربية إنما كان شيئاً يأذن به المبدأ السياسي الذي يدينون به.
- كل هذا صحيح لا يماري فيه منصف. لكن أظنك تسلِّم معي بأنَّ هنالك شيئاً يُعزى إلى الدين نفسه.
- ما هو؟
- إن الإسلام يقر مبدأ اختيار الأمة لحاكمها، ولكنه لم يلزم المسلمين بطريقة معينة لاختيار الحاكم.
- وكذلك الامر في الديمقراطية. إنها إنما تقول إن الحكم للشعب، وهذا يقتضي أن يكون الشعب هو الذي يختار حكامه. لكن ليس فيها ما يقول إن الحكام أو النواب يجب أن يُختاروا بالطريقة الفلانية. ولذلك فإنهم يختلفون في ما ينهجون من وسائل لاختيار حكامهم.
- لكنها كلها تقوم على مبدأ الانتخابات.(54/436)
- نعم لكن هذه هي الطريقة التي رأى الغربيون أنها مناسبة لهم في عصرهم هذا وفي ظروفهم هذه، وليست الطريقة التي تلزمهم بها الديمقراطية. والمسلمون يستطيعون أن يختاروا لأنفسهم من الوسائل ما يحقق مبدأ اختيارهم لحكامهم ذاكرين أن الحاكم في الإسلام إنما يُختار ليحكم بما أنزل الله لا برأي من انتخبوه، ملتزمين في ذلك بمبدأ الشورى كما أشار إلى ذلك الإمام ابن حجر في في كلمته التي نقلناها آنفاً. إن عدم تحديد الإسلام للطريقة التي يُختار بها الحاكم هي من محاسنه لا من نواقصه؛ لأن هذه الطرق تتأثر بالظروف والملابسات التي تتغير بتغير الزمان والمكان. ولذلك فإن الغربيين حتى مع اتفاقهم على مبدأ الانتخابات وجدوا أن للانتخابات صوراً شتى تختلف نتائج كل واحدة منها عن الأخرى، ولذلك اختلفوا في ما يتبنون منها. ولا داعي للدخول في تفاصيلها؛ فهي أمور معروفة.
[1] Ba r ry Holden, Unde r standing Libe r al Democ r acy, Philip Allan, Londeon, 1988, p. 2.
[2] قال الإمام ابن حجر: (والمراد أنهم يثبون على الأمر بغير عهد ولا مشاورة. وقد وقع ذلك بعد على وفق ما حذره عمر رضي الله عنه).
[3] تَغِرة: فسرها الإمام ابن حجر بقوله: أي حذراً من القتل... والمعنى: أن من فعل ذلك فقد غرَّر بنفسه وبصاحبه وعرَّضهما للقتل.
[4] كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.
[5] رواه البخاري في كتاب الحدود من صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها.
==============(54/437)
(54/438)
الإسلام والديمقراطية ؛ توأمان أم ضدان؟
[الكاتب: حسن الحسن]
لا بدّ من مناقشة فكرة الديمقراطية وأبعاد تجسيدها في العالم الإسلامي بمنتهى الهدوء والروية وحسن التبصر.
قد يتصور البعض أنّ نقاش فكرة الديمقراطية وتحديد مدى علاقتها بالإسلام، إنما هو جدلٌُ سفسطائي لا طائل منه.
والصحيح أنّ هذا الحكم هو في منتهى السطحية، ذلك أنّ مدار بحث الديمقراطية بات شأناً عالمياً، حيث يروج لها الغرب الذي تهيمن حضارته ونفوذه على العالم، على أنها النموذج الأوحد الذي يصلح للعيش البشري السويّ، ويدعو بالتالي إلى نشره وإرسائه، بل وقد يتدخل بالقوة لفرضه، لا سيّما في العالم الإسلامي.
كما باتت معاييرُ سلامة الوضع الاجتماعي والثقافي والسياسي العام في أيٍ من دول العالم، تعتمد على مدى ترسيخها القيم الديمقراطية، ودلالات صحتها وعافيتها تقاس بمدى تحقق التحول الديمقراطي فيها.
ويفترض الغربُ أنّ العالم الإسلامي سيبقى معرضاً للاهتزاز والاضطراب وانعدام الاستقرار طالما غابت الديمقراطية عنه، وطالما بقي الحكم الشمولي الدكتاتوري مستمراً فيه، مما يجعله في نظرهم بؤرة توترٍ ومصدر قلقٍ دائمٍ لباقي العالم، وأنّ انعتاق المسلمين من أتون الظلم والقهر والتخلف، هو رهنٌ بمدى التقدم الديمقراطي في بلادهم.
ولقوة الدول التي تستند إليها الفكرة الديمقراطية، مضافاً إليها ذلك الوهج الذي حظيت به في العقود الأخيرة، باتت أغلب الفئات الناشطة في الميدان السياسي في العالم الإسلامي، تدّعي الديمقراطية وتدعو لها، بل وتزعم أنّها الهدف الأساسي لها، رغم مناقضتها لها عملياً أو عقائدياً أو كليهما في أغلب الأحيان.
وبهذا تتضح مدى حساسية القضية، إذ أنها تتعلق بفرض رؤية ما ينبغي أن يكون عليه واقع ومستقبل الأمة الإسلامية.
ولهذا كان لا بدّ من مناقشة فكرة الديمقراطية وأبعاد تجسيدها في العالم الإسلامي بمنتهى الهدوء والروية وحسن التبصر.
وتبدو الحاجة أكثر إلحاحاً لفهم ماهية العلاقة بين الديمقراطية والإسلام، كونه يعتبر العامل الحاسم في تشكيل هوية الأمة التي تعتنقه وتعتبره وحده الصالح لإسباغ الشرعية على أية نظم أو قوانين أو أفكار تنظم شؤون حياتها، وفي حالة عدم شرعية تلك الأفكار والأحكام، فإنّه لن يكتب لها العيش في حضن هذه الأمة حتما، إلا غصبا.
وُلدت الديمقراطية كفكرة زمن الإغريق، وقد تلى ولادتها بعد عدة مئات من السنين قدوم السيد المسيح عليه السلام، ولم تذكر في الإنجيل قطّ، كما قدم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ليختم الرسالات السماوية بالإسلام، ولم يرد في القرآن الكريم الذي أوحي إليه، أو السنة النبوية التي رويت عنه، نصٌ ما، يحبذ أو يحظر لفظة الديمقراطية.
وعلى الرغم من ترجمةِ كثيرٍ من كتب التاريخ والفلسفة بأنواعها العقائدية والحكمية، فإنّ فكرة الديمقراطية لم تستوقف علماء الإسلام البتة، مع أنهم وقفوا طويلاً أمام أفكار دونها أهمية بكثير، وردت جراء تفاعل الأمة مع غيرها من حضارات وفلسفات الروم والفرس واليونان والهند، وكانت ترجمات كتب وأفكار حكماء اليونان كسقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم قد قتلت بحثاً، وقد ناقشها علماء الإسلام ليبدوا الموقف الشرعي منها.
كما نرى فإن القرآن الكريم لم يأت فيه ذكر الديمقراطية في ٍأية آية من آياته لا تلميحا ولا تصريحا، كما أنها لم ترد في الكتب السماوية الأخرى كالإنجيل وغيره، كذلك فهي لم ترد في العقيدة أو الشريعة ولا حتى في أي من كتب فقهاء المذاهب باختلافها، كما أسقطتها الأمة كذلك طوال تاريخها السياسي والحضاري من أجندتها الثقافية والفكرية والسياسية.
ولم تلق الديمقراطية بثقلها على العالم الإسلامي، فارضة نفسها بقوة فيه، إلا مع احتلال بلاد الإسلام من قبل الفرنسيين والإنكليز، وخضوعها للاستعمار العسكري المباشر ، فضلاً عن الهيمنة السياسية المطلقة، والغزو الفكري والثقافي، وانهيار دولة الخلافة الإسلامية.
إذن فنحن أمام محاكمة لفكرة، ليست هي بهامشيةٍ ولا بجديدةٍ أو طارئةٍ على المسلمين، كما يتوهم بعض من ينتظر فتوى لمجتهدٍ يُعمل فيها نظره، ويطل عليها باجتهادٍ معاصر!
فالديمقراطية - وباتفاق - تعني حكم الشعب، الذي يضع قوانينه وينتخب حكامه على حدٍ سواء.
وهذا هو تماماً ما كان معمولاً به في أثينا مصدر الفكرة قبل 500 سنة من ميلاد المسيح عليه السلام.(54/439)
وقد أخذت الديمقراطية شكلاً أكثر تنظيماً إبّان الثورة الفرنسية وحصول النهضة الحديثة في أوروبا في القرن الثامن عشر، حيث باتت تشكل وجهة نظر متكاملة في الحياة، تضع تصوراتٍ للمجتمع، وتُنظِّمُ علاقة الإنسان بالدين والدنيا على حدٍّ سواء، ونتيجة لاحتدام الصراع بين الفلاسفة والمفكرين من جهة، ورجال الدين سدنة السلطة الحقيقيين من جهة أخرى، أعادت الديمقراطية الإغريقية تجديد نفسها لتفرض فصل الدين عن الحياة كأساسٍ لها، ولتجعل الشعب هو الحاكم أمام فكرة حكم الله والبابوات الذين يدعون تمثيله، ولتحصر الدّين في أماكن خاصة بالعبادة، كما نتج مقتٌ للدين إثر ذلك الاستغلال البشع له في أوروبا من قبل الحكام، حيث كان يصر رجال الدين على الجمود إلى درجة ينفر منها العقل وتحدّ من التطور والتقدم الذي تفرضه العلوم الحديثة، ممّا شكل حالة تضاد بين الكنيسة ممثلة الدين في أوروبا والعلم الذي أنتجه المفكرون والفلاسفة والمبدعون، وكذلك بين إرادة من يمثل الله على الأرض بعقل معطل وبين حاجة المجتمع إلى عقلٍ مواكب للتطورات المادية والبشرية، مما اضطر المفكرين في تلك الأجواء إلى فرض الإقامة الجبرية على الدين ليمكث في الكنيسة، وجعل الدين يختص بالفسلفات الغيبية، ومعالجة الأمور النفسية والروحية الفردية منها فقط لا غير.
والناظر للإسلام يرى أنّه قد جعل كافة المخلوقات ملكا لله تعالى يتصرف فيها كيفما شاء، قال تعالى: {ألا له الخلق والأمر}، وقد أخضع الخالق المادة لنظام قسري يسير بموجب قوانين وسنن كونية، قال تعالى: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون}، وأوجب على الإنسان اتباع الرسول والتزام رسالته، إلا أنه صنع له إرادة وعقلا يميزانه عن بقية الكائنات، وبهما كان لديه القدرة على الاختيار؛ {إنّا هديناه السبيل إما شاكراً وإمّا كفورا}، وقد اعتبر الله تعالى الإسلام وحده الحق المقبول اتباعه في الحياة؛ {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه}، من ارتبط به نجا ومن تركه هلك؛ {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى}، وجعل منه منهج حياة ونظاما للحكم (إن الحكم إلا لله}، {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}، {وإن اختلفتم في شيء فردّوه إلى الله والرسولل}.
ومن حيث تنظيم المجتمع وطبيعة كيان الدولة، النظام السياسي فيه، فإنّ نظام الحكم في الإسلام يقوم على قواعد أربعة، على رأسها، قاعدة السيادة للشرع والسلطان للأمة، حيث يستمد الإسلام معالجات شؤون البشر التشريعية، في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، من مصدرين وحيدين؛ هما القرآن والسنة، إضافة لمجموعة من القواعد والأصول الشرعية المستمدة منهما.
وبهذا يكون الإسلام قد ناقض جوهر الديمقراطية، حيث رفض حق الشعب كله أو أكثريته أو ممثليه بوضع قوانين يتوافقون عليها فيما بينهم دونما اعتبار لدين كالذي تقتضيه وتفرضه الديمقراطية حسب توصيف أهلها لها.
ولا يقال هنا فما عيب الديموقراطية إذا حصل أن الناس اتفقوا على وضع تشريع متوافق مع الوحي؟!
الجواب: إن كان كذلك، فلا داعي لموافقتهم، لكون الشرع قد أصدر حكمه فيه وانتهى، وأما إن كان فيه مناقضة لواحدٍ من الأحكام الشرعية، فيردّ ذلك الرأي لا محالة، وإن صوتت عليه جماهير الناس بالغالبية الساحقة، يقول تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}، ويقول أيضا: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله}.
ومن هنا يظهر مدى التباين بين الديمقراطية والإسلام من حيث أصل ما بنيتا عليه، وأن كل ما يجمع بين جوهر الفكرتين وأساسهما إنما هو علاقة تضاد واضحة.
============(54/440)
(54/441)
الإسلام والاستفادة من الديمقراطية
[الكاتب: حسن الحسن]
قد يتساءل البعض؛ أولم يفتح الإسلام آفاق العلم والمعرفة أمام الإنسان، أولم يأخذ المسلمون الكثير من الاكتشافات والإنجازات المدنية عن الآخرين، فلِمَ ذلك الرفض للديمقراطية، أوليست مجرد آلية انتخاب ممكن الاستفادة منها؟
والجواب على ذلك هو؛ بلى، إنّ الإسلام أطلق ملكات الإنسان ومواهبه لاستثمار خصائص الطبيعة واستغلال كافة المكونات التي يتميز بها هذا الكون الفسيح فيما يعينه على عمارة الأرض واستعمالها على النحو الأمثل، فيما يحقق له الرقي والرفاهية والطمأنينة أثناء إقامته فيها، وله أن يستفيد من تجارب الآخرين من غير أدنى شك، فالعلم عالمي والمعارف المجردة عن وجهة النظر في الحياة هي مادة يبنى عليها ولا يصح إلغاؤها أو إهمالها، بل إن هذا هو نفس ما فعله النبي الكريم عندما استفاد من خبرات الفرس بحفر الخندق حول المدينة، وكذلك ما استفاد منه الخلفاء الراشدون من تدوين الدواوين وما يتعلق بشؤون الإدارة، حيث التمسوها من عند غيرهم من الأمم.
لكن كل ما سبق يندرج تحت عموم أدلة عمارة الأرض التي تترك أمور الدنيا ومنجزاتها المادية للبشر، فقد قال النبي الكريم: (إن كان أمر دنياكم؛ فشأنكم، وإن كان أمر دينكم؛ فإليَّ).
وهذا على خلاف الأفكار والقوانين ذات الصبغة التشريعية التي تقدم معالجات شؤون الإنسان سواءً الخاصة به، أو تلك التي ترتب علاقته بربه أو بغيره، والتي تخضع لدائرة التشريع الإلهي وتنم عن وجهة نظر في الحياة، حيث يقول الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}، كما يقول: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}، ويقتصر فهم الحكم واستنباطه في ذلك على الوحي وما يستمد منه حصراً يقول الله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}، وقوله: {ممن يطع الرسول فقد أطاع الله}، ويسخر الإنسان في هذا الجانب ملكاته وخبراته المعرفية لفهم مراد الله تعالى من خلال قراءة الإسلام، بما يفيد ويشرح تلك الرسالة من غير حشوٍ فيها ولا تجويفٍ لها ولا إفراغ لها من مضمونها، بل ينبغي التوقف عند دلالات النصوص بحسب ما تقتضيه المعارف اللغوية والشرعية اللازمة لذلك.
ولا ينبغي أن يولّد هذا الفهم أن هناك تعارضاً أو هوةً بين العلم والإسلام، على العكس من ذلك، فإنّ في ذلك إشارة على صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، فهو يتعامل مع الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً له حاجات عضوية وغرائز معينة مستقرة لا تتأثر بتغير الزمان والمكان.
أمّا الأشكال المادية وما يوفره العلم من اختراعات وتطورات مشهودة فقد كانت دائمة العرضة للتغير، وهي من الوسائل التي يستعملها الإنسان ليكيف حياته مع ما يؤدي بها إلى الرقي المدني والرفاهية.
وهذا ما أطلق فيه عقل الإنسان ويده، حيث قال النبي الكريم: (أنتم أعلم بأمر دنياكم).
من هنا اعتبر العقل أداة الإيمان ومفتاح فهم سر الخلق، حيث يسلم تماماً بكل ما بني على ذلك الإيمان لجزمه ويقينه بأساس ما بني عليه.
كما ينطلق نفس العقل مبحراً في العلم المتعلق بشؤون المادة وأشكال الحياة ليبدع في معرفة آلاء الله وعظيم خلقه وليستثمره على وجهه الأمثل.
واستناداً لما سبق، فإنه ينظر في الفكرة المطروحة للنقاش، فإن كانت تحمل صبغة تشريعية تنظم وتعالج شؤون البشر وعلاقاتهم الإنسانية، كان ينبغي ضبطها بما أتى به نص أو وقع عليه اجتهاد مؤيد بالوحي، يقول تعالى: {ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين}، كما يقول: {قل أغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون}، وأما إن كانت متعلقة بالإدارة والوسائل والأساليب فتؤخذ من غير أية غضاضة.
