وقال تعالى{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}([63]) .
فمن لم يعبد الله عبد الشيطان ، وعبادته ـ أي الشيطان ـ تكون باتخاذ الشيطان نفسه إلها ([64])، أو بعبادة ما يزين عبادته من الأصنام والأحجار والصور و… الخ ، حتى وصل بأتباع الشيطان أن يعبدوا فرج المرأة ـ والعياذ بالله ـ
الحاصل : أن من تكبر عن عبادة الله أذله الله بأن صيره عبداً لهوىً أو شيطان أو مخلوق مثله .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( وكذلك من رفه بدنه وعرضه وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله ، أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته ، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب .
قال أبو حازم : " لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذي يتقي الله من معالجة التقوى "
واعتبر ذلك بحال إبليس . فإنه امتنع من السجود لآدم فراراً أن يخضع له ويذل ، وطلب إعزاز نفسه ، فصيره الله أذل الأذلين ، وجعله خادماً لأهل الفسوق والفجور من ذريته ، فلم يرض بالسجود له ، ورضي أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته.
وكذلك عباد الأصنام ، أنفوا أن يتبعوا رسولاً من البشر ، وأن يعبدوا إلهاً واحداً سبحانه ، ورضوا أن يعبدوا آلهة من الأحجار .
وكذلك كل من امتنع أن يذل لله ، أو يبذل ماله في مرضاته ، أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته ، لابد أن يذل لمن لا يسوى ، ويبذل له ماله ، ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته ، عقوبة له ، كما قال بعض السلف " من امتنع أن يمشي مع أخيه خطوات في حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها في غير طاعته")([65]).
وقال ـ رحمه الله ـ مبيناً أهمية عبادة الله وحده للعبد :
( اعلم أن حاجة العبد أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ، ولا في التوكل عليه ، ولا في العمل له ، ولا في الحلف به ، ولا في النذر له ، ولا في الخضوع له ، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب؛ أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به ، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو ، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره ، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته ، ولا بد لها من لقائه ، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه وإكرامه لها ، ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لم يدم له ذلك ، بل ينتقل من نوع إلى نوع ومن شخص إلى شخص إلى شخص ويتنعم بهذا في وقت ثم يعذب ولا بد في وقت آخر ، وكثيراً ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك . وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأظفار التي تحكه ، فهي تدمي الجلد وتخرقه وتزيد في ضرره ، وهو يؤثر ذلك لما له في حكها من اللذة ، وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله هو عذاب عليه ومضرة وألم في الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب ، والعقل يوازن بين الأمرين ويؤثر أرجحهما وأنفعهما ، والله الموفق المعين ، وله الحجة البالغة كما له النعمة السابغة)([66]).
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ مفصلاً هذا المعنى :
( " العبادة " هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه : من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ، فالصلاة والزكاة ، والصيام ، والحج ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والوفاء بالعهود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والجهاد للكفار والمنافقين ، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم .والدعاء والذكر والقراءة ، وأمثال ذلك من العبادة .
وكذلك حب الله ورسوله ، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه ، والشكر لنعمه ، والرضا بقضائه ، والتوكل عليه ، والرجاء لرحمته ، والخوف لعذابه ، وأمثال ذلك هي من العبادة لله .
وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له ، التي خلق الخلق لها، كما قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه : {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم وقال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ}([67]) وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}([68]) وقال تعالى {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}([69]) كما قال في الآية الأخرى {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }([70]) وجعل ذلك لازماً لرسوله إلى الموت كما قال {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}([71]) .(51/437)
وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه فقال تعالى : {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ(19)يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}([72])وقال {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}([73])وذم المستكبرين عنها بقوله : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}([74])ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال تعالى : {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}([75])وقال {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} ([76])الآيات ولما قال الشيطان {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} قال الله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}([77]).
وقال في وصف الملائكة بذلك : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26)لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إلى قوله {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}([78]). وقال تعالى : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا(88)لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا(89)تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا(90)أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا(91)وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا(92)إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا(93)لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا(94)وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} ([79]).
وقال تعالى عن المسيح ـ الذي ادعيت فيه الإلهية والنبوة { إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} ([80])، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله )([81]).
وقد نعته الله " بالعبودية " في أكمل أحواله فقال في الإسراء : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا}([82])قال في الإيحاء:{ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}([83]). وقال في الدعوة :{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}([84]). وقال في التحدي :{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } ([85]). فالدين كله داخل في العبادة .
وقد ثبت في الصحيح ([86])أن جبريل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام قال : " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً". قال : فما الإيمان ؟ قال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره " . قال : فما الإحسان ؟ قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ثم قال في آخر الحديث " هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم " فجعل هذا كله من الدين .
" والدين " يتضمن معنى الخضوع والذل . يقال : دنته فدان أي : ذللته فذل ويقال يدين الله ، ويدين لله أي : يعبد الله ويطيعه ويخشع له ، فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له .
و" العبادة " أصل معناها الذل أيضاً ، يقال طريق معبد إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام .
لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب ، فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له ، فإن آخر مراتب الحب هو " التتيم " وأوله " العلاقة " لتعلق القلب بالمحبوب ، ثم " الصبابة " لانصباب القلب إليه ، ثم " الغرام " وهو الحب اللازم للقلب ، ثم " العشق " وآخرها " التتيم " يقال : تيم الله أي : عبد الله ، فالمتيم المعبد لمحبوبه .
ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له ، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له ، كما قد يحب ولده وصديقه ، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى ، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء ، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء ، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله .(51/438)
وكل ما أُحب لغير الله فمحبته فاسدة ، وما عُظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلاً ، قال الله تعالى : {قُلْ إِنْ كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ([87])، فجنس المحبة تكون لله ورسوله ، كالطاعة فإن الطاعة لله ورسوله ) ([88]).
قلت : وأما ادعاء الحمد بأن عبودية الله وجنته ليس فيها نور ، وإنما النور والفجر ! في حريته ( المزعومة ) فهو من تلبيس الشيطان عليه ، ومن انتكاس قلبه حتى أصبح يبصر الأشياء على خلاف حقيقتها فغدا النور عنده ظلاماً ، والظلمة نوراً، وهذا حال أهل الباطل الذين يرون باطلهم حقاً والحق باطلاً منذ العهود القديمة . ولا أملك أن أقول للحمد في هذا المقام إلا ما قاله ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( فأهل الأرض كلهم في ظلمات الجهل والبغي إلا من أشرق عليه نور النبوة ، كما في المسند وغيره من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " ([89]) فكذلك أقول : ولذلك بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ، فمن أجابهم خرج إلى الفضاء والنور ، ومن لم يجبهم بقي في الضيق والظلمة التي خلق فيها ، وهي ظلمة الطبع وظلمة الجهل والهوى وظلمة الغفلة عن نفسه وكمالها وما تسعد به في معاشها ومعادها .
فهذه كلها ظلمات ، خلق فيها العبد ، فبعث الله رسله لإخراجه منها إلى نور العلم والمعرفة والإيمان والهدى الذي لا سعادة للنفس بدونه البته . فمن أخطأه هذا النور أخطأه حظه وكماله وسعادته ، وصار يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض ، فمدخله ظلمة ومخرجه ظلمة وقوله ظلمة وعمله ظلمة وقصده ظلمة، وهو متخبط في ظلمات طبعه وهواه وجهله ، ووجهه مظلم وقلبه مظلم، لأنه مبقى على الظلمة الأصلية ، ولايناسبه من الأقوال والأعمال والإرادات والعقائد إلا ظلماتها ، فلو أشرق له شيء من نور النبوة لكان بمنزلة إشراق الشمس على بصائر الخفاش .
بصائر غشاها النهار بضوئه
ولاء مها قطع من الليل مظلم
يكاد نور النبوة يلمع تلك الأبصار ، ويخطفها لشدته وضعفها ، فتهرب إلى الظلمات لموافقتها لها ، وملاءمتها إياها .
والمؤمن علمه نور وقوله نور ، ومدخله نور ومخرجه نور وقصده نور ، فهو يتقلب في النور في جميع أحواله ، قال الله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ([90])) ([91]).
الحلف بغير الله في روايته :
ومن تنقصه لله ـ عز وجل ـ أنه استهان بالحلف بغيره ـ عز وجل ـ فذكره في روايته متغافلاً عن قدحه في عقيدة الإنسان وأنه من الشرك الأصغر([92])، مصداقاً لقوله e: "من حلف بغير الله فقد أشرك " ([93])وقال e : " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" ([94]).
قال الحمد على لسان عبد الرحمن مخاطباً ابن عمته هشام ( أخبره أن ما يشعر به شيء طبيعي لشخص يشرب لأول مرة ، وأنه سوف يعتاد الشراب ولن يفعل به شيئاً بعد ذلك .إلا أن هشام صاح : " أول وآخر مرة ورأس أبوك…")([95]).
الحمد يعتقد أن الله في كل مكان !!!
ومن طوام تركي الحمد في روايتة أنه -وهو الذي درس عقيدة السلف في بلاد التوحيد- يعتقد عقيدة الأشاعرة في أن الله موجود في كل مكان ! ! ! وهذا من أغرب الأمور التي مرت علي أثناء دراستي لثلاثيته . مما جعلني أتفكر كثيراً في كيفية تسرب هذه البدعة الغريبة على بلادنا إلى ذهن الحمد وروايته ، ثم اكتشفت أنه قد نقلها ـ بغباء ـ من ثلاثية نجيب محفوظ ، دون أي تفكير بمدى صحتها !!! وهذا من الأدلة على أن الحمد مجرد ببغاء لنجيب محفوظ يردد ما يقوله في ثلاثيته ولو كان مخالفاً للنقل والعقل كهذه المسألة .
قال الحمد متحدثاً عن والد هشام :
( وضحك أبوه إحدى ضحكاته النادرة ، ثم عاد إلى وقاره وهدوئه المعتادين وهو يقول بحزم : اسمع يا ولدي … إن الله موجود في كل مكان ، والتقوى في النية الطيبة والسلوك الطيب مع الناس ، … ) ([96])(51/439)
قلت :هذه عقيدة باطلة يدين بها متأخرو الأشاعرة ، والذي عليه سلف الأمة أن الله مستوٍ على عرشه فوق سماواته ، كما قال تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ([97]) وقال : {ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ}([98]) وقال:{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ([99])… والأدلة على هذا كثيرة ليس هذا موضع التوسع فيها . فانظرها في كتاب ( العلو ) للذهبي و (مختصره ) اللألباني ، و( علو الله على خلقه ) للدكتور موسى الدويش ، و(إثبات علو الله … ) للشيخ حمود التويجري ـ رحمه الله ـ ، و ( الرحمن على العرش استوى ) للشيخ عبد الله السبت ، و( الرحمن على العرش استوى بين التنزيه والتشويه ) للدكتور عوض منصور.
أما أن الحمد قد أخذ هذه العقيدة البدعية من نجيب محفوظ فلأن هذا الآخر قد ذكرها في ثلاثيته ـ التي هي عمدة الحمد ـ على لسان أحمد عبد الجواد .
حيث قال له الحمزاوي : ( ربنا موجود ) فرد عليه أحمد عبد الجواد : (نعم! -ومشيراً إلى الجهات الأربع- في كل مكان ) ([100]).
الحمد يرى أن عبودية الله كالأغلال !!
من تنقص الحمد لله عز وجل ، أنه لم يرض بعبوديته ، وإنما آثر عليها (الحرية) كما يدعي ! وهي في حقيقتها ليست ( حرية ) وإنما ( عبودية ) من نوع آخر ، إما للهوى أو الشيطان كما سبق .
يقول الحمد متحدثاً عن هشام : ( وطافت في ذهنه تجربته الدينية العميقة حين ذهب إلى المسجد مع ا لفجر ، وصلى بعمق غريب ولذيذ لأول مرة في حياته ، بعد تجربته الجسدية مع رقية فقد كانت صلواته السابقة مجرد حركات جسدية لا روح فيها ، ومجاملات اجتماعية بعض الأحيان . ورغم أنه يشعر بالضآلة حين يجامل في مثل هذه الأمور ، إلا أنه لا يستطيع إلا أن يجامل ، فالله غفور رحيم ، ولكن عباده لا يعرفون الرحمة والغفران ، لقد أحس بعد تلك التجربة العنيفة بتمزق لم يستطع إحتماله ، فكان بحاجة إلى أب رؤوف رؤوف يلقي بحمله عليه … أب ليس ككل الآباء . أب يسامح على الخطأ والخطيئة ، ويأخذ بيده إلى الراحة بعد العذاب ، والصفاء بعد القلق وذاك الوخز المؤلم في الداخل … ولكن شتان بين حاله مع رقية ، وهذا الإنقلاب العجيب في حال عدنان … كل إنسان يبحث عن أب رحيم قادر ، وأم حنون في الأزمات والملمات، والكل يبحث عن كتف عطوف عطوف قوي يبكي عليه ويلقي عليه بأحماله ، ولكن القليل هو من يريد أن يبقى باكياً على ذلك الكتف ، فهو لذيذ حقاً ، ولكن الألذ منه أن تخطئ وتصيب، فاللذة في وجود نقيضها وليس في مجرد وجودها .شيء لذيذ وجميل أن تجد من يكون مسؤولاً عنك طوال الوقت ، ولكن السعر باهظ جداً … إنه الحرية ذاتها . الطفل وحده من يدفع هذا السعر بالرغم منه ، ولكن من يريد أن يبقى طفلاً طوال الوقت ؟! الكل يجد الدفء في حضن الأم ، والقوة في الأب ، ولكن قلةً من يريدون البقاء في ذلك الحضن وعلى الكتف … ويبدو أن عدنان واحد من هؤلاء ) ([101]).
قلت : ومقصوده واضح لا يحتاج إلى إعمال ذهن ، وهو دليل استكباره عن عبادة ربه ـ كما سبق ـ وقد قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) ([102]) .
تنقصه للملائكة الكرام :
أما تنقص الحمد واستخفافه بالملائكة المكرمين؛ فمن ذلك قوله متحدثاً عن هشام في السجن :
( ثم نظر إلى النافذة ، وتلك النجوم التي تتبدى من ورائها على استحياء ، وهو يتصور أن يأتي ملاك رحمة من هنا أو هناك فينقله على جناحيه إلى حيث نسمة هواء طليقة . ولكن حتى الملائكة اختفت في هذه اللحظة ، ويبدو أنها نفسها تخاف الدخول إلى هذا المكان ، وليس إلا الرعب والسكون والانتظار)([103])!!
قلت : كيف تخاف الملائكة الدخول في هذا المكان أو غيره ، وهي معك أينما سرت . قال تعالى عن الإنسان : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)([104]).
وقال سبحانه : (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) ([105]).
وقال تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ )([106]) .
فالملائكة المكرمون قد خُصََّ بعضهم بأنه لا يفارق الإنسان في جميع أحواله ـ كما سبق ـ ولكن الحمد لا يفقه هذا بعد أن اعتاد لسانه على الجرأة عند حديثه عن كل شيء مقدس، متأثراً بالكفرة الفجرة ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ .
تنقص الحمد للقرآن :
أما سخريته بالقرآن ، وبآيات الله ، فهو أنه يضعها في غير موضعها ، بأسلوب هازل .
فمن ذلك قوله :
( حانت التفاتة من عبد الرحمن نحو الكيس الذي يحمله هشام ويشد عليه بقوة ، فقال وهو يضحك : " ما تلك بيمينك يا هشام ؟ " وابتسم هشام …)([107]) فهو يشير إلى قوله تعالى لموسى ـ عليه السلام (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى) ([108])
وقوله : ( وهز هشام رأسه وهو يبتسم محيياً ، فيما أخذ الآخرون يتضاحكون ويتغامزون فيما بينهم ويقولون : "شرَّفت الكراديب " "وما منكم إلا واردها " ) ([109]).(51/440)
وهو يشير إلى قوله تعالى عن النار : ( وإن منكم إلا واردها ) ([110]).
قلت : لا يجوز أن يُنزل القرآن في غير منزله الذي أراده الله له ، وأن يُسْتدل به بهذه السخرية ([111]).
وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء عن ( استعمال بعض آيات القرآن في المزاح ما بين الأصدقاء ؟ ) فأجابت بأنه ( لا يجوز استعمال آيات القرآن في المزاح ) ([112]).
بغضه للقرآن :
يقول الحمد متحدثاً عن ذكريات هشام ، وصديقه عدنان : ( كانا في الصف الرابع الابتدائي ، وكانت مادتي القرآن الكريم والتجويد أصعب وأبغض المواد عند التلاميذ ) ([113])!!
قلت : أما ( أصعب ) فقد قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ([114]).
وأما ( أبغض ) فهذه التي يريد الحمد ! والسؤال : لماذا كان كلام الله الذي فيه الهدى والنور أبغض المواد !؟ وكان الحب كله للكتب الفلسفية والماركسية و(المحرَّمة ) ؟!
وصدق الله إذ يقول : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا) ([115]).
تنقصه للأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ :
لقد أسرف الحمد على نفسه كثيراً واقتحم لجة الكفر والضلال عندما تعرض لأنبياء الله تعالى ـ عليهم الصلاة والسلام ـ واصفاً إياهم بكل منقصة جرياً وراء أكاذيب اليهود والنصارى التي استولت على ذهنه عند حديثه عنهم ـ عليهم السلام ـ فقد نسخت قراءاته لكتب اليهود والنصارى والملاحدة كل تعظيم غرسه القرآن في صدره حول الأنبياء والرسل .
ولنستمع إلى ( هرائه ) مع التعليق عليه بما تيسر .
قال الحمد على لسان هشام :
( قتل قابيل هابيل من أجل المرأة ، وخرج آدم من الجنة من أجل المرأة ، وأذنب من أجل المرأة ، وسخر سليمان الجن من أجل المرأة ، وقال رسولنا الكريم ([116]):" حُبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء وجُعلت الصلاة قرة عيني " ومزامير داود كلها عن المرأة ، وسكر لوط في التوراة من أجل المرأة ، وأبطل المسيح حد اليهود من أجل مريم المجدلية ، وخاف إبراهيم من فرعون مصر من أجل المرأة ، وكانت المرأة وراء مباركة يعقوب بدلاً من عيسو … )([117]) .
قلت : لقد تضمن هذا النص من الحمد عدة فتراءات على أنبياء الله ـ عليهم السلام ـ حيث لم يتورع ـ هداه الله ـ عن متابعة اليهود والنصارى في تلفيق التهم والنقائص لخير البشر ـ عليهم السلام ـ ولتفنيد ذلك أقول :
ـ أما قابيل وهابيل فإنهما لم يكونا من الأنبياء، هم بشر كغيرهم ، فلا شأن لنا بهما . ومع هذا فإن تركي الحمد لم يذكر إلا قولاً واحداً في قصتهما ولم يذكر القول الثاني .
فهو ألمح إلى القول الأول الذي يفيد بأن قابيل قتل أخاه هابيل بسبب المرأة فقررا أن يتقربا إلى الله بقربان فمن تقبل منه كانت المرأة من نصيبه فتقبل من هابيل ولم يُتقبل من قابيل ، فقام قابيل بقتل هابيل .
والقول الثاني الذي لم يذكره الحمد هو أنهما قررا أن يقوما بتقديم قربان إلى الله ـ عز وجل ـ فعمد قابيل إلى أسوأ ماله فقدمه قرباناً ، وعمد هابيل إلى أحسن ماله فقدمه ، فتقبل منه ولم يتقبل من أخاه قابيل ، فحسده قابيل وقام بقتله .
وفي هذا يقول ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ : ( عن ابن عباس قال : كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه وإنما كان القربان يقربه الرجل، فبينما ابنا آدم قاعدان إذ قالا : لو قربنا قرباناً ! وكان الرجل إذا قرب قرباناً فرضيه الله عز وجل أرسل إليه ناراً فأكلته ، وإن لم يكن رضيه خبت النار ، فقربا قرباناً . وكان أحدهما راعياً وكان الآخر حراثاً ، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها . وقرب الآخر أبغض زرعه ، فجاءت النار فنزلت بينهما ، فأكلت الشاة وتركت الزرع . وإن ابن آدم قال لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قرباناً فتقبل منك ورد عليّ ؟ فلا والله لاتنظر الناس إلي وإليك وأنت خير مني فقال : لأقتلنك ! فقال أخوه : ماذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين)([118]) .(51/441)
قلت : فهذا القول الثاني لم يشر إليه الحمد هو الذي يشهد له القرآن العظيم عندما تحدث عن قصة ابني آدم حيث قال تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لاَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27)لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لاَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28)إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29)فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(31) ) ([119]).
ولذا قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ بعد سياقه الأثر السابق عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : (فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لاعن سبب ولا عن تدارئ في امرأة كما تقدم عن جماعة ممن تقدم ذكرهم ، وهو ظاهر القرآن )([120]) .
فالحمد لم يسق إلا القول الذي يتماشى مع هواه ، علماً بأن هذه الروايات جميعها لم تصح مرفوعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هي تنقل عن أهل الكتاب الذين أمرنا بعدم تصديقهم أو تكذيبهم إلا ما عارض شرعنا فإننا نكذبهم فيه ـ ولا كرامةـ.
بل إن القرآن والسنة الصحيحة لم تذكر ( قابيل وهابيل ) وإنما ذكرت بأن القصة حدثت لابني آدم فقط دون تفصيلات . كما في سورة المائدة ، وكما في قوله e في الصحيحين : " لا تُقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمها ، لأنه أول من سنَّ القتل " .
ـ أما قول الحمد بأن آدم ـ عليه السلام ـ قد خرج من الجنة من أجل المرأة فالذي في القرآن أن ( الشيطان ) قد وسوس لآدم وحواء جميعاً بالأكل من الشجرة ، وفي آيات أخرى يخبر الله بأن الشيطان قد وسوس لآدم بذلك دون ذكر لحواء .
قال تعالى : (وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(35)فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)([121]).
وقال سبحانه : (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ(18)وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظالمين) ([122]).
وقال عز وجل : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا(115)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى) ([123]).
فهذه الآيات فيها أن الشيطان وسوس لهما جميعاً (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ) (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ)؛ وفي سورة طه أنه وسوس لآدم أولاً (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ) .فهي تشهد لمن قال بأن الوسوسة كانت لهما جميعاً حيث أغراهما الشيطان بنيل الخلد في الجنة وأن يكونا كسائر الملائكة . ولم يذكر فيها أن حواء هي التي أغرت آدم على الأكل من الشجرة كما تقول ذلك الروايات الإسرائيلية. ولهذا قال الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ : ( دأب الكتاب والأدباء في عصرنا هذا على فرية أن آدم عليه السلام خدعته حواء حتى أكل من الشجرة ، يصطنعون قول الكاذبين المفترين من أهل الكتاب ، بما حرفوا وكذبوا)([124]).(51/442)
قلت : ولكن من يقول بأن حواء أكلت من الشجرة قبل آدم ، أو أنها سهلت له الأكل منها يستشهد بحديث رواه البخاري في صحيحه ويحمله على هذه القصة ، وهو أنه e قال : " لولا حواء لم تخن انثى زوجها " . قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث : ( وقوله " لم تخن انثى زوجها " فيه إشارة إلى ما وقع من حواء في تزيينها لآدم الأكل من الشجرة حتى وقع في ذلك ، فمعنى خيانتها أنها قبلت ما زين لها ابليس حتى زينته لآدم ، ولما كانت هي أم بنات آدم أشبهنها بالولادة ونزع العرق فلا تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها بالفعل أو بالقول وليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش حاشا وكلا ولكن لما مالت إلى شهوة النفس من أكل الشجرة وحسنت ذلك لآدم عد ذلك خيانة له ، وأما من جاء بعدها من النساء فخيانة كل واحدة منهن بحسبها ، وقريب من هذا الحديث " جحد آدم فجحدت ذريته " وفي الحديث إشارة إلى تسلية الرجال فيما يقع لهم من نسائهم بما وقع من أمهن الكبرى ، وأن ذلك من طبعهن فلا يفرط في لوم من وقع منها شيء من غير قصد إليه أو على سبيل الندور ، وينبغي لهن أن لا يتمكن بهذا في الاسترسال في هذا النوع بل يضبطن أنفسهن ويجاهدن هواهن ، والله المستعان ) ([125]).
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( وكانت حواء أكلت من الشجرة قبل آدم وهي التي حدته على أكلها ، والله أعلم ، وعليه يحمل الحديث الذي رواه البخاري …) ثم ذكر الحديث السابق([126]) .
قلت : ومع هذا فلا يحسن أن يقال بأن آدم خرج من الجنة بسبب المرأة ، وإنما يقال بأنه ـ عليه السلام ـ خرج من الجنة بسبب مخالفته لنهي الله ـ عز وجل ـ بوسوسة من الشيطان مما ترتب عليه ابتلاؤه وذريته من بعده . وكان هذا قبل أن يتوب الله عليه ، ويصطفيه كأول نبي على وجه الأرض .
ـ أما قول الحمد بأن داود ـ عليه السلام ـ أذنب من أجل المرأة فهذا من افترائه متابعة لأشياخه اليهود الذين افتروا على داود ـ عليه السلام ـ في توراتهم المحرفة بأنه عليه السلام قتل أحد قواده بواسطة الخدعة حيث جعله في مقدمة الجيش لكي يتزوج بامرأته التي أُعجب بها داود ـ عليه السلام ـ بعد أن رآها عريانه !!! كما جاء في ( سفر صموئيل الثاني ، الاصحاح 11) .
وقد تسللت هذه الكذبة الشنيعة من اليهود إلى تفاسير المسلمين عبر الاسرائيليات التي أخذوها منهم دون تمحيص لها .
حيث تذكر هذه القصة المكذوبة في تفسير قوله تعالى : (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ )([127]) .
وقد أجاد ابن كثير ـ رحمه الله ـ عندما قال عند هذه الآية : ( قد ذكر المفسرون ها هنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ) ([128]) ثم ضعف القصة السابقة بأن في سندها ( يزيداً الرقاشي ) أحد الضعفاء في الحديث عند الأئمة .
وقبله قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ :
( قد عرف كلام اليهود في الأنبياء وغضهم منهم ، كما قالوا في سليمان ما قالوا ، وفي داود ما قالوا )([129]) .
وقال القاضي عياض: ( لا تلتفت إلى ما سطره الإخباريون من أهل الكتاب ، الذين بدلوا وغيروا ، ونقله بعض المفسرين ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك في كتابه ، ولا ورد في حديث صحيح ) قال: ( وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت ) ([130]).
وقال الشيخ محمد أبو شهبه في كتابه ( الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ) : ( والمحققون ذهبوا إلى ما ذهب إليه القاضي . قال الداودي : ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت ، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم )([131]) .
وقال الدكتور البار بعد أن ذكر هذه القصة المكذوبة : ( يالها من جريمة بشعة حقيرة تزعم التوراة ( المحرفة ) أن داود عليه السلام ارتكبها ، وهو لاريب منها برئ)([132]).
قلت : شتان بين هذه القصة التي تصف نبي الله داود ـ عليه السلام ـ بالقتل والمخادعة في سبيل امرأة ، وبين قول الله تعالى عنه (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ(17)إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ(18)وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ(19)وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)([133]) .
فقد وصفه تعالى بالقوة في العلم والعمل وأبان ذلك e بقوله عنه بأنه " كان يصوم يوماً ويفطر يومأ ، ولا يفر إذا لاقى "([134]). وقال عنه " أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه ، وينام سدسه " ([135])
فأين هذا الوصف العالي من و صف التوراة المحرفة التي استساغ الحمد أن يتأثر بها وينقلها تشويهاً لصورة نبي الله ـ عليه السلام ـ !؟
ـ أما قول الحمد بأن سليمان ـ عليه السلام ـ قد سخَّر الجن من أجل المرأة ، فهذا من كذبه الذي يعرفه صغار المسلمين الذي يقرأون القرآن .
فسليمان ـ عليه السلام ـ لم يسخر الجن بنفسه ، وإنما الذي سخرها الله ـ عز وجل ـ .(51/443)
قال تعالى عن سليمان : (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(35)فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ(36)وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ(37)وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ(38)هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(39)وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) ([136]).
وأما قصته ـ عليه السلام ـ مع ( بلقيس ) ملكة اليمن التي يلمح إليها الحمد فهي أن سليمان غضب منها ومن قومها عندما أرسلوا له المال والهدايا لعله يكف عنهم . فأمر من حوله من الجن والإنس بأن يحضروا له عرش بلقيس الذي لا يكاد يوجد مثله في عظمته ، فقال : (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) ولكن سليمان لم يقنع بهذا ، فقال (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) وهو كاتبه آصف بن برخيا كما يُروى عن ابن عباس : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي : أن تنظر مد بصرك فلا تكل إلا والعرش عندك : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ) أي سليمان : (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ )([137]) .
أما سبب احضار العرش فليس لأجل المرأة كما يزعم الحمد ـ كذباً وافتراءً ـ وإنما لأجل أن يظهر سليمان عظمة ملكه لها ، وأنه نبي من عند الله ، قد سخر له الإنس والجن فتستجيب لدعوته لها إلى دين التوحيد بعد أن كانت تسجد هي وقومها للشمس .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( إن سليمان أراد باحضار هذا السرير إظهار عظمة ما وهب الله له من الملك وما سخر له من الجنود الذي لم يعطه أحد قبله ولا يكون لأحد من بعده وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها لأن هذا فارق عظيم أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يقدموا عليه )([138]).
ـ أما قول الحمد بأن نبينا قد حُبب إليه النساء ، فهذا صحيح ، وقد ورد في هذا قوله : (( حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني الصلاة ))([139]).
وليس معنى هذا ما قد يظنه الحمد أو غيره من الجهلة أن هذه المحبة لأي امرأة ولو لم تحل له ـ والعياذ بالله ـ وإنما هذا خاص بزوجاته وما ملكت يمينه، وليس في هذا أي نقص لمرتبته ـ عليه الصلاة والسلام ـ بل هو بيان لكمال رجولته .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( أما محبة الزوجات فلا لوم فيها ، بل هي من كماله ، وقد امتن سبحانه على عباده فقال : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)([140]).فجعل المرأة سكناً للرجل يسكن قلبه إليها ، وجعل بينهما خالص الحب ، وهو المودة المقرونه بالرحمة ) قال : ( ولا ريب أن صلى الله عليه وسلم قد حُبب إليه النساء ، كما في الصحيح عن أنس عن النبي : "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة" قال : ( فمحبة النساء من كمال الإنسان ، قال ابن عباس : خير هذه الأمة أكثرها نساء ) قال : (فعشق النساء ثلاثة أقسام : قسم هو قُربة وطاعة ، وهو عشق امرأته وجاريته ، وهذا العشق عشق نافع ، فإنه أدعى إلى المقاصد التي شرع الله لها النكاح ، وأكف للبصر والقلب عن التطلع إلى غير أهله ، ولهذا يُحمد هذا العاشق عند الله، وعند الناس )([141]).
ـ أما قول الحمد بأن مزامير داود ـ عليه السلام ـ كلها عن المرأة ، فهذا كذب منه ، يريد به التهويل. قال الدكتور محمد البار ـ حفظه الله ـ وهو ممن اعتنى بدراسة المزامير :
( تنسب المزامير إلى مجموعة من أنبياء بني اسرائيل وأدبائهم وشعرائهم ، وتشتمل على 150 مزموراً ، منها 73 منسوبة إلى داود عليه السلام ، والأخرى منسوبة إلى موسى وسليمان ـ عليهما السلام ـ وإلى آساف وبني قورع وراجح وهيمان وأتيان ويدوتون )
وقال : ( رغم أنه لم تثبت نسبة أي من هذه المزامير الموجودة لداود أو غيره، إلا أنها أصبحت جزءً من الفولكلور الشعبي اليهودي )([142]).
وقال : ( تُقسم المزامير إلى ثلاث مجموعات أساسية تندرج تحتها مجموعات أصغر . وهذه المجموعات الثلاث هي :
1 ـ مجموعة التسابيح .
2 ـ مجموعة صلوات الاستغاثة .
3 ـ مجموعة التعليم )([143]) .
قلت : يتضح من هذا أن المزامير كلها عن دين اليهود وتسابيحهم وصلواتهم، وليست كما يزعم الحمد بأنها ( كلها عن المرأة ) !!!
والذي نعتقده ـ كمسلمين ـ هو ماجاء في القرآن الكريم أن الله قد آتى داود ـ عليه السلام ـ كتاباً مقدساً هو ( الزبور ) قال تعالى : (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) ([144]).
ونعتقد أن داود ـ عليه السلام ـ قد وهبه الله صوتاً جميلاً يترنم به عند تسبيحه الله فتردد الجبال والطير معه .(51/444)
قال تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ)([145])، وقال: (يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)([146])، وأما قوله لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ : "يا أبا موسى ، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود"([147]).
فقد قال الخطابي : ( قوله (آل داود ) يريد داود نفسه ، لأنه لم ينقل أن أحداً من أولاد داود ولا من أقاربه كان أعطي من حسن الصوت ما أعطي)([148]) وقال الحافظ ابن حجر : ( المراد بالمزمار الصوت الحسن ، وأصله الآله ، أطلق اسمه على الصوت للمشابهة )([149]).
ـ أما قول الحمد ( وسكر لوط في التوراة من أجل المرأة ) !!
فهذا من أقبح تشنيعاته على أنبياء الله ، والتعريض بهم بخُبثٍ وسوء طوية ، حيث لم يُعقب على هذا الكذب بما يبينه ، وإنما ساقه متأثرًا به متابعةً لأحفاد القردة .
ثم أعاده في موضع آخر من روايته مبيناً قصده ، حيث قال على لسان هشام ـ كما سيأتي ـ ( وزنت بنات لوط مع أبيهم )!!
وهذا الكذب الفاحش قد أخذه الحمد من التوراة ( المحرّفة ) حيث جاء فيها ـ كما في سفر التكوين ، الاصحاح 19: 30ـ 38 ـ أن ابنتي لوط ـ عليه السلام ـ قامتا بإسقائه خمراً حتى سكر ، ثم اضطجعتا معه ، فحبلتا منه !!!
وهذه الكذبة لا يُستغرب صدورها من قوم قد قال الله ـ تعالى ـ عنهم: ((أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ))([150]) فمن كذب بعض الرسل وقتل بعضهم الآخر لا يستغرب عليه أن يفتري الكذب عليهم .
قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ بعد أن ذكر هذه القصة المفتراة: ( هذه فضائح الأبد، وتوليد الزنادقة والمبالغين في الاستخفاف بالله تعالى وبرسله عليهم السلام)([151])
وقال ابن القيم رحمه الله ـ:
( ومن قدحهم ([152])في الأنبياء : ما نسبوه إلى نص التوراة ، أنه لما أهلك الله أمة لوط لفسادها ، ونجى لوطاً بابنتيه فقط ، ظن ابنتاه أن الأرض قد خلت ممن يستبقين منه تسلاً . فقالت الصغرى للكبرى : إن أبانا شيخ ، ولم يبق في الأرض إنسان يأتينا كسبيل البشر ، فهلمي نسقي أبانا خمراً ونضاجعه ، لنستبقي من أبينا نسلاً ، ففعلتا ـ بزعمهم ـ فنسبوا لوطاً النبي عليه السلام إلى أنه سكر حتى لم يعرف ابنتيه ثم وطئهما وأحبلهما وهو لا يعرفهما … )([153]).
ـ أما قول الحمد بأن المسيح ـ عليه السلام ـ أبطل حد اليهود من أجل مريم المجدلية ، فلعله يشير إلى اتهام اليهود لمريم ـ رضي الله عنها ـ بالزنا من أجل حملها بعيسى ـ عليه السلام ـ دون زوج ، ومن ثمّ تكلم عيسى في المهد مبرئاً أمه من هذه التهمة الشنيعة التي وبخ الله اليهود لأجلها بقوله ـ تعالى ـ (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا)([154]) فما دخل هذه الحادثة بما يتحدث عنه الحمد ؟!
ـ أما قول الحمد ( وخاف إبراهيم من فرعون مصر من أجل المرأة ) فيشير إلى ما ما أخرجه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم متحدثاً عن إبراهيم ـ عليه السلام ـ : (( بينما هو ذات يوم وسارة إذ أتى إلى جبار من الجبابرة ، فقيل له : إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس ، فأرسل إليه فسأله عنها فقال : من هذه ؟ قال : أختي . فأتى سارة قال : ياسارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي ، فلا تكذبيني . فأرسل إليها ، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأُخذ : فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت الله فأطلق . ثم تناولها الثانية فأُخذ مثلها أو أشد ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت فأطلق . فدعا بعض حجبته فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان ، إنما أتيتوني بشيطان ، فأخدمها هاجر. فأتته وهو قائم يصلي ، فأومأ بيده : مهيم ؟ قالت : رد كيد الكافر ـ أو الفاجر ـ في نحره ، وأخدم هاجر )) ([155])
قلت : وفي هذا الحديث بيان عصمة الله لابراهيم وزوجه أن تمسهما يد ظالم ، حيث كف سبحانه كيد هذا الملك عنهما .
ـ أما قول الحمد بأن المرأة كانت ( وراء مباركة يعقوب بدلاً من عيسو) فيشير إلى ما جاء في الإسرائيليات التي دخلت علينا من أهل الكتاب وقد ذكرها المؤرخون في قصة يعقوب ـ عليه السلام ـ
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في البداية والنهاية :( ذكر أهل الكتاب أن اسحق لما تزوج رفقا بنت بتواييل في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة وأنها كانت عاقراً فدعا الله لها فحملت فولدت غلامين توأمين أولهما سموه عيصو وهو الذي تسميه العرب العيص وهو والد الروم ، والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسموه يعقوب وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل .
قالوا : وكان اسحق يحب العيصو أكثر من يعقوب لأنه بكره وكانت أمهما رفقا تحب يعقوب أكثر لأنه الأصغر .(51/445)
قالوا : فلما كبر اسحق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاماً وأمره أن يذهب فيصطاد له صيداً ويطحنه له ليبارك عليه ويدعو له ، وكان العيص صاحب صيد فذهب يبتغي ذلك فأمرت رفقا ابنها يعقوب أن يذبح جديين من خيار غنمه ويصنع منهما طعاماً كما اشتهاه أبوه ويأتي إليه به قبل أخيه ليدعو له ، فقامت فألبسته ثياب أخيه وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديين لأن العيص كان أشعر الجلد ويعقوب ليس كذلك ، فلما جاء به وقربه قال : من أنت ؟ قال : ولدك . فضمه إلى وجهه وجعل يقول : أما الصوت فصوت يعقوب وأما الجس والثياب فالعيص ، فلما أكل وفرغ دعا له أن يكون أكبر إخوته قدراً وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده وأن يكثر رزقه وولده .
فلما خرج من عنده جاء أخوه العيص بما أمره به والده فقربه إليه فقال له: ما هذا يا بني ؟ قال : هذا الطعام الذي اشتهيته فقال : أما جئتني به قبل الساعة وأكلتُ منه ودعوتُ لك ؟ فقال : لا والله . وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك)([156]).
قلت : فهذه من أحاديث أهل الكتاب ، لاتصدق ولا تكذب ، وإن صحت ففيها بيان محبة الأم لابنها وحرصها على أن يكون محظياً عند والده ، ولاحرج في هذا.
تنقصات أخرى :
وقال الحمد في موضع آخر من روايته : ( رحماك يارب الكون … لماذا
خلقت حام طالما أن سام هو الحبيب ؟ ولماذا فضلت سام وصببت اللعنة على حام ؟ ما ذنبه إذا سكر نوح ، وزنت بنات لوط مع أبيهم ، في كتاب يقولون إنه كلماتك وإرادتك ؟ )([157]).
وفي قول الحمد مخاطباً ربه ( لماذا خلقت حام ؟ ) سوء أدب ، ووقاحة ، وعدم تعظيم له سبحانه ، حيث وجه إليه سؤاله تعنتاً واعراضاً ، وقد قال تعالى : (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)([158]).
وهو يشير بقوله : ( لماذا فضلت سام وصببت اللعنة على حام ؟ ما ذنبه إذا سكر نوح ؟ ) إلى ما ورد في التوراة ( المحرّفة )([159]) التي هي عمدة الحمد في قدحه بأنبياء الله ! من أن نوحاً ـ عليه السلام ـ شرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه ، فأبصره ابنه حام ( أبو كنعان ) ، وأخبر أخويه ( سام ويافث ) ، فأخذ ( سام ويافث ) الرداء وسترا عورة أبيهما دون أن ينظرا إليها ، فلما أفاق نوح وعلم بذلك لعن حاماً وابنه كنعان ، ودعا أن يكون عبداً لأخويه، ودعا لسامٍ بالبركة من الله .
وهذه احدى كذبات اليهود وتشويههم لصورة الأنبياء في كتبهم المحرفة ، التي نقل منها الحمد دون تورع أو خجل ، ولكن بمكرٍ وخبث ، ومحاولة منه لا سقاط المثل والرموز ـ كما سبق ـ بأسلوب حقير يناسب طبعه وعقليته التي لا تقيم وزناً لأي شيء مقدس ـ كما يحاول أن يدّعي ـ !
قال الدكتور سعود الخلف ـ حفظه الله ـ بعد إيراده هذه القصة المكذوبة على نوح ـ عليه السلام ـ : ( وهذا محض كذب وافتراء ، فإن الله عز وجل قد وصف عبده نوحاً في كتابه المهيمن بقوله : ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا)([160]))([161]).
ـ وأما قوله القبيح ( وزنت بنات لوطٍ مع أبيهم) فقد بينت كذبه ـ فيما سبق ـ وأنه مُتلقىً عن أبناء القردة ، من الذين جعلهم الحمد قدوته ، واتبع آثارهم في تعريضه بأنبياء الله ـ عليهم السلام ـ دون خوف من الله ـ عز وجل ـ الذي قال عن أنبيائه ـ عليهم السلام ـ (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)([162]).
ـ وقال الحمد على لسان هشام في السجن: ( يحس أنه هنا منذ أن حشر الإله الروح في جسد آدم . إنه يحس في داخله أنه كان معاصراً لقابيل وهو يقتل أخاه ، ولنوح وهو يصارع أمواج الطوفان ، وليونس وهو يصيح في بطن الحوت، ولأيوب والدود ينخره ، وليوسف في الجب ، والمسيح هو يصيح مصلوباً ، والنبي الأمي وهو يشكو )([163]).
قوله ( حشر الإله الروح في جسد آدم ) هو من سوء أدبه مع ربه، وفيه اعتراض خفي على خلق آدم _ عليه السلام _ وكان الأولى به أن يقول : (نفخ الإلة الروح في آدم ) كما أخبر القرآن : (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ(71)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) ([164]).
الحمد يعتقد صلب المسيح ـ عليه السلام ـ !!!
وكل هذا يهون أمام الطامة العظمى التي فاه بها الحمد ، وهي قوله : (والمسيح وهو يصيح مصلوباً ) !!! فهو يخالف بقوله هذا نصوص الشريعة واجماع المسلمين من أن المسيح ـ عليه السلام ـ لم يصلب بل رفعه الله إليه وألقى شبهه على غيره ممن صلب ، قال تعالى : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) ([165]).(51/446)
والذي دعا الحمد إلى هذه الزلة العظيمة هو ـ كما سبق ـ متابعته لليهود والنصارى الذين يزعمون أن المسيح ـ عليه السلام ـ قد صلب ، وقد رد الله عليهم قولهم هذا في القرآن الذي يفترض أن يكون الحمد قد قرأه وآمن به! قال تعالى عن اليهود : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) ([166]). وهذه العقيدة وهي عدم صلب المسيح ـ لا يخالف فيها أي مسلم ، عامياً كان او عالماً ، وإنما خلاف بعضهم في أنه هل رفع ـ عليه السلام ـ بجسده كما عليه الجمهور وهو الصحيح لأنه موافق لقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ )([167]).
أم أنه تعالى توفاه بالنوم ثم قبض روحه كما يقبض أرواح البشر ، كما يختاره بعض العقلانيين من أمثال محمد عبده ومدرسته ([168]).
أما أنه عليه السلام قد صلب فهذا لم يفه به سوى المغضوب عليهم والضالين (وأذنابهم ! ) لأنه مصادم لما علم بالضرورة من دين الإسلام ، وهو تكذيب لله ـ عز وجل ـ
فهل يعي الحمد خطورة قوله هذا ؟! أم يتمادى في تجاوزه كل ما هو قطعي تحت دعاوى ( الحرية ! )؟ عندها نقول له : (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)([169]).
تنقص آخر لأنبياء الله :
قال الحمد على لسان هشام :
( نحن نحاول أن نفهم سر ما يجري ، ولكننا ننتهي إلى صخرة سيزيف ، ويبقى السر طلسماً قاتلاً من طلاسم سليمان الحكيم ، وتعويذات وزيره آصف بن برخيا العابثة … ) ([170]).
قلت : أما صخرة سيزيف فهي أسطورة يونانية لا شأن لنا به ولا بصخرته التي يحاول الصعود بها .
ـ أما قوله : ( ويبقى السر طلسماً قاتلاً من طلاسم سليمان الحكيم ) ! فهو افتراء منه تابع فيه اليهود الذين اتخذهم قائده ودليله في روايته ، فالقول ما قالوا ، والرأي ما رأوا ، والرواية مارووا ، وإن كان فيها تنقص أو شتيمة لأنبياء الله ورسله ، فكل هذا لا يهم ( التوراتي ) تركي الحمد ! الذي شابه قلبه قلوبهم في حملها الغل على أكرم الخلق فأصبح يهذي بما تهذي به يهود .
ومن ذلك متابعته لهم في اتهام سليمان ـ عليه السلام ـ بأنه ساحر !!! وقد رد الله هذا الكفر بقوله تعالى مدافعاً عن نبيه سليمان : (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا)([171]) .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( ان سحرة اليهود ـ فيما ذكر ـ كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ، فأكذبهم الله بذلك واخبر نبيه محمداً e أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر ، وبرأ سليمان ـ عليه السلام ـ مما نحلوه من السحر ، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ) ([172]).
ـ وأما قوله( وتعويذات وزيره آصف بن برخيا العابثة ) ! فلا أدري ما الداعي لكلمة ( العابثة ) ! أم أن الحمد أصبح لا يرى في كل شيء إلا العبث ؟
والذي ورد في تفسير قوله تعالى: ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) ([173]) أن آصف بن برخيا وكان يعلم اسم الله الأعظم دعا الله به فاستجاب دعاءه، وليس ذلك تعويذات عابثة كما يزعم (العابث) تركي الحمد .
سخرية الحمد وتنقصه شعائر الإسلام :
أما سخريته بشعائر الدين ، وتهوينه من أمرها؛ فمن ذلك أنه أخبر عن هشام بأنه ( صلى الفجر مع خاله دون اغتسال ) ([174])!!
وقوله مهوناً أمر الصلاة : ( حتى والده لم يكن يؤدي الفروض في المسجد أكثر الأحيان ، كأكثر أهل الدمام ، بل كان يؤديها في المنزل غالباً ، وذلك على عكس أهل الرياض والقصيم .. ) ([175]) .
وقوله : ( وبقي هشام وحيداً لا يدري ما يفعل ، هل يلحق خاله إلى المسجد ، أم يواصل النوم مثل أبناء خاله .. وأخيراً عزم على مواصلة النوم ، فلا ريب أن الأبناء أدرى بحال الدار ، واستلقى على فراشه ، وأخذ النسيم البارد ورطوبة السحر يداعبان أجفانه . وعندما كان المؤذن ينادي : " الصلاة خير من النوم … الصلاة خير من النوم " ، كان قد أغفى تماماً) ([176]).
وقوله : ( إنه لا يحب القصيم كثيراً . ففي الدمام أصحابه والأجواء التي اعتاد عليها والبحر ، وفي القصيم لا أصداء ولا بحر ، وفوق كل ذلك صلاة الفجر التي لا بد أن يؤديها جماعة في المسجد مع جده .عندما يلذ للعين الرقاد)([177]).
سخريته وتنقصه أحاديث صلى الله عليه وسلم :
فمن ذلك قوله على لسان وليد مخاطباً هشاماً :
( أنت تتحدث عن الموت وكأنه كائن مجسد ، وليس حادثه أو حالاً .
وضحك هشام باقتضاب وهو يقول :
ـ وما أدراك أنه ليس كائناً ؟ .. ألا يقولون إن الملاك عزرائيل هو قابض الأرواح ؟ أوليس ذاك الهيكل العظمي الأسود هو الموت بعينه ؟ ألا يقولون إنه بعد انتهاء الحساب يوم القيامة يؤتى بالموت على شكل خروف فيذبح على الحدود بين الجنة والنار ؟
ثم وهو يضحك :
ـ لقد ذكرتني بنزار وقصائده المتوحشة .
ثم وهو يعتدل في جلسته :(51/447)
ـ ولكن أتدري ما يحيرني يا وليد … هل يمكن للموت أن يموت ؟ كيف يموت من هو ميت أصلاً ؟ وإذا كان الموت يميتنا ، فمن يميت الموت ؟ … الله ؟ .. هو الحياة ذاتها فكيف يمكن للحياة أن تميت ؟ .. حقاً يا لها من حيرة ) ([178]).
قلت : أما تسميته ملك الموت بعزرائيل فهو من جهله ، لأنه لم تصح هذه التسمية في أي من الأحاديث الصحيحة ([179])، و الله ـ عز وجل ـ سماه في القرآن ملك الموت ولم يذكر له اسماً غيره .
قال تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) ([180]).
وأما قوله : ( ألا يقولون إنه بعد انتهاء الحساب يؤتى بالموت على شكل خروف …الخ ) فهو من سخريته بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا فإنه يعلم أنهم لا يقولون ، وإنما القائل هو محمد e ([181])، الذي قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم : " يجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار فيقال : يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم ، هذا الموت . ثم يقال : يا أهل النار ! هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت . قال : فيؤمر به فيذبح ، ثم يقال :يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ([182]).
أما تحيره : كيف يموت الموت ؟ فقد أجاب عنه العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ بقوله تعليقاً على الحديث السابق : ( وهذا الكبش والاضجاع والذبح ومعاينة الفريقين ذلك حقيقة لا خيال ولا تمثيل ، كما أخطأ فيه بعض الناس خطأ قبيحاً وقال : الموت عرض والعرض لا يتجسم ، فضلاً عن أن يذبح .
وهذا لا يصح ، فإن الله سبحانه ينشئ من الموت صورة كبش يذبح ، كما ينشئ من الأعمال صوراً معاينة يثاب بها ويعاقب ، والله ينشئ من الأعراض أعراضاً ومن الأجسام أجساماً ، فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرب تعالى ، ولا يستلزم جمعاً بين النقيضين ولا شيئاً من المحال ، ولا حاجة إلى تكلف من قال: إن الذبح لملك الموت! فهذا كله من الاستدراك الفاسد على الله ورسوله والتأويل الباطل الذي لا يوجبه عقل ولا نقل ، وسببه قلة الفهم لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم من كلامه ، فظن هذا القائل أن لفظ الحديث يدل على أن نفس العرض يذبح ، وظن غالط آخر أن العرض يعدم ويزول ويصير مكانه جسم يذبح ، ولم يهتد الفريقان إلى هذا القول الذي ذكرناه ، وأن الله سبحانه ينشئ من الأعراض أجساماً ويجعلها مادة لها ، كما في الصحيح عنه e " تجي البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان " الحديث ، فهذه هي القراءة التي ينشئها الله سبحانه غمامتين ) ([183]).
بغض الحمد لعباد الله الصالحين :
كما أن الحمد أبغض ربه ـ عز وجل ـ وملائكته ، وأنبياءه وكتبه ، وشرائعه ، فإنه حتماً سيبغض عباده الصالحين ، وسيبغض ما يصدر عنهم من أقوال أو كتابات .
وإليك ما يشهد لهذا :
يقول الحمد متحدثاً عن هشام :
( أخذ يقلب الكتاب الذي أعطاه إياه عدنان ، " المنقذ من الضلال " للغزالي كان لا يحب هذا النوع من الكتب )([184]) .
وهذا النوع من الكتب يعني به الكتب الإسلامية التي تقربه من الخير ، وتباعده من الشر فهو لا يطيقها ، ولا يحبها ، بل يهرع إلى كتب أحبابه من الفلاسفة والماركسيين الذين يجد عندهم ما يروي ظمأه ، ويوافق طبعه فالطيور على أشكالها تقع.
ويقول الحمد على لسان مهنا :
( أرجو أن لا تتحدث عن البعثيين أو القوميين العرب أو حتى الدراويش من الاخوان المسلمين … كل هؤلاء سذج ومزيفون ) ([185]).
ويقول على لسان والد هشام متحدثاً مع ابنه :
( ولكن ما لقيت إلا البعثيين كي تصبح منهم … أطقع ناس … ولا أخرط منهم إلا الشيوعيين والإخوان )([186]) !!
ويقول عن ( الاخواني ) لقمان :
( يا لك من منافق يالقمان … تخدم ألف إله وإله ، ثم تقول لا إله إلا الله … قاتل الله الحياة ، فهي النفاق بعينه قاتل الله الحياة فهي التي تجعلنا عبيداً دون أن نريد ، وأسياداً ونحن نريد ولا نريد . قاتل الله حياة تذلنا فيها لقمة ، وتأسرنا كلمة ، وتستعبدنا شهوة ، ويموت فيها الطيبون .. ثم نقول لا إله إلا الله )([187]) .
قلت : جماعة الإخوان إحدى الجماعات الإسلامية الشهيرة التي يعرفها معظم الناس، نشأت في مصر ثم امتدت إلى معظم بلاد العالم . وهي جماعة عليها مؤاخذات كثيرة من عدم اهتمام بنشر العقيدة السلفية ، أو تعليم للعلم الشرعي النافع ، وإنما همها ( التجميع ) والوصول إلى الحكم بأي طريقة([188]).
ومع هذا فلا نؤيد ( الماركسي ) ( البعثي ) تركي الحمد في طعنه بها ، فشتان بين جماعة إسلامية ( مقصرة ) وبين جماعات ومذاهب ( كافرة ) عدوة للإسلام والمسلمين .(51/448)
هذا عن نقده واستهزائه بجماعة الإخوان المسلمين، أما غيرهم من عباد الله ( الملتزمين ) فقد نالهم ما نال أولئك من سخرية لاذعة بأسلوب مبطن . يقول الحمد عن ( عدنان العلي ) صديق هشام : ( لم يكن عدنان يأتي إلى المقصف وحده ، فغالباً ما كان يرافقه زميلان من ذوي اللحى المتروكة وشأنها دون تهذيب ، وبعض الأحيان يزدادون إلى خمسة ، يشربون الشاي ويتحدثون بهمس لا يكاد يسمع ، وكان أكثر ما أثار استغراب هشام هو أنهم لا يبتسمون أبداً ، وإذا حدث ذلك من أحدهم ، غطى فمه بطرف غترته وكأنه يعتذر ، ثم يعود إلى تلك الملامح التي لا توحي بشيء ) ([189]).
قلت : تأمل هذه السخرية المتكلفة التي أراد الحمد إيصالها إلى ذهن قارئه، بأن كل من التزم بدين الله ، فهو لا شك سيكون متجهماً لا يبتسم ، وإذا ابتسم فإنه سيعتذر من ابتسامته !! ونسي أن هؤلاء الملتزمين هم أول من يعمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ، " تبسمك في وجه أخيك لك صدقه " ([190]) ولا يجدون غضاضة في هذا التبسم لأنه سنة نبيهم محمد e ، فلماذا تعمد الحمد قلب الحقائق ، الأجل أنهم لم يبتسموا في وجه ( ماركسي ) ( بعثي ) !؟ أم أنه الحقد الذي يحمله في صدره على كل ( ملتزم ) فأراد تفريغ بعضه في روايته هذه عبر هذا الأسلوب المبطن ؟ ثم تأمل ـ أخي القارئ ـ سخريته بسنة محمد e ( اللحية ) بهذا الأسلوب الحقير( اللحى المتروكة وشأنها دون تهذيب ) !! وهو تهويل منه ومبالغة ، لأن الجميع لا يكاد يجد مثل هذا الصنف المتخيل ، فلماذا تقليل الكثير وتكثير القليل يا تركي !؟ ولم يكتف الحمد بهذه السخرية السابقة باللحية لأنها لم تشف غيظه من أهل الإسلام ، فرددها مرة أخرى عندما قال متحدثاً عن هشام :
( ثم فتح الباب عن وجه أحد زملاء عدنان بلحيته الكثه ، ورأسه الحليقة تماماً) ([191]).
فزاد على سخريته باللحية اتهام الصالحين بأنهم يرون السنة حلق الرأس ، ولهذا هم يحلقون رؤسهم اتباعاً لها ، وهذا كذب عليهم وهو اتهام قديم قال به أعداء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ عندما اتهموه وأتباع دعوته بأنهم يحلقون رؤسهم ، ويأمرون من اتبعهم بحلق رأسه ! ، ولهذا فهم من الخوارج الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : "سيماهم التحليق " ([192])! ثم جاء الحمد مردداً هذه التهمة الباطلة متابعة منه لأعداء الدعوة التي شرق بها العلمانيون والملحدون.
وهذا الاتهام باطل ، لأن الشيخ محمد بن عبدالوهاب وعلماء الدعوة وأتباعها يتبعون في هذه المسألة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تجعل أمر الشعر من أمور العادات التي يتبع فيها المرء عادة بلده في ابقاء الشعر أو حلقه . وإنما ينهى عن القزع ، وهو حلق بعض الشعر وترك بعضه لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك .
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ راداً على من ادعى بأن علماء الدعوة يكفرون من لم يحلق شعر رأسه !! : (إن هذا كذب وافتراء علينا ، ولا يفعل هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر ، فإن والردة لا تكون إلا بإنكار ما علم بالضرورة من دين الإسلام ، وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال معلومة عند أهل العلم ، وليس عدم الحلق منها ، بل ولم نقل أن الحلق مسنون ، فضلاً عن أن يكون واجباً ، فضلاً عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام !
والذي وردت السنة بالنهي عنه هو القزع ، وهو : حلق بعض الرأس وترك بعضه ، وهذا الذي نهينا عنه ، ونؤدب فاعله)([193]) .
مباحث أخرى
ـ تنقص الحمد قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم
ـ حقده على حكومة المملكة العربية السعودية
ـ محبته للرافضة .
ـ المواقف الجنسية في ثلاثيته .
ـ العبارات الوقحة .
تنقص الحمد قبيلة صلى الله عليه وسلم :
لم تسلم قبيلة قريش ـ وهي أفضل القبائل ـ من لمز الحمد في روايته حيث قال على لسان عارف:
( طز في قريش يا صاحبي … ولماذا يجعل نزار قريشاً مثلاً أعلى ؟.. ألأنها قبيلة النبي ؟ … والنعم بأبي القاسم ولكن قريشاً لا .. لقد جعلوا كل تاريخنا تاريخاً لقريش . ألم يكن هناك غير قريش في الساحة ؟ ) ([194]).
قلت : قبحك الله وأخزاك ! فقبيلة قريش التي تطعن فيها هي قبيلة محمدe (الذي تدعي الفخربه !!) ([195]) هي القبيلة التي كان منها أفضل الخلق بعد الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وطلحة وعبد الرحمن والزبير … وغيرهم ـ رضوان الله عليهم ـ وهي القبيلة التي قال فيها e : "إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانه ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " ([196]).
وأما ادعاؤك بأنهم جعلوا تاريخنا تاريخاً لقريش ، فكأنك تعرض بتوليهم أمر الأمة منذ الخلفاء الراشدين مروراً بالدولة الأموية وانتهاء بالعباسيين ، وهذا ليس مغمزاً فيهم وإنما فخر لهم أن قادوا الأمة ، ونشروا الإسلام ـ على تفاوت بينهم في ذلك ـ متبعين قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن هذا الأمر في قريش ، لا يعاديهم إلا كبه الله على وجهه ، ما أقاموا الدين " ([197]).
قال الإمام أبو عمرو الداني حاكياً أقوال أهل السنة :(51/449)
( ومن قولهم إن الإمامة في قريش مقصورة عليهم دون غيرهم من سائر العرب والعجم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " الأئمة من قريش ، ولا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان " ولإجماع المسلمين بعده e على أن ولوا قريشاً ) ([198]) .
أي ما أقاموا الدين كما في الحديث الذي قبله .
حقد الحمد على حكومة المملكة العربية السعودية :
لم يعد خافياً على أحد أن التيارات الماركسية والشيوعية وما سار في ركبها هي جميعها حاقدة على الدولة السعودية المسلمة ، حيث كانوا يعدونها ـ في زمن الشعارات ـ أم الدول المتخلفة الرجعية !! لأنها لا زالت تحكم بالإسلام. فكانوا يُسَخرون كل طاقاتهم في سبيل محاربتها أو تغيير حكومتها إن استطاعوا . ولذا فقد سخروا إعلامهم للنيل منها ، والسخرية بها وبحكامها ، وسخروا كوادرهم لمحاولة تجنيد عملاء لهم فيها ( كهشام العابر !! ) لعلهم يقومون بانقلاب فيها ويسقطون حكومتها ، كما فعلوا في بعض الدول العربية .
كل هذا فعلوه لكن الله ـ عز وجل ـ رد كيدهم في نحرهم ، وأرجعهم خائبين خاسرين بفضله تعالى ثم بفضل جهود الملك فيصل ـ رحمه الله ـ وإخوانه الذين حاربوا ( شراذم ) الشيوعيين والبعثيين والقوميين ، وشردوهم ، ومزقوهم شرَّ ممزق ، واستماتوا في سبيل حماية دينهم وبلادهم من عبث العابثين وإن غلفوا ذلك بدعوى ( التقدم ) و ( والتحضر ) .
ثم دار الزمان دورته ، فإذا بهذه الدولة ( الرجعية ) ـ عند هؤلاء المنحرفين ـ ـ أعني السعودية ـ تصبح أعز دولة في عالمنا ديناً ودنيا ، حيث جمعت بين الدين الصحيح وهو (الدعوة السلفية ) وبين التطور الدنيوي (المتواصل ) ([199]).
أما تلكم الدول ( التقدمية ) ! ـ في نظر الحمد ـ فإنها حين أفاقت من سكرة الشعارات ، وجدت نفسها بلادين ( صحيح ) ولا دنيا ( متقدمة ) ، فدينها التقليد والخرافة([200])، ودنياها البؤس ، والشقاء . كما هو مشاهد لكل أحد. فبدأ الذين اساؤا للسعودية يعيدون النظر في حساباتهم ويتراجعون عن مواقفهم الخاطئة معها بعد أن انقشعت غشاوة الغوغاء والشعارات عنهم .
ولم يبق منهم على طريقته الأولى سوى ( حزب البعث ) الذي لا زال يعيش أسيراً لتلك الفترة السابقة ، ولا زال يحاول النيل بما استطاع من الدولة السعودية : (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) ([201]) .
كل هذا أقوله مقدمة لما جاء في ثلاثية الحمد من نيل من الدولة السعودية، حيث صاغ كيده بأسلوب غير مباشر لأنه يعلم أنه لا يستطيع (المواجهة!).
يقول الحمد متحدثاً عن أحد اجتماعات ( حزب البعث ) في السعودية !
( ثم فجأة قال منصور بهدوء ودون أن ينظر إليه :
ـ ما رأيك في الحكومة يا هشام … ؟
سؤال مباغت لم يكن يتوقعه ، مثل قنبلة ألقيت فجأة . لم يحر جواباً ، أحسّ بالاضطراب ، ولاذ بالصمت . غير أن منصور عاود إلقاء قنابله ، موجهاً عينيه الثاقبتين إلى عين هشام مباشرة وهو يقول :
ـ لا داعي للإجابة . . . أنا أجيب عنك . . . إنها حكومة فاسدة لا هم لها إلا مصلحتها ، ونهب خيرات الشعب الذي لا حقوق له . . . إن الشعب مجرد عبيد أو رعايا على أفضل الأحوال ليس إلا . . . )([202]).
قلت : لا يستطيع الحمد أن يطعن في ( الحكومة السعودية ) صراحة ، ولذا فقد صاغ طعنه ـ بهدف إيصاله إلى القراء ـ على لسان منصور (البعثى) .
فحكومتنا عند الحمد ( حكومة فاسدة لا هم لها إلا مصلحتها ، ونهب خيرات الشعب الذي لا حقوق له . . إن الشعب مجرد عبيد أو رعايا على أفضل الأحوال) !
ولهذا فالمطلوب ليس مناصحتها، إنما إسقاطها واستلام ( حزب البعث ) للسلطة بدلاً منها، حيث سيقوم هذا الحزب ( العادل ! ) بإقامة حكومة (ديمقراطية ! ) تساوي بين الناس دون نظرٍ إلى ( أديانهم ! ) ، وتوزيع الثروة بينهم بالتساوي !!
وسوريا والعراق خير شاهد على هذا !!!
وقال الحمد في روايته على لسان ( الرفيق حديجان ! )
( يا رفيق فهد . . . لقد تحدثنا عن الأمة كثيراً ، ولكن ماذا بشأن قطرنا هذا ، كيف السبيل إلى تحرره ؟ )([203])
فالهدف هو تحرير ( السعودية ) واسقاط راية التوحيد ، ورفع راية (البعث) بدلاً منها ! (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ)([204]).
000000000000
محبة الحمد للرافضة :
من أغرب الأمور في ثلاثية الحمد أنه يدعي أن الشيعة ( الرافضة) كانوا على الحق ! ويوافق الروافض ـ الذين تربى في أحضانهم ـ في زعمهم أن أبا بكر وعمر عثمان ـ رضي الله عنهم ـ قد غصبوا الخلافة من على ـ رضي الله عنه ـ !! رغم أنه ـ كما يقول ـ لا يهتم بهذه المسألة التاريخية .
يقول الحمد : ( قال منصور وهو يضحك بعصبية ، ثم أضاف : على فكرة ! ما رأيك في مسألة السنة والشيعة ؟
وبدون تردد أجاب : الحقيقة لا تهمني المسألة كثيراً ، ولا حتى قليلاً ، أنا أعتقد أنها شيء من مخلفات الماضي . مالنا ولعلي وعثمان ومعاوية . نحن أبناء اليوم ، ولدينا من الهموم ما يكفي )([205]).
ويقول في موضع آخر : ( نظر إلى راشد قائلاً :
ـ على فكرة يا أستاذ راشد . . . هل أنت شيعي ؟
وانتفض راشد ، وكأن ماساً كهربائياً أصابه ، قائلاً بحدة :
ـ كلا . كلا ، لماذا ؟(51/450)
ـ لاشيء .لا شيء . أرجو المعذرة …
وندم على طرحه مثل هذا السؤال ، وحاول الاعتذار مرة أخرى قائلاً:
ـ أرجو ألا تفهمني خطأ . لا فرق عندي بين هذا المذهب أو ذاك . بل إني لا أهتم بكل المذاهب الدينية ) ([206]).
ويقول على لسان ( الشيوعي ) عارف :
( كان الشيعة مع الحق . كانوا مع علي بن أبي طالب ، في مواجهة عمر وأبي بكر وعبيدة ، أصحاب المؤامرة لنزع الحق من أهله . عليك بمناقشات السقيفة وأنت تعلم أين الحق
ـ معك حق .
قال هشام :
ـ معك حق من الناحية التاريخية )([207]) !!
فالحمد لا يهتم بمسألة الخلاف بين السنة والشيعة ، وإن تحدث فيها فإنه سيؤيد (الرافضة ) !
فما أجمل أن نقول له : ( الصمت حكمة ) !! ([208]) .
وأنا لم أطل في دحض هذه المقولة من الحمد ، لأنه يكفي ذكرها للناس لبيان بطلانها ، وبيان ما يكنه الحمد نحونا ( أهل السنة ) من شنآن .
المواقف الجنسية :
من الأمور التي تلفت الأنظار في ثلاثية تركي الحمد هو طغيان المواقف (الجنسية ) فيها ، فهي تزكم أنف القارئ بتكرارها وتتاليها ، بل وتكلفها الواضح من قبل الحمد ، ولهذا فقد أخذت حيزاً كبيراً من الثلاثية ! فمن ذلك :
1ـ إبراز موقف ( عبد الرحمن ) ابن خال ( هشام ) وكأنه لا هم له في الدنيا إلا شرب الخمر والزنا بالمومسات وعلى رأسهن المومس (رقية). حيث تكررت أحاديث عبد الرحمن مع هشام حول مغامراته معهن هادفاً استدراجه إلى الوقوع في شباكهن كما وقع هو ، وهذا ما حدث .
2ـ قيام ( عبد المحسن التغيري ) رفيق هشام في العزبة بالزنا بإحدى جاراته واكتشاف هشام لهذا الحدث بعد مراقبته للعزبة حيث رأى إحدى النساء تخرج من عند عبد المحسن ، وتدخل ( أحد المنازل المقابلة )([209]) .
3ـ تصوير هشام في الرياض بعد وقوعه في المحرمات وكأنه ( زير) نساء ، فهو قد زنا برقية ، ثم أتبعها بإحدى جارات خاله وهي سارة أو سويَّر ! ثم مثلثاً ببنت جيرانهم في الدمام : نورة !! وهذه المواقف مع تفاصيلها الدقيقة ! قد استهلكت صفحات كثيرة من رواية الشميسي.
4ـ تصوير علاقة هشام ببنت خاله ( موضي ) بأنها علاقة إعجاب من جانبها ثم نفاجأ بأن موضي المتحجبة ، العاقلة ، الرصينة . . . . الخ الصفات المثالية تقوم بحركة (غريبة) مع ابن عمتها بعد أن علمت بعلاقته مع سويِّر ، بعد أن قرر الذهاب إلى الدمام ، فلنستمع إلى الحمد وهو يقول متحدثاً عن موضي :
( ثم نهضت وهي تمسح عينيها بطرف غدفتها ، واتجهت إلى الباب وهي تقول : " المهم أن تعود إلينا سالماً … ليحفظك الله … " ، وأسرعت في الخروج . ولكنها ما لبثت أن عادت مرة ثانية ، ووقفت عن الباب وهي تقول :
ـ هشام … هل لو كشفت لك وجهي أكون قد تجاوزت حدودي ؟
ـ ليس بيننا حدود يا موضي … ستبقين موضي العزيزة سواء تحجَّبت أو كشفت…
وبحركة مفاجئة ، أزالت موضي غدفتها كاشفة عن وجهها ، ثم تقدمت منه ، وطبعت قبلة سريعة على خدَّه ، ونظرت إليه بعينين حمراوين مبتلتين ، وغادرت بخطوات مرتبكة )([210]) .
قلت : فحتى موضي التي صُورت في الثلاثية وكأنها محافظة وابنة عائلة تسقط في مقدمات الرذيلة مع ابن عمتها ، حيث كشفت له عن وجهها ، ثم تجرأت ـ ( لاحظ : هي لا هو !!) بتقبيله ! ولا نعلم ماذا سيحدث لو بقي هشام … أو تبعها !! .
