ويقول الله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( 142) سورة آل عمران
إن الشدة بعد الرخاء , والرخاء بعد الشدة , هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس , وطبائع القلوب , ودرجة الغبش فيها والصفاء , ودرجة الهلع فيها والصبر , ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط , ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح !
عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن:مؤمنين ومنافقين , ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم , وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم . ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده , وهم مختلطون مبهمون !
والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين . والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور . ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء , وتجعله واقعا في حياة الناس , وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر , وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر , ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء . فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم .
ومداولة الأيام , وتعاقب الشدة والرخاء , محك لا يخطىء , وميزان لا يظلم . والرخاء في هذا كالشدة . وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك , ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل . والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء , وتتجه إلى الله في الحالين , وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله .
وقد كان الله يربي هذه الجماعة - وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية - فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء , والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب - وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة . لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة . ولتزيد طاعة لله , وتوكلا عليه , والتصاقا بركنه . ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين .
ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة , وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس , وفيما بعد تمييز الصفوف , وعلم الله للمؤمنين:
(ويتخذ منكم شهداء) . .
وهو تعبير عجيب عن معنى عميق - إن الشهداء لمختارون . يختارهم الله من بين المجاهدين , ويتخذهم لنفسه - سبحانه - فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد . إنما هو اختيار وانتقاء , وتكريم واختصاص . . إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة , ليستخلصهم لنفسه - سبحانه - ويخصهم بقربه .
ثم هم شهداء يتخذهم الله , ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس . يستشهدهم فيؤدون الشهادة . يؤدونها أداء لا شبهة فيه , ولا مطعن عليه , ولا جدال حوله . يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق , وتقريره في دنيا الناس . يطلب الله - سبحانه - منهم أداء هذه الشهادة , على أن ما جاءهم من عنده الحق ; وعلى أنهم آمنوا به , وتجردوا له , وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ; وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ; وعلى أنهم هم استيقنوا هذا , فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس , وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس . .
يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون . وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت . وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال !
وكل من ينطق بالشهادتين:شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لا يقال له أنه شهد , إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها . ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها . ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا منالله . فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد ; وأخص خصائص العبودية التلقي من الله . .
ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله . ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي إلا هذا المصدر . .
ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض , كما بلغها محمد صلى الله عليه وسلم فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس , والذي بلغه عنه محمد صلى الله عليه وسلم هو المنهج السائد والغالب والمطاع , وهو النظام الذي يصرف حياة الناس كلها بلا استثاء .
فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله , فهو إذن شهيد . أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها . واتخذه الله شهيدا . .
ورزقه هذا المقام .
هذا فقه ذلك التعبير العجيب:
(ويتخذ منكم شهداء . .) . .
وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله , ومقتضاه . . لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع !
فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون .
إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا . التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان . فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر , ويختبر بها الإيمان . إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي:
معاناة الاستقامة على أفق الإيمان .
والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك ,
والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني:
في النفس وفي الغير , ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية .
والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر !
والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات .
والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال . .
والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحدا منها , في الطريق المحفوف بالمكاره . طريق الجنة التي لا تنال بالأماني وبكلمات اللسان ! (الظلال)
****************(52/496)
وقال تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ( 186) سورة آل عمران
إنها سنة العقائد والدعوات . لا بد من بلاء , ولا بد من أذى في الأموال والأنفس , ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام .
إنه الطريق إلى الجنة . وقد حفت الجنة بالمكاره . بينما حفت النار بالشهوات .
ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره , لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة , وتنهض بتكاليفها . طريق التربية لهذه الجماعة ; وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال . وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف ; والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة .
ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا . فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها . فهم عليها مؤتمنون .
وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو , بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء , وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال . فلا يفرطوا فيها بعد ذلك , مهما تكن الأحوال .
وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة . فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة , وتنميها وتجمعها وتوجهها . والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى لتتأصل جذورها وتتعمق ; وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة . .
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم ; وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية . ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها . وحقيقة الجماعات والمجتمعات . وهم يرون كيف تصطرع مبادىء دعوتهم , مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس . ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس , ومزالق الطريق , ومسارب الضلال !
ثم . . لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير , ولا بد فيها من سر , يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون . .
فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها . .
أفواجا . .
في نهاية المطاف !
إنها سنة الدعوات . وما يصبر على ما فيها من مشقة ; ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله , فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء ; ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد . .
ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء:
(وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) . .
وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام . وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال . من أهل الكتاب من حولها . ومن المشركين أعدائها . .
ولكنها سارت في الطريق . لم تتخاذل , ولم تتراجع , ولم تنكص على أعقابها . .
لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت . وأن توفية الأجور يوم القيامة . وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور . .
على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف ; وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو . .
والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان . والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان . وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها , تتوالى القرون والأجيال ; وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال . .
والقرآن هو القرآن . .
وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان ; وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة , ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها . .
ولكن القاعدة واحدة:
(لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) !
ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين ; وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك . أحيانا في أصول الدعوة وحقيقتها , وأحيانا في أصحابها وقيادتها . وهذه الصور تتجدد مع الزمان . وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة , وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية , وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية . فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف الله عنها للجماعة المسلمة الأولى , وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق , وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق . .
ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة , وأن تحاول تحقيق منهج الله في الأرض ; فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة , ووسائل الدعاية الحديثة , لتشويه أهدافها , وتمزيق أوصالها . .
يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرا يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة , وطبيعة طريقها . وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق . ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله ذاك ; فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى , وحين تعوي حولها بالدعاية , وحين يصيبها الابتلاء والفتنة . .
أنها سائرة في الطريق , وأنها ترى معالم الطريق !
ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي . .
تستبشر بهذا كله , لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل . وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق . ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى ; وتمضي في طريقها الموعود , إلى الأمل المنشود . .
في صبر وفي تقوى . .
وفي عزم أكيد . . (الظلال)
**********(52/496)
فالأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل أمة الابتلاء والمحن ، فعندما تفكر بفقه العافية ، فقه الدعة ، سوف ينهشها أعداؤها من كل حدب وصوب
كما قال تعالى : وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ( 102) سورة النساء
إن السياق القرآني لا يجيء بهذا النص هنا لمجرد بيان الحكم "الفقهي" في صفة صلاة الخوف . ولكنه يحشد هذا النص في حملة التربية والتوجيه والتعليم والإعداد للصف المسلم وللجماعة المسلمة .
وأول ما يلفت النظر هو الحرص على الصلاة في ساحة المعركة !
ولكن هذا طبيعي بل بديهي في الاعتبار الإيماني . إن هذه الصلاة سلاح من أسلحة المعركة . بل أنها السلاح ! فلا بد من تنظيم استخدام هذا السلاح , بما يتناسب مع طبيعة المعركة , وجو المعركة !
ولقد كان أولئك الرجال - الذين تربوا بالقرآن وفق المنهج الرباني - يلقون عدوهم بهذا السلاح الذي يتفوقون فيه قبل أي سلاح . لقد كانوا متفوقين في إيمانهم بإله واحد يعرفونه حق المعرفة ; ويشعرون أنه معهم في المعركة . متفوقين كذلك في إيمانهم بهدف يقاتلون من أجله ; ويشعرون أنه أرفع الأهداف جميعا . متفوقين أيضا في تصورهم للكون والحياة ولغاية وجودهم الإنساني , تفوقهم في تنظيمهم الاجتماعي الناشى ء من تفوق منهجهم الرباني . .
وكانت الصلاة رمزا لهذا كله , وتذكير بهذا كله . ومن ثم كانت سلاحا في المعركة . بل كانت هي السلاح !
والأمر الثاني الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو . وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم , ليميل عليهم ميلة واحدة !
ومع هذا التحذير والتخويف , التطمين والتثبيت ; إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قوما كتب الله عليهم الهوان:
(إن الله أعد للكافرين عذابا مهينًا) . .
وهذا التقابل بين التحذير والتطمين ; وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة ; هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم , في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم ! (الظلال)
********
وقال تعالى : وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( 195) سورة البقرة
قال ابن كثير رحمه الله :
قال البخاري: حدثنا إسحاق أخبرنا النضر, أخبرنا شعبة عن سليمان, سمعت أبا وائل عن حذيقة {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال: نزلت في النفقة, ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح عن أبي معاوية عن الأعمش به, مثله قال وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك, وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه, ومعنا أبو أيوب الأنصاري, فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة, فقال أبو أيوب نحن أعلم بهذه الاَية, إنما نزلت فينا, صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه, فلما فشا الإسلام وظهر, اجتمعنا معشر الأنصار نجياً فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره, حتى فشا الإسلام وكثر أهله, وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد, وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا, فنقيم فيهما, فنزل فينا {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}, فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. رواه أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد, في تفسيره, وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده, وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه, كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب به, وقال الترمذي حسن صحيح غريب, وقال الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ولفظ أبي داود عن أسلم أبي عمران: كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر, وعلى أهل الشام رجل يُريدُ فضالة بن عبيد, فخرج من المدينة صف عظيم من الروم, فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم, ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه, فقالوا سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب: يا أيها الناس, إنكم لتتأولون هذه الاَية على غير التأويل وإنما نزلت فينا معشر الأنصار, إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه, قلنا فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فاصلحناها, فأنزل الله هذه الاَية, وقال أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق السبيعي, قال: قال رجل للبراء بن عازب, إن حملت على العدو وحدي فقتلوني, أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة ؟ قال: لا, قال الله لرسوله: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك} وإنما هذه في النفقة, رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه, من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق به, وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, ورواه الترمذي وقيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن البراء, فذكره وقال بعد قوله {لا تكلف إلا نفسك}, ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو صالح, كاتب الليث, حدثني الليث, حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي بكر ابن نمير بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عبد الرحمن الأسود بن عبد يغوث, أخبره أنهم حاصروا دمشق فانطلق رجل من أزد شنوءة, فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل, فعاب ذلك عليه المسلمون, ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص, فأرسل إليه عمرو فرده, وقال عمرو: قال الله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}, وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, في قوله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}, قال: ليس ذلك في القتال, إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله ولا تلق بيدك إلى التهلكة, قال حماد بن سلمة, عن داود, عن الشعبي عن الضحاك بن أبي جبير, قال: كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم, فأصابتهم سنة فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله, فنزلت: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}
*********
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب أصحاب فقه العافية
فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ». فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ « بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ».أخرجه أبو داود
********(52/496)
لو كان فقه العافية صحيحا لكان يوم أحد حيث لقي المسلمون ما لقوا فيه من الأذى (حجة لترك القتال) ومع هذا يطلب من هؤلاء المجروحين المتألمين ملاحقة العدو قبل عودته للمدينة مرة أخرى
قال تعالى : الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( 172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ( 173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ( 174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( 175) سورة آل عمران
*******
لو كان فقه العافية صحيحا لكان بعد فتح مكة المكرمة
ففي سنن النسائي عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ الْكِنْدِىِّ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذَالَ النَّاسُ الْخَيْلَ وَوَضَعُوا السِّلاَحَ وَقَالُوا لاَ جِهَادَ قَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِوَجْهِهِ وَقَالَ « كَذَبُوا الآنَ الآنَ جَاءَ الْقِتَالُ وَلاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِى أُمَّةٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ وَيُزِيغُ اللَّهُ لَهُمْ قُلُوبَ أَقْوَامٍ وَيَرْزُقُهُمْ مِنْهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ وَحَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يُوحَى إِلَىَّ أَنِّى مَقْبُوضٌ غَيْرَ مُلَبَّثٍ وَأَنْتُمْ تَتَّبِعُونِى أَفْنَادًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ ».
*****************
لو كانت هذه العافية صحيحة لكانت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انتشر الإسلام في أصقاع الجزيرة العربية
ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لأَبِى بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ ». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
*************(52/496)
صحيح أننا لا نطلب من الله تعالى البلاء كما في صحيح مسلم عَنْ كِتَابِ رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أَوْفَى فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ حِينَ سَارَ إِلَى الْحَرُورِيَّةِ يُخْبِرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ فِى بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِى لَقِىَ فِيهَا الْعَدُوَّ يَنْتَظِرُ حَتَّى إِذَا مَالَتِ الشَّمْسُ قَامَ فِيهِمْ فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ ». ثُمَّ قَامَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ « اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِىَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ ».
ولكن حقيقة الحال والواقع كذلك فقد روى أحمد عَنْ أَبِى عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ عَنْ عَمَّتِهِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَعُودُهُ فِى نِسَاءٍ فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقٌ نَحْوَهُ يَقْطُرُ مَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُ مِنْ حَرِّ الْحُمَّى قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَشَفَاكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ
وفي سنن البيهقي عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ : أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مَوْعُوْكٌ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَوَجَدَ حَرَارَتَهَا فَوْقَ الْقَطِيفَةَ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : مَا أَشَدَّ حَرَّ حُمَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« إِنَّا كَذَلِكَ يُشَدَّدُ عَلَيْنَا الْبَلاَءُ ، وَيُضَاعَفُ لَنَا الأَجْرُ ». ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً؟ قَالَ :« الأَنْبِيَاءُ ». قَالَ : ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ :« ثُمَّ الْعُلَمَاءُ ». قَالَ : ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ :« ثُمَّ الصَّالِحُونَ كَانَ أَحَدُهُمْ يُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلاَّ الْعَبَاءَةَ يَلْبَسُهَا وَيُبَتَلَى بِالْقَمْلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ وَلأَحَدُهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِالْبَلاَءِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِالْعَطَاءِ ».
****************
هذه العافية المزعومة إنها عافية الذل والهوان والهروب من الواقع وغضب رب العالمين
ولن تكون هذه العافية المزعومة إلا يوم القيامة
فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ أَوِ الْمُؤْمِنَةِ فِى جَسَدِهِ وَفِى مَالِهِ وَفِى وَلَدِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ ». أخرجه أحمد
************
وأما قوله عن العلمين الشهيد سيد قطب وعن الشيخ سعيد حوى رحمهما الله تعالى
فهو قول باطل ينم عن عدم فهم ما قالاه ووصلا إليه
أما السيد رحمه الله فقد كان يذهب هذا المذهب الذي ربى البنا (رحمه الله ) أتباعه عليه وهو فكر العافية قبل أن يدخل السجن وبعد السجن تبين له بشكل قاطع أن أصحاب فكر العافية لا يفقهون من الدين شيئا
بل لم يستشهد بكلمة واحدة للبنا بعد محنته لأنه تبين لديه أنه مخالف لمنهج القرآن الكريم في الولاء والبراء وفي المفاصلة وفي الثبات وعدم التميع .........
إن ما وصل إليه السيد رحمه الله هو الحق يقينا وما بعد الحق إلا الضلال
وأما الذي يقوله القرضاوي ومن سار بركابه فهو الباطل يقينا لأنه مخالف للقرآن والسنة والسيرة والسنن الكونية والشرعية
وكذلك فالشيخ سعيد حوى رحمه الله قد أمضى قسطا كبيرا من حياته في سجون طواغيت الشام ورأى بأم عينه واقع الحال وفسر كتاب الله تعالى فعرف الحق فاتبعه وأمر بنشره وبمجاهدة طواغيت الشام ولم يبق أسير منهج الإخوان المسلمين الضبابي التمييعي الانبطاحي
وذلك لأن الشيخ (( حسن البنا رحمه الله )) لم يكن واضحا في موضوع الولاء والبراء وفي توحيد الحاكمية وفي معنى الجهاد الشمولي وفي معرفة دسائس ومكائد أعداء الإسلام .........
وربما يكون له بعض العذر ولكن ما عذر هؤلاء العميان الذين أبصروا الحقيقة ثم تعاموا عنها ؟؟!!
انظر كتاب الحصاد المر. . الإخوان المسلمون في 60 عاماً للدكتور أيمن الظواهري حفظه الله
http://www.tawhed.ws/a?i=24
قال تعالى : {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ( 46)
**************(52/496)
يقول السيد رحمه الله في المعالم :
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى لها الدعوة منذ اليوم الأول للرسالة ، وأن يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى خطواته في الدعوة بدعوة الناس أن يشهدوا :
أن لا اله إلا الله ، وأن يمضي في دعوته يعرِّف الناس بربهم الحق ، ويُعَبِّدَهم له دون سواه .
ولم تكن هذه - في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب - هي أيسر السبل إلى قلوب العرب !
فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى " إله " ومعنى : " لا إله إلا الله " . كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا ..
وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله - سبحانه - بها ، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام ، وردّه كله إلى الله ..
السلطان على الضمائر ، والسلطان على الشعائر ، والسلطان على واقعيات الحياة ، والسلطان في المال ، والسلطان في القضاء ، والسلطان في الأرواح والأبدان ..
كانوا يعلمون أن " لا إله إلا الله " ثورة على السلطان الأرضي الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية ، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب ، وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله ..
ولم يكن يغيب عن العرب - وهم يعرفون لغتهم جيداً ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة - " لا اله إلا الله " - ماذا تعني هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم ، ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة - أو هذه الثورة - ذلك الاستقبال العنيف ، وحاربوها هذه الحرب التي يعرفها الخاص والعام ..
**********
فلمَّا تقررت العقيدة - بعد الجهد الشاق - وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة ..
لَمَّا عرف الناس ربهم وعبدوه وحده .. لَمَّا تحرر الناس من سلطان العبيد ومن سلطان الشهوات سواء ..
لَمَّا تقررت في القلوب " لا إله إلا الله " .. صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون .. تطهرت الأرض من " الرومان والفرس " ..
لا ليتقرر فيها سلطان " العرب " . ولكن ليتقرر فيها سلطان " الله " ..
لقد تطهرت من سلطان " الطاغوت " كله ..
رومانياً ، وفارسياً ، وعربياً ، على السواء .
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته . وقام " النظام الإسلامي " ، يعدل بعدل الله ، ويزن بميزان الله ، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده ، ويسميها راية " الإسلام " . لا يقرن إليها اسماً آخر ، ويكتب عليها : " لا اله إلا الله " !
وتطهرت النفوس والأخلاق ، وزكت القلوب والأرواح ، دون أن يحتاج الأمر حتى للحدود والتعازير التي شرعها الله - إلا في الندرة النادرة - لأن الرقابة قامت هناك في الضمائر ، ولأن الطمع في رضى الله وثوابه ، والحياء والخوف من غضبه وعقابه ، قد قاما مقام الرقابة ومكان العقوبات .
وارتفعت البشرية في نظامها ، وفي أخلاقها ، وفي حياتها كلها ، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط ، والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام .
ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام ، كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم ، في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك . وكانوا قد وُعِدُوا على إقامة هذا الدين وعداً واحداً ، لا يدخل فيه الغلب والسلطان .. ولا حتى لهذا الدين على أيديهم .. وعداً واحداً لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا .. وعداً واحداً هو الجنة . هذا كل وعدوه على الجهاد المضني ، والابتلاء الشاق ، والمضي في الدعوة ، ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان في كل زمان وفي كل مكان ، وهو : " لا إله إلا الله " !
فَلَمَّا أن ابتلاهم الله فصبروا ، ولَمَّا أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم ، ولَمَّا أن علم الله منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض - كائناً ما كان هذا الجزاء ، ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم ، وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم - ولَمَّا لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجد ولا قوم ، ولا اعتزاز بوطن ولا أرض ، ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت ..
لَمَّا أن علم الله منهم ذلك كله ، علم أنهم قد أصبحوا - إذن - أمناء على هذه الأمانة الكبرى ..
أمناء على العقيدة ، التي يتفرد فيها الله - سبحانه - بالحاكمية في القلوب والضمائر ، وفي السلوك والشعائر ، وفي الأرواح والأموال ، وفي الأوضاع والأحوال ..
وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة الله ينفذونها ، وعلى عدل الله يقيمونه ، دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم ، ولا لعشيرتهم ، ولا لقومهم ، ولا لجنسهم . إنما يكون السلطان الذي في أيديهم لله ، ولدينه وشريعته ، لأنهم يعلمون أنه من الله ، هو الذي آتاهم إياه .
ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع ، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء . وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها ..
راية لا إله إلا الله .. ولا ترفع معها سواها . وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره ، المبارك الميسر في حقيقته .
وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص لله ، لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية ، أو دعوة اجتماعية ، أو دعوة أخلاقية .. أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد : " لا اله إلا الله " .
ذلك شأن القرآن المكِّي كله في تقرير : " لا إله إلا الله " في القلوب والعقول ، واختيار هذا الطريق - على مشقته في الظاهر - وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى ، والإصرار على هذا الطريق .
فأما شأن هذا القرآن في تناول قضية الاعتقاد وحدها ، دون التطرق الى تفصيلات النظام الذي يقوم عليها ، والشرائع التي تنظم المعاملات فيها ، فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمامه أصحاب الدعوة لهذا الدين وقفة واعية .
إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا ..
فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة ..
كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير ..
وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة ، الوارفة المديدة الظلال ، المتشابكة الأغصان ، الضاربة في الهواء ..
لا بد لها أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة ، وفي مساحات واسعة ، تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء ..
فكذلك هذا الدين .. إن نظامه يتناول الحياة كلها ، ويتولى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها ، وينظم حياة الإنسان - لا في الحياة الدنيا وحدها ولكن كذلك في الدار الآخرة ، ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها ، ولا في المعاملات المادية الظاهرة وحدها ولكن كذلك في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا - فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية ، ولا بد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضاً ..
هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته ، يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده ، ويجعل بناء العقيدة وتمكينها ، وشمول هذه العقيدة واستغراقها لشعاب النفس كلها ..
ضرورة من ضروريات النشأة الصحيحة ، وضماناً من ضمانات الاحتمال ، والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء والضارب من جذورها في الأعماق .
ومتى استقرت عقيدة : " لا إله إلا الله " في أعماقها الغائرة البعيدة ، استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه " لا إله إلا الله " ، وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة ، واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام ، حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته ، وقبل أن تعرض عليها تشريعاته . فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان ..
وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس - فيما بعد - تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول ، لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها ، ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له ..
وهكذا أبطلت الخمر ، وأبطل الربا ، وأبطل الميسر ، وأبطلت العادات الجاهلية كلها .. أبطلت بآيات من القرآن ، أو كلمات من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها ، ونظمها وأوضاعها ، وجندها وسلطاتها ، ودعايتها وإعلامها ، فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات ، بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات !
وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم . إن هذا الدين منهج عملي حركي جاد .. جاء ليحكم الحياة في واقعها ، ويواجه هذا الواقع ليقضى فيه بأمره .. يقره ، أو يعدله ، أو يغيره من أساسه ..
ومن ثم فهو لا يشرِّع إلا لحالات واقعة فعلاً ، في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية الله وحده ..
إنه ليس " نظرية " تتعامل مع " الفروض " ! ..
إنه " منهج " ، يتعامل مع " الواقع " ! ..(52/496)
فلا بد أولاً أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة : أن لا إله إلاَّ الله ، وأن الحاكمية ليست إلا لله ويرفض أن يقر بالحاكمية لأحد من دون الله ، ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة ..
وحين يقوم هذا المجتمع فعلاً ، تكون له حياة واقعية ، تحتاج إلى تنظيم والى تشريع .. وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع لقوم مستسلمين أصلاً للنظم والشرائع ، رافضين أصلاً لغيرها من النظم والشرائع ..
ولا بد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من سلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع حتى يكون للنظام هيبته ، ويكون للشريعة جديتها ..
فوق ما يكون لحياة هذا المجتمع من واقعية تقتضي الأنظمة والشرائع من فورها ..
والمسلمون في مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم . وما كانت لهم حياة واقعية مستقلة هم الذين ينظمونها بشريعة الله ..
ومن ثم لم ينزِّل الله لهم في هذه الفترة تنظيمات وشرائع ، وإنما نزَّل لهم عقيدة ، وخلقاً منبثقاً من هذه العقيدة بعد استقرارها في الأعماق البعيدة .. فلما أن صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان ، تنزلت عليهم الشرائع ، وتقرر لهم النظام الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية ، والذي تكفل له الدولة بسلطاتها الجدية النفاذ .
ولم يشأ الله أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة ، ليختزنوها جاهزة حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة ! إن هذه ليست طبيعة هذا الدين ! ..
إنه أشد واقعية من هذا وأكثر جدية ! .. إنه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولاً .. إنما يواجه الواقع حين يكون واقع مجتمع مسلم مستسلم لشريعة الله رافض لشريعة سواه بحجمه وشكله وملابساته وظروفه ، ليشرع له ، وفق حجمه وشكله وملابساته وظروفه .
والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ نظريات وأن يصوغ قوالب نظام ، وأن يصوغ تشريعات للحياة ..
بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلاً تحكيم شريعة الله وحدها ، ورفض كل شريعة سواها ، مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه ..
الذين يريدون من الإسلام هذا ، لا يدركون طبيعة هذا الدين ، ولا كيف يعمل في الحياة .. كما يريد له الله ..
إنهم يريدون منه أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه نظريات بشرية ، ومناهج بشرية ، ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم ، رغبات إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة ..
يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب نظريات وفروض ، تواجه مستقبلاً غير موجود .. والله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده .. عقيدة تملأ القلب ، وتفرض سلطانها على الضمير ، عقيدة مقتضاها ألاَّ يخضع الناس إلاَّ لله ، وألاَّ يتلقوا الشرائع إلاَّ منه دون سواه ..
وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم ، ويصبح لهم السلطان الفعلي في مجتمعهم ، تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية ، وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك .
هذا ما يريده الله لهذا الدين ..
ولن يكون إلا ما يريده الله ، مهما كانت رغبات الناس !
كذلك ينبغي أن يكون مفهوماً لأصحاب الدعوة الإسلامية أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين ، يجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة - حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين ، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون ! - يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو " أولاً " إقرار عقيدة : " لا إله إلا الله " - بمدلولها الحقيقي ، وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله ، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم ، إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم ، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم ..
ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام ، كانت هي أساس دعوتهم إلى الإسلام أول مرة ..
هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلاثة عشر عاماً كاملة ..
فإذا دخل في هذا الدين - بمفهومه هذا الأصيل - عصبة من الناس ..
فهذه العصبة هي التي يطلق عليها إسم " المجتمع المسلم " ..
المجتمع الذي يصلح لمزاولة النظام الإسلامي في حياته الاجتماعية ، لأنه قرر بينه وبين نفسه أن تقوم حياته كلها على هذا الأساس ، وألا يحكم في حياته كلها إلا الله .
وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام الإسلامي عليه ، كما يأخذ هذا المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها حياته الواقعية ، في إطار الأسس العامة للنظام الإسلامي ..
فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج الإسلامي ..
فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج الإسلامي الواقعي العملي الجاد .
ولقد يخيل لبعض المخلصين المتعجلين ، ممن لا يتدبرون طبيعة هذا الدين ، وطبيعة منهجه الرباني القويم ، المؤسس على حكمة العليم الحكيم وعلمه بطبائع البشر وحاجات الحياة ..
نقول :
لقد يخيل لبعض هؤلاء أن عرض أسس النظام الإسلامي - بل التشريعات الإسلامية كذلك - على الناس ، مما ييسر لهم طريق الدعوة ، ويحبب الناس في هذا الدين !
وهذا وَهْمٌ تنشئه العجلة !
وَهْمٌ كالذي كان يمكن أن يقترحه المقترحون :
أن تقوم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أولها تحت راية قومية ، أو راية اجتماعية ، أو راية أخلاقية ، تيسيراً للطريق !
إن القلوب يجب أن تخلص أولاً لله ، وتعلن عبوديتها له وحده ، بقبول شرعه وحده ، ورفض كل شرع آخر غيره ..
من ناحية المبدأ ..
قبل أن تخاطب بأي تفصيل عن ذلك الشرع يرغبها فيه !
إن الرغبة يجب أن تنبثق من إخلاص العبودية لله ، والتحرر من سلطان سواه ، لا من أن النظام المعروض عليها ..
في ذاته ..
خير مما لديها من الأنظمة في كذا وكذا على وجه التفصيل .
إن نظام الله خير في ذاته ، لأنه من شرع الله ..
ولن يكون شرع العبيد يوماً كشرع الله ..
ولكن هذه ليست قاعدة الدعوة . إن قاعدة الدعوة أن قبول شرع الله وحده أيّاً كان ، ورفض كل شرع غيره أيّاً كان ، هو ذاته الإسلام ، وليس للإسلام مدلول سواه ، فمن رغب في الإسلام ابتداء فقد فصل في القضية ، ولم يعد بحاجة إلى ترغيبه بجمال النظام وأفضليته .. فهذه إحدى بديهيات الإيمان !
***************(52/496)
وقال تعالى في سورة الإسراء :
وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ( 81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ( 82)
بهذا السلطان المستمد من الله , أعلن مجيء الحق بقوته وصدقه وثباته , وزهوق الباطل واندحاره وجلاءه . فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت , ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق . .
(إن الباطل كان زهوقا) . .
حقيقة لدنية يقررها بصيغة التوكيد . وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة . فالباطل ينتفخ ويتنفج وينفش , لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة ; ومن ثم يحاول أن يموه على العين , وأن يبدو عظيما كبيرا ضخما راسخا , ولكنه هش سريع العطب , كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عاليا ثم تخبو سريعا وتستحيل إلى رماد ; بينما الجمرة الذاكية تدفى ء وتنفع وتبقى ; وكالزبد يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء .
(إن الباطل كان زهوقا) . .
لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته , إنما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية ; فإذا تخلخلت تلك العوامل , ووهت هذه الأسناد تهاوى وانهار . فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده . وقد تقف ضده الأهواء وتقف ضده الظروف ويقف ضده السلطان . .
ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى ويكفل له البقاء , لأنه من عند الله الذي جعل(الحق) من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول .
(إن الباطل كان زهوقا) . .
ومن ورائه الشيطان , ومن ورائه السلطان . ولكن وعد الله أصدق , وسلطان الله أقوى . وما من مؤمن ذاق طعم الإيمان , إلا وذاق معه حلاوة الوعد , وصدق العهد . ومن أوفى بعهده من الله ? ومن أصدق من الله حديثا ?(الظلال)
================(52/496)
فتوى القرضاوي حول عمليات الاختطاف في الميزان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :
فقد عرفت الدكتور الفاضل يوسف القرضاوي منذ حوالي ثلاثين سنة وقد استفدت كثيرا من كتبه ولا سميا الحلول المستوردة وماذا جنت على أمتنا والحل الإسلامي فريضة وضرورة فقد كان كتابا قيما جدا
وله جهود طيبة ومباركة إن شاء وخاصة في الرد على المقلدين وعلى الجامدين وعلى العلمانيين وعلى مفتي مصر السباق وشيخ الأزهر الحالي سيد طنطاوي حول ربا الفوائد البنكية فقد رد عليه بكتاب قيم ورده حول عملية السلام والاستسلام مع العدو الصهيوني وحول جواز العلميات الاستشهادية وله جهود كثيرة نسأل الله تعالى أن تكون في ميزان حسناته
ولكن مع مرور السنين والأيام فإذا بالدكتور القرضاوي حفظه الله يبدأ بالعد التنازلي ومن ذلك :
ميله إلى التساهل في الفتوى كفتواه حول مصافحة المرأة الأجنبية ونحو ذلك
وكذلك وقوفه في وجه التيار الجهادي في مصر
وكذلك إيمانه بالحوار مع الغرب ولا سيما النصارى
وإيمانه بالحوار مع الشيعة الروافض
وتعاونه من القوميين
وتحريمه الخروج على طغاة العرب والعجم ورده على الشهيد سيد قطب رحمه الله
ثم فتواه حول هدم صنم بوذا
ثم فتواه حول المسلم الذي يعمل مع القوات الأمريكية
وتحريمه عمليات الاختطاف جملة وتفصيلا
ثم فتاواه الأخيرة بشأن أفغانستان والعراق وما حصل بالبرجين الأمريكيين
ونحو ذلك مما جعل أسهمه تنزل في نفسي تباعا
فيا ليته سكت ولم يتكلم ولكن سارت بفتاواه الآفاق وفي كل الأصقاع بل صار نجم قناة الجزيرة بلا منازع ، بل غدا أكبر ممثل لفقه الهزيمة وفقه العافية وفقه الحوار وفقه التبرير
وقد رد عليه الكثيرون ردودا متفاوتة وفي بعضها جرح شديد لا نقبله
وقد استمعت لفتاواه الأخيرة حول ما يجري في العراق فساءني جدا مواقفه المتناقضة والعجيبة ، وكأنه ليس هو الدكتور القرضاوي الذي كنت أعرفه منذ ثلاثين سنة
وآخرها ما جرى في برنامج الشريعة والحياة بتاريخ 20/9/2004
فاستمعت لأكثرها ثم عدت إليها واستخرجتها من موقع الجزيرة وهذا رابطها :
http://www.aljazee a.net/N /exe es/F3E88758-65A5-477A-804C-503AC9A8CB07.htm
وقرأتها مرة أخرى فوجدت كما سمعت فيها العجب العجاب من ذلك العالم الجليل الذي كان اختصاصه أصلا في الفقه المقارن كما هو معلوم
ولذلك سأستعرض خلاصتها وأبين القول الفصل فيها حيث يسمع له الكثيرون فحتى لا يلتبس أمرها على الناس ولا سميا ونحن في حالة حرب مع الكفار والفجار على كل الأصعدة ، والواجب علينا شد أزر المقاومة الإسلامية وتفعيلها وليس تثبيط الهمم والتشكيك بالمقاومة الإسلامية في العراق وفي غير العراق
وقد تحدث الدكتور القرضاوي عن موضوع انضباط المسلم بأحكام الشرع وأن الاختطاف لا يجوز إلا في حالة الحرب ولمن له صلة بالحرب
وكل هذا لا ننازعه فيه ، ولا ينازعه أحد من المجاهدين فيه
******************(52/496)
وقالت خديجة بنت قنة:
فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي ذكرت أن اختطاف العدو أو من يساعد العدو في حالة الحرب مشروع لكن هناك مسألة التفريق بين الأجنبي القادم ليحتل الأرض وبين الأجنبي القادم ليقدم خدمة إنسانية أو خيرية كموظفي الجمعيات الخيرية والمنظمات الإنسانية مثل الرهينتين الإيطاليتين أو الصحفيين الفرنسيين اللذين كما نعلم بلادهما تعارض أصلا من الأساس فكرة الحرب على العراق كيف يُنظر إلى هذه المسألة من الناحية الشرعية؟
يوسف القرضاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا يعني في الواقع ما أنكرناه أن يُخطف الإنسان ليقايض به أمر آخر ولذلك طالبنا الخاطفين اللذين خطفوا الرهينتين الفرنسيين أن يفرجوا عنهما فورا وبأسباب أنا ذكرتها قبل ذلك يعني ونشرَتها الصحف وأذاعتها وكالة الأنباء
أن هناك أسبابا ثلاثة تقتضي هذا
والسبب الأول هو موقف فرنسا المعادي للحرب والمعارض لأميركا عَارَضَت أميركا في مجلس الأمن وخارج مجلس الأمن فكيف نسوِّي بين من دخل الحرب بجيوشه ومَن عارض الحرب،
الأمر الثاني أن هذين الصحفيين جاءا لخدمتنا نحن لتظهر الأخبار من مصدر غير المصدر الأميركي الأميركان يريدون أن يحتكروا الإعلام والأخبار فلا تظهر إلا من طريقهم كما كان في أيام الحرب هؤلاء جاؤوا وليسوا موالين لأميركا فمن مصلحتنا أن يبقى هؤلاء،
الأمر الثالث أننا عرفنا من تاريخهم أنهما متعاطفان مع القضايا العربية والإسلامية كما يعرفهم من قرأ لهم وعرف تحقيقاتهم وتاريخهم فلا يجوز أن نأخذ هؤلاء ونطالب إما أن يفرج إما أن تراجع فرنسا قانون منع الحجاب وإما يعني يظل هؤلاء في خطر، طب هما ذنبهم إيه؟
وهناك نظرة خاطئة للقوانين في هذه البلاد القوانين في هذه البلاد ليست من قرار يعني يصدره حاكم هذه تمر على البرلمانات وتأخذ الإجراءات وأغلبية فليس من السهل ولذلك يعني إحنا طالبنا بالإفراج عن هؤلاء، كذلك الصحفيتان الإيطاليتان يعني هاتان الصحفيتان معروف أنهما تعملان في منظمات خيرية وإنسانية حتى قبل الحرب وخدمة أطفال العراق وهذه الأشياء فلا صحيح نحن كما قلت أنا حينما لاقيت الوزير وزير الخارجية الإيطالي وقد زارني في بيتي هنا قلت له نحن ضد السياسة الخارجية الفرنسية ولكن مع هذا لا نَقبل أن تأخذ هاتان المرأتان البريئتان بجرم الدولة كما قلت للسفير للوزير الخارجية فرنسا أيضا ولقد لاقيته في القاهرة بطلب منه قلت له أيضا نحن نؤيد السياسة الخارجية ونثمِّن موقف فرنسا من الناحية الخارجية ولكن لا نتحفظ على سياساتها الداخلية في موضوع الحجاب ولكن لا نرضى أن يُعتبر الحجاب ذريعة لأخذ هؤلاء فنحن نُنكر يعني لا يؤخذ إنسان إلا بحق ولا يقايض به غير مما لا يملكه هو فهذا ما هو الموقف الشرعي من هذه الأمور.
****************
وفي جواب الدكتور القرضاوي هنا عدة مغالطات :
أولا – قوله : هذا يعني في الواقع ما أنكرناه أن يُخطف الإنسان ليقايض به أمر آخر
فيقال له :
أنت أنكرته على أي أساس ؟؟
فإن كان رأيا شخصيا فأنت حر تبنى ما شئت
وإن كان حكما شرعيا ، فأين الدليل على صحة ما ذهبت إليه ؟؟
بل الذي ثبت عكس ما تقوله تماما ، بل يجوز الاختطاف للمقايضة بمختطفين أو بمال أو بما يراه المجاهدون من مصلحة تخدم الإسلام والمسلمين
ففي صحيح مسلم عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ كَانَتْ ثَقِيفُ حُلَفَاءَ لِبَنِى عُقَيْلٍ فَأَسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَسَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً مِنْ بَنِى عُقَيْلٍ وَأَصَابُوا مَعَهُ الْعَضْبَاءَ فَأَتَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ فِى الْوَثَاقِ قَالَ يَا مُحَمَّدُ. فَأَتَاهُ فَقَالَ « مَا شَأْنُكَ ». فَقَالَ بِمَ أَخَذْتَنِى وَبِمَ أَخَذْتَ سَابِقَةَ الْحَاجِّ فَقَالَ إِعْظَامًا لِذَلِكَ « أَخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ ثَقِيفَ ». ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَنَادَاهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَحِيمًا رَقِيقًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ « مَا شَأْنُكَ ». قَالَ إِنِّى مُسْلِمٌ. قَالَ « لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلاَحِ ». ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَادَاهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ. فَأَتَاهُ فَقَالَ « مَا شَأْنُكَ ». قَالَ إِنِّى جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِى وَظَمْآنُ فَأَسْقِنِى. قَالَ « هَذِهِ حَاجَتُكَ ». فَفُدِىَ بِالرَّجُلَيْنِ - قَالَ - وَأُسِرَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَأُصِيبَتِ الْعَضْبَاءُ فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِى الْوَثَاقِ وَكَانَ الْقَوْمُ يُرِيحُونَ نَعَمَهُمْ بَيْنَ يَدَىْ بُيُوتِهِمْ فَانْفَلَتَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْوَثَاقِ فَأَتَتِ الإِبِلَ فَجَعَلَتْ إِذَا دَنَتْ مِنَ الْبَعِيرِ رَغَا فَتَتْرُكُهُ حَتَّى تَنْتَهِىَ إِلَى الْعَضْبَاءِ فَلَمْ تَرْغُ قَالَ وَنَاقَةٌ مُنَوَّقَةٌ فَقَعَدَتْ فِى عَجُزِهَا ثُمَّ زَجَرَتْهَا فَانْطَلَقَتْ وَنَذِرُوا بِهَا فَطَلَبُوهَا فَأَعْجَزَتْهُمْ - قَالَ - وَنَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ. فَقَالُوا الْعَضْبَاءُ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَتْ إِنَّهَا نَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا. فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ « سُبْحَانَ اللَّهِ بِئْسَمَا جَزَتْهَا نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِى مَعْصِيَةٍ وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ ». وَفِى رِوَايَةِ ابْنِ حُجْرٍ « لاَ نَذْرَ فِى مَعْصِيَةِ اللَّهِ ».
وهذا الحديث ظاهر الدلالة على ما نقول وذكر هذا في شرح الحديث عند الإمام النووي وفي عون المعبود والإمام الشافعي في الأم وابن قدامة في المغني و كذا المالكية في عدة كتب ومنها معين الحكام والجصاص في أحكام القرآن وابن العربي والطحاوي في معاني الآثار وفي البحر الزخار والمحلى لابن حزم وغيرهم
ومن أراد التفصيل فليرجع إلى موقع الإسلام http://feqh.al-islam.com/
وليفتح جامع الفقه الإسلامي وليضع في البحث كلمة بجريرة حلفائك فسيرى النتيجة ماثلة أمام عينيه(52/496)
وكذلك ما فعله الصحابي الجليل أبو بصير رضي الله عنه بمشركي قريش وقد كانوا في حالة هدنة مع المسلمين يدل على جواز ذلك ويرد على من يدعي أن لهم أمانا لا يجوز نقضه كذلك
ففي حديث صلح الحديبية الذي أخرجه البخاري مطولا وفيه ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ - رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَهْوَ مُسْلِمٌ فَأَرْسَلُوا فِى طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ فَقَالُوا الْعَهْدَ الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا. فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا. فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ فَقَالَ أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ. فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْهِ فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ وَفَرَّ الآخَرُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ رَآهُ « لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا ». فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِى وَإِنِّى لَمَقْتُولٌ فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِى إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِى اللَّهُ مِنْهُمْ. قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ ». فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ. قَالَ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ فَلَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) حَتَّى بَلَغَ (الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ.
وأما الزعم بأن الإنسان لا يؤخذ بجريرة غيره مطلقا استنادا لقوله تعالى :
{ مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (15) سورة الإسراء وفي غيرها
فهي من العام المخصوص بلا نزاع وليست على إطلاقها
فلها استثناءات كثيرة ومن أراد معرفتها فما عليه إلا الرجوع للموقع المشار إليه ووضع جملة : تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى في البحث وسيرى النتائج الكثيرة لها
ومن ذلك دفع العاقلة الدية عن قتل الخطأ
ومن ذلك مضاعفة عذاب ابن آدم الأول الذي قتل أخاه ظلما ففي البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا ».
وكذلك من سنة حسنة أو سنة سيئة ففي سنن ابن ماجة عَنْ أَبِى جُحَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَمِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِثْلُ أَوْزَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا ».
وكذلك زيادة عقوبة من كان سببا في إضلال غيره ففي البخاري عَنْ عَمِّهِ قَالَ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ وَقَالَ « فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ ».
إذا فالآية الكريمة مخصصة بهذه النصوص وغيرها
****************(52/496)
وأما قول الدكتور القرضاوي هدانا الله وإياه إلى الحق :
ولذلك طالبنا الخاطفين اللذين خطفوا الرهينتين الفرنسيين أن يفرجوا عنهما فورا وبأسباب أنا ذكرتها قبل ذلك يعني ونشرَتها الصحف وأذاعتها وكالة الأنباء
أن هناك أسبابا ثلاثة تقتضي هذا
والسبب الأول هو موقف فرنسا المعادي للحرب والمعارض لأميركا عَارَضَت أميركا في مجلس الأمن وخارج مجلس الأمن فكيف نسوِّي بين من دخل الحرب بجيوشه ومَن عارض الحرب،
الأمر الثاني أن هذين الصحفيين جاءا لخدمتنا نحن لتظهر الأخبار من مصدر غير المصدر الأميركي الأميركان يريدون أن يحتكروا الإعلام والأخبار فلا تظهر إلا من طريقهم كما كان في أيام الحرب هؤلاء جاؤوا وليسوا موالين لأميركا فمن مصلحتنا أن يبقى هؤلاء،
الأمر الثالث أننا عرفنا من تاريخهم أنهما متعاطفان مع القضايا العربية والإسلامية كما يعرفهم من قرأ لهم وعرف تحقيقاتهم وتاريخهم فلا يجوز أن نأخذ هؤلاء ونطالب إما أن يفرج إما أن تراجع فرنسا قانون منع الحجاب وإما يعني يظل هؤلاء في خطر، طب هما ذنبهم إيه؟
وهناك نظرة خاطئة للقوانين في هذه البلاد القوانين في هذه البلاد ليست من قرار يعني يصدره حاكم هذه تمر على البرلمانات وتأخذ الإجراءات وأغلبية فليس من السهل ولذلك يعني إحنا طالبنا بالإفراج عن هؤلاء، كذلك الصحفيتان الإيطاليتان يعني هاتان الصحفيتان معروف أنهما تعملان في منظمات خيرية وإنسانية حتى قبل الحرب وخدمة أطفال العراق وهذه الأشياء فلا صحيح نحن كما قلت أنا حينما لاقيت الوزير وزير الخارجية الإيطالي وقد زارني في بيتي هنا قلت له نحن ضد السياسة الخارجية الفرنسية ولكن مع هذا لا نَقبل أن تأخذ هاتان المرأتان البريئتان بجرم الدولة كما قلت للسفير للوزير الخارجية فرنسا أيضا ولقد لاقيته في القاهرة بطلب منه قلت له أيضا نحن نؤيد السياسة الخارجية ونثمِّن موقف فرنسا من الناحية الخارجية ولكن لا نتحفظ على سياساتها الداخلية في موضوع الحجاب ولكن لا نرضى أن يُعتبر الحجاب ذريعة لأخذ هؤلاء فنحن نُنكر يعني لا يؤخذ إنسان إلا بحق ولا يقايض به غير مما لا يملكه هو فهذا ما هو الموقف الشرعي من هذه الأمور.
*****************(52/496)
قلت : ولي على كلامه هذا أمور :
الأول - ليس من حقك أن تطالب بشيء ليس عندك علم يقيني ببراءته فالذين اختطفوهما أدرى بهما وبحالهما منا جميعا
الثاني - أما المطالبة بالإفراج عن الصحفييين الفرنسيين لأسباب ثلاثة وأولها موقف فرنسا من الحرب على العراق إلى آخره فأقول وبالله التوفيق :
يجب علينا أن نعلم أن فرنسا هي ثاني دولة استعمرت بلاد الإسلام في الغرب وفي الشرق
وهي الدولة الثانية التي شاركت في القضاء على الخلافة الإسلامية
وهي من أوائل الدول التي شاركت في تفتيت العالم الإسلامي
وهي من أوائل الدول التي هيأت لليهود في فلسطين ليغتصبوها وقد اعترفت بها فور قيامها
وهي التي صنعت كثيرا من الحكام الطغاة في بلاد الإسلام ليكونوا صنيعة لها
وهي من الدول التي تنهب كثيرا من خيرات المسلمين
وهي فوق ذلك من الدول الصليبية والتي كانت تحارب المسلمين منذ القرون الأولى وما زالت
وهي تسعى لإضلال المسلمين في كل مكان عن طريق فرض قوانينها ومناهجها الشيطانية وبأساليب ماكرة
قال تعالى عن هؤلاء :
{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (120) سورة البقرة
وقال تعالى عنهم :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (217) سورة البقرة
وقال عنهم كذلك :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} (59) سورة المائدة
وقال تعالى :
{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (105) سورة البقرة
وقال تعالى :
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (109) سورة البقرة
وقال تعالى :
{ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (69) سورة آل عمران
وقال تعالى :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (99) سورة آل عمران
وحرم علينا الباري سبحانه وتعالى موالاة اليهود والنصارى وأنهم بعضهم أولياء بعض وبين أن من يواليهم ليس منا قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (51) سورة المائدة
***********
وبين أن الذي يدافع عن أهل الكتاب ويتعاطف معهم منافق عليم اللسان :
{ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } (11) سورة الحشر
****************
وبين لنا أنهم مع اليهود أشد الناس علينا قال تعالى :
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (82) سورة المائدة
وهي في اليهود والنصارى الذين لم يسلموا وجميع المشركين في الأرض
وعند أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْمُسْتَوْرِدَ قَالَ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقُلْتُ لَهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « أَشَدُّ النَّاسِ عَلَيْكُمُ الرُّومُ وَإِنَّمَا هَلَكَتُهُمْ مَعَ السَّاعَةِ ».
**************
وبين لنا أنهم قد يرضوننا بألسنتهم وذلك لمصلحة لهم دون أفعالهم قال تعالى :
{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} (8) سورة التوبة
وبعد قولنا لهذه الحقائق نقول لمن قالوا :
إن فرنسا لها مواقف مشرفة اتجاه قضايا العرب ولا سيما العراق فقد وقفت في وجه أمريكا وكانت غير راضية عن غزو العراق ، أفيكون هذا جزاؤها ؟!!!
فيقال لهم :
لا فرق بين فرنسا وبين بقية الدول الأخرى في هذه القضية بعد أن ذكرنا مواقفها الحقيقية من قبل
ومن ثم فإن وقوفها نظريا ضد مواقف أمريكا ليس لأنهم يحبون العرب والمسلمين ويكرهون أمريكا
معاذ الله
بل لأن مصالح فرنسا تتعارض مع مصالح أمريكا فإن أمريكا تريد كالحوت الكبير ابتلاع كل شيء ، ومن ثم يحدث التعارض بين المصالح ليس إلا
وصدق الله العظيم عندما قال :
{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} (8) سورة التوبة
فلم تكن فرنسا ولن تكون معنا و لا مع قضايانا المصيرية في يوم من الأيام ، ولكن الحمقى والمغفلين من قومنا لا يعلمون ، وكيف يعلمون وهم لا ينظرون إلا إلى ظواهر الأشياء دون الغوص إلى أعماقها ؟؟!!!
ولما نجح المسلمون في الانتخابات في الجزائر سارعت فرنسا للاستنكار وقالت : لن نسمح بقيام دولة إسلامية في الجزائر لأنها ما زالت تعتبرها قطعة من فرنسا هذه مواقف فرنسا الحقيقية أيها الغافلون
ولكن كقصة الصياد كما قيل لا تنظر إلى دموع عينيه ولكن انظر إلى مديته
وكذلك فإن فرنسا مع بقية الدول الغربية لا ترضى بقيام دولة إسلامية إلا دولة الرافضة التي تحارب الإسلام والمسلمين منذ نشأتها وتصدر لهم أكاذيبها وخرافاتها
وكذلك فإن فرنسا تسعى جاهدة لمحاربة ما يسمى بالإرهاب مثل أمريكا تماما وبالتنسيق معها
وكذلك فإن أول يهود استجابوا لدعوة شارون يهود فرنسا تحت مرأى ومسمع منها ، بل وتمكين ولو كانوا ظاهريا غير ذلك
وبذلك يسقط هذا السبب الأول سقوطا ذريعا
ولكن يظهر أن شيخنا القرضاوي يعيش في عالم آخر
********************(52/496)
وأما السبب الثاني الذي ذكره :
وهو قوله :
الأمر الثاني أن هذين الصحفيين جاءا لخدمتنا نحن لتظهر الأخبار من مصدر غير المصدر الأميركي الأميركان يريدون أن يحتكروا الإعلام والأخبار فلا تظهر إلا من طريقهم كما كان في أيام الحرب هؤلاء جاؤوا وليسوا موالين لأميركا فمن مصلحتنا أن يبقى هؤلاء،
**********
فيقال له : كيف عرف هذا أنهما دخلا إلى العراق من أجل مصلحتنا ؟؟
ومتى كان هؤلاء الكفار والفجار يعملون لمصلحتنا ؟؟
وهل فرنسا تتعاطف مع الإسلام والمسلمين ومراسليها من هذا القبيل ؟؟؟
وما يدريه أنهما يتجسسان على الإسلام والمسلمين ؟؟؟
فقوله هذا لا برهان عليه سوى المصادر الفرنسية نفسها وهل سيقولون غير ذلك عن مراسليهم ؟؟؟!!!
***************
وأما قوله في الأمر الثالث أننا عرفنا من تاريخهم أنهما متعاطفان مع القضايا العربية والإسلامية كما يعرفهم من قرأ لهم وعرف تحقيقاتهم وتاريخهم فلا يجوز أن نأخذ هؤلاء ونطالب إما أن يفرج إما أن تراجع فرنسا قانون منع الحجاب وإما يعني يظل هؤلاء في خطر، طب هما ذنبهم إيه؟
كيف عرف الدكتور القرضاوي هذا التعاطف وخفي على المجاهدين في الميدان ؟؟
لعله قرأ لهما بعض المقالات أو نقل له عن مصدر فرنسي ذلك وهل ستقول فرنسا عن مراسليها غير ذلك ؟؟؟ !!!
كان بودنا أن يطلع الجمهور على هذه المقالات المزعومة التي تظهر هذا التعاطف مع قضايانا حتى لا يتاجر بها أحد
وجميع المفسدين في الأرض يقولون عن أنفسهم إنهم مصلحون فهل نصدقهم بهذه المقولة الكاذبة ؟؟؟
قال تعالى :
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (12) البقرة
ولماذا لا يجوز أخذ هؤلاء والمقايضة بهم وإحراج فرنسا حول التراجع عن قرارها الجائر والظالم بحق المسلمين حول الحجاب !!!
ولكن لا عتب عليك يا شيخنا الكريم إذا كان شيخ الأزهر يقول عن مسألة الحجاب : إنها مسألة فرنسية داخلية ولا علاقة لنا بها
وقد صدق فلا علاقة له ولا لمن وضعه في هذا المنصب (( بغير حق )) علاقة بما يجري للمسلمين في كل مكان فهاهم المسلمون يذبحون ويشردون ويغتالون أمام مرأى ومسمع شيخ الأزهر وغيره ومن نصبه فماذا يفعلون لهم ؟؟؟
لا شيء سوى التثبيط التآمر والكيد والتعاون مع العدو ليقضي عليهم
لا عتب على من باع دينه بثمن بخس
فهذا الذي اختطفه المسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ذنبه يا حضرة الدكتور ؟؟؟
وكان من المفروض أن يقول الدكتور القرضاوي هذا مطلب حق وهذا يدل على أن المجاهدين في العراق يحسون بآلام المسلمين في كل مكان استنادا لقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ».
وكما في البخاري عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».
ولكن يظهر أن الحس الإيماني قد نزع من قلوبنا ومن ثم لم نعد نشعر بما يجري حولنا وكأنه لا يعنينا
وكل ذلك بسبب التربية الباطلة التي ربينا عليها من قبل طغاة العرب والعجم ، فقد فقدنا الشعور بالغيرة والإحساس
فالمعتصم رحمه الله يجهز جيشا من أجل امرأة مسلمة استغاثت به في عمورية ويقوده بنفسه
وعلماؤنا الأفاضل يبخلون حتى بكلمة الحق نحو إخوتهم المظلومين
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال كما في مسند أحمد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ لِثَوْبَانَ « كَيْفَ أَنْتَ يَا ثَوْبَانُ إِذْ تَدَاعَتْ عَلَيْكُمُ الأُمَمُ كَتَدَاعِيكُمْ عَلَى قَصْعَةِ الطَّعَامِ يُصِيبُونَ مِنْهُ ». قَالَ ثَوْبَانُ بِأَبِى وَأُمِّى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا قَالَ « لاَ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنْ يُلْقَى فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنُ ». قَالُوا وَمَا الْوَهَنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « حُبُّكُمُ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَتُكُمُ الْقِتَالَ ».
إنه حب الدنيا كراهية الموت يا شيخنا العزيز فلم تسقط الأندلس إلا بمثل هذه الفتاوى التي تنضح بالهزيمة وحب الدنيا وكراهية الموت
*****************(52/496)
وأما قوله حول البرلمانات الغربية000
فلم يعد خافيا على أحد أن هؤلاء جميعا أعداء للإسلام والمسلمين فسواء أكان الرئيس شيراك أم غيره فكلهم بالهوى سوى بالنسبة إلينا وقد يكون الفرق بين رئيس ورئيس كالفرق بين جزار وجزار في كيفية ذبح الحيوان وسلخه ليس إلا
لقد نسي الدكتور القرضاوي أن تلك البرلمانات يسيطر عليها حفنة من الرأسماليين وأصحاب الشركات والانتهازيين ويحركونها كما يريدون وأن ما تتشدق به فرنسا وغيرها من حرية التدين ما هو في كثير من الأحيان إلا حبر على ورق
نعم حرية الكفر والفسوق والعصيان ، حرية الإلحاد ، حرية الشهوات الموبقات ، ولكن لا أدري كيف يخفى مثل هذا على الدكتور القرضاوي ؟؟؟!!!
****************
وأما مطالبته بالإفراج عن الصحفيتين الإيطاليتين لأنهما تعملان في منظمات خيرية وإنسانية
ما هذه السذاجة يا شيخنا !!!
فجميع وسائل التبشير والاستشراق في بلادنا تعمل باسم منظمات إنسانية وخيرية
ومتى كان عند هؤلاء إنسانية وخيرية لغيرهم ؟؟؟؟!!!
لقد تنصر كثير من المسلمين عن طريق هذه الجمعيات التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب
كما أنه قد ارتد الكثيرون بسبب هذه الجمعيات الخيرية ، وهي تنشر الفساد والموبقات والفسوق في بلاد المسلمين ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتب التالية :
التبشير والاستعمار وكتاب أجنحة المكر الثلاث للحبنكة رحمه الله وغزو في الصميم له وظلام من الغرب للغزالي والتنصير في جزيرة العرب للعودة ، وواقعنا المعاصر لمحمد قطب حفظه الله والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر وغيرها كثير
ثم هو يتكلم مع وزير الخارجية الفرنسي والإيطالي باسم من ؟؟
ولماذا يزار في بيته ؟؟
هل من أجل الإسلام والمسلمين أم من أجل غاية دنيئة خبيثة في نفوس القوم حتى يسخر مثل الدكتور القرضاوي وغيره ليكون بوقا لهم ولأكاذيبهم !!!!
فعلا نحن نثمن موقف فرنسا ولكن لا أدري بالدولار أم بالفرنك الفرنسي أم بالملايين الذين شردوا في الأرض بسبب فرنسا أم بالآلاف الذين قتلوا في الجزائر ظلما وعداونا !!!!!
وهل موقف فرنسا يا حضرة الدكتور له أي قيمة على الأرض ؟ !!!!
فأنكر ما شئت على هؤلاء الذين أبو الذل والهوان أبوا أن يسمعوا لفقهاء الهزيمة الذين غدا الجهاد في كتاباتهم اسما بلا مسمى وعنوانا بلا مضمون ليرضى عنهم أئمة الكفر وما هم براضين !!!
ثم يزعم فيقول :
فنحن نُنكر يعني لا يؤخذ إنسان إلا بحق ولا يقايض به غير مما لا يملكه هو فهذا ما هو الموقف الشرعي من هذه الأمور.
فهل أخذ هؤلاء بغير حق يا حضرة الدكتور ؟؟؟!!!
ومتى كانت هذه الدول التي تدافع عنها بغير حق تعرف الحق ؟؟؟!!!
*************(52/496)
وأما قول خديجة بنت قنة:
طيب يعني معروف أن العراق بلد تحتله قوة أجنبية العلاقة بين المحتل والذي يحتل والمحتل علاقة تصادم وقتال ومقاومة لكن في نفس الوقت هناك عراقيون مسلمون يقدمون المساعدة لقوات الاحتلال يعني هناك مَن يتعاون مع الاحتلال من المسلمين فما الحكم في ذلك؟
يوسف القرضاوي: والله نحن يعني نرى هؤلاء يعني مخطئين يعني شرعا ونرى أنه المفروض أن العراقيين جميعا يقفون صفا واحدا لمقاومة الاحتلال، هؤلاء احتلوا بلدا ضد الشرعية الدولية حتى الشرعية الدولية لم تسمح لهم لم تسمح لم يسمح لهم مجلس الأمن فدخلوه بالقوة يعني بنقول إحنا بالعافية يعني حكم القوي في الإيه.
خديجة بن قنة: الضعيف.
***********
فيقال لك يا حضرة الدكتور :
هذا تمييع للموضوع فهل الذي يتعاون مع أعداء الإسلام المحتلين مخطئ فقط ؟؟
أم أنه يستحق العقاب وحكمه حكمهم بنص القرآن ؟؟؟
قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (51) سورة المائدة
وقال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (57) سورة المائدة
بل حكمهم القتل يا شيخنا الجليل ، ولا فرق بينهم وبين العدو ، بل الصواب أنهم أشد علينا من العدو الخارجي بكثير لأن هؤلاء محسوبون علينا ويتكلمون بكلامنا ويطلعون على عوراتنا
وإذا كنت صادقا في دعواك
(( ونرى أنه المفروض أن العراقيين جميعا يقفون صفا واحدا لمقاومة الاحتلال ))
فاذهب إليهم واجمع بينهم على مقاومة المحتل
وهل أنت تؤمن بشرعية دولية والتي أمر الله تعالى بالكفر بها ؟؟؟!!!
قال تعالى :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا (63) النساء
وهل هناك شرعية دولية يا حضرة الدكتور منذ أن أنشئت الأمم المحتدة على الإسلام والمسلمين ؟؟!!!
بل فكلهم يحاربون الإسلام وعلى جميع الجبهات
وفاتك (( وأنت الذي تحفظ كتاب الله تعالى منذ نعومة أظفارك )) قول الله تعالى فيهم :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (51) سورة المائدة
وقال تعالى :
{ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (73) سورة الأنفال
وقال تعالى :
{ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } (19) سورة الجاثية
هل نصدق الله تعالى العليم الخبير أم نصدق أولئك الكذابين الأفاكين ؟؟؟!!!!
ثم لماذا تميع هذه القضية الجلل بكلام عائم ودارج على لسان الحكام الذين وضعتهم أمريكا وبريطانيا وفرنسا ؟؟
أليست حربا ضد الإسلام والمسلمين ؟؟؟
هل تظن أنها من أجل نفط العراق ؟؟
وقد كان النفط بأيديهم من قبل ومن بعد سواء في العراق أو في غيرها
إنها حرب صليبية مجرمة يا شيخنا الجليل ؟؟؟
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (217) سورة البقرة
وقال تعالى :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} (59) سورة المائدة
ولكن لا بد أن تأخذ أشكالا خارجية تتخذ ذرائع للحرب وهذه طبيعة الكفار في كل زمان ومكان
فالعبرة بالجوهر وليس بالمظهر
*****************(52/496)
وأما قول خديجة بنت قنة: لكن فضيلة الشيخ يعني هناك مسألة يعني الخلط بين مبدأ تنفيذ عملية الاحتجاز احتجاز الرهائن وذبح الرهائن والتمثيل بأجسادهم وبين مسألة يعني مبدأ التنفيذ ومبدأ التمثيل بالأجساد وعرضها على تصويرها أمام الكاميرات وعرضها على التلفزيون هل يعني المبدأ مبدأ القتل والاحتجاز والذبح و..
"ذبح الرهائن والتمثيل بأجسادهم أشياء لا يُقرّها الشرع وإذا اختطف الإنسان أصبح له حكم الأسير
"
يوسف القرضاوي: [مقاطعًا] والله هذه الأشياء يعني لا يُقرّها الشرع
أولا إذا اختطف الإنسان أصبح له حكم الأسير والأسير في الإسلام له أحكام نحن مطالبون بالإحسان إلى الأسرى الله سبحانه وتعالى يقول {ويُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً ويَتِيماً وأَسِيراً، إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً ولا شُكُورا} الله تعالى يقول لرسوله في غزوة بدر: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ} يعني كلمهم كلاما لطيفا يحبب الإسلام إليهم وهكذا وكذا النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بأسرى بدر فكان المسلمون يقدمون إليهم أفضل الطعام ليأخذون لنفسهم أردأ الطعام ويقدمون لهم أحسن الطعام فالأسير ليس والله تعالى يقول في شأن الأسرى {فَإذَا لَقِيتُمُ الَذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاق} يعني في وقت من الأوقات لا داعي لأن تقتلوا مادام ضعفوا هنا في الحالة دية ائسر لأن الأسير يمكن أن يفك إنما المقتول لا تعاد إليه الحياة فشدوا {فَإمَّا مَناً بَعْدُ وإمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا} يعني القرآن ذكر في معاملة الأسرى أمرين المَن عليه لوجه الله بلا مقابل والفداء إما الفداء بمال أو الفداء بأسرى أسير بأسير أو أسير بأسيرين أو أسيرين بأسير أو بعمل مثل النبي عليه الصلاة والسلام يعني قبل من بعض الأسرى في غزوة بدر أن يعلموا عشرة من أولاد المسلمين الكتابة معندهوش فلوس قال له علِّم عشرة من أولاد المسلمين النحو أو المشروع لمحو الأمية فهذا.. صحيح قتل النبي بعض الأسرى في غزوة بدر قتل ثلاثة عقبة ابن أبي معيط والندر ابن الحارث وثالث ولكن هؤلاء الثلاثة ليسوا أسرى عاديين هؤلاء يعتبروا بلغة عصرنا مجرمي حرب يعني لهم تاريخ حافل أسود في إيذاء المسلمين والتحريض عليهم فكان لابد أن يتخذ منهم موقفا إنما عامة الأسرى إما منَّا عليهم أو فاداهم فهؤلاء أسرى فليس من حق الإنسان أن يقتلهم يعني وبعدين أنا بعلقهم على إذا حصل كذا طب الشركة اللي مطلوبة معملتش أقتلهم لأنهم هذا يعني ليس وإذا قتلوا لازم يقتلوا الرسول عليه الصلاة والسلام يقول (إذا قتلتم فأحسنوا القتل وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح) والتمثيل منهيّ عنه في الإسلام نهيا باتا لم يُبح الرسول للمسلمين قط أن يمثل كان من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لقواد سراياه وجيوشه يقول لهم لا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ولا تقتلوا امرأة ولا تقطعوا شجرا ولا وكذلك وصايا الخلفاء الراشدين التمثيل بالجثث هذا لا يجوز بحال من الأحوال حتى ولو كان أعداء المسلمين يمثلون بجثثهم سيدنا أبو بكر يعني جاءته صرة أيام حروب فرس ففتح الصرة لقي فيها رأس ففزع قال ما هذا قالوا هذا رأس قائد من قواد الفرس فأنكر عليهم قالوا يا خليفة رسول الله إنهم يفعلون ذلك بقادتنا إذا قتل قائد مسلم يأخذون رأسه ويبعثوها لملكهم كسرى أو لقائد جيوشهم رستم فقال لهم استنان بفارس والروم؟ يعني تستنون بسنتهم تجعلوهم أئمة لكم تقتدون بهم والله ل يُحمل إلي رأس بعد اليوم إنما يكفي الكتاب والخبر تقولوا لي قتل فلان عمل كذا بالكتاب بالخبر هذا فالإسلام لا يقبل التمثيل والتشويه الإسلام يحترم الإنسان حيا وميتا ولا يرى أبدا التشويه بجثته هذا كان من أعمال المشركين مع المسلمين ولم يكن من أعمال المسلمين مع المشركين أبدا.
****************(52/496)
أقول :
هذا الجواب فيه مغالطات كثيرة :
منها أن مبدأ المعاملة بالمثل متفق عليه بين فقهاء المسلمين جميعا على اختلاف بينهم في بعض تفاصيله لا أصله
استنادا لقول الله تعالى :
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (194) سورة البقرة
وفي الموسوعة الفقهية :
الْقِصَاصُ بِالْإِحْرَاقِ :
16 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ ; وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , إلَى قَتْلِ الْقَاتِلِ بِمَا قَتَلَ بِهِ وَلَوْ نَارًا . وَيَكُونُ الْقِصَاصُ بِالنَّارِ مُسْتَثْنًى مِنْ النَّهْيِ عَنْ التَّعْذِيبِ بِهَا . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } وقوله تعالى { : فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَبِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْبَزَّارُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ , وَفِيهِ : { مَنْ حَرَقَ حَرَقْنَاهُ } . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ , وَهُوَ غَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , إلَى أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالسَّيْفِ وَإِنْ قَتَلَ بِغَيْرِهِ , قَلْو اقْتَصَّ مِنْهُ بِالْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ عُزِّرَ . وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا : { لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ } . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَزَّارُ وَالطَّحَاوِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ .
ج - الْحُصُولُ عَلَى حَقٍّ لَا يُمْكِنُ الْحُصُولُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِئْذَانِ :
42 - يَسْقُطُ الِاسْتِئْذَانُ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ , إنْ كَانَ الِاسْتِئْذَانُ يُفَوِّتُ حَقَّهُ , لقوله تعالى : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } . فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ , مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ , إذَا مَنَعَهَا النَّفَقَةَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهَا , وَيَجُوزُ لِلضَّيْفِ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَأْكُلُهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ إذَا مَنَعَ قِرَاهُ , وَيَجُوزُ لِمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَجَحَدَهُ إيَّاهُ . وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهِ , أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَقَعُ وَفَاءً لِحَقِّهِ , بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ مِنْهُ , بِشُرُوطٍ وَخِلَافٍ يَسِيرٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ .
9 - أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي :
وَهُوَ التَّعْذِيبُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ لِلْإِنْسَانِ , فَمِنْهُ تَعْذِيبُ الْأَسْرَى , فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ عَدَمَ جَوَازِ تَعْذِيبِهِمْ , لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو إلَى الرِّفْقِ بِالْأَسْرَى , وَإِطْعَامِهِمْ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ { لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ , وَحَرَّ السِّلَاحِ , قِيلُوهُمْ حَتَّى يَبْرُدُوا } وَهَذَا الْكَلَامُ فِي أَسَارَى بَنِي قُرَيْظَةَ , حِينَمَا كَانُوا فِي الشَّمْسِ . وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ خَوْفُ الْفِرَارِ , فَيَصِحُّ حَبْسُ الْأَسِيرِ مِنْ غَيْرِ تَعْذِيبٍ , وَإِذَا رُجِيَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَسْرَارِ الْعَدُوِّ جَازَ تَهْدِيدُهُ وَتَعْذِيبُهُ بِالْقَدْرِ الْكَافِي , لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ , وَدَلِيلُ ذَلِكَ : مَا رُوِيَ عَنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم { : أَنَّهُ أَمَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ بِتَعْذِيبِ مَنْ كَتَمَ خَبَرَ الْمَالِ , الَّذِي كَانَ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ , وَقَالَ لَهُ : أَيْنَ كَنْزُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ ؟ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ , أَنْفَذَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ , فَقَالَ : الْمَالُ كَثِيرٌ وَالْمَسْأَلَةُ أَقْرَبُ , وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ : دُونَك هَذَا . فَمَسَّهُ الزُّبَيْرُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَذَابِ , فَدَلَّهُمْ عَلَى الْمَالِ } . لَكِنْ إذَا كَانُوا يُعَذِّبُونَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ يَجُوزُ مُعَامَلَتُهُمْ بِالْمِثْلِ , لقوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } وَقَوْلُهُ أَيْضًا { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } قَالَ الْبَاجِيُّ : لَا يُمَثَّلُ بِالْأَسِيرِ , إلَّا أَنْ يَكُونُوا مَثَّلُوا بِالْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : قَتْلُ الْأَسِيرِ بِضَرْبِ عُنُقِهِ , لَا يُمَثَّلُ بِهِ , وَلَا يُعْبَثُ عَلَيْهِ . قِيلَ لِمَالِكٍ : أَيُضْرَبُ وَسَطُهُ ؟ فَقَالَ : قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ { فَضَرْبَ الرِّقَابِ } لَا خَيْرَ فِي الْعَبَثِ .
*************(52/496)
وأما كلامه عن الأسير فغير دقيق قال تعالى :
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (67) سورة الأنفال
وفي الموسوعة الفقهية :
مَنْ يَجُوزُ أَسْرُهُمْ وَمَنْ لَا يَجُوزُ :
8 - يَجُوزُ أَسْرُ كُلِّ مَنْ وَقَعَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ , صَبِيًّا كَانَ أَوْ شَابًّا أَوْ شَيْخًا أَوْ امْرَأَةً , الْأَصِحَّاءِ مِنْهُمْ وَالْمَرْضَى , إلَّا مَنْ لَا يُخْشَى مِنْ تَرْكِهِ ضَرَرٌ وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ , فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَسْرُهُ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ . فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : أَنَّهُ لَا يُؤْسَرُ مَنْ لَا ضَرَرَ مِنْهُمْ , وَلَا فَائِدَةَ فِي أَسْرِهِمْ , كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَالرَّاهِبِ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا رَأْيَ لَهُمْ . وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَقْتُلُ يَجُوزُ أَسْرُهُ , إلَّا الرَّاهِبَ وَالرَّاهِبَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا رَأْيٌ فَإِنَّهُمَا لَا يُؤْسَرَانِ , وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنْ الْمَعْتُوهِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْأَعْمَى فَإِنَّهُمْ وَإِنْ حَرُمَ قَتْلُهُمْ يَجُزْ أَسْرُهُمْ , وَيَجُوزُ تَرْكُهُمْ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ وَمِنْ غَيْرِ أَسْرٍ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَسْرُ الْجَمِيعِ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ . 9 - وَلَا يَجُوزُ أَسْرُ أَحَدٍ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إذَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهَا عَهْدُ مُوَادَعَةٍ , لِأَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الْأَمَانَ , وَبِالْأَمَانِ لَا تَصِيرُ الدَّارُ مُسْتَبَاحَةً , وَحَتَّى لَوْ خَرَجَ قَوْمٌ مِنْ الْمُوَادِعِينَ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُوَادَعَةٌ , فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ , فَهَؤُلَاءِ آمِنُونَ , لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ , لِأَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الْأَمَانَ لَهُمْ , فَلَا يُنْتَقَضُ بِالْخُرُوجِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ . وَكَذَا لَوْ دَخَلَ فِي دَارِ الْمُوَادَعَةِ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ دَارِهِمْ بِأَمَانٍ , ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ , فَهُوَ آمِنٌ لَا يَجُوزُ أَسْرُهُ , لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْمُوَادَعِينَ بِأَمَانِهِمْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ . وَمِثْلُهُ مَا لَوْ وُجِدَ الْحَرْبِيُّ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَسْرُهُ , وَمَا لَوْ أَخَذَ الْحَرْبِيُّ الْأَمَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ فِي حِصْنِ الْحَرْبِيِّينَ .
حُكْمُ قَتْلِ الْآسِرِ أَسِيرَهُ :
12 - لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ الْغُزَاةِ أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ بِنَفْسِهِ , إذْ الْأَمْرُ فِيهِ بَعْدَ الْأَسْرِ مُفَوَّضٌ لِلْإِمَامِ , فَلَا يَحِلُّ الْقَتْلُ إلَّا بِرَأْيِ الْإِمَامِ اتِّفَاقًا , إلَّا إذَا خِيفَ ضَرَرُهُ , فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ قَتْلُهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ إلَى الْإِمَامِ , وَلَيْسَ لِغَيْرِ مَنْ أَسَرَهُ قَتْلُهُ , لِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا يَتَعَاطَى أَحَدُكُمْ أَسِيرَ صَاحِبِهِ فَيَقْتُلَهُ } . فَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَالْحَنَفِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَهَا , فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ قِيمَةٍ , لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ , إذْ لِلْإِمَامِ فِيهِ خِيَرَةُ الْقَتْلِ , وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مَكْرُوهٌ , وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ , أَوْ بَعْدَ الْبَيْعِ فَيُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الْقَتْلِ , لِأَنَّ دَمَهُ صَارَ مَعْصُومًا , فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقَتْلِ , إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ . وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ هُوَ الْآسِرُ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا يُفِيدُهُ الْإِطْلَاقُ . وَالْمَالِكِيَّةُ يَتَّجِهُونَ وُجْهَةَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ نَاحِيَةِ الضَّمَانِ , غَيْرَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا التَّفْرِقَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ فِي الْمَغْنَمِ , أَوْ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَغْنَمًا , وَيَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ مَنْ نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ , فَإِنْ قَتَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ فِي الْمَغْنَمِ فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ , وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَغْنَمًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ . وَالشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا يُلْزِمُونَ الْقَاتِلَ بِالضَّمَانِ , فَإِذَا كَانَ بَعْدَ اخْتِيَارِ رِقِّهِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ , وَكَانَ فِي الْغَنِيمَةِ . وَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْمَنِّ عَلَيْهِ لَزِمَهُ دِيَتُهُ لِوَرَثَتِهِ . وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ الْفِدَاءِ فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ غُنَيْمَةً , إنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ الْإِمَامُ الْفِدَاءَ , وَإِلَّا فَدِيَتُهُ لِوَرَثَتِهِ . وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ اخْتِيَارِ الْإِمَامِ قَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ عُزِّرَ . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : إنْ قَتَلَ أَسِيرَهُ أَوْ أَسِيرَ غَيْرِهِ قَبْلَ الذَّهَابِ لِلْإِمَامِ أَسَاءَ , وَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ .
مُعَامَلَةُ الْأَسِيرِ قَبْلَ نَقْلِهِ لِدَارِ الْإِسْلَامِ :
13 - مَبَادِئُ الْإِسْلَامِ تَدْعُو إلَى الرِّفْقِ بِالْأَسْرَى , وَتَوْفِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكِسَاءِ لَهُمْ , وَاحْتِرَامِ آدَمِيَّتِهِمْ , لقوله تعالى { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكَيْنَا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } , وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي أَسْرَى بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَمَا احْتَرَقَ النَّهَارُ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ : { أَحْسِنُوا أُسَارَاهُمْ . وَقَيِّلُوهُمْ , وَاسْقُوهُمْ } وَقَالَ : { لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ هَذَا الْيَوْمِ وَحَرَّ السِّلَاحِ . . . } وَقَالَ الْفُقَهَاءُ : إنْ رَأَى الْإِمَامُ قَتْلَ الْأُسَارَى فَيَنْبَغِي لَهُ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ بِالْعَطَشِ وَالْجُوعِ , وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُهُمْ قَتْلًا كَرِيمًا . وَيَجُوزُ حَبْسُ الْأَسْرَى فِي أَيِّ مَكَان , لِيُؤْمَنَ مَنْعُهُمْ مِنْ الْفِرَارِ , فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ { الرَّسُولَ حَبَسَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ }
التَّصَرُّفُ فِي الْأَسْرَى قَبْلَ نَقْلِهِمْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ :
14 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فِي الْغَنَائِمِ - وَمِنْهَا الْأَسْرَى فِي دَارِ الْحَرْبِ - وَقَبْلَ نَقْلِهِمْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ . قَالَ مَالِكٌ : الشَّأْنُ أَنْ تُقْسَمَ الْغَنَائِمُ وَتُبَاعَ بِبَلَدِ الْحَرْبِ , وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَالْخُلَفَاءَ لَمْ يَقْسِمُوا غُنَيْمَةً قَطُّ إلَّا فِي دَارِ الشِّرْكِ , قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ الْمُصْطَلِقِ , فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ , فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ , وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ , فَأَرَدْنَا الْعَزْلَ وَقُلْنَا : نَعْزِلُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ , فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا , مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ } فَإِنَّ سُؤَالَهُمْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْعَزْلِ فِي وَطْءِ السَّبَايَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ قَدْ تَمَّتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْجِيلِ مَسَرَّةِ الْغَانِمِينَ وَغَيْظِ الْكَافِرِينَ , وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ لِبَلَدِ الْإِسْلَامِ , وَهَذَا إذَا كَانَ الْغَانِمُونَ جَيْشًا وَأَمِنُوا مِنْ كَرِّ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ . وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ لِلْغَانِمَيْنِ التَّمَلُّكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَفْظًا , بِأَنْ يَقُولَ كُلٌّ بَعْدَ الْحِيَازَةِ , وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ : اخْتَرْت مِلْكَ نَصِيبِي , فَتَمَلَّكَ بِذَلِكَ . وَقِيلَ : يَمْلِكُونَ بِمُجَرَّدِ الْحِيَازَةِ , لِزَوَالِ مِلْكِ الْكُفَّارِ بِالِاسْتِيلَاءِ . وَقِيلَ : الْمِلْكُ مَوْقُوفٌ . وَالْمُرَادُ عِنْدَ مَنْ قَالَ يَمْلِكُونَ بِمُجَرَّدِ الْحِيَازَةِ : الِاخْتِصَاصُ , أَيْ يَخْتَصِمُونَ . وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِجَوَازِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي ثَوْرٍ لِفِعْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ . 15 - وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تُقْسَمُ الْغَنَائِمُ إلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتِمُّ عَلَيْهَا إلَّا بِالِاسْتِيلَاءِ التَّامِّ , وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِحْرَازِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحَقِّ الْقَهْرُ , وَهُوَ مَوْجُودٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ , لِأَنَّهُمْ قَاهِرُونَ يَدًا مَقْهُورُونَ دَارًا , فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْسِمَ الْغَنَائِمَ - وَمِنْهَا الْأَسْرَى - أَوْ يَبِيعَهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , خَشْيَةَ تَقْلِيلِ الرَّغْبَةِ فِي لُحُوقِ الْمَدَدِ بِالْجَيْشِ , وَتَعَرُّضِ الْمُسْلِمِينَ لِوُقُوعِ الدَّبَرَةِ عَلَيْهِمْ , بِأَنْ يَتَفَرَّقُوا وَيَسْتَقِلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَمْلِ نَصِيبِهِ . وَمَعَ هَذَا فَقَالُوا : وَإِنْ قَسَمَ الْإِمَامُ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ , لِأَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُخْتَلَفًا فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ { الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ قِسْمَةَ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ حَتَّى انْصَرَفَ إلَى الْجِعْرَانَةِ } .(52/496)
حُكْمُ الْإِمَامِ فِي الْأَسْرَى :
17 - يَرْجِعُ الْأَمْرُ فِي أَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ إلَى الْإِمَامِ , أَوْ مَنْ يُنِيبُهُ عَنْهُ . وَجَعَلَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مَصَائِرَ الْأَسْرَى بَعْدَ ذَلِكَ , وَقَبْلَ إجْرَاءِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ , فِي أَحَدِ أُمُورٍ : فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ فِي الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ مِنْ أَسْرَى الْكُفَّارِ , بَيْنَ قَتْلِهِمْ , أَوْ اسْتِرْقَاقِهِمْ , أَوْ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ , أَوْ مُفَادَاتِهِمْ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَصَرُوا التَّخْيِيرَ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ فَقَطْ : الْقَتْلِ , وَالِاسْتِرْقَاقِ , وَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِجَعْلِهِمْ أَهْلَ ذِمَّةٍ عَلَى الْجِزْيَةِ , وَلَمْ يُجِيزُوا الْمَنَّ عَلَيْهِمْ دُونَ قَيْدٍ , وَلَا الْفِدَاءَ بِالْمَالِ إلَّا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ , أَوْ إذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِحَاجَةٍ لِلْمَالِ . وَأَمَّا مُفَادَاتُهُمْ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فَمَوْضِعُ خِلَافٍ عِنْدَهُمْ . وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُخَيَّرُ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ : فَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ , وَإِمَّا أَنْ يَسْتَرِقَّ , وَإِمَّا أَنْ يُعْتِقَ , وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ فِيهِ الْفِدَاءَ , وَإِمَّا أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِ الذِّمَّةَ وَيَضْرِبَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ , وَالْإِمَامُ مُقَيَّدٌ فِي اخْتِيَارِهِ بِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةَ الْجَمَاعَةِ . 18 - وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي السَّبَايَا مِنْ النِّسَاءِ وَالصَّبِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ . فَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلدَّرْدِيرِ : وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ فَلَيْسَ فِيهِمْ إلَّا الِاسْتِرْقَاقُ أَوْ الْفِدَاءُ . وَتَفْصِيلُهُ فِي ( سَبْيٌ ) . كَمَا يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ الْحَرْبِيَّ الَّذِي أَعْلَنَ إسْلَامَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ , لَا يَحِقُّ لِلْإِمَامِ قَتْلُهُ , لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَاصِمٌ لِدَمِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي . 19 - وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ : إنْ خَفِيَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ أَمِيرِ الْجَيْشِ الْأَحُظُّ حَبَسَهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ , لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الِاجْتِهَادِ , وَيُصَرِّحُ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّ هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , إذَا لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ تَأْمِينٌ لَهُمْ . 20 - وَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْأَسِيرِ , وَحَكَى الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ أَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ . وَالسَّبَبُ فِي الِاخْتِلَافِ تَعَارُضُ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى , وَتَعَارُضُ الْأَفْعَالِ , وَمُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ لِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام , لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ بَعْدَ الْأَسْرِ إلَّا الْمَنُّ أَوْ الْفِدَاءُ . وقوله تعالى { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } وَالسَّبَبُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ أَفْضَلُ مِنْ الِاسْتِبْقَاءِ . وَأَمَّا فِعْلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم : فَقَدْ قَتَلَ الْأَسَارَى فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ , فَمِنْ رَأَى أَنَّ الْآيَةَ الْخَاصَّةَ بِالْأَسَارَى نَاسِخَةٌ لِفِعْلِهِ قَالَ : لَا يَقْتُلُ الْأَسِيرُ , وَمِنْ رَأَى أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِقَتْلِ الْأَسِيرِ وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا حَصْرُ مَا يُفْعَلُ بِالْأَسَارَى قَالَ بِجَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ .
الْفِدَاءُ بِالْمَالِ :
23 - الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ , وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ , وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ فِي غَيْرِ رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ : جَوَازُ فِدَاءِ أَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ الَّذِينَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْإِمَامِ فِيهِمْ بِالْمَالِ . غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُجِيزُونَهُ بِمَالٍ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْأَسِيرِ , وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - كَمَا نَقَلَ السَّرَخْسِيُّ عَنْ السِّيَرِ الْكَبِيرِ - تَقْيِيدَ ذَلِكَ بِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْمَالِ , وَقَيْد الْكَاسَانِيُّ هَذَا بِمَا إذَا كَانَ الْأَسِيرُ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يُرْجَى لَهُ وَلَدٌ . وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِالْمَالِ دُونَ قَيْدٍ , وَلَوْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ حَاجَةٌ لِلْمَالِ , وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْدِيَ الْأَسْرَى بِالْمَالِ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ , سَوَاءٌ , أَكَانَ مِنْ مَالِهِمْ أَمْ مِنْ مَالِنَا الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ , وَأَنْ نَفْدِيَهُمْ بِأَسْلِحَتِنَا الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ . أَمَّا أَسْلِحَتُهُمْ الَّتِي بِأَيْدِينَا فَفِي جَوَازِ مُفَادَاةِ أَسَرَانَا بِهَا وَجْهَانِ , أَوْجَهُهُمَا عِنْدَهُمْ الْجَوَازُ . وَاسْتَدَلَّ الْمُجِيزُونَ بِظَاهِرِ قوله تعالى { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } , وَبِفِعْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم , فَقَدْ فَادَى أَسَارَى بَدْرٍ بِالْمَالِ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا , كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ , وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِهِ الْجَوَازُ وَالْإِبَاحَةُ . 24 - وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ , فِي غَيْرِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ عَدَمُ جَوَازِ الْفِدَاءِ بِمَالٍ . وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّ قَتْلَ الْأَسَارَى مَأْمُورٌ بِهِ , لقوله تعالى { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } وَأَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالِاسْتِرْقَاقِ , وقوله تعالى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ , فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا لِمَا شُرِعَ لَهُ الْقَتْلُ , وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ , وَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ بِالْمُفَادَاةِ بِالْمَالِ , كَمَا أَنَّ فِي ذَلِكَ إعَانَةً لِأَهْلِ الْحَرْبِ , لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى الْمَنَعَةِ , فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا , وَقَتْلُ الْمُشْرِكِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ فَرْضٌ مُحْكَمٌ , وَفِي الْمُفَادَاةِ تَرْكُ إقَامَةِ هَذَا الْفَرْضِ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَسِيرِ : لَا تُفَادُوهُ وَإِنْ أُعْطِيتُمْ بِهِ مُدَّيْنِ مِنْ ذَهَبٍ " وَلِأَنَّهُ صَارَ بِالْأَسْرِ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا , فَلَا يَجُوزُ إعَادَتُهُ لِدَارِ الْحَرْبِ , لِيَكُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا , وَفِي هَذَا مَعْصِيَةٌ , وَارْتِكَابُ الْمَعْصِيَةِ لِمَنْفَعَةِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ , وَلَوْ أَعْطَوْنَا مَالًا لِتَرْكِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْحَاجَةِ , فَكَذَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ قَتْلِ الْمُشْرِكِ بِالْمُفَادَاةِ . وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لِلْإِمَامِ حَقَّ الْمُفَادَاةِ بِالْمَالِ , فَإِنَّ هَذَا الْمَالَ يَكُونُ لِلْغَانِمِينَ , وَلَيْسَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُسْقِطَ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ الَّذِي يَفْرِضُهُ عَلَيْهِمْ مُقَابِلَ الْفِدَاءِ إلَّا بِرِضَى الْغَانِمِينَ .(52/496)
فِدَاءُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِأَسْرَى الْأَعْدَاءِ :
25 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ , وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ , وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى جَوَازِ تَبَادُلِ الْأَسْرَى , مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ { أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ } وَقَوْلِهِ { إنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي فَيْئِهِمْ أَنْ يُفَادُوا أَسِيرَهُمْ , وَيُؤَدُّوا عَنْ غَارِمِهِمْ } { وَ فَادَى النَّبِيُّ رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالرَّجُلِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ بَنِي عَقِيلٍ } . { وَ فَادَى بِالْمَرْأَةِ الَّتِي , اسْتَوْهَبَهَا مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ أُسِرُوا بِمَكَّةَ } وَلِأَنَّ فِي الْمُفَادَاةِ تَخْلِيصُ الْمُسْلِمِ مِنْ عَذَابِ الْكُفَّارِ وَالْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ , وَإِنْقَاذُ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ إهْلَاكِ الْكَافِرِ . وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ الْمُفَادَاةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَهَا . أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ قَصَرَ جَوَازَ الْمُفَادَاةِ عَلَى مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ , لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَتَقَرَّرْ كَوْنُ أَسِيرِهِمْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَتَّى جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ , وَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَقَدْ تَقَرَّرَ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَتَّى لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ . أَيْ فَلَا يُعَادُ بِالْمُفَادَاةِ إلَى دَارِ الْكُفْرِ . وَلِأَنَّ فِي الْمُفَادَاةِ بَعْدَهَا إبْطَالُ مِلْكِ الْمَقْسُومِ لَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ . وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مِثْلِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا , وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَجَازَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جُوِّزَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ الْحَاجَةُ إلَى تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ مِنْ عَذَابِهِمْ , وَهَذَا مَوْجُودٌ بَعْدَ الْقِسْمَةِ , وَحَقُّ الْغَانِمِينَ فِي الِاسْتِرْقَاقِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ , وَقَدْ صَارَ الْأَسِيرُ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا , ثُمَّ تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ , فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ . وَقَدْ نَقَلَ الْحَطَّابُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ لَيْسَ فِيهِمْ إلَّا الِاسْتِرْقَاقُ , أَوْ الْمُفَادَاةُ بِالنُّفُوسِ دُونَ الْمَالِ . وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَهِيَ مَنْعُ مُفَادَاةِ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ , وَوَجْهُهُ : أَنَّ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ فَرْضٌ مُحْكَمٌ , فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْمُفَادَاةِ . 26 - وَلَوْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ لَا يُفَادَى بِهِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ , أَيْ لِأَنَّهُ فِدَاءُ مُسْلِمٍ بِمُسْلِمٍ , إلَّا إذَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَى إسْلَامِهِ : 27 - وَيَجُوزُ مُفَادَاةُ الْأَكْثَرِ بِالْأَقَلِّ وَالْعَكْسُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ , وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ , لَكِنْ فِي كُتُبِهِمْ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ , لِاسْتِدْلَالِهِمْ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى لَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْ أَسَرَانَا , وَيُؤْخَذُ بَدَلَهُ أَسِيرَانِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ .
********************
ومن هذه النقول يتبين لنا الخطأ الفاحش الذي وقع فيه الدكتور وغيره في هذه المسألة وسنفرد أحكام الأسرى ببحث خاص إن شاء الله تعالى
وأما المثلة فهي موضع خلاف ففي الموسوعة الفقهية :
المثلة بالعدوّ :
4 - قال الفقهاء : يحرم التّمثيل بالكفّار بقطع أطرافهم وقلع أعينهم وبقر بطونهم بعد القدرة عليهم , أمّا قبل القدرة فلا بأس به .
ونصّ المالكيّة على أنّ الكفّار إن مثّلوا بمسلم مثّل بهم كذلك معاملةً بالمثل .
وقال الحنابلة : يكره المثلة بقتل الكفّار وتعذيبهم , لما روى سمرة بن جندبٍ رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحثنا على الصّدقة وينهانا عن المثلة » .
حمل رأس العدوّ :
5 - قال الشّافعيّة والحنابلة : يكره حمل رأس الكافر العدوّ لما روى عقبة بن عامرٍ قال : إنّ عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة بعثا بريداً إلى أبي بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه برأس يناق بطريق الشّام فلمّا قدم على أبي بكرٍ رضي الله عنه أنكر ذلك فقال له عقبة : يا خليفة رسول اللّه : فإنّهم يصنعون ذلك ، فقال : أفاستنان بفارس والروم ؟ لا يحمل إليّ رأس فإنّما يكفي الكتاب والخبر .
ولحديث سمرة بن جندبٍ السّابق .
وقال المالكيّة : يحرم حمل رأس كافرٍ عدوٍّ من بلد قتله إلى بلدٍ آخر , أو لأمير جيشٍ في بلد القتال .
واعتبروا ذلك مثلةً .
وقال الحنفيّة : لا بأس بحمل رأس المشرك إذا كان في ذلك غيظهم : بأن كان المشرك من عظمائهم .
وقالوا : وقد حمل ابن مسعودٍ يوم بدرٍ رأس أبي جهلٍ وألقاه بين يديه عليه الصلاة والسلام .
**************(52/496)
فالمجاهدون بفضل الله تعالى ما خرجوا في تصرفاتهم عن نصوص الشريعة ، وإنما خرج عنها من يحسن التبرير ويفلسف الهزيمة
وهم إنما يقتلون المخطوف إذا اقتضى الأمر بقطع رأسه وهذا مشروع بلا خلاف كما هو معلوم
***************
وأما قتلهم أمام شاشات التفلزة فهل هو جائز أم حرام ؟؟؟
الصواب من القول :
إنه جائز بل قد يكون في بعض الحالات واجبا إذا كان فيه نكاية بالعدو أو تخويف أو ردع
ولذلك فقد أمر الله تعالى بعلنية العقوبة على جريمة الزنا وغيرها من جرائم ليرتدع الناس عن ارتكاب مثلها وهي أبلغ في الأثير قطعا
قال تعالى :
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) سورة النور
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :
« لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ ». أخرجه أحمد وغيره
وفي الموسوعة الفقهية :
إقَامَةُ الْحُدُودِ فِي مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ :
51 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ فِي مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ , لقوله تعالى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي حَدِّ الزِّنَى لَكِنَّهُ يَشْمَلُ سَائِرَ الْحُدُودِ دَلَالَةً , لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحُدُودِ كُلِّهَا وَاحِدٌ , وَهُوَ زَجْرُ الْعَامَّةِ , وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْإِقَامَةُ عَلَى رَأْسِ الْعَامَّةِ , لِأَنَّ الْحُضُورَ يَنْزَجِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِالْمُعَايَنَةِ , وَالْغُيَّبَ يَنْزَجِرُونَ بِإِخْبَارِ الْحُضُورِ , فَيَحْصُلُ الزَّجْرُ لِلْكُلِّ , وَفِيهِ مَنْعُ الْجَلَّادِ مِنْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ الَّذِي جُعِلَ لَهُ , وَدَفْعُ التُّهْمَةِ وَالْمَيْلِ . وَفِي الْمُرَادِ بِالطَّائِفَةِ فِي الْآيَةِ خِلَافٌ قِيلَ : الطَّائِفَةُ أَقَلُّهَا وَاحِدٌ , وَقِيلَ : اثْنَانِ , وَقِيلَ : ثَلَاثَةٌ , وَقِيلَ : أَرْبَعَةٌ , وَقِيلَ : خَمْسَةٌ , وَقِيلَ : عَشَرَةٌ , وَقِيلَ : نَفَرٌ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ الْقَائِلِينَ بِهَا وَأَدِلَّتُهُمْ فِي ( زِنًى ) .
****************
ومن ثم فقد لاحظنا كيف آتت هذه الأعمال الجليلة التي قامت بها المقاومة الإسلامية في العراق بإخراج كثير من القوات الغازية لهذا السبب وحفاظا على رعاياها
فأكرم به من سلاح فعال وتكاليفه قليلة جدا
**************
وأما عن قوله وأنا رأيت يعني أحد الأخوة ممّن يمثلون هيئة علماء المسلمين وقد عقد مؤتمرا صحفيا وناشد مختطفي الرهينتين الفرنسيين ناشدهم أن يُفرجوا عنهما وكان هذا المؤتمر مذاعا في قناة الجزيرة
قلت :
ما يدرينا أنه من هيئة علماء المسلمين ؟؟
وهل هو يعرف عن الرهينتين الفرنسيين ما لا يعرفه المجاهدون ؟؟!!!
ولا أظن واحدا من العلماء الذين يخافون الله واليوم الآخر يسارع فينكر على المجاهدين ما فعلوه دون تثبت منه ، بل يناقشهم وليس على شاشة الجزيرة ، فالذي يعقد مؤترا صحفيا وعلى شاشات التلفزة يناشد فيه الخاطفين بالإفراج عن الفرنسيين ما هو من علماء المسلمين ، بل من علماء الشياطين في حقيقة الأمر ولو تزيا بزي العلماء وفي سنن الترمذي عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ ». قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ يَخْذُلُهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ ». قَالَ أَبُو عِيسَى وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
***************
وقال الأخ الفاضل محمد عياش الكبيسي موضحا :
أولا أن المقاومة الإسلامية الشرعية هناك قد تقوم بحجز بعض الأشخاص لكن ليس بغرض قتلهم وإنما لغرض التحقيق ترد معلومات أن هؤلاء من الممكن أن يعملوا لصالح الاحتلال فتخطفهم لهذا الغرض ثم تبدأ بالتحقيق معهم ولم أعلم أن أسيرا واحد أفرج عنه فيما بعد شكا من سوء المعاملة على خلال ما تعمله قوات الاحتلال مع أسرانا حيث رأيت ما فعله في ما فعلوه في.
لاختطاف أولا يجري من أجل التحقيق ثم بعد ذلك لما يتبين أن هؤلاء فعلا أبرياء أو من خلال مثلا مناشدة هيئة العلماء لتوضيح بعض الأمور التي تلتبس على المقاومين كأن تكون مطالب مثلا غير شرعية أو تكون تهم لا تصل إلى حد التهديد بالقتل فنراهم يبادرون ويسارعون إلى الالتزام بالموقف الشرعي فليس كل عملية احتجاز هي اختطاف حقيقي وإنما هنالك تهمة أو هنالك مؤشرات وهم يُحبون أن يتأكدوا من هذه القضية، الأمر الثاني شيخي الكريم أنه بعض الأحيان سادتنا العلماء في الخارج يختلط كلامهم علينا في الداخل هل هم يتكلمون عن فتاوى عامة أو عن حكم تفصيلي حينما مثلا كنا نسمع عن ضرورة إطلاق سراح الباكستانيين إذا تذكر شيخي الكريم لأنهما من دولة مسلمة وباكستان لم تشارك في العدوان على العراق وأنهما أبرياء وجاءا يعملان من أجل إعالة أسرتيهما فيما بعد أعدما ثم أصدرت المقاومة شريطا أنا رأيته وعُرِض على بعض الفضائيات اعتراف الباكستانيين بالوثائق بأنهما كانا يعملان لصالح قوات الاحتلال وأظهر المقاومون صورة تجمع الباكستانيين بنائب القائد العام للقوات الأميركية في العراق جون كميت فما علاقة الشخصين السائقين أو الكذا الذين أظهر بهذا الشكل في وسائل الإعلام بجون كميت هنالك أيضا أحد الناس المخطوفين من دولة عربية مع الأسف الشديد أيضا متعاطفة مع العراق ولم تساهم بالعدوان في العراق لكن المقاومة سجَّلت له اعتراف بصوته أنه ألقى خمسة وعشرين قرص عاكس للطائرات الأميركية من أجل أن تستهدف هذه المواقع وكثير من المساجد والأماكن قصفت من قبل الطائرات الأميركية عن طريق إلقاء هذه الأقراص، النيباليون على سبيل المثال الكل هناك يعرف ما هو دور النيباليين مع الأسف الشديد النبيباليون أغلبهم يعملون في حراسة التحركات الأميركية بين المناطق وبين المعسكرات داخل العراق مع أنهم يدخلون بصفة عمال في شركات، معينة شيخي الكريم هنالك بعض الأعمال تحدث في العراق لا علاقة لها بالمقامة الإسلامية الوطنية لا من قريب ولا من بعيد بل تصدر بيانات من المقاومات ومن شهود العيان أن هذه الأعمال قام بها الاحتلال نفسه 0000
****************
وما ذكره الأخ الفاضل محمد عياش الكبيسي فهو صفعة للرد على جميع فقهاء الهزيمة والفقهاء الذين يتهمون المجاهدين بغير حق
***************(52/496)
وأمام هذا الواقع الصحيح للمقاومة ما كان من الدكتور القرضاوي هدانا الله وإياه للحق إلا أن قال :
وأنا قلت في هذا البرنامج من قديم أنه من ثبت أنه جاسوس فهذا يعني قتله مشروع بالإجماع يعني مادام الأخوة يحققون ويثبتون أن الشخص بيعمل لمصلحة المحتل وبيبعث له قرص مشع أو عاكس أو كذا ويترتب عليه ما يترتب عليه أو أنه التقى بالقائد وبيعمل هذا لا شك الجاسوس سواء كان حتى ولو كان مسلما
وقال أيضا :
أنا بقول إذا ثبت يعني عليهم جريمة توجب قتلهم مثل جريمة التجسس يعني هذه جريمة ضخمة حتى قلت أن المسلم لو ثبت عليه التجسس يعني يُقتل أن هذه من أخطر الأشياء إنما فيه أشياء أخرى تجعله ضمن الأسرى الذين يمكن أن يُمَن عليهم أو يفادون ادفعوا مبلغ وإحنا نفك أسرهم وهكذا يجب نحن أصحاب مبادئ
وقالت خديجة بن قنة: لكن ماذا لو كانت التهمة أدنى من التجسس بمعنى أنه مثلا مَن يحمل مؤن وبضائع كسائقي الشاحنات مثلا الذين يحملون..
يوسف القرضاوي: سائقي الشاحنات دول يعني يعين العدو يقدم إليه المدد التمويني أو الغذائي كون هذه الشاحنات حاملات غذاء حاملات وقود حاملات أسلحة حاملات إمدادات عسكرية ومادية وكل ده تعين العدو في حربه العدوانية.
*********************
قلت :
والله يا سيدي الكريم المقاومة لم تخرج عن هذا الإطار ، ولم يفعل المجاهدون بفضل الله تعالى شيئا يخالف الشرع فهم من أجل الشرع خرجوا
ولكن هناك فرق كبير بين من يعمل في الميدان ويواجه الموت في أية لحظة وبين من يتفرج عليهم وهو متكئ على أريكته بسلام ووئام
***************
وعاد القرضاوي فناقض نفسه بنفسه فقال :
وإذا كان بعض الأخوة يقول واحد ما يفتيش إلا بعد علم هذا ما نقوم به نحن في المبادئ الأساسية والأصول ما تحتاجش أننا نشوف الواقع إيه إنما لما ندخل في التفصيلات أشوف إيه الرهينتين الفرنسيتين ما أقولش يفرجوا عنهم إلا إذا عرفنا من هم يعني فلذلك قلنا افرجوا عن هذين لأننا عرفنا من تاريخنا أنهم متعاطفون أنهم لا يقومان بعمل من أعمال الحرب ويقومان بتغطية أخبار ما يجري في العراق وهذا أمر نحرص عليه ويهمنا فهذا هو موقفنا.
***************
فيقال له :
المثبت حجة على النافي فالمقاومة عندها أدلة حسية مادية غير الذي سمعتم فلو قال الدكتور القرضاوي حفظه الله :
إذا لم يثبت على الرهينتين الفرنسيتين شيء فافرجوا عنهما لقلنا له :
ونحن معك في هذا ، ولكنك ناقضت نفسك دون أن تدري
*****************
وقالت خديجة بن قنة: هناك أيضا فاكس من أحمد الدوسري من الرياض يقول الإعلام أيضا كان له دور في ترويج ظاهرة الاختطاف والذبح لأن الأثر الإعلامي لترويج ظاهرة الاختطاف عبر التليفزيونات ووسائل الإعلام كان لصالح الجماعات التي تقوم بخطف الرهائن فهل يجب عرض هذه الصور هل يجوز شرعا الترويج إعلاميا لهذه العمليات لأنه لو لم تكن هناك كاميرات تصوِّر وتروِّج لهذه العمليات لما حدثت.
يوسف القرضاوي: والله هو ليس الأمر كما يظن أحيانا تحدث عكسا الإنسان يشوف الواحد وهو بيذبح أو كذا هذا ليس دعاية بل بالعكس هذا يسيء إلى المختطفين وإلى الصورة الإسلامية فيعني أحيانا يكون مطلوبا من الإعلام لازم يُظهر الحقائق للناس أحيانا تكون الصورة بشعة فلا داعي لمثل هذه الصور البشعة لأنها تؤذي مشاعر الخلق هناك قدر متفق عليه يعني تحكمه الآداب ويحكمه الذوق العام في هذه القضايا.
***************
قلت : أولا المتصل يظهر أنه أحد المنافقين أو العلمانيين الخبثاء
وأما رد الدكتور القرضاوي فهو رد باهت ومتناقض ، وقد بينا من قبل أن هذا موضع إجماع أعني العلنية في العقوبة ولكن من يعيش في ظل فكر الهزيمة والانبطاح والتبرير والعافية ينسى حتى النصوص المحكمة من الكتاب والسنة فنسأل الله تعالى العفو والعافية(52/496)
وأما قول المتصل عبد الكريم الوشلي: طبعا سماحة الشيخ القرضاوي نحن ندين اختطاف المدنيين تحت أي ظرف وتحت أي مبرر ونستنكر عمليات قتل المدنيين والأبرياء سواء كان القاتل عربيا أو إسرائيليا أو أميركيا وسواء كان قتلا فرديا أو جماعيا نحن ندينه طبعا000
*************
فهذا مخالف للقرآن والسنة وإجماع الأمة فلا يحتاج لرده لأنه خارج عن إطار الإسلام ، فأدنْ أيها الذي باع دينه بثمن بخس ما شئت لأنك تخلط حقا بباطل ، وخيرا بشر
***************
وأما وصيته الأخيرة للدكتور القرضاوي :
فنحن نقول بأنه يا سماحة الشيخ نريد أن يجتمع علماء المسلمون في جميع إنحاء العالم وتكونوا أنتم أصحاب المبادرة لكي يتم الاتفاق على مفهوم الجهاد وأحكام تبعيته هل ما يحصل في العراق هو شرعيا أم غير شرعيا هل اختطاف المدنيين شرعي أم غير شرعي هل أعمال التفجيرات التي تجري في العراق هي نفس أحكامها هي التي تجري في فلسطين أم لا نريد اجتماعا لكي يصدر منكم قرارا جماعيا عن أحكام الجهاد وتبعيته شكرا لك سماحة الشيخ.
*****************
فنقول له :
انتظر حتى تقوم دولة الإسلام وتربي الناس التربية الإسلامية الصحيحة ، كل ما تطرحه قد نص عليه الفقهاء وله نصوصه المحكمة أيها الجاهل بدينك وقيمك ، فلسنا بحاجة إلى علماء الهزيمة ليفتونا في ذلك فالذي يفتي ويحق له ذلك من يعمل في الميدان من يجاهد في سبيل الله فقط وليس القاعد الخامل الجبان الذي يخاف على وظيفته أو راتبه أو دنياه أو حياته
حتى البدهيات صارت من الأمور المتنازع فيها كل ذلك بسبب فقهاء الهزيمة وما أشاعوه بين الناس من تضليل حول الجهاد في سبيل الله إرضاء لطغاة العرب والعجم
****************
وقال الدكتور يوسف القرضاوي ردا على قول المتصل عبد الكريم الوشلي :
أولا أنا أحب أن أعلق على ما قاله الأخ عبد الكريم يعني وقضية الجهاد يعني قد يختلف الناس في جهاد الطلب يعني جهاد الفتح إنما الشيء الذي لا يختلف الناس فيه أبدا هو جهاد المقاومة مقاومة الغازي المحتل لأرض الإسلام هذا لا خلاف فيه إطلاقا سواء كان هذا المحتل سوفيتيا أو أميركيا لماذا يعني نقاوم المحتل إذا كان روسي ولا نقاوم المحتل إذا كان أميركي وكلاهما أحتل أرضنا بغير شرعية لا دولية ولا غير دولية فهذا أمر يعني لا خلاف عليه، قضية أنه اختطاف المدنيين والأشياء اللي زي كده هو الخلاف هنا ليس شرعيا الحقيقة الخلاف هو في التكييف للواقع يعني هل هؤلاء المختطفون مدنيون أو ليسوا مدنيين إحنا الحكم الشرعي أن المدني الحقيقي لا يُختطف ولا يُحتجز إنما هل هذا الشخص مدني أو غير مدني، أخوانا بيقولك أنهم يحققوا معهم ويجدون أن هؤلاء أعوان مهمين جدا للمحتل يتجسسون له أو يعملون لحسابه فهذا يعني الأمر واضح ليس لا يحتاج إلى إننا نجمع علماء المسلمين، نتمنى أن يجتمع علماء المسلمين هناك علماء المسلمين في العراق اجتمعوا واصدروا قرارا وهم في هذا يعني كفاه لهذا الأمر يكفي أن يجتمع العلماء الأمة في بلد ويقرروا أمرا فيؤخذ به.
****************(52/496)
وكلامه هنا طيب ورائع وحق إلا في بدايته حيث يقول :
يعني قد يختلف الناس في جهاد الطلب يعني جهاد الفتح
قلت :
هذا غير صحيح فجهاد الطلب مجمع عليه يا فقيه العصر فأنت تتكلم باسم من ؟؟؟
إن كان باسم العلماء الذين تربوا في ظل هذا الواقع المر والأليم فهؤلاء لا قيمة لقولهم بتاتا ولا سميا إذا خالفوا إجماع المسلمين
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد :
فصل في ترتيب هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عزَّ وجلَّ " : ( أول ما أوحى به تبارك وتعالى ، أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ، وذلك أولى نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه " فأنذر " فنبأه بقوله : " اقرأ " وأرسله بـ : " يا أيها المدثر " ، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين ، ثم أنذر قومه ، ثم أنذر من حولهم من العرب ، ثم أنذر العرب قاطبة ، ثم أنذر العالمين . فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ، ويؤمر بالكف والصبر والصفح . ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال . ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله ، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله .. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة .. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفى لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد ، وأمر أن يقاتل من نقض عهده .. ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها : فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، أو يدخلوا في الإسلام ، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم فجاهد الكفار بالسيف والسنان . والمنافقين بالحجة واللسان ، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم .. وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسماً أمره بقتالهم ، وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم . وقسماً لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم . وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه ، أو كان لهم عهد مطلق ، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر ، فإذا انسلخت قاتلهم .. فقتل الناقض لعهده ، وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق ، أربعة أشهر ، وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته ، فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم . وضرب على أهل الذمة الجزية .. فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة .. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة . والمحاربون له خائفون منه ، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن ، وخائف محارب .. وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ، ويكل سرائرهم إلى الله ، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ، وأمر أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهى أن يصلى عليهم ، وأن يقوم على قبورهم ، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم .. فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين ) ..
وهذا الذي ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله موضع إجماع(52/496)
وفي الموسوعة الفقهية :
تَدَرُّجُ مَشْرُوعِيَّةِ الْجِهَادِ :
5 - الْجِهَادُ مَشْرُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ , لقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ , وَلِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمْرِهِ بِهِ وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ : { مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ , وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ } . وَقَدْ كَانَ الْجِهَادُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الْهِجْرَةِ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ ; لِأَنَّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ الْأَمْرِ هُوَ التَّبْلِيغُ وَالْإِنْذَارُ , وَالصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ , وَالصَّفْحُ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْمُشْرِكِينَ , وَبَدَأَ الْأَمْرَ بِالدَّعْوَةِ سِرًّا ثُمَّ جَهْرًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } وَقَالَ أَيْضًا : { اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّك بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَقَالَ أَيْضًا : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ } ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ إذَا ابْتَدَأَهُمْ الْكُفَّارُ بِالْقِتَالِ , وَكَانَ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ . وَذَلِكَ فِي قوله تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } . ثُمَّ شَرَعَ اللَّهُ الِابْتِدَاءَ بِالْقِتَالِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } وَقَوْلِهِ : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } وَتُسَمَّى هَذِهِ آيَةُ السَّيْفِ , وَقِيلَ : هِيَ قوله تعالى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ } . وَالْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُتْرَكَ الْجِهَادُ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً عَلَى الْأَقَلِّ . وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يُوَجِّهَ الْإِمَامُ كُلَّ سَنَةٍ طَائِفَةً , وَيَزُجَّ بِنَفْسِهِ مَعَهَا أَوْ يُخْرِجَ بَدَلَهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ ; لِيَدْعُوَ الْكُفَّارَ لِلْإِسْلَامِ , وَيُرَغِّبَهُمْ فِيهِ , ثُمَّ يُقَاتِلَهُمْ إذَا أَبَوْا ; لِأَنَّ فِي تَعْطِيلِهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ مَا يُطَمِّعُ الْعَدُوَّ فِي الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ فِي السَّنَةِ إلَى أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ وَجَبَ ; لِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فَوَجَبَ مِنْهُ مَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ , فَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَأْخِيرِهِ لِضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ قِلَّةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي قِتَالِهِمْ مِنْ الْعُدَّةِ , أَوْ الْمَدَدِ الَّذِي يَسْتَعِينُ بِهِ , أَوْ يَكُونُ الطَّرِيقُ إلَيْهِمْ فِيهَا مَانِعٌ , أَوْ لَيْسَ هُنَا مُؤَنٌ , أَوْ لِلطَّمَعِ فِي إسْلَامِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ , جَازَ تَأْخِيرُهُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ قُرَيْشًا عَشْرَ سِنِينَ , وَأَخَّرَ قِتَالَهُمْ حَتَّى نَقَضُوا الْهُدْنَةَ , وَأَخَّرَ قِتَالَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْقَبَائِلِ بِغَيْرِ هُدْنَةٍ ; وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُرْجَى مِنْ النَّفْعِ بِتَأْخِيرِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُرْجَى مِنْ النَّفْعِ بِتَقْدِيمِهِ وَجَبَ تَأْخِيرُهُ . فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَدْعُو إلَى تَأْخِيرِ الْجِهَادِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْهُ ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْت أَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا , ثُمَّ أُقْتَلَ ثُمَّ أُحْيَا , ثُمَّ أُقْتَلَ } . وَرُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَزَا سَبْعًا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً , وَبَعَثَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَرِيَّةً } .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْجِهَادِ :
7 - الْجِهَادُ فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ , وَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } , وقوله تعالى : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } , وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { الْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ } . وَالْمُرَادُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ فَرْضٌ بَاقٍ ; لِأَنَّ الْمُضِيَّ مَعْنَاهُ النَّفَاذُ , وَالنَّفَاذُ إنَّمَا هُوَ فِي الْفَرْضِ مِنْ الْأَحْكَامِ , فَإِنَّ النَّدْبَ وَالْإِبَاحَةَ لَا يَجِبُ فِيهِمَا الِامْتِثَالُ وَالنَّفَاذُ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ مَعَ الْخَوْفِ , وَنَافِلَةٌ مَعَ الْأَمْنِ .
8 - ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْفَرْضِيَّةِ :
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ كَسْرُ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ , وَإِعْزَازُ الدِّينِ . وَمَعْنَى الْكِفَايَةِ فِي الْجِهَادِ أَنْ يَنْهَضَ إلَيْهِ قَوْمٌ يَكْفُونَ فِي جِهَادِهِمْ , إمَّا أَنْ يَكُونُوا جُنْدًا لَهُمْ دَوَاوِينُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ , أَوْ يَكُونُوا أَعَدُّوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ تَطَوُّعًا بِحَيْثُ إذَا قَصَدَهُمْ الْعَدُوُّ حَصَلَتْ الْمَنَعَةُ بِهِمْ , وَيَكُونُ فِي الثُّغُورِ مَنْ يَدْفَعُ الْعَدُوَّ عَنْهَا , وَيَبْعَثُ فِي كُلِّ سَنَةٍ جَيْشًا يُغِيرُونَ عَلَى الْعَدُوِّ فِي بِلَادِهِمْ . وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ : مَا قُصِدَ حُصُولُهُ مِنْ غَيْرِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ , فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا وَاحِدٌ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ , كَرَدِّ السَّلَامِ , وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ . فَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ مَنْ يَكْفِي , أَثِمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلٍّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ } . وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى , وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ الْجِهَادَ مَا فُرِضَ لِعَيْنِهِ , وَإِنَّمَا فُرِضَ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ , وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْ الْعِبَادِ . وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَأْمَنَ الْمُسْلِمُونَ , وَيَتَمَكَّنُوا مِنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ . فَإِذَا اشْتَغَلَ الْكُلُّ بِالْجِهَادِ لَمْ يَتَفَرَّغُوا لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ . وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَارَةً يَخْرُجُ , وَتَارَةً يَبْعَثُ غَيْرَهُ , حَتَّى قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ , لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي , وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِمْ , مَا تَخَلَّفْت عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْدُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاعِدِينَ غَيْرُ آثِمِينَ مَعَ جِهَادِ غَيْرِهِمْ , فَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ كُلًّا الْحُسْنَى , وَالْعَاصِي لَا يُوعَدُ بِهَا , وَلَا تَفَاضُلَ بَيْنَ مَأْجُورٍ وَمَأْزُورٍ . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إلَى بَنِي لِحْيَانَ , وَقَالَ : لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ , ثُمَّ قَالَ لِلْقَاعِدِينَ : أَيُّكُمْ خَلَفَ الْخَارِجَ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِخَيْرٍ كَانَ لَهُ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ الْخَارِجِ } " . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : إنَّ الْجِهَادَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ . : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَقَوْلُهُ : { إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } . وَقَوْلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ , وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ , مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ } . وَأَنَّ الْقَاعِدِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْحُسْنَى كَانُوا حُرَّاسًا , أَيْ كَانُوا مِنْ هَذَيْنِ كَذَلِكَ .(52/496)
مَتَى يَصِيرُ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ ؟
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ يَصِيرُ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ فِي كُلٍّ مِنْ الْحَالَاتِ الْآتِيَةِ : أ - إذَا الْتَقَى الزَّحْفَانِ , وَتَقَابَلَ الصَّفَّانِ , حُرِّمَ عَلَى مَنْ حَضَرَ الِانْصِرَافُ , وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْمُقَامُ , لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } . . . إلَى قَوْلِهِ : { وَاصْبِرُوا , إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } . ب - إذَا هَجَمَ الْعَدُوُّ عَلَى قَوْمٍ بَغْتَةً , فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ الدَّفْعُ وَلَوْ كَانَ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا , أَوْ هَجَمَ عَلَى مَنْ بِقُرْبِهِمْ , وَلَيْسَ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى دَفْعِهِ , فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ كَانَ بِمَكَانٍ مُقَارِبٍ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ إنْ عَجَزَ مَنْ فَجَأَهُمْ الْعَدُوُّ عَنْ الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ , وَمَحَلُّ التَّعَيُّنِ عَلَى مَنْ بِقُرْبِهِمْ إنْ لَمْ يَخْشَوْا عَلَى نِسَائِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ مِنْ عَدُوٍّ بِتَشَاغُلِهِمْ بِمُعَاوَنَةِ مَنْ فَجَأَهُمْ الْعَدُوُّ , وَإِلَّا تَرَكُوا إعَانَتَهُمْ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُعْتَبَرُ مَنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مِنْ الْبَلْدَةِ كَأَهْلِهَا , وَمَنْ عَلَى الْمَسَافَةِ يَلْزَمُهُ الْمُوَافَقَةُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ إنْ لَمْ يَكْفِ أَهْلُهَا , وَمَنْ يَلِيهِمْ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَفْجَأْهُمْ الْعَدُوُّ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ , يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُقِلُّ مِنْهُمْ وَالْمُكْثِرُ . وَمَعْنَاهُ : أَنَّ النَّفِيرَ يَعُمُّ جَمِيعَ النَّاسِ مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ حِينَ الْحَاجَةِ لِمَجِيءِ الْعَدُوِّ إلَيْهِمْ , وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ التَّخَلُّفُ إلَّا مَنْ يَحْتَاجُ إلَى تَخَلُّفِهِ لِحِفْظِ الْمَكَانِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ , وَمَنْ يَمْنَعُهُ الْأَمِيرُ مِنْ الْخُرُوجِ , أَوْ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْخُرُوجِ أَوْ الْقِتَالِ . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ أَرَادُوا الرُّجُوعَ إلَى مَنَازِلِهِمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ فَقَالَ : { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إنْ يُرِيدُونَ إلَّا فِرَارًا } . ج - إذَا اسْتَنْفَرَ الْإِمَامُ قَوْمًا لَزِمَهُمْ النَّفِيرُ مَعَهُ إلَّا مَنْ لَهُ عُذْرٌ قَاطِعٌ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاع الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ , وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا } وَذَلِكَ لِأَنَّ أَمْرَ الْجِهَادِ مَوْكُولٌ إلَى الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ , وَيَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طَاعَتُهُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ . وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْجِهَادُ بِتَعْيِينِ الْإِمَامِ وَلَوْ لِصَبِيٍّ مُطِيقٍ لِلْقِتَالِ أَوْ امْرَأَةٍ , وَتَعْيِينُ الْإِمَامِ إلْجَاؤُهُ إلَيْهِ وَجَبْرُهُ عَلَيْهِ , كَمَا يَلْزَمُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ حَالِهِ , لَا بِمَعْنَى عِقَابِهِ عَلَى تَرْكِهِ , فَلَا يُقَالُ : إنَّ تَوَجُّهَ الْوُجُوبِ لِلصَّبِيِّ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ .
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْجِهَادِ :
10 - الْقَصْدُ مِنْ الْجِهَادِ دَعْوَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْإِسْلَامِ , أَوْ الدُّخُولِ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَدَفْعِ الْجِزْيَةِ , وَجَرَيَانُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ , وَبِذَلِكَ يَنْتَهِي تَعَرُّضُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ , وَاعْتِدَاؤُهُمْ عَلَى بِلَادِهِمْ , وَوُقُوفُهُمْ فِي طَرِيقِ نَشْرِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ , وَيَنْقَطِعُ دَابِرُ الْفَسَادِ , قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } . وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسِيرَتُهُ , وَسِيرَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى جِهَادِ الْكُفَّارِ , وَتَخْيِيرِهِمْ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ مُرَتَّبَةٍ وَهِيَ : قَبُولُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ , أَوْ الْبَقَاءُ عَلَى دِينِهِمْ مَعَ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ , وَعَقْدُ الذِّمَّةِ . فَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا , فَالْقِتَالُ . وَلَا يَنْطَبِقُ هَذَا عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ , عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلَافٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ : ( جِزْيَةٌ , وَأَهْلُ الذِّمَّةِ ) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِتَالِ مِنْ أَحْكَامٍ :
أ - ( قِتَالُ الْكُفَّارِ ) :
5 - قِتَالُ الْكُفَّارِ فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } وقوله تعالى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } , لَكِنَّ الْقِتَالَ يَكُونُ بَعْدَ دَعْوَتِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ بِاللِّسَانِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ وَإِبَائِهِمْ , قَالَ الْكَاسَانِيُّ : إنْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ تَبْلُغْ الْكُفَّارَ فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ الدَّعْوَةُ إلَى الْإِسْلَامِ بِاللِّسَانِ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّك بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } , وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ الْقِتَالُ قَبْلَ الدَّعْوَةِ . وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ : دَعْوَةٌ بِالْبَنَانِ وَهِيَ الْقِتَالُ , وَدَعْوَةٌ بِالْبَيَانِ وَهُوَ اللِّسَانُ وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ , وَالثَّانِيَةُ أَهْوَنُ مِنْ الْأُولَى , لِأَنَّ فِي الْقِتَالِ مُخَاطَرَةً بِالرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ , وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ , فَإِذَا اُحْتُمِلَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الِافْتِتَاحُ بِهَا . هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ , فَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ , لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَازِمَةٌ , وَالْعُذْرَ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعٌ , وَشُبْهَةَ الْعُذْرِ انْقَطَعَتْ بِالتَّبْلِيغِ مَرَّةً , لَكِنْ مَعَ هَذَا الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ إلَّا بَعْدَ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ لِرَجَاءِ الْإِجَابَةِ فِي الْجُمْلَةِ , وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَاتَلَ قَوْمًا حَتَّى يَدْعُوَهُمْ , فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمْ الْقِتَالَ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَإِذَا قَالُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } , فَإِنْ أَبَوْا الْإِجَابَةَ إلَى الْإِسْلَامِ دَعَوْهُمْ إلَى الذِّمَّةِ إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ , فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ : اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ , اُغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا , وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ , ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ , ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ , وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ , فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا , فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ , يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ , فَإِنْ هُمْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ , فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ , وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوك أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ , وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَك وَذِمَّةَ أَصْحَابِك , فَإِنَّكُمْ إنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ , وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ , فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ , وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك , فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا } .
***************(52/496)
وهذه الموسوعة على جميع المذاهب المتبوعة وغير المتبوعة فلا خلاف بينهم فيما ذكرنا
ومن أراد التفصيل فليرجع إلى جامع الفقه الإسلامي وليضع جزءا من الآية الكريمة { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (29) سورة التوبة
فيجد أن جميع أقوال الفقهاء متفقة على جهاد الطلب
*****************
وقال الدكتور كلمة حق ممتازة ردا على سؤال خديجة بنت قنة: دخول مقاتلين غير عراقيين مقاتلين عرب.
يوسف القرضاوي: آه يدخلون آه يعني إذا احتل بلد يعني مسلم يجب على أهله أن يقاتلوا المحتل ويجب على غيرهم أن يعينوهم ما استطاعوا بالمال بالسلاح بالنفس بالدعاء يعني ما أمكنهم لأن المسلمين أمة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، لا يسلمه يعني لا يتخلى عنه في ساعة فإذا كان الأخوة العراقيين محتاجين إلى يعني المساعدة يجب أن يُساعدوا هذا الحدود هذه بنعتبرها نحن المسلمين حدود مصطنعة الأصل أن الأمة الإسلامية أمة واحدة يعني ولكن وكانت أمة واحدة دارها واحدة اسمها دار الإسلام ومرجعيتها واحدة هي الشريعة قيادتها واحدة هي الخلافة ولم تلغى هذه الخلافة إلا في سنة 1924 فالأصل وحدة الأمة فإذاً المسلمون مفروض أنهم يذهبون جميعا للقتال في فلسطين لا يدعوا الأخوة الفلسطينيين يقاتلون وحدهم اليهود يعانون من يهود العالم الإسرائيليون كل يهود العالم إلا القليل منهم 000
*************
فهذا الذي قاله هو عين الصواب وقد مر معنا سابقا أنه إذا اعتدي على بلد مسلم وجب على أهله الدفاع عنه فإن عجزوا انتقل هذا الواجب العيني على من جاورهم وهكذا حتى يشمل جميع المسلمين
ولكنه قد فاته أن هذه الحكومات التي يحرم الخروج عليها حسب وجهة نظره هي التي تساعد العدو ضد المسلمين وهي التي استقدمته ووضعت له أكبر القواعد في أرض الجزيرة ليذبح بها المسلمون هنا وهناك وهي التي تحمي ظهر العدو وهي التي تقدم للعدو كل عون ، وهي التي تطارد الأحرار الأخيار من أبنائها ، وهي التي باعت فلسطين والعراق بثمن بخس ، وهي التي تحمي حدود فلسطين والعراق حتى لا يصل للمجاهدين أية مساعدة
وهي التي تحكم بغير ما أنزل الله وهي التي تتحاكم إلى الطواغيت 000
فهذه يجب مجاهدتها أولا لأنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وإلا فكيف نستطيع مساعدة إخوتنا في فلسطين وفي العراق وفي الشيشان وفي أفغانستان وفي كشمير فبلاد المسلمين على الصحيح كلها ساحة حرب مفتوحة
*************
نسأل الله تعالى أن يبصرنا بالحق وأن يجعلنا من أهله آمين
قال تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (39) سورة الأنفال
في 10 شعبان 1425 هـ الموافق 24 /9/2004 م
====================(52/496)
مناقشة القرضاوي في موضوع الديمقراطية
نظرات في السياسة الشرعية ؛ الشورى المفترى عليها والديمقراطية
[الكاتب: محمد بن محمد الفزازي]
كلمة في التقليد:
المشكلات في حياة الدعوة الإسلامية كثيرة ومتنوعة، ومن أبرزها وأخطرها التقليد.
والتقليد تأسٍّ بالرجال من غير دليل. وإذا كان يجوز التقليد للعامي الأمي للضرورة، فإنه يحرم على من يستطيع التمييز بين الأدلة الشرعية، ويعرف شيئا من العربية... أن يُسْلِس قياد دينه وعقيدته إلى أمثاله من الناس، فإن في ذلك مصادرة لشخصيته، وإعداما لعقله، وتعطيلا لفكره... بل وعصيانا لربه سبحانه، ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذبونكم والله غفور رحيم) لذا فإنني أناشد الإخوة الكرام، طلاب الحق، أن يتمعنوا مليا في ما نطرحه من دلائل واستشهادات ونحن نحاور الشيخ يوسف القرضاوي حول موضوع الديمقراطية.
وأرجو أن يكون الدليل الشرعي هو وحده الحَكم بيننا، طاعة لله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) ، (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله).
قال العلامة الشيخ محمد صدّيق حسن في كتابه "الدين الخالص": "فليس لعالم ولا متعلم، ولا لمن يفهم وإن كان مقصرا أن يقول: إن الحق بيد من يُقتدى به من العلماء إن كان دليل الكتاب بيد غيره، فإن ذلك جهل عظيم، وتعصب شديد، وخروج من دائرة الإنصاف بالمرة، لأن الحق لا يُعرف بالرجال، بل الرجال يُعرفون بالحق... وليس أحد من العلماء المجتهدين، والأئمة المحققين بمعصوم، ومن لم يكن معصوما فهو يجوز عليه الخطأ كما يجوز عليه الصواب، فيصيب تارة ويخطئ أخرى... ولا يتبين صوابه من خطإه إلا بالرجوع إلى دليل الكتاب والسنة، فإن وافقهما فهو مصيب وإن خالفهما فهو مخطئ".
الديمقراطية كفر حقا:
نشرت جريدة الصحوة المغربية في عددها الثالث والخمسين مقالا مطولا للشيخ يوسف القرضاوي تحت عنوان: " هل الديمقراطية كفر حقا؟ " جاء فيه ما نعتقده مخالفا للإسلام مما لنا فيه من الله برهان، وعلينا البيان.
ذكر الشيخ القرضاوي ما اعتبره جوهرا للديمقراطية ثم بنى عليه أحكاما حسبها شرعية باستخدام بعض قواعد الأصول تعسفا لعله يضفي على النِّحلة صبغة إسلامية..
وحيث إن مقالات الشيخ لها تأثيرها البالغ على بعض الناس، حتى إنّ اجتهاداته تقع في حُضن المسلّمات عند كثير من المقلدين، فإن الواجب الشرعي، ولا أقول حق النقد والرد فقط، يفرض علينا إرجاع الحق إلى مجراه حيث ينساب انسيابه على هدي من الله.. وإعادة طائشات الأفكار إلى معاقلها، وعقلها ثانية بعقال الكتاب والسنة خدمة للدين وإبراء للذمة وهداية للحيارى حتى لا ينشز منا ناشز حبيب أو يغزونا في عقر دارنا غزو من الفكر الغريب.
إن قراءة متأنية واحدة لمقال الشيخ القرضاوي تكفي لإدراك ما فيه من خلط عجيب بين المتناقضات وخبط غريب في الضروريات.
فالنصوص القرآنية والأحاديث الشريفة وغيرها من الآثار المعتمدة، جاءت في جلها إن لم أقل في كلها على غير منازلها، من حيث الإستشهاد بها لصالح الديمقراطية. ولو أن الشيخ استشهد بنفس النصوص على فسادها لوافق الصواب يقينا... لقد تحدث في مقاله عن جوهر الديمقراطية ولبابها بعيدا عن الصورة والعنوان والتعريفات الأكاديمية-كذا قال-وهذا الجوهر أو اللباب في نظره هو "أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يُفرض عليهم حاكم يكرهونه أو نظام يكرهونه وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ وحق عزله إذا انحرف وألا يساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها".
هذا هو جوهر الديمقراطية ولبابها عند الشيخ وهو ما يصفه في فقرة أخرى بقوله: "فهو بالقطع متفق مع جوهر الإسلام".
ولست أدري كيف غاب عن الشيخ يوسف أن جوهر الديمقراطية ولبابها ليس هو هذا الذي ذكره، بل هو ما يعلم كل باحث في هذا الوعاء "الديمقراطية"، وفي حمولته الفكرية والآلية التي ليست لهما معا مسحة من المصداقية الشرعية مبنىً ومعنىً، شكلا ومضمونا.
إن جوهر الديمقراطية بغض النظر عن المصطلح، الذي أرفضه رفضا تاما لما لقبول المصطلحات الأجنبية من استلاب لقداسة مصطلحاتنا الأصلية الأصيلة، ولما للمصطلحات عامة من تلاحم بين القلب والقالب من غير انفكاك.
ولا سيما والقضية هنا قضية الكليات والثوابت حيث الممانعة، لا قضية المستجدات القابلة للإجتهاد والمطاوعة.
أقول: بغض النظر عن الإسم والعنوان فإن جوهر الديمقراطية ولبابها هو استمداد التشريع كله من الشعب في أشخاص منتخبيه، الأرباب من دون الله.
وإن روح الديمقراطية ولبابها هو العلمانية ذاتها التي ظهرت ردة فعل للثيوقراطية في أسّها وأساسها.
وإن عُصارة الديمقراطية وخلاصتها وصفوتها هي الليبرالية المتسيّبة بين دهاليز الحريات الأربع: السياسية والفكرية والشخصية والمِلْكية.
وهي الأركان المقدسة التي تكفلت بشرحها ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان منذ تسع وأربعين عاما وتكلفت بحمايتها الصهيونية والصليبية العالميتان.
الشيخ يعلم ولا شك مدى الكفر والشرك في ذاك الإعلان حيث نص في كثير من مواده على المساوات المطلقة بين العباد، بغض النظر عن الجنس والدين.. مساواة في كل شيء على الرغم من تشريع رب العالمين: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) ، (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون) ، (كنتم خير أمة أخرجت للناس).
وبخصوص الجنسين الذكر والأنثى فلا يخفى ما بينهما من فوارق في الخِلقة والتكوين والوظائف الفطرية والعضوية وبالتالي في المهمات الإجتماعية المنوطة بكل منهما (وما خَلَقَ الذّكر والأنثى إنّ سعيكم لشتّى) ، كما نص ذلك الإعلان على حرية الدين والتدين بين كل البشر لا وفق ما حكمت به شريعة الله تعالى ولكن وفق أهواء اليهود والنصارى الذين يهدفون من وراء هذه الشريعة الدولية إلى القضاء على الإسلام بمصطلحات السلام ومنع الحروب للحيلولة دون استئناف المسلمين لفريضة الجهاد، يريدون أن تكون كلمة الله هي السفلى، قاتلهم الله.
وبناء عليه فقد أعلنت الديمقراطية في ثوابتها عن تمكين الإنسان من اختيار عقيدته دون تدخل من أحد، والإعراب عن هذه العقيدة والدعوة إليها، ودائما دون تدخل من أحد، وأعلنت عن حق تبديل الدين سراّ وعلنا ولا دخل في ذلك لأحد.
تقول المادة الثامنة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرا أم جهرا متفردا أم مع الجماعة".
هذه إحدى أهداف الديمقراطية الكبرى وهي أفكار ليس في القول بها إلا الردة عن الإسلام لمن كان مسلما.
وفوق هذا كله فقد أعلنت الديباجة الأممية عن مصدر التشريع الوحيد لكل الأمم، ألا وهو الشعب في أغلبيته المنبثقة عن اقتراع "حر ونزيه".
وفي ذلك تقول المادة الحادية والعشرون في نقطة ثالثة: "إنّ إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة...".
أرأيت يا شيخ جوهر الديمقراطية ولبابها؟ إن الواجب يفرض علينا عرض الواقع الديمقراطي كما هو على عين الشرع الحنيف ليقول فيه كلمته، ولتعلم الأمة قاطبة حكمه كي يتسنى لها الإختيار بين الإسلام والكفر وبين السلم والحرابة.
أما محاولة البحث عن نقط الإلتقاء بين التوحيد والشرك وتتبُّع نصوص الإسلام للدفاع بها عن الجاهلية فذاك غاية في السوء والشناعة في حق الدين والأمة سواء.
ولقد أشار الشيخ إلى رفض الإسلام للإستبداد والظلم والعلو والإستكبار... وضرب لذلك أمثلة متعددة مثل موقف القرآن الكريم من فرعون وهامان وقارون.(52/496)
والحق يقال كان كلاما جميلا من الشيخ وما أفسده عليه سوى استشهاده به على تسويغ الديمقراطية والدعوة إليها باعتبارها الخلاص من كل استبداد والنجاة لكل العباد، في نظره، ولقد أخطأ ـ والله ـ في ذلك إلى حد بعيد.
فإذا كان الإستبداد والتسلط ممّا قاومه الإسلام وجرد له السيوف ووعد الشهداء جنة عرضها السماوات والأرض، فمعاذ الله أن يستبدل استبدادا باستبداد أو فسادا بفساد، وجاهلية بجاهلية.
ما هو الإستبداد؟
إنه التسلّط على مصالح الناس، والعبث بها ذات اليمين واليسار، والإنفراد بالقرار داخل بطانة نفعية ومحمية بالحديد والنار. نعم، لقد كان فرعون مستبدّا، وكان النمرود مستبدّا، وكان غيرهم كثيرين مستبدين، والمستبدّون اليوم في كل مكان.
لكن دون مَن يستبدّون بالرأي والنظر؟ بل بالتشريع والتنفيذ والتأصيل والتّفريع؟
سيقول الديمقراطيون "أعداء الإستبداد": إنهم يستبدّون بذلك كله دون الشعب، ويستبدّون بثروات وخيرات الشعب دون الشعب... ويضربون عرض الحائط في النهاية مطالب الشعب، بل ويضربون الشعب نفسه عرض الحائط.. وهذا واضح.
ولكن الذي يحتاج إلى الوضوح، هو أن الديمقراطية، علاوة على ما ذكرناه آنفا من حيث جوهرها.. تمثل عين الإستبداد، وذلك بالإنفراد بالتشريع والتنفيذ، استبداد دون الله تعالى، ودون كتابه العزيز وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة.
ولن يجد الشيخ في حياة البشر كافة، ديمقراطية واحدة تؤمن بشرع الله تعالى وتتّخذه الحُكم والحَكم، به تعدل وعلى هديه تهتدي ـ ولا واحدة ـ فلماذا المغالطة وتسمية الأشياء بغير أسمائها، متذرّعين بذريعة: العبرة بالمسميات والمضامين، لا بالأسماء والعناوين؟
فها هي ذي المسميّات والمضامين ناصعة ساطعة على حقيقتها: تشريع بغير ما أنزل الله، وحُكم به. سلطة تفرِضه، والويل لمن يرفضه... فإذا اتّضح هذا، وهو واضح صابح والحمد لله، ماذا يفيد الكلام بعد ذلك في مجال الشورى والإنتخاب ومحاولة التوفيق والتلفيق بينهما؟
لقد قارن الشيخ القرضاوي بين الشورى والإنتخاب وقارب بينهما، وفي نفس الوقت أبطل تلك المقاربة المزعومة إبطالا، من حيث لم يدر، عندما أكّد على أنّ الشورى لا تكون في ثوابت الدين وكلياته، وأنها لا تُقبل إلا من ذوي العدل والإستقامة، وفي مجالات اجتهادية بحتة.. فماذا يريد الشيخ بعد هذا الذي عَلِمه من الشورى، ويعلم أنه بعيد كل البعد عن العملية الإنتخابية في أنحاء الدنيا برمّتها؟
وإلا هل عندكم علم بديمقراطية واحدة في الأرض كلها، لا أقول في تطبيقاتها وآلياتها فقط، بل في جوهرها ولبابها أيضا، واحدة تؤمن بأصول الإسلام وقواعده، ولا تناقش في ذلك أو تستفتي الشعوب فيه، وأنها فقط تستفتي الأمة في دائرة الإجتهاد، ولا شيئ إلا في دائرة الإجتهاد، وتفعل ذلك في نطاق الصالحين المصلحين؟ أين؟ ومتى كان ذلك؟ نعم، كان ذلك يوم كان الناس مسلمين، ولكنه كان إسلاما وليس ديمقراطية، شورى شرعية، وليس انتخاباً شعبياً.
فهل يجهل الشيخ كيف تتم الإنتخابات هنا وهناك؟ هل يجهل أنّ الأصوات ـ وهي شهادات ـ داخل الصناديق موضوعة من طرف كل من هبّ ودبّ من الفسّاق والمجاهرين بالمعصية على اختلاف أنواعها، بل ومن الكفار والملاحدة من بني جلدتنا؟ طبعاً هناك أيضاً مسلمون، ولكنهم لا يعلمون. فما قيمة هذه الإنتخابات من الناحية الشرعية إذن، وربّنا سبحانه يقول: (ولا تَقْبَلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هُمُ الفاسقون) ؟
إنّ الإنتخابات الديمقراطية في أنحاء المعمور، ما وُضعت أبداً من أجل اختيار المصلحين من طرف الصالحين، ولا من أجل تقريب أهل الفضل والعِلم للنظر في مستجدّات الأمّة، ولا هي وُضعت أبداً سعياً في الوئام والمحبّة بين النّاس.. إنما، كما يعلم الجميع، كلما ضربت البلاد جائحة انتخابية، إلاّ أتت على الأخضر واليابس، وتركت عباد الله أعداءً ألدّاء، بعد أن كانوا إخوانا رحماء.
بدعة في الإستدلال:
لقد نعت الشيخ الدكتور ـ سامحه الله ـ الذين يقولون بكفر الديمقراطية بالسّطحيّين المستعجلين.. وهو حُكم لا يخفى ما فيه من السطحية والإستعجال.
وإن صحّ أنهم سطحيون ومستعجلون، فأيْمُ الله، لَذلك أهون وأخفّ في سُلّم الخطايا، على افتراض أن ذلك من الخطايا، من التّعمّق والتؤدّة ثم القول بما يخالف الحق..
ولقد خالف الدكتور الحق في هذه القضية مخالفة فظيعة، سواء على مستوى الإدراك للمسألة، أم على مستوى الإستدلال عليها.. وإلا هل يُعقل لمن كان في مستوى الشيخ العلمي، أن يستدل على صحة الديمقراطية ومشروعيتها، بكون شعوب العالم تكافح من أجلها، وبكون الجماهير الغفيرة هنا وهناك تصارع بمرارة من أجلها، وبكون ضحايا بالألوف والملايين سقطت في أوروبا الشرقية وغيرها من أجلها؟ ثم زاد استدلالا على صحتها قائلا: " والتي يرى فيها (أي الديمقراطية) كثير من الإسلاميين الوسيلة المقبولة لكبح جماح الحُكم الفردي، وتقليم أظافر التسلط السياسي الذي ابتليت به شعوبنا المسلمة... إلخ " .
فما هذه البدعة يا شيخنا في دنيا الإستدلال والإستشهاد؟ متى كانت الجمهرة دليلا عند العلماء في مجاوزة صحيح النقل وصريح العقل؟ وجمهرة من؟ جمهرة أوروبا الشرقية الشيوعية، وصنوتها في البلاد الغربية، وآخرون.
أهكذا يُنسى قوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسولل إنْ كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلا) .
لو كان الأمر بالكثرة لرجحت كفّة البابا، وكفة الشيوعيين في الصين وغيرها.
ولا يقال بأن الحديث منصبّ على العالم الإسلامي، والمفروض في أغلبيته أنها مسلمة عاقلة عالمة شاكرة، وأن الإستشهاد بمثل قوله تعالى: (ولكنّ أكثرَ النّاس لا يَعْلَمون) ـ هذه الآية تكرّرت في القرآن الكريم إحدى عشرة مرّة ـ إستشهاد ساقط.
فأوروبا الشرقية وغيرها مما ورد الإستشهاد به في بحث الدكتور وتحليله، ليست منّا ولا نحن منها. وما دمنا لا نتحدث عن مجتمع الجاحدين أو الضالّين عن سبيل الله، كما أشار الشيخ إلى ذلك مرة، فلماذا التلويح بضحايا أوروبا الشرقية وجماهير أخرى من الشرق والغرب في سبيل الديمقراطية؟
هل هذا الواقع الضخم يمكن أن يغيّر من الحق شيئا؟ أبداً. هل لأنهم كثير؟ فليكن..
(أليس في جهنّم مثْوىً للكافرين) .
وقبلها سقط الملايين من "الضحايا" في سبيل الشيوعية. فليكن.. ماذا يغير من الحق؟
وعشرات الملايين من البشر سقطت خلال الحربين العالميتين في سبيل هتلر والنّازية وغيرها، فليكن.. ماذا يغير من الحق؟
لا، ليس هذا هو ميزان البحث في الشرع الإسلامي أبدا. إنّما الميزان هو الشرع الربّاني وحده.. آمن به من آمن وكفر به من كفر..
قال الشيخ القرضاوي في فقرة أخرى من مقاله: "إنّ الإسلام قد سبق الديمقراطية بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهرها".
وهذا كلام خطير جداّ.. كلام فيه سطحية واستعجال بكل تأكيد: لقد ذكرنا في ما سبق أنّ جوهر الديمقراطية هي السيادة لغير الله تعالى في التشريع، وهي العلمانية والحريات الأربع وما يترتّب عليها من انحلال للأخلاق والقيم، ومن انتشار الدعارة والشذوذ، والعاهات الإجتماعية المتنوعة، والآفات والأوبئة.. بل من انتشار للكفر والشرك على أوسع نطاق.. ولا داعي لحجب ضوء الشمس بالغربال. والإسلام العظيم منزّه عن هذا الضياع والضلال.. وهو الدين الذي أنزله الله تعالى لتحرير الأنام.. فكيف يكون سبّاقا لتأليه الشعوب، أو آذناً للنواب أن يكونوا أرباباً من دون الله؟ (شَرَعَ لكم مِن الدِّين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك..) ، (أمْ لهم شركاء شَرَعوا لهم مِن الدّين ما لم يأذن به اللهُ) .
أيسبق الإسلام الديمقراطية في تحكيم البشر وهو القائل (ألم ترََ إلى الذين يزعُمون أنّهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أنزل من قبلك يُريدون أنْ يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أنْ يكفروا به ويريد الشيطان أنْ يُضِلّهم ضلالاً بعيداً. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل اللهُ وإلى الرسول رأيتَ المنافقين يصُدّون عنك صُدوداً... فلا وربِّك لا يؤمنون حتى يُحَكِّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيتَ ويُسلِّموا تسليما) .(52/496)
صحيح ، إنّ الشيخ ليس ممّن ينكر هذا، وحاشاه أن يفعل.. ولكنّه لم يُدرك للأسف، جوهر الديمقراطية ولبابها على الحقيقة، وليس وراء عدم إدراك التّصوّر السليم، إلا الحُكم السقيم، والحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره.
لقد صنع الشيخ للديمقراطية جوهرا غير جوهرها، ونفخ فيها روحا لا تناسبها.. ثم بنى على الخطإ ركاماً من الأخطاء. ولا عجب، فإنّ المنطلق المعوجّ لا يستقيم له مسار.
وقد قيل لبدويّة ـ حسب ما يحكى ـ إنّ زوجك قد سقط عن راحلته، قالت: الأمر متوقّع، من الدار خرج مائلا.
ويرى الشيخ بعد هذا أنّ ميزة الديمقراطية هي: "أنّها اهتدت خلال كفاحها الطويل مع الظّلَمة والمستبدّين، من الأباطرة والملوك والأمراء، إلى صيغ وسائل تُعتبر إلى اليوم أمثل الضّمانات لحماية الشعوب من تسلّط المتجبّرين".
فمن يعتبر هذه الصّيغ والوسائل أمثل الضمانات لحماية الشعوب؟
هل من يؤمن بالله واليوم الآخر؟ أم الذين لا خلاق لهم ولا دين؟ أنسيت يا شيخ أنّ الضمانات الوحيدة لحماية الإنسان، فردا وجماعة، هو الإسلام؟ أنسيت أنّ الإهتداء بغير هدى الله وهدي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، هو الغوص والتّيه في ظلمات الجهل والجاهلية، لا محالة؟ فمن يُخرجنا من الجور والتّسلّط والإستعباد والإستبداد؟
الإسلام أم الديمقراطية؟ الله تعالى أم الشعب؟ إنّنا نقرأ في كتاب ربِّنا (اللهُ وليُّ الذين آمنوا يُخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور والذين كفروا أولياؤهم الطّاغوتُ يُخرجونهم من النّور إلى الظلمات أولئك أصحابُ النّار هم فيها خالدون) .
ديننا كامل:
ثم إنّ الشيخ لم يكتف بتبجيل ما اعتبره ميزة حسنة للديمقراطية، على فداحة الزّيغ في ذلك، ولكنه واصل القول أن: "لا حرج على البشرية وعلى مفكّريها وقادتها، أن تفكّر في صيغ وأساليب أخرى لعلها تهتدي إلى ما هو أرقى وأمثل، ولكن إلى أن يتيسّر ذلك، ويتحقق في واقع الناس، نرى لزاما علينا أن نقتبس من أساليب الديمقراطية ما لا بد منه لتحقيق العدل والشورى واحترام حقوق الإنسان والوقوف في وجه السلاطين العالين في الأرض" .
إنّ هذا الكلام أولى به مَن لا دين له.. إنه كلام من يجهل حقيقة الإسلام الشاملة الكاملة.. وهو قول يُفهم منه بالإضطرار أن الإسلام ليس فيه من الأحكام والتشريعات، نصّاً وظاهراً واستنباطاً، ما يضمن الإهتداء إلى أرقى وأمثل ما يكون، وليس فيه ما يحقق العدل والشورى وحقوق الإنسان الشرعية، وليس فيه كيفية الوقوف في وجه الطغيان كيفما كان، ومن أي كان.. وهذا خطير، غاية في الخطورة..
عجيب هذا النصح للبشرية ومفكريها وقادتها.. وأعجب منه أنه من رجل أزهري.. فماذا دهانا؟ وأية فاجعة، وأي رزية هذه في علمائنا؟
إنّ العدل والشورى وحقوق الإنسان، من الكلّيات والثوابت والضروريات في الإسلام.
وقد ورد في ذلك عديد من الأحكام غاية في الإحكام.. مئات الآيات والأحاديث في الموضوع نقفز عليها قفزاً ونقول: "نرى لزاماً علينا أن نقتبس من أساليب الديمقراطية ما لا بد منه لتحقيق العدل...".
مَن يُلزم المسلمين باقتباس الكفر والظلم وإهانة الإنسان..؟ وهم يقرأون في كتاب الله (إنّ هذا القرآنَ يهدي للّتي هي أقْوم) ، يهدي للتي هي أقوم في كل شيء، وخاصة في ما يضمن الكلّيات الخمس الأساسية: الدين، والنّفس، والنّسل، والعقل، والمال. ويعلم الشيخ القرضاوي كم ورد من نصوص رائعة جامعة مانعة في التّأكيد على هذه الحقوق، ووضع الإجراءات الكلية والتّفصيلية قصد الإستيعاب والتّطبيق.. أيعقل لمن هذا دينه أن يقتبس من مزابل الأفكار الغربية والشرقية ما " ينظّم " به حياته الإجتماعية والسياسية والإقتصادية.. وغيرها؟
إلى أي شيء نفتقر نحن المسلمين، في المجال السياسي والحكم والتّشريع؟
وهذا كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أيدينا، زيادة على أطنان من كنوز الفقه والتّجربة التاريخية في مجال الإجتهاد والنظر، وهي، مع الكتاب والسنّة، ثروة هذه الأمة التي لا تُقدّر بثمن.. فمن لا يجد فيها الوسيلة المثلى في إقامة الحكم العادل، والعدل الحاكم، فدونه مستنقع اليهود والنّصارى، يشرب منه الأذى والموبقات.
وإلى أي شيء نفتقر نحن المسلمين، في المجال الإجتماعي والتكافل وصيانة الأسرة..؟ وهذا ديننا لا يضاهى فيما أصدره من نصوص وتوصيات في هذا المقام، نصوص يعلم منها الشيخ القرضاوي الكثير.. ويعلم أنها بالمئات في ضبط علاقة الأفراد والجماعات فيما بينهم ضبطاً غاية في العدل والإتّزان: بين الوالد وولده، بين الجار وجاره، والغني والفقير، والعالم والمتعلم، وبين الحاكم والمحكوم.. بين الرجل والمرأة، والكبير والصغير.. تشريع وأيّ تشريع، سبحان من أنزله.
وفي مجال حقوق الإنسان؟ أي حقوق يعني الشيخ القرضاوي؟ هل حقوق ديمقراطية، حسب توصيات المنظمات العالمية، المنبثقة عن هيئة الأمم المتحدة، والتي تُعطي الإنسان الحق في أن يعتقد ما يشاء، ويدعو إلى ما يشاء؟ والحق في امتلاك واكتساب ما يشاء، وإنفاقه في ما يشاء؟ بل ويبدّل دينه إن شاء، متى شاء؟ [1] أم الحقوق المنبثقة من قول الله تعالى: (ولقد كرّمنا بني آدم...) ؟ والمفصلة في آيات وأحاديث وسنن يفقهها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. فسبحان رب العزة عما يصفون، وهو القائل: (ما فرّطنا في الكتاب مِن شيء) ، نصًّا أو ظاهراً أو استنباطاً، مرة أخرى.
إنّ الإقتباس من الغير، لا حرج فيه ولا ضرر ولا ضيْر، فيما لا نصّ فيه بكل تأكيد ـ وهذا الحكم نفسه من تأصيل علمائنا واستنباطاتهم من الكتاب والسنّة نفسهما ـ وهو ما يندرج تحت قاعدة المصالح المرسلة، وحيث ما كانت مصلحة العباد فثمّ شرع الله.. الشّرع الذي ما جاء إلاّ لجلب المصالح ودرء المفاسد، قضاءً مقضياًّ.
قواعدنا العلمية لها مناطها:
أما الإعتماد على قواعد أصولية للخوض في مبادئ الديمقراطية، فهو أمر غريب، بل مضحك.. لأنّ آليتنا العلمية لم توضع أبداً لإستعمالها في أجواء غير أجوائنا، ومناخات غريبة علينا، وإنما هي قواعد وُضعت لضبط الفهم وتقويم الإستنباط، لا من أجل تسويغ واستساغة كل منتن خبيث.
أرأيت قواعد اللغة العربية مثلاً، من نحو وصرف، أيمكن استعمالها في تقويم غير اللسان العربي؟ طبعاً لا.. فكل لغة لها قواعدها الخاصة بها، لا تنفع في غيرها..
وما نقوله في اللغة نقوله في علوم القرآن والحديث، وعلوم الإسلام الأخرى من بلاغة وأصول ومنطق وأدب..إلخ.
لذا فإن استعمال علم الأصول في مجال الديمقراطية أو أي مجال آخر غير مجالها، يعدّ ضرباً من التّعسّف لا يليق بأمثال الشيخ القرضاوي.
فقاعدة "ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب" على سبيل المثال، وهي مما اعتمده الشيخ في دفاعه عن الديمقراطية، ليس هذا هو موضوعها. وهبْ أنّ الأمر فيه توسعة، جدلا، فالقاعدة حجة عليه بكل اعتبار.. فهل حقًّا، لا يتم واجب العدل والشورى وحقوق الإنسان (الشرعية) وغيرها من الحقوق، إلا بالديمقراطية؟ أم يتم كل ذلك وأكثر، بشكل أيسر وأظهر، بالإسلام العظيم، وما أدراك ما الإسلام العظيم؟
والعجب كل العجب أنّ الدكتور يقرر في مقاله " أنّ من حقنا أن نقتبس من غيرنا من الأفكار والأساليب والأنظمة ما يفيدنا.. ما دام لا يعارض نصًّا مُحكماً، ولا قاعدة شرعية ثابتة..".
فكأنّ الديمقراطية عند الشيخ في أصولها وآليتها، لا تعارض نصًّا محكماً أو قاعدة شرعية ثابتة. في حين، وعلى نحو ما قرّرنا مما لاخلاف فيه عند كل من شمّ للديمقراطية رائحة، تصطدم هذه النِّحلة مع الدين كله، عقيدة ووسيلة وغاية.
وحتى ما وضعه الشيخ نفسه من مفهوم للديمقراطية، وهو ما سمّاه اللباب والجوهر قائلاً: "أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألاّ يُفرض عليهم حاكم يكرهونه، أو نظام يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله إذا انحرف، وألاّ يُساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها" حتى هذا ، هو غير مسلّم عندنا، ولا مقبول لدينا بهذه الإطلاقات والتّخليطات. فكلمة "الناس" على إطلاقها في كلامه تحتاج إلى قيد، وقيدها أن يكون المقصود بالناس، ليس فقط المسلمين، ولكن خاصّتهم من العلماء أهل الحل والعقد.. لا كل من هبّ ودبّ.
فالعامة تبعٌ للعلماء بالضرورة، لأن العلماء ورثة الأنبياء، كما في الحديث.
أما قوله: "وألاّ يُساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها" :
فماذا لو كانت مناهج الإسلام الإقتصادية والإجتماعية.. إلخ، هي التي لا يعرفها الناس، ولا يرضون عنها؟ وأنّ مناهج الإستعمار، في المقابل، هي المعروفة والمألوفة، وهي التي يرضون عنها؟
وأظنني لست في حاجة إلى تذكير الشيخ القرضاوي بأنّ الجمهوريات في البلاد الإسلامية، وفي ما يُسمى بالعالم الثالث كله، حتى بمفهوم الغرب نفسه للديمقراطية، ليس الناس هم الذين يختارون حاكمهم ونظم حُكمهم ومناهج حياتهم السياسية والإقتصادية.. إلخ، ولا يستطيعون مناقشة الحاكم واستفساره، فضلاً عن عزله وخلعه. وإنما يُنصّب حاكمهم قهراً، على رغم أنوفهم، من طرف المؤسسات العسكرية، مهما قال الناس: لا، ليس هذا من نريد.. وأنّى لهم أن يقولوا ذلك.. فإن أصرّوا أو تمرّدوا، فالويل لهم ولما أرادوا.
والمثال؟ كلهم مثال.
ولا شك أنّ الشيخ يعلم جيداً نظام الحكم في الإسلام، وشروط الحاكم فيه، وشروط بيعته، وعلى أي أساس يُبايع. وأنه متى بويع، لا يُغيّر ولا يُعزل ولا يُخرج عليه مدى الحياة، إلا بشروط أخرى حدّدتها الشريعة الإسلامية، وهي مبسوطة في كتب الفقه المتعلّقة بالأحكام السلطانية، والسياسة الشرعية.
وهذا ما يناقض الديمقراطية كلّياً وجزئياً، فالصورة والمضمون في ذاك "النظام" ـ وما هو بنظام ـ متباينان جملة وتفصيلاً مع الصورة والمضمون في النظام الإسلامي.
ثم، أليس المفروض مرة أخرى، أننا نتحدّث عن الديمقراطية في مجتمع مسلم؟
فكيف يكون مسلماً وهو لا يرضى أن يُساق إلى مناهج اقتصادية وسياسية..إلخ، وهي من صلب دينه وعقيدته؟ وكيف يجهل الإسلام ولا يرضى عنه وهو مسلم؟(52/496)
ولماذا تُطرح عليه هذه النِّحل ابتداءً وهو مسلم، بين يديه كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؟ أم تُرى هذا لا يكفي؟
صحيح، قد يُلبّس الأمر على المسلمين، ويُطرح الكفر بين يديهم بجلباب إسلامي، وهذه مشكلة أخرى. وأخشى أن يكون مقال الشيخ نفسه، هذا الذي تصدّينا للردّ عليه، هو أيضاً من هذا القبيل.
حكم التخلف عن الإنتخاب:
استوقفتني ملياّ هذه العبارة في مقال السيد القرضاوي: "ومن تخلّف عن واجبه الإنتخابي، حتى رسب الكفء الأمين، وفاز بالأغلبية من لا يستحق.. ممّن لم يتوافر فيه وصف (القوي الأمين) فقد كتم الشهادة أحوج ما تكون الأمة إليها " ثم استشهد على ذلك بقوله تعالى (ولا يأبَ الشّهداءُ إذا ما دُعوا) ، وبقوله عزّ ثناؤه (ولا تَكتُموا الشّهادةَ) فقلت: سبحان الله!
نصوص إسلامية على غير منازلها.
ولنبدأ بمقارعة الحجة بالحجة حول هذه العبارة أولاً بأول: فكلمة "مَنْ" في بداية الجملة، والتي هي من صِيغ العموم، مَن المقصود بها؟ أهو الشخص حسب المواصفات الإسلامية والشروط الشرعية، أي البالغ سنّ الرشد الشرعي، الخيّر الشّيّر، (وأشهِدوا ذويْ عدلٍ منكم) ، العالم بدينه وواقعه (وما شهدنا إلاّ بما علِمنا) ، وكل ذلك بغضّ النظر عن جنسه وجنسيته؟ أم هو الشخص حسب المواصفات القانونية والشروط الدستورية، أي البالغ سنّ الرشد القانوني ـ وهو يختلف من قانون لآخر ـ الحامل لجنسية قطره وعشيرته، بصرف النظر عن دينه وعدالته؟
إنّ لنا ـ نحن المسلمين ـ في هذا تفصيلاً، كما يعلم كل من يعرف الإسلام.. وقد سبق القول بأنّ الإنتخاب شهادة.. وهذه نقطة اتّفاق. والشهادة للتّذكير، تقتضي تحقق شروط وانتفاء موانع.. ومن شروطها العدالة، كما سبق. ومن موانعها الفسق، كما سبق أيضاً.. علاوة على شرط آخر، لا يعلم الصدق فيه إلاّ الله تعالى، وهو أن تكون الشهادة لله (وأقيموا الشّهادةَ لله) .
ثم نأتي إلى كلمة "واجبه الإنتخابي" في جملته السابقة.. وأقول: إنها لغة دخيلة مستوردة، إلا أنها عند التقصّي والتّحقيق، أي عند معرفة أهداف الإنتخابات الديمقراطية ومنطلقاتها ووسائلها، لا تكون غير واجبة فقط، بل يكون الأداء لها، على نحو ما قرّرنا، مُحرّماً شرعاً، بل هو يُفضي إلى الردّة والخروج عن الإسلام، في حق من أصرّ واستمرّ مع مجيء البيّنة.
وأجدني مضطرّا مرة أخرى إلى تذكير الشيخ بأن مسألة الأغلبية في الشريعة الإسلامية، إنما هي حالة لها نطاقها ومناخها، وهي حق فيما إذا كان هناك مجلس استشاري من الخيّرين الشّيّرين حسب المواصفات الشرعية، ثم احتاجوا إلى عملية ترجيحية في مسألة اجتهادية.. فعندها نردّد حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "عليكم بالجماعة وإياكم والفُرقة فإنّ الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد... الحديث " ( ).
دندنة حول منصب يوسف عليه السلام:
هذا وفي عبارة الدكتور السابقة ما يستدعي الكثير من البحث والتدقيق، ولا سيما بخصوص قوله (القوي الأمين) وهي مادة سياسية خصبة، يستنبطها الراكنون إلى الذين ظلموا من سورة القصص: (إنّ خير من استأجرتَ القويُّ الأمين) ، وأيضا بحجة أن سيدنا يوسف عليه السلام، وهو النبي التّقي، كان على خزائن الأرض في حكومة العزيز الكافرة: (إنّك اليومَ لدينا مَكينٌ أمين) ، فلماذا لا نستفيد نحن، خاصة مما هو بعيد عن التّشريع والقضاء بغير ما أنزل الله..؟ كذا يستنتجون.
والحقيقة، كما يعلم الدكتور، أنّ شريعة مَن قبلنا ليست شريعة لنا إذا تعارضت مع التي بين يدينا، أو نُسخت بما في أيدينا من شريعة نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وأسأل الشيخ الدكتور: هل كان نبي الله يوسف عليه السلام ماموراً ببناء أمّة تجاهد في سبيل الله، وتقيم دولة إسلامية على نحو ما أُمر به نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ فإن كان الجواب نعم، فالبيّنة.. وإن كان بالنّفي، فقد علمت أن استدلالك بالمسألة استدلال في غير محلّه. هذا على مستوى الإستدلال المجرّد.
أما على مستوى الوصف، من حيث القوّة والأمانة، فالدكتور القرضاوي يعلم جيداً مدى غيابه عن الديمقراطيين، وخصوصاً في ما يخص الأمانة بمعانيها الشرعية.
ومَن ضيّع الدين، فهو لما سواه أضيع.
تبقى الإشارة إلى خاتمة فقرته: "فقد كتم الشهادة أحوج ما تكون الأمة إليها" فعن أي أمّة يتحدث الشيخ؟ عن المصرية، أم الليبية، أم السورية، عن هذه، أم عن تلك؟ إنّ الأمة اليوم صارت أمماً.. عشرات الأمم "الإسلامية"، ولا إسلام، أو يكاد.. فهلاّ التزمنا بالدقّة العلمية في كلامنا، ليكون ذلك أجدى وأهدى؟ أم نريد وضع قوالب صالحة لكل " أمة " على حدة، كما لو كنّا نخاطب الأمة الإسلامية الواحدة؟ لا، إننا ما لم نكن واضحين، دقيقين في بحوثنا وتحليلاتنا، فلن تنجح دعوتنا، ولن نجنح إلاّ إلى مزيد من الغموض والتّيه والضياع.
لمن الحاكمية؟
ومن جملة ما جاء في دفاع الشيخ عن الديمقراطية قوله: "فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر.. فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية، لا يخطر هذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه، هو رفض الدكتاتورية المتسلّطة... أن يختار الشعب حكامه كما يريد وأن يحاسبهم على تصرفاتهم وأن يرفض أوامرهم إذا خالفوا دستور الأمة" الجملة الأولى لا يتفوّه بها إلاّ مَن يجهل حقيقة جوهر الديمقراطية، بل وقشرتها أيضا.
وليت شعري عن أي ديمقراطية يتكلم الشيخ، تلك التي لا يلزم منها رفض حاكمية الله للبشر.. أهي الديمقراطية الغربية على اختلاف أنواعها، وقاسمها المشترك: الحاكمية لغير الله؟ أم هي الديمقراطية في البلاد الإسلامية، وقاسمها المشترك، الحاكمية لغير الله أيضا، مع التزوير والتغيير وشراء الذّمم والضمائر...؟ فهلاّ طرح الشيخ نموذجا واحدا من الواقع يكون مرجع البحث ومادّة التقصّي؟
قراءة الخواطر:
أما الجملة الثانية من الفقرة: "فأكثر الذين ينادون.." فما عرفنا الشيخ أبدا خبيرا في عملية استطلاع الرأي على النمط الغربي.. والعملية منعدمة أصلا في العالم العربي والإسلامي.
وأما قراءة ما يخطر بالبال وغيرها من أعمال القلوب، فأنّى لنا جميعا ذلك؟
والعجيب أنّ الناس، كما ذكر، يعرفون الدكتاتورية المتسلّطة ولا يعرفون التي يبغونها بديلا ويلهثون خلفها.. عجباً، يلهثون ويتهارشون على المجهول، ويسمّونه بغير إسمه.
وأسأل الدكتور بالمناسبة: منذ متى والشعوب "المسلمة" بما فيهم كثير من "الإسلاميين"، ينادون بالديمقراطية؟ فهل أدركوها؟ وهل قضوا على الإستبداد والدكتاتورية؟
أنا أقول: أدركوها. ولكنهم لم يقضوا على الإستبداد والتسلّط، لأنها عين الإستبداد والتسلّط.. استبداد بميزة خاصة، نتائجها متأرجحة دائما بين 99 % و100%.
كلما كانت هناك إنتخابات رئاسية ذات نتائج أبدية.
فياأيها الشيخ الجليل! إنك لتعلم، والله، أنّ الطريق السويّ لقطع الطريق المعوّج ليس غير الإسلام، تصفية وتربية وإعداداً وجهاداً، وهي كلمات تلخص إلى حد بعيد سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولا نقف عند الأولتين منها (التصفية والتربية) ونقطة النهاية.
إنّ السنّة تعلمنا كل شيء، من الأكل والشرب والنوم، إلى الحكم والقضاء، إلى السلم والحرب.. إلى كيف نقيم خير أمة أخرجت للناس.
لذا نقول ونحن واثقون من صحة ما نقول: لا تُقاوم الدكتاتورية والتّسلّط إلاّ بالإسلام، والإسلام فقط.. وإلاّ في أي شيء عجز الإسلام حتى صحّ الإستنجاد بالديمقراطية؟ تلك التي يجب أن يُقاومها المسلمون أشد ما تكون المقاومة..(52/496)
ونأتي إلى قوله في الفقرة السالفة: "أن يختار الشعب حكّامه كما يريد... إلخ" أي شعب يقصد الشيخ؟ الشعوب كثيرة جداً. كما أنّ الشعب ليس بالضرورة أن يكون أهل قطر معين، حسب المتعارف عليه في هذه الأيام.