والديمقراطية محل البحث ليست بطائرة أو ناقلة أو أداة اتصال وتواصل أو اختراع تقني أو آلة طبية أو وسيلة ترفيه، كما أنها ليست تنظيماً إدارياً لبعض مرافق الحياة، إنّما هي باتفاق الباحثين طريقة عيش ونظام حياة، تبلورت في صيغتها المشاهدة نتيجة صراعٍ مريرٍ في أوروبا بين الدين والعلم، أقرّ جراءه بسلطة الدين على أماكن العبادة مع عزله عن الحياة، حيث يتحكم بها البشر بما يرغبون به ويرونه مناسباً لهم، والمتطابقة مع تعريفها إثر نشوئها في أثينا [500 ق.م]، بمعنى؛ حكم الشعب بالشعب، والذي ترجع كل أشكال الديمقراطية مهما اختلفت تسمياتها إليه حتماً.
فكيف يلتقي فكرٌ قائمٌ على أساس تقديس الإنسان وجعله سيداً في الكون من غير قيدٍ له سوى رأيه وهواه وما يتصوره مصلحة له، مع الإسلام الذي يحذر من الإعراض عن شرع الله تعالى، حيث يقول: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يؤمنون}، بل يعتبر أن الإنسان قاصرٌ عن إدراك كنه الأشياء وتحديد مصلحته، يقول تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.
وقد يقال؛ لماذا لا نأخذ إذن الديمقراطية على اعتبارها مجرد انتخابات، وهي آلية لتنصيب الحاكم ومبايعته؟(54/442)
والجواب؛ هو أن هذا الادعاء هو منتهى العبث، فدولة الفاتيكان التي تمثل النصرانية تعتمد نظام الانتخاب لتنصيب "البابا"، فلمَ لا نقول؛ "أن الإسلام هو نصرانية"، وكذلك الأمر فالشيوعية تبنى على الإلحاد المطلق وهي تعتمد آلية الانتخاب، فلمَ لا نقول عن الإسلام؛ شيوعية؟!
والحقيقة هي؛ أن المبادئ تبنى على عقائد تستند إلى قواعد فكرية، وأما الآليات والوسائل والأساليب فمن الممكن اشتراك كافة المبادئ والمذاهب والأديان فيها من غير أي داع للخلط بينها.
والديمقراطية قد تتم من خلال انتخاب ممثلين عن الشعب أو من خلال الاقتراع والاستفتاء المباشر أو من خلال العصيان المدني والتظاهر... الخ، وليست الانتخابات هي الحتمية الوحيدة لها، وهي حين تقوم بإنفاذ إحدى تلك الآليات إنما مقصودها هي جعل الشعب هو السيد والمرجع وهو الآمر الناهي، بينما تجد الإسلام يحدد مرجعيته بقوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}.
وقد يقال؛ لم لا نأخذ الانتخابات من الديمقراطية إذن طالما أنها مجرد آلية؟
والجواب هو؛ طالما أن الانتخاب ليس حكراً على الديمقراطية، فلم لا تأخذها من حيث شئت، بل لم لا تؤخذ من الإسلام نفسه؟ فقد قال النبي الكريم للأنصار: (أخرجوا إليّ منكم إثني عشر نقيبا)، أولم تنتخب جموع الصحابة أبا بكر الصديق حاكماً عليهم؟ أوليست الانتخابات متوفرة في الإسلام فلماذا التمسح بالديمقراطية إذن؟!
وبهذا فإن انتخاب الأمة لمن ينوب عنها في تطبيق الإسلام عليها أو انتخاب من يمثل مجموعة ما في محاسبة الحاكم أو لمجلس الشورى أو كوكيلٍ في أي قضية ما هو أمرٌ ليس فيه أي غضاضة، ولم يكن هناك حاجة لتجريد الفلسفة الديمقراطية من جوهرها لتقزيمها ووضعها في الانتخابات كي تتواءم مع الإسلام.
ولهذا ينبغي محاكمة حقيقة الديمقراطية كما هي، لا ما يحاول البعض أن يصوره على أنه ديمقراطية، والمشكلة الكبرى هي أن الذين يتحدثون عن تلخيص الديمقراطية بالانتخابات، فإنهم يتجاوزون ما هو أهم من ذلك بكثير، ففوق أن الديمقراطية كمصطلح هي مفهومٌ يُعنى بمقدس واحد في الحياة هو الإنسان لا شيء سواه، وهو حرٌ بتحقيق رغباته كما يشتهي ويهوى ويراه منفعة له، فإنّ لها أركاناً ينبغي الوقوف عليها ومحاكمتها قبل أن نصل إلى موضوع الانتخابات التي تشكل إحدى آليات تنفيذها وليست الحتمية الوحيدة.
تعتبر الحريات العامة هي أركان الديمقراطية، والتي تتمثل بالحرية الشخصية، حيث يلبس المرء أو يتعرى ويتزوج أو يزني بمن يشاء وكيفما شاء.
الحرية العقائدية؛ وتشمل حق اختيار عبادة الله أو الشيطان أو التناوب بينهما أو الإلحاد فيهما، حسبما يقضي به هواه.
وحرية الرأي والفكر والتعبير؛ حيث يعتبر المرء طليقاً من القيود حراً باختياره وبمناداته بالسلوك الفطري الطبيعي أو بالشذوذ بكل أشكاله الجنسية والفكرية والطعن بالعقائد ونقد الأنبياء وانتقاصهم، ولا مانع طبعاً من ادعاء الألوهية.
وتطلق حرية التملك للمرء؛ حيثما تمكَّنَ من التكسب، بغض النظر عن القيم الأخلاقية أو الدينية أو الإنسانية.
ولو حاكمنا أركان الديمقرطية لوجدناها تتناقض مع الإسلام على نفس مستوى تناقض الفكرة الأساسية لعقيدة الإسلام، حيث الحكم لله لا للشعب.
فالحرية الشخصية؛ منضبطة بحسب أحكام الإسلام في الملبس والمأكل والمشرب بنمط معين لا يصح الخروج عنه ولا العدول إلى سواه.
وحرية العقيدة؛ فعلى الرغم أن الإسلام لا يجبر غير المسلمين على اعتناقه، {لا إكراه في الدين}، إلا أن من اعتنق الإسلام فإن حكمه الموت إن ارتدّ بعد إيمانه ولم يتب، يقول النبي الكريم: (من بدل دينه فاقتلوه)، وهذا مناقض لحرية العقيدة.
وكذلك حرية الرأي والتعبير؛ حيث يقول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيبٌ عتيد)، ويقول النبي الكريم: (وهل يكب الناس على مناخرهم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم)، بل إن هناك تعابير عقوبتها القتل، كمن ينتقص الرسول عليه الصلاة والسلام.
وأما التملك؛ فإن الأصل في الإنسان بحسب أحكام الإسلام أن المال لله، وأن الإنسان مجرد وكيل عن الله في التصرف فيه، وأنه محاسب على كل ما امتلكه، حيث يقول النبي الكريم: (وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه).
لذلك كله نجد أن الديمقراطية تتناقض مع الإسلام سواء من حيث العقيدة أو أركانها الأساسية.
ولا يمكن بحال القول؛ بالتوأمة بين الديمقراطية والإسلام.
حيث تبنى الأولى على استقلال الإنسان عن الله وحريته المطلقة بينما يحدد الإسلام دور الإنسان وغايته ويضع له نظاماً خاصاً يفرض عليه نمطاً معيناً في العيش.
ومن هنا نجد مدى اتساع الهوة والتضاد بين الإسلام والديموقراطية، حيث لا إمكانية لتزاوجهما أو دمجهما إلا بإلغاء أحدهما الآخر حكماً
=============(54/443)
(54/444)
ارتقاء المسلمين واستقرارهم في الإسلام لا في الديموقراطية
[الكاتب: حسن الحسن]
يتساءل البعض؛ أوليست الديمقراطية هي التي أمنت الرقي والاستقرار في الغرب؟! أوليست تلك القيم هي غاية ما يسعى لتحقيقه البشر؟! أوليس من الغباء أن نترك مجتمعاتنا طريحة التخلف والاضطراب يعبث بها حكامٌ فاسدون ومفتون منافقون، بينما نستطيع أن نسمو بها من خلال الديمقراطية؟!
والجواب هو...
لا شكّ بأن الغرب قد حقق تقدماً ملحوظاً في المجال السياسي والاقتصادي، وقد وضع أسساً تتسم بالاستقرار عموماً في هذين المجالين، كما أنّه متفوقٌ مادياً على العالم الإسلامي بشكلٍ واضحٍِ لا ينكره أحد.
إلا أنّ المغالطة الكبرى الواقعة في البحث هي ربط تلك النهضة التي يحياها الغرب بتحقق الديمقراطية فيه، كما أنّ المغالطة الأكبر هي ربط الواقع المأساوي البشع الذي تحياه الأمة الإسلامية بالإسلام.
فبإطلالةٍ سريعةٍ على تاريخ الغرب الديمقراطي يظهر النقيض من ذلك الادعاء، حيث غرقت أوروبا الديمقراطية في عدة صراعاتٍ دمويةٍ طاحنةٍ، وكانت الحربان العالميتان أشنع ما أنتجت تلك الديمقراطيات من حروب على مر التاريخ.
ويتضح من خلال تتبع أحوال الغرب عموماً أن الخيار الديمقراطي لم يكن دوماً هو الأسلم أو الأكثر ضماناً للأمن والاستقرار، ويكفي التذكير بأنّ هتلر وموسوليني وبوش إنما أوصلهم النظام الديمقراطي إلى كرسي الحكم، مع أنّ برامج هؤلاء كانت تقوم على فكرة إبادة الخصوم وتحطيم الآخرين والحرب الوقائية، بغية تحقيق أهدافٍ نفعيةٍ أو عصبيةٍ عنصريةٍ وأخرى هشةٍ وتافهةٍ في مجملها.
ومن الجدير ذكره أن تلك الحالات لم تكن نشازاً في الغرب الديمقراطي، إذ طالما نشأت صراعاتٌ داميةٌ بين القوى المختلفة فيه.
أضف إلى ذلك أن دول الغرب الديمقراطية عموماً مارست ومازالت تمارس الاستعمار بأبشع أشكاله بحق الشعوب المغلوبة على أمرها، كما هو الحال الواقع في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، مما يضع علامات استفهامٍ حول ماهية معنى التغول الديمقراطي الذي يطلق العنان للإنسان للإطباق على أخيه الإنسان، ضمن قوانين يسنها ويتحكم بها الأقوى للسيطرة على الأضعف، مزيناً إياها بوضعها في خانة عولمة قيمه الخاصة تحت عنوان القيم الإنسانية المطلقة، مستعملاً إمكانياته الضخمة وآليات الاتصال الحديثة لتحقيقها، معتبراً أن قوته تمنحه الحق بفرض هيمنته وتصوراته على الآخرين، ليس لإنهاضهم وتحريرهم إنما من أجل استغلالهم واستعبادهم، وهذا مشاهدٌ على مدار قرون من الزمان،وما زال قائماً محسوساً في أيامنا هذه.
وما حلّ بالعالم الإسلامي جراء تحكم الغرب الديمقراطي فيه إلا نماذج ساطعة على ذلك، فها هي مأساة أهل فلسطين ماثلة للعيان، وقد صنعتها لهم بريطانيا العظمى أهم وأقدم ديمقراطية موجودة في العالم الحالي، إضافة إلى جريمة تقسيم بلاد المسلمين التي دبرت بمكيدة فرنسية بريطانية صرفة، وبالسيطرة على ثروات الأمة الإسلامية ونهبها وتنصيب أتباعهم الخلص لهم عليها من حكامٍ تربأ وحوش الغاب أن تتشبه بهم، بل ودعمهم معنوياً ومادياً وسياسياً بكل ما يلزم لشل الأمة الإسلامية ولشد القيد على معصميها وإرغامها على التقوقع والانكفاء عن حركة النهضة والارتقاء.
فهذه نماذج لا يمكن أن تخطئها العين أو تنساها الذاكرة مما أنتجته الديمقراطية الغربية في العالم ككل وفي العالم الإسلامي بشكلٍ خاص.
ثم هذه إفريقيا تكاد لا تزال تعيش القرون البدائية بعد حوالي قرنين من الاستعمار والاستعباد. بينما نجد في المقابل أن الإسلام دخل الأندلس لينقلها في عقود معدودة الى مستويات تعدل مستوى بلاد الفاتحين أنفسهم ، بل تفوقه في بعض جوانب الحياة. فأين الثرى من الثريا؟
وبوضع فكرة الديمقراطية ومقتضياتها في سياقها الطبيعي والمنطقي الذي يحكمها من خلال معطيات الفكرة نفسها، نجد أنّ فكرة تقديس الإنسان لنفسه ورغباته وجعله الحكم والحاكم على الأفعال والأشياء بالخير والشر والحق والباطل والمحظور والمسموح، إنما تعزز لا محالة عند صاحبها الناحية الفردية، فتسيطر عليه الأنانية وتجعله يرى العالم ويتعاطى معه من زاوية واحدة معينة هي مصلحته فقط، مما يعلي عنده القيمة المادية على غيرها من القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية فتهيمن عليها تدريجياً إلى أن تسحقها، لأن الأصل لديه هو تحقيق أكبر قدرٍ من السعادة التي يتصورها لنفسه، بمعزلٍ عن تلك القيم، التي قد تستغل بدورها في تحقيق طموحه ورغباته، مما يطلق العنان للغريزة لإشباعها إلى حد التخمة، ويتحول العقل إلى مجرد أداة تستعمل في استثمار كل شيء لتحقيق أكبر قدرٍ من اللذة، حيث تساوي هذه لديه السعادة الوحيدة ذات المعنى المبرر عقلاً.
ولا يغير من هذه النتيجة شيئاً أن يشرّع للناس مجموعة منتَخَبة من بينهم، لأن فكرة المنفعة القائمة على تحقيق القيمة المادية الخالصة هي المُشَكٍّلَة لمفاهيمهم والمسيطرة على إرادتهم.(54/445)
وانطلاقاً مما سبق فقد نتج في الغرب الديمقراطي عموماً التفكك الأسري والانحلال الأخلاقي وسيطرت الحياة الفردية الأنانية على سكانه، الذين يجتمعون ويتفرقون على أساس فكرة المنفعة، مما يلغي آدمية الإنسان ويحوله إلى بهيمة، ترى الإشباع المادي هو كل شيء.
وبما أن إشباع الجوعات العضوية منها والغرائزية متناهيةٌ ومقصورةٌ على أعمالٍ طبيعية محددة، يندفع الكثيرون، خصوصاً المترفون منهم، إلى البحث عن أنماطٍ جديدةٍ غير مألوفةٍٍ للإشباع، وهو ما يعزز استباحة فكرة الشذوذ على أوسع مدىً ممكن.
كما يؤدي ركون الإنسان إلى القيمة المادية بسد آفاق الناحية الآدمية لديه، فيوصله إلى الاكتئاب ويحفزه على الانتحار.
ومن هنا كانت الديمقراطية تُعنَى بشكلٍ مباشرٍ ومتلازم بعزل الدين وأبحاثه ومتعلقاته وكل ما يتصور أن له قداسة ما عن التأثير بحياة الإنسان، لِيُترَك له هو وحده الخيار المطلق لتحديد معالم سيره في الحياة استناداً إلى حقائق نسبية وأخرى مطلقة نتاج قوانين طبيعية مزعومة، والتي تخلص إلى كف إرادة الخالق عن التدخل بشؤون الإنسان وتحريره من كل قيدٍ سوى ما يراه مناسباً لاستمرار تلك الحرية على أمثل وجه يراه في الحياة، مما لزم معه فرض العقد الاجتماعي ونموذج الدولة المدنية الحديثة لتأمين استمرارية إطلاق الفرد لحريته وضمان عدم المس بها - وهذا كله مقدوحٌ بصحته إذ يتحول معه الإنسان إلى مجرد عبدٍ أسيرٍ لقوانين أصحاب اللعبة من الأقوياء والمتنفذين وغالباً ما يعامل كالسلعة المجردة لا أكثر -
من هنا نرى أن ما أنتجه الغرب من فلاسفة وباحثين ومن أنظمة حكمٍ بمختلف أشكالها واختراعاتٍ تقنيةٍ بمختلف إبداعاتها بإيجابياتها وسلبياتها ليس من لوازم فكرة الديمقراطية، كما أنها ليست أصلاً من أصولها ولا حتى فصلاً من فصولها، بما فيها أبرز ما في أنظمة الحكم القائمة في الغرب في أيامنا هذه من فصل السلطات الثلاث، إذ هي مما ارتآه المفكرون مناسباً لضمان استقرار المجتمعات بعيداً عن استئثار شريحةٍ منه أو فئةٍ ما دون غيرها بالملك والسلطة وتحويلها إلى مزرعة خاصة بها مملوءة بالعبيد تمتلكها تلك الفئة ويتوارثها الأقوياء!