5ـ الوصف الدقيق منه للمواقف ( ا لجنسية ) السابقة بشكل مقزز ، كما في وصفه لزنا عبد الرحمن وهشام بالمومس ( رقية ) في طريق خريص !
وكما في وصفه لرؤية هشام لعليان زوج سوير وهو يجامعها !
6ـ تصويره لأفراد شلته بأنهم أصحاب تمرس بالعلاقات النسائية ، يقول تركي عنهم: ( كانوا يتحدثون عن مزنة وبدرية وهيلة وعائشة وعواطف وابتسام ومنى، وهو لا يجد ما يقول … كان يود الحديث عن نورة وعن رقية ، وقصص عن موضي يؤلفها… ولكن شيئاً كانت يمنعه ، فكان يصمت ، ويغرق نفسه في مبادئ القانون والإقتصاد ، حتى أصبح يسمى بفأر الكتب ، أبو أربع عيون … ورغم الوصف الذي كان يضايقه ، فقد كان محل ثقة الجميع وحبهم . كانوا يقصدونه لفهم ما استغلق عليهم فهمه من مواد ، أو في حل مشاكلهم العاطفية ، وكانوا يستشيرونه في جمال فتياتهم وهم يجلبون صورهن في الجيوب …)([211]) .
7ـ وصفه لنساء شارع ( الحب ) في الدمام ، حيث يقول: ( ولفت نظره إحداهن ، كانت تسير الهوينا وقد التفت بعباءتها ، ووضعت حجاباً رقيقاً على وجهها لا يستر شيئاً منه .لم تكن جميلة الوجه ، ولكنها كانت ممتلئة إلى حد البدانة ، بردفين ضخمين يفرِّق بينهما فج واضح وعميق ، يجعلهما في حالة من التأرجح الدائم . وأثار منظر عجيزتها المترجرجة جوارح هشام ، وارتفعت حرارته وأخذ ينظر إليها بشبق ، وهو يدخن سيجارة بعمق ، وأحست المرأة بنظراته ، فنظرت إليه بدورها وابتسمت بإغراء ، ولكنه عدل عن مغازلتها في آخر لحظة ، وسار في طريقه على عجل . لكم غيرته الرياض … لقد عاش في الدمام طوال حياته ، وجاء إلى شارع الحب أكثر من مرة ، ولكنه لم يلاحظ ما لا حظه اليوم ، ولم يدر في خلده ما دار )([212]) .
8ـ قوله في وصف رؤية هشام لموضي ابنة خاله :(51/451)
( وعادت موضي مرددة : " زين … زين … اتبعني " واخذت في صعود درجات السلم المقابل للمجلس وهو يتبعها … لم يستطع إلا ملاحظة استدارة عجيزتها وهي تصعد الدرج أمامه … أثاره المنظر ولكنه أشاح بوجهه عن ردفيها اللذين كانا في حالة اهتزاز شديد مع كل درجة تصعدها ، فحاول تشتيت ذهنه ) ([213]).
قلت : فهذه المواقف ( الجنسية ) الكثيرة ، مع محاولة تضخيمها وتكلفها (أحياناً ) توحي للقارئ بأحد أمرين متلازمين :
الأمر الأول : أن تركي الحمد يتكلم عن واقع عاشه أو رآه خلال حياته الماضية فانطبع في ذهنه ومخيلته فارتبط كل حديث عن الماضي بتلك الأحداث والمغامرات (الجنسية ) لأن الإنسان لا يستطيع مهما فعل أن ينفصل كلياً عن ماضيه بل تبقى صور كثيرة ( يراها مهمة ) تتخايل بين عينيه عند كل ذكرى ماضية .
فإذا قلنا بهذا الأمر فإن الحمد لم يعد يرى أثناء دراسته في الرياض سوى هذه المواقف ( الجنسية ) التي أثرت فيه، واستهلكت منه وقتاً ( وجهداً ! ) .
الأمر الثاني : الذي يهدف إليه الحمد من خلال تضخيم هذه المواقف ، وإبرازها، وتكلف بعضها ـ كما سبق ـ هو محاولةٌ لا سقاط جميع المثل التي يعتقدها الناس ، وأن الإنسان مهما ادعى الصلاح أو المثالية فإنه مجرد حيوان يجري خلف شهواته مهما حاول اضفاء هالة الشرف والعفة على شخصيته ، وما هذه الهالات المفتعلة التي يعيشها الناس مع بعضهم إلا ستار وقناع يخفون وراءه ألواناً عديدة من الآثام والسقوط ، فلو تأملنا الثلاثية جيداً للمحنا فيها هذا الهدف الذي يسعى إليه الحمد، بل تجرأ فيه كثيراً .
نلمح ذلك في التالي :
1ـ سقوط هشام في الإثم خلال عيشته بالرياض بعد أن كان يعيش مثاليات زائفة في الدمام مع والديه .
2ـ سقوط سوير زوجة عليان في الرذيلة مع هشام .
3ـ سقوط نورة ابنة جيرانهم في الدمام في الرذيلة معه .
4ـ سقوط موضي ابنة خاله في أول درجات الرذيلة .
5ـ عبارات كثيرة يطلقها الحمد في ثلاثيته تنبئ عن هذا الهدف ، ومن ذلك :
أ ـ قول الحمد على لسان عبد الرحمن ابن خال هشام بعد أن وصف له زناه بإحدى النساء : ( من قال لك إن كل من تسكن عند أهلها عذراء ) ([214]).
ب ـ قوله واصفاً حال هشام في الرياض : ( وفي الرياض سقطت باقي المثل التي زرعتها أمه في ذاته) ([215]).
ج ـ قوله واصفاً مدينة الرياض على لسان عبد الرحمن : (كل شيء ممكن في الرياض) ([216]) بعد أن قال هشام : ( كنت أظن أن الخمر غير موجود في الرياض).
د ـ قوله ـ على لسان عبد الرحمن موجهاً خطابه إلى هشام : ( سأجعلك تكتشف الرياض كما لم تكتشفها من قبل . ساريك رياضاً غير الرياض ) ([217]).
هـ ـ قوله ـ أيضاً ـ : ( في الرياض كل شيء ممنوع ، وكل شيء مباح)([218]).
و ـ وقوله ـ أيضاً ـ على لسان عبد الرحمن : ( ديرة عجيبه فعلاً … كل شيء حرام وممنوع . وكل شيء مباح بشكل لا يتصور ) ([219]).
ز ـ قوله على لسان هشام متحدثاً مع نفسه : ( عليك الرحمة يا ابن آدم . ظننت نفسك أكرم الكائنات ، الذي طرد من أجله عابد الأزل من الرحمة والملكوت ، فاكتشفت أنك أتفه من ذبابة ، وأحقر من بعوضة ) ([220]).
ح ـ قوله : ( لقد مات أبوك آدم ، ولم يبق إلا إبليس ذو الصولجان ، كلهم اليوم لإبليس ساجدون ، ومن أجله يسعون ) ([221]).
إذن فتركي الحمد يريد أن يقول لنا بأن جميع البشر سقطة منحرفون فاسدون فلا نغتر بالمثاليات الزائفة والأقنعة المخترعة يخفون وراءها حقيقتهم ، فهو يريد منا أن لا نتمسك بأي فضائل أو مثاليات .
فهي فلسفة ( معرّية ) ([222]) شابه بها رهين المحبسين حينما يقول :
وزهدني في الخلق معرفتي بهم
وعلمي بأن العالمين هباء
فالفكرة واحدة وهي عدم الاغترار بأي فضيلة أو مثاليات يتنكر الناس وراءها ، لأننا إذا دققنا في الأمر لم نجد إلا شياطين وأبالسة في مسوح بشر ، مما ينتج عنه أن تسقط من أعيننا كل الصور الجميلة والمثالية والشريفة والعالية التي رسمناها في مخيلتنا عن أفضل البشر سواء أكانوا من الأنبياء أم من أفضل القرون بعدهم ، أي الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وأخزى من أبغضهم ! ـ
فإذا سقطت صور الأفراد المثالية من أعيننا سقطت تبعاً لها مجتمعاتهم التي كنا نظنها فاضلة !! حتى جاء الدكتور الفيلسوف ليحذرنا من الاغترار بهذا الوهم ، ويبين لنا أن لا فضيلة ترجى من ( بني آدم ) ! فهم ما داموا من أبناء آدم لا شك مخادعون منافقون يخفون حقيقتهم خلف حجاب من الفضيلة والمثالية المزيفة .
إذن : لا تطالبونا بأن نترسم خطى القرون الثلاثة المفضلة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنخدعوا بمظاهر الصلاح التي يبديها بعض الناس لكم سواء أكانوا من العلماء أو الدعاة أو الصالحين ، فإنها قد تتكشف عن انحرافات ومفاسد لا تتخيلونها .(51/452)
ومما يثير العجب تركيزه على إظهار مدينة ( الرياض) وكانها من مدن الفجور والفاحشة أمثال: بانكوك أو .. أو .. من المدن التي يعرفها أهل الفساد ! وكأنه يقول لنا بأن هذه المدينة التي هي قاعدة بلادنا وعاصمتها ومنبع الخير فيها بما تضمه بين جنباتها من رجال ونساء صالحين إن هي إلا مدينة كغيرها من المدن ( الفاسدة ) التي يعرفها الناس ويزدرونها .
فكما أسقط الحمد الرموز البشرية من أفراد ومجتمعات من مخيلتنا فهو سيتبع ذلك باسقاط مثاليات المكان … ليخبرنا بأن لا مكان مقدَّس أو مطهَّر . ويضرب لذلك مثلاً بمدينة الرياض، التي نحسن الظن فيها وفي أهلها .
قد يقول قائل بأن سياق الثلاثية هو الذي اضطر الحمد إلى ذلك ، لأن هشاماً لم يتعرف على حياة المعصية إلا في الرياض ، فهو في الدمام صغير ، وفي جدة في السجن ، فلم يبق إلا الرياض .
قلت : قد: قال هذا فنعذر الحمد لو كان موقفاً واحداً أو عبارة واحدة ذم فيها الرياض. أما وهو قد كرر هذا الذم وألح عليه بشكل غريب ومفتعل فإن وراء الأكمه ما وراءها ، وحق لمدينة الرياض أن تقول له :
ولو كان سهماً واحداً لا تقيته
ولكنه سهمان ثانٍ وثالث
الحاصل : أن الحمد قد هوَّن جانب الانحراف ، والسقوط في الرذيلة ، وجعله يهيمن على أبرز شخصيات ثلاثيته ، شأنه في ذلك شأن نجيب محفوظ في ثلاثيته ـ كما سبق ـ ([223]) لأنهما جميعاً يصدران من مصدر واحد هو مصدر (الماركسية!) الذي لا يقيم معتنقوها أي وزن للأخلاق ، بل يسعون إلى هدمها في نفوس الناس ، حتى يتساوى ـ في نظرهم الزنا بالنكاح ـ ، والفضيلة بالرذيلة . يقول الشيخ عبد القادر شيبة الحمد : ( الخُلُق الوحيد الذي آمن به الشيوعيون هو وجوب مخالفة سائر الأنظمة الأخلاقية ، ومحاربة عموم أنواع الآداب المرعية في المجتمعات الإنسانية ، وبخاصة ما كان منها نتيجة للأوامر الإلهية، وقد قادهم هذا الشذوذ الخلقي إلى هتك الأسرة ، ومحاربة ناموس الزواج، ورأوا أن هدم ذلك من أقوى دعائم الشيوعية فتساوي الزواج والزنا في نظامهم ) ([224]).
نسأل الله العفو والعافية ، أن لا يجعلنا ممن قال فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ([225])
العبارات الوقحة :
استخدم الحمد في ثلاثيته عبارات ( وقحة ) لم تتعود آذاننا على سماعها ممن تأدب بآدبنا .
فمن ذلك أنه يتحدث عن مخلوقات الله ـ وهي الشمس ـ واصفاً إياها بالوقاحة ! وهو أولى بهذا الوصف ، لأن الشمس مخلوق مسخَّر في جو السماء يسير بانتظام ويدل على عظمة الخالق ـ سبحانه ـ فكان الأحرى بالحمد أن يتفكر في خلقها ، ويستدل به على عظمة ربه ، لا أن يتفاحش بهذا الكلام البذيء .
يقول الحمد :
( عندما كانوا يهبطون طلعة ديراب على خط الحجاز ، كانت الشمس قد بدأت تبزغ على استحياء ، وعندما وصلوا إلى مرات كانت قد بدأت في ممارسة وقاحتها وإرسال تلك الأشعة النارية الرهيبة ) ([226])!
ويقول :
( وأخذت الشمس في ممارسة وقاحتها ، وتتحول إلى جحيم لا يُطاق)([227])!
ومن وقاحة الحمد أنه تحدث عن أمه ( أي أم هشام !) في روايته بحديث لا يصدر عن عاقل .. فتأمله وتعجب من سخافته حين يقول : ( وصب هشام ربع البيالة عَرَقاً ، ثم أضاف إليه الكولا ، وأخذ رشفة سريعة استطعمها في فمه ، ثم تجرع ربع البيالة تقريباً ، ولم يحس إلا وقد اشتعل حلقه بالنار انتقلت إلى جوفه ، وأخذ اللعاب ينساب بشدة في فمه ، والرغبة في التقيؤ ، ولكنه تمالك نفسه ، وازداد إفراز اللعاب في فمه ، ثم أحس ببعض الراحة في جوفه ، ودوار في غاية اللذة يغزو رأسه من الداخل . وشرب ربعاً آخر فأحس أن نهراً يجري في فمه ، لم يكن الحريق بالشدة الأولى . دفع البيالة إلى عبد الرحمن ، ولكنه رفض قائلاً : " السجائر أقصى ما يمكن أن أصل إليه " فتجرع هشام بقية البيالة ، دون أن يحس بأي حريق هذه المرة ، وأخذ ينظر إلى رقية . لقد كانت في غاية الجمال والفتنة ، بل كان كل شيء في غاية الجمال . ذهب الذنب وأحاسيسه المؤلمة ، وانتفى الخجل ، وكان وجه أمه يبدو له واضحاً ، ولكنه كان ينظر إليها ببلادة ولا مبالاة ، وكان يود لو كان قادراً علىصفعها ، لكنه يشعر بمغص في الداخل ، فيزيح صورتها ويغرق في رقية)([228])!!
فهل يقول عاقل عن أمه ـ ولو كان على سبيل القصص ـ مثل هذا الكلام البذيء الذي يدل على تمردٍ دفين في نفس الكاتب على كل من يستحق (الطاعة ) ولو كان أمه !؟
نسأل الله العافية .
أوجه التشابه بين ثلاثية تركي الحمد
و
ثلاثية نجيب محفوظ
عندما تطلق ( الثلاثية ) في الرواية العربية فإنها تنصرف حتماً إلى ثلاثية نجيب محفوظ المشهور ( بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية ) فقد أصبحت علماً عليها ، وهي ـ تقريباً ـ التي شهرته على مستوى العالم ، وعرفتهم به ، نظراً لتفردها وتميزها عن رواياته الأولى .(51/453)
وعندما أصدر تركي الحمد ثلاثيته انصرفت الأنظار والأذهان إلى المقارنة بين الثلاثيتين لمعرفة أوجه التشابه والتمايز بينهما . وكنت أحد هؤلاء الذين اهتموا بهذا الأمر عند دراستي لفكر تركي الحمد ، فعدت إلى أوراقي القديمة التي دونت فيها الخطوط الرئيسة لثلاثية نجيب محفوظ لمقارنتها بثلاثية الحمد ، لمعرفة هل جاء بجديد عليها ، أم أنه يقول مكرراً من القول ؟
فاتضح لي بالمقارنة أن الحمد قد سار في ثلاثيته مقتفياً أثر نجيب محفوظ في أمور رئيسة وجزئية من الثلاثية ، نظراً لتشابه فكريهما ـ كما سيأتي ـ ومما أكد لي هذا أن الحمد قد أكثر من ذكر قصص نجيب محفوظ في ثلاثيته ، وجعلها جزءً من ثقافة هشام العابر .. فمن ذلك :
1ـ أنه ذكر ثلاثية نجيب محفوظ نفسها في قوله عن أحلام هشام : ( يأتيه صوت سي السيد أحمد عبد الجواد زاجراً وزبيدة تقهقه أمامه ، وكمال يرقص بينهما ، فيما ياسين يعض أرداف زنوبه )([229]) .
ومعلوم أن هذه الأسماء هي الشخصيات الرئيسة لثلاثية محفوظ .
2ـ قوله عن هشام : ( هو الفتى المثقف الذي يقرأ لماركس وماوتسي تونع ودوستوفيسكي ونجيب محفوظ … )([230]) .
3ـ قوله عن هشام : (كان يذاكر ذات يوم هو وعدنان كعادتهما كل عام قبل الامتحانات بفترة ، ويختلس بعض اللحظات ليقرأ فيها رواية نجيب محفوظ الجديدة " أولاد حارتنا " ) ([231]).
4ـ قوله عن هشام عند سفره إلى الدمام : ( وعندما تحرك القطار أخيراً ، كان بدأ في قراءة " الطريق " لنجيب محفوظ )([232]) .
5ـ قوله عن هشام في السجن : ( أخذ ينظر إلى حركة الأشباح من حوله وهو يفكر ولا يفكر . وطاف بذهنه جحيم دانتي وأبي العلاء . وباربوس ، وغريب كامو ، وذباب سارتر ، وشحاذ محفوظ ) ([233])
ولكي نعرف مدى التشابه بين الثلاثيتين وكيفية استفادة الحمد من محفوظ لابد من عرض موجز لأحداث ثلاثية نجيب محفوظ ، ثم ذكر نقاط التشابه بينهما، لكي يتضح أن الحمد قد صاغ ثلاثية محفوظ بنفس مناسب لبلادنا ـ كما سيأتي ـ .
أحداث ثلاثية نجيب محفوظ .
1ـ بين القصرين :
-يعيش أحمد عبد الجواد في بيته بشخصية قوية متسلطة ـ كما سبق ـ أمام زوجته الضعيفة (أمينة) وأولاده ، ولكنه خارج البيت يمارس أنواع المحرمات من شرب خمر وزنا دون أن يعلم أولاده ، بحيث تبقى هيبته بينهم . يذهب أحمد عبدالجواد لدكانه الذي يشرف عليه وكيله (الحمزاوي) فيأتيه الشيخ الصوفي ! (متولي عبد الصمد ) صاحب الكرامات !! الذي يعمل الحجب والتمائم للناس ، لينصحه عن ولعه بالنساء .
ـ كمال يدرس ويحب درس ( الديانة ) الذي يشارك فيه لأنه يراجع الدروس مع أمه ، الذي يلتقي معها في حب ( الحسين ) .
ـ فهمي يحب بنت الجيران ( مريم )، يتفرج عليها من السطح .
ـ ياسين يدور في الشوارع ويلتهم النساء بنظراته الشهوانية يتفرج على العالمة زبيدة وربيبتها زنوبة ويتأمل محاسنها ويتذكر خيانة أمه لأبيه مع ( الفاكهاني ) !
ـ أحمد عبد الجواد يتأمل جسد ( زبيدة ) العالمة عندما جاءته إلى الدكان . يحاول استدراجها ،ثم لا يدعها تدفع ( الحساب ) وفي المساء ذهب لزيارتها مع رفاقه .
ـ أحمد عبد الجواد يخبر ابنه ياسين بأن أمه ـ أي أم ياسين ـ ستتزوج من صاحب مخبز صغير السن . يغضب ياسين ، لأنه يطمع في فلوسها ، ذهب ياسين إليها ولامها وغضب عليها .
ـ فهمي يريد الزواج من ( مريم ) لكن والده يرفض بشدة .
ـ عائشة تغازل أحد الضباط من النافذة فتراها خديجة ، فتطلب منها عائشة أن لا تخبر أحدًا .
ـ ( حسن أفندى ) ضابط الجمالية يخطب عائشة ، فيرفض الأب !
ـ سافر أحمد عبد الجواد إلى ( بور سعيد ) في مهمة عمل ، فاستغل أهل البيت الفرصة ليتمتعوا بالحرية قليلاً ، خرجوا بأمهم لزيارة ( الحسين ) الذي تهيم به ، صدمتها سيارة ، فعادوا بها .
ـ عندما عاد أحمد عبد الجواد اعترفت له زوجته بما حصل بعد أن ألح عليها فطردها من المنزل ، فذهبت لبيت أمها .
ـ أم مريم تقوم بزيارة العائلة لتتشفع في إرجاع ( أمينه ) ، فيشعر أحمد عبد الجواد بأنها تهواه وتستدرجه لإقامة علاقة معها .
ـ حرم ( شوكت ) تزور أحمد عبد الجواد وتخطب عائشة لابنها ، فيوافق .
ـ عادت ( أمينة ) إلى البيت بعد أن عفا عنها زوجها .
ـ ياسين يقيم علاقة ( غير شرعية ) مع ( زنوبة ) فلما دخل عندها أخبرته بأن هناك رجلاً مع ( زبيدة ) هو أحمد عبد الجواد ! فتفاجأ ياسين لهذا الخبر ، وقد كان عهده بأبيه أنه جاد وصارم .
ـ ذهبت العائلة إلى بيت ( آل شوكت ) لزواج عائشة. ( جليلة ) العالمة تحضر الحفل وتسلم على أحمد عبد الجواد مع تضايقه منها خشية انكشاف علاقته السابقة بها . ياسين يخبر فهمي بحال أبيه ، فيندهش فهمي .
ـ ياسين يحاول اغتصاب ( أم حنفي ) الشغالة وهو سكران، فيغضب أبوه عليه، ثم يقرر أن يزوجه .
ـ زواج ياسين من ( زينب )
ـ آل شوكت يخطبون ( خديجة ) لابنهم ( إبراهيم ) فيوافق أحمد عبد الجواد.
ـ مات ( محمد رضوان ) والد ( مريم ) فعزاهم أحمد عبد الجواد .
ـ أحمد عبد الجواد يتحدث مع رفاقه في الدكان عن ( سعد زغلول ) زعيم الأمة ! وجهوده ضد الاحتلال .
ـ ياسين يعود للخمر والنساء .(51/454)
ـ أم مريم تزور أحمد عبد الجواد في الدكان لتستشيره .
ـ فهمي يشارك في ( المظاهرات ) ضد الانجليز المحتلين لمصر .
ـ ياسين يقيم علاقة ( غير شرعية ) مع الخادمة السوداء ( نور ) ! التي تعمل عند زوجته . فتكتشفهما الزوجة وتغضب وتهجره .
ـ أحمد عبد الجواد ينصح فهمي بعدم الاشتراك في المظاهرات ، أو توزيع المنشورات . خوفاً عليه .
ـ أم ياسين تتوفى .
ـ أحمد عبد الجواد يعود من بيت ( أم مريم ) فيوقفه جندي انجليزي فيجعله يساعد المصريين المسخرين لردم الحفر التي يحفرها المتظاهرون ، فتكون إهانة قاسية له .
ـ عائشة تنجب .
ـ فهمي يشارك في مظاهرة ( سلمية ) ، ولكنه يقتل برصاص الانجليز .
بهذا الحدث ، وهو موت فهمي انتهت أحداث الحلقة الأولى من حلقات ثلاثية نجيب محفوظ .
2ـ قصر الشوق ([234]):
ـ كمال يصاحب ( فؤاد الحمزاوي ) ابن وكيل والده ، مع شعوره بالاستعلاء عليه .
ـ كمال يقيم علاقة غيرشرعية مع ( قمر ) ابنة ( أبو سريع ) صاحب المقلى ! مع شعوره بتأنيب الضمير .
ـ أحمد عبد الجواد يعود إلى اللهو بعد موت ابنه ( فهمي ) ، ويقيم علاقة مع (زنوبة) التي تستعلي عليه .
ـ ياسين يقرر الزواج من ( مريم ) .
ياسين يقيم علاقة غير شرعية مع أم مريم !!
ـ الحمزاوي ينصح أحمد عبد الجواد بعدم تبذير أمواله على اللهو .
ـ كمال يحب ( عايدة ) أخت زميله ( حسين شداد ) وهي من طبقة عالية متحررة ، ويغلو في حبها إلى حد العبادة !
ـ ياسين يتزوج مريم .
ـ ( بهيجة ) تتزوج ( بيومي الشربتلي ) ، ثم تموت بعد أسبوع !
ـ خديجة تسبب مشاكل لأهل زوجها ، فيصلح بينهم أحمد عبد الجواد .
ـ عائشة تنساق مع حياة زوجها المتحررة ، فتدخن .
ـ ( عايدة ) يخطبها أحد زملاء أخيها ( حسين ) واسمه ( حسن ) فيتفاجأ كمال بهذا الخبر !
ـ ياسين يطلق ( مريم ) بعد أن اكتشفت علاقته بزنوبة .
ـ زنوبة تطلب الزواج من أحمد عبد الجواد ، فيرفض أن يتزوج من عاهرة !
ـ كمال يحضر حفل زواج عايدة .
ـ ياسين يتزوج زنوبة ، فيطلب منه أبوه أن يطلقها .
ـ كمال يغرق في الخمر والنساء .
ـ أحمد عبد الجواد يحاول اقناع ياسين بطلاق زنوبة فيخبره ياسين بأنها حامل منه .
ـ زوج عائشة وولدها يصيبهم المرض .
ـ موت سعد زغلول .
وبهذا الحدث انتهت الحلقة الثانية من ثلاثية نجيب محفوظ .
3ـ السكرية ([235]) :
ـ كمال يحب القراءة في الفلسفة ، ومجتهد في دروسه .
ـ الحمزاوي يطلب اعفاءه من العمل مع أحمد عبد الجواد لأنه تعب .
ـ زبيدة تدمن الكوكايين ، وتفتقر بعد العز !
ـ متولي عبد الصمد يصبح شيخاً رثاً وسخاً يدور على الناس .
ـ فؤاد يرغب الزواج من نعيمة ابنة عائشة .
ـ أحمد عبد الجواد هجر الخمر بسبب نصيحة الطبيب .
ـ شداد أفلس ثم انتحر .
ـ ياسين مستمر على عادته في الخمر والنساء .
ـ احمد ابن خديجة يعتنق الماركسية، وأما أخوه عبد المنعم فهو من جماعة (الإخوان المسلمين ) ! وتحصل بينهما مناقشات ومشادات . برغم أنهما جميعاً لا يحبان (الطغاة!) .
ـ عبد المنعم ( الإخواني ! ) يقع في الزنا بجارته !!
ـ أحمد يشارك في تحرير مجلة ( الإنسان الجديد ) ، ويحب السكرتيرة في المجلة (سوسن حماد )
ـ أحمد يتعرف على الكاتب ( رياض قلدس ) الذي يوافقه في الميول .
ـ كمال مستمر في الشهوات .
ـ عبد المنعم يتزوج نعيمة ابنة عائشة .
ـ حوارات فكرية وسياسية بين أحمد وخاله كمال ، لتوافقهما في الهوى !
ـ أحمد عبد الجواد يبيع دكانه .
ـ حوارات فكرية بين كمال وقلدس .
ـ نعيمة تموت .
ـ احمد يخطب ( علوية صبري ) فتطالبة بمصروف يومي ، فيرفض مشروع الخطبة .
ـ رفاق أحمد عبد الجواد يموتون واحداً إثر الآخر ، وهو يتفكر في حال الدنيا .
ـ موت أحمد عبد الجواد .
ـ عبد المنعم يخطب كريمة ابنة ياسين مع معارضة والدته خديجة لأن كريمة تكون ابنة زنوبة .
ـ زبيدة تتحول إلى شحاذة ، بعد العز !
ـ أحمد يتزوج سكرتيرة المجلة ( سوسن حماد ) .
ـ عبد المنعم يتزوج كريمة ويجعل من بيته بيتاً إسلامياً .
ـ كمال يعلم بموت ( عايدة ) .
ـ القبض على أحمد ( الماركسي ) ، واخوه عبد المنعم ( الإخواني ) ووضعهم في السجن بتهمة المعارضة .
ـ أمينة تصاب بالشلل فتنتظر الوفاة .
وبهذا الحدث انتهت الحقلة الثالثة من ثلاثية نجيب محفوظ .
شخصيات ثلاثية نجيب محفوظ :
1ـ احمد عبد الجواد : أحد أفراد الطبقة المتوسطة يتميز بشخصية متسلطة داخل بيته ، ويد حديدية يحكم بها أسرته . مع تدين تقليدي يحافظ من خلاله على أداء الصلوات في ( البيت ! ) ، دون أن يؤثر هذا ( التدين !) على سلوكه الخارجي ، أو أن ينهى زوجته عن الانجراف وراء البدع والشركيات ـ كما سيأتي ـ .
وهو في الجانب الآخر ، أي خارج بيته ، يتصف بصفة أوصفات أخرى تختلف عن تلك الأولى ، فهو يحب اللهو والشهوات ، والسهرة مع الغواني والمومسات ، في جلسات طرب وأنس .
ولكن هذا التناقض وإخفاء الشخصية الأخرى عن أولاده سرعان ما انكشف ، ولكنه لم يؤثر في سقوط هيبته الأولى .
أسرة ( أحمد عبد الجواد ) تتكون من :(51/455)
1ـ زوجته ( أمينه ) الخاضعة له ، التي هي على النقيض من زوجها ، حيث تتميز بالسماحة والطيبة مع أولادها ، ولكنها غارقة حتى أذنيها في البدع والشركيات التي تعتقدها ديناً ! ، حيث أدمنت على زيارة قبر الحسين (المزعوم!) في القاهرة ([236]) ودعائه من دون الله ([237]) ، بل والطواف بقبره ([238])!!
وقولها لابنتها عائشة : ( تعالي معي إلى الحسين ، ضعي يدك على الضريح واتلي الفاتحة ، تتحول نارك إلى برد وسلام كنار سيدنا إبراهيم ) ([239])!!
وكانت تلقن كل هذا ابنها الصغير ( كمال ) بطل الرواية .
وأما أبناؤه فهم :
1ـ ياسين : وهو الابن الأكبر من زوجة سابقة ، انتقل إلى العيش مع أبيه وزوجة أبيه ( أمينة ) ، وقد ورث عن أبيه ولعه بالملذات والشهوات ، ولكنه لم يستطع أن يكون كأبيه يعب من تلك الملذات ويحظى باحترام الناس !! مثلما كان أبوه .
2 ـ فهمي : الابن الأوسط لأحمد عبدالجواد ، وهو طالب بمدرسة الحقوق ، يجمع بين خصال أمه من رقة ومودة ورحمة لذويه ، إلى جانب وطنيته وثوريته ، التي انتهت به إلى الموت في مظاهرة وطنية .
3 ـ عائشة : الابنة الصغرى لأحمد عبدالجواد ، تتميز بجمال ورقة ومودة ، مما حببها إلى ذويها . بعد زواجها انساقت مع حياة زوجها المتحررة ، وبعد وفاة زوجها وابنيها ساءت أحوالها وأصبحت تُكثر من الاعتراض على القدر .
فمن ذلك : قولها عند وفاة ابنتها ( نعيمة) : ( ما هذا يا ربي ؟ ما هذا الذي تفعله ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ أريد أن أفهم )([240]).
أو قولها عندما تذكرت أولادها : ( الرحمة ! أين الرحمة أين؟)([241]).
4 ـ خديجة : الابنة الكبرى لأحمد عبدالجواد ، وكان حظها من الجمال ضئيلاً، وقد ورثت عن أبيها سلاطة لسانه وقوة شخصيته . كثيرة المتاعب مع زوجها ، وكان لأولادها نصيبهم الأكبر من أحداث الرواية .
5 ـ كمال : وهو ( بطل الثلاثية ) ، الابن الأصغر لأحمد عبدالجواد ، عاش في أحضان أمه ، التي لقنته البدع والخرافات والشركيات منذ صغره ، حيث لم يتعرف على الدين إلا من خلال أحاديثها وقصصها ، فانطبع الدين في ذهنه بتلك الخرافات .
فهو ـ مثلاً ـ يقول عن ضريح الحسن : ( كم وقف حيال الضريح حالماً مفكراً ، ويود لو ينفذ ببصره إلى الأعماق ليطلع على الوجه الجميل الذي أكدت له أمه أنه قاوم غِيَر الدهر بسره الإلهي ، فاحتفظ بنضارته ورونقه ، حيث يضيء ظلمة المثوى بنور غرته ، ولما يجد إلى تحقيق أمنيته سبيلاً قنع بمناجاته في وقفات طويلة ، مفصحاً عن حبه ، شاكياً إليه متاعبه الناشئة من تصوراته عن العفاريت وخوفه من تهديد أبيه ، مستنجداً به على الامتحانات التي تلاحقه كل ثلاثة أشهر ، ثم خاتماً مناجاته عادة بالتوسل إليه أن يكرمه بالزيارة في منامه)([242])!!
نشأ كمال متحيراً كثير الاضظراب الفكري ، لم يستقر على قرار ثابت ، كان وفدياً([243]) ثم ما لبث أن مال ميلاً شديد إلى ( الماركسية ) التي تقتلع الطبقات التي أبغضها عندما أحب ( عايدة ) التي تنتمي إلى طبقة عليا .
تكثر في أحاديثه الشكوك والطعن في الدين وعبارات الإلحاد والادعاء بأن (العلم ) سوف يحل مشاكلنا جميعاً . ولهذا كان من أقرب الناس إلى ابن أخته (أحمد ) الذي كان ( ماركسياً ) متحمساً .
فمن أقواله ـ على سبيل المثال ـ :
ـ ( إن مطلبي الأول الحقيقة : ما الله ؟ ما الإنسان ؟ ما الروح ؟ ما المادة؟ الفلسفة هي التي تجمع كل أولئك في وحدة منطقية مضيئة كما عرفت أخيراً)([244]).
قوله : ( لفه شعور بأنه ضحية اعتداء منكر تآمر به عليه القدر وقانون الوراثة ونظام الطبقات )([245]).
( طالما نازعته النفس إلى النقيضين وكر الشهوات والتصوف ، ولكنه لم يكن ليطيق حياة خالصة للدعة والشهوات ، ومن ناحية أخرى كان ثمة شيء في أعماقه ينفر من فكرة السلبية والهروب ) ([246]).
6ـ عبد المنعم ابن خديجة :
من جماعة الإخوان المسلمين ، يحمل أفكارهم وينافح عنها أمام أخيه أحمد (الماركسي ) ولكنه يتسم بالعنف في الجدال !! وهكذا أراد له نجيب محفوظ أن يكون !! فمن ذلك أنه قال لأخيه : ( صه يازنديق ) ([247]) !! وقال له أيضاً ( يا عدو الله ) ([248]).
ولكنه برغم هذا ( الإيمان ) و ( الحماس ) يقيم ـ كما سبق علاقة غير شرعية مع بنت الجيران !! وهذا من التناقض المفتعل لتشويه جماعة الإخوان المسلمين من نجيب محفوظ ـ هداه الله ـ .
7ـ أحمد ابن خديجة :
شاب متحمس للماركسية ، يدخل مع أخوه ( الإخواني ) عبد المنعم في مجادلات متتالية دون نتيجه .
من أقواله التي تدل على توجهه :
ـ أنه بعد أن تزوج سأله خاله كمال هازئاً : ( هل تزوجت على سنة الله ورسوله ؟) قال : ( طبعاً ، الزواج والدفن على سنن ديننا القديم ، أما الحياة فعلى دين ماركس)([249])!!
ـ قوله في التحقيق : ( إني اشتراكي ) ([250]).
أوجه التشابه بين الثلاثيتين :
1ـ أن الثلاثيتين كلتيهما تتكونان من ثلاثة أجزاء أو حلقات بأسماء مختلفة (بين القصرين ـ قصر الشوق ـالسكرية ) ،( العدامة ـ الشميسي ـ الكراديب ).(51/456)
2ـ أن البطل في الثلاثية شخص واحد تدور الأحداث من حوله .ففي ثلاثية محفوظ تدور الأحداث حول (كمال) وفي ثلاثية الحمد تدور حول ( هشام ) .
3ـ أن ( كمال عبد الجواد ) هو نفسه مؤلف الثلاثية ، أي هو نجيب محفوظ ، وهذا أمر لا ينكره نجيب محفوظ ، الذي يردد دائماً : "أنا كمال عبد الجواد في الثلاثية"([251]) ويقول : "الأزمة الخاصة بكمال هي أزمتي" ([252]).
أما تركي الحمد فقد اعترف بهذا في مقابلة له مع جريدة اليوم ([253]) عندما قال عن ثلاثيته بأنها " فيها الكثير مني … فالبطل أنا من صنعه وأنا من وضع له العواطف والتجارب " .
وقد أكد الدكتور غازي القصيبي أستاذ الحمد في الجامعة ! هذه الحقيقة . فقال في كتابه ( حياة في الإدارة ) : ( كان المفكر السعودي البارز (!!) الدكتور تركي الحمد أحد طلبتي . وعلى الذين يرغبون أن يعرفوا رأي الطلبة فيَّ أن يعودوا إلى رواية تركي (الشميسي)، ماكتبه عن ( الدكتور محارب الخيزراني)([254])
فهذا تأكيد من غازي أن هشام العابر لم يكن إلا تركي الحمد .
وليس معنى أن كمال عبد الجواد هو نجيب محفوظ وأن هشام العابر هو تركي الحمد أن يكون كلاً منهما قد نقل ( جميع ) تفاصيل حياته بجميع أشخاصها إلى القراء دون نقص أو زيادة ، فهذا مالا يقوله عاقل ، بل المقصود أن كلاً منهما كان يحكي عن ماضيه ، وتفكيره ، وتطلعاته ، وآماله ، وآلامه ، وبعضاً ممن عاصروه في اختلاف توجهاتهم . ولكن تبقى الفكرة الرئيسة التي تدور حولها الثلاثية هي ما كانت تقلق بال مؤلفها في فترة مضت ، أولا زالت!، كالحيرة والاضطراب ، أو اعلاء شأن الماركسية ، وهكذا .
4ـ أن كلاً من ( كمال عبد الجواد ) و ( هشام العابر ) ماركسي التوجه ، أو يميل إليها على أقل تقدير ـ .
5ـ أن كلاً منهما ـ برغم هذا الميل ـ متردد ، متحير ، مذبذب. يقول رياض قلدس أحد أصدقاء كمال في الثلاثية عن كمال بأنه : ( الذي دار حول نفسه كثيراً حتى أصابه الدوار ) ([255]).
ويقول هشام العابر عن نفسه بعد أن ذكر توجهات زملاء السجن : ( أما هشام فلم يعد يدري ما هو ) ([256]).
6 ـ تكثر الطعون في الله ـ عز وجل ـ وملائكته وكتبه ورسله وعباده الصالحين في كلا الثلاثيتين، ولعل للتوجه الماركسي لصاحبيها دوراً في ذلك ، حيث لا ترى الماركسية في الأديان والمقدسات إلا أفيوناً للشعوب يجب أن يهدم، وإن لم نستطع الهدم فلا أقل من اللمز والسخرية وإسقاط هيبة الدين ومحتوياته (أي الإسلام !) من نفوس الناس . ولا حول ولا قوة إلا بالله .
أما طعون الحمد فقد قرأناها سابقاً ، وأما طعون نجيب محفوظ ، فإليك شيئاً منها بالأرقام ، لكي لا أطيل ولكي لا أتهم بالتجني عليه : ( بين القصرين : ص 122، 227) ( قصر الشوق : 90، 91، 119، 153، 216، 229، 236، 260، 294، 314، 428، 434 ) ( السكرية : 88 ،253 ، 260، 275، 280) .
7ـ تكثر في الثلاثيتين ألفاظ ومعاني الاعتراض على القدر ، واتهام الحياة والموت والقدر بالعبث .
أما في ثلاثية الحمد فقد علمنا ذلك سابقاً ، وأما في ثلاثية نجيب محفوظ ، فهذه بعض المواقف والعبارات تؤكد هذا :
ـ اعتراض خديجة على زواج عائشة قبلها: ( إني أحافظ على الصلاة أما هي فلم تُطق المحافظة عليها … ) ([257]) أي : لماذا تتزوج قبلي ؟
ـ اعتراض عائشة على وفاة زوجها وأبنائها . وقولها ـ مثلاً ـ : ( ما هذا يا ربي ؟ ما هذا الذي تفعله ؟ ) ([258])
ـ قول كمال عن نفسه : ( لفه شعور بأنه ضحية اعتداء منكر تآمر به عليه القدر)([259]) .
ـ قوله : ( هذا الموت عبث ) ([260]).
8ـ تكثر في الثلاثيتين المواقف الجنسية بكافة أنواعها ! أما الحمد فقد علمنا شيئاً من مواقفه ( البطولية !! ).
وأما نجيب محفوظ فيكفينا من ثلاثيته شخصية أحمد عبد الجود ، والغواني، وشخصية ياسين .
وهاهنا ملاحظة : هي أن تركي الحمد اقتصر في مواقفه الجنسية على ( الزنا) وتوابعه ، أما نجيب محفوظ فقد تجاوز ذلك إلى ( اللواط )!!
كما في علاقة ( رضوان بن ياسين ) مع عبد الرحمن باشا عيسى([261]) .
وسبب ذلك ـ والله أعلم ـ أن محفوظاً تميز في ثلاثيته بالجرأة أكثر من الحمد ، الذي لا زال يحمل بقية من الحياء !
9ـ أن المتمسكين بأحكام الإسلام في الثلاثيتين :
إما مخرف ساذج ، أو من الاخوان المسلمين ،ولا ثالث لهما .
فالدين عند محفوظ : إما أن يتمثل في شخصية ( متولي عبد الصمد ) الصوفي ، المخرف ، الوسخ ! ، صاحب البدع والشركيات ، أو في شخصية (عبد المنعم ) الإخواني .
والدين عند الحمد :
إما أن يتمثل في شخصية خال هشام المتدين الساذج الذي يقول عنه ابنه :
( خالك لا يشك بوجود الخمر أصلاً في هذا البلد ، فكيف في بيته وابنه .. حتى لو رأى حمد مترنحاً فهو لن يشك بمثل هذه الأمور )([262]) .
ويقول عنه هشام : ( ياله من رجل طيب تخدعه المظاهر ) ([263]).
ولم يجعله الحمد مخرفاً كمتولي عبدالصمد لأنه يعلم أن لامكان للخرافة في بلاد التوحيد ـ ولله الحمد ـ .
أو في شخصية ( لقمان ) الإخواني ([264]).(51/457)
فإن كان محفوظ معذوراً في تجسيد شخصية ( الإخواني ) التي كان يعج بها مجتمع مصر تلك الأيام ، فكانت آراؤهم مطروحة في الساحة المصرية ، ولم تكن خافية على أحد .
فالحمد لا يعذر في تجسيده لهذه الشخصية الغريبة على مجتمعنا ، إلا أن تكون ـ وهو ما أراه ـ تقليداً لمحفوظ ، كما تعودنا من الحمد !
قد تقول : ولكن الاخوان موجودون في السعودية ، وقد وفدوها بعد اضطهادهم في دولهم .
فأقول : نعم هم موجودون ، وقد يكون قلائل من السعوديين تأثروا بهم ، ولكن هذا لا يجيز للحمد أن يصور بلادنا بهذه الصورة الحزبية التي عرفتها مصر وغيرها من الدول العربية .
ثم يجعل (الاخوان ) هم الممثلين للتيار الإسلامي ! وكأننا في بلد علماني النزعة لايمثلنا فيه سوى الإخوان !!
فهل نسي الحمد أننا ـ بحمد الله ـ نعيش في دولة إسلامية سلفية منذ نشأتها ([265])، لم تعرف الأحزاب يوماً ما ؟ وهل من العقل أن يُجْعل أفراد قلائل مستخفون هم الممثلين للتيار الإسلامي ؟! وننسى الكثرة الغالبة من أهل البلاد الذين لا يعرفون سوى الإسلام ديناً لهم ، على تفاوت بينهم في الالتزام به .
أقول: إن كان محفوظ معذوراً ، فالحمد لايعذر في هذا ، لأنه كثر القليل وقلل الكثير .
وأنا لا أقول هذا بخساً لجهود جماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي والإسلامي ، فهي جماعة قد اجتهدت في الدعوة إلى الإسلام ، ولكن شاب جهودها شيء من الأخطاء ، منها :
1ـ أنها جماعة تعنى بالتجميع كيفما كان ، فتجد فيها البدعي والسني جنباً إلى جنب .
2ـ وهي جماعة لا تحرص على نشر عقيدة السلف الصالح بل تجد من أفرادها الكثير ممن يعتقد عقيدة الأشاعرة ، ويزعم انها عقيدة السلف !
3ـ وهي جماعة حرصت على الدولة أكثر من حرصها على التربية والدعوة .
4ـ وهي جماعة يقل فيها الالتزام بالسنن النبوية الظاهرة .
5ـ وهي جماعة لا تراجع نفسها ، بل ظلت مأسورة في شخصية ( حسن البنا ) ـ رحمه الله ـ الذي كانت شخصيته تطغى على غيره من الإخوان ، ولا زالت!
6ـ أخيراً : هي جماعة لا مبرر لقيامها في بلادنا ( السعودية ) لأننا ـ ولله الحمد ـ مسلمون قبل قيامها ، فالذي نحتاجه هو الجد في نشر الدعوة ، والالتزام الصادق بالإسلام([266]) .
إذن : أخطأ الحمد خطأ فاحشاً عندما لم ير في الملتزمين بالإسلام سوى :
1ـ الرجل الساذج .
2ـ الاخواني .
3ـ المتشدد .
وبقي صنف رابع لم يذكره ، أو لم يرد أن يذكره ! ، وهو الشاب المسلم الملتزم بدينه ، صاحب العقيدة السلفية ، والخلق الحسن في التعامل ، والمبرز في دراسته الشرعية أو العلمية ، قاصداً خدمة بلاده الإسلامية ورفعتها من هذا التخلف الذي تعيش فيه .
فبالعقيدة السلفية نرفع التخلف ( الديني ) ـ بدعاً وشركيات ـ الذي يعج في أوطاننا ، ويفرق بيننا ويضيع كثيراً من طاقاتنا .
وبالعلم الدنيوي النافع نرفع من شأن بلاد الإسلام ونجعلها تنافس الآخرين، بل تفوقهم ، وما ذلك على الله بعزيز .
كنت أود للحمد لكي يكون عادلاً أن يذكر هذا الصنف في ثلاثيته ، ولكن (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) ([267]).
10 ـ يبرز في الثلاثيتين جانب خبيث؛ هو محاولة إفحام الدين ، أو التشكيك في بعض مسائله بأسلوب ماكر ، كما في تحير هشام في مسألة : كيف يموت الموت؟
أما نجيب محفوظ فقد صاغ تشكيكه وتحيره على هيئة سؤال وجهه كمال إلى مدرسه ، حيث يقول عن الجن ( وسألت الشيخ : هل يدخل المسلمون منهم الجنة ؟ فقال : نعم . فسألته مرة أخرى : كيف يدخلونها بأجسام من نار !؟ فأجابني بحدة قائلاً : أن الله قادر على كل شيء ) ([268]) ولا حظ قوله ( بحدة )! تفهم مقصده . مع أن جواب شيخه مقنع ، وهو أن الذي خلقهم ـ سبحانه ـ قادر على أن يجعل مسلميهم يدخلون الجنة ،إما بطبيعتهم أو بطبيعة أخرى ، كما أنه سبحانه قد أخبر عن النار بأن فيها شجرة الزقوم ، فهل يقول : كيف لا تحرقها النار ؟ فهل هذا إلا سؤال متعنت، يحاكم ربه بعقله القاصر . كما كان مشركو الجاهلية يفعلون مع محمدe .
ولهذا جعل الله ـ سبحانه ـ الإيمان بالغيب أحد الصفات الرئيسة للمؤمنين فقال : (آلم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ([269]).
لأنه سبحانه يعلم أن مسائل الغيب قد لايستوعبها عقل الإنسان في الدنيا، فلهذا جعل الفارق بين المؤمنين والمذبذبين المرتابين هو الإيمان بالغيب، فعلى المسلم إذا جاءه الدليل من القرآن أوالسنة الصحيحة بأمر من أمور الغيب أن يؤمن ويسلم دون اعتراض أوتشكيك كما فعل ( تركي ) أو ( نجيب ) !
11ـ يكثر الحلف بغير الله في الروايتين ، أما في ثلاثية تركي فقد مضي التدليل عليه . وأما ثلاثية محفوظ فإليك المثال :
ـ ( ورسول الله ) ( بين القصرين ص 253 ) .
ـ ( ورأس أمي ) ( بين القصرين ص 257 ) .
ـ ( حلفتك بالحسين ) ( بين القصرين ص257 ) .
ـ ( وحياة أمك ) (بين القصرين ص 268 ) .
ـ ( وحياتك ) ( بين القصرين ص 435 ) .
ـ ( والنبي ) ( بين القصرين ص 439 ) .(51/458)
أخيراً : ما سبق هو أبرز المتشابهات في ثلاثيتي ( محفوظ والحمد ) وهي تبين أن الحمد قد بنى ثلاثيته على أعمدة سابقة كان قد أقامها نجيب محفوظ ، فلم يكن له في ثلاثيته سوى صياغتها لتناسب طبيعة وظروف الشاب السعودي بدلاً من المصري .
وإلا فإنهما قد اجتمعا على :
ـ الماركسية .
ـ والاجتراء على الله ـ عز وجل ـ وملائكته وكتبه ورسله وعباده الصالحين .
ـ والاعتراض على القدر ، وتصويره في صورة العدو المتربص أو العابث .
ـ والنظر إلى الحياة والموت بنظرة عباثة .
ـ والإغراق في الجنس .
ـ والشك والحيرة والاضطراب .
فكلاهما ـ ثلاثية محفوظ والحمد ـ مجرد رواية ( هدم ) لا ( بناء )، و (تشكيك ) لا ( يقين ) ، فمن قرأها ثم فرغ منها لم يحصل سوى الحيرة التي لا تقود إلى ثبات واطمئنان .
ثم يكتشف أن راويها لم يقدم له أي بديل لما قد تم هدمه في هذه الثلاثية . فهي شبيهة بأدب الحداثيين الذين حملوا معاولهم لهدم الإسلام والمعاني السامية دون أن يقدموا لها بديلاً سوى الحيرة والشكوك والبؤس والشقاء ، زاعمين أنهم سوف يقدمون لبني قومهم كل جميل ، وكل مبهج، ولكن بعد أن يفرغوا من هدمهم !
قال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ([270])، وقال سبحانه : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) ([271]).
وقد أصلح الله بلادنا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ التي ناصرها آل سعود ، فلا مستقر فيها لكل مفسد هادم مهما غلَّف هدمه ذاك بشعارات ( التطور) و( التحضر ) و( التقدم ) … الخ زخارف الشيطان :
وليتق الله ربه وليتب من ( هدمه ) ، وليشارك إخوانه في ( البناء ) فإن خير الخطآئين التوابون .
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ([272]).
خاتمة موجزة
بعد هذه الجولة العجلى في أبرز مؤلفات تركي الحمد وفي ثلاثيته يتبين لنا:
1 ـ أن الحمد يدعو إلى " الشك " و " الريبة " في كل شيء ، ولو كان نصاً من الكتاب أو السنة الصحيحة ([273])، وهو لم يبين لقرائه ما هو الميزان الذي سيحتكم إليه بعد أن " يشك " و " يرتاب " ليقضي لنا بصحة القضية المطروحة أو بطلانها ، هل هو " عقله " ام " عقلي " أم " عقل فلان من البشر " أم ماذا ؟ كما سبق .
2ـ أنه عندما " شك " و " ارتاب " ودعا المسلمين إلى هذا ، لم يقدم لهم أي بديل واقعي ( واضح ) يأخذون به بعد أن يهدموا ( كل شيء حولهم ) بالشك والريب . ففكر الحمد ( هدمي ) ليس ( بنائياً ) ـ كما سبق ـ لأنه يهدم ويهدم ويهدم تحت دعوى ( الشك ) و( الارتياب ) الذي يدعو إليه ، دون أن نجد عنده ما يبنى أو يشيد لنفع أمته([274]).
3ـ أن الحمد يتظاهر في كتبه ( بالعقلانية ) التي تخفي وراءها نفساً طافحة بالشهوات الحقيرة ـ كما رأينا ذلك في ثلاثيته التي تعبر عن شخصه([275]) ـ
4 ـ أن شخصية الحمد ـ كما يظهر من مؤلفاته وثلاثيته ـ شخصية قلقة مضطربة لا تريد أن تركن إلى شيء يسندها في هذه الحياة ، وهي شخصية (شاكة) (مرتابه) تحقد على كل من لم يكن مثلها في شكها وحيرتها وارتيابها ، كما قد رأينا في حقده وحمله الظغينة على رسل الله ـ عليهم السلام ـ وعباده الصالحين ، وبلاد التوحيد (السعودية) . . . الخ .
5 ـ أن الحمد يدعو إلى عدم ثبات الحق ، فما كان بالأمس حقاً قد يصبح اليوم باطلاً، وما يحمله فلان من الحق قد ينقلب باطلاً في حق فلان . . . في دائرة لا تنتهي ، تهرباً من قيام الحجة عليه ، أو توهمه أنه بهذه الدعوى يُفحم أهل الحق .
6 ـ أن الحمد يدعو إلى مساواة ( الإسلام ) بغير من الأديان والثقافات الأخرى، بل هو يُفضلها عليه ـ والعياذ بالله ـ، وهذا من أعظم ( الكفر ) الذي يُستتاب صاحبه ، فإن تاب وإلا ضُربت عنقه([276]).
7 ـ أنه من دعاة ( تحرير )([277]) المرأة في بلادنا ، وذلك بدعوته إلى سفرها ، واختلاطها بالرجال في الدراسة والعمل ، وقيادتها للسيارة . . . الخ جزئيات هذه الدعوة التي تجرعت مرارتها المجتمعات الإسلامية الأخرى ، فنبتت عندنا نابتة ـ من ضمنهم الحمد ـ يرددون في بلادنا ما ردده شياطين هذه الفكرة الغربية في البلاد الأخرى في مقالات وكلمات متكررة بين الحين والآخر من دعاة وداعيات ( الشهوة ) و(نبذ حكم الإسلام ) .
فنسأل الله أن يقضي على هذه الفتنة في مهدها ، كما قد قضى على غيرها ، وأن يسلط ولاة أمر هذه البلاد لا جتثاث عروق الفساد من وسائل إعلامنا لكي لا تتجذر هذه الدعوة المفسدة في بلاد التوحيد .
8 ـ أنه عدو لدود للحكم السعودي الذي قام على تحكيم شرع الله ، والدفاع عنه ضد أعدائه من أصحاب التيارات ( الكافرة ) من ديمقراطيين وشيوعيين ومنحلين . وقد سبق نقل ما يُكنه صدره ضد ولاة أمرنا .
9 ـ أنه يسرق جُلَّ أفكاره من كتابات وجهود الآخرين عرباً كانوا أم عجماً . كما في ثلاثيته التي بناها على ثلاثية نجيب محفوظ ، وكما في ( عقلانيته ) التي اكتسب أفكارها من الجابري والعروي .(51/459)
10ـ أنه بعد هذا البيان عن الفكر ( الهدمي ) للدين والدولة من هذا الرجل ؛ فإنه لا يجوز شرعاً لوسائل إعلامنا أن تحتفي به ، أو أن تُسهل له مهمة بث هذا الهدم بين المسلمين ، عبر مقالات أو برامج مسموعة أو مرئية ؛ لأن الشريعة قد جاءت بالحجر على السفهاء، فكيف بمن يكيدون لدين الله وللفضائل ولهذه الدولة المسلمة !؟
ختاماً : أسأل الله أن يحمي بلادنا من شرور الحاسدين والحاقدين الذين لا يرتضون لها أن ترفع راية لا إلة إلا الله محمد رسول الله في هذا الزمان ، والذين يتربصون بها الدوائر ممن ارتضوا ما في زبالات الغرب بديلاً للهدى والنور الذي جاءهم به خير الرسل محمد e، وأسأله تعالى أن يُعجل بكبتهم وتشريدهم وتمزيقهم كلَّ ممزق ، وأن يوفق ولاة أمرنا للقضاء عليهم كما هو دأب حكام المسلمين على مرّ الأزمان ([278]) ، فإن الله قال في هذه الشرذمة من رجال ونساء (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ )([279]).
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) مقولة "الحق المطلق لا يمتلكه أحد" هي من المقولات "الكفرية" المعاصرة التي تسربت إلى عقول بعض المسلمين من مفكري الغرب، وقد وضحت ذلك في بحث بعنوان "أفكار عصرانية" أسأل الله أن ييسر نشره قريباً.
(1) نقلاً عن المقابلة التي أجرتها معه قناة اقرأ الفضائية في يوم 13/8/1419هـ ، ومجلة "فواصل "( العدد 50 ) وقد وصفته هذه المجلة ـ هدى الله القائمين عليها ـ بأنه " أحد الذين بنور أفكارهم تستضيئ العقول ، وأحد الذين بلمعان جواهرهم تنير الآفاق " !!! ومن كتب هذا الكلام حريّ به أن يقرأ هذا الكتاب الذي يبين له حقيقة هذا المفكر المنير للعقول ! لعله يتراجع عن مدحه السابق امتثالاً لقوله تعالى : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله }
(2) سألت مجلة "فواصل " تركي الحمد عن سبب طلبه للتقاعد المبكر من الجامعة وتفرغه للكتابة ، فقال : "لأني شعرت أنني أستطيع أن أنتج فكرياً خارج الجامعة أكثر مما لو بقيت داخل الجامعة ، وأنا أقول لكم بصراحة شديدة جداً : إن الجامعات العربية بشكل عام تحولت إلى نوع من القيد على الفكر … " !! فما هو هذا ( الفكر المقيد) الذي يريد تركي التفرغ له ونشره بين الناس !؟ هذا ما ستعرفه ـ إن شاء الله ـ.
([2]) صدرت قريباً وهي رواية رمزية مغرقة في الغموض، ولأجل هذا لم يستطع الدكتور غازي القصيبي نفسه فهمها! كما صرح بذلك للمجلة العربية .
([3]) وسأعتمد على الطبعة الثانية الصادرة عام ( 1998م ) عن دار الساقي بلبنان . والعدامة حي مشهور من أحياء مدينة الدمام .
([4]) وسأعتمد على الطبعة الأولى ، الصادرة عام ( 1997م )عن دار الساقي بلبنان . والشميسي شارع وحي مشهور في مدينة الرياض .
([5]) وسأعتمد على الطبعة الأولى ، الصادرة عام ( 1998م ) عن دار الساقي بلبنان ، والكراديب رمز للسجن .
([6]) كانت ملجأ للمعارضين ذاك الزمان
([7]) الكراديب ( ص288)
([8]) العدامة ( ص9 ) .
([9]) العدامة ( ص9 ).
([10]) العدامة ( ص10) .
([11]) العدامة (ص12)
([12]) العدامة ( 12-13) .
([13]) العدامة (ص 14-15)
([14]) العدامة ( ص26) .
([15]) العدامة ( 61-62) .
([16]) العدامة ( 63 ).
([17]) العدامة ( ص64 ) .
([18]) العدامة ( ص 224 )
([19]) العدامة ( ص 278 )
([20]) العدامة ( 283)
([21]) العدامة (ص 57 )
([22]) العدامة ( ص105)
([23]) الشميسي (ص123) .
([24]) الشميسي (ص24) .
([25]) الكراديب (ص186)
([26]) هكذا ! والصحيح : شيءٌ .
([27]) الكراديب (ص193) .
([28]) الكراديب (ص215) .
([29]) الكراديب (242) . وسيأتي خطاً تسمية ملك الموت بعزرائيل .
([30]) الكراديب ، (252) .
([31]) ديوانه (ص30ـ31) .
([32]) ديوانه ( ص 526 ).
([33]) ديوان ( ص 440 ) .
([34]) ديوانه (ص184) .
([35]) ديوانه (ص398) .
([36]) انظر لفضح شعراء الحداثة كتاب (الحداثة : مناقشة هادئة لقضية ساخنة ) للدكتور محمد خضر عريف . وكتاب (الحداثة في ميزان الإسلام) للشيخ عوض القرني .
([37]) (( الله جل جلاله والأنبياء عليهم السلام في التوراة والعهد القديم )) للدكتور محمد البار ، (ص5) .
([38]) المصدر السابق (ص21) .
([39]) المصدر السابق (ص23) .
([40]) المصدر السابق (27) .
([41]) المصدر السابق ( 30 ) .
([42]) المصدر السابق (30)
([43]) المصدر السابق ( 31) .
([44]) المصدر السابق (41)
([45]) سورة آل عمران ، الآية 24.
([46]) دراسات في الأديان : اليهودية والنصرانية ( ص93 ) .
([47]) كيوسف الخال ، وجورج شحاده ، وجبرا إبراهيم جبرا ، وإيليا حاوي وغيرهم .
([48]) أخرجه البخاري ومسلم .
([49]) الكراديب ( ص154) .
([50]) الكراديب ( 213).
([51]) الكراديب ( ص 130 ).
([52]) الصواب ( ابن عربي ) بدون ( أل ) وهو الصوفي الملحد المشهور ، أما ( ابن العربي ) فهو الفقيه المالكي صاحب كتاب " العواصم " .
([53]) الكراديب ( ص137ـ 138) .
([54]) الكراديب ( ص62 ) .(51/460)
([55]) الكراديب ( ص 78ـ 79 ) .
([56]) الشميسي ( ص169) .
([57]) الكراديب ( ص22ـ 26) .
([58]) حيث رمز إلى الله ـ عز وجل ـ بالجبلاوي ، وإلى آدم عليه السلام بأدهم ، وإلى موسى عليه السلام بجبل ، وإلى عيسى عليه السلام برفاعة ، وإلى محمد e بقاسم ، إلى ( العلم ) الذي يدعو إليه نجيب محفوظ بديلاً عن الدين ! بعرفة . انظر : ( دراسة المضمون الروائي في أولاد حارتنا ) لعبد الله المهنا .
([59]) سورة النساء ، الآيات : 172-173 .
([60]) سورة الأنعام ، الآية 72 .
([61]) سورة الجاثية ، الآية 23 .
([62]) تفسير ابن كثير ( 4/ 162 )
([63]) سورة يس ، الآية : 60 .
([64]) كعبدة الشيطان الذين ظهر أمرهم قريباً .
([65]) إغاثة اللهفان ( 2/ 194ـ 195) وقد قال ـ رحمه الله ـ في نونيته عن مدعي الحرية !
فروا من الرق الذي خلقوا له
وبلوا برق النفس والشيطان
([66]) طريق الهجرتين ( ص103ـ 104 ) .
([67]) سورة النحل ، والآية : 36.
([68]) سورة يوسف ، الآية : 109
([69]) سورة الأنبياء ، الآية : 92 .
([70]) سورة المؤمنون : الآية 51
([71]) سورة الحجر ، الآية 99
([72]) سورة الأنبياء ، الآية 20 .
([73]) سورة الأعراف ، الآية 206
([74]) سورة غافر ، الآية 60 .
([75]) سورة الأنسان ، الآية 6
([76]) سورة الفرقان ، الآية 63
([77]) سورة الحجر ، الآيتان ، 39، 40 .
([78]) سورة الحجر ، الآية 42 .
([79]) سورة مريم ، الآيات 88ـ 95
([80]) سورة الزخرف ، الآية : 59 .
([81]) أخرجه البخاري ومسلم .
([82]) سورة الإسراء ، الآية ، 1.
([83]) سورة النجم ، الآية : 10 .
([84]) سورة الجن ، الآية : 19 .
([85]) سورة البقرة ، الآية : 23 .
([86]) أخرجه البخاري ومسلم .
([87]) سورة التوبة ، الآية : 24 .
([88]) الفتاوي (10/ 149ـ 153 ) .
([89]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده : ( 2/176 ـ 197 ) ، وأخرجه الترمذي في كتاب الإيمان : ( ص18) .
([90]) سورة النور ، الآية : 35 .
([91]) هداية الحيارى ( ص591ـ 593) .
([92]) قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "الحلف بغير الله من الشرك الأصغر .. ، وقد يكون شركاً أكبر إذا قام بقلب الحالف أن هذا المحلوف به يستحق التعظيم كما يستحقه الله" . ( فتاوى ابن باز ـ 2/ 727 ـ ط دار الوطن .
([93]) أخرجه أبو داود والترمزي . قال الشيخ ابن باز في فتواه السابقة "بإسناد صحيح" .
([94]) أخرجه البخاري ومسلم .
([95]) الشميسي ( ص45 ) .
([96]) الشميسي ( ص 136 ) .
([97]) سورة طه ، الآية : 5 .
([98]) سورة الملك ، الآية : 16 .
([99]) سورة النحل ، الآية : 50 .
([100]) بين القصرين ( ص448 ) .
([101]) الشميسي ( ص70 ـ 71 ) .
([102]) سورة غافر ، الآية : 60 .
([103]) الكراديب ( ص19) .
([104]) سورة ق ، الآية :18 .
([105]) سورة الرعد ، الآية ، 11 .
([106]) سورة الزخرف ، الآية : 80 .
([107]) الشميسي ( ص39 ) .
([108]) سورة طه ، الآية : 17 .
([109]) الكراديب ( ص 37 ) .
([110]) سورة مريم ، الآية : 71 .
([111]) للسيوطي رسالتان حول هذا الموضوع بعنوان ( تنزيه الأغبياء عن تسفيه الأنبياء ) و( رفع البأس وكشف الالتباس في ضرب المثل من القرآن والاقتباس ) انظرها في ( الحاوي ) ( 1/309) و ( 1/344) . وهي في من اقتبس من القرآن جاداً لا هازلاً .
([112]) فتاوى اللجنة ( 4/ 56) .
([113]) الشميسي ( ص( 68) .
([114]) سورة القمر ، الآية : 17 .
([115]) سورة الإسراء : الآية ، 82 .
([116]) لا لزوم لهذه المخادعة بعد الذي خطته يمينك !
([117]) الكراديب ( ص122) .
([118]) تفسير الطبري ( 10/ 203 شاكر ) .
([119]) سورة المائدة ، الآيات : 27-31 .
([120]) تفسير ابن كثير ( 2/ 45) .
([121]) سورة البقرة ، الآية 35، 36 .
([122]) سورة الأعراف ، الآية : 18-19 .
([123]) سورة طه 115، 116 .
([124]) عمدة التفسير ( 1/ 136) .
([125]) فتح الباري ( 6/ 424) .
([126]) البداية والنهاية ( 1/ 78) .
([127]) سورة ص ، الآية : 24 .
([128]) تفسير ابن كثير ( 4/ 34 ) .
([129]) الفتاوى ( 15/ 149 ) .
([130]) الشفا ( 2/158)
([131]) ص 268 .
([132]) الله جل جلاله والأنبياء عليهم السلام في التوراة ( ص361) .
([133]) سورة ص ، الآية : 17-20
([134]) أخرجه البخاري ( 3419) .
([135]) أخرجه البخاري ( 3420) .
([136]) سورة ص ، الآيات : 35-40 .
([137]) سورة النمل ، الآيتان : 39-40 .
([138]) تفسير ابن كثير (3/376) .
([139]) أخرجه أحمد والنسائي ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3124) .
([140]) سورة الروم ، الآية : 21.
([141]) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ( ص393ـ395 ـ 399 ) .
([142]) المصدر السابق (ص386) .
([143]) المصدر السابق (ص388 ـ 392 ) .
([144]) سورة الإسراء ، الآية : 55 .
([145]) سورة ص ، الآية :18 .
([146]) سورة سبأ ، الآية : 10 .
([147]) أخرجه البخاري (5048) .
([148]) فتح الباري (8/ 711) .
([149]) فتح الباري ( 8/ 712) .
([150]) سورة البقرة ، الآية : 87.
([151]) الفصل في الملل والأهواء والنحل (1/ 224 ) .(51/461)
([152]) أي اليهود عليهم لعنة الله .
([153]) إغاثة اللهفان (2/ 342ـ 343 ) .
([154]) سورة النساء ، الآية : 156 .
([155]) أخرجه البخاري (3358) .
([156]) البداية والنهاية (1/194) .
([157]) الكراديب (ص137) .
([158]) سورة الأنبياء ، الآية : 23 .
([159]) ( سفر التكوين ـ الإصحاح 9 : 20 ـ 27 ) ، وانظر ( الفِصَل … ) لابن حزم ( 1/ 211 ) .
([160]) سورة الإسراء ، الآية : 3 .
([161]) دراسات في الأديان : اليهودية والنصرانية (ص94) .
([162]) سورة الأنعام ، الآية : 90 .
([163]) الكراديب (ص213) .
([164]) سورة ص : الآية : 71، 72 .
([165]) سورة النساء ، الآية : 157 .
([166]) سورة النساء ، الآية : 157 .
([167]) سورة النساء ، الآية : 158 .
([168]) انظر : تفسير المنار ( 6/ 18) .
([169]) سورة المائدة ، الآية : 41 .
([170]) الكراديب ( ص214 ).
([171]) سورة البقرة ، الآية : 102 .
([172]) تفسير ابن كثير ( 1/ 141) .
([173]) سورة النمل ، الآية : 40 .
([174]) الشميسي ( ص 44 ) .
([175]) الشميسي ( ص 136 ).
([176]) العدامة ( ص93 ) .
([177]) العدامة ( ص 252 ) .
([178]) الكراديب ( ص192) .
([179]) قال الشيخ الألباني في ( أحكام الجنائز ـ ص156) : "أما تسميته ـ أي ملك الموت ـ بعزرائيل فمما لا أصل له ، خلافاً لما هو المشهور عند الناس ، ولعله من الإسرائيليات !" وقال الشيخ بكر أبو زيد في ( معجم المناهي اللفظية ـ ص238) : "لا يصح في تسمية ملك الموت بعزرائيل حديث".
([180]) سورة السجدة ، الآية : 11 .
([181]) ومن جهله بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعزو إليه حديثاً لا أصل له وهو قوله : " السلام سنة ورده واجب " !!! وهذا من أقوال ( بعض ) الفقهاء ، وليس هو من حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما يتوهم الحمد !
([182]) سورة مريم ، الآية : 39 .
([183]) حادي الأرواح ( ص344ـ 345) .
([184]) الشميسي ( ص66 ) .
وليعلم أن كتب الغزالي عليها مؤخذات كثيرة من إسراف في علم الكلام ، وترغيب في التصوف ، واستشهاد بالضعيف . وقد بين هذا العلماء المحققون ، ( انظر : أبو حامد الغزالي لعبد الرحمن دمشقية ، والعقيدة السلفية في مسيرتها التاريخية للشيخ محمد المغراوي ) ،والحمد لا يفرق في بغضه للكتب الإسلامية بين الغث والسمين، فهو يعمم حكمه ذلك دون أي تفريق كما قد يفهم ( البعض ) .
([185]) العدامة ( ص283 ) .
([186]) الشميسي ( ص385ـ 386 ) .
([187]) الكراديب ( ص184 ) .