الشعب في لغة العرب، هو القبيلة العظيمة في أحد معانيها. وبناءً عليه، ليس مفهوم الشعب في حقيقته ينطبق على قولنا مثلاً: الشعب المصري، الشعب العراقي... إلخ. لأننا قد نجد في قطر واحد من هذه الأقطار [2] شعوباً متعددة، ذات ألسنة مختلفة وديانات مختلفة أيضا. كما قد نجد شعبا واحدا تتقاسمه أقطار متعددة، كالشعب الكردي مثلا. وإذا جاز لكل شعب مسلم أن يختار حاكمه كما يريد، فلماذا لا يجوز نفس الشيء لكل قبيلة على حدة، ليصبح حكام المسلمين بالمئات بدل العشرات؟
إننا عندما نخرج عن مفهوم الشرع للأمة، ونتكلم بغير لغة العلم، مقلدين الغرب، متأثرين بالأمر الواقع، نَضِلّ ونُضِلّ. فلْنعُد إلى ديننا، ولغة قرآننا (إنّ هذه أُمّتُكم اُمّة واحدةً وأنا ربُّكم فاعبدون) ، وهي الأمة القائمة على الدين وحده، لا يضرها أن تنصهر في بوتقتها وتحت رايتها شعوب وقبائل، مهما اختلفت لغاتهم وعاداتهم وطبائعهم، كما لا يضرها أيضا تفرّق المؤمنين بها في أرض الله الواسعة.
هذا هو الإطار الصحيح الذي يجب أن يكون مناط البحث والتحليل، لا أن نقبل بواقع مخزٍ سخيف، ثم نسعى لترويض الشرع الحنيف، ليّا لأعناق النصوص لعلّها تطاوع الأهواء.
إنّ الدكتور يعلم جيدا أنّ الحاكم في الإسلام، لا ينصّب حسب ما تنصّ عليه مبادئ الديمقراطية وأخلاقها، ولا يُعزل حسب آليات الديمقراطية ولعبتها، إنما الأمر جد مختلف، ولا وجه للشبه بينهما البتة.. ناهيك عن رفض الإسلام لتعدد الحكام في زمان واحد، لما في ذلك من تمزيق وتقزيم للمسلمين.. وفي الحديث عن أبي سعيد الخُدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "إذا بُويِعَ لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" ( ).
ثم قال (الشيخ): "وان يرفض أوامرهم (يعني الحكام) إذا خالفوا دستور الأمة" ومرة أخرى، نستطيع أن نتساءل: أي أمة يعني الشيخ، فالأمة الإسلامية، صارت أمما، ولكل "أمة" فرعية دستور قابل للتجديد، مطاوع للتعديل.. دساتير ودساتير، وكلها في واد، والإسلام في واد آخر.. فهل يضبط الشيخ لغته ومصطلحاته ضبطا شرعيا مطهّرا من رواسب وآثار الأفكار الغازية؟
وقد يقول الدكتور، أو أحد ممن ينتصرون له بغير الحق، إن الدستور الذي يقصد هو الكتاب والسنّة، والأمة التي يقصدها هي أمة الإسلام..
وأقول: لا، لأن اللغة والمصطلحات، مع الواقع والخلفيات، والإطار العام الموضوع للبحث منذ البداية، كل ذلك لا يصب في البحث الشرعي الذي يسمي الأشياء بأسمائها، ويضع الأمور في مواضعها، دون الحاجة إلى اللجوء إلى كلمات تحتمل وتحتمل... فإنّ ذاك رأس التلبيس، وأسّ التّدليس.. أعاذنا الله جميعا من سيئة التميع.. ومهلك التنطع.
بل هناك ما يفيد قطعا أنه لا يريد بالدستور ما أنزل الله، إنما يريد ما شرعه العباد.. وهو قوله: "إنّ الدستور ينصّ ـ مع التمسك بالديمقراطية ـ على أنّ دين الدولة هو الإسلام، وأنّ الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين" .
ولست أدري أهو دفاع عن الدستور المصري، أم عن كل الدساتير في كل البلاد الإسلامية، إذ كلها لا تتنكّر صراحة لإسلامية الدولة، حتى ولو لم يكن في الدولة إسلام البتّة.
وعلى كل حال، فهي جملة فيها الشيء ونقيضه: النص على أنّ دين الدولة هو الإسلام ـ ولست أدري عن أي دولة يتحدث بالتحديد ـ مع التمسك بالديمقراطية، وعلى أسوء حال.
ولنتجاوز جدلا هذا التناقض البليغ، ولنسأل الشيخ عن تلك القوانين الصادرة في مصر وغيرها عن الشريعة الإسلامية، أهي قوانين الربا المعمول بها بشكل عام ومنتظم في كل المؤسسات المالية والمصرفية والتجارية والإستثمارية في الداخل والخارج؟ أم قوانين الجنايات التي لا تعرف حدّا واحدا من حدود الله تعالى، ولا قصاصا واحدا مما كتبه الله سبحانه؟ أهي قوانين الجندية والتجنيد المنظمة لأولوية الجهاد في سبيل الله، وضرب الجزية والخراج على أهل الكتاب وأشباههم، كما أمر الله؟ أم قوانين التجارة والصناعة التي تمنع تصنيع ما حرم الله جل جلاله والمتاجرة فيه؟ وغيرها من قوانين الصحافة والإعلام والإدارة والمؤسسات، وما إلى ذلك وفق المنظور الشرعي؟
وإني لا أتحدّث في دائرة الإجتهاد، بل في نطاق كليات الدين وثوابته.. أتُرى هذه القوانين الكفرية صادرة عن الكتاب والسنّة؟ أم على الله تفترون؟
فيا أيها الشيخ! ها أنت تجادل عن الدساتير والقوانين الوضعية الوضيعة وعن أهلها من القوميين والبعثيين والجمهوريين.. وها أنت خصيم لهم في الدنيا وهم خائنون لدين الله تعالى، فمن يجادل عنهم جميعا يوم القيامة؟ (هأنتم هؤلاءِ جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمَن يجادلُ اللهَ عنهم يوم القيامة أم مَن يكونُ عليهم وكيلا) ، (ولا تكن للخائنين خَصيما) .
ولو تأمل الشيخ قليلا في عبارة كتبها بخط يده، لأدرك أنه يهدم الديمقراطية هدما تامّا، وهي قوله: "ويمكن إضافة مادة في الدستور صريحة واضحة: إنّ كل قانون أو نظام يخالف قطعيات الشرع فهو باطل" قلت: والديمقراطية تخالف قطعيات الشرع، وأصوله وفروعه.. فهي باطلة.
الديمقراطية شكل للحكم، ولكن...
قال الشيخ القرضاوي في فقرة أخرى: "المسلم الذي يدعو إلى الديمقراطية إنما يدعو إليها باعتبارها شكلا للحكم" أقول: إنّ المسلم لا يدعو إلى غير الإسلام، والديمقراطية غير الإسلام.. واسألوا أي ديمقراطي غربي، نصراني أو يهودي أو غيرهما، فسيؤكدون لكم أنهم لا يقصدون حرفا واحدا من الإسلام، وهم يتكلمون بالديمقراطية أو يتعاملون بها، على توالي الأيام.
ثم متى ترك لنا ديننا اختيار أشكال الحكم من أعدائنا؟ أوليس الإسلام نظام حكم ومنهاج حياة؟ أين نظام الخلافة، ونظام الشورى، ونظام البيعة، ونظام الحسبة، ونظام الزكاة، ونظام الجهاد؟ وكل ديننا نظام في نظام في نظام..
أهكذا يراد لنا في آخر زمامننا أن نمارس وظيفة السؤال والتّسوّل من أجل قيام دولتنا؟
إنّ الذين يدعون إلى الديمقراطية من المسلمين، إن صحّ أنهم مسلمون، كان عليهم أن يوفّروا جهودهم لتوظيفها في الدعوة إلى الله، لا إلى نِحل أعداء الله.. وعَلامَ تدعون إلى الديمقراطية؟ فهي موجودة في كل مكان.
ولا يقولنّ قائل، إنّ الموجود هو مسخ للديمقراطية، وتشويه لها، ولا سيما في البلاد العربية والإسلامية، ذلك لأن الديمقراطية هي نسيج المسخ والتشويه، ولو كانت في قلب البيت الأبيض..
فهي مسخ لإنسانية الإنسان، وتشويه لكرامته وشرفه.. وإلا دُلّوني على مجتمع ديمقراطي واحد، لا تُحمى فيه الدّعارة والخمر والربا وغيرها.. وهو الفساد الكبير لعِرض الإنسان وعقله وماله.. فضلا عن دينه وعقيدته.
وأظن أنّ الدكتور غابت عنه تماماً كل أسس الديمقراطية الجوهرية، حتى إنه لم يعد يميز نهائيا بينها وبين الإسلام، ولا يرى أي تناقض بينهما حيث قال: "لا يلزم إذن من الدعوة الديمقراطية اعتبار حكم الشعب بديلا عن حكم الله، إذ لا تناقض بينهما".(52/496)
يقول ذلك، مع أن التناقض وحده هو الذي يطبع كل مقارنة بينهما.. وأنهما لا يلتقيان إطلاقا، لا في أصولهما وجوهرهما، ولا في فروعهما ووسائلهما.
ولقد تحدث الشيخ عما يسمّيه الفقهاء بالمصالح المرسلة، وضرب لها أمثلة: قوانين السير والمرور، وتنظيم بناء المحلات التجارية.. ذكر ذلك عقب تنبيهه على أنّ الثوابت الدينية لا تدخل في التصويت والإستشارة، إنما ذلك خاص بالمسائل الإجتهادية، كتلك التي ضرب لها مثالا.
فهل هذا هو واقع المسلمين، أيها الناس؟ أعني، هل الإنتخابات المتعارف عليها شرقا وغربا، لا تُجرى إلا من أجل ترجيح شعبي لمسألة اجتهادية لا نص فيها؟ هذا إن صح الترجيح من غير العلماء.. فكيف وهو يحرُم؟
أما تحديد مدة رئيس الدولة، وجواز تجديد انتخابه أو لا.. فهذا الكلام مكانه ليس بيننا، نحن المسلمين. والدكتور الثرضاوي يعلم جيدا الفرق الكبير بين " الجمهورية "، دولة الديمقراطية والتسلط والإستبداد، وبين الخلافة الإسلامية، دولة الإيمان والمان، والشريعة والإحسان، والإعداد والجهاد.
وما كان للآراء أن تختلف في هذه القضايا ابتداءً، إذ الإختلاف من طبيعة الإجتهاد، وإنه لا اجتهاد في مورد النص.
مدح بليغ للديمقراطية:
وبعد قول طويل استعرض فيه الشيخ ديمقراطية البلاد الإسلامية، أي ديمقراطية القهر والجبروت، واستخدام الحديد والنار، ديمقراطية المعاداة للإسلام، وفتح السجون، والسياط التي تلهب، وأحكام الطوارئ التي تلاحق كل ذي رأي حرّ.
إلى آخر كلامه هو، والذي يعبر فيه حقيقة عن حقيقة الديمقراطية التي يطالب بها هو صراحة حيث قال: " وأنا من المطالبين بالديمقراطية بوصفها الوسيلة الميسورة والمنضبطة لتحقيق هدفنا في الحياة الكريمة.. دون أن يُزج بنا في ظلمات المعتقلات، أو تُنصب لنا أعواد المشانق ".
إنه كلام، لو أراد الكفار أن يمدحوا ديمقراطيتهم، للما وجدوا أجمل ولا أكمل منه.
فلتهنأ عيون الكافرين بما حقّقوه فينا من روح الإنهزام والتشبه بهم، والمتابعة لهم، بل والمتايعة أحيانا، ولا أقول فقط، المتابعة.
فيا حسرة على تلك الروح الكريمة القديمة التي كان الشيخ الدكتور القرضاوي ينفخها في الناس، بكتاباته وأشعاره الرائعة الأصيلة، وخطبه ومحاضراته الجليلة، الذائعة الصيت.
فهل يعود الشيخ إلى ما عوّدنا عليه من أصالة وتأصيل، واعتصام بالتنزيل، أم نقول: (إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعون) ، اللّهم أْجُرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها؟
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين
وكتبه محمد بن محمد الفزازي | طنجة / الثلاثاء 14 شعبان 1417 هـ
عن كتاب : " نظرات في السياسة الشرعية ؛ الشورى المفترى عليها والديمقراطية ".
----------------
1) راجع المادة الثامنة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
2) رواه الترمذي.
====================(52/496)
الرد على القرضاوي ناصر بن حمد الفهد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن مما ابتليت به الأمة في هذه الأزمان ظهور أقوام لبسوا رداء العلم مسخوا الشريعة باسم التجديد، ويسروا أسباب الفساد باسم فقه التيسير،وفتحوا أبواب الرذيلة باسم الاجتهاد، وهونوا من السنن باسم فقه الأولويات، ووالوا الكفار باسم تحسين صورة الإسلام ، وعلى رأس هؤلاء مفتي الفضائيات (يوسف القرضاوي) حيث عمل على نشر هذا الفكر عبر الفضائيات وشبكة الإنترنت والمؤتمرات والدروس والكتب والمحاضرات وغيرها، وهذه الأوراق فيها خلاصة لبعض فكر هذا الرجل الذي يروج له، أظهرتها نصحا للأمة وبراءة للذمة وتحذيرا من هذا الرجل وأضرابه، ولم أطل بالرد عليه هنا لأن ما ذكرته هنا يستنكره عوام المسلمين، ومن أراد تفصيل هذه المقولات والرد عليها فهي في كتاب (الرد على القرضاوي) ، قاله كاتبه/ناصر بن حمد الفهد في أول شهر شوال عام 1420.
أولا : موقفه من الكفار :
لقد ميع القرضاوي وأمات عقيدة الولاء والبراء من الكفار ، وإليك بعض أقواله :
1-قال عن النصارى :(فكل القضايا بيننا مشتركة فنحن أبناء وطن واحد، مصيرنا واحد، أمتنا واحدة، أنا أقول عنهم إخواننا المسيحيين، البعض ينكر علي هذا كيف أقول إخواننا المسيحيين؟ (إنما المؤمنون أخوة) نعم نحن مؤمنون وهم مؤمنون بوجه آخر)[1].
2-و قال في نفس البرنامج عن الأقباط إنهم قدموا الآف (الشهداء) لا ختلاف المذاهب .
3-وقال (إن مودة المسلم لغير المسلم لا حرج فيها)[2].
4-وقال إن العداوة بيننا وبين اليهود من أجل الأرض فقط لا من أجل الدين[3] وقرر أن قوله تعالى (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) أن هذا بالنسبة للوضع الذي كان أيام الرسول (صلى الله عليه وسلم) وليس الآن[4]، مع العلم بأنه يستدل بآخر الآية على قرب النصارى الآن من المسلمين!![5]، ويقول (إذا عز المسلمون عز إخوانهم المسيحيون من غير شك وإذا ذل المسلمون ذل المسيحيون)[6].
5-وقرر في مواضع أن الإسلام_ بزعمه_ يحترم أديانهم المحرفة [7]، وقرر أنهم كالمسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم[8] ، وأن الأرضيات مشتركة بين المسلمين وبين النصارى ، وأن الإسلام ركز على نقاط الاشتراك بيننا وبينهم لا على نقاط الاختلاف [9]، وأنه لا بد من أن يقف المسلمون والنصارى جميعا في صف واحد على هذه الأرضيات المشتركة بينهم ضد الإلحاد والظلم والاستبداد[10] ، ويذكر أن الجهاد إنما هو للدفاع عن كل الأديان لا عن الإسلام فقط [11]، وجوز تهنيئتهم بأعيادهم[12]، وتوليهم للمناصب والوزارات[13].
6-كما قرر أن الجزية إنما تؤخذ من أهل الذمة مقابل تركهم الدفاع عن الوطن وأما الآن فتسقط عنهم لأن التجنيد إجباري يستوي فيه المسلم والكافر[14].
ثانيا : موقفه مع المبتدعة :
تجد القرضاوي إذا تكلم ضد بدعة فإنه يتكلم ضد خصم لا وجود له ، فهو يتكلم على المعتزلة والخوارج الأوائل ، ولكنه في المقابل يثني على وارثيهم اليوم ، أما الرافضة الذين ورثوا عقيدة المعتزلة وأضافوا إليها من الموبقات والعظائم مايكفي عشر معشاره لإلحاقهم بأبي جهل فتجده مدافعا عنهم ومؤاخيا لهم بل ويعتبر إثارة الخلاف معهم خيانة للأمة، ويعتبر لعنهم للصحابة وتحريفهم القرآن وقولهم بعصمة الأئمة وحجهم للمشاهد وغيرها (خلافات على هامش العقيدة)!![15] ، وكذلك يقول في وارثي الخوارج اليوم وهم الإباضية[16]، وأما الأشاعرة والماتريدية فهم من أهل السنة عنده ولا مجال للنقاش في ذلك[17] .
ثالثا : موقفه من السنة :
يسير القرضاوي مع تيار العقلانيين في عرض السنة على عقولهم الكاسدة وأفهامهم الفاسدة ، ومن ثم رد بعضها وتأول البعض الآخر مما لا يتفق مع هواه ، وإليك أمثلة من أقواله في السنة :
1-ثبت في مسلم مرفوعا (إن أبي وأباك في النار) وأجمع العلماء على ذلك .
قال القرضاوي: قلت : ما ذنب عبد الله بن عبد المطلب حتى يكون في النار وهو من أهل الفترة والصحيح أنهم ناجون؟!!![18]
2-وثبت في الصحيحين مرفوعا (يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح) .
قال القرضاوي : من المعلوم المتيقن الذي اتفق عليه العقل والنقل أن الموت ليس كبشا ولا ثورا ولا حيوانا من الحيوانات[19] .
3-وثبت في الصحيح مرفوعا (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
قال القرضاوي: هذا مقيد بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان الحكم فيه للرجال استبدادياً، أما الآن فلا[20].
4- وثبت في الصحيح (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم من إحداكن).
قال القرضاوي : إن ذلك كان من الرسول على وجه المزاح [21].
5-وثبت في الصحيح (لا يقتل مسلم بكافر) .
قال القرضاوي-بعد أن قرر أن المسلم يقتل بالكافر خلافا للحديث- : إن هذا الرأي هو الذي لا يليق بزماننا غيره.. ونحن بترجيح هذا الرأي نبطل الأعذار ونعلي راية الشريعة الغراء.[22]
وله غير ذلك كثير .
رابعا : موقفه من المرأة :
عمل القرضاوي على هتك ستر النساء المحجبات بكل ما يستطيع ، فأعلن مرارا أن فصل النساء عن الرجال في المحاضرات بدعة ،وأنه من التقاليد التي ليست من الإسلام[23]، وأنه لا بد من كسر هذا الحاجز بين النساء والرجال ، وقال بالنص (للأسف أنا من السبعينات وأنا أذهب لأمريكا لحضور مؤتمرات إسلامية، ولكن تلقى المحاضرات في هذه المؤتمرات للنساء في جهة وللرجال في جهة أخرى، فالتشدد غلب المجموعات هناك وفرضوا التقاليد على المجتمع الغربي نفسه، حيث أخذوا الأقوال المتشددة وتركوا الأقوال الراجحة، وأصبح الرجال لهم مكان للقاء منفصل عن مكان النساء)،[24]وقال أيضا في نفس البرنامج (مع أن مثل هذه المؤتمرات تعتبر فرصة لرؤية شاب فتاة فيعجب بها، ويسأل عنها ويفتح الله قلبيهما ويكون من وراء ذلك تكوين أسرة مسلمة)، وقال في نفس البرنامج لما قدمه رجل في محاضرة خاصة بالنساء (قلت للمقدم ما مكانك أنت هنا؟ المفروض أن تكون مكانك إحدى الأخوات فالموضوع يخصهنّ، فتقوم على تقديمي وإلقاء الكلمة وتلقي الأسئلة، بهذا ندربهن على القيادة، لكن هناك تحكم دائم من الرجل في المرأة حتى في أمورهن )،وقرر أنه لابد للنساء المحجبات من الظهور في التلفاز والقنوات الفضائحية [25]، ولا بد للمرأة من الاشتراك في التمثيل والمسرح [26]، بل قد ذكر أن له ابنتين درستا في جامعات إنجلترا(وهو إنما يدعو للاختلاط المحتشم!!!!) إلى أن حصلتا على الدكتوراة إحداهما في الفيزياء النووية والثانية في الكيمياء الحيوية !!![27].
خامسا : القرضاوي والملاهي :
يعتبر القرضاوي من أشهر الدعاة (الشرعيين!!!) إلى الغناء والملاهي ويقرر هذا الأمر من عدة نواحي :
1- فيقرر في كثير من كتبه أن الغناء حلال [28]، وأن السينماء حلال طيب[29] .
2- ويذكر أنه ينكر على الفنانين الذين يعتزلون الفن !![30].
3- ويبارك الذين يلبسون الصلبان ويظهرونها من أجل تمثيل الحملات الصليبية مختتما إجازة هذا العمل لهم بقوله (فسيروا على بركة الله والله معكم ولن يتركم أعمالكم)[31] .
4- ويذكر أنه يتابع أغاني (فايزة أحمد) و (شادية) و (أم كلثوم) و (فيروز) وغيرهن[32].
5- ويذكر عن نفسه أنه يتابع الأفلام والمسلسلات والمسرحيات ، كفيلم (الإرهاب والكباب) لعادل إمام-وفيه استهزاء بالمتدينين-، و (ليالي الحلمية) و (رأفت الهجان) وأفلام غوار ونور الشريف ومعالي زايد غيرها[33] .
6- ويفتي بجواز النظر للنساء اللاتي يظهرن في الشاشة [34].
سادسا : شذوذاته الفقهية :
كما أنه شذ في كثير من آرائه الفقهية ضاربا عرض الحائط بالنصوص وأقوال العلماء وإليك بعضا من شذوذاته :
1- يقرر أن الرجم تعزير لولي الأمر إلغاؤه إن رأى المصلحة في ذلك[35].
2- وأن الردة نوعان ردة مغلظة وهي المصاحبة للعنف ضد المجتمع فهذا يقتل، وردة مخففة وهي ما عدا ذلك فيترك صاحبها [36].
3- وأن للمرأة أن تتولى منصب الولاية العامة[37].
4- وأن المرأة إذا كانت تشترك في البيع والشراء والمعاملات فشهادتها كشهادة الرجل[38].
5- وأنه يجوز حلق اللحى[39].
6- ويجوز الربا اليسير 1% او 2% بحجة أنه خدمات إدارية[40] .
بالإضافة إلى إباحته للغناء والملاهي والتلفاز والقنوات والمسلسلات وإسبال الثياب والسفور والتصوير والتمثيل وبيع الخمر والخنزير للكفار ونقل أعضاء الخنزير للمسلم ومصافحة النساء والتزيي بزي الكفار وأكل المصعوقة من اللحوم وسفر المرأة وابتعاثها للدراسة بلامحرم وغير ذلك ، وقد صدق فيه من قال إن القرضاوي بفتاواه ومسخه للشريعة إنما يصيح بجميع المنتسبين إلى الإسلام قائلا لهم بلسان حاله (اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة!!!) .
نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإسلام والسنة ، وأن يعيذنا من هذه الأقوال وأصحابها، وأن يجعلنا من المتمسكين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
http://alssalaf.hype R ma R t.net
----------(52/496)
[1] برنامج الشريعة والحياة حلقة بعنوان غير المسلمين في ظل الشريعة الإسلامية تاريخ 12/10/97 في قناة الجزيرة عافانا الله منها، وتقريره أن الكفار إخوة له في كثير من كتبه منها (فتاوى معاصرة)2/668، (الخصائص العامة للإسلام)90-92،(ملامح المجتمع المسلم)138، وقررها في كثير من برامجه التي تظهر في القنوات الفضائحية ، وإبعادا للشبهة فإن ما أنقله عنه مما ورد في برامجه في القنوات لم أرها -والعياذ بالله- وإنما نقلتها مما هو مطبوع منها وموجود في موقعه على شبكة الإنترنت.
[2] (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) ص 68، -ط4-1405، وقرر هذه المسألة في البرنامج السابق وفي عدد من كتبه الأخرى.
[3] (الأمة الإسلامية حقيقة لا وهم) ص 70-ط1-1407 ، وقرر هذا أيضا ف برنامج الصراع بين المسلمين واليهود الآتي.
[4] برنامج الشريعة والحياة حلقة بعنوان الصراع بين المسلمين واليهود بتاريخ 7/12/97.
[5] حلقة بعنوان غير المسلمين في ظل الشريعة الإسلامية في برنامج الشريعة والحياة مثلا .
[6] حلقة الإسلام دين البشائر والمبشرات من برنامج الشريعة والحياة بتاريخ 24/1/99م.
[7] الإسلام والعلمانية 101، (شريعة الإسلام خلودها وصلاحها للتطبيق) 52، وذكر هذا في عدد من برامجه في القنوات.
[8] ذكره في مواضع منها (الحلال والحرام) و (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) و غيرها من الكتب ، وذكرها في برنامج الشريعة والحياة في حلقة غير المسلمين في ظل الشريعة الإسلامية و حلقة الصراع بين المسلمين واليهود وغيرها .
[9] (فتاوى معاصرة) 2/671، (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم)147.
[10] برنامج المنتدى حلقة بعنوان مستقبل الأمة بين التفاؤل والتشاؤم بتاريخ 7/3/98 في قناة أبوظبي عافانا الله وإخواننا المسلمين منها، وبرنامج الشريعة والحياة حلقة بعنوان غير المسلمين في ظل الشريعة الإسلامية .
[11] برنامج الشريعة والحياة حلقة بعنوان العلاقات الدولية بتاريخ 8/3/98.
[12] برنامج الشريعة والحياة حلقة غير المسلمين في ظل الشريعة الإسلامية ، وحلقة فضل العشر الأواخر من رمضان بتاريخ26/12/99م،وكتاب (فتاوى معاصرة) 2/617.
[13] برنامج الشريعة والحياة حلقة غير المسلمين في ظل الشريعة الإسلامية ، (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) ص 22.
[14] حلقة غير المسلمين في ظل الشريعة الإسلامية من برنامج الشريعة والحياة ، وكتاب غير المسلمين في المجتمع الإسلامي 55.
[15] هذا مذكور في مقال بعنوان (زيارة القرضاوي لإيران) وهو موجود في موقعه على شبكة الإنترنت ،وانظر (المرجعية العليا للإسلام)ص 14، وحلقة مستقبل الأمة بين التفاؤل والتشاؤم في برنامج الشريعة والحياة ، وكتاب (الغزالي كما عرفته)242.
[16] حلقة الإسلام وشبكة الإنترنت من برنامج الشريعة والحياة بتاريخ 28/6/98م .
[17] قرر هذا في عامة كتبه إذا تعرض لأهل السنة والجماعة ، انظر مثلا (المرجعية العليا) ص 320،352، (السنة مصدرا للمعرفة والحضارة) 95.
[18] (كيف نتعامل مع السنة النبوية) ص 97، وهذا الكتاب ألفه مساندا لكتاب رفيقه الهالك الغزالي المسمى (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) حيث إن الغزالي ألف ذلك الكتاب استجابة لطلب (معهد الفكر الإسلامي) لصاحبه المعتزلي الخبيث طه جابر علواني من أجل محاربة السنة النبوية ، قال العلواني في مقدمة كتاب القرضاوي ص9(وحين رأى المعهد الغبش الذي أحاط برسالة كتاب الشيخ الغزالي وشغل معظم الأذهان عن رسالته الأساسية وشكلياته توجه برجائه إلى صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله تعالى ونفع به ليعد كتابا ضافيا في مناهج فهم السنة(الصواب: رد السنة)).
[19] نفسه ص 162.
[20] برنامج في قناة a صلى الله عليه وسلم t ، بتاريخ 4/7/1418، وهو ندوة عقدت للقرضاوي مع جمع من المتبرجات ليحاكم لهم النصوص النبوية، وقد رد عليه عبد الرحمن عبد الخالق في (ردود ومناقشات حول تولي المرأة الولايات العامة) .
[21] قاله في نفس الندوة .
[22] (الشيخ الغزالي كما عرفته) ص 168.
[23] ذكر هذا في كثير من كتبه وندواته وبرامجه ، ومن ذلك : (أولويات الحركة الإسلامية)ص 67،(ملامح المجتمع المسلم)ص3، (مركز المرأة) ص 41،130، والبرامج الآتية أيضا.
[24] حلقة تحديات المرأة المسلمة في الغرب من برنامج الشريعة والحياة 28/9/97م.
[25] حلقة الفضائيات في برنامج الشريعة والحياة بتاريخ 13/6/99م.
[26] مجلة المجتمع عدد رقم 1319 بتاريخ 9/6/1419.
[27] أخبارالأسبوع ، عدد 401 ، السبت 5 مارس ( 3 ) 1994 م ، مجلة سيدتهم ! العدد 678 ، 5 - 11 / 3 / 1994 .
[28] في عامة كتبه وبرامجه ككتاب الحلال والحرام ، والمرجعية العليا ، وفتاوى معاصرة ،وحلقة أخلاقيات المسلم من برنامج الشريعة والحياة بتاريخ 14/6/99، وفي حلقة مفتوحة لأسئلة المشاهدين بتاريخ 12/4/98م.
[29] ذكره في الحلال والحرام أيضا .
[30] في حلقة مفتوحة لأسئلة المشاهدين من برنامج الشريعة والحياة بتاريخ 12/4/98م .
[31] فتوى له موجودة في موقع (الإسلام على الإنترنت) في (الإنترنت) ، والموقع تحت إشرافه، وفيه من الطوام والعظائم أمور منها الدلالة على جميع القنوات الفضائحية في العالم حتى (الفاتيكان) ، وركن التعارف (حتى بين الجنسين)، وخدمة الزواج (حتى بين الكفار)، وركن الثقافة والفن وفيه الحديث عن الأفلام والمسرحيات والفضائيات، وفيه صور للنساء المتبرجات (ليس السافرات فقط)، وفيه تبجيل العقلانيين كالجاحظ وعمارة والعوا، وتلميع رؤوس الطواغيت كالسنهوري (الذي دون ثمانية دساتير عربية)، إلى غير ذلك من الموبقات، وهو يقول بأنه يريد أن يجعل هذا الموقع دار فتوى عالمية !!!!.
[32] جريدة الراية القطرية ، عدد 5969 ، تاريخ : 19 جمادى الأولى 1419.
[33] جريدة الراية القطرية ، عدد 5969 ، تاريخ : 19 جمادى الأولى 1419، و مجلة سيدتهم عدد678،5-11/3/94م، وأخبار الأسبوع عدد401 ، 23 رمضان 1414.
[34] حلقة الفضائيات من برنامج الشريعة والحياة بتاريخ 13/6/99م .
[35] حاشيته على فتاوى (مصطفى الزرقا) ص 394، وحلقة السنة النبوية مصدر للتشريع بتاريخ10 /5/98 من برنامج الشريعة والحياة ، وهذا خلاف النصوص القاطعة، وخلاف الإجماع المتواتر الذي اعترف هو به.
[36] برنامج (المنتدى) في قناة أبي ظبي حلقة بعنوان (شروط الفتوى) في 10/1/98 ، وأشار إلى هذا في (الخصائص العامة للإسلام) 240 ، وهذا خلاف الإجماع الذي نقله العلماء كابن المنذر وابن عبد البر وابن قدامة وشيخ الإسلام وابن رشد وغيرهم.
[37] سبق ذكره في القرضاوي والمرأة ، وهو خلاف الإجماع الذي نص عليه عدد من الأئمة، والذي عليه عمل المسلمين المتواتر عمليا.
[38] وهذه من طوامه وموبقاته ، حيث نقل هذا الكلام - مستشهدا به - من شلتوت للرد على شبهة تنقص المرأة وذلك في كتابه (مركز المرأة) ص 20.
[39] ذكره في كتابه الحلال والحرام ص91، وفي كتابه المرجعية العليا 243، وفي مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ص85، وفي حلقة السنة مصدر للتشريع من برنامج الشريعة والحياة ، وفي حلقة الزواج من غير المسلمات من برنامج المنتدى، وهو خلاف الإجماع الذي نقله ابن حزم وابن مفلح وابن عابدين وغيرهم.
[40] حلقة شروط الفتوى من برنامج المنتدى بتاريخ 10/1/98م، وحلقة مفتوحة لأسئلة المشاهدين من برنامج الشريعة والحياة بتاريخ 12/4/98م، وهذا خلاف الإجماعات القاطعة التي ذكرها الأئمة كابن حزم وابن المنذر وابن قدامة وغيرهم، وبعض طلبة العلم يخلط بين ربا البيوع (الذي وردت فيه الأصناف الستة) وبين ربا القروض المجمع عليه، فإن الربا الأول هو الذي وقع الخلاف فيه وفي تعليل الأصناف الستة وهل تعدى إلى غيرها أو لا ؟ ، أما ربا القروض - وهو المعمول به في البنوك- فلا يجوز قطعا بالإجماع الذي نقله غير واحد في جميع الأصناف وممن نقله ابن حزم في المحلى وغيره.
=================(52/496)
وقفات مع فتوى القرضاوي حول القواعد الأمريكية
[الكاتب: عبد الآخر حماد الغنيمي]
لا يخفى على أحد مدى الذلة والهوان التي وصل إليها حال المسلمين في غياب الاحتكام إلى شريعة الله تعالى واتباع أمره، ولا شك أن الجرم الأكبر في هذا الأمر إنما يتحمله أولئك الثلة من الحكام الذين قادوا بلادهم إلى مستنقع التبعية والولاء لأعداء الله تعالى.
وإذا كان بعض أهل العلم قد وفقه الله للصدع بالحق في رفض العدوان الأمريكي المزمع على الشعب العراقي المسلم ووجوب مقاومة هذا العدوان، فإني أرى أن من الجوانب المهمة التي يتغافل عنها كثير من أهل العلم بيان الموقف الشرعي من هؤلاء الحكام الذين فتحوا بلادهم للقوات الأمريكية الكافرة ومدوها بأنواع شتى من المظاهرة والمعاونة.
ولذا فلقد تعجبت كثيراً حين سمعت وقرأت بعض كلام الشيخ القرضاوي حفظه الله فيما يتعلق بالأحداث الراهنة، وذلك أنه مع صدعه بالحق في وجوب مقاومة القوات الأمريكية الغازية بكل السبل المتاحة، إلا أننا فوجئنا به يدعو في برنامج "الشريعة والحياة" بتاريخ [16/2/2003]، إلى احترام الاتفاقات القديمة التي تمت بين الأمريكان وحكام المنطقة، والتي توجد بموجبها قواعد أمريكية في منطقة الخليج.
بل قد أكد الشيخ في حديث لموقع حقائق مصرية بتاريخ [24 من ذي الحجة 1423 هـ]: (أنه بالنسبة للقواعد الأمريكية القديمة المنتشرة في منطقة الخليج فإنها قامت بطريقة شرعية؛ لأنها جاءت بقرارات حكومات شرعية، فهذه نبقى عليها، بينما الإنزال الجاري حالياً لا توافق عليه غالبية الدول العربية والإٍسلامية، مما يجعله غير شرعي ومرفوضاً، ولا يجوز السماح لها بالتواجد من أجل احتلال أراضي المسلمين).
وهذه التفرقة بين الوجود الأمريكي السابق والوجود اللاحق أمر في غاية الغرابة، ويكاد يكون نوعاً من الدبلوماسية التي قد نتوقع وجودها في خطابات الساسة وحوارات الصحافيين، لكنها لا يمكن فيما أرى والله أعلم أن تكون خطاباً شرعياً ينتظره الناس من واحد من علماء المسلمين.
ويمكن إجمال ملاحظاتنا على فتوى الشيخ القرضاوي في النقاط الآتية:
أولاً: أن الفتوى قد أضفت صفة الشرعية على الحكام المخالفين لشرع الله، بينما النظر الشرعي الصحيح يؤكد أنه لا نصيب لهؤلاء الحكام من الشرعية بمعناها الإسلامي، وما ذلك إلا لأن شرعية الحاكم في الإسلام مستمدة من كونه حاكماً بمقتضى شرع الله تعالى، ومتى خرج الحاكم عن حكم الشرع إلى تحكيم أهواء الناس وعقول البشر فقد انتفت شرعيته ولم يعد له ولاية على المسلمين، وأي شرعية لمن خرج عن حكم الشرع، وتحاكم إلى شرائع الجاهلية فحرم ما أحل الله وأحل ما حرم الله وبدل شريعة الله؟
وقد قال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} [المائدة: 50].
قال الشيخ رشيد رضا: (ومن المسائل المجمع عليها قولاً واعتقاداً: أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وإنما الطاعة في المعروف، وأن الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتد عن الإسلام واجب،وأن إباحة المجمع على تحريمه كالزنا والسكر واستباحة إبطال الحدود وشرع ما لم يأذن به الله كفر وردة) [تفسير المنار 6/303].
كما أننا نعلم أن من أهم واجبات الحاكم المسلم كما تذكرها كتب السياسة الشرعية "حماية البيضة، وتحصين الثغور، وجهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة" [انظر الأحكام السلطانية للماوردي ص: 51]، فهل يعتبر حاكماً شرعياً من استبدل بجهاد المعاندين موالاتهم وجعل أرض الإسلام كلأً مباحاً لهم؟
ثانياً: أنه بفرض شرعية هؤلاء الحكام فإنه لا بد من النظر في ما يعقدونه من الاتفاقات والمعاهدات فما كان منها موافقاً للشرع قُبل، وما كان منها مخالفاً لشرع الله رُد ولا كرامة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف) [أخرجه البخاري 7257/ومسلم 1840، من حديث عليٍّ].
ولا شك أن هذه الاتفاقات القديمة التي يشير إليها الشيخ القرضاوي مخالفة لشرع الله تعالى باعتبارها قد نصت على وجود عسكري للكفار في بلاد المسلمين، خصوصاً ما كان منها في جزيرة العرب فإنه مخالف مخالفة صريحة لقوله صلى الله عليه وسلم: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) [أخرجه البخاري 3053/ومسلم 1637، من حديث ابن عباس].
كما أن هذا الوجود العسكري لا يخضع لسيطرة هذه الحكومات التي وصفها الشيخ بأنها شرعية، وقد اعترف وزير خارجية قطر في مقابلة تلفزيونية منذ فترة أن الأمريكان لا يسمحون لأحد بأن يتخذ معهم قراراً بشأن وجود تلك القوات وتحركاتها، فكيف تحترم اتفاقات تسمح لأعداء الله بأن يفعلوا في ديار المسلمين ما يريدون، دون مشاورة مع هذه الحكومات التي يضفي عليها الشيخ صفة الشرعية، وإذا كان فقهاؤنا يقولون إن وجود شرط مخالف للشريعة في عقد الصلح مع الكفار يبطله، فكيف إذا كان العقد كله باطلاً؛لأنه عقد إذلال وإذعان يذعن بمقتضاه المسلمون لما يريده الكافرون بل يقدمون لهم من المؤن والتسهيلات ما يشاؤون؟
ثالثاً: أن هذه الاتفاقات القديمة كانت هي المقدمة الطبيعية لمجيء القوات الأمريكية هذه المرة، وقد رأينا بعض القطريين في معرض دفاعه عن هذا الإنزال الجديد، يحتج بالتواجد الأمريكي السابق في بلاد الحرمين وأن الحكومة السعودية قد سمحت للأمريكان بالمجيء ثم البقاء في أراضيها.
ثم كيف يتسنى للمرء المسلم الذي يريد أن يجاهد الأعداء أن يفرق بين الوجود القديم والجديد، بعد أن اختلط الجديد بالقديم، وصار الإنزال الجديد يتم في قواعد قديمة؟ وهل كتب على سترة كل جندي منهم أنه من القوات المتواجدة من قديم أو من الإنزال الجديد؟
رابعاً: أنه إذا كانت شرعية الاتفاقات القديمة قد جاءت من كونها تمت على يدي حكومات شرعية فإن المجيء الجديد للأمريكان هو أيضاً قد تم عن طريق هؤلاء الحكام، فإن كان هذا المجيء قد جاء برغبتهم فما الفرق بينه وبين القواعد السابقة؟وإن كان قد جاء رغماً عنهم فذلك دليل على أنه لا شرعية لهؤلاء الحكام ولا احترام لما أبرموه من الاتفاقات لا القديمة ولا الجديدة.
أما القول بأن مجيء القوات الأمريكية واتخاذها القواعد في أرض المسلمين كان في المرة الأولى بموافقة أغلب الدول العربية والإسلامية، وأما الآن فإن الغالبية تعارضه؛
فإنه لا حجة في ذلك لما أسلفناه من أن العبرة في قبول الاتفاقات هو موافقتها للأصول الشرعية لا موافقة أغلبية الحكام عليها، والقول بهذا يوقع قائله في نفس المأزق الذي وقع فيه من أفتى ببطلان صلح السادات مع دولة اليهود على أساس أنه صلح منفرد لم تشارك فيه غالبية البلاد الإسلامية، ثم وجدنا كل الحكام بعد ذلك يسيرون في نفس خط السادات على نحو ما جاء في قصيدة أحمد مطر عن الثور الذي فر من الحظيرة واجتمعت الأبقار لعقابه، ثم وقعت بعد عام حادثة خطيرة: لم يرجع الثور ولكن ذهبت وراءه الحظيرة.
خامساً: أن من أوجب الواجبات على أهل العلم تنبيه الأمة إلى أن ما يقوم به بعض حكام العرب من فتح المطارات والموانئ أمام القوات الأمريكية والسماح لتلك القوات بالانطلاق من أراضيها لغزو العراق واستغلال ثروات المسلمين وإعادة صياغة المنطقة حسب المصالح الأمريكية، هو من الأمور الخطيرة التي تمس أمر العقيدة في الصميم وليس مجرد معصية كبيرة أو صغيرة، وذلك لما دلت عليه النصوص الشرعية من أن مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين ناقض من نواقض الإسلام، ومخرج من الملة الحنيفية، قال تعالى: {ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون} [المائدة:80- 81].
وقد ذكر الشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله أن من أعظم نواقض الإسلام؛ مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، قال: (والدليل قوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}...) [مجموعة التوحيد ص 23].
وقال الإمام ابن حزم: (صح أن قوله تعالى {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}، إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين) [المحلى 11/138].
وقد بين أهل العلم أن مظاهرة المشركين يدخل فيها كل معونة تقدم لهم ولو كانت مجرد كلام باللسان كإبداء رأي أو مشورة، أو نحو ذلك، فقد ذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله - أحد أئمة الدعوة النجدية - أن من مبطلات الإيمان "موالاة المشرك والركون إليه ونصرته وإعانته باليد أو اللسان أو المال، كما قال تعالى {فلا تكونن ظهيرا للكافرين} [القصص:86]..." [الدرر السنية 11/300].
وللشيخ أحمد شاكر رحمه الله فتوى شهيرة في هذا الباب كان قد أصدرها إبان الاحتلال الإنجليزي والفرنسي لبعض ديار الإسلام يقول فيها: (أما التعاون مع الإنجليز بأي نوع من أنواع التعاون قل أو كثر فهو الردة الجامحة والكفر الصراح، لا يقبل فيه اعتذار ولا ينفع معه تأويل، ولا ينجي من حكمه عصبية حمقاء، ولا سياسة خرقاء، ولا مجاملة هي النفاق، سواء كان ذلك من أفراد أو حكومات أو زعماء،كلهم في الكفر والردة سواء، إلا من جهل وأخطأ ثم استدرك أمره فتاب واتخذ سبيل المؤمنين فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم، إن أخلصوا من قلوبهم لله، لا للسياسة ولا للناس) [كلمة الحق ص 130-131].
ثم يقول: (ألا فليعلم كل مسلم في أي بقعة من بقاع الأرض؛ أنه إذا تعاون مع أعداء الإسلام مستعبدي المسلمين من الإنجليز والفرنسيين وأحلافهم وأشباههم، بأي نوع من أنواع التعاون، أو سالمهم فلم يحاربهم بما استطاع، فضلاً عن أن ينصرهم بالقول أو العمل على إخوانه في الدين، أنه إن فعل شيئاً من ذلك ثم صلى فصلاته باطلة، أو تطهر بوضوء، أو غسل أو تيمم فطهوره باطل، أو صام فرضاً أو نفلاً فصومه باطل، أو أدى زكاة مفروضة، أو أخرج صدقة تطوعاً، فزكاته باطلة مردودة عليه، أو تعبد لربه بأي عبادة فعبادته باطلة مردودة عليه، ليس له في شيء من ذلك أجر، بل عليه فيه الإثم والوزر) [المصدر السابق ص: 132].
وهذا كله مما يبين خطورة الأمر وأن واجب أهل العلم ترك أنصاف الحلول بأن يكتفوا بإدانة العدوان الأمريكي المزمع على ديار المسلمين والسكوت عن أولئك الحكام الذين لا يستأسدون على أقوامهم وبني جلدتهم، حتى تكون الأمة على بينة من أمرها وتعلم أن من أعدى أعدائها أولئك الطواغيت الصغار الذين يمكنون للطاغوت الكبير - أمريكا - في ديار المسلمين.
هذا والله تعالى أعلم
وهو الهادي إلى سواء السبيل
===================(52/496)
التعليق على أدلة فتوى الشيخ القرضاوي في تجويزه المظاهرات
الحمد لله
لستُ في صدد ذكر حكم المظاهرات ولا أدلتها ، لكن استوقفتني أدلة الشيخ القرضاوي في ردِّه على " إخوانه " العلماء مستهجناً فتاواهم في المنع ، وذلك في حلقة أمس 2 / صفر / 1423 هـ من برنامج " الشريعة والحياة " ، وسأذكر أدلته وما فيها دون التعرض للمسألة ذاتها .
وأما قناعتي : فإنني أرى ما جاء في جواب الشيخ المنجد تحت السؤال رقم ( 11469 ) ، وفيه بيان محظورات التظاهر ، وأظن أنه يفرق بين الاحتجاح والمظاهرات ، وقد عدّ مفاسد المظاهرات ، وهو قوله :
وأما التظاهرات فإن فيها عدداً من المحذورات الشرعية يجب الحذر منها ، ومن ذلك :
خروج النساء متبرجات - واستعمال أصوات موسيقية أثناء المظاهرة - والهتاف بشعارات غير صحيحة مثل القدس عربية وستبقى عربية ( والصحيح أن القدس إسلامية وليست للعرب فقط ) - ووقوف المظاهرة أمام ضريح كافر أو لوضع إكليل من الزهور على قبره - التوسل للكفار بعبارات فيها مذلة للمسلمين - رفع صور أو دمى ذوات الأرواح - ظلم الآخرين كسد الطريق وتعطيل مرور الناس - استخدام سباب وشتائم لا تجوز شرعاً - اختلاط الرجال بالنساء أثناء المظاهرة - التشبه بالكفار بشيء من خصائصهم من لباس أو إشارة يضعها أو يرتديها المتظاهرون المسلمون - الاعتداء على ممتلكات الأبرياء كتحطيم محلاتهم أو نوافذهم أو إيقاد النار في المرافق العامة ونحو ذلك من المحرمات والله تعالى أعلم.
انتهى
قلت : وإذا خلت المظاهرات من هذا : فلن تكون هناك مظاهرات !
دليله الأول :
خروج النساء والأولاد في مجيء النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة !
الرواية :
" فلما دنا رسول الله من المدينة خرج الناس لتلقيه وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داع(52/496)
الرد :
قال ابن القيم - رحمه الله - :
وبعض الرواة يهم في هذا ويقول إنما كان ذلك عند مقدمه إلى المدينة من مكة وهو وهم ظاهر لأن ثنيات الوادع إنما هي من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام .
" زاد المعاد " ( 3 / 551 ) .
وقال ابن حجر - رحمه الله - :
وأخرج أبو سعيد في شرف المصطفى ورويناه في فوائد الخلعي من طريق عبيد الله بن عائشة منقطعا لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل الولائد يقلن :
طلع البدر علينا *** من ثنية الوداع
وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داع
وهو سند معضل ، ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك …
" فتح الباري " ( 7 / 261 ) .
وقال :
وقد روينا بسند منقطع في الحلبيات قول النسوة لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة طلع البدر علينا من ثنيات الوداع فقيل كان ذلك عند قدومه في الهجرة وقيل عند قدومه من غزوة تبوك .
" فتح الباري " ( 8 / 129 ) .
وانظر : "أحاديث القصاص" لابن تيمية (17) . "تذكرة الموضوعات" (196).
دليله الثاني :
هجرة عمر رضي الله عنه العلنية !
الرواية :
((و لم يهاجر أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا متخفياً غير عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه و تنكب قوسه و انتضى في يده أسهماً - (و فيه أنه قال: ((من أراد أن يثكل أمه، أو يوتم ولده، أو ترمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي)) قال علي: فما اتبعه إلا قوم من المستضعفين علمهم ما أرشدهم ثم مضى لوجهه. أسد الغابة ج4 ص 58).
الرد :
قال شيخنا الألباني :
قلت: و عليه مؤاخذتان:
أولاً: قوله: ((و لم يهاجر …)) هذا النفي ما مستنده؟ فإن الرواية التي ذكرها عن علي رضي الله عنه ليس فيها شيء من ذلك، و إن كان عمدة الدكتور فيه إنما هو أنه لم يعلم ذلك إلا عن عمر، فالجواب أن العلماء يقولون: إن عدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه. و هذا إذا صدر النفي من أهل العلم، فكيف إذا كان من مثل الدكتور البوطي؟!
ثانياً: جزمه بأن عمر رضي الله عنه هاجر علانية اعتماداً منه على رواية علي المذكورة، وجزمه بأن علياً رواها و ليس صواباً، لأن السند بها إليه لا يصح، و صاحب ((أسد الغابة))، لم يجزم أولاً بنسبتها إليه رضي الله عنه، و هو ثانياً قد ساق إسناده بذلك إليه لتبرأ ذمته، و لينظر فيه من كان من أهل العلم، و قد وجدت مداره على الزبير بن محمد بن خالد العثماني: حدثنا عبد الله بن القاسم الأملي (كذا الأصل و لعله الأيلي) عن أبيه بإسناده إلى علي، و هؤلاء الثلاثة في عداد المجهولين، فإن أحداً من أهل الجرح و التعديل لم يذكرهم مطلقاً، فهل وجدهم الدكتور، و عرف عدالتهم و ضبطهم، حتى استجاز لنفسه أن يجزم بصحة الرواية عن علي أم شأنه فيها كشأنه في غيرها إنما هو جماع حطاب، أو كما تقول العامة عندنا في الشام: (خبط لزء)! ثم هو إلى ذلك يدعي أنه اعتمد على الروايات الصحيحة!
" الرد على البوطي " .
دليله الثالث :
قول الصغار والمراهقين ! لجيش مؤتة لما رجع للمدينة : يا فرار يا فرار مع ضربهم بالحصى !
الرواية :
((فلما سمع أهل المدينة بجيش مؤتة قادمين، تلقوهم بـ (الجرف)، فجعل الناس يحثون في وجوههم التراب و يقولون: يا فرار (!) أفررتم من سبيل الله؟! فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: ليسوا بفرار، و لكنهم كرار إن شاء الله؟)).
الرد :
قال شيخنا الألباني - رحمه الله - :
فقلت : فهذا منكر بل باطل ظاهر البطلان، إذ كيف يعقل أن يقابل الجيش المنتصر مع قلة عدده و عدده على جيش الروم المتفوق عليهم في العَدد و العُدد أضعافاً مضاعفة، كيف يعقل أن يقابل هؤلاء من الناس المؤمنين بحثو التراب في وجوههم و رميهم بالفرار من الجهاد و هم لم يفروا، بل ثبتوا ثبوت الأبطال حتى نصرهم الله و فتح عليهم، كما في حديث البخاري: ((… حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم))؟!
و من العجائب أن الدكتور - أي : البوطي - بعد أن ذكر هذا الحديث الصحيح و أتبعه بقوله:
((و هذا الحديث يدل كما ترى أن الله أيد المسلمين بالنصر أخيراً)). فإنه مع ذلك أورد هذه الزيادة المنكرة فقال (2/180):
((و أما سبب قول الناس للمسلمين بعد رجوعهم إلى المدينة: يا فرار … فهو أنهم لم يتبعوا الروم و من معهم في هزيمتهم …))!
فنقول: إن هذا التأويل بعيد جداً، ثم إن التأويل فرع التصحيح، كما هو مقرر في ((الأصول))، فهلا أثبت هذه الرواية يا فضيلة الدكتور! حتى يسوغ لك أن تتأولها لتقضي به على هذا المعنى المستنكر الظاهر منها؟! و إلا فالواقع أن الأمر كما تقول العامة: هذا الميت لا يستحق هذا العزاء!
و إن كان هذا التأويل يدل على شيء، فهو أن الدكتور، لا يفرق بين ما صح و ما لم يصح من الأخبار، فهو يسوقها كلها مساقاً واحداً، و يعاملها معاملة واحدة! فهو مثلاً لا يفرق بين ما رواه البخاري و ما رواه ابن سعد و لو بدون إسناد؟ و ما هكذا يكون صنيع العلماء!(52/496)
و إذا شئت مثالاً على نقيض صنيعه، مصدره حافظ من حفاظ المسلمين، فخذ الحافظ ابن كثير مثلاً، فإنه ذكر هذه الرواية المستنكرة، في كتابه ((البداية))، (4/248) من رواية ابن إسحاق عن عروة مرسلاً، ثم قال: ((و هذا مرسل من هذا الوجه، و فيه غرابة، و عندي أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق، فظن أن هذا الجمهور: الجيش، و إنما كان الذين فروا حين التقى الجمعان، و أما بقيتهم فلم يفروا، بل نصروا كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين و هو على المنبر، فما كان المسلمون ليسمونهم فراراً بعد ذلك، و إنما تلقوهم إكراماً و إعظاماً)).
فليت أن الدكتور رجع إلى كتاب هذا الحافظ، فاستعان به على تجلية ما قد يغمض عليه من الحقائق و المعارف، لا سيما و موضوعه في نفس موضوع كتابه و في متناول يده، ولكن العجلة في التأليف و عدم التروي في البحث، و العجز عن التحقيق فيه و شهوة التأليف فيما ليس من اختصاصه هو الذي يوقع صاحبه في مثل هذه الأخطاء الظاهرة، و الله المستعان.
" الرد على البوطي " .
ملاحظة :
جاء في سؤال بعض السائلين في الحلقة نفسها قسمه بـ " والنبي " ! فلم يُعلِّق عليه الشيخ ، وكنتُ أرى كثيراً من العلماء يعلِّقون حتى على أسماء السائلين ! إذا كان فيها مخالفة فضلا عن المحاذير في أقوالهم .
والله أعلم
_____________
تعليق من الشيخ رضا أحمد صمدي
كل الردود التي ساقها الأخ إحسان لم ترد على محل الاستدلال ...
أما الرد الأول ... ففيه تضعيف لمقالة الشعر التي زعم أنها قيلت في الهجرة ... وليس فيه
تعرض لتضعيف خروج الصبية والنساء والرجال ... فتأمل ...
أما الرد الثاني ...فالشيخ الألباني نفسه قرر أن الزعم بأن كل الصحابة هاجر متخفيا إلا عمر
زعم فاسد ... ومدلول خطابه أن من هاجر علانية أمر ممكن ، وغاية ما هناك أن الشيخ ضعف
رواية هجرة عمر علانية ... مع عدم إنكاره أن يكون عمر أو غيره هاجر علانية .... فتامل .
أما الرد الثالث فإن ما نقله الشيخ الألباني عن الحافظ ابن كثير يفيد أن الشيخ الألباني لا ينكر
خروج الناس وتلقيهم للجيش ، ولكنه ينكر كون هذا الخروج في غزوة مؤتة ، وأنه خروج
لأجل الإنكار والتعيير ....
وسؤال بسيط : أين باقي الأدلة يا أخ إحسان ؟؟؟
_____________(52/496)
قال الشيخ إحسان العتيبي :
الحمد لله
أولاً :
لا يوجد غير هذه الأدلة حتى تطلب مني غيرها ، وهذه حلقته بيني وبينك ، فتأمل !!
ثانياً :
خروج النساء والولدان والرجال : لم يحدث عند مجيء النبي صلى الله عليه وسلم ، لأسباب :
الأول : أن الحديث كاملاً - بقصته وشعره - ضعيف .
الثاني : أن الذي خرج هم الرجال ! لكن خرجوا لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم باللأمة والسلاح ! وأحاطوا به في مظهر عزة وكرامة ، لا مظاهرة ! وعلى من ستكون المظاهرة أصلاً ؟؟
عن أنس بن مالك قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف فأقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى بني النجار فجاءوا متقلدي السيوف كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ... .
رواه البخاري ( 418 ) ومسلم ( 524 ) .
وقد جاء ذكر عددهم وأنهم كانوا ( 500 ) أنصاري ، كما ذكره الحافظ ابن حجر ، والباقي من الرجال صعد فوق بيته - كما سيأتي - .
الثالث : أنه ثبت أن النساء لم يخرجن بل صعدوا فوق بيوتهم ويقولون " هذا رسول الله جاء " و " قدم رسول الله " فقط من غير خروج ! والذي خرج في الطرقاتهم الأولاد والخدم ! فتأمل .
عن البراء رضي الله عنه قال : أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئاننا القرآن ، ثم جاء عمار وبلال وسعد ، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين ، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء " .
رواه البخاري ( 4657 ) و في ( 3710 ) " قدم رسول الله " .
وفي مسلم ( 2009 ) : " فصعد الرجال والنساء فوق البيوت ، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون : يا محمد يا رسول الله ، يا محمد يا رسول الله " !
وأعلى ما جاء خروجهم على الطرقات وليس فيه اجتماعهم ، ثم لو صحَّ أنهم اجتمعوا فلم يكن الرجال معهم ، ولم يرفعوا أعلام الجاهلية ، ولا كتابات الجاهلية ، ولم يغلقوا طريقا ولم يحطموا أشياء غيرهم ، ولم يكن بينهم كفار ... الخ فتأمل .
وعلى كل حال فاستقبال الفاتحين أو القادمين من حج أو سفر أو سجن ... الخ : لا أعلم أحداً يمنعه ، وليس هو بحثنا ، فالاستدلال به على خروج النساء والرجال والمسلمين والكفار وأصحاب الطاعة والمعصية بالإسلام والجاهلية : من أبعد ما يكون عن الفقه والعلم .
ثالثاً :
قد سقنا كلام الشيخ الألباني في تضعيف قصة هجرة عمر علانية ، فمن أراد أن يثبت عكس ذلك وأنه خرج في مظاهرة ! فعليه الدليل ! وكان الكلام واضحاً والرد عليه غير واضح إنما هي احتمالات لا يثبت بها دليل فضلا عن استدلال ، بل إن عمر رضي الله عنه لما أعلن إسلامه ثار عليه المشركون فقاتلوه ! حتى أصابه الإعياء فقعد ! بل ثبت أن عمر رضي الله عنه كان خائفاً من المشركين أن يقتلوه لذا لزم بيته ، ولولا إجارة العاص بن وائل السهمي له لهموا بقتله ، ولعل هذا مما يرجح أنه لم يهاجر علانية - ولا أجزم به -
عن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال بينما هو - أي : عمر - في الدار خائفاً إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو ، عليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير ، وهو من بني سهم ، وهم حلفاؤنا في الجاهلية ، فقال له : ما بالك ؟ قال : زعم قومك أنهم سيقتلوني إن أسلمت ! قال : لا سبيل إليك ، بعد أن قالها أمِنتُ !
فخرج العاص فلقي الناس قد سال بهم الوادي ، فقال : أين تريدون ؟ فقالوا : نريد هذا ابن الخطاب الذي صبا ، قال : لا سبيل إليه فكرَّ الناس .
رواه البخاري ( 3651 ) .
فتأمل !
رابعاً :
ومن الذي يمنع من استقبال الجيش العائد ليسارع كل واحد برؤية أهله فيه ؟ وهل يقول عاقل فضلا عن عالم إنه عليهم أن يمكثوا في بيوتهم حتى يأتيهم الجيش ؟ هذا الخروج - ولا يمنع منه شيء - هو أمر فطري لا يمكن أن تأتي الشريعة بما يضاده ، وليس خروجهم خروجَ عبادة ولا خروج مظاهرة للإنكار عليهم في رجوعهم ، كيف والرسولل صلى الله عليه وسلم قد أخبر على منبره أن الراية أخذها سيف من سيوف الله ، وأنه قد فتح الله عليهم أي : أنهم منتصرون ، فأين المظاهرة ؟
خامساً :
أعجب من عالِم يأتي بمثل هذه الأدلة - وهي ضعيفة كلها ! - ليستدل به على أمرٍ لا نرى فيه إلا منكرات ، ثم ليرد على إخوانه العلماء الذين يمنعون منها لما فيها من مفاسد ، ولا أظن أنه إن خلت من هذه المفاسد أن يوجد من يمنع منها ، لكن هل ستبقى هذه مظاهرة ؟؟؟
ولا أظن عاقلا فضلاً عن عالم يرى ما رأينا ويسمع ما سمعنا من مظاهر المظاهرات عندنا في الأردن ويفتي بجوازها ! إذ فيها تذكية للعنصرية وإحياء للجاهلية عدا عن الفساد المادي من حرق الأشجار وتحطيم المحلات وتكسير السيارت ، ثم إن الفئات التي تقوم بها ما بين مسقيم مغفل أو مستغفل وما بين سكران أو شيوعي أو سبَّب رب ودين ، وحدِّث عن ترك الصلاة ولا حرج ، بل إنهم يبقون خارج المساجد انتظارا لانتهاء الصلاة ليسوقوا ! المصلين معهم !
وأخيراً :
يبدو أن القائل بالجواز قد أعيته الحجة في ذِكر دليل واضح صريح على المظاهرات الموجودة في زماننا فراح يأتي بأدلة ضعيفة دليلا واستدلالاً ، والواضح أنه يبحث عن أدلة فيها اجتماع للمسلمين ، وإذا كان كذلك فإننا ننصحه أن يستدل بما هو صحيح وهو اجتماع المسلمين في الجمعة وفي عرفة !!!
وأنا لا أرى أن المنع منها بسبب أنها تشبه ! ولا من باب أنها عبادة ! بل لما يترتب عليها من مفاسد ولما فيها من منكرات
فتأمل !
والله أعلم
كتبه
إحسان بن محمد بن عايش العتيبي
أبو طارق
================(52/496)
القرضاوي والتخبط المقيت وقفه مع فتواه للجنود الأمريكان
عبدالرحمن بن محمد بن علي الهرفي
الداعية بمركز الدعوة بالمنطقة الشرقية
ما زال ( الدكتور ) القرضاوي يفاجئ الناس بمفاجآت غريبة هي أقرب ما تكون للطرف والغرائب .
القرضاوي الذي دعا للتبرع بالمال والدم للأمريكان ، يهاجم أمريكا بعد هنيهة .
ثم هاهو اليوم يلقى مفرقعة جديدة : وهي جواز مشاركة الجندي المسلم الأمريكي في قتل المسلمين في أفغانستان !!!!
ولا أدري هل راجع القرضاوي أي كتاب فقه قبل ذلك ؟؟؟
أم هل راجع أي كتاب عقيدة ؟
هنا مسألتان يا شيخ :
الأولي : هي حكم مناصرة الكافر على المسلم ؟ ولعله لا يخفاك أنه كفر وردة .
الثانية : هل يجوز للمكره ـ حسب كلامك ـ قتل المسلم ؟؟ ولعله لا يخفاك أنه يحرم على المسلم المكره على القتل أن يقتل مسلما .
لماذا هذا التناقض في كلام القرضاوي ؟
القرضاوي الذي يبحث عن التسهيل ـ الرخص ـ في كل مذهب ورأي أفتى بحرمة مساعدة الكفار ـ أمريكا ـ ضد المسلمين ـ
أفغانستان ـ ولكن فوجئ بآلاف المسلمين في الجيش الأمريكي ـ أمروا بالقتال ضد المسلمين فما هو الحل ؟
فقه التيسير ـ الرخص ـ لابد أن يوجد لهؤلاء مخرجا ، أيا كان هذا المخرج .
فهنا أفتى القرضاوي بهذه الفتوى .
وهاهو يوم الجمعة يخطب خطبة عصماء يهاجم فيها أمركيا ويدعو عليها ، بينما الفتوى الغريبة لم يجف حبرها بعد .
إن المتتبع لفتاوى القرضاوى يرى فقه التيسير أو قل تتبع الرخص وجمع المتناقضات .
أسأل الله تعالى لنا وله الهداية التوفيق .
=============(52/496)
دراسة لفكرة التقريب بين السنة والشيعة في تصريحات القرضاوي والزحيلي
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
الوحدة الإسلامية هدف مطلوب؛ ذلك لأن:
- فيها تحقيقا للأمر الإلهي بالاجتماع وعدم التفرق: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}.
- وبها تتزل الرحمة الإلهية على الناس، التي تحل بهم جزاء رضاه عنهم بهذه الطاعة.
- وبها يتراحم المسلمون، وتحدث لهم القوة، والعزة، والمنعة؛ فبدونها يتباغضون، ويذلون.
غير أن هذه الوحدة - وكأية وحدة أو صورة للاجتماع - لا بد لها أسس وشروط تقوم عليها، وهذا أمر لا يجادل فيه أحد؛ فعدم الأسس يعني عدم الوحدة، وكلام عن الوحدة من غير أسس صحيحة واضحة: خدعة، أو غفلة. لذا دائما ما يسعى المتوحدون إلى سرد الأسس التي يتفقون عليها، ويؤمنون بها، ويعملون؛ لأجل ترسيخ الوحدة، ومنع التفكك.
إذن، في شأن الوحدة الإسلامية، فلا بد أن تكون على أسس، يتفق عليها ولا يختلف فيها.
فمن أين تُستقى أسس الوحدة ؟.
بما أن الكلام على المسلمين، فأول وارد على الذهن، مما يظن أنه أساس هو: القرآن الكريم. يليه: السنة. فكلاهما وحي من الله تعالى، باللفظ والمعنى، وبالمعنى دون اللفظ.
فوحدة تقوم على هذين الأساسين هي الوحدة الإسلامية، وأي خلاف في أحدهما فهو إبطال للوحدة.
ثم إن فيهما التنبيه على أساس ثالث، هو منهما لا يخرج عنهما، لكنه يذكر ويخصص لفائدة، وحسما لفتنة. هو: اتباع الصحابة رضوان الله عليهم في مسائل الدين، والعمل بأقوالهم، ومذاهبهم، ثم التابعين، ثم من تبعهم، لتفضيلهم في النصوص، كقوله عليه الصلاة والسلام:
- (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم..).
فهذه أسس الوحدة الإسلامية بين المسلمين، بها تتحقق وحدتهم، وآثار هذه الوحدة.
* * *
ثم إنه، ومنذ آونة من الزمن، والشيعة يدعون إلى الوحدة بين المسلمين؛ السنة والشيعة. وإلى التقارب بين الطائفتين. وهي دعوة تتوافق مع روح الإسلام، وتطلعات المسلمين..
لكن هل تفتقر إلى الأسس الصحيحة لبناء الوحدة الإسلامية ؟.
منذ البدء، اختلف علماء السنة في هذه الدعوة الشيعية، فتوجست منها طائفة، وأقبلت عليها طائفة، وكان الفريقان على الضد بل النقيض، حتى آل بهم الحال إلى التشنيع:
- فالمتوجسون قالوا في المقبلين: إنهم غافلون لا يعرفون حقيقة الشيعة، ولا حقيقة الدعوة إلى التقارب. فما هي إلا تقية، فهي حيلة لتشييع السنة، وتضييع السنة، ليغدو الشيعة أكثرية، بينما هم اليوم أقلية لا تتجاوز 15% من المسلمين. فأكثروا فيهم وقالوا ما قالوا.
- والمقبلون قالوا عن المتوجسين: إنهم مخدعون، مثقلون بالتاريخ، يسيئون الظن بكل شيء، ويسلطون اليهود والنصارى، ويشتتون الأمة، ويفرقونها.
وهكذا هم منذ بدأت فكرة التقارب وإلى اليوم.
والملاحظة الجديرة بالنظر والعناية: أن جمعا من الذين ذهبوا مع فكرة التقارب زمنا، عادوا يخبرون بفشل هذه الفكرة، ويحملون الشيعة هذه التبعة:
أنهم لا يبتغون التقارب والاجتماع، إنما يريدون مكاسب طائفية، يحقق لهم التمكن بين السنة.؟!!!.
وكان آخر هؤلاء عالمين من أعلام التقارب، هما: الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور وهبة الزحيلي.
فأما الدكتور القرضاوي فقد أعلنها صريحة في نقابة الصحفيين المصريين قبل أشهر: أن أغلب الشيعة يؤمنون بأن القرآن ناقص، وأنهم لا زالوا يتقربون إلى الله بسب ولعن الصحابة رضوان الله عليهم.
في خطوة لم تكن متوقعة، من عالم ما فتئ يدعو بإخلاص إلى اجتماع السنة والشيعة، ويرفض نقد الشيعة وبيان مخالفتهم للسنة. وكان الذي دعاه إلى هذا التصريح: ما حصل من اختراق شيعي لمصر. كما صرح الشيخ نفسه، الأمر الذي أغضبه، وطالبهم ألا يبشر أحد بمذهبه في البلاد الخالصة في المذهب الآخر.
قام بعدها أمين عام الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الدكتور: محمد سليم العوا. بمحاولة تعديل سياق هذا التصريح، والتخفيف من حدته، وتبرع بتفسير كلام الشيخ القرضاوي، الواضح أصلا !!، لكن بطريقة تبطل المعنى الواضح، وتجبر على قبول المعنى الذي أراده العوا وليس القرضاوي..؟!!.
غير أن الشيخ أعاد التصريح بطريقة أخرى، مستنكرا موقف الشيعة من الاختراق، في ندوة حضرها في جامعة أم القرى منذ أسابيع قريبة، كان يعلق فيها على مداخلة من الدكتور وهبة الزحيلي، الذي حذر فيها - هو أيضا - من اختراق الشيعة لسوريا، ونعت فكرة التقارب بأنها:
ذر الرماد في العيون. وأن مقصودها تشييع السنة.
وأن هذا هو ما خرج به من نتيجة، بعد عشرة أعوام في لجان التقريب بين السنة والشيع.
فوافقه على ذلك الشيخ القرضاوي، وزاد أن الدكتور وهبة كان قد دعي إلى إيران، وأعطي جائزة.
وأخبار الاختراق الشيعة لمناطق السنة في تزايد، آخرها ما أعلنته الحركات الإسلامية في السودان: أنصار السنة المحمدية، والإخوان، وغيرهم.. أن الشيعة يعملون على تشييع القرى، وبناء الحسينيات والمراكز.
* * *(52/496)
هذه المعركة الدينية والفكرية بين السنة والشيعة تحمل على طرح السؤال التالي:
إذا كانت الوحدة الإسلامية مطلبا، والشيعة يعلنون هذا المطلب، وينادون به، ويحرصون عليه، وأنهم والسنة سواء مسلمون، متحدون، لا خلاف بينهم في الأصول، إنما في الفروع، ويتهمون من يتكلم فيهم بالطائفية، وبالعداء للوحدة الإسلامية.. فنشاطهم في تشييع أهل السنة على ماذا يدل ؟!.
إن الذي يدرس كتب السنة وكتب الشيعة، ليخرج بحقيقة لا مفر منها: أن الفريقين يختلفان في الأصول:
- فالشيعة يقررون أن القرآن محرف، ومن تلطف منهم قال: إنه ناقص. ليس بكامل. وإعلانهم بأن هذا افتراء عليهم، غير مفيد في دفع هذا الظن بهم، لأمور ظاهرة منها:
o أن المتقاربين معهم شهدوا عليهم بمثل هذا، كما مر معنا في تصريح القرضاوي.
o ومنها: أنهم لا يعدون القول بتحريف القرآن كفرا. مع مصادمته للوعد الإلهي بحفظه.
- وهم يكفرون عامة الصحابة، وفي مقدمهم أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، ويرمونها بالفاحشة، ولا يتقون في هذه القضية تقيتهم في قضية القرآن، وهم بذلك يسقطون السنة عن الاحتجاج.
وقد تقدم أن أساس الوحدة الإسلامية هو: القرآن، والسنة. ثم فهم الصحابة لهما.
وكل هذه الأسس يخالف فيها الشيعة، وغيرها كثير، مثل اعتقاداتهم في الأئمة: أنهم يعلمون الغيب، ويدبرون الكون، وأنهم معصومون عن مجرد الخطأ.. فكيف إذن تتحقق الوحدة ؟!.
هم يعرفون هذه الحقيقة؛ لذا مدوا في الظاهر أيديهم للتقارب، وتكلموا بألسنتهم، لكن من وراء ذلك يخططون لتشييع أهل السنة، وما ذاك إلا لعلمهم أنه لا اجتماع بين الفريقين إلا في حالة واحدة هي عندهم: إذا تشيع أهل السنة.
وكذلك هو عند أهل السنة، لكن بالنقيض: لا وحدة إلا إذا تسنن أهل التشيع.
ومن هنا: فإن فكرة التقريب فاشلة، والشيعة يعرفون هذا أكثر من السنة، الذين يدفعهم حب الوحدة بصدق وإخلاص إلى عدم فحص القضايا بالدقة والنظر، ليقعوا في فخاخ تصنع لهم، فيخسرون، ويضرون أهل السنة؛ فهل كان الشيعة قادرين على تشييع بعض السنة، لو لم يحيدوا هذه الطائفة من العلماء، فاستغلوا سكوتهم عن نقد التشيع، لا بل دفاعهم عنه باسم الوحدة، فانطلقوا مخترقين ؟.
* * *
إن خوف الطائفية؛ أي الاقتتال، تحمل بعض علماء السنة على محاولة جمع الكلمة بين الشيعة والسنة.
وهو هدف نبيل، لكن ههنا أمر مهم، هو:
أن منع قتال كل من ثبت له اسم الإسلام؛ بشهادته أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وبصلاته قبل الكعبة صلاة المسلمين، وأكله لذبائح المسلمين: أمر واجب محتم. لقوله صلى الله عليه وسلم:
- (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا).
فعامة الشيعة خصوصا العوام منهم، ومن كان منهم لا يقبل بهذه الأفكار المنحرفة في القرآن والصحابة هم من المسلمين؛ لأنهم محققون لشروط الإسلام الآنفة، مع ما هم فيه، مما يخالفون فيه السنة.
فمثل هذا كيف يقاتل ؟.
ثم الذين غلوا بمثل المقالات الآنفة، فإنهم لا يقاتلون كذلك، بل يجادلون بالتي هي أحسن لعلهم يهتدون.
فلا يجوز إذن قتالهم تحت دعوى الطائفية، بل إن الكافر الأصلي لا يقاتل حتى يحارب ويعتدي.
إذن، فإن بيان اختلاف الشيعة عن السنة في الأصول لا يلزم منه قتالهم، أو العدوان بين الفريقين، كما لايلزم من بيان كفر اليهود والنصارى، قتالهم والعدوان عليهم. فبيان الحق له سبب، والقتال له سبب.
بيان الحق سببه أمرٌ أمر الله تعالى به عباده العالمين: أن يبينوا للناس الحق ولا يكتمونه، وأن يعملوا على هداية الضالين عن السبيل.
والقتال سببه العدوان والظلم، أُذن للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم إذا هم ظلموا.
فإذا بان وظهر اختلاف الأمرين، وأنه لا رابط بينهما: بطل زعم من ظن أن الكلام في الشيعة نقدا يورث فتنة طائفية، وقتالا. كلا، بل لا يزال أهل السنة منذ ظهر التشيع في القرن الأول، وهم يكتبون ويحذرون من هذه البدعة الغالية، ولم نسمع أحدا قال منهم: قاتلوهم، وعذبوهم.
منهج أهل السنة مع المخالفين: بيان خلافهم للسنة، وخروجهم عن الحق الذي كان عليه الصحابة. وعند هذا الحد يقفون. لا يوقدون حربا من أجل أن أمة قد: تشيعت، أو تصوفت، أو تمشعرت. بل جهادهم في هذا القلم واللسان، وليس السيف والحراب. يدعون من أخطأ ومن ضل بالكلمة، والموعظة الحسنة.
ومع هذا الوضوح في المواقف، فلا وجه للسكوت على مخالفة الشيعة للكتاب والسنة.؟!!.
ففي السكوت فرصة لتجهيل المسلمين عن هذا الواقع، وهو الذي سهل ويسهل تشييعهم..!!
فما أسهله من طريق؛ أن يُغرى المسلم العامي الموحد المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولآل البيت: بأن التشيع هو المذهب الحق؛ لأنه مذهب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.!!.
لتكون الخطوة التالية: الطعن في الصحابة بأنهم أعداء آل البيت، وأنهم حرموهم حقهم في الخلافة، وآذوا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها.!!.
وهكذا يخرج أهل السنة بهذه الفرية، من السنة إلى التشيع..!!.
وإذا ما استمر سكوت العلماء، خصوصا الذين عرفوا حقيقة الدعوة إلى التقارب، عن بيان حقيقة التشيع. وإذا ما تمسك بعضهم بموقفه من تحسين مواقف الشيعة، والإصرار أنه لا فرق بين الفريقين:
فإنه يوشك أن تنقلب النسبة ليكون أهل السنة أقلية.؟!!.
وليست المشكلة في الأقلية أو الأكثرية: إنما في أن يعم ويسود الأمة:
- اعتقاد تحريف القرآن، والقول بنقصانه. إن يفضي حتما إلى إهماله والإعراض عنه.
- تكفير الصحابة، واتهام أمهات المؤمنين بالفاحشة. ليعلن لعنهم على المنابر.
فهل يطيق مسلم هذا ؟!.
* * *
لا يكفي مجرد التحذير من الاختراق..!!.
ما قيمة هذا التحذير، في مقابل القول: بأنا أمة واحدة، لا خلاف بيننا وبينهم، إلا في الفروع ؟!.
فإذا كان الأمر كذلك حقا، فلم الانزعاج من تحول السنة إلى التشيع ؟!.
إذا كانوا أمة واحدة لا فرق ولا خلاف، فهذا المتشيع ما زاد على أن انتقل من طرف إلى طرف، ضمن الدائرة نفسها، كما ينتقل من مذهب فقهي إلى آخر.
هكذا يفهم المسلم السني العامي، خصوصا إذا رأى علماءه وقادته يزينون التشيع بمثل هذه الطريقة، وقد يعجب من تحذيرهم اليوم، ولا يراه منسجما مع دعاوى الوحدة، والأمة الواحدة.
ليس من طريق لمنع هذا الاختراق إلا ببيان الأمر على ما هو عليه: من يكون الشيعة، وما هي معتقداتهم، وموقفهم من السنة تحديدا، فإن لهم من السنة موقفا، أقل ما فيه يقال: إنهم يبغضونهم، ويفسقونهم .!!.
وهؤلاء العلماء لم يحذروا من هذا الاختراق أخيرا، إلا لعلمهم بالتناقض الفكري والعقدي العميق بين الفريقين، فعليهم إذن أن يبينوا هذا التناقض لعموم الناس، ولا يسكتوا، فإن سكوتهم مضر؛ إذ كانوا ينطقون بالتقريب والثناء على الشيعة والتوحد معهم زمنا، فلما تبين لهم صدق قول من حذر ونصح: ما زادوا على التحذير ؟!!.
فالناس لهم حق أن يتساءلوا عن سبب هذا التحذير من الاختراق الشيعي لمصر، وسوريا، والسودان ..؟.
فإن لم يبينوا لهم أن ذلك لأجل التناقض العقدي، ومخالفة الشيعة للإسلام في أصول كبرى: فإن السؤال يبقى عالقا، ولا ينفع التحذير.
الشيعة مخالفون لأصول كبرى. نعم، ومع ذلك فإن عامتهم مسلمون؛ ذلك لأن منهم من لا يدرك حقيقة هذه المخالفة، فمعذور بالجهل، وبالإكراه، وبالتأويل. وعندهم ما يثبت لهم أصل الإسلام، كما تقدم. ومن الشيعة من هو بريء من كثير من هذه المخالفات الغالية. غير أن الذين يخترقون هم الغالون منهم.
==============(52/496)
(52/496)
(52/496)
(52/496)
(52/496)
تعقيب على فتوى الشيخ د. القرضاوي حول عمل المرأة المسلمة في النشاط السياسي
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
سليمان بن صالح الخراشي
أشير إلى فتوى أَخي الكريم الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي - هداه الله - ، كما نشرتها مجلة البلاغ الكويتية في عدديها (1638) الأحد 24 صفر 1426هـ الموافق 3 أبريل 2005م للسنة (36) ، والعدد (1639) الأحد 1ربيع الأول 1426هـ الموافق 10 أبريل 2005م ، حول عمل المرأة السياسي وحكم الإسلام في ذلك .
لقد ابتدأ فضيلته كلمته بقوله : " فالإسلام لم يُفَرِّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية فهما على قدم سواء . " فهذا حكم عام مطلق يكاد يوحي بأنه مستقى من نصّ من الكتاب والسنة ، أو أنه يمثل ممارسة واضحة في التاريخ الإسلامي منذ عهد النبوّة . إِنّ النصّ العام المطلق على هذه الصورة الجازمة التي أتت بها الفتوى دون أي قيود ، لا تصحّ إلا بتوافر نصّ ثابت من الكتاب والسنة ، أو بتوافر ممارسة واقعية ممتدّة في المجتمع الإسلامي الملتزم بالكتاب والسنة ، والذي تكون فيه كلمة الله هي العليا . ولكننا لا نجد في الكتاب والسنّة أيّ نصّ يجيز هذا الحكم العام المطلق الخالي من أي قيود ، ولا نجد كذلك أيّ ممارسة عمليّة ممتدّة له في حياة المسلمين والمجتمع الإسلامي الملتزم منذ عهد النبوة الخاتمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وحياة الخلفاء الراشدين ، وسائر فترات التاريخ التي التزم فيها المجتمعُ الإسلامَ . نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يمارسن النشاط السياسيّ مساويات للرجال على قدم سواء ، ولا نساء الخلفاء الراشدين ، ولا نساء العصور التي تلت ، ولا نجد هذه الدعوة التي تطلقها فتوى فضيلته إلا في العصور الحديثة المتأخرة التي انحسر فيها تطبيق الإسلام ، وغزا الفكر الغربي ديار المسلمين .
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شكا إلى زوجه أم سلمة ما حدث من أصحابه في الحديبية ، فأشارت عليه برأيٍ استحسنه وأخذ به ، فهذه حالة طبيعية في جوّ الأسرة المسلمة أن يُفرغ الرجل إلى زوجته بعض همومه ، وأن يستشيرها في ذلك ، وأن يستمع إلى رأيها ، فإن وجد فيه خيراً أخذ به ، وإن لم يجدْ تركه . هذه حادثة نتعلم منها أدب الحياة الزوجيّة في الإسلام ، ونتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم ونسائه في ذلك ، دون أن نعتبر ذلك نشاطاً سياسياً لنخرج منها بحكم عام مطلق ينطبق على جميع النساء في جميع العصور والأماكن في النشاط السياسي .
وأم سلمة بعد ذلك لم يُعرَف عنها أنها شاركت في النشاط السياسيّ مساوية للرجال على قدم سواء ، وكذلك سائر النساء لم يعرف عنهن هذه المشاركة المساويةً للرجال في المجتمع المسلم . فهذه حادثة تكاد تكون فريدة لا تصلح لإطلاق حكم عام .
وحين أنزل الله سبحانه وتعالى على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم قوله ( يا أيها النبيُّ قل لأزواجك إن كنتُنّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أُمتعكنّ وأسّرحكنّ سراحاً جميلاً . وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً ) ، لم يكن الأمر أن نساء النبي يتطلّعن إلى الزينة والحليّ والمتع الدنيوية ، كما هو حال نساء الملوك والرؤساء . لقد كنّ يدركن وهن في مدرسة النبوة أن الإسلام نهج آخر ، ولكن حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم كان فيها شدة وتقشف وزهد لم يكن في سائر بيوت المؤمنين ، فأردن المساواة مع مستوى غيرهنّ من المؤمنات ، لا مستوى الملوك والرؤساء .
وعندما ندرس هذه الآيات وما يتعلّق بنساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإنما ندرسه ليس من منطلق الرغبات الدنيوية الظاهرة في حياة الملوك ، وإنما ندرسه منطلقين من القاعدة الرئيسة التي نصّ عليها القرآن الكريم من أنهنّ أُمهات المؤمنين ، لهن هذه الحرمة العظيمة والمنزلة العظيمة . فجاءت هذه الآيات الكريمة لتذكر المسلمين ونساء النبيّ صلى الله عليه وسلم والنساء المؤمنات بعامة أن هناك نهجين مختلفين للحياة في ميزان الإسلام : نهج الدار الآخرة وما يشمله من قواعد وأسس ونظام ، ونهج الدنيا وما يموج فيه من أهواء وشهوات . نهجان مختلفان :
نهجان قد ميّز الرحمن بينهما *** نهج الضلال ونهج الحقّ والرشَدِ
لا يجمع الله نهج المؤمنين على *** نهج الفساد ولا حقّاً على فَنَدِ
ولقد وَعَت أمهات المؤمنين هذا التذكير ، فاخترْن الله ورسوله والدار الآخرة ، ليكُنّ بذلك القدوة للنساء المؤمنات أبد الدهر . ولا يتعارض هذا مع بقاء الطباع الخاصّة بالنساء ، الطباع التي فطرن عليها يهذّبها الإسلام ويصونها من الانحراف .
ولقد خلق الله المرأة لتكون امرأةً ، وخلق الرجل ليكون رجلاً ، وجعل سبحانه وتعالى بحكمته تكويناً للمرأة في جسمها ونفسيّتها ، وجعل للرجل تكويناً متميزاً في جسمه ونفسيّته ، ومازال العلم يكتشف الفوارق التي تظهر بين الرجال والنساء .
وعلى ضوء ذلك ، جعل الله للرجل مسؤوليات وواجباتٍ وحقوقاً ، وللمرأة مسؤوليات وواجبات وحقوقاً ، لتكون المرأة شريكة للرجل لا مساويةً له ، حتى يتكامل العمل في المجتمع الإسلامي ، حين يوفي كلٌّ منهما بمسؤولياته وقد عرف كلٌّ منهما حدوده كما بيّنها الله لهم جميعاً .
وهناك حقوق مشتركة بين الرجل والمرأة . فالبيت المسلم هو ميدان التعاون في ظلال المودّة والسكن والرحمة ، دون أن يتحوّل الرجل إِلى امرأة أو المرأة إلى رجل .ومن حق المرأة أن تتعلم لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ، رجلاً كان أو امرأة ": طلب العلم فريضة على كل مسلم " . ومن حقّها وواجبها أن تكون مدرسة للنساء ، وطبيبة للنساء ، وفي كل نشاط مارسته النساء المؤمنات في مجتمعات يحكمها منهاج الله وكلمة الله فيها هي العليا ، دون أن يتشبّهْن بالرجال : فعن ابن عباس رضي عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم : "لعنَ الله المتشبّهات من النساء بالرجال ، والمتشبّهين من الرجال بالنساء " وعن عائشة رضي الله عنها عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " لعنَ الله الرَّجُلةَ من النساء "
وأمثلة كثيرة لا مجال لحصرها هنا تبيّن أن للإسلام نهجاً مختلفاً عن نهج الاشتراكية والعلمانية والديمقراطية ، وتبيّن بالنصوص والتطبيق كما أسلفنا أن المرأة ليست مساوية للرجل في النشاط السياسي في الإسلام ، إلا إذا نزعنا إلى نهج آخر أخذت تدوّي به الدنيا ، وأخذنا نبحث عن مسوّغات له في دين الله .
ومن أهم ما أمر به الإسلامُ المرأة متميّزاً بذلك من غيره طاعتها لزوجها ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كنتُ آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، ولا تؤدّي المرأة حقَّ الله عزّ وجلَّ عليها كلَّه حتى تؤدّي حقَّ زوجها عليها كله ... " إلى آخر الحديث
فعندما ندرس المرأة وحقوقها ومسؤولياتها في الإسلام فيجب أن ننطلق من حماية الأسرة ورعاية الأطفال وتربيتهم ، فالأسرة والبيت المسلم هو ركن المجتمع الإسلامي وأساسه ، وهو المدرسة الأولى التي تبني للأمة أجيالها ، لا تتركهم للخادمات وغيرهن .
وأعجب من حديث أخي الشيخ د . القرضاوي في حديثه وفتواه من أنه لم يشر إلى الأسرة والبيت وواجب المرأة فيه ، وأَثر عمل المرأة السياسي على جو الأسرة وحقوق الأطفال وحق الزوج .
في الإسلام لابد من عرض التصوّر الكامل المترابط لنشاط المرأة ، دون أن نأخذ جُزْءاً وندع أجزاءً ، ونركّز على أمر لم يركّز عليه الإسلام ولم يبرزه لا في نصوصه ولا في ميدان الممارسة . فالحياة الإسلامية متكاملة مترابطة في نهج الإسلام ، لا تتناثر قطعاً معزولة بعضها عن بعض .
ولا يمنع شيء أن يخرج من بين النساء المؤمنات عالمات مبدعات شاعرات ، مفتيات موهوبات . ولكن هذا كله ليس هو الذي يحدّد دور المرأة في الإسلام ، فالذي يحدّده شرع الله بنصوصه الواضحة دون تأويل وبالممارسة الممتدّة الواضحة . والمرأة حين تكون عالمة أو فقيهة أو أديبة ، فهي أحرى أن تصبح اكثر تمسّكاً بقوله سبحانه وتعالى :
{.... فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ... }
ومما يثير العجب حقّاً أن الرجل الشيوعي جوربا تشوف ، أدرك خطورة غياب المرأة عن بيتها وواجباتها فيه ، واجباتها التي ليس لها بديل . فلنستمع إلى ما يقوله :
" ولكن في غمرة مشكلاتنا اليوميّة الصعبة كدنا ننسى حقوق المرأة ومتطلباتها المتميّزة المختلفة بدورها أماً وربّة أسرة ، كما كدنا ننسى وظيفتها التي لا بديل عنها مربّية للأطفال " .
ويتابع فيقول : " ... فلم يعد لدى المرأة العاملة في البناء وفي الإنتاج وفي قطاع الخدمات وحقل العلم والإبداع ، ما يكفي من الوقت للاهتمام بشؤون الحياة اليومية ، كإدارة المنزل وتربية الأطفال ، وحتى مجرّد الراحة المنزليّة . وقد تبيّن أن الكثير من المشكلات في سلوكية الفتيان والشباب ، وفي قضايا خلقية واجتماعية وتربويّة وحتى إنتاجية ، إنما يتعلّق بضعف الروابط الأسرية والتهاون بالواجبات العائلية ... "
في دراستهم للمجتمع وللصناعة والإنتاج ، انطلقوا كما نرى ، ولو متأخرين ، من البيت ، من الأسرة ، من دور المرأة في البيت ، الدور الذي لا بديل له . ونحن المسلمين ، وقد فصّل لنا الإسلام نظام حياتنا منطلقاً من تحديد مسؤوليات الفرد ، الرجل والمرأة ، ثم البيت والأسرة ، تركنا ذلك وقفزنا لنبحث في حق المرأة أن تكون وزيرة أو عضواً في البرلمان أو رئيسة دولة ، أو رئيسة شركة ، ونضع من أَجل ذلك قانونا عاماً مطلقاً دون قيود : " الإسلام لم يفرّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية . " ! وحسبُنا تطبيق الصحابة والخلفاء الراشدين ، فهل كانت المرأة مساوية للرجل في الحقوق السياسية ؟! أم أن الصحابة والخلفاء الراشدين أخطؤوا ولم يدركوا هذه الحقوق فظلموا المرأة وحرموها من حقوقها ؟!
لا نقول إِنّ المرأة عامة ، أو أن النساء كلهن لا يصلحن للمهمات الكبيرة بحكم كونهنّ نساء . لا نقول هذا . ولكن نقول إن الله الذي خلق الرجل والمرأة حدّد مسؤوليات الرجل والمرأة ، ومارس المسلمون ذلك في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفي عهد الخلفاء الراشدين ، وفي عصور كثيرة أخرى .(52/496)
(52/496)
ولقد تعارض حديث د. القرضاوي بين أول كلامه ، و بين ما ورد بعد ذلك في ص34 ، فأول الكلام كان حكماً مطلقاً دون أي ضوابط أو حدود : " مساواة المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية " !! ثم يقول بعد ذلك : " ... وليست كل امرأة صالحة للقيام بعبء النيابة ... " !! ثم يقول : " ولكن المرأة التي لم ترزق الأطفال وعندها فضل قوة وعلم وذكاء ، والمرأة التي بلغت الخمسين أو قاربت ..." ، فأصبح هناك شروط كثيرة تتناقض مع صيغة الحكم العام المطلق الذي ورد في مستهلّ الفتوى . فهل المقصود النساء فوق الخمسين واللواتي لم يرزقن بأولاد ؟!
أما قصة عائشة رضي الله عتها وخروجها للمطالبة بالقصاص ، وما يقال من أنها ندمت على ذلك ، فلم يكن ندمها لأن رأيها السياسي كان خطأ فقط . كان ندمها لأنها خالفت نصّ الآية : " وقرن في بيوتكنّ ... " وقد أكدَّ د. القرضاوي أن هذه الآية الكريمة خاصة في نساء النبي . فكان أحرى به أن يرى أن خروجها ذاك كان مخالفاً للنص من ناحية ، وأنّ اشتراكها في فتنة وقتال بين المسلمين لا حق لها به . ثم يعود ويستنتج من الآية نفسها أحكاماً عامة على المرأة المسلمة لا على نساء النبيّصلى الله عليه وسلم ، حين يقول : وقد نسي هؤلاء أنّ بقية الآية الكريمة تدلّ بمفهومها على شرعيّة الخروج للمرأة من بيتها إِذا التزمت ... " .
أما الحديث عن بلقيس ، فلا مانع أن يظهر بين النساء من يملكن مواهب متفرّدة . فبلقيس لم تكن مؤمنة ، ولم تكن تخضع لنهج إيماني ، إلا بعد أن أسلمت والتزمت ، فلا يصحّ الاستدلال بها ، وهي على كفرها ، على حقوق المرأة في الإسلام . وإلا فلنستشهد بكونداليزاريس ، وجولدا مائير !! وغيرهن من النساء غير الملتزمات بالإسلام ، ولا مجتمعاتهنّ ملتزمة بالإسلام . فمثل هذا الاستشهاد أرى أنه لا يصح أصلاً . وقد يكون بعض النساء أكبر موهبة أو طاقة من بعض الرجال ، فهل هذا يعني أن تنزل المرأة معتركاً مختلفاً فيه أجواء كثيرة ، وتترك قواعد الإسلام تأسّياً بنساء غير مؤمنات ولا مجتمعاتهن ملتزمة بالإسلام .
وغفر الله لمن قال ، كما نشرته إحدى الصحف : " إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان يعلم أنه سيظهر بين النساء أمثال جولدا مائير ، أنديراغاندي ، تاتشر ، ما قال حديثه الشريف : " ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " !! فالمؤسف أن من الناس من يعتبر أن هؤلاء النساء أفلح بهنّ قومهن . عجباً كل العجب ! هل أصبح الكفر وزينة الدنيا ومتاعها هو ميزان الفلاح ! وأين قوله سبحانه وتعالى :
{ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضّةٍ ومعارج عليها يظهرون . ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون . وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين } ؟
نِعْمَ البيت الواسع والسرر المريحة للرجل الصالح . ونعمت القوّة والسلاح والصناعة للمؤمنين .
إننا نعتقد أنه لا يصح أن نستشهد بمجتمعات غير ملتزمة بالإسلام لنخرج بقواعد شرعية في الإسلام .
أما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة " ، فالحديث يرويه البخاري وأحمد بن حنبل وأبو داود وابن ماجة والترمذي . ويأتي الحديث بألفاظ مختلفة ولكنها تجمع على المعنى والنص . وإنّ مناسبة الحديث ونصّ الحديث باللغة العربيّة يفيد العموم ولا يفيد الخصوص . ولا يعجز الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخصّ ذلك بأهل فارس لو أراد التخصيص . ولكن كلمة قوم نكرة تفيد العموم ، وامرأة نكرة تفيد العموم ، فلا حاجة لنا إلى تأويل الحديث بما لا تحتمل اللغة ، وربما لا مصلحة لنا في هذا التأويل .
ويقول فضيلته : " إذا كانت المرأة مطالبة بعبادة الله وإقامة دينه ، فإنها مكلفة مثلها مثل الرجل بتقويم المجتمع وإصلاحه "! وهذه أيضاً قاعدة عامة لا يجوز أن تؤخذ على إطلاقها .
نَعم ! إن المرأة مطالبة بذلك كالرجل . ولكنّ الله سبحانه وتعالى جعل للرجل تكاليف في ذلك ليست للمرأة ، وجعل للمرأة تكاليف ليست للرجل . وذلك حتى في أركان العبادة ـ في الشعائر ـ فصلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد ، وصلاة الرجل في المسجد خير من صلاته في البيت . والجهاد فرض على الرجال في ميدان القتال ، وليس فرضاً على المرأة ، وجهاد المرأة في بيتها ورعايته ورعاية زوجها :
فعن ابن عباس رضي الله عنه أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ! أنا وافدة النساء إليك ! هذا الجهاد كتبه الله على الرجال ، فإن يصيبوا أجروا وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون . ونحن معشر النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافاً بحقه يعدل ذلك ، وقليل منكنّ يفعله " .
وعن أنس رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار ليسقين الماء ويداوين الجرحى "
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " وفيه : " ... والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم "
وعن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله على النساء جهاد ؟ قال : نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة "
وبصورة عامة فإن الإسلام جعل الميدان الأول للمرأة البيت بنص الآيات والأحاديث والممارسة والتطبيق ، وجعل ميدان الرجل الأول خارج البيت ، ويبقى للمرأة دور خارج البيت غير مساوٍ للرجل ، وللرجل دور في البيت غير مساوٍ لدور المرأة .
ولا بد أن نؤكد أن للإسلام نهجاً متميّزاً غير نهج العلمانية والديمقراطية ومناهج الغرب في عمل المرأة والرجل . نهجان كما ذكرنا مختلفان . ولكن يبدو أن بعض المسلمين اليوم يريدون أن يبيّنوا أن الإسلام ديمقراطي وأنه علماني ، ففي مؤتمر إسلامي في استوكهولم أخذ داعية مسلم يدعو إلى الديمقراطية وأنها من الإسلام ، وفي باريس في مؤتمر إسلامي آخر قال داعية إن العلمانية مساوية للإسلام في مقصودها . وبعض الأحزاب الإسلامية أعلنت : لا تقولوا عنا إسلاميون نحن علمانيون !
نحن نمرّ بمرحلة فيها عواصف غربية وأمواج تكاد تكتسح . ما بالنا نريد أن نخرج المرأة المسلمة من مكانها الكريم الذي وضعها الإسلام فيه ، لنجاري الغرب في ديمقراطيته وعلمانيته . ونكاد نخجل من اتهام العلمانية لنا وادعائها بأن الإسلام حجر على المرأة . إن أفضل ردّ عليهم لا يكون بأن ندفع المرأة المسلمة إلى بعض مظاهر الغرب لندفع عن أنفسنا ادّعاءَهم . إن أفضل ردّ أن نقول لهم إن الإسلام أكرم المرأة وأعزها وحفظ لها شرفها وطهرها ، ونعرض الإسلامَ كما هو وكما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وكما مارسه المسلمون في عهد النبوة والخلفاء الراشدين .
المرأة المسلمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في أجواء النساء ، حيث لا يستطع الرجل أن ينشط هناك إلا في أجواء الاختلاط التي لم يعرفها الإسلام لا في نصوصه ولا في ممارساته . وللمرأة المسلمة أنشطة كثيرة تقوم بها دون أن تلج في أجواء لم يصنعها الإسلام . المنافقات يقمن بإفساد المجتمع مع المنافقين جنباً إلى جنب سواء بسواء كما نرى في واقع البشرية اليوم . أما المؤمنات فيصلحن في المجتمع بالدور الذي بيّنه الله لهنّ ، غير مساويات للرجال ولا ملاصقات لهن . دور بيّنه الله للنساء وللرجال لا نجده في الديمقراطية ولا في العلمانية ، ولا في تاريخ الغرب كله .
نعم ! إن أول من صدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت زوجه خديجة رضى الله عنها . ولكنها بتصديقها لرسول الله صلى الله عليه وسلم التزمت حدودها في رسالته ، فلم تنطلق خديجة رضي الله عنها في أجواء النشاط السياسي أو ميادين القتال أو مجالس الرجال . وكذلك كانت سمية أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها ، وكانت قبل استشهادها ملتزمة حدود الإسلام . والنساء اللواتي قاتلن في أحد أو حنين ، كان ذلك في لحظات عصيبة لا تمثل القاعدة في الإسلام ، كما بيناها قيل قليل ، فلم نَرَهنّ بعد ذلك في مجالس الرجال أو ميادين السياسة سواء بسواء كالرجال ، وإنما كنّ أول من التزم حدودهن التي بينها لهنّ الله ورسوله .
المرأة التي قامت تردّ على عمر رضي الله عنه في المسجد - إن صحت القصة - ، كانت في مكان تعبد الله فيه وتتعلم . وهو جو يختلف عن المجالس النيابية اليوم ، وكانت في مجتمع يختلف عن مجتمعاتنا اليوم . وهذه المرأة نفسها لو عُرِض عليها الأجواء المعاصرة لأبت المشاركة فيها ، وكثير من المسلمات اليوم يأبين المشاركة في الأجواء الحديثة .(52/496)
ولقد سبق أن علّقتُ على قصة أم سلمة وقصة بلقيس . ولكنَّ هذا العرض الذي تفضل به فضيلة الدكتور القرضاوي يفرض علينا سؤالاً يلحّ علينا ، ذلك السؤال : لماذا نلتقط حادثة فريدة من هنا لم تتكرر ، وحادثة أخرى كذلك لم تتكرر ، حوادث لا تمثّل قاعدة عامة في الإسلام ، وبعضها أو كلها كانت في ظروف خاصة تتقيّد الحادثة بها ، لماذا نلتقط هذه الحوادث ونضع بناء عليها قانوناً عاماً لم يرد في الكتاب ولا السنّة ، ولا في التطبيق في عصر النبوة الخاتمة والخلفاء الراشدين ، العصرين اللذين أُمرِنا أن نتبعهما ، كما جاء في الحديث الشريف الذي يرويه العرباض بن سارية : " ... عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ... "
وأتساءل عن السبب الذي يدعو فضيلته إلى الحرص على إدخال المرأة المجالس النيابية العصرية ! لقد أصبح لدينا تجربة غنيّة في المجالس النيابية تزيد عن القرن ، فلننظر ماذا قدّمت للأمة المسلمة ، هل ساعدت على جمعها أم على تمزيقها ، وهل ساهمت في نصر أم ساهمت في هزائم ، وهل هذه المجالس التي نريد أن نقحم المرأة المسلمة فيها هي صناعة الإسلام وبناؤه ، أم أنها مثل أمور أخرى غيرها استوردناها من الغرب مع الحداثة والشعر المتفلّت المنثور وغيره من بضاعة الديمقراطية والعلمانية ؟!
وبصورة عامة ، فإنّ هذا الموضوع : مساواة المرأة بالرجل كما يقول بعضهم : " لقد قرّر الإسلام مساواة المرأة بالرجل " ! هكذا في تعميم شامل ، شاع هذا الشعار في العالم الإسلامي ، وأصبح له جنود ودعاة ودول تدعو إِليه . وكذلك : مساواة المرأة بالرجل في ممارسة الحقوق السياسية " ، هذا كله موضوع طرق حديثاً مع تسلل الأفكار الغربية إلى المجتمعات الإسلامية ، مع تسلل الديمقراطية والعلمانية ، كما تسلّلت قبل ذلك الاشتراكية .
هنالك عوامل كثيرة يجب أن تدرس وتراعى عند دراسة نزول المرأة إلى ميدان العمل السياسي الذي يفرض الاختلاط في أجواء قد لا يحكمها الإسلام من ناحية ، ولا تحكمها طبيعة العمل نفسه . والاختلاط مهما وضعنا له من ضوابط ، فقد أثبتت التجربة الطويلة في الغرب وفي الشرق إِلى انفلات الأمور وإلى التورط في علاقات غير كريمة .
وكذلك فنحن لسنا بحاجة لنزول المرأة إلى الميادين ، ففي الرجال عندنا فائض ، والرجال بحاجة إلى أن تدرس حقوقهم السياسية التي منحهم إياها الإسلام .
إن نزول المرأة إلى الميدان السياسي ذو مزالق خطيرة ، فعندما يُطلق هذا ويباح ، فهل معظم النساء اللواتي سيمارسن هذا العمل نساء ملتزمات بقواعد الإِسلام و بالحجاب و باللباس عامة .
إن إطلاق هذا الأمر ونحن لم نَبْنِ الرجل ولا المرأة ، والتفلّت في مجتمعاتنا واضح جليّ ومتزايد ، دون أن ينفى هذا وجود بعض النساء الملتزمات ، إن إطلاق هذا الأمر قد يقود إلى فتنة يصعب السيطرة عليها .
أولى من ذلك : علِّموا الرجل دينه ليؤمن به ويلتزمه ، وعلموا المرأة دينها لتؤمن به وتلتزمه ، فسيعرف الرجل المسلم الملتزم حدوده وميادينه ، وستعرف المرأة المسلمة الملتزمة حدودها وميادينها ، ويستغنون عندئذ عن كثير من الفتاوى .
وإني لأتساءل : لأيّ مجتمع تصدر هذه الفتوى ؟ ! ، لأيّ رجل وأي امرأة ؟! هل المجالس النيابية الحاليّة تصلح ميداناً للمرأة المسلمة لتمارس النشاط السياسي . أين هو المجتمع الذي يطبّق شرع الله كاملاً ، ليطلق فيه مثل هذه الأمور ، وهل هذه المجالس مجالس يسودها شرع الله .
وميادين العمل المباح للنساء واسعة جداً وكافية لهن ، وكلها منضبطة بقواعد الإسلام مثل المدرسات والطبيبات ، وكل عمل ليس فيه باب من أبواب الفتنة أو الاختلاط ، مع توافر جميع الشروط الشرعية الأخرى عند مزاولة هذه الأنشطة .
لا بدّ من الاستفادة مما حلَّ بأقوام آخرين حين انطلقت المرأة في المجتمع في هذا الميدان أو ذاك . وإذا نزلت ميدان السياسة فما الذي يمنعها أن تنزل إلى المصانع وسائر الميادين الأخرى ، كما نراها في العالم الغربي .
وأخيراً أقول .. : قبل أن نطلق هذه الآراء اليوم ، فلنبن الرجل ولنبن المرأة ولنبن المجتمع المسلم الملتزم بالكتاب والسنة حيث تكون كلمة الله هي العليا . هذا المجتمع سيكون أقدر على تحديد دور الرجل والمرأة .
وكذلك أتساءل لماذا هذه الضجّة الكبيرة عن المرأة وحقوقها ، ألا تنظرون إلى الرجل وحقوقه . في عالمنا اليوم فقد كثير من الرجال حقوقهم ، فلماذا تكون الضجّة على حقوق المرأة وحدها ، ففي ذلك ظلم للمرأة وللرجل .
والإسلام في نهجه جعل الحقوق والواجبات متوازنة في الحياة كلها من خلال منهاج رباني أصدق من سائر المناهج وأوفى وأعدل .
فلنبنِ الأمة ، فلنبنِ الرجل والمرأة والبيت المسلم والمجتمع المسلم الملتزم ، ولنبنِ الأمة المسلمة الواحدة .
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..
==============(52/496)
مفهوم الأمَّة الواحدة (مناقشة هادئة للشيخ الدكتور القرضاوي)
خبَّاب بن مروان الحمد
كنت يوماً أشاهد برنامجاً فكرياً في إحدى القنوات الفضائيَّة ؛ فرأيت أحد المفكِّرين يقول بأنَّ النصارى الذين يسكنون في بلاد المسلمين يُعَدُّونَ من أمَّتنا الواحدة ، واستدلَّ على كلامه بقوله ـ تعالى ـ :(وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّة واحدة وأنا ربكم فاتقون) (المؤمنون: 52).فاستغربت في الحقيقة !
وتذكَّرتُ كلاماً للشيخ الدكتور : يوسف القرضاوي ـ وفَّقه الله ـ حين كان يتحدَّث عن الأقباط النصارى ، ويقول بأنَّهم من أمتنا ؛ بل إنَّه في أحد برامجه القديمة قال متحدِّثاً عن النصارى : " فكل القضايا بيننا مشتركة ، فنحن أبناء وطن واحد ، مصيرنا واحد ، أمتنا واحدة ، أنا أقول عنهم : إخواننا المسيحيُّون ، البعض ينكرُ عليَّ هذا كيف أقول إخواننا المسيحيون؟ ( إنَّما المؤمنون إخوة) نعم نحن مؤمنون وهم مؤمنون بوجه آخر"[1]!
لقد أعدت النظر مراراً في كلام الدكتور القرضاوي وكلام ذلك المفكِّر، محاولاً أن أجد لكلامهما حجَّة ؛ فلم أجد!
وقد بحثت فيما بين يديَّ من مراجع لعلِّي أجد أصلاً لكلامهما ، حيث إنَّ علماءنا قالوا: ( لا تعتقد فتستدل فتضل) بيد أني أقول: إنَّ في كلام الدكتور القرضاوي وذلك المفكِّر خطأً ولبْسَاً ظاهراً، ومخالفة للفهم الصحيح الذي عليه علماؤنا من أهل السنَّة !
وكثيراً ما يذكر الشيخ القرضاوي وغيره من العلماء أو المفكِّرين تلك المفاهيم في عدد من المحاضرات والملتقيات الفكريَّة والعلميَّة ، ولم أرَ ما يسند قولهم ، فأحببت أن أساهم بهذه الأكتوبة لعلَّ فيها توضيحاً وتصحيحاً :
فحين قال الشيخ القرضاوي : (فكلُّ القضايا بيننا مشتركة) فإنَّ في هذا الكلام تجاوزاً واضحاً ، فكيف تكون القضايا كلُّها بيننا نحن والنصارى مشتركة ؟!
أليس لكلِّ أحد منَّا قيم وخصوصيات يفترق بها عن الآخر؟
وأتساءل عند قول الشيخ ـ وفَّقه الله ـ:(مصيرنا واحد) فأقول : كيف يكون مصيرنا نحن والنصارى واحداً ؟ أفيكون هذا موافقاً للقرآن وهو ينصُّ في آيات كثيرة بخلاف ذلك! ومنها قوله ـ تعالى ـ : (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون)( الجاثية:21).
ولا شكَّ أنَّ نصوص الشريعة الإسلاميَّة قضت بأنَّ مصير الكفَّار جميعهم ومنهم النصارى النار ـ عياذاً بالله منها ـ ومصير المسلمين الجنَّة ـ نسأل الله من فضله ـ .
نعم ! بالإمكان أن يُحْمَل كلام الشيخ القرضاوي على وجه آخر بأن يُقَال : إن مقصده بأنَّ مصير المسلمين والكفَّار جميعاً الموت ـ مثلاً ـ ، أو إنَّه إذا دَهَمَ العدو أرض المسلمين فقد لا يفرِّقُ في عداوته للمسلم والنصراني كما يفعل اليهود اليوم مع نصارى فلسطين ، وإن كان القتال الأصلي ضدَّ المسلمين .
ولهذا فإحساناً بالظنِّ أقول : إنَّ كلام الشيخ القرضاوي ( في هذه القضيَّة) مُحْتَمَلٌ ؛ إلاَّ أنَّه كان ينبغي عليه أن يُفصِحَ عن مراده في ذلك ؛ حتى لا يُفْهَمَ كلامه خطأً ، وخصوصاً أنَّه كان يتحدَّث في برنامج حواري يشاهده العامي والجاهل والعالم والمتعلم وصاحب الهوى وغير المسلم.
ومن المهم أن أذكِّر بأنَّ (مفهوم الأمَّة) مفهوم شرعي أتى به الإسلام ، ووضع له معنى خاصَّاً ومن معانيه : القوم الذين اجتمعوا على دين واحد ، وانظر تفصيل ذلك في كتاب: ( بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) للإمام الفيروز آبادي ـ رحمه الله ـ .
إلاَّ أنَّ الشيخ القرضاوي وغيره من المفكِّرين ذكروا أنَّ النصارى الذين يعيشون في بلادنا الإسلاميَّة من أمَّتنا الواحدة كما تحدَّث بذلك في محاضرة له كان يلقيها في مصر أيام الحرب السادسة في لبنان في صيف عام (1427هـ) واستشهد على ذلك بقوله تعالى:( وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّة واحدة).
لقد قسَّم العلماء الأمَّة إلى قسمين :
1ـ أمَّة الدعوة : وهم الذين دعاهم الله ـ تعالى ـ للإيمان برسالة الإسلام ولكنَّهم لم يؤمنوا بها .
2ـ أمَّة الإجابة : وهي الأمَّة التي أجابت دعوة ا لحق ـ سبحانه وتعالى ـ ؛ فانتظمت في سلك الإسلام.
فكيف نكون نحن والنصارى ، أو غيرهم من ملل الكفر ونِحَل الضلال ، أمَّةً واحدة ؟ خصوصاً وأنَّ ظاهر الآيات تدلُّ على أنَّ المراد من ذكر الأمَّة فيها بأنَّها أمَّة الإجابة لا أمَّة الدعوة .
نعم ! لو أراد الشيخ الكريم القرضاوي وقصد بقوله (الأمَّة) أي الجماعة التي تعيش في مصر مثلاً كالأقباط النصارى والمسلمين باعتبارهم جميعاً يعيشون في ذلك البلد فإنَّه هذا المفهوم مقبول ـ وإن كان لا يدخل في قوله تعالى :(وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّة واحد) ـ ، لأنَّ من معاني الأمَّة عند العرب :( الجماعة من الناس أو الطائفة ) كما في قوله ـ تعالى ـ :(ولمَّا ورد ماء مدين وجد عليه أمَّة من الناس يسقون) أي : جماعة ، وكذلك قوله تعالى :( كلَّما دخلت أمَّة لعنت أختها) يعني طائفة أو جماعة .( وانظر شرح ذلك في كتاب :(بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) للإمام الفيروز آبادي ـ رحمه الله ـ .
ومن هنا فإنَّه يتبيَّن خطأ من قال عن المسلمين و النصارى بأنَّهم جميعاً أمَّة واحدة ، وخصوصاً أنَّ الآية التي يستدلُّون بها ، وهي قوله ـ تعالى ـ :( وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّة واحدة وأنا ربُّكم فاتقون) إنَّما هي في الحقيقة حجَّةٌ عليهم لا لهم ، وهذا يسمَّى في علم أصول الفقه :(مصادرة) حيث إنَّ معنى الأمَّة في هذه الآية : الأمَّة التي تدين بدين الإسلام وليس المقصود بها الأمَّة التي تدين بدين النصارى ، وكلام المفسرين واضح في ذلك ؛ فإنَّهم ـ رحمهم الله ـ بيَّنوا أنَّ المقصد من قوله ـ تعالى ـ :( وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّة واحدة) أي : الأمَّة المسلمة التي تدين بدين الإسلام.
فهذا الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ يقول في تفسيره :" قوله تعالى :( وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّة واحدة) المعنى: هذا الذي تقدَّم ذكره هو دينكم وملَّتكم فالتزموه . والأمَّة هنا الدين ؛ وقد تقدَّم محامله؛ ومنه قوله ـ تعالى ـ :( إنَّا وجدنا آباءنا على أمَّة ) ( الزخرف : 22) أي : على دين . وقال النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وهل يَأْثَمنْ ذو أمَّة وهو طائع ؟"
( أحكام القرآن للقرطبي : 12/86).
وقال في تفسير الجلالين عند قوله ـ تعالى ـ :"(وإنَّ هذه) ملَّة الإسلام ( أمَّتكم) دينكم أيُّها المخاطبون ، أي : يجب أن تكونوا عليها".
وكذا فهم الإمام الشوكاني فقال :"والمعنى : أنَّ هذه ملَّتكم وشريعتكم أيها الرسل ملَّة واحدة ، وشريعة متحدة يجمعها أصل هو أعظم ما بعث الله به أنبياءه وأنزل فيه كتبه ، وهو دعاء جميع الأنبياء إلى عبادة الله وحده لا شريك له . وقيل : المعنى : إنَّ هذا الذي تقدَّم ذكره هو دينكم وملتكم فالزموه على أنَّ المراد بالأمَّة هنا : الدين كما في قوله ـ تعالى ـ :( إنَّا وجدنا آباءنا على أمَّة) " فتح القدير(3: 483).
وهذا خلاف ما فسَّر به بعض المفكِّرين والمشايخ المعاصرين حيث قالوا بأنَّ المراد بالأمَّة الواحدة ( البشرية جمعاء) ، فلا ريب في خطأ هذا التفسير ، وحرفه عن المنهج الصحيح الذي أراده الله من هذه الآية.
وقد يستدلُّ بعضهم على ذلك بما جاء في وثيقة المدينة المنورة التي أبرمها رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في السنة الأولى من الهجرة بين المهاجرين والأنصار واليهود ؛ حيث نصَّت الوثيقة بأنَّ : (يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ؛ لليهود دينهم وللمسلمين دينهم).[2]
ولكنَّ هذا لا يعدُّ دليلاً لهم بل هو دليل عليهم كذلك ، لأنَّ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال في بدء هذه الوثيقة : هذا كتاب من محمد النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم : أنَّهم أمَّة واحدة من دون الناس.
ولاحظْ قوله ـ عليه السلام ـ فإنَّه واضح بأنَّ هذا الكتاب بين المسلمين والمؤمنين ممَّن آمن من قريش وأهل المدينة ، أو من تبعهم من أهل الإيمان وجاهد معهم ، ثمَّ أمعن وأنعم النظر في قوله ـ عليه الصلاة والسلام : (أنَّهم أمَّة واحدة من دون الناس) ؛ فقد كان يتحدَّث عن المسلمين فقط ، وأكَّد ذلك واستثناهم باعتبارهم أمَّة واحدة ، فقال :( من دون الناس) أي : إنَّ الناس الآخرين الذين ليسوا على ملَّته ليسوا من هذه الأمَّة الإسلاميَّة.
والاتبِّاع هنا معناه : الدخول في سلك الإسلام والهداية كما قال ـ تعالى ـ : (واتبعت ملَّة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ) أي : وافقتهم على دين الإسلام.
ولهذا فحين انتهى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ من ذكر العهد الوثائقي مع من أسلم من المهاجرين والأنصار وسمِّيت بعدها بـ( صحيفة المدينة أو وثيقة المدينة) فصَّل ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد ذلك العهد الذي بينه وبين اليهود الذين يقطنون المدينة المنوَّرة فقال :( وأنَّ يهود بني عوف أمَّة مع المؤمنين ...) ولاحظ قوله :(مع) فلم يقل (من) المؤمنين ؛ لأنَّهم أهل ذمَّة ؛ فما دام أنَّهم تحت حكم الإسلام ؛ فعليهم أن يكونوا مع المسلمين في حال اعتدى على هذه الدولة المسلمة عدو أو محتل.
ولهذا قال الإمام ابن زنجويه وقوله:" إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين" إنما أراد نصرهم المؤمنين، ومعاونتهم إياهم على عدوهم، بالنفقة التي شرطها عليهم ؛ فأما الدّين فليسوا منه بشيء، ألا تراه قد بيَّن ذلك فقال:"لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم")[3].
وقد وردت العبارة في كتاب الأموال " أمة من المؤمنين " مما جعل أبا عبيد يقول: "فإنما أراد نصرهم المؤمنين ومعاونتهم إياهم على عدوهم بالنفقة التي شرطها عليهم ؛ فأما الدين فليسوا منه في شيء ؛ ألا تراه قد بيَّن ذلك ؛ فقال : لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم"([4]) أما ابن إسحاق فقد قال: "مع المؤمنين" وهو أجود، ولعل ما في كتاب الأموال مصحّف ! ويبقى كلاماً متشابهاً فيُرْجعُ فيه إلى النصوص المحكمة، وخصوصاً أنَّ هذه الوثيقة نقلها الأكثر بلفظ :(مع المؤمنين) والله أعلم .
وخصوصاً إذا علمنا أنَّ كلَّ الآيات التي قالها ـ سبحانه وتعالى ـ كقوله ـ تعالى ـ:(وإنَّ هذه أمَّتكم أمَّة واحدة وأنا ربكم فاتقون) (المؤمنون: 52) ، وكذا قوله ـ تعالى ـ :(إنَّ هذه أمتكم أمَّة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (الأنبياء :92) وقوله :( كنتم خير أمَّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) وقوله :(وكذلك جعلناكم أمَّة وسطاً لتكونوا شهداء على النَّاس ويكون الرسول عليكم شهيداً) (البقرة : 143) فكلُّ الآيات تدلُّ على أنَّ الأمَّة المقصود بها هي الأمَّة المسلمة .
وقبل الختام : فإنَّ للدكتور يوسف القرضاوي ـ وفَّقه الله ـ جهوداً فكريَّة وعلميَّة ، وصولات وجولات مع العلمانيين والمنافقين ، وهذا أمر لا شك فيه ، وأسأل الله ـ تعالى ـ أن يأجره عليه بميزانه العادل ، إلاَّ أنَّ ديننا الكريم لا مجاملة فيه على حساب العقيدة ، وصدق الأستاذ سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ حين قال :"تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج "[5].
وليس مرادي ـ بإذن الله ـ من هذا التعقيب على كلام الشيخ القرضاوي إلاَّ النصح والتوضيح ، لا التشهير والتوبيخ ، فليس هذا من سمت طلاَّب العلم ، وقد قال رئيس جمعيَّة علماء المسلمين الجزائريين (الشيخ البشير الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ) :( إذا لَزِمَ النقد فلا يكون الباعث عليه الحقد ، ولكن موجَّهاً إلى الآراء بالتمحيص ، لا إلى الأشخاص بالتنقيص).والله المستعان ، وعليه التكلان ، والحمد لله ربِّ العالمين.
---------------
[1] برنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة ، حلقة بعنوان :( غير المسلمين في ظلِّ الشريعة الإسلاميَّة) بتاريخ : 12/ 10/1997م.
[2] هذه المعاهدة ورد ذكرها في كتاب الأموال لأبي عبيد ص 292 – 295 ، والأموال لابن زنجويه 2 / 466 - 470 ، وسيرة ابن هشام 2 / 92 ، والروض الأنف 4 / 293 ، وقد قام بتحليل هذه المعاهدة أ. د. أكرم بن ضياء العمري .
[3] الأموال 2 / 472.
[4] أبو عبيد: الأموال ص 296.
[5] من فقه الدعوة ( موضوعات في الدعوة والحركة) لسيد قطب ـ رحمه الله ـ ، واختارها من الظِلال الأستاذ أحمد حسن.
=============(52/496)
مبادرة صيام الزنازين
طارق حسن السقا
المبادرة التي قادها الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بمباركة دولة قطر للإفراج عن الشيخ عمر عبد الرحمن- الزعيم الروحي لـ "الجماعة الإسلامية" - والذي يمضي حاليًا عقوبة السجن مدى الحياة بالولايات المتحدة و نقله ليقضي بقية حياته بإحدى الدول الإسلامية مبادرة أتمنى أن تتكاتف جهود المخلصين في الأمة من أجل العمل على توسيع مفهومها وتطوير مغزاها .
فلقد جاءت هذه المبادرة في هذا الوقت لتفتح المجال للحديث عن آلاف المعتقلين الإسلاميين داخل سجون البلاد العربية الإسلامية من الخليج إلى المحيط ، هؤلاء المعتقلين الذين اكتظت بهم السجون لأسباب عديدة معلومة للجميع - ليس المجال الخوض فيها الآن . ولكن المبادرة التي يقودها الدكتور القرضاوي, والمرونة التي أبدتها الولايات المتحدة , والدور الإيجابي الذي تقوم به دولة قطر في قضية الدكتور عمر عبد الرحمن أغرتنا إلى الدعوة إلى توسيع هذه المبادرة الجريئة وتطويرها , وتولية وجوهنا بها شطر حكومات بلادنا , وبني جلدتنا علنا نضع لهذه النزيف حدا .
فلماذا لا يقوم الدكتور القرضاوي و كتيبه- مختارة - من العلماء والحكماء والمخلصين من أبناء الأمة بالقيام بتطوير هذه المبادرة وتحويلها إلى مبادرة أعم وأشمل يخاطبون من خلالها الحكومات في بلادنا الإسلامية للنظر في أمر الآلاف من الشباب المسلم المغيب في السجون منذ سنوات طوال . ولتكن هذه المبادرة بداية جديدة و صفحة جديدة بغية الخروج ببلاد المسلمين من هذا النزيف في هذا الوقت الذي يقف فيه الذئب الصهيو- أميركي على العتبات منتظرا سنوح الفرصة لابتلاع بلاد المسلمين بما فيها ومن فيها .
مبادرة جديدة فيها يحاور العلماء والحكماء من أبناء أمتنا كلا الطرفين : الحكومات و شباب الحركات الإسلامية على حد سواء . حوار يقصد منه التوصل إلى اتفاق يهدف في المقام الأول إلى تأهيل هؤلاء الشباب للتخلي نهائيا عن فكر العنف و التفجير, والتقتيل , والإرهاب الذي جلب الكوارث لبلادنا , وشوه إسلامنا , وغيب الآلاف من شبابنا داخل السجون بلا طائل ولا مردود . حوار يقصد منه دفع هؤلاء الشباب إلى الانخراط في مجال الدعوة الله على بصيرة . حوار يقصد منه التوصل إلى ميثاق يضع بنوده العلماء والحكماء في الأمة تلتزم به كل الأطراف يضمن صالح البلاد والعباد .
إنه لمن العبث أن نظل ومنذ أكثر من نصف قرن نكرر سيناريو واحد مع شباب الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي وفي كل مرة نتوقع أن نحصل على نتائج مغايرة . فالواجب يدعونا اليوم أن نبحث عن سيناريوهات جديدة مع هذه الجماعات لأنه لا التضييق , ولا التشويه , ولا الحظر , ولا السجن , ولا التشريد , ولا الحرب العالمية على الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها , ولا رفع مكافأة القبض على أسامة بن لادن إلي 50 مليون دولار , ولا العنف الباكستاني في إنهاء أزمة المسجد الأحمر نجح في إبعاد , أو تعطيل , أو جعل هذه الحركات تحيد عن أفكارها أو تحيد عن مبادئها ، فلماذا لا نبحث عن سيناريوهات مغايرة علنا نصل إلى نتائج مغايرة مع تلك الجماعات .
مبادرة يقصد منها العمل على تبصير و تنوير هؤلاء الشباب بضرورة دحض فكر العنف والإرهاب والتقتيل والتفجير الذي يؤمن به بعضهم . ولن يتأتى ذلك إلا بعد أن يسمع هؤلاء الشباب من علماء الأمة مباشرة فلا يفل الحديد إلا الحديد . لابد أن يجلس هؤلاء الشباب مع العلماء يحاورنهم , ويناقشونهم , ويجادلونهم بالتي هي أحسن بغية الرجوع إلى الحق . وليس بغية كسب مواقف أو تسجيل نقاط . خاصة وأن بعض هذه الجماعات ( الجماعة الإسلامية في مصر ) كانت لديهم الجرأة والشجاعة على إعلان التبرؤ من العنف الذي ارتكبوه سابقا , ونبذه نهائيا وهذا مما يشجع ويغري باتخاذ الخطوة الأولي في هذه المبادرة .
مبادرة يقصد منها العمل على تبصير الإدارات الحاكمة في بلادنا بأخطائها والمآخذ التي أخذت عليها بشأن هذا الملف وغيره . مبادرة يقصد منها العمل على تبصير الإدارات الحاكمة بضرورة تغيير إستراتيجية العنف في مواجهة هؤلاء الشباب , والتعامل معهم كمجموعة من أبناء الوطن ضلت طريقها وتحتاج إلى تقويم ، يدلا من التعامل معهم كأعداء يجب سحقهم, وإبادتهم, والقضاء عليهم . مبادرة يقصد منها العمل على تبصير الإدارات الحاكمة بضرورة التخلي عن المعالجات الأمنية في معالجة ظاهرة العنف في بلادنا والتي أثبتت الأيام فشل هذه السياسة أيما فشل . فنحن لا نغالي إذا ما قلنا أن أحد أهم أسباب تنامي ظاهرة العنف في بلادنا وتصديره إلى خارج حدود الدائرة هو الإصرار على التعامل مع هؤلاء الشباب أصحاب الفكر بالشومة, والكرباج , والضرب في سويداء القلب كما كان يأمر – على سبيل المثال - وزير الداخلية المصري الأسبق زكي بدر الذي لطالما قال: :
أنا على الاستعداد إن أنا أفرم 10% من
الشعب المصري مقابل يعيش الـ90% الآخرين .
وذهب زكي بدر- الفرد - ومن هم على شاكلته وتركوا في قلب الأمة جرحا لم يندمل حتى اللحظة
اعلم أن الموضوع ليس بهذه البساطة التي أتناول بها عرض الأفكار على الورق . فالموضوع شائك ويحتاج إلى جهود مضنية. كما أعلم تماما أن هناك من سينظر إلي هذا الأمر بقدر من الاستخفاف لكون الموضوع فوق تفكيره وقدراته . ولكنه أبدأ ليس فوق مستوي أصحاب الهمم القممية, والإرادات الحديديةوليس فوق مستوى تفكير المخلصين من أبناء الأمة وهم كثر في الأمة بفضل من الله ونعمة. فكل من يعلم خطورة استمرار نزيف هذا الصراع العبثي بين الحكومات وشبا ب الحركات الإسلامية في بلادنا عليه أن يعمل جاهدا مع المخلصين لوقف هذا النزيف .
ليكن رمضان القادم موعدا نرسم فيه البسمة على شفاه الآلاف ممن غيبوا في السجون لعشرات السنين . ليكن رمضان القادم موعدا تصوم فيه السجون والمعتقلات والزنازين مع المسلمين في أرجاء عالمنا الإسلامي الفسيح . ليكن رمضان القادم بداية لتوحيد الجهود صوب تطوير بلادنا , و عمارة أرضنا التي نعيش عليها , بعقول أبنائنا الذين ولدوا عليها , بالطريقة التي يريدها ربنا عز وجل , لصالح شعوبنا التي عانت الكثير والتي آن الأوان أن نرد لها الجميل بعيدا عن ثقافة العنف ولغة الرصاص . فكل هذا لا يخدم إلا أعداءنا , ويشوه إسلامنا وهذا هو الأخطر والأهم . فهل يسعى حكماء الأمة لمبادرة تصوم فيها زنازين سجوننا مع المسلمين في رمضان القادم, أو الذي يليه, أو الذي يليه ؟.
طارق حسن السقا
alsaqa22@hotmail.com.
===============(52/496)
(52/496)
(52/496)
الظاهرية الجدد ؟!! ..
عبد الله بن راضي المعيدي الشمري
إنني أكره لغة الإقصاء .. وأرفض تغييب العقل .. وأنا ضد من يجعل عقله وعاءً لكلام غيره ..
والدين كما يقول الأديب الطنطاوي رحمه الله : " ليست المسالة إما (لا) أو (نعم) "..
بل لابد من الأخذ والعطاء .. والطرح والنقد .. والسؤال والبحث ..
ولكن !!
يجب على كل احد أن يعرف قدره .. وان يحترم غيره في فنه ..
(أي بعبارة أخرى احترام التخصص ) ..
ففرق بين الكلام .. والأخذ والرد .. والسؤال والمناقشة في المسائل ..
فرق بين هذا .. وبين أن يخوض الإنسان فيما لايعنيه !!
ومن تكلم بغير فنه أتى بالعجآئب !! هكذا قال الحافظ _ رحمه الله _ ..
بل ربما تكلم المرء .. أو كتب .. وكان قبل ذلك قد اصدر الحكم الشرعي ؟!
والمصيبة العظمى .. والخطية الكبرى .. ( أنه ليس أهل لذلك !!)
أوآآآآآآآه .. أصار الدين كلاءً مباحاً لكل احد ..
كتاب جرائد .. وعلماء أقراص .. ومحركات !! ..
وكل من قلبه مرض ..
وفي فكره عوج ..
وفي فؤاده هوى ..
فمِن هؤلاء .. ومن وهؤلاء !! جاء انتهاك الدين .. وتمييع أحكامه ..
والركض خلف كل فتوى تنشر تحليل ماكان محرماً ؟!!
عجباً لهؤلاء..!!
المسألة فيها خلاف ؟!
مطية كلّ كاذب .. ودعوى كلّ كذوب ؟!
ولكن ما المراد بها ؟! ولماذا الحديث عنها ؟!
الخلاف حق .. من ينكره ؟! بل هو ميزة لهذه الأمة الخالدة .. وتوسعة على أفرادها ..
ولكن !!
فرق بين طرح الخلاف بادلته .. والبحث عن الحكم الشرعي متجردا صاحبه عن الهوى !!
وبين من يريد نقض عرى الدين .. وتمييع المحرمات .. وشيوع الفاحشة بين المؤمنين ..
فالأول رابح لامحالة .. فهو دائر بين الأجر والأجرين ..
وهكذا هم علماء الملة .. لاعلماء الأمة !!
وأما الأخر فله النصيب الأوفر من " أولئك لهو عذاب اليم "
والأشد أن يكون (الحديث عن الخلاف ) مطية لتدمير الدين .. وضياع الأحكام ..
فهو يبحث عن غرائب الأقوال .. وشواذ الخلاف .. ثم ينشره بين الناس!!
أما جاهلاً .. فحمار توما أفضل منه !!
وإما عالماً بما يقول ويقصد .. ولكن هو الهوى !!
داء من سبق من الأمم ..
.. بالله عليكم يأهل الإيمان .. يأهل التوحيد ..
أين هؤلاء وكتاباتهم ؟ بل واستماتتهم ؟ بل وحرقتهم ؟
أين هم من هذه المشاهد المروعة ؟ وتلك الصور ؟ آلا يكتبون عنها ؟ آلا يتكلمون عنها ؟
الم يروا مشهد المرأة المحترقة .. تجري مذهولة في أحد شوارع هيروشيما .. تشتعل فيها النار، التي صبها فوقها (رسل الحضارة) .. حماة حقوق الإنسان؟!.
من رأى منكم مزق اللحم .. لشيء كانوا يسمونه طفلاً ..!! في واحد من أحياء بغداد .. التي يحرقها (مغول) القرن الحادي والعشرين ..؟!! الذين جاؤوا من أجل (حرية) العراق..؟!
وبهذا يصبح حال أولئك الناس إما بحثاً عن الأقوال الشاذة والمرجوحة فيقلدونها ولن يعدموها .. وإما ينبذون التقيد بالأحكام الشرعية في معاملاتهم وهي الطامة الكبرى ..
وهو مراد القوم !!
والطآمة الكبرى هي هدم الدين ؟!
ولكن كيف ؟!!..
هم العدو فاحذرهم ..
إن تعظيم النصوص وتقديمها أصل ديني ومطلب شرعي لا يصح للمجتهد نظر إذا لم يأخذ بالنصوص ويعمل بها ، ولكن الانحراف يحصل بالتمسك بظواهر النصوص فقط دون فقهها ومعرفة مقصد الشرع منها يقول د . صالح المزيد _ فيما نقله عند د . مسفر القحطاني (*) : (( وقد ظهر في عصرنا من يقول : يكفي الشخص لكي يجتهد في أمور الشرع يقتني مصحفاً مع سنن أبي داود، وقاموس لغوي )).
وهذا النوع من المتطفلين لم يشموا رائحة الفقه فضلاً أن يجتهدوا فيه ، وقد سماهم د . القرضاوي ( بالظاهرية الجدد ) ـ مع فارق التشبيه في نظري ـ حيث قال عنهم : ((المدرسة النصية الحرفية ، وهم الذين أسميهم (الظاهرية الجدد) وجلهم ممن اشتغلوا بالحديث ، ولم يتمرسوا الفقه وأصوله ، ولم يطلعوا على اختلاف الفقهاء ومداركهم في الاستنباط ولا يكادون يهتمون بمقاصد الشريعة وتعليل الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال)) .
وهؤلاء أقرب شيء إلى ألسنتهم وأقلا مهم إطلاق كلمة التحليل دون مراعاة لخطورة هذه الكلمة ودون تقديم الأدلة الشافية من نصوص الشرع وقواعده سنداً للذلك وحملاً للناس على أشد مجاري التكليف ، والله عز وجل قد حذر من ذلك حيث قال سبحانه : [وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ].
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ : (( لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أوتحريمه أو إيجابه أو كراهيته ..قال غير واحد من السلف : ليحذر أحدكم أن يقول : أحل الله كذا أو حرّم كذا ، فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ، ولم أحرمه )) إعلام الموقعين 4 / 134 ..
قاعدة سد الذرائع ..
دلت النصوص الكثيرة على اعتبار سد الذرائع والأخذ به حماية لمقاصد الشريعة وتوثيقاً للأصل العام الذي قامت عليه الشريعة من جلب المصالح ودرء المفاسد . ولله در ابن القيم ـ رحمه الله ـ إذ يقول :-
(( فإذا حرّم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه ، فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمه ، وتثبيتاً له ، ومنعاً من أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقصاً للتحريم وإغراءً للنفوس به )) ..
ثانياً : منهج المبالغة في التساهل والتيسير
ظهر ضمن مناهج النظر في النوازل المعاصرة منهج المبالغة والغلو في التساهل والتيسير ، وتعتبر هذه المدرسة في النظر والفتوى ذات انتشار واسع على المستوى الفردي والمؤسسي خصوصاً أن طبيعة عصرنا الحاضر قد طغت فيه المادية على الروحية ، والأنانية على الغيرية ، والنفعية على الأخلاق ، وكثرت فيه المغويات بالشر والعوائق عن الخير ، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر حيث تواجهه التيارات الكافرة عن يمين وشمال تحاول إبعاده عن دينه وعقيدته ولا يجد مَنْ يعينه بل ربما يجد من يعوقه .
وأمام هذا الواقع دعا الكثير من الفقهاء إلى التيسير ما استطاعوا في الفتوى والأخذ بالترخص في إجابة المستفتين ترغيباً لهم وتثبيتاً لهم على الطريق القويم.
ولاشك أن هذه دعوى مباركة قائمة على مقصد شرعي عظيم من مقاصد الشريعة العليا وهو رفع الحرج وجلب النفع للمسلم ودرء الضرر عنه في الدارين ؛ ولكن الواقع المعاصر لأصحاب هذا التوجه يشهد أن هناك بعض التجاوزات في اعتبار التيسير والأخذ بالترخص وربما وقع أحدهم في رد بعض النصوص وتأويلها بما لا تحتمل وجهاً في اللغة أو في الشرع .
وضغط الواقع ونفرة الناس عن الدين لا يسوّغ التضحية بالثوابت والمسلمات أوالتنازل عن الأصول والقطعيات مهما بلغت المجتمعات من تغير وتطور فإن نصوص الشرع جاءت صالحة للناس في كل زمان ومكان ..
فمن الخطأ والخطر تبرير الواقع والمبالغة في فقه التيسير بالأخذ بأي قولٍ والعمل بأي اجتهادٍ دون اعتبار الحجة والدليل مقصداً مُهِّماً في النظر والاجتهاد .
ولعل من الدوافع لهذا الاتجاه الاجتهادي ؛أن أصحاب هذه المدرسة يريدون إضفاء الشرعية على هذا الواقع ، بالتماس تخريجات وتأويلات شرعية تعطيه سنداً للبقاء . وقد يكون مهمتهم تبرير، أو تمرير ما يراد إخراجه للناس من قوانين أو قرارات أو إجراءات تريدها السلطة ..
ومن هؤلاء من يفعل ذلك مخلصاً مقتنعاً لا يبتغي زلفى إلى أحد ، ولا مكافأة من أحد ولكنه واقع تحت تأثير الهزيمة النفسية أمام حضارة الغرب وفلسفاته ومسلماته ..
ومنهم من يفعل ذلك ، رغبة في دنيا يملكها أصحاب السلطة أو مَن وراءهم من الذين يحركون الأزرار من وراء الستار ، أو حباً للظهور والشهرة على طريقة :
خالف تعرف ، إلى غير ذلك من عوامل الرغب والرهب أو الخوف والطمع التي تحرك كثيراً من البشر ، وإن حملوا ألقاب أهل العلم وألبسوا لبوس أهل الدين .
ولا يخفى على أحد ما لهذا التيار الاجتهادي من آثار سيئة على الدين وحتى على تلك المجتمعات التي هم فيها،فهم قد أزالوا من خلال بعض الفتاوى الفوارق بين المجتمعات المسلمة والكافرة بحجة مراعاة التغير في الأحوال والظروف عما كانت عليه في القرون الأولى.
ويمكن أن نبرز أهم ملامح هذا الاتجاه فيما يلي :-
ا - الإفراط بالعمل بالمصلحة ولو عارضت النصوص :
إن المصلحة المعتبرة شرعاً ليست بذاتها دليلاً مستقلاً بل هي مجموع جزئيات الأدلة التفصيلية من القرآن والسنة التي تقوم على حفظ الكليات الخمس فيستحيل عقلاً أن تخالف المصلحة مدلولها أو تعارضه وقد أُثبتت حجية المصلحة عن طريق النصوص الجزئية فيكون ذلك من قبيل معارضة المدلول لدليله إذا جاء بما يخالفه وهذا باطل (34).
فالمصلحة عند العلماء ما كانت ملائمة لمقاصد الشريعة لا تعارض نصاً أو إجماعاً مع تحققها يقينياً أو غالباً وعموم نفعها في الواقع ، أما لو خالفت ذلك فلا اعتبار بها عند عامة الفقهاء والأصوليين إلا ما حُكِي عن الإمام الطوفي ـ رحمه الله ـ أنه نادى بضرورة تقديم دليل المصلحة مطلقاً على النص والإجماع عند معارضتهما له.
وواقع الإفتاء المعاصر جنح فيه بعض الفقهاء والمفتين إلى المبالغة في العمل بالمصلحة ولو خالفت الدليل المعتبر ومن ذلك ما قاله بعض المعاصرين ممن ذهبوا إلى جواز تولي المرأة للمناصب العالية : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الناس في مكة سورة النمل وقص عليهم في هذه السورة قصة ملكة سبأ التي قادت قومها إلى الفلاح والأمان بحكمتها وذكائها ، ويستحيل أن يرسل حكماً في حديث يناقض ما نزل عليه من وحي …ـ إلى أن قال ـ هل خاب قوم ولوا أمرهم امرأة من هذا الصنف النفيس )) .
ولا شك في معارضة هذا الكلام لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة )).
ومن ذلك أيضاً ما أفتى به فضيلة المفتي السابق بجمهورية مصر العربية على جواز الفوائد المصرفية مع معلومية الربا فيها ، ومخالفته للنصوص والإجماع المحرم للربا قليله وكثيره.
وظهر في الآونة الأخيرة بعض الفتاوى التي أباحت بيع الخمر من أجل مصلحة البلاد في استقطاب السياحة ، وإباحة الإفطار في رمضان من أجل ألا تتعطل مصلحة الأعمال في البلاد ، وإباحة التعامل بالربا من أجل تنشيط الحركة التجارية والنهوض بها ، والجمع بين الجنسين في مرافق المجتمع لما في ذلك من تهذيبٍ للأخلاق وتخفيفٍ للميل الجنسي بينهما !! ؟ .
وبعضها جوزت التسوية بين الأبناء والبنات في الميراث، بل وبعضها جوزت أن تمثل المرأة وتظهر في الإعلام بحجة التكييف مع تطورات العصر بفقه جديد وفهم جديد.
وكل هذه وغيرها خرجت بدعوى العمل بالمصلحة ومواكب الشريعة لمستجدات الحياة .
ب - تتبع الرخص والتلفيق بين المذاهب :
الرخص الشرعية الثابتة بالقرآن والسنة لا بأس في العمل بها لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه )).
أما تتبع رخص المذاهب الاجتهادية والجري وراءها دون حاجةٍ يضطر إليها المفتي ، والتنقل من مذهب إلى آخر والأخذ بأقوال عددٍ من الأئمة في مسألة واحدة بغية الترخص ، فهذا المنهج قد كرهه العلماء وحذَّروا منه ، وإمامهم في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : (( إني أخاف عليكم ثلاثاً وهي كائنات : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، ودنيا تفتح عليكم )) .
فزلة العالِم مخوفة بالخطر لترتب زلل العالَم عليها فمن تتبع زلل العلماء اجتمع فيه الشر كله .
وقد حكى بعض المعاصرين خلافاً بين العلماء في تجويز الأخذ برخص العلماء لمن كان مفتياً أو ناظراً في النوازل.
ولعل حكاية الخلاف ليست صحيحة على إطلاقها وذلك للأسباب التالية :-
1- أن الخلاف الذي ذكروه في جواز تتبع الرخص أخذوه بناءً على الخلاف في مسألة الجواز للعامي أن يتخير في تقليده من شاء ممن بلغ درجة الاجتهاد ، وأنه لا فرق بين مفضول وأفضل ، ومع ذلك فإنهم وإن اختلفوا في هذه المسألة إلا أنهم اتفقوا على أنه إن بان لهم الأرجح من المجتهدين فيلزمهم تقليده ولا يجوز لهم أن يتتبعوا في ذلك رخص العلماء وزللهم والعمل بها دون حاجه أو ضابط.
فلا يصح أن يُحكى خلافٌ للعلماء في مسألة تخريجاً على مسألة أخرى تخالفها في المعنى والمضمون ، ولا تلازم بينها وذلك أن الخلاف في حق العامي ، أما المجتهد المفتي فلا يجوز له أن يفتي إلا بما توصل إليه اجتهاده ونظره.
2- أن بعض العلماء جوّز الترخص في الأخذ بأقوال أي العلماء شاء وهذا إنما هو في حق العوام ـ كما ذكرنا ـ كذلك أن يكون في حالات الاضطرار وأن لا يكون غرضه الهوى والشهوة ، يقول الإمام الزركشي ـ رحمه الله ـ في ذلك : (( وفي فتاوى النووي الجزم بأنه لا يجوز تتبع الرخص ، وقال في فتاوٍله أخرى ؛ وقد سئل عن مقلد مذهب : هل يجوز له أن يقلد غير مذهبه في رخصة لضرورة ونحوها ؟ ، أجاب : يجوز له أن يعمل بفتوى من يصلح للإفتاء إذا سأله اتفاقاً من غير تلقّط الرخص ولا تعمد سؤال من يعلم أن مذهبه الترخيص في ذلك )).
فالعلماء لا يجوزون تتبع الرخص إلا في حالات خاصة يبرّرها حاجة وحال السائل لذلك لا أن يكون منهجاً للإفتاء يتبعه المفتي مع كل سائل أوفي كل نازلة بالهوى والتشهي.
3- أن هناك من العلماء من حكى الإجماع على حرمة تتبع الرخص حتى لو كان عامياً ومن أولئك الإمام ابن حزم ـ رحمه الله ـوابن الصلاح ـ رحمه الله ـوكذلك ابن عبد البر حيث قال رحمه الله:((لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً)).
وقد أفاض الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ في الآثار السيئة التي تنجم عن العمل بتلقّط الرخص وتتبعها من المذاهب وخطر هذا المنهج في الفتيا.
والتساهل المفرط ليس من سيما العلماء الأخيار وقد جعل ابن السمعاني ـ رحمه الله ـ من شروط العلماء أهل الاجتهاد : الكف عن الترخيص والتساهل ، ثم صنف ـ رحمه الله ـ المتساهلين نوعين :
1- أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام ويأخذ ببادئ النظر وأوائل الفكر فهذا مقصر في حق الاجتهاد ولا يحل له أن يفتي ولا يجوز .
2 - أن يتساهل في طلب الرخص وتأول السنة فهذا متجوز في دينه وهو آثم من الأول.
والملاحظ أن منهج التساهل القائم على تتبع الرخص يفضي إلى اتباع الهوى وانخرام نظام الشريعة (( فإذا عرض العامي نازلته على المفتي ، فهو قائل له : أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق ، فلا يمكن والحال هذه أن يقول له : في مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت ) أو سأبحث لك عن قولٍ لأهل العلم يصلح لك ، وقد قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : (( لو أن رجلاً عمل بكل رخصه ؛ بقول أهل الكوفة في النبيذ ، وأهل المدينة في السماع ، وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً )).
ويروى عن إسماعيل القاضي ـ رحمه الله ـ أنه قال : (( دخلت على المعتضد فدفع إلي كتاباً فنظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم، فقلت : مصنف هذا زنديق ،فقال: لم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت: الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر ، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن جمع زلل العلماء ، ثم أخذ بها ذهب دينه ، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب )).
ولعل واقعنا المعاصر يشهد جوانب من تساهل بعض الفقهاء في التلفيق بين المذاهب وتتبع الرخص كما هو حاصل عند من يضع القوانين والأنظمة أو يحتج بأسلمة القانون بناءً على هذا النوع من التلفيق ، أما حالات الضرورة في الأخذ بهذا المنهج فإنها تقدر بقدرها .
ج - التحايل الفقهي على أوامر الشرع .
وهو من ملامح مدرسة التساهل والغلو في التيسير ؛ وقد جاء النهي في السنة عن هذا الفعل حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم :(( لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل )). وعلى ذلك اتفق أكثر أهل العلم على عدم تجويزه وفي ذلك يقول الإمام القرافي ـ رحمه الله ـ : (( لا ينبغي للمفتي : إذا كان في المسألة قولان : أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف ؛ أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين ، ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى و إجلاله وتقواه ، وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق نعوذ بالله من صفات الغافلين )).
وقد حكى أبو الوليد الباجي ـ رحمه الله ـ عن أحد أهل زمانه أخبره أنه وقعت له واقعة ، فأفتاه جماعة من المفتين بما يضره وكان غائباً ، فلما حضروا قالوا : لم نعلم أنها لك ، وأفتوه بالرواية الأخرى ، قال: وهذا مما لا خلاف بين المسلمين المعتد بهم في الإجماع أنه لا يجوز.
وقد فصَّل الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ القول في الحيل الممنوعة على المفتي وما هو مشروع له حيث قال :
(( لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة ، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه ، فإن تتبع ذلك فسق وحُرِمَ استفتاؤه ، فإن حَسُن قصده في حيلةٍ جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة ، لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك ، بل استحب ، وقد أرشد الله نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثاً فيضرب به المرأة ضربةً واحدة . وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً إلى بيع التمر بدراهم ، ثم يشتري بالدراهم تمراً آخر ، فيخلص من الربا .
فأحسن المخارج ما خلّص من المآثم وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم أو أسقط ما أوجبه الله ورسوله من الحق اللازم والله الموفق للصواب )).
وقد وقع كثير من الفقهاء المعاصرين في الإفتاء بجواز كثير من المعاملات المحرمة تحايلاً على أوامر الشرع ؛ كصور بيع العينة المعاصرة ومعاملات الربا المصرفية ، أو التحايل على إسقاط الزكاة أو الإبراء من الديون الواجبة ، أو ما يحصل في بعض البلدان من تجويز الأنكحة العرفية تحايلاً على الزنا ، أو تحليل المرأة لزوجها بعد مباينته لها بالطلاق ،وكل ذلك وغيره من التحايل المذموم في الشرع.
ثالثاً : المنهج الوسطي المعتدل في النظر والإفتاء
الشريعة الإسلامية شريعة تتميز بالوسطية واليسر ولذا ينبغي للناظر في أحكام النوازل من أهل الفتيا والاجتهاد أن يكونوا على الوسط المعتدل بين طرف التشدد والانحلال كما قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ : (( المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال .
والدليل على صحة هذا أن الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ؛فإنه قد مرّ أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين ؛ خرج عن قصد الشارع ولذلك كان مَنْ خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين …فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل ، ولا تقوم به مصلحة الخلق ، أما طرف التشديد فإنه مهلكة وأما طرف الانحلال فكذلك أيضاً ؛ لأن المستفتي إذا ذُهِبَ به مذهب العنت والحرج بُغِّض إليه الدين وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة ، وهو مشاهد ، وأما إذا ذُهِبَ به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي على الهوى والشهوة ، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى واتباع الهوى مهلك ، والأدلة كثيرة )).
ولعل ما ذكرناه من ملامح للمناهج الأخرى المتشددة والمتساهلة كان من أجل أن يتبين لنا من خلالها المنهج المعتدل ؛ وذلك أن الأشياء قد تعرف بضدها وتتمايز بنقائضها.
وقد أجاز بعض العلماء للمفتي أن يتشدد في الفتوى على سبيل السياسة لمن هو مقدم على المعاصي متساهل فيها ، وأن يبحث عن التيسير والتسهيل على ما تقتضيه الأدلة لمن هو مشدد على نفسه أو غيره ، ليكون مآل الفتوى : أن يعود المستفتي إلى الطريق الوسط.
ولذلك ينبغي للمفتي أن يراعي حالة المستفتي أو واقع النازلة فيسير في نظره نحو الوسط المطلوب باعتدال لا إفراط فيه نحو التشدد ولا تفريط فيه نحو التساهل وفق مقتضى الأدلة الشرعية وأصول الفتيا ، وما أحسن ما قاله الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ:((إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التشدد فيحسنه كل أحد)). والظاهر أنه يعني تتبع مقصد الشارع بالأصل الميسور المستند إلى الدليل الشرعي.
ولاشك أن هذا الاتجاه هو اتجاه أهل العلم والورع والاعتدال ، وهي الصفات اللازمة لمن يتعرض للفتوى والتحدث باسم الشرع ، وخصوصاً في هذا العصر .
فالعلم هو العاصم من الحكم بالجهل ، والورع هو العاصم من الحكم بالهوى ، والاعتدال هو العاصم من الغلو والتفريط ، وهذا الاتجاه هو الذي يجب أن يسود ، وهو الاجتهاد الشرعي الصحيح وهو الذي يدعو إليه أئمة العلم المصلحون.
-----------------------
أخي / أختي / أتشرف بزياتك لصفحتي في موقع صيد الفوائد ...
http://saaid.net/Doat/almueidi/index.htm
==============(52/496)
المصافحة بين الجنسين
د. نهى قاطرجي
تعتبر قضية المصافحة بين الجنسين من القضايا القديمة الحديثة التي تطفو من حين لآخر إلى السطح لتعاد إثارتها في كثير من المجتمعات العامة والخاصة وفي بعض الأوساط العلمية حيث الفتاوى والمناقشات حول أدلة التحريم أو الإباحة لهذا الفعل .
إن الحديث عن هذا الموضوع وعرض الأدلة الشرعية ليست من أهداف هذا المقال، فهذا الأمر يمكن ايجاده في كتب الفقه التي في معظمها تحرم هذا الفعل وتعتبره مخالفاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية حيث ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يصافح النساء، وأنه نهى عن هذا الفعل بقوله: " لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير لكم من أن يمس امرأة لا تحل له" .
أما من اباح هذا الفعل فهم قلة وأبرزهم في العصر الحالي الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي الذي أجازها بشرطين أولها عدم الشهوة وأمن الفتنة وثانيها الاقتصار في المصافحة على موضع الحاجة، فقال في هذا المجال: ينبغي الاقتصار في المصافحة على موضع الحاجة، مثل الأقارب والأصهار الذين بينهم خلطة وصلة قوية، ولا يحسن التوسع في ذلك، سداً للذريعة، وبعداً عن الشبهة، وأخذاً بالأحوط، واقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، الذي لم يثبت عنه أنه صافح امرأة أجنبية قط .
من هنا قد يأتي التساؤل عن الهدف من طرح هذا العنوان الآن مع وجود عناوين أخرى أكثر أهمية مثل الجهاد والغزو الفكري والفساد الاجتماعي، إضافة إلى أن ما يحدث بين المرأة والرجل من تجاوزات اجتماعية تخطت مسألة المصافحة بكثير، وكأننا عند التعرض لمسألة المصافحة نعود بالمسألة إلى نقطة البداية، أو كأننا نتلهى بالقشور ونترك اللب المهم.
إن في هذا الكلام كثير من المنطق وإن كان وجود المشكلات الاجتماعية الخطيرة لا تنفي وجود مشكلات أخرى لا تقل أهمية عنها خاصة أن هذه الأخيرة قد يمكن أن تحدث في مجتمعات مختلفة عن الأولى، فالحديث عن المصافحة لا يوجه في الغالب إلى من تخطى المصافحة إلى الخلوة واللمسة والقبلة، وإنما الحديث عن المصافحة يوجه إلى المسلم الذي يؤمن بالله سبحانه وتعالى ويؤمن باليوم الآخر، ولكنه في الوقت نفسه يتخذ الرخص في موضوع المصافحة، ليس ذلك فحسب ولكن يتهم كل من يخالفه بالتخلف والتشدد والأصولية ... والنقاط التي يشدد عليها لتأكيد موقفه في هذه المسألة ما يلي:
1- الاستشهاد بحديث " إنما الأعمال بالنيات" ، وبما أن نية المصافح سليمة وصافية تجاه الطرف الآخر، ولا وجود لديه للشهوة ولا يخشى الفتنة من وراء ذلك فإنه لا مانع من المصافحة، والأسئلة التي تطرح نفسها هنا، إذا كان مثل هذا الشخص قد أمن على نفسه الفتنة وعدم وجود الشهوة فهل يأمن ذلك من الطرف الآخر؟ وماذا يفعل هذا الشخص في حال صادف وجود عدة أشخاص فهل ينتقي من بينهم من تنتفي الشهوة ضده فيصافحه ويترك الآخرين؟ ثم ألا يمكن أن تتبدل النية بعد الملامسة، خاصة إذا حدث أثناء الملامسة ما يستوجب هذا التغيير مثل تلاقي العيون والشد على اليد مثلاً ؟
يقول الدكتور عبد المجيد الزنداني مبيناً أحدث النتائج التي جاء بها علم التشريح الحديث حول ما يحدث أثناء المصافحة بين الرجل المرأة: "إن هناك خمسة ملايين خلية في الجسم تغطي السطح.. كل خلية من هذه الخلايا تنقل الأحاسيس، فإذا لامس جسم الرجل جسم المرأة سرى بينهما اتصال يثيرالشهوة، وأضاف علم التشريح: حتى أحاسيس الشم، فالشم قد ركب تركيباً يرتبط بأجهزة الشهوة، فإذا أدرك الرجل أو المرأة شيئاً من الرائحة سرى ذلك في أعصاب الشهوة، وكذلك السماع وأجهزة السمع مرتبطة بأجهزة الشهوة، فإذا سمع الرجل أو سمعت المرأة مناغمات من نوع معين كأن يحدث نوع من الكلام المتصل بهذه الأمور أو يكون لين في الكلام من المرأة فإن كله يترجم ويتحرك إلى أجهزة الشهوة! وهذا كلام رجال التشريح المادي من الطب يبينونه ويدرسونه تحت أجهزتهم وآلاتهم ونحن نقول سبحان الله الحكيم الذي صان المؤمنين والمؤمنات فأغلق عليهم منافذ الشيطان وطرق فساده، قال تعالى: "قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ".
ثم إذا كان مقياس الحكم هو أمن الفتنة وسلامة النية، فلماذا لم يصافح الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فهل يمكن لمسلم أن يشك بسلامة نية رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المجال؟ يقول الشيخ الصابوني مبيناً هدف الرسول عليه الصلاة والسلام من وراء الامتناع عن مصافحة النساء:"ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يمتنع عن مصافحة النساء مع أنه المعصوم فإنما هو تعليم للأمة وإرشاد لسلوك طريق الاستقامة، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الطاهر الفاضل الشريف الذي لا يشك إنسان في نزاهته وطهارته وسلامة قلبه لا يصافح النساء ويكتفي بالكلام في مبايعتهن مع أن أمر البيعة أمر عظيم الشأن، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة مع أن الشهوة منهم غالبة والفتنة غير مأمونة والشيطان يجري فيهم مجرى الدم ؟!".
2- الامتناع عن إيذاء الاخر والتسبب له بالضيق والحرج مما يؤثر على علاقة الطرفين ببعضهما فيما بعد وخاصة إذا كان هذا الشخص مهماً أو تجمعه فيه مصلحة شخصية، ومن الحجج التي يتخذها هذا الفريق لدعم موقفه جهل كثير من المسلمين وغير المسلمين بالحكم الشرعي فيما يخص المصافحة بين الجنسين، فهناك كثير من المسلمين الملتزمين دينياً نساء ورجالاً لا يجدون بأساً في المصافحة مما قد يجعل البعض يعتقد بأنه يجوز المصافحة، وبالتالي لا يقف الحجاب أو اللحية عائقاً أمامهم في مد يدهم من أجل السلام والمصافحة .
أما بالنسبة لغير المسلم وخاصة في الدول الأجنبية فإنه لجهله بأحكام الإسلام والتي منها حرمة المصافحة بين الجنسين فإنه قد يجد في هذا الفعل تصرفاً غير لائق يدل على قلة ذوق وسوء أدب يكرسان لديه نظرته حول رجعية الإسلام وعدم احترامه للإنسان... كل هذا يجعل البعض يتساهل في موضوع المصافحة مستسلماً للضغوطات الاجتماعية التي تمنعه عن تنفيذ ما أمر به الله عز وجل، ظاناً بذلك أنه يخدم الإسلام برفع تهمة الرجعية عنه، مع أنه لو تفكر قليلاً لتمكن من الاستفادة من هذا الموقف من أجل الدعوة إلى الله، فيبين حكم الشرع في هذه المسألة، ويعتذر بلباقة من الطرف الآخر ويظهر له بأنه لم يقصد الاهانة والاحتقار وإنما هو ينفذ أحكام دينه، وفي هذه الحالة يكون موقف الطرف الآخر واحد من اثنين فهو إما أنه سيحترم هذا الدين الجديد بعد أن تعرف على بعض أحكامه، أو يمكن أن يبقى على انزعاجه وامتعاضه ... إلا أنه من المؤكد أنه لن يمد يده في المرة القادمة كي يسلم عليه أو على أي شخص ملتزم .
نقطة مهمة ينبغي التنبيه لها هو أن هذا الحرج قد يأتي من الشخص نفسه، وذلك عندما لا يساعده مجتمعه على الالتزام بعدم المصافحة، فلقد تتحجب المرأة ولكن بيئتها لا تكون كذلك، لذلك تجدهم يلزمونها على المصافحة خاصة أنهم اعتادوا منها ذلك، وهي إن لم تفعل سيعتبرون هذا الفعل دليل تشدد من قبلها يجعلهم يعيدون النظر في حجابها خوفاً من أن تسلك طريق التطرف، مما يجعل المرأة تتغاضى عن أمر المصافحة محافظة على حجابها ... وهنا يقع الخطأ الأكبر لأنها بتساهلها في البداية قد تعجز عن تصحيح الوضع في المستقبل، فليس هناك من فرصة أفضل من بداية الالتزام من أجل حصول التغيير الجذري في حياة المسلم .
==============(52/496)
العلم يثبت أن الامريكيات ناقصات عقل !
عزيز محمد أبوخلف
هل يعني هذا أن نقصان العقل لم يعد يقتصر على المسلمات فقط؟ ولكن كيف هذا وأمريكا بلد شاسع فيه مسلمات أيضاً ؟!. من المرجح أن هذا العنوان سوف يثلج صدر من يفسر حديث ناقصات عقل ودين بأن المرأة مهما كانت جنسيتها فهي ناقصة الذكاء، ولا تصلح لما يصلح له الرجال. ولكنه، بالمقابل، قد لا يريح من يفسر الحديث بأنه مجرد مزحة أو هزار أو دعابة أراد الرسول عليه السلام أن يروح بها عن قلوب النساء المسكينات في يوم العيد، يوم الفرحة والسرور. وهذا الرأي الأخير روج له علماء ودعاة مثل القرضاوي والبوطي وعمرو خالد وغيرهم، حتى تجرأ الأخير وقال بأن الرسول عليه السلام كان "يهزر" مع النساء. ولكن ما بال العلم يقتصر في قراراته على الامريكيات؟ هل نشم في هذا رائحة التحيز والتمييز العنصري العلمي ضد نساء أمريكا مثلاً؟.
بداية القصة
عالم الاجتماع الامريكي شارلز موري مثير للجدل، وهو من طليعة المفكرين المحافظين المدعومين مالياً من قبل المؤسسات اليمينية في أمريكا. أثار ضجة كبرى في أمريكا قبل سنوات في كتاب له أسماه منحنى الجرس، بين فيه أن الزنوج والجنس الأسود عموماً هم أقل ذكاء من البيض. وقد تعرض لانتقاد لاذع وصل إلى حد وصفه بأنه أشبه بالمسيح الدجال. ثم ما لبث أن نشر مؤخراً مقالة في إحدى المجلات بين فيها أن النساء ينقصهن الذكاء الجيني الفطري الذي يؤهلهن للبروز في مواضيع العلم الصعبة كالرياضيات.
وكان العالم لورنس سومرز قد سبقه بملاحظات علنية عابرة مفادها أن الأبحاث تشير إلى حصول الطلاب على علامات أعلى من الطالبات في فحوص الرياضيات. وقد اثارت هذه النتائج تعجب سومرز وتساءل عما إذا كان هذا يعود إلى فروق بيولوجية بين الجنسين لصالح الرجال. لكن هذه الملاحظات العابرة ما لبثت أن تعرضت لهجوم قاس وعنيف أدى إلى اسكاتها ودفنها في مهدها، وإلى تراجع صاحبها عنها واعتذاره العلني للجنس اللطيف عما بدر منه طالباً العفو والسماح. اما صاحبنا موري فلا يبدو انه يكترث كثيراً بغضب النساء، كما لم يكترث من قبل لغضب السود، لأن المسألة برمتها وفي نظرة تعود إلى حقائق وبيانات إحصائية وليست مجرد رأي شخصي.
الدليل على نقصان عقل الأمريكيات
يستند موري إلى ما يراه حقائق علمية وبيانات إحصائية تؤكد وجود الفروق بين الجنسين من حيث الذكاء. لقد بينت فحوص الرياضيات المعتمدة في أمريكا (وبالأخص فحص سات) أن نسبة المتفوقين من الذكور إلى المتفوقات من الإناث هي كنسبة سبعة إلى واحد. ويؤكد علماء التطور البيولوجي على أن الذكر يبدي مهارات أعلى في الرؤية الثلاثية الأبعاد، في حين تتفوق الأنثى في مهارات التذكر. كما أن أدمغة الرجال أكبر من أدمغة النساء على الرغم من أن أبحاث علم النفس القياسي تقول بتساوي مقياس الذكاء بين الجنسين. وتؤكد أبحاث علم الأعصاب أن المناطق الدماغية المسؤولة عن الإدراك المكاني أكبر عند الرجال منها عند النساء. وهذا الفرق الأخير هو الذي ينعكس على الفروق القياسية في فحوص الرياضيات المشار إليها في نظر موري.
وهذا لا يمنع، في نظر موري، من وجود حالات فردية متفوقة في وسط النساء، ولا يمنع كذلك من تفوق النساء في مجالات أخرى مثل المحادثة ومهارات الاتصال. لكن الملاحظ أن نسبة الفائزات بجائزة نوبل لا تتعدى اثنين بالمائة في القرن العشرين. كل ذلك يؤكد وجود الفوارق الفطرية الغريزية بين الجنسين من حيث الذكاء، وافتراض أن تحسين البرامج وتعديل القوانين كفيل بإلغاء هذه الفروق هو فرض خاطئ. والدليل على ذلك أن المساواة لم تحرز أي تقدم في تقليل الفجوة بين هذه الفوارق على مدى السنين. فلا بد من التسليم للرجل بتفوقه في امتلاك روح المخاطرة والتحدي والمنافسة والعدوانية، وحيازته هرمون التستوستيرون الذكوري الذي يؤكد هذا التفوق. هذا مع أن الأمومة ورعاية الأطفال قد تؤثر في عدم تفوق النساء لكنها تبقى عوامل غريزية نسائية.
مناقشة آراء موري
حاولت تلمس بعض العزاء للمرأة السوداء في كلام هذا الرجل، لكن التحليل المنطقي البسيط لما قاله يبين أن الرجل الأبيض هو في رأس قائمة الذكاء، ثم تليه المرأة البيضاء، ثم الرجل الأسود ثم المرأة السوداء. فلا عزاء للسوداوات اذن وقد صرن في أسفل السلم الذكائي وفق هذا التصنيف العلمي الامريكي!. وغني عن البيان هنا أن الأسود يتضمن كل ما هو غير أبيض.
من الواضح أن هذا العالم يجيّر بعض الأبحاث والبيانات الإحصائية لصالح توجهاته المتطرفة والعنصرية. فما يسميه حقائق علمية وبيانات إحصائية لا يمكن أن تعكس الحقيقة بحال. فليس لوزن الدماغ وحجمه أية أهمية تذكر في ترسيخ الفوارق من ناحية الذكاء، ومن ثم تسقط فرضية تباين حجم المناطق الدماغية بين الرجال والنساء. أضف إلى ذلك إغفاله عوامل هامة جداً في تحديد الفوارق العقلية وهي الخبرة والمعلومات، وانشغال المرأة بأمور الأمومة وتربية الأطفال، وقد أشار هو إلى هذا العامل الأخير لكنه أصر على جعله عاملاً غريزياً فعالاً في تعميق الفوارق.
لا بد أن نؤكد هنا أنه ليس للمرأة من ملاذ آمن إلا في الإسلام وبالاسلام، فهو النظام الوحيد الذي يحقق لها السعادة في الدارين على الرغم من كل ما يشاع من أفكار خاطئة وتشويه لمكانة المرأة في الإسلام. وقد كنت بينت في عدة مقالات لي أن الإسلام لا ينتقص من عقل المرأة بأية حال، وأن الذكاء ليس هو مقياس العقل في الإسلام، فلك أن تتصور امرأة مسلمة تقية بأدنى مستوى من الذكاء فإنها ستدخل الجنة قبل اينشتاين ومن ماثلة من ذوي الذكاء العالي الذين لم يسعفهم ذكاؤهم في الدخول في الدين الذي ارتضاه الله.
ولنؤكد ذلك نذكّر ببعض الآيات القرآنية. قال تعالى عن الكفار: (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) البقرة 170، وقال تعالى: (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب واكثرهم لا يعقلون) المائدة 103. ومن المعلوم أنه يوجد في هؤلاء الرؤساء والعلماء والأذكياء، فكيف تكون المرأة أنقص عقلاً من أي منهم وقد نفى الله عنهم العقل بالكامل أو عن أكثرهم، كما هو واضح في هذه الآيات؟ كل هذا يجعلنا نؤكد أن قضية العقل ليست كما هو شائع بين الناس، ولا كما هو مصطلح عليه في علوم الذكاء وغيرها، بل هي قضية إيمانية، ولا عبرة فيها بمستوى الذكاء.
روابط ذات صلة:
http://www.saaid.net/female/m155.htm
http://www.islamonline.net/a R abic/adam/2004/05/a Rticle07.SHTML
http://www.diwanala Rab.com/auteu R .php3?id_auteu R=131&debut_a R ticle=0
http://www.f R eea Rabi.com/ِAbouKHalafA R ticles.htm
==============(52/496)
حوارات مع كتاب وكاتبات (2) : ابن بجاد والمرأة في طاش ما طاش !!