بل إن وجود السلطة أصلاً هو مخالفٌ لحرية الإنسان لما تفرضه من قيودٍ وأنظمة، وتلك السلطات لم تكن موجودة قط في ديمقراطية أثينا، حيث كان الناس هم الحكام والمحكومين وكانوا يقترعون بشكلٍ مباشرٍ في المدينة على كل شيءٍ.
والسلطة المجردة هي أمرٌ لا بد منه من باب الحاجة إليها لتنظيم شؤون الناس وليس لأنها واجبة، ولذلك لا يوجد عهدٌ أو عقدٌ ثابتٌ ملزمٌ حتميٌ لنظام الحكم، إنما يترك أمر اختياره وتطويره للناس أنفسهم.
وبالتالي فقد يطرأ تغيرٌ على تلك النظرة لموضوع السلطات خاصة في ظل التحولات الهائلة في ثقافة الإنسان ومعارفه وسرعة الاتصال والتواصل، وصراع الحضارات وتنافس الأقوياء أو توافقهم في زمن العولمة، مما يفرض دراسات تعالج كيفية إدارة شؤونه في ظل عدم جدوى استمرار السلطات القطرية والوطنية وصغر حجم الكوكب نسبياً، حيث ينبغي أن يخضع الجميع لقانون الأقوى الذي يصدر القرار ويلزم الجميع بالتنفيذ على الصعيد العالمي، بل ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون البشر، مما يلغي الشأن الداخلي للدول، ويفرض نظاماً ذات صبغة عالمية، تحكمه قوانين نسبية مستمدة من ثقافة القوى المتحكمة.
مما يعني أن فصل السلطات هو اقتضاء مرحلي يعالج أزمة حكم زمانية ومكانية معينة يمكن الانصراف عنها إلى ما يوائم الواقع أكثر حين تغيره من المنظور الديمقراطي وهو ما نشاهد حصول بعض منه على الصعيد العالمي الآن.
لذلك فإن الرخاء والاستقرار الاقتصادي والسياسي الذي يحياه الغرب يرجع في مجمله إلى عوامل أخرى لا أثر للديمقراطية فيها إلا بقدر ما تؤمن تلك العوامل، وعلى رأسها انسجام شعوب الغرب مع أنظمة الحكم فيها، ووفرة الثروات الناتجة عن استعباد الآخرين والهيمنة على مقدراتهم، إضافة إلى التقدم التقني الكبير والقوة العسكرية الضخمة والهيمنة السياسية والاستئثار بمقدارت 80% من ثروات شعوب الأرض لصالح البقية القليلة.
أما بالنسبة للأمة الإسلامية فقد عاشت ثلاثة عشر قرنا من الزمان تتنسم فيها معنى الوجود، حملت فيها رسالة الإسلام بسماحته الخالصة، لتخرج الناس من عبادة المادة إلى عبادة الله، وبنت فيها حضارة زاهرة في الأندلس وآسيا الوسطى وما بينهما من طنجا إلى جاكرتا مروراً بالقاهرة ودمشق وبغداد، واتسمت أحوالها بشكلٍ عام بالاستقرار والوحدة ورهبة الجانب والعزة والاعتزاز بما لديها، مع الاعتراف بوقوع كثيرٍ من العثرات والشكاوى والإساءات التي وقعت هنا وهناك بسبب التقصير في تطبيق الإسلام وبسبب طبيعة حياة البشر التي لا تخلو من كدرٍ وهمٍّ وتقصير وصراع، وهذه هي سنة الله في خلقه وهي ما يدفع بالعباد على الدوام إلى الإبداع والتغيير والتحسين، وهي ما يحفز الأمم عادة بالعمل على دوام الارتقاء.(54/446)
كانت الأمة تهيمن عليها حقيقة واحدة وهي؛ أن علاج مشاكلها إنما يكون بالثبات على الإسلام وأن تصحيح أوضاعها المعوجة إنما يكون بالتزام منهجه وتطبيق معالجاته وتجسيد أنظمته، إذ كانت معايير تمييز رقي الأمة من انحطاطها دوماً مرتبطةً بمدى ارتباطها بدينها.
وبهذا الميزان كانت تسير الأمة حتى زمن إسقاط دولة الخلافة عام 1924 وإزاله نظام الحكم في الإسلام تماماً من واقع الوجود في العالم، حيث تحول المسلمون نهبة لغيرهم، ولقمة سائغة يلتهمها أعداؤهم، يحكمهم التخلف والتشرذم والضعف والجمود الذي رسم لهم بعناية فائقة.
وبات المسلمون يلهثون وراء كل ناعقٍ يصيح لهم بالتنوير والتطور والتقدم والسير على درب الغزاة المستعمرين ممن حارب الأمة واحتل ديارها وشرذمها وأذلها وسامها سوء العذاب، وصار المسلمون يتأرجحون بين اشتراكية شيوعية ملحدة تغنوا بها ردحاً من الزمان، وليبرالية ساقطة ساقتهم من خذلانٍ إلى خذلان، وبين هذه وتلك سقطوا في فخ القطرية الضيقة والوطنية المقيتة والقومية المنتنة، وعندما ثاب المسلمون إلى رشدهم وبدأوا يعون حاجتهم إلى الارتباط بدينهم والالتزام بشرع ربهم وإعادة دولة الإسلام دولة الخلافة الراشدة من جديد، بدأت مرحلة جديدة من إلغاء الدين، حيث اكتفى البعض بالمطالبة بتطبيق مقاصده العليا بعد تفريغه من محتواه وحشوه بما ينقض غزله عروة عروة من ديمقراطية تشترط خضوع الإنسان لثقافة غربية غريبة عن الإسلام، لا يمكن أخذها من غير أخذ مفاهيمها عن الحياة والمناخات التي تشكلت فيها والتي تؤمر الأمة اليوم بأخذها جملة أو سحقها جملة.
ونسي المطالبون بالارتماء في أحضان الغرب، المنادون بثقافته وديمقراطيته وقيمه، الداعون إلى مسايرته لتخليصهم مما ابتلاهم هو فيه، أن من لا يستطيع أن يحرر إرادته من براثن أزلام أعدائه، لهو أعجز من أن يتخلص من عدوه الحقيقي، ولهو أشد عجزاً من أن يأخذ ويطالب بالمزيد، لأنه عبدٌ مأمور وليس بسيدٍ مختارٍ.
إن الأزمة الفكرية الحقيقية التي تكمن عند تبيان علاقة الإسلام بالديمقراطية، هو ما رسخ من مفاهيم عن علاقة الديمقراطية بالكنيسة وإسقاطها على الإسلام متناسين طبيعة الظروف التي نشأت فيها الديمقراطية والمناخات التي تحكمها، وغافلين عن طبيعة الإسلام في نفس الوقت، حيث أن فصل الدين عن الحياة في أوروبا ساهم بشكلٍ مباشر في إحداث نقلة نوعية في تاريخها، لخلوّ النصرانية التي حكمت أوروبا من التشريع أصلاً، مما كان يعني أن استمرار تطبيقها هو لتأمين مصالح فئة ضيقة منتفعة منها، وهو ما فرض قيود التخلف والظلام على تلك الشعوب عدة قرون.
أما الإسلام؛ فإنه لا يمكن مقارنته بحال مع تلك النصرانية، حيث كان سبباً واضحاً لاستقرار الأمة ورقيها وتقدمها، وما سحقُ الأمة الإسلامية لجبروت فارس والروم وتحرير البلاد والعباد من ظلمهما، وهيمنتها على الوضع الدولي قروناً طويلة، ودخول شعوب بأكملها فيه، إلا بعض دلائل ذلك النجاح الباهر ودلائل واضحة على عظم أثر الإسلام في الشعوب التي اعتنقته وجاهدت في سبيل نشره.
ولذلك كانت عصور النهضة والرقي والإشراق في حياة الأمة هي زمن إحسان تطبيق الإسلام فيها.
وأن المشكلة الحقيقية التي جابهت الأمة وجعلتها تتلكأ، هي ما لحق دولة الخلافة من ثغرات إثر التهاون بالتطبيق الكامل لأحكام الشرع، كغمط الأمة حقها في انتخاب حكامها، وتحول الدولة إلى ملك وراثي، وقلة المحاسبة وما شاكل.
لذلك كان التقصير في تطبيق الإسلام، هو الذي أنتج تلك الإخفاقات.
وهذا على خلاف الكنيسة التي كان وجودها في السلطة سبب إنهاك البلاد وإهلاك العباد، حيث تحولت إلى وسيلة يستثمرها الحكام وأصحاب النفوس الدنيئة في السيطرة وجمع الثروات واستعباد الآخرين.
والحق يقال؛ أن رجال تلك الكنيسة الظلامية المشؤومة في أوروبا في عصور نعتت بأنها القرون الوسطى وعصور الظلمة، تشبه أحوال حكام العرب والمسلمين في أيامنا هذه، حيث أنهم على أتم استعداد للتضحية بالأمة ومصالحها في سبيل نزواتهم واستتباب أمور الحكم لهم، ولو كان ذلك فوق جثث الناس الذين يطالبونهم بأبسط حقوقهم المشروعة.
ولذلك فإن العودة إلى الإسلام تغني عن المناداة بالديمقراطية، تلك التي لم تشعر الأمة بعازة إليها ولا إلى غيرها من الثقافات طوال فترات تطبيقها دينها، بل كانت الأمم الأخرى عالة على المسلمين وعلى حضارتهم الرائعة، فأمة أعزها الله بالإسلام، أرقى من أن تتركه لاهثة وراء فضلات البشرية
============(54/447)
(54/448)
أكذوبة الديمقراطية
برغم أن الولايات المتحدة لم تعبأ بالتشاور الجماعي داخل مجلس الأمن الدولي، ولا حتى بالطابع الديمقراطي للجمعية العامة للأمم المتحدة، حين قامت بضرب العراق، وكلاهما - مجلس الأمن والجمعية العامة - كانا أصلاً فكرة أميركية بشرت بها العالم سنة 1945م؛ يأتي الرئيس الأميركي جورج بوش ليسوق لنا تلك الديمقراطية - الأكذوبة - على اعتبار أن مشكلة المسلمين الكبرى هي غياب تلك الديمقراطية من مجتمعاتهم ودولهم.
وعلى هذا؛ فحرصاً من بوش على أن يعيش المسلمون في ظلال الديمقراطية الوارفة "التي ستصل إلى الدول العربية في نهاية المطاف"، اعتبر بوش نفسه مبعوث العناية الإلهية للناس؛ ليخرجهم من الظلمات إلى نور الديمقراطية والحرية ف "الديمقراطية والحرية هي خطة السماء للإنسانية" التي يبشر بها بوش.
بوش يفتي المسلمين بأن الديمقراطية لا تتناقض مع الإسلام!
والمستغرب أن بعض المتفيقهين من المسلمين يريدون أن يسوقوا لنا أيضاً هذه الديمقراطية، فيقزمون الموضوع إلى درجة تصوير الديمقراطية؛ أنها مجرد الحرية في اختيار الحاكم من خلال صناديق الاقتراع.
والحقيقة؛ أنها فكرة ناتجة عن تصور كلي للحياة والكون والإنسان، ناجم عن حضارة تختلف اختلافاً جذرياً مع حضارة الإسلام.
فالحضارة الغربية تقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة، وإذا فُصل الدين عن الدولة، فمن الذي ينظم المجتمع والدولة بالأنظمة والأحكام والقوانين؟ إنه الشعب حسب ادعاء هذا المبدأ.
بينما في الإسلام الحاكم والمشرع هو الله سبحانه وتعالى، والأمة هي صاحبة السلطان فقط، فقد أعطاها الشارع الكريم الحق في اختيار الحاكم؛ ولذلك كان عقد الخلافة عقد رضا واختيار، والخليفة نائب عن الأمة في تطبيق الإسلام، فلا الأمة، ولا الحاكم، ولا مجلس الأمة، له الحق فضلاً عن أن يملك القدرة على التشريع.
وحتى نبين ذلك لابد من إبراز عدة نقاط:
1) لا حكم قبل ورود الشرع:
لقد قرر الشرع الحنيف أن الحاكم هو الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فإن مصدر الأحكام هو الوحي المنزل على سيدنا محمد ، قال تعالى: {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ}، وقال تعالى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ}.
فكل حكم غير حكم الله هو طاغوت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاَ بَعِيدًا}.
وطريق معرفة حكم الله هو الوحي المنزل على نبيه؛ ولذلك كان أهل الفترة ناجون [1] - وأهل الفترة هم الناس الذين عاشوا بين فترة ضياع رسالة أو تحريفها، ومجيئ رسالة جديدة، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} -
فالذي يريد أن يسوق الديمقراطية لنا اليوم؛ كمن يدعي أن لا حكم لله، إما رفضاً لهذا الحكم وادعاء أن عقولنا أقدر على الحكم من الله - والعياذ بالله - أو أننا من أهل الفترة، والادعاءان باطلان.
فالعقل لا حكم له؛ لأنه لا يملك الأدوات اللازمة للحكم، والادعاء بإعطاء الحكم للعقل ادعاء باطل؛ لأن الذي يحكم هنا هو الهوى، والميول، واتباع المصالح.
والادعاء الثاني باطل؛ لأن النبي هو خاتم النبيين، ورسالته خاتمة الرسالات السماوية، والتي تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظها من التبديل والتحريف.
إذاً الديمقراطية تعطي الشعب حق التشريع، والإسلام يعطي هذا الحق لله سبحانه وتعالى، وشتان بين الأمرين، فالأول كفر والثاني إيمان.
2) آليات اختيار الحاكم في الإسلام:
الذين يحصرون الديمقراطية في اختيار الحاكم من خلال صناديق الاقتراع يقزمون الموضوع ويتقزمون معه.
فالديمقراطية - كما قلنا - تعطي حق التشريع للشعب، وتعزل الدين في الزاوية أو المسجد، والحديث عن الاستفادة من آليات اختيار الحاكم في الديمقراطية تلاعب بالألفاظ لا ينطلي على أصحاب الفكر المستنير.
فالإسلام ليس خلواً من هذه الآليات...
فقد تم اختيار أبو بكر الصديق خليفة للمسلمين من خلال أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة, ثم ما لبثت الأمة أن بايعته رضي الله عنه في اليوم الثاني في المسجد بيعة الطاعة.
أما الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقد رشحه سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ورضيت الأمة بهذا وبايعته.
أما في بيعة عثمان رضي الله عنه؛ فإن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخذ رأي المسلمين في المدينة ولم يقتصر على سؤال أهل الحل والعقد.
وفي عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه اكتفى ببيعة أكثر أهل المدينة وأهل الكوفة وأفرد هو بالبيعة.(54/449)
إذاً فما يسميه البعض بـ "الآليات" هي مجرد إجراءات عملية تتم بها عملية تنصيب الخليفة قبل أن يُبايَع، وهي مما يجوز أن تأخذ أشكالاً مختلفة، كما حصل مع الخلفاء الراشدين إذ لم يلتزم معهم بشكل واحد معين، وصندوق الاقتراع هو إجراء عملي لاختيار الخليفة من بين عدد من المرشحين لهذا المنصب، والعمل به ليس مدعاة لتبني الديمقراطية وإيهام الأمة أن الديمقراطية "بضاعنا ردت إلينا"!
3) الفرق بين الحضارة والمدنية:
كثير من الذين يطالبوننا بأخذ الديمقراطية لا يفرقون بين الحضارة والمدنية، أو بمعنى آخر لا يفرقون بين ما لا يجب أخذه، وما يجوز أخذه من غير المسلمين، فتراهم يلوون شفاهم بغيظ، قائلين لمن يرفض الديمقراطية: إنكم تستعملون كل أدوات الغرب من التلفاز والكمبيوتر والإنترنت والأسلحة وحتى الملابس فلماذا ترفضون الديمقراطية؟!
وهؤلاء من الذين صدق فيهم قول رسول الله : (لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلتموه وراءهم)، قيل: من يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟!).
إن الديمقراطية ليست شكلاً مدنياً - كالطائرة والصاروخ والإنترنت - لا يخضع لوجهة النظر في الحياة حتى يجوز للمسلمين أخذه من أي كان، بغض النظر عن عقيدته، بل هي نتاج حضارة تقوم على أساس فصل الدين عن الدولة.
4) اشكالية الإصطلاح والتعاريف:
لفظ الديمقراطية اصطلاح غربي، يعني إعطاء حق التشريع للشعب وحصره فيه.
ولهذا المعنى مجموعة من التوابع، فنقول؛
في الديمقراطية للناس الحرية في اختيار الحاكم.
في الديمقراطية تجري انتخابات حرة لاختيار أحد المرشحين لمنصب ما.
في الديمقراطية يُحاسب الحاكم من خلال مجلس منتخب.