([188]) انظر للزيادة : ( دعوة الإخوان المسلمين في ميزان الإسلام ) لفريد الثبيت ، و وقفات مع كتاب للدعاة فقط ) لمحمد العجمي و ( حوار هادئ مع إخواني ) لأحمد الشحي .
([189]) الشميسي ( ص73) .
([190]) أخرجه الترمذي ( 1/ 354) وصححه الألباني في الصحيحة ( 572) .
([191]) الشميسي ( ص194 ) .
([192]) أخرجه مسلم
([193]) الدرر السنية ( 10/275ـ 276 ) ط 5.
([194]) الكراديب ( ص125 ).
([195]) ولولا الخوف لطعن فيه !!!
([196]) أخرجه مسلم ( 2276 ) .
([197]) أخرجه البخاري ( 3500) .
([198]) الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة .. ( ص 134 ) .
([199]) ونسأل الله أن يستمر هذا الجمع بين ( الدين والدنيا ) وهو سهل على من اتقى الله . وأن نتخلص مما يخالف شرع الله ـ ولو كان قليلاً ـ ليستمر تألقنا.
([200]) إلا بقية من المخلصين في تلك البلاد الذين ساروا على طريقة السلف الصالح في دينهم ، وهم الآن في ازدياد ـ بحمد الله ـ
([201]) سورة البقرة ، الآية : 109 .
([202]) العدامة (ص23) .
([203]) العدامة ( ص120) .
([204]) سورة البقرة ، الآية : 111 .
([205]) العدامة (ص37 ـ 38 ) .
([206]) العدامة ( ص 51 ) .
([207]) الكراديب ( ص125ـ 126) .
([208]) الكتب التي تحدثت عن بطلان مذهب ( الرافضة ) كثيرة جداً . من أبرزها كتاب ( منهاج السنة ) لشيخ الإسلام ابن تيمية، الذي فند شبهاتهم العقدية و( التاريخية ) المزعومة ، التي يرددها المعاصرون منهم وممن وافقهم !
([209]) الشميسي ( ص34) .
([210]) الشميسي ( ص202ـ 203 ) .
([211]) الشميسي ( ص 72 ) .
([212]) الشميسي ( ص 129 ) .
([213]) العدامة ( ص107 ) .
([214]) العدامة ( ص79) .
([215]) العدامة (ص167).
([216]) العدامة ( ص88) .
([217]) العدامة ( ص 100 ) .
([218]) العدامة ( ص169) .
([219]) الشميسي ( 39) .
([220]) الكراديب ( ص252) .
([221]) الكراديب ( ص253) .
([222]) نسبة إلى أبي العلاء المعري أعمى القلب والبصر ! الذي ألح على هذه المسألة في أشعاره التشاؤمية .
([223]) مع فارق واحد بينهما ، هو أن محفوظاً يتعذر عن مومساته ، بأن الظروف الاقتصادية أجبرتهم على ذلك ، فلا تلوموهنَّ ، شأنه في ذلك شأن الماركسيين الأقحاح !
([224]) مقال بعنوان ( الشيوعية ) في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة السنة الثانية ( عدد3 ) .
([225]) سورة النور ، الآية : 19 .
([226]) العدامة ( ص 254 ).
([227]) العدامة ( ص258) .
([228]) الشميسي ( ص42 ) .
([229]) العدامة ( ص90) .
([230]) العدامة ( ص106 ).
([231]) العدامة ( ً224 ) .
([232]) الشميسي ( ص122).(51/462)
([233]) الكراديب ( ص181 ) .
([234]) وهو اسم الشارع الذي يسكنه ياسين بعد زواجه .
([235]) وهو اسم الشارع الذي يسكنه آل شوكت .
([236]) بين القصرين ( ص36 ) .
([237]) بين القصرين ( ص162 ) .
([238]) السكرية ( ص11) .
([239]) السكرية ( ص197 ).
([240]) السكرية (ص159) .
([241]) السكرية (ص197) .
([242]) بين القصرين (ص49) .
([243]) حزب الوفد الذي أنشأه سعد زغلول ، حزب علماني لا يقوم على الإسلام ، يدعو إلى مساواة المسلم بالكافر، والدعوة إلى انسياق البلاد الإسلامية نحو تقليد الغرب الكافر (في كل شيء ) ، وخاصة في مجال ( تحرير المرأة)، انظر (الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة ) للندوة العالمية للشباب الإسلامي (1/ 454 ) .
([244]) قصر الشوق (ص242 ) .
([245]) قصر الشوق ( ص369) .
([246]) السكرية ( ص194) .
([247]) السكرية ( ص32) .
([248]) السكرية ( ص 76 ) .
([249]) السكرية ( ص271).
([250]) السكرية ( ص320 ) .
([251]) المنتمي ، للنصراني ! غالي شكري ( ص17 ) .
([252]) أتحدث إليكم ، نجيب محفوظ ( ص34) .
([253]) بتاريخ 8/ 8/ 1419هـ.
([254]) ص ( 53 ) من الطبعة الثانية : وعند عودتنا لكلام تركي في ( الدكتور محارب ) وجدناه يكيل له المديح ، فعلمنا سر هذه الإحالة !
([255]) السكرية ( ص191) .
([256]) الكراديب ( ص 180 ) .
([257]) بين القصرين ( ص 230 ) .
([258]) السكرية ( ص159).
([259]) قصر الشوق ( ص369 ).
([260]) قصر الشوق ( ص485).
([261]) السكرية ( ص 66) .
([262]) العدامة ( ص 99).
([263]) الشميسي ( ص51 ).
([264]) وزاد الحمد نوعية ثالثة للملتزمين وهي شخصية أصدقاء زميله عدنان ، حيث اللحى غير المسرحة والرؤس المحلوقة!!
([265]) والكمال لله وحده ، وكل تقصير يزول بالتناصح .
([266]) انظر لبيان هذا : ( الدعوة إلى الله في جزيرة العرب ) للشيخ الحصين و( حكم الانتماء ) للشيخ بكر أبو زيد .
([267]) سورة البقرة ، الآية : 148 .
([268]) بين القصرين ( ص64 ) .
([269]) سورة البقرة ، الآية : 1-3.
([270]) سورة البقرة ، الآية 11.
([271])سورة الأعراف ، الآية : 56 .
([272]) سورة التوبة ، الآية : 119 .
([273]) وهو لا يستطيع التصريح بهذا ( بحرفية ) كما قد يتوهم حسنو النية ، فكتاباته الماضية خير شاهد لهذا عند عقلاء الناس.
([274]) بل لنفع نفسه التي أشرفت على الرحيل
([275]) وراء ( الفكر ) و ( العقلنة ) .
([276]) كما نص على ذلك علماء الإسلام فيمن لم يكفر الكافر أو شك في كفره أو فضل دينه على دين الإسلام، انظر : مجلة البحوث (العدد 49، ص126).
([277]) بل تدمير المرأة ، وقد صرَّح بذلك ـ على حذر ـ في مقابلته مع قناة ( اقرأ )، وفي مقاله الشهير "وخلق الله المرأة".
([278]) اقرأ إن شئت سيرة من رفع الله ذكرهم من حكام المسلمين ؛ كهارون الرشيد أو المعتصم أو المتوكل أو محمود بن سبكتكين أو يوسف بن تاشفين وابنه أو المهدي العباسي الذي جعل رجلاً مسؤلاً عن أمر الزنادقة يتتبعهم ويقوم بتنفيذ حكم الله فيهم ، تعظيماً لشرع الله ، وحفاظاً على وحدة المسلمين و((أمنهم الفكري )) . . . لتعلم كيف كانت سيرة ولاة الأمور مع ( الزنادقة ) و ( مبغضي ) شرع الله .
([279]) سورة المنافقون ، الآية : 4 .
فتوى في تكفير ملحد
" تركي الحمد "
[الكاتب: علي بن خضير الخضير]
فضيلة شيخنا الشيخ علي بن خضير الخضير - حفظه الله -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نبعث إليكم صورة من جريدة "اليوم" الأسبوعية [العدد 10276 | يوم الجمعة 13/5/1422 هـ]، وفيها اعتراف تركي الحمد، حيث قال: (رواياتي كلها حقيقة، وسيرة ذاتية لا تخيلا روائيا، أنا بطل أعمالي الروائية، لقد تعبت من الإنكار، مللت المواربة، سئمت ليّ عنق الحقيقة، وها أنا - في هذا الاستجواب - اعترف بكل شيء).
نبعث لك ذلك تأييدا لكم، حيث كنت تحدثنا عن حكم هذا الرجل في الشريعة بعدما ذكر ما ذكر في رواياته المعروفة، وقد سمعنا من بعض الناس من يتهمكم في هذا الأمر بالاستعجال والتهور في أمر التكفير وعدم التثبت، وغيره من الأقاويل التي قيلت فيكم وليست بصحيحة، والآن حصحص الحق، وفي هذا رد أيضا على المتميعين والانهزاميين الذين عندهم جهل وقلة علم بهذه المسائل. كما نأمل بيان مسألة إقامة الحجة، وبيان قول من فرق بين القول و القائل في هذه المسألة.
وفقكم الله يا شيخنا وأعانكم، وبقية الطلاب يبلغونكم السلام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بعض طلابكم.
* * *
الجواب:
الحمد لله وحده و أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وصلت رسالتكم وفقكم الله، واطلعت على ما فيها، وليس هذا بغريب، وقد سبقني في الحكم عليه أئمة معاصرون، أمثال شيخنا العلامة حمود بن عقلاء الشعيبي وفقه الله وتجدون فتواه برفقة هذه الرسالة، وأيضا شيخنا محمد بن صالح المنصور رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وتجدون فتواه برفقة هذه الرسالة.(51/463)
والحكم عليه وعلى أمثاله هو محل إجماع، لاسيما وهو الآن يقر على نفسه بما قاله في رواياته فزاد في ذلك الجهر وعدم المبالاة، والاستخفاف بالمسلمين وعلمائهم، حيث قال في بعض كتبه - وهي مذكورة في فتوى المشايخ -
1) (مسكين أنت يا الله نحملك ما نقوم به من أخطاء).
2) ويقول: (الله والشيطان واحد هنا، وكلاهما وجهان لعملة واحدة).
3) والاستهزاء بالملائكة.
أما الأدلة على حكم هذا وأمثاله من الكتاب والسنة فهي:
1) قوله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم... الآية}.
2) وقال تعالى: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم... الآية}, فوصفهم بأنهم أئمة كفر لما طعنوا في ديننا.
3) ومن السنة: قوله عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه).
أما الإجماع فهو كالتالي:
1) قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: (لا خلاف أن ساب الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم).
2) قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: (ومن شتم الله تبارك وتعالى أو شتم رسول صلى الله عليه وسلم أو شتم نبيا من أنبياء الله صلوات الله عليهم قتل إذا كان مظهرا للإسلام بلا استتابة).
3) وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: (أما سب الله تعالى فما على ظهر الأرض مسلم يخالف أنه كفر مجرد).
4) قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وإن من سب الله أو رسوله كفر ظاهرا وباطنا سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا أو كان ذاهلا عن اعتقاده هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل) [1].
5) وقال سليمان بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله تعالى في "تيسير العزيز الحميد": (فمن استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه كفر، ولو هازلا لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعا) اهـ
ومن كانت هذه أقواله وقد اعترف بها فيجب محاكمته بها وأخذه بإقراره.
وأما دعوى؛ لابد من إقامة الحجة عليه - ويقصدون بالحجة هنا الحوار معه وتنبيهه وتحذيره، هذا قصدهم في الحجة فقط -
وأيضا دعوى؛ التفريق بينه وبين أقواله، فيقولون؛ "قوله كفر، أما هو فليس بكافر حتى تُقام عليه الحجة"، ويقصدون بالحجة ما قاله مَنْ قبلهم؟
هاتان الدعوتان في هذا الشخص باطلة وزلة وطامة وخيمة لأسباب:
1) أن ما وقع منه مناقض لأصل الرسالة، فإن أصل الرسالة هو الشهادتان، وهذا لا يُقبل فيه الجهل ولا التأويل أصلا.
2) ولو تنزلنا معهم وقلنا بالعذر بالجهل في ذلك وأنه يحتاج لإقامة الحجة التي وصفوا، فإن هذا الشخص عائش بين المسلمين ومتمكن من العلم، ومن كان عائشا بين المسلمين متمكنا من العلم فقد قامت عليه الحجة بالمكان، ومن الباطل جعل الحجة هي الحوار والنقاش فقط، فهذا نوع وهناك نوع آخر وهو المكان والتمكن.
وسبب الخطأ في مثل هذه المسائل راجع إلى عدم إتقان مسألة الأسماء والأحكام الدينية والخلط فيهما، وعدم فهم علاقة الأسماء والأحكام بالحجة، وهل كلها مرتبطة بالحجة أم هناك تفصيل؟
ومن الأدلة على أن المكان والتمكن حجة في المسائل الظاهرة - ومنها أصل تعظيم الله ومحبته وأصل احترام الرسول وتوقيره وأن الساب لهما يُناقض ذلك - ما يلي:
1) قال ابن تيمية رحمه الله: تعليقا على قوله تعالى {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه}: (والحجة قامت بوجود الرسول المبلغ وتمكنهم من الاستماع والتدبر لا بنفس الاستماع ففي الكفار من تجنب سماع القرآن واختار غيره) [2] اهـ.
2) وقال ابن تيمية رحمه الله أيضا: (حجة الله برسله قامت بالتمكن من العلم فليس من شرط حجة الله علم المدعوين بها ولهذا لم يكن إعراض الكفار عن استماع القرآن وتدبره مانع من قيام حجة الله عليهم) [3].
3) وقال ابن تيمية رحمه الله أيضا: (ليس من شرط تبليغ الرسالة أن يصل إلى كل مكلف في العالم بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم ثم إذا فرطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه كان التفريط منهم لا منه) [4].
4) قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالة له بعدما ذكر من كفره السلف قال: (واذكر كلامه في الإقناع وشرحه - أي منصور البهوتي - في الردة كيف ذكروا أنواعا كثيرة موجودة عندكم ثم قال منصور؛ "وقد عمت البلوى في هذه الفرق وأفسدوا كثيرا من عقائد أهل التوحيد نسأل الله العفو والعافية"، هذا لفظه بحروفه ثم ذكر قتل الواحد منهم وحكم ماله، هل قال واحد من هؤلاء من الصحابة إلى زمن منصور إن هؤلاء يكفر أنواعهم لا أعيانهم) [5]، والطوائف التي ذكرها هي أهل الاتحاد و أهل الحلول وغلاة الصوفية والرافضة والقرامطة والباطنية، فانظر إلى نقل الشيخ محمد للإجماع على عدم التفريق بين القول والقائل في الطوائف التي ذُكرت.
5) قصة المرتدين زمن أبي بكر، لأنهم أنكروا معلوما ظاهرا، فلم يفرق الصحابة بينهم وبين أقوالهم.(51/464)
6) وقال الشيخ أبا بطين رحمه الله في "الدرر" [6]: (نقول في تكفير المعين ظاهر الآيات والأحاديث وكلام جمهور العلماء تدل على كفر من أشرك بالله فعبد معه غيره ولم تفرق الأدلة بين المعين وغيره، قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به}، وقال تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}، وهذا عام في كل واحد من المشركين).
7) وقال أيضا رحمه الله في "الدرر" [7]: (العلماء يقولون: فمن ارتد عن الإسلام قتل بعد الاستتابة، فحكموا بردته قبل الحكم باستتابته، فالاستتابة بعد الحكم بالردة والاستتابة إنما تكون لمعين ويذكرون في هذا الباب حكم من جحد وجوب واحدة من العبادات الخمس أو استحل شيئا من المحرمات كالخمر والخنزير ونحو ذلك أو شك فيه يكفر إذا كان مثله لا يجهله ولم يقولوا ذلك في الشرك ونحوه مما ذكرنا بعضه، بل أطلقوا كفره ولم يقيدوه بالجهل، ولا فرقوا بين المعين وغيره، وكما ذكرنا أن الاستتابة إنما تكون لمعين) اهـ.
وقوله: "إذا كان مثله لا يجهله"؛ يُريد بهذا التعبير غير من كان عائشا مع المسلمين مثل من عاش في بادية بعيدة أو بلاد كفر أو حديث عهد بكفر، أما من كان عائشا بين المسلمين فلا يُقبل منه العذر في الصلاة ولا الزكاة ونحوه، فكيف بسب الله ورسوله؟ هذا من باب أولى.
8) قال صاحب "المغني" رحمه الله في كتاب الزكاة فيمن أنكر وجوبها: (وإن كان مسلما ناشئا ببلاد الإسلام بين أهل العلم فهو مرتد تجري عليه أحكام المرتدين).
9) وقال ابن تيمية رحمه الله: (اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول) [8] اهـ.
أما إذا كان عائشا بين المسلمين فلا يعذر، وهذا إذا كان في الأحكام الظاهرة فكيف بسب الله ورسوله ولو كان هازلا؟ ولو كان روائيا مقررا؟
10) قال إسحاق بن عبد الرحمن رحمه الله: (كلام أئمة الدين أن الأصل عند تكفير من أشرك بالله، فإنه يُستتاب فإن تاب وإلا قتل، لا يذكرون التعريف في مسائل الأصول، إنما يذكرون التعريف في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض المسلمين، كمسائل نازع فيها بعض أهل البدع كالقدرية والمرجئة أو في مسالة خفية) [9] اهـ.
والكلام السابق يدل على أن مسائل الأصول لا تحتاج للتعريف لمن كان عائشا بين المسلمين لوجود التمكن من التعريف، فإن تعظيم الله وتوقير واحترام رسوله من مسائل الأصول الظاهرة فلا تعريف فيها لمن ناقضها وكان في مكان التعريف.
أما الأدلة على أن من سب الله ورسوله لا يفرق بينه وبين أقواله، ولا يدخل في قاعدة التفريق بين النوع والعين، ما يلي:
1) قال ابن تيمية رحمه الله: (وإن من سب الله أو رسوله كفر ظاهرا وباطنا سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا أو كان ذاهلا عن اعتقاده هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل) [10].
فأجرى عليه الكفر في الظاهر والباطن حتى ولو كان ذاهلا لم يقصد أو يعتقد، بل ولو كان روائيا مقررا ولم يقصد الكفر.
2) وقال ابن نجيم الحنفي رحمه الله: (إن من تكلم بكلمة الكفر هازلا أو لاعبا كفر عند الكل ولا عبرة باعتقاده) [11].
ومن سب الله ورسوله فقد تكلم بكلمة الكفر، فلا عبرة باعتقاده , بل كيف يقال إن قوله الذي هو السب كفر,أما القائل فلا، مع أنه هنا قال فلا عبرة باعتقاده.
3) وقال ابن تيمية رحمه الله: (اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول) [12].
4) قال صاحب "المغني" رحمه الله في كتاب الزكاة فيمن أنكر وجوبها: (وإن كان مسلما ناشئا ببلاد الإسلام بين أهل العلم فهو مرتد تجري عليه أحكام المرتدين).
وهنا لم يعذر من كان عائشا بين المسلمين في إنكار الزكاة فكيف بالسخرية بالله ورسوله؟
5) وعن البراء: (أن رسول ا صلى الله عليه وسلم عقد له راية وبعثه إلى رجل نكح امرأة أبيه أن اضرب عنقه وخذ ماله) [13]، لأنه استحل أمرا معلوما بالضرورة تحريمه وكان عائشا بين المسلمين متمكنا من العلم، فلم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أقم الحوار معه! لأن الحجة قامت بالمكان في المسائل الظاهرة.
6) وقال ابن أبي عمر رحمه الله في "الشرح الكبير" فيمن جحد الصلاة: (وإن كان ممن لا يجهل ذلك كالناشئ بين المسلمين في الأمصار لم يُقبل منه ادعاء الجهل، وحكم بكفره، لأن أدلة الوجوب ظاهرة), فكيف بمن سب الله ورسوله؟(51/465)
7) قال الشافعي رحمه الله: (العلم علمان: علم عامة لا يسع بالغا غير مغلوب على عقله جهله مثل الصلوات الخمس وأن لله على الناس صوم شهر رمضان وحج البيت إذا استطاعوه وزكاة في أموالهم وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر وما كان في معنى هذا مما كلف العباد أن يعقلوه ويعلموه, ويعطوه من أنفسهم وأموالهم وأن يكفوا عنه ما حرم عليهم منه,وهذا الصنف كله من العلم موجود نصا في كتاب الله وجودا عاما عند أهل الإسلام ينقله عوامهم عمن مضى من عوامهم يحكونه عن رسول ا صلى الله عليه وسلم ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم وهذا العلم الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر والتأويل ولا يجوز فيه التنازع) [14] اهـ.
ومن العلم العام تعظيم الله وهو من أعظم الأصول، فلا يمكن الغلط فيه ولا التأويل أو الجهل.
8) وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (ابن تيمية لا يعذر في المسائل الظاهرة) [15], أي يُجرى عليه ما يستحقه فيها، ومن ذلك إجراء اسم الكفر والردة فيمن وجد فيه ذلك.
9) ونقل ابا بطين رحمه الله من كلام ابن تيمية: (إن الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين الإسلام، مثل الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك فيكفر مطلقا) [16].
ونقل عن ابن تيمية رحمه الله: (ما ظهر أمره وكان من دعائم الدين من الأخبار والأوامر فإنه لا يعذر) [17].
10) وقال مثل ذلك عبد اللطيف رحمه الله في المنهاج [18].
11) وفي الدرر [19]: (والعلماء رحمهم الله تعالى سلكوا منهج الاستقامة وذكروا باب حكم المرتد، ولم يقل أحد منهم إنه إذا قال كفرا أو فعل كفرا وهو لا يعلم أنه يضاد الشهادتين أنه لا يكفر بجهله، وقد بين الله في كتابه أن بعض المشركين جهال مقلدون فلم يرفع عنهم عقاب الله بجهلهم، كما قال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد...}، إلى قوله: {... إلى عذاب السعير}).
والخلاصة:
أن من سب الله أو رسوله أو آياته ونحوه، فهذا كافر باطنا وظاهرا، ولا يصح فيه العذر بالجهل ولا التأويل، ولو كان هازلا أو روائيا مقررا، وأن دعوى إقامة الحجة معه - التي هي الحوار والنقاش والتنبيه فقط لاغير - وأن كونه عائشا بين المسلمين لا يكفي وليس حجة، أو أن يُفرق بين القول والقائل في باب سب الله ورسوله، فكل ذلك من الدعاوى الباطلة التي ليس عليها دليل كما سبق ذكره.
وبلغوا سلامنا للإخوان عندكم، وجزاكم الله خيرا على ما قلتم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[أخوكم؛ علي بن خضير الخضير | 25/5/1422 هـ | القصيم / بريدة]
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الصارم: ص 512.
[2] الفتاوى 16/166
[3] كتاب الرد على المنطقيين، ص113، في المقام الثالث
[4] بتصرف، الفتاوى 28/125
[5] الدرر:10/69
[6] 10/401 - 402
[7] 10/402
[8] الفتاوى: 11/407
[9] رسالة تكفير المعين
[10] الصارم: 512
[11] البحر الرائق: 5/134
[12] الفتاوى: 11/407
[13] رواه أبو داود والنسائي والدارمي والبيهقي وابن الجارود في صحيحه
[14] الرسالة: ص 359، 357
[15] الدرر 9/405
[16] ملخصا من الدرر: 10/372-373
[17] الدرر: 10/388
[18] ص 101
[19] 11/479، 478
===============(51/466)
(51/467)
سلسلة كشف الشخصيات (11) : نوال السعداوى
بقلم : سليمان الخراشى
قد لا يعرف البعض أن الدكتورة الشهيرة ( نوال السعداوي ) صاحبة الانحرافات الخطيرة ، والأقوال الكفرية التي تسخر فيها من نصوص الكتاب والسنة .. كانت في يوم ما من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين !
بل من المتحمسين لها !
يقول الدكتور محمود جامع في كتابه الجديد الذي صدر هذا العام ( وعرفت الإخوان ) ، وهو كتاب مهم جدًا لمن يريد التوسع في معرفة تاريخ الجماعة ... يقول - وفقه الله - ( ص 130) والتعجب مني :
( وكان معنا في نفس الدفعة : الدكتورة نوال السعداوي ، التي نجحنا في ضمها للإخوان ، وتحجبت في ملبسها ، وغطت شعرها ، وكانت ملابسها على الطريقة الشرعية ! ، ونجحت في أن تنشئ قسمًا للأخوات المسلمات من طالبات الكلية ، كما أنشأت مسجدًا لهن في الكلية ، وكانت تؤمهن في الصلاة, وكنت أنا ضابط اتصال بينها وبين الإخوان..
وأقنعت هي كثيرا من زميلاتها بالانضمام للأخوات المسلمات تحضهن على الصلاة و التمسك بالزى الإسلامي في وقت كان الحجاب بين النساء نادرًا, وكانت تخطب في المناسبات الإسلامية وفي حفلات الكلية باستمرار , وكان والدها يرحمه الله من علماء كلية دار العلوم, هو الشيخ سيد السعداوي, ولكن للأسف انقلب حالها وتغيرت أمورها إلى ما وصلت إليه الآن, واتهمت بالإلحاد والإباحية ) . اهـ
قلت : في هذا عبرة لي ولغيري من شباب الإسلام ( ذكورًا وإناثًا ) أن يسألوا الله الثبات على دينه مرارًا وتكرارُا . وأن لا يغتروا لكونهم قد استقاموا على دين الله فترة من الزمن أن لاتصيبهم فتنة أو نكوص عن الهدى ولو بعد حين .
وأسباب الزيغ ( في مجال الشبهات ) بعد تبين الحق للإنسان كثيرة جدًا ..
منها : أن يكون المرء غير مخلص النية منذ بداية توجهه ؛ بمحبته للشذوذ وتتبع الآراء الغريبة ..
ومنها : كثرة مجالسته للمنحرفين - تحت دعاوى كثيرة - تسحبه رويدًا رويدًا عن الخير وأهله وهو لايشعر ..
ومنها : إكثاره من القراءة الفكرية المُقسية للقلب حتى تطغى على العلم النافع الذي يزيد من ثباته ..
ومنها : غفلته وتفريطه التدريجي بالعمل الصالح وأنواع العبادات التي تشد من اعتصامه ..
ومنها ، ومنها , ( تعددت الأسباب والنتيجة واحدة ) .
وأثناء عمل هذه الأسباب المردية تنشأ بذرة خبيثة في القلب ؛ هي بذرة " التمرد " !
وتبدأ أولا بالتمرد على أقوال العلماء وأفهامهم المبنية على النصوص الشرعية ، وازدرائها - بأعذار شتى - ، يأتي على رأسها أنهم " لايفهمون " ، أو أن الزمن تغير وهم " ثابتون على نهجهم الأول " ، أو أنهم " تقليديون " ، أو أن أقوالهم تخالف الرأي الذي اعتقده ، أو ، أو . أما هذا " المتمرد " فهو الفاهم وهو المتطور وهو المنفتح .. وهو يٌلبس على نفسه بأن " تمرده " هذا هو من قبيل " التطور الفكري " ! أو أنه انتقل من مدرسة " الحفظ والتقليدية " إلى مدرسة " الفهم والتجديد " !
هذه البداية ...
ثم تبدأ بذرة " التمرد " بالنمو وهو ساهٍ في غمرته .. حيث يكتشف أن تمرده هذا بدأ يصطدم ببعض النصوص الشرعية التي تخالف هواه الجديد .. وهذه مشكلة ! فلم تعد المسألة مسألة أقوال علماء !
و" المتمردون " في هذا المقام ينقسمون قسمين حسب تتبعي وقراءتي لهم :
القسم الأول : يلجأ إلى التملص من النصوص الشرعية بالحيل المتنوعة : ( التأويل ) ، ( عدم الأخذ بخبر الآحاد ) ، ( الاكتفاء بالقرآن ) ، ( التفريق بين اليقينيات والظنيات ) .. الخ . وهذا تجده كثيرًا في كتابات العصريين .
القسم الثاني : الموقن بأنه مهما طال الزمن أو قصر لا بد من " المواجهة " مع النصوص !! لأنه مهما تملص وراغ يمينًا وشمالا .. فستأتيه نصوص شرعية " يقينية " " قرآنية " تعارض عقله " الضعيف " لا يستطيع لها دفعًا .
فعندها يردد :
إذا لم يكن إلا ( الإلحاد ) مركبًا *** فماحيلة المضطر إلا ركوبه ؟
فيخلع هذا " المتمرد " مابقي عليه من رداء التقية ، وتبدأ رحلته الجديدة في " التمرد " على النصوص نفسها ، وازدرائها ، والتهكم بها ، بل تصل الحال ببعضهم إلى التطاول على رسول الله صلى عليه وسلم ، ثم التطاول على رب العالمين - والعياذ بالله - !
وتجد نماذج من هذا الكفر والضلال عند القصيمي الملحد .. وعند الشيخ ! الملحد خليل عبدالكريم .. ومثلهم ( نوال السعداوي ) سيئة الذكر .
المهم : أن نعتبر جميعًا - وأنا أولكم - بحال الآخرين من الهالكين بأن لا نسالك مسالكهم ؛ لأن النتيجة ستكون واحدة مهما حاولنا غير ذلك ، وأن نعالج الأمراض الخفية ، ونقضي على كل بذرة خبيثة في مهدها ؛ قبل أن تنمو وتكبر فيصعب الخلاص منها حينذاك .. وأهمها بذرة " الكبر " و"حب الشذوذ " و" سلوك الطريق عن غير قناعة بل مجاملة للآخرين " .. وأن نعلم يقينًا أن المرء لأن يكون ذنَبًا في الحق خيرٌ من أن يكون رأسًا في الباطل .
والله الهادي .
-----------
سقوط نوال السعداوى!!
بقلم : فوزية منيع الخليوى
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة النبوية.(51/468)
اعتادت الدكتورة نوال السعداوي في السنوات الماضية الهجوم والافتراء على الإسلام وترديد أكاذيب وادعاءات تتضمن تطاولاً واعتداءً على المقدسات الإسلامية والسخرية منها، والتهكم عليها بصورة جنونية! وغريبة! وشاذة! في العديد من الصحف والمحطات الفضائية.. الغريب والمؤسف أن آخرها مقابلة آجرتها معها إحدى الفضائيات العربية راحت تزهو فيها بهجومها السافر وسخريتها وتهكمها على الإسلام ومقدساته وتنادي بالإباحة المطلقة؟؟؟؟
نشأتها:
ولدت السعداوي في 27/10/1930 بالعباسية بالقاهرة, وتخرجت في كلية الطب جامعة القاهرة ديسمبر 1954, وحصلت على بكالوريوس الطب والجراحة وتخصصت في مجال الأمراض الصدرية.
وفى عام 1955 عملت كطبيبة امتياز بالقصر العيني, وفصلت بـ6 قرارات من وزير الصحة، وبررت ذلك بأنه لا يريد لأحد أن يعترض عليه في عمله., و تقوم بتدريس مادة (التمرد والإبداع ) بجامعات أوروبا وأمريكا وهى متزوجة من الدكتور "شريف حتاتة" قائد التنظيم الشيوعي الماركسي في مصر، .. الطريف أن جهة تسمى "الهيئة القبطية المسيحية المصرية" ومقرها الولايات المتحدة الأمريكية؛ قد دعت مؤخرا إلى إجراء استفتاء على " نوال السعداوي" لكي تصبح رئيسا لجمهورية مصر العربية؟؟
أعمالها:
سقوط الإمام: رواية تحتوى على عبارات تسيء للعقيدة ؟ على المشايخ، وعلماء الدين, وكان المجمع عقد اجتماعاً خلص إلى أن تتضمن مخالفات صريحة للإسلام, أولها رواية السعداوي "سقوط الإمام" التي اعتبر المجمع أنها " قائمة على أحداث خيالية البطل فيها شخصية محورية, وأطلقت عليه الكاتبة صفة الإمام "، وتضمنت إساءات بالغة للإسلام وتعاليمه.
رواية "سقوط الإمام" التي نشرت للمرة الأولى قبل عشرين سنة, وطبعتها "دار المستقبل العربي" وقد تلقفها الغرب وفرح بها !!و ترجمت إلى 14 لغة كالإنجليزية والألمانية والفرنسية والسويدية والإندونيسية, وأعادت "دار الساقي" طبعها قبل سنتين, تم منع توزيعها في معرض القاهرة للكتاب قبل سنتين ، وعندما سئلت عن سبب منع روايتها؟
قالت: لقد صودرت لأنه جاء على لسان بعض الشخصيات كلام يتعارض مع الشريعة الإسلامية! وأنا بالطبع لم أفهم هذا المنطق، فهذه رواية، ومن الممكن أن يكون بها شخصية ملحدة، وامرأة تحمل سفاحاً.. إلى غير ذلك، فهل يريدون شخصيات معقمة؟!!(العرب أون لاين)
والمرأة عند السعداوى هي مادتها الإعلامية الأساسية في جميع أطروحاتها :
"المرأة عند نقطة الصفر" و"امرأتان في امرأة" و"امرأة في زنزانة" . وآخر دراسة لها كانت تحت عنوان "كسر الحدود" تتناول فيها ما تدعيه من قضايا تحرير العقل المصري وتكوين الضمير الإبداعي الحر، وتخبط النخبة المثقفة ودور الفتاة الفلسطينية!!.
والكاتبة تستمد مادتها من التمرد, والعنف, والثورة؟؟؟ ولا تعجب حين تقرأ قولها: كتابي" مذكراتي في سجن النساء"، أنا تآلفت مع القاتلات، كن صديقاتي، السجينات السياسات لم يكن صديقاتي لأني وجدتهن ضعافا جدا، ينهرن بسرعة، إنما القاتلات فيهن الشجاعة والقوة، واحدة تقول لي لو خرجت من السجن سأقتل زوجي مرة أخرى، وجدت فيهن شخصيات ثرية يمكن الكتابة عنها دائما، وعبرت عنهن في رواياتي!!!.
وعندما تنظر إلى عناوين كتبها تجدها كالتالي المرأة والجنس1969، الأنثى هي الأصل 1971، الرجل والجنس 1973، الوجه العاري للمرأة العربية1974، المرأة والصراع النفسى 1975، وعن المرأة , مما يكشف عن هويتها النفسية المتحررة الثائرة ( الجنس, الصراع , التمرد)؟؟؟؟؟
آراءها:
وقد عرف عن نوال السعداوى شطحاتها الفكرية التي تتعارض مع العقيدة وأصول الإسلام. وكانت قد كشفت في لقاءات تليفزيونية وحوارات صحفية شططها الفكري الذي وجدت فيه حكومات ومنظمات غربية معادية للإسلام ضالتها.
(1) قانون الأسرة الأبوية:
تقول: يظل قانون الأسرة الأبوية في بلادنا قانونا عبوديا يطلق سراح الجاني "الرجل"، لأنه الأقوى، ويعاقب الضحايا، "الأطفال والنساء"، لأنهم الأضعف.حاربت الحركات النسائية في بلادنا هذا القانون منذ نشوئه حتى اليوم،.... ويظل قانون الأسرة الأبوية في بلادنا العربية هو الوتد أو العمود الفقري الذى يرتكز عليه النظام الطبقي الذكوري، الذي يقهر النساء والفقراء على حد سواء، إلى هنا من خطابها في مؤتمر المرأة.؟
وإني لأ تسائل أمام هذا الرفض لكل ما هو ذكري على اعتبار إنه مصدراً للسلطة المستبدة على المرأة, لماذا تثني نوال السعداوى على زوجها ووالدها في كل مناسبة ؟؟! هل لأنهما لا ينتميان للطبقة الذكورية؟؟!!
أو لأنها أقصر الطرق لكسب تأييد المرأة في كل مكان ؟؟ باعتبار الظلم الواقع على المرأة ـ بزعمهم ـ (وسئلت من ايلاف الجمعة 04 يونيو 2004) منذ فترة قلتِ أن المرأة المصرية مصابة بالعصاب بسبب ازدياد حدة الصراع في حياتها، أريد أن أعرف هل هذا رأى علمي أم جملة أدبية؟(51/469)
- هذا كان بحث اسمه " المرأة والعصاب" بحث علمي، بعدما طردوني من الوزارة مكثت ثلاث سنوات في إعداد دراسة تحاول الإجابة عن سؤال: لماذا تصاب المرأة بالعصاب؟ كان البحث منصباً على المرأة في الريف تلك التي لا تستمع بحياتها، لا الجنسية والعاطفية أو الاجتماعية،
أجريت الدراسة على160 حالة وأثبت النتائج في البحث.
ولا تظن أخي القارئ أن الكاتبة تتخبط خبط عشواء جهلاً منها بالدين؟؟؟ فهي تنطلق في بث سمومها على الدين وأهله من قاعدة دينيه؟؟!!!!
ما ذكره الدكتور "محمود جامع" صاحب كتاب"عرفت السادات"، حيث يقول في كتابه الجديد "وعرفت الإخوان" الذي صدر مطلع هذا العام؛ يقول: " كان معنا في نفس الدفعة في كلية الطب الدكتورة نوال السعداوي التي نجحنا في ضمها للإخوان، وتحجبت في ملبسها وغطت رأسها، وكانت ملابسها على الطريقة الشرعية، ونجحت في أن تنشئ قسما للأخوات المسلمات من طالبات الكلية، كما أنشأت مسجدا لهن بالكلية، وكانت تؤمهن في الصلاة، وكنت أنا ضابط الاتصال بينها وبين الإخوان، وأقنعت كثير من زميلاتها بالانضمام للأخوات المسلمات، وكانت تحضهن على الصلاة والتمسك بالزى الإسلامي، في وقت كان الحجاب بين النساء نادرا, وكانت تخطب في المناسبات الإسلامية وفى حفلات الكلية باستمرار، وكان والدها ـ يرحمه الله ـ من علماء كلية دار العلوم هو الشيخ "سيد السعداوي" ولكن للأسف انقلب حالها وتغيرت أمورها إلى ما وصلت إليه الآن واتهمت بالإلحاد والإباحية".
(2) ميراث المرأة:
تطالب بأن يكون نصيب المرأة من الميراث مثل نصيب الرجل!!! ألم تقول هذه الكاتبة من قبل أنه يجب أن ينسب الولد لأمه وأنها عنصرية أن ينسب الولد لوالده، و تجاهلت بذلك قول الله سبحانه وتعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} صدق الله العظيم.
(3) رأيها في الزواج:
ومن هذه الشطحات رأيها في أن "الزواج عبودية" وادعائها بأن عقود الزواج هي "عقود احتكار" للنساء، ودعوتها النساء للتحرر مما أسمته "القهر الذكوري الأبوي الزوجي". وكانت تصر على تسمية نفسها "نوال زينب" نسبة إلى أمها، وترفض أسم والدها.
( سئلت في مقابله مع إيلاف)
س : طلقتي مرتين...؟
- أنا التي طَلقت، طَلقت زوجين، الفاعل وليس المفعول به.. ؟؟؟؟
ثم هي تدعو إلى الاعتراف بالأبناء الغير شرعيين ( أي الذين جاءوا عن طريق علاقات جنسية دون زواج ) ضاربة بعرض الحائط للمنع النبوي " الولد للفراش"
ولا يخفى عليك ما في إثبات هذه النسبة من رفض لكل ما هو شرعي وديني, في دعوة صريحة للانحلال والإباحية وللتحرر من كل قيم الدين والأخلاق. والسير به إلى هاوية البهيمية، فتقول: وما ذنب الابن (أو الإبنه) عندما يأتي إلى الدنيا ليجد نفسه على باب مسجد أو في قالب قمامة أو على أفضل الأحوال داخل ملجأ لرعاية اللقطاء يقاسى الأمرين من نظرة المجتمع الدونية؟؟؟؟
(4) رأيها في الختان:
وقولها إن "الختان للمرأة عملية همجية بربرية وأيضا للرجل"، وهو القول الذي يناقضه قيامها بختان ابنها. كما قامت بعملية ختان لابنتها ؟ استنكر عدد من علماء الأزهر الدعوة التي أطلقتها الكاتبة نوال السعداوى لوقف عمليات ختان الذكور بدعوى أنها ضارة طبياً ولا علاقة لها بالشرائع السماوية.!!
ويضيف الدكتور أبو ليلة رئيس قسمي الدراسات الإسلامية باللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي بجامعة الأزهر " إن كانت السعداوى تدعو لوقف ختان الذكور فهي كاذبة لأن عدم الختان هو الذي يسبب أمراضاً خطيرة وكثير من الأطباء في الغرب نفسهم يدعون إلى الختان وينصحون به لأن الغلفة التي تتم إزالتها تكون محلاً لنمو البكتيريا والميكروبات الضارة فضلاً عن أننا لا نستشهد بالطب على فرض أو سنة أبداً (جريدة الوطن)
(5) ر أيها في الميراث:
كما تدعي السعداوي ضرورة تعديل نظام المواريث وترى أن أية " للذكر مثل حظ الأنثيين ينبغي إيقافها كما تم إيقاف آيات الرق" على حد زعمها.
(6) رأيها في الحجاب:
ووفقا لإيلاف؛ أن السعداوي " زعمت أن الحجاب مفروض للجواري.
وزعمت السعداوي: "الأخلاق لا علاقة لها بالملابس فيه نساء عرايا في أفريقيا وأخلاقهم (كويسة) وفيه نساء محجبات نصف مومسات هنا في مصر فلا علاقة للحجاب بالأخلاق ولا العذرية"؟!.
وصل بها الاستهتار إلى تحديد ما تقول إنها "تسعيرة الجنة" عندما سخرت من الحجاب وقالت:هل الإيشارب (تعني الحجاب الذي ترتديه المسلمة) أبو جنيه يدخلهن الجنة"!.؟
و صرحت لمجلة فرنسية تصريحا أساء للمرأة المسلمة .. إذ قالت: (( إن المرأة المحجبة والتي تغطي رأسها متخلفة، وإن عقلها مغلق )
(7) رأيها في تعدد الزوجات :
أضافت:"أنا عاوزه أتجوز أربع رجاله ولا أدرى لماذا لا أتزوج أربعة"؟!. مهاجمة التعدد للرجل؛ قائلة:" كيف ينتقل الرجل من فراش امرأة إلى فراش امرأة أخرى والله لو ذهب زوجي لامرأة أخرى لطردته من البيت".
وقالت: "هل يرضى أن تنتقل امرأته بين فرش الرجال هو أيضا سيطردها, تونس منعت التعدد وغيرها من الدول الإسلامية هل نكفر هذه الدول"؟!.
(8) رأيها في شعيرة الحج:(51/470)
وأضافت السعداوي ساخرة من شعائر الإسلام: "الله يرحم رابعة العدوية.. لم تكن تحج أو تصلى وكانت ضد الشعائر.. وكانت تقول الله هو الحب إنما (مش الله) أروح الكعبة وأبوس الحجر الأسود.. إيه ده.. أنا عقلي لا يسمح أن ألبس الحجاب وأطوف هذه وثنية.. الحج هو بقايا الوثنية"؟!.
(9) جرأتها على الله:
وسجل نوال السعداوي حافل منذ طفولتها بالخروج وإنكار المعروف والاجتراء على الذات الإلهية؛ عندما اعترضت على قول الله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وكتبت " قل هي الله أحد" ـ تعالى الله عما تقول علوا كبيرا.
وسألت السعداوي مدرسها: "هل الله في اللغة مذكر أم مؤنث". ثم هي تحكى عن طفولتها قائلة: فذاكرة الطفولة مليئة بالمحرمات المتعلقة بالدين والجنس أساساً، في طفولتنا نكون ملحدين، لا نصدق أبدا أن ربنا عادل، الأطفال تملأهم الأسئلة، خصوصاً الذين يولدون فقراء، يلاحظون التفرقة مثلما لاحظت أنا، كنت دائماً أسأل والدتي: أين العدل، أين ربنا؟ غير موجود، والدتي كانت تفزع".
(10) دفاعها عن المرتدين:
كما دافعت من قبل باستماتة عن الكاتب الهندي المرتد "سلمان رشدي" وأمثاله من الكتاب الخارجين من ربقة الإسلام، وتعتبر نفسها من الذين يقصدهم الإسلاميون والمطاردين من الأنظمة مثل "فرج فودة" و"نصر حامد أبو زيد".
****
ولا شك أخي القارئ أن تنحية شرع الله تعالى, وعدم التحاكم إليه في شؤون الحياة من أخطر وأبرز مظاهر الانحراف في مجتمعات المسلمين, وقد سمّى الله الذين يحكمون بغير شرعه كفاراً فقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} المائدة / 44
وهذه الأقوال والآراء, تكمن خطورتها, وتندرج تحت هذين الحكمين:
(1) إنكار حكمٌ معلومٌ من الدين بالضرورة :
" فالإنكار بمعنى الجحود, وعدم الاعتراف وانتفاء الإقرار, والمقصود بحكم معلوم من الدين بالضرورة: ما كان ظاهراً متواتراً من أحكام الدين معلوماً عند الخاص والعام, مما أجمع عليه العلماء إجماعاً قطعياً مثل وجوب أحد مباني الإسلام كالصلاة والزكاة ونحوهما..." نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز العبد اللطيف ص242
وقال ابن تيمية: " والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه, أو حرّم الحلال المجمع عليه, أو بدّل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً بالاتفاق" مجموع الفتاوى 3/ 267.
وقال الشافعي: " أما ما كان من نصّ كتاب بينّ, أو سنة مجتمع عليها فالعذر فيها مقطوع, ولا يسع الشك في واحد منهما, ومن امتنع من قبوله أستتيب" الرسالة / 460
وقال ابن بطة: " فكل من ترك شيئاً من الفرائض التي فرضها الله ـ عز وجل ـ في كتابه أو أكدها رسول الله في سنًَّته ـ على سبيل الجحود والتكذيب بها ـ فهو كافر بيّن الكفر لا يشك في ذلك عاقل يؤمن بالله واليوم الآخر" الإبانة 2/764
(2) الاستهزاء بالدين, أو بشيء من القرآن, أو السنة:
كفر ناقل عن الملة كما قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65 ـ 66]
قال ابن تيمية: " بيّن أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر, يكفر به صاحبه بعد إيمانه, فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف, ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم, ولكن لم يظنوه كفراً وكان كفراً كفروا به , فإنهم لم يعتقدوا جوازه" مجموع فتاوى شيخ الإسلام 7/220 -557
وهذا ما تيسر من نقل كلام الأئمة الذي يقوم على الأدلة الصريحة! والاستنباطات الصحيحة!, أجعلها في متناول القارئ لما رأيته من تناقل أهل الأهواء لكلام نوال السعداوي, ليجعلوه مؤيداً لاعتقاداتهم في بعض الصحف والمحطات الفضائية, التي تتسابق في إجراء الأحاديث والمقابلات مع نوال السعداوي وتسمح بنشر وإذاعة هذه التطاولات والافتراءات والأكاذيب؟!!
--------------
المرأة والدين والأخلاق بين نوال السعداوى وهبة رءوف
بقلم د. إبراهيم عوض
منذ أيام وقع فى يدى كتاب صادر عن " دار الفكر " بدمشق عام 2000 م اشتركت فى تأليفه د. نوال السعداوى ود. هبة عزت رءوف ، إذ كتبت كل منهما ، بطلب من الدار المذكورة ، دراسة تحت ذلك العنوان ، ثم عادت فسجلت ملاحظاتها على ما كتبته شريكتها ، ليكون بين أيدينا أربعة فصول ، فضلا عن ملحق فى نهاية الكتاب قام بإعداده أ. محمد الصهيب الشريف للتعريف بالمصطلحات التى وردت فى الفصول الأربعة المشار إليها .(51/471)
والمعروف أن د. نوال السعداوى طبيبة ، ولها اتجاه فكرى خاص يرفض الأديان ويعدها نتاجا اجتماعيا محضا لا علاقة له بالسماء، وينظر إلى عقائد الإسلام وتشريعاته وأخلاقه على أنها من صنع الرجل أراد بها تثبيت مركزه فى مواجهة المرأة وقهرها وتحطيم إنسانيتها ، إذ هى ترى أن العلاقة بين الجنسين كانت وستظل علاقة صراع لا يعرف هوادة ولا رحمة. أما د. هبة رءوف فتنطلق من الإيمان بالإسلام والعقائد والتشريعات والأخلاق التى جاء بها . وهى ، لمن لم يسمع بها من قبل ، خريجة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة ، وتعمل بها منذ أن عينت فيها معيدة عام 1987 م ، وهى الكلية التى لم أستطع أن أصبر على مقرراتها أكثر من ثلاثة أيام فى سبتمبر 1966 م فتركتها إلى كلية الآداب غير آسف ، حيث وجدت نفسى بعد أن كدت أضيع .
ويمثل الكتاب حلقة فى سلسلة عنوانها " حوارات لقرن جديد " ، وهو اتجاه يحمد للدار وللقائمين بها ، إذ يعطى القراء الفرصة لمعرفة الرأى والرأى المضاد ، وللموازنة من ثم بين الرأيين ، وهذا من شأنه تيسير الوصول إلى الحق لمن يريد . كما أنه يعلمنا كيف نستمع إلى الأصوات المخالفة ونفتح لها آذاننا وعقولنا ، ونتعايش مع أصحابها مؤمنين بأن لهم الحق فى اعتناق ما يشاؤون من أفكار وعقائد والدفاع عنها ، وبأنه لا يحق لنا إكراههم على نبذ ما يؤمنون به مهما تكن درجة مصادمته لما نراه هو الصواب ، بالضبط مثلما نرفض أن يحاول غيرنا إجبارنا على متابعته فيما يقول به . وهذا مبدأ أخلاقى يعبر عنه القول المأثور : " أحب لأخيك ما تحب لنفسك " ، ويؤصله الإسلام فى قوله تعالى : " لا إكراه فى الدين . قد تبين الرشد من الغى " ، وقوله جل شأنه : " وقل : الحق من ربكم ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر " ، وقوله عز من قائل : " فذكر ، إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر " ، وأمره سبحانه لرسوله الكريم أن يقول لخصومه من كفار قريش وغيرهم : " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين " . ذلك أنه ما من أحد يتحمل مسؤولية غيره ، بل كل إنسان مؤاخذ بعمله ليس إلا : " وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه " ، " ولا تزر وازرة وزر أخرى " ، " قل : لا تسألون عما أجرمنا ، ولا نسأل عما تعملون " .
على أن ليس معنى ذلك أن ندير ظهورنا لما يقوله الآخرون فلا نهتم به أو ندرسه أو نحلله أو نناقشه ونكتب عنه موافقين أو مخالفين أو مستدركين أو ملاحظين ...إلخ. ذلك أن كل إنسان يعتقد أن ما يؤمن به هو الصواب ، ومن هنا نراه يحاول إذاعته بين الناس ويدعوهم إلى الدخول فيه ، وإذا وجد من يعارضه انبرى له ورد عليه . وهى ظاهرة صحية ، بل هى ظاهرة طبيعية قبل أن تكون ظاهرة صحية . ولولا تلاقح الأفكار وتدافع الآراء لركدت حركة الفكر الإنسانى وأسنت وران عليها الخمود . وحسبنا ما وقع بنا من مصائب وكوارث جراء الاستبداد السياسى والفكرى الذى ساد حياتنا أزمانا طوالا . ثم إن الاختلاف بين البشر ، بل بين الكائنات جميعا ، هو أجد وجهى الحياة ليس منه بد ، مثلما لا مناص من التشابه بين البشر ، بل بين الكائنات جميعا ، وهذا هو وجه الحياة الثانى.
وفى ضوء هذا نطالع قوله عز وجل : " إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين "، " ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ، ولذلك خلقهم " ، " أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ؟ " . ومن رحمة الإسلام وعظمته ما يقرره من أن مناط التكليف هو قدرة الشخص على فعل ما يطلب منه : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " . بل إن الإنسان متى اجتهد وسعى مخلصا لبلوغ الحقيقة فإنه يؤجر حتى لو أخطأها ، إذ يكفيه الإخلاص والسعى الجاد الدءوب ، وهو ما لا نجد له مثيلا فى أى دين أو مذهب أو فلسفة . وطبيعى أن يكون أمر الخطإ هنا مختلفا عنه فى حالة المعاند الذى تحركه بواعث أخرى غير إرادة الحق : كالعصبية الغبية التى لا تطيق أن تسمع أو تبصر شيئا غير ما عندها ، أو المصالح الأنانية الضيقة ، أو الحقد القتال على أصحاب الدعوات المخالفة ...إلى آخر ما هنالك من عوامل تدفع بالأفراد والجماعات والأمم إلى الرفض من أجل الرفض ، والتمرد لوجه التمرد . وبوجه عام فإن كلا منا بمقدوره أن يعرف أى البواعث تحركه , وإلى أى مدى هو مخلص لضميره وللحقيقة فيما يعلن إيمانه به واعتناقه إياه .
فإذا عدنا إلى الكتاب الذى نحن بصدده فإننا نلاحظ أن النسبة بين طول الدراستين اللتين يتضمنهما تفتقر إلى التوازن افتقارا واضحا لاأدرى له سببا ، إذ بينما يبلغ ما كتبته نوال السعداوى نحو مائة وخمس وعشرين صفحة ، إذا بنا نفاجأ بأن بحث هبة رءوف لا يتجاوز نصف عدد هذه الصفحات . وقد كان حريا بالمشرفين على السلسلة أن يحددوا لطرفى الحوار ، ولو على سبيل التقريب ، عدد الصفحات التى ينبغى على كل منهما أن يكتبها ، على الأقل حتى تكون الفرصة متساوية بالنسبة لهما .(51/472)
والآن إذا أردنا أن نقارن بين الكاتبتين فماذا يمكن أن نقول ؟ إن أول ما يواجه القارئ منذ أن يتوكل على مولاه ويشرع فى قراءة ما خطه قلم د. السعداوى هو هذا السيل من اليقينيات والقطعيات التى تبنى عليها أحكامها ولا ترى لها نقضا ولا إبراما ، مع أنها لا تستند فيها إلى شىء ثابت بالمرة ، إذ كل عمادها مجرد أقوال مرسلة من عندها تذكر فيها أن العلماء يقولون ذلك . ولكن أى علماء يا ترى ؟ وفى أى دراسة نجد هذا ؟ لا جواب البتة . بل إنها لتهاجم البحوث العلمية التى تتناول مثل هذه الموضوعات تحت شبهة أنها مملة وجافة ولا تقنع أحدا ، ومن ثم لا تأتى بأى نتيجة . وعلى هذا فمن العبث الذى لا طائل من ورائه أن يبحث القارئ عن مراجع لبحثها ، وكل ما يجده فى آخر البحث قائمة بعدد هزيل من الكتب ليس فيها ما يخبرنا إلى أى مدى اعتمدت على هذا المرجع أو ذاك ، ولا كيف ، و لا إلى أى حد يمكن الوثوق فيه أو فى صاحبه . ليس ذلك فحسب ، بل إن هذه الكتب كلها تقريبا لها هى نفسها ، وهو ما يصدق عليه قولهم : " إن فلانا يغنى ويرد على نفسه " ، إشارة إلى ضرب من المغنين لا يستسيغ أحد الاستماع إلى أصواتهم الناشزة ولا يجدون من ثم من يصفق لهم ويقول : " أحسنت! أعد مرة أخرى " ، فهو المغنى والجوق والجمهور فى آن ، وسبحان من جمع العالم فى واحد ( أو بالأحرى : " فى واحدة " رغم معرفتنا أن الدكتورة تضيق صدرا بمثل هذه التفرقة بين المذكر والمؤنث ! ). أما د. هبة رءوف فنراها ، على العكس من نظيرتها ، تهتم بتوثيق كلامها وذكر مراجعها مع تحديد الطبعة والصفحة وما إلى ذلك مما هو معروف فى كتابة البحوث العلمية .
وهذا غريب من عدة وجوه : فالدكتورة هبة أصغر من د. نوال كثيرا جدا حتى إنها لتعد من ناحية السن من تلميذاتها أو من بناتها ، بل ربما من حفيداتها . ومن ناحية أخرى فإنها لا تقعقع قعقعة د. السعداوى عن العلم والادعاءات العلمية . أضف إلى ذلك أنها تعلن تمسكها بالإسلام ، الذى تدعى نوال السعداوى وأشباهها أنه لا علاقة له بالعلم ولا بالمنهج العلمى . فانظر بالله عليك أيها القارئ إلى هذه المفارقة المضحكة ! ورابعا فإن تمسك د. هبة بالإسلام لا يمنعها أن تستشهد بالباحثين الغربيين وتنظر فى أقوالهم وتحللها فتقبل ما يقنعها وترد ما لا تقتنع به , بخلاف د. السعداوى ، التى لا تعرف إلا فكرة واحدة ترددها من أول البحث إلى آخره رغم أن كثيرا من حقائق الحياة تعارضها وتكذبها ، ولكنها لا تعبأ بشىء من ذلك أو تبالى به ، جريا على المثل القائل : " نقول له : ثور . يقول : احلبوه ! " . إنها من أول البحث إلى آخره تظل تردد أن المجتمعات قديما كانت أموية ، أى أن رئاسة الأسرة أو القبيلة مثلا كانت للأم دون الأب . هكذا هو الأمر ، والسلام . أما متى كان ذلك بالضبط ؟ وما الوثائق التى تقول به ؟ ولم ياترى تغيرت الحال وأزيحت الأمهات من فوق عروش سلطانهن ؟ وكيف ؟ لا جواب بالمرة ، اللهم إلا أن بعض علماء الأنثروبولوجيا قالوا بذلك ؟ وفاتها أن الأمر فى أحسن أوضاعه هو مجرد اجتهاد ظنى لا يستند إلا إلى قول هؤلاء الأنثروبولوجيين أنفسهم إن بعض المجتمعات الإفريقية التى تسكن الغابات كانت تسير على هذا النظام ، مع أنه حتى لو صح ذلك لما خرجت المسألة عن أن تكون شذوذا على القاعدة التى لم يذكر التاريخ غيرها. ومن هنا نراها أيضا على طول البحث ترجع كل شىء تقريبا إلى رغبة الرجل فى قهر المرأة ، ناسية أن المرأة ليست كلها شيئا واحدا ، إذ قد تكون أما ، وقد تكون بنتا أو أختا أو زوجة أو حبيبة ...إلخ ، ولا يقول عاقل أبدا إن الرجل يعامل هؤلاء جميعا نفس المعاملة مع افتراضنا صحة ذلك الكلام . ومن هذا المنطق الهستيرى أيضا نسبتها ختان النساء إلى نفس الرغبة الذكورية فى قهر الإناث والتسلط عليهن ، ناسية أن الرجال أيضا يختتنون . فهل ياترى نقول إن النساء هن اللائى فرضن عليهم ذلك لكى يستبددن هن أيضا بهم ؟ الغريب أنها تعزو ذلك إلى رغبة الحاكمين فى التسلط على الشعوب ، ناسية هنا أيضا ( ويا لها من نساءة كبيرة ! ) أن الحاكم يختتن هو أيضا! ثم ما وجه الصلة بين الختان والعبودية ؟ إن الرغبة فى قمع الآخرين وظلمهم واضطهادهم موجودة فى كل طوائف المجتمع وطبقاته ، يستوى فى ذلك المجتمعات التى تمارس الختان وتلك التى لا تمارسه ، فهى ليست مقصورة إذن على المجتمعات الختانية ولا على الحكومات وحدها . هذه حقيقة لا يمكن أن ينتطح فيها عنزان ( أم نقول : " عنزتان " كيلا تغضب د. نوال وتصوب إلينا الاتهامات ؟ ) ، ورغم ذلك تظل الكاتبة تمطرنا بهذه الأراجيف بثقة مطلقة تحسد ( أو بالأحرى لا تحسد) عليها . فما العمل إذن ؟ لا عمل إلا أن نقول نحن ما نعتقد أنه هو الصواب ، تاركين الباقى للقراء وللتاريخ يفصل فيه. فهذا كل ما نستطيعه ، أما أن نتدخل بين المرء وعقله فليس من اختصاصنا ولا فى طوقنا ولا مما يحمده الدين لنا كما أشرنا قبلا .(51/473)
ومع هذا كله نجد د. نوال تهاجم د. هبة متهمة إياها بأنها لا تتبع المنهج العلمى رغم ما قلناه وما يلمسه القارئ بيده لمسا من أن الدكتورة الصغيرة أعرف من الكبيرة بذلك المنهج وأقدر على الالتصاق به واحترام قواعده ، فوق أن د. نوال قد هاجمت البحوث العلمية كما أومأنا سلفا . ومما أخذته الكبيرة على الصغيرة أيضا أنها لم تبدأ بالارتياب فيما عندها ، وكأنها هى قد راعت ذلك ! إنها على الضد تماما قد انطلقت كالإعصار الهائج منذ أول سطر فى فصلها لا تعرف توقفا ولا تثبتا ولا ترى إلا شيئا واحدا تفسر به كل شىء ، ألا وهو رغبة الرجال فى قهر النساء ، ورغبة الحكومات فى قهر الشعوب . فكأن القهر قد استحال لديها إلى إله : فهو يفسر كل ظاهرة ، ويقف خلف كل حادثة ... وهلم جرا .
وقد نبهت د. هبة إلى عدد من الأخطاء الشنيعة التى سقطت فيها د. السعداوى سقوطا مدويا لا يليق بمن تتصدى لمثل هذه المسائل ، كنسبة حديث لنبوى إلى القرآن الكريم ، واقتطاع بعض الآيات القرآنية من سياقها بما يحرف معناها ، وقولها إن الإله فى الأديان جميعا ينظر إليه على أنه ذكر ، حيفا من المجتمع على الأنثى. ومما ردت به د. هبة أن الإله ليس ذكرا ولا أنثى ، بل ليس كمثله شىء ، وهذا يعرفه كل إنسان فى رأسه عقل يفكر . كما ردت على زعمها تحيز الإسلام للرجل فى قوله إن الله قد تاب على آدم وغفر له معصيته ، فى حين لم يذكر توبته على حواء ، إذ يقول القرآن : " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه "، فنبهتها إلى أن قراءتها القرآن بهذا الأسلوب خاطئة ، وأن القرآن الذى قال ذلك هو نفسه الذى ذكر فى موضع آخر أن الاثنين قد اشتركا فى المعصية وفى الابتهال أيضا إلى الله أن يغفر لهما . وأضيف أنا أن القرآن لم ينسب المعصية فى هذا السياق صريحة إلا لآدم : " وعصى آدم ربه فغوى " ، فمن الطبيعى أن يذكر أيضا أن الله قد تاب على آدم . وليس فى هذا أدنى افتئات على المرأة ، إذ المقصود بآدم هنا هو مطلق الإنسان ، رجلا كان أو امرأة . وبعض الآيات القرآنية لا يمكن أن يستقيم فهمها إلا على هذا الأساس . لنأخذ مثلا قوله جل شأنه : " وإذ قال ربك للملائكة : إنى جاعل فى الأرض خليفة . قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال : إنى أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ... إلخ." ، إذ الخلافة فى الأرض ليست مقصورة على آدم الذكر بل تشركه فيها المرأة . كما أن الله سبحانه لم يهب الرجل وحده اللغة والعلم ، بل الرجل والمرأة جميعا . وها هما تان الدكتورتان تتناقشان كأى رجلين لا تقلان عنهما فى شىء ، بل من المؤكد أنهما تتفوقان على كثير جدا من الرجال ، لا من الجهلاء وحدهم أو أنصاف المتعلمين ، بل من أكابر المثقفين ، وإن اللغة التى تكتبان بها لتتمتع بالسلاسة والصحة إلى حد بعيد. أما أننى أرى فى كلام د. نوال كثيرا من السفسطة والانحراف عن العقل والمنطق فهذا شىء يوجد عند كثير من الرجال أيضا.
ومما تخطئ فيه د. نوال كذلك وبينت لها د. هبة وجه الحق مهاجمتها للأديان وتمردها على أحكام الشريعة الإسلامية ودعوتها إلى أن يكون الإنسان هو مقياس الصواب والخطإ . ويتلخص رد باحثة العلوم السياسية فى أنه لا بد أن تكون هناك مرجعية مطلقة تكون فوق اختلافات الأفراد والطوائف والطبقات والشعوب بحيث لا تحابى أحدا على أحد ، وهذه المرجعية هى الله جل وعلا . وهذا كلام حق ، فما من أمر إلا ولا بد أن يشرف عليه من يستطيع أن ينتشل نفسه من غمار التفاصيل بعد أن يكون قد ألم بها. ومن بالله يمكن أن يتوفر له العلم المحيط بالأوضاع البشرية ماضيها وحاضرها ومستقبلها ولا يحابى فى ذات الوقت أحدا على أحد إلا الله سبحانه ؟ أليس هو الذى خلق البشر ويعرف طبائعهم وقدراتهم ؟ أليس هو صاحب العدل المطلق والرحمة الشاملة ؟(51/474)
هل معنى ذلك أن د. السعداوى لم تقل ما يمكننا أن نوافقها عليه ؟ الواقع أن أيا من المنصفين لا يستطيع أن ينكر أن هناك إجحافا فى كثير من الأحوال بالمرأة وحقوقها ، وأنه ليس من المروءة ولا العدالة بل ولا الإنسانية السكوت على مثل هذا الظلم . بيد أن معظم المظالم التى تذكرها الكاتبة فى هذا السبيل هى مما يحرمه الإسلام ولا يرضاه على أى وجه من الوجوه ، لكنها للأسف تنسبه للشريعة . من ذلك أنها تظن ، أو ربما تريد لغاية فى نفسها أن توهم القراء ، أن الدين يفرق بين المرأة والرجل عند ارتكابهما فاحشة الزنا ، فهو لذلك يعاقب المرأة ولا يرى على الرجل أى تثريب . وهذا محض اختلاق وزور قبيح ! إن ذلك من فعل التقاليد المنافقة المنحرفة ، أما الدين فهو يأخذ الطرفين بنفس الجزاء ، بل هو يؤثر الستر فى هذه الحالة والتوبة فيما بين العبد وربه كما هو معروف من مواقف الرسول الكريم وأحاديثه التى أثرت عنه فى هذا السبيل . فلماذا نزيف الحقائق ونحمل على الدين أوزار التقاليد الجاهلية ؟ ومن السهل فهم البواعث التى حدت بهذه التقاليد إلى إفراد الأنثى بالعقاب فى هذه الحالة ، فالأنثى لا الرجل هى التى يظهر عليها آثار الجريمة ، ولو كان الرجل هو الذى يظهر عليه هذه الآثار لعوقب هو وتركت هى دون أن يمسها سوء. ومع ذلك فلا بد أن نضيف أن القانون الوضعى نفسه فى بلاد المسلمين لا يفرق فى هذه النقطة بين رجل وامرأة ! أى أن غلط د. نوال هنا غلط لا عذر لها فيه بأى وجه . ولذلك قلت مستدركا إن هذا ليس ظنا منها بل قد يكون رغبة متعمدة فى التزييف والإيهام .
وبعد فقد كان مقررا منذ سنوات أن ألتقى مع د. نوال السعداوى فى برنامج حوارى فى القناة الثقافية فى التلفاز المصرى ، إذ عرض علىّ معد البرنامج هذا الاقتراح فوافقت ، إلا أنه عاد بعد فترة فقال إن الدكتورة لا تريد أن يحاورها أحد، وتفضل أن يقتصر البرنامج عليها هى ومقدمته ، وإن كان قد بلغنى أنها ظهرت بعد ذلك فى برنامج مشابه مع د. محمد عمارة . الشاهد فى هذا الكلام أن الزمان قد دار دورته ، وهأنذا أجد نفسى مرة أخرى إزاء الدكتورة ، إذ وقع فى يدى الكتاب الحالى منذ أيام فخطر لى أن أفكر مع السادة القراء بصوت عال كما يقولون !
-----------
القاهرة: آخر وأغرب دعوة روّجت لها نوال السعداوي ـ الكاتبة المصرية المعروفة بولاءاتها الغربية وتمردها على كل قيمة يزخر بها المجتمع المسلم ـ كانت هذه المرة دعوتها لنسب الأولاد إلى أمهم وأبيهم معاً، "لأن نسبهم إلى أبيهم فقط فيه ظلم للمرأة التي قامت بدور يفوق الرجل في ولادة هذا الطفل, لهذا فهي الأحق بنسبهم إليها أو الأقل يتم نسبهم للأم والأب معاً وهذا طبقته الدول الغربية" على حد زعمها.
وقد لاقت هذه الدعوة المثيرة للسخرية رفضاً قاطعاً من جميع الفعاليات في المجتمع المصري.
وفي البداية تدعي نوال السعداوي "أن تسمية الأبناء بأسماء آبائهم فقط وعدم ذكر اسم الأم فيه عنصرية وظلم للمرأة رغم أن الإسلام كرمها, ولكن نظرة الذكور إلى أن اسم المرأة عورة جعلهم يرفضون نسبة الأولاد إلى أمهم وفي هذا نظرة عنصرية تنظر إلى المرأة على أنها مجرد وعاء ليس لها دور في عملية الحمل, مع أنها تقوم بدور في تلك العملية أكثر من الرجل حيث يستمر في بطنها تسعة أشهر تقوم بتغذيته من دمها وحمايته من كل الأخطار ثم رعايته ورضاعته, بل والعطف عليه طوال حياته".
أما جهد الرجل الذي ينسب إليه الأولاد دون أمهم ـ كما تزعم ـ "فهي فترة الجماع فقط, وكلها شهوة وليس فيها أي تعب أو مشقة".
ثم تضيف لتكشف ولاءها لأفكار الغرب: "وهذا الكلام ليس غريباً أو مستحيلاً فهناك بعض الدول الأوروبية تعطي المرأة حق نسبة أبنائها إليها حيث تجمع الابن أو الابنة في اسمه بين اسم الأب والأم معاً اعترافاً بفضلهما معاً عليه. والتجربة رأيتها بنفسي في إسبانيا ورأيتها تساعد على تماسك الأسرة بشكل أكبر".
ثم عادت السعداوي ـ وفقا للحياة ـ لتفتي في الدين بغير علم وتقول: "في حين أن منع الأم من نسبة أولادها إليها أمام المجتمع فيه نوع من الأنانية الذكورية المرفوضة شرعاً وعقلاً, لأن الله يقول في القرآن "ولقد كرّمنا بني آدم", فالتكريم يشمل الرجال والنساء معاً, ولا يوجد في الشرع ما يمنع ذلك, وإذا كان المسلمون الأوائل لم يفعلوا ذلك لظروف البيئة التي كانوا فيها, أما الآن فالأوضاع تغيرت".
لكن السعداوي نسيت قول الله تعالى في سورة الأحزاب:{ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله}.