سليمان بن صالح الخراشي
كتب الأستاذ عبدالله بن بجاد العتيبي في جريدة الرياض ( عدد الأحد 17/9) مقالا عن ( طاش ماطاش ) حدثنا في مقدمته عن أثر السينما وأهميتها !! وهو الذي كان - وأصحابه - إلى سنين قريبة يُحرمون الكهرباء !! فضلا عن التصوير أو وسائل الإعلام الأخرى ..
كنا سنقبل كلامه هذا لو صدر عن أحد خبراء الفن العالمي أو حتى العربي ... أما أن ينقلب الرجل بين عشية وضحاها من ( مكفراتي ) و ( متنطع ) شهير إلى تصدر ساحتنا الإعلامية هو ورفاقه ليحدثونا في مختلف مجالات المعرفة .. فحق أن يقال له حينها : " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " !
ومما يثير الضحك أو الشفقة في مقاله : نبرة التعالم ولبس لباس " الاستنارة " المتكلفة التي لاتتناسب مع تاريخه ! أو تتنكر له ؛ حيث " الإرهاب بأنواعه " والتنقل بين " السجون " !
يقول الأستاذ : (لقد أصبح التمثيل من أهم أدوات الحوار أو الصراع الثقافي في هذه الحقبة الموّارة من تاريخ البشرية، لقد أصبح للفيلم السينمائي نظريات علمية ونقدية، تتداخل وتبحث عن تحديد مساحة علاقتها بالعلوم القريبة منها وخاصة علوم النقد والألسنيات، ونحن للأسف كعادة الأمم المتخلفة حضارياً لازلنا من أكثر الأمم تقصيراً في فهم معطيات العصر وأدواته والتعامل معها فضلاً عن استخدامها والابداع فيها ) !!
ماشاء الله !
أصبح الرجل ينعى علينا " تخلفنا " الحضاري !
فواعجبًا كم يدعي الفضلَ ناقص ..
ووالله ما رأيت " بجاحة " تفوق قوله : ( وعلى سبيل المثال فنقد بعض المتدينين وسلوكياتهم وأفكارهم الخاطئة أمر مهم وملح خصوصاً في مثل هذه المرحلة وهو أمر كان الكثيرون يؤجلونه حتى اصطلينا جميعاً بنار متطرفيهم ) !
فهل أذاقنا التطرف والتنطع إلا أنت وأصحابك ؟ أم أن " الاستنارة " تجب ماقبلها ؟!
ثم بعد أن كال المديح لمسلسله المفضل ( بعد الاستنارة طبعًا ! ) لم يفته أن يسخر ممن يعارضون هذا المسلسل ، ويرون فيه مفاسد كثيرة لاتخفى على عاقل غير متابع لشهوته وهواه ..
أراد بعدها أن يتقمص دور المفتي ( المستنير ) ليدعم أبطال المسلسل ، ويُبشرهم أن عملهم هذا أحل من الماء الزلال ! وأنه لأجل عيونهم أو عيون ممثلاتهم سيفند أدلة المحرمين ! القائمة على وجود " التصوير " ، " المرأة " ، " التمثيل " .
ولايهمنا كلامه المرتجل حول هذه الأمور الفقهية التي يستطيع التحايل فيها بتتبع الرخص أو الزلات ، وهو فن يتقنه هؤلاء .. !
لكن تبقى الورطة عندما جاء البحث عن دليل لأحبابه الطائشين يُجوز لهم تصوير المرأة وخروجها متبرجة متزينة ( وهو أمر محرم باتفاق المسلمين حتى القائلين بكشف الوجه ) ، فماذا فعل " المستنير الطائش " ؟
لقد ختم مقاله على عجل ! بقوله : ( إذاً فالتصوير والتمثيل جائزان وخروج المرأة فيهما بالضوابط الشرعية لا محظور فيه وان اختلت بعض هذه الضوابط فقد أفتى عدد من أهل العلم بجواز مشاهدة ذلك منهم عضو هيئة كبار العلماء الشيخ الفقيه عبدالله بن بسام - رحمه الله - وفيصل المولوي وغيرهم نظراً للمصالح الكبرى المحيطة )!!
ولم يذكر مصدره الذي نقل منه !
لما قرأت عزوه هذا علمتُ أن الرجل يستبيح الكذب لتحليل الحرام - والعياذ بالله - ؛ لأن من تورط وقال بجواز تمثيل المرأة - كالقرضاوي مثلا - اشترط لهذا شروطًا عديدة ؛ من أهمها أن تكون متحجبة بحجابه الذي يراه ؛ وهو أن لايبدو منها غير وجهها وكفيها .
فما ظنك بالشيخ البسام رحمه الله الذي هو على رأي علمائنا الأجلاء ؟
وأما الشيخ فيصل مولوي فقد حرم تمثيل المرأة - كما في طاش - حيث قال في فتواه بموقع إسلام أون لاين ردًا على من سألته عن ذلك بعد أن أشار لرأي شيخه القرضاوي :
(((( أما التمثيل فقد يكون مباحاً من حيث الأصل عند بعض الفقهاء المعاصرين، ولكن ما يرافقه من محرمات تجعله أقرب إلى الحرام؛ فاختلاط المرأة مع الممثلين والمخرجين في مواقع التصوير، وسفرها برفقة الرجال إلى دول أخرى، وغير ذلك مما يقتضيه العمل لا يخلو من ارتكاب محرمات قطعية حتى ولو كانت المرأة محتشمة باللباس الشرعي، وهو أمر مستبعد في مثل هذه الأيام. لذلك فإنني أعتقد أن عملك في التمثيل يتضمن الوقوع في كثير من المحرمات التي ذكرنا بعضها. ))) !!!
فلماذا الكذب والتلبيس على الناس يابن بجاد ؟!
كان يسعك هداك الله أن تقول أنا مفتون وغيري برؤية هذا العمل الذي لايخلو من المحرمات ؛ ولهذا نحن نشاهده ونتابعه مع سؤال الله أن يتوب علينا وأن يعفو عن تقصيرنا .
كان يسعك هذا أنت وغيرك لتكونوا من المعترفين بذنوبهم الذين يرجون رحمة الله .. بدلا من المكابرة والجرأة على تحليل ما حرم الله ؛ طلبًا لشهرة أو غرابة أو محادة للمؤمنين .. وإثم وعقوبة مثل هذا لاأظنها تخفاك .. أعادك الله .
============(52/496)
حراسة العقيدة
د.ناصر بن عبدالكريم العقل
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله . نبينا محمد وآله وصحبه ومن والاه
أما بعد ، فإن مما جاءت به الشريعة الإسلام حفظ الضروريات الخمس التي أولها ورأسها وأساسها العقيدة ، التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل من اعتدى عليها ، وأراد تغييرها فقال صلى الله عليه وسلم : (( من بدل دينه فاقتلوه )) وقال : (( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة )) والردة تحبط جميع الأعمال : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(البقرة: من الآية217)
وعملاً بذلك فقد نفذ الخلفاء هذا الحكم في المرتدين ، فقتلوا كثيراً منهم كما يحدثنا التاريخ بذلك ، وأثنى العلماء على هذا العمل ، ورأوه حماية لدين الله من عبث العابثين .
وفي وقتنا هذا نبتت نابتة في تربة الباطنية ، وجعلت تشكك في عقيدة المسلمين وتدعو إلى حرية عقائد الملاحدة والزنادقة وتثني على الموجودين منهم ، وتبكي على المفقودين ، وتنشر مقالاتهم وتدافع عنها . وتدعو إلى الاكتفاء باسم الإسلام دون نظر إلى معتقد مدعيه ولو كان يتناقض مع الإسلام .
ولذلك ينددون بكتب العقيدة الصحيحة التي تندد بتلك المعتقدات الباطلة وتبين زيفها وبطلانها , ويصفونها بالكتب الضيقة والمتشددة ، ويصفون أهلها بأقبح الأوصاف . ويشجعهم على ذلك بعض المنحرفين ، ويفتح لهم المجال في بعض المنتديات لنفث ما في صدورهم من نتن وغل وحقد على كتب السنة وأهلها . فجاء كتاب : حراسة العقيدة للدكتور : ناصر بن عبد الكريم العقل رداً على أصحاب هذا الفكر العفن ، وهو رد واف في الموضوع ، وكاف في نقض شبهاتهم وكشف ضلالاتهم . فجزاه الله خيراً وجعل ذلك في ميزان حسناته . فقد أجاد وأفاد . ونسأل الله لنا وله التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح .
وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
كتبه
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
تمهيد
(( إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ))1 صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين ..
وبعد :
فقد ظهرت في الآونة الأخيرة ( نابتة ) شاذة وغريبة ومريبة ، يتصدرها أناس من أهل الأهواء والريب ، والموتورين والحاسدين ، ومن مختلفي المشارب ، وقد سايرهم وفُتن بهم كثير ممن هم من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، ومن الأغرار ، ومن المغرورين وعشاق الشهرة ، والجاهلين والسذج وغيرهم .
وقد ضاقت هذه النابتة بالسنَّة وأهلها ، وبمنهج السلف الصالح ذرعاً ، وساءها ما أنعم الله به على هذه البلاد المباركة ( المملكة العربية السعودية ) وأهلها ، من نعمة التوحيد والسنَّة ، وأقلقها ما تتمتع به هذه البلاد - بحمد الله - من الاستقرار والأمن والرخاء واجتماع الراعي والرعية على المسلَّمات والثوابت في الدين والمنهج والأصول ، المتمثلة بأصول السنة والجماعة ، والتي هي أصول الحق ، وامتداد لمنهاج النبوة ، وتحقيق لوعد الله تعالى بظهور الطائفة المنصورة والفرقة الناجية .
نعم إنها أصول السنة التي أرست قواعدها تلكم الدعوة المباركة التي سارت على منهاج النبوة وأحيت السنة ، وحققت الجماعة ، وأزالت معالم الفرقة والبدعة كما أمر الله تعالى ، وأوصى رسوله صلى الله عليه وسلم .
تلكم الدعوة التي قام بها الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب وأبناؤه وأحفاده وتلاميذه ، وآزره الإمام الموفق محمد بن سعود وأبناؤه وأحفاده الذين ناصروا الدعوة وأسهموا في نشرها وحمايتها .
وقد أخذت تلكم ( النابتة ) الغريبة أشكالاً واتجاهات شتى لضرب أصول السلف الصالح أهل السنة والجماعة من جذورها ، ولعل من أبرزها تلكم النحلة التي سلكت مسالك ( السبئية والفرقية ) لعرقلة المد السلفي المبارك ، مستخدمة مناهج أهل الأهواء والبدع والافتراق ( قديماً وحديثاً ) في هدم أصول الدين أو التشكيك فيها والطعن في خيار الأمة واتهام أئمتها وعدولها ، والنفوذ من خلال ذلك وغيره إلى فصل أجيالنا عن دينها وتراثها وأسلافها الأخيار ، وإلى هز المسلَّمات والثوابت ( العقدية وغيرها ) في قلوب أبنائها وعقولهم ، ومحاولة تلميع الفرق الضالة ودعاته ، والتباكي على أطلالها واستعطاف الناس لها بدعوى أنها مظلومة !! .
كل ذلك - وغيره - من دواهي القوم يحدث تحت شعارات خادعة براقة مثل : العلمية والتحقيق ، والبحث العملي أو الموضوعية والمنهجية ، والتصحيح والتجرد، والنقد الذاتي، والإشفاق والنصح ، بل والإنصاف والعدل والوسطية ، ونحو ذلك من الشعارات الخادعة، التي أوهمت بعض شبابنا ومثقفينا ، ولبَّست عليهم في دينهم ، وزعزعت في بعضهم الثقة بعقيدتهم وسلفهم الصالح ، وأوغرت صدورهم على خيار هذه الأمة من الصحابة والسلف الصالح ، وهي في الحقيقة من الزبد الذي سيذهب جفاء بحول الله وقوته ، كما قال سبحانه عن الحق والباطل : {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} (الرعد:17) .
لقد استجابت هذه ( النابتة ) للتداعي السريع والمركز من أعداء الحق على السنة وأهلها بشكل غريب ومريب ولافت للنظر ، في هذه الظروف العصيبة من حياة الأمة حيث أجلبوا علينا بخيلهم ورجلهم عبر سائر الوسائل في الفضائيات والصحافة والإنترنت والمجالس العامة والخاصة ، والمؤلفات والمقالات .... وغيرها .
كما أن لبعضهم سعياً جاداً للنفوذ إلى حصوننا ، وتمرير طروحاتهم من خلال بعض مراكز التأثير بدعوى التطوير والتصحيح ؛ فقد عقدت هذه ( النابتة ) ألوية الفتنة والحرب السافرة ضد السنة وأهلها ، وكانت الفتنة نائمة .
ولا شك أن لهذه الإثارة ما بعدها ؛ لأن ليوث الحق لن تترك ألوية الباطل تنتهك الحمى ، كما قال سبحانه : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } (آل عمران:179).
وكما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بخبره الصدق أنه : (( لا يزال ناس من أمتي ظاهرين ، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرين ))2
نعم إنها سنة الله تعالى في الصراع بين الحق والباطل ، فالسعيد من كان في خندق أهل الحق ، والشقي من خسر دينه وآخرته - نسأل الله السلامة - أما الدنيا فإن الله يمنحها من يحب ومن لا يحب ، والله حسبنا ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
معالم المنهج لدى هذه النابتة :
وأبرز ما تبين من منهج هذه ( النابتة ) وسماتها ما يلي :
أولاً : أنهم صاروا يلوذون بدعوى أنهم منا ، ويشفقون علينا ، ويستغفلوننا بدعوى أنهم سلفيون وحنابلة ( النشأة والتعليم والالتزام العام الواعي ) ، على حد تعبير أحدهم عن نفسه ،ولا أدري لماذا حصر حنبليته بهذه الأوصاف والقيود ، مع العلم أن المنهج العلمي والشرعي والتعليمي العام بهذه البلاد المباركة إنما يلتزم الكتاب والسنة واتباع المذهب الحنبلي مشروط بذلك ، ولم يعد للتمذهب أثر يذكر عند طلاب العلم وأهل الفتوى ، ثم هم حين يدَّعون النصح نراهم يسلكون مسلك الفاضحين الشامتين المفترين ، وأنهم يمدون لنا اليد الشمال من الخلف ، ويصفعوننا باليمين ، كما سيأتي بيانه .
ثانياً : أنهم بهذا المنهج والأسلوب الجارح الذي سلكوه في النقد وقعوا في شر مما زعموه من النقد والتصحيح إلى الهدم والتجريح ، ذلك أن القارئ والسامع لكلامهم في نقد أصول السلف ، وتجريح أئمة الدين ، إنما يفهم أن أصول السلف خاطئة ، وأحكامهم جائرة ، وأنهم متهمون ، وليسوا بقدوة ولا ثقاة ولا عدول ، وهذا - بلا شك - جور وعدوان وظلم وجهل وتحامل ظاهر .
ثالثاً : أنهم بهذا المنهج الذي سلكوه يهدمون الأصول ويهزون الثوابت ، ويشككون بالمسلمات تحت شعار العلمية والموضوعية ، والتجرد ، والنقد الذاتي ، والتصحيح والنصيحة ، والإنصاف والعدل ، كما أسلفت ..
ولذلك فُتن بمقالاتهم فئات من شبابنا ومثقفينا ، الذين ليس لديهم العلم الراسخ ، ولا الحصانة الكافية في العقيدة وأصول الدين وثوابته ولا الفقه الراسخ ولا الثقة الكافية في المناهج التي عليها أهل السنة والجماعة .
وأسواق لك أخي القارئ الكريم برهان ذلك ، أعني على أن هذه النابتة تستهدف أصول الدين والسنة والسلف الصالح - بأسلوب أحدهم وتعبيره عن أصول السلف - أهل السنة والجماعة - ، وقد يسميهم ( الحنابلة ) من خلال الأنموذج التالي مما قاله 3 :
نقد المذهب الحنبلي في العقيدة .
1. ... التكفير والتبديع في كتب الحنابلة .
• ... تكفير الإمام أبي حنيفة والحنفية وذمهم وتبديعهم في كتب الحنابلة !!
• ... هل صح التكفير عن أحمد بن حنبل ؟!
• ... البربهاري الحنبلي وتكفير المسلمين !!
• ... التكفير عند ابن تيمية !!
• ... ابن القيم لم يسلم من التكفير !!
2. ... كثرة الأكاذيب من الأحاديث الموضوعة والآثار الباطلة .
3. ... التجسيم والتشبيه .
4. ... تأثير العقيدة على الجرح والتعديل .
5. ... التناقض .
6. ... عدم فهم حجة الآخر .
7. ... الظلم .
8. ... العنف .
9. ... الافتراء على الخصوم .
10. ... إرهاب المتوقفين .
11. ... سكوتهم عن الإنكار على بعضهم وانشغالهم بذم الآخرين .
12. ... العلو في شيوخهم وأئمتهم .
13. ... ردود الأفعال .
14. ... عدم إدراك معنى الكلام !!
15. ... تشريع الكراهية بين المسلمين .
16. ... ذم المناظرة والحوار .
17. ... التزهيد في التحاكم إلى القرآن مع المبالغة في الأخذ بأقوال الرجال .
18. ... التزهيد والتساهل في الكبائر مع التشدد في أمور مختلف فيها .
19. ... التقارب مع اليهود والنصارى والتشدد على المسلمين .
20. ... تقرير شرعية الفرح بمصائب المسلمين من الطوائف الأخرى .
21. ... الأمر بقطيعة الرحم من أجل العقيدة .
22. ... النصب .
23. ... الاستدراك على الشرع ( أو بدعة اشتراط فهم السلف ) انتهى .
وغير ذلك من العظائم والقوالع والشتائم والاتهامات الناسفة التي رمَى بها خيار الأمة ، وقبل الدخول في بعض التفاصيل أطلب من القارئ الكريم أن يتأمل عبارات هذا المفتون ، ليجد أنه يحكم على من هذه صفاتهم ومنهجهم بأحكام ناسفة وجارحة ، ولم ينصفهم ولو بعبارة واحدة وبهتهم كلهم ولم يستثن . فإذا كانوا كما افترى فماذا أبقى لهم ، وكيف يدعي أنه منهم ؟!
وأداء للأمانة وتحصيناً لبعض القراء غير المتخصصين وغير العالمين بمنهج السلف الصالح الذين قد يطلعون على هذه الشبهات في مصدرها ، فإنه يلزم التنبيه إلى أن هذه المزاعم ليست على المنهج الشرعي ولا العلمي السليم وأنها : تعتمد على التهويش والتهويل والمبالغات والانتقاء غير العلمي وغير المنصف ، وعلى التفسير الشخصي والفرقي للمقالات والأحداث والأقوال والنقول .
وأن بعضها باطل وكذب على الحنابلة ، وبعضها من باب الإلزامات التي لا تلزم ، وبعضها له وجه لكنها فُسَّرت على غير حقيقتها ، أو من الحق الذي صوِّر على صورة الباطل جهلاً ، أو تلبيساً أو توهماً أو تحاملاً - والله أعلم .(52/496)
وبعضها من الزلات والأخطاء التي وقع فيها بعض العلماء وغيرهم من أهل السنة وليست من المنهج الحق وليس معصوماً إلا النبي صلى الله عليه وسلم .
هذا وقد أجبت على أكثر هذه المزاعم على سبيل الإجمال ، وبينت ( في هذا الكتاب ) أن غالب ما ذكره الكاتب وأشياعه وأسلافه – على هذه الوتيرة – وأنه كثيراً ما ينتقي أخطاء أو زلات ، أو اجتهادات خاطئة أو قابلة للنقاش ، من قبل بعض المنتسبين للسنة من العلماء ، وطلاب العلم والعامة والمصنفين وغيرهم ، ويوهم القراء بأنها هي مناهج السلف ويحكم من خلالها على السنة والجماعة وأهلها على قاعدة : ( ويل للمصلين ) ، أعني منهج الاستدلال عند أهل الأهواء ، الذين يبترون النصوص ، أو ينتقونها حسب الأمزجة والأهواء .
رابعاً : ثم إني أعجب – ولا ينقضي عجبي – كيف يدعي أحد الانتساب لدين ومبدأ وعقيدة ومنهاج ، ثم هو يسعى لنسف هذا الدين من أصوله وقواعده وثوابته ، ويزعم أنه مسلم ( سني سلفي حنبلي ) ، ثم هو يطعن في الصميم ويجرح في العمق ، ويسلخ السلف والحنابلة سلخ العدو اللدود ، ثم هو لا يذكرهم بخير بل يرميهم بعظائم الأمور والطوام من التفكير والتبديع والنصب ، والجبر واللعن والشتم ، وكثرة الأكاذيب والأحاديث الموضوعة والآثار الباطلة والتجسيم والتشبيه ، والظلم والعنف والتناقض والغلو .. إلى آخره من المفتريات والأوصاف الرديئة التي بها بهت بها خيار الأمة وسبق ذكر نماذج منها ، وهذا ما يقول عليه منهج هذه النابتة في العموم ويمثله صاحب كتاب ( قراءة في كتب العقائد ) ، والله حسبنا ونعم الوكيل .
لكن نحمد الله تعالى أن هذا المفتون شهد على نفسه بأنه ممن يراهم بهذه الأوصاف – الرديئة – التي ذم فيها السلف وهم – بحمد الله – بريئون منها ، كما برئ الرسول صلى الله عليه وسلم من وصف المشركين له بـ ( مُذمَّم ) ، اللهم ، إلا أن يكون كما وصف نفسه مجرَّد ( حنبلي النشأة والتعليم والالتزام الواعي العام ) فحسب ، لكن هل هو حنبلي المعتقد والمنهج ؟ وكيف يكون ذلك ؟ وما ذكره عن الحنابلة من هذه العظائم لا يليق أن يرضاه عاقل لنفسه ، فكيف بمن يدعي الإسلام ؟ أما ما ذكره من ( النشأة والتعليم والالتزام العام الواعي ) فقد ينطبق على كل أهل البدع والفرق والأهواء والاتجاهات والنحل ( الكامنة ) في بلاد السنة ، والتي منها بعض ( ذويه ) وأشياعه .
أما دعوته لمباهلة من نسبه لمذهب آخر فهي اعتراف ( في الظاهر ) بأنه ( لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء ) – والله أعلم بالسرائر - ، وليعلم أنه ليس من منهج أهل الحق المباهلة على ما في القلوب ، ولو جاز ذلك لباهلناه على أنه ليس سنياً ولا سلفياً ولا حنبلياً ، وليختر لنفسه أي نحلة شاء :
وإن تخالها تخفى على الناس تعلم
نعم إن انتساب من هذه حاله وهذا منهجه إلى السلف والسنة والحنابلة يعد من إحدى الكُبر ، ومن المعادلة الصعبة ، والازدواجية غير المقبولة ، والتناقض الظاهر ، وإن صحت دعواه فإن مثله كمثل الدب الذي رأى الذبابة على أنف صاحبه فألقى الصخرة العظيمة عليه ليقتل الذبابة ، لكن الذبابة طارت والصخرة أين سترتطم ؟
خامساً : كثير من الشبهات والمطاعن التي أثارها هؤلاء المفتونون تستهدف أصول دين المسلمين عموماً وليس أهل السنة فحسب ؛ لأنها في الوحي ومصادر الحق عندهم ، ومناهج التلقي والاستدلال ، وطعن في خيار الأمة وقدوتها ، وتشويه لسبيل المؤمنين ، ويظهر ذلك جلياً من طعنهم في كثير من الصحابة الذين نقلوا الدين ، وأسهموا في إرساء قواعد الحق ومناهج السنة ، ومن ذلك حصرهم الصحبة على طوائف من الصحابة تُخرج كثيرين من الصحابة الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر السنة وكتبوا الوحي ، ونقلوا الدين ، ثم سبُّهُم ولمزُهم لكبار الأئمة من التابعين ومن تبعهم على السنة ومنهاج النبوة ، الذين يتمثل بهم سبيل المؤمنين ، الذي أمر الله باتباعه وتوعد من اتبع غيره ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } (النساء:115)
كما يظهر ذلك أيضاً من خلال طعنهم في خلافة الخلفاء الراشدين وبيعتهم ؛ الذين أرسوا قواعد الدين ومناهجه على منهاج النبوة ، وحفظوا مصادر الدين ، وساسوا الأمة به .
سادساً : أنهم بمنهجهم هذا استهدفوا دين الأمة ، وأغلى ما تملكه من الأصول والمقومات وهذا من أعظم الفساد والإفساد ، فهم كما قال الله تعالى عن أسلافهم : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ } (البقرة:11/12)
ويظهر استهدافهم لدين الأمة من خلال طعنهم في مناهج حفظ الدين ، وضبط مصادره التي سلكها أهل الحديث وأئمة السنة في حفظ السنة ، وتدوينها ، من خلال منهج الرواية والدراية ، بل بعضهم صار يتطاول للطعن في صحة كتب السنة التي أجمع أهل الحق على اعتمادها كصحيحي البخاري ومسلم فضلاً عن غيرهما . بل تطاولوا إلى اتهام ذمم الصحابة والسلف الصالح ، فاتهموهم بالعمالة والمداهنة للسلاطين ، ليخلصوا إلى أن أصول السنة وعقيدة السلف الصالح تأسست تحت الجبر السياسي في عهد الدولة الأموية بل قد صرح أكثرهم بذلك .
نعم إن من منهج السلف الصالح النصيحة للسلاطين كما أرشد إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ، والسلف إنما يسيرون في ذلك وغيره على منهاج النبوة عملاً بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة والإمام السمع والطاعة بالمعروف في المنشط والمكره ، والصبر على الظلم والأثرة ، ولم يقرر السلف شيئاً من ذلك من عند أنفسهم ، ولم يلزمهم به أحد من السلاطين ولا غيرهم ، أما أهل الأهواء فيعدون مناصحة ولاة الأمور ( السلاطين ) من المداهنة والعمالة !! لأن أهل الأهواء لا يرون إلا الخروج ، ما لم يكن السلطان على نحلتهم .
سابعاً : عند التحقيق في الشبهات والمطاعن التي أثارها هؤلاء المفتونون نجد أنهم لم يبتدعوا منها إلا القليل ، وأغلبها إنما هو مما قاله خصوم السنة من أهل الافتراق والبدع والأهواء قديماً وحديثاً ، وكذلك رموزهم التي يثنون عليها وينتصرون لها ولمذاهبها وأقوالها ومواقفها - قديماً وحديثاً – هم أتباع الفرق ، وأهل البدع وأصحاب الأهواء والمنحرفين في عقائدهم وأفكارهم ، والمغموزون في تدينهم ، فقد تشابهت قلوبهم ، كما قال سبحانه عن أشياعهم : { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (البقرة:118)
نعم إن المتتبع لما أثاروه من المطاعن والشبهات والمآخذ وكيفية انتقائها وأسلوب صياغتها يجد أنها امتداد لما قاله خصوم السنة وأهلها من الشيعة والرافضة والخوارج والقدرية والمرجئة والجهمية ، والمعتزلة وأهل الكلام والصوفية والباطنية والفلاسفة ، والزنادقة القدامى والمعاصرين من الحداثيين والعقلانيين والعصرانيين بل كثير منها قاله أعداء الإسلام والمسلمين من المستشرقين والمنصِّرين وأصحاب الديانات والملل الضالة .
ومنهجهم العام في أسلوب الطرح يعتمد على أسلوب الحداثيين في اعتماد أسلوب الهدم ، وتحطيم الأصول وهدم العقائد وهز الثوابت والتشكيك بالمسلَّمات .
نعم إنك حينما تتأمل الكثير من المفتريات والمطاعن التي أثاروها ، تجدها مما قاله بمثله أولئك الذين سبقوهم من أمثال : أبي رية ، ومحمد جواد مغنية ، ومحمد كامل حسين وحسن صعب ، وطه حسين ، وأحمد أمين ، وعلي عبد الرزاق ، ومحمد حسين هيكل ، والدملوجي وأبي شادي ، وزهدي جار الله ، وعابد الجابري ، وأركون ، وجابر عصفور ، وأدونيس ،ومرتضي العسكري ،محمد عمارة ، وحسن حنفي، وعبد الستار الراوي ، وأحمد كمال أبو المجد ، ومحمد شحرور ، ومحمد فتحي عثمان ، وزكي نجيب محمود ، وقبلهم داود بن جرجيس ، ودحلان ، ثم الكوثري ، والحبشي ، والنشار،ومن سلك سبيلهم .
وهكذا فهم يتابعون مسيرة ركب الشيطان ، وخيله ورجله .
ثامناً : أن المتصدر لهذه الراية ( راية سب السلف وهدم أصول السنة ) لا يخفي نزعته الشيعية ، وربما الباطنية ، لا سيما حينما يتهم السلف أو كبار علمائهم والمدافعين عنهم بأنهم ناصبة وجبرية وعثمانية ، وأن فيهم انحرافاً عن علي وآل البيت ، والإكثار من الحديث عن تقسيم الصحابة إلى فئات وأحزاب واتجاهات ، ورد الخلافات العقدية إلى عهدهم ، وتجذير الفرقة من الأحداث التي حصلت في وقتهم ، وتفسير مواقفهم بتفسيرات سوداوية ، والطعن في بعضهم أو أكثرهم ، والتعريض بخيارهم ، بمطاعن كثيرة كدعوى معقولية النزعة القبلية في اختيار خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والطعن في خلافة الخلفاء الراشدين الثلاثة ( سوى علي ) – رضي الله عنهم أجمعين - .
والإكثار من ذم عثمان ومعاوية وبني أمية وحرص المستميت على إخفاء شخصية ابن سبأ ، واهتماماته بما يدور حول أصول الرفض والتشيع ومطاعن القوم في السنة وأهلها ، ونحو ذلك مما يصعب حصره ، وقد تعني هذه الأمور التذبذب والاضطراب إذا أسقطنا دلالتها الظاهرة على التشيُّع .
وقد تحدثت قبل في ( ثانياً ) أن دعوته للمباهلة لا تعني صحة دعواه أنه من أهل السنة والسلف والحنابلة والله أعلم بحاله {بَلِ الإنسانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } (القيامة:14) ، وإن صحت دعواه أنه ليس كما يقال ، فهو إلى التشيع والباطنية أميل والله أعلم .
وللنفس البشرية في التواءاتها ومكابراتها ما لا يحيط به إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى ، وقد يتعسَّر كشف حقيقة النفس على صاحبها ذاته ، إلا من وهبه الله الهداية والتوفيق .
ومع ذلك فإني على يقين بأن الله تعالى سيكشف خبيئة هذا المفتون ، كما كشف الله كل أسلافه الذين أعلنوا الكيد لهذا الدين وعادوا أولياء الله .
تاسعاً : ومما يحسن التنبه له أن هؤلاء ( لأول وهلة ) قد يبهرون بعض الشباب والمثقفين وغير المتمكنين في العقيدة والعلم الشرعي ، ويقذفون في عقولهم وقلوبهم الشبه والشكوك ، حين يرفعون شعار النقد الهادف ، والموضوعية والتحقيق العلمي ؛ ثم هم يفرحون بما يحدث من بعض شباب السنة ، وبعض طلاب العلم والعلماء من ردود الأفعال السريعة الناتجة عن الغيرة ، والتي قد يصحبها شيء من التعجل والتسرع ؛ أو نحو ذلك مما هو من تصرفات البشر التي لا تحسب على الدين والمنهج والسنة ، أو ما يحدث من بعض القادرين من العلماء من أناة أو تباطؤ في رد الباطل والوقوف أمام الزحف الأهواء؛ بسبب الانشغال أو من أجل التثبت أو التأني في البحث والرد ، فلا يعني ذلك عجز أهل الحق عن بيانه والدفاع عنه .
بل ربما يحدث من بعض المنتسبين للسنة شيء من الفتور الذي هو نوع من ضعف المؤمن أمام جلد الفاجر ، لكنه أمر عارض سيزول بإذن الله تعالى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله فإن الله قد تكفل بحفظ الدين ونصره ، بعز عزيز أو ذل ذليل ، وأنه تعالى ضمن أن لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة وأن تبقى طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم ، حتى يقاتل آخرهم الدجال والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
وقد لفت نظري أن بعض هؤلاء المفتونين يتباهى بأنه يدعو للمباهلة والمناظرة ، ولا يجد من يتصدى له من أهل السنة ، ثم يظن بغروره أن هذا دليل على قوة حجته وعجز أهل السنة ، وهذا برهان جهل ، فإن أهل السنة ليسوا بحاجة إلى المباهلة ولا إلى المناظرة ، ومثالهم مع أهل الأهواء في مثل هذا التحدي مثال النخلة التي وقعت على فرعها بعوضة ( ولم تشعر بها النخلة ) ، فلما أرادت البعوض أن تقلع نادت النخلة : أن تمسكي فإني سأطير ( ! ) ، أما أن يتأثر بعض الجاهلين وضعاف الإيمان أو قليلو العلم الشرعي بهذه الزوابع ويفتتنون بها وبدعاتها ، فهذا من سنة الله تعالى في عباده {... وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }(النساء: من الآية88)
عاشراً : إن مما يؤكد بعد هذا المنهج عن الموضوعية والعلمية والتجرد والإنصاف ، بل وعن المنهج الشرعي العادل ، أنهم لم يبينوا ولم ينوهوا عن المنهج الأصل عند السلف ، وأنه يقوم على الحق والوحي المعصوم ( الدليل ) وعلى العدل والموضوعية والتجرد للحق ، وقد بينت من خلال هذا البحث أن ما ذكروه من تجاوزات وأخطاء وزلات ، فإن صح أن بعضها تجاوزات وأخطاء وزلات ، فإنما هي أخطاء بشر لا تحسب على المنهج ، ولا معصوم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم .
نعم إنهم يعملون – إن كانوا يريدون الحق – أن الطريق العادلة المأمونة إنما تكون في بيان الحق ، وسلامة المنهج والاعتدال الذي عليه السلف أهل السنة والجماعة ، ثم لا مانع – لمن كان من أهل الاختصاص – من بيان ما قد يقع من المنتسبين للسنة من أخطاء وزلات ، بالضوابط الشرعية .
كما أحسب أنه لا يخفى على من لديه شيء من العلم ، أن أفضل طريقة وأسلم منهج عرفه التاريخ في العلمية والموضوعية ، ونقد الرجال ( الجرح والتعديل ودراسة الأسانيد ) ، وتمييز النصوص والنقول والمقالات – رواية ودراية – أنه منهج أهل الحديث ، السلف الصالح ، أهل السنة والجماعة ، وأن الله حفظ للأمة دينها وعقيدتها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم بهذا المنهج الفريد وأهله .
ثم مما يؤكد بُعد هؤلاء المدعين للمنهجية والموضوعية والبحث العلمي عن ذلك كله ، تطاولهم على ما لم يكن من اختصاصهم وهو العلوم الشرعية ؛ السنة والعقيدة والحديث وعلومه والرجال ونحوها التي هي من اختصاص الراسخين في العلم ، ولذلك نجدهم يصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين : (( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور )) 4.
ولو أن هؤلاء المفتونين ردُّوا ما اشتبه عليهم علمه في الأمور التي أثاروها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإلى الراسخين في العلم الذين يستنبطون ، ويعلمونهم ما جهلوه ويبينون لهم ما خفي عليهم ، ويحلّون ما أعضل وأشكل لما وقعوا في هذه التورطات والمجازفات ، كما أمر الله بذلك أسلافهم بقوله : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83) ، وقوله سبحانه لعموم الأمة { َاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون} (الأنبياء: من الآية7)
وقد وجدت أحسن وصف شخص مناهج هؤلاء وأمثالهم من أهل البدع والأهواء وأصولهم : ما قاله الإمام أحمد الخبير بعوارهم ، وسأسوق عباراته مع شرحها قال 5 :
[ ( عقدوا ألوية البدع ) أي رفعوا رايات الأهواء والبدع فالابتداع قاسم مشترك بين جميع الأهواء والافتراق .
( وأطلقوا عقال الفتنة ) ، وأعظمها الفتنة في الدين ومفارقة السنة .
( فهم مختلفون في الكتاب ) ، يعني كتاب الله تعالى وما جاء به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم .(52/496)
( مخالفون للكتاب ) . أي القرآن والسنة .
( مجمعون على مفارقة الكتاب )، أي اتفقوا في مناهجهم وأصولهم ومقالاتهم على مخالفة القرآن والسنة ومعارضتهما والتلقي عن غيرهما .
( يقولون على الله )، بغير علم . فهم ينسبون مقالاتهم وأصولهم الفاسدة إلي كتاب الله وسنة رسول الله وإلى دين الله وذلك قول على الله بغير علم .
( وفي الله ) ، أي يتكلمون في أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله بغير علم .
( وفي كتاب الله بغير علم )، لأنهم جانبوا مناهج أهل العلم ، أئمة الهدى في التلقي والاستدلال .
( يتكلمون بالمتشابه من الكلام ) ، في الصفات والقدر والغيبيات ونحوها مما لا مجال للرأى فيه .
( ويخدعون جهال الناس بما يُشبِّهون عليهم ) ، فيلبسون الحق بالباطل .
وهذه الأصول العشرة : سمات عامة لأهل الأهواء تجتمع في سائر الفرق ومناهجها ] .
نعم إن كلام الإمام أحمد هذا إنما هو كلام الخبير بأهل الأهواء والافتراق والبدع ، فتأمله واعتبر ، نفعني الله وإياك بالعلم النافع ، وجنبني وإياك سبل الغواية .
أخي القارئ :
ستجد في هذا الكتاب إسهام المقل في تقرير الحق وبيان أصالة أصول السلف الصالح أهل السنة والجماعة وكشف فساد مناهج المخالفين لا سيما في الأمور التي أثارها خصومهم ممن ذكرتهم في ثنايا هذا البحث وغيرهم .
ومنهجي في هذا البحث يقوم على بيان الأصول التي قام عليها منهج السلف ؛ لتكون بمثابة الميزان للمسلم ، يزن بها ما يتعرض له أو يقرؤه أو يسمعه من الشبهات والجهالات التي أثارها هؤلاء المفتونون وغيرهم من أهل الأهواء والبدع قديماً وحديثاً ، ولم يكن غرضي الرد التفصيلي على من أشرت إليهم ، أو إلى مقالاتهم وكتبهم لكني ذكرت نماذج من شبهاتهم ، التي هي السبب في تأليف هذا الكتاب ؛ ولذلك لم أتعرض إلا للقليل مما قالوه مع التنويه إلى أنني سبق أن أصدرت بعض الدراسات حول الأهواء والافتراق والبدع 6 ذكرت فيها الكثير من أصول السلف ، وكشفت فيها الكثير من أصول البدع والأهواء والافتراق ونشأتها وأسبابها وآثارها السيئة على الأمة ، وبينت ما تيسر لي بيانه من مناهج أهل الأهواء والبدع والافتراق وسماتهم ، وقد أفدت منها في هذا الكتاب في مواضع ، وهي – بحمد الله – تكشف الكثير مما أثاره هؤلاء المفتونون وأسلافهم من الخلوف التي تكالبت على السنة وأهلها – قديماً وحديثاً – والله حسبنا ونعم الوكيل .
وأخيراً .. نحمد الله تعالى على نعمة الإسلام ، وسلوك طريق السنة ولزوم الجماعة ، ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين للحق والهدى ، وأن يجمع كلمتهم ويوحد صفوفهم ، وأن يعيذهم من الفرقة والأهواء والبدع .
والحمد لله رب العالمين ، وسلام على المرسلين . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
كتبه
ناصر بن عبد الكريم العقل
الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح هم القدوة في الدين7
الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة في الدين ، ثم أصحابه – رضي الله عنهم أجمعين – لأن الله تعالى زكاهم ؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم رباهم ، وتوفي وهو عنهم راض ، وهم حملة الدين علماً وعملاً فقد نقلوا لنا القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعملوا بمقتضاهما ولم تظهر فيهم الأهواء والبدع والمحدثات في الدين .
فإن الحق والهدى يدوران معهم حيث داروا ، ولم يجمعوا إلا على حق ، بخلاف غيرهم من الطوائف والمنتسبين للأشخاص والشعارات والفرق فإنهم قد يجتمعون على الضلالة .
ثم السلف الصالح من : التابعين وتابعيهم ، وأئمة الهدى في القرون الثلاثة الفاضلة ، هم القدوة بعد الصحابة ؛ لأنهم كانوا على منهاج النبوة وسبيل الصحابة لم يغيروا ولم يبدلوا .
وعلى هذا المنهج سار أئمة الدين ، وأهل السنة إلى يومنا ، وإلى أن تقوم الساعة ، ملتزمون بما جاء في الكتاب والسنة ، ومقتفون لأثر النبي صلى الله عليه وسلم ، والسلف الصالح – والحمد لله - ، وسبيل هؤلاء ( السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة الدين ) ، هو سبيل المؤمنين الذي توعد الله من يتبع غيره ، وجعل اتباع غيره مشاقَّة للرسول صلى الله عليه وسلم ومن موجبات النار ، نسأل الله العافية ، قال الله تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } (النساء:115) .
وبذلك يتقرر أن سب الصحابة والسلف الصالح والطعن فيهم ، طعن في الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، كما أنه خيانة للأمة وعامة المسلمين ؛ لأنه طعن في خيارها وقدوتها ؛ ولذلك عمد أهل الأهواء والبدع والافتراق إلى الطعن في الصحابة والتابعين والسلف الصالح أو بعضهم كما سيأتي بيانه .(52/496)
مصادر الدين هي : الكتاب والسنة
( الوحي فحسب )8
المنهج الحق ، منهج السلف الصالح ، أهل السنة والجماعة يقوم على:أن مصادر الدين:الكتاب والسنة ، والإجماع ( وهو مبني عليهما ) ، وما عدا ذلك فهو باطل ؛ لأنه بموت النبي صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي ، وقد أكمل الله تعالى الدين ، قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } (المائدة: من الآية3) ، والرسولل صلى الله عليه وسلم قد أدى الرسالة وبلغ الأمانة ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض )) 9.
والدين الحق يقوم على التسليم لله تعالى ؛ والتسليم يرتكز على : التصديق والامتثال ، والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دين الله تعالى ، أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بالوحي وأكمله فليس لأحد أن يُحدث شيئاً زاعماً أنه من الدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))10فالدين كله عقيدة وشريعة ، لا يجوز استمداده إلا من الوحي .
والعقيدة هي أصول الدين وثوابته وقواطعه ، وعليه فإن : مصادر تلقي العقيدة الحق ، هي الكتاب ، والسنة وإجماع السلف ، وهذه هي مصادر الدين ، ويتفرع عن هذه القاعدة العظيمة الأصول التالية :
1. ... إذا اختلفت فهوم الناس لنصوص الدين ، فإنَّ فهم السلف( الصحابة والتابعين ومن سلك سبيلهم ) هو الحجة، وهو القول الفصل في مسائل الاعتقاد وغيرها لأنهم خيار الأمة ، وأعلمها وأنقاها وقد أمرنا الله وأمرنا رسوله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم ، والرجوع إليهم ، وتوعد من اتبع غير سبيلهم ، وعليه فإن :
2. ... منهج السلف في تقرير العقيدة يعتمد على الكتاب والسنة ، ولذلك كان هو الأعلم والأسلم و الأحكم . ويتمثل ذلك بآثارهم المبثوثة في مصنفاتهم ، وفي كتب السنة والآثار .
3. ... العقيدة توقيفية لا يجوز تلقيها من غير الوحي ؛ لأنها غيب لا تحيط بها مدارك البشر ، ولا عقولهم ولا علومهم .
4. ... العقيدة غيبية في تفاصيلها ، فلا تدركها العقول استقلالاً ، ولا تحيط بها الأوهام ، ولا تدرك بالحواس والعلوم الإنسانية ولا غيرها .
5. ... كل من حاول تقرير العقيدة واستمدادها من غير مصادرها الشرعية فقد افترى على الله كذباً ، وقال على الله بغير علم .
6. ... كما أن العقيدة مبناها على التسليم والاتباع : التسليم لله تعالى ، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم .
قال الزهري : ( مِنَ الله – عز وجل – الرسالة ، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ ، وعلينا التسليم )11
7. ... الصحابة – رضي الله عنهم – وأئمة التابعين وتابعيهم وأعلام السنة – السلف الصالح – كانوا على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسبيلهم هو سبيل المؤمنين ، وآثارهم هي السنة والطريق المستقيم . قال الأوزاعي : ( عليك بآثار من سلف ، وإن رفضك الناس ، وإياك وآراء الرجال ، وإن زخرفوه لك بالقول ، فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم ))12
مصادر التلقي عند أهل الأهواء
أما أهل الأهواء فقد تفرقت بهم السبل في مصادر تلقي الدين والعقيدة ، وتنوعت مشاربهم ومصادرهم ، فجعلوا من مصادر الدين وتلقي العقيدة :
1. ... العقليات والأهواء والآراء الشخصية ، والأوهام والظنون وهي من وساوس الشياطين وأوليائهم ، ومن اتباع الظن وما تهوى الأنفس .
2. ... الفلسفة وتقوم على أفكار الملاحدة والمشركين من الصابئة واليونان والهنود والدهريين ونحوهم ، والفلسفة أوهام وتخرصات ورجم بالغيب .
3. ... عقائد الأمم الأخرى ومصادرهم ، مثل كتب أهل الكتاب وأقوالهم ، والمجوس والصابئة ، والديانات الوضعية الوثنية .
4. ... الوضع والكذب ( لدى الرافضة والصوفية وغالب الفرق ) ، ومصدره الزنادقة ورؤوس أهل البدع ، فإنهم يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى الصحابة والتابعين وأئمة الهدى وسائر الناس ، ويضعون الأحاديث والروايات بأسانيد وهمية ومختلفة .
5. ... الرؤى والأحلام والكشف والذوق ( لدى الصوفية والرافضة ونحوهم ) ، ومصدرها الأهواء وإيحاء الشياطين.
6. ... المتشابه والغريب والشاذ من الأدلة الشرعية واللغة وأقوال الناس .
7. ... الاعتماد على آراء الرجال دون عرضها على الشرع أو القول بعصمتهم وتقديسهم .
سلامة منهج الاستدلال عند السلف أهل السنة
وفساد مناهج المخالفين في ذلك
منهج الاستدلال هو : الأصول والقواعد ، والطريقة التي يتم بها تلقي الدين وتقرير العقيدة ، واستنباط الأحكام من النصوص الشرعية وقواعد الشرع المبنية عليها .
ومنهج الاستدلال عند أهل السنة والجماعة يقوم على القواعد التالية :
1. ... حصر الاستدلال في الدليل الشرعي ( الوحي ) في الدين .
2. ... مراعاة قواعد الاستدلال ، فلا يضربون الأدلة الشرعية بعضها ببعض ، بل يردون المتشابه إلى المحكم ، والمجمل إلى المبين ، ويجمعون بين نصوص الوعد والوعيد والنفي والإثبات ، والعموم والخصوص ، ويقولون بالنسخ في الأحكام ونحو ذلك .
3. ... يعملون بكل ما صح من الأدلة الشرعية دون تفريق بين آحاد وغيره .
4. ... يعتمدون تفسير القرآن بالقرآن ، والقرآن بالسنة والعكس ، ويعتمدون معاني لغة العرب ولسانهم ؛ لأنها لغة القرآن والسنة ، ويردون ما يخالف ذلك .
5. ... يعتمدون تفسير الصحابة ، وفهمهم للنصوص وأقوالهم وأعمالهم وآثارهم ؛ لأنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أفضل الأمة وأزكاها ، وعاشوا وقت تنزل الوحي وأعلم باللغة ومقاصد الشرع ، ثم آثار السلف الصالح أئمة الهدى الذين هم بهم مقتدون .
6. ... ما بلغهم وعلموه من الدين عملوا به ، وما اشتبه عليهم علمه ، أو علم كيفيته ، ( كبعض نصوص الغيبيات والقدر ) يسلمون به ويردون علمه إلى الله – سبحانه وتعالى – ولا يخوضون فيه .
7. ... يتجنبون الألفاظ البدعية في العقيدة ( كالجوهر والعرض والجسم ) لاحتمالها للخطأ والصواب ؛ ولأن في ألفاظ الشرع غنى وكمالاً .
8. ... يتجنبون المراء والخصومات في الدين ، ولا يجادلون إلا بالتي هي أحسن .
9. ... ينفون التعارض بين العقل السليم والفطرة وبين نصوص الشرع ، وبين الحقيقة والشريعة وبين القدر والشرع ، وما يتوهمه أهل الأهواء من التعارض بين العقل والنقل فهو من عجز عقولهم وقصورها .
10. ... يتجنبون التأويل في العقيدة والغيبيات – بغير دليل شرعي صريح – لأنه قول على الله بغير علم ؛ ولأن مسائل العقيدة والغيبيات توقيفية لا مجال للرأي ولا للعقل فيها ولا تدرك بالعلوم الحسية .
11. ... يعنون بالإسناد وثقة الرواة وعدالتهم لحفظ الدين .
أما منهج الاستدلال عند أهل الأهواء والبدع والافتراق إجمالاً فإنه يقوم على الأسس التالية :
1. ... عدم حصر الاستدلال على الدليل الشرعي ، حتى في العقائد ، ( وهي توقيفية ) ، فإنهم يستدلون بالظنيات والأوهام ، والفلسفات ، ويسمونها ( العقليات ) ، كما يستدلون بالحكايات والأساطير وما لا أصل له وبالأحاديث الموضوعة والآثار المكذوبة ، وآراء الرجال في الدين ، وما يسمونه الكشف والذوق والأحلام ونحو ذلك .
2. ... لا يراعون قواعد الاستدلال ، فيتبعون المتشابه ولا يردونه إلى المحكم {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ }(آل عمران: من الآية7) ، ويضربون الأدلة بعضها ببعض ، ويزعمون التعارض بينها ، ويستدلون بالمجمل ولا يردونه إلى المبين ، ولا يجمعون بين نصوص الوعد والوعيد ، ولا النفي والإثبات ، ولا العموم والخصوص .
3. ... يضعون لأنفسهم أصولاً يبتدعونها بأهوائهم ، وينتزعون لها أدلة من القرآن والسنة ، على غير المنهج الشرعي في الاستدلال ، وما لا يوافق أصولهم وأهواءهم من نصوص الشرع ، يردونه ، أو يؤولونه .
4. ... يفسرون نصوص الشرع بأهوائهم ، فلا يعتمدون تفسير بعضها ببعض ، ولا يعتمدون معاني اللغة ، وبعضهم قد يستدل ببعض وجوه اللغة بمعزل عن فهم السلف ، وعن الدلالات الأخرى .
5. ... لا يعتمدون تفسير الصحابة والسلف الصالح ، ولا فهمهم للنصوص ، ولا آثارهم وعملهم وهديهم ، بل يجانوبنهم ، ويتبعون غير سبيل المؤمنين .
6. ... يخوضون فيما نهى الله عنه من نصوص القدر والصفات والسمعيات ونحوها { ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ }(آل عمران: من الآية7)
7. ... يعتمدون الألفاظ البدعية في الصفات وسائر العقيدة ( كالجسم والعرض والجوهر ) .
8. ... يقوم منهجهم على المراء والخصومات والجدال بالباطل .
9. ... يتوهمون التعارض بين العقل والشرع ، وبين الحقيقة والشريعة وبين القدر والشرع ، وبين أصولهم والشرع ثم يحكمون أهواءهم وأصولهم وعقلياتهم الفاسدة ويقدمونها على الشرع .
10. ... ويعتمدون التأويل في العقيدة ، ويقولون على الله بغير علم { ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ }(آل عمران: من الآية7)
11. ... ليس لهم عناية بالإسناد ؛ لتعويلهم على الأهواء وآراء الرجال ، والوضع وما لا أصل له ، ولذلك يعتمدون الأحاديث الموضوعة والضعيفة ، وما لا أصل له ، وبالمقابل قد يردون الأحاديث الصحيحة إذا خالفت أهواءهم كما سبق بيانه .
عبارة : ( أهل السنة والجماعة ) وصف شرعي 13
زعم بعض أهل الأهواء ( قديماً وحديثاً ) أن أهل السنة والجماعة ، وصف أطلقه السلف على أنفسهم وأتباعهم والحق أن : أهل السنة والجماعة وصف شرعي لأهل الحق الذين يتمسكون بالسنة حين يخرج عنها أصحاب السبل أهل الأهواء والبدع والافتراق ، وأهل السنة هم الطائفة التي تبقى على الحق ظاهرة كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك )) 14.
فقد نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا على أن هذا الدين سيبقى ممثلاً بطائفة ، وهي الفرقة الناجية ، التي استثناها الرسول صلى الله عليه وسلم ، من الفرق الهالكة عند الافتراق والاختلاف في الدين ، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث الذي رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال : (( تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة،أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك،وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ))15 .
وقد أجمع أهل العلم وأئمة الهدى ، على أن هذه الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة .
وأهل السنة والجماعة هم : الصحابة والتابعون والسلف الصالح وأئمة الهدى ، أهل الحديث والعلم والفقه في الدين في القرون الثلاثة الفاضلة ، ومن اقتفي أثرهم واتبع سبيلهم ، ولم يحدث ولم يبتدع في الدين ما لم يكن من هديهم ، لأنهم كانوا على المحجة البيضاء ، على بينة من ربهم ، لم تعصف بهم الأهواء والفتن ، ولم تحرفهم البدع عن العروة الوثقى والصراط المستقيم .
وأهل السنة هم كل من هو على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم،وأصحابه والتابعون ،في الهدي الظاهر والباطن .
وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والسلف الصالح بين واضح ، منقول مسطور محفوظ ، هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما فهمها وعمل بها السلف الصالح ، وأتباعهم .
ورغم وضوح هذا الأمر ، فإن الكثير من المسلمين في هذا العصر مع اختلاط الثقافات ، وانتشار البدع ، واستعلاء الفرق والمذاهب الضالة ، وظهور التيارات التي تشكك في المسلَّمات ، جهلوا كثيراً من أمور دينهم وعقيدتهم .
وكان مما أصبح مجهولاً لدى الكثير من المسلمين : مفهوم أهل السنة والجماعة ، وأصولهم ؛ وهديهم ، مما جعل بعض الجاهلين يدعي : أن أهل السنة تاريخ مضى .
أو أنه ليست هناك طائفة يصدق عليها هذا الوصف .
أو أن مناهج السلف إنما هي أصول نظرية مثالية .
أو أن المسلمين جميعاً على مختلف مشاربهم على السنة .
أو أن مناهج السنة عفا عليها الزمن , ولا بد من البدائل بالتجديد
أو أن أئمة السلف الصالح هم الذين اخترعوا لأنفسهم هذا الوصف .
أو أن وصف أهل السنة لم يعد يصدق على أحد ؛ لأن الكل يدَّعيه ولا يُسلَّم له ذلك .
كما ظهرت أخيراً دعاوى ، ومزاعم وشعارات من قبل أهل الأهواء وبعض الفرق والجماعات , التي تخالف السنة والجماعة ،بأنها هي أهل السنة والجماعة ، أو أنها منهم أو تنتمي إليهم ، وهذه مزاعم عريَّة من الدليل والبرهان ، وإليك بيان ذلك .(52/496)
مفهوم أهل السنة والجماعة الشرعي والاصطلاحي
عند التأمل لمعاني السنة ، ومعاني الجماعة ، كما وردت في النصوص الشرعية ، وكما عبر عنها وفهمها السلف ؛ نجد أنه يتحدد بوضوح المفهوم السليم لأهل السنة والجماعة .
من هم ؟ وما صفاتهم ؟ وما منهجهم ؟ وعليه فإنا نستطيع أن نعرَّف أهل السنة من وجوه متعددة ، من خلال صفاتهم وسماتهم ، ومنهجهم ، ومن خلال تعريف السلف لهم ، أي من خلال تعريفهم هم بأنفسهم ، فأهل الدار أدرى بما فيها وأهل مكة أدرى بشعابها .
ومن هذه الوجوه التي يمكن أن نتعرف بها على أهل السنة :
أولاً : أنهم هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهم أهل السنة الذين علموها ، ووعوها وعملوا بها ، ونقلوها ، وحملوها ، رواية ودراية ، ومنهجاً ، فهم أجدر من يستحق التسمي بأهل السنة لسبقهم إلى السنة علماً وعملاً وزمناً .
ثانياً : يليهم كذلك أتباع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين أخذوا عنهم هذا الدين ، ونقلوه وعلموه وعملوا به ، من التابعين وتابعيهم ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، فهم أهل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تمسكوا بها ، ولم يبتدعوا ولم يتبعوا غير سبيل المؤمنين .
ثالثاً : وأهل السنة والجماعة هم السلف الصالح أهل الكتاب والسنة العاملون بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم 16، المتبعون لآثار الصحابة والتابعين وأئمة الهدى ، المقتدى بهم في الدين ، الذين لم يبتدعوا ولم يبدلوا ، ولم يحدثوا في دين الله ما ليس منه .
رابعاً : أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية من بين الفرق وهم الطائفة الظاهرة والمنصورة إلى قيام الساعة 17 لأنهم هم الذين ينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك )) 18 وفي لفظ : (( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله ..... )) الحديث 19
خامساً : هم الغرباء إذا كثرت الأهواء والضلالات والبدع ، وفسد الزمان ، أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم : (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً ، فطوبى للغرباء )) 20 وقال صلى الله عليه وسلم : (( طوبى للغرباء ، أناس صالحون في أناس سوء كثير ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم )) 21 وهذا الوصف إنما ينطبق على أهل السنة .
سادساً : وهم أصحاب الحديث رواية ودراية علماً وعملاً لذلك نجد أن أئمة السلف فسروا الطائفة المنصورة والفرقة الناجية ، أهل السنة والجماعة ، بأنهم : ( أصحاب الحديث ) فقد روي ذلك عن ابن المبارك ، وأحمد بن حنبل ، والبخاري ، وابن المديني ، وأحمد بن سنان 22، وهذا حق فإن أصحاب الحديث الجديرين بهذا الوصف هم أئمة أهل السنة .
قال الإمام أحمد في الطائفة المنصورة : ( إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ، قال القاضي عياض : ( إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث ) 23 قلت : وعامة المسلمين الذين على الفطرة والسلامة ولم يسلكوا مسالك الأهواء والبدع ، هم على السنة ، وهم تبع لعلمائهم بالاهتداء والاقتداء .
لماذا سموا بأهل السنة الجماعة ؟
سُمِّي أهل السنة بذلك : لأنهم الآخذون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم العاملون بها ، العاملون بمقتضاها ، والمتمثلون لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( عليكم بسنتي )) 24، فالسنة هي : ما تلقاه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من الشرع والدين ، والهدي الظهر والباطن ، وتلقاه عنهم التابعون ، ثم تابعوهم ثم أئمة الهدى العلماء العدول ، والمقتدون بهم ، ومن سلك سبيلهم إلى يوم القيامة 25.
ومن هنا صار أهل الحق المتبعون للسنة : أهل السنة فهم الجديرون بذلك على الحقيقة .
أما تسميتهم بالجماعة : فلأنهم أخذوا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجماعة ، فاجتمعوا على الحق , وأخذوا به , واقتفوا أثر جماعة المسلمين المستمسكين بالسنة ، من الصحابة والتابعين وأتباعهم ، ولأنهم أجمعوا على الحق ، وعلى اتباع الجماعة , أهل السنة والحق ، ولأنهم دائماً – بحمد الله – يجتمعون على أئمتهم ، ويجتمعون على الجهاد ، مع ولاة المسلمين ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويجتمعون على السنة والاتباع ، وترك البدع والأهواء والفرق ، فهم الجماعة التي عناها الرسول صلى الله عليه وسلم ووصفها وأمر بالأخذ بها .
وأخيراً نصل إلى نتيجة بينة واضحة وهي أن : ( أهل السنة والجماعة ) اسم ووصف استمد :
أولاً : من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، حينما أمر بالسنة وأوصى بها (( عليكم بسنتي )) ، وحينما أمر بالجماعة وأوصى بها , ونهى عن خلافها ومفارقتها ، والخروج والشذوذ عنها ، فأهل السنة والجماعة إنما سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم ووصفهم بذلك .
ثانياً : استمد من آثار الصحابة ، والسلف في القرون الفاضلة , من قولهم ووصفهم وحالهم ، فهو اسم ووصف أجمع عليه أئمة الهدى ، وسموا به أهل الحق ووصفوهم به وتلك آثارهم شاهدة ناطقة في مصنفاتهم في كتب السنن والآثار .
ثالثاً : أن مصطلح أهل السنة والجماعة وصف شرعي وواقعي صادق ومعبر ، يتميز به أهل الحق عن أهل البدع والأهواء ، وهذا بخلاف ما يظنه البعض من أن ( أهل السنة والجماعة ) ، إنما هو اسم أحدث عبر السنين ، وأنه لم يعرف إلا بعد الافتراق ، والحق أنه اسم شعي مأثور عن سلف هذه الأمة ، منذ عهد الصحابة والتابعين ، والصدر الأول والقرون الفاضلة .
أما ما يقوله بعض أهل الأهواء من أن أهل السنة يقصرون السنة والسلفية عليهم ؛ وأنهم يقصدون بالسلف الصالح : من كان على مذهبهم فهذا صحيح ، وهو الحق ، وليس عيباً ولا خطأ ، فإن السلف الصالح هم أهل السنة والعكس كذلك شرعاً وواقعاً كما أسلفت فمن لم يكن على مذهب السلف ولم يسلك منهجهم وسبيلهم فهو مفارق للسنة والجماعة .
كما نقول لهؤلاء المفتونين ، وتلكم النابتة التي تتنكر للسنة وأهلها : هذه هي السنة ، وهؤلاء هم أهلها ، أهل السنة والجماعة ، فإن أعرضتم وأبيتم قول الحق ، فليس لنا معكم إلا مقولة نوح عليه السلام للمعرضين :{ قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } (هود:28)
وهل هم محصورون في مكان أو زمان ؟
أهل السنة والجماعة لا يحصرهم مكان أو زمان ، إنما قد يكثرون في بلد ويقلون في آخر ، وقد يكثرون في زمان ، ويقلون في زمان 26 لكنهم لا ينقطعون
ففيهم أعلام الهدى ، ومصابيح الدجى ، وحجة الله على الخلق إلى أن تقوم الساعة ، وبهم يتحقق وعد الله بحفظ الدين .
وبهذا يتبين من هم أهل السنة والجماعة ، ومن هم السلف الصالح ، وأن دعاوى الفرق المفارقة للسنة والجماعة ، بأنها من أهل السنة والجماعة ، وانتحالها للسلف الصالح أو بعضهم ، مردودة بالضوابط الشرعية ، والأصول العلمية ، والحقائق التاريخية .
كما تسقط دعوى أن المسلمين كلهم على السنة فهذا تكذيب لخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن الافتراق حاصل ، ومكابرة وتكذيب للواقع .
وكذا بقية الدعاوي .
وعليه : فالسنة ليست حزباً ولا شعاراً ولا مذهباً يتعصب له ، بل هي ميراث النبوة ومنهاجها ، والصراط المستقيم ، والعروة الوثقى ، وسبيل المؤمنين ، والواضحة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .
وما يخرج عن ذلك من الأخطاء والزلات والبدع التي تحدث من أهل البدع أو من المنتسبين للسنة ، فليست من السنة في شيء ، ولا تحسب على المنهج الحق .
أصول الدين ( العقيدة ) هي أركان الدين وقطعياته
أصول الدين هي كل ما ثبت وصح من الدين ، من الأمور الاعتقادية العلمية والعملية،والغيبيات الثابتة بالنصوص الصحيحة.
أصول الدين ليست محصورة بـ ( أركان الإيمان وأركان الإسلام ).
أركان الإيمان الستة وأركان الإسلام الخمسة ، جاءت مجملة وجاءت مفصلة ، وكل ذلك بنصوص قطعية ، وكل هذه القطعيات لابد للمسلم الذي تبلغه أن يعتقدها جملة وتفصيلاً ، ولا يشك فيها أو يعارضها ، ولا يردها أو يضيق بها .
فالإيمان بالله تعالى وهو الركن الأول من أركان الإيمان وهو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله (الركن الأول من أركان الإسلام ) لا يصح من المسلم ، حتى يسلِّم بتفاصيله وقواعده القطيعة ، مثل أسماء الله وصفاته وأفعاله الثابتة بالنصوص ، مثل عبادة الله تعالى وحده وعدم الشرك به وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، واعتقاد خلاف ذلك والشك فيه أو ردَّه ينافي الدين والعقيدة .
وكذلك الإيمان بالملائكة لا يصح من المسلم حتى يسلِّم بما صح من أخبارهم و أوصافهم وأعمالهم وأسماء من وردت أسماؤهم ، مثل كونهم عبادٌ لله تعالى ، لا يعصون ولهم أجسام ، وهم ذوو أجنحة ، ويكتبون ، ويصعدون وينزلون ، ويطوفون .. وغير ذلك مما ثبت بالنصوص القطعية .
ولذلك نجد أهل الأهواء من الفلاسفة والعقلانيين ونحوهم ، حينما وقفوا عند الإيمان المجمل قالوا بما يصادم النصوص القطعية ، مثل زعمهم أن الملائكة ليس لهم وجود حقيقي ، أو ليس لهم حقيقة ذاتية ، إنما هم نوازع الخير في الإنسان !! أو أنهم الأخيار من البشر ، ونحو ذلك من التأويلات .
وكذلك الإيمان بالكتب لا يكفي فيه الإيمان المجمل ، بل لا يصح إيمان المسلم حتى يُؤمن بما سماه الله تعالى من كتبهم كالقرآن والتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم ونحو ذلك ، وكذلك الإيمان بالرسل قد يُسلم به البعض إجمالاً ثم يكفر برسالة عيسى عليه السلام ، فقد فعل ذلك بعض العصرانيين ، وزعم أن عيسى عليه السلام – مصطلح مجدد – وليس بنبي ولا رسول مع إقراره بركن الإيمان بالرسل فهل يعد هذا مؤمناً ؟ لا .. فالله تعالى يقول عن وصف المؤمنين : { لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ }(البقرة: من الآية285) ويقول سبحانه:{أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}(البقرة: من الآية85) ثم كيف نخرج هذه المسلَّمات والقطعيات – وأمثالها كثير – من العقيدة .
وهكذا الإيمان باليوم الآخر قد يدعيه من ينكر الحياة البرزخية ، أو ينكر بعث الأجساد , أو ينكر الشفاعة والرؤية أو ينكر الجنة والنار , ويصرفها – كما زعم أحد العقلانيين المعاصرين – بأن الجنة هي ( المدنية الغربية ) !! ويُقابله من زعم أن الدجال الذي ثبتت به النصوص القطعية ، هو الحضارة الغربية .
وهذا أنموذج من تناقض أهل الأهواء وأدعياء العقلانية .
وكذلك الإيمان بالقدر ، يُقرُّ به إجمالاً من يزعم أن الله لم يُقدر أفعال العباد ولم يخلقها ، أو بعضها وهم ( القدرية ) ، لكنهم بذلك ينقضون أصل الإيمان بالقدر .
ونقول مثل ذلك في أركان الإسلام , فإن من يشهد أن لا إله إلا الله ثم يشرك مع الله غيره ، لا تصح منه الشهادة وكذلك شهادة أن محمداً رسول الله ، لا تصح ممن يستمد الدين من غير الرسول صلى الله عليه وسلم . وإقام الصلاة لا يكفي فيه مجرد الإقرار بها أو عملها دون شروطها وأركانها .
وهكذا بقية الأركان وأصول الدين ومبانيه لها شروط وأركان ولوازم وتفريعات قطعية ، جاءت في قطعيات النصوص ( القرآن والسنة ) والتزمها السلف الصالح لذلك ، لا من عند أنفسهم .
وحصر العقيدة في أركان الإيمان وأركان الإسلام مجردة عن أصولها وشرائطها وأركانها ولوازمها ، وعن الأصول والقطعيات الأخرى الثابتة بالنصوص الشرعية مسلك هدَّام ، إذ يقوم على تمزيق الدين وتجزئته ، والإيمان ببعض والكفر بالبعض الآخر كما بينت آنفاً .
وقد آثار أهل الأهواء من ( المستشرقين والحداثيين والعقلانيين والمنافقين ومن سلك سبيلهم ) شبهة حول التفصيلات في مسائل العقيدة المتفرعة عن أصول الإيمان وأركان الإسلام ، وهي ما عبر بها أحدهم بـ ( تلك التفصيلات المحيرة التي استحدثت في أزمنة الصراعات الكلامية ) 27 وهذا وصف صادق لعقائد الفرق الضالة فهي فعلاً أمور محيِّره ، ومحدثات كلامية ولا يصح ذلك أبداً في وصف عقيدة السلف ، فالحق أن السلف ( أهل السنة والجماعة ) أنكروا تلكم المحارات والمحدثات والبدع ، ولم يوردوا من التفصيلات في كتب العقيدة على سبيل التقرير والإثبات إلا ما ثبت بالكتاب والسنة ، وما كان من لوازم أصول العقيدة ، وما يند عن ذلك من بعض الاستطرادات أو التجاوزات النادرة فليست هي المنهج .
أما ما وصف الكاتب – مما ذكرته أنفاً – فإنما ينطبق على مناهج أهل الافتراق والأهواء والبدع من الفرق الكلامية والصوفية والشيعية ومن سلك سبيلهم قديماً وحديثاً .
السلف ( أهل السنة والجماعة ) لا يختلفون في أصل من الأصول 28
من سمات أهل السنة والجماعة السلف الصالح ، أنهم لا يختلفون ولم يختلفوا في أصل من أصول الدين وقواعد الاعتقاد ، فقولهم في مسائل الاعتقاد قول واحد بحمد الله ، كما قال ابن قتيبة : ( إن أهل السنة لم يختلفوا في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ ) 29، يعني بذلك الفظ بالقرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق ؟ ومع ذلك فإن خلافهم في هذا – كما عند البخاري ( إن صح ) والإمام أحمد – خلاف لفظي حيث يجمعون على الأصل وهو أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق .
بخلاف أهل البدع ، فإنهم لا يوافقون أهل السنة في الأصول أو بعضها ، كما أنهم لا يتفقون على أصولهم ، بل كل حزب بما لديهم فرحون ، بل إن الفرقة الواحدة منهم لا يتفق أفرادها على أصل كل الاتفاق .
أما عند أهل السنة – بحمد الله - : فهم يتفقون جملة وتفصيلاً أئمتهم وعامتهم على أصول العقيدة ، وما يقع من بعض أفرادهم من مخالفة للأصول التي اتفقوا عليها فهو خطأ مردود على قائله ، مع أن ذلك – بحمد الله – نادر جداً ، والنادر لا حكم له
فقول أهل السنة في صفات الله تعالى وأسمائه وأفعاله واحد .
وقولهم في الكلام والاستواء والعلو لا يختلف .
وقولهم في الرؤية والشفاعة وسائر السمعيات لا يختلف .
وقولهم في الإيمان وتعريفه وأصوله ( أركانه ) ومسائله واحد .
وقولهم في القدر واحد .
وقواعدهم في الأسماء والأحكام لا تختلف .
وقولهم في الصحابة والسلف الصالح واحد .
فاختلاف أهل السنة إنما كان في الاجتهاديات من أمور الأحكام ، أو فرعيات المسائل الملحقة بالعقيدة مما لم يرد به دليل قاطع ، وذلك :
كمسألة اللفظ بالقرآن – التي سبق ذكرها – ومسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المعراج ، هل كانت بصرية أو قلبية ؟ ومسألة رؤية الله تعالى في المنام , ومسألة ابن صياد هل هو الدجال الذي يخرج في آخر الزمان أو غيره ؟ ونحو ذلك من المسائل المختلف عليها ولم يرد الدليل صريحاً فيها وألحقها العلماء بموضوعات العقيدة لأنها تندرج في جنسها علمياً وموضوعياً لا عقدياً .
وهذه الأمور ونحوها ليست من أصول الاعتقاد والخلاف فيها دائر مع النصوص لم يقل فيها السلف برأيهم المحض – والله أعلم - .(52/496)
ومردُّ ذلك – أي اتفاق السلف – إلى أمور كثيرة منها:
1. ... اعتصامهم بحبل الله جميعاً .
2. ... أن مصدرهم وأحد هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بخلاف أهل الأهواء ، فإنهم تعددت مصادرهم من القول بالرأي فيما لا تدركه الآراء والتعويل على العقليات فيما لا طاقة للعقول به ، والأخذ عن الفلاسفة والأمم الهالكة وقد نهوا عن ذلك .
3. ... أن اعتقادهم ابتداء يقوم على التسليم لله تعالى وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم ، بخلاف أهل الأهواء فإنهم لم يسلموا ولم يذعنوا ، وإن ادعى بعضهم ذلك ؛ لأن مقضى التسليم التزام ألفاظ الشرع .
4. ... أنهم انتهوا عما نهى الله عنه ، فلم يخوضوا في الغيبيات ، ولم يقولوا على الله بغير علم ، ولم يجادلوا ولم يماروا ولم يؤولوا ....... بخلاف أهل الأهواء فقد ارتكبوا جميع هذه المنهيات .
5. ... أنهم تلقوا الدين بالاهتداء ، والاقتداء والاتباع على بصيرة ، فقد أخذوا الدين عن العدول الثقات بدليله .
فالصحابة أخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتابعون أخذوا عن الصحابة ، وهكذا حمل هذا الدين من كل خلف عدوله ، ومن كل جيل ثقاته ، ومن كل عصر علماؤه .
بخلاف أهل البدع والأهواء فقد تعددت مناهجهم في تلقي الدين،وخلطوا في وسائلهم وأساليبهم حتى تقطعت بهم السبل30 ، نسأل الله العافية .
اختلاف الصحابة والسلف الصالح لم يصل إلى التنازع والافتراق
اختلف الصحابة – رضي الله عنهم – بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسائل مهمة وأمور وأحكام كثيرة ، لكن اختلافهم كان ينتهي ( على مقتضى الكتاب والسنة ) إما بالإجماع أو العمل على ما يترجح ، أو يفصل في الأمور الخليفة ، أو أهل الحل والعقد ، أو يبقى الخلاف سائغاً ، وفي ذلك كله لم يصل الأمر عندهم إلي حد التنازع في الدين ، ولا الافتراق والخروج على الجماعة ، ولم يبغ بعضهم على بعض .
فقد اختلفوا في موت الرسول صلى الله عليه وسلم ، وانحسم النزاع بموقف أبي بكر وقوله : ( من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ) ، وتلا قوله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ }(آل عمران: من الآية144)
وبعد هذا النزاع 31سلم الجميع لقضاء الله –سبحانه وتعالى –
ثم حدثت قصة السقيفة ، وتنازع الصحابة فيمن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في إمامة المسلمين ، وانتهى النزاع واجتمعت الكلمة على أبي بكر – رضي الله عنه -32 .
ثم اختلفوا في جيش أسامة هل يسيرونه أو لا ؟ وانتهى النزاع بعزم أبي بكر –رضي الله عنه – أمير المؤمنين –على إنفاذه33.
ثم تنازعوا في مانعي الزكاة من أهل الردة ، وحسم النزاع بعزمة أبي بكر – رضي الله عنه – على قتالهم 34 ورجوع بقية الصحابة الذين كانوا خالفوا إلى قوله وموافقتهم له .
ثم إن الغالبية العظمى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشاركوا في صفين والجمل ، فإن الفتنة لما حدثت بعد مقتل عثمان – رضي الله عنه – اعتزلها أكثرُ الصحابة ، وما حضرها منهم إلا القليل ، والذين حضروا كانوا مجتهدين ، وما كانوا يريدون القتال إنما قصدهم الإصلاح ، بخلاف من دونهم من أهل الأهواء : السبئية – الخوارج والشيعة – فإنما هم أصحاب أهواء وفتنة ، وهم الذين تسببوا في القتال وحملوا الصحابة عليه .
قال عبد الله بن الإمام أحمد : ( حدثنا أبي ، حدثنا إسماعيل يعني ابن علية ، حدثنا أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين ، قال : هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف ، فما حضرها منهم مائة ، بل لم يبلغوا ثلاثين ) 35.
قال شيخ الإسلام : ( وهذا الإسناد من أصح إسناد على وجه الأرض ) 36 .
وقد جمع الله شمل الأمة بعد الفتنة بتنازل الحسن بن علي – رضي الله عنه – عن الخلافة لمعاوية – رضي الله عنه – عام الجماعة ( 41 هـ ) ، وقد ضاق أهل الأهواء – ولا يزالون – ذرعاً بهذا الصلح العظيم .
ثم إن الصحابة الذين اجتهدوا وشاركوا في تلكم الأحداث قليل ، ودعوى أن عامة الصحابة شاركوا ليست صحيحة ، وهي من افتراءات الإخباريين ، وأوهام الناس فقد أخرج الخلال في السنة بالسند السابق ، قال ( قرئ على عبد الله بن أحمد ، قال : حدثني أبي ، قال : ثنا إسماعيل قال : ثنا أيوب عن محمد بن سيرين ، قال : هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلف فما حضر فيها مائة بل لم يبلغوا ثلاثين ) 37 .
وقال : ( قرئ على عبد الله بن أحمد ، قال : حدثني أبي قال : ثنا سفيان ، قال ثنا منصور بن عبد الرحمن ، قال : قال الشعبي : لم يشهد الجمل من أصحاب النبي – عليه السلام – غير عليّ وعمار وطلحة والزبير فإن جاوزوا بخامس فأنا كذاب )38 .
وربما كان يقصد بعض مشاهد الجمل ، إذ قد حضرها الحسن والحسين وعائشة – رضي الله عنهم أجمعين - .
وقال شيخ الإسلام : ( ولهذا لم تحدث في خلافة عثمان بدعة ظاهرة ، فلما قتل وتفرق الناس حدثت بدعتان متقابلتان :
بدعة الخوارج المكفرين لعلي ، وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته ، أو نبوته أو إلاهيته .
ثم لما كان في آخر عصر الصحابة ، في إمارة ابن الزبير وعبد الملك ، حدثت بدعة المرجئة والقدرية ، ثم لما كان في أول عصر التابعين في أواخر الخلافة الأموية حدثت بدعة الجهمية المعطلة والمشبهة الممثلة،ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك ) 39
والذين بقوا من الصحابة بعد ظهور الفرق لم يقع من أحد منهم افتراق ، ولا بدع مخرجة عن السنة ، بل كانوا إلباً على الأهواء والبدع .
كذلك كان التابعون وتابعوهم وسائر السلف الصالح والحمد لله على توفيقه .
ويقول ابن القيم : ( وقد تنازل الصحابة – رضي الله عنهم – في كثر من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين وأكمل الناس إيماناً ، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال ) 40 .
كذلك بدع التأويل للصفات والغيبيات الأخرى ، لم تحدث في عهد الصحابة ولا منهم ، فإن جميع ما في القرآن والسنة ، من نصوص الصفات لم يحدث عن الصحابة تأويل لها على نحو ما فعل أهل الكلام ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه طالع التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث في أكثر من مائة تفسير ، ولم يجد عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف ، بل ثبت عنهم ما يخالف كلام المتأولين مالا يحصيه إلا الله 41.
وكل المسائل التي تنازع فيها الصحابة كانت من قبيل الاجتهادات والأحكام ولم تؤد إلى الفرقة ولا المنازعة بينهم .
ومع أن الفرق الأولى ( الشيعة والخوارج ثم القدرية ) نشأت في عهد الصحابة إلا أنهم كانوا خصومها كلهم ، ولم يكن أحد منهم يتهم بشيء من الأهواء ( حاشاهم ) ومن زعم شيئاً من ذلك فقد افترى .
فالصحابة لم يحدث منهم افتراق ولا بدع ، فلم يحدث من أحد منهم أن قال ببدعة أو فارق الجماعة ، ولم يكن أحد منهم من أهل البدع المشهورة ( كالخوارج والروافض والقدرية والمرجئة ) , فضلاً عن الجهمية والمعتزلة وأهل الكلام وقد حدثوا من بعدهم 42 .
كما أن الصحابة لم يكفر أحد منهم الآخر ، بل كانوا يعذر بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه ، ولما حدثت الفتنة وانحاز بعض الصحابة إلى علي ، وآخرون إلى معاوية – رضي الله عنهم – لم يوجب ذلك عداوة بينهم ولم يكفر بعضهم بعضاًَ ، ولم يكفر أحد منهم مخالفيه لا من الصحابة ولا من غيرهم .
مزاعم الفرق بأن بعض الصحابة على مذاهبها
• ... أما ما تزعمه بعض الفرق من أن بعض الصحابة كانوا على مذهبها هو محض باطل وبهتان .
• ... كما زعمت الرافضة أن علياً والحسن والحسين وسلمان والمقداد على مذهبها وهو محض افتراء .
• ... وكما زعمت المعتزلة أن ابن عمر والصحابة الذين اعتزلوا الفتنة هم سلفهم وهو كذب ، فإن أولئك الصحابة إنما اعتزلوا الفتنة وهذا يحمد لهم حسب اجتهادهم ، أما هؤلاء المعتزلة فقد اعتزلوا أئمة المسلمين – كالحسن البصري – وجماعتهم ، وفارقوا السنة والجماعة ، وفرق بين اعتزال الفتنة وبين اعتزال أهل الحق .
• ... وكما زعمت الصوفية أن أهل الصفة كانوا على مذاهبها وأحوالها وأنها امتداد لهم وهذا بهتان عظيم .
• ... وزعموا أن كل فرقة تدعي أن لها سلفاً من الصحابة وهل يكفي مجرد الدعوى ؟ ..... إن لكل دعوى حقيقة ولكل نبأ مستقر ، فمن هم الذين على منهج الصحابة ؟ إنهم على مقتضى الدليل والتحقيق والواقع : السلف الصالح ، أهل السنة والجماعة وكتبهم وأقوالهم وأفعالهم ومناهجهم شاهدة بذلك ، أما مزاعم أهل الأهواء أنه على السنة فلا دليل عليها والدعوى العارية من الدليل تبقى مجرد أوهام وظنون وأكاذيب .
أما أهل السنة فهم أهل الحق بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( وعليكم بالجماعة )) ، فلنطبق الموازين العلمية والشرعية والعقلية والتاريخية ؛ ولنر من هم مِن طوائف المسلمين أقرب إلى هذا الوصف ، أعني الاتصاف بأهل السنة والجماعة وأترك الحكم للقارئ ....
• ... وكذلك مزاعم بعض أصحاب الاتجاهات المعاصرة أن بعض الصحابة على مذهبهم ، كزعم الاشتراكيين أن أبا ذر كان اشتراكياً،وأن علياً كان متكلماً وكذلك ابن عباس ونحو ذلك .... كل ذلك محض كذب وافتراء .
• ... أما ما زعمه أحد المفتونين من المعاصرين من أن الجذور السياسية للخلافات العقدية تبدأ من أحداث السقيفة ، وبيعة الصديق ، والوصية ، وبيعة عمر ، والشورى وبيعة عثمان وبيعة علي ، وصلح الحسن مع معاوية ونحو ذلك 43... فهو خطأ وتحامل على الصحابة – رضي الله عنهم - .
• ... وهذه المزاعم هي التي تقوم عليها أصول الرافضة في الإمامة والصحابة ، وهي من ذرائعهم الخبيثة لسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
بل الحاصل خلاف ما ادعاه هذا المفتون وأشياعه من أهل الأهواء والافتراق والمنافقين قديماً وحديثاً ، إذ الصحابة كانوا كلهم فيما حدث بينهم مجتهدين ، وقد عذر بعضهم بعضاً ، ولم يفارق أحد منهم السنة والجماعة مع العلم أن منهم المخطئ ومنهم المصيب ، وكلهم مأجورون وأجرهم على الله .
قال شيخ الإسلام : ( قال محمد بن عبيد حدثنا الحسن – وهو ابن الحكم النخعي – عن رباح بن الحارث ، قال : إنا لبوادٍ ، وإن ركبتي لتكاد تمس ركبة عمار بن ياسر إذ أقبل رجل فقال : كفر والله أهل الشام ، فقال : عمار : لا تقل ذلك ، فقبلتنا واحدة ، ونبينا واحد ، ولكنهم قوم مفتونون فحق علينا قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق .
وبه قال ابن يحيى ، حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن الحسن بن الحكم عن رباح بن الحارث عن عمار بن ياسر قال : ديننا واحد ، وقبلتنا واحدة ، ودعوتنا واحدة ، ولكنهم قوم بغوا علينا فقاتلناهم .
قال ابن يحيى حدثنا يعلى حدثنا مسعر عن عبد الله بن رباح عن رباح بن الحارث ، قال : قال عمار بن ياسر : لا تقولوا : كفر أهل الشام ، قولوا : فسقوا ، قولوا : ظلموا ) 44.
فلم يحدث – بحمد الله – من الصحابة بدع ولا افتراق فقد زكاهم الله تعالى وأكرم رسوله صلى الله عليه وسلم من أن يكون صحابته مبتدع أو مفارق .
منهج السلف يقوم على السنة والاتباع ومنهج مخالفيهم يقوم على الابتداع
في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة ( سبّ السلف ) وسبّ خيار الأمة أهل السنة والجماعة ، وتداعت إلى هذا الظلم طوائف وفئات متعددة من الحداثيين ، والعلمانيين والعقلانيين ( العصرانيين ) المعتزلة لجدد ، ومن أخلاف الموتورين من بقايا الفرق القديمة ( كالخوارج ، والشيعة والطرق الصوفية الباطنية .... ونحوهم ) .
وقد شايعهم البعض من المنافقين والجاهلين وعشاق الشهرة ، وأهل الأهواء ونحوهم وصار هؤلاء وأولئك يثيرون الشكوك والإشكالات حول الصحابة وأئمة السلف ، وأهل السنة والجماعة ، ويلقون بالشبهات حول منهجهم وتراثهم ، ويتلقطون الأخطاء والزلات ويوهمون الجاهلين بأنها هي أصول ومناهج للسلف ، ويطلقون الألقاب الشنيعة ، والأوصاف الرديئة غير اللائقة على السلف وأتباعهم قديماً حديثاً ، على نحو ما كان أسلافهم المنافقون يفعلون تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من اللمز والسخرية كقولهم : ( ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ، ولا أجبن عند اللقاء .) 45 وقالوا بمقالات أخرى خبيثة ، فأنزل الله فيهم قرآناً يتلى ، وهو قوله تعالى : { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61 ) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ(64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65)لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } (التوبة : 61- 66 )
وهؤلاء من المنافقين المعاصرين ساروا على نهج أسلافهم حذو القُذة بالقذة ، والمنافقون – قديماً وحديثاً – حينما يسبون الصالحين من المؤمنين ويلمزونهم قد يتعلقون ببعض ما قد يحصل من بعضهم من الشبهات والزلات فيلبسون بها على الناس.
فقد يقع من بعض الصالحين من المؤمنين كذب ، أو خطاء أو زلة أو هوى أو ظلم أو تجاوز ، فيطير بها المنافقون وينسبونها للمؤمنين عموماً ، وعلى نحو هذا ما يفعله بعض المفتونين المعاصرين في تصيدهم للأخطاء التي قد تقع من أفراد أهل السنة والسلف الصالح ، وليست هي الأصل فيهم ، بل العكس لو تأملتها وجدتها هي الأصل عند خصومهم أهل الأهواء والافتراق والبدع ، ومناهج السلف على خلافها بحمد الله .
ولذلك رأيت أنه من المفيد أن أعقد موازنة بين منهج السلف وبين مناهج أهل الأهواء يتبين من خلالها أن الأصل في مناهج السلف الحق والصواب ، وأن الأخطاء والمخالفات التي تخرج عن ذلك ؛ فهي زلات ليست محسوبة على المنهج ، وكذلك العكس وهو : أن الأصل في مناهج أهل الأهواء : الابتداع والضلال والباطل ، وأن الصواب والحق والسنة استثناء .
وقد آثرت في هذه الموازنة الإيجاز والاكتفاء بالأصول العامة والمناهج دون التفاصيل ، مع العلم أن بعض المسائل الواردة في هذه الموازنة ورد الحديث عنها من خلال هذا المؤلف وغيره ، وإليك بيان ذلك :
أولاً : عرفنا أن أصول السلف أهل السنة تقوم على صحة مصادر التلقي وهي ( القرآن والسنة ) وعلى سلامة منهج الاستدلال والتقرير على نحو ما ذكرته في مبحث سابق من هذا الكتاب .(52/496)
* أما أهل البدع والأهواء فإن مناهجهم في التلقي والاستدلال وتقرير العقيدة مختلفة ومخالفة في ذلك كله ، وبيان ذلك :
1. ... أهل الأهواء لا يكتفون بالاعتماد على الكتاب والسنة ، وقد لا يعول كثير منهم عليهما في حين أنهم يعتمدون على مصادر أخرى كل حسب مشربه ، ثم هم يردون النصوص التي تخالف أصولهم المبتدعة ، أما السلف – أهل السنة – فإن أصولهم تقوم على الكتاب والسنة أصلاً ولذلك هم يسلمون لنصوص الشرع الثابتة ، ولا يعولون على غير الوحي في الدين .
2. ... غالب أهل الأهواء تصورهم عن النبوة منحرف وكذلك اعتقادهم في الوحي وكلام الله ، فإن الكثيرين منهم يتوهمون ، أن الوحي نتاج بشري أو صادر من مخلوق ، لا أنه كلام الله و وحيه لرسله .
3. ... كثيرون من أهل الأهواء والبدع يزعمون أو يظنون أن النصوص الشرعية لا تفي بكل أمور الدين ، أما السلف فيعتقدون جازمين بكمال الدين ووفائه بكل متطلبات البشر في الدين والدنيا .
4. ... من سمات أهل الأهواء تركهم للسنة والآثار إذا لم توافق هواهم ، وزعمهم الاكتفاء بالقرآن ، أما أهل السنة فيعتمدون على الكتاب ، والسنة والآثار الصحيحة ، ولذا صاروا هم أهل السنة على الحقيقة . أهل الأهواء لا يتورعون عن الطعن في خبر الآحاد وإن ثبت سنده ، وبذلك يردون الكثير من الدين ، أما أهل السنة – السلف الصالح – فهم يقبلون كل ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم وإن كان آحاداً .
5. ... أهل الأهواء يدعون أن نصوص الصفات والغيبيات ونحوها من المتشابه ، وكثيرون منهم يزعمون أن مناهجهم وقواعدهم العقلية هي المحكمة ، وما يعارضها من الأدلة الشرعية هو المتشابه ، وقد قال الله فيهم : { .... فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } (آل عمران: من الآية7)
6. ... أما أهل السنة فيؤمنون بأن كل نصوص الصفات والعقيدة والغيبيات من المحكم ، وأنه حق على مراد الله تعالى ، وإنما التشابه يكون في فهوم الناس وعقولهم القاصرة ، وخوضهم في الكيفيات التي لا يعلمها إلا الله سبحانه .
7. ... كثيرون من أهل الأهواء يزعمون أن الأدلة الشرعية ظنية وأن معقولاتهم وأوهامهم قطعية ، ولذلك نجدهم كثيراً ما يستعملون الأقيسة العقلية في صفات الله والقدر والغيبيات الأخرى ، وسائر أصول العقيدة ، أما السلف فيؤمنون بأن الأدلة قطعية ، وإن خفيت دلالات بعضها وتأويلاتها على العقول فإن ذلك راجح إلى قصور العقول .
8. ... غالب أهل الأهواء والبدع يعتمدون على التأويل والتعطيل والمجاز في صفات الله تعالى وسائر العقيدة ، أما السلف فيمنعون التأويل والمجاز في الصفات والعقيدة ؛ لأنه رجم بالغيب ، وقول على الله بغير علم ، واستسلام للأوهام والظنون .
9. ... أكثر أهل الأهواء يعتمدون في كثير من المسائل على الكذب والوضع وما لا أصل له في الدين ، أما السلف فلا يعتمدون في الدين إلا على الصحيح ، ويردون الأحاديث المكذوبة والموضوعة ، وهم أهل الشأن في ذلك كما بينت .
10. ... أكثر أهل الأهواء والبدع يعظمون طريق الفلاسفة في تقرير الدين ، والحكم على الغيبيات ، وطريقة الفلاسفة تقوم على تجهيل الأنبياء ، ومعارضة ما جاؤوا به من الحق والهدى وعلى التخرصات ، والخيالات والأوهام ، ومحارات العقول كما قال الله عنهم وأمثالهم :{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } (الذريات:10-11) .
11. ... ولذا نجدهم ( أعني أهل الأهواء ) يعتمدون في تقرير العقيدة على أصول الفاسدة ، وقد يذكرون الدليل الشرعي للاعتضاد لا للاعتماد , أما السلف فإنما يقررون الدين بالأدلة الشرعية وقواعد الشرع ، ويوردون الأدلة الشرعية الثابتة للاعتماد لا للاعتضاد ، وقد يوردون الدليل الضعيف للاعتضاد لا للاعتماد .
12. ... أهل الأهواء والبدع يستدركون على الشرع ولذلك يلزمهم في طريقتهم في تقرير الدين – بالتأويلات والعقليات والمحدثات – أن رسول صلى الله عليه وسلم عدل عن بيان الحق للناس ليجتهدوا في التأويل ، والإحداث في الدين ، أما أهل السنة – السلف الصالح – فيعتقدون أن : (( كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) 46.
13. ... أهل الأهواء والبدع من منهجهم في الاستدلال وضع الدليل في غير ما يدل عليه ، أما أهل السنة فيراعون قواعد الاستدلال ووضع الأدلة في مواضعها على أصول علمية سليمة .
14. ... كثير من أهل الأهواء والبدع يعلنون كراهيتهم لنصوص الصفات والتوحيد ، ويطعنون في أسانيدها ورواتها من الأئمة وفي متونها ، على غير قاعدة شرعية ؛ ولذلك قد يسمون أصولهم الباطلة أصول الدين والتوحيد ، وهذا بخلاف مذهب السلف الذي يقوم على التسليم والرضى واليقين .
15. ... ومن أصول أهل الأهواء في الاستدلال : قياس الغائب على الشاهد ، إذ يقيسون صفات الله تعالى والأمور الغيبية على المخلوقات والأمور الحسية المشاهدة ، وقد سلمت عقائد السلف ومناهجهم من هذه التوهمات والأقيسة المنافية للإيمان بالغيب .
16. ... من أصول أهل الأهواء عدم عنايتهم بالرواية والأسانيد ، وجهلهم بذلك وبقدر هذا المنهج العلمي الأصيل في حفظ الدين . أما السلف فهم أهل هذه الصنعة التي حفظ الله بها السنة .
17. ... وكذلك من سمات أهل الأهواء أحياناً جهلهم باللغة ، أو تجاهلهم وعدم اعتبارها إلا فيما يخدم أهواءهم وبدعهم ، أما أهل السنة فيعنون بعلوم اللغة ويعتمدونها في تفسير النصوص على المنهج الشرعي السليم .
ثانياً : من أصول أهل السنة والجماعة تحقيق التوحيد وصفاؤه وسلامة المنهج في تقريره ، ومن أصول الأهواء والبدع ، انحرافهم في مفهوم التوحيد وتقريره ، ومن ذلك :
1. ... أن حقيقة التوحيد عندهم تنتهي بالتعطيل ، أي انكار أسماء الله وصفاته وأفعاله أو بعضها .
2. ... وأن تعريف التوحيد عند أهل الأهواء ينتهي بالإقرار بالربوبية ، وليس لهم اهتمام بتوحيد العباد الذي هو الغاية من إرسال الرسل .
3. ... ووقوعهم في تقرير التوحيد فيما نهى الله عنه من التخرصات والأوهام ، والخوض في المتشابهات ، والمراء والجدال فيما ليس لهم به علم ، والخوض بالغيب والقول على الله بغير علم .
4. ... وكذلك تباينت مفاهيمهم وتعددت مناهجهم في تقرير التوحيد وإثباته .
ثالثاً : أصول أهل السنة والجماعة تقوم على العلم وقواعد الدين المستمدة من الوحي المعصوم ،القرآن وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما أهل الأهواء والافتراق والبدع ، إن أصولهم تقوم على الجهل بنصوص الدين وقواعده ، ومن ذلك :
1. ... جهلهم بما دل عليه الكتاب والسنة وآثار السلف وعدم رسوخهم في العلم .
2. ... وقد نتج عن جهلهم : سوء الأدب مع الله تعالى والخوض في أسمائه وصفاته بغير علم .
3. ... وكذلك ، تجهيلهم للسلف ، وزعمهم أن طريقة الخلف أعلم وأحكم من طريقة السلف .
4. ... وحصرهم الحق في أنفسهم وتجاهلهم لأهل السنة والسلف الصالح ، فلا يعرفون لهم فضلهم وقدرهم بل بالعكس .
5. ... ومن جهلهم أنهم قد ينسبون أقوالهم للسلف فيما يناقض مذهب السلف أصلاً ، كالتفويض والتأويل والإرجاء والجبر والتكفير والنصب ... ونحو ذلك .(52/496)
رابعاً : منهج أهل السنة يقوم على الحق البين ، والمنهاج الشرعي الواضح ، والصراط المستقيم المستمد من الوحي المعصوم ، أما مناهج كثير من أهل الأهواء فإنما تقوم على التلبيس ومن ذلك :
1. ... دعواهم أنهم هم أهل الحق والتوحيد والعدل والاستقامة والسنة .
2. ... ومن التلبيس والجهل لدى أهل الأهواء : جعلهم السنة بدعة والبدعة سنة .
3. ... ومن تلبيسهم إلحاق البدع المحدثة بالعمل المشروع .
4. ... ومن تلبيسهم قلب الحقائق والتلاعب بالألفاظ .
5. ... ومن تلبيسات أهل الأهواء استعمال الألفاظ المجملة والمحتملة لتفادي مصادمة النصوص ( ظاهراً ) ؛ لأن ذلك أدعى لرواج مذاهبهم الباطلة .
6. ... ومن التلبيس زعمهم أن مذهب السلف في إثبات الصفات ( تشبيهٌ ) ووصفهم للسلف بأنهم ( مكفرّة وسبَّابة وجبرية ونواصب ) وأنواع أخرى من الأوصاف والألقاب الشائنة تلبيساً وتمويهاً ، وقد أشرت إلى هذا في أكثر من موضع في هذا البحث .
خامساً : كما يتسم منهج السلف بالاتفاق والإحكام والثبات واليقين ، تتسم مناهج أهل الأهواء بالتناقض والاضطراب والتلوّن والحيرة ، ومن ذلك :
1. ... تناقض أهل الأهواء والافتراق واضطرابهم في جميع الأصول والمناهج والمسائل والاستدلال والتقرير ومن تناقضهم خلطهم بين السنن وبين المحدثات والبدع والجمع بين المتناقضات في الاعتقادات . بخلاف ما كان عليه السلف أهل السنة – بحمد الله – من الاتفاق ووحدة الأصول والمنهج ، ولذلك ليس عند أهل الأهواء قطعيات ولا يقين في حقيقة الأمر .
2. ... أصولهم وقواعدهم التي يعولون عليها يختلفون فيها ويناقضونها .
3. ... ولذلك يلاحظ أن من سمات أهل الأهواء التنقل بين المذاهب ، والتحول في الآراء ، وعدم الاستقرار على رأي .
4. ... وكذلك من سمات أهل الأهواء كثرة وقوعهم في الحيرة والشك والاضطراب في تقرير مقالاتهم الفاسدة .
5. ... ومن ذلك ما نجده من الاضطراب والتناقض في مواقفهم من الدين ومن السلف .
6. ... وكذلك إعلان إفلاس كثير منهم في العقيدة واعترافهم بذلك في نهاية الأمر .
7. ... الانحرافات والضلالات عند أهل الأهواء أنواع شتى ( ولكل منهم وجهة ) ولذلك نجد كلاً منهم يقول عن الآخر إنه ليس على شيء ، لكنهم قد يجتمعون على عداء السنة وأهلها ، وقد سلم السلف ومنهجهم من هذا الاضطراب – بحمد الله – لأنهم على صراط الله المستقيم .
سادساً : من سمات أهل السنة الولاء للمؤمنين وحب الصالحين ، وتعظيم قدر الصحابة والعلماء أئمة الدين ، ومن سمات أهل الأهواء الغِلُّ على أهل السنة ، وسبّ السلف ولمزِهم ، ومن ذلك :
1. ... طعنهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعضهم ولمزِهم للسلف ( أهل الحديث والسنة ) وتعييرهم وسبهم وبغضهم ( أو بعضهم ) ومن ذلك تسميتهم أهل السنة ( حنابلة ) أو ( وهابية ) ونحو ذلك .
2. ... جفاؤهم للحديث والإسناد وأهله غالباً .
3. ... كذبهم وتقوُّلهم على الأئمة العلماء .
سابعاً : يتسم كثر من أهل الأهواء بمواقفهم العدائي مع المخالفين ، ومن ذلك :
1. ... مواقفهم مع المخالفين إجمالاً تتسم بالغرور والتعالي ، والاستهانة بالرأي المخالف وصاحبه والتضييق ظلماً وعدواناً ، والإلزام بالباطل بغير بينات ، ولذلك نجد غالبهم يتنكرون للسنة ويضيقون على أهلها .
2. ... يبتدعون البدعة ويكفرون مخالفها ، أو على النقيض من ذلك ، فبعضهم لا يفرق بين السنة والبدعة ، ولا بين الإيمان والكفر . أما أهل السنة فهم – بحمد الله – أهل إنصاف وتواضع وإشفاق ورحمة ، ولا يكفرون المخالفة لمجرد كونه مخالفاً إلا بدليل .
ثامناً : من أصول أهل الأهواء والافتراق :
الخروج على أئمة المسلمين وجماعتهم ، واستحلال السيف ، وهذا منهج غالب فيهم ، ومن سماتهم العامة ، فهم لا يرون للسلطان طاعة ، ولا يأخذون بوصية النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على الظلم والجور والأثرة من الوالي المسلم ، ولذلك كان بعض السلف يسمي كل أهل الأهواء ( خوارج )
تاسعاً : من سمات أهل الأهواء :
الإصرار على بدعهم ( إلا النادر ) فلا يهتدون إلى الحق والسنة ولا يوفَّقون للتوبة ؛ وذلك بسبب إصرارهم على البدع . والله أعلم ، فهم ممن قال الله فيهم { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف:103-104)
عاشراً : من سمات أهل الأهواء :
كثرة الكلام فيما لا يعنيهم ، وما ليس من اختصاصهم لا سيما في أمور الدين والعقيدة ، والإكثار من حشو الكلاميات ومن الكتب والمصنفات والردود ؛ ولذلك اتسمت كتبهم ومصنفاتهم وأعمالهم بقلة البركة وقلة الفائدة .
حادي عشر : من سمات أهل الأهواء :
حرصهم على نشر البدعة ، وقوة تأثيرهم فيمن يخالطهم ، ولذلك تكثر استمالتهم للعامة والغوغاء والدهماء ، وأصحاب المطامع وعشاق الشهرة ، وقد تستجيب لهم هذه الفئات بسرعة عند الفتن ، وعند غربة السنة وأهلها .
ثاني عشر : من سمات أهل الأهواء :
التعالم والغرور ، فمن تعالمهم : زعمهم أنهم أعرف من العلماء الراسخين في الدين ، أو مثلهم ، وأنهم جديرون بالقول والحكم والاجتهاد مع قلة علمهم وجهلهم بالنصوص وقواعد الاستدلال وأصول الاجتهاد ، بل إن غالبهم في الحقيقة من أصحاب الجهل المركب ، ومن غرورهم وخذلانهم ظنهم أنهم ينصرون الإسلام بمناهجهم الضالة ومقالاتهم المبتدعة .
ثالث عشر : من سمات أهل الأهواء :
وقوعهم بين الغلو والتقصير ، فكلُّ أهل الأهواء خارجون عن منهج الاعتدال ، فمنهم فرق اتسمت بالغلو والتنطع ، كالخوارج والشيعة وبعض المعتزلة ، وأخرى اتسمت بالتقصير ، كالمرجئة والجهمية ، وثالثة جمعت بين الغلو والتقصير كالصوفية وأكثر المعتزلة .
رابع عشر : ومن سمات أهل الأهواء كذلك :
1. ... استحواذ الشياطين والجن على طوائف منهم .
2. ... الجرأة على الله ورسوله وعلى الدين وعلى عبادة الله الصالحين . ومن هنا نجد أصولهم كلها مخترعة مبتدعة ليس لهم فيها قدوة من أعلام الهدى الأئمة الأعلام ؛ ولذا وقعوا في تقرير قواعد فاسدة والقول بلوازمها .
3. ... القعود عن الجهاد وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبعضهم يعبر عن الجهاد بأنه ( قسوة وعنف ) والنهي عن المنكر بأنه ( حَجْرٌ وتقييد للحريات ) .
4. ... يكتبون ما لهم ويعلنون ويكتمون ما عليهم ويتجاهلون .
5. ... التكلف والتعمق واتباع الصعاب والمحارات والمعضلات التي ما أنزل الله بها من سلطان .
6. ... اعتقادهم ما تتوهمه عقولهم ، فإن أصولهم واعتقاداتهم ناتجة عن التوهمات والخيالات والتخرصات فهم على منهج الذين قال الله فيهم : {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ) (الذريات:10-11)
7. ... تستهويهم العقليات والفلسفات ويزينها لهم الشيطان ، وقد نتج عن تعويلهم على ذلك زعمهم أن العقيدة ( عقيدة السلف ) مما لا يقل ، وتوهم المعارضة بين العقل والشرع .
8. ... ومن أبرز سمات أهل الأهواء والبدع : مضاهاتهم للشرع ، وتدرجهم في مناهج الباطل ، واتسامهم بالذلة والصغار .
9. ... المتأمل لحال أهل البدع والأهواء يجد أنه ليس في أئمتهم من تجمع الأمة على أنه إمام هدى ، لكنهم قد ينتحلون بعض أئمة الدين تلبيساً .
10. ... شؤمهم على الأمة وإسهامهم في نكباتهم وفرقتها وهوانها وتسلط أعدائها .
الخلاصة :
إن مناهج أهل السنة والسلف الصالح تقوم على السنة والجماعة والاتباع كما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ومناهج أهل الأهواء تقوم على البدع والفرقة والابتداع واتباع السُّبُل .
السنة تجمع المسلمين ، والبدع والأهواء تفرقهم
السنة والاستقامة تعني الجماعة والعزة والتمكين وعكسها البدعة والإعراض عن شرع الله فإن ذلك يعني بالضرورة ( بالنسبة للمسلمين ) : الفرقة والذلة والهزيمة ( والنكسات والنكبات ) .
ولكن أهل الأهواء والمنافقين – قديماً وحديثاً – عكسوا القاعدة – كعادتهم - ، فزعموا أن التزام السنة ومحاربة البدع ، والإنكار على أهل البدع والأهواء سببٌ رئيس ( في النكسات التي أصابت الأمة ) وهذا من التلبيس والجهل فإن العكس هو الصحيح ، فإن المتأمل لأحوال المسلمين قديماً وحديثاً يجد أن من أعظم سمات أهل الأهواء والبدع والافتراق شؤمهم على المسلمين في كل زمان وحيثما كانوا .
ويكفيك أن تنتقل بذهنك إلى أحداث التاريخ المشهورة والتي ألحقت بالمسلمين الذلة والفرقة والتشتت تجدها من أهل الأهواء ، وأمثلة ذلك :
أول فتنة فرقت الأمة فتنة السبئية ، وقد أدت إلى قتل خليفة المسلمين الراشد عثمان – رضي الله عنه – ثم تمخضت عن افتراق الخوارج والشيعة ، عن جماعة المسلمين وإمامهم .
ولما ظهرت القدرية والمعتزلة والجهمية أفسدت عقائد طوائف من الأمة ، وأوقعتها في الأهواء والفرقة والخصومات والمراء في الدين والفتنة في العقائد .
ولما تمكنت المعتزلة في الدولة ألزمت الأمة بالقول بالكفر ( خَلْق القرآن ) وامتحنت العلماء وعرضتهم للسيف والسجن والإهانة ، والقول بخلاف الحق .
ولما تمكنت دويلات الرافضة والباطنية كالبويهية والعبيدية والقرامطة ، قمعت السنة وأهل الحديث وأظهرت البدع والإلحاد والزندقة والكفر وتسلط أوباش الباطنية على رقاب المسلمين ، واعتدوا على المقدسات وقتلوا الحُجاج وأخذوا الحجر الأسود ، وعاثوا في الأرض فساداً ، وأباحوا المحرمات ، ومكَّنوا للنصارى من دخول ديار المسلمين .
ولما تمكن بعض الرافضة من الوزارة في آخر عهد الدولة العباسية والدويلات التي تلتها خانوا الأمة وأدخلوا التتار والنصارى ديار المسلمين ومكنوهم فيها .
ولما تمكنت الطرق الصوفية وأهل البدع من الدولة العثمانية في آخر عهدها ضعفت الأمة وذلت وعلقت أقدارها بغير الله ، وتعلقت بالأضرحة والبدع والغلو في الشيوخ وتقليدهم بلا بصيرة ، فأصابها الذل والتشتت وسلط الله عليها الأعداء فمزقوها وفرقوا شملها .
ولا تزال الفرق والطرق الصوفية ببدعها ومحدثاتها من أعظم أسباب وهن الأمة وانحطاطها ، ناهيك عن هيمنة الرافضة والباطنية وأهل الأهواء والبدع والعلمنة والإلحاد والإعراض عن دين الله وشرعه .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية بعض الآثار السلبية من جراء تأثير أهل الأهواء وتمكينهم . من ذلك :
شؤم الجعد بن درهم على دولة بني أمية ومروان بن محمد :
قال : (( وقد قيل : إن أول من عرف أنه أظهر في الإسلام التعطيل الذي تضمنه قول فرعون ، هو الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري ، وقال : أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، إني مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ، ولم يكلم موسى تكليماً تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً . ثم نزل فذبحه ، وشكر له علماء المسلمين ما فعله ، كالحسن البصري وغيره .
وهذا الجعد إليه ينسب مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية ، وكان شؤمه عاد عليه حتى زالت الدولة فإنه إذا ظهرت البدع التي تخالف دين الرسل انتقم الله ممن خالف الرسل ، وانتصر لهم )) 47
وعن أثر الباطنية في إظهار الزندقة والرفض والإلحاد وشيوع البدع والطرق .
قال : (( ولهذا لما ظهرت الملاحدة الباطنية وملكوا الشام وغيرها ظهر فيها النفاق والزندقة الذي هو باطن أمرهم وهو حقيقة قول فرعون ( إنكار الصانع وإنكار عبادته ) وخيار ما كانوا يتظاهرن به الرفض ، فكان خيارهم وأقربهم إلى الإسلام الرافضة ، وظهر بسببهم الرفض والإلحاد ، حتى كان من كان ينزل الشام مثل بني حمدان الغلية ونحوهم متشيعين ؛ وكذلك من كان من بني بويه في المشرق ))48
أثر ابن سينا وأهل بيته ( الباطنية الإسماعيلية ) وشؤمهم على الدولة العباسية :
قال : (( وكان ابن سينا وأهل بيته من أهل دعوتهم قال : وبسبب ذلك اشتغلت في الفلسفة ، وكان مبدأ ظهورهم من حين تولى المقتدر ، ولم يكن بلغ بعد ، وهو مبدأ انحلال الدولة العباسية ؛ ولهدا سمي حينئذ بأمير المؤمنين الأموي الذي كان بالأندلس ، وكان قبل ذلك لا يسمى بهذا الاسم ،ويقول : لا يكون للمسلمين خليفتان ، فلما ولي المقتدر قال هذا صبي لا تصح ولايته فسمي بهذا الاسم ))49
وقال : (( وكان بنو عبيد الله القداح الملاحدة يسمون بهذا الاسم ، ولكن هؤلاء كانوا في الباطن ملاحدة زنادقة منافقين ، وكان نسبهم باطلاً كدينهم ؛ بخلاف الأموي والعباسي ، فإن كليهما نسبة صحيح ، وهم مسلمون كأمثالهم من خلفاء المسلمين ))50
ولما ظهرت البدع والنفاق والفجور سلط الله على المسلمين أعداءهم :
قال : (( فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول صلى الله عليه وسلم سلطت عليهم الأعداء ، فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة ، وأخذوا الثغور الشامية شيئاً بعد شيء ، إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة ، وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق ، وكان أهل الشام بأسوأ حال بين الكفار النصارى والمنافقين الملاحدة ؛ إلى أن تولى نور الدين الشهيد ، وقام بما قام به من أمر الإسلام وإظهاره والجهاد لأعدائه ، ثم استنجد به ملوك مصر من بني عبيد أخذها صلاح الدين يوسف بن سادي وخطب بها لبني العباس ، فمن حينئذ ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائة سنة )) 51 .
قال : (( فكان الإيمان بالرسول والجهاد عن دينه سبباً لخير الدنيا والآخرة ، وبالعكس البدع والإلحاد ومخالفة ما جاء به سبب لشر الدنيا والآخرة )) 52
وقال : (( فلما ظهر في الشام ومصر والجزيرة الإلحاد والبدع سلط عليهم الكفار ، ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام وقهر الملحدين والمبتدعين نصرهم الله على الكفار ؛ تحقيقاً لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (الصف: 10- 13)
وكذلك لما كان أهل المشرق قائمين بالإسلام مظهرين للسنة كانوا منصورين على الكفار المشركين من الترك والهند والصين وغيرهم ، فلما ظهر منهم ما ظهر من البدع والأهواء والفرقة والإلحاد والفجور سلط عليهم الكفار ، قال تعالى : { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً (4)فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً(5)ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً}53 (الاسراء:4-8) .(52/496)
وهكذا نجد ظهور البدع والزندقة والإلحاد على أيدي أهل البدع والأهواء والفرق سبب لدخول التتار بلاد المسلمين :
قال شيخ الإسلام :
(( وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع ، حتى إنه صنف الرازي كتاباً في عبادة الكواكب والأصنام وعمل السحر ، سماه ( السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم ) ويقال : إنه صنفه لأم السلطان علاء الدين محمد بن لكش بن جلال الدين خوارزم شاه ، وكان من أعظم ملوك الأرض ، وكان للرازي به اتصال قوي ، حتى أنه وصى إليه على أولاده ، وصنف له كتاباً سماه ( الرسالة العلائية في الاختيارات السماوية ) 54))
ثم ذكر شيخ الإسلام أثر الجهمية والمعتزلة في فتنة القول بخلق القرآن وامتحان العلماء :
قال : (( ثم لما ولي الخلافة ( يعني المأمون) اجتمع بكثير من هؤلاء – يعني الجهمية والمعتزلة - .. ودعا إلى قولهم في آخر عمره ، وكتب – وهو بالثغر بطرسوس التي ببلد سيس – إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب كتاباً يدعو الناس فيه إلى أن يقولوا : القرآن مخلوق ، فلم يجبه أحد ، ثم كتب كتاباً ثانياً يأمر فيه بتقييد من لم يجبه وإرساله إليه فأجاب أكثرهم ، ثم قيدوا سبعة لم يجيبوا فأجاب منهم خمسة بعد القيد ، وبقي اثنان لم يجيبا : الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح ؛ فأرسلوهما إليه فمات قبل أن يصلا إليه ، ثم أوصى إليه أخوه أبو إسحاق ، وكان هذا سنة ثماني عشرة ومائتين ، وبقي أحمد في الحبس إلى سنة عشرين فجرى ما جرى من المناظرة حتى قطعهم بالحجة ، ثم لما خافوا الفتنة ضربوه وأطلقوه.
وظهر مذهب النفاة الجهمية وامتحنوا الناس فصار من أجابهم أعطوه وإلا منعوه العطاء وعزلوه من الولايات ، ولم يقبلوا شهادته ، وكانوا إذا افتكوا الأسرى يمتحنون الأسير ، فإن أجابهم افتدوه وإلا لم يفتدوه .
وكتب قاضيهم أحمد بن أبي داود على ستارة الكعبة : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ العزيز الحكيم } لم يكتب{وهو السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } .
ثم ولي الواثق واشتد الأمر إلى أن ولي المتوكل فرفع المحنة وظهرت حينئذ السنة ))55
قلت : لو كان شيخ الإسلام حياً لرأى مصداق قوله في واقع المسلمين في كثير من بلاد المسلمين في الوقت الراهن تحت هيمنة أهل الأهواء والبدع العلمانية ، والأقليات الباطنية ، والرافضية ، والصوفية ، والمقابرية ، والله المستعان .
بينما البلاد التي تسود فيها السنة لا تزال – بحمد الله – قوية عزيزة وشعائر الدين فيها ظاهرة ، والسنة منصورة كما هو الحال في المملكة العربية السعودية ، ولذلك ضاق أهلُ الأهواء ذرعاً بذلك ، وبالمقابل نجد أنه كلما عاد المسلمون أو بعضهم إلى السنة أعزهم الله ومكنهم ورفع عنهم الذلة والهوان ، كما حصل في عهد صلاح الدين حينما نصر السنة وطهر الأرض من رجس الرافضة العبيدية ( الفاطمية ) وغيرهم من دويلات أهل البدع التي فرقت المسلمين ، ثم لما قامت الدولة العثمانية في أول عهدها على نصر السنة – نسبياً – تمكنت وجمعت شمل المسلمين ، إلى أن دب فيها مرض التصوف والبدع فهانت وذلت ، ثم لما قامت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب والدولة السعودية على نصر السنة وقمع البدع والمحدثات أعزها الله ومكنها ، واجتمعت كلمة المسلمين في هذه البلاد عليها ، وقويت السنة وأهلها ، و انخذلت البدعة وأهلها بحمد الله .
وهذا هو الحق لمن وفقه الله وهداه ، وما عداه فهو الباطل الذي سيذهب جفاء بحول الله وقوته ، نسأل الله الهداية والتوفيق ، ونعوذ بالله من الضلالة والخذلان وحسبنا الله ونعم الوكيل .
الأهواء والبدع ومصنفاتها هي سبب تفرق المسلمين
زعموا أن كتب العقائد هي سبب تفرق المسلمين ، وأنها سبب لنكسات المسلمين التاريخية .
وهذا من جانب حق ، وهو أن افتراق المسلمين وخروج طوائف منهم عن نهج السنة والجماعة سبب للفرقة ، والفرقة سبب للهزائم والنكسات ، وهذا معلوم من الدين بالضرورة وقد أخبر الله عنه وحذر منه : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(46)وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(47)وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(لأنفال:46-48) .
وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم وحذر منه 56.
لكن الذم إنما يكون للمفارق ، وهم أهل الأهواء والسبل ، لا للمتمسك بالحق والسنة وهم السلف الصالح أهل السنة الذين أخذوا بأسباب العزة والنصر والتمكين وهو الاعتصام بحبل الله .
أما كتب العقائد الخارجة عن السنة وهي كتب أهل الأهواء فهي قد رسخت الفرقة وأسهمت في حدوث النكسات على الأمة.
بخلاف كتب السلف التي تمثل دين الله الذي يأمر بالجماعة والطاعة والجهاد وينهى عن الفرقة والخروج والقعود .
فمن الذي أشغل الأمة بالكلاميات ، والفلسفات والمجادلات ، والكلام الفارغ ، وحشا المؤلفات بالمغالطات والشبهات والأوهام ؟ فالحق إنما احتوت عليه مضامين كتب السلف ، وذلك من أسباب العزة والنصر .
والباطل إنما احتوت عليه مضامين كتب أهل الأهواء وذلك من أسباب الذل والهوان .
مصطلح العقيدة ليس بدعياً
زعموا أن مصطلح ( العقيدة ) بدعي :
ومعلوم أن المصطلحات لا مشاحة فيها ، أن مصطلح العقيدة مصطلح صحيح أصبح له مفهوم عند العلماء والباحثين قديماً وحديثاً ، وليس هنا ما يمنع من إطلاقه في اللغة والشرع ودعوى أنه بدعة جهل بأصول البدعة وضوابطها .
لأنه من مصطلحات العلوم : كالتفسير ، والحديث وعلومهما ، والفقه ، وأصول الفقه ، والأدب ... إلخ فإن غالبها مصطلحات استحدثت للدلالة على مضامينها ، فهي من باب الوسائل والأساليب الاجتهادية ، والتقسيمات العلمية ، ولا تدخل في ضابط البدعة ، لأن البدعة إنما تكون في الدين لا في الوسائل والمصطلحات ، والعبرة بالمضامين لا بالمصطلحات .
ولذلك كان السلف يطلقون على أصول الدين : الإيمان ، والإسلام ، والدين ، والسنة ، والأثر ، والعقيدة وقد اتفقت الأمة على صحة هذه المصطلحات وليس فيها ما يُشْكل فبعضها شرعي المنشأ ، وبعضها اصطلح عليه في الشرع ما ينفيه ، لأنه ليس على قاعدة البدع ومن ذلك مصطلح العقيدة ... والله أعلم .
والعبرة بالمضامين ، وعلى أقل الأحوال هو من المختلف فيه ، ولو ثبت شرعاً أنه بدعي تركناه !
كما أن مصطلح العقيدة كان معروفاً في القرون الفاضلة وبُعيدها ، وقد نشأ مواكباً لنشأة العلوم الشرعية الأخرى المستمدة من الكتاب والسنة ؛ كالتفسير وعلوم القرآن وعلوم الحديث فقد ورد استعمال هذا الاصطلاح من قبل جماعة من الأئمة الأعلام كأبي ثور وأبي حاتم وأبي زرعة وابن جرير الطبري 57
الفرق الضالة امتداد للأمم الهالكة
إن تشبه الفرق الضالة بالأمم الهالكة واتباعها لها هو الحق ، فقد ذكر المحققون من أهل السنة وغيرهم ، أن كثيراً من الفرق والأهواء والبدع التي ظهرت بين المسلمين ، وخرجت عن السنة والجماعة ، إنما هي امتداد للفرق والديانات الضالة القديمة التي كانت قبل الإسلام وبعده .
وهذه حقيقة قطعية ذكرها الله تعالى وأخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى : { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } (التوبة:69)
فقد ذكر العلماء أن قوله تعالى : { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } في بيان أن هذه الأمة ستكون منها طوائف تخوض في الشبهات والبدع كما خاض الأولون من قبلهم من ضُلاّل الأمم 58، وقال سبحانه : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ( 118) )إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود:118-119)، فالناجون من الاختلاف هم الذين استثناهم الله تعالى ، والأكثرون على الفرقة والخلاف ، وقال سبحانه : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (آل عمران:106) .
قال ابن عباس – رضي الله عنه – يوم تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسودّ وجوه أهل البدعة والفرقة 59.
وقال سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام:159) فالله تعالى إنما برأ رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر لابد حاصل وقد وقع وإلا لكان مما لا فائدة في ذكره ... تعالى الله عن ذلك .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طوائف من هذه الأمة ستتبع سنن الأمم الضالة السابقة فقال صلى الله عليه وسلم : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً ، وذراعاً ذراعا حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال فمن ؟ )) 60
وقال صلى الله عليه وسلم : (( لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، فقيل : يا رسول كفارس والروم ؟ فقال : ومن الناس إلا أولئك ؟ ))61 ، وقال صلى الله عليه وسلم (( ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل ... ))62 الحديث .
كما أن تلقي الفرق الضالة ، المفارقة للسنة والجماعة عن الأمم والنحل والملل الأخرى حاصل بخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بهذه النصوص القاطعة ، كذلك هو معلوم بالاستقراء والتتبع ، وبمقارنة العقائد والمقالات ، فكثير من أصول الشيعة الرافضة امتداد لمقالات الفرس المجوس .
وأصول القدرية النفاة هي امتداد لمذاهب المجوس وبعض الصابئة وبعض فرق النصارى كذلك .
وأصول الجهمية امتداد لمذاهب الفلاسفة وغيرهم .
والمرجئة امتداد لمذاهب ومقالات كانت لبعض النصارى , والصابئة وبعض الديانات الهندية وغيرها .
والباطنية امتداد للزنادقة والملاحدة والفلاسفة في سائر الأمم الهالكة .
والصوفية امتداد للديانات الهندية ولكثير من الديانات والمذاهب والفرق في الأمم الهالكة .
وهكذا كثير من الفرق نجد أنها إما أن تكون امتداداً مباشراً للديانات والفرق القائمة في الأمم الهالكة أو تأثرت بها وهذا أمر مستفيض عند كُتَّاب المقالات والباحثين وأصحاب هذه المذاهب نفسها ، كيف لا وقد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن أهل الأهواء يكابرون ولا يفقهون .
وكما ثبت بالنص والواقع المشهود والاستقراء الكامل أن أهل الأهواء والبدع والافتراق امتداد – كلياً أو جزئياً – للملل والنحل الباطلة ، فكذلك ثبت بالنصوص القاطعة والواقع الملموس المشهود ، والاستقراء الكامل : أنه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة :(( لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ، ولا من عاداهم إلى قيام الساعة )) ، وهم السلف الصالح أهل السنة والجماعة . كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم .
أخطاء وزلات بعض المنتسبين
إلى أهل السنة والجماعة ليست من منهجهم
قد يحدث من بعض أهل السنة والمنتسبين إليهم من العلماء والعامة أخطاء وزلات عقدية وغيرها ، وهذا من طبع البشر فليس معصوماً إلا رسول صلى الله عليه وسلم .
وهذه الأخطاء والزلات ليست محسوبة على المنهج الشرعي ، منهج أهل السنة والجماعة ، والسلف الصالح .
وقد زعم بعض المفتونين من المعاصرين ، أن أهل السنة والجماعة – السلف الصالح وقد يسميهم ( الحنابلة ) – يقوم منهجهم على أمور ، هم على خلافها كالنصب والجبر والتكفير والغلو والتعصب ، والاعتماد على الموضوعات والضعف من المرويات ، والأهواء ، وعدم الفهم ، وردود الأفعال ، والاستعداء ضد المخالف ، وإرهابه ، ونحو ذلك مما زعمه بعض الموتورين وأهل الأهواء – قديماً وحديثاً – والمنصف يدرك بداهة أن هذا من الجهل أو التحامل والهوى .
فإن أفراد أهل السنة والجماعة ( من عامة ، وعلماء وولاة ) قد يحدث من أحدهم أخطاء ومظالم وتجاوزات وبدع وزلات ، وقد يكون ذلك عن هوى ، أو اجتهاد خاطئ أو زلل ، أو تأويل سائغ ، أو غير سائغ من بعض من يحدث منهم ذلك .
لكن من المعلوم بالضرورة أنه ليس على ذلك منهجهم وعقيدتهم ، وليس كلهم على ذلك بل العكس ، فهم لا يجيزون ذلك ، و لا يقرون الخطأ والزلة ولا يتابعون المخطئ ، ولا يقتدون به في زلته .
فالأصل عندهم الكتاب والسنة ، ( باعتماد الدليل ليس غير ) ، والأصل في أهل السنة : الحق والعدل والخيرية والاستقامة ، وما يقع من أفرادهم من الخروج على الحق ينكرونه ولا يقرونه ، وهو قليل نادراً – بحمد الله – وهو على غير منهجهم .
وهذا بخلاف أهل الأهواء فإن مناهجهم تقوم على الابتداع والظلم والعدوان والهوى ، وقد يحدث منهم أو من بعض أفرادهم ما يوافق الحق والدليل ، لكن الحق الذي يصدر عن أهل الأهواء – غالباً – يكون ملتبساً بالباطل ، ولا ينفردون به عن أهل السنة ، بل يكون عند أهل السنة من الحق والهدى ما لا لبس فيه .(52/496)
الاحتساب على البدع وأهلها واجب شرعي وليس ظلماً
درج أهل الأهواء والبدع والافتراق على تسمية احتساب السلف الصالح على أهل الأهواء والبدع والافتراق والتحذير من بدعهم وحماية عقيدة الأمة منها :
ظلماً وعدواناً وحجراً وكتماً للحريات ، وإرهاب المخالف ، واستعداء عليه ، وكان من أبرز هذه المزاعم : دعوى أن السلف الصالح أهل السنة ظلموا الفرق 63 ، وأنهم بإنكارهم للبدع والمحدثات يفرقون المسلمين ، وقد جهل هؤلاء أو تجاهلوا أنه قد ثبت في النصوص القاطعة أن هذه الأمة – كسائر الأمم السابقة – ستفترق ، وأنه ستبقى طائفة واحدة من ثلاث وسبعين على الحق . كما قال الله تعالى : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك }َ (هود: من الآية118 - 119) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم )) 64، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من البدع والمحدثات والأهواء والافتراق ، وأخبر عن دعاة السبل وحذر منهم ، ومن دعاة الضلالة ، وأمر الله تعالى بالاعتصام بحبل الله ، ونهى عن التفرق فقال سبحانه : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } (آل عمران: من الآية103) ، وأمر صلى الله عليه وسلم بالجماعة والسنة ، ونهى عن الفرقة والبدعة ، وقد استجاب السلف الصالح – الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان - لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، وصدقوا خبره وأخذوا بوصيته ، وقاموا بواجب النصيحة في نشر السنة والنهي عن البدع والتحذير منها وحماية الأمة غوائلها واستجابوا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ))65 .
فإن البدع أعظم المنكرات بعد الشرك ، وجهود السلف في هذا الصدد مشهورة ، ومن ذلك :
• ... لما حدثت الردة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم قيض الله لها أبا بكر -رضي الله عنه- فوقف وقفته الحازمة المشهورة التي كسر الله بها موجة الردة ، وأعز الله بها الدين ، وأيده على ذلك الصحابة بإجماع وناصروه .
• ... ولما ظهرت بعض بذور البدع في عهد عمر – رضي الله عنه - : كالكلام في القدر ، والاحتجاج على المعاصي ومتشابه الآيات ، فأقام عمر معوجها بدرته المشهورة فأدب صبيغاً لخوضه في الآيات المتشابهات 66، وأدب الأمة كلها عندها هدد النصراني القدري – بطريريك الشام – حينما زعم أن الله لا يضل من يشاء ، كما أدب عمر – رضي الله عنه – الأمة كلها كذلك بقطع شجرة الحديبية لقطع دابر البدع 67ونهى الذين كانوا يرتادون مواطن محددة للتعبد عندها مما لم يرد به الشرع 68
ونهر كعب الأحبار ، وقال له : (( لقد ضاهيت اليهودية )) حينما أشار كعب أن يصلي عمر إلى الصخرة في بيت المقدس 69
• ... وأدب على – رضي الله عنه - الشيعة الغلاة ، وحرقهم في النار حينما علم أنهم يغلون فيه ويقدسونه 70وأمر بجلد المفترية من الشيعة الذين فضلوه على أبي بكر وعمر 71.
• ... ولما ظهرت الخوارج قيض الله لها سائر الصحابة وعلى رأسهم عليّ – رضي الله عنه – وابن عباس – رضي الله عنهما – فأقاموا عليهم الحجة ، وبينوا لهم المحجة حتى رجع منهم من كان يريد الحق ، وأصر أهل الأهواء على بدعتهم . فقاتلهم الصحابة احتساباً وامتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمعاً لبدعهم ، وحذروا منهم ومن مجالستهم .
• ... ولما ظهرت القدرية في النصف الثاني من القرن الأول تصدى لها متأخروا الصحابة كعبد الله بن عمر ، وابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وواثلة بن الأسقع – رضي الله عنهم - , وكان من أشدهم على القدرية ابن عمر ، الذي حذر منها وأنذر ، وكشف عوارها , وحذر من معبد الجهني رأس القدرية وأصحابه ، ونهى عن مجالستهم ومخالطتهم والتلقي عنهم ، وكذلك ابن عباس وكذلك لما أعلن غيلان الدمشقي بدعة القول بالقدر تصدى لها التابعون وعلى رأسهم مجاهد ، والخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ، وريحانة الشام الأوزاعي ، لكنه أصر على بدعته حتى قتله هشام بن عبد الملك لبدعته ، وقد زعم أهل الأهواء أن قتله كان سياسياً ! وهذا ضرب من الحكم على القلوب والنوايا التي لا يعلمها إلا علام الغيوب سبحانه واتهام للنيات ، والعدول عن الأمر البيّن المشهور الثابت عن الثقات إلى الظنون والأوهام والمشتبهات .
• ... ثم اعتزلت المعتزلة الأولى وعلى رأسهم واصل بن عطاء ، وعمر بن عبيد ، فتصدى لهم أئمة السنة أمثال : الحسن البصري ، وأيوب السختياني ، وابن عون ، وثابت البناني ، وابن سيرين ، وحماد بن زيد ، ومالك بن أنس وأبي حنيفة ، وابن المبارك،وهكذا كلما كثرت حشود البدعة تصدت لها جحافل السنة .
• ... ولما نبغت الرافضة قيض الله لها أمثال : الشعبي والشافعي وعبد الله بن إدريس الأودي وغيرهم .
• ... ولما برز رأس الجهمية الجهم بن صفوان ، تصدى له سائر أئمة السلف : كالزهري ، ومالك ، وأبي حنيفة ، ثم عبد الله بن المبارك ، وأمثالهم .
• ... ثم لما نبغ بشر المريسي – رأس الجهمية في زمانه – تصدى له أمثال عثمان بن سعيد الدارمي ، والشافعي ، والكناني .
• ... ولما احتشدت حشود الأهواء زمن المأمون وبعده من الجهمية والمعتزلة ومن سار على نهجهم ، وعلى رأسهم ابن أبي دؤاد ، تصدى لهم إمام السنة وقامع البدعة الإمام أحمد بن حنبل ، فكسرهم كسرة لم ينهضوا بعدها إلا متعثرين بحمد الله .
• ... ولما تجمعت فلول الجهمية المعتزلة في آخر القرن الثالث ، وصالت صولتها ، قيض الله لها أبا الحسن الأشعري ، وكان الخبير بعوارها ، لأنه كان معتزليا فهداه الله للسنة ، فحشر المعتزلة في قمع السمسمة – كما قيل – وكسرهم ، فانهزموا هزيمة منكرة .
• ... ولما نبغت نابغة الكلام وريثة الجهمية والمعتزلة ، وبدأ أهل الكلام يخوضون في صفات الله تعالى والإيمان والقدر ، تصدى لهم أئمة السلف في القرنين الرابع والخامس الهجريين : كالبربهاري ، وابن خزيمة ، وابن بطة ، والهروي واللالكائي ، وابن مندة ، والملطي ، والصابوني ، والآجري وابن وضاح ، والبغوي ، وابن عبد البر ، وأمثالهم .
• ... وفي القرن : السادس والسابع والثامن الهجرية ، عمت البلوى بالبدع والأهواء والافتراق ، وهيمنة الفرق في سائر البلاد الإسلامية ، واستحكمت الصوفية ببدعها ، وساد الكلام والفلسفة والباطنية والدجل ، وتسلط الكفار على كثير من بلاد المسلمين في الشام وغيرها .
فقيض الله أمثال : الشاطبي ، وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه ( كابن القيم والذهبي وابن كثير وابن رجب ) فتصدى شيخ الإسلام لجحافل البدع وعساكر الضلالة وجاهد في كل ميدان بلسانه وقلمه ويده ، فقد تصدى لأهل الكلام ، والفلاسفة ، والباطنية ، والصوفية ، والرافضة واليهود ، والنصارى ، والصابئة
كما كان مجاهداً بعلمه ولسانه وسيفه للكفار والتتار والنصارى الصليبيين والبغاة ، وكان يشجع المسلمين على الجهاد في كل ميدان ، وله في ذلك إسهامات مشهورة مشهودة .
وكان ناصحاً لولاة المسلمين وأئمتهم ، يذكرهم ويعظهم ، ويحثهم على الجهاد ويأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر بحكمة وقوة ، كما كان ناصحاً لعامة المسلمين وعلمائهم ، وكان آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر ، هو وأتباعه يصدع بذلك ، ولا يخاف في الله لومة لائم ، حتى أبان الله به سنة ، ونصر الله به راية السلف ، وكشف الله به أهل البدع وعقائدهم ومناهجهم ، وحتى أقام الحجة ، وأبان المحجة ، ونصر الملة ، ولا تزال آثاره ومؤلفاته مرجعاً لكل صاحب سنة ، وقذى في عين كل صاحب بدعة ، وفيها فرقان بين الحق وأهله ، وبين الباطل وأهله ، رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .
- وفي العصور المتأخرة : استحكمت البدع والشركيات ، وانتشرت الطرق الصوفية والمقابرية والعادات الجاهلية حتى في جزيرة العرب . فتصدى لها ناصر السنة وقامع البدعة : الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه فطهر الله بدعوته المباركة أرض جزيرة العرب خاصة الحجاز ونجد وما حولها من البدع والشركيات والمقابرية والصوفية الضالة ، كما نفع الله بدعوته سائر أقطار المسلمين ، حيث اعتزت بها السنة وأنصارها ، وانتصرت السلفية ، واحتمت وآوت إلي ركن شديد ، حيث قامت لها وعليها دولة نشرتها وحمتها بالسيف والقلم وهي الدولة السعودية أعزها الله بالإسلام ونصر السنة وأهلها .
ولا نزال – بحمد الله – نرى ثمار هذه الدعوة في كل مكان ، رغم تكالب جحافل البدعة ، وما أجلبوه عليها بخليهم ورجلهم : بالسب ، والهمز ، واللمز ، وإعلان العداوة ، وصد الناس بشتى الوسائل ، والله غالب على أمره .
ولما نبغت نابغة ( سب السلف ) في القرن الماضي ( الرابع عشر الهجري ) على لسان الكوثرية ، معلنة انتقاص بعض أئمة السلف ، ورافعة راية الكلام والتجهم ، واتهام السلف وأتباعهم ، ورميهم بالألقاب المشينة والألفاظ المقذعة مثل : ( الحشوية ، والمشبهة ، والحمقى ، والجهلة ، والأوباش والرعاع ) قيض الله لهم أمثال : المعلمي ، والألباني ، وبكر أبو زيد ، وسائر مشايخنا حفظهم الله .
- ولما أخرجت البدع أعناقها في البلاد الطاهرة على يد أحد المنتسبين للعلوية وأتباعهم ، تصدى لها طائفة من المشايخ وطلاب العلم وفقنا الله وإياهم ، ولا يزال مشايخنا لهم جهود مشكورة في هذا المضمار ، وفقهم الله وسدد خطاهم ، والآن وقد بدأ ( نبّاشة القبور ) يثيرون المتشبهات ويشككون أبناء المسلمين بالمسلّمات ، وينهشون علماء السلف , وينبِّشون في كتبهم عن الزلات ، ويطعنون في سلف الأمة ويبكون على أطلال الفرق والبدع ، ويمجدون رؤوس الضلالة والأهواء ، ويرددون مطاعن الزنادقة في خيار الأمة ، وإنّا لمنتظرون – تحقيقاً لوعد الله بحفظ دينه – من يتصدى لهذه النابتة الخبيثة كفانا الله شرها . ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل .
ومما ينبغي التنبه له ، أن أهل الأهواء – قديماً وحديثاً – يضيقون ذرعاً بإنكار البدع والتصدي للمبتدعة ، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويجعلون ذلك – حسب موازينهم التي تقوم على الأهواء – من الظلم والشتم والسب ، والحجر ، وكتم الحريات ، والاستعداء ضد الخصوم ، والتضييق على المخالفين .
ويتهمون السلف الذين ينهون عن البدع والآثام ويحذرون منها ومن أهلها : بالتكفير والتبديع والتفسيق ونحو ذلك ، وكل ذلك من التلبيس والبهتان ، فإن هذه أحكام شرعية يطلقها المجتهدون من العلماء الثقات على من يستحقها شرعاً ، حسب اجتهادهم ، وقد يخطئ الواحد منهم ، لكن ليس ذلك من منهجهم .
ولذلك فإن أهل الأهواء يتهمون السلف بالسب والشتم واللعن ونحو ذلك من هذا المنطق ، أعني أنهم يسمون إطلاق الأحكام الشرعية من الكفر والبدعة والفسق ونحوها على من يستحقها شرعاً:شتماً ولعناً وسباً وهذا هو منهج أعداء الرسل في كل زمان.
مع العلم أن السب للكفر والشرك والبدع والأهواء والفسوق مشروع ومطلوب شرعاً بالضوابط الشرعية . وقد جاء ذلك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم كما كان يأمر بالتوحيد ، كان كذلك ينهى عن الشرك ويذم عبادة الأصنام والأوثان ، وقد وصفه المشركون بأنه صلى الله عليه وسلم حين ينهى عن الشرك ( يسبُّ آلهتهم ) وهو سبٌ مشروع ومن دعائم الدين الكبرى في كل زمان .(52/496)
دولة بني أمية كانت على السنة في الجملة
دولة بني أمية ، تمثل حيزاً زمنياً كبيراً من صدر الإسلام والقرون الفاضلة التي زكاها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (( خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ... )) الحديث 72. فهم داخلون في ذلك في الجملة .
فإن دولة بني أمية بدأت من عهد معاوية – رضي الله عنه – الصحابي الجليل ، وهو من الخلفاء الصالحين والملوك العادلين ، وله اجتهادات قد يخالفه عليها بعض الصحابة – رضي الله عنهم – أجمعين .
وهكذا سائر خلفاء بني أمية ، أقاموا الدين ، وجاهدوا ونصروا السنة ، وقمعوا البدع وأهلها ، وفي بعضهم انحراف عن الحق ، ووقوع في شيء مما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الظلم والأثرة وبعضهم أخطأ في حق علي – رضي الله عنه – وبعض ذريته فمالوا إلى النصب ربما سياسة وهوى لا تديناً ( والله أعلم ) ولا شك أنه خطأ على أي حال 73، وكذلك اشتهر بعض ولاة بني أمية بتأخير الصلاة عن وقتها 74.
وهذه زلات لا تلغي اعتبارهم ، ولا تمحو فضائلهم وجهودهم المحمودة وجهادهم المشهود ، ولا تمنع كونهم على السنة ومن أنصارها ، فهم بشر كسائر البشر .
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة :
(( وبنوا أمية كانوا عثمانية )) ، فكان الإسلام وشرائعه في زمنهم أظهر وأوسع مما كان بعدهم .
وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش )) .
ولفظ البخاري : (( اثني عشر أميراً )) . وفي لفظ : (( لا يزال أمر الناس ماضياً ولهم اثنا عشر رجلاً )) . وفي لفظ : ((لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش )) .
وهكذا كان ، فكان الخلفاء : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، ثم تولى من اجتمع الناس عليه وصار له عزّ ومنعة : معاوية ، وابنه يزيد ، ثم عبد الملك وأولاده الأربعة ، وبينهم عمر بن عبد العزيز . وبعد ذلك حصل في دولة الإسلام من النقص ما هو باق إلى الآن ؛ فإن بني أمية تولوا على جميع أرض الإسلام ، وكانت الدولة في زمنهم عزيزة ، والخليفة يُدعى باسمه : عبد الملك ، وسليمان ، لا يعرفون عضد الدولة ، ولا عزّ الدين وبهاء الدين ، وفلان الدين وكان أحدهم هو الذي يصلِّي بالناس الصلوات الخمس ، وفي المسجد يعقد الرايات ، ويؤمّر الأمراء ، وإنما يسكن داره ، لا يسكنون الحصون ، ولا يحتجبون عن الرعية )) .
وقد تحامل أهل الأهواء والبدع من الشيعة والخوارج والقدرية والجهمية والمعتزلة ونحوهم على بني أمية وأشهروا أخطاءهم وأغمضوا عن حسناتهم ، لأنهم كانوا ( أعني بني أمية ) يقفون ضد تيارات البدع والأهواء ودعاتها بقوة وحزم وهذا مما أغاظ المبتدعة وأهل الأهواء وأشياعهم ، وأوغر صدورهم على بني أمية وعلى السلف الصالح الذين لا يؤيدون الظلم ، لكنهم شكروا لبني أمية صنيعهم في نصرة السنة ، وقمع البدعة وأهلها ، وهم الذين نشروا الإسلام وواصلوا الجهاد وفتحوا الفتوح .
كما أن هذا لا يعني أن السلف سكتوا عما كان يحدث من بعض ولاة بني أمية من المظالم والفسوق والأثرة ، بل كانوا ينكرون عليهم ويناصحونهم ولم يقروهم على ظلم ولا على باطل وهذا هو المنهج الحق .
حرص السلف على جمع كلمة الأمة على ولاتهم – وإن جاروا – ليس رضى بالظلم والفسوق والأثرة ، ولا إقراراً بذلك ؛ بل امتثالاً لأمر الله ورسوله بلزوم الطاعة والجماعة في المنشط والمكره ، ونبذ الفرقة والخروج ، وهذا أصل عظيم من أصول السنة ، ومسلّمة ضرورية من مسلّمات الدِّين ، تقوم عليها مصالح للأمة ، وتدرأ بها مفاسد كبرى معلومة من الدين بالضرورة .
أما ما يكون من بعض الجاهلين ، أو المتأولين من الولاة والعلماء وغيرهم ممن ينتسبون للسلف ، مما هو خلاف ذلك ، فهو اجتهاد شخصي غير محسوب على منهج السلف ، لأنه مخالف لصريح السنة .
التحامل على السلف وكبتهم ومنهجهم
من منهج أهل الأهواء التحامل على كتب السلف والتشكيك في منهجهم والطعن في علمهم ، ونجد هذا المنحى واضحاً عند بعض المعاصرين من أهل الأهواء ، حين جعل كتب السلف مثل كتب أهل الافتراق والبدع والأهواء حين قال :
( وكتب العقائد رغم ما فيها من حق قليل إلا أن فيها الكثير من الباطل ، بل هو الغالب عليها لما فيها من الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم ، والإسرائيليات المشككة للمسلم والتكفير للمسلمين ، وزرع بذور الشقاق والتباغض والتنازع بين المسلمين ، وغير ذلك من الهوى والظلم والجهل ، وسواء كان ذلك في كتب العقائد عند الشيعة أو السنة أو الإباضية أو الصوفية أو غيرهم ، ولم ينج من كثير من ذلك إلا بعض كتب المجتهدين في الماضي أو الحاضر ، وهي قلة نسبة إلى هذه الكثرة )75 .
وهذا من التلبيس والظلم والافتراء على السلف ، فإن كل ما قاله الكاتب من هذه المطاعن يصدق على كتب عقائد القوم ( المبتدعة ) في الجملة لا على كتب السنة وأهلها فكتب عقائد السلف تقوم على الحق والدليل ، والعدل والإنصاف ، والعلم ، والهدى والسنة ، وما يخرج عن ذلك قليل من الزلات والأخطاء والتجاوزات التي قد تكون في ثنايا كتب العقائد المعتمدة عند السلف ، وهي كتب الصحاح والسنن والآثار والمصنفات الكبرى لأئمة السنة ، وهي أمور معلومة عند أهل العلم الراسخين ، فإن كتب السلف الحق فيها هو الأصل والأكثر ، وخلاف ذلك – بحمد الله – قليل بل نادر ، والنادر لا حكم له .
أما ما أشار إليه الكاتب من التكفير ونحوه فهذا من خصال أهل البدع ، أما أهل السنة فلا يكفرون إلا بدليل وقد أجبت عن هذه الشبهة في مقام آخر من هذا الكتاب .
وكذلك اتهامه لكتب أهل السنة بأن فيها أحاديث مكذوبة ، فهذا هو الكذب والبهتان ، فإن كتب السلف تعتمد على الصحيح ، إلا النادر مما هو اجتهاد خاطئ عن البعض ، وقد أجبت عن هذا الزعم في مقام آخر .
دعوى وجود الاستطرادات في كتب السلف
زعموا أن كتب العقائد فيها الكثير من الحشو والاستطرادات ، وأن فيها أحاديث مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم .
نعم إن هذا الوصف يصدق على أكثر كتب عقائد الفرق المخالفين للسنة ، وأهل الأهواء ، أما كتب السلف فهي تقرر الحق ، الحق فيها هو الأصل والغالب والكثير ، وما قد يوجد في بعضها من استطرادات وآراء خاطئة لبعض العلماء فليس ذلك من أصول العقيدة ، إنما هو من المسائل الفرعية الملحقة بموضوعات العقيدة للمناسبة ، وهذا قليل وليس في الأصول .
وليس في عقيدة السلف ما ليس عليه دليل من القرآن والسنة ، وما قد يوجد أحياناً من الأحاديث الضعيفة أو الحكايات والإسرائيليات أو المنامات ونحوها فإنما أورده بعض العلماء للاعتضاد والاستئناس لا للاعتماد ، وعلى اعتبار أنه يحتمل الصحة ، وليس هو الدليل .
كما أنه لا يلزم من رواية بعض الأحاديث الضعيفة أو المشتملة على ما ينافي العقيدة اعتقاد ما جاء فيها، ولا اعتقاد صحتها .
من مفتريات أهل البدع والأهواء والافتراق على السلف وكشف مصطلحاتهم في ذلك
قبل أن أشرع في ذكر بعض مفتريات أهل الأهواء على السنة وأهلها والسلف الصالح ، يحسن أن أنبه إلى الأمور التالية:
الأمر الأول : أن السلف كما هو معلوم ، وكما أسلفت بشر يقع الخطأ والزلل من أفرادهم ، أما جملتهم فتتحقق فيهم وفي منهجهم وعقيدتهم وديانتهم العصمة الثابتة للأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا تجتمع أمتي على ضلالة ))76 وكذلك لزوم الحق وإظهاره في قوله : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ))77. فأهل السنة هم هذه الطائفة قطعاً لأنهم هم الذين على الحق .
الأمر الثاني : أنه ينطبق على أهل الأهواء ( خصوم السلف والسنة ) المثل : ( رمتني بدائها وانسلتِ ) .
فكل ما قاله هؤلاء الخصوم أهل الأهواء في أهل السنة والجماعة وأقوالهم ومناهجهم هو في أهل الأهواء هو الأصل .
فالتزام الحق والسنة هو الأصل والقاعدة عند أهل السنة والجماعة السلف الصالح ، وما يخالفه مما يقع فيه بعض أفرادهم وفئاتهم فهو استثناء ، وخروج عن الأصل والقاعدة ، فهم بشر ليس لأفرادهم عصمة .
والعكس كذلك فإن المفارقة والبدعة والهوى ، هي الأصل والقاعدة في الفرق المفارقة للسنة والجماعة ، وفي أهل الأهواء بأفرادهم وفرقهم ، وما يوافقون فيه الحق والسنة استثناء عن الأصل وعن القاعدة ، فأهل السنة والجماعة والسلف الصالح هم أهل الحق والسنة تعرف بهم ويعرفون بها .
الأمر الثالث : أن أهل الأهواء هم أهل الفرقة والبدعة تعرف بهم ويعرفون بها .
وأن كل ما رمى به أهل الأهواء أهل السنة من الأخطاء والعيوب ، فهو في أهل الأهواء والافتراق أكثر ، وهم الأصل فيه فالله تعالى يقول : { أ َفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } (القلم:35-36)ويقول : { أ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ } (السجدة:18) .
الأمر الربع : أن كثيراً مما يعيب به أهل الأهواء على أهل السنة ، ويعيرونهم به هو مما يمدح ؛ لأنه – أصلاً – هو الحق لكن أهل الأهواء يُلبِّسون على الناس ويقلبون الحقائق ؛ لأن أصولهم منكوسة ، وسأذكر أمثلة لذلك بعد قليل .
الأمر الخامس : أن أهل الأهواء أصحاب فتنة كما وصفهم الله : { أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } (آل عمران: من الآية7) .
وهذا منهج عام لدى عامة أهل الأهواء ، يعتقدون الباطل ثم يلتمسون له الأدلة على غير الوجه الشرعي في الاستدلال ، ويثيرون الشبهات والإشكالات حول النصوص ( القرآن والسنة )
ثم يمتد منهجهم هذا إلى عموم نصوص الشرع ، وقواعد الدين ومناهج الحق ، وأصول السنة وأقوال الأئمة والعلماء الراسخين ، وأتباعهم المهتدين .
لذا نجدهم – أغني أهل الأهواء – يقفون عند شواذ المواقف والأقوال والآراء لبعض المنتسبين للسلف من العلماء وغير العلماء ، فيجعلونها أصولاً ويرمون بها السلف بعامة ، ويقدحون في عقيدتهم ومنهجهم اعتماداً على هذه الزلات والأخطاء ، وقد تكون صواباً في ميزان الحق ، لكنهم – أعني أهل الأهواء – يعدونها خطأ على مناهجهم الباطلة .
وهذا ما سأذكر نماذج منه في المبحث التالي :(52/496)
الوقيعة في السلف من أصول أهل الأهواء وسماتهم من مفتريات أهل الأهواء والبدع والافتراق على السلف 78:
لمز السلف ( أهل الحديث والسنة ) وتعييرهم وسبهم وبغضهم ( أو بعضهم ) ورميهم بالألقاب المشينة ، وإظهار ما يدل على بغضهم لهم ، ومجانبتهم لهم ولسبيلهم سبيل المؤمنين فكل طائفة من أهل البدع تلقب أهل السنة بباطل79 .
• ... فالرافضة تسمي أهل السنة النواصب ؛ لأنهم لا يغلون في آل البيت ، كما تفعل الرافضة ، كما سيأتي ، ويعيرونهم بالجمهور لأنهم أكثرية في وقت ظهور الرفض ، ولأن الرافضة ينظرون إلى أهل السنة نظرة الدونية والازدراء .
• ... والقدرية تسمي أهل السنة ( مجبرة ) ؛ لأنهم يثبتون القدر - خيره وشره من الله تعالى - ويقولون بعموم علم الله تعالى وقدره ومشيئته ، وأهل الأهواء يسمون إثبات القدر ( جبراً ) .
• ... والمرجئة تسميهم ( شُكاكاً ) ،ومخالفة ونقصانية ؛ لأنهم - أعني السلف - يستثنون في الإيمان يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه ، وأهل الأهواء يسمون ذلك ( شكاً ونقصاً ) .
• ... والجهمية والمعتزلة وأهل الكلام تسميهم (مشبهة ) ؛ لأن السلف يثبتون الأسماء والصفات كما وردت مع اعتقاد أن الله ليس كمثله شيء ، وأهل الأهواء يزعمون أن إثبات الصفات كما جاءت في النصوص ( تشبيهاً وتجسيماً ) .
• ... والمعتزلة وأهل الكلام يسمون أهل السنة ( حشوية ، ونوابت وغثاء وغثراً ) وزوامل أسفار ؛ لأنهم أهل حديث وآثار رواية ودراية ، ويقفون عند ما صح من النصوص .
هكذا يعيرون السلف الصالح ( أهل السنة والجماعة ) بالحق ، ويصورونه بصورة الباطل ، بينما أهل السنة لا يلحقهم إلا اسم واحد هو ( السنة والجماعة ) ، ويستحيل أن تجتمع فيهم هذه الصفات والأسماء المتعارضة فتأمل - عافاك الله - فإن من علامات أهل الأهواء والبدع والافتراق الواقعية في السلف الصالح أهل السنة والجماعة .
روى الإمام الصابوني بسنده في ( عقيدة السلف وأصحاب الحديث) عن أبي حاتم محمد بن إدريس الحنظلي الرازي،يقول : (علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل الأثر حشوية،يريدون بذلك إيطال الأثر،وعلامة القدرية تسميتهم أهل السنة مجبرة وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة؛وعلامة الرافضة تسميتهم أهل الأثر نابتة وناصبة)80
وروى اللالكائي نحو ذلك ، قال : [قال أبو محمد وسمعت أبي يقول :
• ... وعلامة أهل البدع : الوقيعة في أهل الأثر .
• ... وعلامة الزنادقة : تسميتهم أهل السنة حشوية يريدون إبطال الآثار .
• ... وعلامة الجهمية : تسميتهم أهل السنة مشبهة .
• ... وعلامة القدرية : تسميتهم أهل الأثر مجبرة.
• ... وعلامة المرجئة : تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية
• ... وعلامة الرافضة : تسميتهم أهل السنة ناصبة .
ولا يلحق أهل السنة إلا اسم واحد ويستحيل أن تجمعهم هذه الأسماء ]81
وقال شيخ الإسلام في معرض تقريره لمذهب السلف في كلام الله تعالى ورده على المخالفين : ( ولكن الذين في قلوبهم زيغ من أهل الأهواء لا يفهمون من كلام الله وكلام رسوله وكلام السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان في ((باب صفات الله )) إلا المعاني التي تليق بالخلق ؛ لا بالخالق ثم يريدون تحريف الكلم عن مواضعه في كلام الله ورسوله إذا وجدوا ذلك فيها ، وإن وجدوه في كلام التابعين للسلف افتروا الكذب عليهم ، ونقلوا عنهم بحسب الفهم الباطل الذي فهموه ، أو زادوا عليهم في الألفاظ وغيروها قدراً ووصفاً ، كما نسمع من ألسنتهم ، ونرى في كتبهم .
ثم بعض من يحسن الظن بهؤلاء النقلة قد يحكي هذا المذهب عمن حكوه عنهم ، ويذل ويبحث مع من لا وجود له ، وذمه واقع على موصوف غير موجود ، نظير ما صرف الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال : (( ألا تعجبون من قريش يشتمون مذمما ، وأنا محمد ؟!)).
وهذا نظير ما تحكي الرافضة عن أهل السنة من أهل الحديث والفقه والعبادة والمعرفة أنهم ( ناصبة )، وتحكي القدرية عنهم أنهم ( مجبرة ) ، وتحكي الجهمية عنهم أنهم ( مشبهة ) ، ويحكي من خالف الحديث ونابذ أهله عنهم : أنهم ( نابتة ، وحشوية ، وغثاء ، وغثراً ) إلى غير ذلك من الأسماء المكذوبة ، ومن تأمل كتب المتكلمين الذين يخالفون هذا القول وجدهم لا يبحثون في الغالب أو في الجميع إلا مع هذا القول الذي ما علمنا لقائله وجوداً ] 82 .
وقول البربهاري : (( وإذا سمعت رجلاً يقول فلان ناصبي فاعلم أنه رافضي ، وإذا سمعت الرجل يقول فلان مشبه أو فلان يتكلم بالتشبيه فاعلم أنه جهمي ، وإذا سمعت الرجل يقول تكلم بالتوحيد واشرح لي التوحيد 83 فاعلم أنه خارجي معتزلي ، أو يقول فلان مجبراً أو يتكلم بالإجبار ، أو تكلم بالعدل فاعلم أنه قدري ؛لأن هذه الأسماء محدثة أحدثها أهل البدع))84 .
أما كلمة ( الحشوية ) :
فإن أول من عرف أنه تكلم بهذه العبارة عمرو بن عبيد - المعتزلي المتكلم - حين ذكر له عن ابن عمر - رضي الله عنه - ما يخالف مقولته ، فقال ( كان ابن عمر حشوياً )85 نسبة إلى حشو الناس وهم العامة والجمهور .
وأخرج الذهبي في سير أعلام النبلاء : (( لما استأذن ابن أبي داود على الجاحظ ، قال : من أنت ؟ ، قال : رجل من أصحاب الحديث ، فقال : أما ما علمت أني لا أقول بالحشوية ))86 .
والجاحظ متكلم معتزلي يزعم أن أهل الحديث والأثر ( حشوية ) .
والحق أن أهل الأهواء لا سيما منهم أهل الكلام أحق بوصف الحشوية ؛ لأن من منهجهم المراء والجدال والخصومات وإكثارهم من الكلام وحشو العبارات ، لذا فهم أحق باسم الحشوية ، فإن سائر كلامهم حشو لا فائدة فيه ، وكذلك مصنفاتهم ومناظراتهم يحشونها بالكلام الفارغ والظنون والأوهام .
أما الأحاديث والآثار فهي - والله - الزبدة والثمرة والخلاصة واللّب كما قال سبحانه : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ } (الرعد: من الآية17) لكنهم قوم يعدلون عن الحق .
فالسمة العمة لأهل الأهواء كراهية أهل الحديث ، وهم أهل السنة والجماعة السلف الصالح .
قال الذهبي في ترجمة أحمد بن سنان : ( قال جعفر : سمعت أبي أحمد بن سنان يقول : ليس في الدنيا مبتدع إلا ويبغض أصحاب الحديث ، وإذا ابتدع الرجل بدعة نزعة نزع حلاوة الحديث من قلبه ) 87.
قال الأوزاعي:(ما ابتدع رجل إلا غل صدره على المسلمين)88. وقال:( كنا نتحدث أنه ما ابتدع أحد بدعة إلا سلب ورعه)89.
وقال الشاطبي بعد ذكر الخوارج مبيناً أن الابتداع يوجب الافتراق والعداوة عند المبتدعة : ( ثم يليهم كل من ابتدع بدعة فإن من شأنهم أن يثبطوا الناس عن اتباع الشريعة ويذمونهم ويزعمون أنهم الأرجاس الأنجاس المكبين على الدنيا ، ويضعون عليهم شواهد الآيات في ذم الدنيا وذم المكبين عليها . كما يروى عن عمرو بن عبيد أنه قال : لو شهد عندي على وعثمان وطلحة والزبير على شراك نعل ما أجزت شهادتهم ... هكذا ! ... نعوذ بالله من الخذلان .
وعن معاذ بن معاذ قال : قلت لعمر بن عبيد : كيف حدَّث الحسن عن عثمان أنه ورث امرأة عبد الرحمن بعد انقضاء عدتها ؟ فقال : إن فعل عثمان لم يكن سنة .
وقيل له : كيف حدث الحسن عن سمرة في السكتتين ؟ فقال : ما تصنع بسمرة ! قبح الله سمرة . أ هـ ) 90 .
قلت : بل قبح الله عمرو بن عبيد المعتزلي وأمثاله وأشياعه ، فهم أحق بها من ذلكم الصحابي الجليل .
وقال الشاطبي : ( وسئل عمرو بن عبيد يوماً عن شيء فأجاب فيه . قال الراوي : قلت ليس هكذا يقول أصحابنا قال : ومن أصحابك لا أبا لك ؟ قلت : أيوب ، ويونس وابن عون ، والتيمي ، قال أولئك أنجاس أرجاس ، أموات غير أحياء .
فهكذا أهل الضلال يسبون السلف الصالح لعل بضاعتهم تنفق { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ } (التوبة: من الآية32)
وأصل هذا الفساد من قبل الخوارج فهم أول من لعن السلف الصالح وكفَّر الصحابة - رضي الله عن الصحابة - ) 91.
وقال الشاطبي أيضاً مبيناً أن من علامات أهل الأهواء ذم من مدحهم الله ، ومدح من ذمهم الله : ( وأصل هذه العلامة في الاعتبار تكفير الخوارج - لعنهم الله - الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - ، فإنهم ذموا من مدحه الله ورسوله واتفق السلف الصالح على مدحهم والثناء عليهم ، ومدحوا من اتفق السلف الصالح على ذمه ، كعبد الرحمن بن ملجم قاتل على - رضي الله عنه - وصوبوا قتله إياه ، وقالوا:إن في شأنه نزل قوله تعالى :{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (البقرة: من الآية207)
وأما التي قبلها وهي قوله :{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } (البقرة: من الآية204) الآية ، فإنها نزلت في شأن على - رضي الله عنه - وكذبوا - قاتلهم الله - .
وقال عمران بن حطان في مدحه لابن ملجم :
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفي البرية عند الله ميزاناً
وكذب - لعنه الله - فإذا رأيت من يجري على هذا الطريق ، فهو من الفرق المخالفة ، وبالله التوفيق .
وروي عن إسماعيل بن علية ، قال : حدثني اليسع قال : تلكم واصل بن عطاء يوماً - يعني المعتزلي - فقال عمرو بن عبيد : ألا تسمعون ؟ ما كلام الحسن وابن سيرين - عندما تسمعون - إلا خرقة حيض ملقاة .
وروي أن زعيماً من زعماء أهل البدعة كان يريد تفضيل الكلام على الفقه ، فكان يقول : إن علم الشافعي وأبي حنيفة ، جملته لا يخرج من سراويل امرأة فذا كلام هؤلاء الزائغين قاتلهم الله )92 .
قلت : وهذه السمة لا تزال في بعض أهل الأهواء ، وبعض المثقفين والمتعالمين ، حيث يعيرون المشايخ وطلاب العلم بفقه الحيض والنفاس ، وما علموا أن ذلك من دين الله ، وأنهم بذلك يستهزئون بأحكام الله ، نعوذ بالله من الخذلان .
وروى الصابوني بسنده عن الحاكم قال : ( سمعت أبا الحسين محمد بن أحمد الحنظلي ببغداد ، يقول : سمعت ( أبا إسماعيل ) محمد بن إسماعيل الترمذي يقول : كنت أنا وأحمد بن الحسن الترمذي عند إمام الدين أبي عبد الله أحمد بن حنبل فقال له أحمد بن الحسن : يا أبا عبد الله ، ذكروا لابن قتيلة بمكة أصحاب الحديث ، فقال : ( أصحاب الحديث قوم سوء ) ، فقام أحمد بن حنبل وهو ينفض ثوبه وهو يقول : زنديق زنديق زنديق حتى دخل البيت )93.
وقال الصابوني أيضاً : ( وعلامات البدع على أهلها بادية ظاهرة ، أظهر آياتهم وعلاماتهم شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ، واحتقارهم لهم ، واستخفافهم بهم ، وتسميتهم إياهم ( حشوية وجهلة وظاهرية ومشبهة ) اعتقاداً منهم في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها بمعزل عن العلم ، وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم من نتائج عقولهم الفاسدة ، ووساوس صدورهم المظلمة ، وهواجس قلوبهم الخالية من الخير وكلماتهم وحججهم العاطلة ، بل شبههم الداحضة الباطلة ، { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } (محمد:23 ) {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } (الحج: من الآية18) 94.
وروى مسلم في صحيحه عن حماد بن زيد ، قال : كان رجل لزم أيوب وسمع منه ففقده أيوب ، فقالوا : يا أبا بكر إنه قد لزم عمرو بن عبيد ، قال حماد : فبينما أنا يوماً مع أيوب وقد بكرنا إلى السوق ، فاستقبله الرجل فسلم عليه أيوب وسأله ، ثم قال له أيوب : بلغني أنك لزمت ذلك الرجل قال حماد : سماه يعني عمراً ، قال : نعم يا أبا بكر إنه يجيئنا بأشياء غرائب ، قال : يقول له أيوب : إنما نفرُّ أو نفرق من تلك الغرائب 95 .
كما أن حب أهل السنة من علامات الاستقامة ، فكذلك بغضهم من علامات أهل الأهواء والبدع .
أخرج اللالكائي عن أحمد بن عبد الله بن يونس يقول : ( امتحن أهل الموصل بمعافى بن عمران فإن أحبوه فهم أهل سنة , وإن أبغضوه فهم أهل بدعة , كما يمتحن أهل الكوفة ( بيحيى ) .
وعن قتيبة يقول : إذا رأيت الرجل يحب أهل الحديث مثل يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن محمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه - وذكر قوماً آخرين - فإنه على السنة ، ومن خالف هؤلاء فاعلم أنه مبتدع ) 96 .
كما أن من منهج أهل السنة تكفير الكافر ، وتبديع المبتدع بالحق والدين ، فكذلك من سمات كثير من أهل الأهواء وأصولهم الباطلة : تضليل أهل السنة ونكفيرهم بالهوى و بالباطل وبلا دليل ، قال الذهبي : ( قال ابن أبي دؤاد للمعتصم في الإمام أحمد حين المناظرة على القرآن : ( يا أمير المؤمنين هو الله ضال مضل مبتدع ) 97
وابن أبي دؤاد من رؤوس البدعة والضلالة ، ومن مشعلي الفتنة على أهل السنة،قال ابن أبي دؤاد للمعتصم حينما قال : (لقد ارتكبت إثماً في أمر هذا الرجل - يعني أحمد بن حنبل - ، فقال:يا أمير المؤمنين إنه والله كافر مشرك قد أشرك من غير وجه ) 98. ومن يعني بكافر مشرك ؟ !
يعني : أحمد بن حنبل الذي أجمعت الأمة بكل طوائفها على إمامته وفضله وسلامة منهجه .
- ولذلك نجد أهل الأهواء يعيرون أهل السنة بالحنابلة فإنه لما امتحن الناس ليقولوا بخلق القرآن صمد اثنان : أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح ، فالثاني لقي ربه و الأول أشهر السنة رغم ضربه وسجنه ، فكان أن نصر الله السنة بهذا الموقف .
والإمام أحمد إمام السنة في سائر أمور الدين ، وكان موقفه سبباً في نصر أهل السنة وإعلائهم وتمسكهم ، الخاصة منهم والعامة ، وتعلق قلوب الناس بالإمام أحمد وبالسنة التي هي شعاره ، ومن هنا تميز أهل الأهواء بخلاف ذلك فصاروا يلمزون أهل السنة ويصفونهم بالحنابلة .
و الإمام أحمد - كذلك - مع ما تعرض له من أذى كبير من ابن أبي دؤاد رأس الضلالة وداعية البدع الكفرية وأمثاله : فإنه - أعني الإمام أحمد - لم يصدر عنه مثل هذا الحكم ( الكفر والشرك ) في أعيان هؤلاء .
لكن كما قال المثل : ( رمتني بدائها وانسلت ) .(52/496)
عقيدة السلف الصالح ليست من ردود الأفعال وليس فيها إضافات
ومن أعظم الدواهي التي دَهَى بها القومُ السلف الصالح ، وبهتوهم بها دعوى ردود الأفعال والإضافات على العقيدة .
ومن المعلوم أنه من منهج السلف الصالح في تقرير العقيدة والدفاع عنها ، أنه كلما استحدث أهل الأهواء والبدع والافتراق بدعة اعتقادية أو قولية أو عملية قرر السلف الحق فيها بما يجلي العقيدة الصحيحة ، وينفي ما يضادها بالدليل من القرآن والسنة وآثار السلف ، وأدرجوها في كتب السنن والعقيدة ، لتأكيدها حيث جحدها المخالفون للسنة ، ولحماية الأمة من البدعة ، وقد ضاق أهل الأهواء ذرعاً بهذا الأمر ؛ لأنهم كلما أو قدوا ناراً وفتنة للبدعة قيض الله من أعلام الأمة من يقرر الحق ويقيم الحجة بالدليل ، ويطفي نار الفتنة ويقمع البدعة ، وذلك من وعد الله تعالى حين تكفل بحفظ الدين وبقاء طائفة على الحق ظاهرين ينافحون عن الحق ، ويذودون عن حياض السنة وينفون البدعة ويحذرون منها ومن دعاتها .
وقد أطلق بعض المفتونين من المعاصرين ( تبعاً لمنهج أسلافهم أهل الأهواء ) على أعمال السلف هذه بأنها ردود أفعال ، وأنها إضافات على العقيدة ؛ وضربوا لذلك أمثلة تبرهن على جهلهم بالسنة وتحاملهم على أهلها ، ومن ذلك :
** زعمهم أن السلف زادوا في العقيدة ما ليس من أركان الإيمان ، وهم بذلك يشيرون إلى أن العقيدة وأصول الدين ومسلماته مقصورة على أركان الإيمان الستة المعدودة في حديث جبريل .
وما علموا – أو تجاهلوا أن العقيدة هي كل ثوابت الدين وأصوله وفرائضه وقطعياته وأن كل ما ثبت في الدين فهو من العقيدة وأصول الدين ، بما في ذلك الأحكام القطعية والثابتة وأن أركان الإيمان لا تتم إلا بمستلزماتها ومكملاتها العلمية والعملية التي نص عليها الشرع ، فهي تدخل في هذه الأركان .