فالقول بأخذ أو استعارة جزئية من الديمقراطية - كهذه التي ذكرناها - قول مشدود للانبهار باللفظ أكثر من الفكرة، ولا يتفق مع منهج الإسلام؛ لأنه لا مجال لأخذ ما لا يجوز الأخذ به حين توفر اللفظ الصحيح للفكرة الصحيحة، وهذا يشكل خروج على المعنى الذي وضع اللفظ لأجله، وهو تعريف ليس جامعاً ومانعاً، فهو لم يجمع كل ما هو داخل في التعريف، ولم يمنع ما هو خارج عنه من الدخول فيه.
وبالتالي فإن الديمقراطية ليست هي "التعبير العصري عما نسمية بلغة الفقه والثقافة الإسلامية بالشورى"، وكأن المبدأ الإسلامي قاصر عن وضع المصطلح الصحيح، عدا عن كون اللفظ المستعار منافياً لمعنى الشورى.
فالشورى؛ حكم شرعي له تفصيلات تتعلق بتنظيم عملية أخذ الرأي من الدولة الإسلامية، والديمقراطية؛ حكم بشري يتعلق بإعطاء الشعب حق التشريع، وفي ظلها يتاح للملحد أن يدعو إلى إلحاده، وللعلماني أن يعلن أن الإسلام غير صالح للعصر، وأن القرآن كتاب بشري يمكن نقده... إلى غير ذلك من دعوات الكفر والإلحاد.
5) بيان الكذب والخداع في مصطلح الديمقراطية:
القول بأن الديمقراطية هي حكم الشعب؛ هو أكبر كذبة في العالم.
وفي هذا القول تضليل وخداع, فحتى في أعرق الديمقراطيات في العالم؛ فإن رؤساء الدول، وأعضاء البرلمانات، ورؤساء الحكومات، إنما يمثلون أصحاب رؤوس الأموال الذين يدفعون المبالغ الطائلة لإيصالهم إلى الحكم لتأمين مصالحهم.
وهل تداول السلطة في ظل النظام الديمقراطي يعني انحصار هذه السلطة من حزبين فقط هما "الحزب الجمهوري" و "الحزب الديمقراطي" في أميركا، أو "حزب المحافظين" و "حزب العمال" في بريطانيا؟!
إنها صورة مبتدعة لحكم القبيلة أو العشيرة أو الأسرة المالكة.
6) بيان فساد فكرة المطالبة بالحرية قبل المطالبة بتطبيق الإسلام:
إن الأنظمة الكافرة والعميلة في العالم الإسلامي هي أنظمة عدوة للإسلام، تعمل جاهدة بالتعاون أو الانصياع للغرب الكافر للقضاء على الإسلام.
والذي يجب أن يدركه أصحاب هذه الطروحات؛ أن هكذا أنظمة لن تعطي الدعاة إلى الإسلام الحرية في دعوتهم مهما طمأنوا الكافر، ومهما تنازلوا عن بعض دينهم، ومهما حاولوا إرضاء الكفار، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة 120].
فهذه "جبهة الإنقاذ"؛ في الجزائر كانت على وشك أخذ الحكم بشكل "ديمقراطي" عن طريق صناديق الاقتراع، فتدخل الجيش وألغى الانتخابات، وحظر "جبهة الإنقاذ"، وأودع قادتها في السجون.
وهؤلاء "الإخوان" في مصر؛ تأبى الحكومة إعطاءهم رخصة حزب سياسي، برغم ما قدموه ويقدموه من تنازلات للدولة.
ثم على من يطالب بالحرية ويصر على ذلك قبل المطالبة بتطبيق الإسلام؛ أن يبين لنا ما العمل إذا مُنع من هذه الحرية؟!
7) ليس معنى رفض الديمقراطية المطالبة بالدكتاتورية:
إذا لم تكن ديمقراطياً فأنت دكتاتوري!
إذا لم تكن رأسمالياً فأنت اشتراكي!
إذا لم تطالب بالحرية فأنت نصير الاستبداد!
فأنت دائماً محصور بين خيارين، ولا مناص لك في خيار ثالث!
أنا لست ديمقراطياً، ولست دكتاتورياً، ولا يمكن أن أكون رأسمالياً، أو اشتراكياً، وأنا ضد الحرية بالمفهوم الغربي، وضد الاستبداد.(54/450)
أنا مسلم، والإسلام هو الأصل وليس البديل، والحاكم في الإسلام ليس دكتاتورياً، بل هو مقيد بالأحكام الشرعية، وهو منصّب لتنفيذ الشرع، ولا يملك إلا أن يُسير أعماله حسب الأحكام الشرعية، كما أن طاعته واجبة، إلا أن يأمر بمعصية فلا طاعة له فيها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يُؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة).
ومحاسبته فرض على الأمة، كما يجب الخروج عليه إن أظهر الكفر البواح.
قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
بقلم؛ شريف عبد الله/مصر
عن مجلة الوعي، محرّم/1426 هـ
1) قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، في حكم أهل الفترة: (مسألة قد اختلف الأئمة رحمهم الله تعالى فيها، قديمًا وحديثًا، وهي؛ الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار، ماذا حكمهم؟ وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف، ومن مات في الفَتْرة ولم تبلغه الدعوة... فمن العلماء من ذهب إلى التوقف فيهم... ومنهم من جزم لهم بالجنة... ومنهم من جزم لهم بالنار... ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العَرَصَات... وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض، وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رحمه الله عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في "كتاب الاعتقاد" وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ النقاد) [المنبر].
=============(54/451)
(54/452)
العلاقة بين الدين والديمقراطية
بسم الله الرحمن الرحيم
* * *
(1)
إن تحديد العلاقة بين الدين والديمقراطية ينبني على تحديد مفهوم كل منهما، وحيث أن مفهوم الدين من المفاهيم التي التبست على كثير من الناس - شأنه شأن كثير من المفاهيم الأخرى - والتي سبق الحديث عن بعضها في مقالات سابقة، كمفهوم الصلاح والفساد والحضارة والعلاقة بين الحضارات...
فالدين في الاصطلاح الغربي: "مرحلة زمنية في حياة الأمم، تجاوزتها أوربا بفضل العلم، ومعطيات العقل البشري".
ويقول بعض فلاسفة الغرب من أمثال "فولتير" و "روسو": "إن الدين من صنع الدهاة الماكرين من الكهنة والقساوسة، لعلاج أمراض المجتمع بكل حيلة".
لما كان كذلك أرى أنه لا بد من توضيح مفهوم الدين، فأقول:
إن كلمة "الدين" استعملت في القرآن الكريم، وبذلك صار لها معنى شرعي لا بد من التقيد به - على الأقل بين المسلمين - من أجل فهم الأحكام الشرعية المترتبة على ذلك، ومنها:
حكم التزام الدين الإسلامي.
حكم بقية الأديان.
حكم من تدين بدين غير دين الإسلام.
حكم التدين بدين آخر مع الدين الإسلامي.
وهذه المسائل كلها جاءت محسومة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وأجمعت عليها الأمة الإسلامية، بلا خلاف بينها، إلا ما ظهر من بعض المعاصرين - الذين تكلمنا عنهم في مقال سابق، وقلنا؛ إنهم لا يمثلون الإسلام ولا المسلمين، وإنما يعبرون عن آرائهم التي تشكل في مجملها حربا على الإسلام -
والمسائل السابقة قد حسمت في الديانة الإسلامية على الوجه التالي:
وجوب التزام الإسلام والدخول فيه على كل أحد.
وكل دين سوى الإسلام هو دين باطل، لا يقبله الله.
وكل من تدين بغير الدين الإسلامي فهو كافر سواء كان من أتباع الديانات السماوية السابقة أو من أتباع الديانات الأرضية الوثنية.
وأنه لا يجوز للمسلم أن يجمع مع الإيمان بالإسلام الإيمان بدين آخر، وأن ذلك يعد شركا بالله عز وجل، وخروجا عن الإسلام.
وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فهي تتكون من جملتين، الأولى؛ "لا إله" وهي إعلان الكفر بكل الآلهة والأديان والطواغيت التي تعبد من دون الله، و "إلا الله"؛ إقرار بالدين الحق، وهو الإسلام، الذي هو إفراد العبادة والطاعة لله.
وعلى هذا فالدين الإسلامي؛ هو مجموعة النظم والمناهج التعبدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها التي شرعها الله في القرآن والسنة.
وبعبارة أخرى؛ الدين منهج إلهي متكامل يضبط قضايا الدين والدنيا.
ونخلص مما سبق...
إلى أن الديمقراطية دين آخر غير دين الله، دين يجيز لمعتنقيه أن يختاروا من المناهج التعبدية، سواء منها السماوية أو الأرضية، ما يشاءون، وأن ينخلعوا من العبودية لله ليكونوا عبيداً لأمثالهم من البشر، إذا كانوا أغلبية.
وعلى هذا فلا شك أن النظم الديمقراطية هي أحد صور الشرك الحديثة في الطاعة والتشريع، حيث تلغي سيادة الخالق سبحانه، وتستبدلها بسيادة المخلوق، كما تلغي حق الله في التشريع المطلق، وتمنح الحق المطلق للمخلوق ليشرع ما يشاء، فيحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، من خلال ممثليه في المجالس النيابية.
ومن هنا يتبين لنا معنى قول "القرد الأعظم": (نحن نقاتل من أجل إرساء قواعد ديمقراطيتنا الجديدة في العالم).
إنه إعلان للحرب على الأمة الإسلامية، وهو قتال بين أديان، وصراع بين الإسلام والكفر.
وللأسف، فإنه في الوقت الذي يدرك فيه أعداء الإسلام من الكفار هذه الحقيقة، فيقولون؛ "لن نسمح بقيام دولة إسلامية" ولا دستور إسلامي - كما صرح بذلك بول بريمر في العراق، وقبله قيل في أفغانستان، والحرب قائمة على السعودية للقضاء على بقايا الإسلام فيها -
ويقولون كذلك - في تصريح لوزير الداخلية الفرنسي في حفل تأسيس مجلس مسلمي فرنسا -: (لا نريد إسلام في فرنسا، وإنما نريد إسلام فرنسي...)، وهكذا يقال في بقية دول الكفر.
أقول: للأسف فإن كثيرا من أبناء المسلمين يجهل هذه الحقيقة، وتراه يتشدق بالديمقراطية، وينادي بالتزامها، وهو يجهل أنه بذلك يقف في صف العدو محاربا لدينه ولأمته.
* * *
(2)
بينت في المقال السابق أن الديمقراطية دين يناقض دين الإسلام، وأن العلاقة بين الديمقراطية والإسلام هي علاقة صراع مستمر، والنصر للإسلام بلا شك، وهذه العلاقة أوضح معالمها قوله تعالى: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة}.
وسأذكر في هذه المقالة بعض الطرق التي سلكتها الديمقراطية في حربها على الإسلام الحق...
ومنها:
1) اعتماد القانون الأوربي في حكم بلاد المسلمين:
وهذه الطريقة هي أخطر الطرق على الإطلاق، حيث أصبح المسلمون في بلادهم يحكمون من قبل عناصر، أو فئات تنتمي من حيث العرق أو اللون أو اللغة إلى المسلمين، بينما هي تطبق إرادة العدو الكافر المستعمر على أبناء المسلمين.
فلم يعد الحاكم - في كثير من بلاد المسلمين - نائبا عن الشعب بقدر ما هو نائب عن المستعمر في تنفيذ أحكامه، وقوانينه على الأمة المسلمة.(54/453)
وأقصيت الشريعة، عن جميع مجالات الحياة، ولم تبق منها إلا أشلاء ممزقة مشوهة تتعلق بالأحوال الشخصية.
2) تأميم الأوقاف:
والأوقاف هي أموال المسلمين التي ينفقونها في وجوه الخير، وتمثل أعظم رافد للدعوة الإسلامية والجهاد في سبيل الله.
فصارت تصب في خدمة الدولة النائبة عن المستعمر، وتحقق رغباتها، وتقتصر في الغالب على الجانب التعبدي الصرف.
ولم تكتف بذلك حتى قامت تحت ذريعة تجفيف منابع الإرهاب؛ بالسيطرة على كل لجان العمل الخيري في العالم الإسلامي، ومنع ما استطاعت منعه، وتجميدها، ومراقبة حساباتها، متدخلة في الشئون الداخلية للبلاد الإسلامية، في صورة مذلة مهينة لم يشهدها العالم الإسلامي من قبل.
3) القضاء على هيبة العلماء ومكانتهم في نفوس المسلمين:
من خلال أساليب متنوعة ليس هذا موضع تفصيلها، منها؛ القمع والاتهام بالتطرف والإرهاب... إلخ.
4) إنشاء حركات تحمل اسم الإسلام في الظاهر بينما تنقضه في الباطن - حركات مرتدة عن الإسلام -:
على غرار الحركات الباطنية القديمة؛ كالنصيرية والدروز والإسماعيلية، وفي العصر الحديث مثل؛
البهائية؛ أنشأها في إيران ميرزا علي محمد الشيرازي [1819 - 1850] في ظل الاستعمار الروسي والانجليزي للمنطقة.
والقاديانية؛ أنشأها في الهند ميرزا غلام أحمد [1839 - 1908] تحت إشراف الاستعمار الانجليزي.
والحزب الجمهوري في السودان؛ الذي أسسه المشعوذ محمود محمد طه، وحكم عليه بالردة وأعدم لذلك عام 1985.
وجماعة الأحباش؛ التي أسسها عبد الله الهرري الحبشي، الذي ظهر في الحبشة وتعاون مع حاكمها على قتل المسلمين وعلمائهم، ثم انتقل إلى لبنان واستقر فيها مدة وكون طائفة كبيرة من الأتباع، ثم انتقل إلى أوروبا، وأتباعه فيها وفي أمريكا كثيرون، وهم يخالفون المسلمين في عقائدهم.
وبين الجميع قاسم مشترك؛ وهو ولاؤهم المطلق للعدو الكافر، وحربهم الشعواء على المسلمين، مع إنكارهم فريضة الجهاد في سبيل الله، وإضفائهم صفة الشرعية على العدو المحتل لأراضي المسلمين.
5) استغلال بعض الشخصيات العلمية المنبهرة بالغرب، والمنهزمة أمامه روحيا:
في استصدار كتب، أو رسائل، أو فتاوى تخدم أعداء الله في حربها على الإسلام، وتنفيذ المخطط الاستعماري في المنطقة.
وهذا الاستغلال قد لا تشعر به تلك الشخصيات، فهي في الحقيقة قد تكون صادقة في إسلامها، لكنها قد جندت من قبل وسائل القوى الاستعمارية المختلفة كالإعلام، ومراكز الدراسات الاستراتيجية، ومراكز البحوث الثقافية وغيرها.
6) دعم مشايخ السلطة أو المشايخ التقليديين لإعطاء صورة مشوهة عن الإسلام:
وهو الإسلام الذي يريده الكفار المحتلون، وأعوانهم من المنافقين، الإسلام الذي يعني الاستسلام للطاغوت، وليس الاستسلام لله، الإسلام الذي يقول؛ "دع ما لقيصر لقيصر! وما لله لله!".
وختاما؛ أنبه على أمرين:
1) إن اعتقادنا بكفر الديمقراطية، وصراعها مع الإسلام لا يعني أننا نحارب العدالة والحرية، بل إننا نعتقد أن الحرية الحقيقية والعدالة الصحيحة وغيرها من القضايا التي ينشدها الناس؛ موجودة على صفة الكمال في الشريعة الإسلامية الإلهية، وهي الشريعة التي يلزم كل أحد أن يخضع لها، وهي التي أمر الله أن تهيمن على العالم.
2) إن الديمقراطية تتنكر لنفسها عندما تؤدي إلى نصر الإسلام، فهذه فرنسا تقف في وجه الديمقراطية التي أثمرت فوز جبهة الإنقاذ في الجزائر، وهذه أمريكا التي تقاتل من أجل إرساء قواعد ديقراطيتها في العالم تهدد الابنة غير الشرعية لها - الدولة الفلسطينية المسخ - إذا ما فازت حماس في الانتخابات التشريعية!
المهم ألا تقوم للإسلام قائمة.
ولكننا نثق بنصر الله لدينه وعباده المؤمنين.
بقلم؛ الشيخ حامد بن حمد العلي
السبت، 22/ذوالقعدة/1426 هـ
==============(54/454)
(54/455)
"ديمغراطية"؛ الدكتور عصام
وجهة نظر
من المضحكات المبكيات - وما أكثرها في عالمنا الإسلامي -؛ الكلام عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة... إلى آخر هذه النعرات الشاذة التي لا رصيد لها في واقع المجتمعات المسلمة - لا سياسياً ولا إدارياً ولا اجتماعياً ولا اقتصادياً - يدعم هذه الشعارات الجوفاء.
فالأمر كله لا يتعدى كونها مزايدات سمجة من قبل أنظمة حكم ديكتاتورية متسلطة بيدها كل مقاليد الأمور من ناحية, وما تسمى بالأحزاب الرسمية المعارضة أو الناشطين المزعومين في مجال حقوق الإنسان, والتي لا حول لها ولا قوة من ناحية أخرى.