ويؤيد نوال السعداوي في هذه البدعة الجديدة زوجها "شريف حتاتة", الذي يرى أنه لا يوجد مانع من أن يحمل ابنه اسمه واسم زوجته الدكتورة نوال, "فهذا أقرب للعدل لأننا أسهمنا معاً في ميلاد هذا الطفل وتكوينه, وكل واحد منا قام بدور يكمل دور الآخر, لهذا فإن الإنصاف والعدل يجعل (عاطف) ابننا يحمل اسمنا نحن الاثنين, ولكن للأسف فإن القوانين هنا تمنع ذلك ولا تبيحه, ولهذا أطالب بتغيير هذه القوانين لتكون أكثر إنصافاً للمرأة وعدلاً في إعطاء كل من الوالدين حقه في نسبة ابنه أو ابنته أمام المجتمع إليه".(51/475)
دعوة مرفوضة
ويرد فضيلة الشيخ الدكتور "يوسف القرضاوي" على هذه الدعوة الغريبة قائلاً: "اسم المرأة محترم مثل اسم الرجل تماماً, فالمرأة تُنادى باسمها كما يُنادى الرجل باسمه, أما أننا ننادى بأسماء آبائنا وليس بأسماء أمهاتنا فهذا ما أجمعت عليه معظم أمم العالم وليس المسلمون وحدهم، كما أن هذا ليس أمراً مستحدثاً ولكنه أمر معروف طوال التاريخ: إن نسب الإنسان إلى أبيه وأسرة أبيه وقبيلة أبيه, ولهذا يقال عن البشر عامة: بنو آدم فهذه المجتمعات (أبوية), أي النسبة فيها إلى الأب ويوجد مجتمعات قليلة تنسب إلى الأم".
ويضيف: "ونسبة الأبناء إلى أبيهم أمر منطقي فقد كان الرجل هو العنصر الأقوى الذي يسعى ويكدح على الأسرة ويحميها من عدوان الآخرين وجاء في القرآن أن الله حذّر آدم وزوجته من الشيطان {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} آية 117 سورة طه.
فلماذا قال (فتشقى) ولم يقل (فتشقيا)؟ قال الزمخشري وغيره من المفسرين: "لأن الشقاء والكدح في الأرض من أجل العيش معصوب أساساً برأس الرجل. ويظهر أن جنس الذكر أقوى في الحيوانات والكائنات عامة فهذا من صنع الفطرة وليس من تحكم الرجال في النساء ولا ينقص هذا من قَدْر المرأة لأن الله أناط بها مهمة أخرى غير الكدح والحماية وهي مهمة الحمل والوضع وتنشئة الأولاد وما أصعبها من مهمة, على أن من الرجال من يُعرف باسم أمه لسبب أو لآخر ولم ينقص هذا من قَدْره, كما نرى في تاريخنا مثلاً: محمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب وكانت أمه من بني حنيفة. وإسماعيل بن عُلَية، وهو من فقهاء الأمة المعتبرين، نسب إلى أمه. وكذلك آل تيمية ومنهم شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية, وهؤلاء الثلاثة من كبار علماء الأمة: الجد والابن والحفيد وكلهم نسبوا إلى أمهم أو جدتهم.
ونفى الشيخ القرضاوي أن يكون اسم المرأة عورة قائلاً: "ربما نجد هذا عند بعض العوام أو البدو وأمثالهم للأسف, فنجدهم يعبرون عن المرأة بـ"الجماعة" أو "الأولاد" بل رأيت بعض الناس إذا ذكروا المرأة يقولون: "أعزك الله" كما يقولونها إذا ذكروا الحمار ونحوه.
وأكد فضيلته أن هذا ليس من الإسلام في شيء وهم لم يفعلوا ذلك تديناً ولا بتوجيه من الدين بل هي أعراف جاهلية لا سند لها من الشرع, ولقد رأينا الرسول الكريم يذكر زوجاته بأسمائهن أو كنيتهن, وذلك مذكور في أحاديث عديدة وكان ينادي زوجاته بأسمائهن كما نادى عمته وابنته باسميهما, ومن مزية الإسلام أنه لم يدمج المرأة في نسب زوجها بعد أن تتزوج حتى أنها تنسب إليه لا إلى أبيها كما هو الحال في الغرب, وقلد ذلك للأسف بعض المسلمين، بل تبقى المرأة محتفظة باسمها واسم أبيها وعائلتها بعد الزواج تكريماً لها ولأسرتها".
مخالفة للشرع
ويؤكد الشيخ "محمود عاشور" ـ وكيل الأزهر سابقاً ـ أن الإسلام كرّم المرأة وحدد لكل من الزوجين أدواراً متكاملة في الأسرة، وأبعد كل أشكال الصراع بينهما حتى يتعاونا معاً على إقامة أسرة مستقرة، إلا أنه جعل الرجل مسؤولا عن شؤون أسرته في إطار ما يسمى القوامة التي قال عنها الله سبحانه وتعالى: {الرجال قوّامون على النساء بما فضَّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم}.
وهذه القوامة تكليف لا تشريف؛ لأنها تعني مزيدا من المسؤولية والرعاية للأسرة التي يكون مسئولاً عنها أمام الله في إطار التوجيه النبوي: "كلكم راعِ و كلكم مسئول عن رعيته"، وهنا أمر إلهي بأن يتم نسبة الأولاد لأبيهم: "ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين".
ويضيف: نجد هنا أن الإسلام لم يأمرنا أن ننسب الأبناء لأمهاتهم إذا لم نعلم آباءهم, ويؤكد الفقهاء أنه لا ينسب إلى أمه إلا ابن الزنا نظراً لأننا لم نعلم اسم أبيه, وأتعجب ممن يدعون أن نسبة الأبناء لأبيهم ظلم للأم, في حين لم يعترضوا على نسبة المرأة كلها عند الزواج لزوجها، في حين تتنازل عن نسبها إلى أسرتها التي تربّت فيها فلماذا لم ترفض المرأة - التي تتم المطالبة بحقها في نسب ابنها إليها - نسبتها إلى زوجها"؟!
دعوة خبيثة
ويؤيده في الرأي الدكتور "عبد العزيز عزام" ـ عميد كلية الشريعة والقانون سابقاً ـ حيث يؤكد أن هذه الدعوة مرفوضة شرعاً ليس في الإسلام فقط بل في كل الأديان السماوية بل إنها دعوة شيطانية تستهدف هدم الدين وتقنين الزنا، حيث لا تجد المرأة مشكلة في نسبة ابن الزنا إليها دون الحاجة لمعرفة أبيه, وهذا يتنافى مع الدعوة للزواج الذي هو من أسس الإسلام حيث جعله الله آية من آياته:{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.(51/476)
وتكشف المهندسة "كاميليا حلمي" ـ رئيسة اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل ـ جانباً مهماً من هذه الفكرة الغريبة عنا قائلة: "نشأت في الغرب حركات نسائية ترفض أيّة سيطرة للرجل وأسمت هذه الحركات نفسها بالحركات الأنثوية, وقد ظهرت للمرة الأولى في الستينات من القرن الماضي، ولها أهداف غريبة أهمها:
ـ نسبة الأولاد إلى أمهم, وإعطاء ذلك وضعاً قانونياً حتى لا يعيَّر الولد بنسبته لأمه كما هو الحال في مجتمعاتنا الشرقية, وبالتالي فإنه من حق المرأة أن تحمل من أي رجل دون أن يسألها أحد عن والد هذا الطفل الذي يُنسب إليها تلقائياً, وبالتالي فهي دعوة شيطانية للاستغناء عن الرجل في الأسرة التي تقوم على الأم وأولادها دون ذِكر للرجل.
ـ الدعوة إلى موت وإبادة الرجال ليكون عالم تحكمه المرأة كما كان الحال قديماً ـ على حد ادعاء هذه الحركات ـ لأنها الأحق بالسيادة على الكون, ولهذا لابد من التخلص من سيطرة الرجال في كل صورها فإن كان هذا مستحيل، فإنه يمكن تهميشه وتسخيره لخدمة المرأة.
ـ الدعوة لتغيير التاريخ الذي يعني بالإنجليزية Histo r y قصة الرجل أو التاريخ من وجهة نظر ذكورية, لهذا أنتجت هذه المنظمات كتابة أخرى للتاريخ أسمتها He r sto r y وتظهر فيه المرأة على أنها صانعة التاريخ.
قامت هذه المنظمات بعمل نسخة مصححة من "إنجيل" النصارى بحيث يتم تغيير كل ذكر للرب على أنه (ذكر) إلى (أنثى) وكذلك للمسيح وغيره من الأسماء الذكورية استبدالها بأسماء أنثوية لأن الرب ـ في نظرها ـ حابى الرجال.
وتقول كاميليا حلمي: للأسف فإن هذه المنظمات الأنثوية هي المسيطرة الآن على لجان المرأة في الأمم المتحدة، وقد نجحت أخيراً في الحصول على حق الشواذ جنسياً في الزواج المعترف به، وأصبح لهم كل الحقوق من الدولة مثل الزواج الطبيعي, وجعلوا الأمين العام "كوفي أنان" يعلن ذلك بنفسه.
---------------
نقد مهم جداً
جزاك الله خيراً يا أخى حازم على ما قدمت ، وما قمت به من جهد.
وأنبه أخوانى إلى أن كلام الدكتور / إبراهيم عوض المقتبس هنا يحتاج لإعادة نظر وتعليق ، كما أن الاستدلال بأغلب الآيات فى غير موضعها.
فالكاتب كتب هذا بناءً على أنه - كما يقولون - مفكر أو أديب أو ناقد ، وليس على أساس أنه رجل دين يجب أن يكون حارساً على عقيدة التوحيد. وكلامه فيه مخالفات لصريح القرآن ولبعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم .
اقتباس:
إذ يعطى القراء الفرصة لمعرفة الرأى والرأى المضاد ، وللموازنة من ثم بين الرأيين
ليس كل إنسان عنده المقدرة على إجراء هذه الموازنة فهناك من الشباب المسلم من يستمع إلى شبه الملاحدة والنصارى ، كمايستمع لرجال الدين ثم تكون المأساة فيما بعد.
ثم أن هذا الكلام يفترض شيئاً وهو أننا لسنا على يقين أننا على صواب ، ونحتاج لنسمع الآخر ونرى ما عنده ثم ننقد ما عنده وما عندنا ثم نعود فنحكم بأيهما نأخذ. ( فهل يعقل هذا!؟)
اقتباس:
وهذا من شأنه تيسير الوصول إلى الحق لمن يريد
ومن كان على الحق فما حاجته إلى هذا الهراء.
اقتباس:
كما أنه يعلمنا كيف نستمع إلى الأصوات المخالفة ونفتح لها آذاننا وعقولنا
ومن الذى يضمن السلامة لشبابنا ولمن لم تتشكل عقيدته بشكل صحيح بعد!؟
وأين هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة ابن اليمان فى حديث الفتن :
قال:
((كان الناس يسألون رسول ا صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني..
قلت: يا رسول الله فهل بعد هذا الخير من شر؟
قال: نعم..
قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟
قال: نعم، وفيه دخن..
قلت: وما دخنه..؟
قال: قوم يستنون بغير سنتي.. ويهتدون يغير هديي، وتعرف منهم وتنكر..
قلت: وهل بعد ذلك الخير من شر..؟
قال: نعم! دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم اليها قذفوه فيها..
قلت: يا رسول الله، فما تأمرني ان أدركني ذلك..؟
قال: تلزم جماعة المسلمين وامامهم..
قلت: فان لم يكن لهم جماعة ولا امام..؟؟
قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك))
هكذا يكون البعد عن الفتن ، بالبعد عنها وليس التعرض لها وأن نفتح لها آذاننا وعقولنا.
اقتباس:
ونتعايش مع أصحابها مؤمنين بأن لهم الحق فى اعتناق ما يشاؤون من أفكار وعقائد والدفاع عنها
أى عقائد حتى ولو كانت تهدف إلى هدم معتقدنا نحو!؟
اقتباس:
وبأنه لا يحق لنا إكراههم على نبذ ما يؤمنون به مهما تكن درجة مصادمته لما نراه هو الصواب
هذا إن كانوا غير مسلمين فى الأصل كاليهود والنصارى العرب ، أما أن يكون هذا الكلام فى حق المسلمين الذى يذهبون إلى النصرانية والإلحاد ، فلا يجوز فهو فى حكم الشرع مرتد ، ويستتاب فإما يرجع أو يقام عليه حد الردة.
اقتباس:
وهذا مبدأ أخلاقى يعبر عنه القول المأثور : " أحب لأخيك ما تحب لنفسك "
كلمة حق يراد بها باطل فأنا أحب لأخى الإسلام ولا أحب له الكفر ، هكذا يكون معنى الحب.
اقتباس:(51/477)
ويؤصله الإسلام فى قوله تعالى : " لا إكراه فى الدين . قد تبين الرشد من الغى " ، وقوله جل شأنه : " وقل : الحق من ربكم ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر " ، وقوله عز من قائل : " فذكر ، إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر " ، وأمره سبحانه لرسوله الكريم أن يقول لخصومه من كفار قريش وغيرهم : " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين "
استدلال بالآيات فى غير موضعها ، فهذا فى حق من كان كافراً أصلياً ، وليس فى حق المسلم الذى يرتد. وهذه نقطة جوهرية فى الموضوع.
فالمسلم يجب المحافظة على عقيدته ، وإحاطته ورعايته حتى يكون سليم المعتقد ، خالى من شوائب البدع والشركيات.
اقتباس:
على أن ليس معنى ذلك أن ندير ظهورنا لما يقوله الآخرون فلا نهتم به أو ندرسه أو نحلله أو نناقشه ونكتب عنه موافقين أو مخالفين أو مستدركين أو ملاحظين ...إلخ.
هذا يقوم به العلماء وليس كل أحد فى الأمة. ولا يجب أن ينشر هذا الهراء على الناس ونقول لهم كل واحد حر فى اختيار معتقده ، هذه تكون حرب حقيقية على الدين الإسلامى.
وهناك حكمة تقول : طعام الكبار سم للصغار.
اقتباس:
ذلك أن كل إنسان يعتقد أن ما يؤمن به هو الصواب ، ومن هنا نراه يحاول إذاعته بين الناس ويدعوهم إلى الدخول فيه ، وإذا وجد من يعارضه انبرى له ورد عليه . وهى ظاهرة صحية ، بل هى ظاهرة طبيعية قبل أن تكون ظاهرة صحية
الكاتب غير قارئ لتاريخ المعتقد الإسلامى ، عندما حدث مثل هذه الأمور التى يتحدث عنها وكان هذا فى عهد الخلافة العباسية ، حيث اتسعت رقعة الخلافة ودخلت شعوب كثيرة فى الإسلام ، وبدأ المسلمون يقومون بحركة ترجمة واسعة جداً للنتاج الفكرى للأمم الأخرى كانت النتيجة كوارث وطامات حيث ظهرت فى الأمة فرق وطوائف لا يعلمها إلا الله وتفاقمت البدع ووصلت إلى سدة الحكم حتى بدأوا يقتلون المسلمين أصحاب المعتقد الصحيح وذاقت منهم الأمة الويلات الكثيرة. والموضوع طويل ويكاد يعتصرنى ألماً كلما تذكرت مثل هذه المحن التى مرت بأمتنا من جراء ما يسميه الكاتب هنا (ظاهر صحية).
اقتباس:
ولولا تلاقح الأفكار وتدافع الآراء لركدت حركة الفكر الإنسانى وأسنت وران عليها الخمود .
يجب التفرقة بين أنواع الأفكار التى يجوز فيها التلاقح وتلك التى لا يجوز فيها ذلك التلاقح ، فإن قصد البحث العلمى فى مجالات العلوم المادية كالطب والهندسة والفلك والكيمياء وغيرها فأهلاً به وسهلا ً بل ويجب أن يفتح الباب على مصراعيه بالضوابط اللازمة ، حتى لا تستخدم هذه الأبحاث فى تعاسة البشرية ، أما التلاقح الفكرى فى مجال العقيدة والدين فهنا يكمن الخطر ، وأى خطر ، وهذا ما يجب منعه بكل شكل كان. فما هى إلا دعوى أخرى لهدم الدين تصدر عن شخص غير مسؤول.
============(51/478)
(51/479)
سلسلة كشف الشخصيات (12) : أمينة السعيد
ترجمتها:
قال الدكتور محمد فؤاد البرازي في كتابه (مؤامرات على الحجاب): (في أسرة ميسورة الحال من "المنصورة"، ولدت "أمينة السعيد" بـ"أسيوط" عام (1914)م([1])، حيث كان والدها "أحمد السعيد" يعمل طبيباً في هذه البلدة، إلى أن عاد إلى "القاهرة" ليُلحق أبناءه بالمدارس الأجنبية، لأنه كان مُحباً للحضارة الأوربية.
وقد التحقت "أمينة" في طفولتها بـ"مدرسة الحلمية للبنات"، فكانت في غاية التمرد والشقاوة، حتى إنها رسبت في جميع مواد السنة الدراسية الأولى، لأنه وقتها كان للهو واللعب.
وتروي "مجلة حواء" على لسان "أمينة السعيد" أحد مواقفها في طفولتها الشقية، فتقول :"أغضبني مرة أحد المدرسين في الفصل، فشعرتُ بالظلم الفادح الذي وقع عليّ، فكان تركيزي طوال وقت الحصة في كيفية الانتقام منه، وردّ هذا الظلم. وعندما انتهى وقت الحصة، وغادر المدرس الفصل متوجهاً لحجرته، لاحقتُهُ وضربتُه بقبضة يدي الصغيرة في ظهره.. ثم أطلقتُ قدميّ للريح خوفاً منه"([2]).
وبعد إتمامها للمرحلة الثانوية، كانت ضمن أول دفعة من الفتيات ينتسبن إلى "كلية الآداب" التي كان عميدها المستغرب: "طه حسين"، فاختارت "قسم اللغة الإنجليزية"، واستمرت فيه حتى تخرجها.
وبعد تخرجها من الجامعة أصبحت من هُواة "الأدب الإنجليزي"، حتى إنها -في إحدى مراحل حياتها- ألفت كتاباً عن الشاعر الإنجليزي "بيرون"، وتزوجت في عام (1937)م من الدكتور "عبد الله زين العابدين"، الذي شجعها على العمل في الصحافة، ووقف إلى جانبها في جميع الأزمات والمحن التي نزلت بها من جراء ذلك.
وحين كان الصحفي "مصطفى أمين" نائباً لرئيس تحرير مجلة "آخر ساعة"، عرض عليها أن تعمل معه في المجلة، فقبلت بذلك على أن تخفي اسمها حتى لا يعرف أبوها وأمها أنها تعمل في الصحافة، وهو عمل غير مستساغ في المجتمع آنذاك. لكنهما علما بذلك فيما بعد.
ثم انتقلت إلى مؤسسة صحفية متخصصة بنشر السموم ضد الإسلام ودعاته، تدعى: "دار الهلال" ، التي أسسها الصليبي الهالك: "جورجي زيدان" 1287-1332هـ = 1861-1914م، الذي وقف حياته على تشويه التاريخ الإسلامي، وخلفائه الميامين، بأكاذيب صاغ بها قصصه المتعددة، التي كتبها بدافع من الحقد الدفين على الإسلام والمسلمين. ومن "دار الهلال" بدأت "أمينة" تكتب عن شؤون المرأة في مجلة "المصور"، ومجلة "الاثنين" من وجهة نظر المستغربين، فلفتت نظر "أميل زيدان" أحد صاحبي "الهلال"، فاختارها "رئيسة تحرير" لإصدار مجلةٍ نسائيةٍ شهرية باسم: "حواء" . وصدر العدد الأول منها في أول كانون الثاني يناير عام (1954)م.
ومن خلال هذه المجلة انطلقت "أمينة السعيد" تكتب عن المرأة، وتطالب بما تعتبره حقوقاً لها.
وفي عام (1962)م اختيرت عضواً في مجلس إدارة "دار الهلال"، فكانت بذلك أول امرأة مصرية تُعيّنُ في مجلس إدارة مؤسسة صحفية.
ثم عينها "أنور السادات" رئيسة لمجلس الإدارة، واستمرت في هذا المنصب إلى أن أقالها "السادات" نفسه منه، ومن رئاسة تحرير مجلة "المصور" ((مؤامرات على الحجاب، للدكتور محمد فؤاد البرازي، ص 122-124).
وانظر ترجمتها -أيضاً- في "مصريات رائدات ومبدعات! "لمجموعة من الكاتبات (ص 65 وما بعدها).
-هلكت بعد إصابتها بمرض السرطان -والعياذ بالله- عام 1995م.
-تعد أمينة السعيد من أبرز داعيات تحرير المرأة في العالم العربي، فقد كانت ترأس تحرير مجلة (حواء) المصرية، ومن خلالها كانت تدعو إلى هذه الفكرة الخبيثة.
-يقول الشيخ محمد المقدم عنها : "تلميذة وفية لطه حسن، ترأس تحرير مجلة حواء، ومن خلالها تحرض نساءنا على النشوز، وفتياتنا على التهتك والانحلال، وقد تواتر لدى الجميع أنها تهاجم الحجاب الإسلامي بكل جرأة، وهي -وإن كانت تلقفت الراية من "الزعيمات" السابقات- إلا أنها تفوقت على كل اللاتي سبقنها في باب التجرد من الآداب والأخلاق الأساسية، إذ إنها لا تألو جهداً في الصد عن سبيل الله، والاستهزاء من شرعه عز وجل، حتى وصل بها الأمر إلى أن قالت: (كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟)، وقالت : (إنني لا أطمئن على حقوق المرأة إلا إذا تساوت مع الرجل في الميراث) (عودة الحجاب 1/65).
ويقول الدكتور محمد فؤاد البرازي: (كانت "أمينة السعيد" تلميذة للمستغرب المأفون، وعميد الأدب المزعوم: "طه حسين"، فتأثرت به أشد التأثر، وترك فيها من بصمات التغريب، ونوازع التقليد، والافتتان بحضارة الغرب، ما سترى أثره في مقالاتها التي كانت تنشرها.
ولا شك أن نشأتها في أحضان أبٍ غير ملتزم، حريصٍ على تعليم أبنائه في المدارس الأجنبية، وتشجيعه إياها على لعب "التنس" بملعب "جامعة القاهرة" مع المدرب، إضافة إلى تشكيل عقلها على يد أستاذها "طه حسين" ، وترددها على "هدى شعراوي" وتأثرها بها، ثم استعدادها الخاص لذلك، كل ذلك قد صاغها صياغة "متحررة" ، جعلتها متمردة على أحكام الإسلام، وقيمه العليا) (مؤامرات على الحجاب ، ص125).(51/480)
وقد ذكرت هي نفسها بأنها تلميذة لداعية التحرير الأولى (هدى شعراوي)، تقول أمينة السعيد: "قبل اشتغالي بالصحافة ودخولي الجامعة وتخرجي منها، كنت أقوم بتمثيل بعض المسرحيات في الحفلات الخيرية التي كانت تقيمها الزعيمة ! هدى شعراوي لصالح الأعمال الخيرية التابعة لجمعيتها" (انظر: مقابلتها مع مجلة الجديد، العدد 38).
وتقول تلميذتها ايفلين رياض : "اختارتها الزعيمة ! هدى شعراوي من بين مجموعة من الشابات الصغيرات! لتعدها للقيادة في مجال الخدمة الاجتماعية([3]) عندما وجدت لديها الحماس والقدرة على العمل والكفاح" (مصريات رائدات ومبدعات! ص 66).
انحرافاتها:
1-من أعظمها : دعوتها إلى "تدمير" المرأة المسلمة، وتهييجها لكي لا تلتزم بشريعة ربها . حيث يصدق عليها قوله تعالى (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة).
2-ومن انحرافاتها : أنها "اتخذت من مجلة "حواء" منبراً للتطاول على الأحكام الإسلامية الخاصة بقانون "الأحوال الشخصية" و"حجاب المرأة المسلمة"؛ بل راحت كما قال الأستاذ "محمود محمد الجوهري": "تحرضُ نساءنا على النشوز، وفتياتنا على الانحلال. وهي التي جعلت الفسق والبغاء الرسمي في شارع الهرم نوعاً من كرم الضيافة عندنا (!!!) في ردّها على "القذافي"، عندما ندد بمخازي "شارع الهرم" في أحد مواقفه العنترية، من خلال ندوة عقدت بالقاهرة، طالب فيها بنظافة "شارع الهرم"، وإغلاق محال الدعارة السياحية، وعُلبِ الليل"([4]).
وكتبت ذات يوم في مجلة "المصور" : "إنني لا أطمئن على حقوق المرأة إلا إذا تساوت مع الرجل في الميراث"
فهل تعتبر هذه في عداد المسلمين، وهي تعارض قول الله رب العالمين: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) (النساء: 11)؟ !!
وقالت أيضاً: "كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام، ولدينا الميثاق" ؟ !!! أي الذي أصدره "جمال عبد الناصر" ! وفيه من المخالفات لدين الله عز وجل ما فيه…" (انظر : مؤامرات على الحجاب ، ص 126).
3-ومن انحرافاتها : أنها "بعد أن امتدت يد ثورة 23 تموز -يوليو 1952م إلى قانون "الأحوال الشخصية" بالتعديل، رضوخاً لرغبات دعاة "تحرير المرأة" !!! راحت تطالب بتعديلات أخرى؛ وكانت تريد بذلك إصدار تشريعٍ يمنعُ " تعدد الزوجات" ، و"مساواة المرأة بالرجل في الميراث" ، إلى غير ذلك من هذه المخالفات الصريحة لشريعة الله عز وجل" (المرجع السابق، ص 126-127)
4-ومن انحرافاتها: استهزاؤها بالحجاب الشرعي وقولها : "ما نراه اليوم شائعاً بين الفتيات والسيدات مما يسمونه "الزي الإسلامي" فالإسلام منه براء، لأنه تقليد حرفي لزي الراهبات المسيحيات" (مؤامرات على الحجاب، ص127).
وتقول أيضاً: "هل من الإسلام أن ترتدي البنات في الجامعة ملابس تغطيهن تماماً، وتجعلهن كالعفاريت (!!!) وهل لابد من تكفين البنات بالملابس وهن على قيد الحياة، حتى لا يُرى منها شيء وهي تسير في الشارع" !! (مجلة حواء، 18، نوفمبر 1972).
وقالت : "إن هذه الثياب الممجوجة قشرة سطحية لا تكفي وحدها لفتح أبواب الجنة، أو اكتساب رضا الله. فتيات يخرجن إلى الشارع والجامعات بملابس قبيحة المنظر، يزعمن أنها "زي إسلامي"، لم أجد ما يعطيني مبرراً منطقياً معقولاً لالتجاء فتيات على قدر مذكور من التعليم إلى لف أجسادهن من الرأس إلى القدمين، بزي هو والكفن سواء" (مجلة المصور، 22 يناير 1982).( وانظر: عودة الحجاب، للشيخ محمد المقدم، (1/65-67).
5-ومن انحرافاتها العجيبة : أن فتاة مسلمة ! أرسلت لها بأنها تحب شاباً غير مسلم، وتريد أن تتزوجه !! ولكن دينها يمنعها من ذلك.
فأجابتها أمينة السعيد بأن "تتزوجه زواجاً مدنياً" !!! (انظر: مجلة لواء الإسلام، عدد 8، ربيع الثاني 1384هـ).
6-ومن انحرافاتها : قولها "إن أمر الرجل لزوجته بارتداء الحجاب مرفوض؛ لأنه يدخل تحت قوله تعالى (لا إكراه في الدين) " !! (انظر: المجلة العربية، العدد 129). وهذه فتيا جريئة يعلم كل مسلم مخالفتها لدين الإسلام، ستبؤ بإثمها هذه العجوز الهالكة.
-يقول الدكتور السيد رزق الطويل عن أمينة السعيد: "كانت في وقت من الأوقات تتصدى للإفتاء في إحدى المجلات الأسبوعية حول قضايا البشر الاجتماعية والغرامية والنفسية، وكانت ترتكز في فتاواها على اجتهادات قائمة على قدر كبير من التجربة والتصور الشخصي والمزاجي، وعلى قدر قليل من العلم، وبمعزل تام عن هدي الدين الحق وهداه " (مجلة منبر الإسلام، 2 صفر 1411هـ).
7-ومن انحرافاتها: دعوتها للاختلاط المحرم، وادعاؤها بأن "حرية الاختلاط هي أقوى سياج لحماية الأخلاق"!! (مقابلتها مع مجلة الجديد، العدد 38).
وصدق الله (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) فهي ترى المنكر معروفاً ، والمعروف منكراً.
ختاماً: يقول الدكتور محمد فؤاد البرازي في كتابه (مؤامرات على الحجاب) (ص 129) متحدثاً عن أمينة السعيد:(51/481)
"استبدّت بها آلام نفسية نتيجة فشلها بدعوتها المتحررة بعد عودة النساء إلى الله، والتزام الكثيرات بالحجاب؛ بل بالنقاب، فعبّرت عن ذلك قبل موتها بأربعة أيام، حين قالت بحسرة وألم لصحفية من مجلة "المصور" (العدد 3697) وهي تجري معها مقابلة: "أمينة السعيد كانت ملكة الصحافة النسائية. لقد أفنيتُ عمري كله من أجلها. أما الآن فقد هدني المرض، وتنازلت النساء عن كثير من حقوقهن. المرأة المصرية صارت ضعيفة.. الإرهابيون وسَّخوا مخّهم…" تعني بذلك: أن الإسلاميين قد أقنعوهن حتى التزمن بالإسلام. فالإسلاميون في نظرها: إرهابيون، وقيامهم بإقناع النساء بالالتزام بالحجاب "توسيخ" لعقولهن. (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً) (الكهف:5).
اللهم جنبنا الردى، واكفنا شر العدا، ولا تضلنا بعد الهدى.
وحين سألتها الصحفية عن رؤيتها للحركة النسائية، أجابت : "هبطت كثيراً، بل انتهت … لم تعد لدينا حركة نسائية".
وتفسر عودة المرأة المسلمة إلى دينها وحجابها تفسيراً غريباً (استكباراً في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) (فاطر: 43) فتقول: "السيدات ملأهن الرعب من الإرهابيين والمتطرفين، وصمتن عن حقوقهن التي تُسحب منهن، وارتضين آراء بعض المتخلفين الذين يتمسحون في الدين ورجال الإرهاب، وكلاهما من أغبى الناس.
وضاعت الجهود التي بذلتها "هدى شعراوي" ثم جهودنا نحن طوال خمسين عاماً، وعاد الحجاب ثانية" ..
قلت: الحمد لله الذي لم يهلكك حتى أكمدك بعودته، (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
----------------------------------------------------------
([1]) وفي كتاب "مصريات رائدات ومبدعات !" (ص 65) أنها ولدت عام 1910م.
([2]) انظر: مجلة "حواء" ، العدد (2030)، تاريخ 19 آب - أغسطس 1995م.
([3]) بل مجال تحرير المرأة ! ولكنها عادتهم في إلباس الفساد لباس الصلاح .
([4]) انظر: (الأخوات المسلمات وبناء الأسرة القرآنية ، ص 98).
==============(51/482)
(51/483)
سلسلة كشف الشخصيات (13) : داروين
بقلم : سليمان الخراشى
داروين ومذهب التطور
( 1 )
من هو داروين ؟
هو « تشارلس داروين ». بريطاني. عاش ما بين عام (1808 و1882م) بدأ دراسة الطب ثم لم يكمل مسيرته. وانتقل إلى دراسة اللاهوت. وكان شغفه بالرحلات العلمية الاستكشافية وراء البحار. وتعلق بالبحث في عالم الأحياء. ودون ملاحظاته التي توصل إليها طوال ربع قرن من البحث. وتجلت له فكرة تطور الأحياء بعضها من بعض من ظاهرة التشابه في التكوين الجسمي بينها، ومن بعض ظواهر أخرى .
وكتب في ذلك كتابه المشهور « أصل الأنواع »، وقدمه إلى إحدى الجمعيات العلمية، وصدرت الطبعة الأولى منه في 14/11 سنة (1859م) وأحدث هذا الكتاب ضجة كبرى في الغرب، لاشتماله على أفكار جديدة تخالف المعتقدات السائدة .
ثم كتب كتابًا آخر سماه « أصل الإنسان » ونشره سنة (1874م). وقد خصص هذا الكتاب لموضوع التطور الإنساني .
( 2 )
خلاصة فكرة التطور الداروينية :
1 - تقوم فكرة التطور الداروينية على أن الكائنات الحية تسير في تطورها مرتقية من أدنى الأحياء إلى الأعلى فالأعلى، وأن الإنسان قد كان قمة تطورها .
2 - وبقاء بعض الأنواع وانقراض بعضها يرجع إلى ظاهرة الصراع من أجل البقاء، فالبقاء يكون للنوع المكافح الأفضل. وأما النوع الخامل الذي لا يكافح من أجل البقاء فإنه يضمر، ثم يضمحل، ثم ينقرض .
3 - والعضو الذي يهمل إذا لا تبقى له وظيفة عمل في النوع الواحد، يضمر شيئًا فشيئًا، حتى يضمحل، ولا يبقى منه إلا أثر يدل عليه، وقد لا يبقى له أي أثر .
كانت هذه هي الداروينية في عالم الأحياء، ثم عممت حتى شملت الوجود المادي كله، من الغاز السديمي الأول حتى المجرات فالكواكب، فالمواد الصالحة لظهور الحياة فالنبات، فالحيوان، وأمسى التطور مذهبًا .
وقد أجرى الداروينيون تنقيحات وتعديلات في آراء داروين من بعده، وحشدوا لفكرة التطور الطبيعي في الأحياء أسانيد ترجع كلها إلى ثلاثة عناصر :
1 - وجود التشابه في البناء الجسمي لدى الكائنات الحية .
2 - تأخر ظهور بعض الأنواع عن بعض .
3 - وجود زوائد في بعض الأحياء ليس لها وظيفة حاليًا، فوجودها ينبئ عن أنها كانت في أزمان غابرة ذات وظيفة، فلما أهملت ضمرت، وما بقي منها دالّ عليها، كالزائدة الدودية في أمعاء الإنسان .
( 3 )
الترويج للداروينية ومذهب التطور :
ورأى الملاحدة وأصحاب الفكر المادي في آراء «داروين » أساسًا يمكن أن يدعم مذهبهم، فاتخذوها أساسًا، وأخذوا يروجون لها في ميادين العلم، ويعتبرونها «نظرية » مع أنها لا ترقي في سلم البحث العلمي عن كونها « فرضية » .
وبعد أن أطلقوا عليها زورًا وتزييفًا عنوان « نظرية » أضافوا إليها فكرة جديدة، وهي أن نظرية التطور قادرة على تفسير نشأة الخلق، ونشأة الحياة، من مادة الكون الأولى التي هي سديم غازي، أي سحابة غازية مؤلفة من أدنى الغازات تركيبًا، وأن هذا التطور قد كان تطورًا ذاتيًا، وليس ذا حاجة إلى تدخل خالق ذي قدرة وعلم وحكمة، فالتطور بطبيعته الذاتية قد أجرى هذه التغييرات العظمية التي نشاهدها في الكون وفي أنفسنا .
وانطلقت الأجهزة اليهودية العالمية ضمن خطط مرسومة، تروج لهذه النظرية المدعاة، في أسواق العلم، وفي ميادين الثقافة، وفي أجهزة الإعلام المختلفة، وتمجد بها وبواضعها داروين، وترفعه إلى درجة غير عادية .
( 4 )
هل قدم داروين آراءه مقترنة بإنكار الخالق ؟
الناظر في كتاب « أصل الأنواع » لداروين، لا يلاحظ فيه أن هذا الرجل قد أنكر فيه وجود الرب الخالق جل وعلا .
إنه لم يقرر فيه فكرة التطور الذاتي، ولا التولد الذاتي، بل فيه ما يشعر بأنه فكرة التطور التي يقول بها، إنما هي من القوانين والسنن التي بثها الخالق في المادة .
فهل كان ذلك خطة مداهنة ومصانعة للمؤمنين بالله، حتى لا يثوروا عليه، ويرفضوا آراءه جملة وتفصيلاً، أو كان من المؤمنين بالله إيمانًا نصرانيًا، لاسيما وهو خريج دراسات لاهوتية، إلا أن الملاحدة واليهود قد استغلوا مذهب التطور لتأييد المادية وإنكار وجود الخالق، من وجهة نظرهم .
ونقلاً عن « إسماعيل مظهر » أورد المقتطفات التالية من كتابه « أصل الأنواع ».
1 - جاء في آخر الفصل الخامس منه قوله :
« فإذا اعتقد معتقد بأن أنواع جنس الخيل قد خلقت مستقلة منذ البدء، لما تيسر له أن يثبت اعتقاده إلا بالقول بأن هذه الأنواع قد خلق كل منها وفيه نزعة إلى التغاير، سواء أكان بتأثير الإيلاف أو بتأثير الطبيعة الخالصة ... » .
ثم دفع مزاعم بعض المنكرين لإمكان تطور الأحياء، وعقب عليه بقوله :
« فهم يشوهون صبغة الله وخلقه ».
2 - وجاء في الفصل الخامس عشر منه قوله :
« هنالك مؤلفون من ذوي الشهرة وبعد الصيت مقتنعون بالرأي القائل بأن الأنواع قد خلقت مستقلة. أما عقيلتي فأكثر التئامًا مع المضي فيما نعرف من القوانين والسنن التي بثها الخالق في المادة ... » .
3 - وجاء في آخر كتابه المذكور قوله :(51/484)
« إني أرى فيما يظهر لي أن الأحياء التي عاشت على هذه الأرض، جميعها من صورة واحدة أولية، نفخ الخالق فيها نسمة الحياة، وعلى أن أساس هذه النتيجة المشابهة، فالتسليم بها وعدمه غير جوهريين » .
لكن يوسف كرم ([1]) ذكر أن داروين كان مؤمنًا بالله ثم تطور شيئًا فشيئًا حتى أعلن أسفه لاستعماله لفظ الخلق مجاراة للرأي العام، وصرح بأن الحياة لغز من الألغاز، وذكر أنه وصل إلى مذهبه (لا أدري) فهو لا يقول بالعناية الإلهية ولا يقول بالمصادفة، وأن الكلمة الأخيرة عنده هي « أن المسألة خارجة عن نطاق العقل، ولكن بوسع الإنسان أن يؤدي واجبه ».
الرأي العلمي الأخير في مذهب التطور :
يرى جمهور أهل البحث العلمي المعاصرين، والمشتغلين بعلم الأحياء، أن ما يسمى بنظرية التطور لا يرقى إلى مستوى « النظرية ». بل هو لدى التحقيق لا يزال في مستوى «الفرضية ».
وذلك لأنه لم يوجد حتى اليوم أي دليل واقعي مشاهد ولو معمليًا يرجح صحة الفرضية، ولو بمثال واحد من الأمثلة التي يصح الاعتماد عليها، كأساسٍ للتطور المقرر في النظرية المدعاة أو المتخيلة .
يقول « سير آرثر كيث » في مقال له جاء في كتاب « العلم أسراره وخفاياه » بعنوان: [داروين و « أصل الأنواع » ].
« ويقرر بعض النقاد الحديثين للانتخاب الطبيعي، بأنه لا حول له ولا قوة في إحداث صور جديدة من النبات أو الحيوان ».
وذكر عن بعض النقاد أن كيفية حدوث التطور، أو آلية التطور الموصوفة في كتابه «أصل الأنواع » لداروين، قد تكون كلها خاطئة .
ثم قال: « وإذا كان حقيقة كذلك، فقد يصبح « أصل الأنواع » غير متمش مع الزمن إطلاقًا ».
لكن « سير آرثر كيث » من الذين يستمسكون بمذهب النشوء والارتقاء، وهو مذهب التطور الذاتي، على الرغم من أنه غير ثابت علميًا، وعلى الرغم من أنه لا سبيل إلى إثباته بالبرهان. وذلك لأنه لا خيار له إذا لم يأخذ بمذهب التطور الذاتي، إلا أن يؤمن بالحق الرباني الخاص المباشر، وهو غير مستعد لهذا الإيمان، بعد أن اتخذ لنفسه الإلحاد مذهبًا وعقيدة، لذلك فهو يقول في مكان آخر :
« إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميًا، ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان، ونحن لا نؤمن بها إلا أن الخيار الوحيد بعد ذلك هو الإيمان بالخلق الخاص المباشر، وهذا لا يمكن حتى التفكير فيه » ([2]) .
( 6 )
موضوعات مذهب التطور وموقف المفكر الإسلامي منها :
يتناول مذهب التطور ثلاثة موضوعات :
الموضوع الأول : تطور المادة غير الحية من السديم الغازي، حتى تكونت النجوم والكواكب .
الموضوع الثاني : كيف دبت الحياة في المادة ؟ أو كيف تطورت المادة حتى كانت فيها كائنات ذوات حياة ؟
الموضوع الثالث : كيف وجدت أنواع الأحياء؟، أو كيف تطور بعضها من بعض في سلسلة مرتقية صاعدة، حتى بلغت قمة التطور عند الإنسان .
الشرح :
1 - أما الموضوع الأول، وهو فكرة تطور المادة غير الحية من السديم الغازي، حتى تكونت النجوم والكواكب .
وموقف المفكر الإسلامي من هذا الموضوع فيتلخص بما يلي :
أولاً : إن كان التطور المدعى مقرونًا باعتقاد أن هذا التطور معتمد على خطة رسمها الخالق عز وجل، فهو سنة من سننه، ويتم الأمر بخلقه، فأمر ادعائه سهل، ولا ينبني عليه مناقضة لقضية من قضايا الدين الحق .
والمنهج السليم يحتم علينا أن نترك هذه القضية للبحث العلمي، إذ ليس لدينا في المفاهيم الإسلامية ما يتعارض معها، بل قد نجد ما يلتقي معها نوع لقاء، مثل كون السماء في أول أمرها دخانًا، ومثل كون عرش الرحمن أول الأمر على الماء، ومثل تكامل عملية خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وهي أيام لا ندري مقاديرها، فهي على كل حال ست أحقاب زمنية .
على أن الموضوع لا يعدو من وجهة نظر العلم الصحيح أن يكون افتراضًا نظريًا فكريًا، قد تدل عليه بعض الأمارات التي تسمح بالتخمين، ولا تسمح بوضع نظرية جازمة.
ثانيًا : وإن كان التطور المدعى مرادًا منه التطور الذاتي، أي الذي لا يخضع لخطة خالق عليم حكيم قادر، فهو أمر مرفوض حتمًا، علميًا، ودينيًا، وفلسفيًا .
وذلك لأنه لا يسمح التطور الذاتي، لو أمكن أن يوجد، بإحداث هذه المتقنات العجيبة المترابطة في الكون كله، وليس أمام مدعي التطور الذاتي إلا ادعاء أن هذا الإتقان قد تم على سبيل المصادفة .
وقد أثبت الباحثون الرياضيون وغيرهم أن مثل هذا الإتقان الكوني العجيب من المستحيل أن يكون بالمصادفة، وأقوالهم في هذا كثيرة .
فالمصادفة في أحداث التطور الكوني المدعى مرفوضة علميًا ورياضيًا وواقعيًا، مهما تهرب الماديون من مضايق البراهين العقلية والعلمية، لافتراضات الأزمات السحيقة التي يمكن أن تسمح بمصادفة تصنع متقنًا ما .
يقول « جون أدولف بوهلر » ([3]) :
« عندما يطبق الإنسان قوانين المصادفة لمعرفة مدى احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر الطبيعية، مثل تكوين جزيءٍ واحد من جزئيات البروتين من العناصر التي تدخل في تركيبه، فإننا نجد أن عمر الأرض كلها لا يكفي لحدوث هذه الظاهرة ».
2 - وأما الموضوع الثاني، وهو كيف دبت الحياة في المادة، أو كيف تطورت المادة حتى ظهرت فيها كائنات حياة ؟(51/485)
وموقف المفكر الإسلامي من هذا الموضوع، فيتخلص بما يلي :
إن النصوص الدينية تكشف لنا أن الحياة سر من أسرار الخالق، ونفخة ربانية روحية في المادة .
فالحياة ليست نتاج المادة، بل المادة وعاءٌ لها .
لقد خلق الله جسم آدم من الطين، ولما سواه نفخ فيه من روحيه، فصار إنسانًا حيًا، بعد أن كان مادة ميتة .
وبعد أن يعلق الجنين في رحم أمه، يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح .
وعندئذ تدب فيه الحياة الإنسانية .
وحين أراد الله أن يخرق سنته في خلق عيسى عليه السلام من أم بدون لقاح أب، أرسل إلى أمه مريم الملك، فتمثل له بشرًا سويًا، قالت: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًا، قال: إنما أول رسول ربك لأهب لك غلامًا زكيًا .
وتم تكوين الغلام في بطنها بنفخة كان بها إنسانًا .
قال الله تعالى في سورة (التحريم: 66) :
+ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ".
وحين أعطى الله عيسى عليه السلام معجزة إحياء ما يصنع من الطين على هيئة الطير جعل في نفخته فيها سر الحياة .
مزاعم الماديين :
ويزعم أصحاب الفكر المادي أن الحياة من ظواهر التطور في المادة، فالحياة وما يتبعها من صفات الإحساس والإدراك والفكر والعواطف والانفعالات كلها من ثمرات تطور المادة، وصفات من صفات المادة، متى تركبت بشكل معقد كالشكل الذي ظهرت به الأحياء.
ولا يقدم الماديون لإثبات هذا الادعاء أي دليل عقلي أو علمي، لأنهم لا يملكون شيئًا من ذلك، ولم يستطيعوا بعد كل الجهود التي بذلوها أن يقدموا أي دليل علمي. وما قدموه مجرد تكهن تخيلي، ورغبات يريدون أن يكون الواقع على وفقها، ولكن الحق والواقع لا تصنعه رغبات الناس وأهواؤهم .
كشف الزيف :
هذا الادعاء الذي ادعاه الماديون مرفوض علميًا، من قبل علماء الأحياء أنفسهم .
وذلك لأن القرار الذي انتهى إليه علماء الأحياء بعد تجارب كثيرة ومتنوعة، يجزم بأن المادة الميتة لا يمكن أن تتحول ذاتيًا إلى مادة حية، وأن الحي لابد أن يتولد عن حي أو يشتق من حي .
ولم يستطع العلماء الماديون المتفرغون باهتمام شديد في الشرق والغرب لتخليق أدنى خلية حية وأقلها تركيبًا وتعقيدًا، أن يتوصلوا إلى تخليق مثل هذه الخلية من المادة، دون أن يأتي التخليق من حياة سابقة لها .
فالقرار العلمي الواقعي الأخير: إن الحياة لا تتولد إلا من حياة .
كما كان قد قرر ذلك من قبل، العلماء المؤمنون بالخلق الرباني من علماء الأحياء، مثل: « أغاسيز ». وأخيرًا العالم الفرنسي الشهير « باستور » ([4]) مكتشف جراثيم الأمراض.
ومع ذلك فقد ظل الماديون يرغبون في اعتقاد أن الحياة ظهرت نتيجة تطور المادة تطورًا ذاتيًا، واعتبروا ذلك اعتقادًا فلسفيًا، لأنه لا بدليل بعد رفض هذا الاحتمال إلا بالإيمان بالخلق الخاص المباشر، وهذا أمر يرفضونه، لأنهم لا يريدون الإيمان بخالق غيبي لا يشاهدونه. هكذا اعتباطًا من غير ذلك، على الرغم من أنهم يؤمنون بغيبيات كثيرة يستنتجونها استنتاجًا نظريًا فلسفيًا، دون أن يكون لها شواهد من الواقع المشاهد .
وحين يؤمنون بغيبيات عن حواسهم وأجهزتهم تثبتها لهم استنتاجاتهم النظرية، كصفات الذرة وخصائصها، نجدهم ينكرون على أصحاب الاستنتاجات الفكرية النظرية العقلية، ما توصلهم إليه استنتاجاتهم المتعلقة بغيبيات دينية، حول الخالق عز وجل وصفاته العظيمة .
هذا منهم تناقض مع أنفسهم، يؤمنون بسلامة الاستنتاج العقلي حينًا، ويجحدونه وينكرون على من يستند إليه حينًا آخر .
والمتتبعون للماديين في مجالات العلوم، وفي مجالات الحياة المختلفة، يلاحظون أن الماديين لا ينفكون عن الاعتماد على الاستنتاجات الذهنية العقلية، بل يسرفون أحيانًا إسرافًا شديدًا في الاعتماد عليها، كالاستنتاجات السياسية التي تمس أشخاصهم ومبادئهم ومذاهبهم ومنظماتهم الحزبية والإدارية .
مقولة من العلماء الطبيعيين حول النشوء الذاتي :
جاء في كتاب « التطور عملياته ونتائجه » ([5]) ما يلي :
« لم تعد نظرية النشوء الذاتي تحظى باحترام البيولوجيين، بعد عمل « ريدي » ([6]) و« سبالنزاني ».
ولكن اكتشاف البكتيريا غير ذلك، فهذه كائنات حية أبسط مما كان يتصور فيما مضى، والبكتيريا موجودة في كل مكان، وكان من الصعب جدًا أن لا توجد في أي وسط مناسب لنموها. وقد كان احتمال حدوثها ذاتيًا داخل أي وسط عضوي فكرة كثير من المعضدين المناصرين. (أي: لفكرة النشوء الذاتي) .
ولكن تجارب « باستور » المشهورة قد نقضت ذلك تمامًا، فقد حفظ حساء مغليًا في إناء مقفل لا يدخل فيه الهواء إلا من خلال أنبوبة شعرية ملتوية، لتكون بمثابة مصيدة للجزيئات الصلبة، وبذلك كان الحساء معرضًا للتأكسد لوصول الهواء إليه، ولكن لم تظهر فيه بكتيريا (لأنها علقت في الأنبوبة ولم تصل إليه، فكانت بمثابة مصفاة لها) .(51/486)
ولهذا كان من الواضح أن الهواء الحامل للبكتيريا هو الذي يصيب الحساء المعرض، وأن البكتيريا نفسها قد نشأت فقط من البكتيريا التي سبق وجودها. وقد كانت هذه هي الضربة القاضية على فكرة النشوء الذاتي للكائنات المعقدة .. ».
مقولة مادي مكابر :
وفي مقال بعنوان « أصل الحياة » لجورج والد، وهو مقال جاء في كتاب «العلم أسراره وخفاياه » نجد أن هذا المختص في علم الأحياء قد ظل من الذين يعتقدون فكرة التولد الذاتي للحياة من المادة غير الحية اعتقادًا فلسفيًا، رغم اعترافه بأن تجارب «باستور » عندما أتمها تقوضت أركان عقيدة التولد الذاتي .
ورغم اعترافه هذا قال ما يلي :
« ونحن ننقل إلى المبتدئين في دراسة علم الأحياء هذه القصة لتمثل انتصار العقل على الاعتقاد، وهي تمثل في الحقيقة عكس ذلك تقريبًا .
فالنظرة المصيبة هي الاعتقاد في التولد الذاتي، والبديل الآخر الوحيد لها هو الاعتقاد الخلق الخارق للطبيعة، الذي يعد حدثًا فريدًا وأساسيًا، ولا يوجد بديل ثالث لهما.
ولهذا السبب فقد اعتبر كثير من المشتغلين بالعلوم منذ قرن مضى عقيدة التولد الذاتي ضرورة فلسفية. وإن من أعراض عجزنًا الفلسفي حاليًا أن هذه الضرورة فقدت تقديرها.
وبرغم أن أحدث المشتغلين بعلم الأحياء قد أثلج صدورهم انهيار عقيدة التولد الذاتي، فإنهم ليسوا على استعداد لتقبل العقيدة البديلة لها، وهي الخلق الخاص، ومن ثم فقد فقدوا جميع الاحتمالات .
وإني لأعتقد أنه ليس ثمة اختيار أمام المشتغل بالعلوم سوى أن يتفهم أصل الحياة عن طريق التولد الذاتي » هـ .
التعليق :
هكذا نلاحظ أن القائلين بالتولد الذاتي قد طرحوا مقتضيات الدلائل العلمية، ولجؤوا إلى الاعتقاد الذي أسموه اعتقادًا فلسفيًا، مع أنه لا سند له من العقل، ولا سند له من العلم، كل ما في الأمر أنهم غير مستعدين للإيمان بالخلق الرباني .
لماذا ؟ . ليس لديهم جواب، إلا أن مذهبهم المادي الإلحادي الذي لا دليل عليه من العقل ولا من العلم يفرض عليهم أن يرفضوا قضية الإيمان بالله، ثم لا بديل بعد ذلك إلا الاعتقاد بالتولد الذاتي، إذْ هو الاحتمال الوحيد بعد رفض الإيمان بالله وخلقه للأشياء .
وهكذا يظهر بشكل مفضوح جدًا تهافت القائلين بنشأة الحياة عن طريق التولد الذاتي، ويظهر تعصبهم الأعمى ضد قضية الإيمان بالله الخالق العليم الحكيم القدير .
3 - وأما الموضوع الثالث، وهو كيف وجدت أنواع الأحياء؟، أو كيف تطور بعضها من بعض في سلسلة مرتقية صاعدة، حتى بلغت قمة التطور عند الإنسان؟ .
وموقف المفكر الإسلامي من هذا الموضوع، فيتلخص بما يلي :
نظرة إلى فكرة تطور أنواع الأحياء :
لقد درس « داروين » ومن جاء بعده من الذين نقحوا آراءه أنواع الأحياء، ما كان منها حيًا وقت الدراسة، وما جمعوه من الحفريات التي قاموا بها، وما شهدوه من دفائن القرون الأولى في الصخور والكهوف، وما جمعوه من مخلفات الأحياء في الرمال، وبقايا السيول القديمة، وما استخرجوه من محفوظات الثلوج المتراكمة من أزمان قديمة، فانتهوا إلى حقائق وصفية بنوا عليها تفسيرات احتمالية تخمينية .
وأهم الحقائق الوصفية التي توصلوا إليها ما يلي :
1 - وجود التشابه في خطة بناء الأجسام، وفي سلوك الكائن الحي .
2 - وجود بعض زوائد في بعض الأجسام، كالزائدة الدودية عند الإنسان، دون أن يكون لها وظيفة في جسم الإنسان حاليًا، كما بدا لهم ([7])، وكاستطالة سلسلة الظهر السفلي عند بعض الناس استطالة تشبه بقايا ذيل تقاصر، فهو كما بدا لهم في طريقة إلى الزوال .
3 - تأخر وجود بعض أنواع الأحياء على سطح الأرض عن بعض .
فمن ظاهرة التشابه، ووجود بعض الزوائد التي ليس لها وظائف حاليًا كما بدا لهم، وتأخر وجود بعض أنواع الأحياء عن بعض وفق حساب أعمار أقدم ما اكتشف من أجسامها المدفونة ومتحجراتها، استنتج « داروين » والذين نقحوا فكرة التطور من بعده استنتاجًا فكريًا، أن الكائنات الحية تطورت تطورًا ذاتيًا تصاعديًا، من أدنى الكائنات الحية حتى الإنسان الذي هو أعلاها كمالاً .
وكانت « الأميبا » هي أدنى الكائنات الحية في التصور، ثم جاء التصحيح إلى «الباكتيريا » التي هي أدنى من الأميبا بعد اكتشافها، ثم جاء التصحيح إلى «الفيروس » الذي هو أدنى من الباكتيريا بعد اكتشافه، فالفيروسات في نظرهم الآن تتوسط الحد الفاصل بين الحي وغير الحي .
كشف الزيف :
لكن هذا الاستنتاج استنتاج احتمالي نظري، وليس أمرًا علميًا مؤيدًا بشواهد من الواقع، إذ لم يلاحظ الباحثون في الطبيعة ولا في المختبرات حالة واحدة من حالات التطور المتخيلة في الاستنتاج، لكن التخيل طرح ذلك على الأحقاب الزمنية الغابرة، وتخلص من المطالبة بالشواهد من الواقع .(51/487)
على أن التطور لو ثبت علميًا بشواهد من الواقع في الطبيعة، فإنه لا يفيد أن التطور حدث ذاتيًا، بل النظرة الإيمانية القائمة على ملاحظة الحكمة في الخلق تقدم البرهان على أن خطة الخالق قد رتبت عمليات الخلق وفق سنة التطور، كما رتبت عملية خلق الإنسان وفق أطواره حتى يكون نطفة، فجنينًا، فطفلاً، فيافعًا، فبالغًا أشده، فما وراء ذلك من أطوار.
ومن البدهي أن التشابه في الأنواع المختلفة لا يقتضي النسب بينها، ولا يستلزمه عقلاً، فالأمر يتوقف على ثبوت ذلك النسب بشكل واقعي، نعم قد يكون إحدى الأمارات الضعيفة.
وكذلك تأخر ظهور بعض الأنواع الراقية عن أنواع سابقة لها في الوجود، لا يقتضي أن السابق أب أو جد لما ظهر بعده، إذ الاحتمال الأقرب للتصور أن يكون مبدع النوع الأول قد أبدع بعده النوع الأرقى، ثم أبدع بعد ذلك الأرقى فالأرقى، ثم أبدع أخيرًا الإنسان.
وهذا ما نلاحظه في سلسلة المبتكرات والمخترعات الإنسانية، فاللاحق كثيرًا ما يكون وليد فكر المبدع ونتاج عمله، بالاستناد إلى ملاحظته للسابق، وليس ثمرة التطوير للسابق نفسه في واقع العمل، بحذف شيء منه وإضافة شيء إليه، فالعملية تكون عملية فكرية، ويأتي التطبيق الواقعي غالبًا بناءًا جديدًا .
ومهما يكن من أمر فالاحتمالات أمران متكافئان إمكانًا، بشرط ربط كلٍ منهما بأنه مظهر لاختيار مدبر خالق حكيم .
أما التطور الذاتي إلى الأكمل دون تدبير حكيم عليم قدير خالق، فهو أمرٌ مستحيل عقلاً، إذ الناقص لا ينتج الكامل في خطةٍ ثابتة، وهو بمثابة إنتاج العدم للوجود .
وإحالة الأمر على المصادفة إحالة على أمر مستحيل علميًا ورياضيًا في عمليات الخلق الكبرى .
وقد قرر أصحاب فكرة التطور أزمانًا سحيقة لظهور الكائنات الحية المتطورة، ثم لظهور الإنسان الأول، واعتبروا هذه الأزمان كافية نظريًا لحدوث التطور .
إلا أن علماء الفيزياء والجيولوجيا قد أظهروا منذ عام (1950م) وما بعده عدم صحة ما حدده أصحاب مذهب التطور من أزمان سحيقة، فعمر الحياة في الأرض أقصر من تقديرهم بكثير، وعمر الأرض أيضًا أقل مما قدروه بكثير، فما يلزم في رأيهم للتطور الذاتي من زمن غير متوافر في الواقع مطلقًا .
واعترف بذلك القائلون بالتطور أنفسهم، فقد جاء في مقال بعنوان «نظرية التطور منقحة » بقلم « روث مور » بكتاب « العلم أسراره وخفاياه » :
« منذ عام (1950م) والشواهد العلمية تشير بلا مهرب منه إلى حقيقة واحدة، هي أن الإنسان لم يظهر سواء في الوقت أو بالطريقة التي يقول بها «داروين » وعلماء التطور الحديثون، فلقد أظهر علماء الفيزياء والجيولوجيا منذ عام (1950م) بوضوح أن العالم أقدم، وأن الإنسان أصغر سنًا كثيرًا عما اجترأ أي واحدٍ على تقديره من قبل ... » .
ونظيره قول « جون أدولف بوهلر » الذي سبق عرضه في هذا الفصل.
بعد هذا أقول :
إن فكرة التطور لو ثبتت علميًا فإننا لا نجد في الإسلام نصوصًا ترفضها، ما دام الأمر راجعًا إلى حكمة الله الخالق وتقديره، باستثناء خلق الإنسان الذي جاء في القرآن والسنة وصف صريح حول الطريقة التي تم بها خلقه، فهي طريقة ظاهرها ينافي أن يكون الإنسان متطورًا من سلسلة الحيوانات التي يه دونه في الخلق .
لكن يبدو أن من المتعذر أن تثبت فكرة التطور علميًا، فهي ستظل في دائرة الاحتمال الإفتراضي، والله أعلم .
على أن القرآن الكريم قد وجه للسير في الأرض والبحث فيها لمعرفة كيف بدأ الله الخلق، فقال الله عز وجل في سورة (العكنبوت) :
+ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) ".
ولابد أن يكون هذا النظر هاديًا، إلى دلائل الإيمان بالله الخالق، لا إلى عكس قضية الإيمان .
( المرجع : " كواشف زيوف " للأستاذ عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني ، ص 317-332) .
--------------------------------------------------------------
([1] ) انظر: كتابه « تاريخ الفلسفة الحديثة » ص354 - 355 .
([2] ) انظر: كتاب « صراع مع الملاحدة » للمؤلف .
([3] ) عن كتاب « الإنسان في الكون » للدكتور : عبدالعليم عبدالرحمن خضر .
([4] ) هو لويس باستور أو (باستير). عاش ما بين (1822- 1895م). كيميائي فرنسي. أدت تجاربه على البكتيريا إلى القضاء على فكرة التولد الذاتي، كما أدت بحوثه في النبيذ والخل والجعة إلى نشوء البسترة، فالمأكولات والمشروبات المبسترة، أي: المحفوظة من تسرب البكتيريا إليها، تسمى مبتسرة نسبة إلى مكتشف الطريقة « باستور ». من أعماله أنه حل مشكلات التحكم في دود الحرير، وكوليرا الدجاج، ونمّى التطبيق الفني لعملية التطعيم ضد مرض الجمرة، وبعد ذلك ضد داء الكلب.
([5] ) تأليف « اداورد . أو . دودسن » ترجمة: « د. أمين رشدي حمدي. ود: رمسيس لطفي ».(51/488)
([6] ) هو : فرانشيكو ريدي. عالم طبيعي إيطالي، من رجال القرن التاسع عشر الميلادي. ساعد على دحض فكرة التولد الذاتي عن طريق تجارب محكمة، بينت أن كائنات حية معينة - لاسيما يرقات الذباب في اللحم النتن - لا تنشأ إلا عند تكاثر كائنات حية شبيهة بها .
([7] ) أثبت الطب حديثًا أن الزائدة الدودية ذات وظيفة في جسم الإنسان، وهي جهاز لمفاوي مناعي في البطن كغيره من أجهزة المناعة في جسم الإنسان لذلك تدعى باسم « لوزات البطن ».
=============(51/489)
(51/490)
سلسلة كشف الشخصيات (14) : دوركايم
بقلم سليمان الخراشى
دوركايم وآراؤه في علم الاجتماع
( 1 )
من هو دور كايم - أو دورك حاييم ؟
هو «إميل دوركايم» يهودي فرنسي، عاش ما بين (1858 - 1917م) تخصص في علم الاجتماع. قالوا: وقد صار رائد علم الاجتماع بعد « كونت » ([1]). كان أستاذًا بالسوربون. وتأثر اتجاهه في علم الاجتماع بفلسفة « كونت » الوضعية. وكان له أولاً تابعًا، ثم صار له ناقدًا .
عزا على العقل المشترك للمجتمع (العقل الجمعي) أصل الدين والأخلاق، وكذلك بعض التصورات الأساسية كالزمان والمكان .
من مؤلفاته: 1 - « تقسيم العمل في المجتمع » الصادر عام (1893م) .
2 - « قواعد المنهاج الاجتماعي » الصادر عام (1895م) .
3 - « الانتحار » الصادر عام (1897م) .
4 - « الأشكال الأولية للحياة الدينية » الصادر عام (1912م) .
5 - « التربية والاجتماع » ... وغيرها .
( 2 )
دوافع آرائه في علم الاجتماع :
يظهر أن حال « دوركايم » كحال « فرويد » من قبله، وأن القيادات اليهودية السرية قد دفعته لإيجاد أفكار في مجال تخصصه، وهو علم الاجتماع، من شأنها تنفيذ المخطط اليهودي العام الرامي إلى هدم أسس الدين والأخلاق في مختلف الأمم والشعوب .
وبوسائل مختلفة متعددة وكثيرة، دعمت الدعاية وأجهزة الإعلام اليهودية رجلها الموجه «دوركايم » ورفعته إلى مرتبة غير عادية، حتى صار عند المؤرخين رائد علم الاجتماع بعد « كونت » وأمسى رئيس المدرسة الاجتماعية الفرنسية .
( 3 )
ما يُهمنا مناقشته من آرائه وأفكاره في علم الاجتماع :
أراد « دوركايم » أن يهدم الدين والأخلاق من جذورهما، فأقام أولاً فلسفة العقل الجمعي، إذ زعم أن العقل المشترك للمجتمع هو الموجه لكل فرد فيه، وهو المكون لأفكار الأفراد، ومذاهبهم، وعاداتهم، ومفاهيمهم، وذلك عن طريق إلزام المجتمع للفرد، بما يحيطه به من قوة اجتماعية ضاغطة .
وفكرة « دور كايم » في قضية « العقل الجمعي » وأن المجتمع هو الكيان الإنساني، قد قدمت للشيوعية أساسًا من أسس مذهبها الاقتصادي، إذ تولي المجتمع الأهمية العظمى نظريًا، مضحية بمصالح الأفراد وطموحاتهم، وإن كانت في تطبيقاتها تسخر النظرية أو مبادئ المذهب، لخدمة المصالح الخاصة لأفراد الحزب ولقياداته، كل بحسب أهميته في الحزب.
وزعم « دوركايم » بناءً على أفكاره وآرائه التي أعطاها زورًا وتزييفًا اسم «نظرية » أنّ عناصر التفكير وأسس المعرفة العقلية نفسها ما هي إلا صور ولدتها حياة الجماعة، وطبعتها على غرار النظم الاجتماعية .
ولما كانت غاية « دوركايم » تأسيس المعرفة وكلّ ظواهر الوجود على مذهب الإلحاد بالله، ودعم المنظمات اليهودية، أو التي يسيطر عليها أو يوجهها اليهود، والتي من مخططاتها قيادة الجماهير، وهي معطلة أفكارها الخاصة، فقد اتجه إلى التركيز عن طريق دراساته في علم الاجتماع على عدة أمور :
1 - الإصرار على تفسير أية ظاهرة اجتماعية تفسيرًا ماديًا، لا يعترف بالله ولا بأية قوة غيبية، أو موجودات وراء العالم المادي .
2 - ابتكار فكرة « العقل الجمعي » الذي يسيطر على الجماعة دون إرادة منهم ولا تفكير، فهو يحركهم كما يحرك راعي القطيع من الأنعام قطيعه .
وتعريف العقل الجمعي عنده: أنه شيء موجود خارج عقول الأفراد، وهو ليس مجموع عقولهم، ولا يشترط أن يكون موافقًا لعقل أحدٍ منهم، ولا لمزاجه الخاص، وهو يؤثر في عقول جميع الأفراد من خارج كيانهم، وهم لا يملكون إلا أن يطيعوه، ولو على غير إرادة منهم.
وهو دائم التغير، يحل اليوم ما كان قد حرمه بالأمس، أو يحرم ما كان قد حله، دون ضابط، ولا منطق معقول .
فلا يمكن بمقتضى سلطان « العقل الجمعي » المتغير تصور ثبات شيء من القيم إطلاقًا، فلا الدين ولا الأخلاق ولا سائر القيم لها ثبات، بل هي متغيرات، بسلطان العقل الجمعي الذي لا سلطان للمجتمع البشري عليه، ولا حول لهم ولا قوة معه .
وادعاء وجود قيم ثابتة مجردة ادعاء ليس له أساس عقلي أو علمي .
وبكفرة « العقل الجمعي » التي اخترعها « دوركايم » سلب الناس حرياتهم الفردية، وجعل سلوكهم في الحياة سلوكًا جبريًا، لا حول لهم فيه ولا قوة ولا اختيار، ولكنها جبرية ليست من قبل خالق قادر مهيمن، كما يزعم الجبريون في الدين، وإنما هي من قبل وهم غير معروف الصفات سماه « العقل الجمعي » .
3 - التركيز على إلغاء الفطرة الإنسانية النزاعة إلى الإيمان بالله وإلى عبادته، وإلى فضائل الأخلاق، وإلى بناء الحياة الاجتماعية الأولى على نظام الأسرة القائم على الزواج وضوابطه .
وفي هذا يقول :
« كان المظنون أن الدين والزواج والأسرة هي أشياء من الفطرة، ولكن التاريخ يوقفنا على أن هذه النزعات ليست فطرية في الإنسان » .
وهكذا ألغى الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، والموجودة نوازعها فيهم قديمًا وحديثًا وإلى أن ينقرض هذا النوع البشري. ولم يكلف هذا الإلغاء « دوركايم » إلا أن يقدم أدعاء كاذبًا يحيله على التاريخ الذي عثر هو وحده عليه .(51/491)
4 - تفسير ظاهرتي الدين والأخلاق في المجتمعات الإنسانية بأنهما وليدتا أسباب اجتماعية فقط، وليس لهما سند عقلي أو علمي، وليس لهما دوافع فطرية في النفس الإنسانية.
وقد مهد « دوركايم » لمذهبه الباطل الفاسد المفسد هذا بتقديم جملة مقدمات ([2]) :
أهم هذه المقدمات أن خير وسيلة لتفسير ظاهرة معقدة، كالظاهرة الدينية، أن ندرس في بداية نشأتها، قبل أن تخالطها عناصر غريبة عنها، وأن ذلك إنما يكون بدراسة بيئات الأمم «البدائية ».
والأمم البدائية في نظر « دوركايم » هي تلك الأمم التي لا تتميز فيها الأسر الخاصة بخاصية مستقلة، بل تقوم على نظام القبائل، والفصائل، والعشائر .
قال: ومن المعروف أن العشائر - وهي النواة الصغرى في تلك المجتمعات - قوامها وحدة اللقب المشترك بين أفرادها، وهو لقب يشتق في الغالب من اسم حيوان، أو نبات، وفي النادر من اسم عنصر جمادي، أو كوكب من الكواكب .
وتعتقد العشيرة أنّ لها بمسمّى هذا الاسم صلة قديمة، حيوية أو روحية، أي: «إما على أنها تسلسلت عنه، أو أنه كان حليفًا أو حارسًا لجدها الأعلى، أو نحو ذلك ».
فالعشيرة لذلك تعظمه، وترسم صورته على مساكنها، وأدواتها، وأسلحتها، ورواياتها.
بل يتخذ الأفراد منه وشمًا يطبعونه على أجسامهم، كأنه بطاقة شخصية لتحقيق انتساب كلٍ منهم إلى عشيرته .
هذا النظام يسمى بنظام « التوتم = الطوطم » ([3]) أو اللقب الأسري. وهو نظام معروف في الشعوب القديمة: «المصرية، والأثيوبية، والعربية، واليونانية والرومانية، والغالية » وتوجد آثار منه في الأساطير الشعبية في أوروبا الآن، ولا يزال منتشرًا في القبائل غير المتحضرة في أمريكا واستراليا .
ويرى « دوركايم » أن استراليا أخصب مكان لدراسة هذه الظاهرة، لأن سكانها أقل تطورًا، وأقرب إلى الطبيعة الأولى من غيرهم، ولذلك استمد منها الواقع التي بنى عليها أفكاره في مسألة نشأة الدين والأخلاق .