كأسماء الله وصفاته الثابتة بالكتاب والسنة وإخلاص العبادة لله تعالى ، ونفي الشرك والبدع داخل في الإيمان بالله ، والإيمان بالملائكة بأسمائهم الواردة وأوصافهم وأعمالهم الثابتة بالنصوص ، والإيمان بالكتب ، والرسل كذلك .. إلخ .
والشفاعة والرؤية والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولزوم الجماعة والطاعة ، وحقوق الصحابة وأصول الأخلاق وقطعيات الأحكام وما ثبت منها كتحريم عقوق الوالدين ، والربا والميتة والخنزير والزنا والكذب والغيبة ، ونحو ذلك كله من العقيدة لأنه من القطعيات والثوابت وداخل فيها .
زعموا أن مسائل ( أشراط الساعة ) ليست من العقيدة وأنها من الإضافات ومنها : ( مسألة المهدي ) 99 وهذا كذلك جهل ( أو تجاهل ) 100 لهذه الحقيقة ، فإن أشراط الساعة الكبرى وكثير من الصغرى ، ومنها :
( المهدي ) قد ثبتت بها النصوص ، وكل ما ثبتت به النصوص القطعية وجب اعتقاده سواء سميناه : العقيدة أو السنة ، أو أصول الدين ، أو القطعيات أو الأخبار القطعية فكل هذه اصطلاحات صحيحة ، ولا مشاحة في الاصطلاح .
وكل ما ثبت في القرآن أو صحت به السنة فهو مما يجب الإيمان به ، والتسليم بأنه حق ، وهذا هو معنى كونه ( عقيدة ) .
** وزعموا أن من أمثلة ما يسمون – الإضافات على العقيدة - : مسألة ( المسح على الخفين )101 وهي فقهية من مسائل الأحكام ، وكونها من مسائل الأحكام في الأصل صحيح ، لكنها على القاعدة في الإيمان : أن كل ما ثبت به النص فهو مما يجب التسليم به واعتقاده وقد صار الإنكار من سمات أهل البدع الرافضة ، والمسح على الخفين تواترت به النصوص ، ومن السنن العملية المجمع عليها عند سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
فلما أنكرها أهل الأهواء والبدع أنكروا ثابتاً من الدين فأدرجها السلف في مسائل العقيدة ، لأن إنكارها يؤدي إلى الإخلال بالأصول والقطعيات ( العقيدة ) .
وليست هذه هي المسألة الوحيدة من قطعيات الأحكام وثوابتها التي تندرج في كتب العقيدة ومسائلها ، بل ذكر السلف كثيراً من القطعيات والثوابت في الأحكام والأخلاق ضمن مصنفات العقيدة ، مثل :
( الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وحقوق الصحابة ، وحقوق الولاة ، والوالدين ، والجار ، وتحريم الكذب ، والغيبة ) ونحو ذلك ، كله داخل في مسمى العقيدة ، لأن العقيدة معناها : اعتقاد كل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل به حسب الاستطاعة .
** وزعموا أن من أمثلة ( الإضافات على العقيدة ) الخلافة والحكم وأنها من ردود الأفعال ، وأنه لما ظهر قول الفرق المفارقة فيها ، قام أهل السنة ( بصياغة نظرية خاصة تميزهم عن سائر الفرق في الإمامة ) سبحان الله !
وتأمل أخي القارئ هذا التعبير الاستشراقي الأدبي العجيب في وصف عمل السلف الذين لا يصدرون في تقرير الدين إلا عن الكتاب والسنة .
فقد عبروا عن عمل السلف بأنه ( صياغة نظرية ) !! ومن المعلوم أن السلف يقررون الحق بدليله وليس دينهم وعقيدتهم نظريات تصاغ .
ثم قالوا : ( تميزهم ) وكأنهم من عشاق التميُّز ،لكنهم من عشاق الحق ، ويريدون تمييز الحق من الباطل والسنة من البدعة .
** ثم زعموا أن مسألة طاعة ولاة الأمر وعدم جواز الخوارج عليهم ( من الإضافات ) وكذلك الصبر على ظلم الولاة وجورهم ، والصبر على الأثرة منهم ، ونحو ذلك زعموا أنه من إضافات السلف على العقيدة .
وقد جهلوا – أو تجاهلوا – أن ذلك من الدين والسنة ومن وصايا النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة بالنصوص الشرعية في القرآن وصحيح السنة ، في الصحيحين وغيرهما .
** وزعموا أن مسألة ( القرآن وكلام الله تعالى ) وتقرير الحق في أن القرآن كلام الله منزل – غير مخلوق – من ردود الأفعال والإضافات على العقيدة .
وهذا كما أسلفت يندرج تحت قاعدة السلف : أن كل أصل من قطعيات الدين وما ثبت بنص شرعي يرد فيه من قبل أهل الأهواء نقض أو شك أو خروج عن مقتضى الحق فلا بد من تأصيله ورد الباطل عنه ، والتنويه عن ذلك في المصنفات التي تُقرر فيها الأصول وثوابت الدين ومسلماته وهي كتب السنة ( العقيدة ) وهذا منهج شرعي علمي اصطلح عليه العلماء العدول الثقات ، وله ما يبرره شرعاً وعقلاً ومنهجاً وإن ضاق به أهل الأهواء ذرعاً .
وهكذا .. لما ظهرت المذاهب المعاصرة الهدمة كالعلمانية ، والحداثة أو القومية والوجودية والعقلانية والعصرانية ونحوها ، أدرجها العلماء والباحثون والمختصون ضمن بحوث العقائد والمبادئ الضالة ؛ وصارت تدرس في أقسام العقيدة في الجامعات والمؤسسات العلمية ، وكليات أصول الدين والشريعة وأقسامها ونحوها .
وهذا اصطلاح له مبرراته وأصوله وإن اختلف عليه الناس .
ثم يحسن أن نُوجه لهؤلاء الذين يريدون الهدم ولا يجيدون البناء سؤالاً فنقول لهم : إذا كان لا يعجبكم إدخال ما تُسمونه الإضافات على العقيدة التي اتفق على جملته سلف الأمة وعلماؤها وخيارها . فما الضابط عندكم فيما يكون من العقيدة وما لا يكون ؟ ثم هل أنتم متفقون على قاعدة في ذلك ، ومن مِنْ شيوخكم والفرق التي تمجدونها يؤخذ بقاعدته ومنهجه .. ونحو ذلك من الأسئلة التي لا يتفقون على جوابها .
إنما يسلكون في ذلك مسلك الحداثيين الذين يسعون إلى هدم الثوابت والخروج عن الأصول والمسلمات إلى التيه والضياع والفوضى نسأل الله السلامة .
منهج السلف الصالح
لم يكن نتيجة الصراعات والأحداث
** زعموا أن عقيدة السلف( أهل السنة) ومخالفيهم تكونت نتيجة للصراعات السياسية والمذهبية والأحداث التاريخية.
وهذا الكلام فيه حق وباطل ، أما وجه الحق فيه فهو أن عقائد مخالفي السلف وهم أهل الأهواء والافتراق والبدع كان من أسبابها توجهاتهم وصراعاتهم السياسية والمذهبية والأحداث التاريخية ، وردود الأفعال ، لأنهم يحكِّمون أهواءهم وآراءهم في مواقفهم تجاه السنة وأهلها وتجاه الولاة ولا يلتزمون تعاليم الشرع في ذلك .
أما الباطل فزعمهم أن مذهب السلف كان كما ذكروا أو أنه ردود أفعال ، فإن مذهب السلف ( أهل السنة والجماعة ) هو الحق والسنة والصراط المستقيم ، المستمد من القرآن والسنة ، وكل أصل عند السلف ( من أصول العقيدة ) إنما يقوم على الدليل ، وما قد يندرج في بعض مصنفات العقيدة من مسائل فرعية فليس من الأصول ، والسلف يتعاملون مع الصراعات السياسية ( إن صح التعبير ) حسب النصوص والأصول والقواعد الشرعية ، التي تقوم على السمع والطاعة بالمعروف ، والنصح لمن ولاه الله أمر المسلمين وعدم الخروج على الوالي المسلم ما لم يروا كفرا ًبواحاً عندهم فيه من الله برهان ،وهذا كله مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله أمر بالاجتماع على الحق ، ولا اجتماع لا بإمامة وسلطان ، ولا إمامة وسلطان إلا بسمع وطاعة بالمعروف ، كما أثر عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : (( إنه لا إسلام إلا بجماعة ، ولا جماعة إلا بإمارة ، ولا إمارة إلا بطاعة ))102
أهل السنة ليسوا نواصب ولا جبرية
النواصب : هم الذين يناصبون علياً – رضي الله عنه – وآل البيت العداء ، وهم في ذلك أهل بدعة على غير الحق ، وعلى غير الهدى ، ويقابلهم أولئك الذين غلوا في عليّ – رضي الله عنه – وآل البت . بل هؤلاء أسبق إلى البدعة من ألئك .
والحق الذي عليه أهل السنة والجماعة السلف الصالح حبُّ علي – رضي الله عنه – وموالاته فهو من السابقين للإسلام ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة ، وصهر رسول صلى الله عليه وسلم ورابع الخلفاء الراشدين ، والأئمة المهديين .
وكذلك آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذرية علي – رضي الله عنه – وغيرهم ممن يشمله هذا الوصف ، نعرف لهم حقهم وقدرهم ، وهذا من عقيدة أهل السنة والجماعة ويجمعون عليه بحمد الله .
ومن لم يكن على ذلك فهو مبتدع أو جاهل ، أو مخطئ أو صاحب هوى .
فالنواصب ليسوا على نهج السنة والجماعة .
لكن مما يجدر التنبيه إليه أن الشيعة بفرقهم ، ومن يميل إليهم ( وهم يغلون في علي – رضي الله عنه – وآل البيت ) يسمون من لم يجاريهم في الغلو : ناصبياً وهذا من البهتان والظلم والعدوان .
وكما أشرت ما حدث وما يذكر عن بعض أمراء بني أمية ، أنهم كانوا يسبّون علياً – رضي الله عنه – أو يؤذون بعض ذريته ، بغير حق ، فهذا خطأ وظلم وعدوان ، وهو على خلاف منهج أهل السنة، ولا يقرونه ، بل كان أئمة السلف يعدون ذلك من الخطأ ، وكانوا ينكرونه ، ويعدون النواصب من أهل الأهواء والبدع ، وهذا مسطور في كتبهم وآثارهم بحمد الله .
وكذلك لم يكن السلف جبرية ، لأن الجبر يقوم على مقولة بدعية ، وهي : أن الإنسان مجبور على أفعاله مسلوب الاختيار .
وهو قول الجهمية ويميل إليه القائلون بالكسب والسلف ينكرون هذه المقالات ويبدّعون من قال بها .
وقد يقصد بعض أهل الأهواء بالجبر ما جاءت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب السمع والطاعة بالمعروف للسلطان والصبر على جور الولاة والكف عن منازعتهم وترك الخروج عليهم والسلف يذهبون إلى ذلك استجابة لأمر الله ، و أخذاً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسمية ذلك جبراً من قبل أهل الأهواء إنما هو من التلبيس والبهتان وقلب الحقائق .(52/496)
اتهام السلف بالتجسيم والتشبيه
من دواهي خصوم السلف ، وبعض الجهلة الذين لم يعرفوا قدر السلف ، اتهامهم بالتجسيم والتشبيه في صفات الله تعالى ( دعوى التجسيم والتشبيه ) ، فأهل الكلام والأهواء يسمون كل من أثبت ما ينفونه من أسماء الله وصفاته وأفعاله مشبهاً ومجسماً ، وإن كان ما يثبته هو قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
فالجهمية الخالصة يسمون من أثبت أسماء الله وصفاته وأفعاله أو شيئاً منها : مشبهاً ومجسماً ، وعلى هذا فالمعتزلة والأشاعرة والماتريدية وأهل السنة الذين يثبتون نحو قوله تعالى :{ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } كلهم مجسمة عند هؤلاء الجهمية .
والمعتزلة يسمون من أثبت الصفات لله تعالى أو شيئاً منها مجسماً ومشبهاً ، وعلى هذا فإن الأشاعرة والماتريدية وأهل السنة ، الذين يثبتون صفات السمع والبصر ، هم عند المعتزلة مشبهة ومجسمه .
والأشاعرة والماتريدية يسمون من وصف الله تعالى بالصفات الذاتية والفعلية دون تأويل وتحريف مثل قوله تعالى : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي }(صّ: من الآية75) وقوله تعالى : {وجاء ربك }وقوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (طه:5) مشبهاً ومجسماً .
وما يوجد في بعض كتب السنة و الآثار أحياناً من أحاديث تشكل على بعض مرضى القلوب ، وأهل الزيغ والأهواء والفتن ، يزعمون أنها توهم التشبيه فهي :
1. ... إما من الأحاديث الضعيفة والموضوعة فلا يعول عليها ، وليس مجرد إيرادها من عالم أو راو يدل على صحتها والتزامها ، إنما هو عند اجتهاد أو زلة وخطأ لا يحسب على أصول السنة وعقيدة السلف .
2. ... وإما من الأحاديث الصحيحة فيجب إثبات ما ورد منها مع نفي المماثلة ، وما يتوهم فيها من التشبيه مدفوع قطعاً ، وعليه فإن مذهب السلف يقوم على ثبات أسماء الله وصفاته كما جاءت في النصوص الثابتة :
فالقاعدة عند السلف الصالح ، أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته وأفعاله ، ثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم مما صحت به الأحاديث .
والإثبات عندهم مقيد ، بنفي مماثلة الله لشيء من خلقه لأنه كما قال تعالى عن نفسه : : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }(الشورى: من الآية11) .
وأن ما ظاهره التشبيه إنما يثبت على ما يليق بالله تعالى مع نفي المماثلة جزماً ، ولا يصح نفيه لكونه يوهم التشبيه لأن هذا الفهم ( توهم التشبه ) أوهام وخيالات فاسدة يجب نفيها ، لا نفي حقيقة كلام الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفي حقيقة الصفة الثابتة اللائقة بالله تعالى ، فالنفي كذلك مقيد بعدم التعطيل ( وهو إنكار الأسماء والصفات أو بعضها ) وبعدم التأويل أيضاً ؛ لأنه قول على الله بغير علم ، وتحكُّم بالغيب ، ولأن الإثبات مقيَّد بعدم المماثلة ، والزعم بأن شيئاً من أسماء الله وصفاته الثابتة بالنصوص : يُفهم التشبيه أو يوهمه هو ضرب من الزيغ ، وعبث الشيطان بالناس وخيالات وأوهام فاسدة ، ووساوس عارضة ، يجب على المسلم حين يشعر بها أن يستعيذ بالله من نزغات الشيطان وتوهيماته ، ولا يعوِّل على تلك الوساوس .
كما أن كلمة ( التشبيه ) من الألفاظ المجملة ، المحتملة للحق والباطل فإن قُصد بالتشبيه : التشابه اللفظي بين صفة الخالق وصفة المخلوق فهذا حاصل ولا حرج فيه ( كالسمع والبصر ) مثلاً فهي للخالق سبحانه على الكمال وللمخلوق على النقص فهذا التشابه اللفظي هو الذي جاءت به النصوص القطعية .
وإن قصد بالتشبيه المماثلة بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق في الكيفية والخصائص فهذا هو المنفي بقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }(الشورى: من الآية11) ومن الأول قوله تعالى{ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }(الشورى: من الآية11) فهو سمع وبصر ليس كسمع المخلوق وبصره .
وهذا مما أجمع عليه السلف بحمد الله
السلف الصالح أهل السنة لا يحصرهم مذهب
زعموا أن مذهب أهل السنة والجماعة ، يحصر أتباعه في الحنابلة ( أو الوهابية ) كما يعيرونهم ، وهذا الكلام باطل لا أصل له ، ويكذبه الواقع ، فأهل السنة والجماعة والسلف الصالح هم خيار الأمة ، والطائفة المنصورة والفرقة الناجية في كل زمان ، قبل ظهور الحنابلة وبعده ، وفي كل مكان وفيهم حنابلة وأحناف وشافعية ومالكية ، وهذه مذاهب فقهية كل أئمتها الأربعة من أئمة السنة ، وأتباعها منهم من سار على نهج السنة والسلف ، ومنهم من حاد عن ذلك .
وليس للحنابلة اختصاص في ذلك ، وإن كان التفاوت حاصل في تبعية أتباع المذاهب الأربعة للسنة والسلف وموازين الشرع هي المحتكم في ذلك .
والسلف الصالح على منهج واحد في العقيدة في كل زمان ومكان ، فأهل السنة منهم المالكية والشافعية والأحناف كما أسلفت ، وهم بحمد الله بين هؤلاء كثير وإن كانوا في الحنابلة أكثر ؛ لأن الإمام أحمد كان آخر الأئمة الأربعة وقد تميز بمواقفه المشهورة في نصر السنة وأهلها ، والوقوف بحزم وقوة ضد البدع وأهلها .
ومن أئمة أهل السنة المنتسبين للمذهب المالكي :
الإمام مالك وتلاميذه : ( كابن القاسم وسحنون وشهب القيسي ) .
وعلماء المالكية الآخرون مثل : ( أسد بن الفرات ، وعبد الملك بن الماجشون ، ويحيى بن يحيى الليثي ، وإسحاق بن الفرات وأصبغ بن الفرج ، وابن وهب ، وابن أبي زيد القيرواني ، وابن أبي زمنين ، وأبي القاسم خلف بن عبد الله المقري الأندلسي والقاضي عبد الوهاب بن نصر ، وابن عبد البر ، وأبي عمرو الطلمنكي ، وأبي بكر محمد بن موهب - شارح رسالة ابن أبي زيد - وأبي عمرو الداني ، والقاضي إسماعيل بن إسحاق ، والقاضي أبي بكر الأبهري ، وعبد الله بن محمد القحطاني الأندلسي - صاحب النونية - ، ومحمد الأمين الشنقيطي،وابن غنام الأحسائي :- من المعاصرين للشيخ محمد بن عبد الوهاب ) .
ومن أئمة السنة المنتسبين للمذهب الشافعي :
الإمام الشافعي وهو من كبار أئمة السنة والبويطي والمزني ، وابن حبان ، وابن خزيمة، وابن خفيف والحاكم ، وابن سريح وابن الصلاح وابن النحاس حرملة بن يحيى والأزهري - اللغوي - والصابوني ، وابن أبي حاتم ، وابن ثمامة والبغوي وابن كثير والحافظ السلفي والدار قطنى والحميري وابن السني وأبو الحسن الأشعري ، وأبو العباس الأصم ، والمزي والساجي والذهبي والدارمي - عثمان بن سعيد - واللالكائي ، ومحمد بن نصر المروزي ،والمقريزي ، والمنذري وأبو محمد الجويني ) .
وكبار أئمة الشافعية ينصرون مذاهب السلف الصالح ويوصون بلزوم السنة ، ويذمون البدع والأهواء وأهلها ( وإن كان عند بعضهم شيء من الزلات أو موافقة أهل البدع في أمور ) كالبيهقي والخطابي والجنيد ، وأبي نعيم الأصبهاني والعز بن عبد السلام ، والنووي والسيوطي والمناوي ، لكن مناهجهم في الجملة أقرب إلى السنة ، على تفاوت بينهم .
وكذلك الأحناف :
أبو حنيفة - رحمة الله - كان على السنة في الجملة ، وما خالف فيه أهل السنة في مسألة الإيمان وميله للإرجاء زلة معروفة ومردودة ، عند السلف ، لكنه لما اشتهر عنه الإمامة في الدين عرف له قدره ... وكذلك أصحاب أبي حنيفة - الأوائل منهم - كانوا على السنة ، كأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر وإبراهيم بن طهمان وحفصُ بن غياث القاضي .
ومن الحنفية الذين على مذهب أهل السنة والجماعة في الجملة :
أبو سليمان ، موسى بن سليمان الجوزجاني ت 200 هـ .
معلى بن منصور الرازي ت 211 هـ
شداد بن حكيم القاضي البلخي ت 212 هـ
عبد الله بن داود ت 213 هـ
هشام بن عبيد الله الرازي ت 221 هـ
الليث بن مساور البلخي ت 226 هـ
يحيى بن أكثم التميمي القاضي ت 243 هـ
محمد بن أحمد بن حفص الزرقان ت 264 هـ
الحكم بن معبد الخزاعي ت 295 هـ
أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي ت 321 هـ
ابن أبي العز الدمشقي الحنفي ت 712 هـ
أحمد بن عبد الأحد الفاروقي السهر ندي ت 1034 هـ
أبو البركات خير الدين نعمان الألوسي ت 1252 هـ
محمود شكري بن عبد الله الألوسي
محمد صديق خان بن حسن البخاري القنوجي ت 1307 هـ
محمد بشير بن محمد بدر الدين السهسواني الهندي ت 1326 هـ
محمد إسماعيل بن عبد الغني بن ولي الله الدهلوي ت 1381 هـ
المعصومي الحنفي
البركوي الحنفي
أبو الوفاء درويش
وبعض هؤلاء الأحناف قد يميلون إلى مذهب المرجئة في الإيمان ، وعند بعضهم شيء من الزلات ، ولكنهم على نهج السنة في سائر الأصول في الجملة على تفاوت بينهم .(52/496)
السلف ليسوا عملاء للسلاطين
زعموا أن السلف عملاء للسلاطين ، وهذا بهتان عظيم ، فأهل السنة نصحة ، يقومون بما أوجبه الله ورسوله من السمع والطاعة بالمعروف ، النصيحة لمن ولاه الله أمر المسلمين ، براً كان أو فاجراً .
فالسلف الصالح يسيرون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذون بهديه وأمره ، ووصيته في كل أمر ، ومن ذلك وصيته صلى الله عليه وسلم وأمره بالسمع والطاعة بالمعروف والنصيحة لمن ولاه الله أمر المسلمين وإن كان فاسقاً أو ظالماً ، وأمره بالصبر على ما يحدث من الولاة المسلمين من الجور والظلم والأثرة مع أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالحكمة ، وكراهيته ما يصدر عن بعضهم من المظالم والمنكرات ، ومناصحة ولاة أمور المسلمين عند السلف لا تعني مداهنتهم ولا الرضى بتجاوزاتهم كما يظن أهل الأهواء .
وهذا أمر مستفيض ثابت بأحاديث صحيحة ، في الصحيحين وغيرهما ، وهو منهج السلف الصالح .
وقد ضاق أهل الأهواء والبدع والافتراق - بهذا الأصل الشرعي - ذرعاً ، ولذلك كانوا ولا يزالون يتهمون السلف بالعمالة للسلاطين والمداهنة وتبرير أخطاء الحكام ، أو الجبن والقعود ، وهذا من البهتان والجهل ، واستحكام الهوى ، وتحكيم العواطف والأمزجة في دين الله وذلك أن :
من أصول أهل الأهواء الخروج واستحلال السيف ، أي الخروج على الجماعة ، وعلى الولاة المسلمين بالسيف واستحلال ذلك إما أن يكون بالفعل والاعتقاد كما عند الخوارج ومن سلك سبيلهم ، أو بالاعتقاد كما عند الجهمية والمعتزلة والرافضة وغيرهم .
حيث يعتقدون استباحة الخروج ، لكنهم قد لا يتمكنون منه ؛ إما بسبب الخوف أو لعدم القدرة على الخروج أو لانتظار رجل موهوم كما يعتقد الرافضة فهؤلاء وأمثالهم لما استحلوا البدعة ، تنكروا للسنة .
قال أبو قلابة : ( ما ابتدع قوم بدعة إلا استحلوا السيف )103 ، وذلك لأنهم رأوا وزعموا أن التزام السنة من المنكر الذي يجب عليهم الخروج عليه .
لذلك كان بعض السلف يسمي كل أصحاب الأهواء : خوارج ، أي أن سمتهم الخروج فكان ( أيوب السختياني ) يسمي أصحاب الأهواء خوارج ، ويقول : ( إن الخوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف )104.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة ، وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة ، وأما أهل الأهواء ، كالمعتزلة فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم ، ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة : التوحيد ... ) إلى قوله : ( والأمر بالمعروف والني عن المنكر ، الذي منه قتال الأئمة ) 105.
منهج السلف : أن الخروج على الأئمة فتنة ، لذلك كرهوا القتال في الفتنة مطلقاً ونهوا عنه أشد النهي ، أما أهل الأهواء فإنهم يسمون الخروج والقتال في الفتنة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا من التلبيس والجهل .
قال شيخ الإسلام : ( فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستلزماً من الفساد أكثر مما فيه من الصلاح لم يكن مشروعاً ، وقد كره أئمة السنة القتال في الفتنة التي يسميها كثير من أهل الأهواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن ذلك إذا كان يوجب فتنة هي أعظم فساداً مما ترك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لم يُدفع أدنى الفسادين بأعلاهما ، بل يدفع أعلاهما باحتمال أدناهما ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال إصلاح ذات البين ،فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين )) )106.
وبعض أهل الأهواء : كالخوارج والمعتزلة ومن سلك سبيلهم يكفرون الولاة بالمعصية ، ويستحلون قتالهم ، قال شيخ الإسلام : وقال تعالى : {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (النساء:65)، فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن وأما من كان ملتزماً لحكم الله ورسوله باطناً وظاهراً لكن عصى واتبع هواه فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة ، وهذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله ، ثم يزعمون أن اعتقادهم هو حكم الله ، وقد حكم الله ، وقد تكلم الناس بما يطول ذكره هنا 107.
حتى صار من أبرز سمات أهل الأهواء ترك الصلاة خلف الفاسق والمفضول ، فإن غالب أهل الأهواء لا يجيزون الصلاة خلف الفاسق ، وهو مذهب الخوارج والزيدية والرافضة وجمهور المعتزلة .108
دعوى أن السلف يضعّفون الثقات من مخالفيهم
زعموا أن الحنابلة ويقصدون بهم أهل السنة ( السلف الصالح أهل الحديث ) : يضعفون ثقات المخالفين لهم ويوثقون ضعفاء الموافقين لهم .
وهذه فرية كبرى وجهل فاضح ، فإن موازين الجرح والتعديل عند أئمة الحديث ، تقوم على موازين وضوابط ومقاييس علمية وشرعية وعقلية ، تقوم على العدل والتثبت والعلم ، وكانوا يعّدون الإسناد من الدين .
ومن موازين الجرح والتعديل التي ضاق بها أهل الأهواء - قديماً وحديثاً - رد رواية المبتدع الداعي إلى بدعته عند أكثر أهل العلم ، وذلك أمر تقتضيه قواعد الشرع وموازين العلم .
فالبدعة ضلالة ، والمبتدع متهم في الدين من هذا الوجه وإذا دعا إلى بدعته فهو قد أصر على الضلالة ، فكيف تقبل روايته إذا كان كذلك .
كما أن أهل الحديث والسلف الصالح يردون رواية كل من لم تتوافر فيه شروط الرواية وإن انتسب للسنة وأهلها وإن كان من الصالحين والعُبَّاد .
وقد رد أهل الحديث رواية كثيرين من أهل السنة كما هو معلوم مستفيض ، ويقبلون رواية الثقة ؛ وإن كان ممن لهم زلات لا تطعن في ذمته ودينه ؛ولذلك كان بعض أهل الحديث يقبلون رواية المبتدعة غير الداعي إلى بدعته إذا كان ثقة عندهم .
وآخرون يرون البدعة بحد ذاتها جارحة ومؤثرة في العدالة .
وقد شهد عقلاء العالم - قديماً وحديثاً - أن موازين الجرح والتعديل والقواعد التي وضعها السلف أهل الحديث لضبط الأسانيد والمتون وأحوال الرجال ، هي أدق موازين ومقاييس في تقويم الرواية والدراية عرفتها البشرية إلى اليوم .
وذلك تحقيق لوعد الله تعالى بحفظ هذا الدين ، ومن مقتضيات انقطاع الوحي وختم الرسالة .
دعوى تعصب أهل السنة لمذهبهم ولعلمائهم وغلوهم فيهم
المستفيض عن أهل السنة ، أئمتهم وأتباعهم ، مقت التعصب والغلو أياً كان ، ولذلك قد يصفعهم أهل الأهواء الذين يغلون في الرجال بأنهم ( جفاة ) .
كما أن أهل السنة يثنون على علمائهم ويقتدون بهم بحق ، كما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وليس هذا غلواً .
أمَّا ما يحدث من بعض علماء السنة وبعض طلاب العلم فيهم أو عوامهم من غلو أو عصبية قد تخرج عن الحد الشرعي ، فهو من الأخطاء الفردية ، فيجب أن لا تحسب هذه الأخطاء على المنهج نفسه ، أو على أهله بجملتهم ، إنما تقاس الأمور بالمناهج والقواعد والأصول ، وما عليه أهل العلم والاستقامة والقدوة في الجملة ، وترد إلى أدلة الكتاب والسنة .
كما أن غلو بعض المنتسبين للسنة في علمائهم جهلاً أو إفراطاً ، فإنه إن حصل فهو لا يصل إلى العبادة و التقديس واعتقاد العصمة ، كما عند غيرهم ، فهو - أعني الغلو والتقديس - عند غيرهم هو الأصل .
كما أن هذا - أعني الغلو والتقديس - نادرٌ جداً ليس عليه إلا الشاذ ، وهو مردود أيضاً لا يقر عند جمهور أهل السنة فلا يحسب على النهج والعموم .
كما أن هذا لم يحدث من العلماء القدوة والأئمة الكبار - بحمد الله - إلا في زلات نادرة ، أو تعبيرات شاذة - ومع ذلك - فإن أهل السنة إذا حدث هذا ممن ينتسبون إلى السنة أو غيرهم ، أنكروه ولم يقروه ، كما فعل الشيخ بكر أبو زيد في المناهي اللفظية ص( 488 ،489 ) حيث أنكر بعض العبارات التي أطلقها البعض في حق بعض أئمة السلف .
أما أهل الأهواء- نظراً لأنهم مفرَّطون في اتباع السنة- فمن الطبعي أن يصفوا التمسك بالسنة غلوّاً وتعصباً وتحجراً ونحوه ذلك
** وزعموا أن أهل السنة يشهدون لمن يوافقهم بالعدالة ويجرحون من يخالفهم .
وهذه فرية وجهل كبير ، فإن أهل السنة اعتمدوا للجرح والتعديل قواعد شرعية دقيقة ، ومقاييس علمية منضبطة حفظ الله بها السنة إلى قيام الساعة .
وميزان الجرح والتعديل لدى أهل الحديث ، أهل السنة يقوم على العدل وعلى الموازين الشرعية .
ورد رجال الحديث للرواة الذين ينتسبون لأهل البدع والأهواء إنما كان لحماية السنة من الأهواء ، لا لمجرد كونهم من المخالفين ، ولا لمجرد الانتماء ، مع العلم أن الانتماء لغير السنة أمر قادح ، ومع ذلك لا يردون رواية المبتدعة مطلقاً ؛ إنما يردون رواية المبتدع الداعي إلى بدعته ، أو إذا كانت الرواية تنصر بدعته وتوافق ما يذهب إليه .
تعيير السلف بما يمدحون به
وقالوا عن السلف بأنهم : ( عثمانية ) لأن أهل الأهواء يقدحون في عثمان - رضي الله عنه - ويرون من لم يقدح فيه فهو ( عثماني ) وهذا حق أريد به باطل .
وقالوا عن السلف بأنهم : ( حنابلة) و( بربهارية ) و (وهابية ) لأن كلاً من الإمام أحمد بن حنبل ، والإمام البربهاوي والإمام محمد بن عبد الوهاب من أئمة السنة وعلماء السلف الصالح الذين نصروا السنة وأنكروا البدع وحذروا الأمة منها ومن أهلها .
وهذه - بحمد الله - تزكية حيث نسبوا السلف إلى هؤلاء الأئمة العدول الثقات الصالحين .
أهل السنة لا يكفرون المسلم إلا بدليل
أهل السنة والجماعة لا يكفرون المسلم , ولا يخرجونه من الملة إلا بدليل , وتتخلص قواعد التكفير عندهم فيما يلي :
1. ... من حكم الله بكفره (وهو الكافر الأصلي) فإن تكفيره من المعلوم من الدين بالضرورة , كأهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمجوس والصائبة والمشركين والملاحدة , وكل من لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهؤلاء كلهم ومن في حكمهم كفار قطعاً .
2. ... من حكم بإسلامه , هو المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، لا يخرج من الإسلام ، إلا بموجب يقوم عليه الدليل ، ويحكم به أهل الاجتهاد من العلماء الذين يفقهون شروط وموانعه الشرعية .
3. ... ليس كل من قال كفراً أو فَعَلهُ كفر إذا كان مثله يجهل ولم يكن ذلك من الأمور المعلومه .. من الدين بالضرورة ؛ حتى تتوافر الشروط وتنتفي الموانع في حق المعين من الأشخاص أو غير المعين من الفرق والجماعات ونحوها .
4. ... أن الكفر أنواع وشعب ، كما أن الإيمان شعب وأنواع ، فليس كل كفر يوجب الخروج من الملة .
فالسلف الصالح أهل السنة والجماعة ، لا يكفرون إلا بأدلة وبينات ، وما زعمه بعض المفتونين ، وأهل الأهواء - قديماً وحديثاً - من أن أهل السنة والجماعة - وقد يسمونهم ( الحنابلة ) - من أخطائهم ... وفي كتبهم : ( التكفير والتبديع وتوابعها من التضليل والتفسيق والشتم واللعن والبذاءة )109.
فهو من الجهل والتحامل إذ أن ما اشتملت عليه كتب السلف من ذلك إنما هو تقرير للحق ، فإن هذه الأوصاف جاء بها الشرع ، ويستحقها من فعل موجبها ، أو قاله بالشروط والضوابط الشرعية التي يعرفها أهل العلم ، أما ما ادعاه هؤلاء المفتونون من كتب السلف اشتملت على هذه الأحكام بغير حق ، أو أن ذلك عدوان وظلم للآخرين .
فإن هذا محض افتراء ، ليس له من المستمسك إلا اتباع المتشابه من الأقوال والمواقف ، وقد لبَّس بعض أهل الأهواء على الناس وافترى على أهل السنة ، فزعم أنهم يكفِّرون خصومهم ، من الجهمية والشيعة والمعتزلة والقدرية والمرجئة ونحوهم .
وهذا كذب وافتراء فإن أهل السنة لم يكفروا هذه الفرق بإطلاق ، لكنهم كفروا من قام الدليل على كفرهم من غلاة هذه الفرق ، كالجهمية ، والإمامية وهم من غلاة الشيعة وغلاة القدرية ، وغلاة المرجئة .
وكذلك التبديع والتضليل والتفسيق إنما يطلقه علماء السلف على من يستحقه شرعاً ، وهذا عمل بشرع الله وقيام بما أوجبه الله قال سبحانه : { أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } (القلم:35-36) وقال سبحانه:{ أ َفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ } (السجدة:18) .
كما زعموا : أن أئمة السنة مثل : البربهاري وابن تيمية وابن القيم وهم من أئمة السنة وأعلامها يكفرون المخالفين لهم ويكفرون بعض المسلمين ، هذا تحامل ظاهر ، فإن هؤلاء العلماء إنما حكموا بما قام به الدليل على أنه كفر من المقالات والاعتقادات والأقوال والأعمال ، ولم يتعرضوا لتكفير المعيَّن إلا نادراً ، وباجتهاد سائغ شرعاً على مقتضى الدليل ، وهذا هو المنهج الحق .
وقد يحدث من بعض المنتسبين للسنة والجماعة ، من العامة أو طلاب العلم أو العلماء تكفير أو تفسيق أو سب على غير الوجه الشرعي ، وقد يكون من بعض أفرادهم ظلم أو عدوان ، أو هوى هو فيه مخطئ ، أو يكون ذلك من أحدهم عن اجتهاد خاطئ ، وزلة غير مقصودة . ونحو ذلك مما يعتري سائر البشر ، نعم قد يحدث مثل هذه الزلات من بعض أفراد السلف أهل السنة والجماعة - وهو نادر جداً بحمد الله - وليس هو المنهج الذي يدينون به ويعتقدونه وليس ذلك من هديهم ولا خلقهم ، ولا يقرونه ، كما هو مستفيض في كتبهم وسيرهم ، فهم خيار الناس وعدولهم لكن ليس لأفرادهم عصمة ، والميزان فيما يصدر عن أفرادهم الكتاب والسنة ، فهذا مشربهم ، فما وافق الدليل أقروه وإن كان صادراً عن غيرهم ، وما خالف الكتاب والسنة ضربوا به عرض الحائط وإن قال به أو فعله أحدهم ، كما صرح بذلك كبار أئمة السلف ، وعليه العمل - بحمد الله - ومن تجاوز الحق فقد أخطأ كائناً من كان .
وقد يطلق بعض السلف على بعض المقالات أنها كفرٌ أو الفرق أنها كفرت ، أو أكفر من اليهود والنصارى والمشركين ونحو ذلك ، وهذا إما يقصد به الحكم من بعض الوجوه ، كأن يقال فيمن سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم - من الإمامية ونحوهم - هذا أشد أو أكفر من اليهود ، ويقصد من هذا الوجه ، لأن اليهود لم يسبوا أصحاب موسى ، وهؤلاء الإمامية سبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، أو يقصد بذلك الوعيد والتنفير من المقالات الفاسدة ، وقد يكون ذلك من الخطأ والزلة التي لا يُقر قائلها ، لكنها لا تحسب على السلف ولا على منهجهم فهو الأسلم والأعلم والأحكم .
وزعموا أن من أخطاء السلف الاستعداء على الخصوم وإرهاب المخالفين والانتقام ونحو ذلك ، وهذا من تلبيس أهل الأهواء ، فإن السلف كانوا - ولا يزالون بحمد الله - قائمين بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله تعالى ، ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم بالتحذير ، من البدع والأهواء وأهلها ، والاحتساب على أهل البدع ، ويدخل في ذلك تحذير شباب الأمة وعامتهم وولاتهم من البدع وأهلها .
بل ويدخل في أداء هذا الواجب السعي إلى تعزير دعاة البدع والأهواء والفساد ومروجيها ،والطاعنين في السنة وأهلها : لأنهم خراب السفينة .
وقيام السلف بهذا الواجب يسميه أهل الأهواء : ( استعداء ) وتضييقاً وحجراً ، وإرهاباً للمخالف .
وهو حق وبحق ؛ حيث كان فعل السلف هذا تجاه أهل الأهواء استعداء مشروعاً ضد الباطل ، وتضييقاً وحجراً للباطل وأهله ، وجهاداً مشروعاً لا إرهاباً ، وما يحدث في نفوس أهل الأهواء من الذل والخوف والرعب من السنة وأهلها ، ليس من صنع السلف ، لكنه بما وعد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين من النصر بالرعب ، وتخويف أعداء الله ورسوله ، ويدخل في ذلك زعم أهل الأهواء بأن السلف يفتون بقتل المخالف ، وهذا فيه حق وباطل .
وجه الحق فيه أن السلف يجتهدون ويحتسبون علي المخالفين للحق والسنة على حسب أدلة الشرع وقواعد الدين ، فإذا رأوا صاحب بدعة مكفرة داعياً إلى بدعته يحارب السنة ويفرق الأمة بذلك ، أقاموا عليه الحجة وبينوا له وجه الحق بالدليل ، واستتابوه فإن انصاع للحق وكفّ عن الدعوة إلى ضلالته ، وتوقف عن نشر الفساد ، فهذا ما يسعون إليه ، وإن لم يفعل حكموا شرعاً بكف شره عن المسلمين بأدنى ما يندفع به شره من الجلد أو الحبس أو النفي ونحو ذلك ، فإن لم ينكف شره وفساده إلا بالقتل فهذا حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم فيه .
كما فعل الصحابة مع الخوارج حين قاتلوهم ، ومع غلاة الشيعة الزنادقة ( حين حرّقهم علي - رضي الله عنه - ) .
وكما فعل الصحابة قبل ذلك مع مانعي الزكاة ، وكما فعل أئمة الإسلام من التابعين وتابعيهم ومن سار على نهجهم ، مع الجعد بن درهم ، وغيلان الدمشقي ، والجهم بن صفوان ، وبيان بن سمعان وأبي منصور العجلي والمغيرة بن سعيد ، والحلاج ، وبشار بن برد ، والشلمغاني ، وصالح بن عبد القدوس والسهروردي المقتول .
وأضرابهم من رؤوس الضلالة ورموز البدع والأهواء الذين يتباكى عليهم أخلافهم اليوم ، ويزعمون أن إعلان حكم الشرع فيه ظلمٌ وحجرٌ واستعداءٌ ونحو ذلك .
=================(52/496)
(52/496)
رجال اختلف فيهم الرأي\\ من أرسطو إلى لويس عوض \\ ... 2
(52/496)
(52/496)
نظرات شرعية في فكر الدكتور حسن الترابي ... 83(52/497)
(52/498)
ايمانويل كانط ... 158(52/499)
(52/500)
الماركسي ( محمد شحرور ) .. وكتابه عن القرآن ... 166(53/1)
(53/2)
( الليبرالي الخائن ) : شاكر النابلسي .. ( حقائق عنه ) ... 188(53/3)
(53/4)
نصر حامد أبوزيد ... و ( الهرمنيوطيقا ) ..! ... 199(53/5)
(53/6)
المجرم ... علاء حامد .. ! ( قصته وقضيته ) ... 218(53/7)
(53/8)
عبدالله ثابت : قرد والقرود قليل ! ... 226(53/9)
(53/10)
مناقشة أفكار عبدالله القصيمي (أيها العقل من رآك) ... 231(53/11)
(53/12)
كتب وجهود عبد الله القصيمي بعد إلحاده : ... 269(53/13)
(53/14)
الوجه الآخر للدكتور طه حسين ... 281(53/15)
(53/16)
النزعة المادية عند الشاعر محمد إقبال ... للأستاذ / عادل التل ... 360(53/17)
(53/18)
لويس عوض ... الأسطورة والحقيقة ...! ... 379(53/19)
(53/20)
مريم نور .. موضة جديدة في الإلحاد .. ! ... 396(53/21)
(53/22)
الحلل المحبوكة في الرد على صاحب السكسوكة !! ... 411(53/23)
(53/24)
خالص جلبي شيخ (العصرانيين) في القصيم !! ... 419(53/25)
(53/26)
فيلسوف القومية ... ( ساطع الحصري ) ... 438(53/27)
(53/28)
من يساعدنى على كشف شخصية سعد زغلول ؟ ... 441(53/29)
(53/30)
إعلان سيد القمنى الاعتزال: خواطر وتساؤلات ... 448(53/31)
(53/32)
تعرف على الملحد .. ( صادق العظم ) ... 497(53/33)
(53/34)
أسامة أنور عكاشة حجر حقير على رقعة شطرنج أكثر حقارة ... 512(53/35)
(53/36)
المفكر الغربي ( نيتشة ) - نقد علمي لفكره - ... 532(53/37)
(53/38)
المفكر الغربي ( دافيد هيوم ) - نقد علمي لفكره - ... 550(53/39)
(53/40)
اعتراف آخر ... للجابري ! ... 566(53/41)
(53/42)
اعتراف آخر ... لمحمد أركون ! ... 568(53/43)
(53/44)
محمد أركون ومعالم أفكاره ... 572(53/45)
(53/46)
المفكر الغربي ( شوبنهاور ) - نقد علمي لفكره - ... 582(53/47)
(53/48)
كارل ساغان .. ذلك الماكر المخادع .. وا أسفاه على من يُصدق هؤلاء الماكرين ... 602(53/49)
(53/50)
طه حسين".. وسقوط القناع الزائف ... 607(53/51)
(53/52)
الرد على كتاب ماساة ابليس ... 637
للكاتب صادق جلال العظم ... 638(53/53)
(53/54)
سلسلة كشف الشخصيات (1) : قاسم أمين ... 660(53/55)
(53/56)
سلسلة كشف الشخصيات (2) : رفاعة الطهطاوي ... 673(53/57)
(53/58)
سلسلة كشف الشخصيات (3) : جمال الدين الأفغاني ... 677(53/59)
(53/60)
سلسلة كشف الشخصيات (4) : محمد عبده ... 689(53/61)
(53/62)
سلسلة كشف الشخصيات (5) : طه حسين ... 696(53/63)
(53/64)
سلسلة كشف الشخصيات (6) : محمود أبو ريّة ... 829(53/65)
(53/66)
سلسلة كشف الشخصيات (7) : لطفى السيد ... 834(53/67)
(53/68)
سلسلة كشف الشخصيات (8) : فرج فودة ... 843(53/69)
(53/70)
سلسلة كشف الشخصيات (9) : محمد سعيد العشماوي ... 857(53/71)
(53/72)
سلسلة كشف الشخصيات (10) : تركى الحمد ... 869(53/73)
(53/74)
سلسلة كشف الشخصيات (11) : نوال السعداوى ... 972(53/75)
(53/76)
سلسلة كشف الشخصيات (12) : أمينة السعيد ... 998(53/77)
(53/78)
سلسلة كشف الشخصيات (13) : داروين ... 1004(53/79)
(53/80)
سلسلة كشف الشخصيات (14) : دوركايم ... 1018(53/81)
(53/82)
سلسلة كشف الشخصيات (15) : سارتر ... 1031(53/83)
(53/84)
سلسلة كشف الشخصيات (16) : فرويد ... 1048(53/85)
(53/86)
سلسلة كشف الشخصيات (17) : ماركوز ... 1081(53/87)
(53/88)
سلسلة كشف الشخصيات (18) : ميكافيللى ... 1091(53/89)
(53/90)
سلسلة كشف الشخصيات (19) : ليلي الأحدب ... 1103(53/91)
(53/92)
سلسلة كشف الشخصيات (20) : برجسون ... 1115(53/93)
(53/94)
سلسلة كشف الشخصيات (21) : ديكارت ... 1124(53/95)
(53/96)
سلسلة كشف الشخصيات (22) : خليل عبد الكريم ... 1130(53/97)
(53/98)
سلسلة كشف الشخصيات (23) : أحمد البغدادى ... 1163(53/99)
(53/100)
سلسلة كشف الشخصيات (24) : جرجي زيدان ... 1167(53/101)
(53/102)
سلسلة كشف الشخصيات (25) : علي عبد الرازق ... 1182(53/103)
(53/104)
سلسلة كشف الشخصيات (26) ضياء كوك الب ... 1194(53/105)
(53/106)
سلسلة كشف الشخصيات (27) ديموقريطس ... 1196(53/107)
(53/108)
سلسلة كشف الشخصيات (28) أبيقور ... 1212(53/109)
(53/110)
سلسلة كشف الشخصيات (29) برتراندرسل ... 1218(53/111)
(53/112)
سلسلة كشف الشخصيات (30) كارل ماركس ... 1241(53/113)
(53/114)
سلسلة كشف الشخصيات (31) : نجيب محفوظ ... 1243(53/115)
(53/116)
سلسلة كشف الشخصيات (32) : حسن حنفى ... 1263(53/117)
(53/118)
مشروع محمد عبده ( الإصلاحي ) وزرع الشوك ... 1274(53/119)
(53/120)
وهلك...(الماغوط)...!! ... 1281(53/121)
(53/122)
منصور النقيدان ... (جولة في ردهات نفسه وضميره) !! ... 1283(53/123)
(53/124)
تركي الحمد وأطياف الأزقة المهجورة (1) ... 1289(53/125)
(53/126)
ما لا تعرفونه عن المعد الديني لـ "الحور العين": ... 1298
حقائق فظيعة ومخزية !! ... 1299(53/127)
(53/128)
النقيدان من التحريف إلى التخريف ... 1331(53/129)
(53/130)
نظرة شرعية في فكر : عبدالله العلايلي ... 1334(53/131)
(53/132)
نظرة شرعية في فكر : علي حرب ... 1352(53/133)
(53/134)
نظرة شرعية في مؤلفات : خليل عبدالكريم ... 1367(53/135)
(53/136)
نظرة شرعية في فكر : حسين أحمد أمين ... 1380(53/137)
(53/138)
نظرة شرعية في فكر منحرف ... محمود العالم ... 1402(53/139)
(53/140)
نظرة شرعية في مؤلفات : د / سيد القمني ... 1412(53/141)
(53/142)
نظرة شرعية في فكر (محمود شلتوت) ... 1430(53/143)
(53/144)
نظرة شرعية في فكر الدكتور محمد عمارة(1) ... 1437(53/145)
(53/146)
نظرة شرعية في فكر فهمي هويدي(2) ... 1447(53/147)
(53/148)
نظرة شرعية في فكر أحمد كمال أبو المجد ... 1488(53/149)
(53/150)
نظرة شرعية في فكر الدكتور محمد سليم العوا ... 1518(53/151)
(53/152)
نظرة شرعية في فكر طارق البشري ... 1528(53/153)
(53/154)
نظرة شرعية في فكر (عبد الرحمن الشرقاوي) ... 1535(53/155)
(53/156)
نظرة شرعية في فكر (الدكتور محمد أركون) ... 1568(53/157)
(53/158)
نظرة شرعية في أدب الدكتورة سعاد الصباح ... 1604(53/159)
(53/160)
انحرافات المفكر التونسي : هشام جعيّط ... 1643(53/161)
(53/162)
نظرة شرعية في أدب فدوى طوقان ... 1650(53/163)
(53/164)
نظرة شرعية في ثلاثية تركي الحمد ... 1660(53/165)
(53/166)
نظرة شرعية في أدب (إيليا أبو ماضي) ... 1757(53/167)
(53/168)
نظرة شرعية في أدب (يوسف إدريس) ... 1766(53/169)
(53/170)
نظرة شرعية في فكر (نوال السعداوي) ... 1780(53/171)
(53/172)
نظرة شرعية في فكر (فرج فوده) ... 1794(53/173)
(53/174)
نظرة شرعية في فكر (الدكتور فؤاد زكريا) ... 1807(53/175)
(53/176)
نظرة شرعية في فكر (أمينة السعيد) ... 1834(53/177)
(53/178)
نظرة شرعية في فكر (أحمد لطفي السيد) ... 1840(53/179)
(53/180)
نظرة شرعية في فكر (جبران خليل جبران ) ... 1849(53/181)
(53/182)
نظرة شرعية في أدب (أبي القاسم الشابي) ... 1856(53/183)
(53/184)
نظرة شرعية في فكر (محمد سعيد العشماوي) ... 1863(53/185)
(53/186)
نظرة شرعية في فكر الروائي (عبد الرحمن منيف) ... 1869(53/187)
(53/188)
نظرة شرعية في فكر (عبد الله العروي) ... 1882(53/189)
(53/190)
نظرة شرعية في فكر(محمد أحمد خلف الله) ... 1889(53/191)
(53/192)
نظرة شرعية في فكر (محمد عابد الجابري) ... 1921(53/193)
(53/194)
نظرة شرعية في فكر (الدكتور أحمد البغدادي) ... 1951(53/195)
(53/196)
نظرة شرعية في فكر (فرح انطون) ... 1955(53/197)
(53/198)
نظرة شرعية في فكر (شبلي شميّل) ... 1959(53/199)
(53/200)
نظرة شرعية في فكر (سلامة موسى) ... 1962(53/201)
(53/202)
اعترافات .. محمد عابد الجابري ..! ... 1967(53/203)
(53/204)
أدونيس وقبره الذي يحلم به ... 1970(53/205)
(53/206)
محمود درويش غرمٌ وليس غُنمًا ... 1972(53/207)
(53/208)
وقفات مع عمرو خالد ... 1976(53/209)
(53/210)
عمرو خالد داعية الإسلام الأمريكي ... 1982(53/211)
(53/212)
: ماذا وراء مؤتمر عمرو خالد في الدنمارك؟! ... 1986(53/213)
(53/214)
سلمان العودة بين عمرو خالد و ستار أكاديمي ... 1992(53/215)
(53/216)
عمرو خالد ! ... 1998(53/217)
(53/218)
عَمرو خالد وبرنامَجُه " صُنَّاعُ الحياة " ... 2004(53/219)
(53/220)
عمرو خالد وبرنامج صنّاع الحياة هل يصنعان نهضة ؟ ... 2016(53/221)
(53/222)
عمرو خالد وأحلامه الوردية في صناع الحياة ... 2030(53/223)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (20) سراب الديمقراطية الخادع
الباب العشرون
سراب الديمقراطية الخادع
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب العشرون
سراب الديموقراطية الخادع(54/1)
(54/2)
مفهوم «التعددية الديمقراطية» وعلاقته بالأقليات
تاريخ الإضافة : 11/06/2004
بقلم: أحمد الخطيب / نقلا عن مجلة الوعي
ما يشاع في وسائل الإعلام من أحاديث عن التعددية الديمقراطية، لا يخرج كله من مشكاة واحدة، فهذا المفهوم في دول الغرب له واقع مختلف عما يراد له في الدول العربية، أو حتى في البلدان الإسلامية على وجه العموم.
فالتعددية في الغرب هي تعددية حزبية حقيقية، وتعني التعددية في البرامج السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وهذه التعدديات هي تعددية في الفكر السياسي، الذي يخضع لأنظمة الحكم الرأسمالية الديمقراطية المتبناة في البلدان الغربية، فلا علاقة لهذه التعددية بالقبلية والعشائرية، أو بالأعراق والطوائف، كما ولا علاقة لها بالأديان والمذاهب، بل تسير في أجواء المبدأ الرأسمالي الذي تسود القناعة به في بلاد الغرب لتثبيت هذا المبدأ وتقوية التمسك به وتطبيقه.
وبالمقابل فالتعددية الديمقراطية التي يريدها الغرب، وبخاصة أميركا، للبلاد الإسلامية، ليست تعددية في أجواء المبدأ الإسلامي الذي تسود القناعة به في بلاد المسلمين، ولا لتثبت هذا المبدأ وتقوية التمسك به وتطبيقه، بل إن التعددية المقترحة في البلاد الإسلامية تعني التعددية القبلية والشعوبية، وتعني كذلك التعددية المذهبية والطائفية، وإثارة الفرقة والتجزئة في بلاد المسلمين
فتعددية الغرب عنصر من عناصر قوة مبدئها وزيادة التمسك به، ومن عناصر قوة الدول، ووحدتها، وتماسك مجتمعاتها، وتجانسها، بينما التعددية المرادة في البلاد الإسلامية هي عنصر من عناصر محاربة مبدئها، ومن عناصر ضعفها، وتخلخلها، وهشاشة مجتمعاتها، وسهولة تفتيتها.
وتركيز أميركا على فكرة التعددية (كما تريده هي لبلادنا) لم يأت من فراغ، وليس من باب الصدفة تضمين هذه الفكرة في جميع مشاريع الإصلاح الأميركية للشرق الأوسط، فيبدو أن أميركا وجدت في هذه الفكرة ضالتها، لأن فيها من الخداع والجاذبية الموهومة ما يمكنها من إعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط صياغة جديدة، على وجه يجعلها منطقة تابعة لها ولا تختلف كثيراً عن جمهوريات الموز في أميركا اللاتينية التي تعتبر كمزارع لشركاتها الاحتكارية.
لذلك ليس غريباً أن تركز أميركا على ما تسميه حقوق الأقليات للإثنيات والمذاهب. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أن أميركا تظهر حرصاً زائفاً على الأقلية الكردية، فتحتضنها، وتمدها بكل أسباب القوة، وتتباكى على ما أصابها من لأواء في حلبجة، ونجدها كذلك تذرف دموع التماسيح على شيعة العراق لأنهم -كما تزعم- حُرموا من حقوقهم في العهود السابقة والتي سيطر فيها على العراق حكام من السنة، وكأن حكام البعث، ومن سبقهم من قوميين وملكيين، كانوا يحكمون العراق حكماً مذهبياً!.
وكذلك لم يكن مستغرباً أن تركز أميركا، ومن ورائها أوروبا، على إبراز الهوية الأمازيغية في دول المغرب العربي، وأن تحتضن الأقليات الأوزبكية والطاجيكية في أفغانستان، وأن تعمل على إثارة الأقلية القبطية في مصر، وأن تؤازر الأقليات المسيحية والوثنية في جنوب السودان، وأن تثير الضغائن والمنازعات بين الأقليات والدول تحت ذريعة التعددية، بينما هي في واقعها صورة جديدة من صور القاعدة المشهورة فرق تسد.
لقد مارست أميركا لعبة التعددية هذه بإتقان ودهاء شديدين، فأوهمت الشعوب بأن في التعددية خلاص لها من الدكتاتورية، واستغلت تفوقها بعد سقوط منافسها الدولي السابق الذي كان يتمثل في الاتحاد السوفياتي، وركَّزت على الأقليات وتعددها لتسيطر على الدول بأسلوب جديد، فرعت الأقليات ودعمتها، وتحالفت معها لتستخدمها كرأس حربة تحقق بها مصالحها الاستعمارية.
فمثلاً ساندت في أريتريا أسايس أفورقي وهو نصراني من قبيلة اليتجراي، وهي من الأقليات في أريتريا، ودعمته إلى أبعد الحدود، بالرغم من خلفيته الاشتراكية اليسارية، ومنحته دولة في سرعة قياسية، كان من الصعب إيجادها، أو تصور وجودها بمثل هذه السهولة، ثم أسندته في حربه مع أثيوبيا، ومكنته من ترسيم الحدود معها، وتثبيت هذه الدولة الفتية في القرن الأفريقي، وبعد ذلك دعمته في قمع رفاقه السابقين في الثورة لكونهم ينتمون إلى خط العروبة والاشتراكية، وظاهرته ضد الأكثرية العربية المسلمة في البلاد التي كان يتوقع لها أن تكون دولة عربية، وأن تدخل في جامعة الدول العربية. وقام أفورقي بعد أن حصل على هذا الغطاء الأميركي بمحاربة العرب والمسلمين في اليمن، حيث غزا جزر عربية يمنية، وفي السودان حيث دعم مجموعات متمردة، وفي داخل أريتريا حيث حارب اللغة العربية والحضارة الإسلامية، وتحالف مع إسرائيل، واتخذ منها أنموذجاً يقتدى به. وتم القيام بكل هذه الأعمال المشينة، والتي يعتبر القيام بها بمثابة تمرد على الواقع، وخروج عن الصف، وانسلاخ من جسم المنطقة، تم القيام بكل هذه الأعمال بمظلة أميركية وتحت شعار التعددية.(54/3)
ومثلاً دعمت أميركا جون قرنق في جنوب السودان وهو من قبيلة الدينكا، وهي أقلية من عدة أقليات في جنوب السودان، الذي يجمع العرب والوثنيين والمسيحيين والأفارقة في نسيج هادئ تحت سيطرة العرب والمسلمين منذ قرون. فضخمت أميركا دور قرنق، ومدته بكل أسباب القوة، حتى صار ممثلاً لكل أهل الجنوب بمختلف أقلياته، وربما ستستمر في دعمه ليصبح في المستقبل رجل السودان الأول والأقوى، وذلك بعد الفراغ من مؤامرة تقسيم الثروة والسلطة، علماً بأن هذا الرجل تسبب في مقتل وتشريد الملايين من السودانيين.
ومثلاً قوَّت أميركا مركز رئيس أوغندا يوري موسيفيني، وهو من أقلية التوتسي، لدرجة أن أصبحت أوغندا، تحت رئاسته، أهم دولة في وسط أفريقيا. وعندما جاء بوش إلى القارة الأفريقية انطلق من أوغندا، واستطاع موسيفيني، بفضل هذا الإسناد الأميركي، أن يساهم في تغيير رؤساء الكونغو، ورواندا، وبوروندي، والإتيان برؤساء معظمهم من التوتسي، وبذلك تحولت أوغندا إلى قطب الرحى في منطقة أفريقيا الاستوائية، والتي ما كانت لتصل إلى كل هذا النفوذ، لولا دعم أميركا لأقلية التوتسي وللرئيس موسيفيني، الذي كان له دور مشبوه في مذابح الهوتو والتوتسي، التي بلغ ضحاياها ما يقارب المليونان.
وأما في الصومال، فأميركا عندما لم تجد فيه أقليات عرقية أو مذهبية، لجأت إلى تمزيقه عن طريق إشعال الفتن والحروب الأهلية، بين أمراء الحروب الذين قاموا بدور الأقليات، وبذلك تم التآمر على الصومال بحرمانه من الدولة والاستقرار، لمدة زادت عن الإثنتي عشرة سنة، فقسمته إلى خمسة أقاليم هي: أرض الصومال، والصومال بوند، وصومال حسن صلاد والعاصمة مقديشو، بالإضافة إلى إقليم أوغادين الذي سلخته أثيوبيا عن الصومال.
وأخيراً في أفغانستان، فقد رأينا كيف استخدمت أميركا قبائل الطاجيك والأوزبيك لمحاربة الأكثرية البشتونية، فحل في أفغانستان ما حل من احتلال، وخراب، ودمار، وهلاك للبشر.
هذه أمثلة حقيقية على استخدام أميركا لورقة التعددية في هذه البلدان والتي أنتجت التفتت والتدمير، والمذابح والتشريد، وهذه هي الحصيلة الأولى فقط للسياسة التعددية التي انتهجتها أميركا، خلال العقد الأول من عصر الهيمنة الأميركي على العالم.
والظاهر أن أميركا قد استمرأت هذه اللعبة، وبدأت بتطويرها بديباجة الديمقراطية لتسهيل تسويقها، وأصبحت التعددية بفضل الإعلام الأميركي هي النغمة الأكثر عزفاً على لحنها، من قبل صنّاع السياسة الأميركية، وصارت جزءاً جوهرياً من أطروحاتها الإصلاحية. فإذا كانت هذه هي التعددية الديمقراطية المصممة لبلادنا، وهذا هو حصادها، فما هو موقف الحكومات والنخب السياسية العربية والإسلامية منها؟
إن موقفها -وبكل أسف- يتجاوب مع هذه الأكذوبة الأميركية عن التعددية المذهبية والقبلية والأقليات والطوائف، وتجاوبهم معها ناشئ بسبب التبعية والخوف من فقدان الكرسي. وإن موقف كثير من النخب السياسية الفاعلة في هذه الدول، سواء من الحكومات أم من المعارضة، هو موقف إنهزامي أناني يتعاطى مع هذه الأطروحات الأميركية، لا بوصفها مقنعة أو صحيحة، وإنما بوصفها أمراً واقعاً يستوجب الخنوع. وما يجري في العراق اليوم يعتبر أحدث نموذج لهذه الأطروحات الأميركية، حيث لم تكتف أميركا ورجالها في مجلس الحكم، وفي غير مجلس الحكم، من تقسيم العراق على أساس عرقي بين العرب، والأكراد، والتركمان، والأشوريين، بل وقسموه أيضاً على أساس مذهبي بين السنة والشيعة، وهذا كله يُبرَّر بذريعة التعددية الديمقراطية!!
إن هذه العدوى نراها اليوم تنتقل بسرعة إلى مناطق جديدة مثل أكراد سوريا، وشيعة الجزيرة العربية، وهذا هو أول القَطر الأميركي لهذه التعددية البغيضة، ولا ندري إلى أين سينتهي المطاف بها.
إن التعددية الديمقراطية المصممة لبلادنا هي داء أميركي عضال لا بد من علاجه، وعلاجه الوحيد الناجع الشافي يتمثل في دواء الإسلام، بوصفه فكراً وعقيدةً ونظام حياة، لا فصل فيه بين الدين والحياة، ولا بين العبادة والسياسة، وهو العلاج الوحيد الذي لا يختلف عليه أتباع مذهب، أو أبناء عرْق، أو حتى أهل ذمة، لأنه ينصف الكل، ويعدل مع الكل، ويوحد ولا يفرق، ويُغلِّب العفو والتسامح على العصبية والعنصرية، ويجعل قاعدة «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى» هي الأساس في النظر إلى الرعية، ويجعل الاخوة بين أفراد المجتمع تقوم على أساس اخوة العقيدة بدلاً من اخوة القبيلة مصداقاً لقول الحق وهو أصدق القائلين: ]إنما المؤمنون إخوة[
**********************(54/4)
(54/5)
الديمقراطية
الديمقراطية Democ r acy كلمة مشتقة من لفظتين يونانيتين Demos ( الشعب و K r atos ( سلطة ) ومعناها الحكم الذي تكون فيه السلطة للشعب . وتطلق على نظام الحكم الذي يكون الشعب فيه رقيبا على أعمال الحكومة بواسطة المجالس النيابية ، ويكون لنواب الأمة سلطة إصدار القوانين .
وأول من مارس الديمقراطية هم الإغريق في مدينتي أثينا وإسبرطة ، حيث كانت تقوم في كل من المدينتين حكومة ( يطلق عليه ا إصطلاحا اسم " حكومة المدينة " أي الحكومة التي تقوم في مدينة واحدة مفردة ) وكان كل أفراد الشعب من الرجال في كل من المدينتين يشاركون في حكم المدينة ، فيجتمعون في هيئة " جمعية عمومية " فيتشاورون في كل أمور الحكم ، فينتخبون الحاكم ويصدرون القوانين ويشرفون على تنفيذها ويضعون العقوبات على المخالفين فكان " حكم الشعب مطبقا بصورة مباشرة في كل من المدينتين ، وكانت التسمى ة منطبقة على الواقع انطبقا كاملا .
ولكن هذه الصورة من صور الديمقراطية انتهت بانتهاء " حكومة المدينة " في كل من أثينا وإسبرطة ، وإن ظلت محفوظة في ذاكرة أوروبا ككثير من الأفكار والقيم والمبادئ الإغريقية التي بقيت كامنة في الفقرة التي غلبت المسيحية فيها على أوروبا ، ثم عادت إلى الظهور بعد قيام " النهضة " على التراث الإغريقي الممتزج بالتراث الروماني ، الذي يطلقون عليه في اصطلاحاتهم G r eco صلى الله عليه وسلمoman أي إغريقي روماني .
ولقد ظل الإقطاع يحكم أوروبا أكثر من ألف عام في ظل الإمبراطورية الرومانية والقانون الروماني . ولم تغير المسيحية شيئا من سماته في هذه الناحية ، لأن الكنيسة لم تحاول تطبيق شريعة الله ، وتركت الأوضاع السياسية الاقتصادية والاجتماعية تجري على ما كانت عليه في ظل الإمبراطورية الرومانية دون تعديل يذكر ، وحين نازعت المملوك والأباطرة سلطانهم لم يكن ذلك -كما أسلفنا - من أجل إلزامهم بتحكيم شريعة الله ، كما فعل المسلمون في الأرض التي حرروها من قبضة الرومان في مصر والشام والشمال الأفريقي .. إلخ . إنما كان من أجل إلزامهم بالخضوع لهواها هي وسلطانها الشخصي .
وفي ظل الإقطاع لم يكن " للشعب " وجود إلا بوصفه قطعا آدمية لاصقة بالطين ، لا كرامة لها ولا حقوق..
كان هناك ملوك مستبدون بالحكم يحكمون بمقتضى " الحق الآلة ي المقدس " باعتبارهم " ظل الله في الأرض" فكلامهم أمر ، وأمرهم مقدس ، وما عن لهم من أهواء فهي أوامر واجبة التنفيذ .
ويعاونهم في تثبيت سلطانهم وتوكيده في الأرض أمراء الإقطاعيات الواقعة في ملكهم ، مقابل إطلاق يد هؤلاء الأمراء ( الذين يسمون : النبلاء أو الإشراف ) في إقطاعياتهم ، يتصرفون فيها كيف شاءوا دون مراجعة ولا رقابة تضبط تصرفاتهم ، لأن الذين يعيشون على أرض الإقطاعية هم إما عبيد وإما في حكم العبيد ، وسلطان " الشريف" عليه م سلطان مطلق بحكم " القانون " فهو بالنسبة لهم يمثل السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية جميعا في آن واحد ، وليس للمالك على الإقطاعي إلا ما يفرضه عليه من الأموال ( بمقدار ما يشبع نهمه ومطالبه ) وتلك يستخرجها أمير الإقطاع من فلاحيه بالقوة الجبرية ، والأنفار " الذين يطلب المالك تجنيدهم في جيوشه ليموتوا من أجل تحقيق أهوائه ومطامعه .. أي أن سلطة الملك في النهاية واقعة على أولئك العبيد من خلال سلطة أمراء الإقطاع ، كما تقع عليه م السلطة المباشرة من أمراء الإقطاع لحسابهم الخاص .. وفي جميع الحالات يكون أولئك العبيد - وهم في النهاية طبقة "الشعب " - بغير سلطان وبغير حقوق ، واقعة عليه م كل الواجبات .
وإلى جانب الملوك والنبلاء كانت سلطة الكنيسة ورجال الدين ، وكانت منصبة في النهاية كذلك على الشعب ، فإلى جانب الخضوع المذل لرجال الدين - وهو حق " مقدس " لهم - كانت هناك الإتاوات والعشور ، والسخرة المجانية في الأرض الكنسية ، والتجنيد في جيوش الكنيسة التي كانت توجهها لتأديب الخارجين على سلطانها من الأباطرة والملوك .
وهذه المظالم المتراكمة هي التي تفجرت في الثورة الفرنسية ، بعد أن هيأ لها في نفوس الأوروبيين الاحتكاك بالمسلمين في الحروب الصليبية ، وفي اللقاء السلمي بين المسلمين وبين المبتعثين من بلاد أوروبا لتلقي العلم في بلاد الإسلام .
ولكن أوروبا حين تفجرت ثورتها لم تكن في وضع يسمح لها أن تستبدل بالجاهلية التي ثارت عليه ا دين الله الحق ، وشريعته العادلة التي كانت تحكم الأرض من حولها من الشرق والغرب والجنوب ، لأن الحروب الصليبية وحملات التنفير الديني والثقافي التي قامت بها الكنيسة ضد الإسلام وقفت حاجزا بينها وبين اتخاذ الإسلام عقيدة وشريعة ، فارتدت إلى تراثها الإغريقي الروماني تبحث فيه عن حلول مشكلاتها ، بدلا من أن تلجأ إلى الإسلام "1".
ووقع اختيار أوربا على " الديمقراطية " بديلا من الإقطاع ، وكانت هناك عوامل كثيرة ترشح لهذا الاختيار .(54/6)
فطبقة "الشعب " هي الطبقة المكبوتة المسحوقة ، وهي الطبقة الثائرة التي تسعى إلى المشاركة في السلطان .. والطبقة الرأسمالية هي الطبقة الجديدة التي صار المال في يدها بدلا من طبقة الإقطاعيين بسبب انتقال الإنتاج - تدريجيا -من إنتاج زراعي إلى إنتاج صناعي بعد اختراع الآلة .. وهذه الطبقة الجديدة تريد أن تنتزع من الطبقة المالكة السابقة التي كان في يدها السلطان. لذلك كانت الديمقراطية هي اللعبة المناسبة التي توفق بين رغبة الطبقتين الساعيتين إلى السلطة ، إحداهما وهي الطبقة الرأسمالية تستولي على السلطان الحقيقي ، والثانية وهي طبقة الشعب تشارك - بقدر - في ذلك السلطان وذلك فضلا عن عنصرين أخرى ن أحدهما إيحاء الفكر الإغريقي القديم وتأثيره على المفكرين الغربيين منذ عصر النهضة ، وهو فكر يحمل صورة " تذكارية" للديمقراطية من أيام أثينا وإسبرطة ، والثاني هو الشعارات التي وضعتها الماسونية إلى هوية الثورة الفرنسية وهي : الحرية والإخاء والمساواة ، والديمقراطية هي المنطق الأنسب لهذا الشعارات ، ومن ورائها يحقق إلى يهود ما يحلو لهم من أهداف
لذلك كله كانت الديمقراطية هي الإطار المناسب للعناصر المتفاعلة في أوربا في ذلك الحين .. في ظل الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية القائمة في تلك الفترة من الزمان .
ولم يكن الأمر سهلا مع ذلك ولا ميسرا للراغبين .. فقد احتاج إلى صراع طويل مرير حتى استوي على صورته الحالية . وكانت " المكاسب الديمقراطية " تأتي متقطعة وجزئية ، ولا تأتي إلا بعد معارضة طويلة من الذين في أيديهم السلطان ولا يرغبون في التنازل عنه ، وبعد قيام " الشعب " بالإضراب والعصيان والتمرد ، وتعرض دعاة الحرية إلى السجن والاعتقال والتشريد ، بتهمة إثارة الشغب والتحريض على الإخلال بالنظام.
وبعد نضال وكفاح استمر قرابة قرن من الزمان استقرت الديمقراطية في صورتها الحالية التي تراها في دول غرب أوربا وأمريكا ، على اختلاف بينها في الجزئيات لا يؤثر في صورتها العامة ومبادئها الرئيسية .
كانت نقطة الانطلاق ، أو نقطتا الانطلاق في الحقيقة هما : أولا : وجوب إشراف الشعب على أعمال الحكومة ، أي إلغاء " الحق الآلة ي المقدس " وإخضاع الحكومة لرقابة الشعب على تصرفاتها ، وفصل السلطات ، وجعل الحكومة سلطة تنفيذية فحسب ، لا سلطة تشريعية .. وثانيا : إعطاء الشعب حقوقه " الإنسانية " التي حرم منها أكثر من ألف عام في ظل نظام الإقطاع .
وفي كلا الميدانين أحرزت الديمقراطية تقدما ضخما بالنسبة لما كان في عهد الإقطاع ، وعهد الحكم بمقتضي الحق الآلة ي المقدس .
فقد أصبحت رقابة المجالس النيابة كاملة على تصرفات الحكومة الرئيسية ، وبصفة خاصة " الميزانية " التي تمثل موارد الدولة ومصارفها ، والتي كانت من أكبر أبواب المظالم الواقعة على " الشعب " حيث كان الحاكم يفرض من الضرائب ما يحلو له ، بمقدار ما يروي نهمه إلى المال الذي كان معظمه ينفق على بذخ الملوك والحكام ، وأقله يصرف على الصالح العام .
لم يعد من حق الحكومة أن تفرض ضريبة - أي ضريبة - إلا بموافقة المجالس النيابة ، ولم يعد من حقها أن تصرف حصيلة مواردها إلا في الأبواب التي توافق المجالس النيابية عليه ا ، ومن ثم أمسكت تلك المجالس بالزمام بعد أن كانت الحكومات مطلقة اليد في التصرف .. وكثيرا ما كنت تسمع - وما تزال - كلمة " دافعي الضرائب " تتردد في أروقة " البرلمانات " على ألسنة النواب ، يستصرخون الرحمة على الفقراء دافعي الضرائب ويطلبون التخفيف عنهم ، أو يطالبون أن تنفق الأموال لمصلحة دافعي الضرائب ، لأنهم هم الذي ينبغي أن يستفيدوا قبل أي أحد آخر بحصيلة الضرائب التي يدفعونها .
ومن ثم ظلت الضرائب - خلال نمو الديمقراطية - تخفف تدريجيا عن الفقراء وتزداد على الأغنياء ، بعد أن كان الحادث هو العكس تماما ، حيث كان الأغنياء يستمتعون بالثروات الطائلة ولا يدفعون عنها ضرائب على الإطلاق ، أو يدفعون ضرائب تافهة لا تكاد تذكر ، ولا تؤثر أي تأثير على ثرواتهم الضخمة ، بينما الفقراء هم الذين يتحملون عبء الضرائب الأكبر! كما وجه الصرف من موارد الدولة - وأهمها الضرائب بطبيعة الحال - على المشروعات العامة التي تصل فائدتها لأكبر عدد من الناس الذين يوصفون بصفة خاصة بأنهم دافعوا الضرائب ، فزاد الإنفاق تدريجيا على التعليم ، وعلى الصحة العامة ، وعلى المرافق العامة من طرق وجسور وخدمات ، وقل الإنفاق في ذات الوقت على مشروعات الترف التي لا تفيد إلا القلة المترفة من الشعب ، بعد أن كانت مثل هذه المشروعات هي الشغل الأول للحكومات السالفة وتنفق فيها الأموال الطائلة .(54/7)
ولم تمر قضية الضرائب سهلة حتى فيما يسمي " المجالس النيابية " فقد كانت تلك المجالس في أول عهدها تمثل الأغنياء أكثر مما تمثل الفقراء ، أو تمثلهم دون الفقراء في كثير من الأحوال ، إذ كانت شروط الترشيح إلى المجالس النيابية ذاتها موضوعة بحيث لا يمر منها إلا أصحاب الثروات ويعجز عنها الفقراء ، لكي يمنعوا منعا من الدخول إلى البرلمانات وإزعاج أصحاب الأموال بصيحاتهم الكريهة إليهم !ولم ينل الفقراء حق الترشيح إلا بعد جهاد طويل ومرير ، فاستطاعوا - بعد دخولهم - أن يعدلوا نظم الضرائب في بلادهم ، ويحققوا قسطا من العدالة في المغانم والمغارم سواء.
ولم تكن المجالس النيابية هي وحدها التي تدور فيها المعركة حول الضرائب ، فقد كانت الصحافة والخطابة والكتب المؤلفة تشارك جميعا في الناقش والحوار والهجوم والدفاع . وكان من أهم ما قيل في هذا الصدد إن توحيد نسبة الضريبة على الشيء الواحد بين الفقراء والأغنياء هو ظلم بين على الفقراء ، لأنهم يدفعون الضريبة من قوتهم الضروري الذي لا تقوم حياتهم بغيره ، بينما الأغنياء يدفعون من فائض أموالهم ، أو من فائض الفائض المتراكم عاما بعد عام ! لذلك استحدث في الأخير نظام الضرائب التصاعدية التي تزيد فيها نسبة الضريبة زيادة مطردة كلما زاد الدخل .. فالألف الأولى غير الألف الثانية ، والثانية غير العاشرة .. فإذا كانت الأولى يخصم منها عشرة ضرائب ( على سبيل المثال ) فالعاشرة قد يخصم نصفها أو ثلاثة أخماسها .. وهكذا .
أما الضرائب غير المباشرة ، أي الضرائب المفروضة على الأشياء المشتراة أو المستخدمة لا على الدخل ، فقد كانت وما تزال موضع النقاش في البلاد الديمقراطية ، لأنه لا يمكن التمييز فيها بين الأغنياء والفقراء ! لا يمكن مثلا أن يقال : إذا اشترى الغني رغيف الخبز فعليه أن يدفع له ثمنا أكبر مما يدفع الفقير فيه ! إنما يقال في الحوار أنه ينبغي إلغاء الضرائب أو تخفيفها عن " الضروريات " ورفعها على " الكماليات " ثم يظل النزاع قائما في تعريف ما هو ضروري وما هو كمالي من الأشياء . ولكن الاتجاه على كل حال يظل مائلا إلى التخفيف عن الفقراء والزيادة على الأغنياء .
وبالنسبة للإنفاق كذلك لم تكن المعركة يسيرة حتى في المجالس النيابية ذاتها .. فحين كانت تلك المجالس ممثلة للأغنياء دون الفقراء لم تكن قضايا مثل التعليم الإلزامي ومجانية التعليم تمر بسهولة ! بل كان " نواب الشعب " ( هكذا كان اسمهما على الدوام من البدء إلى الختام ) كانوا يعارضون في نشر التعليم حتى يشمل الفقراء من أبناء الشعب ! وكانت تدور مناقشات حادة في البرلمانات ، يقال فيها إنه لا يجوز تعليم كل الناس ، وإلا فمن أين نأتي بعمال يعملون في المصانع ؟! فإن ابن العامل إذا تعلم سيستنكف أن يعمل بيديه كما كان يعمل أبوه ! وسيطالب بوظيفة ، وأنّى لنا أن ندبر وظيفة لكل متعلم ! ثم من أين نحصل على الخدم ! فسوف يستكبر المتعلمون وسيرفضون الخدمة في البيوت ،فتفسد حياتنا وتتعطل مصالحنا !
وكذلك قضايا الصحة والمرافق العامة ! كان " النواب" المحترمون يعارضون في تعميمها حتى يستفيد منها الفقراء .. ويقولون إن هذه ليست مسئولية الحكومة ! إنما كل واحد يدبر لنفسه ، وكل واحد حر فيما يصنع لنفسه!.
وهكذا .. وهكذا في كل القضايا " العامة " التي يعود النفع فيها على الشعب " دافع الضرائب " !.
وإنما تغير الحال بعد جهاد طويل ، حين ألغيت أو خففت القيود المفروضة على دخول المجالس النيابية فصار هناك من يدافع عن مصالح الفقراء ويطالب لهم بالتعليم الإلزامي المجاني ، وبتوفير العلاج والرعاية الصحية ، وتيسير الخدمات العامة ، وأصبحت هذه نقطة بارزة من نقاط الديمقراطية .
كذلك شملت الرقابة البرلمانية أعمال الحكومة الأخرى غير الميزانية بمواردها ومصارفها - وإن ظلت هذه أهم نقاطها - فقد كفت المجالس النيابة يد الحكومة تدريجيا عن " الأفراد" أفراد " الشعب " ، فزادت بذلك من " حرية " أولئك الأفراد .
لقد كان الأغنياء - بحكم أموالهم ومكانتهم في الدولة - في حصانة من سلطان القانون وإن كانت الدساتير لا تقول ذلك بصفة رسمية . وقد كان القانون الروماني - الشهير بعدالته !- ينص صراحة على التفرقة القانونية بين السيد والعبد ، فيحيط الأول بضمانات وحقوق كثيرة ، ويخفف عنه العقوبة إذا أجرم ، بينما يحيط الأخير بكثير من القيود ، ويشدد عليه العقوبات على أقل هفوة تصدر عنه .
وألغت الديمقراطيات هذه التفرقة في نصوصها المكتوبة ، ولكنها ظلت قائمة في عالم الواقع فترة غير قصيرة ، حتى تراجعت عنها الحكومات خطوة خطوة بجهاد طويل وكفاح قامت به الشعوب ، فأخذت الضمانات والحقوق تتسع لتشمل فئات جديدة من " الشعب " حتى صارت تشمله كله في نهاية المطاف.
ويمكن تلخيص هذه الحقوق والضمانات فيما يلي :
حق الانتقال:(54/8)
لم يكن حق التنقل من مكان إلى مكان مكفولا في ظل الإقطاع ، فقد كان معظم الناس عبيدا أو في حكم العبيد ، وكان هذا من المظالم التي قامت الثورة الفرنسية لتحطيمها ، وإن تكن الرأسمالية الناشئة كانت ذات مصلحة خاصة - في نفس الوقت - في تحطيم هذا القيد، لتحصل على العمال اللازمين للصناعة ، والذين كانت قيود الإقطاع تحجزهم في الريف وتمنعهم من الوصول إلى المدينة .
ولكن الأمر لم يتم في يوم وليلة ، فقد ظل "الفقراء " خاضعين لكثير من القيود في تنقلاتهم ، تطاردهم الشرطة وتتهمهم بالتشرد وتطالبهم بإثبات أنهم ليسوا مجرمين ! وبإيجاد مبرر مقبول لوجودهم حيث هم موجودين ! بينما الأغنياء يذهبون حيث يشاءون لمجرد أنهم أغنياء ، ومن ثم فهم غير مشبوهين ! .
ورويدا رويدا أخذت تلك القيود المفروضة على حرية التنقل تذوب ، وأصبح كل إنسان - مهما يكن عمله أو مكانه في المجتمع - حرا في أن يتنقل داخل الدولة الواحدة ما دام " مواطنا " في تلك الدولة . وكانت كلمة المواطن ذاتها من المعاني التي استحدثتها الديمقراطية ، فأصبح المواطنون جميعا متساوين - نظريا - في جميع الحقوق والواجبات بحكم أنهم جميعا مواطنون في وطن واحد ، وأصبحوا بالفعل متساوين في كثير من الحقوق . أما المساواة التامة فلنا مراجعة بشأنها فيما بعد .
ونلحظ من لفظة "المواطن " في اللغات الأوروبية " Citizen " أنها نبعت من المدينة " City " فمن هناك بدأت حركة المطالبة بالمساواة ، ومن هناك طالب المطالبون بأن يتساوى كل السكان - أي سكان المدينة - في الحقوق والواجبات ، وبعد أن نالت المدينة حقوقها عمم ذلك على جميع السكان في الوطن كله ، ولكن اللفظة الأوروبية لم تتغير ، وظل اشتقاقها من المدينة باقيا حيت بعد أن اتسع مدلولها فشملت كل السكان . أما اللفظة العربية فقد ترجمت متأخرة ، حين بدأت الأفكار الديمقراطية تصبح موضع حديث في البلاد الإسلامية الناطقة بالعربية ، فأخذت المدلول الأخير للكلمة ، المتصل " بالوطن " كله لا بالمدينة فحسب .
حق العمل:
فرق بين أن يعمل بعض الناس في الأعمال التي يستطيعون الحصول عليه ا وبين أن يكون حق العمل مقررا بمعنى أن كل طالب عمل ينبغي أن ييسر له الحصول على العمل الذي يصلح له .
ولم يكن هذا الحق مقررا من قبل ، واحتاج تقريره إلى جهاد طويل لكي يتقرر نظريا في مبدأ الأمر ثم عمليا بعد ذلك .. وإن كان من الوجهة العملية لم يتقرر كاملا إلى هذه اللحظة في الديمقراطيات الرأسمالية لأسباب سنشرحها بعد قليل .
في ظل الإقطاع الذي عاشت فيه أوروبا أكثر من ألف عام لم يكن " حق العمل " شيئا معروفا ولا كان هناك مجال للحديث فيه ، فقد كانت الزراعة هي العمل الرئيسي للمجتمع الإقطاعي ، وسكان القرية أو الإقطاعية يعملون بحكم الأمر الواقع في أرض الإقطاعية التي يعيشون فيها ، قلوا أو كثروا ، وقلت الأرض أو كثرت ، فالأرض ومن عليه ا ملك للإقطاعي ، يعملون في حقوله ، ويوزع بعض الأرض عليه م مقابل جعل معين ليزرعوها لأنفسهم إن أمكنهم أن يوفوا بالجعل المتفق عليه ، والذي يحدده الإقطاعي حسب هواه دون ضابط معين ، فكل من كبر من الأولاد الذكور من سكان القرية فهو يعمل تلقائيا في الأرض ، يعاون أباه وأسرته ويسكن في بيت الأسرة ، ويأكل من طعامها قل أو كثر ، ويلبس ما تتيح له الظروف أن يلبس من المنسوجات اليد وية التي تنتجها القرية ، والحياة قليلة التكاليف وإن كان الكل يعيشون عيشة الفقر المدقع ولا يجدون غير الكفاف .
أما في المدينة فقد كان يسكن فريق من موظفي الدولة وهم قليلون ، وفريق من أصحاب الصناعات اليدوية - وهي الصناعات الوحيدة يومئذ - وفريق من التجار ، وفريق من أصحاب الحوانيت التي تبيع الحاجيات للناس ، وأصحاب المقاهي والنزول ( الفنادق الصغيرة ) وفريق من المرابين اليهود ، وفريق من أصحاب الثروات من الإقطاعيين الذين يتنقلون دائما ما بين المدينة وبين بيوتهم - أو قلاعهم - في داخل إقطاعياتهم ، وفريق من البغايا اللواتي يعشن على بيع أجسادهن لمن أرد من كل هؤلاء ، وبصفة خاصة أصحاب الثروات .
خلاصة القول أن كل واحد من سكان المدينة له عمله الذي يعيش منه ، أوله ثروته التي تكفل له الحياة هناك بلا عمل .. ولا يتكلم أحد عن حق العمل في الريف ولا في المدينة ، لأن الحاجة إليهم لم تكن قد برزت بعد في ذلك المجتمع في ذلك الحين .
ولكن الثورة الصناعية قلبت هذه الأوضاع كلها وغيرها ، حين توافد إلى المدينة أعداد هائلة من العبيد المحررين من الإقطاع بعد تحطيمه يبحثون عن العمل في المدينة ، ولم تكن الصناعات الناشئة تستوعب ذلك العدد كله وقتئذ ، ولا كانت هذه الصناعات مستقرة ومتمكنة ، فقد كان كثير منها يفلس لأسباب مختلفة وتقوم مقامها مشروعات جديدة وهكذا .(54/9)
ومن طبيعة العامل الذي نزح من الريف إلى المدينة ألا يحب الرجوع إلى الريف ولو بقي عاطلا في المدينة ! فإنه بعد أن يعيش في المدينة الفسيحة المتعددة جوانب النشاط ، ويتعود في حدوده الضيقة على ألوان من المدينة ، ولا وجود لها في الريف ، ويحس " بالحرية " حريته في أن يتصرف في أموره الشخصية كيف يشاء دون تدخل أو تحريج من مجتمع المدينة ، بينما مجتمع الريف محكوم أبدأ بتقاليده ، وبالتعارف الشخصي بين كل أفراده ، مما يضيق مجال تلك الحرية .. بعد ذلك كله لا يحب أن يرجع إلى الريف الذي " تحرر " منه ، ويفضل أن يبقى متسكعا في المدينة ولو ضاقت به سبل العيش .
ولكن القضية لم تكن قضية هذا الفرد أو ذاك ، إنما صارت قضية ألوف من هؤلاء العمال وألوف تجتذبهم المدينة والبحث عن فرص العمل فيها ، ثم لا تتسع لهم ، وهي في الوقت ذاته تكبل أقدامه " بسحرها " الخاص فلا يفارقونها!
وأصبحت القضية في حاجة إلى حل .. إلى تقرير " حق العمل " للألوف العاطلين في المدينة ، وإيجاد أعمال تستوعبهم . ولم يكن ذلك يسيرا في مبدأ الأمر .. ولا تزال كل الحلول التي تقدمها الرأسمالية غير حاسمة تماما في هذه النقط ، وإن كان قد حدث تقدم ضخم في هذا الاتجاه من خلال المعارك التي قامت من أجل الحل ، وتعرض فيها ألوف من العمال للسجن والتشريد والموت جوعا على الأرصفة بلا مأوى ، والموت بالسل وغيره من أمراض سوء التغذية وسوء التهوية التدفئة في صقيع أوروبا البارد في الشتاء.
لم يكن الحل سهلا لأكثر من سبب في آن واحد .
ففكرة المسئولية غير قائمة أصلا في ذهن أحد الناس ! فالدولة لم تمارس هذه المسئولية من قبل أبدأ ، ولا تحس أنها ملزمة بممارستها !.
لقد كانت الدولة دائما هي دولة الأغنياء ! تحس بالمسئولية الكاملة عن راحة الأغنياء ورفاهيتهم وصياغة الأمور كلها بحيث تستجيب لمطالبهم وتحقق لهم رغائبهم . أما ذلك الهمل من القطع الآدمية الملقاة هنا وهناك فهؤلاء يتحملون مسئولية أنفسهم ! عليه م هم أن يبحثوا عن حكمة وجودهم وأن يدبروا أمورهم بأنفسهم ! فإن ماتوا جوعا فهذا قدرهم ! مع التظاهر بالعطف عليه ؤلاء " المساكين" الذين قدر الله لهم الفقر والجوع والمرض والهلاك ، أو مع الشماتة فيهم لأنهم لا يستحقون الوجود أصلا ويستحقون كل ما يحدث لهم !
وكانت المعركة مع " ضمير " دولة الأغنياء طويلة ومريرة حتى تزحزحت عن موقفها العنيد تدريجيا ، ورضيت بأن تتحمل المسئولية عن هؤلاء الفقراء ، وإن كانت المسئولية الكاملة لم تتخذ بعد في أية دولة من الدول الديمقراطية الرأسمالية .
أما أصحاب المصانع فقد كانوا أبعد عن تحمل المسئولية وأقسى في معاملة أولئك الفقراء .
إن فكرة المسئولية بعيدة عن ضمائرهم بعدا كاملا ، وقد قاموا منذ أول لحظة على غير أساس إنساني .. إنما قاموا على أساس تحقيق أكبر قدر من الربح ، بأية وسيلة تحقق ذلك الربح ، وكانت الوسيلة القريبة إلى أيديهم هي تطويل ساعات العمل وخفض الأجور إلى أقصى حد مستطاع
وبصرف النظر عن تأثر الرأسمالية كلها بأخلاق اليهود الذين أشرفوا عليه ا من بدايتها - واليهود هم عبده العجل الذهبي من قديم - فإن الرأسمالية في حد ذاتها نظام جاهلي .. ومن طبيعة الجاهلية أن تظلم المستضعفين ، وأن يطغى فيها أصحاب السلطان على من لا سلطان لهم ، إلا أن يحجزهم عن الظلم حاجز قهري لا يملكون قهره بجبروتهم .
ولقد استخدم العمال سلاح الإضراب ضد جشع الرأسماليين فكانوا يضربون عن العمل ويطالبون بخفض ساعات العمل ورفع الأجور وهنا تلجأ الرأسمالية إلى " جيش العاطلين" تشغلهم بدريهمات قليلة مستغلة جوعهم وحاجتهم القاسية إلى المال ، لتضغط بهم على العمال المضربين حتى يعودوا إلى أعمالهم صاغرين ( ومن هنا كان تشغيل المرأة بنصف أجر ، الذي بدأت منه " قضية المرأة " بادئ ذي بدء ثم استفحلت فصارت قضية مساواة كاملة في كل شئ )
لذلك كان الجو من أول لحظة بين الرأسماليين والعمال هو جو العداء والصراع لا جو المودة والتراحم ، فلم يكن من المتصور أن يتحرك ضمير الرأسماليين بالشعور بالمسئولية تجاه أولئك " الأعداء" الذين يرى دون أن ينقصوا من أرباحهم بالمطالبة بخفض ساعات العمل ورفع الأجور تارة ، والإضراب عن العمل وتعطيله تارة أخرى !
ولم يشعروا بهذه المسئولية عن طيب خاطر أبدأ في يوم من الأيام ! إنما كانوا يتراجعون عن مواقعهم خطوة خطوة تحت تأثير التهديد المستمر .. وكل ما قامت به الرأسمالية من ضمانات للعاطلين إنما كان تحت تهديدين عظيمين : تهديد الإضراب الذي يصيبهم بقدر من الخسائر اكبر مما يتنازلون عنه من فائض أرباحهم للعمال ، وتهديد الشيوعية !
وشيئا فشيئا أخذت هذه الجاهلية تعدل مواقفها من " حق العمل " سواء على مستوى الدولة أو مستوى الرأسمالية الحرة ، حتى قبلت أخيرا مبدأ المسئولية وإن لم تقم به كاملا إلى هذه اللحظة .(54/10)
وثمة صعوبة أخرى تفق أمام حق العمل الشامل في الرأسمالية ، هو أن الأعمال بالطريقة التي تقوم بها الرأسمالية لا تتسع لكل الأيدي الراغبة في العمل أو القادرة عليه ، خاصة وأن التقدم " التكنولوجي " يزيد باستمرار من قدرة الآلة على الإنتاج ويخفض من عدد الأيدي اللازمة لإدارتها ، فتحدث زيادة مستمرة في الأيدي العاملة الفائضة عن الحجم الذي يحتاج العمل إيه ، وتتعقد المشكلة باسمرار .
التوفيق بين الطبقتين المتصارعتين في المجتمع الرأسمالي وهما طبقة العمال ( أي الشعب !) وطبقة الرأسماليين ، قامت بجهد متواصل حتى قررت حق العمل من حيث المبدأ وجعلت الدولة ترضى بتحمل مسئوليتها في هذا الشأن .
وحين نقول " الديمقراطية " فنحن نقصد في الواقع كفاح الطبقة المظلومة تمنح الحقوق للراغبين ! وإلا فإن النظام البرلماني في ذاته وهو أداة الحكم في الديمقراطيات - لم يتسع لحقوق الفقراء إلا تحت القهر والضغط .. فإذا كانت هذه الحقوق قد أصبحت اليوم سمة من سمات الديمقراطية فليس لأن الديمقراطية ولدت على هذه الصورة ، أو أنها يمكن أن توجد تلقائيا في أي بلد على هذه الصورة ! ولكن لأن صراعا حادا نشب ، هو الذي أعطى الأوضاع صورتها الراهنة ، ولو لم يقم ذلك الصراع لبقيت الديمقراطية كما كانت حكما صرفا للأغنياء دون الفقراء !.
حق التعليم :
لم يصبح التعليم حقا" للشعب " في أوروبا إلا بعد كفاح مرير .
ففي ظل الإقطاع لم يكن للتعليم كله شأن يذكر. ولكن السادة على أي حال كانوا يتعلمون في القصور ما يليق بهم من العلم في ذلك الحين . يتعلمون اللاتينية والإغريقية والشعر والأدب ونصوصا من الكتاب المقدس وشيئا من الحساب وما شابه ذلك . أما أبناء الشعب فإن تعلموا شيئا من الكتاب المقدس على يدي راعي الأبرشية فذلك حسبهم وزيادة ! فما الذي يصنعون بالعلم وهم في داخل سياج القرية أو الإقطاعية قد لا يفارقها الواحد منهم طيلة حياته إنما يتلقى الصبي منهم " ثقافته " من أحاديث الكبار التي يرددون فيها خبراتهم التافهة عن الأرض والمحاصيل والضرائب والواجبات المفروضة عليه م وزواج فلان من أهل القرية أو موت فلان .. وأقاصيص الثراء في قصر " النبيل" صاحب الإقطاعية وما يقيم في قصره من مآدب وولائم ، وما يقع منه ومن وكيله من مظالم على العباد !
لذلك كانت الأمية هي الغالبة على " الشعب " وكان المتعلمون قلة نادرة في كل أبواب التعليم ، معظمهم بطبيعة الحال من أهل المدن ، حيث توجد المدارس ، وحيث أهل المدينة يحتملون نفقات التعليم .
ثم جاءت الثورة الفرنسية ثم الثورة الصناعية فرجتا المجتمع رجا وبدلتا كثيرا من أوضاعه ، ومن بين ما تبدل من هذه الأوضاع تدفق النازحين إلى المدينة من الريف وإقامتهم الدائمة هناك .
وبدأ الطلب على التعليم يتزايد لأنه كان ظاهرا أن للتعليم مهمة يؤديها في المجتمع الجديد ، وأنه يؤدي إلى تحسين مستوى المعيشة بالنسبة للمتعلمين ، حيث يستطيعون أن يعملوا في غير الأعمال اليد وية التي تركت للجهلة من العمال الذين لا يحتاجون في عملهم إلى ثقافة ولا تعليم .
وبدأت صيحات المصحلين تطالب بتعميم التعليم وتوسيع دائرته حتى يشمل عددا أكبر من التلاميذ والطلاب وثارت ثائرة " المحافظين " في المجتمع وفي المجالس النيابية ذاتها ، لماذا نتوسع في التعليم حتى يشمل أبناء الشعب ؟ إن التعليم حق لعلية القوم لمكانتهم في المجتمع ، فهم الذين يقودون ويوجهون ويتحملون المسئولية عن الشعب كله .. ثم إنهم هم القادرين على دفع نفقات التعليم ، فلا يكلفون الدولة في تعليمهم إلا القليل .
أما الفقراء فلماذا يتعلمون ؟ ما حاجتهم إلى العلم ؟ ومن أين لهم النفقات التي يتطلبها التعليم ؟ وما نتيجة تعليمهم وما انعكاسها على المجتمع ؟ إنهم إن تعلموا فسسيتنكفون أن يعملوا بأيديهم المجتمع في حاجة إلى من يعمل بيديه ، فكيف نلبي حاجات المجتمع إن علمنا أبناء الفقراء ؟!
ثم إن العلم يحتاج إلى أخلاق ! وأبناء الفقراء لا أخلاق لهم ! وسيهبط المستوى الخلقي في المدارس بسبب دخول أبناء الفقراء ، فلا يصبح لائقا بأبناء العلية الذين يتعلمون وحدهم تقريبا في ذلك الحين - فكيف يتلقى أبناء العلية حظهم الضروري من العلم إذا فتحت المدارس " للغوغاء ؟
وحتى المستوى العقلي لا يمكن أن يكون واحدا بين أبناء الأغنياء وأبناء الفقراء ، وسيهبط المستوى التعليم بسبب دخول أبناء الفقراء الذين يتسمون بالغباء والتخلف العقلي لأنهم من الطبقة الدنيا ! ولو كانوا أذكياء ما بقوا في تلك الطبقة .. وإنما هم بقوا هناك لعجزهم العقلي والنفسي الذي لا يمكن شفاؤه !
وشيئا فشيئا تراجعت " الأرستقراطية " عن أفكارها ومواقفها ووافقت على توسيع دائرة التعليم حتى يتسع لعدد أكبر من أبناء الشعب ، وإن كانت عقبة التمويل ظلت توضع أمام كل مطالب بتوسيع التعليم ، لكي يكف عن المطالبة التي تقلق بال الأرستقراطية وتهددها بأن تنزع منها تفردها وتميزها .
وجاء اليوم الذي طالب فيه الطالبون بجعل التعليم إجباريا على نفقة الدولة واحتدمت معركة حامية حول هذا الشأن لم تهدأ إلا من قريب .(54/11)
اعترض بعضهم بأن الميزانية لا يمكن أن تكفي ولو حولت كلها للتعليم !
واعترض بعضهم بأنه لا توجد المباني الكافية ولا المدرسون اللازمون !
واعترض آخرون بأن مستوى التعليم سيهبط لا محال لأن الفصول ستكتظ بالتلاميذ فلا يمكن توجيه العناية اللازمة إليهم .
واعترضت الأرستقراطية بأنها لن تجد الخدم بعد اليوم ولن تجد العمال الذين يعلمون بأيديهم ، وسيعود هذا بالوبال على المجتمع كله !
ولكن دفعة الجماهير والمدافعين عن حقوقهم كانت من القوة بحث تغلبت على جميع الاعتراضات ، وتقرر حق التعليم بعد صراع مرير ، وبعد جهد جهيد بذل في التغلب على العقبات الحقيقية كقلة موارد الميزانية وقلة المباني وقلة المدرسين .
واختلفت البلاد في تحديد مرحلة الإلزام التي تتحمل الدولة كل نفقاتها ، هل تكون بسنوات محددة من العمل ، والتلميذ يحصل ما يحصل في تلك الفترة بحسب قدرته على التحصيل ؟ أم تكون بمستوى تعليمي معين أيا كانت السنوات التي يقضيها التلميذ فها حتى يكملها ؟ وهل تكون هي المرحلة الابتدائية وحدها ؟ أم الإعدادية أم الثانوية .( ولم تدخل المرحلة الجامعية في هذا النطاق ) كما اختلفت فيما يفعل بالطالب الذي يتكرر رسوبه هل يفصل ؟ وإذا فصل أين يذهب ؟ أم يحول إلى تعليم آخر يتناسب مع مقدرته العقلية .. إلخ … إلخ ولكن مبدأ التعليم العام الذي تنفق عليه الدولة تقرر على أي حال .
وحين كانت هذه المعركة على أشدها كانت معركة المرأة تلاحقها !
فحين تقرر مبدأ التعليم العام كان الحديث فيه عن الأولاد فقط .. أما البنات فيتعلمن - نعم - إن شئن لكن عن نفقة أبائهن ، ولا تتحمل الدولة نفقات تعليم هن كلهن !
ولكن المطالبين بحقوق المرأة كانوا لا يتوانون عن الملاحظة ،وعن طلب المساواة مع الرجل في كل شئ !
ومن ثم فقد شمل التعليم العام النبات في آخر الأمر ، ووضع لهن ذات المناهج المعدة للبنين وكان بعد ذلك ما كان من دخول الجامعة والاختلاط والمطالبة بحق العمل كالرجال سواء !
وأيا يكن الأمر فقد اتسمت الديمقراطية بتلك السمة ، وأصبح التعليم العام المجاني معلما من معالم الديمقراطية ، ولكن ينبغي أن نذكر في كل مرة أن صراع الجماهير وضغطهم المستمر هو الذي وسم الديمقراطية بتلك السمة في النهاية ، ولم تكن كذلك من مبدئها ، ولا كان في نية القائمين عليه ا أن تصبح كذلك في نهاية الطريق !
الحقوق السياسية:
حق الانتخاب - حق الترشيح- حرية الكلام - حرية الاجتماع - حق الاحتجاج
مع نمو الديمقراطية نمت الحقوق السياسية للشعب . بل إن الحقوق السياسية هي في الواقع أبرز السمات الديمقراطية في صورتها النهائية التي استقرت عليه ا .
وخلاصة الحقوق السياسية أن يكون للشعب حق الإشراف على الحكومة وتوجيهها وحق نقدها والاعتراض على أعمالها .. ويتخذ ذلك صورتين متكاملين إحداهما هي التمثيل النيابي ويحوي حق الانتخاب وحق الترشيح لدخول البرلمان ، والثانية حق الاجتماع وإبداء الرأي خارج البرلمان ، ويشمل الصحافة والاجتماعات السياسية والمظاهرات السلمية التي تقام للمطالبة بأمر معين أو الاحتجاج على أمر معين .. وكل هذه الأمور لم يكن للشعب منها نصيب على الإطلاق قبل الديمقراطية ، وحتى حين بدأت الديمقراطية تتخذ شكل التمثيل النيابي فإن " الشعب " لم يكن ممثلا هناك ، ولا كان مسموحا له أن يلج هذا الميدان رغم ما كان مكتوبا في ديباجات الدساتير من عبارات " الحرية والإخاء والمساواة !" إنما نال الشعب كل ذلك العرق والدماء والدموع ! بالسجن والتشريد والاضطهاد وجميع ألوان المحاربة والمعارضة .. فلما ثبت المطالبون وألحوا في الطلب وصمدوا أمام الضغط أخذوا يحصلون رويدا رويدا على كل هذه الحقوق ، حتى أصبحت اليوم أمرا مقررا في الديمقراطية ، بل أصبحت هي السمة البارزة لهذا اللون من الحكم.
وفي ابتداء الديمقراطية كانت العملية كلها تكاد تكون وقفا على الأغنياء ! فقد كان ينص نصا صريحا على أن المرشح ينبغي أن يكون مالكا لنصاب مالي معين ، وأن يثبت ذلك بإثباتات رسمية حتى يباح له أن يدخل المعركة الانتخابية .
وفضلا عن ذلك فإن نفقات الدعاية الانتخابية كانت - ومازالت - في طوق الأغنياء وحدهم دون الفقراء ، كما أن الناخبين أنفسهم كانوا خاضعين لقيود تجعل عددهم ضئيلا وفرصة التأثير عليهم بشتى الوسائل ( حتى شراء الأصوات بالمال !) فرصة كبيرة ، لذلك كان " نواب الأم " أبعد ما يكونون عن تمثيل الأمة في حقيقة الأمر !
ورويدا رويدا - تحت تأثير الاحتجاج المستمر من " الشعب " بكل وسائل الاحتجاج - خففت القيود على الناخبين والمرشحين كليهما ، فظل النصاب المالي يخفف عن المرشحين وألغي إلغاء كاملا عن الناخبين مع تخفيض السن التي يجوز فيها الترشيح والتي يجوز فيها الانتخاب حتى صارت الآن إحدي وعشرين سنة لهذا وذاك في معظم بلاد الأرض .(54/12)
وقد استغرق هذا زمنا طويلا حتى تقرر ، كما احتاج إلى نضال مستمر ، مع التعرض الدائم للمتاعب حتى أصبح اليوم من البديهيات المقررة التي لا تحتاج إلى ذكر ، فأصبح من حق أي إنسان بلغ إحدي وعشرين سنة أن يكون له صوت انتخابي بشرطين أثنين ، الأول أن يكون مقيدا في الدائرة التي يرى د أن يدلي فيها بصوته والثاني ألا يكون قد صدر ضده حكم في قضية مخلة بالشرف والشرف في عرفهم لا يتعارض مع الإباحية الجنسية بطبيعة الحال ولا مع العربدة والمجون ! إنما يتعارض فقط مع الاغتصاب ومع السكر الذي تصحبه جريمة ! كما تعتبر السرقة والغش والاحتيال .. إلخ جرائم مخلة بالشرف ) كما أصبح من حق أي إنسان بلغ هذه السن ويجيد القراءة والكتابة ولم يصدر ضده حكم في قضية مخلة بالشرف أن يرشح نفسه للبرلمان ( ولا ننسى أن المرأة ظلت تلاحق الرجل في هذه الحقوق حتى نالتها في كثير من الديمقراطيات في الفترة الأخيرة )
وفي داخل البرلمان توضع كل الضمانات التي تتيح للعضو أن يعبر عن رأيه ، وأن ينتقد الحكومة سواء أعضاؤها أو رئيسها بما شاء من وسائل النقد وعباراته إلا أن يكون سبا شخصيا صريحا … ويحاط العضو " بالحصانة البرلمانية " التي تكفل عدم محاسبته على أي عبارة يتفوه بها داخل البرلمان ( ما لم تكن سبا شخصيا كما قلنا ) وإن كان يحق للحكومة أن تطلب من البرلمان رفع الحصانة البرلمانية عن أحد الأعضاء إذا رأت أنه تجاوز الحرية المباحة له ، وعندئذ يقدم للمحاكمة إذا وافق البرلمان على رفع الحصانة عنه ( وقد يكتفي بتأديبه بمنعه من حضور عدد من الجلسات أو يطرد نهائيا من البرلمان وتخلو دائرة للانتخاب فيها من جديد)
وبهذه الضمانات يملك العضو - نظريا على الأقل - حرية واسعة وإمكانية ضخمة لتوجيه الحكومة إلى الطريق الذي يرى أنه هو الصواب ، ويملك البرلمان في مجموعه - نظريا كذلك على الأقل - سلطة توجيه الحكومة وتقييد تصرفاتها وجعل الشعب حارسا على هذه التصرفات .
أما في خارج البرلمان فالحقوق السياسية تتضمن حرية التعبير عن الرأي - بكل وسائل التعبير - وحرية النقد وحرية الاحتجاج .
فأما التعبير عن الرأي سواء بالتأييد أو المعارضة فيأخذ صورة الانتماء الحزبي ، أي حرية أي إنسان في الانتماء إلى أي حزب من الأحزاب القائمة - مادامت ليست محظورة بأمر القانون - والكتابة في الصحف ( ووسائل الإعلام الأخرى في البلاد التي تكون الإذاعة والتلفزيون فيها مملوكين لشركات وهيئات وليسا مملوكين للحكومة ، كإنجلترا وفرنسا وأمريكا ) والخطابة في المنتديات العامة والخاصة ، والاشتراك في مظاهرة سلمية بعد الحصول على إذن من السلطات بقيام المظاهرة ( وكثيرا ما تقوم المظاهرات بغير إذن ! وعندئذ تتصرف السلطة بما تراه مناسبا : إما أن تعترف بالأمر الواقع إذا رأت أنه لا ضرر من المظاهرة وإما أن تصطدم بها وتفرقها وتقبض على بعض زعمائها وتقدمهم للمحاكمة !)
وأما الاحتجاج فيأخذ صورة الإضراب عن العمل وتشكيل المظاهرات ، وهو نوع من التعبير عن الرأي على أي حال وإن كان أكثر خشونة من سابقة ، لأنه يتجاوز النقد إلى الاحتجاج .
ويشمل هذا وذاك حرية الاجتماع ، أي حق الناس في أن يجتمعوا في أي مكان ليتدارسوا أمرا معينا أو ليبدوا رأيهم في موضوع معين أو لينتقدوا تصرفا معينا من تصرفات الحكومة أو ليحتجوا على شئ من ذلك كله .
وتكون الاجتماعات عادة في مقار الأحزاب ، وهذه لا تحتاج عادة إلى طلب تصريح من السلطة مادام الحزب مصرحا به أصلا ، إلا أن يكون دعوة عامة إلى مؤتمر أو اجتماعا مكثفا في مكان غير مقر الحزب ، أو أوسع من المقر بحيث يشمله ويشمل امتداد له في الطريق العام .
أو تكون في الجامعات أو في قاعات المحاضرات العامة ، أو في الطريق العام ، وهذه تحتاج إلى تصريح مسبق من السلطات .
وكل هذه الحريات ، التي أصبحت اليوم من البديهات المقررة في الديمقراطية لم تكن كذلك يوم بدأت الديمقراطية في الظهور ، بل كانت القيود شديدة جدا والحريات ضئيلة ، فلا الصحافة كانت تملك الحرية الواسعة في النقد ، ولا حرية الاجتماع كانت قائمة ، ولا حرية الاحتجاج ، إنما فرض " الشعب " كل ذلك فرضا على الحكومات بالضغط المستمر والإلحاح الدائب ، والتعرض للسجن والاعتقال والترشيد ويحفل التاريخ " الديمقراطي " ! بألوان من الاضطهاد ذاقها المدافعون عن هذه الحقوق حتى أصبحت أمرا مقررا و " تقاليد " مرعية في الديمقراطيات . وإلا فقد كان كل نقد حاد في الصحف يعتبر خروجا على القانون تصادر الصحيفة من أجله ويمنع صدورها ويحبس محرر المقال والمسئولون عن الصحيفة بسببه ، وكان كل اجتماع يعتبر شغبا ويفرق بالقوة ، وكانت المظاهرات تعتبر عملا غير مشروع يعاقب عليه بالسجن أو الاعتقال أي مدة من الزمن دون محاكمة !
واحتاج الأمر إلى ضغط البرلمانات وضغط الخطباء والكتاب لتعديل القوانين التي تبيح ذلك كله ، وتقييد يد الحكومة في التنكيل بأعدائها السياسيين أو بالشعب عامة ،حتى " تعودت" الحكومات أن تستمع للنقد وهي ساكتة وأن تترك مطاردتهم أو كفهم عن الاحتجاج والاعتراض .(54/13)
وإذا قلنا أن مائة سنة على الأقل من النضال المستمر قد استغرقت حتى وصلت بالأمر إلى صورته الحالية لا نكون مبالغين في ذلك ، فإننا ما نزال نري ذيولا للمعركة حتى وقتنا الحاضر رغم كل ما قررته الديمقراطيات من الحريات ، كان آخرها مظاهرات العنف في فرنسا منذ سنوات ، وما تقوم به الأحزاب الشيوعية من المعارضة العنيفة في كل بلد ديمقراطي سمح للأحزاب الشيوعية فيه بالنشاط !
وبصرف النظر عن اتجاه الحرية في البلاد الديمقراطية فلا شك أن الحرية السياسية من أبرز ما تشتمل عليه الديمقراطيات ومن أهم ما تشتمل عليه .
أما الضمانات التي كسبها الشعب في ظل الديقراطية فهي ضمانات الاتهام ، وضمانات التحقيق ،وضمانات الحكم ، وضمانات التنفيذ . ولنقل كلمة سريعة عن كل منها لنصف بعد ذلك موقف الديمقراطية منها.
أما ضمانة الاتهام فمقتضاها ألا يؤخذ الناس بالظنة وأنهم لا يحبسون ولا يعتقلون إلا بمقتضى تهمة حقيقية تستوجب ذلك . وليس معناها بطبيعة الحال أن كل من اعتقل أو حبس لابد أن يكون مجرما بالفعل ، فقد يظهر التحقيق براءته فيفرج عنه ، إنما معناها فقط أنه لابد أن تكون هناك قرينه أو شبهة حقيقة على الأقل في أنه ارتكب محرما بنص القانون ، وليس لمجرد أنه " ضايق" الحكومة بعمل من الأعمال فتنتقم منه بالحبس أو الاعتقال !
وأما ضمانة التحقيق فمقتضاها ألا تستخدم مع المتهم أية وسيلة من وسائل الضغط لحمله على الاعتراف بما لا يرى د أن يعترف به سواء كان الضغط بالتهديد أو بالإغراء ( كأن يقال له إذا اعترفت فسنخفف عنك العقوبة أو سنطلق سراحك ، ويكون هذا للإيقاع به ، أو لاستخلاص معلومات معينة منه )
وأما ضمانة الحكم فهي أن يحكم على المتهم بالعقوبة التي يقررها القانون بلا زيادة ، ويكون للمحكوم عليه حق استئناف الحكم ونقضه إذا رأى أنه مجحف به .
وأما ضمانة التنفيذ فهي أن تنفذ العقوبة التي قررتها المحكمة بلا زيادة ، ويكون للمحكوم عليه حق الاحتجاج على أي زيادة يرى أنها وقعت عليه بغير وجه حق .
وككل شئ في الديمقراطية لم يحصل الشعب على هذه الضمانات في يسر ، ولا كانت من مقررات الديمقراطية حين قامت في البدء .
فقد كانت الديمقراطية قائمة - في أول عهدها - والشعب مطارد مضطهد بلا ضمانات تحميه !
كان من حق الشرطة أن تقبض على أي إنسان وتودعه السجن ، وكان ذلك في الغالب لإحدي " جريمتين " الفقر أو معارضة الحكمة! فأما الفقر فقد كان يبيح للشرطة القبض على أي إنسان بتهمة " التشرد !" وعليه هو أن يثبت ما يخالف ذلك ! وليس على الشرطة أن تثبت " الجريمة " ! فالشبهة كافية والقانون - الذي وضعه الأغنياء -يوافق على ذلك ! ويجعل الناس متهمين حتى تثبت براءتهم ، وذلك حتى يكون " الفقراء " تحت تهديد دائم يمنعهم من الخروج عن الأدب اللائق في حق الأغنياء !
وأما معارضة الحكومة فيا لها من جريمة تبيح السجن والاعتقال والتشريد ! وما أيسر التهمة ! التحريض على قلب نظام الحكم ، أو التحريض على كراهية النظام، أو العيب في أي ذات من الذوات " المقدسة " التي لا يجوز العيب فيها !
وجاهد الشعب ، وجاهد أحرار الفكر جهادا طويلا مضنيا من أجل تغيير هذه الأوضاع كلها ، حتى تقرر في الدساتير أولا ثم في الواقع العملي بعد ذلك أن " المتهم برئ حتى تثبت إدانته " وليس مدينا حتى تثبت براءته كما كان الحال من قبل … وسعى المجاهدون إلى إبطال حق الحكومة في القبض والاعتقال دون سبب ظاهر ، وأصبح من المقرر الآن أنه في خلال مدة محددة من الاعتقال تتراوح بين يوم واحد وأربعة أيام في بعض البلاد لابد أن يقدم المتهم للتحقيق بتهمة واضحة محددة . وحينئذ تحوطه ضمانات التحقيق وهي تشتمل على حقه في أن يطلب حضور محام عنه أثناء التحقيق لضمان عدم الضغط عليه بالتهديد أو الإغراء . وحقه في ألا يرد على سؤال المحقق دون أن يتعرض من أجل ذلك للتعذيب ، وحق المحامي في أن ينبه المتهم في أثناء استجوابه إلى عدم الرد على سؤال معين باعتبار أن المحامي أدرى منه بالمزالق القانونية التي يمكن أن يستدرجه المحقق إليها دون أن يلتفت إلى خطورتها عليه .. وباختصار أن تكون الأدلة المادية أو القرائن هي عماد التحقيق ، وليس سحب الاعترافات من المتهم عن أي طريق !(54/14)
وتعتبر هذه الضمانات اليوم من مقاييس التحضر الإنساني ، وهي جديرة بأن تكون كذلك ، فإن معاملة المتهم تكشف عن مدى احترام إنسانية الإنسان ، وليس مقياس الإنسانية هو معاملة السيد للسيد أو الند للند فهنا تتحكم عوامل أخرى غير احترام الإنسانية في ذاتها ، إنما معاملة " الضعيف " أيا كان سبب ضعفه ، وسواء كان ضعفه عارضا - كالمتهم - أو دائما كالفقير والمسكين واليتيم ..إلخ ، هي التي تكشف ، لأن القوة هنا تغري بالاستبداد بالضعف .. فإذا امتنع القوي - أيا كان سبب قوته ، سواء كانت قوته عارضه - من جاه المنصب - أو دائمة - بسبب آخر - إذا امتنع عن إيذاء الضعيف واضطهاده وإذلاله ، فلن يمنعه إلا الشعور " الإنساني " وإلا احترام إنسانية الإنسان .. فإذا كان الذي يمنعه فقط هو القانون ، فالقانون إذن يحمل في طياته احترام إنسانية الإنسان ، حتى لو كان الذين ينفذونه يفتقرون إلى الشعور بالإنسانية .. ومعاملة المتهم بالذات قد تكون أكثر دلالة من غيرها ، لأن الضعيف البرئ الذي لا ذنب له قد يجد من براءته سندا للعطف عليه عند ذوي القلوب الرحيمة، أما المتهم فشبهة الإدانة تحوطه ، وشبهه استحقاقه للعقوبة قائمة ، فإذا وجدت النفس الشريرة ، المتجبرة بالقوة وبالسلطان ، وإذا وجد الحقد الشخصي بالإضافة إلى ذلك ، كان الانزلاق إلى الإيذاء والتعذيب هو الأكثر توقعا ، وكذلك كان الحال في التاريخ كله في عهود الإسبتداد ! المتهم يؤخذ بالشبهة ثم ينكل به تنكيلا دون مبرر حقيقي إلا شهوة الاستبداد ! والشبه هي مجرد خوف " السادة" على سيادتهم ، ورغبتهم في إحاطة أنفسهم بسياج يحفظ لهم هذه السيادة ! ويستوي في ذلك أن يكونوا حكاما ( فتكون القضية سياسية ) أو أغنياء فقط ( فتكون القضية جنائية عادية)
فوضع القيد الذي يقيد السادة فيمتنعون أو يمنعون عن تعذيب المتهم والتنكيل به ، هو تقرير لجانب من جوانب إنسانية الإنسان ، يحسب لا شك في الميزان ، لكن الذي ينبغي أن ندركه هو أن السادة لم يضعوا هذا القيد من تلقاء أنفسهم ، إنما أكرهوا على قبوله إكراها بالضغط المستمر عليهم ، والإلحاح في المطالبة ، والإلحاح في كشف خبيئة نفوسهم الخبيثة ، بصورة تهدد سلطانهم على الناس ! فإن السلطان - حتى سلطان الجبابرة -يقوم دائما على قدر من الاحترام ، فإذا ذهب الاحتراف من النفوس صعب أو استحال استمرار السادة في سيادتهم وطغيانهم مهما كان لهم من جبروت .
والذي فجرته الثورة - التي انطلق فيها رد الفعل عن المظالم التي استمرت أكثر من ألف عام - كان هو إزالة القداسة عن ذوي القداسة ، سواء من رجال الإقطاع أو من رجال الدين ، فلماء جاءت الطبقة " المقدسة" الجديدة وهي الطبقة الرأسمالية لم تجد الطريق ممهدا على نفس الصورة التي كان عليها الإقطاع من قبل ، بل وجدت الثوار - سواء بأفكارهم أو بأعمالهم - يقفون لها بالمرصاد ، ويثيرون السخرية من أعمالها في النفوس ، فتنازلت شيئا فشيئا عن كثير من مظاهر قداستها ( وإن كانت ما تزال بعد تملك الكثير!)
أما ضمانات المحاكمة -بعد ضمانات الاتهام والتحقيق - فهي حق المتهم في إقامة محام يقوم بالدفاع عنه أمام المحكمة ، يختاره بنفسه إذا كان يملك دفع " أتعابه " ( أي الأجر الذي يتقاضاه مقابل الدفاع عن المتهم ) أو تنتدبه له المحكمة مجانا إذا كان فقيرا لا يملك دفع الأتعاب . وحقه في الامتناع عن الرد على أي سؤال توجهه المحكمة إليه ، وحق المحامي في منعه من الإجابة على أي سؤال يرى من معرفته بالقانون أن الإجابة عليه تضر بالمتهم ، وحقه في استدعاء الشهود الذين يرى أن شهادتهم تنفعه في قضيته ، وحق المحامي في طلب التأجيل للاستعداد و المزيد من الدراسة أو لتقديم أدلة جديدة . ثم حق المتهم في استثناء الحكم إذا رأى أنه جار عليه أو أوقع عليه جزاء لا يستحقه ( ويقابله حق النيابة في استئناف الحكم إذا رأت أنه أقل مما يستحقه المتهم )
وأما ضمانات التنفيذ فهي أولا تنفيذ العقوبة التي قررتها المحكمة دون زيادة عليها ، وثانيا حسن معاملة المجرم داخل السجن في فترة العقوبة ، فلا توقع عليه عقوبة بدنية ولا إهانة إلا نتيجة إخلاله بنظام السجن ، الذي تتضمنه لائحة معينة تحدد علاقة السجن بسجانيه ، وتوفر له الرعاية الطبية إذا مرض ، ويكون من حقه الشكوى من إدارة السجن إلى النيابة العامة ، ومقابلة محاميه في السجن إذا عن له ما يستدعي ذلك ، وزيارة أهله له زيارة دورية .. وتطور الأمر الآن في بعض السجون إلى السماح للسجين بزيارة أهله في منزله في فترات محددة ، حيث يقضي ساعات بين زوجته وأطفاله - تحت الحراسة - ثم يعود إلى السجن !
تلك خلاصة الحقوق والضمانات التي منحتها الديمقراطية للشعب ، أو بالأحرى استخلصها الشعب لنفسه في ظل الديمقراطية ، والتي أصبحت اليوم هي مضمون الديمقراطية في نظر الغرب(54/15)
وإذا نظرنا إلى حال " الشعب " في ظل الإقطاع فلا شك أن الديمقراطية - بالصورة التي صارت إليها - كانت نقلة كبيرة رفعت الشعب من حضيض " اللاشيئية " و " اللاإنسانية " إلى أن يصبح له اعتبار ، ويعامل - في جانب من جوانب الحياة - معاملة الإنسان .
وأي مقارنة بين الحالين ستثبت على الفور هذه النقلة ، وستثبت أن الإنسان الأوربي ، الخارج من ظلمات الإقطاع ، قد استمتع في ظل الديمقراطية بجوانب مضيئة ما كانت لتخطر على باله من قبل ، وما كان يتصور وجودها إلا في أحلام الفلاسفة الحالمين !
ولكن هذه الصفحة المضيئة ليست هي الصفحة الوحيدة في الديمقراطية " الليبرالية " كما تسمى ديمقراطية الغرب ، أي التي تقوم على حرية الفرد في أن يعمل ما يشاء ، تحقيقا للشعار الشهير الذي أطلقته الرأسمالية في نشأتها " دعه يعمل ما يشاء Laissez Fai r e ، دعه يمر من حيث يشاء laissez Passe r والتي صورتها العامة هي الحرية السياسية وتعدد الأحزاب إنما لها صفحة أخرى قاتمة شديدة القتام ، بمقدار ما تتلألأ هذه الصفحة بالنور.
والتطبيق الواقعي للديمقراطية الليبرالية هو الذي يكشف سوآتها ويحدد وزنها الحقيقي في ميزان الحق .
حين نزلت الآية الكريمة " وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ " قا صلى الله عليه وسلم : ما صدقتا إلا في هذه ! أي صدقت كل واحدة فيما تقول عن الأخرى ، وإن كذبت فيما تدعيه لنفسها من فضائل وحسنات .
ويصدق هذا الاتهام فيما بين الديمقراطية والشيوعية ، فإن كلا منهما تصدق فيما تقوله عن الأخرى وإن كذبت فيما تدعيه لنفسها من حسنات
والشيوعية تقول في هذا الصدد إن " الذي يملك هو الذي يحكم " وإن " الطبقة" التي تملك وتحكم تضع التشريعات لحسابها الخاص على حساب الطبقات الأخرى ، وإنه في الديمقراطية الليبرالية يكون المال في يد الطبقة الرأسمالية فهي التي تملك ومن ثم فهي التي تحكم ،وهي التي تضع التشريعات فهي التي تملك ومن ثم فهي التي تحكم ، وهي التي تضع التشريعات التي تحمي مصالحها ضد مصالح الطبقة الكادحة .
وهذه القولة صادقة إلى حد كبير وتوشك أن تكون صادقة كل الصدق لولا أن الطبقة الكادحة لم تستسلم تماما كما كانت قبل ثورتها على الإقطاع ، بل قاومت وقاومت .. وحصيلة مقاومتها هي التي أحدثت الفرق بين وضعها في ظل الإقطاع ووصفها في ظل الرأسمالية .
ولكن تعال ننظر - رغم ذلك - إلى حقيقة الواقع ، ونسأل - بموضوعية كاملة - لصالح من تجري الحياة في ظل الديمقراطية الليبرالية ، ومن هو المستفيد الأكبر ، ولا نقول كما تقول الشيوعية إنه المستفيد الوحيد .
لاشك أن الأمور تجري - في عمومها - لمصلحة الرأسماليين !
ورغم كل التنازلات التي أكرهت الرأسمالية على تقديمها للشعب فما زال الغنم الأكبر في أيديهم ، والفتات في يد الجماهير .
لا نقول - كما تقول الشيوعية - إن المنتج الحقيقي هو العامل وإنه هو الذي يستحق وحده حصيلة الإنتاج ، فتلك مغالطة سنناقشها حين نناقش الشيوعية في الفصل القادم ، ولا نقول كذلك - كما تقول الشيوعية - إن أصحاب رؤوس الأموال هم قوم لا عمل لهم إلا التطفل على دماء الكادحين ، بينما هم لا يستحقون منها شيئا على الإطلاق لأنهم لا يعملون بأيديهم .
لا نقول هذا ولا ذاك.. ومع ذلك فلننظر إلى الفارق الضخم الذي يفرق بين دخول الرأسماليين ودخول العمال .. هل هو فارق طبيعي ؟ هل هو فارق عادل ؟ هل هو فارق لا يؤثر في القيم والمبادئ المتعلقة بإنسانية الإنسان ؟!
كيف جاء هذا الفارق بادئ ذي بدء ؟ هل هو حقيقة نتيجة العبقرية الفذة التي خص الله بها الرأسماليين وحرم منها بقية عباد الله ؟! أم هي مغتصبة اغتصابا بوسائل غير مشروعة ؟!
هل كانت الرأسمالية عادة منذ البدء في تحديد أجور العمال ؟ أم كان تحديدها قائما على أسوأ نوع من أنواع استغلال ؟ وحتى حين خفضت ساعات العمل ورفعت الأجور بعد الصراع المرير الذي قام به العمال ، فهل حدثت العدالة الإنسانية الواجبة ؟
إن تضخم رؤوس الأموال ينشأ ابتداء من امتصاص دماء العمال وعدم توفيتهم أجورهم ..وقد يكون تحديد الأجر مسألة اجتهادية تختلف من وقت إلى وقت ومن حال إلى حال . ولكن له حدودا عامة لا ينبغي أن يخرج عنها ، وهي توفير " الحياة الكريمة " للإنسان الذي يبذل جهده ليعيش .
ويجيء تضخم رؤوس الأموال كذلك من إقامة الحياة كلها على الأساس الربوي الذي يمقته الله .
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)} [سورة البقرة 2/275-276](54/16)
والذي قال عنه الدكتور " شاخت " الألماني في تقرير أعده في الأربعينات من هذا القرن أن نتيجته الحتمية هي تزداد رؤوس الأموال في يد فئة يتناقص عددها على الدوام وزيادة الفقر في عدد متزايد من الناس !
ويجئ تضخم رؤوس الأموال أيضا من إنشاء صناعات تافهة لا يحتاج إليها الإنسان الجاد الذي يعيش لأهداف جادة ، بل هي تفسد الأخلاق وتميع الطباع وتشغل الناس بالتفاهات بدلا من شغلهم بآفاق الحياة العليا .. وكل ذلك لأنها أكثر ربحا .. ولان دورة المال فيها أسرع بكثير من دورته في الصناعات الحقيقية التي تؤدي هدفا جادا في حياة الإنسان .. كصناعة السينما وصناعة أدوات الزينة والتفنن في " المودات سواء مودات الملابس أو مودات الأثاث في البيوت أو مودات السيارات في الطريق .
تلك أدوات التضخم الرأسمالي أو هذه أبرزها .. فأيها أدوات طبيعية ؟ وأيها أدوات عادلة ؟ وأيها أدوات لا تؤثر في إنسانية الإنسان ؟
ولا يقولن أحد : هذه هي الرأسمالية ، ولكننا نتكلم عن الديمقراطية ! فالواقع أنه لا يمكن فصل هذه عن تلك!
إن هذه الديمقراطية - بمجالسها النيابية ، بمثلي الشعب فيها -0 هي التي تصدر القوانين التي تبيح للرأسمالية أن تتصرف على هذا النحو دون أن تتدخل فيها ، بل - في الحقيقة - دون أن تجرؤ على التدخل فيها !
ومن ناحية أخرى فإن الرأسمالية هي الوجة الاقتصادية للديمقراطية الليبرالية ، كما أن الديمقراطية الليبرالية هي الوجه السياسي للرأسمالية !
ولسنا نقول - كما تقول الشيوعية - إن الوضع الاقتصادي هو الذي يشكل الأفكار والعقائد والنظم والمؤسسات التي تتمشى معه وتخدم أهدافه .
وإنما نقول - ونراه أدنى إلى الصواب- إن الوضع الاقتصادي والوضع السياسي - ( والوضع الاجتماعي كذلك كما سيجئ) كلها أوجه متناسقة مع النظام أو الفكرة التي تقوم عليها ، ولكها منبثقة من أصل واحد مشترك هو " الإنسان " مستقيما أو منحرفا ، وعلى أي نحو هو منحرف ، فأما إن كان مستقيما ( أي على النهج الرباني ) فهو يصوغ حياته : الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية والروحية ..إلخ على مقتضى المنهج الرباني ، وهو منهج متناسق في جميع وجوهه ومتكامل بعضها مع بعض ، وأما أن كان منحرفا فبحسب نوع انحرافه تكون أوضاعه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية والروحية ..إلخ وتكون متناسقة مع لون الانحراف الذي يقع فيه ذلك " الإنسان " فليس الاقتصاد هو الذي يصوغ السياسة ولا السياسة هي التي تصوغ الاقتصاد ، إنما هما معا - ومعهما بقية وجوه الحياة - يصوغها الإنسان متأثرا بنوع انحرافه .
والانحراف الذي يتخذ الرأسمالية وجهة الاقتصادي ، والديمقراطية الليبرالية وجهة السياسي ، والتفكك الاجتماعي ( كما سيجئ) وجهة الاجتماعي ، هو أولا انحراف عن شريعة الله ومنهجه المنزل لإصلاح الحياة وإقامتها بالقسط ، وهو من جهة أخرى انحراف الفردية الجامحة التي تريد أن تفعل ما تشاء Laissez Fai r e . Laissez Passe r ( دعه يفعل ما يشاء ، دعه يمر من حيث يشاء !) هذه الفردية الجامحة تأخذ في الاقتصاد صورة الرأسمالية ، وتأخذ في الاجتماع صورة المجتمع المفكك الروابط المنحل الأخلاق ، وهي انحرافات متناسقة بعضها مع بعض، متكاملة بعضها مع بعض ، ولا يمكن فصل بعضها عن بعض!
فالذين يقولون نأخذ الديمقراطية صورة سياسية وليس من الضروري أن نأخذ معها الرأسمالية الجامحة هم واهمون في محاولة فصل وجه من هذا النظام عن وجه آخر .. أو هم يتحدثون عن شئ آخر غير الديمقراطية الليبرالية لا نعلم صورته على وجه التحديد !
ومهما يكن من أمر فإن الديمقراطية الليبرالية - الموجودة بالفعل ، لا المتخيلة في الأذهان - هي هذه التي تحتمي بها الرأسمالية وتلعب لعبتها من خلالها وسنتكلم في الصفحات القادمة عن أبعاد اللعبة كلها التي تتم من وراء الصورة السياسية المتمثلة في الديمقراطية الليبرالية ، ولكننا نقرر هنا حقيقتين تبدوان متناقضتين في الظاهرة ولكنهما في الحقيقة غير متناقضتين إذا أنعمنا النظر فيهما :
الأولى : أنه من خلال النظام الديمقراطي نال " الشعب " ما ناله من حقوق وضمانات .
والثانية : أن الرأسمالية هي صاحبة الهيمنة وصاحبة التشريع من وراء اللعبة الديمقراطية بأكملها .
ولإزالة التناقض الظاهري بين الحقيقتين نقول أولا : إن الشعب نال ما ناله من الحقوق من خلال صراعه وكفاحه ودأبه في إحراج الرأسمالية واقتناص الحقوق والضمانات منها ، فهو ينتزعها منها انتزاعا وهي تتنازل عنها كارهة ومكرهة ، وإن يقظة الشعب بدأت منذ ثار على الإقطاع وليس منذ اتخذا الديمقراطية ! بل الديمقراطية هي ثمرة ثورته فهي نتيجة لا سبب .(54/17)
ونقول ثانيا : إنه على الرغم من ذلك فقد تركت الرأسمالية الثوب - ثوب الديمقراطية- يلبسه الشعب ، ونفذت هي إلى مصالحها من خلاله فنالت كل ما تريد من تشريعات تحمي مصالحها وتتيح لها أن تقوم بكل مظالمها ! فإذا كانت قد اضطرت للتنازل عن بعض المصالح تحت ضغط الشعب ، فهي من جهة قد تنازلت عن فتات لا يؤثر تأثيرا حقيقيا في مصالحها ، فما تنازلت عنه هو قطرات من فائض أرباحها ، وما تزال أرباحها تتزايد بصورة جنونية ! وهي من جهة أخرى قد تنازلت عن هذا الفتات لأنها لم تأمن على نفسها إذا ظلت في موقف التصلب أن تفقد ثروتها كلها وكيانها كله ! ففي نظرها هي أنها ألقت للكلاب الجائعة بلقيمات تلهيها بها خوفا من أن تأكلها الكلاب ! فخوفا من الشيوعية تنازلت الرأسمالية الغربية عما تنازلت عنه ، وخوفا من أن تدمر الإضرابات كل الأرباح !
فلا تناقض إذن بين الحقيقتين ، والرأسمالية هي صاحبة النظام كله وهي المستفيد الأول منه ، ولا عليها أن يتزي الشعب بزي الحرية .. أو الحرية والإخاء والمساواة ولننظر في هذه الحرية على حقيقتها ..
لا شك أن الفرد في الديمقراطية الليبرالية حر حرية كاملة كما يبدو ( في الظاهر ) في أن يتخذ قراراه دون ضغط من أحد ، وأن يعبر عن رأيه بحرية ، وان يدعو لرأيه بكل وسائل الدعاية وأن يختار المرشح الذي يمثله في البرلمان والذي يشرف على أعمال الحكومة ويهيمن على تصرفاتها .
ولكن دعنا نتأمل الحقيقة الكامنة وراء هذا الظاهر .. فمن الذي يصوغ لهذا الفرد أفكاره أو - من زاوية أخرى - من الذي يشكل " الرأي العام " الذي يوجه هذا الفرد لاتخاذ قراره !
إنها وسائل الإعلام ! الصحافة والإذاعة والسينما والتليفزيون والخطبة والمحاضرة والكتاب .
ودعك - موقتا - من أن وسائل الإعلام تشرف عليها اليهودية العالمية وتوجهها الوجهة التي تخدم مصالحها ، فلنا عود إلى هذه النقطة في مكان آخر من هذا الفصل .
إنما نقول - مؤقتا - إن الذي يملك وسائل الإعلام هو الرأسمالية ( بصرف النظر عن ملتها !)
إن الصحافة - وقد كانت وما تزال من أشد وسائل التأثير - لا تستطيع أن تعيش بلا معونة خارجية ، فهي تتكلف بالفعل أضعاف الثمن الذي تباع به للجمهور ، والثمن الذي تباع به للجمهور لا يصل كله إلى أصحاب الصحيفة فهناك في الوسط وسيطان اثنان على أقل تقدير هما الموزع العام الذي يتكفل بأخذ مجموع النسخ المطبوعة وبيعه للبائع الصغير ( أي الذي يبيع مجموعة صغيرة من النسخ ) ثم هذا الموزع الصغير الذي يبيع للجمهور . فإذا تصورنا جدلا أن ثمن النسخة للجمهور هو مائة وحدة فإن خمسين وحدة على الأقل إن لم يكن أكثر يتقاسمها هذان الوسيطان ،والباقي هو الذي يرد إلى الصحيفة مع " المرجوع" أي النسخ التي لم يتم توزيعها ولا عائد لها على الإطلاق ,.. فكيف تغطي الصحافة تكاليفها ثم تربح فوق ذلك أرباحا طائلة ؟ إنها تعتمد - أساسا - على الإعلانات ثم على الإعانات من أي طريق تجئ .
والإعلانات - بطبيعة الحال - في يد الشركات والمؤسسات الصناعية أي في يد الرأسمالية ومن ثم فإنه يكفي لقتل أي صحيفة " حرة" أي طويلة اللسان تتجرأ على المصالح الحقيقية للرأسمالية ، أن تمنع عنها الإعلانات فتسقط في هاوية الإفلاس ! ولا ضير في الوقت ذاته على الرأسمالية من مناوشات سطحية في الصحف تنتقد كما تشاء دون أن تصيب الجذور ! بل هو أمر في صالح اللعبة في نهاية المطاف !
فإذا كان الصحافة - التي تؤثر التأثير الأكبر على " الرأي العام " واقعة في قبضة الرأسمالية إلى هذا الحد ، فلنا أن نتوقع أن تكون الأفكار التي تصوغها وتنشرها هي ما تريده الرأسمالية ، أو في القليل هي ما لا يتعارض مع المصالح الحقيقة للرأسمالية . ومثل الصحافة بقية وسائل الإعلام فهي واقعة بصورة أو بأخرى في ذات القبضة الشريرة التي توجه الأفكار وتشكل المواقف للناس !
ولنأخذ ثلاثة نماذج مختلفة من طريقة تشكيل " الرأي العام " في مسالة سياسية ومسألة اجتماعية ، ومسألة اقتصادية تخدم كلها مصالح الرأسمالية ويبدو فيها " الرأي العام " كأنما تشكل من تلقاء نفسه واتجه إلى الوجه التي اتجه إليها !
لنفرض أن المطلوب هو إشعال حرب في مكان ما على سطح الأرض ،وهو أمر يهم الرأسمالية من جميع الوجوه المتخيلة ! وأولها بيع السلاح الذي يدر على صانعيه أرباحا خيإلية ( ونصرف النظر - مؤقتا - عن أن تجار السلاح في العالم من قديم الزمان هم اليهود ) ! فكيف يهيأ " الرأي العام " لتقبل الحرب أولا ، ثم التحمس لها ثانيا ، ثم المطالبة بها أخيرا !(54/18)
تبدأ الصحف - وكذلك وسائل الإعلام - في نشر أخبار قصيرة مثيرة تثير عند الغافلين - والرأي العام دائما غافل - نوعا من التطلع والانتباه . ثم يزاد في طول الخبر ويؤتي بمزيد من التفاصيل .. ثم يصبح الموضوع هو الحديث اليومي في الصحافة والإذاعة والتليفزيون .. يزاد في نغمة الإثارة حتى تشحن النفوس بالوقود … ثم تأخذ الصحافة في الاستطلاع " الرأي العام " ( كأنما لم تكن هي التي وجهته ) فإن الرأي العام متحمس ! إذن لابد مطالبة الحكومة بالتحرك ! وإذن تبدأ الحكومة في الإعداد .. ثم تنطلق شرارة الحرب ، ويباع السلاح ، وتتحقق الأهداف المطلوبة من وراء " المشروع" !.
ففي الحرب العالمية الثانية التي امتدت فشملت معظم أرجاء الأرض ، وقتل فيها أربعون مليونا من الشباب في ميادين القتال غير الذين قتلوا من الرجال والنساء والأطفال بعيدا عن ميادين الحرب بالقنابل المدمرة ، وغير الذين قتلوا بتأثير القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا في نجازاكي وهيروشيما .. بدأت صحافة الحلفاء ( أي الديمقراطيات في غرب أوربا وفي امريكا ) تتكلم عن هتلر واستعداداته الحربية والأزمات التي يثيرها ( وخاصة أزمة ممر دانزج التي اعتبرت الشرارة الأولى للحرب ) وبدأت تكتب عن النازية وعن النظم الدكتاتورية وعداوتها للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان .. وأن على الديمقراطيات التي تشكل " العالم الحر " أن تؤدب هذا الطاغية الذي ينذر بشر مستطير لجميع البشرية !
وما نريد أن نتحدث هنا عن " الحق في أي جانب كان .. فقد كان كل ما تقوله صحافة "العالم الحر " عن هتلر والنازية الدكتاتورية حقا ، وكان هتلر بالفعل طاغية جبارا يريد إذلال العالم وإخضاعه لسلطانه ، ويصدر عن جنون عنصري مرتكز على أفضلية الجنس الآري وجدارته بأن يحكم العالم كله ! ولكن ما فضل " الحلفاء" عليه ؟ أليسوا هم ممثلة طواغيت - كانوا - يحكمون العالم كله يومئذ ويذلونه باسم حضارة " الرجل الأبيض "وجدارته أن يحكم كل شعوب الأرض ؟ وماذا يملك الرجل الأبيض من المقومات الحقيقية التي تؤهله لذلك السلطان وتجعله وقفا عليه وحده لا يشاركه أحد فيه ؟
فقد كان إذن ما تقوله صحافة الحلفاء ( وإذاعتهم ) حقا بالنسبة للنازية وهتلر ، أما ما كانوا يدعونه لأنفسهم من أنهم هم حماة الحرية وحماة حقوق الإنسان ، فقد تبين كذبه كله عقب الحرب مباشرة حين خرج الحلفاء منتصرين من الحرب فضربوا بكل وعودهم للشعوب عرض الحائط ، بل قالوا لهم في تبجح : لقد حميناكم من النازية فادفعوا ثمن الحماية .. وثمنها أن يكونوا خاضعين لهم يدورون في فلكهم ويخدمون مصالحهم .
على أية حال فنحن نتتبع معالجة الصحافة والإذاعة للأمر .
لقد كان المطلوب تهيئة " الرأي العام " للحرب ، ولأمر آخر لا يقل خطرا .. وهو إنشاء دولة إسرائيل .
فلتكتب الصحافة إذن - وجميع وسائل الإعلام المتاحة - عن طغيان هتلر ، وعن حشيته في إبادة اليهود وتعذيبهم .. حتى يشحن " الرأي العام " ويصبح مستعدا للحرب بعد أن كان نافرا منها أشد النفور .. وحتى يعطف على قضية اليهود بعد إذ كان كارها لهم أشد الكره !
وشيئا فشيئا يصبح حديث الحرب أمرا عاديا ، بل يتحمس الناس للحرب ويضغطون على حكوماتهم أن تدخل الحرب تأديبا للطاغية الذي يستحق التأديب ، والذي لو ترك وشأنه خرب الأرض ودمر مقومات الحضارة !
وشيئا فشيئا يتعاطف الناس مع اليهود الذي يعذبهم النازي ويحرقهم أحياء في الأفران ! ويصبح " الرأي العام العالمي " مهيأ للدعوة التي تجئ بعد ذلك بضرورة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين !
ثم يشتدد الحماس حتى تدخل كل دول الغرب في الحرب ، ويشتد التعاطف مع اليهود حتى يصبح العرب في نظر العالم مجرمين إذا أبوا أن يتنازلوا عن أرضهم وديارهم لشعب الله المختار !
ولنفرض أن المطلوب هو تفكك روابط الأسرة ونشر الفساد الخلقي وتحريض المرأة ضد قوامه الرجل عليها .
تبدأ الصحافة بمهاجمة الزواج المبكر وذكر مضاره !
إن كلا من الزوجين يكون قليل الخبرة بالجنس الآخر نتيجة عدم الاختلاط ، ثم قليل الخبرة بالحياة لصغر السن وقلة التجربة ، ثم قليل الخبرة بتربية الأولاد .. الذين يجيئون في أول عهد الزواج فتسوء تربيتهم ! لذلك يلزم تأخير سن الزواج مع إباحة الاختلاط حتى يتحقق التعارف بين الجنسين واكتساب الخبرة اللازمة للزواج ، ويتأخر مجئ الأولاد حتى تزداد الخبرة فتحسن تربيتهم !
ثم يظل الحديث عن ضرورة الاختلاط يلح على الناس حتى يتكون " رأي عام " موافق على الاختلاط بعد إذ كان معارضا له ، ثم يظل الحديث يلح على الناس حتى يتحمسوا له ، ثم يظل الحديث يلح على الناس حتى يبلغ الحماس للاختلاط أن يتهموا كل معارض له بالرجعية والتخلف والجمود والتأخر ويهددوه بأن عجلة التطور ستسحقه وتقضي عليه !(54/19)
ثم يقال للمرأة إن الزواج الباكر والإنجاب الكثير يفسد رشاقتها ! ويقتل حيويتها ! ويمنعها من مشاركة الرجل في إدارة شئون المجتمع ! وتظل الصحافة ( ووسائل الإعلام الأخرى ) تلح على هذا الأمر حتى تخرج المرأة من فطرتها وتنظر إلى الزواج على أنه قيد يعوقها ! وإلى الإنجاب على انه عدو يفسد جمالها ورشاقتها ،وإلى البيت والانشغال به على أنه إهدار لطاقتها بل إهدار لكرامتها ! وبعد أن كانت - كما هو مركوز في فطرتها - تفرح بصيحة الطفل لأنها تحقق لرسالتها وإثبات لأنوثتها المتمثلة في الاستعداد للحمل والإنجاب ، صارت تمقت صيحة الطفل ، وتكره البيت ، وحتى إن تزوجت تستخدم موانع الحمل لتحافظ على رشاقتها .
ثم يظل تأثير الصحافة ووسائل الإعلام عليها حتى تري أن من حقها أن " تستمتع " بالحياة استمتاعا حرا دون أن يفرض على استمتاعها قيد خلقي أو اجتماعي أو من أي نوع ، فمن حقها أن تمارس الجنس في حدود الصداقة مع الرجل دون أن ينشأ عن ذلك بالضرورة زواج أو أسرة .. ومن حقها أن تؤخر الزواج حتى تشبع من الاستمتاع الحر .. ومن حقها أن تؤخر الإنجاب حتى تشبع من العمل خارج البيت ، ومن الرشاقة في الحفلات وحلبات الرقص
ويصبح ذلك كله من مقررات " الرأي العام" النسائي على الأقل ، بل النسائي والرجالي كذلك .. ( أي من مقررات العقل الجمعي ) ! ويصبح المعارض لذلك هو المجنون الأبله ، وهو المتحجر على أوضاع عفى الزمن عليها ولا يمكن أن تعود !
ولنفرض أن المطلوب هو ترويج عملية ربوية كعملية التأمين على الحياة . تظل الصحافة - ووسائل الإعلام الأخرى - نقص القصص عن أحوال الأسر التي تصيبها كوارث ، حتى توقظ مشاعر الناس لهذه الحالة المنتشرة في المجتمع ( ولا يذكر بطبيعة الحال أن تفكك الأسرة وتفكك روابط المجتمع في المجتمع الصناعي الرأسمالي كانت هي السبب في وجود هذه الحالة وانتشارها ، لكي لا يتنبه الناس إلى المكر الماكر المحيط بهذا الشأن من أوله إلى آخره ولكي لا يتنبهوا أن الحل الحقيقي هو إيجاد التكافل الاجتماعي سواء داخل الأسرة أو داخل المجتمع أو بتكليف الدولة أن تقوم بكفالة من لاكافل له ) ثم تروج الصحافة من جانب آخر لشركات التأمين و " الخدمات الجليلة " والتي تقوم بها ، وعن حالة الأسر التي أخذ عائلها بنظام التأمين ، فصارت مستقرة لاتهزها الأعاصير !
ويظل إلحاح الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى حتى يصبح الأمر حقيقة منتهية لا جدال فيها ، أن التأمين لدي شركات التأمين واجب على كل إنسان بعيد النظر ، وأنه ضرورة لا غني عنها في العالم الحديث ! ولا يتحدث أحد عن الأرباح الخيالية التي تربحها شركات التأمين الربوية من الناس ! ولا يتحدثون عن الأقساط الربوية التي يدفعها المؤمنون .. ويصبح ذلك كله أمرا واقعا في المجتمع ، بل يصبح أمرا " واقعا في المجتمع ، بل يصبح أمرا " روتينيا " يأتيه كل إنسان دون أن يفكر على الإطلاق أنه كان يمكن أن يكون هناك بديل ، أو أنه يجب أن يكون هناك بديل .. ويكون هذا هو " الرأي العام " في هذه القضية أو هو العقل الجمعي الذي يضع للناس مقررات الحياة
إذا كانت هذه هي طريقة تشكيل " الرأي العام " الذي تعتمد عليه الديمقراطية - في ظاهرها على الأقل - فكيف تكون الديمقراطية هي حكم الشعب على الحقية ؟(54/20)
إن الرجل العادي - الذي يسمونه " رجل الشارع " كأنه لا بين له ولا انتماءله ! - مشغول بأحواله المعيشية الخاصة عن النظر الحقيقي في الأمور العامة وتكوين رأي مستقل فيها . وذلك لسبين ، أحدهما عام لا يختص ببيئة معينة ولا زمن معين ، هو أن الأغلبية الكبري من الناس لا تحب أن تشغل نفسها بالأمور العامة ولا تصبر على التعمق فيها ، وليس عندها الأدوات المعيشة على ذلك من نفقة وتدبر وبعد نظر وإحاطة بالأسباب والنتائج ، فتحب أن تترك هذه الأمور لفئة معينة من الناس ، تثق فيها وتكل إليها هذه المهمة الخطيرة . والسبب الثاني خاص بهذه الديمقراطية الليبرالية بالذات ، أو هو في الحقيقة خاص بالجاهليات جميعا ولكنه في هذه الجاهلية التي يشرف اليهود على توجيهها أشد ، وهو التلهية الدائمة لرجل الشارع هذا عن أي يلتفت إلى الأمور العامة بنظر مستقل وفكر متفحص ، عن طريق شغله بأمور معاشه من جهة وأمور لهوه و " استمتاعه " من جهة أخرى نقول إن هذا موجود في الجاهليات جميعا ، حتى يتفرع أصحاب السلطان لسلطانهم دون تدخل من يقظه الجماهير ، التي قد تتيقظ فتطالب بحقوقها المسلوبة ، التي يعيش - من سلبها - أصحاب السلطان ! ولكنه في هذه الجاهلية أشد لأن اليهود ية - او أن شئت قل الرأسمالية - تشغل الناس شغلا داما بأمور المعاش لكي تربح هي ربحا الفاحش ، فاليوم الثلاجة وغدا السيارة وبعد غد تغيير السيارة لأن الجديد أكثر أناقة أو فيها زر إضافي ليس في السابقة ! كما تشغلهم باللهو الدائم فاليوم السينما وغدا المسرح وبعد غد حلبة الرقص وبعده النزهة الخلوية .. والليلة موعد مع الصديقة وبعدها صديقة أخرى أو حفل جنسي صاخب .. وهكذا ، لتربح الرأسمالية - أو قل اليهود ية - أرباحا مركبة : ربح المال ، وربح إفساد الأمميين ، وربح تلهيتهم عما يدور حولهم من أمور ، ليخطط المخططون وهم في مأمن كامل من يقظة الجماهير !
إذا كان الحال كذلك على الحقيقة فأين هو " الرأي العام " الحقيقي الذي يوجه السياسة في الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية ؟! إنه في الحقيقة أصحاب رؤوس الأموال .. هم الذين يرسمون السياسية ، وهم الذين يشكلون " الرأي العام عن طريق الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى ، فيصوغونه على النحو الذي يرى دون .. النحو الذي يحقق مصالحهم في النهاية ، ولا بأس أن يترك شيئا من الفتات " للشعب" حتى لا يتحول إلى كلاب جائعة تهدد المكتنزين !
حقيقة ان هناك نوابا وتمثيلا نيابيا وهناك برلمان يقول فهي من أراد كل ما يرى د أن يقول
ولكن من هم النواب في حقيقة الواقع ؟
هل يتاح لأي إنسان أن يصل إلى البرلمان ويوجه الأمور من هناك ، كما هي الصورة النظرية للديمقراطية ؟
أن المعركة الانتخابية في حاجة إلى تكإلى ف لا يقدر عليه ا إلا الأغنياء من الناس ، ومتي كان هو من طبقة الأغنياء فما الذي يجعله يفكر في " طبقة " المساكين ؟ إنهم ليسوا في نظره مساكين ! إنهم من جهة اولئك " الاعداء " الحاسدون لما في يده من النعمة ، الطامعون ، الذين يرى دون أن ينهبوه وينتقصوا أرباحه ! وهم من جهة أخرى أولئك " الطفيليون" الذين لا يحسنون شيئا ويطمعون في كل شئ " الاغبياء " الذين وقف بهم غباؤهم عن أن يصعدوا إلى القيم التي وصلواهم إليها .
وحقيقة إن هناك من الفقراء ومتوسطي الحال من يرشحون أنفسهم وينجحون في الانتخابات .. ولكن كيف يصلون إلى هناك ؟ إنه لابد من أحزاب تحملهم وتحمل عنهم عبء المعركة الانتخابية وهو عبء باهظ .
فإذا دخل الإنسان الحزب فقد تغيرت أحواله كلها وأصبح إنسانا أخر . أصبح " محترفا " في عالم السياسية ، وهو وحزبه في أحد حالتين لا ثالث لهما ، وفي أحد موقفين : إما أن يكون حزبه في الحكم فهو ملتزم بتأييد الحكومة في كل ما تصنع ، سواء كان في دخيله نفسه مقتنعا بما تفعل أو غير مقتنع . وإما أن يكون حزبه في المعارضة - أي خارج الحكم - فهو ملتزم بمعارضة الحكومة القائمة في كل ما تصنع ( إلا أن تكون " مصلحة عامة " أي يستفيد منها الرأسمالي ون جميعا !) سواء كان في دخيله نفسه مقتنعا بالمعارضة أو غير مقتنع !
وهكذا تسمع صيحات : العدل . والقيم . والمبادئ . والإنسانية … إلخ من الحزب المعارض طالما هو في المعارضة ، فإذا وصل إلى الحكم سلك ذات السلوك الذي كان ينتقده ويندد به من قبل ! وصار الدور على الحزب المعارض - الذي كان في الحكم من قبل - لينتقد من الحكومة القائمة ذات الأعمال التي كان يسوغها لنفسه وهو في الحكم ، ويتصايح بدعاوي الإنسانية والعدالة والقيم والمبادئ !
ومن الأمثلة الواقعية - المضحكة - أن حزب العمال في بريطانيا ظل وهو في المعارضة ينادي بضرورة زيادة أجور العمال ، فلما وصل إلى الحكم رفض أن ينفذ ما كان يدعو إلى ه وهو في المعارضة - أو عجز عن تنفيذه ! - وسلك ذات السلوك الذي كان يعيبه من قبل على حزب المحافظين ، وهو تجميد الأجور خوفا من التضخم !
وصحيح أن هناك " أحرارا" يصلون إلى البرلمان ، ويقولون قوله الحق ، وينتقدون بجرأة ، ويطالبون بحقوق أصحاب الحقوق ، ولكن كم عدد هؤلاء ؟ وما وزنهم في المجالس النيابية ؟(54/21)
إن القرارات تؤخذ بالأصوات . ولا ضير في المبدأ في ذاته فهو مبدأ عادل . ولكنه صالح حين يكون أصحاب الأصوات من العدول لا حين يكونون من أصحاب الأهواء ، فأما حين يكونون من أصحاب الأهواء ، الملتزمين بالمعارضة أو الملتزمين بالتأييد بحكم موقف الحزب الذي يتبعونه ، فعندئذ تضيع أصوات القلة من الأحرار في وسط أصوات الكثرة من المزيفين ! وتنفذ مصالح الرأسمالية كلها من خلال اللعبة الهائلة ، لعبة الحرية والديمقراطية والتمثيل النيابي والبرلمان ! إلا الفتات الذي يتساقط في الطريق ، أو يسقط عمد اللتلهية ، أو يسقط تحت الضغط الشديد !
أما " الحرية " الحقيقية التي تتيحها الديمقراطية وكأنما أنشئت من أجلها ، فهي " الحرية الشخصية ": حرية الالحاد وحرية الفساد الخلقي ! هنا يلتقي الجميع : المعارضون والمؤيدون والشعب والرأسمالي ون ، والحكام والمحكومون !
إن الديمقراطية الليبرالية تقيد الحرية حيق ينبغي أن توسع ، وتوسعها حيث ينبغي أن تضيق !
فحين تمس مصالح الرأسمالية فلا حرية على الإطلاق ! ويذكر الناس جميعا قصة مقتل كنيدي رئيس جمهورية الولايات المتحدة ، حين قتل في عام 1963 م لأنه وقف في طريق مصلحة من مصالح الرأسمالية ، ثم لعب بقضيته لعبا بحيث لا تنكشف الحقيقة ولا يوقع على المجرمين الجزاء !
فقد كانت سياسة الرأسمالية يؤمئذ - أو قل سياسة اليهود المشرفين على توجيه الجاهلية المعاصرة - هي وضع العالم على " حافة الحرب" من أجل تنشيط صناعة السلاح وبيعه ، وهي - كما قلنا - من أربح الصناعات بالنسبة إليهم . ولكن كنيدي كانت له نظرة أخرى مختلفة ، ينطلق فيها من مصلحة الولايات المتحدة التي هو رئيسها المنتخب لتحقيق مصالحها .. فقد كان رأي كنيدي أن المصلحة القومية للولايات المتحدة تقتصي تهدئه الأحوال العالمية ، لكي يوجه الإنفاق إلى رفاهية الشعب الأمريكي بدلا من توجيه إلى صناعة الحرب التي لا عائد منها على الشعب .. لذلك سعي إلى مصالحة الاتحاد السوفيتي والاتفاق معه على تهدئه الأحوال العالمية ، وخطا بالفعل خطوة نحو إشاعة السلام ، فمد يده إلى خروشوف الزعيم الروسي القائم بالحكم يومئذ لفتح باب المحادثات التي تؤدي إلى توطيد السلام ، وخطا خرشوف من جانبه خطوة فقبل أن يدخل في محادثات السلام .
ورغم أن هذا كان تصرفا حكيما من وجهة النظر الأمريكية البحتة ، فضلا عما فيه من إراحة أعصاب العالم من الخوف الدائم من نشوب الحرب ، فإن الرأسمالية الأمريكية ذاتها ( أو قل اليهود ية ) لم توافق عليه لأنه ضد مصالحها الذاتية . لذلك أنشأت إضرابا طويلا في مصانع الصلب على سبيل الإنذار (مع أن هذا الاضراب يضر المصالح المؤقتة للرأسمالي ة ولكنه يؤدي إلى كسب أكبر بالضغط على كنيدي ليترك سياسة التهدئة التي كان يقوم بها بالاتفاق مع خروشوف ) فلما لم يأبه كنيدي بالإنذار ، ومضي في سياسيته ، هددوه مرة ثانية بإضراب أخر في مصانع الصلب استمر مدة أطول من الأولى ! ولما لم يرضخ بعد هذا الإنذار الشديد ، وأصر على السياسة التي رآها أكثر تحقيقا لصالح الشعب الأمريكي - فضلا عن إراحة العالم من الخوف - قرروا أنه لابد من التخلص منه بإجراء أشد ، فقتلوه ! قتلوه وهو لس فردا عاديا من أفراد الشعب ، بل هو رئيس الجمهورية المنتخب برضا الشعب ، والمسئول عن مصالح الشعب الأمريكي كله! قتلوه ثم لعبوا بالتحقيق ، فلم يجد رئيس الجمهورية المقتول ضمانات التحقيق التي تحفظ حقه - وإن كان قتيلا - في أن يؤخذ له القصاص من قاتله ! ولم تجد الديمقراطية كلها نفعا في إقامة العدل في قضية من القضايا الخطيرة في التاريخ الحديث.. ومضت القصة كلها كأنها حادث عادي لا يثير الانتباه ولا يستحق الإهتمام ! وطوي التحقيق .. ولما تصل العدالة إلى غايتها حتى اليوم وقد مضي أكثر من عشرين عاما على الحادث العجيب !
وتلك هي الديمقراطية حين تمس المصالح المباشرة للرأسمالي ة .
وما كانت مصالح مشروعة حتى نقول إن الذي وقف في سبيلها كان يستحق الانتقام منه بأية صورة من الصور ، إنما كانت مصالح جشعة مجرمة ، تريد أن تضع العالم كله على حافة الحرب لكي تربح هي من وراء ذلك الربح الحرام .. وفي سبيل ذلك تلغي كل ضمانات الديمقراطية وكل " الحرية " الزائفة التي يتغني بها الديمقراطيون !
أما حين يكون الأمر مختصا بالفساد فهنا الحرية بلا ضابط ولا حساب !
حرية الإنسان في أن يلحد مكفولة بالقانون !
فرغم أن الدولار الأمريكي مكتوب عليه " ثقتنا في الله In God we T r ust !" إلا أن القانون ينص على حرية العقيدة والحرية معناها أن من شاء أن يلحد ويعلن إلحاده على الناس ويدعو إلى الالحاد ويسخر من القيم الدينية كلها ومن عقيدة الألوهية ذاتها فمن حقه أن يفعل ., ألا تخرج عليه ولا تثريب !!
وحرية الإنسان في أن يفسد حرية مكفولة بالقانون !(54/22)
فالسلوك الجنسي مسالة خاصة إلى أبعد حدود الخصوصية لا يتدخل القانون بشأنها أي تدخل إلا في حالة واحدة هي جريمة الاغتصاب لأنها تقع بالإكراه لا بالاتفاق . أما أي علاقة - على الإطلاق - تقع بالاتفاق فلا دخل للقانون بها ولا دخل للمجتمع ولا دخل لأحد من الناس .. فسواء كانت هذه العلاقة سوية أو شاذة ، وسواء كانت معه فتاة لم تتزوج أو مع إمرأة متزوجة ، فهذا شأن الأطراف أصحاب العلاقة وليس شأن أجد آخر ..
والغابات والحدائق العامة مسرح لكل ألوان السلوك الجنسي فضلا عن النوادي والبيوت .. كلها ماخور كبير يعج بالفساد الذي يحميه القانون .. قانون الديمقراطية !
ومن سنوات عقد في الكنيسة الهولندية عقد " شرعي !" بين فتي وفتي عي يد القسيس ! ومن سنوات اجتمع البرلمان الانجليزي " الموقر !" لينظر في أمر العلاقات الجنسية الشاذة ، ثم قرر أنها علاقات حرة لا ينبغي التدخل في شأنها ،ـ كما أعلن أسقف كانتربري وهو رئيس الاساقفة في بريطانيا أنها علاقات مشروعة !!
ومن سنوات كذلك عرض على المسرح الأمريكي - وفي التلفزيون- مسرحية تشكل العملية الجنسية بكاملها جزءا منها ، ورأي المشاهدون - أو هم ذهبوا ليروا - رجلا وإمرأة يقومان بالعلمية الجنسية أمام أعينهم ، ونقلت الصورة - حية - على شاشة التلفزيون .
ومن سنوات كذلك قام في التلفزيون البريطاني حوار جنسي اشترك فيه عشرات من الفتيات الصغار ، وكان موضوع الحوار هو سؤالهن عن الوضع الذي يفضلنه في العملية الجنسية ، وأجابت الفتيات بصراحة وقحه يقشعر منها أبدان الذين في نفوسهم أي قدر من الحياء الفطري .. أما "المرأة " فهي تتحدث دون حياء !
ولا يقولن أحد إن هذه هي المخططات اليهود ية ونحن إنما نتحدث عن الديمقراطية !
إنه لا انفصال بين هذه وتلك الديمقراطية بتمثيلها البرلماني ، بوسائل إعلامها ، بقواعد " الحرية " التي تقوم عليه ا ، هي التي تبيح ذلك كله ، وتجعله ضمن دائرة الحرية الشخصية ، وتحميه بكل وسائل الحماية ، وتعطيه الشرعية الكاملة .
فمن أراد نظاما ليس فيه هذا كله فهو على وجه إلى قين يرى د شيئا غير الديمقراطية الليبرالية كما هي مطبقة في عالم الواقع ، يرى د شيئا لا واقع له بعد ، ولا نعلم على وجه إلى قين كيف يكون !
إن الحرية التي تمنحها الديمقراطية الليبرالية هي حرية الحيوان لا حرية الإنسان
ولقد أراد " الثوار " الذين ثاروا في وجه الطغيان الإقطاعي أن حرروا " الإنسان" من العبودية التي كانت تستذله وتهبط به عن الوضع الذي يليق بالإنسان .
ولكن اليهود ية العالمية التي سيطرت على المجتمع الصناعي منذ مولده أراد شيئا غير ذلك " فالإنسان" بالذات هو عدوها الذي ترهبه ، وعددوها الذي تريد أن تقضي عليه . وسنحت لها الفرصة فحقق حلمها القديم في استحمار الأمميين وتسخيرهم لشعب الله لمختار .. فمسخت آدمية أولئك الآدميين وحولتهم إلى أولئك الحمير ..
فما الإنسان بغير عقيدة ؟
وما الإنسان بغير اخلاق ؟
فأما بغير عقيدة فقد قال عنهم الخالق تبارك اسمه : {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (179)} [سورة الأعراف 7/179]
وأما بغير أخلاق ولا قيم خلقية ، فالحيوان وحده هو الذي يعيش بغير قيم خلقية لأنه ليس له إلاطريق واحد لا اختيار له فيه ، فلا يوصف عمله بأنه أخلاقي أو غير أخلاقي ، إنما يوصف بأنه عمل غريزي ، فإذا أكلت القطة الفأر أو أتي الكلب أنثاه في الطريق فلا أحد يقول إن هذه أعمال غير اخلاقية ! أما الإنسان الذي كرمه ربه بالإنسانية ، وجعل له طريقين أثنين لا طريقا واحدا ، وأعطاه القدرة على التمييز بين الطريقين واختيار واحد منهما : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} } [سورة الشمس 91/7-10] فإنه حين يرفض القيم الخلقية ، ويقول عن إقامة الرأسمالية على أساس الربح بصرف النظر عن كون هذا الربح حلالا أو حراما ، جائزا أوغير حائز ، يقول إن هذه مسألة اقتصادية لا علاقة لها بالأخلاق ! ويقول عن تحويل المجتمع كله إلى ماخور كبير إن الجنس مسألة " بيولوجية " لا علاقة لها بالأخلاق ! حين يفعل ذلك فإنه يفقد آدمية في الحقيقية ويصبح من الدواب .. بالضبط كما يرى د له شعب الله المختار !
ولقد كانت الديمقراطية وشعارات الحرية هي اللعبة الكبري التي نفذت اليهود ية العالمية عن طريقها مخططها كله واستحمرت بها الأميين في الغرب لحساب الشعب الشيطان
ولا ينفي ذلك كله ما كسبته الشعوب في ظل الديمقراطية من حقوق وضمانات تحدثنا عنها من قبل ، وقلنا إنها - في هذا الجانب - تكريم للإنسان وتحقيق لصفة الإنسانية فيه .(54/23)
فقد قلنا إن الشعوب قد نالت ذلك بنضالها لا يالديمقراطية في ذاتها ، بل كانت الديمقراطية ذاتها في جانبها السياسي ثمرة ذلك النضال ، لكن الذي نقوله هنا عن الشياطين - مع سماحهم راضين أو مكرهين بهذه الحقوق وتلك الضمانات - قد أفسدوا إنسانية الإنسان من جانب آخر أو من جوانب أخرى بحيث أصبحت الخسارة في النهاية أفظع بكثير من كل كسب كسبته الشعوب .
ولسنا نقول إن الإنسان كان أحسن حالا في ظل الإقطاع قبل أن يحصل على هذه الحقوق والضمانات في ظل الديمقراطية .. فالجاهلية كلها انحراف وكلها خبال سواء في ذلك الطور أو ذاك .. ولكنا نقول إن الخير الجزئي الذي أتت به الجاهلية الجديدة قد أفسدت مقابلة كثيرا من الخير الكامن في الإنسان ، بحيث يضيع ذلك الخير الجزئي في محيط الفساد الواسع الذي ليس له قرار !
ولسنا نقول كذلك إن هذه الحقوق والضمانات ينبغي أو يجوز أن تلغي في مقابل استرداد الإنسان ما فقد من إنسانيته بفساد العقيدة وفساد الأخلاق ! كلا ! فإنه إن فقدت هذه الحقوق وهذه الضمانات فما يمكن أن يحافظ على إنسانيته ولو كان على شئ من عقيدة ولو كان على شئ من اخلاق !