وبعيداً عن الكلام عن الديمقراطية وحكم الإسلام فيها, ومجانبتها للعقل والنقل والواقع, وفساد الأسس التي تقوم عليها...
فقد استرعى انتباهي خطبة الجمعة التي ألقاها وزير الأوقاف السوداني؛ د. عصام أحمد البشير بتاريخ 11 / 4 م 1426 هـ في واحد من أكبر مساجد الكويت، وأذيعت على الهواء مباشرة, وكانت في نفس الأسبوع الذي تقرر فيه منح المرأة الكويتية كامل الحقوق السياسية المزعومة.
وقد تضمنت الخطبة - وكان موضوعها "الحكمة" - نقداً لاذعاً لأعضاء الجماعات الإسلامية - عموماً - بدعوى؛ قلة علمهم، واكتفائهم بالأخذ بظاهر النصوص التي يقرءونها بأنفسهم من أمهات الكتب, وتصدرهم للحكم على الناس - بناءً على هذا العلم الضحل كما يظن - بين تكفير وتفسيق وتجهيل لهم.
كما أشار إلى ضرورة احترام رأي الأغلبية والالتزام بنتيجة الانتخابات - أي الديمغراطية باللهجة السودانية وإن كان لم يذكرها بالاسم - وذلك على أساس أن نقنع أنفسنا بقبول الرأي الآخر.
ثم ختم الخطبة؛ بالدعاء لأمير الكويت بالشفاء والعودة سالماً من رحلة العلاج الخارجية، ودوام حكمه للكويت، وكأنه يقصد أن الأمير يقودها بالحكمة التي تكلم عنها في الخطبة!
ونبدأ من حيث انتهى د. البشير، فنقول له؛
إن أمير الكويت الذي تدعو له بطول البقاء والشفاء التام؛ خائن لله ولرسوله وللمؤمنين، وقد ارتكب - ولا زال - من الجرائم التي يؤخذ على آحادها بالنواصي والأقدام, والتي كان آخرها الأساليب غير المشروعة الدنيئة التي أوعز بها للحكومة لإقرار ما يسمى بـ "الحقوق السياسية للمرأة الكويتية" - والتي سنتكلم عنها فيما بعد -
ومروراً بتعبيد الشعب الكويتي المسلم للأمريكان الصليبيين, ووضع كل إمكانات الدولة لخدمة القوات الصليبية وتسهيل انتقالها وتموينها من الأراضي الكويتية، لتفرض حصارها الجبان على الشعب العراقي طوال اثنتي عشرة سنة، مات بسببه عشرات الآلاف, ولا يزال الشعب العراقي بكامله يعاني من ويلات تلك السنوات، وما جد عليها بعد الغزو الصليبي للعراق انطلاقاً من الكويت وحدها.
وأعطى البترول للقوات الأمريكية المحتلة بسعر 21 دولاراً للبرميل، بينما وصل في السوق العالمية إلى قرابة الستين دولاراً, وليت الأمريكان يدفعون هذا الثمن البخس, بل استنكروا على لسان وزير دفاعهم الملعون - رامسفيلد - مجرد مطالبة بعض النواب لثمن ذلك البترول, على أساس أن أمريكا هي التي حررت الكويت! وبذلك أضاع نصف مليار دولار على المسلمين... والبقية تأتي.
ولكن لن نسترسل في ذكر هذا السجل الأسود لآل صباح ومن على شاكلتهم؛ فكل ذلك معروف للجميع.
وأما مطالبة د. البشير لنا بضرورة احترام رأي الأغلبية والالتزام بنتائج التصويت في المجالس النيابية المزعومة - ويقصد بها الالتزام بـ "الديمغراطية"؛
فنقول له: أي ديمغراطية تتكلم عنها يادكتور؟!
أولاً؛ أنت تدعي أنك دكتور في الشريعة وعالم من علمائها - أو هكذا يقال عنك - وبناء على ذلك صرت وزيراً, ألا تعلم أن "الديمغراطية"؛ كفر بإجماع من يعتد بهم من علماء المسلمين - وليس علماء السلاطين والدجالين - لأنها تعطي حق الحاكمية والتشريع لغير الله؟!
وأي "ديمغراطية" وأنت رأيت بأم عينيك وسمعت بأذنيك - اللواتي سيشهدن عليك يوم القيامة - ما حدث لتمرير قوانين إعطاء المرأة الكويتية كامل حقوقها السياسية المزعومة من رفض المجلس النيابي في البداية لتلك القوانين، ثم التدخل السافر والأساليب القذرة التي لجأت إليها الحكومة لإقرارها في جلسة مشبوهة معلومة النتيجة مسبقاً, ومع ذلك لم يقرها إلا خمسة وثلاثون نائباً تم شراء ذممهم الدينية والأخلاقية؟!
فهل نكفر بالله والسنة النبوية المطهرة لإرضاء أميرك المرتضى وحثالة البشر ممن يتصدرون الحكم في الكويت, ونرضى بشهادة خمسة وثلاثين فاجر، بدعوى أنهم يمثلون الأغلبية!
وحتى لا نكون قد تجنينا على هؤلاء النواب؛ نذكر الشروط التي يجب توافرها في المرشحين للمجالس البلدية الكويتية - وأظنها هي نفس الشروط في المجالس النيابية - وهي:
1) أن يكون كويتي الأصل.
2) أن يكون من بين المدرجين في القوائم الانتخابية.
3) ألا تقل السن عن 30 سنة يوم الانتخاب.
4) يستطيع القراءة والكتابة باللغة العربية.
5) لم يسبق الحكم عليه في قضايا جنائية أو مخلة بالشرف، ما لم يكن رد إليه اعتباره.(54/456)
ونتيجة لهذه الشروط؛ يدخل المجالس النيابية, ومن ثم اعتلاء المناصب الرسمية في الدولة - وزارية أو غيرها - أي فرد من أفراد المجتمع أياً كان نوعه - رجل أو امرأة, صالح أو طالح, مصلح أو مفسد, ذو عقيدة صحيحة ومذهب سوي وفكر رشيد أو ذو عقيدة فاسدة أو مذهب باطل أو فكر منحرف ضال - وذلك طالما أنه ليس من بين الشروط؛ لا الدين, ولا الفكر, ولا العقيدة, ولا السلوك، المهم هو الفوز في الانتخابات ورضا العصبة الحاكمة عنه.
وهذا من أشد أنواع الظلم والتعدي والإفساد في الأرض, والله سبحانه وتعالى يقول: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب}، والمقصود قطعاً في الآية؛ ليس علم كتابة وقراءة اللغة العربية, ويقول سبحانه في آية أخرى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون}.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى؛ قد جعل شهادة المرأة الصالحة العدلة التي يرضاها المؤمنون للشهادة, بنصف شهادة الرجل العدل، فكيف نسوي بين شهادة الرجل العدل بشهادة الواحدة من هؤلاء النسوة المسترجلات المتبرجات عديمات العفة والحياء؟! فقد قال الله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضوْن من الشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}.
وأما حملك يا دكتور على شباب الجماعات الإسلامية؛
فليس بخاطرك وإنما بخاطر أسيادك وبتوجيهاتهم, وهو ليس بالأمر الجديد، فقد شبعنا منه ومللناه, ولن يضير الحركات الإسلامية - خاصة الجهادية - في شيء، لأنه كلام لم تبتغ به النصيحة لله, وإنما قصدت منه التشهير وإساءة السمعة، و {الله لا يصلح عمل المفسدين}.
وهؤلاء الشباب؛ وإن كان في بعضهم ما تقول أو عندهم شيء من الاندفاع والغيرة والحماسة, ولا يقبلون الفتاوى إلا ممن يثقون فيهم من العلماء الربانيين، فذلك لفقدانهم الثقة في معظم العلماء الرسميين الذين لا ينطقون إلا بما يهوى السلطان ويحقق مصالحه ومصالحهم في آن واحد, أو الذين قال الله عز وجل فيهم: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله, ولئن جآء نصر من ربك ليقولن إنّا كنّا معكم أَوَلَيس الله بأعلم بما في صدور العالمين}، كما يقول سبحانه فيهم: {ومن النّاس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خيرٌ اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين}.
فلو وجد هؤلاء الشباب؛ رجالاً يعملون بعلمهم, ويتقدمون صفوفهم, ويطبقون ما أمرهم الله به - من غير نفاق ولا استكانة ولا تعبيد للرعية للحاكم من دون الله - ويجهرون بكلمة الحق مهما كانت النتيجة... فلو وجد الشباب من هذه صفاتهم فسيلتفون حولهم ويسمعون لهم ويطيعون, كما فعلوا مع الشيخ عبد الله عزّام رحمة الله عليه وغيره من العلماء المخلصين الصادقين.
وختاماً نقول لحكام الكويت:
إن الباطل لن يفرح طويلاً بتمرير تلك القوانين, وستتحول الأفراح التي أقمتموها إلى مآتم قريباً - إن شاء الله - وذلك لإيماننا بأن العاقبة للمتقين؛ {فأما الزبد فيذهب جفآءً وأما ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض}.
وختاماً:
نسأل الله عز وجل أن يحشرنا مع عباده المجاهدين المخلصين الساعين لإقامة دولة الإسلام, وأن يحشر كل من يدعو لحكام العرب وحواشيهم من المبدلين لشرع الله الصادين عن سبيله, أن يحشره معهم, وأن تكون أوزارهم هم والذين يدعون لهم سواء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
بقلم؛ محمد سالم عبد الحليم
عن مجلة؛ طلائع خرسان
مجلة إعلامية دورية
تعنى بشؤون الجهاد والمجاهدين في أفغانستان
جمادى الآخرة / 1426 هـ
============(54/457)
(54/458)
الديمقراطية {ولتستبين سبيل المجرمين}
[الكاتب: أبو مصعب]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يقول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين}.
قال ابن القيم رحمه الله في مدارجه: (إذا طرق العدو من الكفار بلد الإسلام، طرقوه بقدر الله، أفيحل للمسلمين الاستسلام للقدر وترك دفعه بقدر مثله، وهو الجهاد الذي يدفعون به قدر الله بقدره؟).
اعلموا أيها المسلمون...
أن الجهاد في سبيل الله اليوم دواء لكثير من الأمراض التي تشكو منها الأمة، فإنه لا شيء بعد التوحيد يعدل الجهاد نفعاً للبلاد والعباد؛ فهو طريق قد تكفل الله بهداية سالكيه، كما قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.
لذلك كان السلف إذا أشكل عليهم أمر من أمور الدين، توجهوا بمسألتهم إلى أهل الثغور والجهاد، تيمنا ًأن يجدوا الهداية والصواب عندهم.
وهو كذلك باب من أبواب الجنة، يُذهب الله به الهم والغم، كما في الحديث: (عليكم بالجهاد في سبيل الله، فإنه باب من أبواب الجنة، يذهب الله به الهم والغم).
وبه تحفظ مقاصد الدين وتصان الحرمات، كما أخبرنا ربنا تبارك وتعالى: {ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً}.
وقال تعالى: {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين}، أي أن الخير العائد أو المتحصل من الجهاد؛ مرده على أنفسنا، إن جاهدنا في سبيل الله، فالله تعالى غني عنا وعن جهادنا.
وهو كذلك؛ باب عظيم من أبواب التمحيص، يُعرف به المؤمن الموحد من المنافق المتسلق، الذي يتشبع بما لم يُعط، والذي يحب أن يُحمد بما لم يفعل.
فالجهاد؛ ترجمان التوحيد، وهو دليل على صدق الموحد، ومن لم يكن له سابقة عهد مع الجهاد والبلاء في سبيل نصرة هذا الدين؛ لا يحق له أن يتصدر مواقع الزعامة والقيادة، مهما أوتي من علم وحسن بيان، وهو إن فعل؛ فهو يتشبع ويتظاهر بما ليس عنده، وهو كلابس ثوبي زور.
وما أحوج الأمة إلى هذا الميزان والكشاف، في هذا الزمان الذي كثر فيه المتسلقون والمنافقون والمتاجرون، قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}، وقال تعالى: {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا}، وقال تعالى: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون}، وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}.
فاعتبر سبحانه وتعالى جهادهم؛ دليلاً على صدق إيمانهم وتوحيدهم، وأنهم هم المؤمنين حقا - أي الموحدون حقا - وهم الصادقون الفائزون في الدنيا والآخرة.
أما الذين لا يجاهدون ولا ينفرون، الذين تهتز قلوبهم كلما نادى منادي الجهاد، أو فُتح في الأمة باب للبذل والفداء؛ فهؤلاء متهمون في إيمانهم، مزورون في دعواهم، قال تعالى:{إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين}.
فاعتبر سبحانه وتعالى تخلفهم مع رسول ا صلى الله عليه وسلم ؛ دليلاً على نفاقهم وعدم إيمانهم، كما اعتبر عدم الإعداد والأخذ بأسباب الجهاد؛ دليلاً على عدم صدقهم ورغبتهم في الخروج للجهاد في سبيل الله.
فلكل دعوى وزعم؛ برهان ودليل، وزعم اللسان من دون عمل لا يكفي، فكيف بمن يثبط الأمة عن الجهاد ويؤثم المجاهدين ويجرمهم لجهادهم؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "العبودية": (قد جعل الله لأهل محبته علامتين:
اتباع الرسو صلى الله عليه وسلم .
والجهاد في سبيل الله.
وذلك لأن الجهاد؛ حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، وفي دفع ما يبغضه من الكفر والفسوق والعصيان) انتهى كلامه.
لو قدمت الشعوب المسلمة جزءاً يسيراً مما تقدمه في سبيل الطاغوت في طريق الجهاد في سبيل الله؛ لتغير حالهم إلى أحسن حال، ولكان لهم شان آخر يختلف عما هم عليه من الذل والخنوع والهوان والعبودية للطواغيت.
فكيف إذا سمعت هذه الشعوب حقيقة أخبار الجهاد على أرض العراق؟(54/459)
فخطط الجهاد ومشاريعه تسير على قدم وساق على أرض الرافدين - بفضل الله - وثماره أخذت في البدو والصلاح، مما أقض مضاجع الكفر في المنطقة؛ ففتلوا حبائلهم وأحضروا مكرهم، وأجلبوا بحقدهم وبطشهم على أرض الفلوجة الطيبة.
فماذا جنى الغاصب الأمريكي وحلفاؤه من الرافضة وغيرهم من غزوهم واعتدائهم على ديار الإسلام الآمنة؟
لقد ظهرت فضائحهم وأكاذيبهم المكشوفة للعالم اجمع، وتداعت حججهم ومزاعمهم في تحقيق الأمن والأمان للحكومة العراقية المرتدة، وشُغلهم الشاغل الآن؛ في إنجاح الكذبة الأمريكية الكبرى، التي تسمى "الديمقراطية".
فقد لعب الأمريكان بعقول كثير من الشعوب بأكذوبة؛ "الديمقراطية المتحضرة"، وأوهموها أن سعادتها ورفاهيتها مرهونة بهذا المنهج البشري القاصر.
وبعدها بررت إدارة الكفر الأمريكية حربها على العراق وأفغانستان؛ بأنها حامية الديمقراطية في العالم وراعيتها الأولى.
وعلى أرض العراق أُنشأت "الحكومة العلاوية" لهذا الغرض؛ أي لغرض التلبيس والتدجيل على عقول العراقيين والعالم، وللإيهام بأن الولايات المتحدة جادة في إقامة وطن عراقي مستقل وديمقراطي، فتستُر بذلك أهدافها ومراميها الصليبية في المنطقة في التمكين لدولة اسرائيل الكبرى، وتخفي أطماعها ونواياها تجاه ثروات العراق وخيراته.
وإن من أعظم ما حرص الإسلام على بقاء صفائه ونقائه وتميزه؛ هو شخصية هذا الدين، وقبوله كما أنزل بأوامره وزواجره وحدوده وقواعده، بعيداً عن التمييع والتشويه، والغلو والإفراط والتفريط، وهذا ما جاء مؤكداً في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
قال الله تعالى: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولاتطغوا إنه بما تعملون خبير}، وقال سبحانه: {واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين}، وقال سبحانه: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع اهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}، وقال سبحانه: {فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم}، وقال جل من قائل: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون}، وقال سبحانه: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
وقال عليه الصلاة والسلام: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة).
جاءت الديمقراطية لتقول لنا؛
إن الشعب في النظام الديمقراطي هو الحكم والمرجع، وله كلمة الفصل والبت في كل القضايا، فحقيقته في هذا النظام تقول؛ "لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، له الحكم وإليه يرجعون، إرادته مقدسة، واختياره ملزم، وآراؤه مقدمة محترمة، وحكمه حكمة عدل، من رفعه رفع، ومن وضعه وضع، فما أحله الشعب هو الحلال، وما حرمه هو الحرام، وما رضيه قانوناً ونظاماً وشريعة فهو المعتبر، وما عداه فلا حرمة له ولا قيمة ولا وزن، وإن كان ديناً قويماً وشرعاً حكيماً من عند رب العالمين"!