وخلاصة هذه الوقائع أن تلك القبائل في تعظيمها لألقابها تعظم في الوقت نفسه مسمى تلك الألقاب .
ولما كان الاسم مشتركًا بين الحيوان والجد الأعلى وأفراد العشيرة، وكانت هذه الصلة بين هذه المعاني الثلاثة في نظرها صلة تجانس تام، ترجعها إلى جوهر واحد، شمل التعظيم ثلاثتها، لكن الخط الأكبر من التعظيم يدخرونه لهذا الاسم المشترك، أو لتلك الصورة الجامعة، وهو الوسم، أو الوشم .
حتى إنهم نسبوا إلى هذه الصورة خصائص عجيبة، فزعموا أن الذي يحملها ينصر في الحرب على أعدائه، ويوفق في تسديد السهم إلى رميته، وزعموا أن وضعها على القروح يسرع في التئامها، إلى غير ذلك .
ويرى « دوركايم » أن هذا التعظيم في العادة، لا يصل إلى درجة العبادة، ولا يوحي فكرة التدين والتقديس والتأليه، ولذلك يقضون جل أوقاتهم في حياة فاترة، كل يسعى لقوته منعزلاً في الجبل للاحتطاب، أو على شاطئ البركة للصيد، وليس لهم مظهر من مظاهر التدين في هذه الأحوال العادية، سوى التورع عن بعض المحظورات .
وإنما يأخذ التدين حقيقته ومظهره التام عندهم في مواسم خاصة، تقام فيها الحفلات المرحة الصاخبة، التي يطلقون فيها العنان لحركاتهم العنيفة، وصيحاتهم المنكرة، على إيقاع الطبول، ولحن المزامير، وقد ركزوا السارية التي تحمل علم العشيرة في سرة الحفل، فينتهي بهم هذا الحماس الصاخب إلى الذهول والهذيان، بل يفضي بهم إلى انتهاك سياج المحرمات الجنسية، التي يحترمونها في العادة أشد الاحترام .
وربما نسبوا هذا التطور العجيب إلى حضور سر الأجداد فيهم عن طريق هذا الرمز، وعباداتهم للروح التي يرمز إليها، ظنًا منهم أنها هي التي أحدثت فيهم هذا التحول الروحي الغريب .
بعد أن يعرض « دوركايم » هذا يقول: ها هنا، وها هنا فقط، تتدخل النظرية لكشف الغشاوة عن أعينهم، وتنبههم إلى ما حدث من تحول شعورهم عن منبعه وهدفه الحقيقيين، وأنهم إذا كان يتوجهون بعبادتهم لمصدر هذا الأثر الجديد، فليعلموا أنه ليس هو النصب، ولا ما يرمز إليه النصب، وإنما هو هذا الاجتماع الثائر نفسه، فإن من طبيعة هذه الاجتماعات أن تنسلخ النفوس عن مشخصاتها الفردية، وتنمحي كلها في شخصية واحدة، هي شخصية الجماعة .
وهكذا يكون الاجتماع هو مبدأ التدين، وغايته، وتكون الجماعة إنما تعبد نفسها من حيث لا تشعر .
( 4 )
كشف الزيف :
أولاً : أما إصراره على تفسير أية ظاهرة اجتماعية تفسيرًا ماديًا قائمًا على إنكار الخالق جل وعلا، فلا داعي هنا لتخصيصه بمناقشة تكشف فساد مذهبه من هذه الناحية .
فقد أفردت بحثًا خاصًا في هذا السفر لمناقشة الملاحدة الماديين، فهو في المذهب المادي الذي يتبناه يدخل في عمومهم. وكشف زيوفهم جميعًا هو لزيف كل واحد منهم .
ثانيًا : وأما اختراعه لفكرة « العقل الجمعي » فهو تخيل خرافي مجرد من أي دليل عقلي أو علمي.(51/492)
وللإيهام بوجود شيء اسمه « العقل الجمعي » استغل « دوركايم » ظاهرة موجودة لدى الجماهير، حين تتحكم بها الحركة الغوغائية، لدى سيرها في موكب جماعي، أو لدى اشتراكها في عمل جماهيري، أو لدى تأثرها بعاطفة مشتركة أو انفعال طارئ، إذ يعطل أفرادها عقولهم، اتكالاً على الجماهير المندفعة في المسيرة الغوائية. وهكذا يفعل كل واحد منهم، فيعطل فكره، ويتكل على الجماهير .
أما واقع الأمر فإن مسيرة الجماهير تكون مسيرة تقليدية اتكالية تبعية، وقائدها الحقيقي ربما يكون رجلاً واحدًا صاحب قوى، أو رجلاً انفعاليًا أرعن، أو مجموعة متحزبة لها مصلحة من استغلال الجماهير المندفعة .
وحين تسلب الجماهير إرادتها الخاصة، وتتعطل أفكارها بإلقاء كل واحد منهم التبعة والمسؤولية على الجمع الغير سواه، فلابد أن تكون الحصيلة أن الجميع يسيرون بلا إرادة، وبلا تفكير، وبلا عقل .
فإذا انفصل كل واحد منهم عن المسيرة الغوغائية عاد إليه رشده، وعادت إليه إرادته، ونظر إلى الجماهير المندفعة اندفاع القطيع، فاستخف اندفاعها الغوغائي، وتعجب من نفسه كيف كان واحدًا من أفراد هذا الجمع المندفع .
استغل « دوركايم » هذه الظاهرة الجزئية، التي لا ترجع مطلقًا إلى ما أسماه «دوركايم» بالعقل الجمعي، الذي هو - كما زعم - خارج عقول الأفراد، وله سلطان جبري على الناس. وإنما ترجع إلى توهم كل فرد من الجماعة بأن الآخرين يعملون عقولهم، فيتكل عليهم، فيعطل عقله وإرادته، باعتبار أن الموضوع يتعلق بمصلحة الجميع لا بمصلحته وحده، وإذ يدور هذا التوهم على كل الأفراد فإن حصيلة عقول الجميع وإراداتهم تكون في الغالب صفرًا أو عددًا يسيرًا .
وعندئذٍ تكون نزوة البعض هي الحاكمة، أو يتسلل فيهم ذو هوى شيطان فيستغل قوتهم واندفاعهم الغوغائي، لتحقيق ما يريد هو .
إن « دوركايم » اليهودي، باختراعه فكرة « العقل الجمعي » وجعلها ظاهرة إنسانية، أو حقيقة من الحقائق المهيمنة على الوجود الإنساني، قد أراد تهيئة جماهير الشعوب وهي معطلة عقولها وإرادتها، كي تستسلم تلقائيًا لشياطين اليهود، حتى يلعبوا فيها كما يريدون.
فمغالطته في هذا الموضوع تعتمد على عنصرين :
الأول : تفسير الظاهرة بغير ما يصح أن تفسر به، لخدمة أهدافه. وتفسيره هنا تفسير خرافي .
الثاني: تعميم الظاهرة الجزئية على كل السلوك الإنساني .
وهذا العنصران هما من العناصر التي تتكرر في معظم المغالطات المندسة في العلوم.
* * *
ثالثًا : وأما تركيزه على إلغاء الفطرة الإنسانية، النزاعه إلى الإيمان بالله وإلى عبادته، وإلى بعض فضائل الأخلاق، ونحو ذلك، فهو يعتمد على ثلاثة عناصر :
الأول : الإنكار بدون دليل .
الثاني : إغفال أو طمس الأدلة التي تدل على وجود هذه الفطرة، وهي الأدلة المقتبسة من الظواهر الإنسانية، ومن استقراء مشاعر الناس، في مختلف الأمم والعصور .
الثالث: إيجاد تعليلات مخترعة تخيلية، لظواهر التدين في الناس، والظواهر الخلقية المجيدة، وإلباس هذه التعليلات رداء منجزات علمية تزويرًا وتزييفًا، وادعاء أنها مما توصل إليه البحث العلمي السليم، الذي بنيت عليه أصول الحضارة الحديثة .
* * *
رابعًا : وأما تفسير « دوركايم » لظاهرتي الدين والأخلاق في المجتمعات الإنسانية، بأنهما من قبيل عبادة الجماعة لنفسها، وما يلزم عن هذه العبادة .
وهو ما سبق شرحه، إذ ساق قصة القبائل البدائية، وما لديها من اللقب الأسري «الطوطم » وما يكون لدى هذه القبائل من تعظيم له حتى مستوى العبادة .
فآراؤه في هذا التفسير آراء خرافية خيالية، شبيهة بالأفكار الخرافية الخيالية التي فسر بها «فرويد » بعض الظواهر الإنسانية، بغية دعم المخطط المرسوم لهدم الدين والأخلاق ونشر الإباحية .
ولا يحتاج الباحث المتأمل جهدًا كبيرًا، حتى يكشف الزيف الذي اشتملت عليه آراء «دوركايم » في هذا الموضوع .
وفيما يلي كواشف زيفه :
الكاشف الأول : إن اعتباره الظاهرة الخليعة الماجنة التي وصفها ظاهرة تدينية أمر مرفوض تمامًا .
إذ هو احتمال واه ضعيف جدًا، والأولى اعتبارها ظاهرة قبلية أو قومية، أو لونًا من ألوان الترفيه الذي يمارسه الناس جميعًا في أفراحهم وأعيادهم ومجالس سمرهم، ومناسبة للتنفيس عن بعض الرغبات الحبيسة، والاستمتاع بالمرح واللهو، والتخلص من القيود الاجتماعية والدينية .
الكاشف الثاني : إن تفسير « دوركايم » الظاهرة التي وصفها بأنها من قبيل عبادة الجماعة لنفسها، هو تفسير توهمي لا أساس له ولا سند، ووضع شعار القبيلة في وسط الاحتفال لا يعني أنهم يعبدون هذا الشعار الذي يرمز إلى ذواتهم بحسب تصوره .
الكاشف الثالث : زعم « دوركايم » أن القبيلة التي وصفها ووصف أعمالها وممارساتها هي أكثر القبائل الاسترالية بدائية، فهي أصلح من غيرها لتفسير ظاهرتي الدين والأخلاق، زعم يكذبه الواقع .(51/493)
بدليل أن «روبرت شميث » وهو من كبار الباحثين الذين قاموا بدراسات شخصية دقيقة في استراليا، يقرر أن القبائل التي ذكرها « دوركايم » هي أحدث القبائل الاسترالية، وأكثرها تقدمًا، وأن أقدم قبائل استراليا هم سكان جنوبها الشرقي، وهؤلاء لا يعرفون نظام الألقاب الحيوانية (التوتم) وفي الوقت نفسه توجد عندهم عقيدة « الإله الأعلى » بصفة واضحة .
الكاشف الرابع: أهمل «دوركايم » المعتقدات والعبادات والأخلاق والعادات، والنظم، ومنها نظام الزواج، وهي الأمور التي يتألف منها هيكل الحياة الشعبية للقبائل التي اعتمد عليها، في بناء آرائه التي قدمها .
ثم أخذ الصورة الشاذة التي وصفها، وجعلها دون دليل مظهرًا لحقيقة الدين عند هذه القبائل التي وصف ممارستها، في بعض احتفالاتها النادرة .
فقد وصف «دوركايم » نفسه القبائل التي اعتمد عليها وصفًا يدل على أنها قد قطعت أشواطًا واسعة، في نظامها المدني والاقتصادي، وذلك فيما لديها من قواعد الزواج، والنسب، والملكية، وتنظيم مواسم الصيد، وغيرها .
يضاف إلى هذا أن نظام التسمية وحده يحتاج في إنشائه وتثبيته إلى عصور متطاولة، لتتواضع عليه القبائل جيلاً بعد جيل. لذلك عد الباحثون نظام «الطوطم » نظامًا مدنيًا، قضائيًا، أكثر منه نظامًا دينيًا .
بل إن الباحثين المتتبعين «لانج » ([4]) و «فريزر » ([5]) لم يريا فيه عنصرًا دينيًا البتة. وقررا أن فكرة الدين والألوهية تكونت في هذه القبائل بعيدًا عن نظام اللقب الأسري (الطوطم) .
فمغالطة « دوركايم » قائمة على عنصرين :
1 - تفسير فاسد من جهة .
2 - وتعميم فاسد من جهة ثانية .
الكاشف الخامس: إن «دوركايم » نفسه يعترف بأن عددًا من قبائل استراليا قد وصلوا إلى فكرة « الإله الأعلى » أو «الإله الأحد »، وأنه كائن أزلي أبدي تسير الشمس والقمر والنجوم بأمره، وأنه هو الذي يثير البرق، ويرسل الصواعق، وإليه يتوجه في الاستسقاء وطلب الصحو، وهو الذي خلق الحيوان والنبات، وصنع الإنسان من الطين، ونفخ فيه الروح، وهو الذي علم الإنسان البيان، وألهمه الصناعات، وشرع له العبادات، وهو الذي يقضي في الناس بعد الموت، فيميز بين المحسن والمسيء .
ثم يقرر «دوركايم » نفسه، أن هذه العقائد كلها ليست مقتبسة من أوروبا، كما ظن «تيلور » ([6]) بل إنها قديمة في هذه القبائل، قبل أن يصل إليها المبشرون الأوروبيون. وأنهم يعبرون عن هذه العقائد بعبادات حقيقية، ترفع فيها الأيدي إلى السماء بالدعاء .
هنا نلاحظ أن «دوركايم » أهمل النظر إلى هذه الحقائق التي ذكرها، واعتمد على تفسيرات وهمية سماها هو عبادة، وهي لست من العبادة في شيء، وقد فعل ذلك ليستكمل صناعة المذهب الذي اخترعه، وأحدث فيه فكرة « العقل الجمعي ».
الكاشف السادس: لو افترضنا جدلاً صحة ما ادّعاه «دوركايم » فإنه لا يستلزم أن يكون الدين ظاهرة اجتماعية بحتة .
وذلك لأن الدين يشتمل على عناصر شخصية فردية تمامًا، تكون بين الفرد ومعبوده، ويشتمل أيضًا على عناصر اجتماعية .
ولئن كان يمكن للعناصر الاجتماعية أن تكون في بعض أحوالها ظاهرة اجتماعية يقوم بها الفرد عن طريق الإلزام الجمعي، دون أن يكون له اختيار في تكوينها، فإن العناصر الشخصية الفردية تأبى بطبيعتها أن تكون إلزامًا جمعيًا .
وهذا ما استدرك به أنصار آراء « دوركايم » عليه .
إن كل فرد متى خلا لنفسه وشعر بحاجاته وضروراته، وأعوزته الوسائل المادية، تيقظت فطرته الدينية، فلجأ إلى القوة الخالقة الغيبية، التي يرى آثار قدرتها وحكمتها، ولا يشاهد ذاتها، وهنا تكمن الفطرة الدينية في نفوس الناس .
الكاشف السابع : لو كان الدين بما اشتمل عليه في الأديان الربانية، أو الدين الرباني المنزل على الرسل، وبما فيه من سمو ومعارف عظيمة، ثمرة أسباب اجتماعية لا غير، لكانت العلوم، والفنون، والآداب، ومنجزات الحضارات الإنسانية، ثمرة أسباب اجتماعية أيضًا. ولما كان للنبوغ الفردي في أشخاص العباقرة، والمبتكرين، والمخترعين، ومكتشفي قوانين الكون، الذين اعتزلوا مجتمعاتهم للبحث والتأمل، دورٌ فيما أنجزوه، ولكانت أعمالهم ثمرة العقل الجمعي الذي ادعاه «دوركايم » مع أن الواقع بخلاف ذلك تمامًا .
الكاشف الثامن : إن دراسة ظاهرة الدين بالاستناد إلى دوافع الفطرة التي تتفجر عند صفائها، وعند ضروراتها، هي الدراسة التي تكشف بحق أصول الدين في النفوس الإنسانية.
ثم إن دراسة ظاهرة الدين بالاستناد إلى واقع الأديان الكبرى، وما اشتملت عليه من اعتماد على ظاهرة الوحي، الذي يبلغه رجال ممتازون من الناس، متحلون بصفات تؤهلهم لأن يكونوا رسلاً مصطفين من عند الله، هي الدراسة المنهجية السديدة التي يجب اتباعها، ويقضي الإنصاف العلمي باتخاذها منهجًا .
وتفسير قضية الإيمان بالله واليوم الآخر، بأنها قضية منطق العقل ودوافع الفطرة، هو التفسير الذي يتلاءم مع واقع الإنسان المزود بالكمالات الفكرية والوجدانية .(51/494)
وهكذا تكمن المغالطة التي اعتمد عليها «دوركايم » في التفسير الفاسد لظاهرة اجتماعية شاذة، لدى بعض القبائل التي ادعى - على خلاف الواقع - أنها أكثر القبائل بدائية، وفي التعميم الفاسد الذي اعتبر فيه بعض القبائل البدائية مستندًا للحكم على الناس أجمعين، بما فيهم الذين بلغوا أرقى مستوى حضاري عرفته البشرية حتى يوم الناس هذا.
فهل فيما استند إليه « دوركايم » ما يصلح مستندًا لدى أيّ ذي فكر قويم؟
الواقع أن «دوركايم » قد خالف كل أصول وقواعد منهج البحث السليم، التي يعرفها ولا يجهلها، ليدعم أفكارًا وضعها سابقًا نصب عينيه، وحاول أن يجد لها ما يؤيديها، ولو كان وهمًا وخرافة .
( 5 )
تعليق :
يبدو أن الفكر اليهودي مستخف استخفافًا مسرفًا بعقول الأمم والشعوب غير اليهودية، مهما بلغت ثقافاتها ومعارفها .
لذلك فهو يرى أن الأوهام والتخيلات السخفية متى وضعت في قالب مزخرف، وسميت علمًا، تلقفتها هذه العقول، وأخذتها بقبول حسن، واعتقدتها على أنها حقائق .
وشجع اليهود على هذا الاستخفاف وجود من يستجيب لهم، ويتقبل أفكارهم وخرافاتهم، ووجود من يستأجرونه ليقوم بخدمة أغراضهم، وترويج سخافاتهم وضلالاتهم.
( المرجع : " كواشف زيوف " للأستاذ عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني ، ص 333-346) .
-----------------------------------------------------------
([1] ) هو « أوجست كونت » عاش ما بين (1798- 1857م). فيلسوف فرنسي، مؤسس الفلسفة الوضعية التي ترفض الميتافيزيقيا، وتعتمد على نتاج العلوم الطبيعية الحديثة. مذهبه مبسوط في كتابه «محاضرات في الفلسفة الوضعية ». وفيه يزعم أن المراحل التي اجتازها الفكر في تطوره ثلاث: 1-اللاهوتية، وهي التي تعلل الأشياء بقوى خارقة. 2- الميتافيزيقية، وهي التي تعلل الأشياء بمبادئ مجردة. 3- الوضعية، وهي التي تعلل الأشياء بالمشاهدة والتجارب تأييدًا للفروض .
ويرى أن العلوم تتفاوت بساطة وتركيبًا، فأبسطها الرياضة، فالفلك، فالفيزيقية، فالكيمياء، فعلم الاجتماع، وكل منها يعتمد على سابقه، والاجتماع يعتمد عليها جميعًا، وكلها في خدمته .
([2] ) انظر: كتاب « الدين » للعلامة د. محمد عبدالله دراز .
([3] ) تعريف « التوتم » في الموسوعات يتخلص بما يلي : هو حيوان يرتبط باسم العشيرة، عند الشعوب البدائية، لاسيما أهالي استراليا الأصليين، ويعتبر لحمه محرمًا على أفرادها الذين يعتقدون أنهم انحدروا منه. ويحملون لذلك اسمه، مثل عشيرة « القنغر ». وبعض العشائر تتخذ طوطمها من النباتات أو من الكائنات المادية. ويحرم النظام الطوطمي قيام صلات جنسبية بين أفراد الطوطم الواحد، لأنهم إخوة وأخوات، لانحدارهم من طوطم واحد، ولذا كان الزواج الداخلي محرمًا. وينتشر النظام الطوطمي في استراليا، وميلانيزيا، وشمال أمريكا. ولا توجد نظرية واحدة مقبولة عن أصل ذلك النظام .
ولفظ « التوتم » مأخوذ من لغة الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، ولم يتم الاتفاق بين الباحثين على ضبط لفظه، ولا على تحديد معناه .
([4] ) هو أندرو لانج (1844 - 1912م) بحاثة أسكتلندي. تعلم بجامعات «سنت أندروز » و«جلاسجو» و «أكسفورد ». واشتغل بالأدب، ونظم الشعر الرقيق في القوالب الفرنسية .
([5] ) هو جيمس بيلي فريزر (1783- 1856م) رحالة ومؤلف أسكتلدني. طوف في تيبال عام (1815م). وشارك في بعثتين إلى إيران. كتب وصفًا لرحلاته، وصف فيها مواضع ندر أن زارها الأوروبيون .
([6] ) هو أدوار تايلور. عالم أديان بريطاني. صاحب المذهب الحيوي. يقول: أصل العقيدة الإلهية عبادة أرواح الموتى. له كتاب « الحضارة البدائية » مطبوع سنة (1871م). يرى أن الاعتقاد في الأرواح الفعالة يستند إلى تجارب مباشرة في البيئة الإنسانية .
===============(51/495)
(51/496)
سلسلة كشف الشخصيات (15) : سارتر
بقلم : سليمان الخراشى
سارتر وآراؤه الفلسفية في الوجودية
( 1)
من هو سارتر ؟
هو « جان بول ساتر » يهودي فرنسي، فيلسوف وأديب. من فلاسفة القرن العشرين المعاصرين، ولد سنة (1905م) بباريس ومات سنة (1979م) بباريس. اقترنت باسمه الفلسفة الوجودية الإلحادية المعاصرة. اشتغل بالتدريس. ثم انخرط في الجيش، وسجنه الألمان سنة (1940م)، وبعد أن أطلق سراحه اشترك في حركة المقاومة. أنشأن سنة (1950م) مجلة «العصور الحديثة » التي تتضمن أبحاثًا وجودية في الأدب والسياسة. أطلق كلمة «وجودية » على فلسفته فقط، دون سائر فلسفات الوجودية، وأحرزت مؤلفاته نجاحًا جعله الممثل الأول للوجودية في فرنسا .
نشرت الصحف أنه اشترك في مظاهرات يهودية صهيونية في فرنسا، وحملات تبرع لإسرائيل في الستينات، كان من شعارها : ادفع فرنكًا فرنسيًا تقتل عربيًا (أي: مسلمًا)، فهو على ما يبدو يهودي وصهيوني .
حين حضره الموت سأله من كان عنده ([1]) : تُرى إلى أين قادك مذهبك؟. فأجاب في أسىً عميق ملؤه الندم: « إلى هزيمة كاملة ».
استخدم الأدب لنشر أفكاره الوجودية الملحدة المسرفة في «اللاّمعقول ». له عدة مؤلفات أهمها « الكينونة والعدم » أخرجه سنة (1943م) خاطب فيه المختصين بشؤون الفلسفة. وله روايات وقصص أدبية ومسرحيات ضمّنها آراءه، منها: 1- «الغثيان» 1938م. 2- «سبل الحرية » في ثلاث أجزاء. 4- مسرحية « الفاضلة » 1948م. 4- مسرحية «موتي بلا دفن » 1946م. 5- مسرحية «الذباب » 1943م وهي من أشهر مسرحياته. 6-مسرحية «الأيدي القذرة » 1948م .
( 2 )
دوافع آرائه في الفلسفة والأدب :
هو واحد من قافلة اليهود الذين حملوا رسالة تضليل الناس وإغوائهم على منهج إبليس، لتحقيق أهداف اليهود العالمية، التي رسمتها بروتوكولات مشيختهم الذين مردوا على كلّ إثم وشرّ وتضليل .
فأهدافه نظير أهداف « فرويد » و «دوركايم » و «برجسون ».
( 3 )
تعريف ما يسمى في الفلسفة بالوجودية قبل سارتر :
الوجودية : رأي فلسفي منتقد، عرف من عهد فلاسفة اليونان، وفي مقدمتهم سقراط.
ولم يكن هذا الرأي الفلسفي ملازمًا للإلحاد بالله، ولا قائمًا عليه، ولا دعامة من دعائمه، فقد كان مذهبًا لفلاسفة مؤمنين بالله، ومنهم دينيون مسيحيون .
يقول: « بول فولكييه » في كتابه: « هذه هي الوجودية »:
« إن الوجودية الدينية أقدم تاريخًا من سائر الوجوديات » ([2]) .
ثم ظهر بعض الملحدين الذين رأوا في مذهب الوجودية أفكارًا يمكن أن تنسجم مع إلحادهم .
والوجودية المعاصرة مدرسة في الفلسفة ذات ثلاث شعب، والأساس المشترك بين الشعب الثلاث للوجودية، أن الوجود الإنساني هو المشكلة الكبرى، فالعقل وحده عاجز عن تفسير الكون ومشكلاته، وأن الإنسان يستبدّ به القلق عند مواجهته مشكلات الحياة. وأساس الأخلاق قيام الإنسان بفعل إيجابي، وبأفعاله تتحدد ماهيته، وإذن فوجوده الفعلي يسبق ماهيته .
الشعبة الأولى : الوجودية التي قال بها المسيحي « كير كجارد » ([3]) ومؤدّاها أن قلق الإنسان يزول بالإيمان بالله عز وجل .
ولا يعنينا بحث هذه الشعبة هنا .
الشعبة الثانية : الوجودية التي عبر عنها المسيحي «جاك مارتيان » ([4]) وأقامها على فلسفة «توما الأكويني » ([5]) .
وبناءً عليها يقول :
إن الإيمان بالله يحد من الرغبة في الوجود، ويحدُّ من الخوف من العدم .
وهذه الشعبة لا يعنينا بحثها هنا أيضًا .
الشعبة الثالثة : الوجودية الإلحادية .
ورائد هذه الوجودية الإلحادية: « مارتن هيدجر » ([6]) وهو فيلسوف ألماني من فلاسفة القرن العشرين، من مواليد (1889م) .
ثم تابعه اليهودي « جان بول سارتر » أكبر مروج للوجودية الإلحادية، حتى صارت الوجودية الإلحادية المعاصرة ملازمة لاسمه .
ووجودية « سارتر » هي الوجودية التي يعنينا بيان زيفها .
( 4 )
وجودية سارتر :
خلاصة فلسفة سارتر في وجوديته أن ثمة نوعين من الوجود :
النوع الأول : وجود الأشياء الخارجية، وأطلق على هذا النوع من الوجود أنه وجود «في ذاته »، والشيء الموجود في الخارج هو موجود في ذاته .
قال: وكلُّ موجود خارجي، أي: في عالم الواقع لا في التصورات الذهنية وخطط الأفكار، هو كائن بالفعل لا بالقوة ([7])، وله ذاتية مستقلة كاملة، وليس فيه مجال للإمكان، أي: لا يحتمل غير الواقع الذي وجد فيه، فلا يمكن أن يكون خلاف ذلك، إذْ تمثلت فيه ماهيته كاملة .
فألغى سارتر بادعائه نفي الإمكانات، حقيقة كبرى من حقائق هذا الكون الحادث، الخاضع لإمكانات لا حصر لها، والواقع الموجود فيه هو صورة واحدة من الصور الممكنة عقلاً، بدليل أن ما نملك القدرة على التغيير فيه، نجده يتغير وفق الصور الممكنة التي نرسمها له ذهنًا، وبهذا يخترع المخترعون، ويبتكر المبتكرون، ويصنع الصانعون .
النوع الثاني : وجود الأشياء في الشعور، وهو ما يعبر عنه في الفلسفة القديمة «الوجود الذهني ».
وأطلق سارتر على هذا النوع من الوجود عنوان « الموجود لذاته ». أي: إنه موجود في الشعور ليحقق نفسه، ليحقق ذاته فقط، لا ليحقق ماهية خارجه عنه .(51/497)
قال: وهذا الموجود لذاته هو أقرب إلى « مشروع وجود » منه إلى الوجود المكتمل الثابت، لأنه متغير، قوامه النزوع المستمر نحو المستقبل، والتنصل المستمر من الماضي. فهو موجود له في كل لحظة حالة غير حالة اللحظة السابقة، على خلاف الأشياء المادية ذوات الذاتية الثابتة .
قال: ولما كان «الشعور » بطبيعته غير مستقر، كان محالاً أن تتحدد ماهيته، كما تتحدد ماهيات الأشياء الخارجية. ومن هنا كانت حرية الإنسان هي صميم وجوده الشعوري القلق، فهو حرٌّ لأنه يخلق نفسه بنفسه كل لحظة .
ويرى «سارتر » أن قوله: « إن الإنسان حر » مرادف لقوله: «إن الله غير موجود ». لأن وجود الإنسان لا يخضع لماهية أو طبيعة محددة، بل هو إمكان مستمر على الإنسان أن يحققه، فليس هناك «طبيعة بشرية » فرضت من الأزل، وليس هناك «تعريف » ثابت للإنسان كيف ينبغي أن يكون. بل إن الإنسان يوجد أولاً، ثم يظل يخلق ماهيته، بما يختار لنفسه من شعور، فليس الإنسان إلا ما يختاره لنفسه أن يكون .
والمدقق في هذه الآراء الفلسفية لسارتر يلاحظ أنها تقع وراء دوائر ما تقبله العقول، وما يستقيم مع موازينها، وفي فقرات كشف الزيف الآتية أحاول قدر الإمكان تعريف القارئ، بمنازع ومزالق ادعاءاته غير المعقولة، والتي ألغى فيها من دون أي دليل الأصول والموازين الكبرى التي فطرت عقول الناس على التسليم بها، والتحاكم إليها .
جولة في آراء سارتر التي قدمها في كتبه :
1 - عرض «سارتر » الوجودية مذهبًا إلحاديًا، في كتابه «الكينونة والعدم » أي: الوجود والعدم. وقد خاطب في هذا الكتاب المختصين في شؤون الفلسفة .
إلا أن هؤلاء المختصين يعترفون بأنهم لم يفهموا كل ما جاء في كتابه هذا، كما أفصح عن هذه الحقيقة «بول فولكييه » في كتابه: « هذه هي الوجودية ».
2 - زعم «سارتر » أن الإنسان بحريته الاختيارية هو الذي يخلق ماهيته، وقال: «إن الإنسان كائن أولاً، ثم يصير أخيرًا هذا أو ذاك » أي: بحسب أفكاره الحرة التي تصنع ماهيته.
قال «بول فولكييه » ([8]) :
« وأفضى البحث سارتر إلى نتائج تتناقض حتى تبلغ درجة المحال، واللامعقول ».
3 - وزعم « سارتر » أن الإنسان هو الذي يضع مقاييس الحق والخير والجمال.
وخالف في ذلك الفلاسفة المؤمنين بالله، ومنهم الفيلسوف «ديكارت » ([9]) فهذا الفيلسوف يرى أن الله هو الذي متى أراد شيئًا وخلقه كان خيرًا، وأنه لا يمكن أن ينتج عن قراره إلاّ الخير المطلق .
فردّ سارتر بقوله: «إنّ ديكارت بوصفه حرية ألهه المطلقة، لم يقم، إلا بوصف المحتوى الضمني لفكرة الحرية، فأعطى لله ما للناس بخاصة ».
هكذا عكس «سارتر » الحقيقة ([10])، لينسجم مع فكرته الإلحادية، التي أراد أن يضع لها فلسفة، فأعطى الإنسان ما هو لله وحده، تحت شبهة أن الإنسان له في حياته قسط من الحرية، وفق المنحة التي منحه الله إياها .
وخالف « سارتر » برأيه هذا الذي رآه حقًا، أو أراد أن يريه للناس ليضلهم، خالف منطق الواقع والحقيقة .
ولما جعل «سارتر » الإنسان هو الذي يضع مقاييس الحق والخير والجمال، لزمه أن يسقط المسؤولية، أو يقع في التناقض، وذلك لأن المسؤولية إما أن تكون أمام الله، أو أمام المجتمع، أو أمام ضمير ذاتي مثالي يحكم على أعمال الذات .
لكن «سارتر » أنكر الخالق فلا مسؤولية تجاهه. وأنكر أيضًا الضمير الذاتي المثالي، لأن وجوديته تقرر أن الواقع يكون أولاً، ثم تكون الفكرة عنه، لا أن الفكر يكون أولاً بالحكم على ما يمكن أن يكون، ثم يكون الواقع، إذْ هو لا يعترف بشيء من الفرضيات الذهنية السابقة للوجود على أنها ذات تأثير في الوجود. وأما المجتمع فلا دخل له، ما دام الإنسان بمفرده هو الذي يضع مقاييس الحق والخير والجمال .
إذن لم يبق شيء يعتبر الإنسان مسؤولاً عنه في فلسفته الخرافية .
لكن الإنسان هو مع ذلك في نظره مسؤول، فوقع «سارتر » في التناقض المفضوح، فقال:
« نحن لا نعمل ما نريد، ونحن مع ذلك مسؤولون عما نحن كائنون، هذا هو الواقع»([11]).
قال «بول فولكييه » ([12]) :
« وهذا واقع متناقض، محال، لا هو مفهوم، ولا هو معقول ».
لقد وقع «سارتر » برأيه هذا في الجبرية الخرافية، إذْ فر من قضية الإيمان بالخالق وحكمته، وخلقه الإنسان حرًا مكلفًا، ليكون مسؤولاً عن أعماله تجاهه .
ولو أنه آمن بالله حقًا، لأدرك أن الإنسان خُلق مختارًا، ليمتحن في حدود اختياره، ثم ليحاسب ويجازى يوم الدين .
وإذْ زعم «سارتر » أن الإنسان هو الذي يخلق الخير والشر بنفسه، وذلك بحسب أفكاره الخاصة، وأنه ليس لأحد أن يوجه النصح له، قال يخاطب «ماتيور »:
«إنّك تستطيع أن تفعل ما تريد، وليس ثمة من له الحق في توجيه النصح إليك، وليس في نظرك شر وخير إلا إذا خلقتهما ... ».
إذن: فليفعل الإنسان أية جريمة، وليرتكب أي عمل قبيح، وله بعد ذلك أن يعتبر ما فعل خيرًا لا شرّ فيه، وليس من حق أي أحد أن يحاكمه، أو يؤاخذه على ما فعل .
هل يحتاج قول «سارت » هذا إلى تفكير عميق، أو إلى تحليل دقيق، لمعرفة دعوته إلى ارتكاب أية جريمة، وفعل أي شر، دون أن يشعر مرتكب ذلك بأي تأنيب من ضميره ووجدانه؟(51/498)
إنه يلغي بأقواله المدمرة فكرتي الخير والشر مطلقًا، إذ يجعلهما من خلق الإنسان نفسه.
وظاهر أن كل إنسان يملك وفق هذا التضليل أن يعتبر بحسب مزاجه ومصلحته الخاصة أي أمر قبيح خيرًا، وأي أمر حسن شرًا، في حقن قد يعكس غيره الأمر، لأن مزاجه ومصلحته الخاصة قد تلاءما مع العكس .
إذن: فلا مفهوم للخير يمكن أن يحصل اتفاقٌ عليه، ولا مفهوم للشر يمكن أن يحصل اتفاق عليه .
إذن: فلا شيء اسمه خير أو شر مطلقًا .
هكذا يريد «سارتر ». يريد إبطال الحقائق من جذورها بعبثه الفكري، الذي زعمه مذهبًا فلسفيًا .
4 - ونمت الفردية الأنانية لدى «سارتر » انسجامًا مع وجوديته الملحدة، حتى جعل الحب نوعًا من أنواع سلب الناس بعضهم لبعض .
فالفرد في رأيه بحاجة إلى الحب في سبيل رفع قيمة ذاته عن طريق الآخر، وفي سبيل رفع قيمة لأنه يوجد إنسان آخر يقدره .
لذلك يرى أن من ينظر إليه بحب فإنه يحاول أن يسلبه عالمه الخاص به، وفي هذا يقول:
« إننا منذ الآونة التي نشعر فيها بأن إنسانًا آخر ينظر إلينا، إنما نشعر أيضًا بأن الآخر يسلبنا عالمنا على نحو من الأنحاء، هذا العالم الذي كنا نمتلكه وحدنا حتى هذه اللحظة » ([13]).
ويقول :
« إنني ابتداءً من الآونة التي أشعر فيها أن أحدًا ينظر إليّ، أشعر أنني سلبت عن طريق نظر الآخر الموجه إليّ وإلى العالم .
إنّ العلاقة بيننا وبين الآخرين هي التي تخلق شقاءنا » ([14]) .
ويقول :
« إن الآخرين هم الجحيم » ([15]) .
( 5 )
كشف الزيف :
لا تحتاج آراء «سارتر » وكذلك كل آراء الوجودية الملحدة إلى جهد كبير لتفنيدها، وبيان أخطائها، وكشف زيوفها .
فهي أقلّ قيمة من أن توضع بين الفلسفات التي تستحق المناقشة والاعتراض والنقد. ولولا أنها كتبت بأيدي رجال متخصصين في دراسة الفلسفة، ثم قامت منظمات ذات مخططات سياسية عالمية هدامة بترويجها في أسواق الفارغين من العقول، لنشر الإلحاد بالله وتدمير الأخلاق وسائر القيم الصحيحة عن طريقها، لما كان لها شأن يذكر، ولما رفعها أحدٌ من مجمع قمامات الآراء، لينظر إليها، ويفحص ماهيتها، ولما اشتغل بقراءة كتبها مشتغلون حريصون على أوقاتهم أن تضيع سُدى، في قراءة كلام هراء متهافت سخيف، لا قيمة له لدى أهل الفكر والنظر .
لكن ماذا نعمل وقد أمست مذهبًا مضلاًن وفيما يلي كشف الزيف :
الكاشف الأول : باستطاعة الباحث أن يحدد معالم فلسفة «سارتر » الوجودية الملحدة، التي أراد أن يجعلها مذهبًا، من خلال تعبيراته الفلسفية المعماة، والتي فيها كلام كثير غير معقول، بالتحليل التالي :
من المعلوم لدى كل العقلاء والفلاسفة أن أحكام العقل الأولى والكبرى، تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : واجب الوجود عقلاً، وهو الأزليّ الأبدي، وهذا لا ينطبق لدى التحقيق إلاّ على الله عز وجل وصفاته الأزلية .
القسم الثاني: ممكن الوجود، وهو كل موجود حادث، وكل ما يمكن عقلاً أن يحدث، فلا يحكم العقل باستحالة وجوده، حين توجد الشروط الكافية لإخراجه من العدم إلى الوجود.
وهذا القسم ينطبق على كل ما في الكون من أشياء، وأحداث، وتغيرات، وكل ما يتصور العقل إمكان حدوثه، سواءٌ بالتغيير والتبديل فيما هو موجود حادث، أو بخلق شيء جديد لا يستحيل عقلاً وجوده، ككائنات غير كائنات هذا العالم، ومخلوقات غير المخلوقات التي فيه .
القسم الثالث: مستحيل الوجود عقلاً، وهو ما يجب عقلاً بقاؤه في العدم من الأزل إلى الأبد.
ومن المستحيلات العقلية جود رب خالق آخر غير الله الواحد الأحد، واجتماع النقيضين وجودًا في شيء واحد وزمن واحد .
وقد أراد «سارتر » نسف هذه الأحكام العقلية الأولى والكبرى، المتفق عليها عند العقلاء.
فحذف من التصور قسم « واجب الوجود عقلاً » فلم يتعرض له مطلقًا، لأنه يريد أن يقيم فلسفته على عدم الاعتراف بوجود رب خالق أزلي أبدي .
وحذف من التصور قسم «مستحيل الوجود عقلاً » فلم يتعرض له، لأن إثبات مستحيل الوجود يجر إلى إثبات الوجود حتمًا .
ثم جاء إلى قسم «ممكن الوجود » والذي ينطبق على الكون وما يجري فيه، وكل ما يمكن عقلاً أن يحدث .
فألغى من هذا القسم وصف «الإمكان ». فبقي شيء اسمه «وجود » دون وصف، وإذ قد ارتفع منه الإمكان، فقد صار أمرًا واجبًا لا إمكان فيه ما دام قد وُجد .
آراء تخيلها وادعاها، ولم يقم عليها أي دليل. وهدفه أن يحجب أفكار المستجيبين لآرائه عن كل تفكير في الإمكان القائم في الكون، حتى لا يجرهم ذلك إلى الضرورة العقلية التي تلزمهم بإثبات أزلي أبدي واجب الوجود، به تحولت الممكنات من العدم إلى الوجود، ولولاه لكانت إمكاناتها متكافئة القوة في جانب العدم، فلم يستطع أحد منها أن يغلب أكفاءه فيظهر إلى عالم الوجود .(51/499)
وحين ألغى «سارتر » صفة «الإمكان » وأبقى صفة «الوجود » وحدها، اعترضته مشكلة أفكار الناس وتصوراتهم، القادرة على تخيل أمور ممكنة غير موجودة، وبناء عليها يحاولون اختراع أشياء وصور جديدة بالتغيير والتحويل في مادة الكون، وذلك يجر إلى إثبات الموجود الأول بعد عدة مراحل فكرية، وهو الأزلي الأبدي الخالق، الذي يرجع إليه تخصيص الممكنات ببعض إمكاناتها، وإخراجها بإرادته وقدرته من العدم، وهذا ما يحذره في فلسفته أشد الحذر .
فكان عليه أن يزعم أن الفكر مشاعر متغيرة غير ثابتة، ولا ماهية لها، وأن الأشياء توجد أولاً في الواقع، والذهن بعد ذلك يصنع ماهياتها. إلى آخر ما قدم من ادعاءات خارجة عن دوائر المعقولات التي تهضمها العقول، أو تستسيغها قبل هضمها .
حتى الفلاسفة الذين قد يستسيغون من غير المعقول ما هو قريب من دوائر المعقولات، لم يستسيغوا ادعاآته :
فمغالطته هنا ترجع إلى ما يلي :
1 - إهمال حقائق فكرية إهمالاً يشعر ببطلانها .
2 - ادعاءات غير مقترنة بأي دليل عقلي أو علمي .
3 - طمس الأدلة العقلية والعلمية التي تُسقط ادعاءاته وتخيلاته وتخريفاته، وتثبت وجود الرب الخالق وصفاته العظمى .
4 - حصر النظر بجانب جزئي واحد، هو جانب مدلول كلمة «وجود » فقط، وإقامة الحجب الكثيفة دون غير ذلك من حقائق، وإلغاء الغشاوات الإيهامية على أفكار من يستجيب له، حتى لا يفكر تفكيرًا سليمًا يهديه إلى الحق .
الكاشف الثاني : لقد ألغى الإمكان في الأشياء الموجودة، رغم أن الإمكان قائم في كل شيء من هذا العالم المشهود .
وبسبب صفة الإمكان فيه يتصرف الناس ضمن قدراتهم الذهنية والعملية بالتغيير والتبدل، والاختراع والابتكار، وكل وجوه الصناعات، والعمران والهدم. ولولا صفة الإمكان فيه لم يحدث شيء من ذلك .
لولا صفة الإمكان في قطعة الحديد الموجودة في الأرض، ما استطاع الصانع أن يصنع منها سكينًا، أو سيفًا، أو دولابًا في آلة، أو مسمارًا، أو غير ذلك .
ولولا صفة الإمكان في الصخر، ما قطعه الإنسان وبنى منه القصر .
هذه بدهيّة، ومع ذلك ادعى «سارتر » نقيضها، ادعاءً فقط، بدون دليل، ولا تعليل.
وزعم أن الشيء يوجد أولاً، ثم يصنع الشعور الإنساني له ماهيته.
فألغى بذلك قيمة الفكر، حين يتخيل صورة، ويرسم حدودها، والغاية منها، ثم يطبق صنعها من مواد الكون، فتأتي وفق الصورة والحدود التي سبق أن رسمها .
أليس هكذا يفعل مهندسو العمران، ومهندسو السيارات والطائرات والآلات الميكانيكية وسائر الصناعات ؟!
أليس هكذا يفعل الخياط والحداد والنجار والحذاء والطباخ وكل عامل، وكل صانع؟!
لقد ألغى كل هذا مع أنه من بديهات الأمور، وادعى خلافه، ووضعه في قوالب ألفاظ فلسفية (وجود - إمكان - ماهية - في ذاته - لذاته - مشروع وجود - تغير مستمر - نزوع للمستقبل - تنصّل من الماضي ) إيهامًا وتلبيسًا .
لكن أفكاره التخريفية لا يقبلها ذو ميزان عقلي لا يزال على فطرته التي فطره الله عليها، لم يصب بخلل الزيوف الفلسفية القائمة على معميات من مصطلحات لفظية يحسبها الجاهل شيئًا، كما يحسب الظمآن السراب ماء .
إنه ذو هدف من إلغائه قيمة الفكر المخطط، لما يريد الإنسان عمله فيما يأتي، فهذه الحقيقة متى وضحت للإنسان واستقرت في نفسه، استطاع أن يتخذ منها دليلاً هاديًا، فإذا رأى صنعة متقنة هداه فكره إلى صانعها المتقن، إذ هي نتاج فكره وعمله .
لكن «سارتر » يريد أن يصرف قراءه عن ملاحظة صفة الإتقان العجيب المعجز في خلق السماوات والأرض، وما فيهما من ظاهرة الحياة العجيبة، وخلق الإنسان قمة عجائب الخلق، حتى لا ينتبه الفكر إلى الإتقان في هذا الكون إنما هو أثر لصفات خالق قادر عليم حكيم يتقن ما يخلق، فهو الذي قدر وقضى، وخلق على وفق مقاديره الحكيمة، وهو سبحانه يدير كل أمر بحكمته العظيمة، وحتى لا يتنبه الفكر إلى أن هذه المتقنات الكونية لا يمكن أن توجد وجودًا تلقائيًا من ذاتها، بعد أن كانت في طي العدم، دون سابق خطة حكيمة يقدرها علم حكيم قادر .
لقد أراد «سارتر » أن يصرف قراءه عن هذه الحقيقة ذات الدلالة البرهانية، الموصلة إلى الإيمان بالله الخالق، فوضع فكرته الخرافية المخالفة للبدهيات الأولى، والتي لا تقبلها أكثر العقول بدائية، فضلاً عن العقول المتقدمة في ميادين المعرفة .
فهل الواقع كما زعم « سارتر » من أنه لا يوجد فكر يخطط، وإرادة تختار من الاحتمالات الممكنة ما يراه الفكر أصلح وأحكم ؟!
وهل الواقع كما زعم «سارتر » أن الأشياء وأعمال الإنسان الإرادية الاختيارية، توجد أولاً ضمن طبائعها، ثم يأتي الفكر الإنساني فيضع للأشياء ماهياتها بحسب تصوراته لها؟!
إذا كان يمكن للفكر الإنساني أن يستنبط ماهية شيء رآه موجودًا، ولم يكن له دخل في التخطيط السابق له، فهل يدل ذلك على أن كل ما هو موجود حادث قد وجد بنفسه، دون أن يصنعه أحد، ثم يصنع الفكر الإنساني له ماهيته في تصوراته ؟!
ما هذا الادعاء السخيف ؟!(51/500)
إن كل العقلاء يقيسون ظاهرة الإتقان في الكون على ما يعملون بأنفسهم من أمور متقنة، فيثبتون أن المتقنات الراقية لا يمكن أن توجد في قبل أنفسها، دون أن تكون مسبوقة بخطة حكيمة، تحدد ماهياتها وصفاتها قبل وجودها .
العمارة الضخمة لا تظهر إلا مسبوقة بخطة مهندس وضع مخططها بفكره، ورسمه على ورقه، ثم نفذه في الواقع العملي على وفق الفكرة السابقة التي وضعها .
والمصنع الذي ينتج نوعًا من الصناعات، لا يظهر إلا مسبوقًا بخطة مهندس، وضع مخططه بفكره، ورسمه على ورقه، ثم نفذه في الواقع العملي على وفق الفكرة السابقة التي وضعها .
هكذا ظهرت في عالم الصناعات الإنسانية كل الصناعات، من أدناها حتى أعلاها وأرقاها وأدقها صنعًا، من صناعة الإبرة، إلى خياط الثوب، إلى صناعة الطائرات والغواصات، والإلكترونيات المعقدة جدًا .
إن شيئًا منها لم يوجد قبل فكرة رسمته وخططته، ثم جاء إيجاده على وفق الخطة الفكرية.
لكن «سارتر » أراد أن ينسف هذه الحقائق بادعائه السخيف، فقال: الإنسان يوجد أولاً دون خطة سابقة، وأعماله الإرادية توجد أولاً دون خطة منه، ثم يصنع فكرة ماهية لها يتخيلها من عنه نفسه والعمليات الفكرية ليست وجودًا، إنما هي بمثابة مشروع وجود.
الكاشف الثالث: ألغى «سارتر » حقيقتي الخير والشر، بجرة قلم، تضمنت ادعاءً كاذبًا.
وكذلك ألغى الحق والباطل، وألغى الجمال والقبح .
وجعل الشعور الإنساني التابع للهوى ونوازغ النفوس هو الذي يخلق قيم الخير والحق والجمال، وأن هذه ليست لها قيم في ذاتها .
وخالف في ذلك موازين العقول السليمة، وما تحس به الفطر الإنسانية السوية.
لقد شطب على هذه القيم دون أيّ دليل، ليقول لمن يستجيب لأقواله :
انطلق : أيها الأحمق الغبي في عمل ما تريد أو تشتهي وتهوى، مهما كان ذلك في اعتبار الناس شرًا، دون أن يكون لأحد عليك سلطان، فأنت الذي تصنع فكرة الخير بحسب مزاجك، وأنت الذي تصنع فكرة الشر، وأنت الذي تخلق فكرة الحق وفكرة الباطل، وأنت الذي تخلق فكرة الحسن وفكرة القبيح .
كذلك يقول الشيطان للإنسان حين يوسوس له، لإغوائه .
لست أدري: هل العلوم الرياضية، والهندسيات، والحقائق المجردة، والقضايا المنطقية الكبرى، حتى الوجود نفسه، هي من خلق الفكر الإنساني، وهي أوهام في أوهام، في نظر «سارتر » وكل معتنقي الوجودية الملحدة ؟؟!!
هل الظلم والعدوان وكل الجرائم التي يرتكبها المجرمون، ليست في الواقع جرائم، حتى يراها الإنسان المجرم نفسه كذلك، دون أن يكون لغيره سلطان عليه في إملاء مفاهيم، ودون أن يكون في الواقع وجود لحقائق مجردة يمكن التحاكم إليها ؟!!
هكذا تقول فلسفة «سارتر » كما ظهر واضحًا من أقواله، مع ظاهر التناقض فيها.
ليس غريبًا أن يفرز فكره مثل هذه السموم القواتل، وهو يهودي صهيوني، فهذه الأفكار وأشباها قد عرفناها تمامًا في المخططات اليهودية، الرامية إلى تدمير البشرية من الأمم غير اليهودية، وقد رأينا آثارها عند كل صانعي الأفكار المدمرة من اليهود وأجرائهم ومنظماتهم.
الكاشف الرابع : يمثل « سارتر » في بعض ما قدم من آراء فلسفية حضيض الأنانية والشح عند اليهود .
فأنانية «سارتر » أنانية عجيبة في دنيا الناس، لا توجد إلا عند شاذين جدًا .
لقد جعل الحب الذي هو أسمى الروابط الاجتماعية في الحياة، من قبيل سلب المحب لذاتية محبوبه، وتجاهل ما في الحب من عطاء وتضحية هما في مستوى القمة، ولا نظير لهما إلا في الإيمان الرفيع بالله واليوم الآخر .
هل الحب الذي تشعر به الأم في فطرتها تجاه طفلها يتضمن معنى سلب الأم لعالم طفلها وذاتيته ؟!
إن هذا الحب موجود في عالم الحيوان بشكل عام، وليس خاصًا في الإنسان الذي يمكن أن يفكر في مصالح نفسه مع عاطفة الحب .
حتى الحب المشبوب بشهوة الرجال للنسا هو حب فيه تبادل أخذ وعطاء، فالمحب لا يأخذ سعادة اللقاء بمحبوبه إلا ويعطي من نفسه عطاء وتضحية هما أكثر من اللقاء الذي يأخذه.
لكن «سارتر » يريد أن يقطع الروابط الاجتماعية كلها، وينمي في الناس الفردية إلى أضيق حدودها، حتى تكون سببًا في تفتيت المجتمعات الإنسانية، تفتيتًا لا يبقي منها كتلة مترابطة متماسكة .
وهذا - كما نعلم - أحد مخططات شياطين اليهود، لتكون شعوب الأرض لقمًا سائغة في أفواه الثعالب والثعابين اليهودية .
فحين يرى «سارتر » أن حب الآخرين له سلب لعالمه وسلب لذاتيته، ويرى أن العلاقة بالناس هي التي تخلق لنا الشقاء، ويرى أن الآخرين هم الجحيم. فإنه يدعو إلى تقطيع الروابط الاجتماعية بين الناس .
ويريد بهذا أن يلغي حقيقة فطرية في الإنسان، وهي أنه مخلوق اجتماعي بالفطرة، وأن العلاقة الطيبة بينه وبين الناس هي من أسباب سعادته، وأما العزلة والانقطاع عن الناس والوحدة فهي من أسباب شقاء الناس .
هكذا يقلب الواقع الإنساني، ويصدر أفكارًا باطلة سخيفة في ثوب فلسفي، يمكن أن يفتن به بعض مراهقي قراء الوافدات الفكرية (على طريقة مبتكرات الأزياء) مع سيل ما تأتي به الحضارة الغربية .(52/1)
الكاشف الخامس: قد «سارتر » آراءه وأفكاره على شكل أحكام تقريرية، دون أن يؤيدها بأي دليل لا من الفكر، ولا من الحس، ولا من الواقع، ولا من المشاعر النفسية.
فما قيمة آراء وأفكار من هذا القبيل ؟!
إن أي صاحب خيال يستطيع أن يقول أية فكرة تخطر في وهمه، ويزينها بصيغة كلامية، وزخرف من القول، ثم يطرحها في الميادين الفكرية، ويجعلها مذهبًا فكريًا .
ولقد يكثر في الناس الخياليون الخرافيون، لكن المشكلة تبدو حينما يقوم بهذه العملية نفسها أناس عرفوا في الأوساط العلمية علماء باحثين، أو دارسي فلسفة، أو متتبعي معرفة، أو مكتشفي نظريات مقبولة، ولكن يكون لهم هوى، أو يكونون أعضاء في منظمة ذات مصالح سياسية أو اجتماعية، فيستخدم مركزه العلمي، ليصدر أفكارًا باطلة تخدم هواه، أو تخدم أهداف منظمته أو قومه، فيتداولها الناس تقديرًا لمركزه العلمي، لا تقديرًا للأفكار نفسها.
وكما قدم أحكامًا تقريرية بدون أي دليل، أنكر حقائق يشعر بها الناس جميعًا بدون أي دليل أيضًا، وقلب المفاهيم بادعاءات باطلات .
ما أسهل على أيّ مبطل، أن ينكر بلا دليل، أو يثبت بلا دليل .
الكاشف السادس: يقول: «بوخينسكي » أستاذ الفلسفة بجامعة «فريبورج » بسويسرا([16])، بعد عرضه آراء «سارتر » في الوجودية: «وليس في وسعنا هنا سوى الاقتصار على ذكر النتائج الأخلاقية التي تربت على هذه الفلسفة ...
والتي تمثلت في نكران كل القيم، وكل القوانين الموضوعية، وفي ادعاء عدمية - واستحالة وعدم جدوى الحياة الإنسانية، بل إن الوجودية قد أرغت حتى ظاهرة الموت نفسها من معناها على يدي سارتر .
ومن نتائج الوجودية أيضًا، دعوتها إلى التشكيك في جدوى قيام كل ما يتسمم بروح الجد وطابعه، فهي فلسفة انحلالية عدمية تمامًا ».
( المرجع : كواشف زيوف ، عبدالرحمن الميداني ، ص 359-377).
---------------------------------------------------
([1] ) من محاضرة للدكتور « رشدي فكار » تلخيص د. نعمات أحمد فؤاد. عن جريدة الأهرام المصرية في 15/7/1983م - ص13 .
([2] ) انظر: الصفحة (70) من الكتاب المذكور، ترجمة « محمد عيتاني ».
([3] ) هو « سورن كيركجارد » عاش ما بين (1813- 1855م) فيلسوف دانماركي. كتب بحوثًا دينية خرج بها عن المألوف، فاختلف مع الكنيسة. كان يعتقد أنه ينبغي للإنسان أن يلتمس المعرفة الحقة من داخل نفسه، وأن المثقف إنما يعاني بسبب التعارض بين الوجود الفردي المؤقت من جهة، والحقيقة الأبدية من جهة أخرى. والدين أمر شخصي صرف ينزع إلى التصوّف. وهو من رواد المذهب الوجودي المعاصر. من أشهر كتبه « أما أو » و «مراحل طريق الحياة ».
([4] ) فيلسوف فرنسي معاصر، ولد عام (1882م). حاضر في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم عين سفيرًا لفرنسا بالفاتيكان سنة (1945م). ثم استقال ليعلم في برنستون. حاول تطبيق فلسفة توما الأكويني على أوجه الحياة المختلفة. فسميت فلسفته بالتوماية الجديدة، وتعد أحيانًا فلسفة وجودية. له كتاب «تمهيد للفلسفة » وكتاب «النزعة الإنسانية الحقة ».
([5] ) توما الأكويني : فيلسوف لاهوتي إيطالي، من فلاسفة القرن الثالث عشر الميلادي (1225- 1274م). من أشهر وأهم ممثلي الفكر الكاثوليكي. له مؤلفات كثيرة تناول فيها الفلسفة واللاهوت. ذكر أن الفلسفة تعتمد على العقل وحده، أما اللاهوت فهو يعتمد على الوحي دون أن ينكر العقل. استفاد من الفلاسفة الإسلاميين. تعتبر فلسفته عمدة في التعليم الديني الكاثوليكي.
([6] ) تقوم وجودية « هيدجر » الإلحادية على مذهبين فلسفيين كانا شائعين في فلسفة القرن التاسع عشر الميلادي، وهما « ظاهرية هوسرل » و «وجودية كيركجارد ». فمن الثاني أخذ مأساة وجود الإنسان في عالم محدود، وما يتولد عن ذلك من شعور بالقلق والعزلة. ومن الأول أخذ منهج الاستبطان، واختبار الإنسان لذاته، ليتخذ منهما وسائل تحليل الطبيعة البشرية. وما دام الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على اختبار نفسه، فهو الكائن الوحيد الذي يسبق بوجوده الفردي وجود ماهيته المجردة .
([7] ) الكائن بالفعل في الفلسفة المعترف بها الموجود في الواقع، أما الكائن بالقوة فهو ما يمكن عقلا أن يكون عليه ذلك الموجود، فلوح الخشب يمكن القوة أن يكون بابًا، أو كرسيًا، أو مكتبة، أو غير ذلك. أي: فيه الإمكانات لذلك، وسارتر ألغى هذا .
([8] ) انظر: الصفحة (81) من كتابه « هذه هي الوجودية » ترجمة « محمد عيتاني ».(52/2)
([9] ) « رينيه ديكارت ». من فلاسفة القرن السابع عشر (1596- 1650) فرنسي. فيلسوف وعالم رياضي. استطاع بعبقريته الرياضية أن يعالج الجذور السالبة، وأن ينسق مجموعة رموز الجبر. وأنشأ الأحداثيات المعروفة باسمه. وابتكر الهندسة التحليلية. ثم حاول تطبيق المنهج الرياضي على الفلسفة. أقام فلسفته على الشك المنهجي. من رأيه الفصل بين الفكر والمادة وأنهما لا يتصلان إلا بتدخل الله في الأمر. لديكارت تأثير في الذين جاءوا بعده، حتى قيل: هو أبو الفلسفة الحديثة. انتقد طرائق اليسوعيين، وقال: إن دراسته الطويلة في مدارسهم لم تفده معرفة واضحة يقينية بكل ما ينفع الحياة. وقواعد ديكارت للبحث عن الحقيقة كانت أساسًا للتربية الحديثة التي تهدف إلى تدريب العقل على التفكير المنظم الحرّ .
([10] ) نظير ما فعل « ماركس » حين قلب رأي هيجل رأسًا على عقب وزعم أنه أقام نظريته على رجليها بعد أن كانت قائمة على رأسها، إذ أخذ الديالكتيك من هيجل، ولم يقل كما قال هيجل: إن أرادة الخالق رسمت أطوال الخلق وفق قانون الديالكتيك، وإنما قال ماركس: إن الديالكتيك هو قانون المادة بذاتها، والإنسان اخترع فكرة الخالق .
([11] ) من كتاب « مواقف » لسارتر ص27 من الجزء الثاني كما ذكر «بول فولكييه » في كتابه «هذه هي الوجودية ».
([12] ) في كتابه « هذه هي الوجودية » في الصفحة (90) ترجمة: محمد عيتاني .
([13] ) انظر: كتاب « الفلسفة الوجودية » تأليف «جان فال » تعريب « تيسير شيخ الأرض » ص(176).
([14] ) نفس المرجع السابق .
([15] ) نفس المرجع السابق .
([16] ) في كتابه «تاريخ الفلسفة المعاصرة في أوروبا » ترجمة « محمد عبدالكريم الوافي ».
=================(52/3)
(52/4)
سلسلة كشف الشخصيات (16) : فرويد
بقلم : سليمان الخراشى
فرويد ومدرسته في علم النفس
(1)
من هو فريويد ؟ :
سيجموند فرويد، عاش ما بين (1856 - 1939م). يهوديُّ من أبوين يهوديين، نمساوي. هو مؤسس مدرسة التحليل النفسي. اشترك مع « جوزيف بروير » في علاج الهستريا بالنُّ,ام، مفسّرًا أعراضها بأنّها تعبيرت عضوية عن صدمات مكبوتة، وصراعات نفسية لا شعورية ترجع إلى الطفولة .
ثم عمل منفردًا، وترك طريقة النُّوام، مستعيضًا عنها بطريقة التداعي الحرّ، مؤكدًا أن الطاقة المسبّبة لأعراض الهستيريا التحوليّة هي طاقة جنسية .
حاول «فرويد » تطبيق آرائه في تفسير نشأة المجتمع، والدين، والحضارة وتطوّرها ([1]).
(2)
دوافع آرائه في التحليل النفسي :
هل دفعت القيادة اليهودية الخفية، ضمن خطّتها العامة، اليهوديّ الصهيوني «سيجموند فرويد » لوضع أفكارٍ وآراءٍ باسم «نظريات » في علم النفس، تهدم العقائد والأخلاق الدينية، وتخدم المخطّط اليهوديّ الخطير ضدّ شعوب الأرض جميعًا ؟
لقد علمنا أنّ هذا المخطّط اليهودي يرمي إلى استغلال النوازع والغرائز والشهوات ونوازغ الشرّ في الإنسان، بغية هدم أبنية الفكر الديني، ونشر الإلحاد والإباحية، وإشاعة الفساد في الأرض، لأنّ ذلك يفضي حتمًا إلى تدمير الأمم والشعوب، وسلبها مادّة قوّتها ونظام تماسكها، وهذا يمهّد - بحسب تصوّر شياطين اليهود - لقيام الدولة اليهودية العالمية، القابضة على ناصية كلّ خيرات الأرض، ونواصي الشعوب والأمم .
ومن النوازع الفردية التي جاء في المخطّط اليهودي استغلالها، الأنانية المفرطة، وفكرة الحريّة الفردية التي يراد لها أن تنطلق شرهة شرسة، وتتمرّد على كلّ ما يقيْدها من دين، أو قانون، أو ضوابط اجتماعية، أو مبادئ أخلاقية .
وبتنمية الأنانية المفرطة، وإطلاق الحرّية الفردية، تنطلق الشهوات والغرائز البَهيمّة، كما تنطلق الوحوش المفترسة من أقفاصها، ومع الرغبة بانتهاب اللّذات دون ضابط يتسابق الناس إليها، ويتنازعون عليها، ثم يتصارعون ويتقاتلون، وبذلك يتم تفتيت الشعوب والأمم، ويتحقّق إضعاف قواها، وتمكين عدوّها منها، وهو قابعٌ في مخابئه، يترقّب تساقطها صريعة، نتيجة صراعاتها فيما بينها .
(3)
مدرسة التحليل النفسي :
قالوا: يرجع لفرويد الفضل في تأسيس أول مدرسة للتحليل النفسي .
وموقفنا الإسلامي من التحليل النفسي يمكن تلخيصه فيما يلي :
• إننا لا ننكر أصل فكرة التحليل النفسي، وتأسيس مدارس له في علم النفس، ومتابعة الدراسات النفسية العلميّة، القائمة على الملاحظة والتجربة والإحصاءات الإنسانية، فذلك ممّا يدعو إليه واجب البحث العلمي الذي يمجّده الإسلام، ويرشد إليه القرآن.
• وقد حثّ القرآن على دراسة النفس، وتوجيه النظر الباحث إلى أعماقها، بغية التعرّف على صفاتها وعناصرها الداخلية الهادية إلى معرفة الربّ الخالق الذي أتقن كلّ شيء صنعًا، فقال الله عزّ وجلّ في سورة [الذاريات: 51]: + وَفِي الأْرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ " .
• وعرض القرآن طائفة كبيرة من صفات النفس، تشتمل على ثروة علمية عظيمة تهدي الباحثين من علماء النفس، ومنها بيان أنها أوتيت الموازين التي تميّز بها بن الخير والشرّ، فقال الله عزّ وجلّ في سورة [الشمس: 91] + وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا " .
• وكان علماء التربية الإسلامية الذين قاموا بمهمّة تأديب جماهير المسلمين بآداب الإسلام، وتسليكهم مسالك الهداية، مهديّين بهدي دلالات كتاب الله سنّة رسول صلى الله عليه وسلم ، أولَ من غاصَ إلى أعماق النفس الإنسانية، وحلّل دوافعها، واستطاع القبض على أعنتها، والسير بها في طريق الأخلاق والآداب الإسلامية، والتسامي بها إلى السلوك الأمثل، وإنقاذها من الأمراض والعقد المضنية لها، ونقلها إلى عالم نفسي رباني تحيط بها السعادة من كل جانب .
فليس التحليل النفسي في أصوله جديدًا على الفكر الإسلامي، بل هو أحد دعامات المربين الأخلاقيين المسلمين. إلا أنه كان تحليلاً نظريًا وتطبيقًا معًا، ومدفوعًا بدافع الإيمان بالله واليوم الآخر، وباحثًا عن السعادة الأبدية، غير ناسٍ نصيب الإنسان من السعادة الدنيوية. بيد أن بعضهم ربما وقع في بعض أخطاء، بسبب عدم تقيده من جانبي منهج الحق بحدود مفاهيم القرآن الصحيحة، وسنة الرسول القولية والعملية، وما كان عليه أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم الذين تأدبوا في مدرسته الربانية العظيمة .
• لكنّ التحليل النفسيّ الذي بدأت «فرويد » وأسس له مدرسة بحث، ساعده فيها عدد من تلاميذه اليهود وغيرهم، قد أقامه على أساسين فاسدين :
الأساس الأول : الإلحاد بالله، وإنكار الغيبيات، واعتبار الإنسان ظاهرة مادية فقط، بما فيه من فكر، ونفس، وحياة .
وهذا هو الأمر الذي جعلته القيادة اليهودية السرية دعامة الإفساد الأولى للمجتمع البشري .(52/5)
الأساس الثاني: الإباحية الجنسية، وحث الإنسان على ممارسة رغباته الجنسية بحرية تامة، لا تقف أمامها قيود دينية، أو أخلاقية، أو عادات وتقاليد اجتماعية، أو أية ضغوط من أية جهة كانت .
وضمن المحافظة على هذين الأساسين انطلق «فرويد » في دراساته، ومعالجاته الطبية النفسية، وكتابة أفكاره وآرائه في علم النفس، ووضعه في قوالب «نظريات » علمية .
فلم يكن «فرويد » باحثًا متجرّدً نزيهًا من أوّل طريق البحث، بل كان باحثًا يريد تدعيم أساسية الفاسدين عن طريق البحث الذي قد يجد فيه ما يستطيع تزيينه، وضمّ بعضه إلى بعض، ليتخذ منه بناء فكريًا مزخرفًا، يوهم به صحة أساسية الفاسدين، الموضوعين في خطة التضليل ابتداءً .
ولكنّ البحث العلمي - مهما كانت دوافعه - قد يشتمل على بعض عناصر جزئية، لو أخذت وحدها لكانت مفيدة في مجال المعرفة الصحيحة، بيد أن البناء الفكري الذي يقرّره البحث، إذا أخذ جملة واحدة دون تمييز ولا تمحيص، كان خطرًا على المعرفة، ووبالاً على الحقيقة، وطمسًا لمعالمها .
ومع ما قدمته أبحاث «فرويد » من خدمات حسنة في مجال التحليل النفسي، إلا أن عناصر الضعف ظلت بارزة في أبحاثه، لأنه أراد لها أن تخدم أساسية الفاسدين .
( 4 )
ما يهمنا مناقشته من آرائه وأفكاره في علم النفس :
1 - أقام آراءه وأفكاره - كما سبق بيانه - على الإلحاد بإنكار الخالق عز وجل، وإنكار الدين والأخلاق، واعتبار الإنسان كائنًا ماديًا ناتجًا عن تطور المادة تطورًا ذاتيًا، فهو غير مكلف من قوى غيبية بمسؤولية، وغير متابع من قبلها بحساب ولا جزاء .
2 - وزعم « فرويد » أن كل سلوك الإنسان يرجع إلى دافع وحيد في كيانه منذ ميلاده حتى موته، ألا وهو الدافع الجنسي، فهو الدافع الوحيد في حياة الإنسان، وتتشكل ظواهره بأشكال كثيرة في سلوكه .
3 - لذلك ينبغي إعطاء الدافع الجنسي الحرية المطلقة، ويجب عدم تقييده بأية قيود دينية، أو خلقية، أو قانونية، أو أسرية، أو عادات وتقاليد اجتماعية .
وزعم أن مقتضيات الصحة النفسية تدعو إلى إطلاق هذا الدافع وعدم كبته .
4 - ادّعى أنّ كبت الدافع الجنسي هو المسؤول عن الإصابة بالأمراض العصبية في الناس ومنها الهستيريا، وأن كل مرض عصبي يمثل اضطرابًا في الوظائف الجنسية .
والكبت الجنسي من فعل المجتمع والدين والأخلاق والتقاليد، فهي التي تحول دون تنفيس الإنسان عن رغباته، وتكبت غرائزه .
ولكي نمنع العقد النفسية والاضطرابات العصبية يجب أن نزيل هذه الحواجز، ويمارس الإنسان تلبية رغباته الجنسية بأية وسيلة، حماية له من أن يكون عرضه للإصابة بمرض عصبي.
6 - اخترع قصة خرافية من عنده، زعم أنها حدثت في تاريخ البشرية، وأنها كانت السبب في ظهور الدين والأخلاق والتقاليد، وأنها ما تزال تؤثر في حياة البشرية من مخزونات ما وراء الشعور في النفس .