كلا ! إن إنسانية الإنسان مفقودة في حإلى ن ، وما يكون الإنسان في الجاهلية إنسانا بحال من الأحوال !
ولكنا هنا على رأي حال نقوم الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية كما هي مطبقة في عالم الواقع ، فنقول ما لها وما عليه ا .. فنقول إنها ليست صفحة بيضاء خالصة كما يظن الذين ينظرون من بعيد ولا ينعمون النظر ولا يرون ما وراء الأستار .
ثم نقول إن الصفحة السوداء فيها قائمة السواد أكثر بكثير مما يظن الذين يأخذون الأمور من سطوحها ، فيحسبون الفساد جزئيا قابلا للإصلاح ، وقابلا للتعديل بوضع بعض الضوابط هنا وبعض القيم هناك .
إنها من جهة مسرحية ضخمة تمثلها الرأسمالية وتضع لها أدوارها وتوهم المشاهدين أن الممثلين يتحركون على المسرح من ذوات أنفسهم وبمقضتي إرادة ذاتيه لهم ، بينما هم - كأي ممثلين في مسرحية - يتحركون بمقتضي الدور المعطي لهم وفي حدوده المرسومة ن لا يملكون أن يتجاوزوا المسرح أو يتجاوزوا دورهم في المسرحية المعروضة عليه .. وإلا طردوا بتهمة الإفساد ! أو عوقبوا عقابا صارما ليكونوا عبرة للأخرى ن . كما يطارد دعامة الحرية الحقيقيون بتهمة الشغب والخروج على القانون وتعريض الأمن القومي للخطر ! وكما قتل كنيدي حين تجرأ جرأة لا تليق " بموظف " مسئول في حضن الرأسمالية !
وهي من جهة أخرى أداة ضخمة لإتلاف إنسانية الإنسان بإعطاء الفساد الديني والفساد الخلقي شريعة كاملة ، وجعل ذلك جزءا أصيلا من مفهوم الديمقراطية ومفهوم الحرية .
فتحت هذا الشعار - شعار الحرية - ظل " الإنسان " الأوروبي يجد التشجيع المستمر على التحلل من دينه وعقيدته بوصف أن هذه أمور خاصة يتصرف فيها الإنسان على مزاجه الخاص ، فمن شاء أن يبقى على عقيدة ودين فليبق ، على مسئوليته الخاصة ، وليتلق السخرية الدائمة من المجتمع ومن الكتاب والمفكرين وأهل " الفن" من قصاصين ومسرحين وإذاعيين وتلفزيونيين ورسامي " الكاريكاتير"فضلا عن المخذلات الدائمة من حوله ، التي تتفنن في صرفه عن الدين والعقيدة . ومن شاء أن يلحد فليلحد .. ولن يفق في سبيله أحد ولن يحرج عليه أحد ، فتلك حريته الشخصية . ولن يجد السخرية حتى من رجال الدين ! إنما يجد منهم محاولة " لطيفة ط للتفاهم معه ومحاولة " فاتره" لرده إلى الإيمان بينما يجد التشجيع من جهات كثيرة في الأرض !
وتحت هذا الشعار كذلك ظل يجد التشجيع المستمر على التحلل من أخلاقه وتقاليد ه ، بوصفها كذلك أمورا شخصية .. فمن شاء أن تكون له أخلاق - في مسائل الجنس بصفة خاصة - فهو حر - على مسئوليته الخاصة - وليتلق النقد اللاذع من المجتمع كله ، الذي يعتبره حال شاذة تحتاج إلى علاج !
ومن شاء أن يتحلل فنعم الرأي له ونعم المسلك ! وسيجد التشجيع الحافل من المجتمع والكتاب والمفكرين وأهل الفن وأصحاب السينما وأصحاب المسرح وأصحاب الإذاعة وأصحاب وأهل الفن وأصحاب النوادي وأصحاب المواخير .. هذا بينما توضع الضوابط - الصارمة أحيانا - على سلوك الإنسان في كل اتجاه إلا هذين الاتجاهين بالذات !
ومن جهة ثالثة فهي لعبة اليهود ية الكبري لتنفيذ مخططاتها كلها مع إيهام الناس أنهم يتصرفون من تلقاء أنفسهم وحسب رغباتهم الخاصة !
فأما المصالح الرأسمالية اليهود ية فتسخر لها الأحزاب السياسية والبرلمانات و " نواب الأمة " ووسائل الإعلام التي تشكل الرأي العام ، وتقوم بعملية التزييف الكبري لأفكار الناس واهتماماتهم بما يحقق تلك المصالح في نهاية المطاف ، ويحقق إنسياب الذهب - معبود اليهود القديم - إلى جيوبهم وقلوبهم ، ويتفننون به في زيادة سيطرتهم على الأمميين .
وأما " المصالح " اليهود ية الأخرى المتمثلة في إفساد عقائد الناس وأخلاقهم ليسهل استحمارهم وتسخيرهم لمصالح الشعب الشرير فهي تتم كاملة من وراء شعار " الحرية " الذي تحدثنا عنه ، ومن خلال شعور الناس أن " هذه " هي الديمقراطية " !(54/24)
وهكذا يضيع الخير الضئيل الذي كسبته "الشعوب" بالحقوق والضمانات في وسط هذا الشر الهائل الذي يحققه الأشرار من وراء هذا النظام المخلخل الملئ بالعيوب ، والملئ بالثقوب !
( ( (
فإذا عرضنا الأمر على الإسلام فهناك قضيتان رئيسيان من وجهة النظر الإسلامية هما محور الارتكاز في الموضوع كله ، وهما أداة التقويم بالنسبة للديمقراطية أو أي مذهب آخر من المذاهب التي نناقشها في هذا الكتاب . هاتان القضيتان هما :
أولا : من المعبود ؟
ثانيا : القضية الثانية فهي قضية إنسانية الإنسان
وقد وهنت الجاهلية المعاصرة التي يوجهها اليهود كلتا القضيتين - والأولى بصفة خاصة - لغاية في نفوسهم ، زعمت - بالنسبة للقضية الأولى بصفة خاصة - أنها ليست محور الحياة الإنسانية ولا مقياسها ، بل العكس - في زعمها - هو الصحيح ! فالإنسان أرقي كلما بعد عن الدين ، وأكثر تأخرا ورجعية كلما اقترب منه ، على أساس أن حياة الناس قد مرت ثلاث مراحل هي السحر والتدين والعلم ، وأن الدين - الذي يمثل المرحلة الوسيطة من حياة البشرية - قد أخلي - أو ينبغي أن يخلي - مكانة للعلم من أجل تقدم الإنسان ورقية وتحضره !
وأما القضية الثانية فقد زعمت الجاهلية المعاصرة أنه ليس لها مقياس ثابت ! وأن الإنسان ليس له كيان ثابت أو صورة مثلي يقوم بمقتضاها ، إنما كل عصر له مقياسه ، ومقياسه هو الأمر الواقع في ذلك العصر ! والإنسان دائم التشكيل على الصورة التي يقتضيها - أو يرتضيها - العصر بلا زيادة ! ومن ثم فإنسانية الإنسان أمر لا يمكن أن يوضع له ميزان ثابت !
ولكن الإسلام يقوم الأمور بميزان الله سبحانه وتعإلى ، الذي أنزله ليقوم الناس بالقسط .
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد 57/25]
وميزان الله - وهو الحق - يقول إن قضية " من المعبود؟ هي أهم قضية بالنسبة للحياة البشرية كلها في تايخها كله ، وإن كل شئ في الحياة الدنيا - فضلا عن الآخرة - يتوقف على جواب هذه القضية ، وهي كون المعبود هو الله ام شيئا آخر مع الله أو من دون الله ..
والجاهلية المعاصرة تغفل الحياة الأخرى عن عمد ، وتبرز الحياة الدنيا وحدها وتجعلها مجال الاهتمام وموضع التقويم لأنها لو وضعت اليوم الآخر في الميزان فقد حسمت القضية وانتهت من أول لحظة .. فلن يقول أحد إن الدار الآخرة ستكون للملحدين الذي ينكرون وجود الله ، أو ينكرون شريعته ، أو يكرهون هذه الشريعة ويرفضون تحكيمها في أمور حياتهم !
لذلك فإن الجاهلية المعاصرة لا تتكلم أبدا عن اليوم الآخر وما فيه من بعث ونشور وحشر وسحاب وثواب وعقاب ! وإن تحدثت عنه فعلى أنه وهم لا حقيقة له ، أو قضية "غيبية " لا ينبغي أن يشغل بها نفسه الإنسان المتحضر ، أو الإنسان الواقعي ، أو الإنسان الذي يحترم عقله ، أوالإنسان الذي يحترم العلم ويعيش بروح علمية !!
فإذا أصبحت الحياة الدنيا هي مبلغ الناس من العلم ، وهي التي يتجه إليها الاهتمام كله ، ضمن المخططون الشريرون أن تسير الأمور كما يشتهون، وأن تسير السائمة من الأمميين في الطريق الذي رسمه شعب الشيطان المختار.
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [سورة النجم 53/29-31]
{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعليه مْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا على الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (108)} [سورة النحل 16/106-108]
{ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (179)} [سورة الأعراف 7/179]
وإذا كان الهدف الأخير للشعب الشرير هو استحمار الأمميين وتسخيرهم لمصالحهم وللعبودية لهم ، فقد وجب أن يبعدوهم بعدا كاملا عن ذكر الآخرة ليكونوا كالأنعام ، ويجعلوا الدنيا هي مبلغ علمهم وغاية همهم ليسهل تسخيرهم من جانب العبودية للشهوات ، وهي مصير كل إنسان يعيش بعيدا عن الآخرة وقيمها المؤدية إليها :(54/25)
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)} [سورة آل 3/14-17]
وإذا كانت الجاهلية المعاصرة قد اغفلت ذكر اليوم الآخر لغاية في نفسها وأبرزت الحياة الدنيا وحدها وجعلتها غاية كل شئ ومقياس كل شئ ، فنحن لا نجاري تلك الجاهلية فيما اتجهت إلى ه ، ولا نقرها على تعبيد الناس للحياة الدنيا ، ولكنا نقول إن قضية " من المعبود" ؟ ليست متعلقة بالآخرة وحدها وإنما هي من صميم قضايا الحياة الدنيا ، وأن الجواب على هذه القضية لا يتوقف عليه مصير الإنسان في الآخرة وحدها ، بل يتوقف عليه أمر وجوده هنا في الحياة الدنيا ، وبدرجة أكبر بكثير وأخطر بكثير مما يظن المستعبدون للمخطط الشرير من الأمميين المسخرين كالحمير !
إنه بصرف النظر - مؤقتا - عن القيم المتعلقة بالدين ، المستمدة من كون المعبود الواجب العبادة هو الله سبحانه وتعإلى وحده لا شريك ( ولنا عود إليها بعد قليل ) فإن الجواب عليه ذا السؤال الخطير : " من المعبود ؟ " يترتب عليه في الوقت ذاته إجابة على سؤال مهم في حياة البشر على الأرض وهو : " من المشرع ؟"
يقول التفسير المادي للتاريخ ، وهو هنا على حق فيما يقول : إن الذي يملك هو الذي يحكم ، وإن الطبقة التي تحكم تضع التشريعات التي تحفظ مصالحها ، ويكون ذلك على حساب الطبقات الأخرى .
لذلك فإن قضية "من المشرع؟ " قضية مهمة بالنسبة للناس على الأرض .
وليست قضية جانبية أو ثانوية يمكن التغاطي عنها لقاء بعض المتاع الأرض الزائد عن الحد ، كمتاع الجنس المجنون ، أو " متاع" التبذل في الأرض بلا اخلاق ، الذي قال الله عنه :
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [سورة محمد 47/12]
فهو متاع الحيوان لا متاع الإنسان
وقضية " من المشرع" ؟ هي التي قامت من أجلها الثورات التاريخية كلها حتى هذه اللحظة بسبب المظالم التي تقع من المشرعين الذين يشرعون لصالحهم وصالح الطبقة التي ينتمون إليها ، فيثور المظلومون ليرفعوا هذا الظلم أو ليحاولوا رفعة على أقل تقدير .
فإذا كانت القضية عليه ذا القدر من الأهمية ، وكان لها كل هذا الأثر في حياة الناس على الأرض - بصرف النظر عن مصيرهم بعد ذلك - فلننظر من المشرع الحقيقي في الديمقراطية الليبرالية أو في الحقيقة في أي جاهلية لا تحكم بما أنزل الله .
إنهم بادئ ذي بدء بشر ، ثم هم بعد ذلك طبقة معينة لها مصالح معينة لا تتحقق بصورتها التي يرى دونها إلا على حساب الأخرى ن .
كان الحاكم في الإقطاع هو أمير الإقطاعية الذي يملك ويحكم ، ولا معقب من البشر لحكمة ، لأنه هو السلطة الوحيدة ولا أحد غيره يملك شيئا من السلطان .
والحاكم في الديمقرطية الليبرالية هو الرأسمالية التي تملك وتحكم ولا معقب من البشر لحكمها ، وإن كان التشريع - نظريا - من حق الشعب ، والتعقيب نظريا في يد الشعب !
الرأسمالية - يهودية أو غير يهودية - هي التي تدير المسرحية كلها ، وهي التي تضع التشريعات للمحافظة عل مصالحها ، على حساب مصالح " الشعب" الذي يقع عليه الظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي في كل جاهلية من جاهليات التاريخ
ولا ينبغي أن تخدعنا الصيحات والشعارات عن حقيقة الواقع ، ولا ينبغي كذلك أن يخدعنا وجود بعض الأصوات " الحرة " في المجالس النيابية أو في الصحافة ووسائل الإعلام ، فهذا ذاته جزء من " فن " المسرحية كما أشرنا من قبل ، لأن الرأسمالية التي بيدها السلطان - يهودية أوغير يهودية - تعلم أن هذه الأصوات المتناثرة لن تغير شيئا من الواقع ،ـ ولن تحدث تعديلا حقيقا في أدوار المسرحية المرسومة ،وهي في الوقت ذاته دعاية ضخمة للديمقراطية التي من خلالها تتحقق كل مصالح الرأسمالية ! فكلما ارتفعت هذه الأصوات " الحرة " اطمأنت الجماهير إلى اللعبة الدائرة واستنامت لها ، وتركت أصحاب السلطان ينفذون من خلال اللعبة إلى كل ما يرى دون !(54/26)
أما الحقوق والضمانات التي نالها الشعب فقد كانت - كما قلنا أكثر من مرة - ثمرة نضال الجماهير ولم تكن ثمرة الديمقراطية ! وإذا كانت الرأسمالية قد تنازلت - مكرهة - عن بعض الفتات خوفا من ضياع الأصل كله ، فلم يكن ذلك بفضل النظام البرلماني ذاته ، بقدر ما كان ذلك راجعا إلى نظام الرأسمالية " الحرة " واعتمادها على العامل الذي يتمتع بقسط محدود من الحرية ، لكي تتمكن هي من تحقيق الأرباح الفاحشة التي تحققها.. ولا تستطيع الرأسمالية الحرة أن تزيد سلطانها أكثر مما واقع في أيديها .. وإلا لفعلت ! لأن الدكتاتورية التي تلزم العمال بالعمل تحت ضغط الحديد والنار لا يمكن أن تتم بصورة جماعية ( أي باجتماع الرأسماليين كلهم بعضهم مع بعض ) لأنها تحتاج بطبيعتها إلى تركيز السلطة في يد فئة محدودة جدا من الناس ، وعندئذ لا يستطيع الرأسمالي ون ذاتهم أن يوجدوا ولا أن يكون لهم سلطان ، لأن السلطة التي تستطيع أن تسخر العمال للعمل تحت القهر ، ستلتهم الرأسماليين أنفسهم كما حدث في الدولة الشيوعية .. ومن هنا تجد الرأسمالية نفسها مكرهة - للمحافظة على وجودها ذاته - أن تسمح بهذا الفتات المتناثرة للشعب ، ويتم ذلك عن طريق هذا اللعب الطريفه . لعبة الديمقراطية ، تحقق بها الرأسمالية أكبر قدر متاح من الربح ، وتترك للشعب كثيرا من المظالم وشيئا من الفتات !
الظلم هو طابع الجاهلية التي يشرع فيها البشر للبشر بدلا من أن يتحاكم البشر كلهم إلى شريعة الله !
إن المجتمع الجاهلي لابد أن ينقسم بطبيعته إلى فئتين اثنتين : سادة وعبيد سادة في يدهم السلطان وفي يدهم التشريع وعبيد يقع عليه م السلطان ويقع عليه م التشريع
وأيا تكن طرافة اللعبة الديمقراطية فهي لا تستطيع أن تخفي هذه الحقيقة وهي أن الرأسماليين هم السادة ، هم المشرعون ، وأن الشعب هو العبيد الذين يقع عليه م عبء التشريع .
حقيقة إن " العبيد " في ظل الديمقراطية الليبرالية هم في أفضل وضع وجد به العبيد في أية جاهلية من جاهليات التاريخ ( بسب طبيعة الرأسمالية الحرة - كما أسلفنا - وعجزها عن تحقيق الربح إلا عن طريق العامل الذي يتمتع بقسط محدود من الحرية ) إلا أن هذا لا يغير حقيقة وضعهم ، وهو إنهم عبيد .. عبيد مهما امتلكوا - في المسرحية الطريفة - من " مظاهر " الحرية !
إن الحرية الحقيقة لا يمكن أن تتحقق في أية جاهلية تحكم بغير ما أنزل الله لأن الحكم بغير ما أنزل الله هو الذي يقسم الناس إلى " أرباب " و " عبيد " ! أرباب يشرعون وعبيد ينفذون . ولا يملك العبيد حرية حقيقية إزاء الأرباب !
إن رد" الحاكمية " لله ، أي التحاكم إلى شريعة الله وعدم التحاكم إلى أي شريعة أخرى غير شريعة الله ، فضلا عن كونه من حق الله على عباده لأنه من الخصائص الخالصة للألوهية : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف 7/54] فإنه في الوقت نفسه هو الضمان الحقيقي لحرية البشر في الأرض ، وعدم تحويل بعضهم إلى أرباب وأكثريتهم إلى عبيد لأولئك الأرباب .
إن إخلاص العبودية لله وحده- سواء في إفراده بشعائر التعبد أو إفراده الحاكمية - هو الذي يغلي وجود الأرباب ، ويحرر الناس في الأرض من عبودتهم .
ما دام الله وحده هو المعبود - سواء بتقديم الشعائر له وحده أو بتنفيذ شريعته دون كل الشرائع - فمن أين يوجد الأرباب الذين يتعبدون العبيد ؟!
لا يتحرر الناس الحرية الحقيقية في الأرض حين يكون الله وحده هو الرب والناس كلهم - حكاما ومحكومين - عبيدا لله وحده دون شريك .
عندئذ فقط يولد الناس أحرارا ويظلون أحرارا إلى أن تنتهي أجالهم .
وعندئذ فقط يشعر الناس بالاستعلاء - استعلاء الإيمان - على كل قوة في الأرض بشرية كانت هذه القوة أو مادية أو اقتصادية ، لأنهم يستمدون وجودهم وقوته من الله ، والله أكبر .. أكبر من كل قوة في الوجود .
عندئذ يحدث ما حدث في صدر الإسلام ، والعبودية خالصة لله وحده في كل مجال من مجالات الوجود .
يقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيقول : أيها الناس اسمعوا وأطيعوا ، فيقف له سلمان الفارسي يقول: لا سمع لك على نا اليوم ولا طاعة حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي أئتزرت به !
ويتحاكم على بن أبي طالب كرم الله وجه إلى القاضي شريح مع اليهود ي الذي سرق درعه فيسأله القاضي: يا أمير المؤمنين ! هل من بينه ؟! فيقول على كرم الله وجه : صدق شريح ! مالي بينه ! فيحكم القاضي بالدرع لليهودي تنفيذ لشريعة الله !
ويستمتع بهذا العدل - الذي يولد الشعور بالحرية - حتى الذين لم يؤمنوا بهذا الدين ولكنهم استظلوا بظله واستظلوا بعدالته ، فيرحل القبطي من مصر إلى المدينة ليشكو إلى عمرو بن العاص حين غلبه الشاب القبطي في السباق .. وهو الذي كان إلى عهد جد قريب تلهب ظهره سياط الرومان فلا يحس بآدمية المسلوبة ولا يتحرك للشكوي .. ولمن يشكو حتى إذا أراد ولكن العدل الرباني المتمثل في شريعة الله هو الذي جعل ضربة العصا توجع الكرامة ، وتحرك الرجل ألوف الأميال طلبا لنصفه ورفعا للظلم .. ويجاب الرجل إلى حقه تحقيقا لشريعة الله ..(54/27)
كلا ! لا تتحقق الحرية الحقيقية ولا المساواة الحقيقية ولا الإخاء الحقيقي إلا حين يكون الله وحده هو المشرع، ولا يكون للبشر حق التشريع من عند أنفسهم وكل ما ترفعه الديمقراطية من شعارات " الحرية والإخاء والمساواة " إن هو إلا شعارات ! شعارات غير قابلة للتحقيق في عالم الواقع ما دام بعض البشر يشرعون وبعضهم الآخر - وهم أكثرية الناس - يخضعون للتشريع ، وما دامت الأقلية التي تشرع إنما تشرع لمصالحها الخاصة على حساب الأخرى ن .
وهب كل الناس شرعوا كما تزعم الديمقراطية في أقوالها النظرية ، وهب كل الناس استطاعوا أن يوفقوا - في التشريعات التي يضعونها بأنفسهم - بين مصالح الحاكمين والمحكومين فزال الظلم ، وزالت عبودية بعض البشر لبعض ، وهو فرض جدلي لا يمكن أن يتحقق ، ولم يتحقق في أي جاهلية من جاهليات التاريخ التي تحكم بغير ما أنزل الله ، فهل تستقيم الحياة في الأرض على صورة صحيحة حين يكون البشر هم المشرعين ؟!
إلى س البشر - كلهم في هذه المرة - هم الذين شرعوا فوضي الجنس ؟!
ودعك الآن من أن اليهود ية الشريرة هي التي أوحت لأولئك البشر فشرعوا :
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [سورة الأنعام 6/112]
دعك من هذه القضية لأن خضوع الديمقراطية لليهودية الشريرة ليس عذرا لها فيما تفعل ، بل هو عيب رئيسي من عيوب وكلن خذ الصورة الظاهرة وهي أن هذه الفوضي تمر بالموافقة الإجماعية من الناس ، سواء في المجالس النيابية أو في وسائل الإعلام أو في واقع الحياة .. فهل تستقيم الحياة بتلك الفوضي الجنسية التي شرعها البشر ؟!
إلى س البشر - كلهم في الديمقراطية - هم الذين شرعوا الربا ؟!
ودعك مرة أخرى من أو اليهود ية الشريرة هي التي دفعت الناس دفعا إلى تشريع الربا .. فخضوع الناس في هذا الأمر لليهودية العالمية ليس عذرا لهم ، بل هو وزر يحملونه أما الله يوم القيامة ، وهو - أو مثلة - الذي قال الله فيه عنهم :
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة 9/31]
أي اطاعوهم في التحليل والتحريم بغير ما أنزل الله كما قال العلماء والمفسرون في تفسير هذه الأية
دعك من هذا وخذ واقع الحياة في الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية ، تجد أن الربا يمر بموافقة إجماعية بغير اعتراض .. فهل استقامت الحياة بالربا الذي أحله البشر ؟!
إلى س البشر - كلهم في الديمقراطية - هم الذين وافقوا على " تحرير "
ودعك مرة ثالثة من أن اليهود ية الشريرة هي التي وسعت تلك القضية ولعبت بها لإفساد المجتمع البشري كله ، فإن اليهود ية الشريرة ما استطاعت أن تفعل ذلك إلا في مجتمع متفسخ أدار ظهره للهدي الرباني فركبته الشياطين .. وخذ الصورة الظاهرة وهي أن " المرأة المتحررة" .. المتحررة من الدين والأخلاق والتقاليد ، بل من الحياء الفطري ذته ، تمر بموافقة البشر كلهم ورضاهم وطلبهم للمزيد من " التحرر " ! .. فهل استقامت الحياة حين تحررت المرأة على هذه الصورة التي شرعها البشر ؟!
وخذ مئات من التشريعات التي شرعها البشر - كلهم في الجاهلية المعاصرة - وأنظر أثارها في حياتهم ، الحنون والقلق والأمراض النفسية والعصبية والانتحار وإدمان الخمر والمخدرات والجريمة وتشرد الأطفال وجنوحهم . إلى جانب الفردية الجامحة وتفكك الأسرة وتفكك المجتمع وقتل المشاعر الإنسانية وتحويل الإنسان إلى حيوان إلى ، تدير الآلة نصف حياته وتدير بقيتها الشهوات !
ذلك كله حين يشرع البشر لأنفسهم ، ولو شرعوا كلهم مجتمعين متناسقين بلا تظالم ولا صراع ! ذلك أن البشر- بطبيعتهم - يتصفون بالقصور و الجهل ، والعجز عن الإحاطة ، والعجز عن رؤية النتائج الكاملة المترتبة في المستقبل على أعماهم الحاضرة .. فحين يتجاوزون الاجتهاد فيما أذن الله بالاجتهاد فيه ، ويحلون ويحرمون بغير ما أنزل الله ، تقع تلك الفوضي الضاربة أطنابها ، ويقع ذلك الشقاء المرير الذي يملأ وحه الأرض .
وهكذا يتبين لنا أن قضية " من المعبود ؟ " ليست قضية غيبية خاصة بالآخرة كما يصورها الجاهليون المحدثون ، ولكنها - بالإضافة إلى كونها متعلقة بالآخرة قضية من صميم هذه الحياة الدنيا ، لأنه يترتب عليه ا تقرير " "من المشرع "؟ أي من واضع منهج الحياة للناس … وأنه حين لا يكون الله هو المعبود وحده بلا شريك ، تخيل الحياة الدنيا بجملتها ويقع الناس في الخبال .
فإذا قومنا الديمقراطية بهذا الميزان فيكف تكون النتيجة ؟!
الله هو المعبود في الديمقراطية الليبرالية وحده دون شريط ؟! أم هناك عشرات من الآلة ة الزائفة تعبد مع الله أو من دون الله ؟ وكلاهما سواء . فإن عبدت مع اله فهو الشرك ، وإن عبدت من دون الله فهو الكفر .. والشك والكفر كلاهما كفر !(54/28)
حقا إن هناك ألوفا من الكنائس تفتح أبوابها يوم الأحد لتستقبل المصلين ودع الآن جانبا ما في العقيدة الكنسية من التحريف ، ودع جانبا كذلك مئات الملايين الذين لا يذهبون إلى الصلاة أصلا ولا يعترفون بوجوبها عليه م .. وأنظر إلى هذا المصلي الذي جاء يحضر الصلاة بدافع من " التدين" ما رأيه في الربا ؟ ماذا لو قام أحد يخبره أن الربا حرام ، ويدعوه إلى أستنقاذ أمواله من الربا وعدم التعامل به في الأخذ والعطاء ؟! كم تكون سخريته ؟ وكيف يكون جوابه ؟ إن الجواب الوحيد الذي يرد به الغربي على هذه الدعوي هو أن الربا مسألة اقتصادية بحتة والدين لا علاقة له بالاقتصاد !
وما رأيه في علاقات الجنس ؟ ماذا لو قال له أحد الناس إن هذه العلاقات كلها حرام إلا الزواج الشرعي ، و دعاه ليعدل سلوكه ويعدل عن " الصدقات " التي يمارسها .. فماذا يكون جوابه .. أو جوابها لو كانت فتاة ؟! إن الفتاة الأمريكية تقول بملء فيها إن الجنس مسألة " بيولوجية " لا علاقة لها بالدين ولا علاقة لها بالأخلاق !
الله هو المعبود في الديمقراطية الليبرالية ؟ أم عشرات من الآلة ة المزيفة تحكم حياة الناس وتتحكم فيها ؟
الدولار إله والإنتاج إله . والصالح القومي إله. ولمجتمع إله و" الرأي العام " إله . والعقل إله . والعلم إله . والإنسان إله. والآلة إله . و" المودة " إله والشهوات إله .. والهوى إله
كلها تعبد مع الله او من دون الله . وكلها تعطي إجابة حاسمة بالنسبة للقضية الكبري في حياة الإنسان ، قضية المعبود : هل هو الله ام شئ أخر غير الله ..
كلها تقول إن المعبود في الديمقراطية الليبرالية ليس هو الله .
( ( (
أما القضية الثانية فهي قضية إنسانية الإنسان ..
وكما ألغت الجاهلية المعاصرة اليوم الآخر من حس الناس لكيلا تفقد شرعية وجودها من أول حظة ، وألغت الإيمان بالله لكي لا يعوق " مصالحها" ومخططاتها .. فكذلك ألغت كل معيار حقيقي لإنسانية الإنسان ، لذات الدوافع وذات الأسباب !
لو أقرت الجاهلية المعاصرة أن الإنسان يختلف عن الحيوان منذ البدء في أن له عقيدة واعية في الله ، وقدرة على الإيمان بما لا تدركه الحواس ( أي الإيمان بالغيب ) وأن أعماله - كلها - تحمل قيمة خلقية ناشئة من أن له طريقين لاطريقا واحدا كالحيوان ، وقدرة على التمييز بين الطريقين وقدرة على الاختيار ، ومن ثم يوصف عمله بأنه خيرا أو شريا ، بينما لا يوصف بذلك عمل الحيوان ..
ولو أقرت بذلك فكيف تبر كل ممارستها التي تقيمها على أساس حيوانية الإنسان ؟
ولو أقرت بذلك فيكيف تفعل بمخططاتها ومصالحها ؟!
كيف يتحقق للرأسمالي ة ربحها الحرام ، القائم أساسا على الفصل الكامل بين العمليات الاقتصادية وبين الدين والأخلاق ؟ وكيف يتحقق لليهودية مخططها في استحمار الأمميين وتسخيرهم لشعب الله المختار ؟
كيف يتحقق للرأسمالي ة ربحها من الربا ، ومن الصناعات التافهة التي تميع الطابع وتفسد الأخلاق ، ومن الحروب التي تثيرها من أجل إيجاد أسواق لتصريف فائض الإنتاج ؟
وكيف يتحقق لليهودية مخططها في إفساد الرجل والمرأة وشغلهما بمقاذر الجنس عن تنشئة أطفال صالحين يقومون في شبابهم بإرساء قواعد الحق والعدل وإرساء قواعد الأخلاق ؟ وكيف تقوم بتفكيك روابط الأسرة والمجتمع ، وشغل البشرية كلها بجنون الجنس وجنون السينما وجنون التليفزيون وجنون الكره وجنون " المودة " وجنون" التقإلى ع "..؟
كلاإنها لا يمكن أن تقر بذلك ، لا لأنه ليس حقيقة في ذاته ، ولكن لأن الإقرار به يفقدها شرعية وجودها على التو ، ويضر أيما إضرار بمخططاتها ومصالحها .
وإذن فلتقل أي شئ تميع به القضية وتبعد حقيقتها عن الأذهان .
فلتقل إن الحضارة المادية هي مقياس إنسانية الإنسان !
فلتقل إن مقدار استهلاك الانسان للكهرباء هو مقياس إنسانية الإنسان
فلتقل إن " حرية " الانسان في أن يفعل كل ما بدا له هو مقياس إنسانية الإنسان !
أو فلتقل إنه لا يوجد مقياس ثابت لقياس إنسانية الإنسان !
المهم أن تكتم الحقيقة عن الناس حتى لا يستيقظوا لحقيقتهم : أنهم فقدوا نسانيتهم بالفعل ، وأصبحوا أولئك الحمير الذين يرى دهم - ليركبهم - شعب الله المختار !
ولكن الإسلام - دين الله الحق - يقرر الحقيقة ويبرزها ويؤكد عليه ا : أن الإنسان خلق إنسانا من اول لحظة ، وكلف تكإلى ف الإنسان ، فحمل الأمانة التي اشفقت من حملها السموات والأرض والجبال ، وأنه يحافظ على إنسانيته طالما ظل حاملا للأمانة ، ويفقدها حين يتخلى عن حملها .
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة 2/30]
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [سورة ص 38/71-72]
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61](54/29)
{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ على السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [سورة الأحزاب 33/72]
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [سورة الذاريات 51/56]
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أنفسهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [سورة الأعراف 7/172]
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عليه مْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} [سورة البقرة 2/38-39]
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} } [سورة الشمس 91/7-10]
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَإلى تَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً (36)} [سورة النساء 4/36]
{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)} [سورة آل 3/17]
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [سورة المؤمنون 23/1-11]
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} [سورة الشورى 42/37-39]
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)} [سورة الرعد 13/20-21]
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام 6/162-163]
هذا هو الإنسان . وهذا مقياس إنسانيته .
إنه ليس حيوانا . إنما هو إنسان من أول لحظة . ومهمته محددة من أول لحظة . إنه الخليفة في الأرض ، المسيطر فيها ، المهمين عليه ا ، القائم بعمارتها ، ولكن يمقتضي المنهج الرباني المستمد من الهدي الذي يتنزل من عند الله لتنظيم حياة البشر على الأرض ، وضبطها بالضوابط الصحيحة لتقسيم وتلك هي " الأمانة " التي حملها الإنسان وأشفقت من حملها بقية الخلائق التي تخضع لأمر الله بالقهر ولا تقوم بعمل إرادي ، أما الإنسان الذي وهب الإرادة والإدراك والقدرة على العمل والإنشاء والتعمير والقدرة على الاختيار ، فهمهمته - أو الأمانة الملقاة على عاتقه - هي عبادة الله طوعا - وتعمير الأرض بمقتضي منهج الله ، وهو " إنسان" طالما هو قائم بهذه الأمانة ، أي عابد لله وحده بلا شريك ، ومعمر للأرض بمقتضي المنهج الرباني المتمثل في الحكم بما أنزل الله ، والالتزام بما جاء من عند الله ، ومواصفاته - أو ضوابط إنسانيته ومعاييرها - هي هذه الصفات الواردة في الآيات من خشوع في الصلاة وإعراض عن اللغو ، وأداء للزكاة ، وضبط لشهوة الجنس ، ورعاية للأمانة والعهد ، وصبر وصدق وقنوت وإنفاق واستغفار ، ومغفرة عند الغضب ، وقتال ضد البغي .. إلخ .. إلخ
هذا مقياس ثابت لإنسانية الإنسان لا يطرأ عليه التغيير .
وحقيقة أن هناك متغيرات كثيرة في حياة البشرية تنشأ من التفاعل الدائم بين العقل البشري والكون المادي ، واستخلاص طاقات الكون وتسخيرها لمصلحة الإنسان ،لكن هذه المتغيرات كلها لا تغير القيم الثابتة التي تحكم حياة الإنسان ، بل ينبغي أن يحكم الثابت المتغير لكي تستقيم الحياة على الأرض ولا تنفلت الأمور من عقالها فيصيب البشرية الخبل والاضطراب .
فهذه الطاقات أولا مسخرة من عند الله للإنسان(54/30)
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13]
والجهد الذي يقوم به الإنسان لتحقيق هذا التسخير والأدوات التي يستخدمها هي من عند الله كذلك:
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [سورة النحل 16/78]
والشكر يقتضي استخدام هذه الطاقات كلها بمقتضي أوامر المنعم الوهاب .
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن استخدام هذه الطاقات يغير " الصورة " التي يحيا بها الإنسان على الأرض ولكنه لا يغير " الجوهر" الإنساني من حيث تكوينه الأصيل ولا من حيث مهمته في الأرض ، ومن ثم لا تتحكم الصورة المتغيرة في الجوهر الثابت ، إنما يتحكم الجوهر الثابت في الصورة المتغيرة على الدوام
يقول " رينيه دوبو" في كتاب " إنسانية الإنسان "
عاش رجل " كروماجنون C r o-magnon" في أكثر إنحاء أوربا قبل حوإلى ثلاثين ألف سنة ، قبل قيام الزراعة وحياة القرية بفترة طويلة ، ومع أنه كان صيادا بصورة رئيسية ، فقد كان - على ما يظهر - مشابها لنا جسما وعقلا . فأدواته وأسلحته تناسب حجم أيدينا الآن . وفنه في كهوفه يثير مشاعرنا ، والعناية التي كان يوليها لدفن موتاه تكشف أنه شاركنا بشكل ما في الاهتمام بنهاية الإنسان وأخرته ، وكل أثر مدون من أثار إنسان ما قبل التاريخ يوفر شواهد أخرى للفكر القائلة إن الخواص الأساسية للجنس البشري لم تتغير منذ العصر الحجري
وهكذا لا يتغير جوهر الإنسان بتغير الصورة التي تكون عليه ا حياته ، ومن ثم لا تتغير كذلك ضوابطه ومعاييره .
وحقيقة إن التقدم العلمية والمادي والتكنولوجي هو ذاته معيار من معايير " الإنسان" .. فقد أنشأ الله الإنسان ليعمر الأرض ، وسخر له ما في السموات وما في الأرض ليقوم بعلمية التعيمر فإن تواني في ذلك أو تقاعس فهو مقصر في جانب من جوانب إنسانية ، ولكن هذا المعيار ليس هو المعيار الأوحد ، ولا هو المعيار الأول ، إنما يأتي في مكانة الطبيعي بعد تقرير المبادئ والقيم التي تتوقف عليه ا إنسانية الإنسان ، والفارق بينه وبين المعايير الأخرى - معايير القيم والمبادئ - أن القيم والمبادئ يمكن أن تشكل إنسانا ولو كان ناقصا في جانب التقديم العلمي والمادي والتكنولوجي ، فهو " إنسان " ولكن ينقصه جانب من الجوانب ينبغي عليه استكماله ليستكمل إنسانيته ، أما التقدم العلمي والمادي والتكنولوجي - بغير قيم ومبادئ - فلا يشكل إنسانا على الإطلاق !
ومصداق ذلك هو " إنسان " القرن العشرين ! الذي هو أقرب شئ إلى إنسان الغاب "
إنه في قمة التقدم العلمي والمادي والتكنولوجي .. ولكنه بمقياس الإنسانية هابط إلى الحضيض !
( ( (إذا قومنا الديمقراطية الليبرالية بالمعيارين يقوم بهما الإسلام حياة البشر على الأرض ، وهما قضية العبادة وقضية إنسانية الإنسان ، فماذا تكون يا تري حصيلتها في الميزان ؟!
فأما العباد فقد تبين لنا أنه ليس الله هو المعبود في تلك الديمقراطية إنما هو الشيطان ، وحيثما لا يكون الله هو المعبود فالمعبود هو الشيطان وإن تعددت السبل وتعددت المسميات
{أَلَمْ أَعْهَدْ إلى كُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} [سورة يس 36/60-61]
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام 6/153]
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [سورة البقرة 2/257]
والطاغوت هو كل شئ أو شخص أو نظام يعبد الناس لغير الله ، أو يتعبده الناس من دون الله ، وعبادته فرع عن عباده الشيطان .
وأما إنسانية الإنسان فأين هي على وجه التحديد في الدوامة الوحشية التي يعيش فيها الإنسان الجاهلي المعاصر ؟
هي في مبادة الجنس المتدنية إلى أدني من بعض أنواع الحيوان ؟
أهي في إدمان الخمر والمخدرات ؟
أهي في الجريمة التي تتزايد نسبتها على الدوام ؟
أهي في تفاهة الاهتمامات والبحث الدائم عن المتاع الحسي الغلي؟
أهي في العبودية للالة التي أصبحت هي التي تتحكم في حياة الإنسان؟
أهي في شريعة الغاب : القوة هي الحق ، والقوي يأكل الضعيف ؟
أهي في المواثيق التي تبرم لتنقض والعهود القائمة على الخداع ؟
أهي في هذا المسخ المشوة الذي فقد إشراقه الروح وعاطفة الإنسان ؟(54/31)
حقا .. هناك الضمانات والحقوق التي ترتبط اليوم بالديمقراطية وتشكل جانبا بارزا من جوانبها .. ولا شك - كما قلنا - أنها تمثل نقله كبيرة انتقلها " الإنسان" في مسيرته التاريخية على الأرض ، ولكن الشر الذي يحيط بهذا الخير الجزئي ، هو في الديمقراطية الليبرالية من الضخامة بحيث يذهب في النهاية بكثير من نفع هذا الخير ، لأنه يدمر " الإنسان " كله في نهاية المطاف ، فلا يجدي - حين يسقط الإنسان كله إلى الحضيض - أننا كنا قد رفعنا جانبا من حياته إلى المستوى اللائق بالإنسان !
وليس معني ذلك أننا ننقص من قيمة تلك الضمانات والحقوق بحال من الأحوال ، إنما الذي نعنيه أنها تكون في وضعها الطبيعي ، وتتحول إلى خير شامل ، حين يكون الإنسان بكاملة على مستوى الإنسان .. وهو ما عجزت تلك الديمقراطية عجزا فاضحا من تحقيقه ، أو قل إن شئت إنه لم يرد لها أن تحققه منذ البدء ، لأن تحقيقه لا يمكن الجاهلية الرأسمالية من الوجود فضلا عن التضخم ، ولا يمكن شعب الله المختار من ركوب الاممين كما يشتهون !
هناك وضع واحد تتحقق فيه كل الضمانات والحقوق التي جاءت بها الديمقراطية على المستوى الأرفع ، مع المحافظة الكاملة على إنسانية الإنسان .
ذلك حين يكون الإنسان عابدا لله ، مطبقا لشريعة الله ، أي حين يحقق الإنسان الإسلام ! عندئذ تتحقق الكرامة الحقيقية للإنسان وتتحقق له كل الحقوق والضمانات التي وهبها الله للإنسان لتتحقق له كرامته في واقع الأرض .
يقول الله سبحانه وتعإلى :
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)} [سورة الإسراء 17/70]
ويقول الرسول( : " أيها الناس إن دماءكم وأموالكم واعراضكم على كم حرام …
فيقرر الله أصل الكرامة لبني آدام ، ويقرر الرسول ( حرمة الدماء والأموال والاعراض تحقيقا لتلك الكرامة في عالم الواقع ، في التعامل الذي يجري بين الناس ، ثم تتولي التوجيهات الربانية وتوجيهات ( لتحديد مجالات تكل الكرامة على أوسع نطاق عرفته البشرية في تاريخها .
يامر الله ألا تنتهك حرية المسكن :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا على أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ على مٌ (28)} [سورة النور 24/27-28]
والتجسس كذلك حرام .
يقول تعإلى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا...} [سورة الحجرات 49/12]
ويقول الرسول ( : " من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة "
وعن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول إن ناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله ( ، وإن الوحي قد انقطع ، وإنما نأخذكم بما ظهر لنا من أعمالكم ،فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شئ ، الله يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة "
ولا يجوز استراق السمع على الشخص أو مسكنه أو أحاديثه او كشف سر من أسراره أو الإطلاع على رسائله بغير إذنه .
يقول ( : " ولو أن رجلا أطلع على ك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان على ك من جناح
ويقول ( : " يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه : لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته فيفضحه ولو في داخل بيته
ولذلك ذكر بعض الفقهاء ، أنه لا يجوز التجسس على إنسان ولا متابعته للكشف عن أسراره ولا دخول مسكنة لتفتيشه إلا بتوفر شرطين :
الأول : ظهور ادلة وعلامات وقرائن على وجود جريمة معينة .
الثاني : أن يكون في ترك البحث والكشف ودخول المنزل انتهاك حرمة يفوت استدراكها ، كأن يأتي الخبر بان رجلا خلا برجل ليقتله ، أو بأمرأة ليرتكب فاحشة ، فإذا لم يكن الأمر بحيث يفوت استدراكه فلا يجوز البحث والكشف ودخول المنزل .
وفضلا عن ذلك فإن الناس لا يؤخذون بالظنة ، دون وجود تهمة جادة من مصدر موثوق به ، لقوله تعإلى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا على مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} [سورة الحجرات 49/6] كما لا يؤخذ إنسان بجريرة غيره لقوله تعإلى : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة فاطر 35/18]
وتقيد حرية الإنسان غير جائز إلا بحكم شرعي يصدره القاضي.(54/32)
فالأصل في الإنسان ضمان حريته في السكن والحركة والتنقل لقوله تعإلى : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإلى هِ النُّشُورُ (15)} [سورة الملك 67/15]
وتقييد الحرية بغير حكم شرعي - أي بما يسمي الاعتقال أو الحبس الاحتى اطي - غير حائز في الإسلام على خلاف بين الفقهاء بالنسبة لبعض أنواع المتهمين
فالمتهمون في عرف الفقهاء ثلاثة أنواع
النوع الأول : متهم معروفة بالتقوي والبر يبعد أن يكون من أهل تلك التهمة ، فلا يجوز حبسه من أجل التهمة ن بل ذهب كثير من العلماء إلى أن المدعي عليه إن ظهر كذب دعواه يعاقب سواء قصد أذاه أو لم يقصد ، وذلك منعا لتسلط اهل الشر والعدوان والسفهاء على أعراض أهل البر والصلاح
النوع الثاني : المتهم المجهول الحال الذي لا يعرف ببر ولا فجور ، وهذا اختلف العلماء في سجنه احتى اطيا عند وجود تهمة موجهة له ن فرأي الجهور جواز حبسه حتى ينكشف أمره ، ورأي البعض عدم جوز حبسه ، فأما الذين يرون جواز حبسه فقد قيدوا ذلك بالضرورة وبوجود أسباب قوية تدعو إلى ذلك ، ثم اختلفوا في مدة الحبس فحددها بعضهم بيوم وبعضهم بيومين وبعضهم بثلاثة أيام ,.. وأوصلها بعضهم إلى شهر كحد أعلى مع التقييد بالضرورة
النوع الثالث : المتهم المعروف بالفجور والفساد والسيرة الإجرامية ، وهذا يرى جمهور الفقهاء أن يحبس حبسا احتى اطيا حتى تثبت براءته إن كان برئيا وإن كان بعض الفقهاء كابن حزم لا يرى حواز حبس أي إنسان على الإطلاق بناء على مجرد الإتهام لأن الأصل في الإنسان براءة الذمة
ولأن الأصل براءة الذمة لا يخلف المتهم في القضايا الجنائية المتعلقة بحق الله تعإلى ، بل يذهب بعض العلماء إلى عدم تحليف المتهم في القضايا الجنائية المتعلقة بحق العبد ( أنظر مثلا الطرق الحكمية لابن القيم ، ط. دار الكتب العلمية ببيروت ، ص 100 - 104 )
اما الإكره على الاعتراف فغير جائز بحال ، ولا خلاف بين الفقهاء في أن الضرب والتعذيب والحبس والقيد داخله كلها في الإكراه ، وأن اختلفوا في التهديد والوعيد فرأي الجمهور انه داخل في الإكراه ، ورأي البعض أنه لا يكون إكراها إلا إذا صدر من قادر على تنفيذه ، وغلب على ظن المتهم وقوع ما هدد به إذا لم يقر وكان المهدد به ضارا بحيث يعدم الرضا أو يفسده ، وكون المتهم عاجزا عن مقاومته
ولا يعتبر إقرار المكره صحيحا لقوله ( : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عيه " ولقول عمر رضي الله عنه : " ليس الرجل بأمين على نفسه إذا جوعته أو ضربته أو أوثقته " ( أنظر المعني والشرح الكبير ج8/ص 260 - 262 ، ج 10ص 172 طباعة دار الكتاب العربي ببيروت 1392هـ - 1972م).
تلك ضمانات الاتهام وضمانات التحقيق في الإسلام
أما ضمانات المحاكمة فقد قررها الإسلام قبل أربعة عشر قرنا .
الضمانة الأولى والكبرى هي الحكم بشريعة الله التي يتمثل فيها العدل الربانى الشامل {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44)} [سورة المائدة 5/44]
ولا يقضى القاضى بالحد إلا إذا استوثق تماما أن المتهم غير معذور في الجرم الذي ارتكبه ، وإلا فالحكم هو درء الحد بالشبهة لقول صلى الله عليه وسلم : " ادرءوا الحدود بالشبهات " "
" سرق غلمان لابن حاطب ابن أبى بلتعة ناقة لرجل مزنى فأتى بهم عمر فأقروا فأمر كثير ابن الصلت بقطع أيديهم ، فلما ولى رده ، وقال لابن حاطب : والله لولا أنى أعلم أنكم تستعملونهم فتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه ، لحل له ، لقطعت أيديهم . فإذ لم أفعل فلأغرمنك غرامة توجعك .. ثم التفت إلى المزنى فقال: يا مزنى ! بكم أريدت منك ناقتك ؟ قل بأربعمائة . قال عمر لابن حاطب : اذهب فأعطه ثمانمائة ! "
فحكم عمر رضى الله عنه أولا بدرء الحد لقيام شبهة الجوع دافعا للسرقة . وحكم ثانيا بعقاب " الفاعل الأصلى " وهو صاحب الغلمان الذي استخدمهم ولم يشبعهم فدفعهم الجوع إلى السرقة ، فغرمه ضعف ثمن الناقة .
كما أوقف عمر حد السرقة عام الجوع تطبيقا للمبدأ ذاته : ادرءوا الحدود بالشبهات .
ومن الضمانات أن القاضى لا يقضى بعلمه وإنما بالقرائن والأدلة وشهادة الشهود العدول . ولا يقضى القاضى وهو غضبان ، ولا يقضى وهو معرض لأى عارض يؤثر في قدرته على الحكم الصحيح .
وكذلك ضمانات التنفيذ قررها الإسلام ، وزاد فيها ضمانة لم يتضمنها أى قانون أرضى حتى هذه اللحظة ، وهي رد الاعتبار الكامل للمجرم بعد تطبيق الحد عليه
فأما في التنفيذ فلا يجوز تعدى العقوبات المقررة شرعا . قا صلى الله عليه وسلم : " من جلد حدا في غير حد فهو من المعتدين "
وأما فيما بعد التنفيذ فيكفي هذان المثالان لتقرير تكريم الإسلام للإنسان وإن هبط في لحظة عابرة مادام قد كفر عنها بالعقوبة التي وقعت عليه وبالتوبة إلى الله :(54/33)
" حدثنا قتيبة بن سعيد .. عن إبى هريرة أن رسول ا صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب فقال اضربوه . قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه . فلما انصرف قال بعض القوم : اخزاك الله ! فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : لا تقولوا هكذا . لا تعينوا عليه الشيطان
وجاء في قصة ماعز بن مالك : فأمر به فرجم ، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه : انظر إلى هذا ستر الله عليه فلم تدعه نفسه الخبيثة حتى رجم رجم الكلب .. فسكت عنهما ، ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجليه ، فقال : أين فلان وفلان ؟ فقالا : نحن ذان يا رسول الله . قال : أنزلا فكلا من جيفة هذا الحمار ! فقالا : يا نبى الله من يأكل من هذا ؟! قال : فما نلتما من أخيكما أنفا أشد من أكل منه " .
تلك ضمانات الإسلام التي سبق بها الديمقراطية بأكثر من ألف عام .
وأما الحقوق فقد قررها الإسلام كذلك في وقت مبكر كانت أوروبا والعالم كله يعيش في الظلمات .
فأما الحقوق السياسية التي تفاخر بها الديمقراطية فقد كان الإسلام أول من أزال " القداسة " عن الحاكم بإفراد الله بالألوهية والربوية ، فلا يعبد إلا اله ولا تطبق شريعة إلا شريعة الله .
جاء الإسلام والحكام ذوو قداسة حقيقية لا مجازية . بعضهم توجه إلى ه شعائر التعبد كقيصر وكسرى ، وكلهم يشرعون فتسرى شريعتهم في الرعية أمرا غير مردود .
وجاء الإسلام ليقول : لا إله إلا الله . ولا معبود إلا الله . ولا حاكم له حق التشريع إلا الله .
وعندئذ تقررت الحرية السياسية الحقيقة للناس .
ليست الحرية كامنة في مجلس نيابى أو عملية تصويت شعبية ، إذا كان نتيجة ذلك أن تتحكم فئة معينة من الناس في رقاب بقية الناس . إنما الحرية الحقيقية مرتبطة بتحديد من له حق التشريع .. فإذا كان البشر هم الذين يشرعون فلا حرية في الحقيقة ، إنما عبودية مقنعة من جانب وربوية زائفة من جانب .. وإذا كانت الحاكمية لله فهنا يتجرد الحكام من الربوية ويصبحون عبيدا له كبقية العباد .
إن الذي جاء به الإسلام أعظم بكثير في تقرير حرية الإنسان من كل ما أتت به الديمقراطية بعد الصراع الممتد الذي قامت به الشعوب لاستخلاص حقوقها من الطغاة . فمازال الحكام في الديمقراطية - من وراء ستار - يشرعون ، فيشرعون لمصالحهم على حساب الأخرى ن . من خلال المسرحية الطريفة المتمثلة في حق الانتخاب وحق الترشيح ووجود نواب وبرلمانات .
إن الذي صنعه الإسلام هو سلب الحكام أصلا حق التشريع . وبذلك وحده تكف أيديهم عن إيقاع الظلم بالمحكومين ، وبذلك وحده يتحرر الناس فيشعرون بالعزة الحقيقية إزاء الحكام .
لقد قال الله سبحانه وتعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليوم الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)} [سورة النساء 4/59]
فقال أبو بكر الخليفة الأول رضى الله عنه : " أطيعونى ما أطعت الله فيكم فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى على كم " وقال مثل ذلك عمر رضى الله عنه .
ووقف عمر رضى الله عنه يخطب الناس فقال : أيها الناس اسمعوا وأطيعوا . فقال له سلمان الفارسى : لا سمع لك اليوم على نا ولا طاعة ! فلم يغضب عمر العربى القرشى أمير المؤمنين لهذه المقالة من سلمان الفارسى . ولم يأمر بالقبض عليه واعتقاله ، إنما قال له : ولمه ؟ قال سلمان : حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به وأنت رجل طوال لا يكفيك البرد الذي نالك كبقية المسلمين !فلا يغضب عمر العربى القرشى أمير المؤمنين مرة أخرى من هذه المقالة من سلمان ، إنما ينادى ابنه عبد الله فيقول له : نشدتك الله هذا البرد الذي ائتزرت به أهو بردك ؟ فيقول : نعم ! ثم يقول موجها خطابه للناس : إن أبى رجل طوال لا يكفيه البرد الذي ناله كبقية المسلمين ، فأعطى ته بردى ليأتزر به ! عندئذ يقول سلمان : الآن مر !نسمع ونطع .
ولم يكن سلمان متمردا على السمع والطاعة الواجبة للحاكم المسلم . إنما كان يرى د فقط أن يستوثق - لله - من كون عمر رضى الله عنه قائما بتنفيذ شريعة الله على الوجه الأكمل . وكان عمر يعلم دافع سلمان إلى مسائلته فيرضى - لله - بهده المساءلة التي لم يقبلها على نفسه حاكم في الديمقراطية الليبرإلى ى الرأسمالية ولا في غيرها من نظم الحكم على الإطلاق !
ويقول عمر : إذا أحسنت فأعينونى ، وإذا أسأت فقومونى ! فيقول له سلمان : والله لو جدنا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيف ، فيقول عمر - راضيا لله -الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقومه بحد سيفه ! !
تلك هي الحرية السياسية في الإسلام ! منشؤها عبادة الله وحده دون شريك ، التي يترتب عليه ا نزاع القداسة عن الحكام في الأرض ، كما يترتب عليه ا نزع حق التشريع من الحكام بستار أو بغير ستار .. فيحس المؤمن الذي يعبد الله حق عبادته بعزة الاستعلاء التي تسنده أمام الحكام .(54/34)
خطب عمر الناس فقال : لا تغالوا في المهور . فقامت له امرأة من عامة المسلمين فقالت يوسع الله وتحرج أنت ؟! إن الله يقول " وأتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا " ! قال أخطأ عمر وأصابت امرأة !
وصحيح أن الله قد ترك أمورا للاجتهاد البشرى ، يضع البشر فيها تشريعات تلائم ما يجد من الأحوال ، ولكن هذه أولا محكومة بالأصول العامة للشريعة وليست متروكة للهوى البشرى كما يحدث في الديمقراطيات .. وهي ثانيا اجتهادات يقوم بها أولو العلم من فقهاء الأمة الذين يقر الناس لهم بالقدرة على الاجتهاد ، وليست لأى إنسان يفتى فيها بعلم أو بغير علم كما يحدث في البرلمانات عند التصويت على أى قرار ، إذ تؤخذ القرارات بأغلبية الأصوات ، وتتكافأ أصوات الذين يعلمون والذين لا يعلمون !
وتبقى الأمور الجارية التي تدخل في باب " السياسية " وهذه يلزم الحاكم أن يستشير فيها يتحمل مسئوليته بعد الاستشارة ! بشرط ألا يخالف نصا من الكتاب والسنة أو ما أجمع عليه العلماء ، ولا يصادم أصلا من أصول الشريعة العامة .
أما حق التعليم فقد نص عليه رسول ا صلى الله عليه وسلم نصا ، بل جعله فريضة : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " ( وعلى كل مسلمة لأنها داخلة في النص ) ودون الدخول في تفصيل ما يكون من العلم فرض عين وما يكون فرض كفاية ، فإن العلى م لم تكن له مشكلة في العالم الإسلامى ، إلا في العصور المتأخرة حين بعد الناس عن حقيقة الإسلام . أما في عصور الإزدهار فقد كان الإقبال شديدا على التعليم ، وكانت الدولة والمجتمع والأفراد يتعاونون في توفير العلم لكل راغب مجانا ، بلا تكإلى ف ، بل كانت الدولة تجرى المعاشات للطلاب لتعينهم على طلب العلم دون مشغلة بأمر القوت ، وكانت أوقاف المسلمين الذين يقفون أموالهم على التعليم تكفل المأوى والملبس والمطعم للطلاب فضلا عن التعليم
أما حق العمل أو الإعاشة الذي أكرهت الدول الديمقراطية عليه إكراها بسبب المطالبة المستمرة من العمال ، وبسبب الخوف من الشيوعية ، فقد قرره الإسلام ابتداء دون مطالبة من أحد ، ودون صراعات في المجتمع .
وضع الرسو صلى الله عليه وسلم قواعد مسئولية الدولة عن جميع رعاياها إما بإعطائهم فرصة كريمة للعمل ، وإما بإعالتهم من بيت المال . جاءه رجل يسأله فأعطاه دراهم وقال له أذهب فاشتر حبلا وفأسا واحتطب وبع ما تحتطب للناس . ثم أمره أن يعود إلى ه ليخبره بما كان من أمره . وكان يوزع أموال الزكاة والغنائم والفيء على المحتاجين بمقتضى قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عليه ا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [سورة التوبة 9/60]
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَإلى تَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [سورة الأنفال 8/41]
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَإلى تَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [سورة الحشر 59/7]
ورغم قلة الموارد في أول أيام الدولة الإسلامية فإن المبدأ قد تقرر واضحا محددا وهو أن الدولة مسئولة عن جميع رعاياها بقدر ما تسمح مواردها . وعلى الرغم من أن التكافل في الإسلام ليس مهمة الدولة وحدها ، فقد أمر الله سبحانه وتعالى بالتكافل في داخل الأسرة وحدد لذلك نظاما دقيقا توزع التركات بمقتضاه ، كما وزع التكاليف داخل الأسرة بحيث تشمل مجموع أفرادها ، كما أمر بالتكافل في داخل المجتمع، وحض القادرين على كفالة غير القادرين .. على الرغم من ذلك فإن مسئولية الدولة ظلت قائمة ، لا يسقطها عنها وجود التكافل في داخل الأسرة وفي داخل المجتمع . بل تصل الحساسية في قلب عمر رضى الله عنه أن يقرر مسئولية الدولة لا عن الآدمين الذين يستظلون بظلها فحسب ، بل عن كل كائن حى ، فيقول قولته الشهيرة : لو عثرت بغلة بالعراق ( أو قال بصنعاء ) لكنت مسؤولا عنها لم لم أسو لها الطريق ! ثم يصل الأمر في أيام عمر بن عبد العزيز أن يقول يحيى بن سعيد : بعثنى عمر على صدقات أفريقية فاجتبيتها فبحثت عن فقراء أعطى ها لهم فلم أجد فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس ! فاشترى ت بها عبيدا فأعتقتهم !
وجاء في كتاب " الأموال " فلإمام الحافظ أبى عبيد القاسم بن سلام المتوفي عام 224 هـ : ( ص 357 - 358) وحدثنى سعيد بن أبى مريم عن عبد الله بن عمر العمرى عن سهيل بن أبى عبد الرحمن - وهو بالعراق - "أن اخرج للناس أعطى اتهم " فكتب إلى ه عبد الحميد : " إنى قد أخرجت للناس أعطى اتهم وقد بقى في بيت مال المسلمين مال " فكتب إلى ه : " أن أنظر كل بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدق عنه " فكتب إلى ه : " إنى قد زوجت كل من وجت وقد بقى في بيت مال المسلمين مال " . فكتب إلى ه بعد مخرج هذا : " إن أنظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على أرضه . فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين .(54/35)
وجاؤ فيه ( ص 738 )
" قال : حدثنى يحيى بن بكير قال : سمعت الليث بن سعد يقول : كتب عمر ابن عبد العزيز : " أن اقضوا عن الغارمين " . فكتب إلى ه : " إنا نجد له المسكت والخادم والفرس والأثاث " فكتب عمر : " إنه لابد للمرء المسلم من مسكت يسكنه وخادم يكفيه مهنته ، وفرس يجاهد عليه عدوه ، ومن أن يكون له الأثاث في بيته . نعم ! فاقضوا عنه فإنه غارم ! "
إلى هذه الدرجة العجيبة يصل الإسلام في تقرير مبدأ مسئولية الدولة عن جميع افرادها ، ويصل التنفيذ العملى في صدر الإسلام لهذا المبدأ قبل أن يثور الثائرون ويطالبوا بهذه الحقوق بأكثر من ألف عام . وما تزال الديمقراطيات - رغم كل خوفها من الشيوعية ، وكل خوفها من تمرد العمال - لا تصل إلى تقرير هذا الحق كاملا كما قرره الإسلام.
وأما حق التعبير عن الرأى فإن الإسلام لم يكفله حقا للناس على حكامهم بل جعله واجبا على الناس لله ! يقول رسول ا صلى الله عليه وسلم : " الدين النصيحة " قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : " لله ورسوله وخاصة المسلمين وعامتهم فجعل إبداء النصيحة واجبا . وإبداء النصيحة هو التوجيه إلى الصواب والنهي عن الخطأ أيا كان الذي وقع الخطأ منه حاكما أو محكوما .. وهذا - في صورته الدينية - هو هو التعبير عن الرأى الذي سعت الشعوب لانتزاعه انتزاعا من قبضة الحكام الكارهين ، مع فارق رئيسى ، أنه هنا إبداء الرأى مخلصا لله ، لتقويم ما أعوج من أحوال المجتمع ، لا احترافا للتأييد أو احترافا للمعارضة بحسب موقع الحزب الذي ينتمى الإنسان إلى ه من الحكم ! ولا لهوى شخصى أو بعض شخصى .
ويطلب الإسلام من كل مسلم أن يكون له موقف ويكون له رأى ، ليتمكن مجموع الأمة من القيام بأخطر مهمة تقوم عليه ا خيرى ة الأمة واستحقاقها للوجود وللفلاح ، بينما تقع اللعنة على الأمة إن أهملتها ، ألا وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110]
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)} [سورة آل 3/104]
وفي الجانب الآخر :
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [سورة المائدة 5/78-79]
ولذلك يطلب رسول الله صلى الله عليه وسم من المسلم ألا يكون إمعة ، لا رأى له ولا موقف سوى مجاراة " الرأى العام " !! يقول عليه الصلاة والسلام : " لا يكن أحدكم إمعة ، يقول إذا أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت . ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسنوا أو أساءوا ألا تظلموا
وهذا كله بطبيعة الحال ضد مصلحة " الحكام " ما لم يستقيموا على النهج !
فليس من مصلحة الحكام أن تكون شعوبهم متيقظة لأعمالهم . مبادرة بنقد الخاطئ منها عن طريق " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ولكن الإسلام لا يعمل لمصلحة الحكام كما تعمل الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية لصالح الرأسمالية رغم كل المسرحية الطريفة - مسرحية الحرية ! - إنما يعمل الإسلام لمصلحة كل الناس ، لأنه نزل لهداية كل الناس ، وليقوم الناس كلهم بالقسط .
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد 57/25]
بل يشدد رسول ا صلى الله عليه وسلم في شأن توجيه النصح للحكام - لا مجرد إبداء الرأى من أجل إبداء الرأى فحسب كما تصنع الديمقراطية في أكثر أحوالها - فيقو صلى الله عليه وسلم : " لا والذي نفسى بيده حجتى تأطروهم على الحق أطرا
ويقو صلى الله عليه وسلم : " سيد الشهداء حمزة ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله "
وهكذا يتبين أن ما جعلته الديمقراطية حقا مكتسبا وناضلت الشعوب من أجله ، جعله الإسلام واجبا ، وقرره قبل الديمقراطية بأكثر من ألف عام ، وقرره على طريقة أفضل وأصدق وأعمق .. ككل شئ قرره الإسلام .
ولكن الإسلام أعطى هذه الضمانات والحقوق كلها مع المحافظة التامة . على إنسانية الإنسان . وهنا مفرق الطريق بين الإسلام والجاهليات جميعا ، ومن بينها هذه الديمقراطيات !
لقد كرم الله الإنسان ابتداء كما أسلفنا :
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)} [سورة الإسراء 17/70]
وكل ما فرضه الإسلام منه الفرائض والتكاليف ، وكل ما قرره من الحقوق والواجبات منظور فيه إلى " تزكية " الإنسان ، وهي جزء من التكريم المراد للإنسان ، بل هي قمة ذلك التكريم .(54/36)
فعبادة الله وحده دون شريك - فضلا عن كونها حقا لله على عباده - هي في الوقت ذاته تزكية للإنسان وتكريم . فالإنسان كما قلنا أنفا عابد بطبعه لابد أن يعبد ، ولا يوجد إنسان لا يعبد . إنما الفارق بين إنسان وإنسان يأتى من توجيه العبادة إلى الله الحق ، أو توجيهها إلى إله زائف لا يستحق أن توجه العبادة إلى ه .
والإنسان في أعلى حالاته وأكرم حالاته حين يكون عابدا لله الحق ، وهو أسفل سافلين حين ينتكس من عبادة الله إلى عبادة غير الله من الآلة ة المدعاة ، التي تهبط بالإنسان من إنسانيته المكرمة ، فيصبح كالدابة التي لا تعى ، بل يصبح أسوأ وأضل :
{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [سورة الأعراف 7/179]
فعبادة الله الواحد ، وإفراده بالألوهية والربوبية التي يفرضها الإسلام حقا خالصا لله تعالى ، هي في الوقت ذاته رفعة للإنسان وتكريم ، وفلاح في الدنيا والآخرة سواء ، وتزكية ترفع الإنسان إلى على ين :
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [سورة البقرة 2/257]
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [سورة الأنعام 6/122]
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [سورة العصر 103/1-3]
{إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22)} [سورة المعارج 70/19-22]
فمن باب رفع الإنسان إلى مقام الإنسانية الكريمة يربط الإسلام قلوب المؤمنين بالله ، ويجعل صيانة العقيدة والمحافظة عليه ا أول واجبات الإمام المسلم والدولة المسلمة .
ومن باب رفع الإنسان إلى مقام الإنسانية الكريمة كذلك يربى الإسلام المسلمين على الأخلاق الفاضلة التي تنظف المشاعر وتنظف السلوك ، وتنفي عن النفس خبثها ، وتصونها ن التردى إلى مستوى الحيوان ، فيفرض النظافة في الأعمال كلها : " إن الله كتب الإحسان على كل شئ ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتهم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته "
فإذا كان الأمر أمر عبادة موجهة إلى الله فالإسلام يطهرها من الرياء والنفاق . وإن كان أمر معاملات تجرى بين الناس بعضهم وبعض فقد فرض الإسلام فيها النظام الكاملة في كل شئ .
في التعامل المالي حرم الربا والاحتكار والسرقة والغصب والنهب والسلب والغش والخديعة وأكل مال الأجير ، كما لعن السرف والترف وكنز المال .
في التعامل الاجتماعى حرم الغيبة والنميمة والغمز واللمز والتجسس ، كما بغض في الفرقة والتباغض والتحاسد ، واهتمام كل إنسان بنفسه وعدم المبالاة بالأخرى ن
" من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر
في التعامل الجنسى حرم الفاحشة بجميع أنواعها وحرم ما يؤدى إلى الفاحشة من خلوة أو تبرج أو تكسر أو خلاعة أو اختلاط بغير موجب .
في كل شئ هناك أخلاق .ز وهذا هو اللائق بالإنسان ..
وحين يكرم الإسلام الإنسان عليه ذا النحو ، وينظف مشاعره وسلوكه على هذه الصورة ، فإنه يعطيه ما أعطاه من حقوق وضمانات ، فتكون في مكانها الطبيعى ، تكملة للتكريم ، وتوكيدا للتكريم ، لا كالذي تصنعه الديمقراطية الليبرالية ، التي تعطى بالفعل الضمانات والحقوق ولكنها تدمر الإنسان كله في نهاية المطاف !
هذا هو الإسلام ، وهذه هي الديمقراطية في نظر الإسلام ..
ومن ثم فلا سبيل إلى مزج الإسلام بالديمقراطية ! ولا سبيل إلى القول بأن الإسلام نظام ديمقراطى ! أو أنه يتقبل النظام الديمقراطى أو يسايره ، لمجرد وجود شبه عارض في بعض النقاط !
إن هذا الالتقاء العارض بين الديمقراطية والإسلام في الحقوق والضمانات وفي مبدأ الشورى لا يجوز أن ينسينا حقيقتين مهمتين :
الحقيقة الأولى : أنه لا ينبغى لنا - من الوجهة العقيدية - أن نقرن النظام الربانى إلى نظام جاهلى ، فضلا عن أن نحاول سند النظام الربانى بنسبته إلى النظام الجاهلى ، أو أ، نتصور أننا نمتدح النظام الربانى بأن نقول إنه يحمل نقط التقاء مع النظام الجاهلى !
إنها الهزيمة الداخلية تندس إلى أفهامنا دون أن نحس ، وتجعلنا نعتقد أن النظام الربانى في حاجة اليد فاعنا نحن عنه وتبريره ! كما تجعلنا نعتقد أننا نمتدح النظام الربانى بأن نقول للناس إنه يحتوى على الفضائل التي تحتوى عليه ا النظم السائدة اليوم !(54/37)
إنها الهزيمة التي أصابت المسلمين في مواجهة الغرب الظافر المتغلب . الذي غلب على بلاد الإسلام . وما كانت لتوجد في نفوسنا لو أننا واثقون في أنفسنا مستعلون بالإيمان كما وجهنا الله :
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [سورة آل 3/139]
الهزيمة التي نشأت في الحقيقة من الخواء الذي أصاب المسلمين في القرون الأخيرة .. الخواء من حقيقة الإسلام .. فلما جاءت الهزيمة العسكرية أمام الغرب كانت كالضربة القاضية التي بهرت المهزومين وهزتهم من الأعماق . وما كانوا لينبهروا - رغم الهزيمة العسكرية - لولا ذلك الحواء الداخلى من حقيقة الإسلام
إنه لا ينبغى لنا من الوجهة العقيدية أن نقرن الإسلام إلى الجاهلية في أى صورة من صورها ، إلا إذا قلنا كما قال الله في كتابه المنزل :
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [سورة المائدة 5/50]
والحقيقة الثانية : أن هذا الشبه العارض في بعض النقاط لا يجوز أن ينسينا الفارق الضخم في القاعدة ، إن القاعدة التي يقوم عليه ا الإسلام تختلف اختلافا جذريا عن القاعدة التي تقوم عليه ا الديمقراطية
في الإسلام يعبد الله وحده دون شريك ، وتحكم شريعة الله عنوانا على التوحيد ، وتحقيقا له في عالم الواقع . وفي الديمقراطية يعبد غير الله ، وتحكم شرائع البشر عنوانا على عبادة غير الله وتوكيدا لها في عالم الواقع .
وفي الإسلام يزكى الإنسان ليحتفظ بانسانيته في أحسن تقوين ، وفي الديمقراطية ينكس الإنسان فيهبط أسفل سافلين .
تلك فروق جوهرية في القاعدة ، فما قيمة اللقاء العارض في بعض النقاط أيا كانت القيمة الذاتية لتلك النقاط ؟!
على أننا - من الوجهة التاريخية البحتة - لا يجوز أن نقرن الإسلام إلى الديمقراطية وهو سابق على تلك الديمقراطية بأكثر من ألف عام ! إنما ينبغى - إن أردنا ! _ أن نقول إن الديمقراطية هي التي تحمل بعض المشابه من الإسلام في بعض النقاط ، لا أن الإسلام هو الذي يحمل مشابه من الديمقراطية .. فاللاحق هو الذي يلحق بالسابق في عرف التاريخ !
وفي العالم الإسلامى كتاب ومفكرون ودعاة مخلصون مخدوعون في الديمقراطية . يقولون نأخذ ما فيها من خير ونترك ما فيها من شرور .
يقولون نقيدها بما أنزل الله . ولا نبيح الإلحاد ولا نبيح التحلل الخلقى والفوضى الجنسية !
إنها إذن لن تكون الديمقراطية .. إنما ستكون الإسلام !!
إن الديمقراطية هي حكم الشعب بواسطة الشعب . إنها تولى الشعب سلطة التشريع . فإذا ألغى هذا الأمر أو قيد بأى قيد فلن تكون هي الديمقراطية التي تقوم اليوم بهذا الاسم .
واسألوا الديمقراطيين ! قولوا لهم : نريد أن نحكم بما أنزل الله ، ولا يكون للشعب ولام ممثليه حق وضع القوانين إلا فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة ولا إجماع من علماء المسلمين !
قولوا لهم : نريد أن ننفذ حكم الله في المرتد عن دينه ، وحكم الله في الزانى والسارق وشارب الخمر ..
قولوا لهم : نريد أن نلزم المرأة بالحجاب . ونمنع التبرج ، ونمنع العرى على الشواطئ وفي الطرقات . ونريد في الوقت ذاته أن نكون ديمقراطيين !
اسألوهم وانظرا ماذا يقولون !
سيقولون على الفور : إن هذه ليست الديمقراطية التي نعرفها .. ففي الديمقراطية يشرع الناس في جميع الأمور لا يلتزمون في شئ منها بغير ما يرى ده الشعب ( نظريا على الأقل ! وإن كانت الحقيقة كما أسلفنا أن الرأسماليين هم الذين يشرعون من وراء الستار ! )
سيقولون إن الديمقراطية لا تتدخل في " الحرية الشخصية " للأفراد ! فمن شاء أن يرتد عن دينه فهو حر ! ومن شار أن يتخذ صديقة أو خليفة فهو حر . ومن شاءت أن تكشف عن صدرها أو ظهرها أو ساقيها فهي حرة ! ومن شاءت أن تخون زوجها فهي حرة ما لم يشتك الزوج !
سيقولون : ابحثوا عن اسم آخر لما تريدون . . اسم غير الديمقراطية !
فإذا كان كذلك فلماذا نصر نحن على تسمى ة نظامنا الذي نريده باسم الديمقراطية ؟ لماذا لا نسميه الإسلام؟!
ويقول بعض الناس مخلصين : إنما نريد أن يلتزم الحاكم - المسلم - برأى الشعب فيما ليس فيه نص .. وهذا هو لب الديمقراطية الذي نريد أن نطعم به الحكم الإسلامى ، لنمتع طغيان الحكام !
وما نريد هنا أن ندخل في الخلاف الفقهي القائم حول الشورى في الإسلام وهل هي ملزمة لولى الأمر أم غير ملزمة .. فهذا يخرج بنا عن موضوع الكتاب إنما نقول فقط أن هذا أمر اجتهادى ليس فيه نص .. فالنص يلزم بالشورى ذاتها ، ولكن لا يوجد نص يقول إن الشورى ملزمة او غير ملزمة . ولذلك اختلف الفقهاء(54/38)
وما دام الأمر اجتهاديا فمن حق أى جيل من أجيال المسلمين أن ينظر فيه ، وينظر في وجه المصلحة فيه .. فيوم نكون جادين في تطبيق الإسلام ، فعندئذ يجتمع علماء الأمة وينتظرون في الأمر ، ويقررون على ضوء الظروف القائمة وقتها إن كانت المصلحة تقتضى جعل الشورى ملزمة أو غير ملزمة .. وتلتزم الأمة وحكامها بما يراه علماؤها المجتهدون ، فإذا رأى علماء الأمة أن المصلحة تتحقق بالتزام الحاكم بنتيجة الشورى كان هذا الاجتهاد ملزما لأولياء الأمور .
أما أن نستعير " ترسا " من آلة أجنبية عن الإسلام لنركبه في النظام الإسلامى لمجرد ظننا انه صالح ومفيد ، فليس هذا هو التفكير السديد . إن الإسلام نظام متكامل . وحاجات المسلمين ومصالحهم تتحقق من داخل النظام لا من خارجه . فلنعزم أولا أن نكون مسلمين حقا ، ملتزمين بما أنزل الله ، ثم لننظر بعد ذلك ما يفتح الله به على نا من الحلول :
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [سورة العنكبوت 29/69]
وينظر أناس إلى البغى والطغيان القائم في بلاد الإسلام فيقولون : أليست الديمقراطية خيرا من هذا البغى ؟ على الأقل نستطيع أن نتنفس ونحن آمنون ! لا يجئ حاكم فيعتقل من يعتقل ، ويعذب من يعذب ، ويقتل من يقتل دون أن يجرؤ أحد على معارضته بسبب عدم وجود نظام ديمقراطى ، فلو أننا اتخذنا الديمقراطية - مع تحكيم شريعة الله - أمنا من طغيان الحكام .
ويبدو هذا القول وجيها لأول وهلة .. ففي النظم الديمقراطية القائمة في الغرب لا يطغى الحكام بهذه الصورة ، ولا يعتقلون الناس بعشرات الألوف ، ولا يعذبونهم في السجون ، ولا يقتلون أحدا بالتعذيب داخل الأسوار ، مما تعرض له الدعاة المسلمون في أكثر من مكان في العالم الإسلامى .
ولكن القضية إذا أنعمنا النظر فيها لا تبدو بهذه الوجاهة التي تبدو عليه ا الوهلة الأولى .
فلا يوجد نظام في الأرض - حتى النظام الربانى - يعمل من تلقاء نفسه دون قيام البشر على حراسته ، أو يعطى الضمانات للناس دون أن يحرص الناس على التمسك بهذه الضمانات .
والديمقراطية ليست نظاما إلى ا يحمل ضماناته في طياته ويطبقها من ذات نفسه ! إنما هي - ككل نظام - تعتمد على البشر الذين يقومون بالتطبيق .
وانظر إلى تاريخ الديمقراطية في بلادهم التي تطبقها وتتمتع بضماناتها . إنه تاريخ نضال مستمر وثورات ودماء! والذي أعطى الضمانات - كما أشرنا أكثر من مرة في هذا الفصل - لم يكن هو الديمقراطية في ذاتها ، إنما كان نضال الشعب وثورته على الظلم ن وتحمل التضحيات والضحايا في سبيل الحصول على حقوقه . وبهذا النضال نال الشعب ما نال من حقوق وضمانات .
ولكن تعال الآن فحاول تطبيق الديمقراطية في بلاد لم تناضل ولم تتجه للنضال من أجل الحريات والضمانات والحقوق . فماذا تفعل الديمقراطية للناس ؟! هل تصون لهم حقوقهم وتعطيهم ضماناتهم ؟
إن الديمقراطية ليست ثوبا يشترى جاهزا ويلبس ، إنما ينبغى أن يفصل تفصيلا على قد لابسه ! لابد من " المعاناة " التي تعطى ثمرة التجربة !
حيث ثار المصريون ثورتهم " الوطنية عام 1919 ، كان تشرشل وزيرا في وزارة المحافظين القائمة يومئذ في بريطانيا ، فجاءت أخبار الثورة في الصحف فسأل تشرشل : ماذا يرى دون ؟ ( يعنى المصريين ) قالوا له : يرى دون دستورا وبرلمانا ! فقال تشرشل : أعطوهم لعبة يتلهون بها Give them a toy to play with وكانت كلمة صادقة من ذلك الداهية الساخر المتغطرس الخبيث .
ولست أقول أن النظم الطغيانية التي حلت محل تلك الديمقراطيات المزيفة هي خير منها ! كلا ! وألف مرة كلا ! فالطغيان الذي يعتقل عشرات الألوف ويعذبهم أبشع تعذيب عرفته البشرية ، ويقتل منهم من يقتل في محاكمات صورية أو داخل الأسوار بالتعذيب ، هو شر خالص لا خير فيه .
ولكنى أقول فقط إن البديل ليس هو الديمقراطية .. إنما هو الإسلام !
فإذا كانت العودة إلى الإسلام اليوم تحتاج إلى جهاد طويل وتضحيات ، وإلى تربية جادة على حقائق الإسلام ، فإن الديمقراطية كذلك ! إنها لن تعطى ثمارها - في الجانب الخير منها - إلا بجهاد وتضحيات ، وتربية جادة تربى جيلا من الناس يحرص على حريات الديمقراطية وضماناتها ، ويأبى أن تزيف إرادته التزييف الغليظ الذي كان يحدث باسم الديمقراطية في بلادنا . وإلا فستظل لعبة يتلهي بها الناس كما قال ذلك الخبيث .
فإذا كان لابد من التربية في الحالتين ولابد من الجهاد والتضحيات في الحالتين ، أفليس الأولى أن يكون الجهد في سبيل الخير الحقيقى ، الخير الذي لا يعود على المسلمين وحدهم إنما يعود على البشرية جمعاء ، وهو خير الدنيا والآخرة في ذات الوقت ؟ !
ولقائل أن يقول ، إن التاريخ السياسى الإسلامى ملئ بالمظالم ، وهو يحمل اسم الإسلام .
ونقول نعم ! إن هذا صحيح !
ولكن ما سببه على وجه التحديد ؟!
ظلم من الحكام .. نعم .. ولكن أين كانت الأمة الإسلامية ؟ ولماذا سكتت على الظلم ، ولم تأطر حكامها على الحق أطراكما أمرها زعيمها وقائدها r ؟(54/39)
إنها استنامت للظلم تفريطا في حقوقها وواجباتها التي قررها الإسلام ..
أفلو كانت الديمقراطية هي الحاكمة بدلا من الإسلام كان المفرطون لا يفرطون ؟!
وهل الأمة التي ضيعت الإسلام كانت ستحافظ على الديمقراطية ؟!
إن القضية أن هذه الأمة تحتاج أن تربى من جديد على حقيقة الإسلام .. وبغير ذلك لا ينصلح حالها ولا يستقيم .
ومن كان يرى أن مشوار الإسلام مشوار طويل ، وأن مشوار الديمقراطية أقصر منه وأيسر ، فنحن نقول له إن الديمقراطيات ذاتها في سبيلها إلى الانهيار ، بما تحمل في طياتها من عوج وانحراف قائم في أصل النظام .
وسيبقى الإسلام ..
سيبقى لأنه دين الحق ..
ولأن الله تكفل بحفظه .
ولأنه هو الشئ الوحيد الذي يمكن أن ينقذ البشرية كلها من ضلالها البعيد الذي لجت فيه ..
ولأن هناك مؤمنين بهذا الدين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العلى ا ، والله هو الذي وعدهم بالتمكين :
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [سورة النور 24/55]
===================(54/40)
(54/41)
رأي من يجيز العمل بمبدأ الديموقراطية :
المسلمون والعمل السياسي
تعريف بالكتاب
يختلف الدعاة اليوم حول العمل السياسي، وخاصة ما يتعلق منه بمجالس التشريع في الدول (الديمقراطية)، وتكوين الأحزاب السياسية من منطلق ديني، وتكوين الاتحادات والنقابات والهيئات، والتجمعات، وكذلك حول دخول الدعاة والعلماء في المعترك السياسي من حيث نقد الحكام، وتوجيه مسيرة الأمة، وكذلك قد وصل الاختلاف بين الدعاة إلى تولي المناصب القيادية في الحكومات الإسلامية المعاصرة ومدى موافقة هذا أو مخالفته للإسلام الصحيح.. الخ.
وهذه الرسالة على صغر حجمها تجيب الإجابة الشافية بحول الله وتوفيقه على كل ذلك.
إنها منطلق جديد للدعوة إلى الله.
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد،
فإن شباب الدعوة الإسلامية يختلفون فيما بينهم اختلافاً كثيراً في كيفية الدعوة إلى الله في الوقت الحاضر، وخاصة حول الوسائل الحديثة للدعوة، وكيفية الاستفادة منها، والدخول إليها، وتطويعها للإسلام ومن هذه الوسائل التي كثر حولها الاختلاف، الحزب السياسي، ومجالس التشريع، (البرلمانات، ومجالس الأمة..، الخ). والنقابات، والاتحادات، والتجمعات، والجامعات والمدارس والمعاهد، وكذلك يختلف الدعاة حول تولي المناصب القيادية في الدول الإسلامية المعاصرة، أو الدول الأجنبية الكافرة، وهل مثل هذا العمل مشروع أم لا، وهل هو طريق موصل إلى تحقيق أهداف الرسالة الإسلامية أم لا..
وقد رأيت من واجبي حسم هذا الخلاف بحول الله وقوته، وإزالة الشقاق في ذلك، وبيان الرأي فيه مع الحجة والدليل آملاً من الله سبحانه وتعالى وراغباً إليه أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه، وأن يجعل منه فاتحة خير على الأمة الإسلامية بأسرها، وأن يجعل منه منطلقاً لأبناء الأمة ودعاة الإسلام ليحققوا لأمتهم العز والنصر والتمكين، وأن يعملوا لإزالة سلطان الكافرين وتصدر المنافقين المبطلين، ليتولى أمور الأمة أهلها، وتعود الأمانة إلى أصحابها، والأمور إلى نصابها. تحقيقاً لقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}.
وأرجو ألا يبخل إخواني علي بالنصح والتسديد، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، فلنعمل جميعاً على سد ثغور الإسلام، ورتق الفتق في ثوبه، وجمع صفوف أبنائه، والانطلاق نحو العمل الجاد، والجهاد بكل أنواعه وأساليبه حتى تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
عبدالرحمن عبدالخالق
الكويت في الثاني من ربيع الآخر سنة 1406هـ
الموافق 14 من ديسمبر سنة 1985م
الباب الأول: مقدمات في العمل السياسي
تعريفه، حكم العمل السياسي، السياسة النبوية، سياسة الراشدين،
حال المسلمين بعد سقوط الخلافة، واقعنا اليوم، اختلاف الدعاة في العمل السياسي
تعريف:
المقصود بالسياسة في العرف والاصطلاح الشائع اليوم هو: (قيادة الناس والاهتمام بالأمور العامة، وشؤون الحكم، وعلاقات الدول بعضها ببعض).
أولاً: السياسة من صميم الدين:
ومما لا شك فيه أن موضوع السياسة من صميم الدين، ومن تكاليف رب العالمين لأمة خير الأنبياء والمرسلين. والأدلة على هذا أكثر من أن تحصر، بل هذا من المعلوم من الدين ضرورة، فكل مسلم لا يجوز له أن يجهل أن الإسلام قد جاء لإنشاء أمة، وإقامة نظام ودولة، تقيم العدل، وتحارب الكفر والفساد وتطبق الأحكام، ورسولنا صلى الله عليه وسلم لعله الرسول الوحيد بين الرسل الذي جمع في حياته بين مهمة الدعوة وواجبات الحكم والسيادة، فقد كان هادياً ومبشراً ونذيراً (كان هناك بعض الأنبياء ممن جمعوا بين ذلك كداود وسليمان، وأما الرسل فلم يتمكن رسول من الحكم الكامل والرسالة إلا نبينامحمد صلى الله عليه وسلم )، وكذلك قد كان حاكماً وقاضياً، وقائد جيش، بل قد جعله الله مرجعاً للمسلمين في كل شجار وخلاف، قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} ولم يجعل الله له مندوحة من ترك تطبيق أحكام الدين حيث يقول له: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} وأمره بتكوين الجيوش والخروج للغزو والقتال ولو بنفسه فقط حيث يقول له: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين} (سورة النساء:84).(54/42)
بل إن الله أمر المؤمنين ألا يغادروا أماكنهم إذا كانوا مع صلى الله عليه وسلم في أمر جامع غزوة أو غيرها إلا باستئذان كما قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه} (سورة النور:62)، وهذا بالطبع يتنافى تماماً مع القول بأن الرسول مبلغ فقط أو مجرد مرشد أو موجه بل هو قائد مسؤول محاسب أمام الله على تصرفاته في قيادته، ومما يدلك على هذا عتاب الله له لأنه أذن لمجموعة من المسلمين أو المنافقين استأذنته قبل أن يعرف عذرهم، وهل هم صادقون أم كاذبون. قال تعالى: {عفى الله عنك لم أذنت لهم حتى تعلم الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} (سورة التوبة:43) وكان هذا في غزوة تبوك.
والخلاصة أن النبي كان قائد أمة، وحاكم جماعة، وإمام دولة مع كونه نذيراً للعالمين، وبشيراً للمؤمنين، ومبلغاً للناس أجمعين، ولا شك أيضاً أن الرسو صلى الله عليه وسلم قد ترك الناس على هذا الأساس، أعني أنهم أمة قائمة بأمر الله، وأنه لا بد وأن يكون فيهم خليفة يقوم بالأمر من بعده، بل توفي الرسو صلى الله عليه وسلم وقد عقد راية لحرب الروم، وعين القائد على ذلك وهو "أسامة بن زيد" وكذلك أمر بإخراج اليهود من جزيرة العرب فقال: [أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب] (رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، انظر صحيح الجامع (231)).
وعين رسول ا صلى الله عليه وسلم من يؤم المسلمين بالصلاة بعده فقال: [مروا أبا بكر فليصل بالناس] (رواه البخاري وأحمد والترمذي وابن ماجة (صحيح الجامع (5742))، وكان هذا منه إعلاناً بأنه الإمام والخليفة بعده، لأن الصلاة هي ركن الدين الأعظم بعد التوحيد.
كل هذا يدلك على أن إقامة الأمة والدولة والحكم من صلب الدين ومن واجباته الأساسية ولذلك أجمع المسلمون على ذلك في كل عصورهم. وأنه يجب تولية إمام وخليفة وجاء القرآن بذلك، والسنة كذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم [من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية] (رواه مسلم)، وقال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} (سورة النساء:58)، والمقصود هنا أمانة الحكم.
ثانياً: هل مارس رسول الله العمل السياسي قبل الهجرة؟!
وقد يظن ظان أن الرسو صلى الله عليه وسلم لم يمارس العمل السياسي إلا بعد الهجرة وإقامة الدولة وهذا خطأ فاحش، لأن العمل السياسي أوسع من مفهوم الحكم، فقد بدأ صلى الله عليه وسلم منذ أول يوم لدعوته يدعو إلى عقيدة مغايرة للمعتقد السائد، ويجمع الناس حول هذا المعتقد، وهذا في حقيقته عمل سياسي حسب مفهوم الناس وعرفهم اليوم، وكذلك أوجد النبي الجماعة السرية، ثم الجماعة العلنية التي تدعو إلى تغيير نظم المجتمع، وعقيدته، وتستخدم كل وسائل الإعلام المتاحة من الاتصال الفردي، والخطبة، والمناداة، والمشاعر الخاصة، والحرب الإعلامية المضادة للفكر والعقيدة الجاهلية السائدة، وهذا كله عمل سياسي، وكذلك لجأ رسول ا صلى الله عليه وسلم إلى طلب الحماية والنصرة من بعض الكفار كما فعل مع نفر من أشراف الطائف (هم أخوة ثلاثة:عبد ياليل، ومسعود، وحبيب أبناء عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف) في "الطائف" والنجاشي في "الحبشة" حيث كتب له الرسو صلى الله عليه وسلم التماساً بأن يؤوي المسلمين الفارين بدينهم، وكذلك عاهد الرسول الأنصار بعد إسلامهم في "العقبة الثانية" على النصرة، وهذه كلها أعمال سياسية بالمفهوم المعاصر. وكل هذه الأمور صنعها الرسو صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر، وبهذا يتبين أن النبي مارس العمل السياسي بالمفهوم العصري لكلمة "سياسة"، ولكن بالطبع حسب الضوابط الشرعية، والسياسية الربانية الإلهية وليس بمسلك السياسة الجاهلية اللادينية.
بل إن أعداءه مارسوا معه أيضاً سياستهم الجاهلية، وتجبرهم وغطرستهم، فقاتلهم الرسول بسياسة الإسلام الربانية المثلى.
والخلاصة: أن الرسو صلى الله عليه وسلم في دعوته كان داعياً إلى الله نبياً ورسولاً. ممارساً للسياسة الربانية الإلهية.
ثالثاً: نتائج السياسة النبوية:
وكلنا يعلم اليوم النتائج الباهرة للسياسة النبوية الإسلامية، فقد استطاع في عشرين عاماً من دعوت صلى الله عليه وسلم أن يتغلب على جميع العقبات التي اعترضت طريقه، وقد تغلب على المشركين الذين ناوؤه وأخرجوه، وحاربوه، والمنافقين الذين تآمروا ضده، وأفرغوا وسعهم في تعويق حركته وشل رسالته، واليهود الذين حاربوه بالإشاعات والأكاذيب ثم بدسائسهم، ومؤامراتهم، وسيوفهم. وتغلب أيضاً على القبائل الجاهلية، والأعراب والانتهازيين. واستطاع أن يحدث انقلاباً لا مثيل له في التاريخ قط في عقيدة أمة فينقلها من الشرك إلى التوحيد، ويخلقها -بفضل الله- خلقاً آخر في الأخلاق والصفات والمسلك، والعقيدة، وأن يقضي على آفات عظيمة كانت تتهددهم، كالفرقة، والخمر والميسر والزنا ومئات الشرور الأخرى. وهذه شهادة (دائرة المعارف البريطانية) عن الآثار والنتائج المذهلة التي حققها الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته:(54/43)
"جاء محمد بدعوة جديدة هي دعوة الإسلام، وكان هذا الرسو صلى الله عليه وسلم أوفر الأنبياء والشخصيات الدينية حظاً من النجاح، فقد أنجز في عشرين عاماً في حياته ما عجزت عن إنجازه قرون من جهود المصلحين من اليهود والنصارى رغم السلطة الزمنية التي كانت تساند هؤلاء، ورغم أنه كان أمام الرسو صلى الله عليه وسلم تراث أجيال من الوثنية والخرافة والجهل والبغاء والربا والقمار ومعاقرة الخمر واضطهاد الضعفاء، والحروب الكثيرة بين القبائل العربية" أ.هـ (مادة قرآن: دائرة المعارف البريطانية).
بل وأن يهيئ هذه الأمة التي كانت بتلك المثابة لتكون خير أمة أخرجت للناس، وتخرج من هذه الجزيرة لتحطم عروش الطواغيت جميعاً، وتقيم أعظم أمة عرفتها الأرض على مدى ثلاثة عشر قرناً من الزمان بل على مدى الزمان كله إلى قيام الساعة عقيدة ومنهجاً وأخلاقاً وديناً.
ومثل هذا النجاح لا مثيل له في التاريخ قط، ولا شك أن ذلك كان بفضل الله أولاً ثم بالسياسة الحكيمة التي اتبعها الرسو صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وأعدائه.
ولا شك أن شرح السياسة النبوية أمر يطول. ولكن المهم هنا أن نذكر أن الرسو صلى الله عليه وسلم قد مارس سياسة شرعية كان من نتائجها هذا النجاح العظيم الذي شرحنا بعض أبعاده وآثاره.
رابعاً: السياسة في عهود الخلافة:
ومعلوم أن شؤون المسلمين السياسية تولاها الخلفاء بعد رسول ا صلى الله عليه وسلم خليفة إثر خليفة -قرباً وبعداً من الدين- وسياساته المثلى.
فكانت الخلافة الراشدة أعظم فترات التاريخ إشراقاً ثم "بنو أمية" و"بنو العباس" و"بنو أيوب" و"بنو عثمان" وغيرهم من حكم باسم الله، وتحت راية القرآن وسنة رسول الإسلام r.
ومعلوم أيضاً أن المسلمين حكاماً ومحكومين في كل هذه الفترات مارسوا السياسة الشرعية حسب مفاهيمهم واجتهاداتهم وكل ذلك في إطار التحاكم إلى الكتاب والسنة مرجعاً للجميع، وحاكماً على الإمام والرعية، وهادياً لكيفية التعامل مع غير المسلمين في أرض الإسلام والسلام، وفي أرض الكفر والحرب، وكان الجميع حكاماً ومحكومين يمارسون سياساتهم الشرعية أو التي ظنوها شرعية.
خامساً: الوضع الشاذ بعد سقوط الخلافة:
ولكن بعد سقوط آخر سلاطين (آل عثمان) (1345هـ/ 1927م) سقطت الخلافة الإسلامية التي استمرت ثلاثة عشر قرناً من الزمان. وقابل المسلمون بذلك في بلادهم الإسلامية أوضاعاً شاذة (الحق أن هذه الأوضاع الشاذة لم تبدأ بسقوط الخلافة وإنما بدأت بوقوع أقاليم العالم الإسلامي إقليماً بعد إقليم تحت سيطرة الاستعمار. فقد ابتدأ الاقتطاع من جسم الدول الإسلامية قبل سقوط الخلافة بكثير. ولكن المسلمين في كل إقليم كانوا يعللون أنفسهم أنهم ما زال لهم خلافة وسلطان) لم يكن لها شبيه طيلة القرون السابقة. وأهم أوجه الاختلاف ما بين الأوضاع المعاصرة والماضي ما يلي:
(1) قسمت أمة الإسلام إلى أقاليم جغرافية متعددة.
(2) كانت معظم هذه الأقاليم واقعة تحت سلطان العدو الكافر (انجلترا وفرنسا وإيطاليا، وهولندا، وروسيا).
(3) أقام الكفار في كل إقليم حكومة تابعة لهم من أهالي البلاد ممن يطيع أمرهم ويستطيع أن يضبط الأوضاع في بلده.
(4) بدأ الكفار باستبدال القوانين والنظم الإسلامية المطبقة في حياة الناس بقوانين ونظم كافرة من عندهم.
(5) عمد الكفار إلى تغيير مناهج التعليم لإخراج أجيال جديدة تؤمن بالمفهوم الغربي للحياة، وتعادي العقيدة والنهج والشريعة الإسلامية.
(6) ألغيت الخلافة الإسلامية نهائياً، وأصبح العمل لاستردادها والدعوة إليها جريمة يعاقب عليها القانون.
(7) تحولت مقدرات المسلمين، وأموالهم، وثرواتهم نهباً للمستعمر الكافر الذي استغلها أسوأ استغلال واستذل المسلمين أعظم الذل.
ومعلوم أن المسلمين في كل مكان جاهدوا لتغيير هذه الأوضاع، وثاروا على الاستعمار والكفار في كل مكان إلى أن تحقق الاستقلال السياسي لكثير من أقاليم العالم الإسلامي، ولكن هذا الاستعمار لم يخرج من بلاد المسلمين وأقاليمهم إلا بعد أن ترك واقعاً مغايراً للدين يستحيل تغييره إلا بجهاد طويل. وهذا الواقع المخالف للدين يتمثل فيما يأتي:
سادساً: واقعنا اليوم:
(1) قيام حكومات من أبناء المسلمين أنفسهم، يتكلمون بلغتنا، وهم من بني جلدتنا، ولكنهم ورثوا واقعاً خلفه الاستعمار يتمثل في النظم والقوانين الغربية، والأجيال التي ربيت وفق الثقافة والمنهج الغربي.
(2) الحكومات التي خلفها الاستعمار بوجه عام كانت قد صنعت على عين الاستعمار ووفق تربيته، ومناهجه، وميوله، وقد أصبحت مصالح الاستعمار ببقاء هذه الحكومات وهددت هذه الحكومات بالإزالة عند أي محاولة للتغيير والتوجه إلى الشريعة الإسلامية أو العودة إلى نظام الخلافة. هذا مع ارتباط مصالح هؤلاء الحكام أنفسهم بالبقاء بالحكم الذي جعل لهم امتيازات هائلة، وسلطات مطلقة يصعب التفكير في التنازل عنها. فضلاً عن التخلي عن شيء منها.(54/44)
(3) كان هم المستعمر الأول منذ وطئت قدماه أرض الوطن الإسلامي أن يعمل على تأصيل احتلاله، وتنفيذ مآربه ومخططاته في الحيلولة النهائية بين المسلمين والعودة إلى الدين من جديد، ولذلك فكر في وضع عقبات يصعب أو يستحيل إزالتها مع الزمان، تكون هذه العقبات حائلاً بين المسلمين والعودة إلى دينهم، وكان أعظم ما توصل إليه في ذلك، هو استبدال التشريع الإسلامي والقوانين الإسلامية، بدساتير وقوانين منقولة من دساتير وقوانين الكفار، وبذلك أقصيت الشريعة عن الحكم، وأعطيت مهمة التشريع لسلطة الحاكم الفرد، أو الحزب الحاكم، أو المجالس النيابية ولم تقيد سلطة التشريع هذه بكتاب أو سنة أو بمصادر التشريع الإسلامية فقط بل جعل التشريع من أي مصدر كان يستوي في هذا القرآن أو الإنجيل والتوراة أو القانون الإنجليزي والفرنسي، أو العرف والعادة أو أي مصدر من مصادر التشريع فالقرآن والسنة ليسا أكثر من مصدر من هذه المصادر لأفضل لهما على غيره. ومعلوم أن هذا هو الكفر بعينه لقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} (النساء:65)، ولقوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} (المائدة:49)، ولقوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} (البقرة:85) الآية.
(4) نظام اقتصادي يقوم على غير الإسلام، فإما نظام رأسمالي يبيح الربا، والامتيازات، ويسيء توزيع الثروة، ويقسم الناس إلى طبقات متفاوتة، وإما نظام شيوعي اشتراكي يهدر الطاقات، ويهدم الحافز، ويقتل كل إبداع، ويحرم الفرد من أهم حرياته وغاية وجوده.
(5) نظام تربوي يخرج أشباه المتعلمين ممن يتكلمون كثيراً ولا يفقهون إلا قليلاً، وممن يحملون شهادات عليا ولكن لا يمكن الاعتماد عليهم في دين أو دنيا وهكذا تعتمد البلاد الإسلامية اليوم في كل ميادين حياتها على خبراء من غير المسلمين حتى في النظافة والقضاء على الفئران والحشرات ناهيك بالبناء والصناعة والطرق، والحرب.. الخ.
(6) ازدواجية كاملة في الحياة حيث تعليم ديني ولا ديني، وقضاء شرعي، وقضاء مدني إسلام وكفر، ومطالبة بالشريعة، وعداء للشريعة، هذا إلى تخبط سياسي واقتصادي وتربوي واجتماعي لا مثيل له في كل دول العالم التي نجد فيها نسبة ما من التجانس والتقارب إلا في العالم الإسلامي حيث الاختلاف هو اختلاف الضد مع الضد.
هذا هو باختصار شديد الواقع الجديد الذي آلت إليه حال الأمة بعد سقوط الخلافة. وقد نشأ تبعاً لذلك التفكير في كيفية العمل السياسي والدعوة إلى الله في مثل هذه الأوضاع.
سابعاً: اختلاف الدعاة اليوم حول المفهوم السياسي:
وعندما نشأت هذه الأوضاع الشاذة اختلف المسلمون في العمل السياسي اختلافاً بيناً وكان اختلافهم في بعض نواحيه راجعاً إلى الاختلاف حول الحكم على الحكومات القائمة والحكام الموجودين: هل هم مسلمون أو كفار؟ فمن رأى أنهم كفار أفتى بأنه لا يجوز موالاتهم، ونصرهم، وطاعتهم، وتولي الولايات (الوظائف) لهم، وطلب الإذن بالدعوة منهم بل رأى أنه يجب حربهم والقضاء عليهم، وأنه يجوز بل يجب الخروج عليهم، بل اشتط بعض الناس فرأى أن توثيقهم لعقود الزواج والطلاق باطل كذلك، وأن الصلاة في مساجدهم التي يعينون لها الأئمة غير جائزة، لأنه لا يجوز للكافر أن يتولى مساجد المسلمين، أو يشرف عليها.
وطائفة أخرى من علماء المسلمين ودعاتهم رأوا أن هؤلاء الحكام وإن كانوا يحكمون بغير ما أنزل الله فهم مسلمون يصلى وراءهم، ويطاع أمرهم في غير معصية، ويقاتل معهم، ولا يجوز الخروج عليهم، ويطلب إذنهم وسماحهم في الدعوة والجهاد، وكل عمل سياسي.. الخ.
والحق أن في هذه المسألة تفصيل وقد شرحنا هذا التفصيل في مواضع كثيرة من كتابنا "فصول من السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله" و "الدعوة إلى الله".
والمهم هنا التذكير بأن دعاة الإسلام يختلفون اليوم حول كيفية الدعوة إلى الله اختلافاً بيناً. فمع إيمان الجميع تقريباً أن الإسلام نظام شامل للحياة كلها، وأنه لا فرق فيه بين العبادة والسياسة والمعاملة والأخلاق، وأنه لا يجوز الفصل بين أحكامه، إلا أن كثيرين يرون من الحكمة ترك الاشتغال بالسياسة إلى أقوال أخرى لعلماء ومرشدين وقادة كلها تدعو إلى الانخراط في كل عمل يعز الأمة وينصرها، وأن الإسلام لا يوجد فيه الفرق بين الدين والسياسة، ولا الدين والمعاملة، ولا الدين والأخلاق والنظم والقوانين. فالدين جاء لتنظيم الحياة كلها، والدعوة إلى الله لا بد وأن تكون بالوسائل المكافئة لوسائل الأعداء.(54/45)
والخلاصة: أن هناك في الدعوة الآن قولان رئيسيان: قول يرى وجوب قصر الدعوة إلى الله على الطرق القديمة التقليدية والوسائل السابقة كالخطبة والتأليف والاتصال الفردي، والدروس والمحاضرات، والمدارس والجامعات، ونحو ذلك، وقصر الدعوة كذلك في أبواب العلم والتوحيد والعبادة، والأخلاق وبعض المعاملات الخاصة. وقول آخر يرى وجوب استخدام الوسائل الحديثة كالحزب، والوظيفة القيادية، والأجهزة الحكومية والجمعيات، والنقابات، والاتحادات الطلابية والعمالية، والمهنية، ووسائل النشر الحديثة، كالمذياع، والتلفاز، والمجلة، والصحيفة. ولو أدى استخدام هذه الوسائل إلى الصراع مع أهل الباطل فكرياً وعملياً لأنه من المعلوم أن امتلاك مثل هذه الوسائل واستخدامها سيؤدي بالضرورة إلى الصدام الفكري والحركي والعملي مع الأحزاب والتنظيمات الأخرى والعقائد المضادة التي تحاول أيضاً هي بدورها الوصول والاستيلاء على هذه الوسائل، والتي تستطيع من خلالها التشريع، والتقنين، والتربية، وصبغ الشعب بالصبغة التي يريدون، وتوجيهه إلى المنهج الذي يحبون.
ولا شك أيضاً أنه يوجد بين هذين الرأيين الرئيسيين آراء أخرى منها: وجوب العزلة عن هذا المجتمع كلياً، وبناء مجتمع آخر بعيد عن هذه المجتمعات، ومنها: القول بأن الوسائل السلمية في الدعوة لا تجدي نفعاً وأنه لا بد من تحطيم المجتمع القائم بالقوة تمهيداً لقيام مجتمع آخر على أنقاضه.. إلى أقوال كثيرة ليس المجال مجال بسطها وشرحها. والرد عليها، وخاصة بعد أن أثبتت التجارب المريرة خيبتها الذريعة وجهلها المطبق.
ولذلك فلن نناقش هنا القول بالعزلة والخروج من المجتمع ولا القول بأن الوسائل السلمية لا تجدي نفعاً، وقد ناقشنا هذه الأقوال في مواطن أخرى.
وإنما سنهتم فقط بمناقشة القولين الرئيسين الأوليين وهما:
(أ) القول بأن الدعوة يجب أن تكون بالوسائل التقليدية السابقة وأنه لا يجوز أو لا يستحسن استخدام الوسائل الحديثة (الأحزاب، والجمعيات، والنقابات، والاتحادات.. الخ) وأن الدعوة يجب أيضاً أن تقتصر على تطهير المعتقد، وتصحيح العبادة، وتربية الأخلاق، والبعد بالنفس عن المعاملات المحرمة.
(ب) والقول الثاني الذي يرى وجوب استخدام كل وسيلة ما دام أنه لم يأت نص بتحريمها وسلوك كل طريق يؤدي إلى هدف من أهداف الدعوة كهداية الناس أو إقامة الحجة. أو نصر دين الله في الأرض، ونقل السلطان من أيدي الكفرة والظلمة والفسقة إلى أيدي المؤمنين.
وأنت إذا نظرت إلى كل قول من هذين القولين رأيت فيه جوانب من الصواب لا يجوز إغفالها وجوانب من الخطأ يجب التنبه إليها.
فالقول الأول: فيه من الصواب أنه يأمر بالتأني في تربية الجيل المسلم، وتنشئته نشأة صالحة طيبة، وتطهير عقيدته، وأخلاقه ومعاملاته، وتأخير الزج به في المعترك السياسي، الذي يكون من مستلزماته الظهور، والفتنة والغرور، وقسوة القلوب، والاستعانة بالحطمة من الناس، وطلاب الدنيا، ممن يحبون ركوب الموجة، وأن تحملهم الدعوة إلى المناصب والوجاهات، والمراكز ثم تكون الدعوة بعد ذلك في آخر أولوياتهم بل قد يتنكرون للدعوة عندما يصلون إلى مبتغاهم وأهدافهم، وهكذا تكون الدعوة سلماً لهم ومطية إلى أهدافهم. وكذلك قد يدخل ميدان الصراع والجهاد مع الباطل أناس من عامة الناس لم يتربوا على عقائد الدين وأخلاقه، فيمارسون صراعهم السياسي بأخلاق الجاهلية من كذب وغش وخيانة أمانة، ونقض عهد، وإخلاف وعد.. فيكونون بممارساتهم السيئة وأخلاقهم الردية دعاية سيئة للدين، وسبة على الإسلام والمسلمين، وتنفيراً عن رسالة رب العالمين. وقد يموت هؤلاء في جهاد وفتنة وهم بعد لم يصححوا عقيدتهم، ولم يؤمنوا الإيمان الواجب بربهم وإلههم، ولم يصححوا -أيضاً- عباداتهم، ومعاملاتهم فيموتون على شرك أو بدعة، أو ضلالة أو إثم.. وهم أمام الناس والعالم دعاة مجاهدون!!.
ثم إن من صواب "الرأي الأول" أيضاً أن المتعجلين للدخول في المعترك السياسي قد يدخلون بقوى صغيرة، وبمجموعات ناشئة غضة، لا تقوى على مواجهة قوى جاهلية متمرسة، حاقدة، فتكون النتيجة بالطبع إحباط هذه القوى الإسلامية الناشئة، وتشتيتها وتضييعها.. الخ.
ولا شك إن هذه انتقادات صحيحة، ومخاطر واقعة بالفعل، وليست متوهمة أو مظنونة ولكنها مع ذلك ليست دليلاً شرعياً على عدم جواز استخدام هذه الوسائل العصرية أو ما يسمى بالوسائل السياسية في الدعوة إلى الله. بل هذه محاذير يمكن تجاوزها، والاحتياط لها، والاستفادة من الثغرات والتجارب التي مر بها الآخرون في هذا السبيل، ولا يجوز بتاتاً أن تكون هذه المخاوف سبيلاً إلى ترك الساحة السياسية نهباً لأعداء الإسلام وحدهم، ومسرحاً ومراحاً لكل عقائد الكفر، وأن يبقى الإسلام بعيداً عن الاتصال بالناس والتأثير فيهم، وتوجيه مسارهم.(54/46)
ولا شك -أيضاً- أن من أخطاء المنهج الأول أنه يفرض أقوالاً في الدين لا دليل عليها كتحريم الجماعة والحزب، والجمعية، والنقابة.. الخ، ومثل هذه الأمور الأصل فيها الإباحة ولكنها تكون واجبة أحياناً كجماعة المسلمين، وجماعة الدعوة القادرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصورة فعالة من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، وقد تكون مستحبة كالجمعية والهيئة التي تتعاون على فتح جامعة أو مدرسة، أو نشر كتاب، ونحو ذلك. وقد تكون مباحة فقط إذا كان تجمعاً همه نفع دنيوي لأصحابه، ولا شك أيضاً أن هذه التجمعات قد تكون إثماً أو حراماً إذا كان تجمعها على باطل وشر وزور من باب قوله تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (المائدة:2).
ثم إن من أخطاء "المسلك الأول" تحجير الدين، وتأخير الإسلام والمسلمين، والإكتفاء بوسائل بدائية لحرب أعداء الدين، ففي الوقت الذي يحارب الكفار المسلمين بالمؤسسات والأحزاب والنقابات والجمعيات والهيئات والدول والأنظمة، ووسائل الإعلام الفتاكة المؤثرة نريد أن نحاربهم بالأعمال الفردية المتناثرة، وبتأليف رسالة، وخطبة جمعة.. الخ فيصبح الشأن كمن يريد أن يواجه الطائرة بالرمح، والدبابة بالحصان، والصاروخ بالقوس والنشاب.. الخ.
ولا شك أن هذه معركة خاسرة، وضلال في الفهم والعمل، وأنه مهما استخدمت هذه الوسائل التقليدية في الدعوة والجهاد فإنها يستحيل أن تؤدي إلى نصر الدين، وإعزاز المسلمين، وتحقيق أهداف الرسالة الإسلامية العظمى التي نص الله عليها بقوله: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً} (الفتح:28). فكيف يظهر الإسلام على الأديان كلها وهو لا يستخدم وسائل مكافئة وأساليب مناسبة للقضاء على الأديان الباطلة؟!.
ولكننا من خلال مناقشة الرأيين السالفين، وبيان جوانب الصواب والخطأ في كل منهما على وجه الإجمال لا التفصيل نحب هنا أن نضع (الضوابط الشرعية) التي يجب سلوكها والالتزام بها في أي عمل سياسي من أعمال الدعوة إلي الله.
الباب الثاني
الضوابط الشرعية في العمل السياسي الإسلامي
أولاً: لا تفريط في شيء من الحق:
الأصل الأول للسياسة الشرعية الإسلامية في مجال العمل السياسي أنه لا يجوز للمسلم أن يتنازل عن شيء من الحق، أو أن يخلط الدين الذي أنزله الله بباطل المشركين. وذلك أن الدين من الله -سبحانه وتعالى- وهو الحكيم فيما يشرع. وهذا يعني أنه كله حق وأنه لا يجوز اعتقاد نقصه أو خطئه. قال تعالى: {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} (المائدة:50) وقال تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} (الأنعام:121). وهذا بشأن تحليل "الميتة". وقال تعالى: {قل يا أيها الكافرون* لا أعبد ما تعبدون} (الكافرون:1-2) الآيات، وهذا عندما عرض الكفار على الرسو صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدوا إلهه سنة ثم ينظروا أي السنوات أعظم بركة وخيراً..!!
فعقيدة الدين لا يجوز خلطها بغيرها، وشريعة الإسلام لا يجوز كذلك خلطها بغيرها، والانتقاء منها حسب الهوى والمصلحة المزعومة. بل لا إسلام إلا لمن أسلم قلبه وعمله ووجهه لله -سبحانه وتعالى-.
ومعنى ذلك أنه لا يجوز تحت أي ظرف من الظروف التنازل الاعتقادي عن شيء من الدين والرضا القلبي بأن نأخذ من الإسلام ومن غيره. وأما الرضوخ والجبر لشيء مخالف من الدين، في ظرف من الظروف فهذا أمر آخر. كما جاء في "صلح الحديبية" مثلاً حيث قبل الرسو صلى الله عليه وسلم برد المسلمين إلى الكفار، مع ما فيه من قبول بالذل وإسلام المسلم لأعدائه. وقد قبل الرسو صلى الله عليه وسلم بذلك، لما كان في هذه الاتفاقية من بنود تتحقق معها عزة الإسلام مستقبلاً، كالسلم وفتح مكة أمام الدعوة الإسلامية، واعتراف قريش بأن للمسلمين دولتهم وكيانهم، ودينهم، وفتح المجال لدخول القبائل حلفاء للرسول وغير ذلك من أمور كانت في صالح المسلمين، وأما ذلك الشرط فإن الرسول أجاب عنه: بأن الله سيجعل للمسلمين المضطهدين بمكة فرجاً ومخرجاً. وقد كان.(54/47)
وليس المجال بيان المصالح العظيمة، والفتح الكبير في شروط "الحديبية"، ولكن المقصود هو التنبيه أن الرسو صلى الله عليه وسلم في هذا العمل السياسي قد رجح جانب المصالح العظيمة في هذا المصلح، ولا شك أن ذلك كان بوحي من الله -سبحانه وتعالى- والمهم أن هذا ولا شك للتشريع (أي الدائم)، ليستفيد المسلمون من ذلك في ظروف مشابهة.. وعلى كل حال ليس هذا من التنازل عن شيء من الحق لأن هذا ليس تغييراً للتشريع، ولا للأحكام لأن أصل النصرة ظل موجوداً في الدين، بل هو من أصول الإسلام كما قال صلى الله عليه وسلم [المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه] (متفق عليه). ومعنى يسلمه: يخلي بينه وبين أعدائه، وكما قال تعالى: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذي يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً} (النساء:75). فالآية آمرة بوجوب نصر المؤمنين إخوانهم ممن يعذبهم من الكفار ويستذلونهم. ولكن الله -سبحانه وتعالى- استثنى من هؤلاء من يكونون تحت كفار معاهدين للمسلمين. كما قال تعالى: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} (الأنفال:72).
ومن الأمثلة أيضاً عقد الرسو صلى الله عليه وسلم مع تميم أن يرجعوا برجالهم في (الخندق) ولهم ثلث ثمار المدينة. ومع أن الرسو صلى الله عليه وسلم كتب العهد بينه وبينهم ولم يوقعه إلا أن الأنصار رفضوا العهد وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، أهذا شيء أمرك الله به فنطيع أم شيء تحبه أم شيء تصنعه لنا؟! فقال: [بل رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فأحببت أن أنفس عنكم إلى حين] فقالوا: والله يا رسول الله لا نعطيهم إلا السيف!! (ذكره ابن اسحاق بالتحديث عن عاصم بن عمر عن الزهري إلى عينية ابن حصن، والحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان، انظر البداية ص104 ج4).
والمهم أن الرسو صلى الله عليه وسلم هم وشرع في إرضاء هؤلاء الكفار بضريبة عظيمة وذلك حتى ينفس عن المسلمين بعد أن رأى كل قوى الشر في الجزيرة: اليهود، وقريش، وغطفان، وتميم، قد اجتمعت عليهم دفعة واحدة.وأن همهم كان استئصال المسلمين، فأراد رسول ا صلى الله عليه وسلم دفع مفسدة أعظم بمفسدة أقل، فسار في هذا الصلح. وهذا يدل في التشريع على "جواز ارتكاب أخف الضررين"، و"دفع المفسدة العظمى بمفسدة أخرى أقل منها ضرراً".
ولكن الله برحمته وإحسانه برسوله تولى بنفسه الدفاع عن المسلمين حيث يقول: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها..} (الأحزاب:8) الآيات. وقال تعالى: {وكفى الله المؤمنين القتال} (الأحزاب:25) وظل المسلمون يرددون في هتافهم بعد ذلك: "الله أكبر، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده".
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً. والمهم البيان أن مثل هذه المواقف ليست تنازلاً عن عقيدة أو شريعة من الدين، ولكنها قبول بموقف تفرضه الظروف وتحتمه الملابسات، ومثل هذا ليس تبديلاً للدين، ولا تغييراً للتشريع، ولا رداً لأحكام الله، وإنما هو موقف يقابل فيه المسلم ظرفاً وضرورة.
ثانياً: لا تحريم لوسيلة إلا بنص أو استدلال شرعي صحيح:
يجب التفريق في الدين بين الحقيقة الثابتة، والوسائل المتغيرة، فعقائد الدين، وشرائعه، وعباداته، وأخلاقه، حقائق ثابتة لا يجوز فيها التغيير ولا التبديل، ولا الإضافة (البدعة) ولا الحذف.. الخ.
ولكن الوسائل تتغير فالقرآن مثلاً كلام الله حق ثابت محفوظ بحفظ الله وعنايته والمسلمون مأمورون بحفظه وصيانته من كل تحريف أو تغيير أو تبديل. ولكن وسائل نقل القرآن وتعهده، وحفظه ودراسته، وتدريسه متغير، فبعد أن كان صحائف متفرقة، وسوراً محفوظة في الصدور، جمع في عهد الراشدين في مصحف واحد، وبعد أن كان خطاً غير منقوط ولا مشكول، أعجم وقسم ووضعت له ضوابط كثيرة لتسهيل النطق به وتعلمه وحفظه. واستفاد المسلمون بعد ذلك من معطيات العصر، فطبع ثم سجل على أشرطة صوتية، ومرئية،.. الخ.
وهذا الباب يسمى بـ "المصالح المرسلة" وهو باب عظيم في "أصول الفقه" مفاده: أن كل أمر لم تأت الشريعة بإلغائه، أو بإيجابه، ورأينا فيه مصلحة ما جاز لنا فعله بشرطين:
(1) ألا يفوت ما هو أعظم منه مصلحة ونفعاً.
(2) ألا يؤدي إلى ضرر مماثل له أو أكبر منه.
وهذا الباب إذا استعملناه في مجال الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- والجهاد في سبيله وفق أصوله وشروطه فتح لنا أبواباً عظيمة في الدعوة، واستطعنا الاستفادة من معطيات العصر العظيمة، ووسائله المتقدمة كالصحف والإذاعة، والتلفاز، والجامعات، والمؤسسات، والجمعيات، والتجمعات، والأندية، والنقابات، والأحزاب.. الخ.(54/48)
فهذه المؤسسات الجديدة والوسائل المستحدثة ليست شراً في ذاتها، ولم يأت نص شرعي بإلغائها، ولا جاءت نصوص كذلك بوجوب الأخذ بها، فهي إذن من باب "المصلحة المرسلة". ولا شك أن بعضها يندرج تحت نصوص عامة كقوله تعالى مثلاً: {وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (المائدة:2).
وقد ذهب بعض الناس إلى عدم جواز استخدام الحزب السياسي، والجمعية الخيرية، والتجمع أو التكتل السياسي، والجمعيات الطلابية أو المهنية بحجج كثيرة منها:
(أ) أن في استخدام هذه الوسائل إقرار بالأنظمة القائمة وهي مخالفة للإسلام، وتقرير للتشريع الجاهلي، وطلب إذن للدعوة، ولا يجوز طلب الإذن لأن الله قد أمر المسلمين بذلك، وأوجب عليهم أن يدعو إلى سبيله، فلا معنى لطلب إذن من بشر كائناً من كان.
(ب) أن في هذه الوسائل مخالفة لهدي الرسو صلى الله عليه وسلم الذي ما دعا بهذه الطرق، ولا اتخذ هذه الوسائل.
(ج) ومنها: أن الدخول في هذه الوسائل واستخدام هذه المؤسسات يلزم منه ارتكاب مخالفات شرعية كثيرة.
(د) ومنها: أنه لم تتحقق مصالح شرعية من وراء استخدام هذه الوسائل بل تخلى كثير ممن استخدموها عن مبادئ الدين الأساسية، وعن كثير من أحكامه الشرعية.. الخ.
والجواب على هذه الحجج بما يلي:
(1) أولاً يجب الإقرار بأن هذه المؤسسات والوسائل ليست حراماً وإثماً بذاتها، بل هي مصالح مرسلة لم يأت نص شرعي بإلغائها. وهذه واحدة.
(2) ومنها: أن إقامة أحزاب أو جمعيات أو تجمعات في أي نظام "ديمقراطي" يسمح بتعدد الآراء والاتجاهات لا يعني بالضرورة إقرار المخالفين، ولا الرضا بما هم عليه من الباطل. وإنما يعني فقط الرضا بالطريق السلمي، والدعوة العلنية سبيلاً ومنهجاً للتغيير، والتخلي عن سياسة العنف والسرية. وهذا في حد ذاته محمود في الدين، بل الأصل في الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- هو السلم والإعلان، وأما السرية في الدعوة فإنما هي للحالات الإستثنائية، والظروف الشاذة التي يضطهد فيها المسلمون فلا يجدون مفراً عند ذلك من أن يبلغوا دعوة الله سراً. وأما القتال في الإسلام فله أصوله ومناهجه، وهو لا يجوز إلا بأمير معلن، وإنذار ودولة، وعلم وجهاد، وسياسة وصراط واضح جلي، أو في دفاع عن النفس وفق ضوابط وشروط خاصة كذلك وليس هذا مجال تفصيلها. وإنما المهم هنا بيان أن الطريق السلمي للدعوة هو الأساس، ولو أن الكفار لم يحاربوا رسول ا صلى الله عليه وسلم ما حاربهم، ولو سمحوا لدعوته أن تصل وتبلغ ما قام في وجوههم.. وهذا مع الكفار، فكيف مع المسلمين؟!.
وبالتالي فالنظام الذي يسمح للرأي المخالف أن يعلن، ويسمح للمسلمين بأن يؤلفوا حزباً لدعوتهم، أو جمعية لتحقيق بعض أهداف دينهم كنشر العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنشاء الجامعات والمدارس والمعاهد، والعناية باليتامى والمساكين.. الخ. أقول: النظام الذي يسمح بذلك يجب التمسك به والحرص عليه، لأن بديل هذا النظام هو الحكم الاستبدادي عسكرياً كان أو غيره وهذا يضطر المسلمين إلى الدعوة سراً، وفي هذا من العسر والمشقة ما فيه.
وإذا كان النظام "الديمقراطي" الحر يسمح كذلك لأعداء الدين، ومخالفي الإسلام بإظهار مخالفاتهم ومعتقداتهم، وآرائهم، وتغيير المجتمع بوسائلهم فإن الحق دائماً أقوى، والمسلمون في بلاد الإسلام بوجه عام يستندون إلى قاعدة عريضة من البشر وعقيدة قائمة في النفوس، وواقع طيب في كثير من جوانبه، ولا شك أنهم إذا استطاعوا أن يستخدموا إمكانياتهم بشكل طيب فإنهم سيصلون إلى أهدافهم في صبغ الحياة بصبغة الإسلام في وقت قليل جداً، ولكن المشكلة لا تكمن في النظام "الحر" هذا، وإنما تكمن في أن أعداء الإسلام دائماً وأبداً يقطعون الطريق على المسلمين عندما يقتربون من أهدافهم، ويقاربون الوصول إلى تطبيق الإسلام فتثور ثائرة أعداء الدين في داخل الوطن الإسلامي وخارجه، ويعمدون إلى تغيير النظام "الديمقراطي" الحر برمته وكليته ويلجؤون إلى الحكم الاستبدادي العسكري كما حدث في مصر، وتركيا، والسودان وأماكن كثيرة أخرى من العالم الإسلامي.
وللأسف فالنظام "الديمقراطي" يظل نظاماً مرضياً عنه ومرعياً من قبل أعداء الدين طالما أن الموجة لهم، والدولة معهم، والناس في ركابهم، ولكن يوم تتحول الموجة للدين، وينشط الدعاة إلى الله، وينصرف الناس عن الباطل إلى الحق، هنا يكشر أعداء الدين عن أنيابهم ويكفرون بالديمقراطية التي يتشدقون بالإيمان بها، وينقلبون فوراً إلى الاستبداد والتجبر.(54/49)
وهذا ديدنهم منذ الرسالات الأولى، ألا ترى أن "فرعون" سمح لـ "موسى" بمقابلته ومناظرته، وكان فيما قال له: {ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين* وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين..} وأن موسى رد برد أفحم فرعون وأسكته ثم سأل فرعون موسى عن ربه فأخبره وأقام عليه الحجة وأسكته، فلجأ فرعون رأساً إلى التسلط والتجبر، بعد هامش الحرية الذي سمح له لموسى. حيث قال له: {لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} (الشعراء:29). ثم لما أقام موسى له برهاناً آخر أعجزه وحيره وأقام حاشيته عليه. اضطر فرعون ثانية إلى التنازل عن السجن، وحشد ما حشد من سحرته وكهنته، ثم لما كانت الهزيمة الماحقة لفرعون وسقوط كل حججه وبراهينه عمد إلى القمع والتعذيب والنكال. فاتهم السحرة زوراً أنهم متآمرون وأنهم دبروا هذه المكيدة مع موسى، واستثار حب المواطنة عند قومه، فزعم أن هذه المؤامرة يراد بها إخراج المصريين من وطنهم، وإحلال بني إسرائيل والسحرة مكانهم.. وفي غمرة هذه الأكاذيب فعل ما فعل بالمؤمنين، ثم لما خرج موسى بقومه من مصر مكذباً بذلك دعايات فرعون، ما كان من فرعون إلا أن تعقبهم، وأراد اللحاق بهم إمعاناً في الانتصار لنفسه الذليلة وكرامته المجروحة، وألوهيته التي كذبتها الأحداث فأهلكه الله.
والشاهد من هذا الاستطراد هو بيان النظام الحر "الديمقراطي" الذي يعطي المسلمين نوعاً من الحرية لدعوتهم، لا شك أنه يستبدل فوراً ويلجأ أعداء الإسلام إلى العنف والتنكيل والظلم عندما يشعرون أن امتيازاتهم الظالمة، ومصالحهم الخسيسة، وشهواتهم الدنيئة قد هددت من قبل المسلمين، وأن أهل الإسلام أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من تطبيق الشريعة، وحينئذ يلجؤون إلى سلوك سبيل فرعون.
ومهما يكن من أمر فإن المسلمين مأمورون بالدعوة بكل حال، وحرية الدعوة أرفق بهم، وأحسن لهم، وأمكن لدعوتهم، ويجب على المسلمين الاستفادة من هامش الحرية المسموح به في أي دولة من دول العالم نشراً للدين، ودعوة إلى الله، فإذا ركب أعداء الله رؤوسهم ولجؤوا إلى أسلوب فرعون وسياساته فإن هذا لحكمة يريدها الله من البلاء والابتلاء، ولا بد في النهاية أن تحل لعنة الله بالمكذبين، وأن تكون العاقبة للمؤمنين الصالحين: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} (الأنبياء:105).
ونعود فنقول: إن الحزب السياسي، والجمعية الخيرية، والتجمع والنقابة والاتحاد، هذه المؤسسات التي يسمح بها النظام الحر (الديمقراطي) يجب على المسلمين المبادرة إليها، واتخاذها سبيلاً، وطريقاً لنشر دينهم وتمكين عقيدتهم، وتجميع قواهم، وتدريب وتعليم عناصرهم، بل يجب على المسلمين أن يسعوا إلى مثل هذا التشريع الذي يسمح بذلك لو كان النظام القائم لا يسمح له، لأن هذا حق من حقوقهم، بل واجب من واجباتهم، أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يكونوا جمعيات وجماعات، وأحزاب تدعو إلى الله وتنشر دينه، وتعلي كلمته.
ونستطيع أن نستدل من واقع السيرة النبوية جواز استصدار مثل هذه الجمعية أو الحزب أو حتى مجرد الأمان والعهد، والحماية لفرد أو مجموعة بأن تنشر الدين وتدعو إلى الله. وأن استصدار هذا التشريع جائز في ظل دولة كافرة قلباً وقالباً، فكيف بدولة تعلن الإسلام في بعض جوانب حياتها. ومما يدل على ذلك:-
* أن صلى الله عليه وسلم طلب من بعض الكفار الحماية ليتمكن من تبليغ دين الله بعد أن منعته قريش وآذته. فقد جاء في (الصحيحين) عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: [ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم أن عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت] (رواه الشيخان).
فإذا كان صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على كافر ليحميه حتى يبلغ رسالة ربه، فإذا جاز هذا فمن باب أولى -والله تعالى أعلم- أنه يجوز الحصول على إذن بالدعوة إلى الله، وتأسيس مؤسسة هدفها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر الدين والخير.
وقد يقول قائل: إن ما حدث للرسو صلى الله عليه وسلم كان شيئاً فرداً عابراً؟ وهذا خطأ أيضاً، ف صلى الله عليه وسلم ما فتئ في مكة يطلب من يحميه ليبلغ رسالة الله، فقد عرض نفسه كذلك على "الأخنس بن شريق"، و"سهيل بن عمرو"، فأبيا أن يجبراه ثم لما عرض نفسه على "المطعم بن عدي" أجابه لهذا، ومعلوم أن "المطعم بن عدي" مات مشركاً، ومع ذلك حفظ له الرسو صلى الله عليه وسلم جميله، وقال يوم أسارى بدر:
[لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له] (رواه البخاري وأحمد وأبو داود عن جبير بن مطعم، وهو في صحيح الجامع رقم: (5159)). ويعني الرسول بـ "النتنى": أسارى بدر.
ومن أجل ذلك رثى "حسان بن ثابت" "المطعم" بشعر بليغ كان منه:
فلو كان مجد مخلد اليوم واحدا من الناس نحى مجده اليوم مطعما
أجرت رسول الله منهم فأصبحوا عبادك ما لبى محل وأحرما(54/50)
فإذا جاز مثل ذلك في وقت ضعف من المسلمين فلا شك أنه جائز ما وجد هذا الضعف. ومعلوم ما آلت إليه حال المسلمين اليوم والتي أصبحوا يحتاجون معها إلى من يناصر دعوتهم، وقضيتهم، وإلى أي مظلة يحتمون بها، ويجتمعون تحتها، فإذا اتفق الناس -محقين أو مبطلين- أن كل أحد يجوز له أن يؤسس ما يشاء من تجمعات أو أحزاب أو جمعيات أو هيئات ليدعو إلى ما يريد، فلا شك أن المسلمين هم أولى الناس باقتناص هذه الفرصة، والاستفادة من هذه الفسحة، وسواء كان ذلك في ديار الإسلام أم في ديار الكفر. ولا شك أيضاً أن المؤسسات والهيئات الإسلامية التي أسست في ديار الكفر في أمريكا وأوروبا كانت ملجأ وملاذاً للمسلمين، وطريقاً لنشر الدعوة، ومحصناً للحفاظ على المغتربين. ولا شك أيضاً أن مثل هذا حصل للمسلمين. في عهد النبوة عندما لجأت طائفة منهم إلى بلاد الحبشة فراراً من ظلم قريش، وقد طلب الرسو صلى الله عليه وسلم بنفسه من النجاشي أن يضيف المسلمين ويقربهم، ويحسن جوارهم، وذلك حال كفر النجاشي، ثم دعاه الرسو صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم وكتم إسلامه عن قومه.. وقد كان المسلمون هناك مجتمعين على رئاسة جعفر بن أبي طالب بن عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا من الأدلة على جواز إنشاء تجمعات في ديار الكفر حال ضعف المسلمين وعدم وجود خلافة إسلامية تجمع شملهم وكذلك علي جواز طلب اللجوء، والحماية من الكافر، فكيف إذا كان المسلم مضطهداً بوطنه وطالب بحقه الشرعي بأن يؤسس جماعة، أو ينشئ حزباً يقر بوجوده الحاكم والمحكوم ويزاول نشاطه في الدعوة إلى الله بحرية ودون مصادرة، ومطالبة وإرهاق.
ولا شك أن هذا حق مشروع لكل مسلم، وأن المطالبة بذلك من أي دولة وحكومة كانت مقرة بالإسلام أو غير مقرة هو عمل شرعي لا يجوز حوله الخلاف.
ومعلوم أن بديل الإذن العلني بتكوين حزب وجماعة للدعوة، وتجمع على البر والخير هو الدعوة السرية، ولا خيار عند المسلم إذا منع من الدعوة علناً أن يدعو إلى الله سراً، وأن يؤسس ما شاء من أحزاب أو جماعات للدعوة إلى الله لأنه مأمور بذلك، وحيث أن أهداف الدين لا تتحقق إلا من خلال جماعة وتعاون وتعاضد، ولذلك فالجماعة واجبة لأن ما لا يتم الواجب إلا به يكون واجباً.
والخلاصة في هذا الصدد: أن أخذ الترخيص لحزب إسلامي أو جماعة أو جمعية للدعوة إلى الله حق مشروع للمسلم، ولا يضير المسلم أن يطلب هذا الحق ممن تولوا مقاليد الأمور في الحكم على أي صفة كانوا مقرين بالإسلام أو غير مقرين به أو كفاراً أصليين، وأن الدعوة إلى الله سراً إنما هي بديل للدعوة العلنية، وأن اللجوء إليها إنما هو في حالات الاستثناء والضرورة.
* وأما تحريم إنشاء الأحزاب السياسية، بدعوى أنه لم يتحصل للمسلمين نفع من ورائها، وأنه يخشى على الداخلين فيها أن يجرفهم تيار الحياة السياسية، وأن يفسدوا هم بدل أن يصلحوا غيرهم، فقول باطل أيضاً، لأن التجارب القليلة التي جرب بها المسلمون هذا الطريق قد أثبتت أن وراء ذلك منافع عظيمة: في إعلان إسم الإسلام، وإنكار المنكر، والأمر بالمعروف والدفع عن المسلمين، والقيام في وجه الباطل. وعدم تخلية الساحة السياسية للعقائد الفاسدة، ولولا تمالؤ الشرق والغرب على حرب الأحزاب الإسلامية، والتوجهات السياسية لرجالات الإسلام ووقوف الحكومات الاستبدادية في وجه هذا التوجه لكانت الدولة اليوم كلها للإسلام، ولكان الذين يتسلمون زمام الأمور في كل بلاد المسلمين هم رجال الدعوة والإسلام، ولكن في كل بلد إسلامي كان هم أعداء الإسلام الأول هو قتل الزعامات الإسلامية القادرة على قيادة الجماهير، وتوجيه الأمة ومحاولة تشويهها بكل سبيل، وقطع الطريق عليها، ومنذ سقوط الخلافة وإلى يومنا هذا تحاول معظم الحكومات جاهدة أن تحول بين المسلمين وبين سلوك هذا السبيل لأنها تعلم تمام العلم، وتوقن تمام اليقين أن قيام حزب إسلامي معناه توجه جماهير الأمة كلها إلى الدخول فيه ومساندته وبذلك تسقط كل الأحزاب، وتنهار كل العقائد والمبادئ الباطلة. ولذلك فإن حكومات السوء تعمل بكل جهدها ألا يقوم حزب علني في بلاد المسلمين يحمل شعار الإسلام ويدعو إلى الله لأن هذا معناه بروز قيادة إسلامية، ووصول الإسلام إلى سدة الحكم في سنوات معدودات.
* وللأسف أن الذين يفتون اليوم بعدم جواز الأحزاب السياسية الإسلامية يقدمون خدمة جليلة لأعداء الدين من حيث لا يدرون، لأنه بذلك يجعلون الدعوة إلى الله محصورة في إطار وسائل ضعيفة، ويظهرونها دائماً بمظهر الخارج على الشرعية والقانون، ويجعلونها تسلك الطرق الجانبية الخفية السرية، ويدعون الطريق الواسع اللاحب لأعداء الدين، ليقودوا الأمة، كما يريدون ويوجهوها إلى حيث يشاؤون.(54/51)
وأما أن بعض من اشتغل بالسياسة من الدعاة فتنته المظاهر، وتنازل عن بعض الحق، وجامل على حساب الدين، وباع شيئاً من دينه لإرضاء الناس. فالعيب في ذلك ليس في السبيل السياسي ولكن العيب في الأشخاص، وإلا فكثير من علماء الدين قد باعوا دينهم من أجل الدنيا، وأفتوا بما يرضي السلاطين، وأهواء الناس، وكتموا الحق إرضاءً للعامة وحفاظاً على مناصبهم، والعيب ولا شك ليس في المنصب الديني، ولا في المشيخة نفسها، وإنما هو في النفوس والقلوب والتربية السيئة.
ولا يخفى أن كثيراً من الدعاة المسلمين، خاض التجربة السياسية، وغشي الحكام ونصحهم في الله، وحاول تأسيس الأحزاب الإسلامية، وكان في كل ذلك مجاهداً صابراً محتسباً ملتزماً. بل المؤمن الحق لا يزيده العمل من أجل الله في أي ميدان من الميادين إلا قوة وعزيمة وإخلاصاً، ووفاءً لدينه، وحفاظاً على حدود الله -سبحانه وتعالى-.
وأما الجمعيات الدينية فلا ينكر فضلها إلا جاحد، فالجمعيات الدينية التي قامت بعد سقوط الخلافة قد جددت شباب الدين، وقامت بتربية الشباب المسلم والدعوة إلى الله، وبناء المساجد، والخدمة العامة في كل صورها تقريباً، وسدت الخلل الهائل بترك الحكومات للواجبات الدينية فقامت هي بهذه الواجبات ولولا أن الله قيض للدين هذه الجمعيات والمؤسسات الدينية الكثيرة لانتهى الإسلام من الأرض إلا قليلاً.
ولا شك أن الحزب "السياسي" هو مرحلة متقدمة -في العمل السياسي- من الجمعية الدينية، فالحزب السياسي يستطيع أن يقوم بما تقوم به الجمعيات الدينية مضافاً إلى ذلك المشاركة في صنع القرار السياسي أو الوصول إلى صنع القرار السياسي نفسه، وكذلك التشريع، ولا شك أن الحزب السياسي الإسلامي بما له من إمكانيات: إصدار الصحف وتأسيس الشعب، وإقامة المؤتمرات العامة، والدعوة إلى العضوية، وشرح برامجه الإصلاحية، وأهدافه، وعقيدته، يستطيع أن يحطم كل دعوة مخالفة، وأن يستحوذ على سواد الناس، وبالتالي أن يهيمن على القرار السياسي.
والخلاصة: أن هذا الأسلوب من أساليب الدعوة أسلوب تفرضه وقائع الحال، وضرورات العصر، وهو سبيل وإن لم يكن منطبقاً تماماً على الأسلوب النبوي، إلا أن له من الشواهد والأدلة في عصر النبوة ما يؤيده، ويثبت مشروعيته، والعبرة إنما هي في تحقيق أهداف الرسالة الإسلامية، والوصول إلى تطبيق شرع الله في الأرض وليست العبرة بالوسائل والكيفيات التي تخضع للظروف المتغيرة، والذين يفرضون نفس الوسائل النبوية في تحقيق الأهداف عليهم أن يقولوا بوجوب الدعوة السرية ثم العلنية، ثم الهجرة، ثم الدولة ثم الجهاد.. وهذا ما لا أعلم أحداً من أهل العلم يفتي به.. فلا شك أن هذه أساليب مشروعة لممارسة الرسول لها، ولكن قد يبدأ داع دعوته بالعلنية لا بالسرية ولا يكون بذلك مخالفاً نهج الرسو صلى الله عليه وسلم ، وقد لا يضطر إلى الهجرة من بلده إلى بلد آخر، وقد يضطر، وقد يستطيع إقامة الدولة الإسلامية وقد يموت دون تحقيق هذا الهدف، وقد يجد أنصاراً وقد لا يجد، وقد يتحول الحكام بأنفسهم إلى الدين بمجرد الدعوة، وقد يتحولون بتحول الشعوب وسواد الناس ويحكمون بالإسلام حفاظاً على مراكزهم وسلطاتهم، وقد يختارون العداوة للدين وأهله ويطول الامتحان بأهل الدين والدعوة.. فالظروف متغيرة، وبالتالي يجب أن تكون الوسائل متطورة متغيرة والمسلم الداعي عليه أن يسير في حدود المستطاع {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (البقرة:286) ولا يجوز رفض وسيلة مستطاعة بحجة أن الرسو صلى الله عليه وسلم لم يستعملها.
ثالثاً: المصالح والمفاسد هي الأساس والطريق للحكم على الوسائل:(54/52)
ولا شك أن طريق الحكم على وسيلة ما بأنها صالحة أو لا هو بمقدار ما تحققه من المصالح الشرعية، أو تخلقه من الأضرار والمفاسد. فالنظر في العواقب، وتدبر الأمور، وحساب الأرباح والخسائر الدينية، هو ما يجب النظر إليه، والتعويل عليه. بل إن الوسائل المشروعة نفسها في نشر الدعوة، وحرب الباطل لا يجوز الإقدام والإحجام عن شيء منها إلا بالنظر في العواقب، وحساب الأرباح والخسائر الدينية والشرعية، فالهجرة ليست مطلوبة لذاتها وكذلك الحرب ليست هدفاً في حد ذاتها، وإنما بما تحققانه من مصالح ومنافع للمسلمين كرد عدوان، وكسر عدوان، وفرار بالدين، وتفويت فرصة على الكافرين بخنق الدعوة، وإسكات صوتها، وهكذا تطلب الهجرة لمنافعها الشرعية، وتركب الحرب لآثارها الشرعية ومنافعها العظيمة وخيرها العميم، وما الشر الجزئي الذي يوجد في الحرب والهجرة، إلا تضحيات واجبة في سبيل منافع عظيمة، فهو من باب بذل القليل لحصول النفع الكثير. كما قال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (البقرة:216)، وقد أثبت سبحانه أن في القتال حياة للأمة الإسلامية ونشراً لعقيدتها وتمكيناً لها، وما الشهادة في سبيل الله إلا إتلاف للجزء من أجل حياة الكل وبذل القليل من أجل الحصول على الكثير ولذلك قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} (الأنفال:24)، وهذا في الدعوة إلى الجهاد، والقتال، فالقتال حياة وإن كان فيه موت وشهادة للبعض إلا أن فيه حياة للكل الباقي.
وهكذا يجب أن يكون النظر في كل خطوة من خطوات الدعوة، ووسيلة من وسائلها، وأسلوب من أساليبها.. كم يحقق من المنافع للأمة والدين والإسلام والمسلمين، وكم يحقق من المفاسد الشرعية، فإن كان النفع أعظم، والتضحيات والمفاسد أقل، كان العمل مشروعاً بل واجباً أحياناً، وأما إن كانت المفسدة أكبر والأضرار أعظم من المنافع فإن الواجب الاحجام. ومما يدلك على ذلك أن الرسو صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه في قتال قريش في بدر أو الرجوع دون قتال عندما علم أن الهدف الذي خرج من أجله وهو اللحوق بعير أبي سفيان قد فاته بهرب العير من طريق آخر، ومجيء قريش لاستنقاذ تجارتها، فاضطر الرسو صلى الله عليه وسلم لاستشارة أصحابه ولو كان الأمر مجرد قتال أيا كانت النتائج، وكأنه أمر تعبدي صرف لا دخل للنتائج فيه لما استشار الرسو صلى الله عليه وسلم أصحابه ولقال لهم: قاتلوا أيا كانت النتائج، بل إن الرسو صلى الله عليه وسلم استشارهم وكل منهم بدأ يزن الأمور، ويقابلها: هل يقاتلون أم لا حتى تحقق لهم برأي أغلبيتهم أن القتال أولى من الفرار، فسر الرسو صلى الله عليه وسلم بذلك. ومع ذلك أخذ الحيطة والحذر واستحسن رأي سعد بن معاذ الذي رأى ألا يباشر الرسو صلى الله عليه وسلم القتال بنفسه وأن يكون له عريش في مؤخرة الجيش وعنده ركائب جيدة يستطيع بها الرجوع إلى المدينة إن حصلت هزيمة للمسلمين، وذلك حفاظاً على شخص صلى الله عليه وسلم وخاصة أن هناك في المدينة مسلمون كثيرون لم يخرجوا في الغزوة لأن الرسو صلى الله عليه وسلم كان متعجلاً للخروج ولم يخرج معه إلا من كان ظهره حاضراً.
والشاهد من هذه الواقعة أنه يجب النظر في الأمور وتقدير العواقب، وحساب الأرباح والخسائر الشرعية قبل ركوب أي أمر من الأمور، والإقدام على أية وسيلة من الوسائل.(54/53)
وعندما نقول الأرباح والخسائر، والمصالح والمفاسد، فنحن نعني بالمصالح والمفاسد الشرعية، والأرباح والخسائر التي تمس الدين والعقيدة والمسلمين، ولا يجوز هنا النظر إلى أهواء النفوس ورغبات الدنيا، وإلا فالتكاليف الشرعية، وتكاليف الدعوة والجهاد خاصة تكرهها النفس كما قال تعالى في القتال: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} (البقرة:216)، فالقتال مكروه والسيف فتنة، والحرب للمسلمين سجال يدالون ويدال عليهم، {وتلك الأيام نداولها بين الناس} (آل عمران:140)، وفي الحرب من الخسائر ما فيها، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما فيه من تحمل الأذى، وحصول الضرر، وخاصة في هذه الأيام التي أصبحت كلمة الحق فيها شاقة متعبة، وقد يكون قول كلمة حق واحدة يكلف الداعي روحه، أو الخروج من وطنه وأهله وماله، أو مصادرة حريته، وإيداعه السجن السنوات الطوال.. لا شك أن الجهاد والدعوة في سبيل الدين أمر مر يحتاج إلى صبر وجلد وليس مما تهواه النفوس، ولا شك أيضاً أنه لا يجوز ترك ذلك إيثاراً للدعة والراحة، وركوناً إلى السلامة والعافية، ففي هذا ولا شك أعظم الضرر والفساد، وليس هذا من المصالح الشرعية بحال، بل هذا مجلبة لسخط الله، وزيادة الشر والفساد، واندحار أهل الدين، وظهور أمر الكافرين والمنافقين، ودوران الدائرة على أهل الصلاح، واستئصال الخير، وضياع الدنيا والآخرة. وأرجو بهذا التوضيح أن يكون قد ظهر ماذا نعني بالمفاسد والمصالح الشرعية: أنه ليس الحفاظ على الفئة المؤمنة ساكتة هادئة وادعة حيث لا جهاد ولا عمل، ولا محاربة للباطل وحيث يصول الباطل ويجول...، لا بد من التضحيات ولكن ليكون بهذه التضحيات مزيد خير وبركة للأمة الإسلامية، فبالتضحيات تشتد العزائم، ويظهر صدق الدعاة، ويتعاطف الناس مع أهل الدين، ويعلو كعبهم في المجتمع ويزداد شرفهم، وترتفع درجاتهم في الجنة، ولذلك فلا دعوة إلى الله بغير تضحيات، ولا دون شهداء، وآلام، ولا نصر دائماً، بل لا بد لأهل الدين من نصر يشجعهم، وهزيمة تصقلهم، ويشتد بها عودهم، ويتعلمون معها الصبر والعزيمة، وينتفي عنهم الغرور والخفة والطيش.
وتلك سنة الله في الدعوات والرسالات. فالمهم في هذا الصدد أنه لا بد من التدبر في كل أمر والنظر في عواقبه، وبذل الجهد للشورى فيه، وألا يصدر المسلمون في أي خطوة من خطواتهم إلا عن خطة مدروسة ورأي قد استشير فيه واستنار تماماً لسالكه ولا بد أن يكون الدعاة في كل ذلك، شجعاناً بلا تهور، ومقدامين بلا انزلاق، وحكماء فقهاء يلبسون لكل حالة لبوسها، ويقابلون كل مقام بما يناسبه، ويزنون أمورهم بكل عقل وروية.
وهكذا كان رسولهم وقائدهم r الذي كان يأخذ لكل أمر عدته وأهبته، ويستشير أصحابه، ويحارب حيث يرجى نفع الحرب، ويسالم حيث يكون السلم أفضل وأرفق، ويعاهد حيث يفيد العهد، ويوادع حيث تنفع الموداعة، ويقدم حيث يحسن الإقدام، ويحجم حيث يكون الإحجام هو الحكمة والعقل، ويبرم أموره سراً حيث يكون للسرية معنى، ويصدع بأموره حيث الصدع هو الأولى والأحرى والأفضل، وهو في كل ذلك النبي الحكيم المتوكل على الله في كل شؤونه المتبرئ من حوله وقوته، المسلم أموره لله، الذي ينتظر فرجه ورضوانه.
وهذا الصراط الذي يجب أن يسلكه الدعاة إلى الله.
رابعاً: النتائج بيد الله:
يجب أن نعتقد أن نتائج الدعوة هي بيد الله -سبحانه وتعالى- فهو الذي يشرح صدر من يشاء من عباده لدعوته، وهو الذي يعز جنده إذا شاء، ويمن على أوليائه بالنصر وقتما يريد، أو يؤخر ذلك لحكمة يشاؤها ويريدها كما قال تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (القصص:56)، وقوله: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} (الأنعام:125)، وقوله: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده} (آل عمران:160)، وقوله: {وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم} (الأنفال:10)، وقوله: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين} (الأنعام:35).
خامساً: الزمن جزء من العلاج:
يجب أن نعتقد أن الزمن أعظم معين للدعاة إن هم فهموه وعرفوا كيف يستغلونه، وكيف يجعلونه في صالحهم، وأنه كذلك قد ينقلب إلى سلاح ضدهم إن هم أساءوا فهمه واستغلاله. فبذرة الدعوة إذا تعوهدت بالسقي والحماية نمت وترعرعت وكانت الأيام لها عوناً وقوة حتى يأتي الوقت الذي تكون شجرة باسقة، ودوحة فينانة، وإن أهملت كانت الأيام وبالاً عليها حيث تذبل شيئاً فشيئاً ويقوى عدوها عليها يوماً بعد يوم حتى تموت، وقد شاء الله أن ينصر رسله حسب السنن الكونية في النماء والترعرع، قال تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين* ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون* وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه..} (القصص:2-4).(54/54)
والشاهد أن الله قص علينا كيف طغى فرعون وتكبر وملأ الأرض فساداً ثم بين أنه لإزالة هذا الفساد بدأ وضع بذرة الخير في مولود يولد ثم يتعرض لأصناف من البلاء والفتون ثم يعود ليكون المخلص في سلسلة متأنية من الأحداث تربي الفئة المؤمنة وتمحصها وتخلصها في النهاية حسب إرادة الله. وقد كان الزمن والأيام في كل ذلك هو طريق الخلاص {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} (الأعراف:128).. وقال له قومه {أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} (الأعراف:129-130)، ولقد قال رسولنا ما يشبه ذلك عندما قال لخباب: [ليوشك أن تخرج الظعينة من صنعاء اليمن إلى بصرى الشام لا تخاف إلا الله] (رواه البخاري ومسلم).
وأبلغ شاهد على ذلك قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه} وذكر صفتهم ثم قال عز وجل: {مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار} الآية (الفتح:29).
فإذا ألقينا بذرة الدعوة وتعهدناها، وصبرنا عليها وجعلنا الأيام في صالحنا، حيث نضيف كل يوم عضواً جديداً إلى معسكر الإسلام، ويفقد معسكر الكفر كل يوم عضواً، عند ذلك تكون العاقبة للمتقين، فلنكن زراعاً مهرة، ولتكن الأيام والزمن أعظم حليف لنا، وحذار أن تكون في صالح عدونا حيث نهمل دعوتنا، ونترك غرستنا فتكون النهاية علينا.
سادساً: نحن نضرب بسيف الله:
المؤمن إذا أخلص النية وأصلح القصد، وتحرى الصواب، وأفرغ الوسع، فإنه يضرب بسيف الله، ويتكلم بنور الله وكلمته، قال تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} (الأنبياء:18)، وهذا الحق هو ما ينطق به الرسل وأتباعهم. وقال تعالى: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت ولكن الله رمى..} (الأنفال:17)، والحال أن الذين قتلوا في بدر من المشركين قتلوا بسيوف في أيدي المؤمنين من الأنصار المهاجرين ولكن هؤلاء كانوا يضربون بسيف الله ويقتلون بأمر الله ومشيئته. بل كانوا هم سيف الله وقدره ومشيئته، وأمره الشرعي والكوني القدري.
وهكذا أهل الإيمان في كل عصر ومصر إذا أفرغوا الجهد وأخلصوا النية، وقاموا لله كانوا هم مشيئة الله وقدره. كما قال تعالى: {ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون* وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..} الآية (الأنفال:59-60). فأخبر أن الكفار لا يعجزوه وبين أنه يقتلهم بأيدي المؤمنين، ولذلك أمر أهل الإيمان بالاستعداد لهم.
سابعاً: لا راية مع راية التوحيد:
لا يجوز مطلقاً لأهل التوحيد والإيمان أن يرفعوا راية أخرى مع راية التوحيد، وهذا يعني أنه لا يجوز بتاتاً الانصهار أو الاندماج أو تكوين صف واحد مع أحزاب أو هيئات ترفع راية وعلماً ولهم أهداف في الحياة تخالف هدف الإسلام كالشيوعية والبعثية ونحوها من الأحزاب الإلحادية اللادينية أو التي يسيرها ملاحدة لا دينيون أو مشركون وثنيون من أهل التصوف والتخريف بل يجب على أهل الإسلام والتوحيد أن يرفعوا رايتهم المستقلة ولو لم يكن تحتها إلا رجل واحد، وإن يعلنوا عقيدتهم المستقلة ولو لم يكن لهم أنصار قط، وحسبهم الله معيناً وناصراً سبحانه وذلك أنه إن حصل إندماج أو تعاون وحلف يتوازى فيه التوحيد والشرك، والإيمان والكفر فإنه لا بد أولا وأن يحصل تنازل عن بعض الحق، ثم أن نتغاضى عن بعض الباطل بل قد نؤيده ونعلي مناره، ثم لا بد من الانفصال في نهاية المطاف لأنه سيكون أشبه برجل يتزوج امرأة وكل منهما طامع في ثروة الآخر، وطامع في أن يرث ماله فكيف تتصور الحياة الزوجية، لا شك أن كلاً منهما سيكذب على الآخر، ويحاول خيانته في ماله، ويتمنى موته قبل نفسه، وقد يقتله إن سمحت له الظروف لينفرد بتركته وهذا ما يحدث غالباً في اتحاد الأحزاب الإسلامية مع غيرها من الأحزاب التي تقدم على عقيدة مضادة للإسلام، فهي تريد أن تنشر الكفر لتعيش وتبقى ويبقى جمهورها، والإسلاميون حريصون على نشر الإسلام لتتوسع قاعدتهم، وكل منهم يحاول خداع الآخر وسبقه، ولا بد وأن يأتي الإنفصام، وكثير ما يستغل المسلمون، ويكونون مطية لهؤلاء المخادعين لأن أهل الأحزاب الأرضية الكافرة أقدر على الكذب والمناورة، واللف والدوران، والغاية عندهم تبرر كل وسيلة ولو كانت خسيسة دنيئة، والخيانة تجري في دمائهم باسم السياسة، ولذلك فالحذر أن نرفع مع راية التوحيد راية أخرى للشرك والكفر والوثنية والإلحاد أو أن نكون مطايا لأهل الباطل ليصلوا إلى باطلهم وزورهم.
ثامناً: إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر:(54/55)
لا يجوز أن يكون نصر الدين قاصراً على المخلصين المؤمنين بل الله -سبحانه وتعالى- ينصر دينه بمن يشاء، ويؤيد دعوته بمن يريد، وقد يكون فيمن يؤيد الله بهم دعوته مؤمنون صالحون لهم أجرهم عند الله، وكذلك قد يوجد فيهم، فجار وكفرة يستعملهم الله لخدمة هذا الدين، ولا يكون لهم مثقال ذرة من أجر يوم القيامة. وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم [إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر] (رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة)، وفي رواية: [وبأقوام لا خلاق لهم] أي لا نصيب لهم من الأجر يوم القيامة، وقد قال هذا بمناسبة أن رجلاً قاتل مع المسلمين -بشجاعة- في أحد وأبلى في الكفار بلاءً حسناً، ولكن الرسول شهد له بأنه من أهل النار. والعبرة ولا شك بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقد يكون من الكفار والفجار أناس يخدمون الإسلام خدمة عظيمة جليلة في رد عدوان، أو حماية مسلم، أو رفع ظلم عن المسلمين، أو نشر القرآن، أو طبع كتب أو كسر شوكة الكفار، ويكونون في كل ذلك غير مخلصين في عملهم، مبتغين غير وجه الله بجهادهم، أو غير مؤمنين بالإسلام أصلاً، وقد يكون بعض هؤلاء مناصراً للمسلمين لبعض منافعه الخاصة، فكثير من النصارى انضم إلى المسلمين -يقيناً منهم- أن منفعتهم في أن يكونوا في صف المسلمين، أو جاهدوا مع المسلمين عصبية لعربية أو وطن، وكان لجهادهم هذا أثر بالغ في نصر الدين، وإعزاز رسالة رب العالمين، ومثل هؤلاء لا يجوز بتاتاً صرفهم عن نصرة الدين، ولا رفض جهادهم ونصرتهم ما داموا أنهم متبرعون بها، قائمون بها من عند أنفسهم. أقول هذا لأننا سنجد كثيرين ممن يتطوعون بأنفسهم لنصرة الدين، لا رغبة في الدين نفسه، ولا إخلاصاً للعمل لوجه الله، ولكن لأن مصالحهم الدنيوية قد ترتبط مع انتصار الإسلام، أو لأن ظروفهم وارتباطاتهم تضعهم كذلك، وقد يكون هذا منهم اختياراً لأقل الضررين، وقد حدث هذا كثيراً في السيرة والتاريخ. ف صلى الله عليه وسلم لم يرفض نصرة عمه أبي طالب، وكان قد مات على دينه، ولقد انتصر الإسلام بمن شقق الصحيفة التي كتب بها المشركون مقاطعة بني هاشم، والذين شققوها هم من الكفار أنفسهم. وكذلك قاتل في أحد من كان مصيره النار. وقال فيه الرسول: [إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم]. وخرج منافقون كثيرون في الغزو مع الرسول وما كان رسول الله ليشق بطونهم، ويفتش عن خبيئاتهم، ويرجع من لا يظهر الإخلاص منه، وكذلك تحالف الرسول مع "خزاعة" وهم كفار بعد صلح الحديبية، ونصرهم عندما اعتدت عليهم "بكر" وهم حلفاء "قريش"، وكذلك وقف بعض نصارى العرب مع المسلمين في حرب "الفرس"، انتصاراً للعرب، وحمية لقومهم، ومثل هذا لا يجوز للمسلمين رفضه مطلقاً، بل من سار منهم مختاراً في ركب الدين، وأراد أن ينصر رسالة رب العالمين، وينضوي تحت لواء المسلمين، ويحارب في صف المؤمنين فإنه لا يمنع من ذلك، ولا يحال بينه وبين ما أراد من نصر الدين، بدعوى أنه غير مخلص أو أنه لا أجر له عند الله، أو أنه كافر أو فاجر لا خلاق له في الآخرة. فإن الله -سبحانه وتعالى- ينصر دينه بمن يريد، ويسخر عباده كما يشاء، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، وقد يدفع الله عن المؤمنين بالكافرين، وقد ينصر الله المؤمنين بأن يسلط الكفار بعضهم على بعض والحكم لله أولاً وأخيراً وبالطبع لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم [اذهب فإني لا أستعين بمشرك] (متفق عليه). لأن ذلك رجل جاء يشترط على الرسول أن يحارب معه ويقتسم معه في المغنم لأن هذا يرفع راية مع راية الرسول ويجعل من المسلمين الخارجين للغزو وكأنهم جماعة تريد الغنيمة، وتقطع الطريق وتستعين بالانتهازيين وطلاب الدنيا، والفرق هائل بين هذا وهذا وبين ما قررناه -آنفاً- من شخص أو أشخاص يتطوعون بأنفسهم لنصر الدين، ويحاربون تحت راية المسلمين ولا يشترطون على المسلمين شيئاً يناقض أهدافهم، أو يرفعون مع راية الإسلام راية ثانية. وشتان بين هذا وهذا، وعلى كل حال فالحديث هذا إن قلنا أن العبرة بعموم لفظه فهو مخصص بمخصصات كثيرة: فقد استعار رسول ا صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية أدراعه وهو كافر وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم [بل هو عارية مضمونة مستردة] (رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي). واستعان بخريت (عارف بالطريق) من "بني الديل" ليدله على الطريق من مكة إلى المدينة، وفدى أسرى "بدر" بتعليم أبناء المسلمين للقراءة والكتابة.. الخ. ومثل هذه مخصصات كثيرة عند من يقول: إن هذا داخل في باب (الاستعانة)، وإلا فحديث [اذهب فإنا لا نستعين بمشرك] إنما هو في مثل تلك الحالة التي جاء فيها هذا الأعرابي يعرض على صلى الله عليه وسلم أن يشاركه الغزو، ويقاسمه الغنيمة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم [اذهب فإنا لا نستعين بمشرك] وذلك بعد أن عرض الرسول عليه الإسلام فرفض. ولو قبله الرسو صلى الله عليه وسلم بمثل هذا العرض الذي عرضه لكان هذا قدحاً في الجهاد الإسلامي ولكانت صورته صورة غزو من أجل المغنم وليس الأمر كذلك، فإن للمسلمين(54/56)
رسالة وهدفاً، وكذلك لا يناقض هذا الحديث تحالف رسول ا صلى الله عليه وسلم مع قبيلة "خزاعة" ضد "قريش" و"بكر" فإن صلى الله عليه وسلم كان بهذا يمثل جبهة سياسية في مقابل جبهة أخرى، وكان لا بد للرسول من أن يقبل من ينضم إليه، وينضوي تحت لوائه، ويطلب حمايته، ولو كان هذا الطالب من الكفار ما دام أنه آثر الانضمام والالتجاء إلى أهل الإسلام، والقتال تحت رايتهم، واللياذ بهم.
وفي هذه المسألة تفصيل ليس هنا مكان شرحه وبسطه، والمهم الآن هو بيان أن جبهة الإسلام في مقابلة الكفر لا يشترط أن تكون إسلامية خالصة بل إن كان من آثر أن يكون في جانب المسلمين فإنه لا يدفع ويطرد بل يقبل وينصر، ويدافع عنه، ما دام أنه قد آثر صف المسلمين، وأحب نصرهم، واختارهم على غيرهم.
ومثل هؤلاء ليس من الدين بل ولا العقل والمنطق أن يطردوا ويزجروا، ويمنعوا من الوقوف في صف المسلمين، ونصرهم للدين، مهما كانت نياتهم وأغراضهم، اللهم إلا أن يكونوا عملاء للكفر مدسوسين في صف المسلمين، فهؤلاء شأنهم شأن آخر يجب الحذر منهم وعدم اتخاذههم بطانة، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} (آل عمران:18).
ولا شك أن هناك فرقاً شاسعاً بين من يلوذ بالمسلمين محباً لهم راغباً في نصرهم وإن كان على غير دينهم وملتهم، وبين من يلجأ إلى المسلمين مريداً فتنتهم، وشق صفوفهم والتطلع على عوراتهم.. ولا شك أنه لا يخفى حال هذا وهذا الواجب هو الحذر والحرص ووضع كل أمر في نصابه، وعدم الحكم على الصنفين بحكم واحد، وجعل كل من ليس مسلماً على نمط وشكل واحد، فإن هذا ينافي السياسات الشرعية بل الحكمة والعقل.
تاسعاً: قنوات الاتصال يجب أن تكون مفتوحة مع الجميع:
شاع عند المسلمين في الآونة الآخيرة، وعند الدعاة منهم والمتحمسين للدين بصورة خاصة أنه لا يجوز الاتصال مطلقاً بالكفار أعني بالجهات السياسية منهم، وهم يتصورون أنه في ظل دولة إسلامية لا تكون علاقة دولة إسلامية مع الكفار إلا عن طريق الحرب فقط، وأنه ليس هناك لقاء مطلقاً، وهذا خطأ بالغ وجهل بالسيرة والتاريخ والسياسة الشرعية في التعامل مع غير المسلمين، فالرسو صلى الله عليه وسلم كانت قنوات الاتصال بينه وبين الكفار على اختلاف أشكالهم قائمة، فقد جلس مع اليهود وجادلهم، وناقشهم، وعاهدهم، ثم حاربهم لما نقضوا عهده، وانتصر على بعضهم ثم عاهدهم كما حدث مع يهود خيبر، حيث أقرهم الرسول في خيبر وشارطهم على نصف ثمارها.. وكان الاتصال بهم دائماً في حدود ما شورطوا عليه، وكذلك فعل الرسول مع النصارى، ناقشهم واستضاف بعضهم وأمنهم على أنفسهم كما حدث مع "عدي بن حاتم الطائي"، ودعاه للإسلام، وكذلك ناقش نصارى "نجران" وعاهدهم وصالحهم، وكذلك مع جميع أصناف المشركين في الجزيرة: وادع بعضهم، وعاهد آخرين، وحارب بعضاً منهم ممن آثروا حربه، ووضع الحرب بينه وبينهم كما فعل مع "قريش" في "الحديبية"، ثم حاربهم عندما نقضوا عهده، ثم عفا عنهم وهم ما زالوا على كفرهم بعد أن انتصر عليهم.
وكذلك فتح الرسو صلى الله عليه وسلم قنوات الاتصال مع كل ملوك الأرض في الجزيرة العربية وخارجها يدعو ويعظ ويرسل الرسل، ويستقبل رسلهم، ويكرمهم على كفرهم وبقائهم على دينهم، ويؤمنهم في أرض الإسلام، ويقبل هدايا الملوك التي يرسلونها له وهم على كفرهم، ولا شك أن طائفة عظيمة جداً من الدعاة اليوم يجهلون أموراً كثيرة من ذلك، وإن قرأوها في السيرة لا يدركون معانيها، بل إن كثيراً منهم ليظن أن مجرد لقاء بين مسلم ويهودي، أو مسلم ونصراني، أو قبول هدية، أو عقد مناظرة، أن كل ذلك يناقض الدين، بل قد يتهم من يفعل ذلك بالمروق والكفر والعمالة والخيانة.. الخ، والحق أن الاتصال السياسي في نفسه بين أي مجموعة أو جماعة أو حكومة إسلامية، وبين كفار ليس إثماً في ذاته ولا كفراً ولا مروقاً ولا عمالة وإنما المهم ما يقال وما يتفق عليه، وما يتم من عهود ومواثيق، وما يتوصل إليه من نتائج.
ولا يتصور مطلقاً أن تكون هناك هيئة سياسية إسلامية ولا علاقة بينها وبين غير المسلمين إلا القتال، بل إن القتال نفسه لا بد فيه من إنذار ورسل، وإستقبال رسل منهم، ودعوة إلى الإسلام.. وقبول بالعهد، والسلم، إن كان هذا في صالح الجماعة المسلمة، فكيف إذا كان اللقاء مع فئة غير إسلامية من أجل دعوة، أو تسوية مشكلة، أو تعاون على بر، أو مناظرة حول قضية مختلف فيها، أو تشاور فيما ينفع الطرفين.. ونحو ذلك.
إن اللقاء بين مسلمين وكافرين، أو مخالفين، مهما كان خلافهم ليس إثماً في ذاته ولا يدان به شخص وإنما الاثم حقاً، والإدانة: أن يكون هناك اتفاق ضد مصلحة المسلمين، أو تعاون على الإثم والعدوان، أو تفريط في عقيدة حقة، أو إقرار لعقيدة باطلة ونحو ذلك.(54/57)
ومن أجل هذا يجب على الدعاة إلى الله أن ينفتحوا على الجميع ويحاوروا الناس كافة، وتكون قنوات اتصالهم دائماً مفتوحة مع كل الأطراف، وكل الاتجاهات مع التزامهم جانب الحق، ووقوفهم مع عقيدتهم ودفاعهم عن دينهم، وألا يبرموا قراراً، أو يعطوا عهداً إلا إذا كان فيه مصلحة لعقيدتهم ودينهم، وتمكيناً لهم.