وهذا الشعار - أعني حكم الشعب للشعب - هو لب النظام الديمقراطي وجوهره ومحوره وقطب رحاه الذي تدور عليه كل قضاياه ومسائله، فلا وجود له إلا بذلك.
فهذا هو "دين الديمقراطية"، الذي يُبجل ويُعظم جهاراً نهاراً، وهذا ما يقرره منظروها ومفكروها ودعاتها على رؤوس الأشهاد، وهو ما نشاهده ونلمسه في الواقع الذي نراه ونعاينه.
فالديمقراطية - على اختلاف تشعباتها وتفسيراتها - تقوم على مبادئ وأسس نوجز أهمها في النقاط التالية:
أولاً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات، بما في ذلك "السلطة التشريعية"، ويتم ذلك عن طريق اختيار ممثلين عن الشعب ينوبون عنه في مهمة التشريع وسن القوانين، وبعبارة أخرى؛ فإن المشررع المطاع في الديمقراطية هو الإنسان وليس الله، وهذا يعني أن المألوه المعبود المطاع من جهة التشريع والتحليل والتحريم هو الشعب والإنسان والمخلوق، وليس الله تعالى.
وهذا عين الكفر والشرك والضلال، لمناقضته لأصول الدين والتوحيد، ولتضمنه إشراك الإنسان الضعيف الجاهل مع الله سبحانه وتعالى في أخص خصائص إلاهيته، ألا وهو الحكم والتشريع.
قال تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه}، وقال تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحداً}.
وقال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}، وليس إلى الشعب أو الجماهير أو الكثرة الكاثرة.
وقال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون}، وقال تعالى: {قل أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً}.
وقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}؛ فسمى الذين يشرعون للناس بغير سلطان من الله تعالى "شركاء" و "أندادا".
وقال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}، وقال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}.(54/460)
جاء في الحديث عن عدي بن حاتم، لما قدم على صلى الله عليه وسلم - وهو نصراني - فسمعه يقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}، قال: فقلت له: (إنا لسنا نعبدهم) - أي لم نكن نعبدهم من جهة التنسك والدعاء والسجود والركوع، لظنه أن العبادة محصورة في هذه المعاني وحسب - قال: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلون؟)، قال: فقلت: (بلى)، قال: (فتلك عبادتهم).
ورحم الله سيّد قطب إذ يقول: (إن الناس في جميع الأنظمة الأرضية يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، يقع في أرقى الديمقراطيات، كما يقع في أحط الديكتاتوريات، سواء).
وقال: (أظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية؛ تعبيد العبيد، والتشريع لهم في حياتهم، وإقامة الموازين لهم، فمن ادعى لنفسه شيئاً من هذا كله؛ فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية، وأقام نفسه للناس إلهاً من دون الله).
وقال: (إن الذي يملك حق التحريم والتحليل هو الله وحده، وليس ذلك لأحد من البشر، لا فرد ولا طبقة، ولا أمة، ولا الناس أجمعين إلا بسلطان من الله ووفق شريعة الله) انتهى كلامه.
ثانياً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية التدين والاعتقاد، فللمرء في ظل الأنظمة الديمقراطية أن يعتقد ما يشاء، ويتدين بالدين الذي يشاء، ويرتد إلى أي دين وقتما شاء، وإن كان هذا الارتداد مؤداه إلى الخروج عن دين الله تعالى، إلى الإلحاد وعبادة غير الله عز وجل.
وهذا أمر لا شك في بطلانه وفساده، ومغايرته لكثير من النصوص الشرعية، إذ أن المسلم لو ارتد عن دينه إلى الكفر، فحكمه في الإسلام؛ القتل، كما في الحديث الذي يرويه البخاري وغيره: (من بدل دينه فاقتلوه)، وليس "فاتركوه"!
فالمرتد لا يصح أن يعقد له عهد ولا أمان ولا جوار، وليس له في دين الله إلا؛ الاستتابة أو السيف.
ثالثاً:
تقوم الديمقراطية على اعتبار الشعب حكماً أوحد، تُرد إليه الحكومات والخصومات، فإذا حصل أي اختلاف أو نزاع بين الحاكم والمحكوم؛ نجد أن كلاً من الطرفين يهدد الآخر بالرجوع إلى إرادة الشعب وإلى اختياره، ليفصل الشعب ما كان بينهما من نزاع أو اختلاف.
وهذا مغاير ومناقض لأصول التوحيد، التي تقرر أن الحَكَم الذي يفصل بقضائه بين النزاعات هو الله تعالى، وليس أحد سواه، قال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}.
بينما الديمقراطية تقول؛ "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الشعب، وليس إلى أحد غير الشعب"!
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "إعلام الموقعين": (جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد، انتفى الإيمان، ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء الآخر) انتهى كلامه.
ثم إن إرادة التحاكم إلى الشعب أو إلى أي جهة أخرى - غير الله تعالى - يعتبر في نظر الشرع من التحاكم إلى الطاغوت الذي يجب الكفر به، كما قال تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به}، فجعل الله سبحانه وتعالى إيمانهم زعماً ومجرد ادّعاء لا حقيقة له، لمجرد حصول الإرادة في التحاكم إلى الطاغوت وإلى شرائعه.
وكل شرع غير شرع الله، أو حكم لا يحكم بما أنزل الله؛ فهو يدخل في معنى الطاغوت الذي يجب الكفر به.
رابعاً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية التعبير والإفصاح، أياً كان هذا التعبير، ولو كان مفاده طعناً وسباً للذات الإلهية وشعائر الدين، إذ لا يوجد في الديمقراطية شيء مقدس يحرم الخوض فيه أو التطاول عليه بقبيح القول.
قال تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم}، وقال تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة}.
خامساً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ؛ فصل الدين عن الدولة وعن السياسة والحياة، فما لله لله - وهو فقط العبادة في الصوامع والزوايا - وما سوى ذلك من مرافق الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، فهي من خصوصيات الشعب.
{فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون}.
وهذا القول منهم؛ معلوم من ديننا بالضرورة فساده وبطلانه وكفر القائل به، لتضمنه الجحود الصريح، كما هو معلوم من الدين بالضرورة، فهو جحود صريح لبعض الدين الذي نص على أن الإسلام دين دولة وسياسة، وحكم وتشريع، وأنه أوسع بكثير من أن يُحصر في المناسك، أو بين جدران المعابد.(54/461)
وهذا مما لاشك فيه أنه كفر بواح بدين الله تعالى، كما قال تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب}، وقال تعالى: {ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً اليماً}.
سادساً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية تشكيل التجمعات والأحزاب السياسية وغيرها، أياً كانت عقيدة وأفكار وأخلاقيات هذه الأحزاب.
وهذا مبدأ باطل شرعاً، وذلك من أوجه:
منها؛ أنه يتضمن الإقرار والاعتراف - طوعاً من غير إكراه - بشرعية الأحزاب والجماعات، بكل اتجاهاتها الكفرية والشركية، وأن لها الحق في الوجود، وفي نشر باطلها وفسادها وكفرها في البلاد وبين العباد.
وهذا مناقض لكثير من النصوص الشرعية، التي تُثبت أن الأصل في التعامل مع المنكر والكفر؛ إنكاره وتغييره، وليس إقراره والاعتراف بشرعيته، قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}.
قال ابن تيمية رحمه الله: (فكل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة؛ يجب جهادها حتى يكون الدين كله لله بإتفاق العلماء) انتهى كلامه رحمه الله.
ومنها؛ أن هذ الاعتراف الطوعي بشرعية الأحزاب الكافرة يتضمن الرضى بالكفر، وإن لم يصرح بفمه أنه يرضى بحريتها، والرضى بالكفر؛ كفر.
قال تعالى: {وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا}.
ومنها؛ أن من لوازم الاعتراف بهذا المبدأ؛ السماح للأحزاب الباطلة - بكل اتجاهتها - بأن تبث كفرها وباطلها، وأن تغرق المجتمع بجميع صنوف الفساد والفتن والأهواء، فنعينهم بذلك على هلاك ودمار البلاد والعباد.
سابعاً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ اعتبار موقف الأكثرية، وتبَنّي ما تجتمع عليه الأكثرية، ولو اجتمعت على الباطل والضلال والكفر البواح، فالحق في نظر الديمقراطية - الذي لا يجوز الاستدراك أو التعقيب عليه - هو ما تقرره الأكثرية وتجتمع عليه، لا غير.
وهذا مبدأ باطل لا يصح على إطلاقه، حيث إن الحق في نظر الإسلام هو ما يوافق الكتاب والسنة، قل أنصاره أو كثروا، وما يخالف الكتاب والسنة؛ فهو الباطل، ولو اجتمعت عليه أهل الأرض قاطبة.
قال تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}.
وقال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}، فدلت الآية الكريمة؛ أن طاعة واتباع أكثر من في الأرض ضلال عن سبيل الله تعالى، لأن الأكثرية على ضلال، ولا يؤمنون بالله إلا وهو يشركون معه آلهة أخرى.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لعمر بن ميمون: (جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك).
وقال الحسن البصري: (فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكونوا كذلك).
ومما يلفت النظر ويشتد له العجب...
أنه رغم ما جرّت التجارب الديمقراطية على المسلمين من نتائج سيئة ووخيمة، أفضت إلى الضعف والاختلاف والتفرق والشقاق والنزاع، حيث الجماعة أصبحت جماعات، والحزب أصبح أحزاب، والحركة أصبحت حركات متنافرة متباغضة.
رغم كل ذلك وغير ذلك مما يشين؛ فإن أقواماً لا يزالون يستعذبون الديمقراطية وينافحون عنها، كأنهم أربابها وصانعيها، أُشربوا في قلوبهم حب الديمقراطية كما أُشرب بنو إسرائيل من قبل في قلوبهم حب العجل، فما نفعهم سمعهم؛ فردعتهم الآيات القرآنية والنصوص الشرعية، ولا نفعتهم عقولهم وأبصارهم؛ فبصرتهم بالواقع المرير الناتج عن تطبيق الديمقراطية.
وتعذر بعضهم بشبهة "المصلحة" و "الوصولية للقرار والسيادة عن طريق الديمقراطية"، واتخذوها سبيلاً لنيل المقاصد الشرعية والدينية، ولم يلتفتوا لشرعية هذه الوسائل وأحكامها في دين الله عز وجل، ودخلوا من جحر المساومة والمقايضة على ثوابت العقيدة والمنهج باسم "المصلحة" و "الغاية".
روى الطبري في تفسيره قال: لقي الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف؛ رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: (يا محمد! هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونُشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خير مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت منا بحظك)، فأنزل الله: {قل يا أيها الكافرون}، حتى انقضت السورة.
إننا نجد في هذه الحادثة؛ أن قريشاً طلبت من رسول ا صلى الله عليه وسلم أن يتنازل لها، وتتنازل له، حتى يلتقيا حول نقطة واحدة.(54/462)
وقد يقول قائل: لو أن رسول ا صلى الله عليه وسلم وافقهم على ذلك وطلب منهم أن يبدؤوا بعبادة الله أولاً، فإنهم إذا عرفوا الإسلام لن يرجعوا عنه، وفي هذا تحقيق مكسب كبير للإسلام، وتحقيق انتصار، ورفع للبلاء الذي يلاقيه المسلمون.
والجواب؛ أن الله قد حسم هذه القضية: {لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد}، وفي آخرها: {لكم دينكم ولي دين}.
فالقضية قضية مبدأ، غير قابلة للمساومة، ولا للتنازل قيد أنملة، فهذه مسألة من مسائل العقيدة، بل هي العقيدة نفسها.
إن التأمل في هذه القضية، وكيف حسمها القرآن، يعطي من الدروس ما نحن بأمس الحاجة إليه، بل يرسم منهجاً واضحاً جلياً في كيفية مواجهة أساليب كثير من أعداء الإسلام - حاضراً ومستقبلاً -
فلو سالمتهم يا أيها المسلم؛ فهم لا يسالمونك إلا بشرط التخلي عن دينك وتدخل في موالاتهم وطاعتهم في منهجهم الديمقراطي الخبيث، وبخاصة إن كانوا هم الطرف الأقوى، وبخاصة إن كانوا هم الطرف القوي في المعركة.
وإن طمعت يوماً أن يرضوا عنك دون أن تتبع ملتهم؛ فأنت واهم.
وعليك بقراءة القرآن من جديد، ومراجعة التاريخ القريب منه والبعيد، لتقرأ صفحات الغدر والحقد والإجرم التي مورست - ولا تزال تُمارس - بحق الإسلام والمسلمين.
فكيف تقبلون يا أيها المسلمون من أهل العراق؛ أن يحكم العدو الصليبي وأذنابه في دمائكم وأبشاركم وفروجكم وأموالكم بشرعة غير شرعة الله الطاهرة، وبدين غير دينه القويم، وأنتم أحفاد سعد بن أبي وقاص، والمثنى، وخالد بن الوليد، والقعقاع، الذين روّوا هذه الأرض بدمائهم؟!
فينبغي لكم أن تتنبهوا لخطة العدو من تطبيق الديمقراطية المزعومة في بلادكم، فما أرادوها إلا لأجل نزع بقية الخير فيكم، فأحكموها على هيئة المصيدة الخبيثة التي ترمي لسيطرة الرافضة على مقاليد الحكم في العراق.
فقد أُدخل أربعة ملايين رافضي من إيران من أجل المشاركة في الانتخابات، ليتحقق لهم ما يصبون إليه من السيطرة على غالبية الكراسي في "المجلس الوثني"، وبذلك يستطيعون أن يشكلوا حكومة أغلبية تسيطر على مفاصل الدولة الرئيسية الاستراتيجية والاقتصادية والأمنية، وتحت لافتة "الحفاظ على الوطن والمواطن"، و "التقدم نحو المشروع الديمقراطي"، و "إزالة أية عوالق من حزب البعث البائد"، و "القضاء على المخربين من فدائيي صدام والإرهابيين"؛ يبدأ الرافضة بتصفية حساباتهم العقدية للقضاء على رموز وكوادر أهل السنة، من علماء ودعاة وأصحاب خبرة، ويرافق ذلك ضخ إعلامي رهيب يزين باطلهم ويخفي حقيقتهم، {وما تخفي صدورهم أكبر}.
ثم يبدأون بعد ذلك بنشر مذهبهم الخبيث بين الناس، بالمال والحديد، والترغيب والترهيب، ويستفيدون من سيطرتهم على مصادر رزق المسلمين.
فإن نجحوا في مشروعهم هذا؛ فما هي إلا بضع سنوات وتكون بغداد ومناطق أهل السنة قد تشيع أغلبها، ومن وراء ذلك سكوت وخذلان كثير ممن ينتسب إلى العلم - زوراً وبهتاناً - الذين ميعوا عقيدة الولاء والبراء في صدور الناس، وأوهموهم بأن الرافضة إخوان لنا وجيران مودتنا!
وهل أفسد الدين إلا الملوك ……وأحبار سوء ورهبانها
فوا أسفاه! إن أصبحت بغداد في يوم من الأيام رافضية، فإن بغداد - وإن كانت حُكمت سنين طويلة من حكام مرتدين، ساموا أهلها الذل والهوان - لكنها لم تكن في يوم من الأيام رافضية.
فها هي بغداد والسواد بدأ يعلوها يوماً بعد يوم، وهاهي مظاهر الوثنية والشرك تتبدى فيها عياناً، وأصبحت ترتفع فيها أصوات أهل الرفض بلعن صحابة نبينا عليه الصلاة والسلام، وبسب أمهاتنا زوجات نبينا؛ صباح مساء على منابرهم وفي إذاعاتهم.
ورحم الله الإمام مالك حين قال: (لا يُجلس في أرض يُسب فيها أبوبكر وعمر).
عمر الفاروق الذي قال عندما كان أميراً للمؤمنين: (لئن أبقاني الله إلى العام القابل لأدعن نساء العراق لا يحتجن إلى أحد بعدي)، كان يغار على أعراضكم وهو في المدينة المنورة، وهاهم الرافضة اليوم يلعنونه صبح، مساء، بين ظهرانيكم.
أما بقي فيكم غيرة يا أهل العراق؟!
أغادرت مضاربكم الحمية على دين الله؟!
أخنتم أجدادكم يا أحفاد سعد والمثنى وخالد؟!
أرضيتم بالذلة والهوان وبغايا الروم وشُذاذ النصارى وخنازير الرافضة يعبثون بأعراض بنات المسلمين ويتلهون بها؟!
فلهذه الدواعي وغيرها؛ أعلنا الحرب اللدود على هذا المنهج الخبيث، وبينّا حكم أصحاب هذه العقيدة الباطلة، والطريقة الخاسرة.
فكل من يسعى في قيام هذا المنهج بالمعونة والمساعدة؛ فهو متولٍ له ولأهله، وحكمه؛ حكم الداعين إليه والمظاهرين له.
والمرشحون للانتخاب؛ هم أدعياء للربوبية والألوهية، والمنتخبون لهم؛ قد اتخذوهم أرباباً وشركاء من دون الله، وحكمهم في دين الله؛ الكفر والخروج عن الإسلام.