والقصة المختلفة هي أن الأولاد في العائلة القديمة شعروا بالرغبة الجنسية نحو أمهم، لكن أباهم كان حائلاً بينهم وبين تحقيق رغبتهم، فاجتمعوا عليه فقتلوه، ليستمتعوا بأمهم، وكانت تلك أولى الجرائم التي ترتكب في السلالة الإنسانية ([2]) .
قال: وأحس الأولاد بالندم على قتل أبيهم، فقدسوا ذكراه، وتحول هذا التقديس إلى عبادة، ومن ذلك نشأت أولى العبادات التي عرفتها البشرية، وهي عباد الأب .
ثم نزعت نفس كل واحد منهم للاستئثار بالأم، لكنهم وجدوا أنه لن يتم ذلك ما لم يتقاتلوا، ولو فعلوا لقتل بعضهم بعضًا، فاتفقوا على أن لا يقربها أحد منهم، فكان ذلك أول تحريم في العلاقات الجنسية، في تاريخ البشرية، وهو تحريم الأم .
وزعم أن كل الديانات والحضارات التي ظهرت في الناس، قد نشأت من ذلك الحدث الخطير، ونشأ الكبت من فكرة التحريم .
فالكبت منذ ذلك التاريخ هو طابع الحياة الإنسانية، بسبب وجود الدين والأخلاق والمجتمع وسلطة الأب، ونحو ذلك .
وزعم أن كل الأطفال الذكور يصابون بعقدة «أوديب » في أول طفولتهم ([3]).
7 - أنكر الرؤى المنامنية التي تستشف تنبوءات من الغيب، إذ هو ينكر ما وراء المادة، فليس للنفس الإنسانية صلة بشيء غيبي، أو بعلم غيبي، أو بعلم غيبي، وما يطابق الواقع من ذلك فهو مصادفة .
وزعم أن كل ما يراه الإنسان في منامه فهو أحلام تعبر عن رغبات حبيسة مخزونة فيما وراء الشعور، وهذه الأحلام لا تستطيع أن تظهر في عالم الواقع لأنها مكبوتة بوجود حارس في باب « اللاشعور » متيقظ كل التيقظ في حالة اليقظة .
وبما أن الكبت عنده يرجع إلى الكبت الجنسي، باعتبار أن الجنس في رأيه هو الدافع الوحيد في كيان الإنسان، فإنه يفسر الأحلام تفسيرات تتصل بكبت الدافع الجنسي، وبكل ما يتصل بالجنس، وقصر الأحلام على بعض أنواعها، وأنكر الأحلام التي تنبئ عن أمور ستحدث في المستقبل .
8 - وحتى لا ترفض آراؤه في توحيد كل الدوافع الإنسانية المختلفة بالدافع الجنسي، وهي دوافع يشعر بها الناس جميعًا في أنفسهم، وسع مفهوم الدافع الجنسي، وأطلق عليه كلمة «اللبيدو » وزعم أنه يشمل حياة الإنسان من الطفولة إلى الموت .(52/6)
و «اللبيدو » في التحليل النفسي هو القدر المتغير كميًا من الطاقة الجنسية، الذي لا يمكن قياسه، والذي يوجه عاده إلى شيء خارجي، فهو يحتوي على تلك الدوافع التي تتعلق بالحب بالمعنى الواسع، والمكون الرئيسي له هو الحب الجنسي، كما أن هدفه هو الاتحاد الجنسي.
إلا أنه يشمل أيضًا حب النفس، وحب الوالدين، والأطفال الصغار، والصداقة، والتعلق بأشياء واقعية، وحتى الإخلاص للأفكار المجردة .
ويرى «فرويد » أن «اللبيدو » يتحوّل من عناصر جنسيّة، إلى عناصر أخرى غير جنسيّة لها قيمة اجتماعية، وسمّى ذلك تصعيدًا أو إعلاءً .
وبناءً على رأيه هذا فقد ردّ النشاطات الحضارية والفنية الإنسانية إلى أنها من آثار هذا الإعلاء لما أسماه «اللبيدو ».
( 5 )
كشف الزيف :
ظهر لنا أن آراء « فرويد » الخاصة تنطلق من أساسين :
• الإلحاد بالله وإنكار الغيبيات واعتماد المادية .
• الدعوة إلى الإباحة الجنسية، تعللاً بما زعمه كبتًا جنسيًا، وبما يولده هذا الكبت من أمراض عصبية .
أما الإلحاد والمادية فموضوع له في هذا الكتاب بحث خاص به، فلا داعي للاشتغال به هنا.
بقي موضوع الإباحية الجنسية، ومزاعم تبريرها بأنها تحمي من إصابة الإنسان بالكبت، الذي قد يولد لديه أمراضًا عصبية، وموضوع إنكاره قسم الرؤى التي قد تستشف تنبوءات من الغيب، إذا مكن الله النفس الإنسانية من ذلك، حتى يكون الإنسان نائمًا .
أولاً : أما زعم « فرويد » انحصار دوافع الإنسان بالدافع الجنسي فقد تولى تفنيده والرد عليه وتزييفه علماء النفس في نظرياتهم .
وأما دعوته الملحة إلى الإباحية الجنسية، حماية للنفس من الكبت وآثاره المرضية، التي عظم من أمرها وهول، واعتبرها من الأخطار الجسيمة، التي لا تستقيم الحياة الإنسانية إلا بالتخلص منها، فزيف آرائه فيها شديد الظهور :
• لقد كشف زيفها واقع الإباحية الجنسية التي أخذ بها الغرب المادي، والشرق الشيوعي المادي، فلم تنفع شعوبها شيئًا للتخلص من أمراضها النفسية القديمة، بل زادتها أمراضًا فوق أمراض، وآلامًا فوق آلام .
إنّ الأمراض النفسية، والعقد النفسية، غدت من العلامات البارزة والعلل المتكاثرة، في البيئات الاجتماعية التي يكثر فيها الإلحاد، وتزداد فيها الإباحية الجنسية .
• من أجل حماية الإنسانية من الإصابة بالمرض العصبي، الذي قد يحدث عند نسبة قليلة جدًا من ذوي الكبت، تجاهل ما تجلبه الفوضى الجنسية من أمراض خطيرة جدًا، تنتشر في المجتمع البشري، وهي لا تنتشر إلا عن طريق الاتصالات الجنسية غير المشروعة، كمرض الزهري، ومرض الآيذر ([4]) .
وتجاهل ما تجلبه الفوضى الجنسية من مضارّ اجتماعية خطيرة، كاختلاط الأنساب، وفقد الرابطة الأسرية الحقيقة .
وتجاهل ما تجلبه الفوضى الجنسية من قلق نفسي، وذلك لأن السكينة النفسية، التي يجلبها الزواج الشرعي المصون، تنعدم بالفوضى الجنسية، ويحل محلها القلق والتوتر وعدم الارتياح .
• يضاف إلى كل ذلك ما في الإباحية الجنسية من معصية للرب الخالق عز وجل، فالزنا عمل اتفقت على تحريمه الشرائع الربانية كلها .
فوائد الضبط الجنسي في الإسلام :
أما الإسلام بشريعته الربانية الحكيمة، فقد ضمن للمسلم الملتزم بتنفيذ أحكامها سعادة الآخرة وسعادة الحياة الدنيا :
• لقد ضمن له سعادة الآخرة بطاعة الله .
• وحماه في الحياة الدنيا من الكبت المضر، إذ حثه على الزواج، وحضّ المجتمع الإسلامي على أن يهيئ له سبله .
• وحماه من الفوضى الجنسية الناشرة لأمراض وخيمة، والمسبب لأمراض ومضار اجتماعية خطيرة .
• وهيأ للمسلم ظروف الأمن والطمأنينة النفسية السعيدة بأمرين :
الأمر الأول : الإيمان بالله، والاعتماد عليه، والاستعانة به، والطمع بثوابه، والخوف من عقابه، والتطلع للعمل بمراضيه .
الأمر الثاني: التربية الخلقية، التي تغرس في نفس المؤمن المسلم فضائل الأخلاق، ومحاسن الآداب، والاستقامة في السلوك على صراط الله .
ومنهج الإسلام في موضوع الدافع الجنسي يشتمل على عنصرين :
العنصر الأول: الحثّ على الزواج، ففي الزواج الضبط، وتلبية الدافع الجنسي بأفضل الصور وأسلمها .
العنصر الثاني: حماية المسلم من الكبت ومن آثاره حين لا يتهيّأ له الزواج المشروع، وعماد هذه الحماية الأمور التالي :
1 - الثقة بحكمة الله في فضائه وقدره، والتسليم الكامل لمقاديره، والأمل بالثواب العظيم على العفّة والصبر عن المعصية .
فمن شأن هذا الأمر أن يمنح نفس المؤمن المسلم لربه الطمأنينة والرضى .
2 - التصعيد، ويكون بتوجيه النفس لعبادة الله، وفعل الخير، وتوجيه الإرادة لكل أمرٍ سامٍ يصرف همه النفس وطاقاتها إلى الفضائل .
3 - معالجة الجسد، بتخفيف مثيرات الجنس فيه، كالصيام .
4 - إبعاد المسلم عن المثيرات، بما جاء في أحكام الإسلام من أوامر الستر، وكفّ البصر، ومنع الاختلاط .
لذلك لا نجد الكبت ولا نتائجه المرضية عند المسلمين المطبقين لتعاليم الإسلام، وإنّما قد نجده عند غيرهم .(52/7)
ونجد أخطر من الكبت ونتائجه عند الذين تحللوا من ضوابط العفة، وانطلقوا في أودية الفوضى الجنسية على ما يشتهون، ونجم عن انطلاقهم سُعارُ شبقٍ قذر في أيام فتوتهم، وقد يستمر حتى شبابهم، ثم مهانة برود وضعف في أيام كهولتهم وما بعد ذلك، وقد يحدث ذلك في أيام شبابهم .
يضاف إلى ذلك ما شاع في بلاد هذه الفوضى الجنسية من أمراض جسدية ونفسية واجتماعية خطيرة، كانت نتيجة هذه الفوضى، وهي لم تكن في أسلافهم .
فمن أجل درء خطر المرض النادر الذي يمكن تفاديه، باتباع أحكام الإسلام ووصاياه، أسقطت أفكار الكبت والإباحية الفرودية كثيرًا من مجتمعات شعوب الأرض المختلفة، لاسيما الغرب المادي، والشرق الشيوعي المادي، في صنوف كثيرة من الآلام الفردية والاجتماعية .
وكان ذلك من العقوبات المعجلة التي جعلها الله عز وجل ضمن سننه في هذه الحياة الدنيا .
أما العقوبات الأخروية فهي أشد وأقسى، ولعذاب الآخرة أشق لو كانوا يعملون.
* * *
ثانيًا : وأما إنكاره الرؤى المنامية التي هم ن الله، وتستشف النفس بها تنبوءات من الغيب، فالكلام حوله من وجهين :
الوجه الأول : ما تدل عليه ظاهرة هذه الرؤى الموجودة لدى معظم الناس قديمًا وحديثًا، وانطباق كثير منها على الواقع المستقبلي الذي أنبأت عنه، إذا كانت ذات دلالة تنبئ عن أمر سيقع في المستقبل .
إنّ وجود هذه الظاهرة، وتكررها في الناس، في كل عصر، وفي كل أمّة، لا يفسر بأنه مجرد مصادفة، كما زعم « فرويد ».
يضاف إلى ذلك أن بعض أهل تعبير الرؤيا قد يدركون دلالاتها قبل وقوعها إدراكًا ظنيًا، ثم تتحقق تعبيراتهم، ويصدق الواقع إدراكهم الظني. ثم إن كثيرًا من الناس يسترجعون ذكريات الرؤيا ويدركون دلالتها بعد تحقق ذلك في الواقع، فحين تقع ينكشف لهم أنها كانت أنباء استشفتها النفس من وراء حجب الغيب بإذن الله .
والرؤى المنامية قد تكون دلالتها واضحة صريحة، وقد تكون دلالتها إشارية أو رمزية، أو مقلوبة الصورة، أو عكسها، أو ضدها، أو مثال نفسية الذي دل عليه المرئي .
ولكثرة ما نلاحظ من قصص الرؤى التي يحكيها الناس، ويذكرون انطباقها على ما جرى لهم في حياتهم بعد رؤيتها لهم والتجارب الشخصية الكثيرة في ذلك، نكاد نؤكد أن معظم الناس قد مر في حياتهم رؤيا مناسبة أو أكثر انطبقت فعلاً على ما جرى لهم بعدها.
والرؤى التي تنبئ عن أمور ستحدث، ثم تقع بعد ذلك، هي بمثابة برهان من الله على قضائه وقدره في عباده وعلى شمول علمه، وهي تدل على أن عالم الغيب حقيقة .
وما يدل على ثبوت القضاء والقدر السابق أو وجود علم سابق بما سيحدث، يهدي إلى الإيمان بالله، ثم إلى الإيمان بما جاء من عند الله في كتبه، وفي بيانات رسله .
وهذا النوع من الرؤى، قد يعين الله به الشاكين في الله، وفي قضائه وقدره وعلمه الشامل، إذْ يكون لهم دليلاً على ذلك، فتطمئن قلوبهم بالإيمان، وبأن عالم الغيب حقيقة.
الوجه الثاني : ما جاء في البيانات الدينية حول الرؤى المنامية :
1 - عن أبي هريرة قال: قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :
« لم يبق من النبوة إلاّ المبشرات » قالوا: وما المبشرات؟ قال: « الرؤيا الصالحة » - رواه البخاري .
وعن عطاء بن يسار أنه قال: جوابًا لسؤالهم « الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أن تُرى له » - رواه مالك .
2 - وعن أبي قتادة، قال: قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :
« الرؤيا الصالحة من الله، والحُلْم من الشيطان، فإذا رأى أحدُكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، وليتفُل ثلاثًا، ولا يحدث بها أحدًا، فإنها لن تضره ». رواه البخاري ومسلم .
3 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :
« إذا اقترب الزمان لم يكدْ تكذب رؤيا المؤمن، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وما كان من النبوة فإنه لا يكذب ».
قال محمد بن سيرين : وأنا أقول : الرؤيا ثلاث: حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبشرى من الله، فمن رأى شيئًا يكرهه فلا يقصه على أحد، وليقم فليصلّ. رواه البخاري ومسلم.
4 - وعن جابر قال: جاء رجلٌ إلى صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت في المنام كأن رأسي قطع. قال: فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: « إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدث به الناس » رواه مسلم .
5 - وعن ابن عمر، أنّ رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: « من أفرى الفرى أن يُري الرجل عينيه ما لم تريا » رواه البخاري .
أي: من أكذب الكذب المفترى، أن يدعي الإنسان أنه رأى في منامه شيئًا، وهو لم ير ذلك الشيء .
6 - وعن ابن عباس عن صلى الله عليه وسلم قال: «من تحلم بحلم لم يره، كلف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل ».
وفي رواية عند الإمام أحمد: « عذب حتى يعقد بين شعيرتين وليس عاقدًا ».(52/8)
أي: كان عذابه يوم القيامة أن يكلف أن يعقد بين شعيرتين، فإن لم يستطع عذب، وهو لن يستطيع ذلك، والسبب في أن الكذب في الرؤى المنامية فيه طرف من الكذب على الله، لأن الرؤيا الصالحة من الله، كما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
7 - وعن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الرؤيا ثلاث: فرؤيا حق. ورؤيا يحدث الرجل بها نفسه. ورؤيا تحزين من الشيطان » أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي .
وذكر ابن حجر في الفتح أن الحصر في هذه الأنواع الثلاثة غير مراد، لثبوت أنواع أخرى ذكر منها ما يلي :
• ما يهمّ به الرجل في يقظته فيراه في منامه .
• تلاعب الشيطان .
• رؤيا ما يعتاده الرائي في اليقظة، كمن عادته أن يأكل في وقت، فنام فيه فرأى أنه يأكل.
• ومنها الأضغاث، وهي الأخلاط المجتمعة، كحزم الحشيش التي فيها أصناف مختلفة.
فأنواع الرؤيا التي وردت في السنة سبعة :
النوع الأول: الرؤيا الحق، التي هي من الله، والتي هي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، ووصفت بأنها الرؤيا الصالحة، وبأنها بشرى من الله .
النوع الثاني: الرؤيا التي يحدث الإنسان به نفسه .
النوع الثالث: الرؤيا التي هي حُلْمٌ، وفيها تحزين من الشيطان، وتنذر بشر، والسنة ترشد المسلم أن يتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، إذا رأى شيئًا منها، وأن يتفل ثلاثًا عن شماله، وأن لا يحدث بها أحدًا .
النوع الرابع: ما يهمُّ به الرجل في يقظته فيراه في منامه .
النوع الخامس: تلاعبُ يتلاعبهُ الشيطان بالإنسان، وهو لا دلالة له، والسنة أن لا يحدث المسلم بها أحدًا .
النوع السادس: رؤيا ما يعتاده الرائي في اليقظة .
النوع السابع: رؤيا الأضغاث .
وأرى أن بعض هذه الأنواع التي ذكرها ابن حجر قد تتداخل .
8 - وقد ثبت في الصحيح أن أول ما بُدئ به رسول ا صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم .
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول ا صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح » رواه البخاري .
9 - وقد أثبت القرآن العظيم الرؤى في نصوص متعددة، فمن أنكرها فهو في حكم الإسلام كافر لا محالة .
أ - فمنها رؤيا يوسف وهو غلام، وقد عرضتها سورة « يوسف » قال الله تعالى فيها:
+ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ " .
وقد تحققت فيما بعد هذه الرؤيا .
ب - ومنها ما رآه رفيقًا يوسف عليه السلام في السجن، وتعبير يوسف لهما رؤياهم، وتحقق تعبيره كما عبّر .
ج - ومنها ما رآه فرعون مصر في عهد يوسف وهو في السجن، إذْ رأى سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، وتعبير يوسف عليه السلام هذه الرؤيا، ثم تحققها كما عبّر .
د - ومنها الرؤيا التي رآها الرسو صلى الله عليه وسلم أنّه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام، فلما صد عام الحديبية عن البيت طعن المنافقون في ذلك وقالوا: أين رؤياه، فأدخله الله مكة في العام التالي، وأنزل قوله في سورة (الفتح 48) :
+ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا".
فهذه الآية تدل على أنّ الرؤيا الحق هي من الله، لقوله تعالى: + لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ". .
فالتكذيب بالرؤى التي هي من الله إنكار لحقيقة من الحقائق الكونية، التي هي من سنن الله في خلقه، وإنكار لظاهرة إنسانية موجودة في الناس في كل عصورهم، وكل أجناسهم وعقائدهم ومذاهبهم .
وآراءُ فرويد وكل الماديين ينكرون الغيبيات حول تفسير ظاهرة الأحلام، هي من قبيل حصر هذه الظاهرة ببعض أنواعها، وآراؤهم في هذا نابعة من إنكارهم للروح، ولكل ما وراء المادة من قوى، وإنكارهم لله عز وجل، ولقضائه وقدره، ولعلمه الشامل لما كان، ولما هو كائن، ولما سيكون في المستقبل، وقصر تفسيراتهم للظواهر على التفسيرات المادية التي تتناول الماضي والحاضر فقط .
لقد أنكروا الوحي الرباني الذي اختص الله به أنبياءه ورسله، ودلت المعجزات الباهرات عليه، وكان الوسيلة لتبليغ دين الله الذي اصطفاه الله لعباده، أفلا ينكرون الرؤيا الصالحة التي هي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، كما جاء في الصحيح من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد انقطعت النبوات بعد بعثة خاتم الأنبياء والمرسلينمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يبق منها إلا المبشرات، وهي الرؤيا الصالحة، يراها المسلم لنفسه، أو يراها غيره له .(52/9)
إن النبوة لا تتحقق في الإنسان الذي يصطفيه الله بها، ما لم تتوافر فيه خصائص تصله بعالم الغيب، وبالوحي، مجموعها ستة وأربعون جزءًا، والرؤيا الصالحة الصادقة جزء واحد من هذه الأجزاء، فهي ليست نبوة، لكن تنبئ عن استعداد في تكوين الإنسان بمقدار جزءٍ من ستة وأربعين جزءًا، وأنى له أن يستكمل سائر الأجزاء، ولو استكملها فلا يكون نبيًا إلا بالاصطفاء الرباني .
ولست أدري هل توجد علاقة بين هذا العدد (46) الذي ذكره الرسو صلى الله عليه وسلم وبين عدد كروموسومات الإنسان التي هي (46) كما يقرر علماء الأحياء، وهل الاستعداد الذي يجعل الإنسان مؤهلاً لاستقبال الرؤيا الصالحة التي هي من الله، هو من جهة كروموسوم واحد من كروموسوماته الـ (46) أما النبي فاستعداده يكون من كل كروموسوماته ؟
موضوع يدعو إلى التساؤل، وقد يكشف البحث العلمي في المستقبل ما يؤكد صحة هذه العلاقة، والله أعلم .
* * *
نظرة نقدية إلى آراء فرويد في علم النفس بمنظار النقد المعاصر :
إذا تجاوزنا كل ما سبق، ونظرنا إلى آراء فرويد الخاصة نظرة موضوعية غير متحيزة، فإننا نجدها منتقدة ومتخلفة جدًا في مجال الدراسات النفسية المعاصرة .
أما فكرة تحليل دوافع الأنفس إلى السلوك فهي فكرة إنسانية قديمة، وليست هي بحد ذاتها من مبتكرات « فرويد ». إلا أن هذا الرجل قد أفرط في السبح الخيالي في تحليل تصرفات الإنسان، إفراطًا حشد فيه أوهامًا وفرضيات أقرب ما تكون إلى التخريف المطلق منها إلى الدراسة العلمية الموضوعية .
بيد أنه باتجاهه ودراساته نبه الباحثين النفسيين إلى البحث الموضوعي في مجال التحليلات النفسية، حتى تكونت مدارس التحليل النفسي في عالم العلم، وأصبحت مدرسة «فرويد » اليهودية في نظر العلماء بدائية ومتخلفة جدًا .
والسبب في هذا أن «فرويد » قد كان مسخرًا أساسًا لمحاربة الأديان، وتهديم القيم الخلقية والاجتماعية، وقد فرضت عليه الخطة اليهودية العالمية أن يضع نظرية تتستر بالعلم لتحقيق هذه الغاية، فاستخدم التحليل النفسي طريقًا إلى ذلك .
كما استخدم غيره من اليهود طرقًا أخرى تحت ستار البحث العلمي، لتحقيق الغاية نفسها .
وطبيعي في الدراسة العلمية الموجهة أساسًا لإبطال حقيقة من الحقائق، أن تكون مكرهة على أن تصوغ أفكارًا تجمع في ثناياها بعض الحقائق للتمويه، وأن تحشر تخيلات وأوهامًا وافتراضات لا سند لها من الواقع .
كمثل القصور التي يقيمها الممثلون في مسارح التمثيل، لها زوايا صلبة، خشبية أو حديدة، أما الجدران وسائر البناء فأوراق ملونة مصبوغة، أو أقمشة مصبوغة بلون حجارة البناء، فهي في حقيقتها وهم وخداع تمزقه أية يدٍ تمتدّ إليه بالفحص .
وأقتبس هنا نقدًا موضوعيًا لمدرسة « فرويد » مما كتبه صديقنا الدكتور «عبدالحميد الهاشمي » وهو نقد مؤلف من النقاط التالية :
1 - إن آراء «فرويد » هي أولاً وقبل كل شيء أفكار افتراضية، وليست من الحقائق النفسية أو المبادئ العلمية التي أثبتتها التجارب، أو صدقتها الملاحظة العلمية .
فليس لآراء «فرويد » تلك الهالة التي حاول بعض مناصريها أن يلبوسها ثوب الحقائق العلمية، فبعض الجهات العالمية تحاول أن تحيطها بالدعاية لتحقيق أهداف لها تنتج عن ترويجها والإقناع بها .
2 - تعتبر آراء «فرويد » امتدادًا لفلسفة أفلاطونية، إلا أن أفلاطون كما هو معروف في فلسفته كان يحاول أن يسير بالنفس الإنسانية نحو المثالية، أما «فرويد » فقد تشبث - كما يقول تلامذته - بالدافع الجنسي، ليظل هو الدافع، والوسيلة، والغاية .
والواقع أن الصحة النفسية إذ تسعى للإشباع الشرعي المعترف به، فإنها تدعو إلى الضبط والإتزان، لأن الحقيقة العضوية (الفسيولوجية) والنفسية تؤكد أن الإشباع الفوضوي المطلق يزيدها تفتحًا، وتصبح الشغل الشاغل، ومن أجل هذا فالصحة النفسية في مناهجها التكوينية، والوقائية، والعلاجية، دعت إلى التسامي والإبدال، بجانب دعوتها إلى الإشباع المشروع .
3 - لقد اعتمد « فرويد » في آرائه على الحالات الشاذة المرضية التي كان يعالجها في مرضاه، ويكمن الخطأ العلمي في التعميم الذي أطلقه «فرويد » إذ أخذ يفسر السلوك المتزن العادي لدى الأسوياء في ضوء ما عاينه من السلوك الشاذ عند المصابين .
وهذه نقطة أخذها عليه زملاؤه وتلامذته في العلاج النفسي، وانفصلوا بها عن جماعته، ثم عارضوا آراءه وأفكاره بآراء وأفكار أخرى عُرفوا بها .
4 - تأثره بالأساطير اليونانية واضح .
5 - يعلق « روبرت ودورث » على أفكاره وآرائه بقوله :
« ولو بحثت عن رأيي الشخصي في « سيكولوجيا » فرويد، لكان علي أن أقول: إنني لا أؤمن بأن يكون مذهبه صحيحًا بأيّ معنى مطلق. ولا أن يوضع في مصافّ النظريات العلمية الكبرى، التي تربط المعرفة الراهنة.
فإنها بكائناتها وثناياها تبدو متخلفة أكثر منها ناظرة إلى الأمام ».(52/10)
وإذا علمنا أن البروفسور «روبرت ودورث » يعتبر من رواد علم النفس الحديث فيما بعد الحرب العالمية الأولى في كتبه الكثيرة عن علم النفس التجريبي، وعلم النفس الديناميكي، ورياسته لعلم النفس في لجنة البحث القومي الأمريكي، ولهيئة علماء النفس الأمريكيين. إذا علمنا ذلك أدركنا أن آراء فرويد تمثل في تطور الدراسات النفسية مرحلة بدائية متخلفة، لا ينبغي الوقوف عندها في مجال علم النفس الحديث .
6 - إن آراء فرويد وأفكاره تعكس الحياة المتناقضة الشاذة للمجتمع الغربي، بعد النهضة الصناعية المادية، وانتشار الاختلاط المطلق، وشيوع الإباحية بشتى أسمائها وسماتها، نتيجة الترف والغرور الأوروبي، في عنفوان العهد الاستعماري .
فكانت آراؤه وأفكاره انعكاسًا أو تبريرًا للواقع الشاذ، وليست دراسة علمية دقيقة تنظر إلى المشكلة من جميع أسسها .
7 - والخطأ العلميّ الكبير أن آراء «فرويد » تحاول تفسير السلوك الإنساني بنظرة جانبية جزئية، إذ حاول فرويد أن يحدد السلوك الإنساني بدافع الجنس .
ولقد قام لمناهضة هذا التفسير الجانبي والمتحيز عدة علماء نفسيين، لهم وزنهم العلمي حتى يومنا هذا غير من تقدم ذكرهم .
ولعلّ أعظمهم في ذلك « وليم مكدوجل » ([5]) الذي ناهض هذا التفسير الضيق والمتحيز في كتابه « تخطيط علم النفس » سنة (1923م) وفيه يرد على كل من «فرويد » و«يونج » و «كارل » لتحديدهم دوافع السلوك البشري، بدافع واحد، أو اثنين .
أما «مكدوجل » فقد ذكر عدة دوافع سماها غرائز، وقد أوصلها بعد عدة تعديلات إلى عشرة غرائز أو تزيد، منها غريزة الأبوة في حماية الصغار، وغريزة المقاتلة مع انفعال الغضب، وغريزة الهروب من الخطر مع انفعال مصحوب بالخوف، وغريزة حب الاستطلاع، وغريزة تقدير الذات مع الشعور بالتفوق، وغريزة البحث عن الطعام، وغريزة التجمع مع الشعور بالعزلة. وغيرها من الغرائز .
8 - في آراء « فرويد » المتحيزة نحو التفسير الجنسي، دافعًا لكل سلوك، يتجلى التفكير اليهودي، الذي اشتهر به اليهود منذ أيامهم الأولى، في اتهامهم لبعض أنبيائهم، وفي معاملتهم للأمم التي عاشوا معها، وهو تحيز مقصود ومخطط، خدمة للسياسة اليهودية العالمية بعيدة المدى.
( 6 )
مع المتتبعين لهوية « فرويد » وأهدافه :
1 - أثبت المتتبعون لفرويد : أنه يهودي متعصب ليهوديته. وأنه صديق حميم لليهودي «تيودور هرتزل » مؤسس الصهونية الحديثة. وأن التحليلات النفسية التي قدمها تحت ستار الدراسة العلمية المتجردة إنما صاغها على الوجه الذي قدمها به، ليخدم القضية اليهودية الصهيونية في العالم. وأن الإلحاد الذي أعلنه لم يكن إلا رداءً ظاهريًا ليفتن المنتمين إلى دين غير اليهودية عن أديانهم، فيكونوا ملحدين، وهو في حقيقة وجدانه يهودي متمسك بيهوديته شديد التعصب لها، وصيهوني يخدم عن طريق دعاوى البحث العلمي المتجرد أغراض الصهيونية .
2 - ومن الذين تتبعوا «فرويد » تتبعًا واسعًا « د. صبري جرجس » في كتابه: «التراث اليهودي الصهيوني والفكر الفرويدي ».
لقد وضع هذا الباحث أصابعه على كثير من آراء «فرويد » المقتبسة من جذور التراث اليهودي الصهيوني .
وأوضح في كثير من المناسبات ما يجعل كثيرًا من آرائه محلاً للريبة، أو الجزم بأنها إنما وضعها لخدمة أغراض اليهودية العالمية، ولم يضعها على أساس دراسات علمية متجردة، ثم حملت الدعايات اليهودية العالمية آراءه، وروجت لها في جميع الأوساط العلمية والثقافية .
ثم وضع اليهود كل ثقلهم الكيدي في العالم لجعل آراء « فرويد » معارف علمية تدرس في الجامعات في الغرب والشرق، على أنها فتح في ميادين العلم، وذلك ضمن الخطط اليهودية المرسومة ضد شعوب العالم، ولمصلحة الشعب اليهودي فقط .
ثم رفعت وسائل الإعلام اليهودية العالمية «فرويد » إلى منزلة غير عادية .
وحمله ملاحدة مختلف الشعوب على رؤوسهم، وداروا به في أرجاء الأرض تمجيدًا وإكبارًا .
3 - يقول « فرويد » عن نفسه :
« ولدت في 6 مايو 1856م، في مدينة « فريبورج » بمقاطعة « مورافيا » بجمهورية تشيكوسلوفاكيا الحالية، وقد كان والداي يهوديين، وظللت يهوديًا أنا نفسي ».
4 - وتقول «شويزي »، وهي محللة نفسية من خاصة «فرويد » وذات معرفة به، وصلة وثيقة .
« إن إلحاد فرويد لم يكن إلا إلحادًا زائفًا، لأنه تركه بعد ذلك، متشبثًا باليهودية الصهيونية، وفيًا لها، سائرًا في طريقها، منفذًا لمخططاتها ».
5 - وقد انخدعت بمكيدته مدارس كثيرة من مدارس التحليل النفسي، وزعمته باحثًا حياديًا، ومكتشفًا مبدعًا في مجال دراساته التي قدمها، وكان للعصابة اليهودية التي انتمت إلى مدرسته أثر عظيم في الترويج لأفكاره وآرائه، وكان من ورائها أجهزة الإعلام اليهودية المنبثة في العالم .
6 - وإذ كان « فرويد » يهوديًا في أعمق وجدانه، كان شديد الحساسية لأية بادرة يشتبه في اتجاهها المضاد لليهود .
وقد كانت استجابته لجميع هذه المواقف عنيفة أشد العنف .(52/11)
وعلى الرغم من أنه لم يتعرض في حياته لأي اضطهاد من أجل يهوديته، إلا أنه كان يشعر بالاضطهاد في داخل نفسه من أجل كونه يهوديًا، لذلك كان ينطوي على نفسه، وداخل دائرة من أصدقائه، وكلهم من اليهود، وكان لا يأنس إلى صديق ولا يطمئن إليه إلا أن يكون يهوديًا .
ونقل عنه « جونز » مؤرخ سيرته أنه قال ذات مرة: « إنه يهودي، وليس نمساويًا أو ألمانيًا ».
وتساءل « ماكس جراف » أمامه ذات مرة، عما إذا كان من الخير أن يوجه اليهود أبناءهم لاعتناق المسيحية إذا اقتضى الأمر ذلك، فإن بفرويد يعترض بشدة قائلاً :
« إذا لم تنشئ طفلك على أنه يهودي، فسوف تحرمه من مصدر طاقة لا يمكن أن يعوض بشيء آخر، إن عليه وهو يهودي أن يكافح، ومن واجبك أن تنمي في نفسه كل الطاقة اللازمة لذلك الكفاح، فلا تحرمه من هذه الميزة ».
7 - وأكد « د. صبري جرجس » أنّ «فرويد » كان صهيونيًا، وصديقًا لهرتزل، مؤسس الصهيونية الحديثة. وأنه كان عضوًا في بعض المنظمات الصهيونية العاملة .
فمن الحقائق المعروفة أنه انضم إلى جمعية « بناي برث » الصهيونية أي: جمعية أبناء العهد. وكان انضمامه إليها سنة (1895م) وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، وهذه الجمعية لا تقبل في أعضائها غير اليهود، وقد صرح رئيس وفد هذه الجمعية الأمريكي الجنسية، في المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد بمدينة « بال » في « سويسرا » عام (1897م) بقوله :
« علينا أن ننشر روح الثورة بين العمال، وهم الذين سندفع بهم إلى خطوط دفاع العدو، موقنين بأنه لا نهاية لرغباتهم، ونحن بأمس الحاجة إلى تذمرهم، لأنه السبيل إلى تخريب المدنية المسيحية، والوصول سريعًا إلى الفوضى فيها، ولسوف يحين الوقت سريعًا الذي يطلب فيه المسيحيون أنفسهم إلى اليهود أن يتسلموا السلطة ».
8 - وحين بلغ « فرويد » من العمر سبعين سنة، أقامت له « جمعية بناي برث » الصهيونية حفلاً لتكريمه بهذه المناسبة، ولم يحضر « فرويد » هذا الحفل، لكن أناب عنه طبيبه الخاص البروفوسور « لدفيج براون » الذي ألقى كلمة فرويد فيه، وقد جاء في كلمته ما يلي:
« ... إن كونكم يهودًا لأمر يوافقني كل الموافقة، لأني أنا نفسي يهودي، فقد بدا لي دائمًا أن إنكار هذه الحقيقة ليس أمرًا غير خليق بصاحبه فحسب، بل هو عمل فيه حماقة إيجابية، إنه لتربطني باليهودية أمور كثيرة، تجعل إغراء اليهودية واليهود أمرًا لا سبيل إلى مقاومته .
قوى انفعالية غامضة كثيرة، كلما زادت قوتها تعذر التعبير عنها في كلمات، بالإضافة إلى شعور واضح بالذاتية الداخلية .. وهكذا وجدت نفسي واحدًا منكم أقوم بدوري باهتماماتكم الإنسانية والقومية، واكتسبت أصدقاء من بينكم، وحثثت الأصدقاء القليلين الذين تبقوا لي على الانضمام إليكم ... ».
9 - وكان « فرويد » عضوًا فخريًا في منظمة «كاديما ». وهي منظمة صهيونية معروفة، ولما اكتفى بالعضوية الفخرية بالنسبة إلى هذه المنظمة، دفع أحد أبنائه ليكون عضوًا عاملاً فيها .
( 7 )
استغلال مدرسة التحليل النفسي لخدمة المخططات اليهودية :
يلاحظ المتتبعون نتاج مدرسة « فرويد » في التحليل النفسي، أن « فرويد » وتلاميذ مدرسته اليهود خاصة قد استغلوا طريق التحليل النفسي، لخدمة المخططات اليهودية، والحركة الصهيونية العالمية .
فمن ذلك ما استغلوه في موضوع معاداة السامية، وهي الفكرة التي حمل اليهود شبح التخويف منها في الغرب، لإسكات كل لسان يمكن أن يتحرك في انتقاد اليهود، ولإيقاف كل مقاومة تتوجه لصد مكايدهم وتحركاتهم المريبة في السياسة، أو في الاقتصاد، أو في الإعلام، أو في مجالات العلم والثقافة، أو في غير ذلك من مجالات .
أما دور « فرويد » وتلاميذ مدرسته في هذا المجال، فقد كان يعتمد على طريقة التحليل النفسي، لتزييف الواقع والحقيقة، وتمجيد اليهود، وخدمة الصهيونية .
ولفرويد أقوال صريحة وواضحة في هذا المجال، وله تحليلات يزينها وفق أهوائه الخاصة، وقد ذكرها في كتابه « موسى والتوحيد ».
ومما ذكر « فرويد » في تحليلاته : أن أسباب كراهية الأمم لليهود كثيرة، واعتبر أنها ترجع إلى صنفين :
الصنف الأول : ظاهر وليس بعميق، وذكر من هذا الصنف سببين :
الأول : كون اليهود غرباء عن الأوطان التي يقيمون فيها .
الثاني : كون اليهود أقلية، لأن الشعور الجماعي كي يكون كاملاً فيما يقرّر، يقتضي توجيه العداء نحو الأقلية .
الصنف الثاني : ما أسماء « فرويد » بالأسباب العميقة، وزعم أنها ترجع إلى الماضي السحيق، وأنها منبعثة في النفس من اللاشعور، وهي في رأيه تتلخص فيما يلي :
1 - غيرة الشعوب الأخرى من اليهود، لأنهم آثرهم عند الله، بوصفهم أكبر أبناء الله.
2 - تمسك اليهود بعادة الختان .
3 - أن الشعوب غير اليهودية لما تركت وثنياتها الأولى تحت قوة الضغط، حقدت على أديانها الجديدة، في مستوى اللاشعور منها، فأسقطت حقدها على اليهود، لأنها لا تستطيع أن تكره دينها الجديد .
هذه هي التحليلات النفسية التي أرجع إليها فرويد كراهية الأمم غير اليهودية لليهود.
كشف الزيف :(52/12)
في اعتقادي أن أي عاقل لا يملك نفسه عن إطلاق ضحكات ساخرات من هذا التحليل، ومن هذه الأسباب التي ذكرها « فرويد » نفسه .
1 - أما زعمه أن من أسباب كراهية الأمم لليهود كونهم غرباء في الأوطان التي يقيمون فيها، فهو مردود من وجهين :
الوجه الأول : أننا نجدهم مكروهين، ولو كانوا هم الأصلاء لا الغرباء .
الوجه الثاني : أننا نجد كثيرًا من الغرباء في الشعوب محبوبين محترمين غير مكروهين.
فليست الغربة إذن من أسباب كراهية الأمم لهم، إلا أنهم قد ضمّوا إلى غربتهم شيئًا آخر من عند أنفسهم، كالاستغلال بالحيلة والمكر والكيد، والأنانية المفرطة، وعقدة الاستعلاء التي يضعون عليها ستارًا من المسكنة، وحقدهم هم على الأمم .
2 - وأما زعمه أن من أسباب كراهية الأمم لليهود كونهم أقلية، فهذا خلاف الواقع تمامًا، بل هو عكس الواقع .
فالواقع أن العداء يتوجه عادة من الأقلية إلى الأكثرية بدافع الحسد، وليس العكس.
فليست الأقلية من أسباب كراهية الأمم لهم، إلا أن ينضم إليها شيء آخر من الأقلية نفسها، كمكايد تكيدها، واستغلالات غير مشروعة تستأثر بها، وعقدة استعلاء تفتخر بها.
فالكراهية سببها اليهود أنفسهم، وأعمالهم داخل الأمم والشعوب التي يعيشون بينها.
3 - وأما ما ذكره « فرويد » من الأسباب العميقة، فشيء مضحك جدًا .
أ - إن ادعاءه أن الشعوب الأخرى تغار من اليهود، لأنهم آثرهم عند الله، بوصفهم أكبر أبناء الله، فهو يتوقف على اعتراف الشعوب لهم بهذا التميز .
لكنه لا توجد أمة من أمم الأرض ولا شعب من الشعوب يعترف لهم بهذه الميزة، حتى يغار الناس منهم .
بيد أن الحسد والغيرة من سمات اليهود منذ تاريخهم القديم .
ب - وادعاؤه أن تمسك اليهود بعادة الختان من أسباب كراهية الأمم الأخرى، إدعاء مضحك جدًا .
ومع بالغ السخرية نقول: إن غير اليهود يختتنون أيضًا، فالمسلمون الذين يعدون في هذه الحقبة من التاريخ قرابة ألف مليون نسمة، يختتنون، والأمم الأخرى لا تكرههم لذلك.
وأي شيء يمنع أية أمة عن الختان ؟!
ج - وأما ادعاؤه حقد الأمم على أديانهم في مستوى اللاشعور، وإسقاط حقدها على اليهود، لتحليل خيالي خرافي جدًا، لا يقبل له أي محلل نفسي يحاكم الأمور بوسائل المعرفة الإنسانية .
فهل يوجد سخف أكبر من هذا السخف الفرويدي باسم التحليل النفسي، لدعم اليهودية العالمية ؟!!
( المرجع : " كواشف زيوف " للأستاذ عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني ، ص 289-315) .
--------------------------------------------------------------------------------
([1] ) له مؤلفات عديدة مترجمة إلى العربية، من أهمها الكتب التالية :
1- «تفسير الأحلام ». 2 -« ثلاث رسائل في نظريّة الجنس ».
3 - «مدخل إلى التحليل النفسي ». 4 - «ما فوق مبدأة اللّذة ».
5 - «مقدمة في التحليل النفسي ». 6 - «حياتي ».
7 - « التحليل النفسي ». 8 - «الذات والغرائز ».
9 - «معالم التحليل النفسي ». 10- «القلق ».
([2] ) اختلاق قائم على تحريف قصة قابيل وهابيل .
([3] ) عقدة «أوديب » هي فيما يزعم «فرويد » ميل الطفل الذكر جنسيًا نحو أمّه، ويقابلها عقدة «أليكترا» وهي ميل البنت جنسيًا نحو أبيها .
([4] ) الآيدز : عبارة عن مرض فيرسي اكتشف حديثًا في أمريكا ويتولد عنه إحباط في المناعة في جسم الإنسان، وظهوره شائع لدى أصحاب الشذوذ الجنسي من الرجال. ومن أعراضه طفح جلدي يعم الجسد، وقد يصل إلى الجهاز العصبي .
([5] ) وليم مكدوجل: سيكولوجي أمريكي، عاش ما بين (1871- 1938م) كان أستاذ علم النفس بجامعة «هافرد » من (1920 إلى 1927م) بعدها صار أستاذًا في «ديوك ». قام ببحوث ممتازة في علم النفس الاجتماعي والفسيولوجي، واشتهر لبحوثه البيولوجية المتصلة بعلم النفس. من مؤلفاته «مقدمة إلى علم النفس الاجتماعي » الصادر سنة 1908م .
-------------- فْرُويْد
يُداوِي الناسَ وَهُوَ عَلِيْلُ!
الأستاذ ساري فرح
المنتدى للتعريف بالإسلام والحوار بين الحضارات
... هل يعاني ابنكِ من مشكلة ما؟ اصطحبيه لزيارة الطبيب النفسي... لِمَ فعلتَ كذا وكذا, ألم تسمع ما قال عالم النفس البارحة في المقابلة التلفزيونية؟!... لا تجادلني! هذه حقائق أثبتها علم النفس... وغيرها من الجُمَل والعبارات التي تعظِّم وتمجِّد علم النفس وعلماءَه في زمننا هذا. ما هو السر يا ترى وراء مصداقية علم النفس؟ وهل يمكننا أن نقول "صدق علم النفس أو عالم النفس"؟ ما هو علم النفس؟ ما هي مبادئه؟ أليس جديراً بنا أن نبحث عن إجابات هذه الأسئلة بدلاً من التصديق الأعمى لكل ما يُنقل إلينا تحت شعار "العلم"؟ وما هو العلم؟
ألم يَأْنِ لأُمة (اقرأ( أن تقرأ بتفكُّر وتدبُّر وبين السطور لتنهض من سُباتها العميق، نافضة عنها غبار الوهن والتخاذل؟ نقول بلى، فلنلقِ نظرة على ما في زماننا من العلوم، ولننظر نظرة تفكُّر وتدبُّر سائلين الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن ينور بصائرنا لرؤية الأشياء على حقيقتها.
تاريخ علم النفس:(52/13)
يُعتبر علم النفس علماً حديث النشأة استقل عن الفلسفة في أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا، وتحديداً في مدينة لايبزغ في ألمانيا، حيث أقام العالم الألماني فيليلم فوندتWilhelm Wundt أول مختبر لعلم النفس عام 1879. واعتبر هذا الحدث استقلالاً لعلم النفس نظراً لأن علم النفس لم يكن "علماً" قبل ذلك.
أصل مصطلح علم النفس إغريقي: Psyche Logos, ومنها جاء المصطلح الإنجليزي Psychology. وكان مصطلح علم النفس يدل على البحث عن طبيعة الإنسان (خيِّرة أم شريرة) بالإضافة إلى البحث في جوهر النفس لمعرفة تهذيبها. والنفس Psyche عند اليونان مصطلح يُطلق على الروح أو "الكمال الأول لجسم طبيعي قابل للحياة" كما عرَّفها أرسطو.
واعتبر الفلاسفة النفس -بمعنى الروح- كياناً غير مادِّي؛ لانتفاء قدرة الحواس المادية على إدراكه، وأدرجوا النفس في خانة الماورائيات أو الميتافيزيق physics.
هذا التحول الذي شهده علم النفس من الفلسفة إلى العلم كان سببها بشكل أو بآخر ظهور المدرسة التجريبية (B r itish Empi r icism) في القرن الثامن عشر. منهجية هذه المدرسة في العلم نفي وجود الغيبيات جُملةً وتفصيلاً. وتبرير ذلك كان في بادئ الأمر أنه من غير الممكن إدراك الغيبيات من خلال الحواس، كما اعتبروا أن العلم لا يُحصَّلُ إلا بالتجربة المادية (Expe r imental Method).
وأدّى هذا المنهج الذي سمَّوه بـ"العلمي" إلى الإلحاد وإنكار وجود الله وملائكته والجنة والنار والغيبيات كافة لأنها لا تُدرك بالحواس ولأنها غير خاضعة للتجربة! فتحول موضوع دراسة علم النفس من الروح أو العقل (Soul, Mind) إلى السلوك البشري (Human Behavio r ) وهذا الأخير خاضعٌ للتجربة والمراقبة المخبرية، وعلى ذلك بُنيت مسائله واستنبطت مبادئ من تلك التجارِب والاختبارات. لكن ذلك لا يعني انفصال علم النفس عن الفلسفة ولا عن تنظير العقلانيين انفصالاً تاماً، بغض النظر عن رأي السلوكيين المتطرفين أمثال واطسون وسكينر.
فرويد وعلم النفس:
يُعتبر فرويد مؤسس مدرسة علم النفس التحليلي (Psychoanalysis) وهذه الطريقة تقوم على الكشف عن أسباب المرض النفسي في لاشعور (Unconscious) المريض. ويتم ذلك عن طريق دفع الرغبات والمشاعر المكبوتة والذكريات المَنْسِيَّة من اللاشعور إلى الشعورF r om Unconscious) to Conscience) وذلك عبر طرق عدة نتحدث عنها في سياق الكلام.
ولد سيغموند شلومو فرويد في مدينة فرايبورغ الألمانية عام 1856 لوالدين يهوديين. ويقول عن نفسه "وظللت يهودياً أنا نفسي" (قد يجد البعض تمسك فرويد بيهوديته متناقضاً مع إلحاده وهذا ما سنفصِّله لاحقاً). عندما بلغ الرابعة من عمره، انتقل فرويد وعائلته إلى فيينا عاصمة النمسا، وهناك بدأ فرويد مسيرته الدراسية ونال شهادة في علم الأعصاب (Neu r ology) من جامعة فيينا عام 1881.
أعلن فرويد انتماءه للمدرسة التجريبية (التيار السائد في أوروبا آنذاك), وعمل في المختبرات مساعداً وكان يحاول تفسير النشاط العقلي من خلال تفسيرات فيزيولوجية منكراً وجود الروح؛ فالكيان الإنساني بالنسبة له ليس سوى عبارة عن: لحم ودم وعظم وأعصاب وتفاعلات كيميائية في الدماغ. وأنكر فرويد بذلك الآخرة، فوجود الإنسان إذاً يقتصر على هذه الحياة الدنيا، وهذا عامل أساسي في نظرته القاتمة والمتشائمة للحياة.
وقد توصل العلم الحديث إلى أن إنكار الروح ليس أمراً يقينياً وذلك حتى من خلال الأبحاث المخبرية. ومن الحجج العلمية التي ترفض إنكار الروح ما يقول بأن جسد الإنسان يتغير بجميع خلاياه وأنسجته, وعلى الرغم من ذلك فإن أفكار الإنسان تبقى بصفة دائمة وكأنها موجودة في "سِجِلٍّ حافظٍ" غير محدود بالطبيعة الفيزيولوجية، وهذا ما يعطي الإنسان شخصيته الواحدة في جوهرها، رغم تبدل الخلايا والأنسجة. ومن الحجج القوية: أنّ خلايا القلب لا تنبض بفعل عملية بيولوجية، بل إنّ هناك كياناً غير فيزيولوجي يضمن خفقان هذا القلب، وبذلك استمرار حياة الإنسان، وما يزال النسيج القلبي الذي يخفق (Nodal Tissue) لغزاً في عالم البيولوجيا، أجبر كثيراً من العلماء على الاعتراف بوجود الروح.
تنقل فرويد في عمله بين المختبرات والمستشفى وانتهى به الأمر إلى افتتاح عيادته، وترافق ذلك مع زواجه. لا بد لنا من معرفة بيئة فرويد قبل أن نعالج نظرياته في علم النفس. كان المجتمع الأوروبي يواجه مرحلة من الضياع الروحي، وذلك بعد سقوط الكنيسة من مقامها، وخاصة بعد التقدم العلمي الذي لم يتوافق مع تعاليم الكنيسة التي بذلت جهداً دؤوباً في ملاحقة العلماء، واتهامهم بالهرطقة والشعوذة، وإعدام بعض منهم - وذلك خوفاً من تحول الشعب إلى العلماء وفقدان الكنيسة للسلطة والهيبة - فتفشى الإلحاد بذلك نقمة على الكنيسة. وضعفت تلك الأخيرة وخاصة بعد فصل الدين عن الدولة. فأصبح جل الشعب الأوروبي كالقطيع الحائر، لا يستطيع أن يثق بالكهنة والقساوسة، ولا يجد الإلحاد بديلاً مريحاً، وشاع الفساد وتفشى الانحطاط الخُلُقي، إذ أن سقوط الكنيسة أباح المحرمات وسمح لمروجيها بالظهور حتى في وضح النهار.(52/14)
وقد أصاب هذا الانحطاط احتشام المرأة: حيث كانت المرأة التي يظهر كاحلها محطّ جدل واتهام بقلة الأدب قبل ذلك، فانهارت هذه المفاهيم وانتشر العُري تدريجياً تحت شعار الحرية والتقدّم، إذ قرنوا التقدم العلمي والصناعي بكسر قيود الأخلاق والحلال والحرام. كل هذه العوامل أدَّت إلى اضطراب في المجتمع الأوروبي وصل إلى درجة الهستيريا والازدواجية الخُلُقية (بين الفطرة السليمة والبيئة المنحرفة). بالإضافة إلى هذه العوامل، كان هناك سباق تسلح بين الإمبراطوريات في أوروبا حيث ساد جوّ من التوتّر إلى أن اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914 وتبعتها الحرب العالمية الثانية عام 1936.
بعد أن بدأ فرويد معالجته للمرضى في عيادته استمر في أبحاثه وتنظيره واتصل بعدد من الأطباء في أوروبا منهم جان مارتن شاركوت الفرنسي الذي كان يُعالج مرضاه بالتنويم المغنطيسي. فعمل معه فترة من الزمن وتعلم منه طريقته بالإضافة إلى معالجة المرضى عن طريق المواد المخدِّرة، وقد عالج فرويد أحد مرضاه بالكوكايين وأدَّى ذلك إلى موته، بعد أن ظن فرويد أن للمخدرات تأثيراً إيجابياً على الصحة النفسية، فاضطر إلى أن يتخلى عن هذه الفرضية إلى حدٍ ما.
يتبين للباحث في سيرة فرويد، أن إلحاد هذا الأخير لم يكن عائقاً أمام تعصبه اليهودي ونشاطه الحزبي الصهيوني. وقد علَّق د. صبري جرجس في كتابه "التراث اليهودي الصهيوني والفكر الفرويدي", مُقارناً بين "فرويد" و"بن غوريون" قائلاً: "ولعل الفرق بينهما أن (بن غوريون) أعلن عن إلحاده ثم اتجه في الوقت نفسه إلى العمل السافر من أجل الدعوة العنصرية المتعصبة, بينما جعل (فرويد) من إلحاده قناعاً يحاول أن يخفي وراءه الوجه القبيح لهذه الدعوة". وكان صديقاً حميماً لثيودور هرتزل مؤسس الصهيونية الحديثة، وكان يوليه احتراماً وتقديراً عظيمين. وقد أرسل إليه أحد كتبه مع عبارة (إهداء شخصي) عليه. وقد انضم فرويد نفسه إلى جمعية (بناي برث) أي: أبناء العهد, عام 1895 وهي جمعية صهيونية تُعنى برعاية المصالح اليهودية وخدمة الصهيونية العالمية. وظل فرويد مواظباً على حضور اجتماعات هذه الجمعية وقد ألقى فيها أُوْلَى محاضراته عن تفسير الأحلام، وكان لأبحاثه ونظرياته في علم النفس التحليلي مساهمة كبيرة في سبيل تحقيق المخطط الصهيوني. فقد كانت للجمعيات الصهيونية سيطرة على الصحافة وأجهزة الإعلام، وكان لها القدرة (وللأسف ما زالت) على إسكات الألسن وهدم الجهود التي تحاول الكشف عن المخططات اليهودية العالمية. وأخذت هذه الجمعيات تنشر أفكار ونظريات فرويد التي لاقت رواجاً وخاصَّة لأنها تُرَوَّج بصفتها "عِلْمية" مستغِلةً تصديقَ الناس الأعمى لكل ما هو "عِلْمي"، والصهاينة يقولون في بروتوكولاتهم: "ارفعوا شعار العلم واهدموا به الدين" وسنجد تشابهاً كبيراً بين تعاليم فرويد وبروتوكولات حكماء صهيون! فالإفساد موجَّه إلى الأغيار (Goyim) دون اليهود، هذا الإفساد يسَهل سيطرة الصهاينة وإمساكهم زمام الأمور. فقد جاء في البروتوكولات: "ارفعوا شعار الحرية واهدموا به الأخلاق والأُسرة...". ويقولون إن كل ما عدا اليهود حيوانات ناطقة سخرها الرب في خدمة اليهود (التلمود).
يعتبر فرويد تحقيق اللذة غايةً مُثلى عند البشر؛ فهم بطبيعتهم يبحثون عن اللذة ويَفِرُّون من الألم. لكن تحقيق اللذة القصوى لدى الإنسان غير ممكن. كما يقول فرويد: إذ أن العوامل الثلاث: 1.الجسد 2.والعالم الخارجي 3.والمجتمع، تقف مشكِّلةً سداً منيعاً أمام تحقيق اللذة -وقد سمَّى فرويد هذه العوامل الوحش الثلاثي الرؤوس The Th r ee Headed Monste r -. فالجسد محدود ومعرَّض للأمراض والأوجاع، والعالم الخارجي مليءٌ بالكوارث الطبيعية والعوامل المُهلِكة، والمجتمع يتقاسم الموجودات معه ويحاول الاستفادة منه بأقلِّ مقابلٍ ممكنٍ من الأجر (نلاحظ أن فرويد يُركِّز على نصف الكوب الفارغ بتشاؤم).
قسّم فرويد الكيان البشري إلى ثلاثة جزاء متصارعة (ونجد هنا كما في معظم نظريات فرويد تأثراً بالفلسفة اليونانية، فقد قسم أفلاطون النفس إلى ثلاثة مراتب) هذه الأجزاء هي: الـ(هو) id -ويمكننا أن نسميه الهَوَى-، والـ(أنا) ego والـ(أنا الأعلى) supe r ego. فهو يَعتَبر الإنسان الذي يحقق توازناً بين هذه العناصر في جهازه النفسي رجلاً معافىً، إلا أن ذلك مستحيل بالنسبة لفرويد، فكل الناس مرضى نفسياً، ولكن بنسب متفاوتة!
ويتمثل هذا الصراع بإيجاز بأن الهو (id)، مبدأ اللذة المطلقة غايته الوصول إلى أقصى درجة من اللذة، والأنا (ego) يمثل الوسيط بين الهو والعالم الخارجي والأنا العليا (supe r ego) يمثل القيم الاجتماعية.
اقترح فرويد طروحات عدة للوصول إلى اللذة ومنها:
( تحويل الطاقة إلى طاقة إيجابية مقبولة اجتماعياً (عمل، كتابة، بحث علمي), ولكن ذلك لا يحقق إلا نسبة ضئيلة من اللذة، ولا يستطيع تحقيقه إلا النخبة من المجتمع.(52/15)
( الانعزال والبعد عن المجتمع تجنباً لأذى وشر الآخر، وهذا ما اتبعه الغرب في نزعته الفردية, فمات المجتمع بذلك وصارت الحياة مُوْحِشة كئيبة لدى الأفراد.
( تحصيل أكبر قدر ممكن من اللذة دون قيود، وهذا المحور الأساسي الذي انطلق منه فرويد لإشاعة الفساد في المجتمع الغربي ويأتي ذلك توافقاً مع البروتوكول الصهيوني: "يجب أن نخلق جيلاً لا يخجل من كشف عورته". وهذا ما يحصل الآن للأسف، حتى في مجتمعاتنا الإسلامية. قال فرويد في بادئ الأمر: إن تحصيل اللذة دون قيود يولِّد شعوراً بالذنب، وتتخلص عقدة الذنب عنده في: الخوف من تأنيب الضمير، والمجتمع، والعقوبة المتوجبة عليه. فلتحقيق اللذة دون ذنب، يتوجب تكسير قيود الأخلاق والمبادئ في المجتمعات وذلك يصعب في مصلحة البشر -كما يدافع فرويد عن دعوته- مُسَهِّلاً لهم سُبُلَ اللذة، وبذلك تتحقق السعادة والصحة النفسية، كما يعتبر ذلك تجنباً لكبت الرغبات في اللاشعور إلى درجة تراكمها وتحولها إلى عوارض وعقد نفسية.
أخذ الغرب بنصيحة فرويد، وها هو الآن يحصد دماراً اجتماعياً ونفسياً؛ فزيادة في نسبة الانتحار (حالة انتحار كل 40 ثانية في الولايات المتحدة)، وانتشار لمرض نقص المناعة AIDS، ومشاكل إدمان المخدرات (حيث إن المخدرات تباع في محلات مرخّصة لها في هولندا مثلاً)، وحالات الاغتصاب (1900 جريمة اغتصاب يومياً في الولايات المتحدة)، وارتفاع نسبة الطلاق (50% في الولايات المتحدة) وغيرها من الأمراض والجرائم.
ونأسف لأنه ما زال في عالمنا الإسلامي من يروِّج لفكرة: "التفلّت سر السعادة"! كما نأسف للتقليد الأعمى لنمط الحياة الغربية؛ إذ أن عدوى المشاكل التي يعاني منها الغرب انتقلت إلينا وهذا يذكِّرنا بقوله تعالى: ?ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ? [الروم:41].
فرويد والدين:
شنَّ فرويد حرباً شعواء على الدين في العديد من كتبه، وقد خصص لهذا الموضوع كتاباً أصدره عام 1927 وهو "مُستَقْبَلُ وَهم"، "The Futu r e of an Illusion". والوهم بالنسبة لفرويد هو الدين، والتدين ليس إلا مرضاً نفسياً (عُصاب Neu r osis). وقد روَّج الإعلام لهذه الفكرة. وكانت هذه النظرية الفرويدية دعماً كبيراً للمخططات الصهيونية؛ إذ أن إبعاد الأغيار (Goyim) عن أديانهم يولِّد تفككاً في بنيتهم الاجتماعية والخُلُقية, ويسهل بذلك السيطرة عليهم. وكان هناك توجه نحو استبدال علم النفس بالدين؛ إذ أصبحت "الكَنَبَة" التي يستلقي عليها المريض النفسي في العيادة النفسية معبِّراً عن مكبوتاته بديلاً عن "غرفة الاعتراف" في الكنيسة التي باتت شبه مهجورة في الغرب. وأصبح المحللون النفسيون بدلاء للكهنة والقساوسة والرهبان. إلا أن هذا الاستبدال لسوء حظ فرويد وإخوانه الصهاينة لا ينطبق على العالم الإسلامي، على رغم محاولات من يسمُّون أنفسَهم بالعلمانيين والـ"متحررين" في مجتمعاتنا لإسقاط وتنزيل هذا الاستبدال الذي حصل في الغرب على مجتمعاتنا الإسلامية، وذلك لعوامل عدة أبرزها: 1.وضوح عقيدة الإسلام، 2.وعدم وجود طبقة كهنوتية مُحْتَكِرة للدِّين، 3.والرابطة القوية والمباشرة التي يتمتع بها المسلم بربه تبارك وتعالى, وذلك في صلاته وأذكاره، وأعماله اليومية.
كما أثبتت الأبحاث العلمية أهمية الدين فيما يتعلق بالصحة النفسية؛ إذ أن أقل الناس تعرضاً للاضطرابات النفسية هم أكثرهم تديناً، كما تؤكد أبحاث معاصرة عديدة. والله تعالى يؤكد لنا ذلك وهو أصدق قِيْلاً: ?فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ? [البقرة: 38] ?فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى? [طه:123-124].
ويقول كارل غوستاف يونغ الذي اعتزل فرويد عام 1914 نظراً لرفضه تفاسير هذا الأخير المنحرفة التي تعلل خصائص حياة الإنسان كافة جنسياً: "لا أكاد أجد مريضاً واحداً يعاني من مشاكل نفسية إلا وكان بعيداً عن العقيدة الدينية".
وقد هجر ألفرد أدلر (عالم نفس وطبيب نمساوي) فرويد أيضاً, وكان ذلك عام 1911 لنفس الأسباب التي هجر يونغ فرويد من أجلها, وتبعه عدد من تلامذة فرويد في فترة وجيزة.
ويبدو من ذلك أن شخصية فرويد لم تكن مريحة, فقد كان سُلطوياً متعجرفاً كما يصفه عدد من تلامذته ومعاصريه.
عُرِفَ فرويد بإدمانه للسيجار, ومن العجيب أنه لم يتخلَّص من إدمانه هذا إلى أن أُصيب بسرطان الحَلْق(Palate Cance r ) عام 1923, وأجرى عدة عمليات لاستئصاله, إلا أن الألم وعدم الراحة لازماه إلى أن طلب من الطبيب إعطاءه جرعة مميتة من المورفين عام 1939 للتخلص من أوجاعه ومن حياته المشؤومة منتحراً, وقد أراح العالم بذلك من نظريات منحرفة, ودعوات شاذة باطلة لا يقبلها سليم القلب والعقل.(52/16)
ختاماً: نَوَدُّ ذكر بعض النقاط المهمة فيما يتعلَّق بمقومات الصحة النفسية في الإسلام؛ فالخضوعُ والانقياد لمشيئة الله يجعل الإنسان منسجماً مع الوجود, مطمئن النفس, والتوكُّلُ على الله يورثُ العزيمة والثقة والمثابرة. ومراقبةُ الله أكبر رادعٍ عن الوقوع في الحرام والهلاك, والإفساد والإضرار بالآخرين؛ ?وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى? [النازعات:41,40]. والإيمان باليوم الآخر يُلهمُ الرجاء والأمل, ويحثُّ على التصدُّق والعمل, ويشوِّق الإنسان المؤمن إلى فرحة يوم اللقاء بربه, ويُنصِفُ المظلوم المتيقِّن بعدل المَلِك الواحد الأحد. والإيمان برسول الله محمد (, سُمُوٌّ لمعاني الإنسانية يدفع إلى التخلق بالأخلاق العلية, فهو أُسْوَتُنا الحَسَنَة, ومَثَلُنا الأعلى, وشمائله ترشدنا إلى السعي لتحقيق الكمال البشري.
وأما الماديون من البشر, فأولئك تَعِسَت حياتهم؛ فهم يُحبُّون العاجلة, ويسعون لإشباع ملذاتهم الفانية, ولا يزيدهم إشباعها إلا جوعاً وعطشاً. فالماديُّ المنكر لله واليوم الآخر يتناسى الموت ويعيش يومه, ولا يذوق إلا زيف السعادة للحظات تَتْبعها غصة وندم, ثم يبحث عن اللذة تارة أخرى لكي ينسى الحزن والأسى... وهكذا, فهو مدرك لتعاسته, منكر لها, فمن له؟
أخوتي في الله, علينا بالعودة إلى دين الله, ففيه فلاحنا ونجاحنا وشفاء صدورنا وارتواء أرواحنا. فإذا ما تمكَّنَّا من أسباب نصرة الدين, وفَّقنا الله تعالى لنكون هادِيْنَ مَهْدِيِّين, نُخرج أصحاب النفوس الكئيبة من الظلمات إلى النور بإذن الله, وبذلك نكون قد تفوقنا على من ادَّعى في علم النفس معرفة ممن يُسَمَّونَ بـ"الخبراء النفسيين".
?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ? [الأنفال:24].
?وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ? [فصِّلت:33].
-----------------------------------
المراجع:
( القرآن الكريم.
( صراع مع الملاحدة حتى العظم, د. عبد الرحمن الحبنَّكة الميداني.
( المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة, د. عبد المنعم الحنفي.
( معجم مصطلحات التحليل النفسي, جان لابلانش - ج. ب. بونتاليس, ترجمة د. مصطفى حجازي.
( أزمة التحليل النفسي, إريك فروم, ترجمة د. طلال عتريسي.
( دور اللاشعور ومعنى علم النفس للإنسان الحديث, كارل غوستاف يونغ, ترجمة نهاد خياط.
( من علم النفس القرآني, د. عدنان الشريف.
( الإسلام يتحدى, وحيد الدين خان.
( Civilization and Its Discontent, Sigmund F r eud.
( http://webcente صلى الله عليه وسلم health.webmd.netscape.com /content/a r ticle/78/95776.htm
, r eligion B r ings G r eate r Happiness.
===============(52/17)
(52/18)
سلسلة كشف الشخصيات (17) : ماركوز
بقلم : سليمان الخراشى
ماركوز وآراؤه الثورية :
( 1 )
من هو ماركوز ؟ ([1])
هو «هربرت مرقس. أو ماركوز » فيلسوف يهودي معاصر، ألماني المولد، أمريكي النشأة. عاش من سنة (1898 إلى 1979م). استخدم طريقة نقد الفكر الحديث في علاقته بالمجتمع الحديث، فكان من أشد نقاده. وكان له بسبب ذلك تأثير سياسي فعال بالغرب. أخذ أتباعه يمجدونه حتى رفعوه إلى مصاف أنبياء بني إسرائيل. له كتاب «فلسفة النفي » وكتاب «الحب والحضارة ».
وأصدر سنة (1964م) كتابًا باسم « الإنسان ذو النظرة الواحدة » أو ذو البعد الواحد. دعا فيه إلى قيام جمهورية القلة، التي تمارس العقلانية بواسطة الصفوة، ووجه هذه الصفوة لاستغلال الحركات الطلابية الثورية، ولاستغلال المنبوذين، والخوارج، والمستغلين، والمضطهدين من مختلف الأجناس والعناصر والألوان، والعاطلين عن العمل، وغير القادرين عليه، للقيام بعمل ثوري جذري يحقق هذا الهدف، وتلتقي فيه أشد قُوى الوعي الإنساني المتمثلة بالصفوة، بأشد العناصر البشرية تعرضًا للاستغلال، أو الاضطهاد، والتي يمكن دفعها للثورة الهائجة، واستغلال ثورتها .
وروجت وسائل النشر والإعلام اليهودية لكتاب « ماركوز » هذا ترويجًا عظيمًا، وحولت «ماركوز » من أستاذ جامعي اشتهر بتفسير فلسفة «هيجل » إلى شخصية دولية، يستشهد به ويتتلمذ عليه بعض اليساريين، ويعتبرونه قديسهم الفكري .
ومعلوم أن الدعاية لتمجيد الأشخاص هدفها المعاصر التمجيد بأفكارهم وآرائهم، والتأثير بذلك على الجماهير حتى تؤمن بها، وتنساق وراء قادتها .
( 2 )
دوافع آرائه :
رأى شياطين اليهود الموجهون لمنظماتهم، والمخططون لحركاتهم في العالم، أنهم قد حققوا في الشرق والغرب قسمًا كبيرًا من مخططهم الرامي إلى هدم الدين والأخلاق، وإطلاق حرية الفكر، وحرية الجنس والحب، وحرية اختيار أسلوب العيش مهما كان فوضويًا .
فقد أسسوا الشيوعية وأقاموا ثورتها في الشرق، فتمكنوا من الهيمنة على ناصية دولتها الكبرى .
وسيطروا اقتصاديًا وسياسيًا وإعلاميًا وثقافيًا على الدول الرأسمالية والاشتراكية في الغرب.
وكان للعبث الفكري دوره التمهيدي العظيم في ذلك، وهو الذي صاغه أئمة منهم أمثال: «ماركس، وفرويد، ودوركايم » ونشرته مؤسساتهم وأجهزتهم السياسية والإعلامية والتعليمية .
بقي عليهم أن يحضروا لإقامة الثورات السياسة، ليركبوا صهواتها، ويصلوا فعلاً إلى قمة حكم ديكتاتوري صارم، يحكمون به دول العالم الغربي، تحت ستار حث الصفوة من المثقفين لاستغلال الحركات الطلابية الثورية، ولتحريك المنبوذين والمشردين والهيبيين والعاطلين ومن إليهم للقيام بالثورة المطلوبة .
وإذا حكموا دول العالم الغربي حكموا من بعد ذلك سائر دول العالم، فالقوتان الكبريان تكونان يومئذٍ تحت سلطانهم .