إن انفتاح المسلمين هكذا على الجميع، ومحاورتهم لكل مخالف، ودعوتهم الناس كافة إلى الحق، وتمسكهم به، وتقديرهم لمصالحهم الشرعية، وتحالفهم مع غيرهم، حيث يكون في التحالف قوة لهم، ورفضهم التحالف مع غيرهم حيث يكون على حساب دعوتهم وعقيدتهم، واهتدائهم في كل ذلك بسيرة نبيهم، وخلفائه الراشدين، واستفادتهم بعبر التاريخ، وسير الأحداث، سينتهي بهم ولا شك بالتمكين في الأرض، وإعلاء عقيدتهم ودينهم، ولكن انغلاق المسلمين عن الناس وعدم معرفتهم بهم، وظنهم أن الجميع أعداء لهم، وأن كل من يخالفهم في العقيدة فلا يجوز الجلوس معه، ولا التحدث إليه.. إن مثل هذا مدمر للدعوة الإسلامية مزيح لها عن صدر الحياة، وقيادة الناس، والتأثير في الأحداث، بل سيؤدي في النهاية إلى عزل الدين عن واقع الحياة، ووضعه في مسجد أو مدرسة دينية، وترك مجرى الحياة لغير المسلمين، فحذار ثم حذار من أفكار الجهالة التي انطلقت هنا وهناك التي تجعل مجرد اقتراب المسلم من غير المسلم كفراً وإثماً وفجوراً.
إن المطلوب هو ألا تخلط عقيدة الإسلام بغيرها، وألا تتحالف مع كفار ضد المسلمين، وألا نركن إلى الظالمين وننسى عقيدتنا وإسلامنا، أما أن نلتقي مع أي أحد ونعلن ديننا، ولا نتنازل عن عقيدتنا، وننظر ما يصلح لنا ويعلي من شأننا فنستعمله، وما يفسد ديننا ودنيانا فنتجنبه فهذا مما لا شك في حله بل في وجوبه.
عاشراً: إدراك أبعاد الخريطة السياسية:
يجب على أي مجموعة إسلامية أن تمارس الدعوة إلى الله بجميع أبعادها، وقد علمنا أن البعد السياسي هو أحد أبعاد الدعوة إلى الله، بل عمل الدعوة في أصله ونتائجه عمل سياسي..
أقول: يجب على كل مجموعة وهيئة وجماعة تمارس الدعوة بهذا المفهوم الواسع لمعنى "الدعوة" أن تدرس جيداً "الخريطة السياسية" وخاصة في المنطقة التي تعيش فيها، والتي تحيط بها.
ونعني بـ "الخريطة السياسية": دراسة التكتلات والجماعات والأفكار والعقائد التي تحيط بها، وكيفية عمل وحركة هذه التكتلات والجماعات والقوى المختلفة، وما مدى قربها وبعدها من الدين، وما مدى عداوتها ونصرتها له، وأيهما أخطر على الدين وأشد عداوة، وأيهما أقرب، وأيهما خطراً وضرراً، وعلى أساس هذه الدراسة الواعية الذكية تكون الحركة، والتوجه، ويكون العمل السياسي ناجحاً.. ألا ترى أن الله -سبحانه وتعالى- قد عرف المسلمين تعريفاً تفصيلياً بأعدائهم الذين يحيطون بهم، وبكيفية التعامل معهم، تقرأ مثلاً قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً} (النساء:44-45)، فالله سبحانه وتعالى هنا يعلم المسلمين بكيد اليهود، وأنهم لضلالهم يعملون لإضلال المسلمين كذلك، وأنه لا يجوز للمسلمين أن يغتروا بظاهر تدينهم لأن الله أعلم بأعداء المسلمين من المسلمين أنفسهم، ثم يفصل الله نفسية اليهود، وأهدافهم وعقائدهم، وما ينوون فعله مع المسلمين، ثم طريقة التعامل معهم.
وكذلك فعل الله في تعريف المسلمين بالمنافقين، وخصائصهم وأعمالهم، وطريقة كيدهم لأهل الإسلام. ثم الأعراب الجاهليين، وأن منهم صالحون محبون للدين، ومنهم انتهازيون يتربصون بالمسلمين الدوائر.. قال تعالى: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} (التوبة:101)، وقال تعالى: {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم} (التوبة:98)، وقال سبحانه وتعالى: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم} (التوبة:99)، وكذلك أعلم الله رسوله والمؤمنين بشأن مشركي العرب وحميتهم وجاهليتهم، وكيفية التعامل معهم، وكذلك النصارى، ودينهم وجهالاتهم وضلالاتهم، ونفسية رهبانهم وقساوستهم، وكيفية التعامل معهم.(54/58)
ولقد كان من الرعيل الأول من المسلمين من سبر غور الأمم والشعوب، وعرف القبائل ودرس الأنساب، وعرف نفسيات الناس، ولذلك كان تعاملهم معهم على أحسن الوجوه، والدارس لسيرة الرسو صلى الله عليه وسلم يعلم إلى أي مدى كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يعلم الناس ويسبر أغوارهم، ويعرف كيف يتعامل معهم، وكذلك الشأن في خلفاء الرسول الراشدين، لقد كان "أبو بكر" عالماً بالأنساب، دارساً لنفسيات الناس، وكان "عمر" من أعلم الناس بشعوب الأرض ومقالاته في الشعوب التي غزاها لا تزال حية إلى اليوم، فقد قال في المجوس والروم مقالات هي بحق خلاصات عظيمة لنفسية هذه الشعوب. وهذا "عمرو بن العاص" أحد دهاة العرب الأربعة وأحد سياسيي العالم المعدودين يسمع المستورد القرشي يقول: قال سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول: [تقوم الساعة والروم أكثر الناس]!! فقال عمرو بن العاص للمستورد القرشي: "أبصر ما تقول" قال: أقول ما سمعت من رسول ا صلى الله عليه وسلم ، قال عمرو: "لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة. وأمنعهم من ظلم الملوك" (رواه مسلم، ج5، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب10).
فانظر هذه الكلمات الموجزة التي توزن بالذهب والتي لخص فيها عمرو بن العاص أسباب قوة الروم -أي الأوروبيين- لأن المسلمين كانوا يسمون جميع أهل أوروبا بالروم، نظراً لأن روما كانت يوماً ما عاصمة لمعظم أوروبا بل معظم العالم. انظر كيف يصف عمرو بن العاص الأوروبيين بما يدل على خبرة عجيبة جداً بنفسياتهم ونظام حياتهم، فهم أحلم الناس عند فتنة وهذا ظاهر جداً أنه عندما تقع بهم أزمة ومصيبة فإنهم يفكرون فيها تفكيراً عميقاً قبل اتخاذ قرار وهذا أمر مشاهد في حالهم إلى اليوم، وكذلك هم أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة، فانظر كيف قامت أوروبا بعد الحرب الثانية التي دمرتها، وكيف عمرت في سنوات معدودات، وكيف نهضت "ألمانيا" بعد الهزيمة المنكرة في الحرب العالمية الأولى، ثم كيف قامت لتكون اليوم أعظم دول أوروبا بعد الهزيمة الساحقة في الحرب العالمية الثانية، وأما الصفة الثالثة فهي أنهم أسرع بل أوشك الناس كرة بعد فرة، أي عوداً إلى الهجوم بعد الانكسار، وهذا واقع ومشاهد وأنهم خير الناس لمسكين ويتيم، ولا شك أنهم من أعظم الناس على مدى التاريخ رعاية وعناية بمساكينهم وأيتامهم، ثم هم أمنع الناس من ظلم الملوك ومن أجل ذلك أججوا الثورات الطويلة ضد الظلم والعسف وهم الذين اخترعوا النظام الديمقراطي الذي يجعل الحكم للشعب بعكس كثير من الشعوب التي قد ترضى بالعيش في ظلم الملوك والأمراء قروناً وقروناً.. حتى يخلصهم غيرهم، ويستنقذهم سواهم.
إن هذه الخبرة العظيمة بنفسية الشعوب هي التي مكنت المسلمين من التغلب عليهم وهذا "عمر بن الخطاب" -رضي الله عنه- يخبره المسلمون في فتح (الشام) أنهم لاقوا عناءً عظيماً وبلاء من قائد روماني يسمى "الارطبون" راوغ المسلمين طويلاً وأوقع بهم في بعض الوقائع، وهزمهم في بعض المعارك بحيله وفكره ودهائه، فيقول "عمر": "سنحارب أرطبون الروم بأرطبون العرب"!! ثم يرسل لهم "عمرو بن العاص"!! داهية العرب وسياسيها الفذ، والذي يتغلب بالفعل في سنوات معدودات على "أرطبون" الروم. ويقابل مكيدة الروم بمكيدة العرب وتكون الغلبة لأهل العقيدة الصحيحة والتفكير السليم والمنهج الأعلى والأقوى.
باختصار: إن دراسة الخريطة السياسية أمر مهم بل شيء أساسي في أي حركة إسلامية سياسية صحيحة، فمن يفهم نفسيات الناس، وأخلاقهم وصفاتهم، يعلم كيف يتعامل معهم وأما من لا يفهم ذلك ولا يهتم بذلك فإن يكون كما قيل في القصة الرمزية كالدب الذي يرى على أنف صاحبه وهو نائم ذبابة ليزيحها عن أنفها بحجر عظيم ثم يقذف به أنف صاحبه حتى يطرد هذه الذبابة!!.
وكم في العمل والجهاد والدعوة الإسلامية من أمثال هذه الدببة التي تفسد حيث تريد الإصلاح، وتستشرف للفتنة حيث يحسن الاختباء، وتختبئ من المواجهة حيث يتحتم اللقاء، وتضرب حيث يكون الصفح والحلم هو الأولى والأليق، وتصفح وتحلم -زاعمة- حيث يكون الجهر بالسوء هو القاطع لمادة الشر والحاسم للفساد.. وكل هذا إنما هو من الجهل بالخريطة السياسية والجهل بالقوى والتكتلات المحيطة بالجماعة المسلمة، واحتقار شأن الآخرين، وعدم تقدير الأمور بمقاديرها الصحيحة، ولا شك أن هذا جهالة أي جهالة.
فلندرس الخريطة السياسية للمجتمع الذي نتحرك فيه، والعالم الذي نعيش فيه قبل أن نقدم على أي عمل، ولندرس نفسيات الناس والشعوب، وأخلاق الأمم، وعقائد الجماعات، لنعرف كيف نتصرف التصرف اللائق، وكيف نضع كل إنسان حولنا في الوضع الصحيح، مناصراً أو عدواً، أو إمعة تافهاً أو منافقاً خبيثاً، أو جاهلاً مطاعاً، أو سيداً أو كريماً، أو زنديقاً لئيماً.. ولا نستطيع أن نصدر مثل هذه الأحكام إلا بعد دراسة وفهم سليم لمن حولنا، فلندرس الخريطة السياسية جيداً قبل الحركة ولنتخذ الأسلوب المناسب للدعوة بعد هذه الدراسة.(54/59)
هذه القواعد العشر هي أهم ما يحضرني الآن من القواعد "السياسية" التي يجب على الدعاة إلى الله السير بمقتضاها حتى تكون سياستهم شرعية، وحركتهم بالدين حركة صاعدة، وحتى يكسبوا في كل يوم موقفاً جديداً، وحتى يحققوا في كل يوم خطوة نحو الهدف، وبغير ذلك تظل الدعوة إلى الله أعمالاً غوغائية، ويظل المسلمون نهباً لتجار السياسة من المنحرفين والكافرين والمارقين.
الباب الثالث: شبهات وجوابها
مما قدمنا يتضح أن الإسلام لا يعرف هذا التفريق بين الدين والسياسة، بل هذا مفهوم غربي كافر، جاء ليفصل الكنيسة عن الحياة، وأما في الإسلام فإن المسجد هو مكان العبادة، والشورى، وتوجيه الأمة في كل شؤونها، وعقد ألوية الجيوش، واستقبال الوفود، وإعلان الحرب.. وخليفة الإسلام هو قائد الأمة، وزعيمها، وإمام الصلاة، والمدافع عن حرمات الله، ومنفذ الحدود، وقائد الجند، ومرجع الناس في كل خلافاتهم، وأقضياتهم، وهو القائم بأمر الله المنفذ لحدوده، وقد كان هذا قبل الخلفاء هو مهمة رسول الإسلام -صلوات الله وسلامه عليه-
ولا شك أن أعداء الدين همهم اليوم هو الفصل بين المسلمين الدعاة منهم خاصة وبين العمل السياسي تارة يقولون: ما لكم وللسياسة، وتارة يقولون: لا يجوز تسييس الدين، وتارة يقولون: لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، وتارة يتهمون أهل الدعوة والجهاد بأنهم ما دعوا إلى الله إلا لمآرب سياسية وأغراض دنيوية، يريدون بهذا صرفهم عن الاهتمام بشؤون المسلمين، وإعلاء كلمة الله في الأرض، ليخلو الجو لأعداء الله، فيعيثوا في الأرض فساداً كما يريدون، ويحكموا المسلمين بأي قانون ونظام يريدون، ويجعلوا كلمة الدين هي السفلي، وكلمة الكفر والباطل والشرك هي العليا، ويحولوا بين دعاة الإسلام وبين السعي لعز أمتهم، وكرامة دينهم وإبلاغ رسالة ربهم، وإخضاع الناس لحكم ربهم، وأمر خالقهم وبارئهم.
وقد يغتر الدعاة بأقاويل أعداء الله هذه فيظنوا أن البعد عن السياسة الشرعية أحفظ لقلوبهم، وأخلص لربهم ودينهم، أو أن السياسة مشغلة عن الدعوة لله، ظانين أن الدعوة فقط هي تأليف رسالة، وإضافة كتاب إلى المكتبة الإسلامية، أو الانزواء في مسجد وزاوية، والإكثار من التعبد والزلفى، وبهذا يفسح المجال للأفاقين والكذابين واللصوص المتغلبة على أموال المسلمين ومقدراتهم، وتبقى الساحة السياسية في بلاد الإسلام نهباً لجهلة العساكر، ومحبي الزعامة، والفرق الباطنية الخبيثة، وأعداء الأمة فيمسكون زمام الأمور، ويعيثون في الأرض ظلماً وفساداً، فيتخذون أرض الله دولاً، وعباد الله خولاً حيث ينتهكون الأعراض، ويستبيحون الأموال، ويقصون الإسلام عن واقع الناس، ويستبدلون بشريعة الله الظاهرة شرائع الكفر الباطلة، ودعاة الإسلام غفلى يعللون أنفسهم بالأماني، ويشتغلون بالنوافل، مضيعين للفرائض، ويفصلون بواقعهم بين الدين والحياة، والدين والحكم، والدين والعدل، والدين وإعلاء كلمة الله في الأرض، والدين والجهاد في سبيل الله، وبذلك يقرون أعين الكافرين، وينفذون غافلين مخطط أعداء الدين، ويتركون قيادة الناس للمجرمين والمخربين والمفسدين، أليس هذا من أعظم الذنوب، وأكبر الكبائر؟!!
ولما كان بعض الدعاة إلى الله المخلصين الطيبين قد يقفون في هذا الأمر، أعني ترك العمل السياسي ظانين أنه مشغلة عن الدعوة والدين، وقد يتمسكون في تركهم هذا ببعض الشبهات والتأويلات. أحببت هنا أن استعرض أهم الشبهات وأرد عليها حتى لا يكون بعد ذلك هناك عذر لمعتذر، ولا حجة لمتخلف، ولا مستمسك لقاعد.
أولاً: إن الداعي إذا دخل المعترك السياسي فإنه لا يسلم من بعض المخالفات الشرعية:
كثير من الدعاة يحجم عن خوض المعترك السياسي والذي شرحناه -آنفاً- بأنه لا بد للداخل في هذا الميدان من أن يرتكب بعض المخالفات الشرعية. كمخالطة المخالفين، ومشاركة العصاة.. الخ. وهذا تصور خاطئ للعمل السياسي الإسلامي لأن حقيقة ذلك هو الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلاء كلمة الله في الأرض وجهاد الكافرين بالقلم واللسان، وإزاحة أهل الباطل عن التصدر على مصالح المسلمين والتسلط على رقاب الناس، وقيادة الأمة، وكل هذه أمور مشروعة بل غايات شريفة ولا شك. وقد شرحنا -آنفاً- ضوابط السياسة الشرعية، وقواعد العمل السياسي الإسلامي (انظر ص21-53)، وأنه التزام بالحق والأخلاق، وعدم تفريط في شيء من الدين، مما أغنى عن إعادته هنا.(54/60)
وأما مخالطة الناس فمطلوبة في الأمر المباح الذي لا بد منه، وفي الأمر الواجب المفروض، والمسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، ثم لو فرضنا جدلاً أن بعض هذه الخلطة، وبعض أساليب الدعوة الحديثة ووسائلها لا يخلو من ارتكاب مخالفات شرعية.. لو افترضنا هذا جدلاً فإن هذا يكون من المعفو عنه -إن شاء الله تعالى- فإن الخير لا يتمخض مطلقاً في مثل هذا المجتمع الذي نعيش فيه، فلا يستطيع مسلم أن يمارس تجارة ولا زراعة، ولا صناعة، ولا عملاً، إلا بأن يرتكب بعض الحرام مما فرضه الواقع المخالف للدين، وعلى المسلم في هذا المجتمع الذي نعيش فيه ألا يصمد للحرام صمداً، وألا يطلبه لذاته كأن يرابي أو يقامر، أو يغش، أو يرتشي، ولكن أن يتاجر فيفرض عليه مكس، وضريبة، ويتعامل مع بنك ربوي لا حيلة له إلا في التعامل معه، وأن يتعلم فلا يكون له مندوحة من جامعات يقع فيها اختلاط وخلط بين تعاليم الإسلام وتعاليم الكفر، وأن يتولى عملاً من أعمال المسلمين فيفرض عليه بعض الشر الذي لا بد منه، ولا مندوحة له عنه، فإن مثل هذا ولا شك من المعفو عنه -إن شاء الله تعالى- رفعاً للحرج، ولأنه يستحيل أن يتمخض الخير. فلو فرضنا جدلاً أن ممارسة بعض الأساليب والوسائل الحديثة للدعوة: كالجمعية والحزب والنقابة، والوظيفة الحكومية ونحو ذلك لا بد فيها من ارتكاب بعض المحرمات فهل يترك ذلك من أجل هذه المحرمات، وبالتالي يكون الفساد أعظم، والشرك أكبر، ويستولي على أمور المسلمين ومؤسساتهم وأحزابهم ونقاباتهم، ووظائفهم، وأعمالهم أعداء الدين.
لا شك أننا إن رجعنا إلى نصوص الشريعة، وسياسة النبوة، والخلافة الراشدة، وجدنا أنه يجب دفع المفسدة العظمى بالمفسدة القليلة. وهذا من باب "ارتكاب أخف الضررين" وقد فصلنا هذا في كتابنا: "فصول في السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله".
ثانياً: قولهم: إن العمل السياسي مشغلة عن الدعوة:
وأما القول بأن العمل السياسي مشغلة عن الدعوة إلى الله فهذا خطأ أيضاً لأن العمل السياسي الإسلامي يجب أن يكون دعوة إلى الله وإلا ما كان هذا سياسة شرعية، وإنما كان علواً وفساداً في الأرض، واستغلالاً للدين، واستبدالاً لطغيان بطغيان ولجاهلية بمثلها، فالعمل السياسي الإسلامي يجب أن يكون في ذاته دعوة إلى الله، فجمع الناس يجب أن يكون على أساس الدين، ولإعلاء كلمة رب العالمين، ولا تجوز مجاملة أحد في دين الله، ولا مراعاة خاطر كبير أو عظيم. بل عاتب الله رسوله عندما انصرف عن "ابن أم مكتوم" الأعمى إلى صنديد من صناديد قريش يدعوه. قال تعالى: {عبس وتولى* أن جاءه الأعمى* وما يدريك لعله يزكى* أو يذكر فتنفعه الذكرى* أما من استغنى* فأنت له تصدى..} الآيات (عبس:1-5).
فالسياسة الإسلامية تختلف شكلاً ومضموناً عن السياسة الجاهلية المادية الخبيثة: السياسة الإسلامية سياسة طاهرة، تبتغي رفع شأن الإسلام والمسلمين، وتكريم أهل الدين وتحقير الكفر والكافرين، وإبلاغ رسالة رب العالمين، وإخراجاً للناس من الظلمات إلى النور وبالتالي فلا مجال فيها لمجاملة على أساس الدين، ولا لتجميع لكل من هب ودب من أجل إكثار العدد، وتكثير السواد، وقيادة الجماهير.. لا، السياسة الشرعية الإسلامية بغير ذلك، إنما هي تأليف وتربية وتوحيد لأمة الإسلام، والفرقة الناجية، وأهل التوحيد والصلاة والقبلة، في واجهة واحدة ضد أهل الكفر والزندقة والإجرام، والسياسة الشرعية إعلاء كلمة الله، وليست توصيلاً لأناس مسلمين، واستبدالاً لحزب جاهل بحزب آخر يدعي الإسلام ولا يلتزم به، وينادي بالدين ولا يتأدب بأخلاقه.(54/61)
وبهذا المفهوم الذي ننادي به للعمل السياسي الإسلامي نقول: إنه ليس مشغلة عن الدعوة بل هو الدعوة ذاتها، وهو الجهاد ذاته، فالسياسي المسلم داعية، ومرب، وخطيب ومجاهد، وقائد وساع في مصالح الناس، ومتعهد لشؤونهم ومفزع وملاذ لأهل الحاجات، والمساكين والفقراء، ومدافع عن حوزة الدين، ومنافح عن عقيدة الإسلام وحرمات المسلمين، ومؤلف لقلوبهم، وساهر على مصالحهم، هذه هي السياسة الشرعية التي نريدها. دفاعاً عن حرمات المسلمين وأوطانهم ومقدساتهم وقيادة لجيوشهم، وحرباً لأعداء الله داخل أوطان المسلمين وخارجها.. وهذه هي الدعوة الحقيقية والجهاد الحقيقي، وأما تأليف الكتب وتدريس العلم والوقوف عند هذا الحد فهذا جانب من الدعوة والجهاد ولكنه ليس هو جهاد النبي ولا هو عمل الصحابة والسلف.. ومثل هذا الجهاد العلمي قد يكون جائزاً الاكتفاء به في أوقات الأمن والراحة وعزة الإسلام وامتداد الخلافة والسلطان.. ولكنه حتماً غير جائز الاكتفاء به في أيام الشر والفتنة وغلبة أعداء الله على ديار الإسلام والمسلمين وتبدل الأوضاع، وسقوط الخلافة وضياع الدين، وتجبر المجرمين، وانتهاك أعراض المسلمين. في مثل هذه الأحوال يصبح الجهاد العلمي وحده تقصيراً وإثماً، لا يعذر الله به إلا أهل الأعذار من المستضعفين وذوي العاهات، والذين لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً. فمثل هؤلاء قد يعذرهم الله بقعودهم وعدم بذل أرواحهم وأموالهم في سبيل الله، وأما أهل الاستطاعة فلا عذر لهم لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وهذه بيعة الله لأهل الإيمان جميعاً وليس لطائفة مخصوصة منهم فمن أوفى ما عاهد الله عليه فقد أوفى وله الجنة، ومن قعد فلا شك أنه معرض لسخط الله وعقوبته. نعم قد يكون الجهاد العلمي والتعليمي فقط بداية وتمهيداً للأرض، وإيجاداً للرجال، وبناءً للأفراد القادرين على حمل الأمانة، ومصارعة الباطل، وخوض غمار الجهاد كله قولاً للحق، ودفعاً لأهل الباطل، وحرباً للكافرين، والمنافقين.. أما أن يكون تأليف الكتب، وتنقية التراث، وتصفية المكتبة الإسلامية مما علق بها، أن يكون هذه هو الجهاد والدعوة فلا.. وخاصة في أيامنا هذه التي أصبح حتماً على كل أحد أن ينفر في سبيل الله، وأن تمارس الأمة كلها الجهاد بكل أنواعه، وعلى كل حال فإن الجهاد في تنقية التراث جهاد ولكنه يقي ثغرة واحدة من ثغور الإسلام، وهو جهاد لا غنى عنه لتصحيح المعتقد، وتقويم العبادة، وتنقية تراث الأمة، وتصحيح التربية. ولكنه ليس نهاية المطاف وخاتمة العمل. بل هو البداية، والحمد لله الذي حفظ لنا أصول ديننا، فهذا كتاب الله بين أظهرنا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهذه السنة التي قيض الله لها الجهابذة عبر القرون فحفظوها ودونوها وفصلوا بين صحيحها وضعيفها حتى أتتنا -بحمد الله- نقية صافية خالصة.
ولا شك أننا لو عملنا اليوم بكتاب الله وما صح لدينا من سنة الرسو صلى الله عليه وسلم مما اتفق عليه أئمة النقد وجهابذة الحديث لكفانا هذا هداية، وقياماً بأمر الله، ولا شك أيضاً أن المؤلفات الطيبة الكثيرة في العقائد ومسائل الإيمان والتفسير، والفقه وأصوله.. كافية جداً لو فقهناها، وطبقنا ما فيها ونشأنا الأجيال عليها، ثم اهتدينا فيما يستقبلنا من مشكلات وأحداث جديدة بما نستنبطه من كتاب الله وما صح عن رسول صلى الله عليه وسلم .. لو فعلنا ذلك لكنا من أعظم المهتدين، والمجاهدين.
ولا شك أن الجهد العلمي الذي نحتاجه زيادة على ما سلف إنما هو من باب "التحسينات والتتميمات" وليس من باب "الفرائض والأصوليات". إننا فقط نحتاج إلى عقليات علمية لفهم كتاب الله، والإهتداء بما جمعه جهابذة السنة، ثم البصيرة فيما يواجه المسلمين اليوم من مشكلات وما يعترضهم من عقبات، والجهاد لبناء الأمة وفق هذه التعاليم الربانية، والحكمة النبوية.
إن طريق الجهاد اليوم هو في جمع الأمة وتربيتها على هذا التراث العظيم ولا يمكن أن يكون الجهاد مجرد إضافة لكتاب جديد إلى مكتبة الإسلام العامرة الطيبة. وأن يكون هو السبيل الذي لا سبيل غيره لنصر الدين، وإعلاء رسالة رب العالمين، بل الجهاد الحق هو في الاهتداء بالقرآن والسنة الصحيحة وجهاد الكفار بذلك كما قال تعالى: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً* فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً} (الفرقان:51-52).(54/62)
والجهاد بالقرآن والسنة إنما يكون ببناء جيل إسلامي حسب مواصفاتهما، ودفع هذا الجيل للصراع مع الباطل القائم حتى يتم للمسلمين النصر والتمكين، وإنه ليستحيل بناء هذا الجيل إلا تحت مؤسسات، ومن خلال جمعيات وتجمعات وجماعات، وذلك أن العمل الفردي الآن ذاهب مضمحل، ضائع، ويستحيل أن يوجد عمل قوي مؤثر إلا من خلال مؤسسات قائمة وتعاون وتعاضد، وتكاتف.. وهذا التعاون والتعاضد والتعاهد على نصر الدين، وإعلاء رسالة رب العالمين، واختطاط سبيل موحدة، وصراط مستمر مستقيم لنقل أهل الإسلام من حال إلى حال، ومن ضعف إلى قوة، ومن قوة إلى أكبر منها، ومن موقع متخلف إلى موقع متقدم هو ما نعنيه بالعمل السياسي، وهذه هي الدعوة الحقيقية اليوم إلى الله -تبارك وتعالى-.
إن غرس المؤسسات الإسلامية اليوم في الأرض الإسلامية هو واجب المسلمين. هذه المؤسسات التي يستطيع شباب الإسلام التحرك من خلالها لنصرة دينهم، وإعادة بناء أمتهم.. وتتمثل هذه المؤسسات في: المساجد والمدارس والمعاهد، ودور الرعاية، والجمعيات والتجمعات، والأحزاب والهيئات، وكل ما من شأنه أن يجمع المسلمون عليه من خير وبر وإحسان ودعوة وبناء وتربية. لا بد من إعادة حياة الأمة الإسلامية وفق منهج القرآن والسنة، وإذا كانت الدول والحكومات الحاضرة التي انفلتت من الدين، وحاربت رسالة رب العالمين، وسارت على خط المستعمرين، تربي أبناء الإسلام على عقائد الكفر، ونشر الانحلال والميوعة بين أبناء الإسلام، وتشغلهم بالتافهات عن الجد والمثاليات، وعظائم الأمور، فإنه من أجل ذلك يجب أن يجاهد المسلمون بأنفسهم ومن خلال مؤسساتهم الخاصة لإعادة بناء الأمة ومزاحمة الباطل الذي ينشره أحزاب الفساد، وتحويل مقدرات الأمة إلى خدمة أبنائها الحقيقيين، ودينها وعقيدتها وتراثها بدلاً من هؤلاء الذين يستغلون اليوم مقدرات الأمة الإسلامية لهدم عقيدتها وتراثها وأخلاقها ورجالها ونسائها.. إنها حرب سلمية يجب أن يخوضها الدعاة إلى الله لتحويل مسار المجتمع، وتحويل دفة الحياة نحو الدين، ولا بد من خوض هذه الحرب السياسية على كافة الأصعدة، وفي كافة المجالات، ولا يجوز بتاتاً أن تكون من خلال منبر المسجد فقط ولا من خلال الكتاب الإسلامي، والدرس السري، بل يجب أن تكون أيضاً من خلال الصحيفة والإذاعة، والتلفزيون، والجامعة، والمنصب الحكومي، والحزب السياسي، والجمعية الدينية، والمجتمع النقابي، والمدارس، والمعاهد، وكذلك يجب أن تشمل هذه الحرب السلمية الكلمة بكل أنواعها، والأساليب بمختلف صورها يجب أن تشمل: المحاضرة والخطبة، والقصيدة الشعرية، والقصة، والمقالة. ولا يجوز بتاتاً ترك الساحة الإعلامية والأدبية لفكر مناوئ للدين ليصول ويجول، بل يجب تحطيم كل فكر مخالف وإحلال الأدب الإسلامي الرفيع، والقيم الإسلامية العليا، مكان الأدب الساقط، والقيم المادية السفلى التي باتت تغزونا في عقر دارنا.
هذا هو العمل السياسي الذي نعنيه ولا شك. إن القول بأن مثل هذا العمل مشغلة عن الدعوة قول فيه تغرير وجهل كبير. بل العمل السياسي على هذا النحو هو الدعوة الحقيقية، ويكفينا أن الرسو صلى الله عليه وسلم قال لحسان بن ثابت:
[اهجهم "أي قريش" وروح القدس تؤيدك].. وقال له أيضاً: [لشعرك أشد عليهم من وقع السهام] (رواه مسلم)، فحسان جعله صلى الله عليه وسلم مجاهداً بالقصيدة الشعرية التي كانت تسد فراغاً لا يسده غيرها، إذ لا يكفي الانتصار عسكرياً على الكفار، بل يجب النصر أيضاً عقائدياً وفكرياً وأدبياً.
واليوم يحتاج المسلمون في عملهم الدعوي والجهادي والسياسي إلى إعلام ناجح، يتمثل في حسن عرض الرسالة الإسلامية، وفي قوة الرد على الخصوم، وفي رشاقة وحسن التعبير عن قضايا الدين، وليس بكثرة العدد ينتصر المسلمون في جهادهم السياسي، بل أيضاً في رسالتهم الإعلامية الموجهة التي يجب أن تحطم ما دونها من عقائد وأفكار وقيم، ولن تتمكن من ذلك إلا إذا كانت قوية محكمة.
ثالثاً: قولهم: أن هذا الأسلوب من أساليب العمل لم يمارسه الرسو صلى الله عليه وسلم والأصل اتباعه في كل شيء من أمر الدين وبخاصة الدعوة إلي الله:
الشبهة الثالثة هي ما ذكرناه -آنفاً- وهذا القول مردود بالأدلة التالية:(54/63)
(1) أن قد ثبت بما قدمناه أن الرسو صلى الله عليه وسلم قد مارس العمل السياسي بكل معانيه الطيبة الخيرة من تكوين أمة وجماعة، والدعوة إلى عقيدة تحطم كل العقائد الموجودة، وتنادي بوجوب إزاحة بل إزالة كل عقبة تقف في وجه دعوة الإسلام، ووجوب جعل السلطان لأمة الإسلام، ثم قد مارس رسول ا صلى الله عليه وسلم كل أعمال الحكم والسيادة، من تولية الولاة، وإرسال الجيوش والبعوث، والرسل، وتنظيم الدولة، وإقامة الحدود، وعقد المعاهدات، وهذا في حال القوة وأما في حال الضعف فإن رسول ا صلى الله عليه وسلم قد طلب النصرة، وطلب الحماية، وقبلها من الكفار ودعا إلى الله سراً، ثم جهراً، وجاهر الكفار بالعداوة وأنذرهم بالقتل وأعلمهم أن دينه خير الأديان وأن سيفتح الأرض، وينال كنوز كسرى وقيصر.. وأن أمته ستكون أقوى الأمم وخيرها، وأعظمها سلطاناً وأمناً وتمكيناً.. وكل هذا في عرف الناس اليوم من الأعمال السياسية. فليسمه الناس ما شاؤوا سياسة أو غير ذلك إنها طبيعة الدعوة إلى الله، ومنهج القرآن، وسنة الرسو صلى الله عليه وسلم ، وعلى الذين يكتفون بمجرد تعلم العلم الشرعي وتعليمه أن يعلموا أنهم لم يسلكوا سبيل رسول ا صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله، ولم يتبعوه حقاً وصدقاً. وإنما اشتغلوا بجزء من الدين، وجانب من الإسلام.
ولا شك أن الرسول كون الجماعة المعاهدة المبايعة له على الموت في سبيل الله والجهاد في سبيل نصرة الدين، ونظم هذه الجماعة، وعلمها، ورباها على عينه وكانت هذه الجماعة بعد ذلك هي طليعة الأمة، ونواة الدولة ونستطيع أن نطلق على جماعة الرسول الأولى "حزب الله"، وقد أقام الرسول كل المؤسسات الممكنة في وقته. واستطاع بهذه الجماعة أن يهزم كل تجمع وتحزب أمامه من العرب واليهود والنصارى والقبائل، والأعراب، وما ترك رسول ا صلى الله عليه وسلم الدنيا حتى كانت راية الإسلام تخفق فوق الجزيرة كلها من أقصاها إلى أقصاها، وحتى أصبحت الأمة مهيئة لغزو الروم وفارس، بل إن صلى الله عليه وسلم بنفسه غزى الروم في السنة التاسعة، وجبنوا أن يلقوه.
(2) الدليل الثاني على وجوب العمل السياسي: أن غايات الإسلام لا تتحقق إلا بالعمل السياسي بكل أبعاده، فإن الإسلام ليس تبشيراً وإنذاراً فقط، وليس دعوة تبليغية وعظية فقط، إنما هو دين وحكم وسيادة وأمة، وقضاء، وكلمة الله تعلو على كل كلمة للكفر، وراية التوحيد لا بد وأن تعلو فوق كل رايات الشرك. وهذه الغايات يستحيل الوصول إليها إلا بعمل سياسي منظم صاعد، يحقق مرحلة تلو مرحلة، وخطوة إثر خطوة، ويسير وفق خطة موضوعة، وتدرج زمني مدروس، وهذا هو مفهوم العمل السياسي. وإذا كان الواقع القائم الآن يتنافى مع هذه الغايات، فالنظم والحكومات القائمة لا تتناسب شكلاً ولا موضوعاً مع هذه الغايات الشريفة بل قد تكون عاملة بضد ذلك، ساعية في تعويق أمة الإسلام وتشتيتها ودحرها، وجعلها فريسة لأعدائها. وبالتالي فإنه يجب تغيير الأوضاع الراهنة ليكون الحكم الإسلامي في وضع يمكنه به تحقيق مراد الله في الأرض، ووضع شريعته موضع التنفيذ ومعلوم أن هذا التغيير للأوضاع القائمة، وأن تحقيق غايات الرسالة الإسلامية كل ذلك لا يتحقق إلا بالعمل السياسي، و "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
وهل نتصور أنه يمكن لأمة الإسلام أن تكون أمة الإسلام حقاً، وأن تحقق مراد الله بمجرد الوعظ والإرشاد، والتبليغ والأعمال الفردية التي يمارسها كل إنسان بمفرده حسبما يريد وكيفما اتفق، ويتركها إذا شاء.. الخ.
لا شك أن هذا قول مخالف للصواب والمنطق، والعقل، فضلاً عن مجافاته للشرع والدليل والنص.(54/64)
(3) ولو افترضنا أن الواجب الآن هو الوعظ والتبليغ، وتصفية التراث، وتربية الأفراد، فإن هذا جميعه لا يتحقق بصور سليمة إلا من خلال العمل السياسي الحركي.. فإن الجماعة أقدر من الفرد في الوعظ والتبليغ، وإن التجمع والتعاون أقدر على الجهود العلمية التي تحتاجها الأمة لتنقية تراثها، وتصفية مصنفاتها وكذلك يستحيل تربية الأفراد تربية إسلامية صحيحة إلا من خلال الجهاد والعمل الجماعي، وتكاليف الدعوة، هنا تظهر "معادن" الرجال على حقيقتها، وتبرز التضحيات، ويبني الأفراد بناءً سليماً، ويدربون تدريباً عملياً على أخلاق الإسلام من الصبر، والحلم، والشجاعة، والإقدام، وإيثار ما عند الله على هذه الدنيا الفانية، وبذل النفس والنفيس في سبيل الله. وأما الجهود العلمية المحضة فإنها لا تربي إلا بمقدار يسير جداً، بل قد يكون الفرد علامة وجَمَّاعة، ومُحققاً ولكن تنقصه كثير من أخلاق الدين الواجبة، وصفات المجاهدين الطيبة. فقد يمتلئ حسداً من أقرانه، وبخلاً بماله، وضناً بدنياه، وعدم مبالاة بانتهاك حدود الله، وسكوتاً على الشر والفساد والظلم، فيدخل بذلك في جملة المعذبين المفتونين، فإذا فسدت نيته وسريرته، وكان عمله العلمي الشرعي لدنياه فقط وللشهرة والمراءاة ضل سعيه وفسد عمله.. والمهم من كل ذلك أن التربية الحقيقية للأفراد لا تتم إلا بعمل جماعي موضوعي يأخذ هذا الدين بجميع نواحيه ولا يقتصر منه على ناحية دون ناحية، في إطار هذا العمل الجماعي الموضوعي الذي تواضع الناس اليوم على تسميته بالعمل السياسي تكون المحاسبة على الكسل والتهاون، وبروز الكفاءات الصالحة، والقيادات الجيدة، والأخلاق الحميدة من الإخلاص وإنكار الذات، وأداء الأمانة، وبذل النفس في سبيل الله، وتحمل مشقات الجهاد والدعوة، والسهر على راحة المسلمين، والتألم لآلامهم والفرح بانتصار الدين، وبهذه المشاعر يعيش المسلم دينه كاملاً، ويحيا في آلام أمته وآمالها ويسعى في سبيل نهضتها ورقيها وسعادتها، إذا دعا لنصر الأمة كان دعاؤه من القلب، وإذا تألم لهزيمة الأمة كان ألمه من القلب كذلك.
وهكذا نوقن -إن شاء الله- أن العمل السياسي فريضة دينية، وأنه لا يجوز لمسلم قط التخلف عن ركب الجهاد في سبيل الله، ونصرة دين رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا بد لكل مسلم أن ينخرط في عمل سياسي ينصر الدين، ويعلي كلمة رب العالمين ويحقق السيادة والتمكين لأمة خير الأنبياء والمرسلين.
ولنعلم أن القعود عن ذلك معناه تمكين أعداء الدين من الشيوعيين والملحدين وطلاب الدنيا والرياسات والمجرمين من رقاب المسلمين، فالقعود اليوم إثم لا شك فيه، وعلى كل مسلم أن ينصر الله بما استطاع كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} (الصف:14).
والحمد لله رب العالمين، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين المجاهدين، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولتعلمن نبأه بعد حين.
********************(54/65)
(54/66)
الديمقراطية دين
رأي أبي محمد المقدسي ( فك الله أسره )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.. وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو حسبنا ونعم الوكيل... وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله هو قائدنا وأسوتنا صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين...
وبعد:ـ
فهذه ورقات سطرتها على عُجالة بين يدي الانتخابات البرلمانية التشريعية الشركية، وذلك بعد أن فُتِن النّاس بفتنة الديمقراطية، وجادل عنها المجادلون من الطواغيت المنخلعين من الدين أو ممن لبسوا لباس الدين والدعوة إليه… ولبّسوا الحق بالباطل، فتارة يسمونها حرية… وتارة شورى، وتارة يحتجون لها بولاية يوسف عليه الصلاة والسلام عند الملك، وتارةً بحُكم النجاشي… وأخرى بالمصالح والاستحسانات… ليُموّهوا الحق بالباطل على الطغام، وليخلطوا النور بالظلام، والشرك بالتوحيد والإسلام… وقد رددنا فيها بتوفيق الله تعالى على جميع هذه الشبه وبيّنا أن الديمقراطية دين غير دين الله وملّة غير ملّة التوحيد، وأنَّ مجالسها النيابية ليست إلا صروحاً للشرك ومعاقل للوثنية يجب اجتنابها لتحقيق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد بل والسعي لهدمها ومُعاداة أوليائها وبُغضهم وجهادهُم... وأنَّ هذا ليس أمراً اجتهادياً كما يحلو لبعض الملبِّسين أن يجعلوه... بل هو شركٌ واضحٌ مستبين وكفرٌ بواحٌ صراح قد حذر الله تعالى منه في محكم تنزيله، وحاربه المصطفى صلى الله عليه وسلم طيلة حياته...
فاحرص أخا التوحيد أن تكون من أتباع صلى الله عليه وسلم وأنصاره الذين يُنابذون الشرك وأهله، وبادر في ظل هذه الغربة باللحاق بركب الطائفة القائمة بدين الله تعالى، التي قال المصطفى صلى الله عليه وسلم عنها: (لا تزال طائفةٌ من أُمتي قائمةً بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله). جعلني الله وإياك منهم، والحمد لله أولاً وآخراً.
كتبه
فصل
في بيان أصل الأصول والغاية م ن الخلق وإنزال الكتب ودعوة المرسلين
وملة ابراهيم والعروة الوثقى التي عليها مدار النجاة
اعلم رحمك الله تعالى أنَّ رأس الأمر وأصله وعموده، وأول ما افترض الله على ابن آدم تعلمه والعمل به، قبل الصلاة والزكاة وسائر العبادات، هو الكفر بالطاغوت واجتنابه، وتجريد التوحيد لله تعالى. فلأجل ذلك خلق الله سبحانه الخلق وبعث الرسل وأنزل الكتب وشرع الجهاد والاستشهاد... ومن أجله كانت الخصومة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ومن أجله أصلاً تقوم الدولة الإسلامية والخلافة الراشدة... قال تعالى: { وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون } (1) أي: ليعبدونني وحدي.. وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كلِّ أمةٍ رسولاً أنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } (2).
وهذا الأمر أعظم عروة من عُرى الإسلام، و لاتقبل دعوة ولا جهاد ولا صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج إلا به، ولا يمكن النجاة من النار دون التمسك به، إذ هو العروة الوحيدة التي ضمن الله تعالى لنا ألا تنفصم... أما ما سواها من عُرى الدين وشرائعه فلا تكفي وحدها دون هذه العروة للنجاة... قال تعالى: { قد تبيَّن الرُّشد مِن الغَيِّ فمن يكفر بالطاغوت ويُؤمن بالله فقد استمسك بالعُروة الوُثقى لا انفصام لها.... } (3).
وقال سبحانه: { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهمُ البشرى فبشر عباد } (4).
وتأمل كيف قدّم الله الكفرَ بالطاغوت واجتنابه في الذكر على الإيمان به والإنابة إليه سبحانه.. تماماً كما قدم النفي على الإثبات في كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)... وما ذلك إلا تنبيهاً على هذا الركن العظيم من هذه العروة الوثقى، فلا يصح الإيمان بالله ولا ينفع إلا بالكفر بالطاغوت أولاً...
والطاغوت الذي يجب عليك أن تكفر به وتجتنب عبادتَه لتستمسك بعروة النجاة الوثقى ليس فقط أحجاراً وأصناماً وأشجاراً وقبوراً تُعبد بسجود أو دعاء أو نذر أو طواف وحسب... بل هو أعم من ذلك... فيشمل (كلَّ معبودٍ عُبِد من دون الله تعالى بأي نوعٍ من أنواع العبادة وهو غير منكر لذلك)(5).
فالطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة المخلوق حده الذي خلقه الله له... والعبادة أنواع، فكما أن السجود والركوع والدعاء والنذر والذبح عبادة فكذلك الطاعة في التشريع عبادة... قال تعالى عن النصارى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } (6). وهم لم يكونوا يسجدون أو يركعون لأحبارهم... لكن أطاعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال وتواطؤوا معهم على ذلك فجعل الله تعالى ذلك اتخاذاً لهم أرباباً... لأن الطاعة في التشريع عبادة لا يجوز أن تُصرف لغير الله... فلو صرفها المرء لغير الله تعالى ولو في حُكمٍ واحدٍ كان بذلك مشركاً...(54/67)
ويدل على هذا دلالة واضحة تلك المناظرة التي حصلت في زمن صلى الله عليه وسلم بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان في شأن الميتة وتحريمها، حيث أراد المشركون أن يُقنعوا المسلمين بأنه لا فرق بين الشاة التي يذبحها المسلمون وبين الشاة التي تموت وحدها، بحجةٍ وشبهةٍ أنَّ الميتة إنما ذبحها الله تعالى، فأنزل الله تعالى حكمه في هذه الواقعة من فوق سابع سماءٍ فقال تعالى: { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } (7).
فيدخل في مسمى الطاغوت كلُّ من جعل من نفسه مُشرِّعاً مع الله سواء كان حاكماً أو محكوماً، نائباً في السلطة التشريعية أو منوباً عنه ممن انتخبوه... لأنه قد جاوز بذلك حده الذي خلقه الله تعالى له، إذ هو خُلق عبداًلله، وأمره مولاه أن يستسلم لشرعه فأبى واستكبر وطغى وتعدّى حدود الله تعالى، فأراد أن يَعْدِل نفسَهُ بالله ويُشاركه بصفة التشريع التي لا يجوز أن يُوصف بها غير الله عز وجل...وكل من فعل ذلك فقد جعل من نفسه إلهاً مُشرِّعاً، وهذا لاشك من رؤوس الطواغيت التي لا يصح توحيد المرء وإسلامُهُ حتى يكفر بها ويجتنبها ويبرأ من عبيدها وأنصارها...
قال تعالى: { يُريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمِروا أن يكفروا به } (8).
__________
(1) سورة الذاريات، الآية 56 .
(2) سورة النحل، الآية 36 .
(3) سورة البقرة، الآية 256 .
(4) سورة الزمر، الآية 17 .
(5) يخرج بهذا القيد، من عُبِد من الملائكة والنبيين والصالحين وهو غير راضٍ بعبادته.. فلا يُسمى طاغوتاً ولا يُتبرء منه ولكن يُتبرء من عبادته وممن عبدوه كعيسى بن مريم عليه السلام .
(6) سورة التوبة، الآية 31 .
(7) سورة الأنعام، الآية 121 . وراجع سبب نزول هذه الآية ، فقد رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس بإسناد صحيح .
(8) سورة النساء، الآية 60 .………
يقول مجاهد: (الطاغوت.. الشيطان في صورة الإنسان يتحاكمون إليه وهو صاحب أمْرِهِم).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: (ولهذا سُمِّيَ من تُحوكِم إليه من حاكمٍ بغير كتاب الله: طاغوت)(1).
ويقول ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: (الطاغوت كلُّ ما تجاوز به العبدُ حدَّه من معبودٍ أو متبوعٍٍ أو مُطاعٍٍ؛ فطاغوتُ كلِّ قومٍ مَنْ يتحاكمون إليه غيرَ الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعةٌ لله)(2).
ويقول أيضاً: (من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسو صلى الله عليه وسلم فقد حكّم الطاغوت وتحاكم إليه) (10).
فمن أنواع الطواغيت المعبودة من دون الله تعالى في هذا الزمان، والواجبُ على كلِّ موحِّد أن يكفر بها ويتبرأ منها ومن أتباعها ليستمسك بالعروة الوثقى وينجوَ من النَّار؛ هذه الآلهة الزائفة والأرباب المزعومون الذين اتخذهم كثيرٌ من الخلق شركاء مشرِّعين من دون الله تعالى... {أمْ لهم شُركاءُ شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمةُ الفصل لقُضِيَ بينهم...}(3). حيث تابعوهم على جعل التشريع حقاً وصفةً لهم ولبرلماناتهم وهيئاتهم الحاكمة الدولية أو الإقليمية أو المحلية... ونصوا على ذلك في قوانينهم ودساتيرهم وهو معروفٌ مشهورٌ عندهم(4) فكانوا بذلك أرباباً لكلِّ من أطاعهم وتابعهم وتواطأ معهم على هذا الكفر والشرك الصُراح كما حكم الله تعالى على النصارى لما تابعوا الأحبار والرهبان في مثل ذلك... بل حال هؤلاء شرٌّ وأخبث لأن أولئك الأحبار فعلوه وتواطؤوا عليه ولم يُقننوه أو يُنظموه، ولا جعلوا له دساتير وكتباً ومراسيم، يُعاقب الخارج عنها والطاعن فيها، ويعدلون بها كتاب الله بل تُهيمن وتحكم عليه، كما هو حال هؤلاء...
إذا فهمتَ هذا، فاعلم أن أعظمَ درجاتِ التمسك بهذه العروة الوثقى وأعلى مراتب الكفر بالطاغوت، هو ذِروة الإسلام، أعني جهاده، وجهاد أوليائه وأتباعه والسعي لهدمه، وإخراج النّاس من عبادته إلى عبادة الله سبحانه وحده... ومِن ذلك الصدع بهذا الحق وإعلانه كما كان شأن الأنبياء وطريقتهم التي بيّنها الله تعالى لنا أحسنَ بيان، عندما أمرنا بالإقتداء بملَّة إبراهيم ودعوته فقال: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه (5) إذ قالوا لقومهم إنا بُرءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تُؤمنوا بالله وحده}(6). فقوله: {بدا} أي ظهر وبان... وتأمل تقديمَ العداوة على البغضاء، لأنها أهم لأنَّ الإنسان قد يُبغض أولياءَ الطاغوت ولا يُعاديهم فلا يكون آتياً بالواجب عليه حتى تحصل منه العداوة والبغضاء...
وتأمل كيف ذكر الله تعالى براءتهم من الأقوام المشركين قبل البراءة مما يعبدون لأنَّ الأولى أهم من الثانية... وذلك لأن كثيراً من النَّاس قد يتبرء من الأصنام والطواغيت أو الدساتير والقوانين والأديان الباطلة ولا يتبرأ من عبيدها وأنصارها وأشياعها... فلا يكون آتياً بالواجب... لكن إذا تبرأ من عبيدها المشركين فهذا يستلزم البراءة من معبوداتهم وأديانهم الباطلة...(7).(54/68)
أما أدنى تلك الدرجات الواجبة على كلِّ مُكَلَّفٍ ، ولا ينجو المرءُ إلا بها... فهي اجتنابُ الطاغوت وعدم عبادته أو مُتابعته على شركه وباطله.. قال تعالى: {ولقد بعثنا في كلِّ أمةٍ رسولاً أنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}(8). وقال تعالى: {واجتنبوا الرجس من الأوثان}(9). وقال عن دعاء إبراهيم: {واجْنُبْنِي وبنيّ أن نعبد الأصنام}(10). وهذا إنْ لم يحققه المرءُ في الدنيا فيجتنبَ الطاغوت وعبادته أو متابعته الآن، فسيكون في الآخرة من الخاسرين... ولن ينفعه أو يُغنيَ عنه وقتها شيء آخر من الدين إن فرط بهذا الأصل الأصيل، وسيندم حين لا ينفع الندم حيث سيتمنى لو يرجع إلى الدنيا ليحقق هذا الركن العظيم وليستمسك بهذه العروة الوثقى، ويتبع هذه الملّة العظيمة...
__________
(1) مجموع الفتاوى: ج28 ص201 .
(2) 10) اعلام الموقعين عن ربِّ العالمين: ج 1 ص 50 .
(3) 11) سورة الشورى، الآية 21 .
(4) 12) نص المادة رقم 51 من الدستور الكويتي: (السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وِفقاً للدستور). وأختها غير الشرعية في الدستور الأردني المادة رقم 25: (تُناط السلطة التشريعية بالملك ومجلس الأمة). ومثلها في الدستور المصري المادة رقم 86: (يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع).
(5) 13) قال بعض المفسرين {الذين معه}: أتباعه أو الأنبياء الذين على طريقته .
(6) 14) سورة الممتحنة، الآية 4 .
(7) 15) مستفاد من: (سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك) لحمد بن عتيق... وراجع رسالتنا: (ملّة إبراهيم ودعوة الأنبياء والمرسلين وأساليب الطغاة في تمييعها وصرف الدعاة عنها). طبع النور للإعلام الإسلامي .
(8) 16) سورة النحل، الآية 36 .
(9) 17) سورة الحج، الآية 30 .
(10) 18) سورة إبراهيم، الآية 35 .
قال تعالى: {إذْ تبرأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبعوا ورأوُا العذاب وتقطَّعت بهمُ الأسباب ( وقال الذين اتَّبَعوا لو أن لنا كرةً فنتبرأ منهم كما تبرءُوا منا كذلك يُريهِمُ الله أعمالهم حسراتٍ عليهم وما هم بخارجين من النار}(1).
لكن هيهاتَ... هيهات، قد فات الأوان وليس مِن كَرةٍ ولا رجعةٍ إلى الدنيا، فإن كنتَ يا عبد الله ترومُ النّجاة وترجو رحمة ربّك التي كتبها للذين يتقون فاجتنب الطواغيت كلَّها، واتقِ شركهم الآن الآن... فإنه لا يجتنبهم يوم القيامة وينجو من مصيرهم في الآخرة إلا مَن فارقهم واجتنبهم في الدنيا... أما من رضي بدينهم الباطل وتابعهم عليه فإنَّ منادياً في عرصات القيامة يُنادي: (من كان يعبدُ شيئاً فليتبعه، فيتبعُ من كان يعبدُ الشمس الشمس، ويتبعُ من كان يعبدُ القمر القمر، ويتبعُ من كان يعبدُ الطواغيت الطواغيت..) إلى قوله في الحديث عن المؤمنين حين يقال لهم: (ما يحبسكم وقد ذهب النّاس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا منادياً ينادي،ليلحق كلُّ قومٍ بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربَّنا)(2).
فتأمل قولَ المؤمنين: (فارقناهم ونحن أحوجُ منا إليه) أي: فارقناهم في الدنيا... ونحن نحتاج إلى درهمهم ودينارهم وأمور دنياهم... فكيف لا نفارقهم في هذا المقام العظيم... ففي هذا بعض معالم الطريق... ومنه قول الله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون}(3). أزواجهم أي : أمثالهم وقرناءهم وأشياعهم وأنصارهم على باطلهم... ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: {فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون}(4).
فإياك يا عبد الله أن تُعرض عن كلمة التوحيد وتُفرّط في إثبات ما أثبتته ونفيِ ما نفته وتستكبر عن اتباع الحق وتصر على نُصرة الطاغوت فتكون مع الهالكين... وتُشاركهم في مصيرهم...
ثم اعلم أنَّ الله تعالى ضمّن هذا التوحيد الخالص وهذا الأصلَ الأصيل؛ دين الإسلام، واصطفاه لعباده الموحِّدين، فمن جاء به قُبِلَ منه، ومن جاء بغيره من الأديان رد في وجهه وكان من الخاسرين... قال تعالى: {ووصى بها إبراهيمُ بنيه ويعقوبُ يا بنيَّ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون}(5).
وقال تعالى: {إنَّ الدينَ عِندَ الله الإسْلاَم}(6).
وقال: {ومَن يَبتغِ غيرَ الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}(7).(54/69)
وإياك أن تُحَجِّر لفظةَ الدين فقط على النصرانية واليهودية ونحوِها... فتتبع غيرها من الأديان الضالة فتضل...فهي تشملُ كلَّ ملّةٍ أو منهجٍ أو نظامَ حُكمٍ أو قانونٍ من القوانين التي يتبعها الخلق ويدينون لها... فكلُّ ذلك أديان يجب البراءة منها واجتنابها... والكفر بها واجتناب أهلها... حاشى ملَّةَ التوحيد ودين الإسلام... قال تعالى آمراً لنا أنْ نقول لكلِّ الكفار على اختلاف ملّلهم ونحلّهم: {قل يا أيها الكافرون ( لا أعبدُ ما تعبدون... إلى قوله تعالى ..لكم دينكم ولي دين}... فكلِّ ملَّةٍ من ملل الكفر اجتمعت على نظام ومنهاج يُخالف ويُضاد دين الإسلام فهو دينهم الذي ارتضوه... فيدخل في ذلك الشيوعية والإشتراكية والعلمانية والبعثية ونحوها من المبادئ والمناهج المبتدعة التي اخترعها الخلق بأفكارهم المتهافتة وارتضوها أدياناً لهم... ومن ذلك (الديمقراطية) فإنها دينٌ غير دين الله تعالى... وإليك كلمات عابرة في بيان ضلال هذا الدين المبتدع المخترع الذي فُتن به كثيرٌ من الخلق، بل كثيرٌ ممن ينتسبون للإسلام، لتعلم أنه ملَّةٌ غير ملَّةِ التوحيد وسبيلٌ من السبل المنحرفة عن الصراط التي يقف على باب كلِّ واحدٍ منها شيطان يدعو إلى النَّار... فتجتنبه... وتدعو النَّاس إلى اجتنابه. وذلك...………
تذكيراً للمؤمنين...
وتنبيهاً للغافلين...
وإقامةً للحجة على المعاندين ...
ومعذرةً إلى ربِّ العالمين...
فصل
الديمقراطية دينٌ كفريٌّ مبتدع وأهلها بين أرباب مشرِّعين وأتباع لهم عابدين
اعلم أن أصل هذه اللفظة الخبيثة (الديمقراطية) يوناني وليس بعربي... وهي دمجٌ واختصارٌ لكلمتين؛ (ديموس) وتعني الشعب.. و (كراتوس) وتعني الحكم أو السلطة أو التشريع... ومعنى هذا أن ترجمة كلمة (الديمقراطية) الحرفية هي: (حكم الشعب) أو (سلطة الشعب) أو (تشريع الشعب)..
__________
(1) 19) سورة البقرة، الآيتان 166-167 .
(2) 20) متفق عليه؛ جزءٌ من حديث رؤية المؤمنين لربّهم يوم القيامة .
(3) 21) سورة الصافات، الآية 22 .
(4) 22) سورة الصافات، الآيات 33-35 .
(5) 23)سورة البقرة، الآية 132 .
(6) 24) سورة آل عمران، الآية 19 .
(7) 25) سورة آل عمران، الآية 85 .
وهذا هو أعظمُ خصائص الديمقراطية عند أهلها... ومن أجله يلهجون بمدحها، وهو يا أخا التوحيد في الوقت نفسه من أخص خصائص الكفر والشرك والباطل الذي يناقض دين الإسلام وملَّةَ التوحيد أشدَّ المناقضة ويُعارضه أشدَّ المعارضة... لأنك قد عرفتَ فيما مضى أنَّ أصل الأصول الذي خُلق من أجله الخلق وأنُزلت الكتب وبُعث الرسل، وأعظم عُروة في الإسلام هو توحيد العبادة لله تعالى واجتنابُ عبادة ما سواه.. وأنَّ الطاعة في التشريع مِن العبادات التي يجب أن تُوّحد لله تعالى وإلا كان الإنسان مُشركاً مع الهالكين..
وسواءٌ طبقت هذه الخاصية في الديمقراطية على حقيقتها، فكان الحكم للجماهير أو غالبية الشعب، كما هي أسمى أماني الديمقراطيين من علمانيين أو منتسبين للدين.. أو بقي على ما هو عليه في الواقع اليوم، حيث هو: حكم الملأ من الحكام وعصابتهم المقربة إليهم من عائلاتهم أو كبار التجار (الهوامير) والأثرياء الذين بيدهم رؤوس الأموال ووسائل الإعلام ويستطيعون بواسطتها أن يصلوا أو يُوصلوا إلى البرلمان (صرح الديمقراطية) من يشاؤون... كما يستطيع مولاهم أو ربُّهم (الملك أو الأمير) أن يحلَّ المجلس ويربطه في أي وقتٍ شاء وكيفما شاء...
فالديمقراطية على أي الوجهين كفرٌ بالله العظيم وشركٌ بربِّ السماوات والأرضين ومناقضةٌ لملِّةِ التوحيد ودين المرسلين...
لأسباب عديدة وعديدة... منها :-
أولاً: لأنها تشريعُ الجماهير أو حكمُ الطاغوت وليست حُكمَ الله تعالى... فالله جل ذكره يأمر نبي صلى الله عليه وسلم بالحكم بما أنزل الله عليه، وينهاه عن اتباع أهواء الأمة أو الجماهير أو الشعب، ويُحَذِّره من أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله عليه فيقول سبحانه وتعالى: {وأنِ احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}(1)... هذا في ملَّةِ التوحيد ودين الإسلام..
أما في دين الديمقراطية وملَّةِ الشرك فيقول عبيدها: (وأنِ احكم بينهم بما ارتضى الشعب واتبع أهواءهم واحذر أن تُفتن عن بعض ما يُريدون ويشتهون ويُشرِّعون)... هكذا يقولون... وهكذا تقرر الديمقراطية، وهو كفرٌ بواحٌ وشركٌ صراحٌ لو طبقوه... ومع هذا فالحق أن واقعهم أنتن من ذلك فإنه لو تكلم عن حالهم لقال: (وأنِ احكم بينهم بما يهوى الطاغوت وملؤه ، ولا يُسن تشريعٌ ولا قانونٌ إلا بعد تصديقه وموافقته...)!!!
هذا ضلالٌ مبينٌ واضحٌ أبداً بل هو الشركُ بالمعبودِ عُدواناً(54/70)
ثانياً: لأنها حُكم الجماهير أو الطاغوت ، وفقاً للدستور وليس وِفقاً لشرع الله تعالى... وهكذا نصت دساتيرهم وكُتبهم(2) التي يقدسونها أكثر من القرآن بدليل أن حُكمها مُقدّم على حُكمه وشرعها مُهيمنٌ على شرعه.. فالجماهير في دين الديمقراطية لا يقبل حُكمها وتشريعها ـ هذا إذا حَكمت فعلاً ـ إلا إذا كان مُنطلقاً من نصوص الدستور وَوِفقاً لمواده لأنه أبو القوانين وكتابها المقدس عندهم... ولا اعتبار في دين الديمقراطية لآيات القرآن أو لأحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم ولا يمكن سن تشريعٍ أو قانون وِفقاً لها إلا إذا كانت مُوافقة لنصوص كتابهم المقدس (الدستور).. واسألوا فقهاء!! القانون عن هذا إنْ كنتم في مِرية منه...
الله يقول: {فإنْ تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى الله والرسولل إنْ كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً}(3).
ودين الديمقراطية يقول: (إن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى الشعب ومجلسه ومليكه وفقاً للدستور الوضعي والقانون الأرضي)..!!
" أُفٍّ لكم ولما تعبدون من دون ا لله أفلا تعقلون "(4).
وعلى هذا فلو أرادت الجماهير تحكيم شرع الله تعالى عن طريق دين الديمقراطية هذا ومن خلال مجالسه الشركية التشريعية.. فلا يمكنها ذلك ـ إنْ سمح الطاغوت بذلك ـ إلا عن طريق الدستور ومن خلال مواده ونصوصه... لأنه هو كتاب الديمقراطية المقدس أو قُل توراتها وإنجيلها المحرّف تِبعاً للأهواء والشهوات...
ثالثاً: إنَّ الديمقراطية ثمرةُ العلمانية الخبيثة وبنتها غير الشرعية... لأن العلمانية: مذهبٌ كفريٌّ يرمي إلى عزل الدين عن الحياة أو فصل الدين عن الدولة والحكم...
والديمقراطية: هي حكمُ الشعب أو حُكم الطاغوت... لكنَّها على جميع الأحوال ليست حكم الله الكبير المتعال، فهي كما عرفت لا تضع أي اعتبار لشرع الله تعالى المحكم إلا إذا وافق قبل كلِّ شيءٍ مواد الدستور، وثانياً؛ أهواء الشعب، وقبل ذلك كلِّه رغبات الطاغوت أو الملأ...
__________
(1) 26) سورة المائدة، الآية 49 .
(2) 27) نص المادة رقم 6 من الدستور الكويتي: (الأمة مصدر السلطات جميعاً). والمادة 51 (السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وفقاً للدستور) ونص المادة 24 من الدستور الأردني: (الأمة مصدر السلطات) و (تمارس الأمة سلطاتها على الوجه المبين في هذا الدستور) .
(3) 28) سورة النساء، الآية 59 .
(4) 29) أخبرنا الله تعالى في القرآن الكريم أن إبراهيم قالها لقومه بعد أن بين لهم سفاهة معبوداتهم وطواغيتهم .
لذلك لو قال الشعب كُله للطاغوت أو لأرباب الديمقراطية: نريد أن نُحكم بما أنزل الله، ولا يكون لأحدٍ لا الشعب ولا مُمثيله من النواب ولا الحاكم حق في التشريع أبداً... ونريد أن نُنفذ حُكم الله في المرتد وحُكم الله في الزاني والسارق وشارب الخمر...و... ونُريد أن نُلزم المرأة بالحجاب والعفاف... ونمنع التبرج والعُري والخنا والفجور والزنا واللواط وغير ذلك من الفواحش... سيقولون لهم على الفور: هذا مناقضٌ لدين الديمقراطية وحريته..!!!
إذاً هذه هي حرية الديمقراطية: التحرّر من دين الله وشرائعه وتعدّي حدوده.. أما شرع الدستور الأرضي وحدود القانون الوضعي فمحفوظةٌ مقدسةٌ محروسةٌ في ديمقراطيتهم العفنة بل ويُعاقب كلُّ من تعداها أو خالفها أو ناقضها...
فتباً لكم تباً لكم تباً لكم تباً لكم حتى يَكِلَّ لسانِ
فالديمقراطية ـ إخوة التوحيد ـ إذاً... دينٌ غير دين الله تعالى... إنها حُكمُ الطاغوت وليست حُكمُ الله تعالى... إنها شريعةُ أربابٍٍ مُتشاكسين متفرقين وليست شريعةَ الله الواحد القهار... والذي يقبل بها ويتواطأ عليها من الخلق... فهو في الحقيقة قد قبل أن يكون له حق التشريع وِفقاً لمواد الدستور وأن يكون تشريعه هذا مقدماً على شرع الله الواحد القهار...
وسواءٌ أَشرَّع بعد ذلك أم لم يُشرِّع وفاز بالإنتخابات الشركية أم لم يفز، فإنَّ تواطأه مع المشركين على دين الديمقراطية، وقبولَهُ بأن يكون الحكمُ والتشريعُ له، وأن تكون سلطته فوق سلطة الله وكتابه وشرعه هو الكفر بعينه؛ هذا ضلالٌ مبينٌ واضحٌ أبداً بل هو الشركُ بالمعبودِ عُدواناً.
فالشعبُ في دين الديمقراطية يُنيبُ عن نفسه هؤلاء النواب، فتتخير كلُّ طائفةٍ أو جماعةٍ أو قبيلةٍ منهم ربًّا من هؤلاء الأرباب المتفرقين، ليشرِّعوا لهم تبعاً لأهوائهم ورغباتهم... لكن كما عُلم: وِفقاً لمواد ونصوص الدستور وفي حدوده... فمنهم من يتخيّر معبوده ومشرِّعه تبعاً للفكر والايديولوجية... فإما ربٌّ من الحزبِ الفُلاني.. أو إلهٌ من الحزبِ العَلاّني... ومنهم من يتخيَّره تبعاً للقبيلةِ والعصبية... فإما إلهٌ منَ القبيلةِ الفُلانية... أو وثنٌ معبودٌ من القبيلة العَلانية... ومنهم من يتخيّره إلهاً سلفياً بزعمهم ، وآخر يجعله ربًّا إخوانياً(1)... أو معبوداً ملتحياً وآخر حليقاً... وهكذا ... {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضيَ بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم}(2).(54/71)
فهؤلاء النواب هم في الحقيقة أوثانٌ منصوبةٌ وأصنامٌ معبودةٌ وألهةٌ مزعومةٌ منصوبةٌ في معابدهم ومعاقلهم الوثنية (البرلمانات) يدينون هم وأتباعهم بدين الديمقراطية وشرع الدستور، إليه يحتكمون ووِفقاً لنصوصه ومواده يُشرِّعون ويُقننِّون... ويحكمهم قبل ذلك كلِّه ربُّهم وإلههم وصنمهم أو وثنهم الكبير الذي يُقر تشريعاتهم هذه ويُصدّق عليها أو يرفضها ويردها... وهو الأمير أو الملك أو الرئيس...
هذه يا إخوة التوحيد هي حقيقة الديمقراطية وملَّتها... دينُ الطاغوت... لا دينَ الله... وملَّة المشركين... لا ملَّة النبيِّين... وشرع أرباب وآلهة متفرقة متنازعة... لا شرعَ الله الواحد القهار..
{ءَأربابٌ متفرقون خيرٌ أمِ الله الواحد القهار ( ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان}(3).
{ءَإلهٌ مع الله ؟؟ تعالى الله عما يشركون}(4).
فلتختر يا عبد الله... إما دينَ الله وشرعه المطهر وسِراجه المنير وصِراطه المستقيم... أو دينَ الديمقراطية وشركها وكفرها وطريقها الأعوج المسدود... حُكمَ الله الواحد القهار... أم حُكمَ الطاغوت...
{قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها...}(5). {وقلِ الحق من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً...}(6).
{أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون ( قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}(7).
فصل
ردود على شبهات وأباطيل تسوِّغ دين الديمقراطية
__________
(1) 30) هذا كلّه مع الأسف الشديد حاصل وموجود في الكويت... وفي كثير من البلدان...
(2) 31) سورة الشورى، 21 .
(3) 32) سورة يوسف، الآيتان 39-40 .
(4) 33) سورة النمل، الآية 63 .
(5) 34) سورة البقرة، الآية 256 .
(6) 35) سورة الكهف، الآية 29 .
(7) 36) سورة آل عمران، الآيات 83-85 .
يقول تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخر مُتشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌّ من عند ربِّنا وما يذكر إلا أُولو الألباب ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}(1).
يبين الله تعالى لنا في هذه الآيات أن الناس مع شرعه سبحانه قسمان:ـ
أهل علم ورسوخ:ـ يأخذونه ويؤمنون به جميعاً، فيربطون العام بمخصصه، والمطلق بمقيده، والمجمل بمبينه، وكل ما أشكل عليهم ردوه إلى أمه من الأصول المحكمات البينات والقواعد الراسيات الراسخات التي تضافرت عليها دلائل الشرع.
أهل زيغ وضلال:ـ يتبعون المتشابه منه، يأخذونه ويفرحون به وحده ابتغاء الفتنة.. معرضين عن محكمه أو مُبينه أو مفسره...
وها هنا.. في باب الديمقراطية والمجالس النيابية الشركية ونحوها... يسلك القوم طريق أهل الزيغ والضلال فيتتبعون حوادث وشبهات ويأخذونها منفردة، دون أن يربطوها بأصولها المبينة أو المقيدة أو المفسرة من قواعد الدين وأسسه الراسيات... وذلك ليلبسوا الحق بالباطل والنور بالظلام...
لذا، فسنعرض ها هنا سريعاً لأشهر شُبهاتهم في هذا الباب، نُفنِّدها وندحضها ونرد عليها بعون الملك الوهاب مُجري السحاب وهازم الأحزاب.
الشبهة الأولى:
عمل يوسف عند ملك مصر وجوابها
اعلم أن هذه الشبهة تعلق بها بعض من أفلس من الأدلة...
فقالوا: ألم يتول يوسف عليه السلام منصب الوزارة عند ملك كافر لايحكم بما أنزل الله تعالى ؟ إذن يجوز المشاركة بالحكومات الكافرة بل والولوج في البرلمانات ومجالس الأمة ونحوها..
فنقول وبالله تعالى التوفيق:ـ
أولاً: إنَّ الاحتجاج بهذه الشبهة على الولوغ في البرلمانات التشريعية وتسويغها باطل وفاسد، لأن هذه البرلمانات الشركية قائمة على دين غير دين الله تعالى ألا وهو دين الديمقراطية الذي تكون ألوهية التشريع والتحليل والتحريم فيه للشعب لا لله وحده..
وقد قال تعالى: {ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}(2). فهل يجرؤ زاعمٌ أن يزعم بأنَّ يوسف عليه السلام اتبع ديناً غير دين الإسلام أو ملّة غير ملّة آبائه الموحِّدين.. أو أقسم على احترامها..؟؟ أو شرَّع وِفقاً لها..؟؟ كما هو حال المفتونين بتلك البرلمانات(3)..؟؟.
كيف وهو يعلنها بملء فيه في وقت الاستضعاف فيقول: {إني تركتُ ملّة قومٍ لا يُؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ( واتبعتُ ملّة ءاباءي إبراهيم وإسحق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء}(4).(54/72)
ويقول: {يا صاحبيَ السّجن ءأربابٌ مُّتفرقون خيرٌ أمِ الله الواحد القهار ( ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سمَّيتموها أنتم وءاباؤُكم ما أنزل الله بها من سلطان إنِ الحكمُ إلالله أمر ألاَّ تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون}(5).
أفيُعلنها ويصدع بها ويدعو إليها وهو مستضعف.. ثم يُخفيها أو ينقضها بعد التمكين..؟؟!!.
أجيبونا يا أصحاب الاستصلاحات..!!
ثم ألا تعلمون يا دهاقين السياسة أن الوزارة سلطة تنفيذية والبرلمان سلطة تشريعية..وبين هذه وهذه فروق وفروق، فالقياس ها هنا لا يصح عند القائلين به(6)... ومنه تعلم أن الاستدلال بقصة يوسف عليه السلام على تسويغ البرلمانات لا يصح أبداً، ولا مانع أن نُواصل إبطال استدلالهم بها على الوزارة لاشتراك المنصبين في زماننا بالكفر..
ثانياً: إنَّ مُقايسة تولي كثير من المفتونين للوزارة في ظلِّ هذه الدول الطاغوتية التي تشرع مع الله وتحارب أولياء الله وتوالي أعداءه على فِعل يوسف عليه السلام قياس فاسد وباطل من وجوه:ـ
__________
(1) 37) سورة آل عمران، الآيات 7-8 .
(2) 38) سورة آل عمران، الآية 85 .
(3) 39)حيث تنص دساتيرهم على أن الأمة أو الشعب هو مصدر السلطات (انظر المادة رقم 6 من الدستور الكويتي والمادة رقم 24 من الدستور الأردني) وأن السلطة التشريعية تُناط بالملك أو الأمير ومجلس الأمة (انظر المادة رقم 51 من الدستور الكويتي والمادة رقم 25 من الدستور الأردني).
(4) 40) سورة يوسف، الآيتان 37-38 .
(5) 41) سورة يوسف، الآيتان 39-40 .
(6) 42) بعض المتعالمين يرون أن الوزارة أخطر من البرلمان وينطلقون من أن البرلمان بزعمهم جبهة معارضة للحكومة فهم يجاهدون في هذه الجبهة جهاداً دستورياً، ويكافحون فيها كفاحاً قانونياً، ويُناضلون نضالاً دبلوماسياً.. وتعاموْا على أن التشريع شره أخطر من التنفيذ؛ خصوصاً وأن تشريعهم هذا الذي سموه جهاداً وكفاحاً لا يكون في البرلمان إلا وِفقاً للدستور وطِبقاً لدين الديمقراطية انظر المادة 24 فرع 2 من الدستور الأردني حيث إن سلطات الأمة التشريعية أو غيرها لا تُمارس إلا على الوجه المبين في الدستور.. وما أعضاء البرلمان إلا نواب الأمة صاحبة السلطات الدستورية بزعمهم!!.
وانظر أختها غير الشرعية في الدستور الكويتي المادة رقم 51 (السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وفقاً للدستور) .
1 ـ أنَّ متولي الوزارة في ظلِّ هذه الحكومات التي تحكم بغير ما أنزل الله تعالى لابد وأن يحترم دستورهم الوضعي ويدين بالولاء والإخلاص للطاغوت الذي أمره الله أول ما أمره أن يكفر به {يُريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمِروا أن يكفروا به}(1). بل لابد عندهم من القسم على هذا الكفر قبل تولي المنصب مباشرة تماماً كما هو الحال بالنسبة لعضو البرلمان(2). ومن يزعم أن يوسف الصدِّيق الكريم ابن الكريم ابن الكريم كان كذلك مع أن الله زكاه وقال عنه: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}(3). فهو من أكفر الخلق وأنتنهم، قد برىء من الملّة ومرق من الدين، بل هو شرٌّ من إبليس اللعين الذي استثنى حين أقسم فقال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين}(4)
ويوسف عليه السلام يقيناً وبنص كلام الله تعالى من عباد الله المخلصين بل من ساداتهم..
2 ـ إنَّ متولي الوزارة في ظلِّ هذه الحكومات ـ أقسم اليمين الدستورية أم لم يقسم ـ لابد له أن يدين بالقانون الكفري الوضعي وأن لا يخرج عنه أو يخالفه، فما هو إلا عبدٌ مخلصٌ له وخادمٌ مطيعٌ لمن وضعوه في الحقِّ والباطل والفسق والظلم والكفر..
فهل كان يوسف الصدِّيق كذلك، حتى يصلح الاحتجاج بفعله لتسويغ مناصب القوم الكفرية..؟؟ إنَّ مَن يرمي نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله بشيءٍ من هذا لا نشكُ في كفره وزندقته ومروقه من الإسلام.. لأن الله تعالى يقول: {ولقد بعثنا في كلِّ أمةٍ رسولاً أنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}(5). فهذا أصل الأصول وأعظم مصلحة في الوجود عند يوسف عليه السلام وسائر رسل الله..
فهل يعقل أن يدعو النَّاس إليه في السراء والضراء وفي الاستضعاف والتمكين ثم هو يناقضه فيكون من المشركين؟؟ كيف والله قد وصفه بأنه من عباد الله المخلصين؟؟ ولقد ذكر بعض أهل التفسير أنَّ قوله تعالى: {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك...}(6). دليل على أنَّ يوسف عليه السلام لم يكن مُطبقاً لنظام الملك وقانونه ولا مُنقاداً له ولا مُلزماً بالأخذ به..
فهل يوجد في وزارات الطواغيت أو برلماناتهم اليوم مثل هذا؟؟ أي أن يكون حال الوزير فيها كما يقال (دولة داخل دولة)..؟؟ فإن لم يوجد فلا وجه للقياس ها هنا..
3 ـ إنَّ يوسف عليه السلام تولى تلك الوزارة بتمكين من الله عز وجل، قال تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض}(7). فهو إذاً تمكين من الله، فليس للملك ولا لغيره أن يضره أو يعزله من منصبه ذاك، حتى وإن خالف أمر الملك أو حكمه وقضاءه...(54/73)
فهل لهؤلاء الأراذل المتولين عند الطواغيت اليوم نصيبٌ من هذا في مناصبهم المهترئة التي هي في الحقيقة لعبة بيد الطاغوت، حتى يصح مقايستها على ولاية يوسف عليه السلام تلك وتمكينه ذاك؟.
4 ـ إنَّ يوسف عليه السلام تولى الوزارة (بحصانة) حقيقية كاملة من الملك، قال سبحانه وتعالى: {فلما كلَّمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين}(8). فأطلقت له حرية التصرف كاملة غير منقوصة في وزارته {وكذلك مكّنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء}(9). فلا معترض عليه ولا محاسب له ولا رقيب على تصرفاته مهما كانت.. فهل مثل هذا موجود في وزارات الطواغيت اليوم أم أنها حصانات كاذبة زائفة… تُزال وتسحب سريعاً إذا لعب الوزير بذيله، أو ظهر عليه شيء من المخالفة أو الخروج عن خط الأمير أو دين الملك؟؟ فما الوزير عندهم إلا خادمٌ لسياسات الأمير أو الملك يأتمر بأمره وينتهي عن نهيه، وليس له الحق بأن يُخالف أمراً من أوامر الملك أو الدستور الوضعي ولو كان مضاداً لأمر الله تعالى ودينه...
ومن زعم أن شيئاً من هذا يشبه حال يوسف عليه السلام في ولايته فقد أعظم الفرية وكفر بالله وكذّب تزكيته سبحانه ليوسف عليه السلام...
__________
(1) 43) سورة النساء، الآية 60 .
(2) 44)تنص المادة 43 من الدستور الأردني: (على رئيس الوزراء والوزراء قبل مباشرتهم أعمالهم أن يُقسموا أمام الملك اليمين التالية: " أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً للملك، وأن أحافظ على الدستور...إلخ". ومثلها المادة 79: (على كلِّ عضوٍ من أعضاء مجلسي الأعيان والنواب قبل الشروع في عمله أن يقسم أمام مجلسه يميناً هذا نصها: " أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً للملك والوطن وأن أحافظ على الدستور...إلخ". ومثلها في الدستور الكويتي المادتان 126و91 .
فهل فعل يوسف عليه السلام شيئاً من هذا؟؟؟؟.
ولا تغتر بتلبيسات بعض المفتونين الذين يقولون: نقسم ونستثني في نفوسنا: (في حدود الشرع). وقل لهم: ليس اليمين على نية الحالف، ولو كان الأمر كذلك لفسدت عقود الناس وشروطهم ولفتح الباب لكلِّ متلاعب، لكن كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: (اليمين على نية المستحلف). فيمينكم هذه ليست تبعاً لنياتكم بل هي على نية الطاغوت الذي استحلفكم...
(3) 45) سورة يوسف، الآية 24 .
(4) 46))سورة ص، الآيتان 82-83 .
(5) 47) سورة النحل، الآية 36 .
(6) 48) سورة يوسف، الآية 76 .
(7) 49) سورة يوسف، الآية 56 .
(8) 50) سورة يوسف، الآية 54 .
(9) 51) سورة يوسف، الآية 56 .
فإن علم أن حاله عليه السلام ووضعه ذاك غير موجود اليوم في وزارات الطواغيت... فلا مجال للقياس ها هنا، إذاً فليترك البطالون عنهم الهذر والهذيان في هذا الباب..
ثالثاً: من الردود المبطلة لهذه الشبهة، ما ذكر بعض أهل التفسير من أن الملك قد أسلم، وهو مروي عن مجاهد تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا القول يدفع الاستشهاد بهذه القصة من أصله...
ونحن ندين الله ونعتقد بأن اتباع عموم أو ظاهر آية في كتاب الله تعالى أولى من كلام وتفسيرات وشقشقات واستنباطات الخلق كلّهم العارية من الأدلة والبراهين... فمما يدل على هذا القول؛ قوله تبارك وتعالى عن يوسف عليه السلام: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض}(1).
وهذا مجمل قد بيّنه الله تعالى في موضع أخر من كتابه فوصف حال من يُمَكِّنَ لهم في الأرض من المؤمنين بقوله: {الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}(2).
ولا شك أن يوسف عليه السلام من هؤلاء بل من ساداتهم، الذين إن مكنهم الله أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.. ولا شك ولا ريب عند من عرف دين الإسلام أن أعظم معروف فيه هو التوحيد الذي كان أصل الأصول في دعوة يوسف وآبائه عليهم السلام... وأعظم منكر هو الشرك الذي كان يحذر منه يوسف ويمقت ويبغض ويُعادي أربابه.. وفي دلالة واضحة وقاطعة على أن يوسف بعد أن مَكَّنَ الله له كان صادعاً بملة آبائه يعقوب واسحاق وإبراهيم، آمراً بها ناهياً محارباً لكلِّ ما خالفها وناقضها... فلا هو حكم بغير ما أنزل الله، ولا هو أعان على الحكم بغير ما أنزل الله، ولا أعان الأرباب المشرِّعين والطواغيت المعبودين من دون الله ولا ظاهرهم أو تولاهم كما يفعل المفتونون في مناصبهم اليوم..
فضلاً أن يُشاركهم في تشريعاتهم كما يفعل اليوم المفتونون في البرلمانات بل يُقال جزماً إنه قد أنكر حالهم وغيَّر مُنكرهم وحكم بالتوحيد ودعا إليه ونابذ وأبعد من خالفه وناقضه كائناً من كان... وذلك بنص كلام الله تعالى... ولا يصف الصدِّيقَ الكريم ابن الأكرمين بغير هذا إلا كافرٌ خبيثٌ قد برىء من ملّته الطاهرة الزكية...(54/74)
ومما يدل على هذا أيضاً دلالة واضحة ويؤكده.. بيان وتفسير مجمل قوله تعالى: {وقال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين}(3). فما تُرى الكلام الذي كلّم يوسف الملك به هنا، حتى أعجِب به ومكّنه وأمنه؟؟. أتُراه انشغل بذكر قصة امرأة العزيز وقد انتهت وظهر الحق فيها... أم تُراه كلَّمه عن الوحدة الوطنية!! والمشكلة الاقتصادية!! و..و... أم ماذا؟؟؟.
ليس لأحد أن يرجم بالغيب ويقول ها هنا بغير برهان، فإنْ فعلَ فهو من الكاذبين.. لكن المبيِّن المفسر لقوله تعالى: {فلما كلَّمه} واضحٌ صريحٌ في قوله تعالى: {ولقد بعثنا في كلِّ أمةٍ رسولاً أنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}(4).
وقوله تعالى: {ولقد أُوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركتَ ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين}(5).
وقوله تعالى في وصف أهم المهمات في دعوة يوسف عليه الصلاة السلام: {إني تركتُ ملَّة قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ( واتبعت ملّة ءاباءي إبراهيم وإسحق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء..}(6).
وقوله تعالى عنه:{...ءأربابٌ متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار( ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إنِ الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيِّم ولكن أكثر النّاس لا يعلمون}(7).
لا شك أنَّ هذا أعظم كلام عند يوسف عليه السلام فهو الدين القيِّم عنده وأصلُ أصولِ دعوته وملَّته وملَّة آبائه.. فإذا أمر بمعروف فهذا أعظم معروف يعرفه... وإن نهى عن منكر فليس بمنكر عنده أنكر مما يُناقض هذا الأصل ويُعارضه.. فإذا تقرر هذا.. وكان جوابُ الملك له: {إنك اليوم لدينا مكينٌ أمين} فهو دليلٌ واضحٌ على أنَّ الملك قد تابعه ووافقه عليه وأنه قد ترك ملَّة الكفر واتبع ملَّة إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم السلام...
أو قُل إنْ شئتَ: على أقلِّ الأحوال أقرّه على توحيده وملَّة آبائه، وأطلق له حرية الكلام والدعوة إليها وتسفيه ما خالفها ولم يعترض عليه في شيءٍ من ذلك ولا كلفه بما يُناقضه أو يخالفه... وحسبك بهذا فرقاً عظيماً بين حاله عليه السلام هذه.. وبين حال المفتونين من أنصار الطواغيت وأعوانهم في وزارات اليوم أو المشاركين لهم بالتشريع في برلماناتهم..(8)
__________
(1) 52) سورة يوسف، الآية 21 .
(2) 53) سورة الحج، الآية 41 .
(3) 54) سورة يوسف، الآية 54 .
(4) 55)سورة النحل، الآية 36 .
(5) 56) سورة الزمر، الآية 65 .
(6) 57) سورة يوسف، الآيتان 37-38 .
(7) 58) سورة يوسف، الآيتان 39-40 .
(8) 59) ولا يعكر على القول السابق احتجاج من احتج بقوله تعالى في سورة غافر على لسان مؤمن آل فرعون: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً..} لوجوه:ـ
1 ـ أن الآية ليست بصريحة الدلالة على أن المقصود بيوسف هنا هو يوسف بن يعقوب.. فيحتمل أن يكون غيره، ذكر بعض المفسرين هذا الوجه وقالوا هو: يوسف بن افرانيم بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نبياً 20 سنة، وهذا مرويٌ عن ابن عباس رضي الله عنهما.. وانظر تفسير القرطبي.. والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.
2 ـ على فرض أن المقصود في هذه الآية هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام فالآية ليست أيضاً بصريحة الدلالة على أنّ الملك بقي على كفره لكن الكلام فيها على غالب بني إسرائيل .
3 ـ أن الآية لم تذكر الكفر المعلن البواح لكن ذكرت الشك، والشك قد يكون في القلب ويكتم في وقت ثم يظهر في وقت آخر.. وإذ قد تقرر أن يوسف قد مُكِّن له في الأرض وكان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر كما قد تقدم، فلن يرضى عليه السلام من أحد أن يُظهر الشرك أمامه = = = بل لن يجرؤ أحدٌ على ذلك لأنه والٍ أو حاكم ورسول في الوقت نفسه وأعظم منكر عنده هو الشرك.. لكن ربما كتم ذلك في القلب وأظهر أهلُه الإيمان الظاهر خوفاً من سلطان الحق.. وهذا نفاقٌ يعامل أهله في الدنيا بما يظهرون.. بل في قوله: {حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً..} دلالة على إيمانهم ولو ظاهراً برسالته.
ويجدر التنبيه هنا إلى أنَّ بعض المفتونين قد ذكروا مؤمن آل فرعون أيضاً في شبهاتهم في هذا الباب بحجة أنه كان يكتم إيمانه.. فنقول: ما وجه الدلالة في نزاعنا هذا من قصة ذلك المؤمن ؟. إن هناك فرقاً شاسعاً بين كتم الإيمان واخفائه للمستضعفين وبين المشاركة في الكفر والشرك والتشريع والتواطئ على دين غير دين الله تعالى.. فهل تستطيعون أن تثبتوا لنا أن ذلك المؤمن قد شرع كما تشرعون أو أنه قد شارك بالحكم بغير ما أنزل الله كما تشاركون أو أنه تواطأ على الديمقراطية أو غير دين الله كما تفعلون؟؟؟ أثبتوا ذلك أولاً ودونه خرطُ القتاد ثم بعد ذلك استدلوا بفعله.. وإلا فخلوا عنكم الهذر والهذيان..
رابعاً: إذا عرفت ما سبق كلَّه وتحقق لديك يقيناً بأنَّ تولي يوسف عليه السلام للوزارة لم يكن مخالفاً للتوحيد ولا مُناقضاً لملَّة إبراهيم كما هو حال توليها في هذا الزمان..(54/75)
فعلى فرضِ أن الملك بقي على كفره.. فتكون مسألةُ تولي يوسف هذه الولاية مسألةً من مسائل الفروع لا إشكال فيها في أصل الدين لما تقرر من قبل بأن يوسف لم يقع منه كفرٌ أو شركٌ أو تولي للكفار أو تشريعٌ مع الله بل كان آمراً بالتوحيد ناهياً عن ذلك كلِّه.. وقد قال الله تعالى في باب فروع الأحكام: {لكلٍّ جعلنا منكم شِرعةً ومنهاجاً}(1). فشرائعُ الأنبياء قد تتنوع في فروع الأحكام لكنِّها في باب التوحيد واحدة، قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (نحن معاشرَ الأنبياء إخوةٌ لعلات ديننا واحد)(2). يعني: إخوةٌ من أمهات مختلفة والأب واحد.. إشارةٌ إلى الإتفاق في أصل التوحيد والتنوع في فروع الشريعة وأحكامها... فقد يكون الشيءُ في باب الأحكام في شريعة من قبلنا حراماً ثم يحل لنا كالغنائم، وقد يحصل العكس، أو شديداً على من قبلنا فيخفف عنا وهكذا.. ولذا فليس كلُّ شرعٍ في شرع من قبلنا شرعاً لنا.. خصوصاً إذا عارضه من شرعنا دليل..
وقد صح الدليل في شرعنا على معارضة هذا الذي كان مشروعاً ليوسف عليه السلام، وتحريمه علينا.. فروى ابن حبان في صحيحه وأبو يعلى والطبراني أنَّ صلى الله عليه وسلم قال: (ليأتين عليكم أُمراء سفهاء يقربون شرار النّاس، ويُؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفًا، ولا شرطياً، ولا جابياً، ولاخازناً).
والراجحُ أنَّ هؤلاء الأمراء ليسوا كفاراً بل فُجاراً سفهاء، لأن المحذِّر عادةً إذا حذر فإنما يذكر أعظم المفاسد والمساوئ، فلو كانوا كفاراً لبين صلى الله عليه وسلم ، لكن أعظمَ جرائمهم التي ذكرها صلى الله عليه وسلم هنا؛ هي تقريب شِرار النّاس وتأخيُر الصلاة عن مواقيتها.. ومع هذا فقد نهى الرسو صلى الله عليه وسلم ها هنا نهياً صريحاً عن أن يكون المرءُ لهم خازناً.. فإذا كان توالي وظيفة الخازن عند أُمراء الجور منهياً عنه في شرعنا ومحرماً.. فكيف بتولي وزارة الخزانة عند ملوك الكفر وأُمراء الشرك؟.{قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظٌ عليم}(3). فهذا دليلٌ صحيحٌ وبرهانٌ صريحٌ على أنَّ هذا كان من شرع من قبلنا ، وأنه منسوخٌ في شرعنا... والله تعالى أعلم..
وفي هذا الكفاية لمن أراد الهداية.. لكن من يُقدِّم استحسانه واستصلاحه وأقاويل الرجال على الأدلة والبراهين، فلو انتطحت الجبال بين يديه لما ظفر بالهدى..{ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً..}(4).
وأخيراً وقبل أن أختم الكلام على هذه الشبهة أُنبِّه إلى أنَّ بعض المفتونين الذين يسوِّغون الشرك والكفر باستحسانهم واستصلاحهم الولوغَ في الوزارات الكفرية والبرلمانات الشركية يخلطون في حججهم وشبههم كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ حول تولي يوسف عليه السلام الوزارة... وهذا في الحقيقة مِن لَبس الحق بالباطل ومن الإفتراء على شيخ الإسلام وتقويله ما لم يقله.. إذ هو رحمه الله تعالى لم يحتج بالقصة لتسويغ المشاركة في التشريع والكفر أو الحكم بغير ما أنزل الله... معاذ الله فإننا نُنزه شيخ الإسلام ودينَه بل نُنزه عقله عن مثل هذا القول الشنيع الذي لم يجرؤ على القول به إلا هؤلاء الأراذل في هذه الأزمنة المتأخرة، نقول هذا.. حتى ولو لم نقرأ كلامه في هذا الباب، لأن مثل هذا الكلام لا يقوله عاقل، فضلاً عن أن يصدر من عالم رباني كشيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ... فكيف وكلامُه في هذا الباب واضحٌ وجليٌّ.. حيث كان كلُّه مُنصباً على قاعدة درء أعظم المفسدتين وتحصيلِ أعلى المصلحتين عند التعارض.. وقد علمتَ أنَّ أعظم المصالح في الوجود هي مصلحةُ التوحيد وأنَّ أعظم المفاسد هي مفسدة الشرك والتنديد.. وقد ذَكر أنَّ يوسف عليه السلام كان قائماً بما قدر عليه من العدل والإحسان، كما في الحسبة(5) حيث يقول في وصف ولايته: (وفَعلَ من العدل والخير ما قدر عليه ودعاهم إلى الإيمان بحسب الإمكان)اهـ.
ويقول: (لكنْ فَعلَ الممكنَ من العدل والإحسان)اهـ (6).
ولم يذكر مُطلقاً أنَّ يوسف عليه السلام شرّع مع الله تعالى أو شارك بالحكم بغير ما أنزل الله أو اتبع الديمقراطية أو غيرها من الأديان المناقضة لدين الله، كما هو حالُ هؤلاء المفتونين الذين يخلطون كلامه رحمه الله تعالى بحججهم الساقطة وشبهاتهم المتهافتة ليضلوا الطَغام، وليلبسوا الحق بالباطل والنور بالظلام...
__________
(1) 60) سورة المائدة، الآية 48 .
(2) 61) رواه البخاري عن أبي هريرة .
(3) 62) سورة يوسف، الآية 55 .
(4) 63) سورة المائدة، الآية 41 .
(5) 64)مجموع الفتاوى، ج 28 ص 68 .
(6) 65)مجموع الفتاوى، ج 20 ص 56 .(54/76)
ثم نحن يا أخا التوحيد... قائدنا ودليلنا الذي نرجع إليه عند التنازع هو الوحي لا غير ـ كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم . وكلُّ أحدٍ بعد رسول ا صلى الله عليه وسلم فيؤخذ من قوله ويرد ـ فلو أنَّ مثل ما يزعمون صدر عن شيخ الإسلام وحاشاه ـ لمَا قبلناه منه ولا ممن هو أعظمُ منه من العلماء، حتى يأتينا عليه بالبرهان من الوحي... {قل إنما أُنذِركم بالوحي}(1).{قلْ هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}(2).
فتنبه لذلك وعَض على توحيدك بالنواجذ، ولا تغتر أو تكترث بتلبيسات وإرجافات أنصار الشرك وخصوم التوحيد... أو تتضرّر بمخالفتهم وكن من أهلِ الطائفة القائمة بدين الله الذين وصفهم رسول ا صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يضرّهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتيَ أمرُ الله وهم كذلك)(3).
الشبهة الثانية:
أنَّ النجاشي لم يحكم بما أنزل الله ومع ذلك كان مسلماً
واحتج أهلُ الأهواء أيضاً بقصة النجاشي للترقيع لطواغيتهم المشرِّعين سواءً كانوا حكاماً أو نوّاباً في البرلمان أو غيرهم...
فقالوا: إنَّ النجاشي لم يحكم بما أنزل الله تعالى بعد أن أسلم وبقي على ذلك إلى أن مات ومع هذا فقد سماه صلى الله عليه وسلم عبداً صالحاً وصلى عليه وأمر أصحابه بالصلاة عليه .
فنقول وبالله تعالى التوفيق:ـ
أولاً: يلزم المحتج بهذه الشبهة المتهافتة قبل كلِّ شيءٍ أن يثبت لنا بنصٍ صحيحٍ صريحٍ قطعي الدلالة أنَّ النجاشي لم يحكم بما أنزل الله بعد إسلامه.. فقد تتبعتُ أقاويلهم من أولها إلى أخرها.. فما وجدتُ في جعبتهم إلا استنباطات ومزاعم جوفاء لا يدعمُها دليلٌ صحيحٌ ولا برهانٌ صادقٌ، وقد قال تعالى: {قل هاتوا بُرهانكم إن كنتم صادقين}(4). فإذا لم يأتوا بالبرهان على ذلك فليسوا من الصادقين بل هم من الكاذبين..
ثانياً: إنَّ مِن المسَلَّم به بيننا وبين خصومنا أنَّ النجاشي قد مات قبل اكتمال التشريع.. فهو مات قطعاً قبل نزول قوله تعالى: {اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكمُ الإسلام ديناً...}(5). إذ نزلت هذه الآية في حَجة الوداع، والنجاشي مات قبل الفتح بكثير كما ذكر الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ وغيره..(6).
فالحكمُ بما أنزل الله تعالى في حقه آنذاك؛ أن يحكم ويتبع ويعمل بما بلغه من الدين، لأن النذارة في مثل هذه الأبواب لابد فيها من بلوغ القرآن قال تعالى: {وأُوحِيَ إليَّ هذا القرآن لأُنذركم به ومن بلغ..}(7). ولم تكن وسائل النقل والاتصال في ذلك الزمان كحالها في هذا الزمان إذ كانت بعض الشرائع لا تصل للمرء إلا بعد سنين وربما لا يعلم بها إلا إذا شدَّ إلى صلى الله عليه وسلم الرحال... فالدينُ ما زال حديثاً والقرآنُ لا زال يتنزل والتشريعُ لم يكتمل... ويدل على ذلك دلالةً واضحة.. ما رواه البخاريُّ وغيره عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (كنا نُسلِّم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلَّمنا عليه، فلم يرد علينا، وقال: إنَّ في الصلاة شغلاً).. فإذا كان الصحابة الذين كانوا عند النجاشي بالحبشة مع العلم أنهم كانوا يعرفون العربية ويتتبعون أخبار صلى الله عليه وسلم لم يبلغهم نسخ الكلام والسلام في الصلاة مع أنَّ الصلاة أمرها ظاهر لأنَّ النبيَّ r كان يُصلي بالنّاس خمسَ مراتٍ في اليوم والليلة... فكيف بسائر العبادات والتشريعات والحدود التي لا تتكرر كتكرر الصلاة؟؟.
فهل يستطيع أحدٌ من هؤلاء الذين يدينون بشرك الديمقراطية اليوم أن يزعم أنه لم يبلغه القرآن والإسلام أو الدين حتى يَقيس باطله بحال النجاشي قبل اكتمال التشريع...؟؟؟.
ثالثاً: إذا تقرر هذا فيجب أن يُعلم أنَّ النجاشي قد حكم بما بلغه مما أنزل الله تعالى، ومَنْ زعم خلافَ هذا، فلا سبيل إلى تصديقه وقبول قوله إلا ببرهان {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.. وكلُّ ما يذكره المستدلون بقصته يدلُ على أنَّه كان حاكماً بما بلغه مما أنزله الله تعالى آنذاك...
1 ـ فمما كان يجبُ عليه آنذاك من اتباع ما أنزل الله: (تحقيق التوحيد والإيمان بنبوة صلى الله عليه وسلم وبأنَّ عيسى عبدُ الله ورسوله)... وقد فعل. انظر ذلك فيما يستدل به القوم.. رسالته التي بعثها إلى النبي صلى الله عليه وسلم . ذكرها عمر سليمان الأشقر في كُتيّبه: (حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية)(8)
__________
(1) 66) سورة الأنبياء، الآية 45 .
(2) 67) سورة البقرة، الآية 111 .
(3) 68) فتح الباري: ج 13 ص 295 .
(4) 69) سورة البقرة، الآية 111 .
(5) 70) سورة المائدة، الآية 3 .
(6) 71) انظر البداية والنهاية: ج 3 ص 277 .
(7) 72) سورة الأنعام، الآية 19 .
(8) 73) الصفحة 71 من كتابه المذكور وهي في زاد المعاد: ج3 ص60 .(54/77)
2 ـ وكذا بيعتَه للنبيِّ r والهجرة، ففي الرسالة المشار إليها آنفاً يذكر النجاشي: (أنه قد بايع رسول ا صلى الله عليه وسلم وبايع ابنٌ له جعفر وأصحابه وأسلم على يديه لله ربِّ العالمين، وفيها أنه بعثَ إليه بابنه أريحا بن الأصحم ابن أبجر، وقوله: إنْ شئتَ أن آتيك فعلتُ يا رسول الله فإنني أشهدُ أنَّ ما تقولُ حق). فلعلَّه مات بعد ذلك مباشرة، أو لعلَّ صلى الله عليه وسلم لم يُرِدْ منه ذلك آنذاك... كلُّ هذه أمور غير ظاهرة ولا بينة في القصة فلا يحل الجزم بشيء منها والاستدلال به، فضلاً عن أن يُناطح به التوحيد وأصولُ الدين!!!.
3 ـ وكذا نصرةُ صلى الله عليه وسلم ودينه وأتباعه، فقد نصر النجاشي المهاجرين إليه وآواهم وحقّق لهم الأمن والحماية، ولم يخذلهم أو يُسلمهم لقريش، ولا ترك نصارى الحبشة يتعرضون لهم بسوء رغم أنهم كانوا قد أظهروا معتقدهم الحق في عيسى عليه السلام... بل ورد في الرسالة الأخرى التي بعثها إلى صلى الله عليه وسلم (وقد أوردها عمر الأشقر في كتابه المذكور صفحة 73) أنه بعث بابنه ومعه ستون رجلاً من أهل الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. وكلُّ ذلك نصرةً له واتباعاً وتأييداً..
ومع هذا فقد تهوّر عمر الأشقر فجزم في كتابه المذكور [ص73] أنَّ النجاشي لم يحكم بشريعة الله وهذا كما عرفتَ كذبٌ وافتراءٌ على ذلك الموحِّد.. بل الحق أن يُقال إنه حكم بما بلغه مما أنزل الله آنذاك، ومن زعم خلافه فلا يُصدق إلا ببرهانٍ صحيحٍ قطعيّ الدلالة، وإلا كان من الكاذبين {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} وهو لم يأتِ على دعواه هذه بدليلٍ صحيحٍ صريح، لكن تتبع واحتطب من كتب التاريخ بليلٍ أموراً ظنها أدلة.. والتواريخ معروفٌ حالها...
يقول القحطاني الأندلسي ـ رحمه الله تعالىـ في نونيته:ـ
لا تقبلن من التوارخ كلما جمع الرواة وخط كلَّ بنانِ
اروِ الحديث المنتقى عن أهله سيما ذوي الأحلام والأسنانِ
فيقال له ولمن تابَعَه: (أثبتوا العرش ثم انقشوا)..
رابعاً: إنَّ الصورة في قصة النجاشي لحاكم كان كافراً ثم أسلم حديثاً وهو في منصبه، فأظهر صدق إسلامه بالاستسلام الكامل لأمر صلى الله عليه وسلم بأنْ يُرسل إليه ابنه وبرجال من قومه ويبعثُ معهم إليه يستأذنه بالهجرة إليه ويظهرُ نصرتَه ونصرةَ دينه وأتباعه، بل ويظهرُ البراءة مما يُناقضه من معتقده ومعتقد قومه وآبائه... ويُحاول أن يطلب الحق ويتعلم الدين وأن يُسدد ويُقارب إلى أن يلقى الله على هذه الحال وذلك قبل اكتمال التشريع وبلوغه إليه كاملاً... هذه هي الصورة الحقيقية الواردة في الأحاديث والآثار الصحيحة الثابتة في شأنه.. ونحن نتحدى مخالفينا في أن يثبتوا غيرها.. لكن بدليل صريحٍ صحيحٍ أما التواريخ فلا تُسمن ولا تُغني من جوع وحدها دون إسناد...
أما الصورة المستدل لها والمقيسة عليه فهي صورةٌ خبيثةٌ مختلفةٌ كلَّ الاختلاف، إذ هي صورةُ فِئامٍ من النَّاس ينتسبون إلى الإسلام دون أن يتبرؤوا مما يُناقضه، بل ينتسبون إليه وإلى ما يُناقضه في الوقت نفسه ويفتخرون بذلك، فما تبرؤوا من دين الديمقراطية كما برِىء النجاشي من دين النصرانية، كلا.. بل ما فتِئُوا يمدحونها ويُثنون عليها ويسوّغونها للنَّاس ويدعونهم إلى الدخول في دينها الفاسد.. ويجعلون من أنفسهم أرباباً وآلهةً يُشرِّعون للنَّاس من الدين ما لم يأذن به الله.. بل ويُشاركون معهم في هذا التشريع الكفري الذي يتمُ وِفقاً لبنود الدستور الوضعي من يتواطأ معهم على دينهم الكفري من نواب أو وزراء أو غيرهم من الشعوب... ويُصِرُّون على هذا الشرك ويتشبثون به بل ويذمون من حاربه أو عارضه أو طعن فيه وسعى لهدمه... وهذا كلُّه بعد اكتمال الدين، وبلوغهم القرآن بل والسنَّة والآثار..
فبالله عليك يا مُنصف كائناً من كُنتَ، أيصحُ أنْ تُقاس هذه الصورةُ الخبيثةُ المنتنةُ المظلمةُ مع ما جمعَتْهُ من الفوارق المتشعّبة.. بصورةِ رجلٍ حديث عهد بالإسلام يطلب الحق ويتحرى نُصرته قبل اكتمال التشريع وبُلوغه إليه كاملاً.. شتان شتان بين الصورتين والحالين...
والله ما اجتمعا ولن يتلاقيا حتى تشيبَ مفارقُ الغربانِ
نعم قد يجتمعان ويستويان لكن ليس في ميزان الحق.. بل في ميزان المطففين ممن طمس الله على أبصارهم فدانوا بدين الديمقراطية المناقضِ للتوحيد والإسلام.
{ويلٌ للمطففين ( الذين إذا اكتالوا على النَّاس يستوفون ( وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون ( ألا يظن أُولئك أنهم مبعوثون ( ليومٍ عظيم}(1).
الشبهة الثالثة:-تسمية الديمقراطية بالشورى لتسويغها
هذا وقد استدل بعض عِميان البصائر وخَفافِيش الدُجى لدينهم الكفري الباطل هذا (الديمقراطية) بقوله تعالى عن المؤمنين الموحِّدين {وأمرهم شورى بينهم} وبقوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم {وشاورهم في الأمر}. فسموا ديمقراطيتهم العفنة بالشورى لإسباغ الصبغة الدينية الشرعية على هذا المذهب الكفري ومن ثم تسويغه وتجويزه ..
فنقول وبالله التوفيق :ـ
__________
(1) 74) سورة المطففين، الآيات 1-5 .(54/78)
أولاً: إنَّ تغيير الأسماء لا قيمة له ما دامت الأشياء أو الحقائق هي هي... وبعض الجماعات الدعوية التي تنتهج هذا المذهب الكفري وتدينُ به تقول: (نحن نعني بالديمقراطية حين نُنادي بها ونُطالب بها ونُشجعها ونسعى لها وبها "حرية الكلمة والدعوة")(1). ونحو ذلك من الشقشقات..
فنقول لهم: ليس المهم ما تعنونه أنتم وما تُرقعونه وتتوهمونه.. لكن المهم ما هي الديمقراطية التي يطبقها الطاغوت ويدعوكم للدخول فيها وتُجرى الانتخابات من أجلها ويكون التشريع والحكم الذي ستشاركون فيه وِفقاً لها.؟ فإنْ ضحكتم على النَّاس وخادعتموهم، فلن تستطيعوا ذلك مع الله {إنّ المنافقين يُخادعون الله وهو خادعهم}(2). {يُخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون}(3). فتغيير أسماء الأشياء لا يُغيِّر أحكامها ولا يُحل حراماً أو يُحرِّم حلالاً... يقول صلى الله عليه وسلم : (لَيَسْتَحِلَّنَ طائفةٌ مِنْ أُمّتي الخمرَ باسمٍ يُسَمُّونَها إِيَّاه)(4).
هذا وقد كفّر العلماء من سبَّ التوحيد أو حاربه وهو يُسميه دين الخوارج أو التكفير.. وكفّروا من حسَّنَ الشرك وسوّغه أو فعله وهو يُسميه بغيرِ اسمه(5).كما يفعل هؤلاء فيُسمُّون دينَ الكفر والشرك (الديمقراطية) بالشورى.. لتجْويزه وتسويغِه ودعوةِ النَّاس إلى الدخول فيه.. فبُعداً بُعداً....
ثانياً: إنَّ قياس ديمقراطية المشركين على شورى الموحِّدين وتشبيه مجلس الشورى بمجالس الكفر والفسوق والعصيان تشبيهٌ ساقطٌ وقياسٌ باطلٌ مُتهافت الأركان، فقد علمتَ أنَّ مجلس الشعب أو الأمة أو البرلمان معقلٌ من معاقل الوثنية وصرحٌ من صُروح الشرك، تُنصب فيه آلهة الديمقراطيين وأربابهم المتفرقون وشركاؤهم الذين يُشرِّعون لهم من الدين ما لم يأذن به الله وِفقاً لدساتيرهم وقوانينهم الأرضية(6). قال تعالى:{ءأربابٌ متفرقون خيرٌ أمِ الله الواحدُ القهّار ( ما تعبدونَ من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم وءَاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطانٍ إنِ الحكمُ إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيّمُ ولكنَّ أكثرَ النّاسِ لا يعلمونَ}(7).
وقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}(8).
فهذا القياس هو من قبيل قياس الشرك على التوحيد والكفر على الإيمان.. وهو من القول على الله بغير علم والإفتراء على دينه والكذب على الله، والخوض والإلحاد في آياته سبحانه وتلبيس الحق على الخلق بالباطل، والنّور بالظلام..
إذا تبيّن هذا فليعلم المسلم أنَّ الفوارق الجليّة بين الشورى التي شرعها الله لعباده، وبين الديمقراطية العفِنة هي كما بين السماء والأرض...بل هي في عِظَمها كعِظم الفارق بين الخالق والمخلوق.
( فالشورى نظامٌ ومنهجٌ ربانيٌّ.. والديمقراطية من صنع البشر الناقصين الذين تتخللهم الأهواءُ والنزوات.
( الشورى من شرع الله تعالى ودينه وحكمه... والديمقراطية كفرٌ بشرع الله ودينه ومناقضةٌ لحكمه.
( والشورى تكون فيما لا نصَّ فيه، أما عند ورود النص فلا شورى، يقول الله تعالى: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسولُه أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}(9). أما الديمقراطية فهي استخفافٌ وتلاعبٌ في كلِّ باب ولا اعتبار فيها لنصوص الشرع وأحكام الله ولكن الاعتبار كلِّ الاعتبار في الديمقراطية هو لحكم الشعب وتشريع الشعب في كلِّ المجالات(10). لذا عرَّفوها في دساتيرهم بقولهم: (الأمة مصدر السلطات جميعاً).
__________
(1) 75) وحتى حرية الكلمة أو الدعوة كما تريدها الديمقراطية فحرية باطلة كفرية، لأن أهل الديمقراطية حين ينادون لحرية الكلمة في دينهم هذا، لا يعنون حرية الصدع بكلام الله وحده.. بل وحرية كلام الطاغوت والكفار والملاحدة والمشركين وحرية الإعتقاد والإرتداد والطعن في كلِّ المقدسات. وهذا الكفر ربما كان مطبقاً في الديمقراطية الغربية.. أما ديمقراطية العرب ففيها حرية كلّ كفرٍ وإلحادٍ وزندقةٍ، أما الإسلام فمكبلٌ عندهم ومسجونٌ ومطرود، وهؤلاء الدعاة أسمى أمانيهم أن يحققوا ويصلوا بالناس إلى ديمقراطية الغرب الكافر، والكفر ملَّةٌ واحدةٌ وهو دركات. فتنبه .
(2) 76)سورة النساء، الآية 142 .
(3) 77) سورة البقرة، الآية 9 .
(4) 78)رواه الإمام أحمد في مسنده عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه، حديث رقم 22704 .
(5) 79) راجع الدرر السنية في الأجوبة النجدية: ج 1ص 145 .
(6) 80) المادة 25 من الدستور الأردني: (تُناط السلطة التشريعية بالملك ومجلس الأمة).. وأختها في الدستور الكويتي رقم 51: (السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وِفقاً للدستور).
(7) 81) سورة يوسف، الآيتان 39-40 .
(8) 82) سورة الشورى، الآية 21 .
(9) 83) سورة الأحزاب، الآية 36 .
(10) 84) هذا في الديمقراطية الغربية الكافرة أما في الديمقراطية العربية الكافرة فإن الاعتبار الأول والأخير فيها للملك أو الأمير أو الرئيس إذ بدون تصديقه لا قيمة لقول الأمة ولا نُوابها ومجلس النواب، كلُّه بيده يحله ويربطه ويلعبُ به كيف شاء ومتى شاء.(54/79)
( والديمقراطية تَعتبر الشعب أعلى سلطة في الوجود وهي حكم أكثرية الشعب وتشريع الأكثرية ودين الأكثرية، الأكثرية تحلِّل والأكثرية تحرِّم... فالأكثرية هي الإله والربُّ في الديمقراطية... أما في الشورى فالشعب أو الأكثرية هي الملتزمة المأمورة بالسمع والطاعة لله ولرسوله ثم لإمام المسلمين، ولا يُلْزم الإمام برأيِ الأكثرية ولا حُكمِها وإنما الأكثرية مأمورةٌ بالسمع والطاعة للأئمة وإن جاروا ما لم يأمروا بمعصية (1).
( فالديمقراطية ميزانها وإلهها الأكثرية، وهي مصدر السلطات جميعاً.. أما الشورى فليس للأكثرية فيها أثرٌ ولا ميزان بل قد حَكَم الله على الأكثرية بحكمٍ واضحٍ في كتابه فقال:ـ
{وإنْ تُطع أكثر من في الأرض يُضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}(2). {وما أكثرُ النّاس ولو حرصتَ بمؤمنين}(3). {وإن كثيراً من الناس بلقائ ربهم لكافرون}(4). {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}(5) {ولكن أكثر النّاس لا يشكرون}(6) {ولكن أكثر النّاس لا يؤمنون}(7) {ولكن أكثر النّاس لايعلمون}(8) {فأبى أكثر النّاس إلا كفوراً}(9)
هذا من كلام الله وهو كثير.. ومن كلام رسول ا صلى الله عليه وسلم : (إنما النّاس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة) رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.. وفي البخاري أيضاً عن أبي سعيد الخدري عن صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: يا آدم.. أخرجْ بعثَ النّار. قال وما بعثُ النّار؟ قال: مِنْ كلِّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير، وتضعُ كلُّ ذاتِ حملٍ حملها، وترى النّاس سُكارى وما هم بسُكارى ولكنَّ عذاب الله شديد) هذا شرع الله ودين الله يبيّن ضلال الأكثرية وانحرافهم، ولذلك يحكم الله سبحانه فيقول: {إنِ الحكمُ إلا لله}(10)
وتأبى الديمقراطية ودعاة الديمقراطية ويرفضون الاستسلام لحكم الله وشرعه ويعاندون ويقولون: (إنِ الحكمُ إلا للأكثرية) فتباً وسُحقاً لمن تبعهم وسار على دربهم وهتف لديمقراطيتهم مهما طالت لحيته أو قَصُر ثوبُه كائناً من كان.... نقولها لهم في الدنيا لعلهم يؤوبون ويرجعون، خيراً لهم وأهون من أن يسمعوها في الموقف العظيم يوم يقوم النّاس لربِّ العالمين فيقصدون حوضَ صلى الله عليه وسلم فتحجزهم الملائكة ويقال: إنهم بدّلوا وغيّروا فيقولها صلى الله عليه وسلم : (سُحقاً سُحقاً لمن بدّل بعدي)...(11).
وهكذا فالديمقراطية مبنىً ومعنىً نشأت في تُربة الكفر والإلحاد وترعرعت في منابت الشرك والفساد في أوروبا حيث فصلوا الدين عن الحياة، فنشأت هذه اللفظة في تلك الأجواء التي تحمل كلَّ سمومها وفسادها لا علاقة لجذورها بتربة الإيمان أو رِي العقيدة والإحسان.. ولم تستطع أن تثبت وجودها في العالم الغربي إلا بعد أن تم فصل الدين عن الدولة هناك، فأباحت لهم اللواط والزنا والخمر واختلاط الأنساب وغير ذلك من الفواحش ما ظهر منها وما بطن... لذلك لا يجادل عنها ويمدحها ويُساويها بالشورى إلا اثنان لا ثالث لهما إما ديمقراطيٌّ كافرٌ أو سفيهٌ جاهلٌ بمعناها ومحتواها..
والله لستَ بثالثٍ لهما بلى إما حماراً أو من الثيرانِ
وهذا زمانٌ اختلطت فيه المصطلحات واجتمعت فيه المتناقضات، وليس العجب أن يتغنى بمثل هذه المذاهب الكفرية كثير من أولياء الشيطان، وإنما العجبُ أن يُشجِّعها ويُسوِّغها ويُسبغ عليها الصبغة الشرعية كثيٌر ممن ينتسبون إلى الإسلام.. فبالأمس عندما فُتِنَ النَّاس بالاشتراكية خرج علينا بعض النّاس ببدعة (اشتراكية الإسلام) وقبلها القومية والعروبة ومزجوها مع الإسلام.. واليوم يتغنى كثيٌر منهم بالدساتير الأرضية ولا يستحيون من تسمية عبيدها (بفقهاء القانون) تشبيهاً (بفقهاء الشريعة) ويستعملون نفسَ الألفاظ الشرعية؛ كالمشرِّع والشريعة والحلال والحرام والجائز والمباح والمحظور، ثم ومع هذا يحسبون أنهم على شيءٍ بل يحسبون أنهم مهتدون... فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم... وما هذا والله إلا من ذهاب العلم والعلماء وإسناد الأمر إلى غير أهله وخُلُوِّ الجوّ والزمان لأراذل من الورى يتخبطون فيه كما يحلو لهم...
خلا لكِ الجو فبيضي واصفري
__________
(1) 85) انتبه... هذا للأئمة المسلمين الحاكمين بشرع الله المعادين لأعداء الله وليس لسفلة الخلق من كفرة الحكام المرتدين أولياء وإخوان اليهود والنصارى ..
(2) 86) سورة الأنعام، الآية 116 .
(3) 87) سورة يوسف، الآية 103 .
(4) 88) سورة الروم، الآية 8 .
(5) 89) سورة يوسف، الآية 106 .
(6) 90) سورة البقرة، الآية 243 .
(7) 91) سورة يوسف، الآية 21 .
(8) 92) سورة الإسراء، الآية 89 .
(9) 93) سورة يوسف، الآية 40 .
(10) 94) سورة يوسف، الآية 21 .
(11) 95) (سحقاً سحقاً) أي بُعداً بعداً. ونصبه على المصدر. وكرر للتوكيد. رواه مسلم [2291]، والبخاري [6212] بلفظ: (سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي).(54/80)
فيا حسرةً على العلم والعلماء، ويا أسفاه على الدين ودُعاته الربانيِّين المخلصين... والله إنه لغريبٌ غربةً ما مثلها غربة، ولا أقول بين عوام النَّاس بل بين كثير من المنتسبين إلى الإسلام ممن لا يفقهون معنى (لا إله إلا الله) ولا يعرفون لوازمها ومقتضياتِها وشروطَها، بل أكثرهم ينقضها بالليل والنهار، ويتلطخون بشرك العصر وذرائعه ثم يحسبون أنهم موحِّدون بل يزعمون أنهم من دعاة التوحيد فليُراجعوا أنفسهم وليجلسوا في حلقِ العلم ليتعلموا حقيقة (لا إله إلا الله) فإنها أول ما افترض الله على ابن آدم تعلمه، وليتعلموا شروطَها ونواقضَها قبل نواقض الوضوء والصلاة فإنه لا يصح وضوءٌ ولا صلاةٌ لمن نقضها... فإنْ أعرضوا واستكبروا فهم وحدهم بذلك الخاسرون..
وأختتم هذا بكلامٍ نفيس للعلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى يرد فيه على أمثال هؤلاء الملبِّسين الذين يُحرِّفون كلام الله ويفترون عليه سبحانه الكذب باستشهادهم بقوله سبحانه تعالى: {وأمرهم شورى بينهم}(1). لنصرةِ وتطبيقِ الديمقراطية الكافرة.
حيث قال رحمه الله في هامش (عمدة التفسير)(2). عند تفسير قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر}(3). والآية الأخرى {وأمرهم شورى بينهم}: (اتخذهما اللاعبون بالدين في هذا العصر ـ من العلماء وغيرهم ـ عُدتهم في التضليل بالتأويل، ليُواطؤا صنع الإفرنج في منهج النظام الدستوري الذي يزعمونه، والذي يخدعون النّاس بتسمينه "النظام الديمقراطي"! فاصطنع هؤلاء اللاعبون شعاراً من هاتين الآيتين، يخدعون به الشعوب الإسلامية أو المنتسبة للإسلام. يقولون كلمة حق يُراد بها الباطل يقولون: "الإسلام يأمر بالشورى" ونحو ذلك من الألفاظ.
وحقاً إنَّ الإسلام يأمر بالشورى. ولكن أيُّ شورى يأمر بها الإسلام؟ إنَّ الله سبحانه يقول لرسول صلى الله عليه وسلم :ـ
{وشاورهم في الأمر فإذا عزمتَ فتوكل على الله}. ومعنى الآية واضحٌ صريح ، لا يحتاج إلى تفسير، ولا يحتمل التأويل. فهو أمرٌ للرسو صلى الله عليه وسلم ، ثم لمن يكون ولي الأمر من بعده: أن يستعرض آراء أصحابه الذين يراهم موضع الرأي ، الذي هم أولو الأحلام والنهى، في المسائل التي تكون موضع تبادل الآراء وموضع الاجتهاد في التطبيق. ثم يختار من بينها ما يراه حقاً وصواباً أو مصلحة، فيعزم على إنفاذه، غير متقيد برأي فريقٍ معين، ولا برأي عددٍ محدد، لا برأي أكثرية، ولا برأي أقلية، فإذا عزم توكل على الله، وأنفذ العزم على ما ارتآه.
ومن المفهوم البديهي الذي لا يحتاج إلى دليل: أن الذين أمر الرسول بمشاورتهم ـ ويأتسى به فيه من يلي الأمر من بعده ـ هم الرجال الصالحون القائمون على حدود الله، المتقون لله، المقيمُو الصلاة، المؤدُو الزكاة، المجاهدون في سبيل الله، الذين قال فيهم رسول ا صلى الله عليه وسلم : (لِيلني منكم أولو الأحلام والنهى). ليسوا هم الملحدين، ولا المحاربين لدين الله، ولا الفجار الذين لا يتورعون عن منكر، ولا الذين يزعمون أنَّ لهم أن يضعوا شرائع وقوانين تخالف دين الله، وتهدمُ شريعة الإسلام. هؤلاء وأُولئك ـ من بين كافرٍ وفاسقٍ ـ موضعهم الصحيح تحت السيف أو السوط، لا موضع الاستشارة وتبادل الآراء.
والآية الأخرى، آية سورة الشورى ـ كمثل هذه الآية وضوحاً وبياناً وصراحةً: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون}اهـ.
الشبهة الرابعة:-مشاركة صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول
هذا واحتج بعض سُفائهم بمشاركة صلى الله عليه وسلم في حِلف الفضول قبل البعثة، لتجويز المشاركة في البرلمانات التشريعية الشركية .
فنقول وبالله التوفيق :ـ
إنَّ المحتج بهذه الشبهة إما أنه لا يعرف ما حلفُ الفضول فيهرفُ بما لا يعرف ويتكلمُ فيما لا يعلم.. أو أنه يعرف حقيقته فيخلط الحق بالباطل على الخلق ليلبس النور بالظلام والشرك بالإسلام.. وذلك لأن حلف الفضول كما ذكر ابن اسحاق في السيرة وابن كثير(4) والقرطبي في تفسيره(5) وغيرهم.. تكوَّن لما "اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جُدْعان ـ لشرفه ونسبه ـ فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى تُرَدّ عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحِلف حلفَ الفضول. أي حِلف الفضائل"اهـ.
ويقول ابن كثير: (كان حلفُ الفضولِ أكرمَ حِلفٍ سمع به وأشرفه في العرب، وكان أولُ من تكلم به ودعا إليه الزبير ابن عبد المطلب، وكان سببه أنَّ رجلاً من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل فحبس عن حقه، فاستعدى عليه الزبِيدي أقواماً من الأحلاف فأبوا أن يُعينوا على العاص بن وائل وانتهروا الزبِيدي، فلما رأى الزبيديُّ الشرَّ أوفَى على جبل أبي قُبيْس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة منادياً بأعلى صوته:ـ
__________
(1) 96) سورة الشورى، الآية 38 .
(2) 97) عمدة التفسير: ج 3 هامش ص 64-65 .
(3) 98) سورة آل عمران، الآية 159 .
(4) 99) البداية والنهاية: ج 2 ص 291 .
(5) 100) الجامع لأحكام القرآن: [6/33] ، [1/169] .(54/81)
يا آل فهرٍ لمظلومٍ بضاعته ببطنِ مكة نائي الدار والنفرِ
ومحرمٍ أشعتٍ لم يقضِ عُمرته يا للرجال وبين الحِجْر والحَجرِ
إنَّ الحرام لمن ماتت كرامته ولا حرامٌ لثوب الفاجر الغدرِ
فقام لذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مُترك؟ فاجتمعت هاشم وزُهرة وتيم بن مُرة في دار عبد الله بن جُدعان، فصنع لهم طعاماً وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يداً واحدةً مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه ما بلَّ بحرٌ صوفة وما رسيَ ثبير وحراء(1) مكانهما وعلى التأسي في المعاشي، فسمَّت قريش ذلك الحلف حِلْف الفضول، وقالوا لقد دخل هؤلاء في فضلٍ من الأمر، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبِيدي فدفعوها إليه. وذكر قاسم بن ثابت في غريب الحديث: أنَّ رجلاً من خثعم قدم مكة حاجاً ـ أو معتمراً ـ ومعه ابنة له يقال لها القتول من أوضأ نساء العالمين ، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج وغيبها عنه، فقال الخثعمي: من يعديني على هذا الرجل؟ فقيل له: عليك بحلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى: يا لحلف الفضول: فإذا هم يعنقون إليه من كلِّ جانب؛ وقد انتضوا أسيافهم يقولون: جاءك الغوث فما لك؟(2) فقال: إنَّ نبيهاً ظلمني في بنتي وانتزعها مني قسراً، فساروا معه حتى وقفوا على باب داره، فخرج إليهم فقالوا له: أخرج الجارية ويحك! فقد علمت ما نحن وما تعاقدنا عليه، فقال: أفعل. ولكن متعوني بها الليلة، فقالوا: لا ولا شَخْبُ لقحة(3) فأخرجها إليهم..
وقال الزبير في حِلْفِ الفضول:ـ
إنَّ الفضول تعاقدوا وتحالفوا ألا يُقيم ببطن مكة ظالمُ
أمرٌ عليه تعاقدوا وتواثقوا… فالجارُ والمُعْتَرُّ فيهمُ سالمُ(4)
ففي هذا الحِلف وحول هذه الأهداف يتنزل ما يحتج به هؤلاء القوم، مما رواه البيهقي والحميدي أنَّ رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: (شهدتُ في دار عبد الله بن جُدعان حِلفاً ما أُحب أن لي به حمر النَّعم(5) ولو أُدعَى به في الإسلام لأجبت).
ولذا زاد الحميدي (تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها وألا يعِد ظالمٌ مظلوماً).
فنسأل القوم ها هنا فتقول:ـ
( ما وجه الدلالة يا أهل الفقه والاستدلال في هذا الحلف وما حواه من فضائل على جواز دخول مجلسٍ يُشَرَّعُ فيه مع الله وِفقاً لدستور إبليس، ويستفتح أهل المجلس مجلسهم هذا بالقسم على احترام ياسق الكفر وقوانينه والولاء لعبيده وطواغيته المحاربين لدين الله وأوليائه، المتولين لأعداء الله وكُفرياتهم..؟؟
( هل كان في حلف الفضول كفرٌ وشركٌ وتشريعٌ مع الله واحترامٌ لدين غير دين الله، حتى يصح الاستدلال به..؟؟.
إنْ قلتم نعم.. فأنتم تزعمون إذاً أنَّ رسول ا صلى الله عليه وسلم قد شارك بالكفر والتشريع واتبع ديناً غير دين الله ، وأنه لو دُعي في الإسلام لمثل ذلك لأجاب!! ومن زعم هذا فقد أشهد الثقلين على كُفره وردتِه وزندقتِه..
وإنْ قلتم: لا، لم يكن فيه كفرٌ ولا تشريعٌ بل ولا منكرٌ من المنكرات... وكلُّ ما كان فيه نصرة المظلوم وإغاثةُ الملهوف ونحوه من الفضائل..
فكيف إذاً تستحلون وتستجيزون مقايسته بمجالس الكُفر والفسوق والعصيان..؟؟.
( ثم نحن نسألهم سؤالاً واضحاً ونُريد منهم شهادةً صريحةً على رسول ا صلى الله عليه وسلم في جواب هذا السؤال {ستُكْتبُ شهادتهُم ويُسئَلون}(6).
لو كان المشارك في حِلْفِ الفضول هذا مهما كانت صفته ـ أعني الحلف ـ؛ لا يُشارك فيه إلا إذا أقسم بين يدي دخوله للحلف على احترام اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى والولاء لدين قريش الكفري ولأوثانها وجاهليتها.. ثُمَّ على نُصرة المظلوم وإغاثة المكروب... ونحو ذلك..
أقول: لو كان الحالُ كذلك.. لشارك به صلى الله عليه وسلم أو أجاب إليه لو دُعي في الإسلام لمثله..؟؟.
أجيبونا يا أصحاب المصالح والاستحسانات..!! ويا أهل الحفلات والمهرجانات..!!
فإن قالوا: نعم سيجيب إليه وسيشارك فيه.. وكذلك كان..فقد برئت منهم الأمة وأشهدوا الخلق على كُفرهم..
وإن قالوا: كلا وحاشاه من ذلك...
قلنا: فخلوا إذاً عنكم هذه السفسطات والشقشقات وتعلموا كيف وبماذا يكون الاستدلال..
الشبهة الخامسة: مصلحة الدعوة
__________
(1) 101) أسماء جبال بمكة .
(2) 102) تنبيه: لو أننا استدللنا بهذا على جواز تنظيم جماعة أو مجموعة مسلحة لنصرة المظلوم وانكار المنكر باليد وإن عُدمت الدولة الإسلامية ولم يوجد الإمام، بدليل أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثنى على هذا الحلف ومدحه مع أنه كان قائماً في زمن دولة الكفر وليس ثَمَّ إمام.. أقول: لو أننا احتججنا بدليلهم هذا على هذه المسألة لبدّعونا ولشنوا علينا الغارات ولشنعوا فينا المقال.. لكن الاستدلال به على جواز القسم على احترام الشرك والمشاركة في التشريع وِفقاً لدستور إبليس وغير ذلك من ضلالاتهم وشركياتهم وانحرافاتهم فذلك أمرٌ تُسوِّغه عقولهم النخرة.. فبُعداً فبعداً.
(3) 103) ولا شخب لقحة : أي ولا مقدار وقت حلب ناقة .
(4) 104) من كتاب البداية والنهاية للحافظ ابن كثير .
(5) 105) من أطيب أنواع الإبل عند العرب .(54/82)
(6) 106) سورة الزخرف، الآية 19 .
قالوا: إنَّ دخول المجلس فيه مصالح كثيرة، بل بعضهم زعم أن المجلس من أصله مصلحةٌ مرسلةٌ وذكروا: الدعوة إلى الله، وقول كلمة الحق، وذكروا: تغيير بعض المنكرات وتخفيف بعض الضغوط على الدعوة والدعاة... وذكروا: عدم ترك هذه الأماكن والمجالس للنصارى أو الشيّوعيين ونحوِهم... وبعضهم بالغ وذكر: مصلحة تحكيم شرع الله وإقامةِ دينه من خلال المجلس.. ونحوِه من استصلاحاتِهم وأحلامِهم وأهوائِهم.. وكلّ ما في هذا الباب يدور حول المصلحة...(1).
فنقول وبالله تعالى التوفيق :ـ
نسألهم أولاً فنقول :ـ
( مَنِ الذي يحدد مصالح دينه وعباده ويعرفها حق المعرفة؟؟ الله اللطيف الخبير؟؟ أم أنتم باستحساناتكم واستصلاحاتكم؟؟.
( فإن قالوا: نحن.
( قلنا: إذاً لكم دينكم ولنا دين، لا نعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما نعبد... لأنَّ الله جل ذكره يقول: {ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ}(2).
ويقول مُنكِراً على هؤلاء الديمقراطيين وأمثالهم: {أيحسبُ الإنسان أن يُتْرك سدىً}(3). ويقول: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً}(4)..
وهذا في ديننا وملَّتنا... أما في دين الديمقراطية وملَّتها فلا مكان لهذه الآيات المحكمات لأنَّ الإنسان عندهم هو المشرِّع لنفسه... فهم يقولون: نعم قد تُرك الإنسان سُدىً وله مُطلقُ الحرية في أن يختار ويُقرر ويَترك ويُثبت ما يشاء من التشريع والدين... ولا يهم إن كان ذلك التشريع الذي يخترعه مُوافقاً لما في كتاب الله أم مُعارضاً له... لكنَّ العبرة أن لا يُعارض الدستور والقانون...
" أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون " (5) .
( فإن قالوا: بل الله جل ذكره هو وحده الذي يحد الحدود ويقدِّر المصالح أحسنَ تقدير، لأنَّه هو الذي خلق الخلق وهو أعلمُ بمصالحهم {ألا يعلمُ من خلقَ وهو اللطيف الخبير}(6).
( سألناهم: فما هي أعظمُ مصلحةٍ في الوجود قرّرها الله تعالى في كتابه وأرسل من أجلِّها الرسل وأنزل الكتب وشرع الجهاد والاستشهاد، ولأجلها تُقام الدولة الإسلامية...يا دعاة الخلافة؟؟؟.
( فإن تخبطوا في مصالح جزئية ثانوية وانحرفوا عن أصل الأصول.
( قلنا لهم: خَلُّوا عنكم الفشر والهذيان واجلسوا تعلموا أصل دينكم تعلموا معنى (لا إله إلا الله) الذي لا تُقبل دعوةٌ ولا جهادٌ ولا استشهادٌ دون تحقيقها ومعرفة معناها...
( وإن قالوا: أعظمُ مصلحةٍ في الوجود هي: تجريدُ التوحيد لله تعالى واجتنابُ ما يُضاده ويُناقضه من الشرك والتنديد..
( قلنا: فهل يُعقل يا أُولي الألباب!! أَنْ تهدموا هذه المصلحة العظيمة الكلية القطعية فتتواطؤوا مع الطواغيت على دين غير دين الله (الديمقراطية) وتقبلوا وتحترموا شرعاً غير شرعه سبحانه (الدستور) وتتبعوا أرباباً مشرِّعين متفرقين مع الله الواحد القهار..؟؟.
فتهدموا بهذا أعظم مصلحة في الوجود وهي التوحيد والكفر بالطواغيت... لمصالح ثانوية جزئية ظنية مرجوحة؟؟.
أيُّ ميزانٍ وأيُّ عقلٍ وأيُّ شرعٍ وأيُّ دينٍ يرضى بهذا إلا دينُ الديمقراطية الكفري؟؟.
( وكيف يتجرّؤ بعضكم على الزعم بأنَّ هذه المجالس الشركية من (المصالح المرسلة).. إنَّ المصلحة المرسلة عند القائلين بها:ـ (ما لم يشهد لها الشرع باعتبار ولا إلغاء) فهل تزعمون أنَّ الشرع لم يُلغِ الشرك والكفر ولم يُبطل كلَّ دينٍ يُناقض دينَ الإسلام وكلَّ ملَّةٍ تُناقضُ ملَّةَ التوحيد...؟؟.
( ثم أيُّ دعوة هذه التي تزعمون قولها وأيُّ حقٍ ذاك الذي تزعمون الصدع به في هذه المجالس الشركية بعد أن دفنتم أصل أصول الدعوة الإسلامية وقُطبَ رَحى الحق المبين؟؟. وهل يُدفن ويُقبر ذلك الأصل الأصيل والمصلحة العظمى لتناقش على حسابه جزئيات وفرعيات من الدين...؟؟.
( ثم حين تناقشون تلك الجزئيات والفرعيات ـ كمن يسعى لتحريم الخمر ـ إلى ماذا تستندون في مُطالبتكم بالتحريم وبماذا تستدلون وتستشهدون..
أتقولون: قال الله وقال الرسو صلى الله عليه وسلم ؟؟..
ثمَّ إنْ زعمتم هذا: كذبتم، لأنَّ هذا ليس له اعتبارٌ في دين الديمقراطية وشرع الدستور، إلا ما شهد الدستور له واعتبره وهيمن عليه... لاشك أنكم ستقولون: نصت المادة الثانية... والمادة 24... والمادة 25... ونحوها من تشريعات الكفر والضلال... فهل بعد هذا كفرٌ وشركٌ وإلحادٌ؟. وهل يبقى لمن سلك هذا الطريق أصلٌ وملَّةٌ وتوحيدٌ..؟؟؟.
__________
(1) 107) لشيخ الإسلام في هذا الباب فتوى يُبطل فيها أمثال هذه الاستحسانات والاستصلاحات الفاسدة بحجة مصلحة الدعوة.. وقد حققناها وعلقنا عليها وقدمنا لها بمقدمات مهمة وسميناها: (القول النفيس في خديعة إبليس) فليراجعها من شاء المزيد في هذا الباب.
وقد قام إخواننا في النور للإعلام الإسلامي بالدانمارك بطباعتها وتسجيلها على أشرطة سمعية .
(2) 108) سورة الأنعام، الآية 38 .
(3) 109) سورة القيامة، الآية 38 .
(4) 110) سورة المؤمنون، الآية 115 .
(5) 111) سورة الأنبياء، الآية 67 .
(6) 112) سورة الأنعام، الآية 103 .(54/83)
{ألمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَا أنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أمِرُواْ أن يَكْفُرُواْ بِهِ وِيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}(1).
أجيبونا.. هل يمكن سن قانونٍ أو تشريعٍ في هذه الأوكارِ الوثنية عن غير هذه الطرق الشركية الكفرية..؟؟.
أجيبونا يا أهل الاستصلاحات والأفهام..؟؟.
وحتى الحكمُ بما أنزل الله كلُّه الذي تتباكون عليه. أتريدون إقامته عن هذه الطريق..؟؟.
ألا تعلمون أنها طريق كفرية ومسدودة... لأنها إنْ نجحت ـ جدلاًـ فلن يكون هذا حُكمَ الله، بل هو حُكْمُ الدستور وحُكْمُ الشعب وحُكْمُ الجماهير.. ولن يكون حكم الله إلا حين يكون استسلاماً لكلام الله وانشراحاً لشرْعه وعبودية له سبحانه.. أما حين يكون استسلاماً لدين الديمقراطية ولشرع الدستور ولحكمِ الشعب والجمهور.. فهو حُكْمُ الطاغوت وإنْ وافقَ حُكْمَ الله ساعتها بأشياءٍ وأشياء، فالله جل ذكره قد قال: { إنِ الحكمُ إلا لله } (2). ولم يقل: (إنِ الحكم إلا للنَّاس) وقال: { وأنِ احكم بينهم بما أنز ل الله } (3). ولم يقل: (بمثل ما أنزل الله) أو (وأنِ احكم بينهم بما نص عليه الدستور والقانون)... بل هذا قول المشركين من عبيد الديمقراطية والدساتير الأرضية..
ثم أين أنتم؟ أما زلتم في سُباتكم وغيِّكم القديم ؟ أتدفنون رؤوسكم في الرمال.. ألا تُشاهدون تجارب أمثالكم من حولكم؟؟.. هذه الجزائر وتلك الكويت وهناك مصر وغيرها وغيرها.. ألم توقنوا بعد بأنَّ هذه لعبةٌ كفرية ، وملهاةٌ شركية عوجاء ومسدودة الطريق؟؟ ألم تتحققوا بعد بأنَّ هذه المجالس لعبة في يد الطاغوت يفتحها متى شاء ويُغلقها كيف شاء ويحلها حين يشاء(4) وأنه لا ولن يُسن فيها قانون حتى يُصدِّق ويُوافق عليه الطاغوت(5). فلماذا تُصِرُّون على هذا الكفر البواح.. وعلى هذه الذلة الصراح..؟؟
ثم ومع هذا تجدهم يجعجِعون ويصيحون ويقولون: كيف نتركُ هذه المجالس للشيوعيين أو النصارى... أو غيرهم من الملاحدة..؟؟ فبُعداً ، بُعداً... وسُحقاً، سُحقاً...
يقول تعالى: { ولا يحزنكَ الذين يُسارعون في الكفر إنَّهم لن يضروا الله شيئاً يُريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذابٌ عظيمٌ}(6).
فإنْ كُنتم من جملة الملاحدة ، فهنيئاً لكم هذه المقاسمة والمشاركة.. شاركوهم بكفرهم وشركهم إنْ شئتم، لكن اعلموا أنَّ المشاركة في هذه الحال لا تقف عند حدود الدنيا.. بل كما قال الله تعالى في سورة النساء بعد أن حذر من أمثال هذه المجالس، وأمر بمفارقة أهلها وعدمِ القعود معهم وإلا القاعد مثلهم قال محذراً سبحانه: {إنَّ الله جامعُ المنافقين والكافرين في جهنَّم جميعاً}(7). ألم تُوقِنُوا بعد هذا كلِّه أنَّها شركٌ صراحٌ.. وأنها كفرٌ بواحٌ.. ألم تعلموا أنها دينٌ غير دين الله..؟؟ وأنها ملَّةٌ غير ملَّة التوحيد؟؟ فعلام التكالب إذاً عليها.. ذروها لهم.. نعم ذروها واجتنبوها واتركوها لأهل ملَّتها.. واتبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين... وقولوا كما قال حفيده يوسف عليه الصلاة والسلام وهو مستضعفٌ خَلْفَ قُضبان السجون: {..إني تركتُ ملَّة قومٍ لا يُؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ( واتبعت ملّة ءَاباءِى إبراهيم وإسحق ويعقوب ما كان لنا أنْ نُشرك بالله من شيءٍ ذلك فضل الله علينا وعلى النَّاس ولكنَّ أكثرالنّاس لا يشكرون}(8).
يا قوم... اجتنبوا الطاغوتَ ومجالِسه وتبرّؤوا منها واكفُروا بها ما دامت كذلك...
هذا هو الحق المبين... والنّورُ الواضحُ المستبين، ولكن أكثر النّاس لا يعلمون..
{ولقد بعثنا في كلِّ أمةٍ رسولاً أنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هَدى الله ومنهم من حقَّت عليه الضلالة..}(9).
__________
(1) 113) سورة النساء، الآية 60 .
(2) 114) سورة يوسف، الآية 40 .
(3) 115) سورة المائدة، الآية 43 .
(4) 116) المادة 34 من الدستور الأردني فرع 2: (الملك يدعو مجلس الأمة إلى الاجتماع ويفتتحه ويُؤجله ويفضه وِفق أحكام الدستور) وفرع 3: (للملك أن يحل مجلس النواب).
(5) 117) المادة 79 من الدستور الكويتي: (لا يصدر قانون إلا إذا أقره مجلس الأمة وصدق عليه الأمير).
والمادة 93 من الدستور الأردني، فرع 1: (كلُّ مشروعٍ أقره مجلس الأعيان والنواب يُرفع إلى الملك للتصديق عليه) وفرع 3: (إذا لم ير الملك التصديق على القانون فله في غضون ستة أشهر من تاريخ رفعه إليه أن يرده إلى المجلس).
تأمل أنَّ في الأردن هناك قبل تصديق الملك أيضاً، تصديق وموافقة مجلس الأعيان الذين يُعيّنهم أصلاً الملك.. ومع هذا كلِّه فالقوم في غيّهم سادرون.
(6) 118) سورة آل عمران، الآية 176 .
(7) 119) سورة النساء، الآية 140 .
(8) 120) سورة يوسف، الآيتان 37-38 .
(9) 121) سورة النحل، الآية 36 .(54/84)
{ءأربابٌ متفرقون خيرٌ أمِ الله الواحد القهار ( ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إنِ الحكمُ إلالله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيِّم ولكن أكثر النّاس لا يعلمون}(1).
اجتنبوها يا قوم وتبرّؤوا من أهلها وشركها قبل فوات الأوان... وقبل أن يأتيَ يوم يكون ذلك أسمى وأعظم ما تتمنون ولكن بعد فواتِ أوانِه، ولن ينفعكم يومَها الندم ولا الآهات أو الحسرات...
{وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرةً فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يُريهمُ الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النّار}(2).
اجتنبوها الآن وقولوا لأهلها ـ إن كنتم على ملَّة إبراهيم وطريق الأنبياء والمرسلين ـ كما نقول في خاتمة كلامنا هذا:ـ
يا عبيد القوانين الوضعية... والدساتير الأرضية...
يا أصحاب دين الديمقراطية...
ويا أيها الأرباب المشرِّعون...
إنا نبرؤ إلى الله منكم ومن ملّتكم...
كفرنا بكم... وبدساتيركم الشركية وبمجالسكم الوثنية
وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تُؤمنوا بالله وحده...
===================(54/85)
(54/86)
وقائع برلمانية فاعتبروا يا أولي الأبصار (3)
(( لم أكن أظن أن ما قضى الله به في كتابه وعلى لسان رسول صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى مُوافقة عِباد الله، ولكنني فُوجئت أنَّ قول الربِّ الأعلى يظل في المصحف ـ له قداسته في قلوبنا ـ إلى أن يُوافِقَ عباد الله في البرلمان على تصيير كلام الله قانوناً. وإذا اختلف قرار عباد الله في البرلمان عن حُكْمِ الله في القرآن فإنَّ قرار عِباد الله يصير قانوناً معمولاً به في السلطة القضائية مكفولاً تنفيذُه من قِبَلِ السلطة التنفيذية؛ ولو عارض القرآن والسنّة. والدليل على ذلك أن الله حرم الخمر، وأباحها البرلمان. وأنَّ الله أمر بإقامةِ الحدود، وأهدرها البرلمان. والنتيجة على ضوْءِ هذه الأمثلة أن ما قرره البرلمان صار قانوناً رغم مخالفته للإسلام)).
هذه الكلمات هي خلاصة ما انتهى إليه أحد علماء الإسلام بعد أن قضى ثماني سنواتٍ كنائبٍ في البرلمان. وكان ذلك النائب العالم قد أحس بضرورة الخطابة على المنابر، والكتابة في الصحف، بعد طُول معايشته لتلك الأساليب، ازداد إيماناً بجدواها لكنه شعر أنها وحدها لا تحدث تغييراً في القوانين، ولا تأثيراً مُستمراً في السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، فرشح نفسه لعضوية البرلمان بحثاً عن أسلوب جديد لإعلاء كلمة الله تعالى بتطبيق الشريعة الإسلامية، إنقاذاً للعباد من الضلالة وتخليصاً لهم من الأباطيل ودفعاً بهم إلى رِحاب الإسلام.
فاز العالم بعضوية البرلمان تحت شعار (أعطني صوتك لنُصلح الدنيا بالدين) وأعطاه النّاس أصواتهم ثقةً فيه رغم كلِّ وسائل التزييف والتزوير في الانتخابات. واستمر النائب في عضوية البرلمان دورتين متتاليتين ثم قال بعدها: (إنه عَزَّ على البيان الإسلامي أن يجد صداه المنطقي في هاتين الدورتين).
ذهب النائب العالم يوماً إلى واحدة من مدريات الأمن لقضاء مصالح مُواطنيه ففوجئ في مكتب الآداب بحوالي ثلاثين امرأةٍ يجلسن على البلاط فسأل قائلاً: ما ذنبُ هؤلاء؟ فقال له المسؤول: إنهنَّ الساقطات! فسأل وأين الساقطون؟ إنها جريمةٌ لا تتم إلا بين زانٍ وزانية. فأخبره المسؤول بأنَّ الزاني عندهم هو مجردُ شاهدٍ بأنَّه قد ارتكب الزنا مع هذه وأعطاها على ذلك أجراً فهي تحاكم ليس لأنها ارتكبت الزنا ولكن لأنها تقاضت الأجر. فتحول المُقِّرُ والمعترفُ بأنه زان إلى شاهد عليها ولا يلتفتُ القانون إلى قراره واعترافه بالزنا.
غضب النائب العالم غضبةً لله، فقال له المسؤول ببساطة: (نحن ننفذُ قانوناً أنتم أقررتموه في البرلمان).
أدرك النائب العالم أنه مهما كثرت الجماهير المنادية بتطبيق الشريعة، ومهما ساندها كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم فإن الآمال في تطبيق الشريعة لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق البرلمان الذي يسمونه (السلطة التشريعية)، ولأنَّ السلطة القضائية لا تحكم إلا بالقوانين التي تصدر عن البرلمان ، وأنَّ السلطة التنفيذية لا تتحرك لحماية القرآن والسنّة، ولا لحماية الإسلام إلا بمقدار ما أقره البرلمان من هذه الجوانب المقدسة، اعتقد النائب العالم بأنَّ الوصول إلى هذه الغاية ممكنٌ إذا عَلِم نوابُ البرلمان أن هذا قول الله، وقوله رسول صلى الله عليه وسلم ، وحُكْمُ الإسلام ليقروه.
__________
(1) 122) سورة يوسف، الآيتان 39-40 .
(2) 123) سورة البقرة، الآية 167 .
(3) مقال للدكتور أحمد إبراهيم خضر نُشر في العدد السادس والستون من مجلة البيان التي تصدر عن المنتدى الإسلامي بلندن .
انطلق النائب العالم فقدم مشروعَ قانون لإقامة الحدود الشرعية، ومشروع قانون لتحريم الربا مع اقتراح الحلِّ البديل، ومشروعَ قانون لتطويع وسائل الإعلام لأحكام الله، ومشروعَ قانونٍ لرعاية حرمة شهر رمضان، وعدم الجهر بالفطر في نهاره، ومشروع قانون لتنقية الشواطئ من العربدة، والعديد من المشاريع الإسلامية الأخرى. ووقع معه على مشاريع هذه القوانين عددٌ كبيرٌ من أعضاء البرلمان. وذهب النائب العالم لأداء العمرة ، واصطحب معه بعضَ أعضاء البرلمان، وعند الحجر الأسود عاهدوا الله جميعاً على مناصرة شريعة الله في البرلمان، ثم ركبوا الطائرة إلى المدينة المنورة، ثم تعاهدوا في رِحاب المسجد النبوي على رفع أصواتهم لنصرة شرع الله لا لنصرة انتماءاتهم الحزبية.(54/87)
حمّل النائب العالم السلطات الثلاث في الدولة مسؤولية إقرار المحرمات ومخالفة الشريعة، وتوعد وزيرَ العدل آنذاك بأنه سيستجوبه بعد بضعة شهور إذا هو لم يقدم ما تم إنجازُه من قوانين تطبيق الشريعة الإسلامية. ولم يقدم له الوزيرُ ما طلبه منه النائب فوجه إليه النائب استجواباً ـ والاستجواب في عرف البرلمانات ملزم للمستجوب بالرد عليه ما لم تسقط عضوية الوزير أو يخرج الوزير المستجوب من الوزارة ـ وأصر النائب على استجواب الوزير ووقفت الحكومة خلف وزيرها، وأصرت على اسقاط الاستجواب، ولما اشتد إصرارُ النائب على الاستجواب أحدثت الحكومة تعديلاً وزارياً لم يخرج منه إلا وزيرُ العدل، أي أن الوزير أُخرج من الوزارة ليسقط الاستجواب، وتكرر هذا العمل حتى أصبح قاعدةً من قواعد التعامل مع البرلمان.
لجأ النائبُ العالم مرةً ثانيةً إلى أعضاء البرلمان وقال لهم: إنَّ مشاريع القوانين الإسلامية وُضِعت في أدراج اللجان، وقد عاهدتم الله في الحرمين على أنْ تكون أصواتُكُم لله ورسوله، وطالب بتوقيعهم على المطالبة بالتطبيق الفوري للشريعة الإسلامية فاستجابوا، ووقعوا على ما طالبهم به ووضعَ النائب العالم هذه الوثيقة في أمانةِ البرلمان، وطالب باسم النواب جميعاً النظر في قوانين شرع الله. فقام رئيس البرلمان وطالب باسم النواب جميعاً النظر في قوانين شرع الله. وقال للنواب: إنَّ الحكومة لا تقل عنكم حماسةً للإسلام، ولكننا نطلبُ منكم فرصةً للمواءمات السياسية ، فصفق له النواب الموقعون، المتعاهدون في الحرمين على العمل على تطبيق شريعة الله، ووافقوا على طلبه، فضاعتِ المطالبة بالتطبيق الفوري للشريعة وانتصرت الحكومة.
غلب اليَأْسُ النائب العالم لعدم جدوى محاولاته في سبيل تطبيق الشريعة مع أعضاء يُناديهم فيستجيبون ثم يعدلون، ثم فُوجئ يوماً باقتراح من رئيس البرلمان للموافقة على تكوين لجنّة عامة لِقَوْنَنَةِ الشريعة الإسلامية، وتبيَّن حقيقة الأمر فوجد أنَّ قرار الحكومة المفاجئ هذا لم يكن إلا تغطيةً لفضيحةٍ كبرى مست كرامة البلاد. ولم تتخذِ الحكومة قراراً لصالح الإسلام. ورحب النائب بالفكرة رغم فهمه لأبعادها، واجتمعت اللجنة لكنَّ النائب العالم أحس عدم جِدية الدولة في تطبيق شرع الله لأنها إذا أرادت إرضاء الله فهناك أمور لاتحتاج إلى إجراءات. فإغلاق مصانع الخمور يمكن أن يكون بجرة قلم. وإغلاقُ الحانات يمكن أن يتم بجرةِ قلم.
كانت هناك مظاهر تدل على ما في الأعماق حقيقة ، تضافرت كلُّها لتترك في نفس النائب العالم انطباعاً ـ يُشكل في حد ذاته قاعدة من قواعد التعامل مع البرلمانات ـ مؤاداه: أنَّ شرع الله لن يتحقق أبداً على أيدي هؤلاء.
فُوجئَ النَّاس وفُوجئَ النائب العالم بحلِّ البرلمان بعد أن كان هو رئيساً للجنة مرافعات تطبيق الشريعة الإسلامية، وظل يُوالي مع اللجنة عملية الدراسة والتقنين عبر ثلاثين اجتماعاً. وفي غيبة البرلمان صدر قرارٌ خطيرٌ في مسألة تمس حياة النّاس الشخصية. فوقف النائب العالم ضد هذا القرار لأنه مخالفٌ للإسلام والدستور، ولكن القاعدة تقول: أنَّ البرلمان كلّه يمكن أن يحل بقرار إذا أرادت الدولة فرض أمر على الناّس حتى ولو كان مخالفاً للإسلام.
أما أهم قاعدة يستند إليها البرلمان فقد لخصها النائب العالم بقوله:ـ
(إنه مهما أُوتِيتُ من حجج ومهما استند موقفي إلى الكتاب والسنّة فإن من عيوبِ البرلمان ومسئوليته الفادحة أنَّ الديمقراطية تجعل القرار مُلكاً للغالبية المطلقة بإطلاق وبلا قيد ولا شروطٍ ولو خالف الإسلام).
أحس النائب العالم بأنَّ زحفاً من التضييق عليه يشتد من جانب الحكومة، ومن رئيس البرلمان، ومن حزب الغالبية؛ وافتعلت رئاسة البرلمان ثورات ضده، واتهمته بأنه يُعطل أعمال اللجان. ولكنَّه استمر في بذل جهوده. فقدم العديد من الأسئلة التي لم تدرج في جداول الأعمال، وقام بالعديد من طلبات الإحالة فوجدها قد دُفنت ولم تقم لها قائمة، ثم عاد إلى استخدام سلاح الاستجواب الذي لا يمكن رده. فاستجوب وزراء الحكومة عن ضرب الدولة للقضاء الشرعي والأوقاف، والمعاهد الدينية، ومكاتب تحفيظ القرآن الكريم، وعن ضربها لمناهج التعليم في الجامعات الدينية بحجة تطويرها، وعن ضربها للمساجد بإصدارها قانوناً لا يسمح لأحد حتى ولو كان من (المشايخ) أن يدخل دُور العبادة، وأن يقول ولو على سبيل النصيحة الدينية قولاً يُعارض به قراراً إدارياً أو قانوناً مُسْتَقِراً؛ ومن فعل ذلك حبس وغرم، فإن قاوم ضُوعفت الغرامة وسجن.(54/88)
قدم النائب العالم استجواباً إلى وزير السياحة لأنَّ طلاباً في المدارس الفندقية أُرغموا على تذوق الخمور فرفضوا ففصلوا، وقدم استجواباً آخر إلى وزير الإعلام بُغية تطهير وسائل الإعلام من العربدة التي تعصفُ بالقِيَّم والأخلاق ومقدسات البلاد، واستجواباً ثالثاً إلى وزير النقل والمواصلات عن صور القصور والتقصير بهذه المرافق، وشعر النائب العالم أنه يقدم الاستجواب تِلْوَ الاستجواب إلى بالوعات، فوقف في البرلمان يحاسب رئيسه ويتهمه بالخروج على لائحة البرلمان، فأمر رئيس البرلمان في لعبةٍ مثيرة بإدراج الاستجوابات الثلاثة في جلسة واحدة مع أنَّ كلّ استجواب يحتاج إلى أيام، ثم دعا الهيئة البرلمانية لحزب الأغلبية لتحبط هذه الاستجوابات، ونودي على وزير السياحة فتدخلت الحكومة التي اعترضت على إدراج هذا الاستجواب في جدول الأعمال لأنَّ فيه كلمةً نابية هي بالضبط (اتهام صاحب الاستجواب الوزير بأنه جافى الحقيقة أثناء رده على السؤال) ثم طُرح الموقف على نُواب البرلمان فقرروا إحباط الاستجواب وعطلوا ما يسمى بالحق الدستوري للنائب في محاسبة الدولة، ثم نُودِي على الاستجواب الثاني المقدم لوزير الإعلام، وكما انتصر النواب للخمر، انتصروا للرقص رغم أنَّهم عاهدوا الله على النصرة لشريعته، ثم نُودِي على وزير النقل لكن النواب رأوا أنّ محاسبة الوزير تتلاقى مع أهوائهم، فقام النائب العالم إلى المنصة وقال لنواب البرلمان:ـ
(يا حضرات النواب المحترمين لستُ عابدَ منصبٍ ولستُ حريصاً على كرسي لذاته، ولقد كان شعاري مع أهل دائرتي (أعطني صوتك لنصلح الدنيا والدين) وكنت أظن أنه يكفي لإدراك هذه الغاية أن تقدم مشروعات القوانين الإسلامية لكنه تراءى لي أنَّ مجلسنا هذا لا يرى لله حكماً إلا من خلال الأهواء الحزبية، وهيهات أنْ تسمح بأن تكون كلمة الله هي العليا..
لقد وجدتُ طريقي بينكم إلى هذه الغاية مسدوداً، لذلك أُعلن استقالتي من البرلمان غير آسفٍ على عضويته).
وانصرف النائب العالم إلى داره في أبريل 1981 ورفعت الجلسة.
رحل النائب العالم عن البرلمان، ثم رحل عن هذه الدنيا كلِّها بعد ذلك بعدة سنوات، وبقي البرلمان يقضي ويُشرع ويُنفذ بغير ما أنزل الله.
*****************(54/89)
(54/90)
حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية
إهداء
…ـ إلى الذين لا يزالون يعتبرون الاختلاف على الديمقراطية هو اختلاف في الوسائل والفروع التي لا تمس الأصول والاعتقاد ..!!
…ـ إلى الذين يعتبرون الديمقراطية من المتغيرات التي لا تتعارض مع الثوابت ..!
…ـ إلى دعاة الترقيع، والتقميش، والتوفيق ..!!
…ـ إلى الذين لا يزالون يتذرعون بجهل حقيقة الديمقراطية ..!!
…ـ إلى الذين يُلبسون الديمقراطية - زوراً وبهتاناً - ثوب الشورى والإسلام..!
…ـ إلى الذين يستعذبون دفء الكراسي والمناصب على حساب التوحيد ..!!
…ـ إلى الذين يرون في الديمقراطية الحل الأمثل لمشكلات الإسلام والمسلمين ..!
…ـ إلى الذين يروجون للديمقراطية ويدعون لها ثم يزعمون بعد ذلك أنهم مسلمون ..!!
…ـ إلى الذين أضلتهم الفتاوى المترجلة والمتسرعة، وتاهت بهم الدروب .. !
…ـ إلى الذين ينشدون الحق بعيداً عن التعصب والتحزب للأهواء والرجال ...
…ـ إلى هؤلاء جميعاً نهدي هذا الكتاب، عسى أن يكون لهم سبب هداية ورشاد، والله تعالى يهدي مَن يشاء .
المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إن الحكمُ إلا لله أمر ألاَّ تعبدوا إلا إيَّاه ذلك الدين القيمُ ولكن أكثر الناس لا يعلمون } يوسف:40
{ والله يحكم لا معقِّبَ لحكمه وهو سريع الحساب } الرعد:41 .
{ إن الله يحكم ما يريد } المائدة:1.
{ أفحكمَ الجاهلية يبغون ومن أحسنُ من الله حكماً لقومٍ يوقنون} المائدة:50.
{ أم لهم شُركاءُ شَرَعوا لهم من الدين ما لم يأذن به اللهُ } الشورى:21.
{ ولا يُشرِكُ في حكمه أحداً} الكهف:26.
{ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنمَ كذلك نجزي الظالمين} الأنبياء:29 .
{ وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللهُ ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومَن يعصِ الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} الأحزاب:36.
{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} النساء:65.
{ إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء:65.
{ ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} النحل:36.
{ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} البقرة:256 .
{ وما اختلفتم فيه من شيءٍ فحكمه إلى الله} الشورى:10 .
{ فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} النساء:59.
{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} المائدة:44.
بسم الله الرحمن الرحيم
ـ مقدمة الطبعة الثانية .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد .
…فإن معركة الإسلام مع الديمقراطية لم تُحسم بعد كما حُسمت من قبل معركته مع الاشتراكية، والقومية، والوطنية وغيرها من الشعارات الوثنية التي تحط من قدر الإنسان وقيمته ..
…فالدول الصليبية الكبرى تعمل - بكل ما أوتيت من قوة ووسائل - على فرض دين الديمقراطية على الشعوب المقهورة والمغلوب على أمرها، فمن لا يأتي معها بالترغيب والإغواء يأتي معها بالترهيب واتباع سياسة الحصارات والتجويع ..!
…فهم لما عجزوا عن إبعاد الناس عن دينهم وإدخالهم في النصرانية الصليبية صراحة، سهل عليهم إدخالهم في دين الديمقراطية، وكان لهم ما أرادوا وهو إبعاد الناس عن دين الله تعالى ..!
…والشعوب - بسبب سياسة التجهيل والتفريغ من محتواها العقدي الإيماني التي مورست بحقها - فهي بين مروج للديمقراطية، ومحسن ومصفق لها، وأحسنهم الذي يسكت عنها ولسان حاله يقول: أمر واقع لا مردَّ له، وهي أفضل لنا من الديكتاتورية ..!
والذي زاد الطين بلة والخرق اتساعاً هو انخداع كثير من الدعاة الإسلاميين المعاصرين بالديمقراطية، حيث عملوا على ترويجها بين الناس بعد أن ألبسوها زوراً ثوب الشورى والإسلام ..!
…لأجل ذلك نرى أن معركة الإسلام مع الديمقراطية قد تستغرق الزمن الذي ليس بقليل، ولكن الأمل بالله تعالى كبير بأن العاقبة - مهما طال الزمن - للمتقين، وأن النصر والظهور للحق، فالإسلام دين الله، ودين الله لا يعلوه دين .
…كما قال تعالى: { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} الأعراف:128 .
…وفي الحديث فقد صح عن النبي { أنه قال:" إن الله زوى - أي جمع وضم - لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها " مسلم .
…وقال { :" ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدَر ولا وبَر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيزٍ أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر" (1)
(1) أخرجه ابن ماجة في صحيحه، السلسلة الصحيحة: 3.
. ومثل هذا الانتشار والتوسع في الملك لملة التوحيد لم يتحقق من قبل، وهو كائن بإذن الله لا محالة ..(54/91)
…ولكن لا بد من نهضة وعزمة صادقة مخلصة من الدعاة المخلصين وبخاصة منهم أصحاب الأقلام المميزة المنصفة الذين لا يخشون في الحق لومة لائم .. لا بد لهم من أن يصدعوا بالحق ويقولوا كلمتهم في هذا الدين الجديد الذي أغوى الخاصة والعامة سواء، ويقوموا بواجب العلم وحقه الذي آتاهم الله إياه وأنعم به عليهم، وهو سائلهم عنه يوم القيامة .. فهم ورثة الأنبياء؛ ومن ميراثهم صلى الله عليهم أجمعين الجهاد والبلاء في سبيل هذا الدين، والصدع بالحق في وجوه الطغاة الآثمين، وليس مجرد النصوص والمتون كما يظن البعض ..!
فكما أن جيوش الباطل بكل فرقه قد تجمعت وتعاقدت لنصرة هذا الدين الباطل، كذلك ينبغي لجند الحق والإسلام بأن تتوحد كلمتهم لمواجهة هذا الدين الباطل الذي أسموه بالديمقراطية ..!
…وهذا الكتاب - حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية - كان قد صدر في طبعته الأولى في صورة لا تخلو من وجود بعض الثغرات التي لا بد من معالجتها وتفاديها، لذا رأيت أن يعاد طبعه ثانية بعد أن ضمَّنَّاه زيادات عزيزة وهامة تناولنا فيها الرد على شبهات المخالفين، وغيرها من المسائل الهامة ذات العلاقة بالموضوع، كما قمنا بتصحيح الأخطاء الواردة في الطبعة الأولى، وبخاصة منها الأخطاء المطبعية المتعلقة بالآيات القرآنية ..!
فالكتاب - للزيادات الآنفة الذكر - هو عمل جديد صِيغ بأسلوب جديد، فيه ما ليس في الطبعة الأولى، وربما تزيد الطبعة الثانية عن الطبعة الأولى أكثر من مائتي صفحة، لذا فإن الطبعة الأولى لا تغني القارئ عن هذه الطبعة ..
وإني أعلم أن هذا الكتاب - لتضمنه وجهة النظر التي لا ترضي الباطل - سيثير علينا طغاة الكفر أرباب الديمقراطية ودعاتها ورعاتها وأذنابهم من المنافقين، وبخاصة قوى الطغيان العالمية التي ترعى العملية الديمقراطية في العالم، والتي توالي وتعادي، وتسالم وتحارب، وتنفق وتُمسك على أساس القرب أو البعد من هذا الدين الجديد ..!!
ولكن هذا الإرهاب مهما كان كبيراً فإنه لا يثنينا - بإذن الله - عن بيان الحق ونصرته، وفضح الباطل وإبطاله بالحجة والبرهان ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة .. فالحق أحب إلينا مما سواه، ومرضاته غاية نستشرف ونستعذب الموت في سبيلها .
…ولا نقول إلا كما قال نبي الله هود على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام: { قال إني أُشهدُ اللهَ واشهدوا أني بريء مما تُشركون . من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تُنظرون . إني توكلت على الله ربي وربِّكم ما من دابةٍ إلا هو آخذٌ بناصيتها إن ربي على صراطٍ مستقيم } هود:54-56.
نسأل الله تعالى أن ينفع العباد بهذا الكتاب، وأن يحقق منه المراد، وأن يغيظ به الأعداء، وأن يضع له القبول في الأرض وفي السماء، إنه تعالى سميع قريب مجيب الدعاء .
…وصلى الله على محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم .
…17/3/1420 هـ .
…30/6/1999 م . أبو بصير
بسم الله الرحمن الرحيم
ـ مقدمة الطبعة الأولى(1).
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقَّ تُقاته ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون} آل عمران:102 .
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً} النساء:1 .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً . يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يُطع اللهَ ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} الأحزاب:70-71 .
أما بعد:
ــــــــــــــــــــ
(1) للتغيير الواسع في مادة الكتاب فقد طرأ على المقدمة بعض التعديلات والإضافات الضرورية .