اللهم هل بلغت... اللهم فاشهد، اللهم هل بلغت... اللهم فاشهد، اللهم هل بلغت... اللهم فاشهد.
والحمد لله رب العالمين
==============(54/463)
(54/464)
حرية الكفر؛ الركيزة المحورية للديمقراطية
كثيرة هي المحاولات الرامية إلى تحسين الوجه القبيح للديمقراطية امام المسلمين عبر الكتابات واللقاءات والمؤتمرات والحوارات التي عقدت طوال عقود.
حتى ان بعض المحسوبين على الإسلام؛ اصبحوا إلى درجة كبيرة وتحت ضغط الإعلام "الديمقراطي" مصابين بهزيمة روحية، واصبحوا بين الذين يحاولون ايجاد قواسم مشتركة بين الإسلام والديمقراطية، وبين من يزينها اجمالا، كونها "عقيدة العصر ولا مفر منها"، وبين من ينتهجها مسلكا من اجل تحقيق اهداف إسلامية!
حتى اصبحت "الديمقراطية"؛ العلاج الانجع لكافة المشاكل في نظر هؤلاء!
ونظرا للواقع الاستبدادى الذي يعيشه المسلمون تحت نير الطواغيت المتسلطين على رقاب المسلمين، اصبح هذا التيار الانهزامي - الذي اشرنا اليه - يتقمص الديمقراطية يوما بعد يوم، كبديل للحكم عن هذه الانظمة.
ولسنا هنا بصدد تفنيد الديمقراطية، التي قد سبقنا إلى ذلك علماء افاضل وبينوا بطلان هذا الدين، بقدر ما نريد التركيز على احد اركان هذا الدين الفاسد، الذي ظل الغرب يتشدق بها ومن ورائهم المنهزمون روحيا وفكريا،. الا وهو حرية الكفر.
فقد برهنت حملة الاساءة المسعورة، التي تجاوزت كل الحدود، ووصلت إلى درجة الإساءة والسخرية من القرآن الكريم ورسولنا الكريممحمد صلى الله عليه وسلم ؛ مرة اخرى حقيقة دعاوى "حرية التعبير"، كونها تترجم الحقد الدفين ضد الإسلام من خلال أفلام ومسلسلات وبرامج إذاعية ورسوم كاريكاتيرية ومقالات وكتب ودراسات وقصص وروايات ونصوص مدرسية ومناهج تعليمية وكتابات ساقطة، كلها تعمل على تشويه صورة الإسلام، من اجل تعمية بصيرة الرجل الغربي وتجهيله عن الإطلاع بوضوح على الإسلام وحضارة المسلمين، لترسخ في المخ الغربي صورة العداء للإسلام، وينقاد الغربي ضمن مخططات الصهيونية الصليبية الجديدة التي تدير دفة الاوضاع في الغرب في حربهم على الإسلام والمسلمين.
انطلقلت الحملة المسعورة في دانمارك، ورفض رئيس تحريرالجريدة التي نشرت الصور؛ الاعتذار أو مقابلة المعترضين، وتضامنت كل الهيئات الحكومية مع الجريدة، بما فيهم المدعى العام الدانماركي، وذلك بإسقاط كل الدعاوى ضد الجريدة قبل وصول القضية إلى المحكمة، معتبراً أن نشر الرسوم تم في إطار حرية التعبير التي يحميها القانون .
وتحت نفس اللافتة - حرية التعبير - بدأت صحف غربية اخرى باتباع نفس الاسلوب، فتوالت الإساءات على الصحف وشاشات التلفزيون في أكثر من بلد غربي، مما اثبت انها حرب منظمة تستهدف الإسلام والمسلمين .
فمن الوقائع والتصريحات حول المسألة...
رئيس الوزراء الدانماركي "أندرس فوج راسموسن" قال: إنه لن يتدخل في تلك المسألة، بدعوى أن حرية التعبير هي من أهم أسس الديمقراطية الدانماركية، كما رفض ادانة الرسومات المسيئة، واصفا نشرها بأنه يدخل في حرية التعبير التي يعتبرها الاوروبيون مقدسة.
في استطلاع للرأي؛ 80% من الدنماركيين يرفضون اعتذار بلادهم من الاستهزاء بالنبي r.
منظمة "مراسلون بلا حدود" دافعت عن نشر الرسوم، وقال أمينها العام "روبير مينار": (قد تبدو هذه المبادرة استفزازية، لكن أساسها مبرر بالكامل، ولا تستحق في أي حال من الأحوال الاعتذار من أي كان).
مع إعادة نشر صحيفة "دي فيلت" الألمانية للرسوم، نشرت بأنه؛ (لا حصانة لأحد من التهكم في الغرب).
رئيس تحرير صحيفة "تشارلي هيبدو" الفرنسية التي نشرت الصور: (إن انتقاد الاديان امر شرعي في دولة يحكمها القانون، وينبغي ان يستمر الامر كذلك).
عن الصحيفة الفرنسية "فرانس سوار" التي نشرت الرسوم، وعلى صدر صفحتها الرئيسية تحت أحد الرسوم: (نعم لنا الحق في رسم رسوم كاريكاتيرية لله)، معلنة أن موقفها هذا يأتي "دفاعا عن حرية التعبير".
وقالت الصحيفة: (لا، لن نقدم اعتذارًا أبدًا عن حرية الكلام والتفكير والاعتقاد، بما أن هؤلاء العلماء الذين وضعوا أنفسهم للدفاع عن الدين قد جعلوا هذه القضية مسألة مبدأ، فيجب أن نكون صارمين، أعلوا أصواتكم بقدر الإمكان، لدينا الحق في رسم محمد وعيسى وبوذا ويهوه، كل اتجاهات مذاهب التوحيد، إن هذا يسمى حرية التعبير في بلد علماني).
في ايطاليا؛ ارتدى وزير ايطالي قميصا عليه بعض الصور المسيئة، في محاولة لتحدي شعور المسلمين.
وفي نفس الوقت الصحافة الغربية لا تتطاول علي الديانات الاخرى، ولم نسمع مطلقا انها شككت بالديانة اليهودية، أو تطاولت علي الديانة البوذية أو الهندوسية، ولكنها لا تتورع عن السخرية بالدين الإسلامي.
كشف رسام كاريكاتير دانماركي النقاب عن أن الصحيفة الدانماركية "يلاندس بوستن"، التي كانت أول من نشر الرسوم، كانت قد رفضت من قبل رسومًا كاريكاتيرية للسيد المسيح عليه السلام، باعتبارها مُسيئة بدرجة بالغة.
وقال رسام الكاريكاتير "كريستوفر زيلر" في مقابلة له مع "رويترز": (إن الصحيفة رفضت رسومه التي تصور السيد المسيح - عليه السلام -).(54/465)
قالت صحيفة "أساهي شيمبون" اليابانية التي توزع أكثر من ثمانية ملايين نسخة يومياً: (ان القضية الأصلية التي يثيرها نشر الصور ليست حرية التعبير، بل بالعكس الإنحدار المبيت عن سابق تصميم إلى مستوى منحط جداً بنشر صور مسيئة جداً وغير مناسبة ولا أخلاقية تحت ذريعة حرية التعبير) .
إن كل القوانين تجرم سب الأشخاص والقذف في حقهم، حيث لا يمكن أن يعد ذلك نوعاً من حرية التعبير، لأن السب في هذه الحالة يعد عدواناً على شخص آخر، ومن ثم فأولى بالتجريم سب نبي الإسلام الذي يؤمن بنبوته ورسالته ربع سكان الكرة الأرضية.
وإذا كانت قد خرست كل ألسن منظمات حقوق الإنسان وغيرها من الهيئات الدولية تجاه الإستهزاء بخاتم الانبياء، ربما بدعوى "حرية التعبير"، ولم نر تلك الاستماتة المعهودة للدفاع عن الحقوق واحترام الآخر التي تبديها عندما يتعلق الأمر بالتعرض للسامية والتشكيك في حقيقة حرق النازية لملايين اليهود.
ولا يمكن قراءة ما أقدمت عليه الجريدة الدانماركية وصحف غربية أخرى وتجمع أمرها على محاربة الإسلام واستفزاز مشاعر المسلمين إلا بالحقيقة التي لا تقبل الشك؛ بأن المنظومة الغربية قد وزعت الادوار في حربها على الإسلام بين عمليات عسكرية قائمة على الاحتلال وبناء أحلاف وقواعد عسكرية وخطط سياسية لتثبيت الطواغيت و إعلامية كما لمسناها في هذه الحملة.
وتتبع المنظومة الديمقراطية الغربية هذه السياسة؛ انطلاقا من سياسة الكيل بمكيالين، فباسم حرية التعبير ينال من الإسلام وقيمه، وفي الوقت نفسه لا يسمح التشكيك في مذابح اليهود، ومن تجرأ على ذلك حوكم بتهمة معاداة السامية.
نرجع إلى التيار "الديمقراطي المتأسلم" الذي يعيش ازمة كبرى هذه الايام، لسذاجتهم وثقتهم العمياء بالمنظومة الديمقراطية، الذي اعتبروها المخلص الوحيد... فيا ترى هل يعتبر "المتأسلمون" من البرلمانيين وأصحاب الدعاوى العريضة من هذه الامور، أم ان المسألة لا تعنيهم طالما انها تتم في اطار "حرية التعبير"؟!
عن مجلة جيش أنصار السنة، العراق
عدد؛ 14، صفر / 1427 هـ
===============(54/466)
(54/467)
هدف الانتخابات في الدول الإسلامية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد...
فكلنا تابع في الآونة الأخيرة الأحداث التي وقعت في خضم الانتخابات التشريعية التي عاشتها الساحة المصرية، والتي يعتقد الإخوان المسلمون أنهم حققوا فيها إنجازاً؛ بتخطيهم مرحلة الحظر الذي كانوا يرزحون تحت وطأته زمناً طويلاً إلى مرحلة المشاركة السياسية!
رغم ما عانوه وما واجهوه من السلطات الحاكمة المستبدة، التي أكدت - كأمثالها من الحكومات - على زيف شعارات تحملها لا رصيد لها في الواقع.
وقد تمثل ذلك فيما مارسته على أشخاص الإخوان من مصادرة الحريات والاعتقالات ومنعهم من أبسط الحقوق الديمقراطية التي يدندنون حولها, وإغلاق أكثر لجان التصويت في وجه مؤيدي الإخوان, ومحاولات الحزب الحاكم منع أفراد الإخوان من الحصول على مقاعد في المجالس النيابية... إلى غيرها من الممارسات العتيقة المتسمة بالظلم والاستبداد.
لست الآن بصدد وصف الحالة أو المواجهات التي تحصل دائماً بين ممثلي الحكومات وبين ممثلي الجماعات الإسلامية ذات النهج الديمقراطي في التغيير, ولست كذلك بصدد مناقشة صحة أو خطأ هذا الأسلوب عند الجماعات الإسلامية.
بل الذي أريده وأحببت الإشارة إليه؛ هو أن هذه الأحداث الانتخابية التي حصلت في مصر، هي في حقيقتها عملية تحركها أيادٍ خفية من الصليبيين تمهيداً لحقبة تاريخية جديدة في العالم العربي تحكمه الأحزاب الإسلامية، على نمط ما يسمى بـ "الإسلام المعتدل"، الذي يرفع شعارات من أهمها؛ التقريب بين الأديان، الذي من هدفه طمس معالم عقيدة الولاء والبراء والجهاد... وما إليها من المسائل التي تحكم وتحدد علاقة المسلم بالكافر، وهذا ما ينشده ويهدف إليه الصليبيون.
والسبب في جعل هذه العملية تجري أدوارها على الساحة المصرية، عدةُ اعتبارات؛ من أهمها جعلُها نموذجاً يحتذى به في بقية الدول العربية.
إن التذمر الذي أصبح يعيشه الشارع العربي - خاصة - والشعوب الإسلامية - عامة - تجاه أنظمتها الحاكمة المتصفة بكل أنواع الظلم، بات يقلق الصليبيين من الأمريكيين وحلفائهم، وذلك من خلال ما يشاهدونه ويتابعونه من الميل الشعبي الكثيف وغير العادي إلى كفة التيار السلفي المجاهد, وانتشار عقيدة الجهاد واستشرائه في العالم الإسلامي, وارتفاع نسبة المجاهدين بأعداد هائلة, والتحاقهم بساحات الجهاد يوماً بعد يوم.
وكلما حاول الصليبيون كبح جماح هذا المدّ الجهادي وبتر جناحه ومنعه من الانتشار؛ كلما رأوا تواليَ المصيبات وتتابع الفتن وتراكم البليات عليهم, الشيء الذي أدى بهم إلى البحث عن بديل يعيد ثقة الشعوب العربية بحكامها، حتى لا يفاجئوا بسيطرة التيار السلفي المجاهد على الحكم في بلد من البلدان العربية في أي وقت من الأوقات.
لأن سيطرة الأحزاب الإسلامية التي توصف بـ "الاعتدال" على الحكم؛ هو في حقيقته سيؤدي إلى وقوف الكثير من أفراد الأمة الذين يجهلون حقيقة الإسلام معها, وخاصة إذا جاءت سيطرة هذه الأحزاب في مرحلة التذمّر النفسي الذي تعيشه الأمة نحو نُظمها الحالية، ممَّا سيجعل النفوس تتعطش إلى هذا النوع من الإسلام وتميل إليه وتتعلق بدعاته وتتمسك بهم.
وبالتالي يكون أعداء الله من الصليبيين قد حققوا أمرين:
الأمرَ الأول: النجاحَ في تكريس الديمقراطية في العالم العربي، مع الإبقاء على ولاء الأنظمة العربية لهم - وإن كانت تحكمها الأحزاب الإسلامية في الظاهر -
والأمرَ الثاني: التخفيفَ من وطأة الجهاد الذي استفحل ويوشكون أن يفقدوا السيطرة عليه.
فهذه خطة يسعى الصليبيون على أن يترجموها إلى واقع يتفاعل مستقبلاً في الأيام القادمة.
والله أسال أن يخيب آمالهم، وأن يجعل تدميرهم في تدبيرهم إنه، ولي ذلك والقادر عليه.
{والله متم نوره ولو كره الكافرون}
بقلم؛ قاري سفيان
عن مجلة طلائع خراسان
ذو القعدة / 1426 هـ
=============(54/468)
(54/469)
الديمقراطية؛ مشروع استعمار أم نهضة؟!
[الكاتب: حسن الحسن]
(بوش: "يجب على سكان العالم الإسلامي أن يختاروا الديموقراطية") - ("Bush: "People of Islamic Wo r ld Must Choose Democ r acy) -
هكذا لخصت [Kathleen T. r hem] - من وزارة الدفاع الأميركية - كلمة الرئيس بوش التي ألقاها في جامعة "غالطة سراي" في استنبول في [29/ 6/2004م]، والتي تناول فيها الحديث عن أهمية نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير.
ويُستخلصُ من كلمة بوش؛ أنّ القضية ليست هي البحث عمّا يناسب العالم الإسلامي، أو ما يحبذه وينشده المسلمون لهم من منهجٍ للحياة عن رضىً وطواعيةٍ منهم، إنّما هي إملاءات يجب عليهم تنفيذها بغض النظر عن مدى موافقة الديمقراطية لعقيدتهم من عدمها، وبغض النظر عما إذا كان المسلمون بحاجة لهذه الديموقراطية أم لا.
إنّما الواضح أنّ المطلوب أميركياً هو وجوب انصياع المسلمين لها رغم انفهم، وبغض النظر عن قناعاتهم، مع الخضوع التّام لها ولحلفائها في العالم الغربي.
وتحت هذه السياسة المعلنة تندرج تلك النداءات من بعض المبهورين بالغرب وبضاعته الفاسدة الداعية إلى دمج الديمقراطية بالإسلام، والحوار أو التوافق حتى التلاحم بين الحضارات، بالطبع لصالح الحضارة الغربية وسيادتها في العالم.
من هنا كانت تلك الجهود الضخمة والمنصبة على إلغاء كل الفوارق والفواصل والتعارض القائم بين الديمقراطية والإسلام، لِيُزَالَ التناقض الموجود حتما بينهما فيتحولا إلى توأمين.
ذلك لأنَّ الإسلام يقف كالطود الشامخ أمام الفكرة الديموقراطية الرأسمالية، وهو الذي يمنع استتباب السيطرة لها على العالم الإسلامي، رغم ضعف المسلمين الحالي بسبب غياب الإسلام عن حياتهم ومكر حكامهم به وبهم، لذلك كان لا بدّ لهم من العمل على إزالته من الطريق.
ولاستحالة ذلك، تمّ تبني تسوية تلك العوائق من خلال تأويل الإسلام ليقرّ بقبول الديموقراطية ويعترف بشرعيتها، وهو أمرٌ لن يشعر الغرب بالطمأنينة والسكينة والاستقرار وتحقق النصر الكامل له، قبل أن يجسد ذلك في العالم الإسلامي، حيث يراد تحويله إلى ما يشبه أميركا اللاتينية إن لم يكن أسوأ.