فدفعوا «ماركوز » أحد رجالهم المتخصصين في الدراسات الفلسفية، لنشر أفكار جديدة، ذات صيغة فلسفية، من شأنها إغراء المثقفين التحريين من كل القيم التقليدية، الذين يتخذون الوجودية والإلحاد بالرب الخالق مذهبًا لهم في الحياة، ويؤمنون بحرية الجنس ومشاعيته، وبحرية الفكر مهما انطلق في عبثه، ويستمتعون بأسلوب العيش الفوضوي الذي لا ضابط له ولا نظام، ويؤثرون الانطلاق البهمي، ولكن بنوازع وغرائز بشرية .
ولكن ما هو المطلوب إغراء هؤلاء به، ودفعهم إليه ؟
المطلوب إغراؤهم به هو التحرك للاستيلاء على الحكم، وإقناعهم بأن الجيش الثوري الذي يمكن أن يستخدموه جسرًا يوصلهم إلى هذه الغاية، يؤلف من الحركات الطلابية الثورية، ومن فئات المنبوذين، والخارجين على تقاليد المجتمع، ولا يقيمون وزنًا لدين، أو خلقٍ، أو عرف، أو قاعدة اجتماعية، أو فضيلة خلقية، ويعرفون بالهبيين ([2]) والبوهيميين ([3]).
ومذهبهم الانعزالي يجعلهم ينفصلون عن الجماهير الواسعة، ثم يكون معهم المستغلون، والمضطهدون من قبل مجتمعاتهم، لأي سبب من الأسباب العرقية أو اللونية أو السلوكية أو غير ذلك، ومعهم أيضًا سائر المجرمين في الأرض .
أما طريقة الحكم بعد الظفر به، فينبغي أن تكون ديكتاتورية صارمة .
ولكن المكر اليهودي سيكون وراء كل هؤلاء الثوريين، إذ يتخذهم جميعًا مطايا، وهذه المطايا ستتساقط مطية فمطية، ويأكل منها اللاحق السابق، حتى تحين الفرصة المواتية لشياطين المكر المتربصين، وعندئذ سيكون شياطين المكر اليهودي هم الديكتاتوريين الحقيقيين، القابضين على كل مراكز القوة، والملوك الفعليين، الذين احتالوا للظفر بملك العالم بوسائل التضليل الفكري، والثورات التي تلتهب نيرانها بأجساد الحمقى الذين جعلوا أنفسهم مطايا لشياطين اليهود .
ويتوهم اليهود أنهم إذا حققوا هذا المخطط الأخير ملكوا الدنيا ملكًا علينًا صريحًا، واستعبدوا الشعوب بديكتاورية صارمة. لكن الله عز وجل لن يظفرهم بذلك، بل سيعيدهم إلى الوضع الذي هو القاعدة بالنسبة إليهم وما سواها شذوذ عنها .
( 3 )
ما يهمنا عرضه من آراء « ماركوز » وأفكاره :(52/19)
1 - مهد لأفكاره برسم صورة لواقع مجتمعات الدول الصناعية الراقية الغربية، وحاول أن يجد في هذا الواقع ما يمكن أن يطلق منه نيران الثورة على الإدارات الحاكمة داخل شعور هذه الدول .
2 - أما السلاح الناري الذي أراد تفجيره لدى المستعدين لأن يستجيبوا لأفكاره، فهو سلاح الحرية .
واستخدم لتفجيره زخرف القول الذي حاول فيه أن يضع مفهومًا للحرية، إذ جعل الحرية قسمين: حرية سطحية تافهة لا قيمة لها، لكنها تخدر أصحابها، وتجعلهم يستكينون. وحرية حقيقية جوهرية، وهي التي يملك أصحابها إدارة أنفسهم بأنفسهم، دون أن يكون لأحد سلطان عليهم .
3 - حافظ في فلسفته التي عرضها على البناء الذي أسسه من قبله شياطين يهود، وهو البناء القائم على المادية الإلحادية الإباحية التحررية الفوضوية .
4 - أقام فلسفته المزيفة على دعامتين رئيسيتين :
الدعامة الأولى : فكرة مؤسس الشيوعية اليهودي « كارل ماركس » في «النظام الجماعي » الذي يمثله في الإدارة صفوة من الأفراد، وهي الفكرة التي تدعمها آراء عالم الاجتماع اليهودي «دوركايم » في خرافة « العقل الجمعي » التي سبق شرحها .
الدعامة الثانية : فكرة مؤسس مدرسة التحليل النفسي، اليهودي «فرويد »، القائمة على توحيد الدوافع الإنسانية كلها بالدافع الجنسي، ووجوب إطلاق هذا الدافع ليحقق رغباته، دون أية قيود دينية أو خلقية أو قواعد وأنظمة وعادات اجتماعية، أو غير ذلك.
5 - أبان في رسمه لصورة واقع مجتمعات الدول الرأسمالية الغربية، أن تقنية «تكنولوجيا » المجتمعات الصناعية الراقية، قد جعلت في وسع هذه المجتمعات أن تزيل التناقضات الموجودة فيها، وذلك من خلال استيعاب جميع أولئك الذين كانوا في ظل الأنظمة الاجتماعية السابقة يشكلون قوى انشقاقية، وأصواتًا رافضة .
وقد حصل هذا الاستيعاب بسبب الكفاية والوفرة المادية، وتحرر الكثرة الكاثرة من الحاجة المادية، فلم تعد هذه الحاجة المادية تضغط عليهم، لتطلق منهم أصوات الرفض للواقع الذي يعيشونه، وتشكل منهم القوى الانشقاقية عن المجتمع .
لكن تلبية احتياجات الناس المادية، التي أزالت أسباب انشقاقهم واحتجاجاتهم وتمردهم، قد ولدت لديهم العبودية والاستكانة لإدارتهم الحاكمة، وطبقاتهم المالكة لرؤوس الأموال، فغدوا أدوات سلبية للنظام السائد، يدعمون استمراره باستكانتهم، وبرضاهم بما حققه لهم من سعادة مادية، وبعدم قيامهم بأي احتجاج أو رفض، أو تحرك لإحداث قوى منشقة.
لكن هذه السعادة التي نالوها، واستكانوا بسب تخديرها لهم سعادة سطحية وهمية مزيفة. مثلها كمثل الدعايات التجارية حينما تتوسل لإغراء الجماهير بالرسوم والصور الجنسية، دون أن تحقق لهم الإشباع الجنسي الحقيقي الذي يتطلبونه .
وزعم « ماركوز » أن لدى الإنسان قسمين من الاحتياجات :
القسم الأول : الاحتياجات الحقيقية .
القسم الثاني : الاحتياجات الزائفة .
وزعم أن الاحتياجات الزائفة في حياة الإنسان، هي التي يتم بها إخضاع الفرد، وحرمانه من حريته الحقيقية، التي هي إدارة نفسه بنفسه، وعدم استكانته وخضوعه لأية سلطة مهما كانت .
فالكفاية والوفرة قد كان من نتائجها توليد الاستكانة والخضوع والعبودية لدى المجتمعات الغربية، بسب ما حققتا لها من تأمين احتياجاتها الزائفة السطحية، القائمة على سعادة الجسد ومتعته، وهي سعادة زائفة، لكنها بسبب ذلك تخدرت فلم تعد تنشد احتياجاتها الحقيقية، وهي حريتها الحقيقية، التي يكون الإنسان فيها سيد نفسه بنفسه لا يخضع معها لأحد .
لكنّ مصلحة الإنسان الحقيقية إنما تتمثل بحصوله على احتياجاته الحقيقية، وهذه مسؤولية الصفوة المثقفة الواعية .
إذ أن الأكثرية من الناس قد أصبحوا راضين تمامًا عن مجتمع الكفاية والوفرة، وسعداء بما تقدمه الإدارة لهم من سلع وخدمات، والعامل لا يشعر بأن رئيسه يتفوق عليه في مأكل أو مشرب أو ملبس أو مركب، حتى إنهما يشاهدان برامج تليفزيونية واحدة، ويقرآن جريدة واحدة، ويرتادان أماكن الترويح عن النفس بمستوى واحد .
ولا يعني هذا زوال الطبقات، بل هو يدل على المدى الذي يمكن أن يصل إليه إشباع الحاجات، الذي يخدم هدف الحافظ على السلام الاجتماعي ([4]) .
يضاف إلى ذلك أن الإدارة استطاعت أن تمتص كل أوقات فراغ هذا المجتمع الصناعي الراقي، فأوقات فراغ الناس فيه لم تعد حرة برغم ازدهارها ضمنه .
وأظهر «ماركوز » استياءه من أن ظروف العمل في المجتمع الصناعي الراقي تميل إلى جعل العامل سلبيًا، وتقضي على أي شعور لديه بمعارضة النظام، وأن ما تستحدثه الدولة من مؤسسات تنشد بها الإصلاح الاجتماعي، يكون في الوقت نفسه وسيلتها للسيطرة على حياة الذين ينعمون بفوائد ومزايا هذه المؤسسات، بسبب هيمنتها على مستوى معيشتهم ([5])، وكلما زاد استهلاك الناس كان ذلك ادعى إلى إضعاف حوافز تقرير المصير. سواء في ذلك الدولة الصناعية الغربية والدولة الشيوعية .(52/20)
6 - ورأى «مركوز » أن هذا الواقع في المجتمع الصناعي الراقي، يمكن أن يكون مدخلاً إلى مستقبل ينتهي فيه النزاع بين الطبقات، ذلك لأن المجتمع الصناعي الراقي، هو بحق نظام توازن القوى الذي يتحقق بسيطرة النخبة من المتنافسين على الحكم، ولا يمكن أن يكون حكم النخبة من السياسيين إلا انعكاسًا لصالح هذا النظام، الذي يتمتع فيه أفراد النخبة بما يقرب من السيطرة التامة عليه .
وهذا أمر يسوؤه ويغيظ المخطط اليهودي العالمي .
7 - ويرى «ماركوز » أن الوارث الطبيعي للنظام الحر «الليبرالي » ([6]) الذي أخذ الغرب يطبقه في ديمقراطياته، هو النظام الجماعي « التوتاليتاري » ([7]) أي: النظام الاستبدادي باسم الجماعة .
قال: وهذا النظام هو المسيطر حاليًا على الأفكار الصناعية الراقية، ومعنى ذلك أن النظاميين الشيوعي والغربي متشابهان، أو أنه يوجد في النظام الغربي قوى متناهية، يمكن أن تعتبر مماثلة للنظام الفاشي أو الشيوعي .
لكن «التوتاليتارية » أي: الاستبدادية الغربية لا تعبر عن نفسها من خلال الحكم «الديكتاتوري » الاستبدادي الصريح، بل من خلال القضاء على الثقافة القديمة والفن القديم، بالمؤسسات الحديثة، التي من شأنها تصفية الإنسان ذي النظرتين، ليحل محله الإنسان ذو النظرة الواحدة، ومن هنا أخذ « ماركوز » عنوان كتابه « الإنسان ذو النظرة الوحدة ».
ويعني بالنظرة الواحدة نظرة الإنسان إلى حاجاته الجسدية، وإهماله لحاجاته الحقيقية، التي تتحقق بحريته الحقيقية في أن يكون سيد نفسه بنفسه، لا يخضع لأحد، ولا يستكين لأحد. (أي: إن الثقافة الغربية جعلت الإنسان الغربي لا ينظر إلا بعين احتياجاته الجسدية المادية فقط) .
ورأى أن اللغة المعاصرة في المجتمعات الغربية، قد انحطت حتى صارت خادمة للنظام الجماعي «التوتاليتاري » الغربي المعاصر، فقد غدت مجرد اختصارات ورموز لأشياء مادية، حتى الرغبة الجنسية بإطلاقها وإشباعها بطريقة سطحية، قد صارت من الأدوات الخادمة للنظام الاستبدادي القادم، على ما خلاف ما كان يقصد إليه «فرويد ».
8 - بعد أن عرض « ماركوز » تصوراته السالفة عن المجتمعات الغربية، رأى أنه قد هيأ ما يلزم لتوجيه مخططه الثوري، ويبرز ذلك بالنقاط التالية :
• إن مصلحة الإنسان الحقيقية إنما تتحقق بحصوله على احتياجاته الحقيقية، التي تكون بحريته في إدارة نفسه بنفسه، وبأن يكون هو سيد نفسه بنفسه، لا سلطان لأحد عليه .
• لكنّ الجماهير في المجتمعات الغربية الصناعية الراقية قد أصبحت راضية سعيدة، مخدرة بما تقدم لها هذه المجتمعات من تأمين احتياجاتها السطحية الزائفة .
• فمسؤولية إيصال هذه الجماهير الراضية المخدرة بأمور زائفة، للمستوى الذي تحصل فيه على احتياجاتها الحقيقية، إنما تقع على الصفوة الواعية من الناس، فهي التي تستطيع تغيير هذا الواقع، وتحقيق الأمر المنشود، لأنها هي الأكثر وعيًا بمتطلبات العصر وبمتطلبات الأكثرية.
• ولا سبيل أمام الصفوة لتأسيس مجتمع المستقبل القائم على العقلانية والتحرير والتسامح إلا بالثورة والاستيلاء على مقاليد الحكم، وإعلان ديكتاتورية الأقلية .
• ووسيلة الصفوة إلى ذلك القوى الثورية الحقيقية، وتتألف عالميًا من الحركات الطلابية، وأنصار جهات التحرير والثورة الثقافية .
وخصص « ماركوز » جزءًا من فلسفته، للثورة الطلابية، ونوه بطابعتها الجمالي الذي زعمه، وبلغتها التي أطلق عليه اسم لغة الروح ولغة الثقافة «الهيبة ».
• وتبرز في اليسار الذي ينتمي إليه « ماركوز » عناصر المنبوذين، والخارجين على تقاليد المجتمع، ولا يقيمون وزنًا لدين أو خلق أو عرف أو تقاليد أو عادات أو قواعد اجتماعية، ويعرفون بالهيبيين، والبوهيميين .
• وطبيعي أن تستغل الثورة عند قيامها كل المضطهدين والمستغلين من قبل مجتمعاتهم، لأي سبب من الأسباب، مع كل المجرمين في الأرض، لتحقق أهدافها .
( 4 )
كشف الزيف :
1 - إن أفكار «ماركوز » التي سبق عرض أهمها، لا تحتاج فيما أرى إلى باحث متعمق يكشف زيوفها، فكلها زيوف، وما فيها من صدق لا يتعدى بعض أوصاف ذكرها لواقع المجتمعات الغربية، وبعض أفكار .
2 - على أن الفكرة الأساسية التي أظهر حماسته من أجلها، وأراد إقامة الثورات على نظم المجتمعات الغربية وإداراتها، بسبب حرمان جماهير هذه المجتمعات منها، وهي ما أسماه بالاحتياجات الحقيقية إلى الحرية الحقيقية، في أن يكون الإنسان سيد نفسه بنفسه، لا سلطان لأحد عليه، وهي التي حرمته منها نظم المجتمعات الغربية وإداراتها، وجعلته بوسائلها التخديرية راضيًا سعيدًا، إذ منحته احتياجاته المادية الزائفة، فخدرته بها .
هذه الفكرة الأساسية التي من أجلها يريد أن يقيم الدنيا ويقعدها، لم يتضمن برنامج الثورة التي يدعو إلى تحقيقها، بل يتضمن تحقيق نقيضها تمامًا .
إن برنامج الثورة التي يدعو إليها يقرر إقامة الحكم المنشود على أساس ديكتاتورية الأقلية.
وحين يقام الحكم على أساس ديكتاتورية الأقلية، فماذا سيكون نصيب جماهير الأفراد من الحرية، سواء في احتياجاتهم الحقيقية أو الزائفة بحسب مزاعم «ماركوز »؟(52/21)
إنهم بداهة وحتمًا سيكونون محرومين من كل لون من ألوان الحرية، كما هو الحال في ديكتاتورية الدول الشيوعية، المتسترة بقناع النظام الجماعي، وتأمين مصلحة الجماهير الكادحة.
3 - ما أظن أحدًا يخفى عليه أن العبث الفكري الذي عرضه وزخرفه لصغار العقول، إنما يقصد منه زلزلة المجتمعات الغربية، التي غدت جماهيرها العامة خاوية من المبادئ والقيم والعقائد التي تعصمها من عاديات زيوف فكرية، وأوبئة مذاهب هدامة، لتمكين القلة اليهودية المنظمة، من الظفر بحكم ديكتاتوري صارم، مستخدمة أجراءها وعملاءها، من مختلف هذه المجتمعات .
4 - هل رضا الشعوب بسعاداتها، التي تحققها لها أنظمة مجتمعاتها، يعتبر من سيئات هذه الأنظمة، أم من حسناتها ؟!
5 - هل يوجد بدليل حقيقي صالح يكون فيه كل فرد من الناس مالكًا لحريته التامة، التي يكون فيها سيد نفسه بنفسه من كل الوجوه ؟!
حين توجد هذه الحرية تعم الفوضى، ويكون الدمار، ويغلب الأقوياء المستبدون، وينقسم الناس إلى سادة وعبيد .
والبديل الذي طرحه « ماركوز » هو الديكتاتورية الصارمة، أي: الحرمان المطلق من كل الحريات .
6 - الأفكار الزيوف الكثيرة التي عرضها ضمن فلسفته، سبق في مواطن أخرى من هذا الكتاب كشفها، وبيان وجوه الحق فيها .
( المرجع : كواشف زيوف ، عبدالرحمن الميداني ، ص 393-404).
--------------------------------------------------------------------------------
([1] ) انظر: الموسوعة النقدية للفلسفة اليهودية. تأليف: « د. عبدالمنعم الحنفي » وغيرها من الموسوعات.
([2] ) من موسوعة لاروس الكبرى، طبعة لاروس. باريس 1975م الجزء 22 (Hippie - Hippy) كلمة أمريكية الأصل، وكانت تعني إيقاعًا معينًا في الجاز، ثم صارت تخص مدخن الماريجوان. والمعنى الشائع الحالي لها يطلق على أولئك الشباب الذين لهم طريقة معينة في الحياة (حياة جماعية فيها تقديس أو عبادة الطبيعة والحب والحرية الجنسية) ويعرفون بأزيائهم الغريبة وشعورهم الطويلة، ومعارضتهم لقيم المجتمع الغربي، ومنهم عرفت « الحركة الهبية ».
في الأصل الموسوعي: ظهرت الهيبة من حركة سابقة لها اسمها « بيتنيكس Beatniks » وهي تقوم على فلسفة عدم العنف، التي تصل أحيانًا إلى الحزن والاستسلام .
وقد ظهرت في سنوات الأربعين هاتان الحركتان في مدينة « سان فرانسيسكو » بينهم الكاتب «كيرواك » وعدد من الرسامين، ونجوم هيولويد الممزقين. وقد جذبت هذه الحركة الشباب الذين يرفضون العنف .
ظهرت الجمعيات الأولى للهبيين في السهول المحيطة بسان فرانسيسكو، وعاشوا بطريقة مستوحاة من تقاليد الهنود الحمر. وقد تحطمت الجمعيات الهيبية الأولى نتيجة استشراء الأمراض بينها، لاسيما السل. «مراجعة د. خلدون الحكيم ».
([3] ) البوهيمي: هو المتشرد، الذي لا يألف التوطن، ولا يطيق التقيد بالأنظمة المدنية، أو القواعد الدينية والأخلاقية، والضوابط الاجتماعية .
بوهيما : منطقة تسكنها جماعة من الكتاب والرسامين ومحبي الفن الذين يعيشون حياة بوهيمية .
البوهيمي : الغجري. الذي لا يقيم وزنًا للأعراف والقواعد الاجتماعية، كذلك الهيبي، وتطلق أيضًا على من كان على هذا المذهب كلمة : «خنفوس ».
([4] ) هو فيما يزينه من أفكار لا يريد الحفاظ على السلام الاجتماعي، بل يريد إيقاد نيران الثورة على المجتمع، والنظم القائمة، لتمكين شياطين اليهود من الوصول إلى حكم هذه المجتمعات الغربية حكمًا مباشرًا .
([5] ) يذكرنا هذا بمعارضة الشيوعيين دائمًا لأي إصلاح اجتماعي، لأن ذلك يضعف عوامل الثورة على النظم الاجتماعية والإدارية القائمة، وهي الثورة التي يخطط الشيوعيون لإقامتها، واستغلالها، وركوب موجتها وظفرهم بالحكم بعد ذلك، وإقامة دولتهم الشيوعية الديكتاتورية الصارمة .
([6] ) الليبرالي، منسوب إلى الليبرالية، أي الحرية، ففي جانب الفكر تؤكد على الحرية الفكرية. والليبرالية الاقتصادية: هي نظرية في الاقتصاد تؤكد على الحرية الفردية، وتقوم عادة على المنافسة الحرة. والليبرالية السياسية: فلسفة سياسية تقوم على فكرة استقلال الفرد الذاتي وتنادي بحماية الحريات السياسية والمدنية .
([7] ) التوتاليتاري : هو النظام الديكتاتوري الاستبدادي، (الكلي الشامل) والنظام التوتاليتاري ذو علاقة بنظام سياسي مبني على إخضاع الفرد للدولة، وعلى السيطرة الصارمة على جميع مظاهر حياة الأمة وطاقاتها المنتجة. ويبرر الاستبداد فيه بأنه نظام جماعي، تحكم فيه الجماعة عن طريق الصفوة منها.
==============(52/22)
(52/23)
سلسلة كشف الشخصيات (18) : ميكافيللى
بقلم : سليمان الخراشى
ميكافيلي وفكرة : الغاية تبرر الوسيلة
( 1 )
من هو مكيافيلي ؟
هو « نيقولا ميكافيلي » إيطالي، ولد في «فلورنسا » وعاش ما بين عام (1469- 1527م). كان أبوه محاميًا متوسط الحال. حصل على وظيفة صغيرة في حكومة «فلورنسا » سنة (1498م). ثم ترقى وتقلب في وظائف بعثات دبلوماسية ذات أهمية للحكومة، ثم أصبح المستشار الثاني للجمهورية. وعندما استولت أسرة «مديتشي » على الحكم سنة (1512م) سجن لأنه كان معارضًا لهم، ثم نُفي في العام التالي، وسمح له بأن يحيا حياة التقاعد في الريف قرب «فلورنسا ». وتفرّغ للكتابة والتأليف، أشهر مؤلفاته :
1 - كتاب «الأمير » وقد أصدره سنة (1513م) وأهداه إلى «لورنزو » وكان هدفه أن يسترضي به «الميديتشيين ». دعا فيه إلى قيام دولة إيطالية موحدة بحاكم قوي، دون اعتبار القيم الخلقية، ولكنه لم ينجح في استرضائهم .
2 - كتاب «المطارحات » وهو أكبر من كتاب الأمير .
3 - كتاب «فن الحرب » أصدره سنة (1520م) تحدث فيه عن الجيش الضروري لمثل الحكم الذي وصفه في كتابه «الأمير ».
4 - كتاب في تاريخ فلورنسا، حلل فيه تطور المدينة حتى سنة (1492م) وله بعض الروايات .
أثرت آراؤه وأفكاره التي بثها في كتبه في العلم السياسي. وتجمعها الفكرة التي أمست من قواعد السياسة في معظم دول العالم العلمانية، وهي «الغاية تبرر الوسيلة ».
( 2 )
ما يهمنا مناقشته من آرائه وأفكاره :
عُني «ميكافيلي » بأن يكشف من التاريخ القديم ومن الأحداث المعاصرة له: كيف تُنال الإمارات، وكيف يُحتفظ بها، وكيف تُفقد ([1]) .
وانتهى إلى رأي في السياسة يتلخص كما سبق بالعبارة التالية: «الغاية تبرر الوسيلة » مهما كانت هذه الوسيلة منافية للدين والأخلاق .
وقد استند في رأيه هذا إلى الواقع المنحرف للأكثرية من الناس، لا إلى مبادئ الحق والعدل والخير والفضيلة .
رأى أن أكثر الحكام لم يكونوا شرعيين، ولم يكونوا متلزمين المبادئ الأخلاقية الفاضلة، وبذلك استطاعوا أن يصلوا إلى الحكم، وأن يضمنوا استقرار الحكم في أيديهم إلى حين.
بخلاف الحكام الشرعيين، والذين كانوا يلتزمون المبادئ الأخلاقية الفاضلة المستندة إلى الحق والعدل والخير، فإنهم لم يحققوا لأنفسهم النجاح المطلوب، ولا المحافظة على الحكم، كمحافظة الساسة الخائنين الغدارين المرائين المنافقين الكذابين .
حتى البابوات فقد رأى أنهم قد كانوا في الكثير من الحالات يضمنون الانتخاب لنفسهم بوسائل فاسدة، لا تتفق مع الفضائل الخلقية .
وأنكر «ميكافيلي » في كتابه « الأمير » بصراحة تامة الأخلاق المعترف بصحتها، فيما يختص بسلوك الحكام، فالحاكم يهلك إذا كان سلوكه متقيدًا دائمًا بالأخلاق الفاضلة، لذلك يجب أن يكون ماكرًا مكر الذئب، ضاريًا ضراوة الأسد .
وفي الفصل الثامن من كتابه «الأمير » ذكر أنه ينبغي للأمير أن يحافظ على العهد حين يعود ذلك عليه بالفائدة فقط. أما إذا كانت المحافظة على العهد لا تعود عليه بالفائدة فيجب عليه حينئذٍ أن يكون غدارًا .
ويقول :
« بيد أنه من الضروري أن يكون الأمير قادرًا على إخفاء هذه الشخصية ([2]). وأن يكون دعيًا كبيرًا، ومرائيًا عظيمًا، والناس يصلون في السذاجة وفي الاستعداد للخضوع للضراوات الحاضرة، إلى الحد الذي يجعل ذلك الذي يخدع يجد دائمًا أولئك الذين يتركون أنفسهم ينخدعون. وسأنوه فقط بمثل حديث واحد، فالإسكندر السادس لم يفعل شيئًا إلا أن يخدع الناس، ولم يخطر بباله أن يفعل شيئًا آخر، ووجد الفرصة لذلك، ولم يكن من هو أقدر منه على إعطاء التأكيدات، وتوثيق الأشياء بأغلظ الإيمان، ولم يكن أحد يرعى ذلك أقل منه، ومع ذلك فقد نجح في خُدعاته، إذ كان يعرف هذه الأمور معرفة طيبة ».
واستنتج «ميكافيلي » من هذا أنه لا يلزم الأمير أن يكون متحليًا بفضائل الأخلاق المتعارف عليها، ولكن يجب عليه أن يتظاهر بأنه يتصف بها. وينبغي له أن يبدو فوق كل شيء متدينًا ([3]) .
وفلسفة «ميكافيلي » تعتمد على دراسة النجاحات البشرية في وصول الناس إلى غاياتهم، ولو كانت هذه النجاحات هي من قبيل نجاحات الأشرار. وما دامت أمثلة الآثمين الناجحين أكثر عددًا من أمثلة القديسيين الناجحين، وكانت وسائل الآثمين وسائل آثمة منافية لفضائل الأخلاق، فإن الغاية في السياسة تبرر الوسائل المنافية لفضائل الأخلاق، من أجل تحقيق النجاح المطلوب، ومن أجل الوصول إلى الغاية المقصودة، وهي الظفر بالحكم والاستئثار به .
فآراء «ميكافيلي » في تبرير الوسائل المنافية لفضائل الأخلاق تدور حول السياسة، وأخلاق الحكام، وذوي السلطة .
وأخذ معظم أرباب السياسة في الشرق والغرب، بهذا الاتجاه الميكافيلي وفق أقصى صوره المنحرفة .
وهذا الاتجاه المنحرف الشاذ، المعاكس لاتجاه الكمال الإنساني، إذا أُخذ على إطلاقه، هو طريق كل المنحرفين الظالمين المجرمين المفسدين في الأرض، قبل مكيافيلي وبعده في السياسة، وفي غيرها .(52/24)
وأخذ هذا الاتجاه المستهين بفضائل الأخلاق الإنسانية لتحقيق غايات الأفراد والجماعات، يسودُ سلوك الناس في الشرق والغرب، ويغزو الأجيال في كل الأمم والشعوب، حتى غدا شمول الانحراف في الأخلاق نذير دمار عام شامل لكل الشعوب التي أخذت تنعدم فيها فضائل الأخلاق الفردية والجماعية .
وقد مال الفيلسوف الإنجليزي الملحد «برتراند رسل » إلى تأييد أفكار «مكيافيلي » فقال:
« وفلسفته السياسية علمية تجريبية، مؤسسة على خبرته الخاصة بالشؤون العامة، ومعنية بتقديم الوسائل على الغايات المحدودة، بغض النظر عن التساؤل عن ضرورة النظر في كون الغايات حسنة أو سيئة، وعندما يسمح لنفسه أحيانًا بأن يشير إلى الغايات التي يرومها، فإنها تكون بحيث تستطيع جميعنا أن نطريها، وكثير من القدح المألوف اللاحق باسمه يرجع إلى استنكار المنافقين الذين يكرهون الإقرار بفعل الشر » ([4]) .
( 3 )
كشف الزيف :
الكاشف الأول: يرجع الخطأ في الفكرة الباطلة التي انتهى إليها «مكيافيلي » في السياسة، إلى اعتبار النسبة الغالبة من السلوك الإنساني هي المقياس الذي يبرر به السلوك، وإلى إهمال جانب الحق والعدل والخير، وإغضاء النظر عن الشر الذي يشتمل عليه السلوك، وإلى اعتبار سلوك مع الناس ذوي المشاعر والآلام والحقوق المساوية لحقوق صاحب السلوك، كسلوكه مع الأشياء غير ذات الحياة ([5]) .
مع أنّ الواجب يقضي بأن تراعى حقوق الناس ومشاعرهم الإنسانية، ومنها آلامهم.
إنه إذا كانت الوسيلة المفضلة لخرق جبل في أماكن خالية من السكان هي أن نفجر في مكان الخرق المطلوب متفجرات قوية، لأن ذلك أسرع وأسهل، وأقل تكلفة، فهل يصح قياسًا عليه أن يكون مثل هذا التفجير هو الوسيلة المفضلة لفتح طريق داخل مدينة مليئة بالعمارات السكنية، وآهلة بالسكان، دون مراعاة للواجب الذي تفرضه حقوق الناس، ودون اكتراث بالشر الذي ينجم عن هذا العمل، ودون اعتبار لآلام الناس الذين يتعرضون لشرور هذا التفجير ؟
وهل يصح أن يعتبر ذلك أمرًا علميًا وتجريبيًا محققًا للمطلوب بأسرع وقت، وأسهل عمل، وأقل تكلفة، كما زعم «برتراند رسل » إذْ أيد آراء «مكيافيلي » بأنها عملية وتجريبية، مؤسسة على خبرته الخاصة بالشؤون العامة .
إن أسس سلوك الإنسان مع الناس ومع الأحياء، غير أسس سلوك الإنسان مع الأشياء غير الحية، التي ليس لها أفكار ولا مشاعر وآلام ولذات ومطالب حياة .
والمنهج العلمي الذي يطبق على الأشياء غير الحية، لا يصح تطبيقه من كل الوجوه على الأحياء، وعلى الناس بشكل خاص، لأن الأحياء بوجه عام لها حقوق تجب مراعاتها، ولأن الناس بوجه خاص لهم حقوق زائدة على حقوق الأحياء الأخرى، فيجب وضع هذه الحقوق في الاعتبار لدى اتخاذ مناهج علمية تطبق على الأحياء عمومًا، وعلى الناس خصوصًا.
الكاشف الثاني : إن اعتبار تفوق المستهينين بفضائل الأخلاق، والمرتكبين لرذائلها، في الوصول إلى الحكم وفي تثبيته، على المتلزمين بفضائل الأخلاق المجتنبين لرذائلها، هو المبرر العلمي لاتخاذ وسائل غير أخلاقية من أجل الوصول إلى الحكم وتثبيته، مطابق تمامًا لاعتبار وسائل الغش، والخديعة، واللصوصية، وأكل أموال الناس بالباطل، هي الوسائل المفضلة للوصول إلى الثراء الفاحش، والاستمتاع بلذات الحياة، وتدعيم الرأسمالية المفرطة .
فهل هذا مقبول من وجهة نظر الآخذين بآراء «ميكافيلي » من الشيوعيين والاشتراكيين؟
ومطابق تمامًا لاعتبار وسائل القتل الجماعي، وسلب أموال الأغنياء، وإقامة الثورات المدمرة، واستعباد الشعوب، من أجل وصول الأحزاب الشيوعية والاشتراكية إلى السلطة، واستئثارها بكل شيء، وتسلطها على كل شيء، بما في ذلك الحريات الإنسانية، والحقوق الإنسانية الأخرى .
فهل هذا مقبول من وجهة نظر الآخذين بآراء «ميكافيلي » من الرأسماليين والديمقراطيين؟
إذا كان الأول غير مقبول أخلاقيًا لدى الشيوعيين والاشتراكيين، وكان الثاني غير مقبول أخلاقيًا لدى الرأسماليين والديمقراطيين، مع أن الأول والثاني كليهما يمكن تبريرهما بأن الغاية تبرر الوسيلة، وفق مذهب «ميكافيلي » المتبع لدى المذهبين المتناقضين في العالم: «الرأسمالية وديمقراطياتها - والشيوعية وديكتاتوريتها ».
فإن الحكم المنطقي يقضي بداهة بأن كلا من الرأسماليين المكيافيليين، والشيوعيين الميكافيليين، متناقضون مع أنفسهم .
وذلك لأن الرذائل الخلقية التي تقتضيها المكيافيلية مقبولة عند كل من الفريقين ومرفوضة معًا .
إنها مقبولة إذا كانوا يمارسونها هم ضد غيرهم، ومرفوضة إذا كان غيرهم يمارسها ضدهم. وهذا تناقض منطقي بدهي، لا يلتزم به من يحاكم الأمور بعقله، ولكن يكابر فيه من يحاكم الأمور بأهوائه وشهواته ومصالحه الخاصة، كلما كان له هوى أو شهوة أو مصلحة، لا تقام عليها حجج علمية ضد الآخرين الذين لهم أيضًا أهواء أو شهوات أو مصالح خاصة تقف في الطرف المقابل .
ويكفي هذا التناقض مع الذات لإسقاط «المكيافيلية ». إذ التناقض في أي مذهب، أو أية فكرة، هو من أقوى البراهين لإبطال المذهب أو الفكرة ونقضهما .(52/25)
الكاشف الثالث : يتساءل كل من له عقل، بل كل من لديه مقدار يسير منه، عن التفسير المنطقي لهذا الرأي المنحرف الذي يعتبر عنه بأن الغاية تبرر الوسيلة، والذي لا يستطيع إنسان في الدنيا أن يقبله على إطلاقه، مهما بلغت به الجريمة، ومهما بلغ به الشذوذ الفكري والنفسي .
من المعروف في الحياة أن لكل إنسان، ولكل مجموعة بشرية، مطالب نفسية، وحاجات جسدية، وأنه لابد لتحقيق أي مطلب من مطالب النفس، وأية حاجة من حاجات الجسد، من اتخاذ وسيلة إلى ذلك .
فهل يصح في عقل أي إنسان عاقل اتخاذ أية وسيلة في الدنيا، مهما كان شأنها عظيمًا، لأية حاجة مهما كان شأنها حقيرًا تافهًا ؟
وحينما يروج صغار العقول أو المجرمون آراء «مكيافيلي » هذه التي تقول: «إن الغاية تبرر الوسيلة، ويدعون هذا الكلام يسير على إطلاقه، دون قيود المنطق السليم، والحق الثابت، والفضيلة المثلى، فإنهم لابد أن يتصرفوا في حياتهم تصرف المجانين، أو يكونوا شياطين مجرمين، يخادعون الناس بهذه الآراء التي يطلقون عليها زورًا وتزييفًا اسم «نظرية » ليفعلوا كل جريمة، دون أن يسميهم الناس مجرمين .
لقد ستروا أنفسهم المجرمة بطلاء مما أسموه «نظرية مكيافيلي ».
وفي محاكمة هذا الكلام الفاسد، إذا أخذ على إطلاقه، لابد أن نضع على سبيل التطبيق الفلسفي مجموعة من مطالب النفس، وحاجات الجسد، ونفرض أنها غايات، ثم نضع في مقابل ذلك مجموعة مما يمكن أن يكون وسائل لهذه الغايات، ونفرض أنها وسائل .
إنه من البدهي عند ذلك أن تبدو لنا أمثلة تطبيقية غريبة ومضحكة جدًا، أخف منها ما يجري داخل مستشفيات الأمراض العقلية .
إنه يلزم من تعميم الفكرة المكيافيلية، أن لا يكون من المستغرب أن يحرق المكيافيلي مجموعة من أوراق النقد ذات الأرقام العالية، والقيمة الكبيرة، ليغلي عليها ما يصلح فيه كأسًا من الشاي، أو فنجانًا من القهوة، فغايته التي هي شرب الشاي أو القهوة، تبرر له وسيلة إحراق الأوراق النقدية الكبيرة، وخسارة الألوف، مقابل شراب لا يساوي بضعة فلوس.
ويلزم من هذا المذهب أن لا يرى الميكافيليون مانعًا من إلقاء مخطوطات علمية عظيمة نادرة، في نهر كبير، لتكون بمثابة جسر مؤقت تعبرُ عليه جيوش الغزاة .
وليس من المهم بعد ذلك أن تخسر الإنسانية ذخائر المنجزات العلمية والفكرية الحضارية، التي خلفتها القرون الأولى، فالغاية تبرر الوسيلة .
وأن لا يروا مانعًا من تجويع الألوف من البشر، وسرقة خيراتهم، ليستمتع مجرم واحد بمظاهر الترف والرفاهية، فالغاية تبرر الوسيلة .
وأن لا يروا مانعًا من أن يقطع إنسان يد آخر، ليجعل من عظم ساعدها عصبًا لمكنسته. وأن يسلخ جلد إنسان حي ليصنع منه طبلاً أو دفًا، يتسلى بالنقر عليه في جلسات السمر. وأن يحرق مدينة كاملة ليتمتع بمشاهدة لهيب نار عظمى عن بعد، ثم يدين بها براء ويعاقبهم بهذه الجريمة النكراء، كما فعل «نيرون » إمبراطور روما. وأن يقذف إلى حلبة المصارعة وحشًا ضاربًا جائعًا، وإنسانًا بريئًا ليتمتع بمشاهدة ظفر الغالب منهما ومصرع المغلوب، وقد مارست روما في أوج سلطان إمبراطوريتها من ذلك الشيء الكثير .
كل هذا ونظائره ينبغي أن يكون مقبولاً لدى «المكيافيليين » لأن الغاية تبرر الوسيلة.
أليست هذه الأعمال الجنونية أو الإجرامية وسائل لغايات؟ فإذا كانت الغايات مطلقًا تبرر أية وسيلة دون قيد أو شرط، فما أجدر الميكافيلي الذي يأخذ بهذه الفكرة الفاسدة، أن ينحدر إلى أخس مرتبة يمكن أن تتصور في الوجود، ويرد إلى أسفل سافلين .
وينبغي عندئذ أن يخلع الثوب الإنساني الذي فضله الخالق به، ويلبس ثوب أخس الأحياء شراسة ودناءة .
( 4 )
المكيافيلية اليهودية :
إذا كانت الميكافيلية العامة تقول: « إن الغاية تبرر الوسيلة » في شؤون السياسة فقط، دون أن نضع لفكرتها هذه أي قيد من قيود المنطق السديد، والحق الثابت، والخير الجلي، والفضيلة والجمال، فإن الميكافيلية اليهودية تأخذ بهذه الفكرة نفسها، في مختلف الشؤون السياسية، والمالية، والعلمية، والدينية، وغيرها من الشؤون التي تحقق لليهودي غاية من غاياته مهما كانت حقيرة. ولو كانت الوسيلة إلى تحقيقها إهدار أي حق لفرد أو جماعة أو أمة، باستثناء اليهود، ولو كانت الوسيلة ارتكاب أية رذيلة خلقية، أو جريمة قذرة، أو نشر الكفر بالله، وبث الإلحادية في شعوب الأرض. والمكيافيلية الشيوعية بنت الميكافيلية اليهودية.
( 5 )
موقف الإسلام بين الوسائل والغايات :
لكن الإسلام يتربع على قمة المجد في مراعاة الحق والعدل والخير والفضيلة والجمال.
وهو يأمر المسلمين بالتزام ما أمر الله به، ويكلفهم أن يراعوا ذلك مع الناس جميعًا، دون تفريق بين الأفراد، وبين الأمم والشعوب، سواء منهم من دان بالإسلام ومن لم يدن به.
وموقف الإسلام بين الوسائل والغايات تحدده أروع مبادئ تلتزم بالحق والعدل والخير والفضيلة، ولا تقترب من أضدادها وتلتزم بكل ما أمر الله به من خير، ونهى عنه من شرّ.(52/26)
وتفسح صدرها لاتخاذ بعض الوسائل التي يوجب المنطق السليم اتخاذها، ارتكابًا لأخف الضررين، ووسيلة لدفع أشدهما، وذلك حينما يتعذر اتخاذ وسيلة أخرى لا ضرر فيها مطلقًا .
وقاعدة الإسلام في ذلك تحددها البنود التالية :
البند الأول: يجب أولا أن تكون غايات الإنسان في حياته مقيدة بما أذن الله به في شريعته لعباده .
فما كل غاية تبدو للإنسان يجوز له أن يجعلها إحدى غاياته، ما لم تكن غاية مأذونًا بها شرعًا .
البند الثاني : يجب ثانيًا أن يكون سعي الإنسان إلى غاياته المأذون بها شرعًا، ضمن الوسائل التي ليس فيها إهدار لحق أو عدل أو فضيلة أو واجب، وليس فيها ارتكاب لمحرم من المحرمات الشرعية، وليس فيها إسراف ولا تبذير وبذل ذي قيمة عالية وسيلة لتحقيق ذي قيمة حقيرة .
البند الثالث : إذا تعارض في حياة الإنسان - ضمن قواعد الحق والعدل والفضيلة والواجب - واجبان، ولم يمكن بحالٍ من الأحوال أو وجه من الوجوه تحقيقهما معًا .
أو تعارض محرمان، ولم يمكن بحالٍ من الأحوال أو وجه من الوجوه تركهما معًا .
أو تعارض ضرران، ولم يمكن بحال من الأحوال أو وجه من الوجوه دفعهما معًا .
فقاعدة الإسلام عند وجود هذا التعارض الذي لم يمكن تفاديه بوسيلة من الوسائل المأذون بها شرعًا بوجه عام، تتلخص بما يلي :
أولاً : ترك أدنى الواجبين لتحقيق آكدهما، فيؤثر المسلم القيام بآكدهما، وأكثرهما وجوبًا، ويترك الواجب الأدنى .
كمن كان في صلاة مفروضة فداهم العدو بلاده غازيًا، ولو تأخر حتى أنهى صلاته لأعطاه فرصه سانحة للظفر بالمسلمين، فالواجب والحالة هذه أن ينصرف من الصلاة لجهاد العدو، لأن واجب الجهاد في هذه الحالة أقوى من واجب إتمام الصلاة، بالنظر إلى النتائج التي تتحقق بكل منهما .
وكما لو تعارض في حياة أمة واجب التنمية الاقتصادية، وواجب صيانة الدين والخلق والفضيلة، والعلم الضروري لهذه الأصول، فالواجب والحالة هذه أن تحرص الأمة على صيانة هذه الأمور، ولو أفضى ذلك إلى التقصير بتحقيق واجب التنمية الاقتصادية، على أن الله عز وجل سوف ييسر للأمة وسائل هذه التنمية المطلوبة، مكافأة لها على ما ألتزمت به من واجب أجل في شريعته لهم .
وكما لو تعارض في حياة الأمة الإسلامية واجب إعلاء كلمة الله في الأرض، وواجب صيانة أنفسها من القتل أو القرح، وصيانة غيرها من مضار القتال، ولم تجد الوسائل الأخرى لتحقيق الواجب الإلهي الذي هو حق الله على عباده جميعًا، فالواجب والحال هذه أن تعرض أنفسها وغيرها لمضار القتال الذي يرجى تحقيق الغاية الدينية العظمى به، لأن الكفر بالله وسيادة حكم الطاغوت سيودي بالإنسانية إلى ما هو شر من المضار التي قد تحدث بالجهاد المقدس.
ثانيًا : ارتكاب أخف المحرمين لدفع الوقوع بأشدهما، فيؤثر المسلم ارتكاب المحرم الأخف، ليدفع ارتكاب المحرم الأشد، إذا لم يجد وسيلة أخرى مباحة، يجتنب بها المحرمين معًا.
كما لو هدد إنسان بالقتل المحقق إذا لم يرتكب مثلاً جريمة السرقة، فالواجب والحالة هذه أن يختار أخف المحرمين وهي السرقة، ليدفع عن نفسه القتل الذي يعتبر التمكين منه أشد حرمة، إذ القتل أشد تحريمًا من السرقة .
وكما لو تعرضت حياة إنسان بريء للقتل على يد ظالم، ولم يكن دفع ذلك عنه إلا بارتكاب وسيلة الكذب، فالواجب والحالة هذه دفع أشد المحرمين بأخفهما، وظاهر أن الكذب على الظالم أخف عند الله من تعريض مسلم بريء لظالم يريد قتله أو تعذيبه تعذيبًا شديدًا .
ثالثًا : تحمل أهون الضررين وأخفهما وسيلة لدرء أشدهما، كما لو أصيب عضو من أعضاء الإنسان بمرض لا يستطاع إيقاف سريانه إلى سائر الجسد إلا ببتره، وإلا سرى فقتل صاحبه، فالواجب والحالة هذه بتر العضو العليل حماية لسائر الجسم، ومن البدهي أن فقد العضو الواحد أهون وأخف من فقد الأعضاء كلها .
ولما توقفت سلامة الأمة في أخلاقها ودينها وأمنها على قطع أيدي السارقين، وجلد الزناة أو رجمهم، وإنزال أشد العقوبات بقطاع الطرق، كان ذلك أمرًا حتمًا في أحكام الشريعة الإسلامية، تقضي به ضرورة ارتكاب أخف الضررين وسيلة لدرء أعظمهما .
رابعًا : إذا تساوى الواجبات المتعرضات، أو المحرمان المتعارضان، أو الضرران المتعارضان، فالمسلم بالخيار، له أن يختار أحد المتعارضين ولو كان الذي اختاره أحب إلى نفسه.
وتشتبه أمور، فيختلف فيها الفقهاء المجتهدون، كالإكراه على الزنا .
وتختلف أمور باختلاف الناس، ومنها الإكراه على إعلان الكفر .
فمن كان هو من آحاد الناس، فله أن يقول كلمة الكفر لينجي نفسه من القتل، بشرط أن يكون قلبه مطمئنًا بالإيمان، وله أن يصبر ويقتل شهيدًا، لأن ثباته على إعلان الحق قد ينفع دعوة الإسلام، فيجلب به من صفوف المشركين أو الكافرين عمومًا أناسًا يسلمون بتأثير صموده .
وقادة الدعوة إلى الله، المعروفون بها، ينبغي لهم أن يثبتوا على إعلان الحق، ولو استشهدوا في سبيل الله، وهو بالنسبة إليهم أفضل .
أما الرسل فلا رخصة لهم في أن يقولوا كلمة الكفر، لينجوا أنفسهم من القتل، لأن ذلك ينقض رسالتهم .(52/27)
ومن كان من آحاد الناس ورأى أن بقاءه حيًا قد يكون أكثر نفعًا للإسلام والمسلمين، وأكثر نكاية بأعداء الله، فإعلانه كلمة الكفر مع طمأنينة قلبه بالإسلام قد يكون هو الأفضل والأحب لله، وربما يكون هو الواجب أحيانًا .
ميزان تحديد قيم المتعارضان :
وميزان الإسلام لتحديد قيم الواجبات والمحرمات، وأنواع الضرر ميزان دقيق جدًا، يعتمد على مبدأين أساسيين :
المبدأ الأولى : فيه تصنيف عام للمنافع واللذات والمصالح الفردية والاجتماعية، والإنسانية، الدينية، والدنيوية، المادية والمعنوية، مع العلم بأن ما يمس منها الجوانب الدينية الكبرى، كالإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، يحتل مركز الصدارة، لأنه يمثل الحق الأول لله على عباده .
المبدأ الثاني : فيه تصنيف عام للمضار والآلام والمفاسد الفردية، والاجتماعية، والإنسانية، الدينية والدنيوية، المادية والمعنوية، مع العلم بأن ما يمس منها الجوانب الدينية الكبرى، كالشرك بالله، أو إنكار وجوده كليًا، يحتل مركز الصدارة، لأنه يمثل العدوان الشنيع على حق الله الأول على عباده .
فما بين النص حكمه من المتعارضات، فقد أبان الشارع قيمها، وما لم يبينه فقد تركه لأهل الاستنباط والاجتهاد، وقد تختلف في بعض ذلك آراء المجتهدين .
هكذا نجد الإسلام على قمة المجد في مراعاة الحق والعدل والفضيلة والخير والواجب، بين الوسائل والغايات .
بينما نجد « الميكافيلية » العامة هاوية إلى حضيض الخسة في مجال السياسة .
ونجد « الميكافيلية » اليهودية الشاملة لكل جوانب السلوك الإنساني هاوية إلى حضيض كل خسة، وكذلك « الميكافيلية » الشيوعية ذات الجذور اليهودية، ويسير في هذا الحضيض كل المجرمين والمفسدين في الأرض .
ويتحقق في الإنسان الأخذ بهذه «المكيافيلية » قول الله عز وجل في سورة (التين):
+ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ".
( المرجع : كواشف زيوف ، عبدالرحمن الميداني ، ص 379-392).
--------------------------------------------------------------------------------
([1] ) انظر: «تاريخ الفلسفة الغربية » للفيلسوف الإنجليزي الملحد « برتراند رسل » الكتاب الثالث «الفلسفة الحديثة ».
([2] ) أي المحرومة من فضائل الأخلاق .
([3] ) من تلخيصات «براتراند رسل » في كتابه « تاريخ الفلسفة الغربية ».
([4] ) انظر: المرجع السابق .
([5] ) هذا من أصول التزييف في تطبيقات مناهج الوصول إلى الحقيقة، وقد شرحت هذه النقطة في الفصل الثالث من الباب الثاني من القسم الأول من هذا الكتاب بعنوان: « لعبة تطبيق المنهج العلمي الخاص بالجبريات على السلوك الإرادي عند الإنسان » فيُرجع إليه .
=============(52/28)
(52/29)
سلسلة كشف الشخصيات (19) : ليلي الأحدب
بقلم : سليمان الخراشى
كشف الشخصيات : ليلى الأحدب
- كاتبة سورية ؛ من دعاة تغريب المرأة المسلمة ، من خلال دعوتها للاختلاط والسفور والسخرية بالحجاب والالتزام بأوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم
- لها كتاب بعنوان " حوار الثقافات " تمجد فيه أفكار النصراني الملحد " فولتير " والآخر " برجسون " بدعوى الاستفادة منها في الثورة على التقاليد !
- تكتب في جريدة " الوطن " السعودية !! للأسف ؛ وتجاهر بدعوتها وقبح أفكارها ؛ دون خوف من رقيب أو حسيب ! مما يثير العجب . ولا أدري لماذا تتخصص في نقد أوضاع المرأة السعودية والسخرية منها والتهكم على الملتزمين بالسنة النبوية في الوقت الذي لا نقرأ لها أي نقد لأوضاع مجتمعها السوري ودراويش الصوفية الذين يتلاعبون به ؛ إضافة إلى أوضاع المرأة السورية والتغريب الذي تعانيه ؟!
- متأثرة بالتصوف وبشيخها المنحرف البوطي ، كما سيأتي .
- رد عليها غير واحد ؛ منهم الشيخ محمد الهبدان - وفقه الله - ؛ وتجد الردود عليها في موقع ( راصد ) www. r assid.com .
- كتبت عنها الباحثة : فوزية الخليوي بحثًا مختصرًا كشفت فيه حقيقتها ؛ ننشرها فيما يلي :
ليلى الأحدب .. ومخاصمة الشرع !
تتعمد الكاتبة السورية ليلى الأحدب _ كما يحلو لها أن توقع بعض مقالاتها في جريدة الوطن _ الخوضَ في مسائل يعتبرها المجتمع السعودي من الثوابت بحكم أخذها من الكتاب والسنة , التي يدين المجتمع بهما, ونتيجة لهذا التمسك المُحكم, لم تستطع الكاتبة الدخول إلينا فآلت على نفسها البحث في الموروثات القبلية والعادات الاجتماعية ومن ثمّ ألصقتها بقضية طالما دغدغ بها المرجفون أسماع نسائنا ملصقين بها تهمه التخلف والركود !!
ويؤسفني أن الكاتبة قد حشرت نفسها _ في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها السنة وأهلها _ في صفوف خصوم السنة بل صارت حاملة َ لواء الحرب على المرأة المسلمة وأصبحت مقالاتها منهلاً لكل حاقد!!
1 _ في مقال : ( الخرافات فى الفكر العربي ) تقول : " جاءني ابني مرعوباً.لأن أستاذ الفقه قال لهم :إنه لا يجوز استعمال العظم في الاستجمار لأنه طعام الجان, صُعقت وقتها !! لأنّي سجلت ابني في المدرسة كي يكتسب علماً نافعاً..أماّ أن يتعلم ابني ما يضُره ولا ينفعه فإني في غنى عن مدرسة كهذه !!خاصة أن كلمة الاستجمار لم أعرفها شخصياً إلا عندما أقبلت على قراءة العلم الديني أثناء الجامعة "
التعليق : الحديث الذي عدّته ليلى الأحدب من الخرافات!!! موجود في ( البخاري 3860 كتاب مناقب الأنصار ) عن أبى هريرة رضي الله عنه أن صلى الله عليه وسلم قال له : ابغني أحجاراً استنفض بها ، ولا تأتني بحجر ولا روثة . فقلت : ما بال العظم والروثة ؟ قال : هما من طعام الجنّ , وإنه أتاني وفد جن ّ نصيبين فسألوني الزاد, فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعماً.
2_ في مقال ( سي السيد) تقول : " أراد سي السيد أن يلبي غرائزه البهيمية ويا ويل زوجته إذا لم تلبّه !! فالملائكة ستلعنها إن بات وهو غضبان !!! نعم إنه اغتصاب للزوجة عندما تؤدي العمل الجنسي وهي مرغمة كارهة "
التعليق : تعترض ليلى الأحدب هنا على حديث الرسو صلى الله عليه وسلم , وتسميه اغتصاباً, ونصّه : " والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها , فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها , حتى يرضى عنها" رواه مسلم (شرح النووي ج 8 7 ) وعن جابر أن رسول ا صلى الله عليه وسلم رأى امرأة , فأتى امرأته زينب , وهى تمعس منيئة ( أي تدلك جلداً ) , فقضى حاجته رواه مسلم(2 1021)
3_ فى مقال ( إشكالات عمل المرأة ) تقول : " يجب أن أشير إلى أن الغضّ من البصر هو المطلوب وليس غضّ البصر بالكلية فليس معناه أن يلتفت الرجل بوجهه إلى جهة غير جهة المرأة فُيظن أنه يكلم الجدار أو الأرض مثلاً لكن معناه أن ينظر إلى المرأة نظرة خالية ؟
التعليق : ثبت في الصحيح عن عبدالله بن عباس أن صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن عباس يوم النحر خلفه , فوقف النبي للناس يفتيهم وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها فالتفت النبي فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها .
وعن جرير"سألت رسول ا صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري " رواة مسلم
4- في مقالها ( إلى متى التشدد في قضايا المرأة ) تقول : " وأرجع أبو شقّة الروايات القائلة بستر الوجه إلى وجود النقاب في بعض القبائل قبل الإسلام, إضافة إلى وفود أخلاط إلى المدينة بعد الفتوح الإسلامية أدى إلى زيادة عدد المنتقبات لتجنب نظرات الغرباء من مبدأ سد الذرائع وفى موضع آخر من يرون بغطاء الوجه أخذوا من الآية ( إلا ما ظهر منها) أي الكحل والخاتم فهموا أن موضع الكحل هو العينان فشرّعوا النقاب !!, ولكنهم نسوا أن يخترعوا قفازات بثقوب للخواتم."(52/30)
التعليق : هذا توهيمٌ للقراء و تلبيسٌ عليهم وكأن النقاب والقفازين أمر وليد بعد الفتوحات الإسلامية , وأين حديث الرسو صلى الله عليه وسلم ( لا تنتقب المحرمة ولا ترتدي القفازين) وي كأنّها بدأت تخلط , وتختلط عليها الأمور!! لأنها في مقال ( أيهما أحق أن يتبع التقليد أم الشرع ) تذكر الحديث وتعزوه للبخاري !!
وقد ذكر ابن سعد في طبقاته من طريق عطاء بن يسار قال لما قدمت صفية من خيبر أنزلت في بيت لحارثة بن النعمان فسمع نساء الأنصار فجئن ينظرن إلى جمالها وجاءت عائشة متنقبة ...إلى آخر الأثر ( الإصابة ج 8 127 )
وفى الأثر الذي أخرجه ابن مندة عن هشام بن عروة أن هند بنت عتبة أرادت أن تبايع الرسو صلى الله عليه وسلم فدخلت وهى متنقبة ... إلى آخر الأثر ( الإصابة ج8 206 )
لمز الصحابة والصحابيات :
1 _ في مقالها ( هل النساء ناقصات عقل ودين ) تؤكد فيه أنه لم يعثر فيما صح من حديث رسول الله على أن المرأة لا حق لها في الشورى, ثم تستشهد برأي ثريا الشهري !! عن أبي بكرة في حديث " لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة" وأن الصحابي الذي رواه لم يتذكره إلا عندما وُضع في موقف حرج بين الولاء لعائشة وهي أم المؤمنين وبين الولاء للخليفة علي في موقعة الجمل وهو أي أبو بكرة كان قد أدين في عهد عمر وجُلد على شهادته الكاذبة!! التي أدلى بها مع ثلاثة آخرين في حق المغيرة بن شعبة ثم تقول معلقة على مقال ثريا الشهري : " ويستحق مقالها القراءة والتقدير "
التعليق : لا يخفى علينا أن هذا قدح في عدالة الصحابي الجليل بإتهامه بالخيانة وبعدم ذكر الحديث إلا فيما يوافق هواه ؟؟؟ واتهامه بالكذب بالشهادة وهذا يوافق مسلك المعتزلة ومن نحا نحوهم !!أما أهل السنة والجماعة فإنهم مجمعون على عدالة الصحابة ومنهم أبي بكرة , قال الشيرازي في اللمع: "وأبو بكرة ومن شهد معه تقبل روايتهم لأنهم أخرجوا ألفاظهم مخرج الأخبار لا مخرج القذف وجلدهم عمر باجتهاده و قال صاحب شرح التحرير: واتفق الناس على الرواية عن أبى بكرة" ( شرح الكوكب المستنير لابن النجار . ج2 . 386 )
6 _ وفى مقالها ( التمييز ضد المرأة منكر عظيم ) تقول : " القرار في البيت أمر خاص بنساء النبي لأنهن أمهات المؤمنين.. والآيتان واضح منهما أنهما موجهتان لنساء النبي فأولاهما تبدأ " يا نساء النبي لستن... والأخرى تنتهي بما يلي" وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه...وأما من ترغب في التشبه بنساء النبي فليس لها أن تفرض ذلك على غيرها فتحرم مجتمعاًً بأكمله من عقول المتفوقات من النساء !! إن لم نقل أغلب النساء "
التعليق : عن أي تفوق تتحدث الكاتبة , يفوق ما كانت عليه زوجات الرسو صلى الله عليه وسلم من تفوق ؟! فعائشة رضي الله عنها تلقّت الأمة رواياتها بالقبول .
و قال عنها عروة بن الزبير " ما رأيت أحداً من الناس أعلم بالقرآن ولا بفريضة ولا بحلال ولا بحرام ولا بشعر ولا بحديث العرب ولا بنسب من عائشة "
أم لأن هذا العلم مقتبس من الكتاب والسنة , فلا اعتبار له عند الكاتبة!!
لمزها لأهل الأثر من السلف :
1 _ في مقالها ( دكتوراة عن المبتدعة وأخرى عن الطهارة ) تقول : " عندما قالت مريضتها أنها تُعد دكتوراة في الشريعة عن الرد على المبتدعة تقول : كنت كمن سُكب عليه ماء بارد!!وضعت رأسي بين يدي ,لم أثني عليها , كيف أثني على من يعيش في عصور التخلف " الباهرة" هل أحمل هذه السيدة لوحدها الخلل أم أنّ البيئة التقليدية بل العدائية التي تعيش فيها تهلل لمثل هذه الدراسات "
التعليق : هذا هو عين الكبر الذي فسره صلى الله عليه وسلم بأنه " بطرُ الحق وغمطُ الناس" رواة مسلم, فالبدع زيغٌ في العقيدة, وانحرافٌ في التصور, وفسادٌ في الإيمان! بينما المعاصي انحرافٌ في عمل الجوارح,والبدع ليست من باب الوسائل بل مقصودة التعبد بها وهذا الذي يؤدي إلى زيادة في الشرع ونقصان ، ألم يقل الرسول صلى الله عليه و سلم" إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" رواة ابن ماجه, وقال سفيان الثوري " البدعة أحب إلى إبليس من المعصية, فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب " وأهل السنة يقولون" إذا رأيت مبتدعاً في طريق فخذ في طريق آخر" وقال الإمام أبو حاتم الرازي " وعلامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر !! اللالكائي ( السنة .ج2 .179 )
2_ وفي مقالها أيضاً ( دكتوراة عن المبتدعة وأخرى عن الطهارة ) تقول : " حصول أحد المشائخ على الدكتوراة بامتياز مع مرتبة الشرف عن رسالته في" باب الطهارة"وددت لو عرفت الفتح الذي توجت به هذه الرسالة هل كان تجديداً... ماذا يستفيد الطفل ذي العشر سنوات من معرفته الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية , لماذا لم يبحث هذا الشيخ في المناهج ويرى كيف يدرّس الدين على أنه شيء معقد وصعب مما يجعل الدين غير مستساغ وغير مستحب في الصغر فيؤدى إلى انقلاب وارتداد عنه في الكبر؟؟؟(52/31)
التعليق : " ليتأمل هذا القراء حتى يعرفوا الحق من الباطل وصدق القول من الخبر العاطل!!! لقد أبت على نفسها إلا أن تفصح عما يعتمل في صدرها من بغض للدعوة السلفية , فمسألة تقسيم التوحيد إلى قسمين : ربوبية وألوهية , من الأمور التي اعترض بها خصوم الدعوة على الشيخ محمد بن عبد الوهاب,ويرون أن توحيد الربوبية هو غاية التوحيد وهو الواجب على المكلّف , ولكن الشيخ محمد رحمه الله بيّن أن مشركي العرب مقرّون بتوحيد الربوبية , ولكنهم أنكروا توحيد العبادة, وأن الرسو صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك, وبيّن الشيخ الفرق بين التوحيدين فيقول:فإذا قيل لك ما الفرق بين التوحيدين؟ فقل: توحيد الربوبية فعل الرب مثل الخلق, والرزق, والإحياء , والإماتة , وإنزال المطر...وتوحيد الألوهية فعلك أيها العبد مثل: الدعاء, والرجاء, والخوف, والتوكل, والرغبة والرهبة, والنذر , والاستغاثة.( دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب), إعداد: عبد العزيز العبد اللطيف ص . 335
3 ـ وفي مقالها ( تحرير المرأة ) تقول: " كتب أحد أدعياء العلم الشرعي بأن المرأة تابعة للرجل وأن الرجال مفضلون على النساء في الدنيا والآخرة, في الدنيا بالإرث والشهادة والقوامة وتعدد الزوجات والطلاق,و في الآخرة بالحور العين!! فحسبنا الله ونعم الوكيل من هذا الفهم السقيم كم هو مشوّة للدين "
التعليق : كل مسلم يعرف تكريم الإسلام للمرأة زوجةً أو بنتاً أو أماً وهذا لا يتعارض مع تفضيله الرجل على المرأة في عدّة مزايا, فمنذ الولادة شرع العقيقة عن الذكر شاتين وعن الأنثى شاة,وفى الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين,وفى إمامه الصلاة والآذان, وفى ميدان الشهادة والعبادة عن أبي سعيد الخدري عن صلى الله عليه وسلم قال " ..ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن , قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله! قال : أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل! قلن : بلى قال : فذلك من نقصان عقلها!أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم قلن : بلى قال : فذلك من نقصان دينها ,وقال تعالى" الرجال قوامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض, وبما أنفقوا من أموالهم,فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ " وعلّل القوامة بأمرين: أحدهما فضل الرجال على النساء! فهذا أمر من الشارع الحكيم , ولم يدّعيه العلماء الذين يحلو لها أن تسميهم بالأدعياء !! وتسمي نصوص الشارع الحكيم بالقناعات البائسة !!
4 _ وفى مقالها ( هل النساء ناقصات عقل ودين؟ ) تقول : " ما المقصود بنقص العقل؟ وكيف نفهم القدرات العقلية المتفوقة لبعض النساء على الرجال دون أن نقع في تناقض مع هذا الحديث الشريف؟ ! وهكذا هي دلاله الحديث الشريف فهو لا يشير إلى نقص عقل بقدر ما يدل على قوة سلطانها على الرجل "
وفى مقال ( عالم بلا نساء ) تقول : "من أجل أن لا يأتي أحدهم ويقول لي أن المرأة ناقصة عقل..وليته يعلم لمن يقول هذا الكلام!لى ..أنا كنت المدرسة الخصوصية لأخي الذي يصغرني بعامين ..وبعد ذلك يأتي من يريد أن يقنعني أني ومثيلاتي ناقصات عقل!!بسبب هذه القناعات البائسة هزمتنا إسرائيل !!!!
تفسيرها للنصوص بالرأي:
1 _ وفى مقال ( إلى متى التشدد في قضايا المرأة) تقول: " ما المقصود بقول الله تعالى " ولا تغلوا في دينكم" وما هو الغلو إن لم يكن منه سجن المرأة في البيت أو السماح بخروجها للضرورة مع تفسير الزينة و التجمل بأنها التسربل بزى معين !!
التعليق : هذا من تأويل آيات الله بغير علم , لأن الآية وردت في موضعين في القرآن وبلفظ " قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم" قال القرطبي (ج6 16) غلا اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم , وغلو النصارى بعبادتهم لعيسى "
دعوتها للاختلاط :
1 _ في مقال ( قراءة نقدية لبعض القراء ) تقول :" إن الفصل التام بين الجنسين لم يرد فيه آية ولا حديث إلا في الصلاة !!
وفي مقال ) إشكالات عمل المرأة تحكي عن موقف أحد الأطباء معها ( تقول : " فأصرّ على استدعاء ممرضه لتقف شاهدة على أننا لن نفعل شيئاً يغضب الله , وكأن باب عيادته وباب غرفه الكشف المفتوحين لا يكفيان!!, هذا إذا تغاضينا عن التقوى التي تذكرنا أن الله شاهدنا الدائم خاصة أننا في سن النضج والسيطرة على النفس!! وإذا تجاهلنا ضميرنا الذاتي الذي يفرض علينا أن نحترم أنفسنا وصاحب العمل الذي إئتمنا ، وقدسية مكان العمل فنمتنع ليس عن القيام بعمل سيئ وحسب بل وعن التفكير فيه !! "
وفى مقال ( التمييز ضد المرأة منكر عظيم ) تقول : " ثم من قال أن الاختلاط يؤدي إلى سقوط الحشمة؟ ولماذا يحدث الاختلاط ولو أني لا أحب هذه التسمية وأفضل عليها كلمة المشاركة في المستشفيات والمستوصفات دون أن تسقط الحشمة عن النساء , المرأة في أسرتها هي زوجة لزوجها وأم لأولادها, وفى العمل هي إنسان يؤدي واجبه كالرجل !! أما في الشارع فهي المتسربلة في الحياء دون أن يعني ذلك التصاق ثوبها بالجدار !! فلماذا لم تسقط الحشمة عني مع أني أخالط الرجال في دراستي وعملي منذ ربع قرن تقريباً ؟! "
التعليق :(52/32)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :" والذين يُعطّلون شيئاً من الأحاديث ويقدمون عليها الاجتهاد والقياس وظاهر القرآن , عملهم منكرٌ" فهي هنا تر د جمهرة من أحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم لمجرد أنها لا تستقيم وفهمها! !, ولو ردّ كل إنسان جملة من الأحاديث التي لا تستقيم وفهمه لما بقيت السنة النبوية بين أظهرنا.
لمزها لأهل العلم والديانة :
1 _ في مقالها ( سي السيد ) والذي أحرى بها أن تسميه ( سي الشيخ ) لأن المقال برمّته يلمز أهل الديانة !! تتحدث عن المرأة فتقول : " يا ويلها إذا خرجت إلى المطبخ فترى الخادمة المسلمة نصف ذراعها ونصف ساقيها؟؟
يا ويلها إذا لم تلبي زوجها فالملائكة ستلعنها إن بات وهو غضبان !! "
"يمنع بناته من العمل بحجة" وقرن في بيوتكن" "
"إذا قامت بالكتابة في الصحف أو مواقع الإنترنت وكيف تفعل واسم المرأة عورة !! "
• وفي مقال ثقافة العري تقول : " المفارقة في الأمر أن هؤلاء المثقفين الإسلاميين يعادون العري وينادون بالحشمة على طريقتهم "
• في مقال ( بأي عُرف نأخذ ) تقول : أمزجه بعض الرجال "الصالحين !! الذين لم يكتشفوا فى المرأة إلا أحد أمرين إما أنها أداة للجنس أو أنها وعاء للإنجاب" !!
في مقال: ( أيهما أحق أن يتبع التقليد أم الشرع؟ ) تقول : " تمنيت لو أن الدكتور الحصيّن يطلب الكفّ من الأخوة حول الكعبة الذين يطلبون من المرأة المحرمة تغطية وجهها مع أن الأمر بالكشف لحديث لا تنتقب المحرمة.."
وفى مقال ( التحام المؤسسة الدينية ) تقول :" تحدثت عن تأثير النخبة المثقفة المستنيرة !! في تغيير الممارسات التقليدية التي تمنع المرأة من المشاركة في تنمية المجتمع, وكذلك دور المؤسسة الدينية في إعاقة هذا التغيير !!" .
" أما أهم الأسباب المؤدية للعنف والتطرف في رأيي فهو التشدد الديني ومنه التشدد في قضايا المرأة !! "
وفى عدد جريدة الوطن(1163) تصف فتوى للشيخ عبد الله بن جبرين عضو الإفتاء بالمملكة بأنه إرهاب فكرى !!