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .
اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيم .
تتنامى حركة المد الإسلامي - وعياً وقوة وانتشاراً - في أمصار المسلمين، وترتفعُ أصوات الشعوب المسلمة بضرورة الرجوع إلى دين الله، وتحكيم شريعته سبحانه في جميع شؤون الحياة، ونبذ جميع الشرائع والقوانين الوضعية التي تكرس ألوهية الإنسان للإنسان، وتبعيَّة المسلم إلى قوى الكفر والشر في الغرب أو الشرق ..(54/92)
…فأفزع ذلك قوى الكفر العالمية الحاقدة على الإسلام، ومن تابعهم من طواغيت الردة والنفاق، وأقلق بالهم ومضاجعهم، وأخافهم على امتيازاتهم ومصالحهم وعروشهم، فحملهم ذلك على أن يجربوا مع الشعوب المسلمة جميع صنوف القمع والإرهاب والتعذيب - من قتل وسجن وتشريد - فارتد ذلك عليهم بالخزي والعار، وما زاد ذلك المسلمين إلا إصراراً وعناداً وتصميماً على المضي في الطريق؛ طريق الجهاد لإعلاء كلمة الله في الأرض وحتى يكون الدين كله لله .
…فما استكانوا ولا وهنوا ولا ضعفوا، بل كانت سياسة السياط والتنكيل بمثابة المنبه الذي أيقظ الهمم والعقول، وأحياها بعد رُقاد طويل، وذل شنيع استمرأته النفوس، فأدرك الطواغيت سوء صنيعهم، وعلموا أن العنف لا يورث الأجيال إلا الأحقاد والعنف والكراهية، وأن النار لا تولد إلا ناراً، وهذا الذي يخافونه ويحذرونه، ويهربون منه أشد الهرب ..
…إذاً لا بد لهم من بديل يحقق مطالبهم وسياساتهم بأقل الخسائر، وبنفس الوقت يأمنون به على أنفسهم وامتيازاتهم ومصالحهم، ويضمنون سلامة عروشهم من أن تتهاوى عليهم ..
…فوجدوا في الديمقراطية - وما يتبعها من نظم وتفريعات ووسائل - بغيتهم والبديل الذي به يميعون قضية الإسلام وحقيقته في نفوس المسلمين وفي واقع حياتهم؛ قضية الحاكمية والتشريع، قضية من المعبود بحق الذي يجب أن تُصرف إليه الطاعة والعبادة، وبنفس الوقت يحافظون به على عروشهم ونفوذهم ومصالحهم، ويُبقون على نظامهم العلماني الوضعي الذي يفصل الدين عن الدولة وشؤون الحكم والسياسة، وجميع شؤون الحياة (1).
(1) لكن عندما تجيء المقادير بخلاف ما خططوا ودبروا وما تشتهي أنفسهم، فإن الدبابات وقوات الجيش سرعان ما تترجل وتنزل إلى الشارع لتحمي المكاسب الوطنية، وتحافظ على الديمقراطية ..!
إضافة إلى ذلك فهي - أي أجواء الديمقراطية - تكشف لهم الأوراق، وتعرفهم على الأسماء وخبايا الأمور، التي تُسهل لهم الانقضاض على المخالفين ساعة يرون الفرصة السانحة لذلك، أو تضطرهم الأحداث إلى ذلك، وهذا غير محقق لهم بسهولة في غير أجواء الديمقراطية، وهو مطلب هام بالنسبة لأمن الطواغيت وأمن أنظمتهم .
…وبالفعل فقد راجت هذه اللعبة الخبيثة الماكرة على الجميع، وعلى كثير من خواص المسلمين، واستعذبتها النفوس الضعيفة الجبانة، التي من شأنها أن تهوى الهبوط والطرق القصيرة الملتوية وإن أفضت بهم إلى العذاب والنار، وأصبحت الديمقراطية - دين الغرب - غايتهم ووسيلتهم، وهمهم الأكبر، والبديل الأمثل، والحل لجميع مشاكل الأمة، وهي النظام الوحيد الذي يجب أن تصبوا إليه البشرية والإنسانية جمعاء، ولا يجوز لها أن تلتفت إلى ما سواه من النظم ..!
…فضلوا وأضلوا، وفُتنوا بالديمقراطية كأشد ما يفتن المرء بباطل، حتى أنهم يوالون ويعادون فيها؛ فمن وجدوه ديمقراطياً والوه وأكرموه، وأثنوا عليه خيراً وبكل عبارات الإطراء، ومن وجدوه غير ديمقراطي عادوه وأنكروا عليه، وأشاروا إليه بكل عبارات الاتهام والطعن والتجريح ..!
ومما يلفت النظر ويشتد له العجب أنه رغم ما جرَّت التجارب الديمقراطية على المسلمين من نتائج سيئة ووخيمة أفضت إلى الضعف والاختلاف والتفرق، والشقاق والتنازع بين الأخوة حيث الجماعة أصبحت جماعات، والحزب أصبح أحزاب، والحركة أصبحت حركات متنافرة متباغضة، والأخوة في بيت واحد تراهم متباغضين ومنقسمين؛ هذا مع الانتخابات وهذا ضد الانتخابات، رغم كل ذلك وغير ذلك مما يُشين فإن القوم لا يزالون يستعذبون الديمقراطية وينافحون عنها كأنهم أربابها وصانعيها ..!
…أُشربوا في قلوبهم حب الديمقراطية، كما أُشرِب بنو إسرائيل - من قبل - في قلوبهم حب العجل، فما نفعهم سمعهم فردعتهم الآيات القرآنية والنصوص الشرعية، ولا نفعتهم عقولهم وأبصارهم فبصرتهم بالواقع المرير الناتج عن تطبيق الديمقراطية ..!
وثمة أمر مهم لا بد من الإشارة إليه، وهو أن المعسكر الشيوعي الاشتراكي - بحكم تخلفه ومحاربته للفطرة الإنسانية - قد سقط وانهار وتلاشى وأصبح في حقيقة أمره تبعاً للنظام الرأسمالي الديمقراطي الحر، ولم يعد يشكل - من ناحية أيدلوجية وفكرية وثقافية - أي خطر على المد الإسلامي، ولم يبقَ - من قوى الشر والباطل - في الساحة ما يشكل تحدياً للإسلام والمسلمين سوى المعسكر الرأسمالي الذي يقوم على أساس النظام الديمقراطي الحر .
…وخطر هذا النظام الفاسد يكمن في أن حقيقته قد انطلت على كثير من خواص المسلمين، حتى ظنوا أن الديمقراطية من الإسلام، والإسلام من الديمقراطية ولا تعارض بينهما، وبالتالي فهو لم يلق منهم إلا كل مسالمة وتأييد ..
…والعدو كيف يواجَه خطره ويُرد كيده إذا نُظر إليه على أنه صديق وهو منا ونحن منه، أو أنه ليس فيه أو عنده ما يستدعي العداء ؟!
…وهكذا الموقف السائد من الديمقراطية ودعاتها، فهي بقيت في الساحة لا لأنها قوية في ذاتها ونظامها، أو لأنها لا تتعارض مع الفطرة البشرية السوية.. بل لأنها لم تواجه الموقف الصحيح للإسلام والمسلمين منها .(54/93)
…لأجل ذلك، ومن باب الأمانة الملقاة على عاتقنا، وبيان الحق الذي سكت عنه وكتمه - رهبة أو رغبة - كثير مما يتصدرون مجالس العلم، رأينا أن نخط هذه الكلمات مبينين فيها حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية، وفيمن يعتقدها أو يدعو إليها، أو يحسنها في أعين الناس ..
… { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة } الأنفال:42.
…وفي هذا الكتاب تناولنا المسائل والمواضيع التالية:
…_ الديمقراطية، منشأها ومعناها ..
…_ مناقشة المبادئ والأسس التي تقوم عليها الديمقراطية ..
…_ هل الديمقراطية دين ..؟
…_ فتوى بعض العلماء في الديمقراطية ..
…_ الديمقراطية والشورى ..
…_ استخدام الديمقراطية كمصطلح ..
…_ الكلمة العربية المرادفة لكلمة الديمقراطية ..
…_ حكم الشعب ليس حكم الله وإن حكم بالإسلام ..
…_ الفرق بين مزاولة السلطة وبين مصدر السلطة ..
…_ موقف الإسلام من الأحزاب ..
…_ موقف الإسلام من الأحزاب العلمانية وغيرها من الأحزاب الكافرة ..
…_ موقف الإسلام من تعدد الأحزاب الإسلامية ..
…_ وقفات مع القرضاوي ..
…_ كيف يتم اختيار أهل الحل والعقد .. ؟
…_ مقارنة بين المذاهب الفقهية والأحزاب ..
…_ التمثيل النيابي ودخول البرلمانات ..
…_ مآخذ وملاحظات على الانتخابات الديمقراطية ..
…_ مآخذ وملاحظات على العمل النيابي ..
…_ شروط العمل في الدوائر الحكومية ..
…_ ردود على شبهات يستدل بها المخالفون ..
…_ استدلالهم بعمل يوسف عليه السلام عند ملك كافر ..
…_ استدلالهم بالنجاشي ..
…_ استدلالهم بحلف الفضول ..
…_ استدلالهم بالمصلحة .. وشبهات أخرى والرد عليها .
…_ المسلمون لا يصلون إلى غاياتهم عن طريق الديمقراطية ..
…_ ما هو البديل، وكيف السبيل ..
…وغيرها من المسائل والمواضيع الهامة العديدة ذات العلاقة بالموضوع يجدها القارئ في طيات هذا البحث ..
نسأل الله تعالى القبول، وأن يلهمنا الإخلاص والسداد والثبات .. إنه تعالى سميع قريب مجيب .
وصلى الله على محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم .
27 رجب - 1410 هـ . عبد المنعم مصطفى حليمة
23 شباط - 1990 م . أبو بصير
_ الديمقراطية (1) .
…الديمقراطية Democ r acyكلمة مشتقة من لفظتين يونانيتين Demos الشعب، و K r atos سلطة . ومعناها الحكم الذي تكون فيه السلطة للشعب، وتُطلق على نظام الحكم الذي يكون الشعب فيه رقيباً على أعمال الحكومة بواسطة المجالس النيابية، ويكون لنواب الأمة سلطة إصدار القوانين (2). وتتم عملية انتقاء القوانين والتشريعات بحسب اختيار الأكثرية لها من أعضاء مجلس النواب (3).
(1) كتاب " حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية " أخذت بعض فصوله من كتابي " دعاة وقضاة "يسر الله طبعه وظهوره، هذه الفصول قد تحذف من الكتاب عند الشروع في طبعه إن شاء الله.
(2) محمد قطب، مذاهب فكرية معاصرة، ص178.
(3) المشرعون الحقيقيون في النظام الديمقراطي الحر هم أصحاب النفوذ ورؤوس الأموال،بحكم ما لهم من نفوذ واسع يمكنهم من دخول مجالس التشريع أو إيصال من يريدونه أن يصل، ومن ثم تأتي التشريعات والقوانين لصالحهم ولحماية مصالحهم من دون بقية فئات الشعب .
وفي مقابلة أُجريت مع المحامي الأمريكي رمزي كلارك يقول: لا شك في أن المال يتكلم في المحاكم الأمريكية، ولننظر إلى عقوبة الإعدام فإننا في أمريكا لم نعدم رجلاً غنياً في تاريخنا، ونعدم أربعة أشخاص كل أسبوع من الفقراء. وأن القضاء منحاز إلى الأغنياء لأن كلفة المحامين في أمريكا هائلة .. !
…ومنه نعلم أن الديمقراطية تعني - عند أربابها وصانعيها - الشعب نفسه بنفسه، وتعني اختيار الشعب، والاحتكام إلى الشعب عند حصول النزاع والاختلاف، فالشعب سلطة عليا لا تعلو سيادته سيادة، ولا إرادته إرادة بما في ذلك إرادة الله (1)، التي لا اعتبار لها، وليست لها أية قيمة في نظر الديمقراطية والديمقراطيين !
ـــــــــــــــــــ
= صحافتنا الأمريكية تملكها وتتحكم فيها" البلوتوكراسي " أي الطبقة الثرية، وهؤلاء أيضاً يملكون ويتحكمون في الحكومة الأمريكية .. إن الولايات المتحدة ليست ديمقراطية لأن الشعب لا يختار، بل هو حكم الأثرياء يتحكم في الانتخابات، والحكومة والعسكر والإعلام .
إن لدينا حكومة أثرياء، وبعضهم يسمونها " أرستقراطية " ولكن الواقع أنها حكومة الأثرياء، والفقراء لا حقوق لهم أولا يتساوون مع الأثرياء الذين يملكون القوانين والسياسات الأمريكية، إن السياسة الخارجية الأمريكية هدفها خدمة مصالح الأغنياء الأمريكيين .ا-هـ .عن مجلة المشاهد السياسي، عدد 66،15-21 حزيران-1997، ص11-12 .
قلت: وهذا كائن في دولة تزعم أنها سيدة العالم الديمقراطي في هذا العصر، فما يكون القول في الدول التي هي دونها ..؟!
(1) من الكفر الشائع ما يُردد على ألسنة كثير من الناس قول شاعرهم :
…إذا الشعب يوماً أراد الحياة ... فلا بدَّ أن يستجيب القدر
فجعلوا إرادة الله سبحانه تبعاً لإرادة الشعب التي لا يمكن أن تتخلف، ولا يمكن للخالق أن يردها ..!(54/94)
وهذا عين الكفر، لأن الله تعالى فعال لما يريد ويحكم بما يريد، ولا مُكره له على شيء لا يريده، وإرادته تعالى غير مقرونة بأي إرادة أو قدرة، تعالى عما يصفون .
والديمقراطية ظهرت في أوربة كنظام حاكم - إثر الثورة الفرنسية - نتيجة للظلم الكنسي، والإرهاب الفكري والجسدي الذي مارسته الكنيسة - بمقتضى اختصاصها بالحق الإلهي المقدس المزعوم - بحق الشعب، وبخاصة منهم العلماء والمفكرين الذين خالفوا الكنيسة في كثير من المسائل العلمية، حيث كانت لهم الاجتهادات والتفسيرات لبعض الظواهر العلمية التي تعارض وتغاير ما كانت عليه الكنيسة، وهذا أمر لم تكن الكنيسة - يومذاك - أن تتحمله أو تُطيقه، فحملهم ذلك على تصفية وتعذيب كل مخالف للكنيسة وتعاليمها؛ ومحاكم التفتيش وما كان يجري فيها من مجازر وقتل وتعذيب وحشي، وأحكام صورية ترعها الكنيسة وتقوم عليها، ليست أخبارها عن المسامع ببعيدة ..
…في هذه الأجواء ظهرت الديمقراطية الحديثة، فجاءت ناقمة على تعاليم الكنيسة وكل شيء اسمه دين، ووقفت الموقف المغالي والمغاير لتعاليم الكنيسة، وما كانت تفرضه الكنيسة على العباد باسم الله، حيث كانت تزعم لنفسها الحق في التكلم نيابة عن الله، وهذا ليس لأحدٍ سواها ..!
…فعملت الديمقراطية على نزع سلطة السيادة عن باباوات الكنيسة لتجعلها حقاً خالصاً لباباوات المجالس النيابية بزعم تقرير مبدأ سيادة الأمة والشعب، ففرت من سيادة مخلوق إلى سيادة مخلوق آخر، ومن ألوهية مخلوق إلى ألوهية مخلوق آخر؛ لكن في المرة الثانية جاءت ألوهية هذا المخلوق - بعيداً عن الكنيسة والدين - باسم الشعب والأمة كما زعموا ..!
فكانت الديمقراطية بذلك أول من تبنى عملياً مبدأ فصل الدين عن الدولة وعن الحكم والحياة، ورفعت الشعار المعروف: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله (1) .
وقالت: لله فقط الصلوات في زوايا المعابد والصوامع، وما دون ذلك فيم يتعلق بجميع مرافق الحياة السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، والتشريعية وغيرها من مجالات الحياة فهي ليست من خصوصيات الله، وإنما هي من خصوصيات قيصر المتمثل في صورة الشعب ومَن ينوب عن الشعب، فما لله لله ، وما للشعب للشعب، وما يصل لله يصل للشعب؛ حيث للشعب كامل الصلاحيات والحق في التدخل في شؤون المعابد والمساجد وسياستها وغير ذلك مما جعلوه لله بزعمهم، بينما ما يصل للشعب فهو لا يصل إلى الله ولا يحق له البت فيه .. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً !!
صدق الله العظيم: { فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون} الأنعام:136 .
ــــــــــــــــــ
(1) رغم أن هذه المقولة كفر صريح، تقوم عليها دعائم النظام العلماني، فقد وجد من مشايخ السوء المقربين للطواغيت، من يحسنها ويثني عليها خيراً ويعتبرها مقولة حكيمة كما في أحد كتبه التي يعرِّف فيه السلفية كما يعتقدها حيث يقول: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، كلمة حكيمة تصلح لزماننا ..ذلكم أن الانفصام بين الدين وبين الدولة صار أمراً مقضياً لا مرد له، ولا طاعن عليه، ولا محيد عنه ..!! ا-هـ .
كذلك فإن الديمقراطية - كنظام ودين - قد أعطت تفسيراً خاصاً بها عن الوجود وواجب الوجود والحياة، وعن علاقة الإنسان بخالقه وغير ذلك .
فمن قال: " لا إله والحياة مادة " . قالت له الديمقراطية: لا ضير عليك، لك أن تعتقد في الله ما تشاء ما دمت ديمقراطياً، وهذه اسمها حرية الاعتقاد ..!
ومن اعتقد بخالق وإله للوجود، قالت له الديمقراطية: لك ذلك، لكن ليس لك أن تُكره الآخرين على اعتقادك، أو تنكر عليهم - بالقوة - اعتقادهم لو خالفوك في المعتقد، فكل منكم له الحرية في أن يعتقد في الله ما يشاء ..!
ثم لا يجوز لك إن كنت تؤمن بالله أن تجعل ما هو من صلاحيات الشعب لله .. فما لله لله وما للشعب للشعب، والدين لله والوطن للجميع ..!
ومن أراد كذلك أن يقول ما يشاء، ولو كان قوله فيه سباً لله ولرسوله، فله ذلك وليس لأحدٍ أن ينكر عليه، وهذا اسمه _ كما زعموا - حرية التعبير(1) !
ـــــــــــــــــــ
(1) مثال ذلك عندما كتب الزنديق المرتد سلمان رشدي روايته المعروفة بآيات شيطانية التي تطاول فيها على الذات الإلهية وكتبه ورسله، ونال من جناب سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم =
ومن أراد أن يزني أو يشرب الخمر أو يفعل ما يشاء - ما لم يحظره القانون الوضعي - فله ذلك، وليس لأحدٍ أن ينكر عليه، وهذا اسمه عندهم الحرية الشخصية(1) !
ــــــــــــــــــــ
= وعندما أنكر عليه المسلمون كفره وزندقته هذه، قال الديمقراطيون في الغرب: حرية التعبير - أياً كان نوع هذا التعبير - من الديمقراطية، والنيل من سلمان رشدي هو نيل من الديمقراطية ذاتها، والأنظمة التي تتبنى الديمقراطية!(54/95)
ومن الفوارق الملفتة للنظر أن دولة الروافض - التي يقوم دينها على شتم الصحابة وزوجات صلى الله عليه وسلم - كانت قد أهدرت دم المذكور سلمان، وخصصت لأجل ذلك المكافآت، ثم هاهم - الآيات - بعد زمن ليس ببعيد يعودون عن موقفهم، ويعلنون على الملأ تراجعهم عن حكمهم السابق في الزنديق المذكور وعفوهم عنه، وكأن حق الأنبياء ألعوبة بين أيديهم؛ مرة يعفون عن حق هو خاص ب صلى الله عليه وسلم لا بد فيه من القصاص، ومرة لا يعفون بحسب ما تقتضيه سياسة الصفقات والمصالح والمكاسب ..!
ونحن من قبل قلنا: إن هذا الموقف من إيران هو من باب كسب الرأي العام، وتصدير الثورة وأفكارها بين العوام والجهلة ممن لا يعرفون حقيقة أمرهم،وليس من باب الغضب لحرمات الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . فما خاب ظننا فيهم !
(1) بعض الأنظمة الديمقراطية الحرة في الغرب، كبريطانيا والسويد وفرنسا وغيرها من البلدان الغربية قد رخصت بإنشاء جمعيات خاصة باللوطيين والسحاقيات تطالب بحقوقهم .. بدعوى أنها حرية شخصية !!
وأنا أكتب هذه الكلمات تطالعنا جريدة القدس بخبر مفاده أن ثلاثة وزراء في حكومة حزب العمال الحاكم في بريطانيا لوطيون وشاذون جنسياً وهم: نيك بروان وزير للزراعة، ورون ديفيز وزير لشؤون ويلز، وبيتر ماندلسون وزير =
ومن أراد أن يستغل أو يرابي أو يحتكر، أو يُقامر فله ذلك وليس لأحدٍ في ظل الديمقراطية أن ينكر عليه، لأن هذا عندهم يندرج تحت الحرية الاقتصادية، وحرية التملك والكسب ..!
لذا نجد أن الديمقراطية ثوب فضفاض يرتديه الجميع - لأنه يخول الجميع التفلت من كل قيد يقيد من نزواتهم وشهواتهم وأهوائهم، ويمكن كل فريق بأن يسير في الاتجاه الذي يهوى ويريد - فمن كان شيوعياً ملحداً لا يؤمن بالله تعالى يقول بالديمقراطية، ومن يؤمن بوجود الله - لكنه علماني - يقول بالديمقراطية، ومن كان وطنياً أو قومياً يقول بالديمقراطية، حتى وجدنا كثيراً من عوام المسلمين وخواصهم - وللأسف الشديد - يقولون بالديمقراطية، ويطالبون بها كنظام يحكم البلاد والعباد، ومن لم يصرح بها لفظاً يصرح بها معنىً وتلميحاً ..!
وهذا إن دل فهو يدل على الخواء العقدي الإيماني الذي تعاني منه ــــــــــــــــــــــ
= الصناعة والتجارة ..ثم تضيف الجريدة فتقول: وتضم حكومة بلير عدداً من الشواذ من ضمنهم وزير الثقافة كريس سميث الذي كشف عن شذوذه الجنسي قبل 11عاماً، ووزيرة البيئة انغيلا ايغل التي كشفت العام الماضي أنها سحاقية، فيما أعلن أربعة نواب آخرين عن شذوذهم الجنسي ! ا-هـ . انظر جريدة القدس، عدد 2954، 9 تشرين الثاني،1998، ص 20 .
قلت:هذه الحكومة الهزيلة التي يغلب على كثير من أعضائها المرض والشذوذ الجنسي، هي من جملة الأدلة التي تدل على خطأ وبطلان الطريقة الديمقراطية في إفراز وتحديد من يحكم البلاد والعباد .. فهل من معتبر ؟!
الشعوب، والذي تم بعد ممارسة سياسة التفريغ؛ تفريغ القلوب من المحتوى الديني الإيماني العقدي، التي قامت بها الأنظمة الطاغية مع شعوبها، حتى أصبح الناس كالوعاء الخاوي الذي يستقبل كل شيء يُقذف فيه بغض النظر عن نوعية وجودة هذا الشيء الذي يقذف فيه ..!
لذا ما من كفر أو شذوذ أو شعار يرفع في الخارج وفي بلاد الكفر إلا ووجدنا صداه وأثره في الأمة وفي أخلاق أبنائها ، ووجدنا من يتبناه من أبناء جلدتنا ويطالب به..!
حتى حزب عبدة الشيطان فقد وجدنا في بلادنا من يدعو إلى هذا الحزب ويرفع راياته، ويمارس طقوسه، بل ما من شذوذ تقرف منه النفوس السوية ويأباه الشرع إلا ووجدنا من يمارسه في ديارنا، وكل ذلك يدخل ويُصدر إلينا، ويُمارس تحت شعار الديمقراطية، والحرية التي تكفلها وترعاها الديمقراطية ..!
صدق رسول ا صلى الله عليه وسلم حيث يقول: " لتتبعُنَّ سنن الذين من قبلكم شبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لاتبعتموهم " قلنا يا رسول الله آليهود والنصارى؟ قال: " فمن ؟ " أي من يكون غيرهم ..! والحديث متفق عليه .
وفي رواية: " وحتى لو أن أحدهم ضاجع أمه بالطريق لفعلتم "(1) أي لوجد منكم من يفعل فعلتهم المشينة هذه !
ــــــــــــــــ
(1) رواه الدولابي، والحاكم، سلسلة الأحاديث الصحيحة:1348 .
والحديث فيه دلالة على حالة الضعف وفقدان الثقة بالنفس التي ستصيب الأمة، =
ــــــــــــــــــ
= وعلى حالة القوة التي ستصيب أهل الكتاب كما هو ظاهر الآن في بلاد الغرب الصليبي.. لأن هذا التقليد الأعمى الذي يشير إليه الحديث والذي يصيب الأمة لن يكون إلا من ضعيف عديم الثقة بالنفس نحو قوي ملك من القوة المادية والغنى الظاهر ما يبهر به عقول ونفوس الضعفاء، وأصحاب النفوس المهزومة ..
والحديث من جملة الأحاديث التي تدل على صدق نبوت صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .
…_ مناقشة مبادئ وأسس الديمقراطية .(54/96)
…مهما حاول دعاة الديمقراطية بكل اتجاهاتهم وانتماءاتهم - الذين يعيشون بأجسادهم في بلاد المسلمين وبقلوبهم وعقولهم في بلاد الغرب والكفر - أن يكسو الديمقراطية الثوب الوطني المحلي، أو القومي، أو الديني فيحملونها من المعاني مالا تحتمل ولا تتسع له، فإن للديمقراطية مبادئ وأسساً تقوم عليها وترافقها أينما حلت وحكمت، تُعتبر من الثوابت التي لا يمكن تغييرها أو تجاوزها، والتي من دونها لا تُسمى الديمقراطية - في عرف المؤسسين لها - ديمقراطية .
فالديمقراطية على اختلاف تشعباتها وتفسيراتها تقوم على مبادئ وأسسٍ نوجز أهمها في النقاط التالية:
…أولاً: تقوم الديمقراطية على مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات بما في ذلك السلطة التشريعية، ويتم ذلك عن طريق اختيار ممثلين عن الشعب ينوبون عنه في مهمة التشريع وسن القوانين، وبعبارة أخرى فإن المشرع المطاع في الديمقراطية هو الإنسان وليس الله ..!
…وهذا يعني أن المألوه المعبود المطاع - من جهة التشريع والتحليل والتحريم - هو الشعب والإنسان والمخلوق وليس الله تعالى، وهذا عين الكفر والشرك والضلال لمناقضته لأصول الدين والتوحيد، ولتضمنه إشراك الإنسان الضعيف الجاهل مع الله ( في أخص خصائص إلهيته، ألا وهو الحكم والتشريع ..
…قال تعالى: { إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه} يوسف:40 .
…وقال تعالى: { ولا يشرك في حكمه أحداً } الكهف:26 .
…وقال تعالى: { وما اختلفتم فيه من شيءٍ فحكمه إلى الله} الشورى:10 . وليس إلى الشعب أو الجماهير، أو الكثرة الكاثرة ..
…وقال تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون } المائدة:50 . وقال تعالى: { قل أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً} الأنعام:118 .
…وقال تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} الشورى:21 . فسمى الذين يشرعون للناس بغير سلطان من الله تعالى شركاء وأنداداً ..
…وقال تعالى: { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} المائدة:49.
…وقال تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} التوبة:31.
…جاء في الحديث عن عدي بن حاتم لما قدم على صلى الله عليه وسلم وهو نصراني، فسمعه يقرأ هذه الآية: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} .قال: فقلت له إنا لسنا نعبدهم - أي لم نكن نعبدهم من جهة التنسك والدعاء، والسجود والركوع، لظنه أن العبادة محصورة في هذه المعاني وحسب - قال: " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلون "؟ قال: فقلت بلى. قال: " فتلك عبادتهم " .
…ونحوه قوله تعالى: { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا اللهَ ولا نُشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} آل عمران:64. أي ليكون - يا أهل الكتاب - اتفاقنا واجتماعنا على كلمة سواء بيننا وبينكم تتضمن توحيد الله تعالى وعبادته وطاعته، والتحاكم إليه سبحانه؛ فنحل حلاله ونحرم حرامه، وأن لا نجعل من الإنسان المخلوق مألوهاً مطاعاً نرد إليه النزاعات، ونعترف له بحقه في الحكم والتشريع، والتحليل والتحريم، فنتخذه بذلك رباً من دون الله تعالى .
…وهذا النداء خُص به أهل الكتاب - من اليهود والنصارى - لأنهم عُرفوا بعبادتهم للأحبار والرهبان، واتخاذهم لهم أرباباً من دون الله من جهة خاصية التشريع والتحليل والتحريم ..
…وواضح أن الناس في الأنظمة الديمقراطية يتخذون بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، فهم فروا من عبادة الأحبار والرهبان إلى عبادة أحبار ورهبان أخرى تتمثل في أشخاص النواب، الذين أقروا لهم بحقهم - الذي لا يشاركهم فيه أحد - في التشريع، والتحليل والتحريم، وسن القوانين، وعلى العباد طاعتهم وامتثال أوامرهم في كل ما يصدر عنهم ..!
زعموا - كما يخيل إليهم - أنهم أحرار، وأنهم العالم الحر، وأنهم أسياد وهم في حقيقة أمرهم عبيد، عبيد لآلهة لا تُعد ولا تُحصى، هي أحط من نفوسهم، وأصغر منهم شأناً وقدراً ..!
…تحرروا من عبادة الله القدير، ليعبدوا المخلوق الجاهل الضعيف في صور شتى، وتحت لافتات ومسميات براقة عديدة كلها تكرس مفهوم عبودية العبيد للعبيد .. ثم بعد ذلك يزعمون زوراً وبهتاناً أنهم أحرار غير عبيد !
…ورحم الله سيد قطب إذ يقول: إن الناس في جميع الأنظمة الأرضية يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، يقع في أرقى الديمقراطيات، كما يقع في أحط الديكتاتوريات سواء ..(54/97)
…إن أول خصائص الربوبية هو حق تعبيد الناس، حق إقامة النظم والمناهج والشرائع والقوانين والموازين، وهذا الحق في جميع الأنظمة الأرضية يدعيه بعض الناس في صورة من الصور، ويرجع الأمر فيه إلى مجموعة من الناس على أي وضع من الأوضاع، وهذه المجموعة التي تُخضع الآخرين لتشريعها وقيمها وموازينها وتصوراتها هي الأرباب الأرضية التي يتخذها بعض الناس أرباباً من دون الله، وإن لم يسجدوا لها ويركعوا، فالعبودية عبادة لا يتوجه بها إلا لله .
…وقال: أظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية تعبيد العبيد، والتشريع لهم في حياتهم وإقامة الموازين لهم، فمن ادعى لنفسه شيئاً من هذا كله فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية، وأقام لنفسه للناس إلهاً من دون الله ..
عندما يدعي عبد من العبيد أن له على الناس حق الطاعة لذاته،
وأن له كذلك حق إقامة القيم والموازين لذاته، فهذا هو ادعاء الألوهية، ولو لم يقل كما قال فرعون: { أنا ربكم الأعلى}،والإقرار به هو الشرك بالله أو الكفر، وهو الفساد في الأرض أقبح الفساد.
…فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه فقد ادعى الألوهية اختصاصاً وعملاً، وأيما بشرٍ آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية سواء سماها باسمها أم لم يسمها ..
…إن الذي يملك حق التحريم والتحليل هو الله وحده، وليس ذلك لأحد من البشر، لا فرد ولا طبقة ولا أمة ولا الناس أجمعين إلا بسلطان من الله وفق شريعة الله (1).
…ويقول الدكتور محمد حسين رحمه الله في كتابه" أزمة العصر ": والحاكمية في الإسلام لله، فكتاب الله وسنة رسوله مصدر الأحكام . بينما الأمة أو الشعب ممثلاً في نوابه هو عند الديمقراطية مصدر الأحكام، فالأمم محكومة في الإسلام بتشريع الله الحكيم العليم . وهي في الديمقراطية محكومة بقوانين صادرة عن شهوات الناس ومصالحهم . فالأحكام مستقرة دائمة في الإسلام، وهي متبدلة متغيرة لا تستقر في الديمقراطية ا-هـ .
…قلت: والإنسان في النظام الديمقراطي يكون كحقل التجارب، تُجرى عليه تجارب القوانين - التي لا تعرف الاستقرار أو الثبات - ـــــــــــــــــ
(1) الظلال:1/407 ، وطريق الدعوة:2/170و179 .
لتُعرف مدى صلاحيتها من فسادها، وإلى أن يُعرف هذا من ذاك تكون الضحايا والتكاليف باهظة الثمن،والذي يقدمها هو الإنسان.
…ثانياً: تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية التدين والاعتقاد، فللمرء - في ظل الأنظمة الديمقراطية - أن يعتقد ما يشاء، ويتدين بالدين الذي يشاء، ويرتد إلى أي دين وقت يشاء، وإن كان هذا الارتداد مؤداه إلى الارتداد عن دين الله تعالى إلى الإلحاد وعبادة غير الله عز وجل ..!
…وهذا أمر لا شك في بطلانه وفساده، ومغايرته لكثير من النصوص الشرعية، إذ أن المسلم لو ارتد عن دينه إلى الكفر، فحكمه في الإسلام القتل، كما في الحديث الذي يرويه البخاري وغيره: " من بدل دينه فاقتلوه " وليس فاتركوه .. فالمرتد لا يصح أن يُعقد له عهد ولا أمان، ولا جوار، وليس له في دين الله إلا الاستتابة فإن أبى فالقتل والسيف(1) .
وسيرة الصحابة - رضوان الله عليهم - مع المرتدين في حروب الردة وغيرها معروفة لدى الجميع .
ومعلوم كذلك أن الإسلام انتهى حكمه في أهل الكتاب، ومعهم المجوس كما هو الراجح، إلى إحدى ثلاث: إما الإسلام - والإسلام يجب ـــــــــــــــــ
(1) دلت السنة على أن المرتد نوعان: نوع يُقتل ولا يُستتاب وهو المرتد ردة مغلظة، ونوع يُستتاب قبل أن يُقتل وهو المرتد ردة مجردة، واستتابته سنة يُندب إليها لا تُحمل على الوجوب .
ما قبله - وإما الجزية وهم صاغرون، وإما القتل والقتال .
…أما الملحدون الذين يقولون: لا إله في الوجود والحياة مادة، ومعهم عبدة الأوثان والأصنام من العرب وغيرهم فليس لهؤلاء في دين الله إلا الإسلام أو القتل والقتال ..
…قال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} الأنفال:39 .
…وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين أنه قال: " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله " .
…وفي رواية عند مسلم:" من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله، حَرُمَ ماله ودمه وحسابه على الله " .
…وقا صلى الله عليه وسلم :" بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم "(1) .
…وكذلك يوم نزول عيسى عليه السلام - كما دلت على ذلك السنة - فإنه يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويُسقط الجزية، ولا يقبل من مخالفيه _ بما فيهم أهل الكتاب - إلا الإسلام، أو القتل والقتال ..
ـــــــــــــــــ
(1) رواه أحمد، والطبراني، وأبو يعلى، صحيح الجامع الصغير:2831 .(54/98)
أقول: على ضوء هذه الحقائق والنصوص، وغيرها من النصوص الشرعية ذات العلاقة بالمسألة يجب أن يُفهم قوله تعالى: { لا إكراه في الدين} ، وليس كما يفعل لصوص العلم من خدَمَة الطواغيت حيث يقتطعون هذه الآية من مجموع النصوص ذات العلاقة بالموضوع، ليسوغوا وجود وحرية حركات الردة والإلحاد والزندقة الواسعة الانتشار في زماننا المعاصر ..
…ثم أن الديمقراطية - كما يمارسها الديمقراطيون - إذ تقبل بحرية الاعتقاد والتدين، والانتقال من دين إلى دين، فهي لا تقبل ولا تسمح أن يرتد نظام أو شعب من دين الديمقراطية إلى أي دين أو نظام آخر، ولو حصل مثل هذا المكروه سرعان ما يعلنون الحرب والعداء، ويعملون الحصارات الاقتصادية وغيرها التي قد تبيد شعباً وجيلاً بأكمله، كل هذا من أجل عيون الديمقراطية، وحماية الديمقراطية ..!
…أرأيت التناقض والتغاير، فما يجوز لهم لا يجوز لغيرهم، والممنوع عن غيرهم جائز لهم ..؟!
…ثالثاً: تقوم الديمقراطية على اعتبار الشعب حكم أوحد ترد إليه النزاعات والخصومات؛ فإذا حصل أي اختلاف أو نزاع بين الحاكم والمحكوم، أو بين القيادة والقاعدة نجد أن كلاً من الطرفين يهدد الآخر بالرجوع إلى إرادة الشعب، وإلى اختيار الشعب، ليفصل الشعب ما تم بينهما من نزاع أو اختلاف .
…وهذا مغاير ومناقض لأصول التوحيد التي تقرر أن الحكم الذي يجب أن ترد إليه جميع النزاعات هو الله تعالى وحده، وليس أحداً سواه .
…قال تعالى: { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} الشورى:10 . بينما الديمقراطية تقول: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الشعب، وليس إلى أحدٍ غير الشعب ..!
…وقال تعالى: { يا أيها الذي آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} النساء:59 . والرد إلى الله والرسولل يكون بالرد إلى الكتاب والسنة ..
…قال ابن القيم رحمه الله في كتابه أعلام الموقعين1/50 : جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء الآخر ا-هـ .
فليحذر دعاة الديمقراطية بأي نار هم يلعبون؛ إنها نار الكفر والخروج من الإيمان لو كانوا يعلمون ..!
…ثم أن إرادة التحاكم إلى الشعب أو إلى أي جهة أخرى غير الله تعالى، فهو يعتبر في نظر الشرع من التحاكم إلى الطاغوت الذي يجب الكفر به، كما قال تعالى: { ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به} النساء:60 . فاعتبر الله سبحانه وتعالى إيمانهم زعماً ومجرد ادعاء لا حقيقة له، لمجرد حصول الإرادة في التحاكم إلى الطاغوت، وإلى شرائعه؛ وكل شرع غير شرع الله تعالى، أو حكَمٍ لا يحكم بما أنزل الله فهو يدخل في معنى الطاغوت الذي يجب الكفر به .
…قال ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين1/50: الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرةٍ من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله؛ فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته ا-هـ .
…قلت: هذا حال الناس في زمن ابن القيم رحمه الله، فكيف بزماننا الذي تعددت فيه الآلهة وتنوعت، واستشرفت لتفتن البلاد والعباد، وتصدهم عن دين الله باسم الديمقراطية المزعومة، وغيرها من الشعارات الدخيلة والمبتدعة ..؟!
…رابعاً: تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية التعبير والإفصاح، أيَّاً كان هذا التعبير، ولو كان مفاده طعناً وسباً للذات الإلهية، وكتبه ورسله، إذ لا يوجد في الديمقراطية شيء مقدس يحرم الخوض فيه، أو التطاول عليه بقبيح القول . وأي إنكار على ذلك يعني إنكار على النظام الديمقراطي الحر برمته، ويعني تحجيم الحريات المقدسة في نظر الديمقراطية والديمقراطيين ..!
…بينما هذا الذي تقدسه الديمقراطية فهو في نظر الإسلام يُعتبر عين الكفر والمروق، إذ لا حرية في الإسلام للكلمة الخبيثة الباطلة؛ الكلمة التي تفتن العباد عن دينهم وتصدهم عن نصرة الحق، الكلمة التي تفرق ولا توحد، الكلمة التي تعين على نشر الفجور والمنكر..
فكلمة هذا نوعها يؤخذ صاحبها في الإسلام بالنواصي والأقدام، غير الذي ينتظره يوم القيامة من عذاب أليم يكافئ جرمه .
…قال تعالى: { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم} النساء:148 .
…وقال تعالى: { ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء . تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . ومثل كلمة خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} إبراهيم:24-26 .(54/99)
…والكلمة الطيبة المراد منها هنا هي الكلمة الطيبة المباركة التي تؤتي ثمارها وفوائدها كل حين وعلى مدار الزمن؛ وهي كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وكل كلمة تعين على نشر الحق والفضيلة، والكلمة الخبيثة التي لا تعرف القرار ولا الثبات، ولا تعرف سوى الدمار والخراب، هي كلمة الشرك الظلم الأكبر، وكل كلمة تعين على نشر الباطل والرذيلة ..
…وقال تعالى: { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد
إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} التوبة:65-66 .
…روى ابن جرير بسنده عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس، ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء - يقصد أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم - أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق لأخبرنَّ رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فبلغ ذلك صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن . قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول ا صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول ا صلى الله عليه وسلم يقول : { أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} .
…فانظر كيف أن هذا الرجل قال كلمة على وجه الخوض واللعب - بحق أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم - لم يلق لها بالاً، قد أوبقت به في الكفر، وخسر دنياه وآخرته .
…قال القرطبي في التفسير8/199: قيل كانوا ثلاثة نفر، هزئ اثنان وضحك واحد، فالمعفو عنه هو الذي ضحك ولم يتكلم. قال خليفة بن خياط في تاريخه: اسمه مخاشن بن حمير، وقيل إنه كان مسلماً، إلا أنه سمع المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم ا-هـ(1).
ـــــــــــــــــــ
(1) قد يرد سؤال: أين يكمن استهزاء المستهزئين بالله وآياته ورسوله، وهم لم يثبت عنهم سوى أنهم طعنوا واستهزؤوا بالصحابة رضي الله عنهم فقط، ولم يذكروا الله ورسوله بشيء ..؟! =
وهذا الرجل الذي عُفي عنه كان يقول: اللهم إني أسمع آية أنا أُعنى بها تقشعر الجلود، وتجب منها القلوب، اللهم فاجعل وفاتي قتلاً في سبيلك، لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة فما من أحدٍ من المسلمين إلا وقد وجد غيره(1).
وكل هذا منه - رحمه الله - ليكفِّر عنه ما بدر منه من تبسم للذين سخروا من دين الله، فليحذر هؤلاء الذين يملؤون حياتهم بالاستهزاء والسخرية، والطعن بالدين ثم يحسبون أنفسهم بعد ذلك أنهم على شيء .
وقال تعالى: { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا} التوبة:74. وهذه آية نزلت في رجل من المنافقين قال كلمة وعبر عن رأيه الخبيث - كما تريد له الديمقراطية - عندما سمع رسول ا صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: لئن كان صادقاً فنحن شر من الحمير، فأتي به إلى الرسو صلى الله عليه وسلم ، فحلف وأنكر أنه لم يقل ــــــــــــــــــــ
= فالجواب: أنه لما أثنى الله تعالى خيراً على أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم ونزلت فيهم آيات عديدة من القرآن الكريم تبين ذلك، وكذلك لما ثبت رِضى صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وثناؤه عليهم بالخير، كان الذي يطعن بمجموع الصحابة كمن يطعن بالله وآياته ورسوله، لذا عُد من الكافرين .
والآية فيها فائدة: وهي أن من يطعن بمجموع الصحابة يكفر ويخرج من دائرة الإسلام، لتضمنه الطعن بالله تعالى وآياته ورسوله، بخلاف الطعن بآحاد الصحابة ففي تكفيره نظر وخلاف، وبحسب المراد.
(1) انظر تفسير ابن كثير:2/382.
شيئاً، فنزل القرآن يكذبه ويكفره (1).
…وفي السنة، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين حريفاً في النار "(2).
وفي الصحيحين:" إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ". وعند البخاري في صحيحه، قا صلى الله عليه وسلم :" إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقى لها بالاً يهوي بها في جهنم " .
وقا صلى الله عليه وسلم :" إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه "(3) .
فتأمل قول صلى الله عليه وسلم :" لا يرى بها بأساً .. ما يتبين فيها .. لا يلقي لها بالاً .. ما كان يظن " كل هذا لم يكن مانعاً من لحوق الوعيد بصاحب الكلمة السيئة الخاطئة، وهو درس رادع لمن يوسع ساحة الأعذار على الفجار الطاعنين في الدين، من غير علمٍ ولا دليل .
وعن سفيان بن عبد الله قال: قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ بلسان نفس صلى الله عليه وسلم ثم قال:" هذا "(4).
ـــــــــــــــــ
(1) وقيل في سبب نزول الآيات غير ذلك، انظر تفسير ابن كثير وغيره من كتب التفاسير المعتمدة .
(2) صحيح سنن الترمزي:1884 .(54/100)
(3) رواه مالك في الموطأ، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، رياض الصالحين. (4) رواه الترمزي، وقال حديث حسن صحيح، رياض الصالحين .
…وقا صلى الله عليه وسلم :"من وقاه الله شرَّ ما بين لحييه وشرَّ ما بين فخذيه دخل الجنة "(1).
ومن حديث معاذ ( قال: قلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال:" ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم "(2).
وقا صلى الله عليه وسلم :" من قال في مؤمن ما ليس فيه، حُبس في ردغة الخبال، حتى يأتي بالمخرج مما قال "(3). فما يكون القول فيمن يقول في الله تعالى ما ليس فيه، ويطعن بالدين، وبالأنبياء والرسل تحت زعم الحرية، كما تزين له الديمقراطية ..؟!
وفي الحديث المتفق عليه، قا صلى الله عليه وسلم :" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ".
قال النووي رحمه الله: اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة والسلامة لا يعدلها شيء (4) .
ـــــــــــــــــــ
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن . (2) رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح . (3) رواه أبو داود وغيره، السلسلة الصحيحة:437 . وردغة الخبال: هي عصارة أهل النار، والردغ هو الطين الكثير، كما في النهاية .
(4) رياض الصالحين: 483.
فأين الديمقراطية من جميع ما تقدم التي تطلق للمرء الحرية في أن يطلق لسانه شرقاً وغرباً، وفي الاتجاه الذي يهوى ويريد، ومن غير حسيب ولا رقيب !
والإسلام إذ يضع تلك القيود على اللسان درءاً للمفاسد والفتن، فإنه في المقابل يأمر المسلم بأن يطلق لسانه - من غير خوف ولا وجل - في بيان الحق، وفي نصرة الحق، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الإصلاح والبناء، كما يأمره بمواجهة ظلم الطواغيت وأن لا يسكت على جورهم أو كفرهم، وقد عد الإسلام الرجل الذي يقف أمام السلطان الجائر يأمره وينهاه، ويقول كلمة حق في وجهه فيقتله لذلك، من أفضل الشهداء يوم القيامة، وسيرة السلف الصالح مع سلاطين الجور عبر التاريخ خير شاهد ودليل على ذلك .
فحرية التعبير البنَّاء وفي الحق شيء، وهو ما يأمر به الإسلام، وحرية التعبير في الباطل، والكفر والشرك والمجون شيء آخر، وهو ما تأمر به الديمقراطية، ويأمر به الديمقراطيون ..!
خامساً: تقوم الديمقراطية على مبدأ فصل الدين عن الدولة، وعن السياسة والحياة، فما لله لله؛ وهو فقط العبادة في الصوامع والزوايا، وما سوى ذلك من مرافق الحياة السياسة والاقتصادية، والاجتماعية وغيرها فهي من خصوصيات الشعب..قيصر الديمقراطية .
( فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون}
الأنعام:136.
وهذا القول منهم معلوم - من ديننا بالضرورة - فساده وبطلانه، وكفر القائل به لتضمنه الجحود الصريح لما هو معلوم من الدين بالضرورة .
…فهو أولاً، جحود صريح لبعض الدين الذي نص على أن الإسلام دين دولة وسياسة، وحكم وتشريع وأنه أوسع بكثير من أن يحصر في المناسك أو بين جدران المعابد .. وهذا مما لا شك فيه أنه كفر بواح بدين الله تعالى .
…كما قال تعالى: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردون إلى أشد العذاب} البقرة:85 .
…وقال تعالى: { ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً أليماً} النساء:150 .
…وهذا الحكم - هم الكافرون حقاً - يشمل كل من يأتي بالشعائر التعبدية من صلاة وصوم، وحج وزكاة وغيرها، لكنه في الجانب الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، أو القضائي .. تراه يؤثر ويقدم ديناً ومنهجاً آخر غير منهج الإسلام .
…وهو ثانياً، عندما جحدوا بعضاً من الدين لزمهم أن يلتمسوا هذا الجانب الواسع الذي جحدوه من عند أنفسهم، فيأتون بالتشريعات والقوانين التي تضاهي شرع الله تعالى، أو أنهم يلتمسوها من عند غيرهم من الطواغيت والمشركين، فيتحقق فيهم صفة المتحاكم إلى الطاغوت الذي أمروا أن يكفروا به، وكلا الأمرين يعتبران من المزالق العقدية التي تخرج صاحبها من دائرة الإسلام، والأدلة على ذلك كثيرة لا تخفى القارئ المسلم، وقد تقدم بعضها .
…سادساً: تقوم الديمقراطية على مبدأ الحرية الشخصية؛ فللمرء في ظل الديمقراطية أن يفعل ما يشاء، ويمارس ما يشاء .. مالم يتعارض مع القانون الوضعي للبلاد .
…وهذا قول معلوم بطلانه وفساده، لتضمنه تحليل ما حرم الله تعالى على العباد، وإطلاق الحرية للمرء في أن يمارس ما يشاء ويهوى من المعاصي والموبقات المحرمة شرعاً.(54/101)
…فالمرء في نظر الإسلام حريته مستمدة من الإسلام، وهي مقيدة بقيود الشرع وما يملي عليه من التزامات وواجبات وسنن، فليس للمسلم - إن أراد البقاء في دائرة الإسلام أو أن يسمى مسلماً - الحرية في أن يتجاوز حدود الإسلام وآدابه وتعاليمه، ويرتكب ما يشاء من المحظورات، ثم بعد ذلك يصبغ على تصرفه هذا الشرعية أو القانونية، أو أنه حقه الشخصي، ومن خصوصياته التي لا حق لأحدٍ أن ينكرها عليه، ويقول بعد ذلك أنه مسلم، يتدين بدين الإسلام، فالإسلام وهذا الشأن لا يجتمعان أبداً ..!
فمن لوازم الإيمان وشروطه التحاكم إلى شرع الله تعالى في كل
كبيرة وصغيرة، وفي الأمور العامة والخاصة، والرضى بحكمه، والاستسلام له ظاهراً وباطناً من دون أدنى تردد أو تعقيب، ولا بد أن يتبع ذلك كله انتفاء مطلق الحرج والضيف، كما قال تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} النساء:65 .
…قال ابن القيم رحمه الله في كتابه التبيان في أقسام القرآن: أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح وتنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابل حكمه بالرضى والتسليم، وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض ا-هـ .
…ولو أردنا أن نتتبع مصطلح الحرية في القاموس الإسلامي - هذه الكلمة التي سحرت الناس واستهوت الشعراء والكتاب، وأصبحت شعاراً وغاية لكثيرٍ من الحركات والأحزاب والتجمعات - لم نجدها استخدمت إلا في الموضع المغاير لمعنى العبد المملوك، فيقال: فلان عبد؛ أي مملوك لسيده، وفلان حر أي غير مملوك .
…أما المعنى - للحرية - المراد في الديمقراطية، وعند كثير من الأحزاب والحركات التي تهوى ما يستهويه الناس، لتصرف وجوههم إليها دون غيرها، لم نجد له مكاناً في الإسلام، ولم يُستخدم في الكتاب أو السنة أو في قولٍ لسلف معتبر .
…بل إننا نجد أن المسلم مقيد بقيود الشرع وتكاليفه، التي تتدخل في دقائق الأمور من حياة الإنسان؛ والتي تحدد له كيف يأكل، وكيف يشرب، وماذا يلبس من ثياب، وكيف ينام، وحتى كيفية الخراءة، وكيف يدخل بيت الخلاء وكيف يخرج منه، فضلاً عن الأمور العظام التي لها حكم الكليات والمصالح العامة، التي لم يتركها الإسلام سُداً لأهواء وآراء الرجال .
…وهذا لا يعني بحال أن المسلم مسلوب الإرادة، أو أنه يعرف الذل والخنوع للظلمة والطواغيت، أو الجهل والرضى بالأمر الواقع البعيد عن هدي الله تعالى، لا، ولكن الذي أردناه وعنيناه أن حرية المسلم مستمدة من تعاليم الإسلام لا غيره، وهو يدور مع الشرع حيث دار، لا يخالفه في قليل ولا كثير، وهو له رسالة وغاية عظمى في هذه الحياة، لخصها الصحابي الجليل ربعي بن عامر عندما قال لملك الفرس: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة وخير الآخرة .
…سابعاً: تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية تشكيل التجمعات والأحزاب السياسية وغيرها، أياً كانت عقيدة وأفكار وأخلاقيات هذه الأحزاب والجماعات ..!
…وهذا مبدأ باطل شرعاً، وذلك من أوجه:
…منها، يتضمن الإقرار والاعتراف - طوعاً من غير إكراه _ بشرعية الأحزاب والجماعات بكل اتجاهاتها الكفرية والشركية، وأن لها الحق في الوجود، وفي نشر باطلها، وفسادها وكفرها في البلاد وبين العباد، وهذا مغاير ومناقض لكثير من النصوص الشرعية التي تثبت أن الأصل في التعامل مع المنكر والكفر إنكاره وتغييره، وليس إقراره والاعتراف بشرعيته .
…قال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} الأنفال:39.
…قال ابن تيمية رحمه الله: فكل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب جهادها، حتى يكون الدين كله لله، باتفاق العلماء .
…وقال: وأيما طائفة انتسبت إلى الإسلام، وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين حتى يكون الدين كله لله، كما قاتل أبو بكر الصديق ( وسائر الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة .
…وقال: فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة،أنه يُقاتَل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشهادتين ا-هـ .
…قلت: إذا كان هذا حكم الطائفة التي تمتنع عن شريعة واحدة من شرائع الإسلام الظاهرة، فما يكون الحكم والقول في طوائف الكفر والردة والزندقة التي تمتنع عن جميع شرائع الإسلام، وتأبى أن تدخل في طاعة الله ودينه، وتتكلف المكائد في حرب الإسلام والمسلمين .. لا شك أنها أولى بالقتال والإنكار، وليس بالاعتراف بشرعيتها أو الإقرار بحقها في أن تحكم البلاد والعباد .(54/102)
…وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم - أنه قال:" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " .
…ومنها، أن هذا الاعتراف الطوعي بشرعية الأحزاب الكافرة، يتضمن الرضى - وإن لم يصرح بفيه أنه يرضى بحريتها - والرضى بالكفر كفر (1).
…قال تعالى: { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً} النساء:140 .
…قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: إن معنى الآية على ظاهرها، وهو أن الجل إذا سمع آيات الله يكفر بها ويُستهزأ بها فجلس عند الكافرين المستهزئين من غير إكراه ولا إنكار ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره فهو كافر مثلهم، وإن ــــــــــــــــــــ
(1) انظر إن شئت أدلة القاعدة " الرضى بالكفر كفر " بشيء من التفصيل في كتابنا قواعد في التكفير.
لم يفعل فعلهم لأن ذلك يتضمن الرضى بالكفر، والرضى بالكفر كفر . وبهذه الآية ونحوها استدل العلماء على أن الراضي بالذنب كفاعله، فإن ادعى أنه يكره ذلك بقلبه لم يُقبل منه، لأن الحكم على الظاهر وهو قد أظهر الكفر فيكون كافراً (1) ا-هـ .
قلت: والاعتراف طوعاً بشرعية الكفر، هو أكثر دلالة على الرضى بالكفر من مجرد الجلوس في مجالس الكفر والطعن بالدين من غير إكراه ولا إنكار ولا قيام .
وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال في الإنكار على أهل المنكر:" فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" .أي ليس وراء إنكار القلب حالة يثبت معها الإيمان؛ لأنه ليس وراء إنكار القلب سوى الرضى، والرضى بالكفر كفر كما تقدم .
قال ابن تيمية في الفتاوى 48/127: وذلك يكون بالقلب - أي تغيير المنكر - وتارة باللسان، وتارة باليد، فأما القلب فيجب بكل حال، إذ لا ضرر فيه، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن .
وقيل لابن مسعود من ميت الأحياء ؟ فقال: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ا-هـ .
ورحم الله سيد قطب حيث يقول: ومجرد الاعتراف بشرعية ــــــــــــــــــ
(1) مجموعة التوحيد: 48 .
منهج أو وضعٍ أو حكم من صنع غير الله، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله، فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه (1).
ومنها، أن من لوازم الاعتراف بهذا المبدأ، السماح للأحزاب الباطلة بكل اتجاهاتها بأن تبث كفرها وباطلها، وأن تغرق المجتمع بجميع صنوف الفساد والفتن والأهواء، فنعينهم بذلك على هلاك ودمار البلاد والعباد .
وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري - أنه قال:" مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا - أي اقترعوا - على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلَها، فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجَوا ونجوا جميعاً " .
…وهؤلاء الذين هم في أسفلها هم الذين يمثلون في زماننا دعاة الديمقراطية، الذين يريدون أن يخرقوا السفينة بشبهاتهم وأهوائهم وباطلهم، ليغرقوها ويُغرقوا من فيها بما في ذلك أنفسهم هم بدعوى الحرية المزعومة التي تكفلها لهم الديمقراطية .
…فالديمقراطية تقول وبكل وقاحة: دع الأحزاب تفعل ما تشاء، دعهم يمارسوا تدمير المجتمعات بما يشاؤون من المفاسد والفتن، والكفر ـــــــــــــــــــــــ
(1) طريق الدعوة في ظلال القرآن:2/52 .
والشرك، فهم أحرار، وحريتهم مقدسة، ليس لأحد أن يمنعهم أو يسلبهم حريتهم في ذلك، مهما كانت النتائج المترتبة من ذلك ..!
…بينما صلى الله عليه وسلم انظروا ماذا يقول:" فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم - ضرباً وزجراً ونهياً - نجوا ونجوا جميعاً".
… { فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} النور:63.
…ومنها، أن هذا المبدأ وهو حرية تشكيل الأحزاب السياسية وغيرها.. يترتب عليه تفريق كلمة الأمة، وتشتيت ولاءات أبنائها في أحزاب وتجمعات متنافرة متباغضة متدابرة، ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا مغاير لقوله تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} آل عمران:103. ولقوله تعالى: { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} الأنفال:46.
…وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة "(1).
…والنصوص هي كثيرة التي تأمر بالتزام الجماعة والتوحيد، وتنهى عن التفرق والاختلاف، سنأتي إلى ذكر بعضها - إن شاء الله - بشيء من التفصيل عند الحديث عن شرعية العمل الحزبي، وحكم الإسلام في ــــــــــــــــــ(54/103)
(1) رواه الترمذي وغيره، صحيح سنن الترمذي:1758 .
التعددية الحزبية .
…ثامناً: تقوم الديمقراطية على مبدأ اعتبار موقف الأكثرية، وتبنِّي ما تجتمع عليه الأكثرية، ولو اجتمعت على الباطل والضلال، والكفر البواح، فالحق - في نظر الديمقراطية الذي لا يجوز الاستدراك أو التعقيب عليه - هو ما تقرره الأكثرية وتجتمع عليه لا غير..!
…وهذا مبدأ باطل لا يصح على إطلاقه؛ حيث أن الحق في نظر الإسلام هو ما يوافق الكتاب والسنة قلَّ أنصاره أو كثروا، وما يخالف الكتاب والسنة فهو الباطل ولو اجتمعت عليه أهل الأرض قاطبة .
…قال تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} يوسف:106.
…وقال تعالى: { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} الأنعام:116.
…فدلت الآية الكريمة أن طاعة واتباع أكثر من في الأرض ضلال عن سبيل الله تعالى، لأن الأكثرية على ضلال، ولا يؤمنون بالله إلا وهم يشركون معه آلهة أخرى.
…وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ما صُدق نبي من الأنبياء ما صُدقت، إن من الأنبياء من لم يصدقه من أمته إلا رجل واحد " مسلم. فإذا كانت الأكثرية هي دائماً على الحق - كما تقول الديمقراطية - فأين يكون موقع هذا النبي من الحق وما معه من أمته إلا الرجل الواحد..؟!!
…وقا صلى الله عليه وسلم :" بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء " وفي رواية: قيل ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال:" ناس صالحون قليل في ناسٍ سوءٍ كثير، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ".
…وفي الصحيحين:" إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة ". أي لا تكاد تجد فيهم من يتحمل أعباء السفر وتكاليف وتبعات طريق هذا الدين إلا واحد من كل مائة؛ وهذا دليل على شدة الغربة التي تكابد الطليعة من أهل التوحيد التي تألوا على نفسها أن تسير على طريق هذا الدين مهما تعاظمت التضحيات، وكانت التكاليف ..
…وقا صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح - :" يقول الله تعالى: يا آدم أخرج بعث النار قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ".
…وقال عبد الله بن مسعود ( لعمرو بن ميمون: جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماع، والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك .
…وقال نعيم بن حماد: إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة فبل أن تفسد الجماعة، وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذٍ .
…وقال حسن البصري: فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لَقوا ربهم، فكونوا
كذلك .
…قال ابن القيم رحمه الله: اعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان وحده، وإن خالفه أهل الأرض(1) .
…وغيرها كثير من النصوص والآثار التي تدل على أن الأكثرية الغالبة هم على الكفر والشرك، والضلال والفسوق، وأن أهل الحق " ناس صالحون قليل في ناسٍ سوء كثير، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم "، وأن المعيار الصحيح لمعرفة الحق هو كل ما يطابق أو يوافق الحق المطلق المسطور في الكتاب والسنة، مهما قل أتباعه وأنصاره، وما سواه فهو الباطل والضلال ولو اجتمع عليه أكثر أهل الأرض .
…ورغم كل ما تقدم نجد المخالفين من الإسلاميين البرلمانيين، يراهنون على أن الأكثرية ستكون إلى صفهم، وسوف يختارونهم دون سواهم، لأن أكثرية الجماهير على الحق، ويحبون الحق وأهله ..!!
…وقد تقدمت الإشارة إلى أن الحاكمين في النظم الديمقراطية لا يمثلون أكثرية الشعب؛ لتشتت أصوات الناخبين بين الاتجاهات والأحزاب المتعددة، ولتدخل عناصر النفوذ والتأثير في توجيه وتحديد اختيارات الناس لصالح فئة معينة من الناس تخدم فئة قليلة من أصحاب رؤوس الأموال ومصالح المتنفذين في المجتمع .
ـــــــــــــــ
(1) انظر تهذيبنا لشرح الطحاوية، ص 192 .
…فالأكثرية، واختيار الأكثرية، وحرية الأكثرية.. كذبة كبيرة اصطنعتها الأنظمة الديمقراطية، ليسهل ترويجها على الشعوب التائهة المضللة !
…وهذا أمر بالنسبة لنا لا يهمنا كثيراً ولا قليلاً، لأن المعتبر الوحيد عندنا في الحكم على الأشياء بالصحة أو البطلان هو حكم الله تعالى، وما سواه إن ذكرناه فإنما نذكره على سبيل الاستئناس، ولبيان تناقضات القوم مع شعاراتهم الظاهرة،وبيان كذبهم على شعوبهم .
…وفي تفسير قوله تعالى: { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} البقرة:213.(54/104)
…يقول سيد رحمه الله: إن الإسلام يضع الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، يضع الكتاب قاعدة للحياة البشرية، ثم تمضي الحياة فإما اتفقت مع هذه القاعدة وظلت قائمة عليها، فهذا هو الحق . وإما خرجت عنها وقامت على قواعد أخرى فهذا هو الباطل .. هذا هو الباطل ولو ارتضاه الناس جميعاً في فترة من فترات التاريخ، فالناس ليسوا هم الحكم في الحق والباطل، وليس الذي يقرره الناس هو الحق، وليس الذي يقرره الناس هو الدين ..
…إنَّ نظرة الإسلام تقوم ابتداءً على أساس أن فعل الناس لشيء، وقولهم لشيء، وإقامة حياتهم على شيء، لا تحيل هذا الشيء حقاً إذا كان مخالفاً للكتاب، ولا تجعله أصلاً من أصول الدين، ولا تجعله التفسير
الواقعي لهذا الدين، ولا تبرره لأن أجيالاً متعاقبة قامت عليه(1) .
…تاسعاً: في الديمقراطية كل شيء - مهما سمت قداسته بما في ذلك دين الله - حتى ينال القبول عند القوم يجب أن يخضع للاختيار والتصويت، ورفع الأيدي وخفضها، والاختيار يقع دائماً - كما تقدم - على ما تجتمع عليه الأكثرية، وإن كان المختار باطلاً..!
…وهذا مبدأ - بصورته هذه - باطل شرعاً، الرضى به يفضي إلى الكفر والارتداد عن الدين، وذلك من أوجه:
…منها، أن شرع الله تعالى - الحلال والحرام، الحق والباطل - لا يجوز أن يخضع إلى عملية الاختيار والتصويت، والرد والقبول إلا في حالة واحدة وهي أن يؤاثر القوم الكفر والخروج كلياً من دائرة الإسلام لله رب العالمين .
…قال تعالى: { والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب} الرعد:41.
…وقال تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} الأحزاب:36.
…وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لاتقدموا بين يدي الله ورسوله} الحجرات:1.
…وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق ــــــــــــــــــــ
(1) طريق الدعوة في ظلال القرآن:2/32 .
صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} الحجرات:4.
…قال ابن القيم في أعلام الموقعين 1/51 :فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم، وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه، أليس هذا أولى أن يكون مُحبطاً لأعمالهم ا-هـ.
…قلت: ولا يحبط العمل كلياً إلا الكفر والشرك، لقوله تعالى: { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} الأنعام:88.
…وقال تعالى: { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} الزمر:65.
…وقال تعالى: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} النور:63. والفتنة هنا يراد منها الكفر والشرك، لقوله تعالى: { والفتنة أشد من القتل} البقرة:191. ولا شيء أشد من القتل بغير وجه حق إلا الشرك .
…قال الإمام أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسو صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعاً. ثم جعل يتلو: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة} وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة ؟ الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ، فيزيغ قلبه فيهلكه . وقال: وتدري ما الفتنة ؟ الكفر . قال الله تعالى: { والفتنة أكبر من القتل} فيدَعون الحديث عن رسول ا صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي ا-هـ .
…ومنها، أن عملية التصويت والاختيار هذه تتضمن التسوية الصريحة بين شرع الله عز وجل وشرع الطاغوت، حيث كلاهما - في نظر القوم - يخضعان لعملية التصويت بالتساوي من دون تفريق بينهما، وكلاهما قابلان للأخذ والرد ..
…وهذا كفر صريح لمغايرته لقوله تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} النحل:36. وقوله تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} البقرة:256.
…وهو مغاير كذلك لقوله تعالى: { ولم يكن له كفُواً أحد} الإخلاص:4. وقوله تعالى: { ليس كمثله شيء} الشورى:11. فكما أن الله تعالى ليس له كفؤاً ولا مثيلاً، ولا شبيهاً في ذاته وأفعاله، وصفاته سبحانه، فهو كذلك ليس له كفؤاً ولا مثيلاً ولا شبيهاً في حكمه وشرعه، وكما أن البشر جميعاً عاجزون عن أن يأتوا بكلام ونظم ككلام ونظم القرآن الكريم، فكذلك هم عاجزون - ولو اجتمعوا في صعيدٍ واحد - من أن يأتوا بحكم أو تشريع يوازي حكم وشرع الله تعالى .
…ومنها، أن هذا التصويت يدل دلالة صريحة على تمكين القوم من رد حكم الله تعالى لو شاء المصوتون ذلك، وهذا - كما تقدم - يتنافى مع الإيمان ومتطلباته، كما قال تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} النساء:65.(54/105)
…ومنها، أن عملية التصويت تتضمن الاستخفاف والتهكم بشرع الله ودينه، وهذا مغاير لما يجب لدين الله تعالى وشرعه من تعظيم وتوقير وإجلال ، كما قال تعالى: { ما لكم لا ترجون لله وقاراً وقد خلقكم أطواراً} نوح:14. وقال تعالى: { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} الحج:32. ومن أعظم شعائر الله تعالى التي يجب تعظيمها وتوقيرها كلامه، وأحكامه وشرعه ( .
…عاشراً: تقوم الديمقراطية على مبدأ المساواة - في الحقوق والواجبات - بين جميع شرائح وأفراد المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم العقدية والدينية، والسيرة الذاتية لأخلاق الناس؛فيستوي في نظر الديمقراطية أكفر وأفجر وأجهل الناس مع أتقى وأصلح وأعلم الناس في تحديد من يحكم البلاد والعباد، وغيرها من الحقوق والواجبات ..!
…وهذا النوع من المساواة لا شك في بطلانه وفساده؛ لمساواته بين الحق والباطل، وبين المتضادين المتناقضين، ومغايرته ومخالفته لكثير من النصوص الشرعية المحكمة، كما في قوله تعالى: { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} السجدة:18 . وقال تعالى: { أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون} القلم:35. وقال تعالى: { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} الزمر:9. وقال تعالى: { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} ص:28 . وغيرها كثير من النصوص التي تدل على أن الفريقين لتناقضهما - في الاعتقاد والدين والخلق والسلوك - لا يمكن ولا يجوز أن يستويا، ومن يقول بخلاف ذلك لزمه تكذيب القرآن الكريم، وهذا عين الكفر البواح .
…جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: أن من لم يفرق بين اليهود والنصارى وسائر الكفرة وبين المسلمين إلا بالوطن، وجعل أحكامهم واحدة فهو كافر(1).
…قلت: هذا الكفر هو عين ما تقرره الديمقراطية في أدبياتها، ويمارسه الديمقراطيون على أرض الواقع (2).
…حادي عشر: تقوم الديمقراطية على نظرية أن المالك الحقيقي للمال هو الإنسان، وبالتالي فله أن يكتسب المال بالطرق التي يشاء، كما له أن ينفق ماله بالطرق التي يشاء ويهوى، وإن كانت هذه الطرق محرمة ومحظورة في دين الله تعالى، وهذا ما يسمونه بالنظام الاقتصادي الحر، أو الرأسمالي الحر ..!
وهذا بخلاف ما عليه الإسلام الذي يقرر أن المالك الحقيقي للمال هو الله ( ، وأن الإنسان مستخلف عليه، وهو مسؤول عنه أمام الله تعالى: كيف اكتسبه، وفيما أنفقه..
ـــــــــــــــــــــ
(1) السؤال الثالث من الفتوى رقم 6310، 1/145 .
(2) من الذل والهوان الذي أصاب بعض التجمعات الإسلامية المعاصرة الديمقراطية أنها تطالب الطاغوت _ بعد أن سلبهم حق المواطنة! - أن يسوي بينهم وبين جميع فئات المجتمع - على اختلاف مشاربها وانتماءاتها - في المواطنة،وأن يمنحهم فرصة العيش الكريم في الوطن كأي مواطنٍ آخر!
…فالإنسان في الإسلام كما ليس له أن يكسب ماله بالحرام والطرق الغير مشروعة، كالربا، والرشوة والسحت، والمتاجرة فيما هو حرام وغير ذلك، كذلك لا يجوز له أن ينفق ماله في الحرام والطرق الغير مشروعة، أو أن يقع في التبذير والإسراف ..
…بل إن الإنسان في الإسلام لا يملك نفسه في أن يفعل بها ما يشاء بعيداً عن هدي الإسلام؛ لذلك عُدّ إنزال الضرر في النفس والانتحار من أكبر الكبائر التي يجازي الله عليها بالعذاب الشديد، وهذا المعنى نجده في قوله تعالى: { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} آل عمران:26. فالمالك الحقيقي للملك والمال هو الله ( وما سواه فهو مستخلف ومستأمن عليه، ومسؤول عنه أمام المالك الحقيقي للمال - يوم لا ينفع مال ولا بنون - كيف اكتسبه وفيما أنفقه، وهل أدى الأمانة فيه أم لا ..؟
…كما في الحديث عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :" لا تزول قدما عبدٍ حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه "(1).
…وقال تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون} التوبة:111.
ـــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن الترمذي:1970.
وهذا شراء ما يملك ( - خص به المؤمنين - إمعاناً في الكرم والجود والفضل، وترغيباً بالجهاد والاستشهاد .
…وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعزي أحداً في مصابه، يقول له:" إن لله ما أخذ، وله ما أعطى"(1). وبالتالي ليس للإنسان أن يعترض على أخذ شيء منه هو لا يملكه، وإنما ملكه لغيره وهو الله ( .
…بينما في الديمقراطية - كما تقدم - فإن الإنسان هو المالك الحقيقي للمال، وبالتالي فهو حر في كسبه، حر في إنفاقه كيفما يشاء؛ ولو أراد أن ينفق ماله كله على كلب أجرب وله من الأبناء عشرة أولاد فهو حر وله ذلك، ومن دون أن يجد من ينكر عليه !!(54/106)
…إلى هنا ينتهي الحديث عن المبادئ والأسس التي تقوم عليها الديمقراطية، نختتم الحديث عنها بكلام جيد للشيخ محمد قطب حيث يقول: هذا هو الإسلام وهذه هي الديمقراطية في نظر الإسلام .. ومن ثم فلا سبيل إلى مزج الإسلام بالديمقراطية، ولا سبيل إلى القول بأن الإسلام نظام ديمقراطي، أو أنه يتقبل النظام الديمقراطي أو يسايره، لمجرد وجود شبه عارض في بعض النقاط .
…إن هذا الالتقاء العارض بين الديمقراطية والإسلام في الحقوق والضمانات، وفي مبدأ الشورى لا يجوز أن ينسينا حقيقتين مهمتين:
…الحقيقة الأولى: أنه لا ينبغي لنا - من الوجهة العقدية - أن نقرن ـــــــــــــــــــ
(1) صحيح الأدب المفرد:397.
…النظام الرباني إلى نظام جاهلي، فضلاً عن أن نحاول سند النظام الرباني بنسبته إلى النظام الجاهلي، أو نتصور أننا نمتدح النظام الرباني بأن نقول أنه يحمل نقط التقاء مع النظام الجاهلي !
…إنها الهزيمة الداخلية تندس إلى أفهامنا دون أن نحس، وتجعلنا نعتقد أن النظام الرباني في حاجة إلى دفاعنا نحن عنه وتبريره، كما تجعلنا نعتقد أننا نمتدح النظام الرباني بأن نقول للناس إنه يحتوي على الفضائل التي تحتوي عليها النظم السائدة اليوم !
…إنها الهزيمة التي أصابت المسلمين في مواجهة الغرب الظافر المتغلب، الذي غلب على بلاد الإسلام، وما كانت لتوجد في نفوسنا لو أننا واثقون في أنفسنا مستعلون بالإيمان كما وجهنا الله: { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} .
…والحقيقة الثانية: أن هذا الشبه العارض في بعض النقاط لا يجوز أن ينسينا الفارق الضخم في القاعدة، إن القاعدة التي يقوم عليها الإسلام يختلف اختلافاً جذرياً عن القاعدة التي تقوم عليها الديمقراطية .
…في الإسلام يُعبد الله وحده دون شريك، وتحكم شريعة الله عنواناً على التوحيد وتحقيقاً له في عالم الواقع .
…وفي الديمقراطية يُعبد غير الله، وتحكم شرائع البشر عنواناً على عبادة غير الله وتوكيداً لها في عالم الواقع .
…وفي الإسلام يُزكى الإنسان ليحتفظ بإنسانيته في أحسن تقويم، وفي الديمقراطية ينكس الإنسان فيهبط أسفل سافلين .
…تلك فروق جوهرية في القاعدة، فما قيمة اللقاء العارض في بعض النقاط أيَّاً كانت القيمة الذاتية لتلك النقاط ؟!
…وفي العالم الإسلامي كتّاب ومفكرون ودعاة مخلصون مخدوعون في الديمقراطية .
…يقولون: نأخذ ما فيها من خير ونترك ما فيها من شرور !
…يقولون: نقيدها بما أنزل الله ولا نبيح الإلحاد ولا نبيح التحلل الخلقي والفوضى الجنسية !
…إنها إذاً لن تكون الديمقراطية .. إنما ستكون الإسلام !
…إن الديمقراطية هي حكم الشعب بواسطة الشعب . إنها تولي الشعب سلطة التشريع، فإذا ألغي هذا الأمر أو قيد فلن تكون هي الديمقراطية التي تقوم بهذا الاسم .
…واسألوا الديمقراطيين، قولوا لهم: نريد أن نحكم بما أنزل الله، ولا يكون للشعب ولا ممثليه حق وضع القوانين إلا فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة ولا إجماع من علماء المسلمين !
…قولوا لهم: نريد أن ننفذ حكم الله في المرتد عن دينه، وحكم الله في الزاني والسارق وشارب الخمر ..!
…قولوا لهم: نريد أن نلزم المرأة بالحجاب، ونمنع التبرج، ونمنع العري على الشواطئ وفي الطرقات، ونريد في الوقت ذاته أن نكون ديمقراطيين !
اسألوهم وانظروا ماذا يقولون، سيقولون على الفور: إن هذه
ليست الديمقراطية التي نعرفها، ففي الديمقراطية يشرع الناس في جميع الأمور لا يلتزمون في شيء منها بغير ما يريده الشعب .
…{ نظرياً على الأقل، وإن كانت الحقيقة كما أسلفنا أن الرأسماليين هم الذين يُشرعون من وراء ستار }.
…سيقولون: إن الديمقراطية لا تتدخل في الحرية الشخصية للأفراد، فمن شاء أن يرتد عن دينه فهو حر ! ومن شاء أن يتخذ صديقة أو خليلة فهو حر ! ومن شاءت أن تخون زوجها فهي حرة ما لم يشتك الزوج !
…سيقولون: ابحثوا عن اسم آخر لما تريدون ..اسم غير الديمقراطية!
…فإذا كان كذلك فلماذا نصر نحن على تسمية نظامنا الذي نريده باسم الديمقراطية ؟! لماذا لا نسميه الإسلام ؟!
…ولست أقول إن النظم الطغيانية التي حلت محل تلك الديمقراطيات المزيفة هي خير منها، كلا! وألف مرة كلا ! فالطغيان الذي يعتقل عشرات الألوف، ويعذبهم أبشع تعذيب عرفته البشرية، ويقتل منهم من يقتل في محاكمات صورية أو داخل الأسوار بالتعذيب، هو شر خالص لا خير فيه .
…ولكن أقول فقط: إن البديل ليس هو الديمقراطية .. إنما هو الإسلام .
…ومن كان يرى أن مشوار الإسلام مشوار طويل، وأن مشوار الديمقراطية أقصر منه وأيسر، فنحن نقول له: إن الديمقراطية ذاتها في سبيلها إلى الإنهيار، بما تحمل في طياتها من عِوَج وانحراف قائم في أصل
النظام .
…وسيبقى الإسلام .. سيبقى لأنه دين الله .. ولأن الله تكفل بحفظه .. ولأنه هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذ البشرية كلها من ضلالها البعيد الذي لجت فيه(1)انتهى .(54/107)
…وبعد، هذه هي الديمقراطية باختصار، وهذه هي أهم المبادئ والأسس التي تقوم عليها، والتي من دونها تفقد الديمقراطية خصائصها ومعانيها، ومبررات وجودها، ولا تعد في عرف القائلين بها تُسمى ديمقراطية .
…وبناء على ما تقدم: فإننا نقول جازمين غير مترددين ولا شاكين في أن الديمقراطية طاغوت كبير، حكمها في دين الله تعالى هو الكفر البواح الذي لا يخفى إلا على كل أعمى البصر والبصيرة، وأن من اعتقدها، أو دعا إليها، أو أقرها ورضيها، أو حسنها، أو عمل بها - على الأسس والمبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية الآنفة الذكر - من غير مانعٍ شرعي معتبر، فهو كافر مرتد عن دينه وإن تسمى بأسماء المسلمين، وزعم زوراً أنه من المسلمين المؤمنين، فالإسلام وحالٌ هذا وصفه لا يجتمعان في دين الله أبداً .
…أما من كان يقول بالديمقراطية جاهلاً للمعاني والأسس - الآنفة الذكر - التي تقوم عليها الديمقراطية، فمثل هذا نرى الإمساك عن تكفيره ـــــــــــــــــــ
(1) مذاهب فكرية معاصرة، فصل الديمقراطية .
بعينه مع بقاء القول بكفر قوله، إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية التي تبين له كفر الديمقراطية، ومناقضتها لدين الله تعالى، لأن الديمقراطية من المصطلحات والمفاهيم المستحدثة والمشكلة على كثير من الناس، التي يمكن أن يعذر فيها بالجهل إلى أن تقوم الحجة الشرعية التي بها يندفع جهل الجاهل .
…وكذلك الذي يقول بالديمقراطية وهو لا يريد المعاني والأسس الآنفة الذكر، وإنما يستخدمها كمصطلح يريد بها الشورى، أو حرية التعبير والإفصاح عن الكلمة البناءة، أو رفع القيود والرقابة التي تمنع الناس من ممارسة حقوقهم الشرعية والأساسية في الحياة، وغير ذلك من التأويلات والتفسيرات الفاسدة التي لا تحتملها الديمقراطية أساساً، فمثل هذا -رغم خطئه - إلا أنه لا يكفر، ولا ينبغي أن يُكفَّر .. هذا ما يقتضيه العدل والإنصاف، وتُلزم به قواعد الدين وأصوله،والله تعالى أعلم.
…_ فتوى بعض العلماء في الديمقراطية(1).
…وردت فتوى لبعض أهل العلم المعاصرين في الديمقراطية، جاء فيها قولهم: الديمقراطية عند واضعيها ومعتنقيها: حكم الشعب نفسه بنفسه، وأن الشعب مصدر السلطات جميعاً، وهي بهذا الاعتبار مناقضة ـــــــــــــــــــ
(1) منهم الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ مقبل بن هادي الوادعي اليمني، انظر بقية أسماء العلماء في مجلة" الأصالة " العدد الثاني، صفحة24.
للشريعة الإسلامية والعقيدة، قال تعالى: { إن الحكم إلا لله}، وقال: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ، وقال: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}، وقال: { ولا يُشرك في حكمه أحداً} .
…ولأن الديمقراطية نظام طاغوت، وقد أُمرنا أن نكفر بالطاغوت، قال تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} ، وقال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} ، وقال: { ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً} .
…فالديمقراطية والإسلام نقيضان لا يجتمعان أبداً، إما الإيمان بالله والحكم بما أنزل الله، وإما الإيمان بالطاغوت والحكم به، وكل ما خالف شرع الله فهو من الطاغوت .
…ولا عبرة بمن يحاول أن يجعلها من الشورى الإسلامية، لأن الشورى فيما لا نص فيه ولأهل الحل والعقد من أهل الدين والورع، والديمقراطية بخلاف ذلك كما سبق .
…والتعددية فرع عن الديمقراطية، وهي قسمان: تعددية سياسية، وتعددية فكرية عقائدية . أما التعددية العقائدية: فمعناها أن الناس في ظل النظام الديمقراطي لهم الحرية في أن يعتقدوا ما يشاؤون، ويمكنهم الخروج من الإسلام إلى أي ملة ونحلة أخرى حتى ولو كانت يهودية أو نصرانية، أو شيوعية أو اشتراكية أو علمانية، وتلك هي الردة بعينها، قال تعالى: { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوَّل لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم} ، وقال تعالى: { ومن يرتد منك عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} ، وقال: { ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} .
…وأما التعددية السياسية: فهي فتح المجال لكافة الأحزاب بغض النظر عن أفكارها وعقائدها لتحكم المسلمين عن طريق الانتخاب، وهذا فيه مساواة بين المسلم وغيره .
…وهذا خلاف للأدلة القطعية التي تحرم أن يتولى المسلمين غيرهم، قال تعالى: { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} ، وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} ، وقال: { أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون}.(54/108)
…ولأن التعددية تؤدي إلى التفرق والاختلاف الموجب لعذاب الله، قال تعالى: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} ، وموجب أيضاً لبراءة الله ورسوله ممن يفعل هذا، قال تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء}.
ومن حاول أن يجعل هذه التعددية تعددية برامج لا مناهج، أو على غرار الخلاف المذهبي بين علماء الإسلام، فالواقع يرده، ولأن برنامج كل حزب منبثق من فكره وعقيدته، فبرنامج كل حزب منبثق من فكره وعقيدته، فبرنامج الاشتراكي منطلق من مبادئ الاشتراكية، والعلماني الديمقراطي من مبادئ الديمقراطية .. وهلمَّ جرَّا .
والانتخابات السياسية بالطريقة الديمقراطية حرام أيضاً لا تجوز، لأنه لا يُشترط في المنتخَب والناخب الصفات الشرعية لمن يستحق الولاية العامة أو الخاصة، فهي بهذه الطريقة تؤدي إلى أن يتولى حكم المسلمين من لا يجوز توليته ولا استشارته، ولأن المقصود بالمنتخَب أن يكون عضواً في مجلس النواب التشريعي والمجالس النيابية التي لا تحتكم إلى كتاب الله وسنة رسوله وإنما تتحاكم إلى الأكثرية، فهي مجالس طاغوتية لا يجوز الاعتراف بها ، فضلاً عن أن يسعى المسلم إلى إنشائها ويتعاون في إيجادها وهي تحارب شرع الله، ولأنها طريقة غربية من صنع اليهود والنصارى ولا يجوز شرعاً التشبه بهم .
…ومن يقول: إنه لم يثبت في الشرع طريقة معينة في اختيار الحاكم فمن ثَمَّ فلا مانع من الانتخابات يُقال له: ليس صحيحاً أنه لم يثبت ذلك في الشرع، فما فعله الصحابة من كيفيات الاختيار للحاكم فكلها طرق شرعية . وأما طريقة الأحزاب السياسية فيكفي في المنع منها أنه لا يوضع لها ضوابط، وتؤدي إلى تولية غير المسلم وليس أحد من الفقهاء يقول بجواز ذلك ا- هـ .
_ الديمقراطية دين .
…يُنكر علينا المخالفون من الإسلاميين البرلمانيين الديمقراطيين تسميتنا للديمقراطية بأنها دين، وأن من اعتقدها وتبناها من المسلمين، ودعا إليها هو في دين الديمقراطية وليس في دين الإسلام، فلزمنا البيان، وأن نرد القوم إلى مفهوم الدين في نظر الإسلام، ليدركوا في أي دين هم، وهل الديمقراطية تستحق هذا الإطلاق ولوصف أم لا ..؟
…جاء في لسان العرب معنى كلمة الدين: الديَّان من أسماء الله ( ، معناه الحكم القاضي .. والديان القهار؛ وهو فعَّال من دان الناس أي قهرهم على الطاعة . يقال دنتهم فدانوا أي قهرتهم فأطاعوا ..
…وفي حديث أبي طالب قال له عليه السلام :" أريد من قريش كلمة تدين لهم بها العرب " أي تطيعهم وتخضع لهم .
…والدين: الجزاء والمكافأة .. ويوم الدين: يوم الجزاء .
…والدين: الطاعة، وقد دنته، ودنت له أي أطعته ..
…والدين: العادة والشأن .. وفي الحديث:" الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله "، قال أبو عبيد: قوله " دان نفسه " أي أذلها واستعبدها، وقيل: حاسبها ..
…والدين لله من هذا إنما هو طاعته والتعبد له، ودانه ديناً أي أذله واستعبده، يقال: دِنتُه فدان ..
…وفي التنزيل العزيز: { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك}، قال قتادة:في قضاء الملك . والدين: الحال . والدين: ما يتدين به الرجل . والدين: السلطان . والدين: الورع. والدين: القهر . والدين: المعصية . والدين: الطاعة .
…وفي حديث الحج:" كانت قريش ومن دان بدينهم " أي اتبعهم في دينهم ووافقهم عليه(1) .
…قال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} الأنفال:39.
…قال ابن تيمية رحمه الله: والدين هو الطاعة، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله، وجب القتال حتى يكون الدين كله لله .
…وقال: الدين مصدر، والمصدر يُضاف إلى الفاعل والمفعول، يقال دان فلان فلاناً، إذا عبده وأطاعه، كما يقال دانه إذا أذله، فالعبد يدين لله أي يعبده ويطيعه، فإذا أُضيف الدين إلى العبد فلأنه العابد المطيع، وإذا أضيف إلى الله فلأنه المعبود المطاع(2).
…وقال تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} الشورى:21. وقال تعالى: { لكم دينكم ولي دين} الكافرون:6 .
…قال المودودي: المراد بالدين في جميع هذه الآيات هو القانون والحدود، والشرع والطريقة، والنظام الفكري والعملي الذي يتقيد به الإنسان، فإن كانت السلطة التي يستند إليها المرء لاتباعه قانوناً من القوانين، أو نظاماً من النظم سلطة الله تعالى، فالمرء لا شك في دين الله ــــــــــــــــــــ
(1) انظر لسان العرب:13/166. (2) الفتاوى:28/544و15/158.
( ، وأما إن كانت تلك السلطة سلطة ملك من الملوك، فالمرء في دين الملك، وإن كانت سلطة المشايخ والقسوس فهو في دينهم . وكذلك إن كانت تلك السلطة سلطة العائلة أو العشيرة، أو جماهير الأمة، لا جرم هو في دين هؤلاء .
…وفي قوله تعالى: { وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} غافر:26.(54/109)
…قال رحمه الله: وبملاحظة جميع ما ورد في القرآن من تفاصيل لقصة موسى عليه السلام وفرعون، لا يبقى من شك في أن كلمة الدين لم ترد في تلك الآيات بمعنى النحلة والديانة فحسب، أريد بها الدولة ونظام المدينة أيضاً، فكان مما يخشاه فرعون ويعلنه: أنه إن نجح موسى عليه السلام في دعوته، فإن الدولة ستزول وإن نظام الحياة القائم على حاكمية الفراعنة والقوانين والتقاليد الرائجة سيقتلع من أصله (1).
…وعليه ومن خلال ما تقدم من ذكر للمبادئ والأسس التي تقوم عليها الديمقراطية، فإننا ندرك يقيناً بأن الديمقراطية دين قائم بذاته، تدخل في معنى ومسمى الدين بكل ما تعني كلمة الدين من معنى؛ إذ هي طريقة في الحكم والحياة، لها تفسيرها وتصورها الخاص عن الوجود، تخضع لنظم وقوانين وأحكام لا بد لمعتقديها ومتبنيها من الدخول فيها، والتزامها وتنفيذها .
ـــــــــــــــــــــ
(1) انظر كتاب المصطلحات الأربعة في القرآن، ص125.
…فالديمقراطية لها طرقها وأنظمتها الخاصة والمتباينة كل التباين عن هدي الإسلام؛ فهي طريقة خاصة في الحياة، وفي التعامل والتعايش، وفي علاقة الجنسين بعضهما مع بعض، وفي الحكم والسياسة، وفي القانون والقضاء، وفي الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وفي التربية والتعليم، حتى ممارسة الشعائر التعبدية لها نظرتها الخاصة بذلك ..وهذا هو الدين، وإذا لم يكن هذا دين فأي شيء يُسمى دين ؟!
…وعليه فإننا نقول: الديمقراطية تدخل في معنى الدين لغة واصطلاحاً، ومن يتدين بدين الديمقراطية مثله مثل من يتدين باليهودية، أو النصرانية، أو المجوسية أو غيرها من النحل والأديان، ولا فرق بينها حيث كلها تجتمع على تقرير عبادة العباد للعباد - وإن اختلفت الصور والأشكال - وعلى دخول العباد في دين العباد وجور الأديان، وليس في دين الله تعالى .…
…وهؤلاء الذين ينكرون علينا تسميتنا للديمقراطية بالدين، عليهم أن يقرؤوا القرآن من جديد، ويتفقهوا في التوحيد، ويراجعوا المفاهيم والمبادئ الأساسية لدين الله تعالى، هو خير لهم وأحسن ..
…ومما يؤكد أن الديمقراطية دين، أن الغرب الصليبي الديمقراطي لم يعد يريد من المسلمين - على طريقة المبشرين الأوائل - أن يدخلوا في الديانة النصرانية، فهي غاية وجدوها صعبة المنال والتحقيق، وإنما يريد منهم أن يدخلوا في دينه الجديد؛ وهو دين الديمقراطية، لما يتحقق لهم - عن طريقه - من المكاسب والمغانم ما لم يتحقق لهم عن طريق التدين بدين
الكنيسة، لذا نراهم يوالون ويعادون، ويُسالمون ويحاربون على الديمقراطية وأنظمتها، فمن دخل في دينهم الديمقراطية والوه وسالموه وأكرموه أيما إكرام، ورضوا عنه، ومن أبى وعصى عادوه، وحاربوه، وقاطعوه ..!
…صدق الله العظيم: { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير} البقرة:120.
…وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . بل الله مولاكم وهو خير الناصرين} 149-150 .
_ الديمقراطية والشورى .
…لتروج فكرة الديمقراطية على الناس، قالوا وزعموا - زوراً وتضليلاً للناس - أن الديمقراطية هي الشورى في الإسلام، ولا تغاير بينهما ولا تناقض، حيث كل منهما يدل على الآخر ويعطي معناه .. وغير ذلك من الأقاويل الباطلة المزخرفة التي تأتي كلها من باب إلباس الحق بالباطل، وكتمان العلم على الناس رهبة من طاغوت، أو رغبة بالفُتات اليسير الذي يُرمى إليهم من قبل الطاغوت ..!
…والله تعالى يقول: { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} البقرة:42 . وقال تعالى: { يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} آل عمران:71 .
…لذا تعين علينا أن نبين للقارئ أبرز الفوارق بين الديمقراطية والشورى، والتي منها:
…1- الشورى كلمة عربية قرآنية جاء ذكرها والأمر بها في القرآن الكريم في أكثر من موضع، بينما الديمقراطية كلمة غربية، خبيثة المنبت والمنشأ، لا قرار لها ولا أصل ولا وجود لها في اللغة العربية، ولا في دين الله تعالى .
…2- الشورى حكم الله تعالى، بينما الديمقراطية هي حكم الشعب، وحكم الطاغوت ..
…3- الشورى تقرر أن السيادة والحاكمية لله تعالى وحده، بينما الديمقراطية تقرر أن السيادة والحاكمية للشعب، وما يختاره الشعب ..
…4- الشورى تكون في مواضع الاجتهاد؛ فيما لا نص فيه،بينما الديمقراطية تخوض في كل شيء، وتحكم على كل شيء بما في ذلك النصوص الشرعية ذاتها، حيث لا يوجد في نظر الديمقراطية شيء مقدس لا يمكن الخوض فيه، وإخضاعه لعملية التصويت والاختيار..
…5- تخضع الشورى لأهل الحل والعقد، وأهل الاختصاص والاجتهاد، بينما الديمقراطية تخضع لجميع طبقات وأصناف الناس؛ الكافر منهم والمؤمن، والجاهل منهم والعالم، والطالح والصالح فلا فرق، وكلهم لهم نفس الأثر على الحكم والقرار ..!(54/110)
…6- تهتم الشورى بالنوع والرأي الأقرب إلى الحق والصواب وإن خالف ذلك الأكثرية وما عليه الجماهير، بينما الديمقراطية تهتم بالكم والغثاء، وهي تدور مع الأكثرية حيث دارت، ولو كانت النتيجة مخالفة للحق موافقة للباطل ..!
…7- ينبثق عن الشورى مجلس استشاري وظيفته استخراج أقرب الآراء إلى الحق وفق ضوابط وقواعد الشرع، بينما الديمقراطية ينبثق عنها مجالس تشريعية، لها صلاحيات التحليل والتحريم، وسن القوانين والتشريعات بغير سلطان من الله تعالى ..
…8- الشورى من دين الله تعالى، الإيمان بها واجب وجحودها كفر ومروق، بينما الديمقراطية دين الطاغوت، الإيمان به كفر والكفر به إيمان ..
…قال تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} البقرة:256.
…9- الشورى - على القول الراجح - واجبة غير ملزمة، بينما الديمقراطية فإن الآراء التي تؤخذ عن طريقها - مهما كان نوعها وقربها أو بعدها عن الحق - فإنها ملزمة وواجبة ونافذة ..!
…وبعد، هذه هي أهم الفوارق بين الشورى والديمقراطية، ومنها يتبين أن الفارق بينها شاسع وكبير، وأنه لا لقاء بينهما في شيء، وزعم اللقاء بينهما في بعض الأوجه هو محض افتراء وكذب ..
…وللتذكير فإننا نقول: من يُسوي بين الشورى والديمقراطية، ويعتبرهما شيء واحد من حيث الدلالة والمعنى أو القيمة، مثله مثل من يسوي بين الخالق والمخلوق، وبين شرع الله تعالى ودينه وشرع الطاغوت ودينه، وعليه وعلى أضرابه يُحمل قوله تعالى: { قالوا وهم فيها يختصمون . تالله إن كنا لفي ضلالٍ مبين . إذ نسويكم برب العالمين} الشعراء:96-98.
_ استخدام الديمقراطية كمصطلح .
…يقول البعض عندما تواجههم بحقيقة الديمقراطية وما يترتب عليها من مزالق ومخالفات شرعية: نحن إذ نستخدم كلمة الديمقراطية إنما نستخدمها كمصطلح فقط، وأحياناً نستخدمها ونريد منها المعاني التي لا تتغاير ولا تتعارض مع تعاليم الإسلام، كما وأننا لا نريد باستخدامها المعاني والمبادئ المغايرة للإسلام، والتي تشيرون إليها عند حديثكم عن الديمقراطية..!
…وهذا قول باطل مردود على أصحابه، وذلك من أوجه:
…منها، لا توجد ديمقراطية من دون هذه المبادئ والأسس التي تقدم ذكرها ..
…ومنها، أن هذا القول في الغالب يُراد منه تضليل الناس وتلبيس الحق عليهم، ليسهل على دعاة الديمقراطية تمرير باطلهم وأفكارهم الديمقراطية المغايرة لشرع الله، وهذا يدركه القارئ من خلال اطلاعه على الأوجه الأخرى التالية الذكر..
…ومنها، أن الديمقراطية - كما تقدم - لا تنطوي إلا على الشر المحض، وهي قلباً وقالباً تخالف وتضاد شرع الله تعالى، فكيف يجوز استخدامها وحملها على معانٍ شرعية هي لا تحتملها أصلاً، لذا لم يبق سوى أن نقول: أن استخدامها من هذا الوجه هو من باب إلباس الحق بالباطل، وتحميل المعاني ما لا تحتمل، والنتيجة هي تشويه عقائد الناس وأفكارهم ..!
…ومنها، أن هذه الديمقراطية - كما زعموا - التي لا تخالف شرع الله، ولا تحلل الحرام، ولا تحرم الحلال، فهي بذلك لم يعد اسمها - في عرف المؤسسين لها والقائلين بها - ديمقراطية، وليبحثوا عما هم عليه عن اسم آخر غير الديمقراطية، ولا أظن اللغة العربية لغة القرآن الكريم قد خلت من المفاهيم والمصطلحات التي تغنينا عن استخدام كلمة الديمقراطية
وهذا معنى ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى .
…ومنها، بشيء من التأمل ندرك أن الممارس على أرض الواقع من قِبل الإسلاميين البرلمانيين، هو مخالف تماماً لما زعموا وقالوا، حيث أننا نجدهم يمارسون الديمقراطية بمعناها المغاير والمخالف لشرع الله تعالى، يمارسونها بمبادئها وأسسها الآنفة الذكر في أول بحثنا هذا، وبالتالي لا قيمة البتة لما زعموا وقالوا ما دام زعمهم يرده لسان الحال، وواقعهم العملي الممارس على أرض الواقع .
…ومنها، أن هذا القول مخالف لما هو ثابت في أدبيات القوم ومنشوراتهم، وبياناتهم الخاصة بهم، فانظر مثلاً ما يقول الشيخ أحمد ياسين مسؤول الإخوان المسلمين في فلسطين في أجوبة على أسئلة وجهت إليه .
…سؤال: ولكن الشعب الفلسطيني يريد دولة ديمقراطية .. وأنت لماذا تعانده ؟
…جواب: وأنا أيضاً أريد دولة ديمقراطية متعددة الأحزاب، والسلطة فيها لمن يفوز في الانتخابات !
…سؤال: لو فاز الحزب الشيوعي، فماذا سيكون موقفك ؟
…جواب: حتى ولو فاز الحزب الشيوعي فسأحترم رغبة الشعب الفلسطيني !!
…سؤال: إذا ما تبين من الانتخابات أن الشعب الفلسطيني يريد دولة ديمقراطية متعددة الأحزاب، فماذا سيكون موقفك حينئذٍ ؟
…جواب: رد الشيخ ياسين غاضباً: والله نحن شعب له كرامته وله حقوق، إذا ما أعرب الشعب الفلسطيني عن رفضه للدولة الإسلامية .. فأنا أحترم وأقدس رغبته وإرادته!! (1) .
…فتأمل، فهو يحترم رغبة الشعب الفلسطيني إذا ما اختار الشيوعية والكفر والإلحاد، ومن جهة أخرى فهو كذلك يحترم ويقدس رغبة الشعب الفلسطيني إذا ما أعرب عن رفضه لدين الله تعالى ..؟!!
…فإذا لم تكن هذه هي الديمقراطية التي تضاهي شرع الله، وتضاد الدين والتوحيد، فماذا تكون ..؟!(54/111)
وفي بيان وزع للإخوان المسلمين، يقولون فيه(2):
الإخوان المسلمون يرون الناس جميعاً حملة خير ..!
التعليق:[ بما في ذلك اليهود والنصارى، والشيوعيين، وجميع أحزاب الكفر والردة والزندقة .. لأن قولهم" الناس جميعاً " يشمل جميع ــــــــــــــــــ
(1) أحمد ياسين، الظاهرة المعجزة وأسطورة التحدي، ط دار الفرقان، ص 116و118.
(2) بيان للناس من الإخوان المسلمين، الصادر في 2 مايو 1995.نشرته جريدة الشعب في 2 من ذي الحجة،1415هـ .
هؤلاء وغيرهم .. فتأمل! ].
ونحن الإخوان المسلمون نقول دائماً: إننا دعاة ولسنا قضاة، ولذا لا نفكر ساعة من زمان في إكراه أحد على غير معتقده أو ما يدين به ..!
التعليق:[ إنها نفس حرية الاعتقاد والتدين التي تنادي بها الديمقراطية الكافرة، ولتي تتضمن وتشمل حرية ارتداد المسلمين عن دينهم ولو شاؤوا ..ثم هم دائما دعاة وليسوا قضاة، لا يحكمون على الأشياء بحكم الله، لأن هذا ليس من اختصاصهم ولا من دعوتهم، فهم يقولون هذا حق وهذا باطل، أما هذا محق وهذا مبطل، وهذا كافر وهذا مؤمن، فهذا ليس من اختصاصهم ولا اهتماماتهم، ولا يجوز الاشتغال به .. فتأمل !] .
وموقفنا من إخواننا المسيحيين في مصر والعالم العربي، موقف واضح وقديم ومعروف، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وهم شركاء في الوطن، وأخوة في الكفاح الوطني الطويل، لهم كل حقوق المواطن المادي منها والمعنوي، المدني منها والسياسي، والبِر بهم والتعاون معهم على الخير فرائض إسلامية، لا يملك مسلم أن يستخف بها أو يتهاون في أخذ نفسه بأحكامها، ومن قال غير ذلك فنحن برآء منه ومما يقول ويفعل..!
التعليق:[ نقول: هنيئاً لكم أخوتكم للنصارى الصليبين ..ثم هنيئاً لكم ذلك الوثن الكبير الذي أسميتموه الوطن، الذي توالون وتعادون فيه، وتقسمون الحقوق والواجبات على أساس الانتماء إليه، فالنصارى لهم كامل الحقوق المادية منها والمعنوية، المدني منها والسياسي ما داموا ينتمون إلى الوطن ..!
…قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} المائدة:51.
…وقال تعالى: { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون} المائدة:81. فدلت الآية الأولى أن متوليهم هو منهم، ودلت الآية هنا أن متوليهم لا يكون مؤمناً..
…ثم لماذا هذا الموقف من إخوانكم النصارى في مصر والعالم العربي دون النصارى في بقية البلدان، أم أن الانتماء القومي والوطني يستدعي منكم هذا الموقف ..؟!
…إذاً أعلنوها دعوة عصبية قومية كغيركم من القوميين والعلمانيين من دون أن تتستروا بالدعوة إلى الإسلام ..!
…أما عن مقولتهم الآثمة عن الحقوق الوطنية، والأخوة الوطنية، وعقد المساواة على أساس الانتماء الوطني، وغير ذلك من الاطلاقات الشركية، نكتفي في أن ننقل لهم ماذا يقول علماء عصرهم فيمن يقول مقولتهم المشينة تلك ..
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: أن من لم يفرق بين اليهود والنصارى وسائر الكفرة وبين المسلمين إلا بالوطن،
وجعل أحكامهم واحدة فهو كافر(1).
…أما براءهم ممن يخالفهم على ما قرروه من باطل، فهذا يقتضي منهم البراء من أهل التوحيد وجميع المسلمين الذين يدينون دين الحق ..لكن لا عجب، فإن موالاتهم للظالمين الكافرين من لوازمه وشروطه البراء من الموحدين المؤمنين، فإن القلب لا يجتمع فيه موالاة الشيء وضده في آنٍ واحد ..وهذا ما أرادوا إظهاره !].
…إن ساسة العالم وأصحاب الرأي فيه يرفعون هذه الأيام شعار " التعددية "، وضرورة التسليم باختلاف رؤى الناس ومناهجهم في الفكر والعمل ..
…والإسلام منذ بدأ الوحي إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم يعتبر اختلاف الناس حقيقة كونية وإنسانية، ويقيم نظامه السياسي والاجتماعي والثقافي على أساس هذا الاختلاف والتنوع .. والتعددية في منطلق الإسلام تقتضي الاعتراف بالآخر كما تقتضي الاستعداد النفسي والعقلي للأخذ عن هذا الآخر فيما يجري على يديه من حق وخير ومصلحة ..!
…التعليق:[ تأمل كيف أقروا التعددية بالمفهوم الديمقراطي، ثم كيف ألبسوا هذه التعددية - زوراً وباطلاً - ثوب الإسلام والدين، يفترون على الله الكذب وهم يعلمون، وإنهم - والله - قالوا كما قال المشركون من ـــــــــــــــــــ
(1) السؤال الثالث من الفتوى برقم 6310،1/145 .
قبل وأشد، كما في قوله تعالى: { وإذا فعلوا فاحشةً قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن اللهَ لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} الأعراف:28 .
…إن الله تعالى لا يأمر بالأحزاب العلمانية، ولا بحريتها، ولا بجواز الاعتراف بها وبشرعيتها، وإن الذين ينسبون هذا الباطل الأكبر إلى دين الله تعالى، ويعدونه مما أوحى الله به على رسوله وأمر به، لهم أشد جرماً وأظهر كذباً من أولئك الذين ينسبون جواز ارتكاب الفواحش إلى دين الله وإلى أمره سبحانه .(54/112)
…ومن قبل سمعنا من رجل يعد من كبراء القوم - في إحدى ندواتهم ومؤتمراتهم المصورة - يصرح بملء فيه وبكل وقاحة وجرأة على الله تعالى، بأن الديمقراطية وحي من السماء .. فتأمل!!](1).
ـــــــــــــــــــ
(1) من يتأمل ما يصدر عن الإخوان المسلمين المعاصرين من أدبيات، ونشرات، وتصريحات يجد أنهم قد فرطوا بكثير من ثوابت وأصول هذا الدين، مما يفقدهم المبرر الشرعي لوجودهم، كما يمنع الناس من الانتماء إليهم أو تكثير سوادهم في شيء، ورصيد الجماعة القديم لا يبرر لها بحال ممارسة الكفر أو الترويج له كما هو ظاهر في أدبياتهم ونشراتهم، على سبيل المثال لا الحصر ما نشروه في مجلتهم الدعوة تحت عنوان لافتة من شعر لأحمد مطر، قوله: وإذا ما حصلوا في الانتخابات على أعظم نسبة .. زعموا أن لهم حقاً .. بأن يستلموا الحكم ..كأن الحكم لعبة .. الأصوليون آذونا كثيراً .. وافتروا جداً .. ولم يبقوا على الدولة هيبة .. فبحق الأب والابن وروح القدس .. وكريشنا وبوذا ويهوذا .. تب على دولتنا منهم، ولا تقبل لهم =
وإنما ترجع شرعية الحكم في مجتمع المسلمين إلى قيامه على رضا الناس واختيارهم ..!
…التعليق:[ وإن اختاروا الكفر والإلحاد .. أليست هذه هي عين الديمقراطية التي تقرر مبدأ حكم الشعب واختياره ..؟! ].
…وإذا كان للشورى معناها الخاص في نظر الإسلام فإنها تلتقي في الجوهر مع نظام الديمقراطي الذي يضع زمام الأمور في يد أغلبية الناس دون أن يحيف بحق الأقليات في أن يكون لها رأي وموقف .. وأن يكون لها حق مشروع في الدفاع عن هذا الرأي والدعوة إلى ذلك الموقف ..!
…التعليق:[ قولهم أن الشورى تلتقي في الجوهر مع النظام الديمقراطي .. هو قول باطل ومردود، وهو من قبيل إلباس الحق بالباطل وهم يعلمون، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك .. أما إقرارهم لمبدأ حكم الأكثرية أو الأغلبية - أياً كانت عقيدة وهوية هذه الأغلبية - أليس هو نفس ما تقرره الديمقراطية الكافرة من اعتبار حكم الأغلبية لا غير .. ثم تأمل لهذه الأقلية - أيّاً كانت هويتها وكان رأيها وموقفها ولو ـــــــــــــــــــ
= يا رب توبة !! انتهى .
…فتأمل، فهم يذكرون هذا الكفر والشرك البواح في واحة ولافتة شعرية، وفي أشهر مجلة من مجلاتهم الناطقة باسمهم، على وجه الاستحسان والإعجاب، من دون أي تعليق أو تعقيب يتبرأون فيه مما ورد من كفر وشرك .. فهم حتى إثبات الولد والشريك لله ( لم يعد يثيرهم أو يلفت انتباههم !!
انظر مجلة الدعوة، العدد 39 - 29 يوليو 1995 م .
كان الكفر ذاته - لها كامل الحق في الدفاع عن هذا الرأي والدعوة إلى ذلك الموقف .. ؟! ].
يرى الإخوان المسلمون في المعارضة السياسية المنظمة عاصماً من استعداء الأغلبية وطغيانها، وذلك إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، وبذلك تكون المعارضة السياسية جزءاً من البناء السياسي، وليست خروجاً عليه أو تهديداً لاستقراره ووحدته!
…التعليق:[ أليست هذه نفس فلسفة ونظرة الديمقراطية عندما تتحدث عن مسوغات وجود الأحزاب المعارضة .. ثم هي معارضة سياسية أيّاً كان نوعها وانتماؤها، وكانت عقيدتها وهويتها، ولو كانت من قبيل معارضة مسيلمة الكذاب لأبي بكر الصديق ( .. فالمعارضة السياسية ساحتها واسعة، وكلمة مطاطة فهي تسع لجميع الأطراف والاتجاهات، والتيارات ..! ].
…لقد أعلن الإخوان المسلمون عشرات المرات خلال السنوات الماضية أنهم يخوضون الحياة السياسية ملتزمين بالوسائل الشرعية والأساليب السلمية وحدها .. مؤمنين بأن ضمير الأمة ووعي أبنائها هما في نهاية الأمر الحكَم العادل بين التيارات الفكرية والسياسية التي تتنافس تنافساً شريفاً في ظل الدستور والقانون ..! (1).
…التعليق:[ الحكَم العادل الذي يحكم على الأفكار والاتجاهات، ــــــــــــــــــــ
(1) إلى هنا انتهى الاقتباس من البيان المذكور.
والسياسات هو الله تعالى وحده، وليس ضمير الأمة ولا وعي أبنائها ..
…قال تعالى: { إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه } ، وقال: { إن الحكم إلا لله عليه توكلت}، وقال: { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} ، وقال: { له الحكم وإليه ترجعون}، وقال: { قل أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً} .
…وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن اللهَ هو الحَكَمُ، وإليه الحُكْمُ "(1). وغيرها كثير من الآيات والنصوص التي تدل على أن الحاكمية لله تعالى وحده، وأن حكمه ( هو العدل المطلق، وما سواه فحكمه الباطل ولو اجتمعت عليه كثرة الجماهير..
…ثم تأمل هذا التحاكم منهم الشريف، والاحترام الرفيع للدستور والقانون الجاهليين، اللذين يعتبران في دين الله تعالى طاغوت يجب الكفر والبراء منه، كما قال تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون} .
…ونحن هنا لم نرد أن نتوسع في الرد على شبهات ومزالق القوم، وإنما هي كلمات وإشارات سريعة على قدر ما يسمح به المقام، أردنا منها بيان كذب القوم ودجلهم على الناس عندما يقولون: نحن إذ نطالب بالديمقراطية فإننا نطالب بالديمقراطية التي لا تتعارض(54/113)
مع تعاليم الإسلام وأحكامه، ولا تخالفه في شيء ..!]. ـــــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن أبي داود:4145.
ونحو ذلك ما ذُكر على لسان المرشد العام للإخوان المسلمين محمد حامد أبو النصر، عندما وُجه إليه السؤال التالي: البعض يتهم الإخوان بأنهم أعداء للديمقراطية، ويعادون التعدد الحزبي، فما هي وجهة نظركم في هذا الاتهام ؟
…جواب: الذي يقول ذلك لا يعرف الإخوان إنما يلقي التهم عليهم من بعيد، نحن مع الديمقراطية بكل أبعادها وبمعناها الكامل والشامل، ولا نعترض على تعدد الأحزاب، فالشعب هو الذي يحكم على الأفكار والأشخاص ..!!(1).
…قلت: معاذ الله أن يكون الشعب هو الذي يحكم على دين الله تعالى وشرعه..!
… { والله يحكم لا معقب لحكمه} الرعد:41. { إن الله يحكم ما يريد} المائدة:1.
…وبعد، أتريد أيها القارئ أكثر دلالة من هذا الكلام، بأن القوم عندما يطالبون بالديمقراطية إنما هم يطالبون بها بمفهومها الشامل والكامل لجميع معانيها، وأبعادها الشركية التي تناقض وتضاد دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده .
…ولولا خشية الإطالة وحدوث السآمة للقارئ لسودنا عشرات الصفحات من أقوال مشايخ الديمقراطية البرلمانيين، التي تدل على أنهم فُتنوا ــــــــــــــــــ
(1) مجلة العالم، برقم 123، 21 حزيران، 1986 م.
بالديمقراطية - بمعانيها وأبعادها الشركية - وأُشربوا حبها، كما فُتن من قبلهم بنو إسرائيل بالعجل وأُشربوا حبه في قلوبهم ..!
…ومنها - أي من الوجوه التي تمنع استخدام الديمقراطية كمصطلح - أن الديمقراطية لها مدلولها ومفهومها الخاص بها في أذهان الناس، وهو المفهوم الشائع الذي بيناه عند الحديث عن مبادئ وأسس الديمقراطية، وهم عندما يسمعون أحداً - أيّاً كانت هويته وكان اتجاهه - يتكلم عن الديمقراطية، ويدعوا إليها، أو يثني عليها خيراً سرعان ما تذهب أذهانهم إلى الديمقراطية السائدة وكما عرّفها لهم أربابها ومؤسسيها، ولا يخطر على بالهم مطلقاً المعاني الخيرة التي يقصدها المتكلم عندما يتحدث عن الديمقراطية، وبخاصة أن هذه الديمقراطية الخيرة التي لا تخالف شرع الله تعالى ليس لها مثال على أرض الواقع، وهي غير موجودة حتى في عالم الخيالات والنظريات ..!
…لذا فإن الذي يستخدم الديمقراطية عند حديثه عن معانٍ خيرة لا تخالف شرع الله تعالى، فإن حديثه مؤداه - وبخاصة إن كان من الخواص - إلى إضلال الناس وفتنتهم وصدهم عن الحق، مهما كان قصده سليماً وشريفاً .. وهذا من الأوجه التي تمنع من استخدام الديمقراطية كمصطلح .
…ومنها، أن الشارع قد نهى عن استخدام بعض الكلمات والمصطلحات حمّالة الأوجه، وإن كان ظاهرها لا يحتمل إلا المعنى الخيّر والصحيح، حتى لا يستغلها أصحاب الأهواء لمآربهم الباطنة الخبيثة، فيطلقونها على شيء ظاهره حق، ويريدون بها شيئاً آخر باطنها الإثم والعدوان .
…مثال ذلك كلمة راعنا حيث كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم" راعنا " على قصد الطلب وسؤال المراعاة، أي التفت إلينا وتولنا، وكانت هذه الكلمة عند اليهود - لعنهم الله - مسبةً وطعناً، حيث تعني عندهم الشرير؛ فكلمة راعي تعني في العبرية لغة اليهود الشرير، وراعينو أي شريرنا، فاغتنموها فرصة للنيل من جناب الرسو صلى الله عليه وسلم ، وقالوا: كنا نسبه سراً فالآن نسبه جهراً، فكانوا يخاطبون بها صلى الله عليه وسلم ويضحكون فيما بينهم، فنهى الله تعالى المؤمنين عن استخدام كلمة " راعنا " حتى لا يستغلها اليهود فيستخدمونها لمقصدهم الفاسد والباطل، وأمرهم أن يستبدلوها بكلمة " انظرنا " حيث لا يمكن استخدامها من قبل أصحاب النفوس المريضة مهما تكلفوا اللي باللسان إلا في الجانب الخيِّر، والمعنى الظاهر الصحيح، كما في قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا} البقرة:104.
…وقال تعالى عن اليهود: { ومن الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مُسْمَعٍ وراعنا ليَّاً بألسنتهم وطعناً في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراً لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً} النساء:46.
وقال تعالى أيضاً عن اليهود حاكياً حالهم كيف يتلاعبون في الألفاظ والمصطلحات، وكيف يصرفونها عن ظاهرها إلى غير مقاصدها الصحيحة المرادة من الشارع، وكيف أنهم يبدلون الكلم عن مواضعه ومراده ابتغاء الفتنة، والطعن في الدين: { وادخلوا الباب سجداً وقولوا حِطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين . فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون} البقرة:58-59.
فقوله تعالى: { وقولوا حطة}، أي قولوا احطط عنا خطايانا، واستغفروا الله، فقالوا بدلاً من ذلك:" حنطة في شعيرة "، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح:" قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستهم، وقالوا: حبة في شعيرة ".
وعن عبد الله بن مسعود: { وقولوا حطة} فقالوا: حنطة، حبة حمراء فيها شعيرة.(54/114)
ونحو ذلك قول صلى الله عليه وسلم :" لا تقولوا الكرم، ولكن قولوا العنب "، وقا صلى الله عليه وسلم :" ولا يقولن أحدكم للعنب الكرم، فإن الكرم الرجل المسلم ". فعلل سبب المنع أن الكرم هو الرجل المسلم، خشية أن يأتي منافق مغرض فيشتم الكرم فيظن الناس أنه يشتم شجرة العنب، وهو في الحقيقة يريد شتم المسلمين، وشتم الإسلام بشتم رجاله .
وقا صلى الله عليه وسلم :" لا يقل أحكم: أطعم ربك، ووضِّئ ربك، واسق ربك، ولا يقل أحد: ربي - أي لمولاه وسيده - وليقل سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل فتاي وفتاتي، وغلامي ".
وقا صلى الله عليه وسلم :" لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر"،
أي أن الدهر مما قدره الله وأراده أن يكون، وبالتالي كان من شتمه كأنما شتم الله الذي قدره وأجراه ..
وكذلك قول صلى الله عليه وسلم :" لا تقولوا للمنافق سيد ..".
شاهدنا من هذه الأحاديث الثابتة الصحيحة أن صلى الله عليه وسلم قد نهى المسلمين عن استخدام كلمات وأسماء حمالة أوجه، قد تُستغل استغلالاً سيئاً من قبل أصحاب النفوس المريضة لمقاصدهم الباطلة، فيطلقونها على شيء ويريدون منها شيئاً آخر لا يرتضيه الشارع، ودرءاً لحصول ذلك استبدلها بكلمات وأسماء لا لبس فيها ولا غموض، لا يمكن استخدامها في المعاني الباطلة، أو استغلالها لمقاصدهم الفاسدة ..
وإذا كان الأمر بهذه الأهمية وهذا الجد مع كلماتٍ كالكرم، وعبدي، وأمتي، وربي وغيرها .. فمن باب أولى أن يأتي النهي عن استخدام كلمات ومصطلحات ظاهرها وباطنها شر محض، تعتبر شارات وعناوين لمذاهب ومناهج كفرية باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، ككلمة الديمقراطية، والاشتراكية، والقومية، والوطنية، والإنسانية وغيرها .. التي باتت تُلاك على ألسنة كثير من المثقفين المعاصرين بصيغة الاستشهاد والمدح، من دون أن يجدوا في أنفسهم مثقال ذرة من حرج، أو يتنبهوا إلى درجة مخالفتها لثوابت هذا الدين !
…ولا يقال في مثل هذه المواضع لا مشحَّة في الاصطلاح، فمثل هذا الإطلاق له موضعه، ويكون عند استخدام المصطلحات الفقهية الشرعية التي لا تحتمل إلا الحق والصواب، أما الكلمات والمصطلحات حمالة الأوجه، أو التي لا تحتمل إلا وجهاً واحداً وهو الخطأ والباطل فالمشحة فيها واردة ومشروعة إن لم تكن واجبة .
…ومنها، أن المسلم متميز - بفكره وسلوكه وثقافته ولغته - عن كل ما يمت إلى الجاهلية بصلة، مستعلٍ عليها بإيمانه وإسلامه، فلا يجوز له وهو كذلك أن يلتجئ إلى رطانة العجم ومصطلحاتهم، ويستخدمها في مواضع الاستحسان والمدح وبخاصة إذا كانت هذه المصطلحات تعتبر شارات لمفاهيم وقيم تتعارض مع ما هو معلوم من ديننا بالضرورة كالديمقراطية وغيرها ..
…وكما أسلفنا من قبل فإن الديمقراطية كلمة يونانية لا أصل لها في اللغة العربية، وهي غريبة المنشأ والمعنى، تُعد من رطانة العجم التي نهينا عن التحدث بها لغير ضرورة ملزمة ..
…فقد صح عن عمر ( أنه قال:" إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم"، وقال ( :" ما تكلم الرجل الفارسية إلا خبَّ - أي صار خداعاً - ولا خب إلا نقصت مروءته ".
…وعن محمد بن سعد بن أبي وقاص، أنه سمع قوماً يتكلمون بالفارسية فقال: ما بال المجوسية بعد الحنيفية (1).
فإذا كان مجرد التكلم بالفارسية - لغير ضرورة - هو من باب ـــــــــــــــــ
(1) انظر هذه الآثار في كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم " لابن تيمية .
إحياء المجوسية بعد ظهور دين التوحيد، فكيف بالذي يستخدم لغة الأعاجم وشاراتهم في مسائل هامة لها مساس في العقيدة والتوحيد والأصول ..!
…ذكر ابن تيمية في " الاقتضاء " حديثاً عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :" من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فإنه يورث النفاق ".
…قلت: ومع ذلك فإننا نجد كثيراً من أبناء المسلمين العرب _ وبخاصة منهم الذين يعيشون في بلاد الغرب - لا يحسنون التكلم بالعربية لكثرة تحدثهم باللغات الأعجمية الأخرى ..وهذا ينعكس على درجة فهمهم لكتاب الله تعالى ودينه، وبالتالي على درجة التزامهم بهذا الدين،فإقصاء المسلمين عن لغة هذا الدين هو إقصاء لهم عن اتباع هذا الدين.
…قال ابن تيمية في الاقتضاء: فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون، ولهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون في الأدعية التي في الصلاة والذكر، أن يُدعى الله أو يذكر بغير العربية .
…وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله .. فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم . واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً، ويؤثر في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة
والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق ا-هـ .(54/115)
…أقول: لأجل هذه الأوجه الآنفة الذكر - وواحد منها يكفي - لا يجوز للمسلم شرعاً أن يستخدم كلمة الديمقراطية في حديثه بصيغة المدح أو الاستشهاد بها على مقصد من مقاصد الدين .. وقول المرء أنه يستخدمها كمصطلح لتعارف الناس على استخدامه، لا يسوغ ولا يبرر له بحال استخدامها للمزالق والمحاذير المتقدمة الذكر، والله تعالى أعلم .
_ الكلمة العربية المرادفة لكلمة الديمقراطية .
…لو أردنا أن نبحث في طيات القواميس والمعاجم العربية عن الكلمة العربية المرادفة التي تعطي المعنى الحقيقي لمضمون كلمة الديمقراطية لوجدناها لا تعدو أن تكون كلمة الإباحية بكل ما تعني الإباحية من معنى ومفهوم(1) .
…حيث أن الإباحية تقوم على أساس إباحة المحظورات التي حظرها الشارع على العباد؛ كإباحة العري والزنا، واللواطة، وشرب الخمر، ونكاح المحارم، وإباحة الارتداد عن الدين، والحكم بغير ما أنزل الله، وكل ما هو محظور في الدين، ولا يمتنعون عن شيء إلا ما حرمته عليهم أهواؤهم، ووافقت على تحريمه أو منعه طواغيتهم المتنفذون !
…وكذلك الديمقراطية - فهي لا تختلف عن الإباحية في شيء مما تقدم - تقوم على أساس إباحة كل ما هو محظور على الفرد باسم الحرية الشخصية، ولا اعتبار لدين أو خلق أو أي شيء يحجم من الحريات الشخصية، فالفرد في ظل الديمقراطية يعتقد ما يشاء، ويفعل ما يشاء، ويقول ما يشاء، ويحكم بما يشاء .. ولا يوجد في نظر الديمقراطية شيء ــــــــــــــــــــ
(1) المباح خلاف المحظور، وأبحتك الشيء أي أحللته لك، والإباحة من إباحة المحظورات .وفي التاريخ الإسلامي عُرفت فرق بالإباحية؛ حيث أباحوا لأنفسهم ولأتباعهم المحظورات والفواحش، وأسقطوا عن أنفسهم الواجبات الشرعية كالصلاة والصوم والحج وغير ذلك، كفرقة القرامطة، وفرق الباطنية الغلاة الأخرى وغيرهم، وعلى إثرهم وخطاهم يسير الديمقراطيون في زماننا الحاضر ..!
اسمه لا يجوز أو غير مباح، أو حرام، أو ممنوع إلا ما اجتمعت على منعه وتحريمه قوانينهم الوضعية التي شرعها لهم طواغيتهم ..
…فالحظر والإباحة خاضعان عند الإباحيين والديمقراطيين سواء إلى الأهواء، والنزوات، والشهوات بعيداً كل البعد عن هدي السماء ..
…وعليه فإننا نقول: الديمقراطية هي الإباحية بعينها، والإباحية هي الديمقراطية، والديمقراطيون هم الإباحيون، والعكس كذلك فلا فرق(1).
ومن رأيتموه يتغنى بالديمقراطية ويدعو إليها فارموه بالإباحية، وأسيئوا الظن به مهما رأيتموه يتزي بزي الإسلام أو يتظاهر به ..
وبعد، فما أشد ظلم أولئك الظالمين الذين يُلبسون - زوراً وبهتاناً، ورغبة أو رهبة - الديمقراطية ثوب الشورى والإسلام ..!
…أو يقولون: الديمقراطية هي الشورى أو الإسلام.. { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} الكهف:5 .
ــــــــــــــــــ
(2) قولنا أن الديمقراطية تعني الإباحية،لا تعارض بينه وبين القول بأن الديمقراطية تعني حكم الشعب؛ لأن حكم الشعب ذاته هو اعتداء على حكم الله، وإباحة الحكم بغير ما أنزل الله، ومن يبح الحكم بغير ما أنزل الله يستلزم منه أن يبيح ما حرم الله ..
لكن القول بأن الديمقراطية تعني في العربية الإباحية نراه أقرب إلى الإنصاف والدقة والصواب من القول بأنها تعني حكم الشعب، وإن كان كلا القولين قائمين على إباحة المحظورات التي حرمها الله تعالى .
_ حكم الشعب ليس حكم الله وإن حكم بالإسلام .
…يعتبر بعض المفتونين بالديمقراطية والمروجين لها أن إنفاذ بعض القوانين التي توافق الإسلام من خلال العملية الديمقراطية التي تلزم بالتحاكم إلى إرادة الشعب، هو فتح من الفتوحات، ونصر ما بعده نصر، لا يمكن تحقيقه عن غير طريق الديمقراطية .. ونراهم يتماجدون بهذا الإنجاز كلما أرادوا أن يتكلموا عن مبررات ومسوغات ولوجهم نفق الديمقراطية والعمل النيابي المظلم !!
…ولهؤلاء وغيرهم نقول: إن الحكم بما أنزل الله نزولاً عند إرادة الشعب ورغبته لا يجوز أن يسمى أو يوصف بأنه حكم بما أنزل الله، وذلك من أوجه:
…منها، أن هذه الأحكام إنما طُبقت نزولاً عند رغبة الأكثرية، ولأنها تمثل إرادة الشعب واختياره، وليس انصياعاً ونزولاً عند إرادة الله تعالى وحكمه تعبداً له سبحانه وتعالى، وطاعة وانقياداً لأمره لكونه صادر عنه سبحانه وتعالى، بدليل لو أن الشعب أو الأكثرية قالت في مرحلة من المراحل: لا لهذا الحكم والقوانين، نعم لغيرها من القوانين، لوجب - على الراضين والسائرين في العملية الديمقراطية - تغييره واستبداله بتلك القوانين أو الحكم .. فهو في حقيقته حكم الهوى وليس حكم الشرع، وحكم المخلوق وليس حكم الخالق سبحانه وتعالى .
…ولو تأملنا حال أكثر الدول الغربية الصليبية لوجدنا عدداً لا بأس به من أحكامها وقوانينها توافق أحكام الإسلام، أو بالأحرى لا تتعارض مع أحكام الإسلام، فهل لأجل ذلك نستطيع أن نقول أن هذه الدول الصليبية تحكم بما أنزل الله في هذه الأحكام أو القوانين ..؟!(54/116)
…الجواب: لا، لأنها هي إذ تنفذ هذه الأحكام والقوانين فهي تنفذها طاعة وانصياعاً لحكم الأكثرية، وما ترتئيه عقولهم وأهواؤهم، وليس طاعة وانقياداً لحكم الله وأمره ..
…ومنها، أن التحاكم إلى الشعب أو إلى الأكثرية من دون الله تعالى، هو ضرب من ضروب الشرك الأكبر، لتضمنه إشراك إرادة الأكثرية أو المخلوق مع الله الخالق ( في الحكم، كما قال تعالى: { ولا يُشرك في حكمه أحداً} الكهف:26. وقال تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} الشورى:21. وحكم يوسم بالشرك أنَّى له أن يسمى حكماً إسلامياً يرتضيه الشارع( .
…ومن جهة فإن الله تعالى قد نفى الإيمان عمن يأبى التحاكم إلى شرعه، وعمن يتحاكم إلى شرعه لكن يجد في نفسه الحرج والضيق من جراء التحاكم إلى شرعه ( كما قال تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} النساء:65.
…قال ابن القيم رحمه الله: أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتنفسح له كل الإنفساح وتقبله كل القبول،ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض (1).
…ولا شك أن الذي يرتضي حكم الشعب أو الأكثرية من دون الله تعالى، ويدور مع حكم الأكثرية حيثما دارت، ويقف معها حيثما تقف، أولى بانتفاء الإيمان عنه والوقوع في الكفر، فضلاً عن أن يوصف دورانه وروغانه هذا أصاب حكم الله، أو أنه حكم بشرع الله تعالى .
…ومنها، أن التحاكم في نظر الإسلام عبادة من المتحاكم إلى المتحاكَم إليه، فمن تحاكم في جميع شؤون حياته الدينية والدنيوية إلى الله ( فهو عبد لله تعالى، ومن تحاكم إلى غيره - في قليل أو كثير - وارتضاه حاكماً من دون الله أو مع الله، فهو عبد لهذا الغير وإن تسمى بأسماء المسلمين، وزعم أنه من المؤمنين .
…كما قال تعالى: { ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً} النساء:60 .
ــــــــــــــــــــ
(1) التبيان في أقسام القرآن:270 .
…قال الشوكاني في التفسير1/482: فيه تعجيب لرسول ا صلى الله عليه وسلم من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل الله على رسول الله، وهو القرآن، وما أنزل على مَن قبله من الأنبياء فجاؤوا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلاً، وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت، وقد أُمروا فيما أنزل على رسول الله وعلى من قبله أن يكفروا به ا-هـ .
…قلت: ولا ينتفي الإيمان إلا لنوع عبادة تصرف للمخلوق، وعبادة المخلوق هنا تكمن في إرادة التحاكم إلى الطاغوت؛ وكل ما سوى شرع الله وحكمه فهو طاغوت .
…ومما يؤكد على دخول التحاكم في معنى العبادة، قوله تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} التوبة:31.
…قال البغوي في التفسير 3/285: فإن قيل إنهم لم يعبدوا الأحبار والرهبان - بمعنى الركوع والسجود - قلنا: معناه أنهم أطاعوهم في معصية الله واستحلوا ما أحلوا، وحرموا ما حرموا، فاتخذوهم كالأرباب .
…وعن عدي بن حاتم ( قال: أتيت رسول ا صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي:" يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك "، فطرحته فلما انتهيت إليه وهو يقرأ: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} ، حتى فرغ منها قلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال:" أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه"، قال: قلت بلى،
قال:" فتلك عبادتهم ". ا-هـ .
…فتأمل كيف فسر صلى الله عليه وسلم تحاكمهم إلى الأحبار والرهبان من دون الله، وطاعتهم لهم في تشريعاتهم التي تتضمن تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، أنه عبادة من المتحاكم إلى المتحاكَم إليهم وهم هنا الأحبار والرهبان .
…أما الأحبار والرهبان في مسألتنا، الذين يُعبدون من دون الله يتمثلون في أعضاء مجالس النواب أو الشعب الذين يتصدرون مهمة التشريع، والتحليل والتحريم بغير سلطان من الله تعالى، ويُتابعون على ذلك من الناس من دون أي إنكار ..!
…وكذلك قوله تعالى: { إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يوسف:40 . أي أمر ألا تعبدوا إلا إياه في التحاكم، هذا ما يقتضيه سياق النص، فكما أنه لا معبود بحق سواه ( كذلك لا حاكم بحق سواه، فله وحده ( الخلق والأمر، لذلك فهو وحده المستحق للعبادة دون أحد سواه .(54/117)
…قال سيد - رحمه الله - في الظلال 4/1990 :إنّ الحكم لا يكون إلا لله، فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته، إذ الحاكمية من خصائص الألوهية، من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته؛ سواء ادعى هذا الحق فرد أو طبقة، أو حزب، أو هيئة، أو أمة، أو الناس جميعاً في صورة منظمة عالمية . ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفراً بواحاً يصبح به كفره
من المعلوم من الدين بالضرورة، حتى بحكم هذا النص وحده .
…وقال:حين نفهم معنى العبادة على هذا النحو - وهو الدينونة لله وحده والخضوع له وحده، واتباع أمره وحده - نفهم لماذا جعل يوسفعليه السلام اختصاص الله بالعبادة تعليلاً لاختصاصه بالحكم، فالعبادة - أي الدينونة - لا تقوم إذا كان الحكم لغيره ا-هـ .
…وما يوضح كذلك دخول التحاكم في معنى العبادة، تفسير أهل العلم لمعنى العبادة، حيث قالوا: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .. ولا شك أن مما يحبه الله تعالى تحاكم العباد إليه ظاهراً وباطناً دون أحدٍ سواه .
…وشاهدنا من هذا التقديم الضروري أن يدرك القارئ أن التحاكم عبادة، وأن العبادة لا يجوز أن تُعطى لغير الله تعالى، والعبادة حتى تقبل لا بد أن يتوفر فيها شرطان: أولهما، الموافقة والمتابعة لهدي الكتاب والسنة . والثاني: إخلاص العبادة لله تعالى، وتجريدها من أدنى درجات الشرك والرياء .
…كما قال تعالى: { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} الكهف:110. وقال تعالى: { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} الملك:2.
…قال ابن تيمية رحمه الله: وهو كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون
على السنة ا-هـ .
…وعليه فإننا نقول: من حكم بما أنزل الله طاعة لله تعالى وامتثالاً لأوامره، ونزولاً عند إرادته ( - وليس نزولاً عند إرادة الشعب أو الأكثرية أو أي سلطة غيرها - طالباً بذلك مرضاته ( ، فهو وحده الذي يوصف بأنه حكم بما أنزل الله، ومتى كان الأمر على غير هذا النحو والوصف لا يصح ولا يجوز أن يُسمى النظام أو الحكم نظاماً أو حكماً إسلامياً، كما لا يجوز أن يُسمى الحاكم بذلك الحكم بأنه حكم بما أنزل الله .
…يقول سيد قطب رحمه الله: هذه الحتمية، حتمية التلازم بين دين الله والحكم بما أنزل الله، لا تنشأ فحسب من أن ما أنزل الله خير مما يضع البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع وأنظمة وأوضاع، فهذا سبب واحد من أسباب هذه الحتمية، وليس هو السبب الأول ولا الرئيسي، إنما السبب الأول والرئيسي والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل الله إقرار بألوهية الله، ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمن عداه ..
…وهذا هو الإسلام بمعناه اللغوي الاستسلام وبمعناه الاصطلاحي هي كما جاءت به الأديان: الإسلام لله، والتجرد عن ادعاء الألوهية معه، وادعاء أخص خصائص الألوهية، وهي السلطان والحاكمية، وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون .
…ولا يكفي إذن أن يتخذ البشر لأنفسهم شرائع تشابه شريعة الله،
أو حتى شريعة الله نفسها بنصها، إذا هم نسبوها لأنفسهم، ووضعوا عليها شاراتهم ولم يردوها لله، ولم يطبقوها باسم الله، إذعاناً لسلطانه واعترافاً بألوهيته، وبتفرده بهذه الألوهية، التفرد الذي يحرر العبد من حق السلطان والحاكمية إلا تطبيقاً لشريعة الله وتقريراً لسلطانه في الأرض (1) .
ــــــــــــــــــ
(1) طريق الدعوة في ظلال القرآن:2/188-189 .
…_ الأمة تُزاول السلطة بإذن الله، وليست هي مصدر السلطة .
…يوجد فرق بين مزاولة الأمة لسلطة الحكم بما أنزل الله، وبين أن تكون هي مصدر الحكم والتشريع كما هو الحال في النظم الديمقراطية .
…فالأول حق من حقوق الأمة، والثاني شرك وكفر لا ينبغي لمخلوق أن يتجاسر عليه - أيّاً كان موضعه وكانت رتبته - أو أن ينسب نفسه إليه إلا في حال آثر الكفر على الإيمان، وليس فوق الكفر ذنب ..
…فالأمة من حقها أن تختار من يحكمها بشرع الله تعالى، ويسوس أمرها ودنياها بالدين، ممن ترى فيه الصلاح والكفاءة لهذا المنصب من المؤمنين الموحدين .
…كما من حقها - ممثلة في علمائها والصفوة الأخيار - أن تراقب السلطان المسلم، وأن تحاسبه - وفق ضوابط وآداب الشرع - على أي تقصير يبدر منه، وأن تقومه في حال انحرافه وخروجه عن جادة العدل والصواب ..
…ومن حقها كذلك أن تعزله ولو بالقوة في حال طرأ عليه الكفر البواح، وأن تختار غيره - عن طريق الشورى - من المسلمين ممن يستقيم به أمر الدنيا والدين ..(54/118)
…ولها كامل الحق في أن تقول للظلم لا، وللظالم ألف لا، ولو كان خليفة عامّاً للمسلمين، فليس لمخلوق على الأمة حق الطاعة لذاته، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنه لا عصمة لأحد بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ، وبالتالي ليست لمخلوق - مهما على قدره - القدسية التي تجعله في مرتبة فوق المساءلة، فالذي لا يُسأل عما يفعل هو الله تعالى وحده، وهذا ليس لأحدٍ سواه .
…يكفينا في ذلك قول نبينا صلى الله عليه وسلم:" إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه "(1).
…وقول صلى الله عليه وسلم :" طاعة الإمام حق على المرء المسلم، مالم يأمر بمعصية الله ( ، فإذا أمر بمعصية الله فلا طاعة له "(2).
وقول صلى الله عليه وسلم :" إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا بيده، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه "(3).
…وقول صلى الله عليه وسلم :" من أمركم من الولاة بمعصية فلا تطيعوه "(4). وغيرها كثير من النصوص التي تدل على أن أمة الإسلام لا تعرف السلبية، ولا الخور والجبن - الموجود عند بقية الأمم والشعوب - في التعامل مع الظلم والظالمين وبخاصة إن جاء من جهة السلاطين، وصفحات التاريخ الإسلامي مليئة بالبراهين الساطعة الدالة على ذلك (5).
ــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع:1974. (2) السلسلة الصحيحة:752.
(3) أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي وغيرهم، الصحيحة:1564.
(4) أخرجه أحمد، وابن ماجة، وابن حبان ، الصحيحة:2324.
(5) يكفي للإنسان الأوربي - الذي يزعم لنفسه الحرية والعزة وعدم الخوف من السلاطين _ لتنفيذ قوانين وأوامر الحكام - وإن كان فيها هلاكه ومص دمه وثمرة جهده - أن يقال له: هذا الأمر قانوني، أو فيه قانون ..تراه مباشرة وبسلبية =
ولكن ليس للأمة الحق في أن تتجاوز قدرها ووظائفها، فتزعم لنفسها خاصية سلطة الحكم والتشريع، أو حق الاختيار لما تشاء من المناهج والشرائع، أو حق اختيار من تشاء من الرجال بغض النظر عن دينهم وانتماءاتهم، فهذا ليس من حقها، ولا يجوز لها أن تستشرفه أو تدعيه لنفسها .
…فالأمة حينما تختار من يحكمها، يكون اختيارها بين مؤمن ومؤمن، وصالح وصالح لتختار أكثرهما صلاحاً وإيماناً، وليس بين كافر ومؤمن، أو كافر وكافر لتختار بعد ذلك من تشاء منهما كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية، فهذا لا يجوز إقراره لمخالفته الظاهرة لنصوص الشرع .
فاجتماع الأمة - على افتراض تحققه، لأن أمة الإسلام لا تجتمع على ضلالة - على اختيار الباطل، فإنه لا يحيل هذا الباطل حقاً، ولا يعطيه حتى الشرعية في الوجود فضلاً عن أن يحكم البلاد والعباد ..!
وهذا المعنى قد أشار إليه سيد رحمه الله بقوله: والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله، ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته، ـــــــــــــــ
= عجيبة يستسلم للأمر الواقع كالعبد الذليل الجبان بين يدي جلاديه وأسياده ، ولا غرابة من ذلك فهو ورث هذا الخوف والجبن من طغيان القانون عن آبائه وأجداده الذين عاشوا سطوة وبطش القياصرة، إضافة إلى ما عانوه من ظلم أحبار ورهبان الكنائس ..!
إنما مصدر الحاكمية هو الله .وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة وبين مصدر السلطة، فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه الله وحده، والناس إنما يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه، أما مالم يشرعه الله فلا سلطان له ولا شرعية، وما أنزل الله به من سلطان(1).
وقولنا أن الأمة ليست هي مصدر سلطة التشريع، هذا لا يمنع من أن تسن لنفسها القوانين - فيما لا يتعارض مع شرع الله - ذات العلاقة بشؤون حياتها الإدارية والتنظيمية، مما لم يرد فيها نص من قِبل الشارع .
يقول الشنقيطي في أضواء البيان 4/84: اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السماوات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك . وإيضاح ذلك أن النظام قسمان: إداري، وشرعي . أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه، ولا مخالف فيه من الصحابة، فمن بعدهم . وقد عمل عمر ( من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن صلى الله عليه وسلم ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط، ومعرفة من غاب ومن حضر، وكاشترائه - أعني عمر ( - دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجناً في مكة المكرمة، مع أن صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجناً هو ولا أبو بكر .
فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا ـــــــــــــــ
(1) في ظلال القرآن:4/1990 .
يخالف الشرع لا بأس به، كتنظيم شؤون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال
على وجه لا يخالف الشرع، فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة . ا-هـ .
وأي قانون من هذا القبيل يجب أن تتوفر فيه الشروط التالية:
1- أن لا يكون فيما قد نصت عليه الشريعة؛ لأنه لا اجتهاد مع النص .(54/119)
2- أن لا يأتي هذا القانون معارضاً لشيءٍ من نصوص الشريعة .
3- أن يكون هذا القانون منسجماً مع تعاليم وروح الإسلام؛ فلا يُعقل مثلاً أن يُشرع قانون ينص على دوام الطلاب للدراسة وقت صلاة الجمعة ..!
…4- درءاً للوقوع في المحظور ومخالفة نصوص الشريعة، فإن الذي يقوم بإصدار هذه القوانين هم علماء الشريعة الربانيين ممن لهم دراية بالواقع، وليس من لا علم لهم بالشريعة ولا بنصوصه ممن يختارهم رعاع الناس وعوامهم كما هو حاصل في الديمقراطيات المعاصرة !
…فإن تعثر ذلك فإنه لا مانع من تشكيل لجنة رقابة من هؤلاء العلماء تُعرض عليهم القوانين الصادرة عن الجهات المختصة، ليقوموا بفحصها ودراستها من حيث مخالفتها أو موافقتها لنصوص وروح الشريعة، فترد القوانين المخالفة، وتُقر القوانين الموافقة .
…_ لماذا الديمقراطية تسير بصورة مقبولة في بلاد الغرب ؟!
…قد يسأل سائل إذا كانت الديمقراطية لا تصلح وهي فكرة باطلة، فعلام تسير بصورة مقبولة في بلاد الغرب من دون مشاكل أو اضطرابات ..؟!
…والجواب على هذا السؤال من أوجه:
…أولاً: المجتمعات الغربية الأوربية منسجمة فيما بينها ثقافياً وفكرياً؛ فهي من حيث الانتماء الطائفي الديني نصرانية الانتماء، ومن حيث صفة النظام السياسي الحاكم فيها هو علماني التوجه والمنبت.. والشعوب الغربية شبه مجمعة على هذين الأصلين أو الرابطين لوحدتها الاجتماعية، وهم - بجميع أحزابهم وأطرافهم - يمارسون الديمقراطية ويتكيفون معها على هذا الأساس من الانتماء والتوجه .
…لذا فإن أي خلل يصيب هذين الأصلين أو أحدهما فإنها تحدث مشكلة تستعصي على الديمقراطية الغربية حلها، كما هو حاصل في ايرلندا بسبب غياب الانسجام الطائفي بين الكاثوليك والبروتستانت فإن الديمقراطية هناك فاشلة في تحقيق الانسجام أو التعايش السلمي بين الناس .
…وكذلك لو وُجدت أي طائفة أخرى تنافس الطائفة النصرانية من حيث الكم والعدد فإن الديمقراطية الغربية تتحول إلى واحة من الصراعات الدموية، كما حصل مع المسلمين في البوسنة والهرسك، وفي كوسوفو، وفي لبنان من قبل، وغيرها من البلدان ..!
…ثانياً: النصرانية - متمثلة في الكنيسة - باتت مقتنعة مؤخراً بأنها لا علاقة لها بشؤون الحكم والسياسة ونظام الحياة، وبالتالي لا توجد أي مشكلة بينها وبين الأنظمة السياسية المتتالية والمتنوعة الحاكمة التي تقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة وشؤون الحياة .. وهذا لا يجوز أن يُحمل على الإسلام .
…ثالثاً: الشعوب الغربية قد كفرت بألوهية وحاكمية الله ( وآمنت بألوهية وحاكمية الشعب والمخلوق، فالتقت بذلك مع الديمقراطية، ووجدت فيها الوسيلة المناسبة لحل مشاكلها، وتنفيذ طموحاتها ومخططاتها ..
…ومن حقهم - ما داموا كذلك - أن يرفضوا ألوهية حزب أو حاكم واحد ينفرد بالسلطة وشؤون الحكم لنفسه ولحزبه فقط ..
…فعلام لا يكون كل واحد منهم إله، عابد ومعبود في آنٍ واحد، إذا كان يملك ذات الخصائص التي يملكها أو يدعيها ذلك الحزب أو الحاكم لنفسه، لذلك لا ضير عندهم - وفي ديمقراطيتهم - أن يدعي كل شخص أو حزب حق الألوهية والحاكمية والتشريع لنفسه كما يدعيه الآخرون لأنفسهم .. وهكذا فهم راضون بكفرهم وشركهم، وليس فوق الكفر الذنب، وهذا لا يجوز في أي حال من الأحوال أن يُحمل على الإسلام والمسلمين، إلا في حال آثروا الكفر على الإيمان ..
…لذا فإننا نقول: إذا كانت الديمقراطية وجدت لنفسها بيئة تلائمها وتناسبها نسبياً في بلاد الغرب، فإنها لا مكان لها أبداً بين المسلمين وفي بلادهم ..
_ موقف الإسلام من الأحزاب .
…من أسس ومبادئ النظام الديمقراطي الحر - كما أسلفنا - حرية تعدد الأحزاب السياسية وغيرها من التجمعات في المجتمع الواحد، بغض النظر عن عقيدة ومبادئ ومناهج هذه الأحزاب والتجمعات !
…ولمعرفة موقف الإسلام - على وجه الدقة والتفصيل - من الأحزاب السياسية وغيرها، ومن التعددية الحزبية وحرية تشكيلها، لا بد لنا عند البحث في المسألة من أن نفرق بين الأحزاب العلمانية الكافرة التي تقوم على أساس فصل الدين عن الدولة، وغير ذلك من الشعارات واللافتات الباطلة التي تصب في معاداة الإسلام والمسلمين، وبين الأحزاب الإسلامية التي تقوم على أساس عقيدة الإسلام والعمل لها .
…كما يجب أن نفرق بين النظام الذي تقوم في ظله هذه الأحزاب الإسلامية، هل هو نظام جاهلي علماني معادٍ للدين، أم أنه نظام إسلامي يحكم بالشريعة الإسلامية في جميع شؤون ومناحي الحياة ؟
…هذا التفريق ضروري جداً لمن يريد أن يتحرى الصواب والدقة في معرفة موقف الإسلام من الأحزاب وحرية تعددها أو تشكيلها .
…وأكثر الباحثين الذين تكلموا في المسألة من منظور شرعي، نجدهم - بسبب عدم مراعاتهم لهذا التفريق والتفصيل - قد أخطأوا وضلوا الصواب؛ حيث فريق منهم جافى الحق وجنح للتفريط وكانت دعواه أقرب إلى السلبية، وفريق آخر غالى في الحق وجنح للإفراط وكانت دعواه أقرب إلى الإباحية، فزادوا القارئ حيرة واضطراباً،
وضياعا ..!(54/120)
…وفي بحثنا هذا نبدأ أولاً في بيان موقف الإسلام من الأحزاب العلمانية وغيرها من الأحزاب الكافرة .
…ثم ثانياً في بيان موقف الإسلام من تعددية الأحزاب الإسلامية، ويتفرع عنه موضوعان :
…أ- العمل الحزبي الجماعي في ظل دولة الإسلام .
…ب- العمل الحزبي الجماعي في ظل دولة علمانية لا تحكم بما أنزل الله .
…أولاً: موقف الإسلام من الأحزاب العلمانية(1)، وغيرها من الأحزاب الكافرة .
ـــــــــــــــــــ
(1) العلمانية: تعني اللادينية، وهي تقوم على أساس فصل الدين عن الدولة وجميع مناحي الحياة،كما أنها تُغيِّب عقد الولاء بين أفراد المجتمع على أساس الانتماء الديني العقدي، وتستبدله بولاءات وروابط أخرى غير الدين، كالوطن، أو القومية، أو الإنسانية، أو الجنس والعرق وغير ذلك من الوشائج والروابط الجاهلية الوثنية التي يُعقد عليها وفيها الولاء والبراء .
وبالتالي فإن كل حزب يقوم على أساس هذه الأفكار فهو حزب علماني، وإن لم يرض لنفسه وصف العلمنة، وكلما كان من برامج الحزب التفلت أو التحرر من قيود الدين وأحكامه، كلما كان أقرب إلى العلمنة والعلمانية . وجميع الأحزاب العلمانية - مهما تباينت وتعددت أسماؤها وبرامجها - فإنها تشترك في هذا الوصف، وهو: فصل الدين عن الحياة، ورفض تحكيم الدين في شؤون ومناحي الحياة .
دلت نصوص الشريعة دلالة قطعية على عدم جواز الإقرار أو الاعتراف بشرعية الأحزاب العلمانية - المنكر الأكبر - وغيرها من الأحزاب الكافرة الباطلة، أو الاعتراف بحقها في الوجود أو الحكم لو اختارتها الأكثرية من الناس، تحت أي ظرف من الظروف، أو ذريعة من الذرائع، فاختيار الأكثرية _ بل والشعوب بأكملها _ للباطل لا يمكن أن تحيل هذا الباطل حقاً، أو تعطيه الشرعية في أن يحكم البلاد والعباد، وذلك لأوجه:
…منها، تبني المسلمين للعلمانية وغيرها من المذاهب الكفرية، يعني وقوعهم في الكفر والردة، والمرتد حكمه في دين الله تعالى أن يستتاب، فإن أبى وكابر يُقتل حداً وكفراً، لا أن يُعطى الحرية في أن ينشط لباطله وكفره، فضلاً عن أن يُعترف له بحقه في أن يحكم البلاد والعباد لو اختارته الأكثرية ..!
فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من بدل دينه فاقتلوه "، وعليه انعقد إجماع وعمل الصحابة رضوان الله تعالى عنهم .
…ومنها، أن هذه الأحزاب الباطلة منكر أكبر، وكفر أكبر، والأصل معها - كما تضافرت على ذلك النصوص - إنكارها، ومحاربتها وإزالتها ، وليس الاعتراف بشرعيتها وحقها في الحركة والوجود، أو أن تحكم البلاد لو شاءت الأكثرية لها أن تحكم ..!
…قال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} الأنفال:39.
…فأمر سبحانه بقتالهم وصدهم عن كفرهم وغيهم - وليس منحهم الحريات والامتيازات - حتى ينصاعوا لطاعته وحكمه، وحتى لا تكون السيادة والكلمة للشرك وأهله، فتتحقق الفتن والمصائب من جراء ذلك فتهلك البلاد والعباد .
…وقال تعالى في صفات المؤمنين الموحدين: { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} الحج:41.
…في هذه الآية رد على أولئك الذين آثروا السير في طريق الديمقراطية، الذين يعطون العهود والمواثيق - وهذا ما تلزمهم به العملية الديمقراطية - لفرق الباطل من العلمانيين وغيرهم من الزنادقة بأن تكون لهم كامل الحرية في أن ينشطوا لأحزابهم وأفكارهم الهدامة بين الناس والعباد، لو قُدر لهم أن حكموا البلاد ومُكنوا في الأرض ..!
…قال تعالى: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} آل عمران:104.
…وقال تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} آل عمران:110.
…فخيرية هذه الأمة مشروط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومتى تتخلى الأمة عن هذه المهمة العظيمة فإنها تفقد مبررات وجودها، وصفة الخيرية من بين الأمم ..
…فهم خير أمة لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وليس
لأنهم يأمرون بالمنكر - كما هو حال الديمقراطيين البرلمانيين من الإسلاميين - ويعترفون بشرعيته وحريته طواعية من غير إكراه ..!
…وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم - كما في مسلم - أنه قال:" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ".
…هذا هو الأصل الذين يحدد مبدأ التعامل مع المنكر أي منكر كان، وبخاصة إن كان هذا المنكر يرقى إلى درجة الكفر البواح ..
…وقا صلى الله عليه وسلم :" والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر وليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه فتدعونه فلا يستجيب لكم "(1).
…وقا صلى الله عليه وسلم :"إن الناس إذا رأوا المنكر،ولا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه"(2).
…وفي صحيح البخاري وغيره، قال أبو بكر ( في مانعي الزكاة:" والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها ".(54/121)
…قال ابن تيمية رحمه الله: فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أنه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشهادتين ..
فكل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة ـــــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن الترمذي:1762. (2) رواه أحمد وغيره، صحيح الجامع :1974.
يجب جهادها، حتى يكون الدين كله لله، باتفاق العلماء (1) ا-هـ .
…قلت: إذا كان اتفاق العلماء وإجماع الأمة على وجوب قتال الطائفة التي تمتنع عن التزام أمر واحدٍ معلوم من الدين بالضرورة، فما يكون الموقف من هذه الطائفة لو أظهرت الكفر البواح بدين الله، ونادت به على الملأ، وأعلنت كفرها للعباد ودعتهم إليه من دون حياء، وطالبت الأمة بضرورة نبذ حكم الله، وبالتحاكم إلى شرائع الطاغوت وقوانينه، كما هو شأن الأحزاب العلمانية الكافرة اليوم وغيرها ..
…لا شك أن الموقف منها لا يختلف عن موقف أبي بكر الصديق ( من مسيلمة الكذاب وحزبه، لا يشك في ذلك مسلم عرف الإسلام وحقيقة هذه الأحزاب العلمانية، وما تنطوي عليه من كفر ومروق .
…وفي الحديث فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا تقولوا للمنافق: سيد، فإنه إن يكُ سيدكم فقد أسخطتم ربكم ( "(2).
…من جملة ما يفيد الحديث أن المسلمين لا ينبغي لهم أن يسمحوا للمنافق - والكافر المرتد من باب أولى - أن يكون سيداً حاكماً عليهم، مطاعاً في أمره ونهيه، وكلمته نافذة بين المسلمين، بل يجب عليهم أن يمنعوه من الوصول إلى موقف السيادة والرياسة بكل ما يملكون من وسائل، حتى لا يضطر الناس إلى التعامل معه كسيد وإلى مخاطبته بعبارات السيادة والتبجيل والتفخيم، فإن حصل منهم التقصير في منع المنافق ـــــــــــــــــ
(1) الفتاوى:28/308-357. (2) صحيح الأدب المفرد:584 .
من أن يكون سيداً فهم آثمون معرضون لسخط الرب ( (1).
…والحديث من جملة الأدلة التي تفيد وجوب الخروج بالقوة على الحكام الكافرين من الزنادقة والمرتدين، واستبدالهم بحكام مسلمين موحدين يحكمون الأمة بالكتاب والسنة.
…ومنها، أن الاعتراف - طوعاً من غير إكراه - بشرعية هذه الأحزاب الكافرة، وأن لها الحق في أن تحكم البلاد والعباد لو اختارها أكثر الناس، هو دليل صريح على الرضى بالكفر بأن يحكم ويسود، والرضى بالكفر كفر .
…واشتراطهم لهذه الأحزاب بأن يختارها أكثر الناس .. لا يمنع عنهم وصف الرضى بالكفر، كما لا يمنع عنهم الأحكام التي تترتب على الرضى بالكفر، والاعتراف بمبادئ وقواعد الكفر .
…قال تعالى: { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفَرُ بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيرِه إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً} النساء:140.
فهم مثلهم في الوزر - وإن لم يستهزئوا مثلهم - لأن مجرد ــــــــــــــــ
(1) تأمل الكم الهائل من الزنادقة والمنافقين، وغيرهم من المرتدين الذين يعاملهم المسلمون في واقع حياتهم على أنهم أسياد وزعماء وقادة، وأشراف وغير ذلك من عبارات التفخيم والتبجيل، فأنزلوهم منزلة غير المنزلة التي أرادها الله لهم.. فإذا عرفت ذلك فلا تعجب، ولا تسأل عن سخط الله ( إذا ما نزل بالعباد والبلاد!
جلوسهم مع الكفار المستهزئين طواعية من غير إكراه أو إنكار هو إمارة صريحة على الرضى بفعلهم وكفرهم، فيطالهم بذلك حكم المستهزئين بدين الله تعالى، وهو الكفر البواح .
…قال الشيخ سليمان حفيد الشيخ المجاهد محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله: إن معنى الآية على ظاهرها، وهو أن الرجل إذا سمع آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فجلس عند الكافرين المستهزئين من غير إكراه ولا إنكار ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره فهو كافر مثلهم، وإن لم يفعل فعلهم لأن ذلك يتضمن الرضى بالكفر، والرضى بالكفر كفر .
…وبهذه الآية ونحوها استدل العلماء على أن الراضي بالذنب كفاعله، فإن ادعى أنه يكره ذلك بقلبه لم يُقبل منه، لأن الحكم على الظاهر وهو قد أظهر الكفر فيكون كافراً(1) ا-هـ .
…وقال القرطبي في التفسير 4/330: {إنكم إذاً مثلهم}، مَن لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضى بالكفر كفر، فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية ا-هـ .
…قلت: اعترافهم لفظاً وحالاً للأحزاب العلمانية الكافرة، وغيرها من فرق الزندقة والإلحاد بحقها في الوجود والحكم والسيادة، وأن تنشر ـــــــــــــــ
(1) مجموعة التوحيد:48.
باطلها وكفرها بين الناس .. لهو أشد دلالة على الرضى بالكفر من مجرد الجلوس في مجالس الكفر والاستهزاء (1).(54/122)
…وما يدل كذلك على صحة هذه القاعدة - الرضى بالكفر كفر - قول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم:" ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تتخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ".
…قلت: ليس وراء إنكار القلب مثقال حبة خردل من إيمان، لأن ليس وراء إنكار القلب إلا الإقرار والرضى، لذا ينعدم مطلق الإيمان، وإذا انعدم الإيمان من القلب حلّ محله الكفر(2) .
ــــــــــــــ
(1) من لوازم وشروط تشكيل الأحزاب _ أياً كانت هوية هذه الأحزاب وانتماءاتها - في ظل الأنظمة الديمقراطية، الاعتراف والرضى باللوائح الكفرية، للحكومة الكافرة التي تنظم وتقنن عملية وجود الأحزاب وفق قوانينها الباطلة.. وأي حزب يريد أن يشارك الأحزاب الأخرى معمعة الانتخابات، والتسلق إلى السلطة - عن طريق الديمقراطية - يجب عليه أولاً أن يوقع على الموافقة والالتزام بهذه القوانين، التي تسمى بقانون الأحزاب، وكما يجب عليه أن يوافق ويلتزم بما تملي عليه هذه القوانين قبل الوصول إلى الحكم كذلك يجب عليه الالتزام بها بعد التمكين والوصول إلى الحكم ..!!
(2) يوجد فرق بين فعل المنكر من غير رضى واستحسان، وبين الرضى بالمنكر؛ =
ــــــــــــــــ
= حيث أن فعل المنكر الذي هو دون الكفر والشرك، يعتبر معصية، وصاحبه - إن فعله عن هوى وضعف من غير رضى أو استحلال - يعتبر عاصياً ولا يكفر بذلك، وإن مات - قبل أن يتوب من معصيته - يترك إلى مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، وهو ممن تنالهم شفاعة الشافعين يوم القيامة، كما قال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } النساء:48. هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة في مصير العصاة من أهل القبلة، بخلاف الخوارج ومن تابعهم من الغلاة الذين يكفرون بالكبائر والذنوب التي هي دون الكفر .
أما من رضي بالمنكر - وإن لم يفعله - يكفر؛ لأن الرضى بالشيء هو ضرب من ضروب الاستحلال والتحسين لهذا الشيء، وبنفس الوقت هو استقباح لما هو ضده من الحق المشروع، لذا يعد الراضي بالمنكر أياً كان هذا المنكر من الكافرين المكذبين، وإن لم يصرح بفيه بعبارات الاستحلال والتكذيب .
أما إن كان المنكر كفراً بواحاً ينقض التوحيد والإيمان، فإن فاعله - من غير إكراه - يستوي في الكفر مع من يفعله ويصرح بفيه أنه يرضاه، وإن صرح الأول عن عدم رضاه بالكفر، لأن واقع الحال يكذبه،ولأن فعل الكفر كفر كاعتقاده أو القول به.
قال تعالى: { من كفر بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } النحل:106. فلم يعذر الله ( إلا المكره ..والمسألة بحثت بشيء من التفصيل في غير هذا الموضع من كتبنا .
وكذلك الذي يجلس في مجالس المنكر، فإن الجالس يطاله حكم المنكر الذي يمارس في المجلس، فإن كان المنكر معصية دون الكفر فهو عاصٍ لا يكفر، وإن كان الذي يُمارس كفراً فهو كافر مثلهم . وقد رفع لعمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم صائماً،فقال:ابدؤوا به أما سمعتم قول الله تعالى: { وقد نزل عليكم في الكتاب }وتلى عليهم الآية .
وقا صلى الله عليه وسلم :" إذا عُملَت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها "(1).
قال ابن تيمية في الفتاوى 28/127: تغيير المنكر يكون تارة بالقلب، وتارة باللسان، وتارة باليد، فأما القلب فيجب بكل حال، إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن ا-هـ .
ويقول سيد قطب رحمه الله: مجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله، فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه (2) .
فإذا عرفت ذلك أيها القارئ: فلك أن تعجب من عبارات وإطلاقات المخالفين من الديمقراطيين الإسلاميين التي يؤكدون من خلالها على موافقتهم على تعدد الأحزاب - بما في ذلك الأحزاب الشيوعية واللادينية - وعلى احترامها والموافقة على حكمها واعتلائها السلطة لو فازت بأكثر أصوات الناخبين ..!!
ومنها، أن إقرار مبدأ تعدد الأحزاب الباطلة، والاعتراف بشرعيتها وحريتها، وأن لها كامل الحق في الدعوة إلى باطلها، وكفرها وفسادها .. من شأنه أن يفتن الناس عن دينهم، ويؤدي إلى هلاك البلاد والعباد، ونشر الفساد في الأرض، وإلى دمار المجتمعات وخرابها، وهذا ما ـــــــــــــــ
(1) صحيح الجامع:689. (2) طريق الدعوة:2/52 .
حذرت منه النصوص الشرعية أشد التحذير، كما في قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} الأنفال:39.(54/123)
فإن كان شرهم وخطرهم، وفسادهم لا يتوقف إلا بصدهم وقتالهم، فليكن ذلك لأن فتنتهم وضررهم على البلاد والعباد، وعلى الكليات التي جاء الدين لحمايتها والحفاظ عليها هي أشد وأعلى بكثير من فتنة القتل والقتال، وما يمكن أن يترتب عليه، كما قال تعالى: { والفتنة أشد من القتل} البقرة:119 .
وفي صحيح البخاري وغيره، قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :" مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء فمروا على من فوقهم فتأذوا بهم، فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتأذوننا، فقالوا: لو أنا خرقنا من نصيبنا خرقاً فاستقينا منه ولم نؤذِ من فوقنا، فأخذ - أي أحدهم - فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا مالك ؟! قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ".
…ومثل السفينة في واقعنا هو المجتمع الذي يجمع في أحيائه وأطرافه المتباعدة الصالح والطالح، ومثل حامل الفأس للتحطيم والتدمير هو صاحب المنكر الذي يريد نشر باطله ومنكره - تحت مزاعم عدة - في المجتمع، ومثل الذين يمنعونه من تحقيق مأربه وباطله هم الطائفة المنصورة الظاهرة على الحق، الذين يأمرون الناس بالمعروف وينهونهم عن المنكر .
والحديث أفاد أن أهل المنكر يحاولون دائماً - تحت ذرائع ظاهرها حق وباطنها الإثم والعدوان - لنشر منكرهم وباطلهم، ليدمروا بذلك مصالح العباد والبلاد، وليغرقوا المجتمعات بوابلٍ من الأمراض والتحلل والفساد، فإن تركوهم أهل الحق وما يريدون - تحت شعار الديمقراطية أو الحرية أو أي شعارٍ آخر - هلكوا جميعاً صالحهم وطالحهم، وغرق المجتمع في بحر الشرك والرذيلة والأمراض، وإن أخذوا على أيديهم زجراً وضرباً وتأديباً - وهذا هو الموقف الصحيح نحو كل منكر وباطل - نجوا ونجوا جميعاً، ونجت معهم البلاد والعباد من موت ودمار محققين لا محالة .
…وإننا لنجد تحت شعار الحرية والديمقراطية، والتعددية الحزبية .. أن ما من حزب باطل شيطاني يظهر في العالم إلا وينعكس صداه في بلاد المسلمين، ويوجد من يروج له ويدعو إليه الناس، وكل ذلك يتم تحت ذريعة احترام الديمقراطية، والحريات، والتعدديات السياسية والثقافية .. والضحية هم الناس كل الناس .
…ومنها، أن هذه الأحزاب وبخاصة منها العلمانية، من شأنها أن تشتت كلمة الأمة، وتفرق وحدتها، وتعدد ولاءاتها في فرق وأحزاب - متباغضة متناحرة ومتنافرة - ما أنزل الله بها من سلطان .
…وهذا بخلاف ما أمر به الإسلام من الوحدة والاعتصام بحبل الله جميعاً، وما نهى عنه من التفرق والاختلاف، والتنافر والتباغض .
…كما قال تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } آل عمران:103.
…وقال تعالى: { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} الأنفال:46.
…وقال تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء} الأنعام:159.
…وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد،ومن أراد بُحبوحة الجنة فليلزم الجماعة"(1).
وغيرها كثير من النصوص الشرعية التي تدلل على أن الأحزاب والشيع مرض عضال، يجب استئصاله والبعد عنه ..
…وقديماً قالوا - وقولهم حق - : أن في الوحدة قوة، وفي الفرقة ضعف . وفي المثل: أُكلت يوم أُكِل الثور الأبيض . وهذا أمر قد تنبه له العدو الكافر، فعمل ولا يزال يعمل على توسيع ساحة الفرقة بين المسلمين - بغرس عوامل الفرقة والاختلاف - ليسهل عليه غزوهم، وتفريق كلمتهم، ونهب خيراتهم من دون أدنى مقاومة منهم، وهذا هو الحاصل اليوم على مرأى ومسمع الجميع، ولا حياة لمن تنادي ..!
ــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن الترمذي:1758 .
لأجل هذه الأوجه الآنفة الذكر - وواحد منها يكفي - قلنا بحرمة الأحزاب العلمانية وغيرها من الأحزاب الباطلة، وبحرمة القول بحريتها .. مهما كانت الذريعة الداعية لذلك، فالإسلام وهذا الشغب الباطل الذي يروج له الديمقراطيون لا يلتقيان، ولا يتعايشان معاً أبدا .
_ موقف حسن البنا من الأحزاب، والتعددية الحزبية(1) .
…قال رحمه الله: الإخوان المسلمون يعتقدون أن الأحزاب السياسية المصرية جميعاً قد وجدت في ظروف خاصة، ولدواعي أكثرها شخصي ..