وعليه؛ كان لا بدّ من استعراض بعض الأمور التي ينبغي تسليط الضوء عليها لبلورة أبعاد نشر الديمقراطية في العالم الإسلامي:
1) إنّ الديمقراطية لا تقتصر على الانتخابات - كما يتوهم ويدندن لها البعض - بل هي وجهة نظرٍ في الحياة، تشتمل على ثقافةٍ وقيم ومفاهيم خاصة بها، تتناول الفرد والدولة والمجتمع.
وأساس ما تقوم عليه وجهة النظر تلك؛ تقديس رغبات الإنسان وجعله السيد الأوحد في هذا الكون، وهذه هي القاعدة الفكرية للديموقراطية، والتي ينبغي أن تبنى كافة الأنظمة والقوانين على أساسها.
2) ليس الهدف من دمقرطة العالم الإسلامي؛ استبدال الاستبداد والظلم والطغم الحاكمة فيه بالعدل والحق والخير - مع نسبية كثيرٍ من هذه المفاهيم - إنما المقصود منها هو تغيير ثقافة الأمة وقيمها وتصورها للحياة، وبالتالي إتمام عملية ضم الأمة الإسلامية إلى حظيرة العالم الرأسمالي الغربي حضارياً - بعد أن تمّ سياسياً -
3) إنّ غالب الأنظمة الطاغوتية الاستبدادية المتوحشة القائمة في العالم الإسلامي؛ إنما هي أذرع الأخطبوط الأميركي الذي طالما ومايزال يستعملها لتحقيق مصالحه.
وما تَفلّتَ من تلك الأنظمة من أميركا؛ فليس بريئا بحال، إذ هو من بقايا المد الاستعماري القديم الإنجلو/فرنسي.
ولو كان الغرب بريئا في دعوته إلى شعاراته؛ لتخلى عن تلك الأنظمة المتعفنة، بدلاً من مدها بآلات القمع والتعذيب وأدوات التجسس على المواطنين وتغطية جرائمها طوال استمرار خدمة تلك الأنظمة لها.
4) إنّ انتصار الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بمشروعهم الهادف إلى دمقرطة العالم الإسلامي، يعني؛ إلغاء آخر الحضارات الممتنعة عليهم، والتي تشكل تهديداً حقيقياً لهم على المدى البعيد، والذي يبدأ مع بداية ظهور نقطة ارتكاز للأمة، تتمثل بدولة الخلافة التي تجسد مفهوم دار الإسلام... تلك الدولة التي تعني تقديم نظم اقتصادية وسياسية واجتماعية بديلة لما عليه الغرب، وتحدّياً لأطماعه ووقفاً لنهب ثروات الأمة الإسلامية وغيرها من دول العالم المغلوب على أمرها.
5) إنّ العالم الحالي وبطبيعة سيطرة المبدأ الرأسمالي الديمقراطي عليه، يتحكم فيه معياران، هما؛ القوة والمنفعة.
وبما أن العالم الغربي هو من يتحكم بمفاتيح القوة وبمقدرات وثروات البشرية، فإنه الأقدر على الهيمنة والانتصار في ميادين الصراع في مختلف أنحاء العالم، وهو يفعل ذلك لتأمين استمرار استئثاره واستيلائه على مقدرات الأمم بغية تحقيق أعلى درجةٍ من المكاسب له، مما يعني نهاية التاريخ فعلاً لصالحه حضارياً ومادياً، كما تعني أيضا استقرار البشرية على الفكرة الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية الفردية الجشعة النهمة التي تنذر بسيادة شريعة الغاب في أبشع صورها على العالم.(54/470)
إنّ ما سبق - وليس تأويلات اللاهثين وراء تطويع الإسلام للديمقراطية - هو ما يفسر ذلك الإصرار من قبل الغرب - عموماً - على إكراه العالم الإسلامي على احتضان قيمه ومثله ونظرته إلى الحياة، بل وإلزامه بجعل الديمقراطية ومقتضياتها هي المعيار الأساس للحكم على مدى نهوض الأمة أو انحطاطها، بعد أن كان الإسلام وحده هو العامل الحاسم في تحديد ذلك.
واستناداً إلى ذلك؛ يتم إدراك معنى دمقرطة العالم الإسلامي، الذي يسوسه الغرب بحسب قاعدة "إما... وإلا".
بمعنى...
إما أن تقرّ الأمة الإسلامية بفكرة فصل الدين عن الحياة، وإطلاق الحريات على النمط الليبرالي، ومنح المرأة الحقوق الكاملة من منظور الفكر الغربي الديمقراطي الذي يجعل المساواة والتماثل في الحقوق والواجبات بين الذكر والأنثى هو الأساس، إضافة إلى بناء كل القوانين والتشريعات على أساس تلك القواعد الفكرية.
وإلا فمنطق الإكراه المستند إلى قوة مطرقة الغرب هو من سيتكفل بمعالجة استعصاء العالم الإسلامي عليه، وهو ما سيمنح الغرب القدرة على التحكم بمناهج الأمة التعليمية وخطابها الإعلامي والسياسي والديني والثقافي عموماً، ليصيغها بحسب فلسفته هو لما ينبغي أن تكون عليه الحياة.
ومن أجل ذلك تمّ بناء مراكز فكرية وثقافية وأكاديمية، وإطلاق محطات فضائية لتسويق الديمقراطية ونشرها في العالم العربي والإسلامي، كما قامت مراكز قرارٍ غربية - بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر - بتمويل حركاتٍ سياسيةٍ ودينيةٍ ودعم مفكرين ومثقفين وإبرازهم، بعد أن ارتضى هؤلاء تطويع الإسلام ودمج الديمقراطية فيه، بل وجعلها جوهر الإسلام وقلبه.
وبغض النظر عن نوايا أصحاب تلك الحملة؛ فإن ذلك يصب مباشرة في جعبة الحملة لتغريب الإسلام وتفريغه من محتواه، وجعله شكلاً بمكوناتٍ تنقضه عروة عروة.
وليس من قبيل الصدفة إطلاق صفة؛ الفكر الإسلامي "الوسطي"، "المعتدل"، "المنفتح"، "المتنور"، و "المتطور"؛ على من يتبنى الترويج للديمقراطية ويعتبرها قضيته الأولى، فيما يعتبر من يفترض التضاد بين الديمقراطية والإسلام ويدعو إلى تطبيق الإسلام وجعله قضيته المصيرية الأولى؛ "متشدداَ"، "متطرفاً"، و "أصولياً متزمتاً".
ولذلك وجد أصحاب ما يطلق عليه "التيار المعتدل"؛ الغطاء الإعلامي والسياسي والمالي، وفسحة رحبة واضحة من المنابر التي انبرى من خلالها هؤلاء بالذبّ عن الديمقراطية وبتجميلها في أعين الناس، وذلك من أجل التأثير على شرائح واسعة من المسلمين، بخاصةٍ مع تطور وسائل الإعلام وسيطرتها على أذهان الناس وقدرتها الواسعة على التأثير في أفهامهم.
أخيراً...
يتصورُ البعضُ أنّ مسايرةَ الغرب في فكرة الديمقراطية في هذا الوقت؛ هو أمرٌ ضروري لازمٌ، إذ أن التغيير من داخل العالم الإسلامي أمرٌ ميؤوس منه، وأن مسألة التوافق مع الديمقراطية هي أمرٌ شكلي، وأنها مجرد وسيلة لارتقاء سلم الصعود إلى السلطة.
ويتساءل هؤلاء؛ ما الضير في استعمال أهداف الغرب لتحقيق مآرب نبيلة؟
يغفل هؤلاء حقيقة؛ أنّ الغرب ليس بساذجٍ ليخدعوه بمثل تلك الانحناءات، بل إن الغرب يستعملهم وهو يعي نواياهم تماماً، وهو إنما يريد منهم إنفاذ مهمات محددة، وينتهي دورهم فور إنجازهم إياها، ولذلك فإنهم على رغم ادعائهم عدم مصادمتهم للغرب وقبولهم بقيمه وتسليمهم بديمقراطيته فإنه لا يثق بهم، وإنما يمتطيهم طالما أنهم يخدمون أهدافه الثقافية والفكرية بما لهم من وزنٍ لدى عامة الناس، هو نفسه الذي منح أكثرهم إياه، لإدراكه براغمياتهم وطريقة تفكيرهم، التي هو أكثر خبرة ودهاء في استعمالها، لأنها صنعته الخالصة.
والمستيقن حتماً هو؛ أن الغرب لن يدع أحداً يصل إلى السلطة إلا إذا استوثق من أنه مؤمن فعلاً بقيمه، محافظاً له على مصالحه، ضمن آليات يحرص على أن تكون مقاليدها الحقيقية بيديه، حتى يمنع من أن يعبث أحدٌ بمصالحه - فضلاً عن أن ينقلب عليه -
لذلك فإنّ القضية ليست بتلك السذاجة التي يتوقعها البعض.
فضلاً عن أن المراد هو تحرير الأمة جذرياً من التبعية للغرب وعتقها من ربقة استعباده لها، ولا يكون ذلك بشد وثاقها بحجج واهية إلى حضارته، وتمكين خصومها وأعدائها - فكرياً وثقافياً - منها، بعد أن تمكنوا منها سياسياً، بل وعن رغبة وطواعية ودعوة مؤصلةٍ إلى تبني ثقافته وفكره ورؤاه!
من هنا أتت أهمية الحذر من الوقوع في فخ استدراج الغرب لتضليل الأمة من خلال شخصيات مرموقة لها وقعها على أسماع الناس، ولذلك كان لا بد من التنبه دائماً إلى؛ ما يقال، لا إلى؛ من يقول.
وخلاصة القول...
إن الدعوة إلى الديموقراطية في العالم الإسلامي؛ هي مشروعٌ استعماريٌ صرفٌ، يدفع الأمة إلى الاستغناء عن هويتها الثقافية والحضارية وقيمها الخاصة بها، ودفعها نحو الذوبان في الغرب والانصهار فيه إلى درجة الانسحاق.(54/471)
بينما يكمن الحل الحقيقي الذي ينهض بالعالم الإسلامي؛ في العودة إلى تعاليم الإسلام بنقائها وصفائها، وفي العمل من أجل تحقيق تغيير جذريٍ في الأمة الإسلامية، بغية تحريرها من براثن الغرب وعتقها من الطواغيت والظلاميين ومن طواقم المستبدين، ودفع كل المجرمين الذين رهنوا مقدرات الأمة وماضيها وحاضرها لإعدائها إلى محاكم عادلة، لينالوا ما يستحقونه جراء أفعالهم المشينة وجرائمهم الشنيعة بحق أمتهم ودينهم.
=============(54/472)
(54/473)
الديمقراطية القذرة
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد...
عندما تأتي الديمقراطية - كما هو شأنها وشأن القائلين بها -؛ لتغيِّب مبدأ وعقيدة سيادة الخالق على خلقه - وهذا الكون وكل ما ما فيه ومن فيه من خلقه وملكه سبحانه وتعالى - ومن ثم لتقرر مبدأ وعقيدة سيادة المخلوق الضعيف العاجز الفقير على هذا الكون ومن فيه، فلا تعلو - في نظر الديمقراطية - سيادته سيادة، ولا أمره أمراً، عندما تكون الديمقراطية كذلك، فهي لا شك أنها ديمقراطية قَذِرَةٌ كافرة، تأباها النفوس السويَّة المؤمنة.
عندما تأتي الديقراطية - كما هو شأنها وشأن القائلين بها -؛ لتغيِّب وتُحارب عقيدة عبادة العباد لله تعالى وحده، وإفراده سبحانه وتعالى وحده بالعبادة، لتقرر بدلاً منها عقيدة عبودية العبيد للعبيد، وعبودية المخلوق للمخلوق، ليتخذوا بعضهم بعضاً أرباباً ومشرعين من دون الله، عندما تكون الديمقراطية كذلك، فهي لا شك أنها ديمقراطية قذرة كافرة، تأباها النفوس السوية المؤمنة.
عندما تأتي الديمقراطية - كما هو شأنها وشأن القائلين بها -؛ لتغيِّب حاكمية الله تعالى، وعقيدة ومبدأ {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} وتقرر وتفرض بدلاً منها حاكمية البشر، حاكمية الأكثرية، حاكمية صناديق الاقتراع، حاكمية الطاغوت، عندما تكون الديمقراطية كذلك، فهي لا شك أنها ديمقراطية قَذِرَةٌ كافرة، تأباها النفوس السوية المؤمنة.
عندما تأتي الديمقراطية - كما هو شأنها وشأن القائلين بها -؛ لتغيِّب عقيدة الولاء والبراء في الله، لتقرر بدلاً منها روابط ووشائج وثنية جاهلية ما أنزل الله بها من سلطان، تؤاخي وتُساوي بين أكفر وأفجر وأفسق وأشرِّ من في الأرض مع أتقى وأصلح من في الأرض، عندما تكون الديمقراطية كذلك، فهي لا شك أنها ديمقراطية قذرة كافرة، تأباها النفوس السوية المؤمنة.
عندما تأتي الديمقراطية - كما هو شأنها وشأن القائلين بها -؛ لتغيِّب عقيدة ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - إلا في حدود ما تسمح به الديمقراطية ذاتها - لتقرر شرعية المنكر، وشرعية الكفر، والشرك، والفجور، والفسوق، والفساد، عندما تكون الديمقراطية كذلك، فهي لا شك أنها ديمقراطية قذرة كافرة، تأباها النفوس السويَّة المؤمنة.
عندما تأتي الديمقراطية - كما هو شأنها وشأن القائلين بها -؛ لتغيِّب عقيدة ومبدأ الجهاد في سبيل الله - كما يراه ويدعو إليه الإسلام - لتستبدل ذلك بمبدأ وعقيدة التداول السلمي؛ ولو أدى هذا التداول السلمي لأن تضيع البلاد والعباد وتُحكم بالكفر والشرك، والردة، والفسوق والفجور، على أيدي أكفر وأفجر الخلق، بعد أن كانت البلاد والعباد دهراً من الزمان محكومة بشرع الله، عندما تكون الديمقراطية كذلك، فهي لا شك أنها ديمقراطية قَذِرَةٌ كافرة، تأباها النفوس السوية المؤمنة.
عندما تأتي الديمقراطية - كما هو شأنها وشأن القائلين بها -؛ لتغيِّب مبادئ وقيم الأخلاق الحميدة، وتقرر شرعية قمَّة الشذوذ والانحراف الجنسي، والأخلاقي، عندما تكون الديمقراطية كذلك، فهي لا شك أنها ديمقراطية قَذِرَةٌ كافرة، تأباها النفوس السوية المؤمنة.
عندما تأتي الديمقراطية - كما هو شأنها وشأن القائلين بها -؛ مبرراً للطعن بالخالق سبحانه وتعالى والطعن والاستهزاء بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم وبإخوانه من الأنبياء والرسل صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، تحت ذريعة حرية التعبير، وأن لا أحد في الديمقراطية فوق النقد، والتعقيب، والتهكم، والسخرية، والاستهزاء، عندما تكون الديمقراطية كذلك، فهي لا شك أنها ديمقراطية قَذِرَةٌ كافرة، تأباها النفوس السوية المؤمنة.
عندما تأتي الديمقراطية - كما هو شأنها وشأن القائلين بها -؛ ذريعة ومبرراً تبرر للغزاة المستعمرين، أن يغزوا البلاد والعباد، أن يزيلوا دولاً بأكملها، ويُحدثوا فيها الدمار والخراب بعد أن كانت آمنة مطمئنة، أن يدمروا المدن والقرى، أن يُحاصروها ليموت من فيها جوعاً وحرماناً، أن يهدموا البيوت على رؤوس ساكنيها من الشيوخ والنساء والأطفال، عندما تكون الديمقراطية كذلك، فهي لا شك أنها ديمقراطية قَذِرَةٌ كافرة، تأباها النفوس السوية المؤمنة.
عندما تأتي الديمقراطية - كما هو شأنها وشأن القائلين بها -؛ ذريعة ومبرراً لقتل الإنسان، وإحداث المجازر والجرائم، وانتهاك حقوق وحرمات وكرامة الإنسان، وزج الأبطال الأحرار في غياهب السجون، لتُسام قمة الظلم، والتعذيب، والامتهان لكرامة الإنسان، عندما تكون الديمقراطية كذلك، فهي لا شك أنها ديمقراطية قَذِرَةٌ كافرة، تأباها النفوس السوية المؤمنة.
عندما تأتي الديمقراطية - كما هو شأنها وشأن القائلين بها -؛ غطاء لأطماع الغزاة المستعمرين في بلاد المسلمين، لنهب خيراتها وثرواتها، والتدخل في شؤونها الخاصة والعامة، عندما تكون الديمقراطية كذلك، فهي لا شك أنها ديمقراطية قَذِرَةٌ كافرة، تأباها النفوس السوية المؤمنة.(54/474)