…ويعتقد الإخوان كذلك أن هذه الحزبية قد أفسدت على الناس كل مرافق حياتهم وعطلت مصالحهم وأتلفت أخلاقهم، ومزقت روابطهم، وكان لها في حياتهم العامة والخاصة أسوأ الأثر، كما يعتقد الإخوان أن هناك فارقاً بين حرية الرأي والتفكير والإبانة والإفصاح، والشورى والنصيحة وهو ما يوجبه الإسلام، وبين التعصب للرأي والخروج على الجماعة، والعمل الدائب على توسيع هوة الانقسام في الأمة .. وهو ما تستلزمه الحزبية ويأباه الإسلام ويحرمه أشد التحريم، والإسلام في كل تشريعاته يدعو إلى الوحدة والتعاون .(54/124)
أحب أن أقول: إن الإخوان يعتقدون من قرارة نفوسهم أن مصر لا يصلحها ولا ينقذها إلا أن تنحل هذه الأحزاب كلها، وتتألف هيئة ـــــــــــــــ
(1) حرصنا على بيان موقف البنا رحمه الله من الأحزاب ليدرك المنسوبين إليه من الإخوان المسلمين أنهم بقولهم بحرية تعدد الأحزاب لم يخالفوا النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وحسب، بل إنهم أيضاً خالفوا تعاليم أستاذهم ومؤسس حركتهم وحزبهم، وهذا مما يؤكد ظاهرة التباين وعدم الانسجام والتوافق الفكري والعقائدي بين عناصر وأفراد الحزب ..!!
وطنية عامة تقود الأمة إلى الفوز وفق تعاليم القرآن الكريم ..
…إن الإخوان المسلمين يعتقدون عقم فكرة الائتلاف بين الأحزاب، ويعتقدون أنها مسكن لا علاج، وسرعان ما ينقض المؤتلفون بعضهم على بعض، فتعود الحرب بينهم جذعة على أشد ما كانت عليه قبل الائتلاف، والعلاج الحاسم الناجح أن تزول هذه الأحزاب ..
…وبعد هذا كله أعتقد أيها السادة أن الإسلام وهو دين الوحدة في كل شيء، وهو دين سلامة الصدور ونقاء القلوب، والإخاء الصحيح، والتعاون الصادق بين بني الإنسان جميعاً فضلاً عن الأمة الواحدة والشعب الواحد، لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه ولا يوافق عليه !
…أيها الأخوان لقد آن أن ترتفع الأصوات بالقضاء على نظام الحزبية في مصر، وأن تستبدل به نظام تجتمع به الكلمة وتتوحد به جهود الأمة حول منهاج إسلامي صالح تتوافر على وضعه وإنفاذه القوى والجهود ..
…فلا ندري ما الذي يفرض على هذا الشعب الطيب المجاهد المناضل الكريم هذه الشيع والطوائف من الناس التي تسمي نفسها الأحزاب السياسية ؟!
…ولم يعد الأمر يحتمل أنصاف الحلول، ولا مناص بعد الآن من أن تحل هذه الأحزاب جميعاً وتجتمع قوى الأمة في حزب واحد يعمل لاستكمال استقلالها وحريتها، ويضع أصول الإصلاح الداخلي العام ثم ترسم الحوادث بعد ذلك للناس طرائق في التنظيم في ظل الوحدة التي
يفرضها الإسلام (1) ا-هـ .
…وبعد، فلك أن تسأل أيها القارئ، مَن يمثل الإخوان المسلمين ــــــــــــــــــ
(1) مجموعة الرسائل: ص 146-148 و168، 327 .
أقول: رغم موقف البنا -رحمه الله - الواضح من الأحزاب فإنه قد أقر العمل النيابي وأقر المشاركة به، ودعا إليه - وهذا من لوازمه الاعتراف بالأحزاب التي تنافسه على العمل النيابي، فالأحزاب مادة العمل النيابي وهما عضوان متلازمان ينتفي أحدهما بانتفاء الآخر - فكان بذلك أول من سن هذه السنة السيئة لمن جاء بعده من جماعته ..!!
ومن قوله في ذلك ما نشرته جريدة الإخوان المسلمون في 18 من ذي القعدة 1363 هـ ، الموافق 4 من نوفمبر سنة 1944 م : قرر المؤتمر السادس للإخوان المسلمين المنعقد في القاهرة في ذي الحجة 1361 أن يشترك الإخوان المسلمون في الانتخابات النيابية، وأخذ مكتب الإرشاد العام بهذا القرار، وقدم بعض الإخوان في الانتخابات الماضية، وقرر الأخذ بهذا القرار كذلك في الانتخابات المزمع إجراؤها بعد حل مجلس النواب القائم !
إلى أن قال: يظن الإخوان المسلمون أنهم وصلوا بهم في المحيط الشعبي إلى حدٍّ من النجاح ملموس مشهود، وبقي عليهم بعد ذلك أن يصلوا بهذه الدعوة الكريمة إلى المحيط الرسمي وأقرب طريق إليه " منبر البرلمان " فكان لزاماً على الإخوان أن يزجوا بخطبائهم ودعاتهم إلى هذا المنبر لتعلو من فوقه دعوتهم وتصل إلى آذان ممثلي الأمة في هذا النطاق الرسمي المحدود بعد أن انتشرت فوصلت إلى الأمة نفسها في نطاقها الشعبي العام .. ولهذا قرر مكتب الإرشاد العام أن يشترك الإخوان في انتخابات مجلس النواب ! ا-هـ . انظر مجلة " لواء الإسلام "، العدد الثالث، ذو القعدة 1409 هـ .
وفكرهم البنا أم حامد أبو النصر عندما يقول الآخر في جوابه على من يتهم أو ينسب للإخوان أنهم أعداء الديمقراطية، ويعادون التعدد الحزبي: الذي يقول ذلك لا يعرف الإخوان إنما يلقي التهم عليهم من بعيد، نحن مع الديمقراطية بكل أبعادها وبمعناها الكامل والشامل، ولا نعترض على تعدد الأحزاب ..؟!!
ثم لا ندري لعل البنا - في نظر الأستاذ حامد أبو النصر ومن يتابعه من الإخوان الديمقراطيين - لا يعرف الإخوان المسلمين، وهو من الذين يلقون التهم عليهم من بعيد ؟!
ومن تناقضات الإخوان كذلك أننا وجدنا من قادة الإخوان المسلمين - كالدكتور أبو فارس(1) - من يعتبر المشاركة في الوزارة في ــــــــــــــ(54/125)
(1) انظر كتابه " المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية " وهو كتاب جيد لولا أن كاتبه لم يفرق بين النائب والوزير من حيث الوقوع في المخالفات والمزالق الشرعية، وحكم العمل في كل من الوظيفتين، حيث اعتبر العمل الوزاري كفراً بينما جوز العمل النيابي واعتبره من الأمور الواجبة، علماً أن المزالق التي ذكرها وخص بها الوزير، فإن النائب المشرع يقع فيها وفي أضعافها من المخالفات الشرعية، وأن النائب المشرع والمقنن والراسم لسياسة الحكومة، والمسؤول عن مدى تنفيذ الحكومة لهذه السياسة، لهو أخطر بكثير من الوزير الذي يقتصر عمله على تنفيذ سياسة الحكومة وقوانينها من غير تبديل ولا تعديل، فعلام النائب لا يكفر وهو في نظر الكاتب من المجاهدين المأجورين، بينما الوزير يكون كافراً ؟!!
ربما لأن الكاتب نفسه كان نائباً في مجلس تشريعي لنظام جاهلي ..؟!
ظل الأنظمة الجاهلية الحاكمة كفراً بواحاً وأن الوزير حكمه في دين الله الكفر، وبنفس الوقت وُجد من قادة جماعته من يشارك كوزير في النظام الجاهلي(1)، ووجد من يعتبر هذا النوع من المشاركة واجباً شرعياً .. ؟! ـــــــــــــــــ
(1) من الوزراء الإخوان على سبيل المثال: يوسف العظم، حيث كان وزيراً للشؤون الاجتماعية في الحكومة الأردنية، وكذلك ماجد خليفة ابن المراقب العام للإخوان المسلمين وكان وزيراً للعدل!، وعبد الله العكايلة، كان وزيراً للتربية ..!!
_ موقف الإسلام من تعددية الأحزاب الإسلامية.
…بعد أن عرفنا موقف الإسلام من الأحزاب العلمانية وغيرها من الأحزاب الكافرة - حيث قد بينا المزالق العقدية والشرعية المتحصلة جراء الاعتراف بشرعية وحرية هذه الأحزاب - يضطرنا البحث للحديث عن موقف الإسلام من تعددية الأحزاب الإسلامية التي تتبنى العقيدة الإسلامية، وتعمل لها ..
…ولكي نتحرى الدقة والصواب لا بد لنا أولاً من التفريق بين العمل الحزبي الجماعي في ظل دولة إسلامية تحكم بما أنزل الله في جميع مجالات ومناحي الحياة، وبين العمل الحزبي الجماعي في ظل دولة علمانية تعادي الإسلام ولا تحكم بما أنزل الله، حيث لكل حالة لها حكمها الخاص المختلف عن الآخر، كما سيأتي بيانه إن شاء الله .
…_ العمل الحزبي الجماعي في ظل دولة الإسلام .
…اعلم أن الإسلام لا يقر ولا يجيز العمل الحزبي الجماعي - كما هي عليه صورة الأحزاب السياسية الإسلامية في هذا الزمان - أو التعددية الحزبية في ظل دولة الإسلام التي تحكم بما أنزل الله في جميع شؤون الحياة، وتعمل على إعلاء كلمة الله في الأرض؛ أي لا يجوز للمسلمين - مهما سمت غاياتهم وشرفت مقاصدهم - أن يشكلوا تكتلات وأحزاباً سياسية مغايرة للجماعة الأم التي تتمثل في الحاكم المسلم - الخليفة - وجميع المسلمين القاطنين في دولة الإسلام، والتابعين إلى سلطان الدولة والخليفة، وذلك لأوجه :
…منها، أن الإسلام دين الوحدانية في كل شيء : فالله ( واحد أحد في أسمائه وصفاته، وأفعاله وخصائصه لا شريك له، ولا نظير ولا مثيل ..
…و صلى الله عليه وسلم الذي يجب اتباعه واحد، ولا نبي بعده، والقبلة التي يتوجب التوجه إليها في الصلاة واحدة، والجماعة الناجية المنصورة التي يجب تكثير سوادها واحدة لا تتعدد مهما باعدت الأمصار بين أفرادها، والحق الذي يجب اتباعه واحد لا يتعدد، وليس بعده إلا الضلال، { فماذا بعد الحق إلا الضلال} يونس:32.
…وسبيل المسلمين للنصر والتمكين واحد لا يتعدد وهو التزام الكتاب والسنة، من تمسك بهما واهتدى بهداهما لن يضل أبداً، قال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبلَ فتفرق بكم عن سبيلهِ} الأنعام:16.
…فدين هذه خصائصه وصفاته لا يمكن أن يقبل بقيام جماعات متعددة متغايرة، ومتنافرة باسم العمل السياسي، أو تحت أي ذريعة كانت، وإن تسمت بأسماء إسلامية ..!
…ومنها، أن الشارع قد أمر بالوحدة والاجتماع، والاعتصام بحبل الله جميعاً، وأن نكون عباد الله إخواناً متحابين، وكره إلينا التفرق، والاختلاف، والتنازع، والتباغض والتدابر، وهذا مطلب يستحيل تحقيقه
في ظل شريعة الأحزاب ..!
…قال تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} آل عمران:103 .
…وقال تعالى: { ولا تكونوا من المشركين . من الذين فرقوا دينَهم وكانوا شيعاًكل حزبٍ بما لديهم فرحون} الروم:31-32.
…وهذا نص يفيد النهي والتحريم عن التشبه بالمشركين الذين من صفاتهم وخلقهم التفرق في الدين، وإحداث الشيع والأحزاب التي ما أنزل الله بها من سلطان .
…وقال تعالى: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} آل عمران:105.
…وقال تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء} الأنعام:159.أي يا محمد أنت بريء منهم بسبب تفرقهم في الدين وإحداثهم الشيع والأحزاب المتعددة والمختلفة، ليس لك من ولايتهم في شيء .
…وقال تعالى: { إن هذه أمتكم أمةً واحدة وأنا ربكم فاعبدون} الأنبياء:92.أمة واحدة، ورب ومعبود واحد ..(54/126)
…وقال تعالى: { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} الأنفال:46.أي وتذهب قوتكم التي بها تخيفون عدوكم ..
…وقال تعالى: { أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} الشورى:13.
…وغيرها كثير من الآيات القرآنية التي تأمر بالوحدة، والتآلف، والاعتصام بحبل الله جميعاً، وتنهى عن الاختلاف، والتنازع، والتفرق في الدين ..
…وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم، أنه قال:" إن الله يرضى لكم ثلاثاً: فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ".
…وقا صلى الله عليه وسلم :" عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة "(1).أي جماعة إمام المسلمين، أو الجماعة التي تكون على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين .
…وقا صلى الله عليه وسلم :" الجماعة رحمة والفرقة عذاب "(2).ولا شك أن الأحزاب من الفرقة التي مؤداها إلى العذاب، في الدنيا والآخرة ..
وقا صلى الله عليه وسلم :" يد الله مع الجماعة "(3).
…وقا صلى الله عليه وسلم :" والذي نفس محمدٍ بيده لتفترقن أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة، واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار . قيل: يا رسول الله من هم ؟ قال: الجماعة "(4). وفي رواية قال:" كلهم في النار إلا ملة ـــــــــــــــ
(1) صحيح سنن الترمذي:1758. (2) أخرجه أحمد وغيره، السلسلة الصحيحة:667. (3) صحيح سنن الترمذي:1760 . (4) صحيح سنن ابن ماجة:3229 .
واحدةً، ما أنا عليه وأصحابي "(1).
…فالحديث أفاد ذم الفِرق كلها التي تفترق في الدين شيعاً وأحزاباً، إلا واحدة وهي الجماعة التي تجتمع كلمتها على اتباع - لا الابتداع - ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الهدى والالتزام والفهم .
…وعن جابر بن عبد الله، قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فخط خطاً هكذا أمامه، فقال:" هذا سبيل الله ( " . وخط خطاً عن يمينه، وخط خطاً عن شماله، وقال:" هذه سبل الشيطان " . ثم وضع يده في الأوسط، ثم تلا هذه الآية: { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبلَ فتفرق بكم عن سبيله} (2).
…وقا صلى الله عليه وسلم :" لا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام " متفق عليه .
…وقا صلى الله عليه وسلم :" لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا " البخاري .
…وعن ابن عباس ( قال: أمر الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله(3).
ــــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن الترمذي:2129 . (2) رواه ابن أبي عاصم في السنة، وصححه الشيخ ناصر في التخريج:16 . (3) تفسير الطبري:4/39 .
…وعن قتادة، قال: إن الله ( قد كره لكم الفرقة، وقدم إليكم فيها، وحذركموها ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة والإلفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله .
…ولا يخفى كل منصف متجرد للحق، أن الأحزاب بصورتها المعروفة، وبرامجها المتباينة، وطموحاتها الظاهرة في السلطة وفي تداول السلطة، من شأنها أن تفرق كلمة المسلمين ووحدتهم، وتضعف شوكتهم، وتعدد ولاءاتهم وانقساماتهم في أحزاب وشيع متباعدة متناحرة متنافرة، تورثهم التباغض والتحاسد، والتقاطع والتدابر، وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية التي يترتب عليها من المفاسد والمضار مالا يعلمه إلا الله ( .. وافتراض أحزاب من دون أن يترتب على وجودها الأمراض الآنفة الذكر هو من قبيل افتراض الشيء وضده في آنٍ واحد، وهو كذل زعم يرده الواقع الملموس والمعايش لواقع الأحزاب، وهذا وجه معتبر من الأوجه التي تحرم الأحزاب في ظل دولة الإسلام .
…ومنها، أن الأحزاب السياسية وغيرها - كما هو معلوم من سيرتها وأخلاقها - من شأنها الاستشراف إلى حد التقاتل والتضارب في طلب الإمارة والرياسة والحكم، وهذا الخلق الملموس منها هو الغاية القصوى من وجودها، وإن تسترت بمزاعم الإصلاح وحب النصح، فهي غاية لأجلها يستحلون كل الطرق والوسائل الملتوية التي لا يرضاها الله تعالى؛ كتزكية أنفسهم على الله وعلى العباد، وطعنهم وانتقاصهم لقدر الآخرين الذين هم ليسوا من أحزابهم وتكتلاتهم، وغير ذلك من الأخلاق المذمومة في شرع الله .
…وفي الحديث الذي يرويه البخاري عن أبي موسى الأشعري ( ،قال: دخلت على صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمرْنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله، فقال:" إنا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه ". وسؤال الإمارة، والتنافس عليها، والحرص عليها هو من الخلق الظاهرة للأحزاب ..
…وفي الصحيح كذلك، قال صلى الله عليه وسلم " إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة ".(54/127)
…وقا صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم:" إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه ".
…وفي الصحيح كذلك، عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال لي رسول ا صلى الله عليه وسلم يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها ".
…وعن أبي ذر ( قلت: يا رسول الله ألا تستعملني ؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال:" يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها " مسلم .
…يقول له ذلك رغم أن أبا ذر هو نفسه الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم :" ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجةٍ أصدق ولا أوفى من أبي ذر، شبه عيسى ابن مريم " . ومع ذلك لم ينصحه صلى الله عليه وسلم بالإمارة،
ولم يردها له(1) ..!!
…وقا صلى الله عليه وسلم :" ما من رجل يلي أمر عشرةٍ، فما فوق ذلك، إلا أتى اللهَ مغلولاً إلى عنقه، فكه برُّه أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة"(2).
فالإمارة مغرم ومسؤولية في الدنيا والآخرة، وليست مغنماً ومكسباً كما يظنها كثير من الناس وبخاصة منهم دعاة الحزبية ..!
…وقا صلى الله عليه وسلم :" لا تسألوا الناس شيئاً " . وقال صلى الله عليه وسلم " من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً أتكفل له الجنة "(3). وهذا كله ليس من خلق الأحزاب والحزبيين الذين عُرفوا بكثرة التزلف في السؤال لكسب ود الناس ومرضاتهم - قبل الانتخابات فقط - ومرضاة الناس غاية لا تدرك، لكي يمنحوهم أصواتهم وأسماءهم عند الانتخابات، ويسمون تذللهم هذا - بكل وقاحة - بالدعاية الانتخابية (4) ..!
وهذا وجه معتبر لتحريم الأحزاب في الإسلام ..
ومنها، أن الأحزاب من شأنها وديدنها - كما هو معلوم لدى الجميع - إظهار عيوب السلطان وزلاته للناس بطريقة استفزازية فيها كثير ــــــــــــــــ
(1) الحديث أخرجه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، صحيح الجامع:5538 .
(2) أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع:5718 . (3) صحيح الترغيب والترهيب:807 . (4) في إحدى البلاد العربية التي جرت فيها انتخابات ديمقراطية لتحديد أعضاء مجلس النواب، كان بعض الذين رشحوا أنفسهم للانتخابات يرسلون النساء إلى دور الناس ومحلاتهم يسألونهم أن يصوتوا لمرشحهم وفارسهم .. فتأمل !!
من الرياء، تفرق ولا توحد، وتنفر ولا تبشر - ليظهروا أمام الجماهير أنهم أمناء على مصالحهم - فيحدثون بذلك فجوة واسعة تعدم بسببها الثقة بين الشعب والنظام الحاكم، تمهيداً لأنفسهم ولحكمهم، مما قد يترتب عليه زعزعة أركان الحكم وفقدان الاستقرار والأمن، ولربما يؤدي إلى سفك الدماء وانتهاك الحرمات .. كل ذلك لا لشيءٍ سوى إشباع رغبة الأحزاب في الوصول إلى الحكم، ولو كان ذلك على حساب الكليات والمقاصد العامة التي جاء الدين لحمايتها والحفاظ عليها !
…وهذا خلق لا يرضاه الإسلام ولا يقره، وهو من خلق المنافقين المذبذبين الذين يعطون صفقة يمينهم للسلطان المسلم ويبايعونه على السمع والطاعة في المعروف، ثم هم في المقابل ينقضونها باليد الأخرى عندما يعطون العهد والبيعة للحزب ولأمير الحزب !
…روى البخاري في صحيحه، عن نافع قال: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر حشمه وولده، فقال: إني سمعت صلى الله عليه وسلم يقول:" ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة "، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يُبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم يُنصب له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه .
وفي الصحيح كذلك، قا صلى الله عليه وسلم :" من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر،فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتةً جاهلية". …ولا أحد أحرص على تفريق الجماعة، وتشتيت كلمتها،
وإضعاف شوكتها من الأحزاب السياسية بصورتها المعهودة في زماننا، ولا شيء ألصق بصفة الغدر والخيانة العامة للإمام العام من الأحزاب والحزبيين..!
…وفي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه، قا صلى الله عليه وسلم :" لكل غادرٍ لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة " .
ذكر القاضي عياض في شرح الحديث احتمالين، كلاهما يعنيهما الحديث: أحدهما أن يكون المراد نهي الرعية عن الغدر بالإمام، فلا يشقوا عليه العصا ولا يتعرضوا لما يخاف حصول فتنة بسببه ا-هـ .
…وقا صلى الله عليه وسلم :" إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان " مسلم.
…وفي الصحيح كذلك، قا صلى الله عليه وسلم :" من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحدٍ يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ". وليس
فانتخبوه ..!(54/128)
…والمراد هنا من يخرج على الإمام العام للمسلمين بعد أن تمت له البيعة الشرعية من أهل الحل والعقد، يريد أن يفرق كلمتهم وجماعتهم بعد أن اجتمعت عليه، فمثل هذا إن لم يندفع شره إلا بالقتل والقتال، قوتل ولا كرامة .
…قال النووي في الشرح 12/241: فيه الأمر بقتال من خرج على الإمام أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك، وينهى عن ذلك فإن لم ينته قوتل، وإن لم يندفع شره إلا بقتاله يقتل . وقوله:" يريد أن يشق عصاكم "، معناه يفرق جماعتكم كما تفرق العصاة المشقوقة، وهو عبارة عن اختلاف الكلمة وتنافر النفوس ا-هـ .
وعليه لا يجوز حمل هذا الحديث وغيره مما جاء في معناه - كما فعلت بعض الجماعات التي لوثت بالغلو ووقعت في سفك الدم الحرام - على من يخرج على حزبه، أو جماعته، أو مجموعته لاجتهاد يراه هو من الصواب أو الحكمة أن يقوم به، ثم يُقتل بسبب ذلك تحت ذريعة الخروج على أمير الحزب أو المجموعة بعد أن اجتمعت الكلمة عليه !!
…فإن حمل جميع خصائص وحقوق الخليفة العام على أمير الحزب أو الجماعة التي قد لا يتجاوز تعدادها أصابع اليد هو من الغلو والتنطع، ومن التشبع بما لا يُعطاه المرء، وهو وراء كثير من المصائب والانحرافات التي أصابت كثيراً من الجماعات الإسلامية المعاصرة في تعاملها الداخلي مع أفرادها، وغيرهم من المسلمين ممن لا ينضوون تحت إمرتها ..!
…وفي كيفية توجيه النصح للسلطان المسلم والتعامل معه في حال وقوعه في الخطأ والانحراف، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذلك، وإلا كان قد أدى الذي عليه"(1).
وفي رواية:" من كانت عنده نصيحة لذي سلطان فليأخذ بيده، ـــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد، وصححه الشيخ ناصر في تخريج السنة لابن أبي عاصم .
فليخلو به فإن قبلها قبلها، وإن ردها كان قد أدى الذي عليه "(1).
…وذلك أن الاختلاء بالسلطان ونصحه على انفراد هو أقرب للإخلاص والبعد عن الرياء من جهة الناصح، ومن جهة هو أدعى للقبول عند المنصوح وبخاصة إن كان من ذوي الجاه والسلطان، حيث أن النصيحة تُسدى إليه بعيداً عن أعين الناس ومسامعهم، وبعيداً كذلك عن التشهير والتسميع والتجريح .
…والأحزاب - كما هو ملموس ومشاهد - من أبعد الناس عن هذه الآداب والأخلاق، الذين من عادتهم أن يعتمدوا - في نشراتهم ووسائلهم الخاصة - سياسة التشهير ونشر العيوب والزلات على الملأ، وتسميع الناس بأعمالهم وإنجازاتهم، وما يدور بينهم وبين السلطان مما يصح أن يُعرف للعامة وما لا يصح، لأن فعلهم هذا هو الذي يرغبه ويستهويه عوام الناس، وهذا هو المهم بالنسبة للأحزاب ليضمنوا مزيداً من الأنصار والأصوات للمراحل القادمة..!
ومنها، أن الأحزاب من شأنها - في ظل دولة الإسلام - أن تربي المسلمين على الازدواجية والتلون والغدر والنفاق؛ فهم من جهة يعطون العهد والبيعة للسلطان المسلم على السمع والطاعة، ومن جهة ثانية وباليد الأخرى يعطونها للحزب وأمير الحزب ..!
وهذا من خلق المنافقين المذبذبين، كما قال تعالى: { مذبذبين بين ـــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد، وصححه الألباني في تخريجه .
ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} النساء:143.
…وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه " البخاري .
…وقا صلى الله عليه وسلم :" مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة لا تدري أيهما تتبع " مسلم .
…وهذا مثل من يعطي ولائين متغايرين في وقت واحد، ولاء للحزب وولاء للسلطان المسلم، ولا يدري أيهما يطيع ويتبع !
…وهذا وجه من أوجه تحريم الأحزاب الإسلامية في دولة الإسلام .
…ومنها، أن مبايعة أمير الحزب - في ظل وجود الإمام العام للمسلمين - على السمع والطاعة، والمتابعة في المنشط والمكره، هو مما حرمه الإسلام أشد التحريم، إلى درجة أنه أمر بقتل من يطلب البيعة لنفسه من الناس بعد أن تمت البيعة العامة للخليفة المسلم، كما في الحديث الذي يرويه مسلم:" إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما ". وذلك من أجل الحفاظ على وحدة الأمة، وعلى قوة تماسكها وشوكتها في وجه المخاطر
والأعداء .
…وأمير الحزب عندما يطلب البيعة لنفسه ولحزبه، فهو يمثل في ذلك موقف الذي يستشرف لمنصب الخلافة مع وجود الخليفة وبعد أن تمت البيعة الشرعية له، وهذا وكل من يقف موقفه - بنص الحديث - حكمهم في دين الله تعالى القتل وقطع العنق .
…وفي الصحيح كذلك قا صلى الله عليه وسلم :" إنه ستكون هنات وهنات، فمن
أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان " مسلم .
…وقا صلى الله عليه وسلم :" من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه "مسلم .
…وهذا وجه من الأوجه المعتبرة في التحريم ..(54/129)
…ومنها، أن الأحزاب من شأنها أن تُضعف عقيدة الولاء والبراء في الله عند المسلمين، لأنها تربيهم على عقد الولاء والبراء في الحزب وفي أمير الحزب، حيث يصبح المسلم المتحزب يوالي من يوالي حزبه وأمير حزبه بغض النظر عن أخلاقه واستقامته، ويعادي من يعادي أو يجافي حزبه أو شيخ حزبه، فالموالاة - في هذه الصورة - تُعقد لذات الحزب ولذات الأمير، وليس لذات الله ( ، وهذا ضرب من ضروب الشرك - الذي قل من يتنبه له ويسلم منه - لأن المحبوب لذاته هو الله تعالى، وما سواه يُحب له ( وأيما مخلوق يُحب لذاته ـ بحيث يُعقد الولاء والبراء فيه وعليه من دون الله - فقد اتُّخذ نداً لله ( في أخص خصائصه وصفاته .
…قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 28/19 : كون الأستاذ يريد أن يوافقه تلميذه على ما يريد فيوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه مطلقاً، وهذا حرام ليس لأحد أن يأمر به أحداً، ولا يُجيب عليه أحد، بل تجمعهم السنة وتفرقهم البدعة، يجمعهم فعل ما أمر الله به ورسوله، وتفرق بينهم معصية الله ورسوله .
ومن حالف شخصاً على أن يوالي من والاه ويعادي من عاداه
كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى، ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين، بل هؤلاء من عسكر الشيطان(1) ا-هـ
…وهذا وجه من أوجه التحريم ..
…ومنها، أن هذه الأحزاب بصورتها المعروفة والمعهودة، تعتبر من البدع المحدثات التي لم يكن يعرفها سلف الأمة من قبل، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .
كما في الحديث الذي أخرجه مسلم:" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " .
وأخرج البخاري في الأدب المفرد، عن أبي سلمة عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم متحزِّقين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله، دارت حماليق عينيه كأنه مجنون(2) .
وقوله:" لم يكن أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم متحزقين "؛ أي لم ـــــــــــــــ
(1) من غلو القوم في الأحزاب أنهم لا يقبلون الحق ويأخذون به إلا إذا كان صادراً عن الحزب وقادة الحزب الذي ينتمون إليه، أما إذا جاءهم الحق عن غير طريق الحزب فهو لا ينال عندهم القبول كما لو جاء عن طريق حزبهم، هذا إذا ما قابلوه بالرد والاستهانة والإعراض .. وهذا من أشنع ما يؤخذ على كثير من الأحزاب المعاصرة التي تسمي نفسها إسلامية !
(2) صحيح الأدب المفرد: 432 .
يكونوا متقبضين ومتجمعين في جماعات وحِزق متعددة منطوية كل جماعة على ذاتها، بل كان الواحد منهم يعيش للأمة كل الأمة، يألم لجميع المسلمين من غير تفريق، إذا ذُكِّر بأمر فيه طاعة لله، دارت حماليق عينيه - لشدة استجابته وانقياده لتنفيذ أمر الله - كأنه مجنون !
هذه هي أوصاف الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - التي يجب علينا امتثالها والتحلي بها .. فأين الأحزاب والحزبيون من هذه الأخلاق والخصال ؟!
ومنها، أن وجود الأحزاب المتعددة والمتباينة في برامجها ووسائلها في المجتمع الواحد - وإن سُميت إسلامية - يعتبر أرضية خصبة لتحركات المنافقين، وغيرهم من الزنادقة الملحدين أصحاب النفوس المريضة، والغايات الخطيرة، حيث أنهم يجدون في هذه الأحزاب الغطاء الساتر لتحركاتهم ونشاطاتهم الهدامة، والملاذ الآمن لأشخاصهم إذا ما فُضح أمرهم وعُرفت حقيقتهم، لأن الأحزاب من شأنها - كما هو ملاحظ ومشاهد - أن تبالغ في الذود والدفاع عن أفرادها - وبخاصة إذا كانوا في موقع القيادة للحزب - في حال كشفت خيانتها، وعُرفت مؤامراتها، لأن معاقبة الأفراد وتوجيه التهم إليهم - وبخاصة إذا كانوا قياديين - هي معاقبة للحزب ولسمعة الحزب، لأجل ذلك فالعدالة - في ظل مجتمع حزبي - لا تأخذ طريقها بسهولة إلى التنفيذ والتطبيق .
ومن يتابع سيرة كثير من الأحزاب المعاصرة، يجد كثيراً من الشخصيات الخطيرة - يهودية وماسونية وعناصر تابعة لأجهزة أمن الطواغيت - قد استطاعت أن تتسرب إلى داخل هذه الأحزاب، مستغلة حالة الخلاف الدائرة بين الأحزاب ذاتها، لتستلم فيها مناصب عالية تشكل من خلالها خطراً على أمن وسلامة الجماعة وربما الأمة برمتها(1).
ومنها، أن الغاية من وجود الأحزاب السياسية - كما يقولون - التداول على السلطة بالطرق السلمية كل فترة زمنية يتم التعارف على تحديدها فيما بين الأحزاب ذاتها، تُقدر بخمس سنوات أو أكثر أو أقل ..!
…وهذه فكرة مرفوضة من أوجه :
…أولاً، أنها فكرة مستحدثة ودخيلة على السياسة الشرعية والفقه الإسلامي، ومن أحدث في ديننا وأمرنا ما ليس منه فهو رد ومرفوض . ــــــــــــــ(54/130)
(1) من التجارب المعاصرة المعروفة التي حصل فيها حالة جهاد .. وجود أكثر من فصيل يعمل على الساحة، ولشدة ما بين هذه الفصائل من خلاف ونزاع كان يكفي لكل فصيل منها أن تقبل انضمام الأفراد إلى صفها لمجرد أن هؤلاء الأفراد يقومون بشتم الفصيل الآخر وشتم قياداته، فأدرك الطاغوت هذه الثغرة فاستطاع من خلالها أن يسرب عناصره وأعينه إلى داخل تلك الفصائل لينتظموا فيها، ويحتلوا مراتب قيادية ومتقدمة في وقت وجيز، وكانت المهمة عليهم سهلة لأن المقياس كان كلما اشتدت عداوتهم وعلا صوتهم بالشتم على الفصيل الآخر وقياداته كلما اقتربوا أكثر من مواقع القيادة في الفصيل الذي هم فيه، وبالفعل تمكنوا من أن يصلوا إلى مواقع حساسة في العمل في وقت وجيز جداً فكانت النتيجة اعتقال المئات من الإخوان، وتدمير حركة الجهاد برمتها في ذلك القطر، وقتل آمال أمة طالما كانت ترجو خيراً تنتظره من ذلك الجهاد ..!!
…ثانياً، أنها فكرة من صنيعة الجاهلية المعاصرة، التي أمرنا بمفاصلتها ومباينتها والتمايز عنها، وعدم التشبه بشيء من راياتها ومبادئها ..
ثالثاً، أنها فكرة مغايرة لما تُقرر في الفقه الإسلامي والسياسة الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة، الدالة على أن السلطان المسلم أو الخليفة المسلم لا يُعزل إلا لداعٍ شرعيٍّ يستدعي العزل، وأهواء الأحزاب ورغباتها في حب التسلط والاستعلاء على الحكم لا يعد من المبررات الشرعية التي بموجبها يُعزل السلطان المسلم ويُستبدل بآخر غيره ..
…رابعاً، أنها فكرة مؤداها إلى عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغير ذلك؛ لأن التغيير المستمر في هذا المجال يحدث فجوات وحالة فراغ كبيرة قد تؤثر على أمن وسلامة وازدهار المجتمع، وبخاصة عندما يأتي الجديد ليهدم أو يغير ما قد بناه القديم، وهذا ملاحظ في أرقى الديمقراطيات المعاصرة ..!
…خامساً، هذه الفكرة فرصة سانحة للأحزاب الإسلامية البدعية المنحرفة، التي تتبنى اجتهادات وآراء شاذة وضعيفة بعيدة عن هدي السلف، في أن تصل إلى سدة الحكم، ووصول مثل هذه الأحزاب لا شك أنه محبب إلى أهل الكفر والنفاق لإمكانية تمرير مآربهم وأهدافهم عن طريقها أكثر من غيرها من الأحزاب التي تكون أكثر استقامة وقرباً إلى هدي السلف ..
سادساً، هذه الفكرة تعني وجود التنافس فيما بين الاتجاهات الإسلامية للوصول إلى الحكم، وهذا من لوازمه زرع بذور الفرقة
والبغضاء والعداوة بين المسلمين ..
…سابعاً،قد تقدمت الأحاديث الدالة على وجوب قتل من ينافس الخليفة أو السلطان المسلم الأول - المبايع مبايعة شرعية - وينازعه على الحكم، مما يبطل تماماً التعامل مع هذه الفكرة الدخيلة، التي قد تلوث بها كثير من دعاة هذا العصر ..!
…وبعد، لأجل جميع هذه الأوجه التسعة الآنفة الذكر - وواحد منها يكفي - نقرر جازمين غير مترددين ولا شاكين: أنه لا حرية للأحزاب في ظل دولة الإسلام أيَّاً كانت عقيدة وهوية هذه الأحزاب، وأيَّاً كانت مسمياتها؛ أي لا يجوز للمسلمين - مهما سمت غاياتهم وحسنت مقاصدهم - أن يشكلوا أحزاباً سياسية في ظل الدولة الإسلامية .
…_ شبهةٌ ورد .
…بعض دعاة الحزبية يقولون بشرعية تعدد الأحزاب في ظل الدولة الإسلامية، إذا تقيدت هذه الأحزاب بتعاليم الإسلام وتبنت عقيدته، ويستشهدون على صحة دعواهم بقوله تعالى: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون(1)} آل عمران:104.
ـــــــــــــــ
(1) حزب إسلامي معاصر - معروف بتقديم العقل على النقل،وبتعطيل الجهاد إلى=
…وقالوا: فقوله تعالى: { ولتكن منكم أمة} يعني حزب يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعليه بنوا قولهم بحرية تعدد الأحزاب في ظل الدولة الإسلامية ..!
…وقالوا: والغاية من وجود الأحزاب وقيامها، تقويم السلطان ومحاسبته إذا ما اعوج وانحرف عن جادة الحق والصواب، وحماية الأمة من ظلمه وجوره .. وهذه ضرورة تفرض على الأمة أن يشكلوا أحزاباً !!
والجواب على هذه الشبهة من أوجه:
…منها، أن قوله تعالى: { ولتكن منكم أمة} هذه الآية الكريمة لها علاقة بفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يجب على الأمة - حكاماً ومحكومين - نحو هذا الواجب الشرعي، وفيها ترغيب وحض للمسلمين بأن تنفر منهم طائفة - عالمة بالكتاب والسنة لا يشترط لها بالضرورة أن تكون في صورة تجمع تنظيمي بعيداً عن مؤسسات السلطان ـــــــــــــــ(54/131)
= حين نزول الخليفة!! - يرى أن هذه الآية الكريمة أمر من الله تعالى من فوق سبع سماوات للمسلمين بأن يشكلوا أحزاباً سياسية في ظل الدولة الإسلامية، وهم في ظل دول الكفر والطغيان يرفعون مبدأ عدم تغيير المنكر، والواقع الكافر عن طريق استخدام المادة أو القوة ما لم تقم الخلافة، فهم يريدون أن يقيموا الخلافة ولكن من دون جهاد، ومن دون أن تسيل منهم قطرة دم واحدة، فالجهاد عندهم يقوم بعد وجود الخليفة وليس قبله .. فتأمل كيف استدلوا بالآية الكريمة في مواضع لا يصح الاستدلال بها، وصرفوها - رهبة من الجهاد وتوابعه - عن المواضع التي تُحمل عليها، ويصح الاستدلال بها ؟!
المسلم وتوجيهاته - تتفرغ لمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس في الآية أدنى دلالة أو إشارة إلى الأمر بتشكيل الأحزاب والتكتلات السياسية في ظل دولة الإسلام .
…والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حكمه ابتداءً فرض عين على جميع المسلمين، كل بحسب استطاعته - كالجهاد في سبيل الله - فإذا قامت به طائفة من المسلمين - من العلماء العاملين - وكفت بالمطلوب، سقط حكم الوجوب وأصبح حكمه في حق الآخرين سنة وأمراً يُندب إليه(1).
…كما قال تعالى في شأن الجهاد: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} التوبة:122.
…قال القرطبي في التفسير 8/293: وهي أن الجهاد ليس على الأعيان، وأنه فرض كفاية كما تقدم إذا نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد، وليقم فريق يتفقهون في الدين ويحفظون الحريم ا-هـ .
ـــــــــــــــ
(1) أحياناً يتعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على شخص معين دون غيره من الناس، وذلك عندما يتواجد في مكان يجب فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبنفس الوقت لا يوجد غيره - من الحضور - ممن يمكنه القيام بهذا الواجب .
قلت: من الفوارق بين الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن الجهاد يمكن أن يقوم به جميع طوائف المسلمين ممن يقدرون على حمل السلاح، العالم منهم وغير العالم، بينما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من خصوصيات ووظائف أهل العلم العاملين الذين تتوفر فيهم صفتي القوة والعلم، وإن كان هناك حد من الأمر المعروف والنهي عن المنكر - مما لا يستساغ جهله - يمكن أن يقوم به عوام المسلمين وكل بحسب استطاعته ومقدرته(1) .
قال ابن كثير في التفسير 1/406: والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه ا-هـ .
وفي قوله تعالى: { ولتكن منكم أمة}، قال الضحاك: هم الرواة؛ يعني المجاهدين والعلماء ا-هـ .
قلت: لأنها مهمة عظيمة لا يصلح لها الجهال والرعاع من الناس ـــــــــــــــــ
(1) لا يتوقف تغيير المنكر على مجرد العلم بالشيء بأنه منكر، بل لا بد إضافة إلى ذلك من التقدير الصحيح لإمكانية تغيير هذا المنكر بطريقة لا يترتب عليها مفسدة أكبر ومنكر أكبر من المنكر الذي يُزال، وهذا يستدعي تقدير الوصف الصحيح الذي به يُغير المنكر، هل يكون باليد، أم باللسان، أم باللسان ثم يتبعه باليد، أم باليد واللسان معاً، أم بالقلب وذلك أضعف الإيمان، ثم تقدير الزمان والتوقيت المناسب لتغيير المنكر، ثم تقدير حجم وقوة المنكر .. وهذا لا شك أنه يحتاج إلى قسط من
الفقه والعلم .
الذين قد لا يفقهون من أمور دينهم شيء، لأن جاهل الشيء كفاقده وفاقد الشيء لا يُعطيه .
ومن يتأمل واقع الأحزاب يجد أن هؤلاء الجهال هم مادة الأحزاب التي تقوم على عنصر الكم والكثرة، وبالتالي من المستحيل أن تكون هذه الأحزاب بصورتها الغثائية المعروفة هي المرادة من قوله تعالى: { ولتكن منكم أمة} .
…ومنها، أن السلطان المسلم - الخليفة - هو أولى الناس بهذا الخطاب والأمر، وهو معني من الآية الكريمة أكثر من غيره لما لديه من الإمكانيات والصلاحيات التي تمكنه من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أكمل وأحسن وجه، ومما لا يتسنى لغيره القيام به .
…كما في الحديث الصحيح المتفق عليه:" إنما الإمام جُنَّةٌ - أي كالستر الذي يُحتمى به ويُتقى به من الضربات - يُقاتَل من ورائه، ويُتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجراً، وإن أمر بغيره فإن عليه وزراً " .
…والحزبيون يرون أن هذه الآية الكريمة خاصة بهم من دون السلطان المسلم، وكأن السلطان المسلم من أولى وظائفه ومهامه أن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف ..!!
…يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال 1/444: لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . والذي يقرر أنه لا بد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته، فهناك " دعوة " إلى الخير، ولكن هناك كذلك " أمر " بالمعروف، وهناك " نهي " عن المنكر، وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان فإن الأمر والنهي لا يقوم بهما إلا ذو سلطان ا-هـ .(54/132)
…وقولنا أن السلطان المسلم معني بهذا الخطاب أكثر من غيره، لا يمنع من أن يقوم كل فرد من الأمة - بحسب موقعه وما لديه من صلاحيات وإمكانيات - بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدر المستطاع .
…كما قال تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم} التغابن:16.
…وقال تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} البقرة:286 .
…فالكل واجب عليه - بحسب موقعه - بذل الجهد المستطاع لنصرة هذا الدين، كما في الحديث الذي يرويه مسلم:" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان "(1) .
ــــــــــــــــ
(1) إضافة إلى ما تقدم بيانه، فإن تغيير المنكر يُشترط له ثلاثة شروط:
أولاً: العلم بالشيء الذي يُأمر به أو ينهى عنه، وقد تقدم أن جاهل الشيء كفاقده لا يمكن أن يعطيه للآخرين . ثانياً: توفر القدرة والاستطاعة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن العجز - كما تقدم - يرفع التكليف عن العاجز إلى حين تحقق القدرة على دفع ما تم العجز فيه . ثالثاً: أن لا يؤدي تغيير المنكر إلى منكر أكبر وأشد أو مساوٍ له؛ لأن الغاية من النهي عن المنكر تقليل المفاسد ودفعها وليس تكثيرها وجلبها، فالإسلام جاء بجلب المصالح ودفع المفاسد، =
ومنها، أن قولهم: في الآية رخصة وأمر بتشكيل الأحزاب السياسية .. قول باطل لا تحتمله معاني الآية، وهو أمر لا يقبله نقل ولا عقل، وما قال به أحد من أهل العلم والتفسير، بل في الآية دليل على خلاف قولهم وزعمهم .
…قال ابن تيمية في تفسير الآية كما في الفتاوى 3/421: فمن الأمر بالمعروف الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الاختلاف والفرقة ا-هـ .
فالآية - كما يقول ابن تيمية - فيها دليل على بطلان الأحزاب - التي من شأنها أن تفرق الجماعة إلى جماعات - وليس على شرعيتها ..!
…ومنها، لو نظر دعاة الحزبية في قوله تعالى في الآيتين اللتين قبل وبعد قوله تعالى: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} ، لوجدوا أن الآيتان تأمران بالجماعة والائتلاف، وتنهيان عن الفرقة والاختلاف، حتى لا يُفهم من قوله تعالى: { ولتكن منكم أمة } ما فهمه الحزبيون من جواز ـــــــــــــــ
= ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
بهذه الشروط الثلاثة يتقدم لتغيير المنكر أي فرد من أفراد الأمة، أين كان موقعه، ومهما كانت مكانته، والقول بأن تغيير المنكر ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يُغير باليد وهو من خصوصيات السلطان وحده لا يجوز أن يشاركه أحد فيه . وقسم يُغير باللسان وهو من خصوصيات العلماء وحدهم لا يشاركهم أحد فيه . وقسم يُغير ويُنكر في القلب وهو من خصوصيات عوام المسلمين .. أقول هذا التقسيم لتغيير المنكر لا يصح وهو قول ضعيف وغريب، يصطدم مع كثير من النصوص الشرعية .
بل ووجوب تشكيل أحزاب سياسية تفرق الأمة في شيع ما أنزل الله بها من سلطان !!
قال تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} آل عمران:103 .
…فالآية تأمر بالوحدة والاعتصام، وتنهى عن الفرقة والاختلاف، والله تعالى يمن على عباده المؤمنين أن جعلهم أخوة متحابين متآلفين بعد أن كانوا في جاهليتهم أعداءً متباغضين ومتنافرين ومتفرقين ..
ثم قال تعالى: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } آل عمران:104 .
وهذه هي الآية التي أشكل فهمها على دعاة الحزبية، ثم تأتي بعدها مباشرة الآية الكريمة: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} آل عمران:105.
نص ينهى عن التفرق والاختلاف، وعن التشبه بكفار أهل الكتاب الذين فرقوا دينهم شيعاً وأحزاباً بعد أن جاءتهم البينات التي تنهاهم عن مثل هذا التفرق والتشيع، والتحزب ..
وفي السنة فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة "، قال: من هي يا رسول الله ؟ قال:" ما أنا عليه وأصحابي " وفي رواية قال:" الجماعة " والحديث قد تقدم تخريجه .
وبالتوفيق بين الروايتين يكون المراد: أن الفرقة أو الملة الناجية هي الجماعة التي تكون على ما أنا عليه وأصحابي . وما سواها من الفرق والملل فإنها تكون قد سلكت مسلك بني إسرائيل في التفرق في الدين، وهي كلها في النار ..
والشاهد مما تقدم أن القرآن والسنة يصدقان بعضهما بعضاً في ذم التفرق والتحزب، وفي بيان أن التفرق في الدين شيعاً وأحزاباً هو من خلق مشركي أهل الكتاب الذين نهينا عن التشبه بهم وبأخلاقهم، وعن أن نتتبع خطاهم ..(54/133)
وأن الآية الكريمة التي استدلوا بها ليس فيها أدنى دلالة على شرعية الأحزاب وتعدادها، وبالنظر إلى الآيات التي قبل وبعد الآية يُعلم أن الآية دليل عليهم وليس لهم .. !
ومنها، قولهم أن الغاية من وجود الأحزاب هو تقويم السلطان المسلم في حال انحرافه وظلمه للأمة .. هو قول فيه إساءة ظن مسبقة بالحاكم المسلم، وهو دليل على حصول الريب في النفوس وعدم صفائها تجاه السلطان المسلم، وكأن الحاكم - الخليفة - الأصل فيه هو الانحراف عن الإسلام، وظلم الأمة، وخيانة الإسلام والمسلمين ومن أيامه الأولى في الحكم ..!!
ثم هب أن السلطان المسلم كانت سيرته في الحكم والرعية كسيرة الخلفاء الراشدين المرضيين المهديين - أو قريبة منها - فما قيمة وجود هذه الأحزاب المتكاثرة، وما هو المبرر من وجودها وجثومها على صدر الأمة ..؟!
…لم يبق سوى أن نقول: أنه لا مبرر لوجود هذه الأحزاب سوى الهوى وحب التسلط والزعامة، وأن مثل هذه البداية الغير موفقة في التعامل مع الحاكم المسلم لهي مدعاة إلى حصول الفتن وفقدان الاستقرار، وخراب البلاد والعباد ..!
…وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله، ومن أجل سلطان الله أجله الله يوم القيامة "(1).
…وسلطان الله في الأرض هو خليفة المسلمين وإمامهم الذي به تُقام الحدود والشعائر، وتنفذ الأحكام، ويُصان الدين، وتجيش الجيوش للجهاد في سبيل الله، وتحفظ مقاصد الدين وكلياته ..
…وقا صلى الله عليه وسلم :" لا تسبوا أمراءكم ولا تغشوهم ولا تبغضوهم واتقوا الله، واصبروا فإن الأمر قريب "(2) .
…وهذا ليس من خلق الأحزاب والحزبيين، بل من خلقهم - كما هو معروف لدى الجميع - سب الأمراء وغشهم وبغضهم، وتهويش ــــــــــــــ
(1) رواه الترمذي، وأحمد، صحيح الجامع الصغير:6. (2) رواه ابن أبي عاصم في السنة، وصححه الشيخ ناصر في التخريج .
الناس عليهم، وحب الظهور والرياء، وأن يُحمدوا بما لم يفعلوا .. وهذه كلها أخلاق مذمومة في دين الله تعالى، ترتد على أصحابها بالوبال والعار في الدنيا والآخرة .
…وفي حال انحراف الحاكم المسلم عن جادة الحق والصواب، فإن الإسلام قد بين للأمة السبل والكيفية التي تتم بها معالجة وتقويم انحرافاته، وما قد شذ فيه عن طريق
الحق والصواب - بالقدر الذي به يُحسم الانحراف من دون أن تتحقق منه مفسدة أو فتنة أكبر - ليس منها قط تشكيل الأحزاب السياسية(1) .
ومنها، أن صلى الله عليه وسلم قد صح عنه أنه قال:" قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم ما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ "(2).
وقا صلى الله عليه وسلم :" عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً، وسترون من بعدي اختلافاً شديداً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات فإن كل بدعة ضلالة "(3).
…وقا صلى الله عليه وسلم :" ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، ــــــــــــــــ
(1) انظر فصل الخروج على الحكام، من كتاب " دعاة وقضاة " .
(2) رواه ابن ماجة، وأحمد، السلسلة الصحيحة:937 . (3) صحيح سنن ابن ماجة:40 .
وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله ويقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه "(1).
والشاهد من هذه الأدلة المتقدمة الذكر أن القول بتعدد الأحزاب السياسية في الإسلام هو قول مفترى ومحدث، وهو طرح غريب على ثقافة وعقيدة الأمة، حيث لم يكن معهوداً في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم ، ولا في عهد الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - الذين أُمرنا بالاقتداء بسنتهم وهديهم، ولا في القرون الأولى المشهود لها بالخيرية والفضل..
…وبيننا وبين دعاة الحزبية الحمقاء دهر طويل على أن يأتوننا بدليل واحد من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، أو سيرة الخلفاء الراشدين من بعده ما يدل على قولهم بجواز تشكيل الأحزاب السياسية في ظل الدولة الإسلامية، وأنَّى ..
…ثم لو كان تشكيل الأحزاب السياسية وتعددها في الأمة الواحدة، مما يقرب إلى الله ( وإلى رضوانه، ومما يبعد عن النار لكان الرسو صلى الله عليه وسلم قد بينه لأمته بنص صريح، أو فعل، أو إقرار لا يحتمل الصرف أو التأويل، ولمَا ترك الأمر مبهماً - حاشاه - إلى زماننا هذا ليتدارك عليه صعاليك الحزبية الحمقاء، ويقولون: الأحزاب من الدين، والإسلام قد أمر بها ..؟!
…بل الثابت عن صلى الله عليه وسلم - كما سبق بيان ذلك - النهي عن كل ما يفرق الأمة، ويشتت طاقاتها وقدراتها في أحزاب وشيع ما أنزل الله بها من ـــــــــــــــ
(1) صحيح، انظر تخريج مناسك الحج والعمرة للشيخ ناصر .
سلطان .
…وعليه نقول: الأحزاب فكرة باطلة مستحدثة في الدين، وهي بدعة ضلالة، مضروب بها على وجوه دعاة الحزبية الحمقاء، سمعاً وطاعة للرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم القائل:" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " وفي رواية:" من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " متفق عليه .(54/134)
…ومنها، أن كلمة " حزب " بصيغة المفرد قد وردت في القرآن الكريم على وجهين: وجه يفيد المدح، ووجه يفيد الذم .
…أما الوجه الذي يفيد المدح، كقوله تعالى: { ومن يتولَّ اللهَ ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} المائدة:56. وقال تعالى: { رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} المجادلة:22.
…وحزب الله واحد لا يتعدد، يتمثل في جماعة المسلمين وإمامهم الذين يكونون على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الهدى والفهم لهذا الدين .
…أما الوجه الذي يفيد الذم - وهو كل حزب غير حزب الله ( المتمثل في الجماعة التي تكون على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه - كقوله تعالى: { فتقطعوا أمرهم بينهم زُبُراً كل حزب بما لديهم فرحون} المؤمنون:53. وقال تعالى: { استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} المجادلة:19.
…بينما لم تُذكر كلمة " الأحزاب " بصيغة الجمع والتعدد إلا على وجه الذم والإنكار،وقد وردت في القرآن الكريم في أحد عشر موضعاً كلها جاءت بصيغة الذم (1).
شاهدنا من هذا أن الإسلام لو يقبل بفكرة التعددية الحزبية - وبنفس الوقت تكون جميع هذه الأحزاب على حق - لجاءت ولو مرة واحدة آية تشير إلى أن أحزاب الله هم المفلحون أو الغالبون، ولكن الحق واحد لا يتعدد، وما دونه فهو الضلال { فماذا بعد الحق إلا الضلال} يونس:32.
…ثم لو قيل لدعاة الحزبية: كم حزب تريدون ؟ وكم هي عدد الأحزاب التي يسمح بها الإسلام ؟
…فإن حددوا عدداً معيناً من الأحزاب، قلنا لهم: ما دام الأصل عندكم الجواز، فمن أين لكم الدليل من الكتاب والسنة على تقييد عدد الأحزاب بهذا العدد ؟ وأنَّى ..
…إذاً لم يبق لهم سوى الاحتمال الآخر، وهو أنها دعوة منهم مفتوحة إلى تشكيل الأحزاب وإن تجاوز تعدادها المائة حزب في المجتمع الواحد ..؟!
…وهذا قول أسخف من أن يُرد عليه، فضلاً أن يسلم به عقل سليم أو يقول به دين..!!
ــــــــــــــ
(1) انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، كلمة أحزاب .
ومما استدلوا به كذلك على تعدد الأحزاب في الإسلام، تعدد المذاهب الفقهية في التاريخ الإسلامي، وقالوا: الأحزاب كالمذاهب الفقهية ..!
…أقول: عرف التاريخ الإسلامي مئات العلماء المجتهدين، كالأئمة الأربعة وغيرهم، ولم يُعرف عنهم أنهم طرحوا أنفسهم على الناس كأحزاب أو كمؤسسين لأحزاب سياسية، وكل حزب له برامجه ووسائله المتغايرة في التغيير والحكم كما هو شأن الأحزاب اليوم .
…هل طرحوا أنفسهم على الأمة كأحزاب تتناوب على السلطة - بحسب إرادة الشعب ورغبة الأكثرية - مرة يحكم المذهب الشافعي، ومرة الحنفي، أو المالكي، أو الظاهري .. اللهم لا .
…ولكن نعترف أن بعض المسلمين - بسبب التخلف والجهل الذي أصابهم - قد مروا في حقبة زمنية متخلفة ومتأخرة عن عهد السلف، قد تعاملوا مع بعض هذه المذاهب الفقهية تعامل حزبي مقيت، يسوده الجهل والتعصب الأعمى كان له أسوأ الأثر على حياتهم السياسية والاجتماعية؛ حيث كانوا يعقدون الولاء والبراء فيما بينهم على أساس الانتماء المذهبي الفقهي، فالحنفي لا يزوج ابنته من شافعي، والحنبلي لا يزوج ابنته من مالكي وهكذا هلم جرَّاً(1)، ولربما وصل بهم الحال إلى ـــــــــــــــ
(1) كما هو الحال في زماننا فالإخواني لا يزوج ابنته من تحريري، والتحريري لا يزوج ابنته من جهادي، والتبليغي لا يزوج ابنته إلا من تبليغي، وجماعة الشيخ الفلاني لا يزوجون بناتهم من جماعة الشيخ العلاني، وهكذا .. والحالات التي تم =
التكفير وعدم الصلاة خلف بعضهم البعض، حتى أن المسجد الواحد - كالمسجد الأموي في دمشق - كانت تقام فيه أربع جماعات في وقت واحد على تعداد المذاهب الفقهية الأربعة .. فتأمل !!
…ولكن هذه حقبة مقيتة سوداء خيم فيها الجهل والتعصب الأعمى، مردود عليها بالكتاب والسنة، وبأقوال الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم، لا ترقى إلى أن تكون دليلاً في المسألة يستحق النقاش .
…والقوم لما لم يجدوا دليلاً واحداً من الكتاب والسنة يستدلون به على صحة قولهم بالأحزاب السياسية، لجأوا إلى التحطيب والتقميش في ليل بهيم مظلم، ليخرجوا لنا بمثل هذه العصبيات والجهالات، ليسموها دليلاً ..!!
…قال الأستاذ فتحي يكن : فالساحة الإسلامية تشهد ولادة حركات وتنظيمات وجمعيات وفرق إسلامية على نطاق واسع، وإن كان البعض يعتبر ذلك ظاهرة صحية، فإنني - من خلال المفهوم الشرعي للعمل الإسلامي ومن خلال التقدير الصحيح للمصلحة الإسلامية، ومن خلال متابعة ما يجري عليها - اعتبره ظاهرة مرضية وخطيرة، وتنذر بعواقب وخيمة لا يعلم مداها إلا الله ..
فلو برئت التعددية من التعصب وسادت روح الأخوة بين الفئات ــــــــــــــــ
= رفض الرجل لكونه لا يوافق ولي أمر البنت في الانتماء الحزبي هي أكثر من أن تحصر ..!!(54/135)
المتعددة، وحلت أجواء التعاون والتفاهم والتنسيق بينهم لهان الخطب، وخفف المصاب، ولكن الأمر يجري بعكس ذلك تماماً، فالتعدديات لم تفرز إلا مزيداً من الصراعات، ولم تتسبب إلا بإشاعة الأحقاد والضغائن بين المسلمين، مما شغلهم بالجدل عن العمل، والتنقيب عن السقطات والعيوب بدل التماس العذر والحرص على الستر .
…والتعددية باتت اليوم مرتعاً خصباً ومناخاً مناسباً يمكن أن يدلف منه أعداء الإسلام إلى الساحة الإسلامية، وتحت عناوين وشعارات إسلامية في ظاهرها وباطنها فيه الشر المستطير، والمسلمون أمام هذا السيل العرم والأرقام المتزايدة من الحركات والتنظيمات والمؤسسات أصبحوا في حيرة .. ترى من يصدقون، وبمن يثقون، ومع من يسيرون ؟ وكأن المراد هو بلوغ هذه النتيجة لأنها الأخطر والأدهى والأمر ..!
…فالتعددية من شأنها أن ترسم علامة استفهام عريضة على كل الحركات الإسلامية الأصيلة منها والدخيلة، الصادقة منها والعميلة، السليمة منها والسقيمة، وحين يتحقق ذلك يصبح العمل الإسلامي بدون قاعدة، وبدون أساس وبدون رصيد ودون ظهر، كما تصبح صورة الجميع مشوهة ومهزوزة !
…والتعددية مناخ مناسب لتوالد كل التناقضات على الساحة الإسلامية، وهذا كذلك مطلوب لأن أعداء الإسلام إن كانوا حريصين على شيء فعلى إحداث المتناقضات بين المسلمين واللعب عليه والاستفادة منها في ترتيب المعادلات والتوازنات ورسم السياسات والمؤامرات ..
فكيف يمكن - والحالة هذه - أن تكون التعددية مقبولة، بل كيف يمكن أن تكون ظاهرة صحية ؟!(1) ا-هـ .
ـــــــــــــــــ
(1) عن كتاب احذروا الإيدز الحركي .
أقول: هذا كلام حسن نستحسنه ونستصوبه، وهو منسجم مع طرحنا للمسألة، لكن بقي أن نسجل عليه وعلى قائله الملاحظات التالية:
1- لا يوجد انسجام بين طرحه هذا وبين ما يطرحه قادة حزبه من الإخوان المسلمين المتأخرين، من أنهم مع الديمقراطية والتعددية بكل أبعادها، وبمعناها الكامل والشامل .. كما تقدم النقل عنهم بذلك .
2- هذا الطعن والتجريح، والموقف الرافض لظاهرة تعدد التيارات والجماعات العاملة للإسلام في الساحة، يقابله من الأستاذ وجماعته دعوة إلى ضرورة الحوار والتآلف، والتحالف، والتعايش مع الأحزاب العلمانية المرتدة، وغيرها من أحزاب الزندقة والفجور التي تعيث فساداً في البلاد والعباد ..!
فعلام ما يجوز للأحزاب العلمانية المرتدة، هو حرام على الجماعات والاتجاهات الإسلامية العاملة للإسلام ؟!
أم أنها النظرة الآحادية الضيقة - التي عُرف بها الإخوان المسلمون - التي لا تقبل أن تعترف بأي جماعة أو اتجاه إسلامي يشاركها العمل للإسلام على الساحة ..؟!
تنفسح صدوركم للكفار والزنادقة الملحدين، وتضيق على إخوانكم من المسلمين ؟!
تترامون لتوقعوا تحالفاً مع حزب علماني مرتد، ثم أنتم تأبون الجلوس واللقاء مع غيركم من الجماعات الإسلامية ..؟!
3- كلام الأستاذ المتقدم يتغاير مع ما نُشر من أدبياته وكتبه، وكان آخرها كتابه المعنون بـ" أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان "، وهو من أسوأ ما كتب ونشر للأستاذ، ولا نتجاوز الإنصاف لو قلنا: أنه يهدم كثيراً مما بناه وكتبه =
في السابق .
من الإطلاقات والتقريرات الخاطئة والغريبة الواردة في كتابه المذكور: قوله بوجوب المشاركة في المجالس التشريعية النيابية، وقد نقل إجماع الإسلاميين على القول بجواز المشاركة ..!
ولا ندري من أين الأستاذ تحصل على مثل هذا الإجماع المزعوم، إلا إذا كان يقصد بالإسلاميين إسلاميي حزبه وجماعته، لأنه ربما لا يوجد في العالم الإسلامي من يُعتد برأيه غير الإسلاميين الموجودين في حزبه وجماعته ..؟!
ويكفي لأن نهدم إجماعه المزعوم هذا، أن رجالاً من حزبه العالمي - وليس من خارجه - كالدكتور أبو فارس؛ حيث يرى كفر من يشارك كوزير في الحكومات المعاصرة، كما في كتابه" المشاركة في الوزارة " !
ومما يؤخذ كذلك على كاتب الكتاب، ثناؤه البالغ على طواغيت الكفر والزندقة، ومداهنته لهم، وكذلك تماجده بالدستور العلماني اللبناني، ومما قال فيه : بل إن الدستور ليؤكد على مبدأ الانسجام بين الدين والدولة من خلال نص لا مكان فيه لتصنيف النظام اللبناني كنظام علماني!! ا-هـ.
ولم ينس الأستاذ الكاتب من أن يحشي كتابه المذكور بالصور التذكارية أُخذت له ولجماعته مع أئمة الكفر والطغيان، وكأنه يريد أن يقول وبكل فخر: هذه انجازات الجماعة، وهذا ما حققته .. فماذا فعلتم أنتم لا أم لكم ؟!
خلاصة القول: أن في الكتاب من الطوام والغثائية - ما ينسخ به كثيراً مما كتبه من الحق في أوائل عمره مع الدعوة !- لو أردنا أن ننشغل بالرد عليه بشيء من التفصيل، لاحتجنا إلى تسويد مصنف مستقل .
_ العمل الحزبي الجماعي في ظل دولة علمانية لا تحكم بما أنزل الله .(54/136)
…يختلف الحديث هنا بعض الشيء عما قلناه عن العمل الحزبي الجماعي في ظل دولة الإسلام لاختلاف واقع المسلمين في كل من الدولتين؛ ففي دولة الإسلام يكون الإسلام عزيزاً له الحكم والأمر، والمسلمون في دولتهم أعزاء لهم شوكتهم وإمامهم الذي يجتمع عليه شملهم، وتتوحد كلمتهم، ويتقون به، ويقاتلون من ورائه، والجماعة قائمة وموجودة من شذ عنها شذَّ في النار، ومن فارقها شبراً واحداً فمات، مات ميتة جاهلية ..
…لأجل ذلك قلنا: لا مبرر لوجود الأحزاب في ظل الدولة الإسلامية التي تلتزم بشريعة الإسلام - قولاً وعملاً - سوى شق عصا المسلمين، وتفريق كلمتهم في شيع وأحزاب ما أنزل الله بها من سلطان .
…أما في ظل دولة الطاغوت - وكل دولة لا تحكم بما أنزل الله، ولا تلتزم شرع الله بالقول والعمل فهي دولة طاغوت - فالإسلام محارب، والمسلمون مضطهدون في دينهم ومعاشهم، ومستضعفون في ديارهم يُسامون أشد أنواع العذاب والفتن لصدهم عن دينهم الحنيف، وليس لهم إمام يجمع كلمتهم ويوحد طاقاتهم، ويقاتل عنهم ودونهم الأعداء، ويقيم فيهم حكم الله ..
…وهم من جهة مطالبون شرعاً بالإعداد والأخذ بجميع أسباب القوة قدر استطاعتهم، ومن ثَمَّ الجهاد في سبيل الله تعالى لإعلاء كلمته في الأرض، وإحقاق الحق والعدل، وإبطال الباطل والظلم، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله وحده .
…فهل يصح أن يُقال لهم - وهذا واقع حالهم - انطلقوا للجهاد، ولإعلاء كلمة الله في الأرض كلاً بمفرده وبحسب ما يهوى ويريد(1)..؟!
وهل يقال لهم لا يجوز لكم أن تعدوا للجهاد عدته، وتعملوا ــــــــــــــــ
(1) من الكتب التي أشارت إلى حكم الانتماء إلى الجماعات والأحزاب الإسلامية كتاب " حكم الانتماء " للشيخ بكر أبو زيد، والشيخ إذ أحسن وأجاد عند الحديث عن دور هذه الأحزاب في تفريق كلمة المسلمين وتشتيت ولاءاتهم وانتماءاتهم، وإضعاف شوكتهم، إلا أنه لم يفرق أو يميز بين حكم العمل الجماعي أو الانتماء إلى جماعة تعمل للإسلام، وتحيي فريضة الجهاد في ظل أنظمة الكفر والزندقة والطغيان، وبين الانتماء إلى الجماعات في ظل دولة الإسلام التي تحكم بما أنزل الله !
كما أنه - وبعد أن هدم العمل الجماعي أو الحزبي وأبان حرمته على الإطلاق - لم يبين للأمة وللمسلمين كيف السبيل لاستئناف حياة إسلامية في ظل الأنظمة الكافرة المرتدة الجاثمة على صدر وخيرات ومقدرات الأمة ..؟!
فالكتاب من هذا الوجه ناقص، لذا نرى وننصح الشيخ بأن يراجع كتابه المذكور، وبخاصة أن كثيراً من الشباب المنسوب إلى الاتجاه السلفي قد تأثروا بالكتاب واعتمدوه كدليل على بطلان مطلق العمل الجماعي، وفي أي زمان أو مكان كان، وأرادوها حركة فردية أنانية، عشوائية فوضوية بدعوى محاربة التحزب والفرقة .. فوقعوا - وهم لا يشعرون - في التحزق والتكتل في جماعات صغيرة ومتعددة ، قائمة على التعصب لبعض الشيوخ والأسماء، هي أسوأ من تحزقات وتكتلات الأحزاب والجماعات بصورتها المقيتة ..!
لنصرة دينكم ورفع الظلم عن أنفسكم من خلال عمل جماعي منظم، يرشد الطاقات، ويرص الصفوف، ليوجهها بهدوء ودراية إلى الهدف المنشود.. ؟!
وهل يقال لهم - وهم ليس لهم إمام تجتمع عليه كلمتهم - لا يجوز لكم أن تجتمع كلمتكم ويلتم شملكم على أمير مسلم عدل يقاتل دونكم ومن ورائكم، ويحفظ لكم دينكم ومحارمكم ..؟!
…لا يقول بهذا القول ناصح محب، ولا يقول به إلا واحد من اثنين: مرجف مغفل تملكه الجبن والخوف، أو رجل غاش لا يريد للمسلمين أن تقوم لهم قائمة ..
…وطواغيت الكفر الجاثمين على صدر الأمة ومقدراتها ماذا يريدون من المسلمين غير هذه الاتكالية والنزعة الفردية الانطوائية السلبية التي لا تتفاعل مع واقع الأمة، والحركة الفوضوية العشوائية التي لا يقرها ولا يرضاها نقل ولا عقل ..؟!
…واعلم أنه لا شيء يخيف الطواغيت ويرهبهم من المسلمين مثل العمل الجماعي الهادف المنظم، لأنهم يعلمون أنه هو العمل الذي يمكن أن يثمر وينتج شيئاً، ومتى علم الطاغوت أن المسلم يتحرك لدينه بطريقة فردية أنانية استخف به، وهان في عينه، ورضي حاله مهما كان يتصف بالاستقامة والالتزام، وإن كان هذا المسلم على خلاف ذلك يعمل لدينه من خلال جماعة عامة منظمة يعلوها أمير مطاع، خافوه وهابوه، وحسبوا
له ألف حساب ..!
لذا نراهم يهتمون في معرفة انتماء الفرد التنظيمي، ومع أي جماعة يعمل، أكثر مما يريدون معرفته عنه من حيث منهجه، وأفكاره، وعقيدته، فهذه أمور تأتي بالدرجة الثانية من حيث الأهمية والخطورة عليهم ..!!
…حق بلا سيف ولا ساعد يحميه، الكل يستهين به .. وبخاصة أننا نعيش في زمان تسوده شريعة الغاب، ومنطق الأقوى هو الأسلم والأحكم، وهو دائماً على حق وصواب، ورأيه مسموع ومطاع ..!!
_ ضرورة العمل للإسلام من خلال جماعة منظمة عليها أمير مطاع .
…هذه الضرورة تأتي من جهتين : جهة ما يمليه الواقع على المسلمين من وجوب الأخذ بأسباب القوة والمنعة والتمكين، وجهة ثانية وهي دلالة النصوص الشرعية .(54/137)
…أما ما يمليه الواقع : فإن الجاهلية المعاصرة - المتمثلة بأنظمتها الكافرة الدولية منها والمحلية - تواجه المسلمين بكل أسباب القوة والمنعة؛ من تنظيم وتخطيط، وتكتل وإعداد، وعتاد وجيوش وغير ذلك . وبالمقابل فمن العبث والتواكل أن يواجه المسلمون هذه الجاهلية المنظمة القوية، والمسلحة بجميع أسباب القوة المادية، بأسباب الضعف والهزيمة؛ من عشوائية وحركة فردية فوضوية، وروح صوفية إتكالية !
…فالتنظيم يقابله التنظيم لا الفوضة والعشوائية، والعمل الجماعي يقابله عمل جماعي مماثل، والقوة لا يفلها إلا القوة لا الضعف والتشرذم، والحديد لا يفله إلا الحديد .. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
…أما من حيث دلالة النصوص الشرعية : فقد أمر الله تعالى المسلمين بالإعداد والأخذ بأسباب القوة ليرهبوا أعداءهم من الكفار والمرتدين، قال تعالى: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} الأنفال:60.
…فوجب على المسلمين - بدلالة الآية الكريمة - أن يأخذوا بجميع أسباب القوة والغلبة المادية منها والمعنوية، التي ترهب أعداء الله وأعداء المسلمين من الكافرين والمنافقين، والتي منها: الجماعة، والتنظيم والتخطيط، والإمارة، والطاعة، التي لا تقوم للجهاد قائمة صحيحة من دونها، والتي تعتبر من المقدمات الضرورية للإعداد المطلوب شرعاً .
…وفي السنة، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم "(1). فإذا كان من مستلزمات السفر الناجح - وهو سفر - التنظيم والإمارة والطاعة، فمن باب أولى أن يكون العمل والتوجه لإقامة الدولة الإسلامية - على منهاج النبوة - قائم على أساس من التنظيم والتخطيط السليم، والعمل الجماعي المنظم الهادف الذي عليه ـــــــــــــــــ
(1) رواه أبو داود، صحيح الجامع الصغير:500 .
أمير مطاع .
…قال ابن تيمية في الفتاوى 28/390: فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال صلى الله عليه وسلم :" إذا خرج ثلاثة في سفرٍ فليؤمروا أحدهم ".
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو، أن صلى الله عليه وسلم قال:" لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم "، فأوجب r تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيهاً بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم . فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات ا-هـ .
وقال الشوكاني بعد أن ذكر أحاديث الإمارة في السفر: فيها دليل على أنه يشرع لكل عددٍ بلغ ثلاثة فصاعداً أن يؤمروا عليه أحدهم لأن في ذلك السلامة من الخلاف الذي يؤدي إلى التلاف، فمع عدم التأمير يستبد كل واحد برأيه ويفعل ما يطابق هواه فيهلكون، ومع التأمير يقل الاختلاف وتجتمع الكلمة، وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو يسافرون فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار ويحتاجون لدفع التظالم وفصل التخاصم أولى وأحرى (1) ا-هـ .
ــــــــــــــــ
(1) نيل الأوطار: 8/256 . قلت: من المعاصرين الذين يعادون العمل الجماعي - على إطلاقه - الذي ينتظم بإمرة أمير أو رئيس الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وتابعه على ذلك كثير من مقلديه كالمدعو علي الحلبي، كما في كتابه" البيعة بين السنة والبدعة "، حيث يحرمون الجماعات، والبيعة لأمراء هذه الجماعات، ولا يميزون بين حال وجود الدولة الإسلامية وبين حال غيابها، وهم يحصرون جواز البيعة في بيعة الخليفة العام للمسلمين فقط، بدعوى أنها دعوة إلى الحزبية والتفرق، وأنها بدعة محدثة ..!
والشيخ الألباني بشيء من التتبع وجدناه مضطرباً في المسألة متناقضاً فيها، حيث من وجه يقول بحرمتها وبدعتها، ومن وجه آخر يقرها ويثني عليها خيراً، أما الوجه الذي يفيد ذمه وتحريمه لها فهولا يحتاج إلى إثبات أو دليل؛ إذ هو المشهور عن الشيخ، ويعلم ذلك منه القاصي والداني، وأما الوجه الذي يفيد الإقرار والثناء عليها هو الذي يحتاج منا إلى إثباته وبيانه، وإليك ذلك:
يقول الشيخ كما في السلسلة الصحيحة 6/274 ، عندما سرد قصة خلافه مع الشيخ نسيب الرفاعي رحمه الله: فهو رجل - أي نسيب الرفاعي رحمه الله - عاش نحو ربع قرن من الزمان رئيساً على إخوانه السلفيين في حلب، ومنذ بضع سنين بدأ يظهر شيئاً من الشدة عليهم، وفرض الرأي .. وعلى الرغم من نصحي إياه فلم يستجب، فكانت عاقبته أن أزالوه من رياسته، بعد أن اجتمعوا في داره، وأنا معهم وبعض إخواننا الدمشقيين، وكلهم ينصحونه ويطلبون منه أن يكف عن فرض رأيه وإصراره، وأن يتعاون مع كل إخوانه، وبخاصة القدامى والفقهاء منهم، فرفض، فكان أن أقالوه عن رياسته، ونصبوا عليهم غيره وهم في داره ا-هـ .(54/138)
والذي يهمنا نحن هنا أن الشيخ يقر للجماعة السلفية في حلب - التابعة له ولمنهجه - أن يكون لها رئيساً، وأن هذا الرئيس قد نُصب من قبل الجماعة،وباتفاق منهم =
وقا صلى الله عليه وسلم :" لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة "، وفي رواية:" لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة "، وفي رواية:" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة "، وفي رواية:" لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم ـــــــــــــــــ
= بعدما عزلوا وأقالوا الأول لمخالفات - لا تعدوا أن تكون اجتهادات - رأوها موجبة لذلك ..!
وموقف الشيخ لم يقتصر على الإقرار، وإنما تجاوزه إلى حد المشاركة، وهذا الذي يفهم من قوله " وأنا معهم " ..!
وإذا كان الشيخ يقر ويشارك في العمل الحزبي الجماعي في حلب - كما هو ظاهر من قوله - فكيف يقول من جهة أخرى بحرمته وبدعته ؟!!
أما ذلك المدعو علي الحلبي - كما في كتابه المذكور أعلاه، وهو عبارة عن مجموعة نقولات لأهل العلم الذين يخالفونه في المسألة، أدخل بينها أحرف عطفه - عندما لم يجد ما يسعفه في مسألته من الكتاب والسنة، لجأ إلى أقوال أهل العلم ليحرفها عن مواضعها، ويقولهم ما لم يقولوا، لينصر مذهبه الباطل في المسألة، وقد رددنا عليه بشيء من التفصيل في كتابنا " صفة الطائفة المنصورة " انظر ص52.
ويكفي لكي تعلم مدى كذب هذا الرجل على أهل العلم، وتقويلهم ما لم يقولوا أن تراجع كتاب " تحذير الأمة من تعليقات الحلبي على أقوال الأئمة "، للدكتور محمد أبو رحيم .
حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك "(1). وغيرها كثير من الأحاديث التي تفيد بوجود هذه الطائفة التي تجاهد في سبيل الله ولا تخشى في الله لومة لائم .
والشاهد أن هذه الطائفة المنصورة، أو العصابة المسلمة الظاهرة بالحق كما وصفها صلى الله عليه وسلم - تقاتل في سبيل الله، وهي موجودة في زماننا - زمان غياب الخلافة الإسلامية، وغياب السلطان المسلم الذي تجتمع عليه كلمة المسلمين - وفي كل زمان إلى أن تقوم الساعة، وهذا المستفاد من قول صلى الله عليه وسلم " لا تزال "الذي يفيد الوجود والاستمرارية وعدم الانقطاع.
…وإذا كان الأمر كذلك، فهل يعقل أن هذه الطائفة المذكورة - التي من أبرز سماتها القتال في سبيل الله - تقوم بمهمة القتال والجهاد بطريقة فردية عشوائية فوضوية وغير منظمة، أم أنها تقاتل بطريقة جماعية منظمة، ومنضبطة بأسباب النصر والتمكين ؟!
…قال تعالى: { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} الصف:4.
ثم هل مهمة القتال في سبيل الله - ومعلوم كم للقتال الناجح من لوازم ومتطلبات وبخاصة في هذا الزمان الذي يتترس فيه العدو بكل أسباب القوة المادية - مهمة فردية، أم هي مهمة جماعية تقوم بها جماعة منظمة ومدربة، يرأسها أمير مطاع، أعدت للجهاد عدته وأسبابه ؟!
ــــــــــــــــ
(1) جميع هذه الروايات صحيحة، أخرجها مسلم في صحيحه .
…وإذا كانت الإمارة والطاعة، والجماعة لا تستخدم في مثل هذا الموضع الهام، فبأي المواضع تستخدم (1)؟!
…عجب من أولئك الذين يرفضون - رهبة أو رغبة - العمل الجماعي المنظم، بدعوى رفض التحزب والحزبيات التي تفرق كلمة المسلمين !!
…وأي فرقة أشد على وحدة كلمة المسلمين من أن يعمل المسلمون كل بمفرده وبطريقته الخاصة التي تناسبه بعيداً عن مصلحة الجماعة، ومن دون أن تجتمع جهودهم في جماعة واحدة، يسوسهم ويرأسهم أمير مطاع..؟!
…وإذا كان لكل شيء سيد، حتى المجالس فلها سيد كما يقول صلى الله عليه وسلم :" إن لكل شيءٍ سيداً، وإن سيد المجالس قبالَة القبلة "(2).
ــــــــــــــــ
(1) مجيء النصوص الآمرة بالجهاد عامة من غير تحديد للعدد الذي به تقوم فريضة الجهاد، لا يعني ذلك مطلقاً أن يعلن كل فردٍ من الأمة الجهاد من طرفه وبطريقته الخاصة من دون الاكتراث بمصالح العامة من المسلمين أو مراعاة المصالح الكلية العامة للإسلام، أو من دون أن يقدر المصالح والمفاسد التي يمكن أن تترتب على عمله، فالجهاد شُرع لغيره - وهو إعلاء كلمة الله في الأرض وحماية مقاصد الدين وكلياته - لا لذاته بغض النظر عن النتائج التي سيؤول إليها ..!
وفي هذا تنبيه لأولئك الذين يتصرفون بطريقة فردية طائشة غير مسؤولة، تخلو من التقدير الصحيح لطبيعة النتائج، تنعكس على الأمة بنتائج سلبية لا تحمد عقباها .. ثم هم بعد ذلك ينسبون أعمالهم للجهاد والمجاهدين في سبيل الله !!
(2) رواه الطبراني في الأوسط، السلسلة الصحيحة:2645 .
…فعلام يستهجن دعاة الإرجاف أن يكون للمسلمين في مرحلة الاستضعاف سيد يسوسهم ويقودهم بالدين، ويجمع كلمتهم على التقوى والعمل الصالح، ويرجعون إليه عند الملمات والحاجة، علماً أن كلمة شيء الواردة في الحديث، جاءت نكرة وهي من صيغ العموم التي تفيد عموم كل شيء، بما في ذلك المسلمين !(54/139)
ثم لينظر هؤلاء في سيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحابته، قبل قيام الدولة الإسلامية، وقبل التمكين وهم في المرحلة المكية، هل كانت حركتهم تقوم على أسلوب الدعوة الفردية من دون جماعة ولا طاعة للرسو صلى الله عليه وسلم ، أم أنها كانت منتظمة في الجماعة والطاعة لتعاليم وأوامر صلى الله عليه وسلم ، لا يتحركون ولا يفعلون شيئاً إلا بإذنه صلى الله عليه وسلم .؟
وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ".
وقا صلى الله عليه وسلم :" يد الله مع الجماعة " . وقا صلى الله عليه وسلم :" الجماعة رحمة والفرقة عذاب "(1) . وغيرها كثير من النصوص التي تلزم بالجماعة والاجتماع، وتنهى عن التفرق والفردية، والاختلاف .
قال علماء نجد رحمهم الله: وقد علم بالضرورة من دين الإسلام ــــــــــــــــ
(1) سبق تخريج هذه الأحاديث . قلت: من شذوذات القوم الفقهية أنهم يستشهدون بنفس هذه الأحاديث على بطلان العمل الجماعي، وعلى شرعية فرديتهم وأنانيتهم وتشرذمهم ..!
أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة؛ وهذه الثلاثة متلازمة، لا يتم بعضها ولا يستقيم بدون بعض، وبها قوام الدين والإسلام، وبها صلاح العباد في معاشهم ومعادهم، وإذا وقع الإخلال والتقصير فيها، أو في بعضها، حصل من الشر والفساد بحسب ما وقع من ذلك ولا بدّ، وهكذا حتى يعظم الفساد، ويتتابع الشر ويتفاقم الأمر، وينحل النظام، وتتخلف أمور الدين (1) .
ولهؤلاء الذين يرفضون العمل الجماعي المنظم مطلقاً، نقول لهم: ما حكم الجهاد في هذا الزمان ؟
يقولون على الفور: هو فرض عين على كل مسلم .
…قلنا لهم: كيف السبيل لإحياء هذه الفريضة الغائبة، التي أمتناها وأضعناها بين الفوضى والفردية، والتواكل والتصرف الغير مسؤول(2) ؟!
ــــــــــــــــ
(1) انتهى كلام العلماء، وهم:محمد بن عبد اللطيف، وسعد بن حمد بن عتيق، وصالح بن عبد العزيز، ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، رحمهم الله تعالى . انظر الدرر السنية 9/197.
(2) يوجد في زماننا من يقول بفريضة الجهاد، لكنهم علقوه واشترطوا له وجود الخليفة العام للمسلمين الذي يأذن به، حيث لا يجوز الجهاد عندهم إلا بعد وجود الخليفة الذي يأذن بالجهاد مهما تعرضت بلاد المسلمين وحرماتهم إلى الانتهاكات والاعتداءات من قبل أعداء الأمة والملة، وأي جهاد قبل ذلك - كما قالوا - فهو باطل وغير جائز، وصاحبه آثم آبق إلى عذاب الله !
فانظر مثلاً ماذا يقول صاحب كتاب " هي السلفية " الذي جاء تشويهاً لصورة =
ـــــــــــــــــ
= السلفية الحقة، وللمنهج السلفي الصحيح: ونسأل لماذا لا تستطيع الأمة القيام بأعباء فريضة الجهاد ؟ ذلك أن الجهاد - وهي فريضة فرضها الله سبحانه - لا يكون إلا بإمام وبإذن منه، وهو في هذا مثل الحدود والعقوبات فهذه لا يوقعها ولا يقيمها إلا إمام العامة .. فإن الجهاد لا يفتح بابه، ولا يرفع رايته، ولا يأذن به ويدعو إليه إلا إمام واحد، رضي من رضي، وكره من كره، صوناً للأمة.. وقانون المدافعة يقضي بأن الجهاد لا بد وأن يكون مأذوناً به من إمام عامة فإن أذن على نحو ما بينا سابقاً، وإلا فهو آبق إلى إثم، غادٍ إلى عذاب، رائش لنفسه سهماً من غضب الله يجأ به صدره ..ا-هـ .
تأمل كلام هذا الضال الذي يرتدي ثوب السلفية والسلفية منه براء، ثم تأمل في خدمة من يصب كلامه، ومن المستفيد منه ؟! فإنه مما لا شك فيه لا يخدم إلا أعداء الأمة من الطواغيت المرتدين، وأسيادهم من مصاصي دماء الشعوب من اليهود والنصارى ..!
لأن مفاد كلامه أن المستعمر الكافر لو غزا بلاد المسلمين - كما هو حاصل في فلسطين وغيرها من البلدان - والمسلمون ليسوا لهم خليفة ولا إمام عام يجتمعون عليه - كما هو الحال في زماننا - لا يجوز لهم أن يجاهدوا الكافر المستعمر، ولا أن يصدوا عدوانه عن حرمات البلاد والعباد، إلا بعد أن يجدوا الخليفة الذي يأذن لهم بالجهاد !!
أما كيف يأتي هذا الخليفة، وكيف ينزل، وكيف يُفرض على الأمة، فهذا أمر لا يهمهم ولم نجد له عندهم إجابة كافية وشافية، لكن المهم جداً عندهم أن لا يأتي هذا الخليفة أو الإمام عن طريق القوة والجهاد ..!
وهذا الشيخ الضال ليس وحده الذي ينفرد بهذا القول، ولو كان وحده يقول بهذا القول لهان الخطب ولما عنيناه بالرد والتنبيه، ولكن معه قافلة من مشايخ الإرجاف =
قالوا: لا بد أولاً أن يسبق الجهاد الإعداد الشامل؛ المادي والمعنوي معاً .
قلنا لهم: قد أصبتم، ولكن كيف يتم هذا الإعداد الشامل والكامل في نظركم، هل يتم بطريقة فردية تواكلية، أم بطريقة جماعية منظمة ؟!
لا نكاد نجد عندهم جواباً يُذكر، سوى الخوف والإرجاف من تبعات العمل الجماعي المنظم، لما يشكله من خطر محقق على أمن ــــــــــــــــ
= يقولون بقوله، ويرتؤون رأيه، ومن الأحزاب الإسلامية المعاصرة التي تقول بهذا القول الباطل حزب التحرير ..!!(54/140)
وهؤلاء جميعاً يذكروننا بالزنديق المرتد الكذاب غلام أحمد القادياني الهندي، مدعي النبوة، عندما أعلن لأتباعه وغيرهم من المسلمين - أبَّان استعمار الإنكليز للقارة الهندية - أن حكم الجهاد منسوخ، وأنه لا جهاد بعد اليوم، ومن يجاهد فهو آثم وآبق إلى عذاب ..!!
وكان لدعواه الكاذب هذا أكبر النفع للمستعمر الصليبي ، حيث صد كثيراً من الناس عن جهادهم وقتالهم، لذا فإن القاديانية لا تزال تحظى - حتى إلى يومنا هذا - بكامل العناية والرعاية من أسيادهم الإنكليز .
وهؤلاء التقوا مع الكذاب أحمد غلام في تعطيل الجهاد وإبطاله، وإن لم يقولوا بقوله بأن الجهاد منسوخ، وهذا الفارق البسيط بين القولين غير مهم بالنسبة للكافر المستعمر وغيرهم من الطواغيت، وإنما المهم أن يتوقف الجهاد ضدهم تحت أي شعار أو زعم كان !!
وسلامة الطواغيت، خشية وقوعهم في الفتن كما زعموا .. ألا في الفتنة سقطوا !
وهؤلاء مثلهم مثل من يقول بالشيء وضده في آنٍ معاً، نعم للجهاد لكن لا للأسباب المؤدية إليه ..!
قال تعالى: { أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} العنكبوت:2. وقال تعالى: { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم} محمد:31.
- شروط وقيود على العمل الجماعي المنظم .
…إذ نقول بشرعية العمل الجماعي المنظم - في حال غياب الدولة الإسلامية وعدم وجود خليفة للمسلمين - فإننا لا نقول به على إطلاقه من دون قيد أو شرط، وإنما نقيده بقيود شرعية، ونشترط له شروطاً، أهمها:
…أولاً: وجود الضرورة الملزمة لذلك؛ وتكمن - كما بيناها - في حال غياب الدولة الإسلامية، وعدم وجود سلطان مسلم ( خليفة ) تجتمع عليه كلمة المسلمين، ويرعى قضاياهم الدينية والدنيوية ..
…ثانياً: أن تقوم هذه الجماعة على أساس الالتزام بالكتاب والسنة، وعلى أساس الاتباع والاقتداء بمنهج السلف الصالح، لا الابتداع والأفكار الضالة والمنحرفة .
…وأي جماعة أو حزب لم ينضبط بهذا الضابط، أو يعرف عنه بتفريطه بثوابت وأصول هذا الدين، فهو تجمع باطل ومرفوض - شره أكثر من خيره - لا يجوز الانتماء إليه أو تكثير سواده في شيء .
كما في الأثر عن ابن مسعود ( :من كثر سواد قومٍ فهو منهم.
…وفي السنة، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً، وسترون من بعدي اختلافاً شديداً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات فإن كل بدعة ضلالة "[ صحيح ابن ماجة:97].
…فالعاصم من الاختلاف، واتباع الأهواء والبدع، يكون بالتزام
السنة، وسنة الخلفاء الراشدين من بعد النبي صلى الله عليه وسلم
…وقا صلى الله عليه وسلم :" احفظوني في أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل وما يستشهد، ويحلف وما يستحلف "(1).
…وعن عمران بن حصين قال: قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :" خير أمتي القرن الذي بعثتُ فيهم، ثم الذين يلونهم " قال: ولا أعلم أذكر الثالثة أم لا، " ثم ينشأ أقوام يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون " مسلم .
…وفي هذا الحديث ونحوه دلالة على خيرية القرون الثلاثة الأولى وفضلها على ما بعدها من القرون والسنين، والعاقل هو الذي يتلمس الهدى عند الفاضل، ويقدمه على المفضول .
…وقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار . وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة . والذي نفس محمد بيده لتفترقنَّ أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة، واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار " قيل: يا رسول الله من هم ؟ قال:" الجماعة "(2) . وفي رواية عند الترمذي، من حديث عبد الله بن عمرو:"
وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة " قال: ــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن ماجة وغيره، السلسلة الصحيحة: 1116. (2) صحيح سنن ابن ماجة: 3226 .
من هي يا رسول الله ؟ قال: " ما أنا عليه وأصحابي "(1).
…والشاهد من هذه الأحاديث - وغيرها من النصوص والآثار الدالة على هذا المعنى - أن الجماعة الناجية المنصورة التي يجب الانتماء إليها، وتكثير سوادها هي الجماعة التي تتمسك بالكتاب والسنة، وتكون على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده فهماً والتزاماً وسلوكاً، وما سواها من الجماعات التي تتنكب هذا الطريق مهما كثر عددها وانتشر صيتها وضرب اسمها الآفاق، لا يجوز الانتماء إليها، أو التكثير من سوادها بشيء، فالحق أحق وأولى بالاتباع وإن قل أنصاره، فالحق لا يُعرف بالكثرة الغالبة، وإنما يُعرف بالكيف المطابق للكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة(2) .(54/141)
…ثالثاً: أن تكون الغاية من العمل الجماعي المنظم، التعاون على البر والتقوى، والعمل على إحياء فريضتي الإعداد والجهاد في سبيل الله، ومن ثم استئناف حياة إسلامية تسود جميع مناحي الحياة والحكم، والجماعة هنا – متمثلة في أميرها – تقوم مقام السلطان المسلم في الذود عن الدين، وعن حرمات المسلمين قدر المستطاع إلى حين قيام الخلافة العامة للمسلمين .
قال تعالى: { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم
ــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن الترمذي:2129 .
(2) انظر إن شئت كتابنا " صفة الطائفة المنصورة التي يجب أن تكثر سوادها " فالمسألة هناك بحثت بشيء من التوسع .
والعدوان} المائدة:2.
وقال تعالى: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} الأنفال:60.
…وقال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}الأنفال:39 .
…وقال تعالى: { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} البقرة:216.
…وقال تعالى: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} آل عمران:104.
…وقال تعالى: { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا} النساء:84.
…وهذه آيات محكمات، العمل بمقتضاها واجب، لا يسقط بسقوط الخليفة أو الخلافة، ولما كان هذا الواجب لا يمكن النهوض به على الوجه الصحيح إلا من خلال جماعة، أو عمل جماعي منظم يأخذ بأسباب القوة، دل أن الجماعة والعمل الجماعي له حكم الوجوب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
…وقد تقدمت الإشارة إلى أن عدم وجود إمام عام للمسلمين تجتمع عليه كلمتهم ويلتئم شملهم، لا يعطل من مسيرة الإعداد والجهاد في سبيل الله .
…كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم:" لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتي الساعة وهم على ذلك ".
…فالحديث يفيد أن هذه العصابة المؤمنة المقاتلة موجودة في زماننا، وفي كل زمان إلى أن تقوم الساعة، وهي كذلك تقوم بواجب القتال في سبيل الله – على مدار زمن وجودها على الأرض – لا تخاف في الله لومة لائم، سواء كان للمسلمين خليفة مطاع أم لم يكن (1) .
…رابعاً: أن يقوم العمل الجماعي المنظم على أساس توحيد كلمة جميع المسلمين – على منهاج النبوة – في حزب واحد، وجماعة واحدة قدر المستطاع .
…وعليه أي فرقة تقع بين المسلمين يمكن ترميمها، والمسلمون لا يفعلون، فهم آثمون، وقد عصوا الله ورسوله، وخالفوا نصوص الكتاب والسنة، وعملوا – عن قصد أو غير قصد – على تمكين العدو من رقابهم.
…كما قال تعالى: { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} الأنفال:46. أي تتلاشى قوتكم وتذهب منعتكم وغلبتكم .
ـــــــــــــــــ
(1) من يقول بخلاف ذلك يستلزم منه أن يعطل الجهاد – والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة كما أفادت بذلك النصوص – في كثير من أمصار المسلمين التي ابتليت بطواغيت وجيوش كافرة ناصبت الإسلام والمسلمين الحرب والعداء، ويعتبر جهادهم غير شرعي وباطل، وهذا لا يقول به إلا مغفل جاهل بفقه الجهاد، أو رجل عالم لكنه لا يريد أن تقوم للأمة قائمة، أو ينكشف عنها الظلم والذل ..!
…وقال تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيءٍ} الأنعام:159 .
…وقال تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} آل عمران:103 .
…فعدم مراعاتهم لهذا الشرط يوقعهم تحت طائلة هذه النصوص وغيرها من النصوص التي تأمر بالوحدة والجماعة والتآلف .
…ومدار الإثم هنا – كما تقدم – قائم على التقصير فيما هو مستطاع ومقدور عليه، أما ما هو فوق القدرة والاستطاعة نرجو ارتفاع الحرج والإثم – إن شاء الله – لقوله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم} التغابن:64. وقوله تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} البقرة:286.
…خامساً: لا يجوز تشكيل أي عمل حزبي جديد في أي قطر من أقطار المسلمين، إذا كانت الجماعة الأولى في هذا القطر قائمة وموجودة قبلاً، لأن قيام جماعات متعددة على نفس الساحة – منهجها واحد – لا مبرر له البتة سوى تفريق كلمة المسلمين وإضعاف شوكتهم .
…وفي حال خطأ الجماعة الأولى وانحرافها عن جادة الحق والصواب، يقدر خطؤها، فإن كان في العقائد والأصول، وفيما لا يمكن إقراره أو السكوت عليه، والتعايش معه – أي انحرفت عن منهاج النبوة بالقدر الذي يبرر الخروج منها والتخلي عنها – يتخلى عنها المسلمون ويشرعون في عمل جماعي جديد يقوم على أساس منهاج النبوة ..
…أما إن كان خطؤها محتملاً وفي الفروع أو في السلوك لبعض
أفرادها، فإن ذلك لا يبرر الانقسام عليها وتشكيل جماعة أخرى من جديد، لأن مثل هذا النوع من الأخطاء وارد وممكن الوقوع حتى في عهد الصحابة والتابعين لهم بإحسان الذين جاءوا من بعدهم، فضلاً عن زماننا الذي ابتعد عن عهد النبوة أكثر من ألف وأربعمائة سنة .(54/142)
…وثانياً لأن فرقة المسلمين وانقسام كلمتهم في جماعات متغايرة متباغضة متفرقة أشد خطراً وضرراً على المسلمين من البقاء في حزب أو جماعة فيها بعض الأخطاء الفرعية أو السلوكية التي يمكن إزالتها أو معالجتها بشيء من النصح والحكمة .
…وثالثاً، لأن هذه الجماعة أو المجموعة التي ستنشق لن تسلم مما وقعت به الجماعة الأم الأولى من الوقوع في بعض الأخطاء، وبالتالي فإن سلسلة الانقسامات وإحداث التجمعات والتحزبات المقيتة ستستمر ولن تتوقف، كما هو حال كثير من التكتلات والتجمعات المعاصرة(1).
…لذلك نجد أن عبد الله بن مسعود ( رغم خلافه مع عثمان بن عفان ( وإنكاره عليه إتمامه للصلاة في مِنى أربعاً وهو بخلاف السنة، فإنه لم يُحدث جماعة ثانية للصلاة، وصلى خلف عثمان أربعاً، فقالوا له:
ــــــــــــــــــ
(1) مما يُذكر في هذا الصدد أن إحدى الجماعات المعاصرة والتي مقر قيادتها في الغرب، كانت قد انشقت عن جماعة أخرى لشروع الأخرى في العمل الديمقراطي، ثم ما إن استقرت الجماعة الثانية على قواعدها وانتشر صيتها إلا وقد شرعت تناصر العمل الديمقراطي وتدافع عنه، وتقع فيما قد انشقت- عن الجماعة الأولى - لأجله ..!!
تعيب على عثمان ثم تصلي خلفه أربعاً ؟! فقال: الخلاف شر(1).
…ــــــــــــــــ
(1) انظر السلسلة الصحيحة للشيخ ناصر:6/388.
أقول: وأنا أخط هذه الكلمات بلغني وفاة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، رحمه الله وعفا عنه وعن زلاته، وأسكنه فسيح جناته .
ونحن خلافنا مع الشيخ في مسائل الإيمان والوعد والوعيد هو خلاف علمي ومشروع، وكان لا بد منه ، يحدث أمثاله بين أهل العلم في القديم والحديث، والانتصار للحق أحب إلينا من أنفسنا ومن جميع من على وجه الأرض، لا نحابي ولا نجامل فيه أحداً ..
والشيخ – رحمه الله – رحل وترك وراءه – كغيره من أهل العلم المعاصرين – كثيراً من المسائل والتساؤلات – مما يتعين بيانه - لم يجب عليها، أو سكت عنها وبخاصة فيما يتعلق بطواغيت الحكم والجور الجاثمين على مقدرات وأنفاس الشعوب – عملاء اليهود والصليبيين - مما أعطى الفرصة للغوغائيين المتفيهقين صانعي الشغب من بعده أن يتكلموا باسمه، وربما يقوِّلوه ما لم يقل، أو يكن يراه ..
ولكن هذا لا يمنع من أن يُنصف جانب الحق عند الشيخ؛ وهو جانب ضخم وكبير، لا يجحده إلا كل ظالم وكافر نعمة، أو صاحب هوى وبدعة ..
فعلم الحديث وما يتعلق به من علوم وفنون، والانتصار لمذهب أهل الحديث والدليل في الفقه ، وإحياء العمل بالحديث الصحيح دون الضعيف، وتصفية وتمييز الصحيح منها عن الضعيف، وكذلك معنى السنة والبدعة وإحياء ذلك في الأمة .. لا شك أن الشيخ كان المجدد لهذه المعاني في هذا العصر، نرجو أن يكون له أجر – إن شاء الله – كل من تكلم في هذه المعاني والعلوم =
إن وحدة الأمة واجتماع كلمتها هدف كبير، وأصل عظيم من أصول الدين يهون ويرخص في سبيل تحقيقه أو الحفاظ عليه كثير من المقاصد والأصول الأخرى، ولا يُفرط به إلا لأصل أعظم منه وأوكد، ولا أراه إلا التوحيد الذي لأجله خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وهذا ما يقتضيه قول صلى الله عليه وسلم :" وأن لا نُنازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان " متفق عليه . وقول صلى الله عليه وسلم :" لا ما أقاموا فيكم الصلاة " مسلم . لأن إقامة الصلاة – على الراجح – هي من التوحيد والإيمان، وتعتبر شرطاً لصحته، كما بيناه في كتاب " حكم تارك الصلاة " .
خلاصة القول: عند الإقبال على عمل من هذا القبيل، وهو إحداث جماعة جديدة تعمل للإسلام، لا بد من ترجيح – من منظور شرعي بعيد عن العصبية والهوى – أيهما أشد ضرراً أو أكثر نفعاً، وأيهما ترجح فيه المصلحة فيقدمه، وأيهما ترجح فيه المفسدة والمضرة فيدفعه ويرده .
سادساً: أن تعيش الجماعة – قدر المستطاع – اهتمامات الأمة، فتهتم بأمور جميع المسلمين الخاصة منها والعامة، وبمصلحتهم وكيف تحقق ــــــــــــــــــ
= ممن جاء بعده واستفاد من علمه ..
وإنا لندعو الله تعالى له بالرحمة والمغفرة، وأن تعلو حسناته سيئاته وأن تجبها، وأن يبدل سيئاته إلى حسنات، فإن الحسنات يذهبن السيئات إنه تعالى غفور رحيم .
لهم النفع والفائدة ، من دون تمييز أو تفريق بين أحد من المسلمين، فالمسلمون جميعاً أخوة في الدين، متساوون في الحقوق، تتساوى ذممهم – على اختلاف مراتبهم ومكانته – لا تفاضل فيما بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، كما قال تعالى: { إنما المؤمنون إخوة} الحجرات:10. وقال تعالى: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم} الحجرات:13.
وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" المؤمنون من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لما يصيب أهل الإيمان كما يألم الرأس لما يصيب الجسد "(1). وقا صلى الله عليه وسلم :" المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله " مسلم .(54/143)
فلا يجوز للمسلم – وهو يستطيع أن يدفع الظلم عن أخيه المسلم – أن يُسلم أخاه إلى الظلم والقهر، والفقر والجوع بدعوى أنه مسلم من الدرجة الثانية أو الثالثة لكونه لا ينتمي إلى حزبه أو فئته وجماعته ..!
والذي دعانا للإشارة إلى هذا الأمر أن كثيراً من الأحزاب المعاصرة المسماة بالإسلامية لا تهتم إلا بأفرادها أو فيمن يعطيها الولاء، أو فيمن يطمعون أنه سيكون منهم يوماً من الأيام، وما سواهم من المسلمين فلهم الموت والهلاك والفقر وكل أنواع الإهمال وإن كانوا على أتقى وأصلح قلب رجل من المسلمين، فإن أمرهم لا يعنيهم في شيء ما داموا لا ينتمون إلى حزبهم أو جماعتهم، أو لا يعطون الولاء المطلق لأمير ـــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد، السلسلة الصحيحة:1137 .
وشيخ الحزب أو الجماعة ..!
ومن صور هذه العصبية والأنانية قيام بعض المجموعات أو الجماعات القتالية المعاصرة بأعمال لا تفيد بأنهم يكترثون بمصالح الأمة وجمهور المسلمين، فالمهم عندهم سلامتهم أو سلامة أفرادهم الذين قد لا يتجاوز تعدادهم أصابع اليد، أما مصالح وسلامة الملايين من المسلمين فهم لا يأبهون لها في شيء، والشعوب المسلمة هي خارج حساباتهم وتقديراتهم عندما يقومون بأي عمل من الأعمال، لذلك يجدون أنفسهم في النهاية أنهم معزولون عن الأمة، وأنهم جسد غريب عنها ..!
وحزب أو جماعة تُعرف بهذه الأنانية والعصبية، وبانعدام الشعور بالمسؤولية تجاه جمهور المسلمين، لا شك أن عدمها أفضل من وجودها، وأنه لا يجوز تكثير سوادها في شيء .
سابعاً: على الجماعة أو الحزب أن ينهج – بالقول والفعل – مع جميع المسلمين من دون استثناء أو تمييز، مبدأ الموالاة والمعاداة في الله، والحب والكره في الله، فيوالون بقدر ويجافون بقدر وفق ضوابط وتعاليم الشرع من غير زيادة أو نقصان(1).
ـــــــــــــــــ
(1) من علامات الحب في الله والبغض في الله أن يكون الحب بقدر من غير إسراف ولا تقطير، وبحسب ما في المحبوب من خصال الخير والشر، التي تستدعي الموالاة من وجه، والمعاداة والمجافاة من وجه آخر ..وكذلك من علاماته أن لا يزيد بالبر، ولا ينقص بالجفاء، وهذه علامة لا يرقى إليها إلا المتقون من أولياء الله تعالى،الذين خلصوا كلياً من شرك الهوى وحب النفس، نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً منهم.
…وهذه من أعظم الخصال التي يحبها الله تعالى ويرضاها، والتي تستدعي لصاحبها القبول في الأرض وفي السماء، كما في الحديث:" إن أوثق عرى الإسلام أن تحب في الله، وتُبغض في الله "(1).
…وفي رواية:" أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله "(2).
…وقا صلى الله عليه وسلم :" من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان "(3) . وقا صلى الله عليه وسلم :" مَن سره أن يجد طعم الإيمان فليحُبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله "(4).
…وإذا كان الحب في الله والبغض في الله من الإيمان والإسلام، لا شك أن عقد الموالاة والمعاداة في غير الله ( من ضروب الشرك الذي لا يغفره الله تعالى .
…كما قال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله} البقرة:165.
…وعليه فالتحذر الجماعة أشد الحذر من أن يكون ولاؤها وبراؤها يعقدان على أساس الانتماء الحزبي أو المشيخي – كما هو شأن أكثر الأحزاب والتجمعات المعاصرة – فمن كان من الحزب أو الجماعة أو ممن ـــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد وغيره، السلسلة الصحيحة:2009 . (2) أخرجه أحمد والحاكم، صحيح الجامع:2539. (3) السلسلة الصحيحة:380 . (4) السلسلة الصحيحة:2300 .
يوالون الشيخ أو أمير الحزب فله مطلق الحب والولاء، ويُعطى كامل الحقوق والرعاية وإن كان فاسقاً لا يستحق هذا القدر من الحب والموالاة، ومن كان خارج الجماعة أو الحزب، أو ممن لا يوالون الشيخ أو أمير الحزب موالاة مطلقة، فإنه يُعادى ويُجافى ولا يُعطى شيئاً من حقوقه التي يستحقها كمسلم، وإن كان من خيار المسلمين وصالحيهم !!
…وهذا من أشد ما ينكر على كثيرٍ من الأحزاب والتجمعات الإسلامية المعاصرة، التي تكاد تتحول في عملها الدعوي إلى تكتلات وعصابات متحزقة ومتفرقة – تشبه في كثير من الحالات التجمعات والأحزاب العلمانية - تجمعها وتفرقها المصالح الذاتية الشخصية الضيقة .
…لكن يجب أن ينتبه القارئ إلى أمر مهم – قل من يتنبه إليه من العاملين في الحقل الإسلامي – وهو التفريق بين الولاء الحزبي المذموم شرعاً، والولاء الحزبي الممدوح شرعاً؛ حيث كثير منهم – عن قصد أو غير قصد – من يخلط بينهما، ولا يحسن التفريق بينهما، مما يجعله يقع في المحظور والإثم .
…صور من الولاء الحزبي المذموم:
…منها، أن تُعقد الموالاة والمعاداة، والحب والبغض، والحقوق والواجبات على أساس الانتماء الحزبي، أو المشيخي؛ فمن كان من أتباع الشيخ أو الحزب يُوالى، ومن كان غير ذلك يُجافى ويُعادى ..!(54/144)
…ومنها، أن يغضب المرء لحزبه أو لشيخ أو زعيم الحزب فيغضب له في الباطل كما يغضب له في الحق، وينصره ويدافع عنه وهو مبطل مخطئ كما وهو محق ومصيب، فهو يدور مع الحزب وزعيم الحزب حيث يدوران، ولا يبالي إن كان موقف الحزب موافق للحق أم لا ..!
…ومنها، الطاعة العمياء لتعاليم وأوامر الحزب، من دون أن يردها للشرع، ويعرف حكم الله فيها ..!
…ومنها، تقديم قول الحزب أو قول الشيخ الزعيم على تعاليم الشرع، وما هو مثبت في الكتاب والسنة، وعندما يُذكّر الحزبي بهذه الحقيقة الواقعية فيقول بلسان الحال أو المقال -: أنا على ما عليه الحزب وأشياخ الحزب، والفرقة شر، وهم يعرفون أكثر مني ..!
…ومنها، أن لا يُقبل الحق إلا إذا جاء من خلال قنوات الحزب، والحزب يكون قد أقره وأمر به، بينما لو جاء هذا الحق نفسه من غير قنوات الحزب، أو على لسان أناس ليسوا من الحزب، فإنه يُرفض، ويستهان به، أو على الأقل لا ينال نفس القبول في نفوس الحزبيين كما لو جاءهم عن طريق الحزب وطريق أربابه ومنظريه .. وهذا من أشنع ما يؤخذ على كثير من الأحزاب والتجمعات الإسلامية المعاصرة !!
وهذا النوع من الولاء الحزبي لا شك في بطلانه، وأن الإسلام يبغضه ويعاديه ولا يقره ولا يرضاه .
فالحزب عندما يُعطى هذا النوع من الولاء، ويُعامل بهذه المعاملة الآنفة الذكر، يكون في نظر الإسلام طاغوتاً ووثناً يُعبد من دون الله تعالى، يجب البراء منه والكفر به، والدخول في أحزاب وتجمعات هذه صفاتها هو دخول في أحزاب طاغوتية لا يجوز تكثير سوادها في شيء وإن تسمت بأسماء إسلامية وزعمت أنها تعمل لصالح الإسلام والمسلمين.
…قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 28/20 : من حالف شخصاً على أن يوالي من والاه، ويُعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى، ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين، بل هؤلاء من عسكر الشيطان . ولكن يحسن أن يقول لتلميذه: عليك عهد الله وميثاقه أن توالي من والى الله ورسوله، وتعادي من عادى الله ورسوله، وتعاون على البر والتقوى ولا تعاون على الإثم والعدوان ا-هـ.
…وقال في موضع آخر من الفتاوى 11/92 : وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزباً، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم . وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا، مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمَّن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق أو الباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرق والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان ا-هـ .
…أما الولاء الحزبي الممدوح: وهو الولاء الذي يوجبه الإسلام ويحبه ويرضاه؛ وهو الولاء الذي يُعقد في الله ولله، وصورته تكون بمناصرة الجماعة والإخوان في الحق دون الباطل، فيذود عنهم وعن حرماتهم في
الحق بالمال والنفس، ويدفع عنهم الشبهات والأذى ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ويشهد على المحسن بأنه محسن، ويواليه على قدر إحسانه واستقامته، وعلى المسيء بأنه مسيء، ويجافيه على قدر إساءته، كما أمر الله ورسوله من غير زيادة ولا نقصان .
…فلا يفرق بين المسلمين على أساس انتمائهم الحزبي أو المشيخي، أو أي انتماء آخر غير الانتماء الديني العقدي، الذي يقوم على أساس التقوى وأيهم أحسن عملاً .
…وهذا النوع من الموالاة والمناصرة قد مدحه الإسلام وأمر به المسلمين، كما قال تعالى: { ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} المائدة:56.
…وقال تعالى: { المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} التوبة:71 .
…وفي الحديث، فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ما من امرئٍ يخذل امرأً مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته "(1).
…فتأمل، فهو ينصره لأنه مسلم موحد، أيَّاً كان موقعه ولونه، ـــــــــــــــــ
(1) رواه أحمد، وأبو داود، صحيح الجامع الصغير:5690.
وكانت لغته وعشيرته وقوميته، وليس لأنه من حزبه أو جماعته، ومن أتباع شيخه .
وكم هو محزن ومؤسف – كما نلاحظ ذلك في كثير من الأمصار – عندما تبتلى جماعة من الجماعات الإسلامية، ويُزج بالمئات والآلاف من شبابها وأفرادها في السجون، ثم أن الجماعات الأخرى والإسلامية أيضاً تنظر لهؤلاء الشباب المبتلى بظلم الطواغيت، بعين المتفرج واللامبالاة ومن دون إبداء أي اكتراث أو اهتمام بقضيتهم، وربما نظروا إليهم بعين الشامت؛ لا لشيء سوى أنهم لا ينتمون إلى أحزابهم وجماعاتهم، وشيوخهم ..!!(54/145)
…وقا صلى الله عليه وسلم :" انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: يا رسول الله نصرته مظلوماً فكيف أنصره ظالماً ؟ قال: تكفه عن الظلم، فذاك نصرك إيّاه " متفق عليه .
…في هذا الحديث النبوي توضيح للفارق بين الولاء الممدوح والولاء المذموم، فالولاء الممدوح يكون بنصره مظلوماً وكفه ظالماً، أما الولاء المذموم يكون بنصره ظالماً كما ينصره مظلوماً !
…ثامناً: إذا أقيمت دولة الإسلام، ونصَّب المسلمون عليهم سلطاناً وخليفة يرأسهم، ويجمع شملهم، ويوحد كلمتهم، ويذود عنهم وعن دينهم وحرماتهم .. وجب على الجماعة أو الحزب أن يحل نفسه، وينخرط في الجماعة العامة، ويأتمر بإمرة الإمام العام للمسلمين، وكذلك بقية الأحزاب لعدم وجود ما يبرر وجودها شرعاً، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن شرعية الأحزاب في ظل دولة الإسلام .
…وبعد، هذه الشروط الثمانية هي أهم الشروط التي يجب على الجماعة أن تلتزم بها، إن أرادت أن تعطي لوجودها الشرعية، وتقنع جماهير المسلمين بها، وأي جماعة لا تلتزم بهذه الشروط تنفي عن نفسها المبرر الشرعي لوجودها، ويكون عدم وجودها أفضل من وجودها، كما أنه لا يجوز الانضمام إليها أو تكثير سوادها في شيء .
…إلى هنا نكون قد أوفينا بحثاً وبياناً مسألة موقف الإسلام من الأحزاب الإسلامية منها وغير الإسلامية، لننتقل إلى موقف الإسلام من التمثيل النيابي، ودخول البرلمانات في ظل الأنظمة الطاغية المعاصرة، وقبل ذلك لا بد من وقفات مع كلام للدكتور القرضاوي قاله على الملأ عبر قناة الجزيرة، له علاقة بموضوع التعددية الحزبية وشرعية العمل الحزبي .
- وقفات مع الدكتور يوسف القرضاوي .
…أجرت قناة الجزيرة القطرية مقابلة تلفزيونية مع الدكتور يوسف القرضاوي، في برنامجها الأسبوعي " الشريعة والحياة "، قام بإجراء الحوار وتوجيه الأسئلة إلى حضرة الدكتور أحمد منصور، وكان موضوع الحلقة المثار هو موقف الإسلام من الأحزاب والتعددية السياسية .
…وقد جاءت إفادات الدكتور على الأسئلة والمسائل في خانة من يقول أن الإسلام مع التعددية السياسية، ومع حرية تشكيل الأحزاب، وقد رأيناه قد تكلف في لي النصوص الشرعية وتحميلها من المعاني ما لا تحتمل ولا يجوز، وبطريقة استخف بها عقول ومسامع السامعين ..!
…مما جعلنا نشعر بوجوب الرد عليه بشيء من التفصيل، وبخاصة أن البرنامج المذكور أعلاه تراقبه وتتابعه شريحة واسعة من الناس ..
…وطريقة ردنا على كلام الشيخ القرضاوي ستكون – إن شاء الله – من خلال تناولنا لكلامه فقرة فقرة، ويكون الرد والتعقيب بعد ذكر كل فقرة من كلامه(1).
…سؤال: ما هو مفهوم التعددية في الإسلام ؟
…أجاب الدكتور القرضاوي قائلاً: مفهوم التعددية يعني اختلاف الناس، يعني أن الناس ليسوا شيئاً واحداً . والتعدد موجود في الحياة بألوان ـــــــــــــــــ
(1) كلام الشيخ مسجل في شريط وهو في حوزتنا، وقد وردت فيه بعض الكلمات باللهجة العامية فأثبتناها كما هي من دون أي تغيير .
شتى؛ منها التعدد الديني، ومنها التعدد الجنسي العنصري، ومنها التعدد اللوني، ومنها التعدد اللساني اللغوي، كما قال القرآن: { ومن آياته خلْقُ السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآياتٍ للعالمين} الروم:22.
…القرآن اعتبر الاختلاف في الدين، وتعدد الأديان واقعة بمشيئة الله تعالى، ومشيئة الله تعبر عن حكمته، لا يشاء الله إلا ما فيه الحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها، ولذلك قال الله تعالى: { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلفهم} هود:118-119.
…المفسرون يقولون: لذلك أي للاختلاف خلقهم، خلقهم ليختلفوا لأنهم ما دام أعطى كلاً منهم العقل ليفكر والإرادة ليرجح، فعقلي ليس مثل عقلك، وإرادتي ليس مثل إرادتك، فأنا أفكر بتفكير غير ما تفكر فيه، وأميل إلى أشياء قد أنت لا تميل إليها، فلا بد أن تختلف، ولذلك قال: { ولذلك خلقهم}، ما دام أعطاهم العقل والإرادة لا بد أن يختلفوا، ولذلك لا يفكر المسلم أن يجمع الناس بالقهر وبالقوة على دين واحد، هذا ضد إرادة الله، ربنا أراد للناس أن يختلفوا ..
…التعقيب والرد: يكمن في النقاط التالية:
1- هذه التوطئة التي بدأها الشيخ في حديثه؛ وهي وصفه لواقع الحياة بما فيه من اختلاف، وتنوع في الخلق، لا يجوز أن يُعتبر دليلاً على شرعية الاختلاف في الدين والعقائد والمناهج، كما يوهم حديث الشيخ !
كما أن الاستدلال باختلاف التنوع في الخلق الدال على عظمة وقدرة الخالق سبحانه وتعالى، لا يجوز أن يُقحم كدليل على شرعية الاختلاف في الدين والمناهج والهدى الدال على سخط الله تعالى ..!(54/146)
2- لا يجوز الاستدلال بالإرادة أو المشيئة الكونية العامة على الإرادة أو المشيئة الشرعية التي يحبها الله ويرضاها، فالله تعالى قدر كوناً وشاء الكفر وعبادة الأوثان، وأن تكون المعاصي من جملة خلقه، وهذا لا يعني أبداً أن الله تعالى يحب ويرضى ويريد الكفر والشرك والمعاصي شرعاً وديناً، أو أنه تعالى يرضى ويريد لعباده الدخول في الشرك والاعتراف بشرعيته لكونه أراده الله كوناً ..
وكذلك فإن الله تعالى قدر وأراد كوناً لأهل الملل والأديان الباطلة لتنكبها طريق الأنبياء والرسل أن تتفرق وتختلف وأن تكون أحزاباً وشيعاً، ولكن هذا لا يعني أن الله تعالى يريد التفرق والاختلاف شرعاً وديناً، يجزي العباد خيراً على الدخول فيه والتزامه، فوجود الشيء قدراً وكوناً شيء، وإرادته شرعاً وديناً والرضى به شيء آخر، ولا يخلط بينهما ذو عقل أو دينٍ صحيح .
فقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن بني إسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملةً، كلهم في النار إلا ملةً واحدةً " قالوا:مَن هي يا رسول الله ؟ قال:" ما أنا عليه وأصحابي ".
وقا صلى الله عليه وسلم :" إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملةً، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين ملة – يعني الأهواء – كلها في النار إلا واحدة؛ وهي الجماعة ".
فكون الله تعالى قدر لهذه الأمة وشاء لها أن تفترق – كما افترق أهل الكتاب من قبل – إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة أو ملة، هذا لا يعني ولا يستلزم أن الله تعالى يرضى عن جميع تلك الفرق، وأنه تعالى يرضى من عباده أن يعترفوا بشرعيتها، أو يسكتوا عنها، أو يكثروا سوادها لو شاءوا، شأنها شأن الفرقة الناجية المنصورة، وبخاصة أن صلى الله عليه وسلم قد بين بيان المحذر والمنذر أن جميع تلك الفرق على ضلال وباطل وأن نهايتها إلى النار والعذاب الأليم إلا واحدة منها؛ وهي الجماعة التي تكون على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم من السنة والاهتداء .
وقا صلى الله عليه وسلم :" لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا " البخاري .
لذا فالاستشهاد بالقدر الكوني والمشيئة العامة على الإرادة الشرعية لا يجوز وهو من خلق الكفار والزنادقة، ومن وسائلهم وشبهاتهم التي كانوا يردون بها طريق الهداية والطاعة، واتباع الرسل كما قال تعالى عنهم: { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا} الأنعام:148.
وقال تعالى: { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء} النحل:35.
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: فقد ذمهم الله تعالى
حيث جعلوا الشرك كائناً منهم بمشيئة الله، وأنكر عليهم ذلك لأنهم احتجوا بمشيئته على رضاه ومحبته، وقالوا: لو كره ذلك وسخِطه لما شاءه فجعلوا مشيئته دليل رضاه، فرد الله عليهم ذلك، أو أنكر عليهم اعتقادهم أن مشيئة الله دليل على أمره، فجعلوا المشيئة العامة دافعة للأمر، فلم يذكروا المشيئة على وجه التوحيد وإنما ذكروها معارضين بها لأمره، دافعين بها لشرعه، كفعل الزنادقة والجهال إذا أُمروا أو نهوا احتجوا بالقدر، وقد احتج سارق على عمر بالقدر فقال: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره ا-هـ .
وهذه مسألة معلومة لدى المبتدئين من طلاب العلم، وهي مبحوثة باستفاضة في كتب العقائد، ولا نحسب أن القرضاوي لم يمر على المسألة أو لا يعرفها، وإنما هو أسلوبه الخبيث في التضليل ولي النصوص وتحريفها، وتحميلها من المعاني مالا تحتمل، واستخفافه عقول السامعين من جهة أخرى هو الذي دفعه إلى أن يستدل باختلاف وتعدد الآيات الكونية الدالة على عظمة الخالق سبحانه وتعالى على شرعية اختلاف وتعدد الأديان والمناهج والعقائد، وباختلاف التنوع المشروع على شرعية اختلاف التضاد المذموم، وبالمشيئة الكونية على المشيئة الشرعية ..!!
…3- كذب الشيخ على الله وعلى رسوله، وعلى أولي العلم من أهل التفسير عندما قال: إن الله تعالى خلق الناس ليختلفوا ..!!
ونرد على هذا الكذب والفهم السقيم للشيخ من وجهين: أولهما: أن الله تعالى خلق الخلق، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، وشرع الجهاد في سبيل الله لتحقيق التوحيد وإفراده تعالى وحده بالعبادة والكفر بكل مألوه معبود سواه.
فالله تعالى خلق الناس ليعبدوه، لا لكي يختلفوا في الدين شيعاً وأحزاباً، كما قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} الذاريات:56. فالاستثناء الذي يأتي بعد النفي يفيد في اللغة الحصر والقصر؛ أي لم أخلق الجن والإنس لشيءٍ أبداً إلا لعبادتي، وللعبادة وحدها لا غير .
…وكذلك قوله تعالى: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} البينة:5.…أي لم يؤمروا بشيء إلا بإخلاص العبادة لله تعالى وحده .(54/147)
…وقال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} النحل:36. والنصوص الشرعية التي تؤكد على هذه الغاية من وجود الخلق كل الخلق هي أكثر من أن تحصر في هذا الموضع، وهي كذلك من الوضوح وظهور المعنى والدلالة بحيث لا يخفى على عوام الناس وطوامهم فضلاً عن خواصهم وعلمائهم .
…ثانياً: الثابت عن أهل التفسير في تأويل قوله تعالى: { ولذلك خلقهم} هو بخلاف ما زعم القرضاوي وحاول أن يثبته عنهم، وتتلخص أقوال أهل التفسير في قولين:
…أ- أن قوله تعالى: { ولذلك خلقهم} عائد إلى المؤمنين المستثنين من الاختلاف في قوله تعالى: { إلا من رحم ربك}، فيكون التأويل: أن الله تعالى خلق المؤمنين - الفرقة الناجية المرحومة – ليرحمهم بالاعتصام والجماعة، وهدايتهم إلى عبادته وتوحيده بخلاف بقية الفرقة الضالة، وهذا هو الراجح من أقوالهم .
…ب – أن قوله تعالى: { ولذلك خلقهم} عائد إلى قوله تعالى: { ولا يزالون مختلفين} ، وهم المغضوب عليهم من اليهود والنصارى، والمجوس وغيرهم من أهل الكفر والضلال، ويكون التأويل: أن الله تعالى خلق المشركين من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الأهواء والضلال ليعذبهم في الدنيا – بسبب الإعراض والانحراف عن التوحيد – بالاختلاف وإغراء العداوة والبغضاء والفرقة فيما بينهم، إضافة إلى ما ينتظرهم من العذاب الأليم يوم القيامة .
…وإليك ما قاله أهل التفسير :
…قال ابن كثير في التفسير: قوله { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} أي ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم، وقال عكرمة: مختلفين في الهدى . وقال الحسن البصري: مختلفين في الرزق يسخّر بعضهم بعضاً. والمشهور الصحيح الأول .
…وقوله: { إلا من رحم ربك} أي إلا المرحومين المؤمنين من أتباع الرسل الذين تمسكوا بما أُمروا به من الدين أخبرتهم به رسل الله إليهم، ولم يزل ذلك دأبهم حتى بعث خاتم الأنبياء والرس صلى الله عليه وسلم فاتبعوه وصدقوه ووازروه ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة لأنهم الفرقة الناجية المرحومة .
…قال عطاء: { ولا يزالون مختلفين} يعني اليهود والنصارى والمجوس، { إلا من رحم ربك} يعني الحنيفية .
…وقال قتادة: أهل رحمة الله أهل الجماعة وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم، وأهل معصيته أهل فرقة وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم .
…وقوله { ولذلك خلقهم} قال الحسن البصر في رواية عنه: وللاختلاف خلقهم(1).
وقال مكي بن أبي طلحة عن ابن عباس: خلقهم فريقين كقوله { فمنهم شقي وسعيد} ، وقيل للرحمة خلقهم، قال ابن وهب: أخبرني مسلم بن خالد عن ابن أبي نجيح عن طاوس أن رجلين اختصما إليه فأكثرا . فقال طاوس اختلفتما وأكثرتما، فقال أحد الرجلين لذلك خُلقنا، فقال طاوس: كذبت، فقال أليس الله يقول: { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} قال:لم يخلقهم ليختلفوا ولكن خلقهم للجماعة والرحمة، كما قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: للرحمة ـــــــــــــــ
(1) قوله رحمه الله " وللاختلاف خلقهم " ينبغي أن يُحمل على وجهين: أولهما أنه يريد بالاختلاف اختلاف الناس في الرزق ومستوى المعيشة يسخّر بعضهم بعضاً، كما تقدم في رواية عنه تأويله لقوله تعالى: { ولا يزالون مختلفين} ، وهو قول مرجوح كما قال عنه ابن كثير أن المشهور الصحيح خلافه. ثانياً، أنه يريد بقوله" وللاختلاف خلقهم " أهل الكفر والشرك والضلال دون أهل الهدى والإيمان، كما هو ثابت عنه في الرواية الأخرى في تأويله وتفسيره للآية، وسيمر معك قوله أيها القارئ.
خلقهم ولم يخلقهم للعذاب، وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة، ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
…قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله: { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} قال:الناس مختلفون على أديان شتى { إلا من رحم ربك} فمن رحم ربك غير مختلف .فقيل له: { ولذلك خلقهم} قال: خلق هؤلاء لجنته، وخلق هؤلاء لناره وخلق هؤلاء لعذابه، وكذا قال عطاء بن أبي رباح والأعمش .
…وقال ابن وهب سألت مالكاً عن قوله تعالى: { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} قال: فريق في الجنة وفريق في السعير، وقد اختار هذا القول ابن جرير وأبو عبيد الفراء ا- هـ .
…وقال البغوي في التفسير: قوله ( : { ولو شاء ربك لجعل الناس} كلهم { أمةً واحدة} على دين واحد، {ولا يزالون مختلفين} على أديان شتى من بين يهودي ونصراني ومجوسي ومشرك، {إلا من رحم ربك} معناه:لكن من رحم ربك فهداهم إلى الحق، فهم لا يختلفون { ولذلك خلقهم} قال أبو عبيدة: الذي أختاره فقول من قال: خلق فريقاً لرحمته وفريقاً لعذابه، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: وللرحمة خلقهم؛ يعني الذين رحمهم . وقال الفراء: خلق أهل الرحمة للرحمة، وأهل الاختلاف للاختلاف .
…ومحصول الآية أن أهل الباطل مختلفون، وأهل الحق متفقون،
فخلق الله أهل الحق للاتفاق، وأهل الباطل للاختلاف ا-هـ .(54/148)
…وقال القرطبي في التفسير: { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدةً} قال سعيد بن جبير: على ملة الإسلام وحدها، وقال الضحاك: أهل دين واحد، أهل ضلالة أو أهل هدى، { ولا يزالون مختلفين} أي على أديان شتى؛ قاله مجاهد وقتادة. { إلا من رحم ربك} استثناء منقطع؛ أي لكن من رحم ربك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف .
…وعن مالك قال:خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير؛ أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرحمة للرحمة .
…وروي عن ابن عباس أيضاً قال: خلقهم فرقين، فريقاً يرحمه وفريقاً لا يرحمه .
…وقال المهدوي: وفي الكلام على هذا التقدير تقديم وتأخير؛ المعنى: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، ولذلك خلقهم ا-هـ .
…قلت: ومن إنصاف الشيخ أنه بتر الآية ولم يكمل قراءتها التي توضح المعنى والمراد للسامع أكثر، ووقف حيث لا ينبغي ولا يجوز له أن يقف، وتمام الآية: { ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} هود:118-119 .
وبعد، فأين قول أهل التفسير – كما زعم الشيخ – أن الله تعالى خلق الناس – كل الناس مؤمنهم وكافرهم – ليختلفوا، بدليل أن عقول
وإرادات وأفكار الناس تختلف، وبالتالي لا بد من الاختلاف ..!
…والدكتور على قوله هذا يريد من الأمة الحنيفية أن تسلك مسلك الملعونين من الضالين والمغضوب عليهم، وغيرهم من المشركين الذين تفرقوا في دينهم شيعاً وأحزاباً ومللاً .. ثم هو بعد كل ذلك يطالب الأمة بأن تتعايش مع هذا الاختلاف والتفرق وتتعامل معه على أنه اختلاف مشروع ولا بد منه، لأنه تم بإرادة الله ومشيئته، ولا يجوز لنا أن نقف ضد إرادة الله تعالى ..!!
…4- قول الشيخ المتقدم وهو أن لكل إنسان عقل ليفكر وإرادة ليرجح، فعقلي ليس مثل عقلك، وإرادتي ليس مثل إرادتك، فأنا أفكر بتفكير غير ما تفكر فيه، وأميل إلى أشياء قد أنت لا تميل إليها، فلا بد أن نختلف، ما دام أعطاهم العقل والإرادة لا بد أن يختلفوا .. الخ .
…وهذا قول مفاده أن يختلف المسلمون في المسألة الواحدة على مليار رأي وقول بحسب تعدادهم؛ لأن كل واحد منهم له فهمه وتفكيره وعقله المختلف عن الآخر، وبالتالي لا بد لهم أن يختلفوا في المسألة الواحدة من الدين على مليار فهم وقول .. كما يزعم الدكتور ويريد !
…ثم إذا كان من لوازم العقل والإرادة حصول الاختلاف – كما يزعم الشيخ - فإن من لوازم غياب العقل والإرادة عدم الاختلاف؛ وعلى هذا يكون المجانين والحيوانات ممن يدبون على أربع وغيرهم ممن سُلبوا العقل والإرادة متحدين وغير مختلفين، فيكونون من هذا الوجه أفضل من ذوي العقول والإرادة ..!!
…وهذا قول لا شك في بطلانه وتهافته لا يمكن أن يقبله العقل السليم فضلاً عن أن يقول به شرع ودين منزل من عند رب العالمين .
…ولكن لا يعني ذلك أن ننفي إمكانية وقوع اختلاف التضاد بين المسلمين والمؤمنين، فهذا أمر يقع، ولكن الذي نقوله ونجزم به هو وجوب رد الاختلاف والتنازع – في حال حصوله - إلى الله والرسولل؛ أي إلى الكتاب والسنة، على ضوء فهم الصحابة ومن تابعهم بإحسانٍ من العلماء الربانيين .
…وهذا الرد إلى الكتاب والسنة في حال حصول النزاع والخلاف يُعتبر من شروط صحة الإيمان ولوازمه، كما قال تعالى: { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} الشورى:10.
وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} النساء:59.
…قال ابن القيم في الأعلام 1/50: جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء الآخر ا-هـ .
…وهذا المعنى واضح لا خفاء فيه قد دلت عليه عشرات النصوص من الكتاب والسنة، وهو أصل عظيم من أصول هذا الدين .
…والشاهد هنا لماذا يغيب الشيخ هذا المعنى والأصل عندما يتكلم عن واقع الاختلاف في الأمة، وكأنه داء لا مناص منه، ولا حل له ولا علاج سوى الاعتراف بشرعيته وشرعية ما يفرزه من نتائج وانعكاسات سلبية لا تحمد عقباها ..؟!
…أترى يا دكتور – وهذا هو المفهوم والمراد من كلامك – أن الله تعالى خلقنا للاختلاف، ومن دون أن يدلنا على الجواب والحل الذي يحسم أصل الخلاف والنزاع، وإذا كان الأمر كما زعمت لماذا أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وأكمل الدين تبياناً لكل شيء بخاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم .؟!
أم أنك ترى أن الله تعالى يأمرنا أن نرد النزاع والاختلاف إلى الكتاب والسنة ثم لا نجد فيهما حلاً شافياً لما تم النزاع فيه أو الاختلاف..؟!!
5- قوله: ولذلك لا يفكر المسلم أن يجمع الناس بالقهر والقوة على دينٍ واحد، هذا ضد إرادة الله .. الخ !(54/149)
هو قول باطل ومردود لأن مفاده تعطيل الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورد مئات النصوص الشرعية التي تأمر بالجهاد في سبيل الله تعالى لإعلاء كلمته في الأرض، وأطر العباد على الدخول في دين الله، وطاعة سلطانه .
فالناس – في نظر الإسلام – ليس لهم إلا أن يدخلوا في الطاعة؛ إما طاعة عبادة وتوحيد لله ( فيكونون بذلك مسلمين موحدين، وإما طاعة انصياع ورضوخ لسلطان الإسلام وحكمه بعد أن يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، كما قال تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا
باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} التوبة:29.
…وقال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} الأنفال:39. أي تكون الطاعة كلها لله؛ إما طاعة عبادة وتوحيد، وإما طاعة خضوع وانقياد مع بقائهم على الكفر إن آثروا البقاء على الكفر .
…وفي الحديث، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة { كنتم خير أمة أخرجت للناس} قال: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام .
…وقا صلى الله عليه وسلم :" عجب اللهُ من قومٍ يدخلون الجنة في السلاسل " البخاري. وفي رواية عند أحمد:" قوم يُساقون إلى الجنة مقرنين في السلاسل ".
وهم الذين يدخلون في الإسلام من أسرى الحرب وهم له في أول أمرهم كارهين، ثم ما إن يدخلوا الإسلام ويتعرفوا على حقيقته وعظمته إلا وتنشرح صدورهم لدين الله، وينقلب كرههم وبغضهم حباً وإيماناً.
…وكذلك قول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين:" أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ".
…وقا صلى الله عليه وسلم :" جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم "(1).
…وغيرها كثير من النصوص الشرعية التي تبطل زعم وتحريف الدكتور للحقيقة الآنفة الذكر، فإن قيل كيف يُفهم ويُفسر قوله تعالى: { لا إكراه في الدين} البقرة:256.
…أقول: لا تعارض ولا تناقض بين نصوص الشريعة ولله الحمد، والتوفيق بين هذا النص وبين ما تقدم من نصوص، يكون كالتالي:
…أ- أن من دخل في دين الله تعالى وصار من المسلمين لا يجوز ولا يُسمح له أن يرتد عن دينه إلى أي دينٍ أو مذهب مكفر آخر، لقول صلى الله عليه وسلم :" من بدل دينه فاقتلوه ". وكذلك قتال أبي بكر ( للمرتدين، وأطرهم عل الحق وإلى الدين ثانية أمر معروف للجميع، والمسألة محطة إجماع جميع أهل العلم بلا مخالف .…
وعليه لا حرية للمسلمين أن يرتدوا عن دينهم الإسلام إلى دين الكفر والشرك ثانية، وكل دين غير دين الإسلام هو دين الكفر والشرك، وقوله تعالى: { لا إكراه في الدين} لا يعنيهم في شيء، وليس لهم فيه أدنى حظٍ أو نصيب .
…وكان ينبغي للشيخ الدكتور أن يشير إلى هذا الأمر وبخاصة أن كلامه كان موجهاً إلى المسلمين وإلى مجتمعاتهم، التي يرتد فيها كثير من ــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد، وأبو دواد، والنسائي وغيرهم، صحيح الجامع:3090.
المسلمين عن دينهم الحنيف، ويتدينون بدين الأحزاب العلمانية الكافرة كالشيوعية، والبعثية، والناصرية وغيرها من الأحزاب الباطلة التي ابتليت بها الأمة، تحت عنوان الحرية، وعنوان { لا إكراه في الدين}!
…ب- أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومعهم المجوس من عبدة النار، يجب جهادهم وقتالهم إلى أن يدخلوا في الإسلام، أو يدخلوا في طاعة سلطانه وحكمه بعد أن يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، فحينها لا يجوز حملهم على الدخول في الإسلام أو إكراههم على ترك دينهم وتغيير معتقداتهم، وقوله تعالى: { لا إكراه في الدين} يُحمل على هذه المساحة والحالة فقط (1).
…ج- ما سوى ذلك من الملل والنحل من الملحدين والشيوعيين واللادينين، وكذلك الأرواحيين من عبدة الشياطين والأوثان، الراجح فيهم أن الجزية لا تُقبل منهم، وأنه ليس لهم في دين الله تعالى إلا الإسلام، أو القتل والقتال .. والله تعالى أعلم .
…د- في زمن نزول عيسى عليه السلام يسقط خيار الجزية، ولم يعد للناس في دين الله – بما فيهم أهل الكتاب والمجوس – إلا الإسلام أو القتل والقتال؛ أي أن الآية الكريمة { لا إكراه في الدين} يتوقف العمل بها في زمن عيسى عليه السلام حيث يضع الجزية عن جميع الملل، ولا يقبل منهم إلا ـــــــــــــــــ
(1) ممن تُحمل عليهم الآية الكريمة كذلك الذين يدخلون في عهد وأمانٍ أو صلح مع المسلمين ..
الإسلام أو السيف كما دلت على ذلك السنة .(54/150)
عن أبي هريرة أن صلى الله عليه وسلم قال:" ليس بيني وبينه نبي – يعني عيسى عليه السلام - وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجل مربوعٌ إلى الحمرة والبياض، بين ممصَّرتين – ثياب فيها صفرة خفيفة – كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويُهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويُهلك المسيح الدجال، فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يُتوفى فيصلي عليه المسلمون "(1).
أقول: على ضوء هذا التقسيم والتفصيل ينبغي أن يُفهم قوله تعالى: { لا إكراه في الدين}، وليس كما يفعل علماء السوء والسلاطين حيث يحملون الآية على كل متمردٍ وزنديقٍ ومرتد ..!!
قال الدكتور القرضاوي: وجدنا القرآن يعبر عنه في آياتٍ كثيرة ويسميه باختلاف الألوان، اختلاف التنوع، القرآن يقول: { ألم ترَ أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانه ومن الجبال جُدَد بيض وحُمْرٌ مختلف ألوانها وغرابيب سود . ومن الناس والدواب والأنعام مختلفٌ ألوانه كذلك} فاطر:27-28.
فاختلاف الألوان أو اختلاف الأنواع هذا أمر يقوم عليه الكون كله، اختلاف التنوع وهذا لا بد أن يوجد في الحياة السياسية، بل الحياة ـــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن أبي داود:3635 .
السياسية قابلة للتنوع أكثر من غيرها !
إذا كنا قبلنا التعددية في الناحية الدينية اختلاف في العقائد، وقبلنا الاختلاف في أمورٍ كثيرة، وقبلنا في داخل المجتمع الإسلامي باختلاف المذاهب الفقهية .
وأنا قلت وجود المذاهب الفقهية هو دليل على وجود الأحزاب السياسية؛ لأن المذهب الفقهي هو عبارة عن مدرسة لها رؤية معينة، لها أصول تعتمد عليها، ولها في ضوء هذه الأصول أفكار فقهية واستنباطات وأحكام واجتهادات تخالف بها المدرسة الأخرى، فكذلك الحزب هو عبارة عن مدرسة لها رؤية سياسية، لها أصول تعتمد عليها بتخالف الحزب الآخر ..
نحن لا نقبل أحزاب لمجرد الخلاف الشخصي، حزب فلان وحزب علان، وحزب هيان بن بيان ..الخ!!
التعقيب والرد: يكمن في النقاط التالية :
1- مرة ثانية يستدل الدكتور – لفراغ جعبته من الأدلة الصحيحة – بتعدد الآيات الكونية وتنوعها، وباختلاف ألوان الصخور والجبال على شرعية تعدد الأحزاب السياسية، وهو بذلك كمن يحاول الاستدلال بالثريا على الثرى، وبالشيء على نقيضه، وقد تقدم الرد عليه عند الحديث عن بطلان الاستدلال بالآيات الكونية، والإرادة أو المشيئة الكونية العامة على الإرادة الشرعية الدينية !
واستدلال الشيخ الدكتور باختلاف أنواع وألوان الجبال
والصخور على شرعية الاختلاف، وتشكيل الأحزاب والتعددية السياسية .. هو إن دل فإنه يدل على إفلاس الرجل وانعدام الدليل الشرعي الصحيح عنده الذي يثبت صحة زعمه ودعواه، لذا نراه يتكلف البحث بين المتشابهات ومالا دليل فيه – كمن يحتطب في ظلام وليل بهيم – ليرد به النصوص الشرعية المحكمة الثابتة في الكتاب والسنة ..!
2- استدلال الدكتور بالمذاهب الفقهية على شرعية التعدد الحزبي .. هو من جملة تلك المتشابهات التي يتعلق بها الدكتور واهماً وموهماً غيره أن في المذاهب الفقهية الدليل القطعي على شرعية التعدد الحزبي المتغايرة المناهج والعقائد والتوجه كما هو حال الأحزاب في زماننا وأيامنا هذه، وأنه بهذا الدليل الواهي قد أقام الحجة الملزمة للأمة، وأتى بقاصمة الظهر لمن يخالفه في المسألة ..!
وهذه شبهة واهية وضعيفة - ما كنا نظن أمثال الشيخ الدكتور يتعلقون بها – قد تقدم الرد عليها، ونذكر هنا أهم وأبرز الفوارق بين المذاهب الفقهية، والأحزاب السياسية كما هي موجودة في زماننا وكما يريدها الناس، ليدرك القارئ مدى صحة قياس الأحزاب على المذاهب الفقهية :
أ- المذاهب الفقهية أربابها من ذوي الاجتهاد المطلق يحق لهم الاجتهاد والغوص في النصوص واستنباط الأحكام والمسائل منها . بينما أرباب الأحزاب السياسية – كما هو مشاهد – من ذوي الجهل المطلق، مكانهم الصحيح التقليد – إن صح – والاتباع والاسترشاد بأقوال أهل
العلم، بل أن كثيراً منهم يغلب عليهم وصف الكفر والزندقة..!
…ب- لم تنشأ المذاهب الفقهية لغرض تكتيل الناس في تجمعات وأحزاب تفرق كلمة وشوكة الأمة . بينما الأحزاب ومنذ نشأتها الأولى تقوم على التكتل والتحزب والعصبية، وتفريق الكلمة ..!
…ج- مرجعية المذهب الفقهي الكتاب والسنة وفهم الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ . بينما مرجعية الأحزاب السياسية أهواء وعقول ونزوات ومصالح أرباب الأحزاب من الرجال والنساء، ونحن نلاحظ كم من حزب تعلوه وترأسه امرأة ..!
…د- لم تطرح المذاهب الفقهية نفسها كتكتل يستهدف تغيير النظام السياسي للبلاد، تتناوب على السلطة بالطرق السلمية بحسب إرادة الشعب ورغبة الأكثرية . بينما الأحزاب السياسية تطرح نفسها ومنذ نشأتها كتكتل يستهدف تغيير النظام السياسي والعقائدي للبلاد، وفق قانون التناوب على السلطة الذي يمكن أي حزب من الوصول إلى سدة الحكم إن اختارته الأكثرية .. وهي سلسلة من التناوب والتغيير لا حد ولا نهاية لها !(54/151)
…هـ – عمل المذهب الفقهي هو استنباط الأحكام الفقهية من النصوص الشرعية وتقريبها بصورة مبسطة وميسرة إلى الأمة . بينما عمل الحزب السياسي وهمه هو كيف يصل إلى السلطة والحكم، وكيف يشوه سمعة من قبله ويزيل حكمه، وكيف يقنع الجماهير به كخير بديل ..!
…ع- المذاهب الفقهية هي عبارة عن مجموعة اجتهادات فقهية
تثري الفقه الإسلامي . بينما الأحزاب السياسية هي عبارة عن مجموعة من الشبهات والآراء الشاذة الباطلة، وربما الكافرة التي تثري التفرق والعداوة والبغضاء بين المسلمين ..!
…غ- المذاهب الفقهية لا تعرف ولاءً غير الولاء في العقيدة والدين(1) . بينما الأحزاب كما تقدم تعقد الولاء والبراء على أساس التحزب والتكتل، وعلى أساس قرب أو بعد الناس عن الحزب وعن أرباب الحزب ..!
…ل- الغاية عند المذاهب الفقهية لا تبرر الوسيلة، فهي لا تعرف الطرق والوسائل الملتوية الخسيسة كما هو الحال عند كثير من الأحزاب !
…ن- هدف المذاهب الفقهية إظهار وإعلاء كلمة الشرع والحق الموافق للشرع . بينما الأحزاب همها الأكبر كيف تعلي كلمة الحزب، وكلمات أرباب الحزب، وكيف تفرض نفسها وآراءها على الناس، وكيف تصرف وجوههم إليها ولو أدى الأمر بها إلى شراء أصوات الناس ــــــــــــــ
(1) قد ذكرنا من قبل أن كثيراً من المسلمين في حقبة زمنية ليست ببعيدة عنا، كانوا بسبب جهلهم وعصبيتهم العمياء للمذهب يوالون ويعادون على أساس الانتماء المذهبي، فالمذاهب كانت عليهم من هذا الوجه - بسبب جهلهم - نقمة وليست رحمة، ولكن هذه حقبة زمنية مقيتة مظلمة – لا تزال تخيم علينا بظلالها – يمقتها ويحاربها الشرع، لا يجوز الاعتراف بشرعيتها فضلاً عن أن ترقى تلك الظاهرة إلى درجة الدليل الذي يستشهد به على شرعية الأحزاب كما في مسألتنا، وكما يريد الدكتور القرضاوي ..!
وذممهم بالأموال والوعود الكاذبة ..!
م- الخلافات بين المذاهب الفقهية لا تتجاوز المسائل الفقهية الفرعية، وهي خلافات – في الغالب – تحتملها النصوص الشرعية، والأصل فيها أنها لا تفرق كلمة المسلمين، ولا تفسد ما بينهم من ودٍّ ومحبة وأخوة . بينما الخلافات بين الأحزاب السياسية فهي ترقى إلى درجة الخلاف في العقائد والمناهج والأصول، والتصور عن الحياة الدنيا وما بعدها، وهي خلافات لها مساس بالتوحيد ويترتب عليه كفر وإيمان، وولاء وبراء، وهذا مؤداه – إن وجد في الأمة – إلى التفرق والعداوة والبغضاء ..!
…ص- المذاهب الفقهية متفقة فيما بينها على أن الحكم فيما حصل فيه الخلاف هو الكتاب والسنة . بينما الأحزاب السياسية متفقة فيما بينها على أن الحكم فيما تم فيه الخلاف هو الشعب وليس أحداً غير الشعب..!
…ض- إضافة إلى ما تقدم فإن المذاهب الفقهية ممثلة في علمائها لم يسموا مذاهبهم أحزاباً، وهم لم يرتضوا لأنفسهم هذا المسمى حمال الأوجه، فعلاما نحن في زماننا وبعد قرون نريد أن نصفها بهذا الوصف ونسميها بهذا الاسم، ونكسوها ثوب الأحزاب والحزبية ..؟!
…وعليه فإن قياس الأحزاب السياسية على المذاهب الفقهية هو قياس باطل ومردود لوجود الفارق الكبير بين المقيس والمقيس عليه، ولوجود النصوص الشرعية المحكمة التي تبطل صحة هذا القياس أو اللجوء إليه .
3- قول الشيخ الدكتور نحن لا نقبل أحزاب لمجرد الخلاف الشخصي، حزب فلان وحزب علان، وحزب هيان بن بيان .. الخ!
…نقول للدكتور: من أنت حتى تقول نقبل أو لا نقبل، وما مدى التزام الآخرين بما تقبل وبما لا تقبل، وهو يعلم أن اللعبة أكبر منه ومن غيره ..؟!
…لذا كان ينبغي للشيخ أن يتكلم عن الأحزاب كما هي مفروضة على المجتمعات، وكما يمارسها الناس في حياتهم اليومية، لا كما يريدها هو في ذهنه وعالم خياله ..!
…ثم أن الشيخ ومن يتابعه اعترفوا وقبلوا التعامل مع أحزاب هي أنجس وأسوأ من حزب هيان بن بيان كالأحزاب الشيوعية والعلمانية – كما سيأتي بيانه من فيه – مما دل أن كلامه هنا للاستهلاك والتنظير والتضليل، وليس له أدنى مساس بواقع الحال ..!
…قال الدكتور القرضاوي: الأحزاب السياسية التي نجيزها لا بد أن تحترم أشياء نسميها الثوابت، هناك ثوابت للأمة ..
…لا نستطيع أن نجيز أحزاباً تهدم مقومات الأمة مادام في أمة مسلمة في مجتمع مسلم، وستنشأ هذه الأحزاب في ظل هذه الأمة وفي ظل هذا المجتمع الذي رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ رسولاً، وبالقرآن إماماً، هذا المجتمع له دستور إذا كنا نتكلم عن دولة إسلامية، هذه الدولة لا بد أن يكون لها دستور، والدستور يحدد الأمور الأساسية التي تقوم عليها الأمة؛يعني سياسياً وثقافياً واجتماعياً وأخلاقياً واقتصادياً ..
…سؤال: أنتم كفقهاء اجتهدتم في إطار التعددية، ما هي الضوابط التي وضعتموها لإطار الأحزاب التي يمكن أن تقوم في ظل نظام إسلامي ؟(54/152)
…أجاب الدكتور القرضاوي: أنا الذي يهمني أمران أساسيان بالنسبة لأي حزب ينشأ في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، الأول هذا الحزب أن يحترم ثوابت الأمة وقطعيات الشريعة؛ يعني الإيمان بالله ( وبالآخرة، بالقيم الأخلاقية، لا يستخف بدين من الأديان حتى لا بالإسلام ولا بغير الإسلام؛ يعني يحترم الأديان كل الأديان، يحترم مقدسات الأمة وثوابتها والأمور القطعية .. وهناك أشياء يختلف فيها الناس .
…الثاني أن يكون هذا الحزب يعمل لصالح الأمة لا يكون عميلاً لأي جهة خارجية، وليس امتداداً لها، أي لا يصح أن يكون امتداداً لأحزاب قائمة في أمريكا أو روسيا .. يكفي لهذان الأساسان ليقوم الحزب في ظل ثوابت الأمة وفي ظل دستورها، حتى لو خرج على دستورها تكون هناك محكمة، عندنا قضاء مستقل، وقضاء يعبر عن حقيقة الأمة وعن ضميرها وعن روحها، يحتكم إلى القضاء فيمن خرج على هذه الثوابت!
…التعقيب والرد: يكمن في النقاط التالية :
…1- يكفي للحزب – في نظر الدكتور – حتى يُعترف بشرعيته ويُسمح له بأن يعتلي العمل السياسي أن يحترم ثوابت الأمة؛ أي لا يتطاول عليها بالشتم والسب والتحقير والاستهانة، وما سوى ذلك مهما أتى من مظاهر الكفر والارتداد عن الدين فهذا لا يمنع – عند الدكتور – من الاعتراف بشرعيته، وأن يُسمح له في التحرك والعمل لصالح برامجه الكفرية بين الناس ..!
…فإن قيل: أن الدكتور يريد من شرطه " الاحترام " أوسع مما ذكرت، فهو يريد إضافة إلى ما ذكرت الالتزام قولاً وعملاً بثوابت الأمة!
…نقول: كلام الدكتور لا يحتمل هذا المعنى وهو لا يريده، وبخاصة أنه يطالب المسلمين أن يحترموا جميع الأديان، ولا نظن أنه يريد من المسلمين بمطالبتهم احترام الأديان الأخرى الدخول والالتزام بثوابتها ..!
…والشاهد أن القضية عند الدكتور لا تتعدى حدود الاحترام(1) ، فمن راعى في نفسه وفي حزبه شرط الاحترام - مجرد الاحترام - فالباب يكون بعدها مفتوحاً على مصراعيه أمام كفرياته وزندقته وردته، وكيفما بدت منه.
2- الدكتور وحزبه أجازوا أحزاباً كافرة وملحدة ومرتدة في بلاد المسلمين تهدم مقومات الأمة، ولا تحترم شيئاً من ثوابت هذا الدين، لها تاريخ عريق في محاربة الإسلام والمسلمين، إضافة إلى كونها ترتبط بجهات خارجية معادية للأمة ولدينها، مما دل أن كلامه هنا للتنظير ــــــــــــــــ
(1) في إحدى المداولات النيابية أشار الماركسي عيسى مدانات إلى أن النظام الداخلي للحزب الشيوعي الأردني لا توجد فيه أية مادة تشترط أن يكون العضو ملحداً أو غير ملحد، وأكد أنه لم يحصل من وقت قريب أو بعيد أن تهجم الحزب على الأديان والمعتقدات، بل على العكس أن تربيتنا للأعضاء في الحزب تؤكد على احترام الأديان ..!! [ انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد 956،ص25 ].
والاستهلاك والتضليل لا غير (1).
ــــــــــــــــ
(1) يقول يوسف العظم وهو من قياديي الإخوان في الأردن: أنا من أنصار أن يقف المسلم الشيوعي في المدرج الروماني – وسط عمان – ليشرح الماركسي فكره، والمسلم معتقداته، والبقاء للأفضل، وإن الإسلام هو الذي سيبقى لأنه الأفضل .. وما قاله الزميل مدانات حول عدم محاربة الأديان هو صحيح في الممارسات الحالية فقط، وليس على الصعيد المستقبلي !![ مجلة المجتمع الكويتية عدد 956،ص25].
قلت: يقول هذا الكلام في الوقت الذي كانت فيه الماركسية الروسية تقتل وتشرد مئات الآلاف من المسلمين في أفغانستان من أجل دينهم وعقيدتهم ..!
ويقول الدكتور عبد اللطيف عربيات – وهو من أبرز قياديي الأخوان المسلمين في الأردن – في جواب على سؤال وجهته إليه مجلة المجتمع يقول: تُطرح الآن بقوة قضية التعددية السياسية في الأردن، وعودة الشيوعية إلى ساحة العمل السياسي العلني، ما هي رؤيتكم لهذه القضية، والصورة التي تضمن استقرار الأردن السياسي ؟!
فأجاب الدكتور عربيات: نحن نقدر أننا في هذا البلد دخلنا العمل النيابي في ظل دستور هو دستور البلد وقانون الانتخابات، ونحن نمارس حقنا ضمن هذا الدستور، والدستور أعطى حق الحرية، والإسلام هو الذي أعطى الحرية قبل الدستور وغيره {ولقد كرمنا بني آدم } والمقصود كل بني آدم، والتكريم هو بالعقل، ونحن نحترم هذا العقل، ونحترم هذا الرأي، وكمسلمين نؤمن بحرية الرأي، والله سبحانه قال: { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } فالحرية يجب أن تكون للناس جميعاً .. ونحن نريد الحرية لنا ولغيرنا، وواثقون كل الثقة أننا إذا أخذنا الحرية والديمقراطية بوجهها الصحيح في أي بلد عربي أو إسلامي فإن المنتصر هو الإسلام، نحن لا نخشى الشيوعية ..!![ مجلة المجتمع الكويتية، عدد 958، ص35 ]. =
…3- قول الدكتور عن الحزب الذي ينشأ في المجتمع الإسلامي أنه يجب أن لا يستخف بدينٍ من الأديان، حتى بالإسلام ولا بغير الإسلام؛ يعني يحترم الأديان كل الأديان .. الخ !!(54/153)
…أقول: هذا الكلام يعني منه الدكتور المسلم وغير المسلم؛ أي أن على المسلم كذلك كما يحترم الإسلام يجب عليه أن يحترم الأديان الأخرى كلها، وأن لا يستخف بها؛ فهو يجب عليه – كما يزعم الدكتور – أن يحترم كفر وشرك اليهود والنصارى وتكذيبهم لنبينا صلى الله عليه وسلم ، كما يجب ــــــــــــــــ
= قلت: قوله ونحن نحترم هذا الرأي .. ونحن نريد الحرية لنا ولغيرنا .. إنما يقصد ويعني بذلك الحزب الشيوعي؛ لأن السؤال كان عن الحزب الشيوعي وعودته إلى ساحة العمل السياسي العلني .. فتأمل!!.
وقد تقدم كلام أحمد ياسين زعيم الأخوان المسلمين في فلسطين، حيث قال: وأنا أيضاً أريد دولة ديمقراطية متعددة الأحزاب، والسلطة فيها لمن يفوز في الانتخابات .. حتى لو فاز الحزب الشيوعي فسأحترم رغبة الشعب الفلسطيني ..!!
وكذلك ما فعله الأخوان – بإقرار ومباركة من التنظيم الدولي للجماعة - في سورية حيث تحالفوا مع أعرق الأحزاب كفراً وزندقة في المنطقة، فيما سموه بالتحالف الوطني لتحرير سورية، واتفقوا فيما بينهم على نظام علماني ديمقراطي تكون السلطة فيه لمن يفوز بالانتخابات وتختاره أكثرية الشعب، وكان لهذا التحالف المشؤوم أسوأ الأثر على الحركة الإسلامية في بلاد الشام بعامة، والجهادية منها بخاصة .. ولا حول ولا قوة إلا بالله .
أما كلام مخالفنا القرضاوي الدال صراحة على اعترافه بشرعية العمل السياسي للأحزاب الشيوعية، سيأتيك قريباً أيها القارئ .. فاصبر !
عليه كذلك أن يحترم كفر وشرك جميع الأديان الوثنية الأخرى؛ حتى دين عبدة الشيطان يجب عليك – يا مسلم يا موحد – أن تحترمه ولا تعترضه بسوء .. هذا ما يقتضيه قوله ولفظه " كل الأديان " فهو لم يستثن ديناً لا يجب عليك احترامه .. فتأمل !!
وقد تقدم – بما يغني عن الإعادة – أن من قواعد الشريعة وأصولها أن مجرد الرضى بالكفر كفر ومروق من الدين، فما قولك فيمن يزيد على ذلك بالاحترام والاعتراف طواعية بشرعية هذا الكفر والشرك الذي تقوم عليه تلك الأديان .. لا شك أنه أغلظ كفراً ونفاقاً ومروقاً من الدين .
…ولا يدخلن مداخل طيب فيقول: إن الدكتور يريد من كلامه الآنف الذكر أهل الذمة وما لهم من حقوق في الشريعة ..!
…أقول: أهل الذمة وما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات قد بينتها الشريعة السمحاء شيء، وكلام الدكتور عن كل الأديان والملل وفي زمان غياب أهل الذمة ودولة الإسلام .. شيء وواقع آخر !
…4- قول الدكتور: عندنا قضاء مستقل، وقضاء يعبر عن حقيقة الأمة وعن ضميرها وعن روحها .. الخ!
…نسأل الدكتور وبإلحاح أن يجيبنا مشكوراً: أين هذه السلطة القضائية العادلة النزيهة التي تعبر عن ضمير الأمة، وفي أي بلدٍ أو بقعة هي تكمن، لعلنا نحتكم إليها فتنصفنا من ظلم وبطش وجبروت طواغيت الحكم – الذين يترامى الشيخ على عتباتهم بالإطراء والمديح - الذي أدى ظلمهم وطغيانهم إلى تشريد ملايين المسلمين والمسلمات في أنحاء وأطراف
الأرض، ليتجهمهم الأعداء من كل حدبٍ وصوب !!
…أم أنه يحدثنا عن خيالاته وأحلامه المستقبلية، وطموحاته الشخصية ..؟!
…سؤال: لكن هناك دعاة لما يُسمى بالحزب الواحد، يقولون أن إتاحة الفرصة لنشأة أحزاب داخل المجتمع المسلم حتى وإن كانت هذه الأحزاب تُعتبر مرجعيتها واحدة، هو مدعاة لتفرق الأمة وإلى وجود نزعات مختلفة يمكن أن تفرق هذا الصف .. الإسلام دين وحدة وجميع الناس على فكرة واحدة، وعلى حزب واحد يمكن أن يُسمى حزب الله هو مدعاة لوحدة الأمة والتزام بتعاليم الإسلام، أما التعددية السياسية هذه فسوف تدفع الناس إلى الفرقة وإلى النزاع وإلى الخلاف وإلى الضغائن، وإلى غيرها من الأشياء الأخرى التي لا تنقص المجتمعات الإسلامي الآن .. هؤلاء يخالفونكم في هذه الرؤية، ويستندون أيضاً إلى أسانيد شرعية ؟
…أجاب الدكتور القرضاوي : أنا أقول هناك فرقاً كبيراً بين الاختلاف والتفرق، هناك اختلاف مشروع وهناك تفرق ممنوع، الاختلاف المشروع اختلاف الناس في الآراء وفي السياسات، وفي المناهج وفي هذه الأشياء .. ممكن الناس تختلف في الأهداف، تتكون جماعات، وتتكون أحزاب لها أهداف مختلفة، أو ترتيب الأهداف؛ جماعة يرون الاقتصاد أولاً، وجماعة تقول لا الأخلاق أولاً، وجماعة تقول لا الوحدة أولاً، وجماعة تقول لا الثقافة أولاً .. !!
…المهم سيظل الناس يختلفون، هذا الاختلاف ليس تفرقاً، اختلاف
رؤى، لا بد للناس أن تختلف، بعدين نعرض هذا على الناس ليرى الناس أينا أولى بالتقديم وأينا أولى بالتأخير ..!
…ما تقوله قاله بعض الناس في الاختلاف الفقهي؛ يعني هناك دعوة من بعض الناس لإزالة المذاهب الفقهية، ناس يسمونهم اللامذهبيين، يقول لك: المذاهب ده فرقت المسلمين، إيه معنى مالكي، وشافعي، وحنبلي، وإباضي، وزيدي وكذا .. كل ده يجب أن يزول، والناس على مذهب واحد .. !(54/154)
…تكون النتيجة أن هؤلاء الناس الذين يدعون إلى إلغاء المذاهب يزيدون المذاهب مذهباً واحداً، كما نقول نحن: المذهب الخامس، هم في الحقيقة ده يقولوا آراء، وإلهم بعض الشيوخ، وإلهم بعض الاجتهادات يجتمعون على هذه الاجتهادات، فأصبح مذهباً جديداً ..!
…إذا زدنا المذاهب مذهباً لم نزل الخلاف، ومحاولة إزالة الخلاف بين الناس لا يزيد الناس إلا فرقة، طبيعة الناس لازم تختلف ..!
…الصحابة اختلفوا، الصحابة كانوا مختلفين، سيدنا عمر بن عبد العزيز قال: ما أحببت أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا؛ لأنه لو لم يختلفوا لكان أمراً واحداً، ومنهجاً واحداً، أما وقد اختلفوا فقد فتحوا لنا باب اليسر والسعة، تختار أي واحد من الصحابة، فتحوا لنا باب تنوع المنازع وتعدد المشارب، ابن عمر مشدد، وابن عباس ميسر، المشدد عايز ابن عمر خليك يا سيدي مع مذهب ابن عمر، بتحب التيسير خليك مع مذهب ابن عباس .. حتى في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم معروف القضية الشهيرة:" من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلينَّ العصر إلا في بني قريظة، بعد غزوة الأحزاب .. " الخ !!
…التعقيب والرد: يكمن في النقاط التالية :
…1- صدق الشيخ عندما قال: هناك اختلاف مشروع، وتفرق ممنوع .. لكنه أخطأ عندما حمَّل الاختلاف المشروع معاني التفرق المذموم، ونسب للاختلاف المشروع ما يدخل في التفرق المذموم ..!
…فإذا كان الاختلاف في الأهداف، وفي السياسات والمناهج، وفي تحديد الأولويات والأهداف وغير ذلك مما ذكره .. لا يدخل في التفرق المذموم، فما يكون التفرق المذموم إذاً، ومتى يكون ..؟!
…وهل تدابر وتفرق الجماعات الإسلامية المعاصرة إلا بسبب اختلافها في تحديد الأولويات والوسائل، وفي كيفية تحقيق الأهداف العامة لهذا الدين .. ؟!
…فإذا أضفنا على هذا الاختلاف الاختلاف في الأهداف والغايات – كما يريد الدكتور – لا شك أن حدة الاختلاف والتفرق والتدابر ستتسع إلى حدٍ تكون معه الدعوة إلى توحيد الكلمة والجهود ضرباً من المستحيل والخيال، كما يستحيل معه تحقيق الحد الأدنى من التآلف بين هذه الجماعات والفرق !
…2- نسأل هل هذه الأهداف والوسائل والسياسات والمناهج مما قد بين الشارع فيها وجهة الحق، أم أنه سبحانه ترك الحق فيها مبهماً من غير بيانٍ أو تحديد ؟!
…فإن قال الدكتور: فقد تركها مبهمة من غير بيانٍ أو تحديد فقد أخطأ وعارض قوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} المائدة:3. وقوله: { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيءٍ وهدى ورحمة} النحل:89. وقوله: { وكل شيء فصلناه تفصيلاً} الإسراء:12.
…وعارض كذلك قول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح:" ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله ويقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه ".
…وإن قال: نعم هي محددة ومبينة في شرعنا، وهو الحق الذي ما بعد إلا الضلال: { فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون} يونس:32.
…نقول: ما قيمة هذه الآراء والمناهج، والأهداف الأخرى مادامت تخالف الحق الظاهر والمسطور في شرعنا، ومادامت كلها تصب في خانة الباطل والضلال ..؟!
…ثم هل يجوز للمسلم أن يتبناها ويعتقدها فضلاً عن أن يدعو الناس إليها، وينصر أهلها، ويحدث التكتلات والتحزبات على أساسها مع علمه ببطلانها ومعارضتها للحق الذي شرعه الله تعالى لعباده ..؟!
…فاتقِ الله يا دكتور، واعلم أنك ميت، وأنك غداً ملاق الله ( وهو سائلك عما تقول وتدعو الناس إليه ..!
…3- قوله: بعدين نعرض هذا على الناس ليرى الناس أينا أولى
بالتقديم وأينا أولى بالتأخير .. الخ !!
…أقول: قوله هذا هو نفس المبدأ الذي تقوم عليه الديمقراطية؛ والذي ينص على وجوب رد النزاعات والخلافات إلى الناس وإلى الجماهير ليصدروا حكمهم وآراءهم فيها، والحكم الذي تجتمع عليه أكثرية الجماهير هو الذي ينفذ، وهو الذي يجب اعتماده واحترامه ..!!
…وقد ذكرنا في مقدمة هذا البحث عند ردنا على المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية، أن رد النزاعات إلى الجماهير أو أي حكَم آخر غير الله تعالى هو كفر بالله تعالى لرده للنصوص الشرعية العديدة التي توجب وتلزم المؤمنين برد النزاعات والاختلافات فيما بينهم، وفيما بينهم وبين غيرهم إلى الله وإلى الرسول؛ أي إلى الكتاب والسنة، وأن هذا الرد يعتبر من شروط صحة الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى أحدهما انتفى الآخر .. كما تقدم عن ابن القيم وغيره من أهل العلم .
…والشاهد أين الشيخ الدكتور من هذا الأصل العظيم، ومن هذه النصوص الشرعية وهو يقنن ويقرر ما تنص عليه الديمقراطية؛ من أن الحكم للناس وللجماهير، وأن رغباتهم وأهواءهم هي التي تحدد من الذي يستحق التقديم، ومن يستحق التأخير، وليس حكم الله وشرعه ..!!
…4- قوله: أن بعض الناس يدعون إلى إزالة المذاهب الفقهية وإلغائها .. الخ !
…هذا القول افتراه الشيخ الدكتور من تلقاء نفسه ليروج باطله، وليستميل إليه عواطف السامعين،ويحرضهم على المخالفين له فيما يقول !!(54/155)