الردّ على أدلتها في منع غطاء الوجه:
1 _ لا ترى الكاتبة غطاء الوجه ألبته!! ثم تنبري دونما سبر أو فحص أو تحقيق أو تدقيق !! لنفيها ألبتّه فما هكذا يعالج العلم الصحيح, وما هكذا تورد يا سعد الإبل!! فهذا تحكم بغير دليل ودعوى, ولا التفات ولا اغترار بكلامها _ غفر الله لنا ولها_ بدليل أنها أيّدت قرار رئيس فرنسا في منع الحجاب, واعتبرته شأناً داخلياً !!! لاحظ مع أنه في فرنسا خمسه ملايين مسلم!! وحجاب المرأة في فرنسا مجرد غطاء للشعر وليس غطاءٍ للوجه !! أليس هنا هو موطن الدفاع عن الحجاب الذي جنّدت قلمها للدفاع عنه في مقالاتها !! فيا عجباً(!) كم يدّعي الفضل ناقصٌ ويا أسفا... كم يُظهر النقص فاضلُ.
2 _ في مقالها ( إلى متى التشدد في قضايا المرأة؟ ) استدلت قائلة : " حكاية الشاعر عمر بن أبي ربيعة الذي كان يحلو له الحج ليرى وجوه النساء المحرمات "
التعليق : لو كان كشف الوجه للمحرمة على إطلاقه لما غضب عمر بن عبد العزيز من فعله هذا !! فقد كتب إلى عامله بالمدينة : " قد عرفت عمر بن أبي ربيعة والأحوص بالخبث والشرّ, فإذا أتاك كتابي هذا فاحملهما إلي فلما قدم عليه قال له: أما والله لو اهتممت بأمر حجك لم تنظر إلي شيء غيرك!!! ثم تاب على يديه, أما الأحوص فإنه نفاه إلى دهلك! ( قصص العرب لجاد المولى ج3 143)
3 _ وفي نفس المقال تسوق قصة لقاء عمر بن الخطاب مع خوله بنت حكيم عندما قالت له: هيه يا عمر عهدتك وأنت تسمى عميراً في سوق عكاظ فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين, فاتق الله في الرعية , وتعلق عليه بقولها :" كيف عرف عمر خولة إذا كانت غير كاشفة لوجهها!!!"
التعليق : هذه الرواية ضعيفة لأن فيها خُليد بن دعلج قال ابن حجر: خُليد ضعيف , سيئ الحفظ ) ! الإصابة.8 . 69 ) وعلى فرض صحتها كيف لا يعرفها عمر وقد دخلت على الرسو صلى الله عليه وسلم تشتكى زوجها ,فنزل فيها القرآن" قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها" ثم ينُص عمر نفسه على هذا فيقول : ألم تعرفها هذه خوله بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات!!
4 _ وفي مكان آخر تقول : " إن القرآن يحل لنا هذا الإشكال في الآية"فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف" البقرة 234 فما هو هذا المعروف الذي تفعله, قال السيوطي: أي فيما فعلن في أنفسهن من التزين والتعرض للخُطاب"
التعليق : انظر إليها تخبطُ في العشواء وتركبُ الظلماء, وتحدس وتخمن !! وتدع أكابر المفسرين إلى تفسير السيوطي " إن صح " لأنه يوافق هواها, فليتها قنعت من الغنيمة بالإياب , وإلى الله المرجع والمآب !!! فقد قال الطبري :على تفسير " بالمعروف" بالمعروف: يعنى بذلك : ما أذن الله لهن فيه وأباحه لهن . أما مجاهد فقال : هو النكاح الحلال الطيّب ) تفسير الطبري ج5 93 (
أما القرطبي : أى بما أذن فيه الشرع من اختيار أعيان الأزواج وتقدير الصداق دون مباشرة العقد ( ج3 123)(52/33)
5 _ في مقال ( إلى متى التشدد في قضايا المرأة ) تدلل على جواز الدخول على النساء الأجنبيات بدخول أبى بكر الصديق على زينب بنت المهاجر التي سألته عن دوام الأمر الصالح و نصّ الرواية " أنها خرجت حاجة, فضربت فسطاطاً ونذرت أن لا تتكلم فجاء رجل ( فوقف) على باب الخيمة فقال : السلام عليكم فردت عليه صاحبتي فقال : ما شأن صاحبتك لم ترُد! قالت : أنها مصمتة أنها نذرت أن لا تتكلم فقال : تكلمي إن هذا من فعل الجاهلية! فقالت : من أنت ؟ قال : أنا أبوبكر ... إلى آخر الرواية ( الإصابة. ج8 .102 (
,وتستدل أيضاً بدخول أبى بكر على أم عمارة لعيادتها بعد أن قطعت يدها في معركة اليمامة, وسؤاله : كيف قطعت يد أم عمارة إذا كانت تقف خلف الجيش والموقف موقف جهاد والمرأة تنقذ أخاها الرجل ثم يقول موقف حشمه وستر !!
التعليق : إن صحّ حديث دخول أبى بكر عليها لعيادتها, فهذا لفضلها وسابقتها في الإسلام لأنها هي وأم منيع فقط اللتان بايعتا الرسول صلى ا لله عليه وسلم في بيعة العقبة ثم كيف تختلط أم عمارة بالرجال كما تدّعى في المعركة , وهى التي قال لها الرسو صلى الله عليه وسلم أثناء البيعة" إني لا أصافح النساء" ثم إنها في معركة أحد" قبل الحجاب" كما نصّ ابن حجر , لم تكن مختلطة بالرجال, فتحكي عن نفسها وتقول: خرجت يوم أحد ومعي سقاء فيه ماء, فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله.."الإصابة ج8 262
ثم تستدل الكاتبة بحديث أنس رضي الله عنه : " لما كان يوم أحد رأيت عائشة وأم سليم وإنهما لمشمرتان عن خدم سوقهما تنقزان القرب"
التعليق : قال ابن حجر: " هذه كانت قبل الحجاب, ويحتمل أنها كانت من غير قصد " ( فتح الباري ج6 92 )
6 ـ وعندما تشتكي لها إحداهن أن أبواب الجامعات السعودية تغلق أبوابها حتى الساعة الثانية عشرة ظهراً !! تقول:أي انتزاع لصفة الإنسانية!! وقمع يتم بشكل مخز!!!..." لماذا تعامل الفتاة أحياناً كما كانت تعامل الظعينة في الجاهلية !! هذا إذا أحسنا الظن بذلك القرار وأنه وضع لحماية الفتاة ولم يوضع بسبب سوء الظن بالفتاة !! وليعذرني القارئ الكريم فأنا عشت حياتي باستقلال تام منذ انتسابي للجامعة !!
وتصر على إلصاق السلبية بالمرأة السعودية ففي مقالها ( أيهما أحق أن يتبع التقليد أم الشرع) تقول : " وفى محاذير العباءة السوداء للمرأة أن بعض الشباب المستهترين يدخلون الأسواق النسائية متنكرين بها "
التعليق : تناست الكاتبة أن جميع هذه الأسواق قد خصصت حارسات أمن تطلب من المرأة كشف وجهها قبل الدخول !!
( الكاتبة / فوزية الخليوي ) .
نسأل الله أن يكفي نساءنا شر هذه الدخيلة ، وأن يوفق ولاة الأمور لكف يدها ، وإعادتها من حيث أتت ، وأن يقويهم على كل من يدعمها أو يسهل لها أمورها لنشر الفساد . والله المستعان .
===============(52/34)
(52/35)
سلسلة كشف الشخصيات (20) : برجسون
كشف الشخصيات : برجسون
برجسون وآراؤه في نشأة الدين والأخلاق
(1)
من هو برجسون ؟
هو « هنري برجسون ». فيلسوف يهودي فرنسي. عاش ما بين عام (1859 و1941م).
صار أستاذًا في الـ «كوليج دي فرانس » سنة (1900م). حاز على جائزة «نوبل » في الأدب سنة (1927م) .
ثنائي في فلسفته، يرى أن في العالم اتجاهين متعارضين، هما الحياة والمادة. فالحياة تصعد وتخلق وتجاهد خلال المادة، وتسمو عليه بالزيادة في الخصوبة ودقة التركيب، أما المادة فمثقلة هابطة مقيدة. إلى غير ذلك من آراء .
من مؤلفاته: «الزمن والإرادة الحرة » و «المادة والذاكرة » و «الضحك » و «منبعا الأخلاق والدين » ([1]) و «التطور الخلاق » وبعض هذه الكتب قد ترجم إلى العربية.
شاع أنه اعتنق المسيحية في أخريات حياته، ولئن صح هذا فلقد غدا معلومًا تمامًا غرض اليهود حينما يعلنون انتماءهم إلى المسيحية أو الإسلام أو غيرهما، إنهم قد يدخلون في أي دين غير الدين اليهودي نفاقًا، ليكون لمذاهبهم التي يضعونها، وآرائهم التي يصدرونها، ومكايدهم التي يكيدونها، تأثير أكبر في الأمم التي نافقوها بالانتساب إليها، ويندر فيهم الصادقون .
( 2 )
دوافع آرائه في الدراسات الفلسفية :
حيث وجدت مكرًا يهدف إلى هدم الدين أو الأخلاق، أو النظم الاجتماعية أو السياسية الصالحة، أو من شأنه أن يُفضي إلى تدمير الإنسانية، فابحث عن الأصابع اليهودية وراءه .
لقد وضع هذا الفيلسوف اليهودي نصب عينيه فكرة سابقة وهي أنه ليس للدين ولا للأخلاق مصدر رباني مطلقًا، ولا أسس عقلية تجعلهما حقيقة من الحقائق، وأن الوحي خرافة من اختراع الإنسان، وأن اليوم الآخر والحياة الآخرة خرافة .
ثم أخذ يجهد نفسه باحثًا عما يراه أو يريه قراءه سببًا يُمكن أن يفسر به ظهور الدين، وظهور الأخلاق، في المجتمعات الإنسانية، بعيدًا عن كونهما من الحقائق .
لقد أطال النفس في كتابه: « منبعا الأخلاق والدين » حتى انقطع في الصفحة (341). وقد أخذ في غضونها يلهث كدًا، بغية أن يظفر بتفسير نفسي يقنع ضحاياه، بأن الدين والأخلاق خرافة نافعة للحياة .
( 3 )
ما يُهمنا مناقشته من آرائه الفلسفية :
لقد زعم في كتابه « منبعا الأخلاق والدين » خلال آراء وتلفيقات كثيرة، أن الدين والأخلاق من وضع « الملكة الوهمية » عند الإنسان، وهي ملكة تصنع الخرافة، ليستفيد منها الإنسان في حياته، فيقي بها نفسه من آثار المخاوف التي يتعرض لها .
وكرر في كتابه المذكور عبارة « وظيفة الخرافة » مؤكدًا بها أن للخرافة التي يخترعها الإنسان بمحض تخيلاته ظانًا أنها حقيقة، وظيفة نافعة في حياته. وبالخرافة الدينية يدافع عن نفسه، ويقيها من الخطر الذي يتعرض له من جراء اتجاهه العقلي الصرف، وهو خطر تجميد نفسه، وتعطيل طاقاته الحيوية عن التحرك الفعال المنتج .
وقال عن الدين - وكان يتحدث عن الدين البدائي - في الصفحة (135) من كتابه ما يلي:
« فممّا لا شك فيه أن انفعال بإزاء الطبيعة أصل من أصول الأديان. ولكننا نعود فنقول: إنّ الدين ليس خوفًا بقدر ما هو رد فعلٍ ضد الخوف، ولم يصبح إيمانًا بآلهة فورًا ».
وقال قبل هذا بقليل ما يلي :
« وجدنا أن أصل المعتقدات التي أتينا على دراستها إنما هي رد فعل دفاعي، تقوم به الطبيعة محاربة لتثبيط مصدره العقل. ورد الفعل هذا يثير في العقل ذاته صورًا وآراء تٌفني التصور المثبط، أو تمنعه من أن يصير إلى فعل. فيرى كائنات تنبثق، وليس من الضروري أن تكون شخصيات تامة. بل يكفي أن تكون لها نيات، بل أن تكون هي نيات. فالاعتقاد إذن جوهره الثقة، وأصله الأول ليس هو الخوف، بل الأمان من الخوف ».
وقال في الصفحة (150) :
« نفترض وجود فعالية غرزية، ثم ينبثق العقل، فننظر: هل نجم عن ذلك اختلال خطر. فإذا كان ذلك هبت الغريزة، فأوجدت في هذا العقل الذي سبب الاختلال تصورات ترد التوازن إلى ما كان عليه. وهذه التصورات هي الأفكار الدينية ».
وذكر نظير ذلك في عقيدة الحياة بعد الموت، وأنها رد فعلي دفاعي من الغريزة لمنطق العقل الذي يرى الموت، ويدرك أن الطبيعة جعلته نهاية حتمية للحياة، دون أن يكون وراءه شيء .
ومثل لما أسماه بوظيفة الخرافة بمثال المرأة التي فتحت باب المصعد في الطابق العالي، لتنزل فيه، فوجدت أن حارس المصعد قد دفعها بقوة، فطرحها أرضًا، ثم نهضت وأخذت تفكر فيما جرى لهان فرأت أن باب المصعد مفتوح كما فتحته، لكن غرفة المصعد موجودة في الطابق الأرضي، وليس في طابقها، عندئذ أدركت أن المصعد معطل لخلل طرأ عليه، وأن الباب قد فتح بسبب الخلل الطارئ، ولو أنها دخلت لهوت في بئر المصعد فتحطمت، ثم أدركت أن الوهم قد أسعفها بالصورة التي تخيلتها في حارس المصعد الذي دفعها، فكان للخرافة الوهمية هذه وظيفة دفع الخطر عن المرأة .
وعقب على هذه القصة بأن فكرة الإله في أفكار الناس مثل صورة حارس المصعد الذي دفع المرأة ليحميها، كل منهما من صنع الوهم، لكنه وهم دفاعي نافع، وهكذا كان لهذه الخرافة وظيفتها الدفاعية .(52/36)
بهذا نلاحظ أن « برجسون » قد ألغى ابتداءً كل الحقائق العقلية والعلمية التي جاءت بها الأديان الربانية، وأخذ يدرس الأديان البدائية والأديان الوثنية الخرافية، ويجعل لها تفسيرات نفسية بعيدة عن منطق العقل وبراهين العلم، لأن هذه الأديان الفاسدة لا تملك بطبيعتها مثل هذه البراهين، ثم أطلق كلامه وعمّمه على كل الأديان .
وهكذا تعتمد مغالطته على ثلاثة عناصر :
العنصر الأول : تفسير الظاهرة الدينية تفسيرًا بعيدًا عن الحقيقة. ولئن كانت كما يقول في بعض الصور عند بعض الناس، فهي ليست كذلك في كل الصور ولا عند كل الناس.
العنصر الثاني: التعميم الفاسد، إذ عمم حكمه على كل دين، اعتمادًا على ما فسر به أديانًا بدائية فاسدة باطلة، مع احتمال أن تكون الأديان الباطلة البدائية ذات أصول صحيحة، لكن دخلها التحريف والتبديل بعد ذلك، ودخلت فيها الوثنيات من صنع الانحراف الإنساني، كما هو مشاهد في بعض الأديان الكبرى، ذات الأصول الصحيحة، بشهادة الوثائق التاريخية .
وعلى هذا فالخرافة الإنسانية كان لها وظيفة إفساد وتحريف، لا وظيفة دفاع وحماية كما زعم « برجسون ».
العنصر الثالث: تجاهل وكتمان الأسباب الحقيقية لقضايا الدين الحقّ، مع أن مثل «برجسون » لا يجهلها .
تلخيص أفكار برجسون :
لخص « د. محمد عبدالله دراز » أفكار « برجسون » حول تفسيره لظاهرتي الدين والأخلاق ([2]). واقتباسًا من تلخيصه مع بعض التصرف أقول :
حاول « برجسون » تفسير نشأة الدين والعقيدة الإلهية على أنها من صنع الوهم الذي تفرضه الحياة، وليست وليدة التفكير المنطقي، وربط نشأة العقيدة الإلهية بأمرين :
الأول : أن الإنسان لما كان واقعًا تحت تأثير الواجبات الاجتماعية، وهي تتطلب منه التخلي عن بعض رغباته، والتضحية ببعض حريته، وكان استعمال ذكائه العادي في حساب مصلحته يدعوه إلى الأثرة، وإلى التضحية بمصلحة الآخرين من أجل مصلحة نفسه، وهذان الداعيان متعاكسان، متضادان، كان لابد له من قوة أخرى تحفظ التوازن، وتؤاخي بين مصالح الفرد والمجتمع .
هذه القوة المطلوبة قد أعدتها الفطرة الإنسانية في النفوس حين أشربتها الفكرة الدينية. وذلك أنها صورت أمامها المحظورات الاجتماعية بصورة مخيفة، تجعل من المخاطرة انتهاكها، وما زالت تبالغ في هذا التصوير، حتى خيلت للنفس أن هذه المحظورات يقوم عليها حارسٌ معنويٌّ، آمر، ناهٍ، محاسب، ينذر من ينتهكها بالبطش والعقاب، وهذا هو معنى الإله ..
وصورة هذا الحارس ضرورية للحياة، وإن لم تكن وليدة التفكير المنطقي، بل هي من عمل الواهمة أو المتخيلة، التي تشخص المعنويات، وتجسم المجردات. فهي هم تفرضه الحياة، ومن أجل ذلك وجدت الملكة الوهمية في طبيعة الإنسان، التي تصنع الخرافات النافعة .
الثاني : أن ميدان الأعمال اليومية فيه فراغ نفسي عميق، لا يملوه إلا العقيدة الإلهية.
فكل ذي حاجة ينتظرها وهو لا يدري ما قدر له من النجاح أو الإخفاق، لو تأمل بعقله، وقاس أعماله بمقدار نتائجها المحققة أو الغالبة، لقعد عن السعي، ولتوقفت حركة الحياة.
غير أن دفعة الحياة حركة تأبى الوقوف والجمود، فكان لابد لها من ثقل تضعه في الكفة الأخرى في الميزان النفسي، لترجح به جانب العمل، رغم كل تفسير وحساب، وما ذاك إلا الأمل تبعثه، والاعتماد على الخط المحتمل تقدره، ولا تزال تحث وتشجع، حتى تصور أمام النفس إرادة خفية يركن القلب إليها، ويعتمد عليها، وتلك هي إرادة الإله المستعان .
هكذا لخص الدكتور « دراز » فكرة « برجسون »، وهكذا نلاحظ أنه جعل العقيدة بوجود رب خالق مهيمن من صناعة الوهم النفسي .
كشف الزيف :
الكاشف الأول : إن الفطرة الإنسانية التي تتجه لقضية الإيمان بالقوة الغيبية الخلاقة القادرة على تحقيق الأمن عند المخاوف، والإسعاف بالمطالب عند الضرورات الملجئة، لا يجوز عقلاً اعتبار اتجاهها عملاً وهميًا، يصنع الخرافة لتحيل الأمن، ثم يسمح بأن تستمر الخرافة جاثمة على النفس مدى الحياة رغم منطق العقل .
وذلك لأمور أربعة :
الأمر الأول : إن اتجاه الفطرة يعتبر منبهًا للعقل. حتى يبصر طريقه، فيأخذ بأسباب الأمن، إذ قضية الإيمان بالله بعد التنبيه تغدو قضية عقلية، لا مجرد، اندفاع غرزي فطري آني.
الأمر الثاني : إن من الملاحظ بصفة عامة، أن كل دوافع الفطرة السليمة، وكل اتجاهات الغرائز حينما تكون بوضعها الفطري السوي قبل أن تفسد بالعوامل الطارئة، تطابق العقل ومنطقه، بعد كل تجاربه واختباراته، ورؤيته المنطقية السليمة .
ألا نشاهد في الواقع الإنساني أن معظم الفطر الإنسانية تتجه اتجاهات فيها تحقيق النفع من جهة، وهي في الوقت نفسه أفضل طريقة منطقية، ومطابقة للواقع والحقيقة من جهة ثانية؟(52/37)
وحينما يحاول العلماء الوصول إلى حقيقة كاملة لها في الطبيعة الموجودة أمثلة وأفراد، فإنهم يتجهون لدراسة هذه الطبيعة، من خلال الموجودات واتجاهاتها الغرزية السوية، ليصلوا إلى الحق، وعندئذ يرون التطابق تامًا بين الغرائز وفطر الكائنات وبين منطق العقل، بشرط أن تكون هذه الغرائز والفطر على وضعها السوي الذي فطرها الله عليه، ولم تفسد بالأوهام وإرادات الناس، والتطبع المكتسب .
الأمر الثالث: من الملاحظ دائمًا في سلوك الناس، أن الخطأ والفساد إنما يأتيان من الأوهام، لا من منطق العقل، ودلائل التجربة التي تسير وفق طبائع الأشياء .
وقصة المرأة صاحبة المصعد لو صحت فإنها لا تشبه بحال من الأحوال ظاهرة الدين.
إن المرأة تصورت - بحسب الدعوى المطروحة - تصورًا خاطئًا كان به إنقاذها، لكنها بعد لحظات صحت فعاد إليها رشدها، وأبصرت بعقلها الواعي الحقيقة، وعرفت أنها كانت مخطئة .
بخلاف ظاهرة الدين، فإن المخاوف قد تحرك الفطرة للتعلق بأسباب الأمن، وعندها يأتي منطق العقل باحثًا عن القوة الغيبية التي تملك هذا الأمن، ولسنا ندعي أن العقل وحده سيصل حتمًا إلى كمال الحقيقة عن طريق البحث، إلا أنه سيتجه شطرها بحسب تنبيه الفطرة.
ثم قد يصل إذا سار سيرًا صحيحًا، كما وصل كثير من أهل الفكر الصحيح من فلاسفة وغيرهم، وقد يضل في بعض الطريق كما ضل الوثنيون والمشركون وأصحاب الأديان الخرافية .
الأمر الرابع : إن تدخل الوهم عند الخوف يفسد ولا يصلح، ويوقع في التهلكة، ولا يكون سببًا في تحقيق الأمن .
يلاحظ هذا في حالة المشي على عمود ممتد فوق جدارين مرتفعين بينهما هوة، أو على جسر ضيق جدًا، فمنطق العقل يسمح بالاجتياز المطمئن، لأنه يقرر أن الجسر لو كان قريبًا من الأرض لاجتازه السائر عليه، دون أن يخطر في باله احتمال السقوط، فهو يسرع في مشيه مطمئنًا آمنًا .
وفي حالة ارتفاعه يتدخل الوهم، فيشتد الخوف، فيسقط الماشي على العمود أو على الجسر فيهلك أو يصاب بأذى .
كذلك سائق السيارة، إذا خاف وتدخل الوهم في صناعة أفكاره بعيدًا عن منطق العقل.
إلى غير ذلك من أمثلة كثيرة لا تحصى في الواقع الإنساني، يلاحظ فيها أن تدخل الوهم يدفع إلى التهلكة .
نعم. قد تكون الشجاعة أو الجرأة من عوامل الإقدام ضد مثبطات منطق العقل أحيانًا، لكن الأوهام تجلب فرط الجبن المثبط أكثر من منطق العقل. والشجاعة أمل ورغبة وشعور بالقوة الكافية، بخلاف الجبن، فهو وهم وشعور بالضعف، وغشاوة على منطق العقل .
الأمر الخامس: إن قصة المرأة صاحبة المصعد إن صحت كما ذكر «برجسون »، فهي نادرة قد لا تتكرر في حياة الناس .
وعكس ما حصل لها هو الأمر الذي يتكرر كثيرًا، فكم من الناس سقطوا في بئر المصعد بمثل هذه الحادثة، ولم يظهر لهم هذا الحارس الوهمي، بل تحطموا وتهشموا وأصيبوا من جراء سقوطهم بإصابات خطيرة، وبعضهم أودت بحياته .
إن الحوادث الكثيرة التي تحدث لمعظم الناس عند المخاوف المفاجئة تقدم دليلاً لنقيض ما ذكر « برجسون » تمامًا .
ذلك لأن الإنسان عندئذ تتجه غريزته بسرعة، ومن دون وعي في العقل الظاهر إلا اتخاذ أسباب النجاة، ثم تأتي بعد ذلك صحوة الفكر للتعلق بالأسباب الحقيقية الكاملة التي تكون بها النجاة .
فمن أمثلة ذلك ما يلي :
1 - نكون نازلين على درج أو سلم، فننزل وفق خطة منتظمة، ثم قد نفاجأ بأن إحدى الدرجات مكسورة، أو مفقودة، ونشعر بالأمر حينما تهوي رجلنا أكثر من المسافة التي اعتدناها في نظام الدرجات .
عندئذ تندفع الغريزة فينا اندفاعًا غير واعٍ إلى التمسك بأي شيء في جوار أيدينا خشية السقوط .
وهذا حقًا من الفطر المسعفة التي تسبق الفكر الواعي، ولكن قد يكون الذي نمسك به خشية السقوط أشد خطرًا من السقوط نفسه .
ثم يصل الأمر إلى منطقة الفكر الواعي، فإن بقي من الوقت شيء يصلح للتدارك، أخذ العقل يفكر بأسباب صحيحة للحماية من الخطر .
2 - كذلك يحصل لدينا إذا هبت نارٌ مفاجئة فيها خطر علينا، أو داهم عدو بشكل مفاجئ، أو حدث أي حادث مخيف فيه خطر .
هذه أحداث تتكرر دائمًا في حياة الناس، وفيها دليل يثبت عكس ما ذهب إليه «برجسون ».
وباستطاعتنا أن نقول: على مثل هذه الحوادث قد تبرز ظاهرة الدين عند المخاوف العظمى التي تنقطع معها الأسباب الإنسانية، فهي تحدث تنبيهًا قويًا من قبل الفطرة النفسية، ثم يصحو العقل الواعي متجهًا شطر الجهة التي نبهت عليه الفطرة، أو هدت إليها. ثم يأخذ العقل باحثًا بمنطقه عن القوة الغيبية المهيمنة على الوجود، وفق مناهجه الاستدلالية .
على أن قضية الإيمان بالله عز وجل تتم في أوضاع نفسية هادئة مستقرة، وتنشأ نشوءًا متدرجًا، معتمدة على منطق العقل من خلال ملاحظاته لظواهر الكون وأحداث الحياة، ولا تتم في حالات نفسية مفاجئة إلا نادرًا .
الكاشف الثاني : ما دام ميدان الأعمال اليومية يوجد فيه فراغ نفسي عميق لا يملؤه إلا العقيدة الإلهية، كما اعترف بذلك « برجسون » فلماذا يكون اتجاه الفكر لقضية الإيمان بالله عملاً خياليًا، لخدمة حركة الحياة، دون مراعاة لمنطق الفكر الصحيح، وأدلته البرهانية كما زعم ؟(52/38)
ولماذا لا يكون هذا الاتجاه نفسه عملاً عقليًا استبصر به الفكر الحقيقة، بدليل أن كثيرًا من كبار الفلاسفة والعلماء المؤمنين قد بنوا إيمانهم بالله عز وجل على منطق علمي عقلي، وعلى أدلة هدتهم إليها مناهج البحث الفكري السليم، ولم يقتصر إيمانهم على مجرد الإحساس الفطري الغامض، ولا على رغبة بإحداث توازن نفسي لخدمة حركة الحياة، ولا عفى خوف من الوقوف والجمود فيها، لولا الأمل الذي يصنعه الإيمان بالله المستعان .
الكاشف الثالث : إن رأي «برجسون » الذي اعتبر فيه ظاهرة التدين وهمًا ضروريًا، تسعف به الفطرة، لإيجاد التوازن بين مثبطات العقل ومقتضيات مسيرة الحياة، هو رأيٌ خيالي تمامًا .
والسبب في ذلك أن بطلانه يكشف واقع حال الملاحدة الماديين، فإن كفرهم بكل دين لم يعطل لديهم مسيرة الحياة. وإن كان قد أوجد لديهم متاعب نفسية مشقية لهم، غير خرافة التثبيط التي ادعاها « برجسون ».
وهذه المتاعب النفسية نتيجة حتمية لكفرهم بالحق، إذ يحرمون من الطمأنينة النفسية السعيدة التي يجلبها الإيمان بالله وباليوم الآخر .
( المرجع : كواشف زيوف ، عبدالرحمن الميداني ، ص 347-357).
--------
([1] ) ترجمة إلى العربية: « د. سامي الدروبي ود. عبدالله عبدالدايم ».
([2] ) في كتابه القيم « الدين ».
-=============(52/39)
(52/40)
سلسلة كشف الشخصيات (21) : ديكارت
الوجه الآخر لديكارت !
بقلم أحمد دعدوش
"...إن المفارقة تكمن لدينا نحن العرب والمسلمين، وتحديداً لدى أولئك المتشبثين بقناع الحداثة، والذين لا يسأمون من تكرار توجيه النقد اللاذع للعقلية العربية ، ويعلنون صراحة أن عقدتنا الحضارية لن تنحل أبداً حتى نتخلى عن موروثنا الثقافي والحضاري برمته، ثم نتخذ من قصور الرمال الديكارتية أساساً متيناً نبني عليه حداثتنا الضرورية ...."
هو "أبو الفلسفة الحديثة" حينا و"نبي العقلانية" حينا آخر، هكذا أراده حداثيو فرنسا الذين خرجوا من ظلامهم الكنسي القروسطي إلى فسحة التنوير العقلاني، حاملين بإحدى أيديهم مبادئ ثورتهم الدستورية في "الحرية والإخاء والمساواة"، وباليد الأخرى إنجيلهم الجديد "مقالة في المنهج".
رينيه ديكارت (1596- 1650) أشهر فلاسفة فرنسا على الإطلاق، وواحد من رموز الفلسفة الأوربية الحديثة، ولد في لاهاي - من إقليم تورين في فرنسا - وترك الدراسة في سن السادسة عشرة بسبب فشله الدراسي!، فنصحه والده بالتطوع في إحدى جيوش أمراء الإقطاعيات الأوربية في ذلك الزمان، فعاش مرتزقا في جيش دوق ناسو ثم دوق بافاريا لمدة أربع سنوات، لينسحب بعدها إلى هولندا، ويصرف وقته في القراءة والتفلسف .
بدأ الرجل بقراءة علوم اللاهوت، واطلع على أعمال الفلاسفة "التنويريين" الذين بدؤوا للتو في الخروج على تعاليم الكنيسة، فحاول التوفيق بين الاتجاهين، واصطنع لنفسه منهجا في الشك ضمّنه في كتابه "مقالة في المنهج"، والذي اشتهر فيما بعد بمنهج الشك الديكارتي .
وبالرغم من أن بعض الباحثين المسلمين قد تمكنوا من إثبات تورّط "أبو الفلسفة الحديثة" في سرقة منهجه المذكور من منهج الإمام الغزالي الذي سبقه بخمسة قرون، ولعل أشهرهم الدكتور محمود حمدي زقزوق في كتابه "المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت"، والدكتور نجيب محمد البهبيتي في كتابه "المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين"، وكذلك المفاجأة التي أطلقها الباحث التونسي الراحل عثمان الكعاك في الملتقى العاشر للفكر الإسلامي في مدينة عنتابة بالجزائر (1976) وهي عثوره على ترجمة لكتاب المنقذ من الضلال للإمام الغزالي في مكتبة ديكارت الخاصة بمتحفه في باريس، وفي إحدى صفحاتها إشارة بالخط الأحمر وضعها ديكارت بنفسه تحت عبارة الغزالي الشهيرة "الشك أولى مراتب اليقين" وحشّى عليها بعبارة "تنقل إلى منهجنا".
أقول: على الرغم من ذلك كله، فإننا لن نقف الآن على ما سبق، وإنما سنتطرق لبعض ما يثيره هذا الفيلسوف من ضجة في فرنسا نفسها قبل غيرها، ثم نقارنه بالموقف المؤسف لحداثيي العرب .
من الجدير ذكره أن نوعاً من الانتقائية قد حكمت على بروز بعض المفكرين الغربيين وتناسي بعضهم الآخر، فتحت سطوة الرؤية المادية في الغرب تم تنصيب ديكارت معلماً وأبا للفلسفة الحديثة، وجعلت منه نقطة فصل بين مرحلتين زمنيتين مرت بهما الحضارة الغربية، في الوقت الذي أهمل فيه عدد من الفلاسفة الذين لا يقلون شأناً عن ديكارت لمجرد أنهم انتهجوا منهجاً آخر، رفضوا فيه النموذج المعرفي الديكارتي ونقدوه بقوة، ومن أشهر هؤلاء الفيلسوف الإيطالي جيامباتيستا فيكو (1668- 1744)، الذي تم طي صفحته في المراجع الفلسفية حتى كاد يضيع ذكره، فما الذي رفضه فيكو في النموذج الديكارتي؟
ينطلق فيكو في رفضه هذا من القاعدة الديكارتية القائمة على قصر الحقيقة في العلوم الطبيعية المادية والتي يجسدها ديكارت في الرياضيات التي يجعل منها الحقيقة المطلقة، ويهمل ما عداها من العلوم الإنسانية، وهي القاعدة التي انطلق منها الغرب فيما بعد في نظرته المادية للوجود، والتي تفترض وحدة الإنسان والطبيعة والمادة في كل لا يتجزأ، والتي تطورت في زمن قياسي لتصل إلى ما هي عليه الآن من تسليع للوجود، وإهدار لقيم الإنسانية .
ويمضي فيكو في نقده لهذا المنهج إلى القول بأن اليقين الرياضي الذي يعتمد عليه ديكارت يقوم أساساً على النماذج الرياضية التي يبدعها العقل نفسه، وأن الحقيقة التي نتوصل إليها عبر هذه النماذج الرياضية تختلف عن تلك الناتجة عن التجارب الطبيعية، مما يعني تفاوت اليقين المعرفي بين فروع المعرفة الطبيعية، إذ تقع الفيزياء في درجة أقل من اليقين الرياضي، وذلك لأن النماذج الرياضية موضوعة من قبل العقل مما يجعله قادراً على فهمها بشكل كامل، وذلك على عكس الظواهر الفيزيائية التي تعود في وجودها إلى الإله الخالق، مما يؤدي بالضرورة إلى صعوبة التأكد من استكمال الإحاطة بها على وجه اليقين .
وفي هذا نقد وجيه لموقف الفلاسفة الماديين من الطبيعة، ولاعتقادهم بوحدة العقل في الطبيعة فضلا عن استعلائه عليها، والإحاطة بها عن طريق الملاحظة والتجربة، وهو الفكر الذي أوقع الغربيين اليوم في سُكر وجنون العظمة، وأوحى لهم بنهاية التاريخ وسيادة الكون .(52/41)
ويعتقد فيكو أن الكوجيتو الديكارتي قد لعب دورا في تأسيس هذا الفكر أبستمولوجيًا، إذ أن نقطة انطلاق ديكارت المتجسدة في الكوجيتو تنطوي على نزعة فردية ذاتية قائمة على التجرد المطلق، في الوقت الذي ينطلق فيه فيكو من مبدأ إمكان تحويل الذات إلى الآخر أو ما يسميه بترادف الحقيقي والمصنوع، والذي يتلخص في الاعتقاد بأن اليقين الكامل لا يتأتى للإنسان إلا من خلال ذاته، وبالتحديد عبر ما يصنعه بيديه حسيا أو يبدعه في عقله ووجدانه، وهذا ما دفعه للاعتقاد بأن طريقة ديكارت في التعرف على العقل عبر العقل نفسه طريقة بدائية، لأن العقل لم يخلق نفسه، فكيف يكون قادرا على التفكير في ذاته وإدراك كنهه كما يفكر في الموجودات الأخرى التي ينظر إلها من موضع المراقب ؟ وقد دفع هذا فيكو إلى اتهام ديكارت بتأليه العقل، بالرغم من محاولة هذا الأخير لاحترام الميتافيزيقيا ودعوته لعقلنة الدين بدلا من نسفه .
إن فهمنا لهذا الموقف الذي يتخذه فيكو يبدأ من إدراكنا للثنائية الديكارتية القائمة على وجود الجوهرين المستقلين من المادة وغير المادة (أو الروح والجسد) والتي يبدو أنها أدت بديكارت إلى عزل هذين الجوهرين عن بعضهما واعتبار الإله مهندسا للكون، في الوقت الذي يقتصر فيه فهم الكون على العقل بإدراكه للغة الرياضيات . وقد ترجم ديكارت موقفه هذا من العقل في دعوته لسيطرة الإنسان على الطبيعة ومحاولة البرهنة على قدرته على ذلك . وكان للتقدم العلمي الذي أحرزه الغرب فيما بعد، وما قام به نيوتن من تأكيد لطروحاته الكبرى حول سيرورة الظواهر الكونية وفق قوانين طبيعية بالغة الدقة، قد أدت بالفعل إلى تأليه العقل في فلسفة العلم لدى الأوربيين، ونسيان الثنائية التي بنى عليها نظامه الفلسفي من ثنائية للعقل والروح .
إذ نجد فرنسا العلمانية التي وجدت في عقلانية ديكارت فرصة للثورة على استئثار الكنيسة بالمعرفة، ومن ثم لتأليه العقل الذي كان مغيبا في ظلامية القرون الوسطى، قد وصلت في انتهاجها لهذا النسق المعرفي إلى أقصى مراحل التطرف في نبذ الجوهر الروحي اللامادي، وبنت عليه ما يحلو لها من نظام إبستمولوجي أحادي النظرة، وبما يتناسب مع ميولها وتطلعاتها المعرفية والاقتصادية التي مهدت لها الخروج على السلطة الكنسية الطاغية، على النحو الذي يوحي بتفسير هذه الثورة المعرفية على أنها لم تكن أكثر من ردة فعل على الاستئثار الكنسي المفرط للمعرفة، والتي أدت بدورها إلى إفراط مماثل في الجهة المقابلة بعد أن أحكم التكنوقراطيون الفرنسيون قبضتهم على زمام السلطة، ودفعتهم دون رادع للتطلع إلى توسيع نفوذهم بعد إعادة توليده تحت اسم العلمانية والعلم للسيطرة على العالم الأقل تطورا، الأمر الذي سوغ لنابليون دك أسوار الإسكندرية بالمدافع الثقيلة، تحت ذريعة نشر مبادئ الحرية والأخوة والمساواة !! التي قامت عليها الثورة الفرنسية، وذلك قبل مضي تسع سنوات فقط على هذه الثورة، وما أشبه اليوم بالغد !
ومن جهة أخرى، رفض عدد من أشهر الفلاسفة الألمان الموقف الديكارتي، ومنهم "كانط" و"نيتشه" و"هايدجر"، فقد رأى هذا الأخير أن الأنطولوجيا الغربية قد ارتكبت خطأ فادحاً عندما نظرت إلى الوجود على أنه كيان موضوعي مفارق للذات، مما أدى إلى فصل الذات عن الطبيعة ثم اعتبار الذات كمركز للكون، وهو الذي ترافق مع الإرهاصات الأولى للفكر الإمبريالي الغربي فيما بعد .
ويؤسس هايدجر نقده لكل من الثنائية الديكارتية والمنهج الابستمولوجي التنويري على اعتباره أن وجود الإنسان متميز عن الموجودات الأخرى، فهو ليس جوهرا ثابتا بل دائم التغير من فرد لآخر، وهو إلى ذلك مشروع مستمر دائما أمام احتمالية التغير والحوار مع العالم .
وبالإضافة إلى ذلك الموقف الذي اتخذه هذا الجمع من الفلاسفة إزاء المنهج الديكارتي، نجد اليوم نزعة مضادة للديكارتية تخرج من فرنسا نفسها، ويقوم بها عدد من المفكرين الفرنسيين الثائرين على جمودهم الثقافي . نذكر منهم اثنان من أشهر فلاسفة فرنسا المعاصرين، الذين ضربوا بعُرض الحائط كل تلك الهالة النورانية التي ما زال الفرنسيون يضفونها على نبيهم المزعوم .
أما أولهما فهو "فرانسوا روفيل"، والذي أصدر كتاباً عنونه بـ "ديكارت المتقلب، الانتهازي، وغير المفيد" وقد شن فيه حربا على ديكارت زاعماً بأنه السبب الرئيس في شيوع العقلية المتحجرة المستعلية لدى الفرنسيين، والتي أدت فيما بعد إلى عزلة فرنسا عن الوسط الحضاري الغربي، وبالتالي استعصائها على التطور . ويستشهد في كتابه بعدة حوادث تشير إلى أن ديكارت كان رجلا شديد التمسك برأيه ولو كان مخطئاً، وأنه كان عاجزاً عن الاعتراف بالتناقض، فضلاً عن فشله في الإفادة من التجربة الحسية، والتي تعتبر اليوم عصب العلم الحديث .(52/42)
وأما الثاني فهو المفكر الشهير "روجيه غارودي" والذي لم يكن أقل عنفاً من سابقه في ثورته على الديكارتية، وهي - أي الثورة - التي يعتبرها سبباً في تحرره من عقدة الانغلاق على الذات، والانفتاح على الحضارات الإنسانية الأخرى، ولا شك أن اعتراف هذا الفيلسوف الفرنسي "الثائر" والمؤسس لمعهد الحوار بين الحضارات، يشكل صفعة مؤلمة للمنهج الديكارتي برمته، تماماً كما فعلت قنابله السابقة في "ماركسية القرن العشرين" و "الولايات المتحدة طليعة الانحطاط" ثم كتابه الخطير "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" والذي سبب له الكثير من المتاعب، وأخيراً كتابه "الإرهاب الغربي" والذي اتهم فيه ديكارت بأنه المؤسس الأول للعقل الاستبدادي الغربي عموماً - والفرنسي خصوصاً - . والمتجلي في فردية الوجود الديكارتي القائم على الكوجيتو المصطنع "أنا أفكر، إذن أنا موجود" إذ يعتبره غارودي مبرراً للغطرسة الإمبريالية الغربية، وتجريداً للإنسان من مشاعر الحب والتسامح والعطف على الآخرين .
إن هذا "الفتح" الجديد في فكر الفيلسوف المسلم - غارودي - قد تسبب في الغرب "المتغطرس والإمبريالي" بهزة عنيفة طالت واحداً من أهم رموزه، وأسقط عنه آخر أوراق التوت التي كانت تستر عوراته التي لن ينساها التاريخ .
ولكن المفارقة تكمن لدينا نحن العرب والمسلمين، وتحديداً لدى أولئك المتشبثين بقناع الحداثة، والذين لا يسأمون من تكرار توجيه النقد اللاذع للعقلية العربية، وللفكر الماضوي العربي (الديني طبعاً)، وهم يعلنون صراحة أن عقدتنا الحضارية لن تنحل أبداً حتى نتخلى عن موروثنا الثقافي والحضاري برمته، ثم نتخذ من قصور الرمال الديكارتية أساساً متيناً نبني عليه حداثتنا الضرورية .
وكمثال سريع على هذا الموقف، نذكر مقالاً نُشر في جريدة الشرق الأوسط للباحث هاشم صالح العدد (9363) بتاريخ 17/7/2004 والذي لم يكتف فيه بتنصيب ديكارت نبيا للعقلانية فحسب؛ بل نجده يعد وصفنا للشيء بأنه ديكارتي بمثابة وصفنا له بالعقلاني، بل إن وصفنا للفرنسيين بأنهم ديكارتيون يعني في المقابل أنهم عقلانيون، مما يدفعنا لاعتباره وبكل بساطة "أمة وحده"، إذ أن تنظيم الشوارع والساحات في فرنسا يحمل نهجه على حد تعبيره . مردداً بذلك مقولات الثقافة الغربية بحذافيرها على اعتبار أنها النموذج الأمثل للبناء الحضاري!
إن ترديدنا الببغائي للنموذج النهضوي الغربي لا يمكن أن يتم تطبيقه بهذه الصورة المبتورة عن السياق التاريخي الذي كان حاكماً للتفرد الكنسي في أوربا إبان عصور الظلام في القرون الوسطى، فضلاً عن الخصوصية التي غالبا ما يتم تجاهلها للنسق الديني المسيطر على السلطة الدينية الأوربية، واستساغة تعميم النظرة المقولبة للسلطة الدينية بجانبيها الاجتماعي والسياسي .
وبناء على ذلك؛ فإن استمرار مفكرينا الحداثيين في تسليط الضوء على أساطين الفكر النهضوي الأوربي على أنهم يشكلون النموذج الأوحد للخروج من عنق الزجاجة في عالمنا العربي والإسلامي، لا يمكن أن يبرح مكانه طالما ظل مقتصراً على الانبهار بمنجزات التقدم العلمي (ومن جانبه المادي البحت)، دون أن ينطلق في تحليله لمشكلة التخلف من خصوصية كل من المجتمعين الغربي - المسيحي، والعربي - الإسلامي، وأن يسعى لتفكيك عوامل التخلف التي يعاني منها الأخير ضمن السياق التاريخي الذي أدى به إلى التراجع عن ماضيه الحضاري المشرف، والذي أثبت فيه قدرته على المزج بين المادة والروح دون اصطناع لأي نوع من الفصل أو الإثنينية المؤدية إلى تغليب أي منهما على الآخر .
==================(52/43)
(52/44)
سلسلة كشف الشخصيات (22) : خليل عبد الكريم
بقلم : الاخ والاستاذ متعلم
أصل الحكاية
أصل حكايتنا ثقافة مادية ماركسية قبيحة ، قوامها : لا إله ، والحياة مادة ، والأنبياء لصوص كذابون !
وتتشدق هذه الثقافة الجاهلة بالعلمية والموضوعية والعقلانية والتنوير ، وتطنطن بنقد الموروث وإنكار الماورائى ، وتدعو الناس إلى أن يكونوا تقدميين وفى الطليعة وضمن الثورة النهضوية المتحتمة ، وتعدهم بجنة فى الأرض لا فى السماء ، جنة الشيوعية الأولى ، حيث يكون الطعام والنساء ـ والرجال ! ـ وكل شىء مشاعاً للجميع ، بلا قيد من دين أو أخلاق أو عادات أو تقاليد .
ثم حاولت هذه الثقافة أن تقيم لها دولة فى فترة من فترات التاريخ ، لكن هذه الدولة انهارت قبل أن تبلغ سن الفطام ! .. وكان سبب الانهيار هو الثقافة السوداء ذاتها !!
ثم إن هذه الثقافة إبان ذيوعها ، قد فتنت كثيراً من شبابنا العربى آنذاك ، ممن عدم حصانة علمية من دينه ، فسهل عليه شرب كل ما هو غير معقول ولا علمى ، فنقلت إليه جرثومتها قبل موتها .
ورغم ظهور فشل هذه الثقافة المتهافتة نظرياً وتطبيقياً ، ورغم تراجع الكثيرين من شبابنا عنها ، إلا أنه بقيت شرذمة ضحلة الفكر على ولائها لهذه الثقافة المتهافتة ، تترضى عن أصحابها آناء الليل وأطراف النهار ، وتحمل على عاتقها مهمة نشرها والترويج لها ، وتجتهد فى إخراج أجيال لها ، تحمل نفس الجرثومة ، لعلها تنتقل إلى من بعدهم .
فى هذا السياق ، تطالعنا أسماء مثل : خليل عبد الكريم .. سيد القمنى .. إلى آخر هؤلاء الملاحدة .
ما يقوله هذا تجده مكرراً عند ذاك ، وما يجمله هذا يفصله أخوه ، وهذا يحيلك إلى كتاب زميله ، وذاك يعتبر كتاب رفيقه من أهم مصادره العلمية .
الطريف أن كل واحد من هؤلاء " الأبطال " يؤكد لك على ريادته بصريح اللفظ كلما سنحت الفرصة أو لم تسنح ، وعلى أن كتاباته لم يسبقه أحد إليه من قبل !
والأكثر طرافة ، أن كل ما يتهوك به هؤلاء الملاحدة ، لا ينقلونه عن بعضهم البعض فحسب ، بل هو فى الأصل منقول عن مستشرقى الغرب وملاحدته !
علا كعب ملاحدة أوربا على أهل النصرانية هناك ، منذ خروجهم من كهوف القرون الوسطى كما يسمونها ، وتناولوا بالنقد والنقض كتاب النصرانية المقدس ، وخرجوا منه متهكمين ساخرين من كل عبارة وكلمة ، وآثروا الإلحاد على النصرانية ، ولم يملك كهنة النصرانية على اختلاف طوائفها ، إلا تعريض القفا ، وتنكيس الرأس ، غير قادرين على رد الطعونات الإلحادية الكثيرة على كتابهم المحرف ودينهم الوثنى .
وما زال كهنة النصرانية على ذلك السلوك إلى الآن ، وهذا يفسر لك سر احترامهم ـ العميق ! ـ للملاحدة ، وأدبهم الجم عند التحدث معهم أو عنهم ! .. بل صارت مؤلفات الملاحدة من أوثق المصادر العلمية عند كهنة النصرانية ، لا يرضون عنها بديلاً ! .. رغم أنه فى القديم ، أيام سطوة النصرانية وسلطانها ، لم يكن جزاء من يصدر عنه دعوى " شبه " إلحادية واحدة ، إلا العقاب الفورى الذى قد يصل إلى الحرق حياً !
ما علاقة ذلك بموضوعنا ؟
صبى يشاهد فيلماً سينمائياً ، فيرى " بطل " الفيلم ، يركل هذا بقدمه ، ويضرب ذاك بقبضته ، ويطوح ثالثاً فى الهواء ، ولا ينتهى المشهد إلا عن ثلة من البشر ، ملقاة عند قدمى البطل المغوار .
فينبهر الصبى ببطله ، ويتمثله فى نفسه ، لتأخذه الحمية ، وتملأ قلبه الشجاعة ، فيهرع إلى أقرانه ، يحاول تقليد ما فعله البطل فى الفيلم ، على أنه يصطدم باختلاف ما يواجه عما رأى ، وبأن الأمر ليس بالسهولة التى تصورها .
وما علاقة ذلك أيضاً بموضوعنا ؟!
العلاقة واضحة قارئى الكريم ! .. فإن ملاحدة العرب يقرأون ما حدث فى الغرب منذ قرون ، فتأخذهم الحمية ، وتملأ قلوبهم الشجاعة ، فيعمدون إلى " دينهم " يحاولون نقضه وهدمه ، ظانين أن الدين كالدين ، جاهلين بالفرق الشاسع بين دين إلهى منزل من عند الله يحفظه ، وبين دين مبدل محرف تخلى عنه أكثر أتباعه ، واستخزى الآخرون ونكسوا رؤوسهم منه !
فإذا تأملت حال ملاحدة العرب فى العصر الحديث ، وجدت كل منهم يعتبر نفسه " فولتير " قومه ، و " روسو " عصره ، و " ماركس " زمانه .. وكل منهم يحاول الدخول فى " جدليات " فكرية مع كتابات هؤلاء ، مؤكداً لك أنه أتى بما لم يأتوا به ، وابتدع ما لم يقولوه .. وكأنك تقر له أصلاً بصحة عقول " أبطاله " وعلمية كتاباتهم .
إن ملاحدتنا ( العظام طبعاً ! ) حاولوا تكرار لعبة أسلافهم الغربيين مع دين قومهم .. الأولون فعلوها مع النصرانية الوثنية ونجحوا ، والأخيرون أرادوا لعبها مع دين الله المتين .. ففوجئوا بأن الدين ليس كالدين ، وأن القوم ليسوا كالقوم .
أما أن الدين ليس كالدين .. فلإن دين الله المنزل المتين " الإسلام "، ليس كالدين المبدل المحرف " النصرانية " .
مثال ذلك : أن الملاحدة لم يستطيعوا اتهام الإسلام بمناهضته للعلم وإعمال العقل ، لوجود الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التى تحث على ذلك .(52/45)
وأما أن القوم ليسوا كالقوم .. فلإن خير أمة أخرجت للناس " أمة الإسلام " ـ مهما انحطت ! ـ ليست كالأمم السابقة .. لأن الإسلام يعطى لأبنائه حصانة ـ تلقائية ـ ضد كثير من الضلالات ، ولا تستطيع النصرانية المحرفة ذلك .. ولأن الخير فى أمة محمد عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة .. وما تزال طائفة منهم ظاهرين على الحق إلى يوم الدين ، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم .
فوجد الملاحدة " علماء المسلمين " وطلبتهم ، يفندون ضلالاتهم ، ويظهرون غثائهم ، ويفضحون عوار آرائهم .
إذن .. الدين ليس كالدين .. والقوم ليسوا كالقوم !
لا بد إذن من تعديل فى " المنهج " ! .. لن يقبل المسلمون الدعوة إلى ترك كتابهم وسنة نبيهم بسهولة ولا بصعوبة ! .. فلندخل إليهم إذن من باب آخر ، ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب ! .. لن ندعوهم إلى ترك الإسلام .. لكن لنقل لهم : إن الإسلام يوافق ما جاء عن ماركس ولينين ـ دون ذكر أسماء طبعاً ! ، وكل ما فى الأمر ـ أيها المسلمون ـ أنكم فهمتم الإسلام خطأ ، وآن لكم أن تفهموا قرآنكم على وجهه الصحيح !
على مثل هذه الشاكلة فكر الملاحدة ، وبمثل هذا الأسلوب عملوا .. فالمسلم لا يرفض أبداً أن يفهم دينه صواباً ، ولا أن يفقه قرآنه حق الفقه .. وبذلك يستطيع الملاحدة أن يتحدثوا كيفما شاءوا ، ومن اتهمهم بالإلحاد جابهوه بأنهم مسلمون ـ أكثر منه ! ـ لكنه لا يفقه حقائق دينه الكريم !
وهذا التستر منهم مجرد " مرحلة " ، حتى إذا انتهت ، استطاعوا مجابهة المسلمين ـ ضيقى الأفق ! ـ بإلحادهم مكشوفاً عارياً عن كل الأستار !
لكن هذا التستر منهم لا يخفى عليك قارئى الكريم ، فلسوف ترى إلحادهم من وراء ألفاظهم ، ولتشاهدن كفرهم بين طيات كلامهم ، ولتعرفنهم فى لحن أقوالهم .
ويزيد من هتك أستارهم الغيظ والكمد الذى ملأ قلوبهم على هذا الدين وأهله ، لأنهم حرموا من تحقيق بطولاتهم بسبب طبيعة هذا الدين وما أكسبه لأهله من حصانة .
كان الأحرى بهم أن يكتشفوا الحقيقة التى يعرضون عنها ، بل كان من الممكن أن يتهموا أنفسهم بأنهم ليسوا كأسلافهم الغربيين .. لكنهم لم يروا هذا ولا ذاك ، وآثروا اتهام مخالفيهم بكل الاتهامات ، فالعيب ليس فى المفكرين العظماء الأفذاذ ، وإنما فى أقوامهم البليدة الغبية ، التى لا تقدر الدرر التى تتساقط من أفواه عباقرتها المفوهين !
وليكن كل مخالف ـ للعظماء ـ جاهلاً بليداً غبياً " فلحاساً " منغلقاً متزمتاً رجعياً .. إلخ .. لا فرق عندهم بين العلماء ومن دونهم ، وبين المتخصصين فى الفن عن غيرهم .. يغدقون أوصافهم تلك على جميع المخالفين بلا استثناء !
أقصد أن أقول : إن فى قلوب ملاحدتنا العظام غيظاً شديداً على هذا الدين وأهله ، تراه فى كل لفظ لهم ينضح بمرارة الكمد .. غيظ وكمد يملأ صدورهم عندما يسمعون اسم " محمد " عليه الصلاة والسلام ، يتردد بين جنبات المعمورة ، على ألسنة المسلمين من كل جنس ولون .. ليؤكد لهؤلاء الملاحدة فشلهم الذريع فى لعبتهم الحقيرة !
كل ما أسلفت لك ـ قارئى الكريم ـ ستجده ممثلاً بحذافيره فى الزنديق اللئيم : خليل عبد الكريم !
ستجد فى كتاباته مدح الإسلام ، وستجد الطعن فيه ومحاولة النيل منه .
ستجد التعالم والحذلقة والتشدق والغرور .
ستجد الغيظ والكمد ناضحاً من عباراته وسخرياته المريرة .
باختصار ..
بنور يقذفه الله فى قلبك .. ستجد الكاف والفاء والراء على جبين كتاباته !
يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم .. والله متم نوره .. ولو كره الكافرون !
ملامح الزنديق اللئيم .. خليل عبد الكريم
خليل عبد الكريم كاتب يسارى معروف .. وكان فى كتاباته الأولى يسمى نفسه هو وأمثاله بـ " اليسار الإسلامى " مؤكداً أنهم هم وحدهم أصحاب الحق فى النطق باسم الإسلام والدعوة إلى مبادئه .. وبعد ذلك ، وبناء على ما سبق ، وجد الفرصة سانحة لمهاجمة الإسلام ونبيه وصحابته وأمته .
لضيق الوقت ، أسوق لإخوتى الكرام أحد عشر ملمحاً لهذا العبكريم ، يتعرفون منها على فكره اللئيم ، لخصتها بتصرف كبير من كتاب إبراهيم عوض " اليسار الإسلامى " .
( 1 ) .. شهادة أمريكى على حسن إسلام خليل عبد الكريم
( 2 ) .. كيل الكلام المعسول تمهيداً لدس السم فيما بعد
( 3 ) .. سقوط الأقنعة
( 4 ) .. معنى دعوى تاريخية النصوص عند الملاحدة
( 5 ) .. التخبط والتناقض : أهم أسس فكر خليل عبد الكريم
( 6 ) .. قليل من السم لا يضر !
( 7 ) .. مزيد من السم لن يضر أيضاً !
( 8 ) .. الوجه السافر للإلحاد القبيح
( 9 ) .. مزيد من الإلحاد
( 10 ) .. هل كان محمد مرسلاً من عند الله ؟!
( 11 ) .. جهاز الملاحدة الإجلابى لإرهاب القارئ
( 1 ) .. شهادة أمريكى على حسن إسلام خليل عبد الكريم !(52/46)
فى مقدمة كتابه " الأسس الفكرية لليسار الإسلامى " ، يورد الشيخ خليل عبد الكريم شهادة الصحفى الأمريكى ستيف نيقوس له ، بصحة الإسلام وحسنه شكلاً وموضوعاً ، ودهشته من أن الإسلاميين [ أو " الإسلامويين " كما يقول الشيخ ] يرفضونه بينهم ، ولا يعدونه واحداً منهم ، رغم " مظهره الإسلامى وسمته الإسلامى [ يشير الشيخ إلى لحيته وجلبابه واللاثة البيبضاء التى يتعمم بها ] وخطاباته وطروحاته الإسلامية " .
ثم يعقب على ذلك متسائلاً : " كيف استطاع هذا الصحفى الأمريكى الذى لم يمكث معى أكثر من ساعتين أن يدرك أننى أقف على أرضية إسلامية لم أغادرها فى يوم من الأيام ، ولم يدرك ذلك الإسلامويون الذين زاملتهم فى سجون الناصرية ، وخرجت مع آخرين فى سبيل الله عدة أسابيع ... ؟ " .
وهو يمضى قائلاً إن بعضهم قد تحول إلى شيطان ناطق ومن أشد المهاجمين شراسة وضراوة . يقصد أنهم يتهمونه بكراهية الإسلام ومعتقداته والعمل على تشويهه مع التخفى تحت لافتة " الكاتب الإسلامى " ، وهو ما يفهم من وسمهم له ( كما يقول ) بـ " مفتى الماركسية " و " الشيوعى الملتحى " و " الشيخ الأحمر " [ص7]
ثم يصف شهادة الصحفى الأمريكى فى حقه بالأمانة معلناً تقديره البالغ لها ، وإن أضاف أنه رغم ذلك ليس بحاجة إلى شهادة الفرنجة [!] لتشكل دليل ثبوت على إسلاميته .
ألم يجد خليل عبد الكريم مؤمناً يشهد له بالاستقامة ، حتى يلجأ إلى شهادة كافر " أمريكانى " فى هذا الصدد ؟ .. إن هذا يعطينا فكرة جيدة عن صدى كتابات خليل عبد الكريم بين المسلمين !
( 2 ) .. كيل الكلام المعسول تمهيداً لدس السم فيما بعد
فى كتابه " لتطبيق الشريعة لا للحكم " ، يؤكد خليل عبد الكريم ، فى أكثر من موضع منه ، أن الإسلام ليس عبادات فقط ، بل هو إلى جانب هذا تشريعات وعقوبات ونظام سياسى . [ص49،66،101،114مثلاً]
وهو يوافق من يدعون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ، وإن كان يرى أنه لا بد من تمهيد كاف لذلك بإقامة مجتمع العدل والشورى . بل إنه يرى أن من يجحد الحدود أو يرميها بالقسوة فقد خرج على الملة ، كما يؤكد أنها صالحة لكل زمان ومكان . [ص45]
كذلك فهو يقرر أن أحكام الله التى نص عليها الوحى فى القرآن الكريم والأحاديث النبوية هى أحكام ملزمة واجبة التنفيذ . [ص39،49]
والكاتب يعترف بأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد نجح فى تغيير أوضاع المجتمع العربى بعد كفاح شاق استمر ثلاثاً وعشرين سنة . [ص74] ، وأنه وأصحابه ، رضى الله عنهم ، كانوا يبدأون بأنفسهم أولاً فى أى شىء يدعون الناس إليه ، وهذا هو سر نجاحهم . [ص78]
والملاحظ أن الكاتب إذا ذكر النبى فى كتابه هذا أتبعه بالصلاة عليه ، وفى بعض الأحيان يصفه بالمعصوم ، وإذا ذكر الصحابى استرضى الله عنهم ، وعند استشهاده بشىء من القرآن يقول : " قال الله تعالى : ... " أو " أوحى الله لنبيه بكذا " .
[ وسوف نرى أنه فى كتبه التالية ، إذا ذكر النبى عليه الصلاة والسلام ، أو أحداً من الصحابة رضوان الله عليهم ، فإنه يورد الاسم مجرداً دون صلاة أو استرضاء ، وإذا أشار إلى نص قرآنى قال مثلاً : وتلا عليهم محمد قرآناً " أو ما إلى ذلك . بل إنه ، فى مقال له بمجلة القاهرة ، يصف عبارة " رضى الله عنه " وأشباهها بأنها مبالغة فجة ممجوجة فى التفخي والتعظيم والتبجيل . ( انظر مقاله " هذا من تجليات الحقبة الثالثة " ، مجلة القاهرة ، العدد 144 ، نوفمبر 1994 م ، ص 17 ) . ]
وقد وصل بكاتبنا الأمر إلى الحملة العنيفة على المستشرقين ، واتهامهم كلهم تقريباً بسوء الطوية وخبث النية ، وانبعاثهم فى مواقفهم وآرائهم تجاه الإسلام من أحقادهم الصليبية ، والتنديد بمحاولاتهم المستميتة فى الطعن فى القرآن ، والإساءة إلى شخص الرسول عليه الصلاة والسلام ، وإشاعة روح الهزيمة فى نفوس المسلمين ؛ تحقيقاً للمطامع الاستعمارية لدولهم ، التى يؤكد أن كثيراً منهم كانوا موظفين فى أقلام استخباراتها . [ص26]
[ وسوف نرى بعد ذلك كيف انقلب موقفه تماماً فى هذه القضية ، فأخذ يثنى على المستشرقين وعلمهم ، مع مهاجمة من دخل الإسلام منهم مهاجمة ضارية ، واتهامهم بالضحولة والسطحية وتفاهة الفكر . وحتى فى كتابه " لتطبيق الشريعة " لا يفوته أن يتهكم برجاء جارودى وبفرح المسلمين به وبإسلامه قائلاً إنه " أصبح ... البدر الطالع والنجم الساطع فى كل مؤتمر إسلامى " [ص26] .. مع أن من الإسلاميين من يختلف مع الأستاذ جارودى اختلافاً شديداً . وعلى أية حال فإننا نحب أن نوضح للقارئ أن جارودى كان واحداً من كبار المفكرين الشيوعيين ، ثم انقلب على الشيوعية ، وأعلن إسلامه ، كما أن أحداً لم يفضح الصهيونية فى أيامنا هذه مثلما فضحها جارودى ، الذى قدموه للمحاكمة لهذا السبب بمقتضى قانون جيسو ، هذا القانون الذى كان الشيوعيون الفرنسيون وراء إصداره . ومن هنا يدرك القارئ لماذا يكرهه الشيخ خليل عبد الكريم هذه الكراهية القتالة ].
( 3 ) .. سقوط الأقنعة(52/47)
بعد أن كان خليل عبد الكريم يقول فى كتابه السابق إن الإسلام ليس عبادة فحسب ، بل يتضمن أيضاً البيعة والشورى والعدل الاجتماعى والحدود وتشريعات الأحوال الشخصية ، فإننا نفاجأ به فى كتابه " الأسس الفكرية لليسار الإسلامى " ينفى ـ بجرة قلم ـ الإسلام من ميادين الحياة ؛ إذ يؤكد أنه ليس شيئاً آخر غير العبادات والأخلاق ، مضيفاً أن ميدانه الأصيل هو " المساجد والجوامع والتكايا والربط والخانقاهات والزوايا والمصليات والحسينيات والخلاوى وحضرات الصوفية وحلقات الذكر ومجالس دلائل الخيرات " [ص10]
( 4 ) .. معنى دعوى تاريخية النصوص عند الملاحدة
فى كتابه الأسس الفكرية لليسار الإسلامى [ص11] ، يردد عبد الكريم نغمة بعينها ، هى أنه يؤمن بتاريخية النصوص ، وربطها بأسباب ورودها والزمن والمجتمع والبيئة التى انبعثت منها ، وكذلك الظروف الجغرافية ودرجة التحضر التى كان عليها المسلمون فى عصر النبى ومستواهم الثقافى ، وبخاصة أن النصوص ذاتها قد ذكرت صراحة ( كما يقول ) أنها موجهة إلى أمة أمية .
الطريف أن عبد الكريم يصف فى نفس الكتاب [ص84] النصوص الدينية بـ " النصوص اللاتاريخية " .. وسبحان مثبت العقل والدين !
وهذه الدعوى هى بعينها دعوى نصر أبو زيد وغيره من الملاحدة العلمانيين ، يبنون عليها علالى وقصوراً ، يريدون مهاجمة الإسلام منها .. والله متم نوره ولو كره الكافرون !
وكلام عبد الكريم عن البيئة التى انبعثت منها هذه النصوص معناه ، أن هذه النصوص لم تنزل من السماء ، بل نبتت من الأرض ! .. ولا شك أن كلام الكاتب عن انسجام النصوص مع المستوى الثقافى والحضارى للمسلمين فى عصر النبى ، وبخاصة حين يشير إلى أنهم أمة أمية ، يعزز هذا الذى ذكرنا .
كما أن فيه احتقاراً لهذا الجيل من المسلمين ، جيل الرسول والصحابة ، وللنصوص التى كانت تلائمهم ولكنها لا تصلح لنا ولا تلبى حاجات حياتنا ، ولا تنسجم مع أوضاعنا وظروفنا ؛ لأننا نفوق الرسول وصحابته حضارة وثقافة وبيئة .
يتسق مع هذا أنه فى كتابه " الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية " ، يزعم أن الشريعة الإسلامية ليست شيئاً آخر تقريباً غير ما كان يعرفه العرب فى الجاهلية مع شىء من التحوير والتعديل فى بعض الأحيان ، ودعواه ليست قاصرة على المعاملات والعقوبات ، بل تشمل أيضاً العبادات ، وهو ما يعنى أن الإسلام كله ، حتى الجانب العبادى منه ، ليس له من مصدر إلا الأرض ودنيا الناس ، ولا علاقة له بالسماء ؛ لأنه ـ ببساطة ـ لا يوجد شىء فى السماء !
( 5 ) .. التخبط والتناقض : أهم أسس فكر خليل عبد الكريم
بعد هذه الدعوى القبيحة " تاريخية النصوص " ، وفى نفس الكتاب [ص18] ، يقول إن " النصوص الأصلية التى هى عماد الدين وسنامه : هى القرآن والسنة ، وما عداها فهو منتج بشرى معرض للخطأ والصواب ... فما وافقنا منها قبلناه ، وما لم نبذناه ، ولا تثريب علنا فى ذلك . نحن نرى أن شيخ الإسلام وحجة الإسلام ... إلخ ، كل هؤلاء لا عصمة لقولهم لدينا ـ نحن أهل السنة والجماعة [!] ـ لأن العصمة للرسول وحده ... "
لكن هل ترك الكاتب فى القرآن والسنة شيئاً لم يقل إنه لم يعد صالحاً لنا لأننا ناس متحضرون ولسنا متخلفين كالعرب الذين كانوا يحكمون بمقتضاه ؟ ..
أرأى القارئ إلى هذا التخبط ؟
إن ذلك الاضطراب بين الفكرة ونقيضها ، وفى كتاب واحد ، وفى هذه الصفحات القليلة منه ، ليدل على أن الأمر لا يعدو أن يكون نوبات لا ضابط لها ولا رابط !
ولا تمر إلا صفحات قليلة أخرى حتى نشاهد هذه النوبة فى أسوأ حالاتها ، ذلك أن الكاتب يدعو بكل قواه إلى اصطناع " منهج الشك وخلع أى هيمنة على العقل الإنسانى مهما كانت ، سواء من النصوص أو السنة ... ، وخاصة أن العقل الإسلامى منذ ما يقرب أو يزيد على ثمانية قرون لا يعرف سوى الإذعان والتسليم والسمع والطاعة للنصوص وحراسها " [ص26]
والسبب ـ كما يقول ـ هو أنه قد " تغير الفضاء المعرفى تماماً ، وتبدل الأفق الثقافى بالكلية ، وتقهقهرت المعارف الثيولوجية ، وكادت أن تختفى منذ عصر التنوير ، وحلت محلها سيادة العقل الذى لا يعترف بأى سلطة سواه " [ص29]
ألم أقل إنها نوبات ؟!
وما أوردنا إلا مجرد مثال .. والأمثلة كثيرة جداً !
( 6 ) .. قليل من السم لا يضر !
فى كتابه " الأسس الفكرية لليسار الإسلامى " ، يسخر عبد الكريم من الإيمان بالجنة ، بل من الإيمان بالله ذاته ، ويسميه على سبيل التعمية بـ " القوى غير المنظورة " و" القوى الجبارة " [ص27]
وقد ورد هذا الكلام فى سياق هجوم الكاتب على العلماء الذين يتصدون للغزو الفكرى ، ويحذرون من مضاره وأخطاره ، وسخريته منهم ، مع أننا رأيناه هو نفسه قبل ذلك يهاجم المستشرقين مهاجمة عنيفة متهماً إياهم بسوء النية والتربص بالإسلام والعمل على هدمه !
ويعود فى [ص135] ، ليطلق على الوحى السماوى " السلع الماورائية " ، على سبيل السخرية والاستخفاف !(52/48)
و " مولانا الشيخ " يسخر من الاعتقاد بوجود إله يسيطر على مقاليد الكون وينبغى الانقياد لأمره للفوز بنعيم الجنة ، قائلاً إن تلك الثقافة الثيولوجية [ يقصد " دينية " أو " لاهوتية " ، لكن غلبه التشدق بالألفاظ الأجنبية ، وهو عمدة جهازه الإجلابى الذى يستخدمه لإرهاب القارئ ] .. تلك الثقافة الثيولوجية التى كانت تسود القرون الوسطى وتدور حول الغيبيات والعوالم اللامرئية والكائنات غير المنظورة وتسليم كافة المقاليد إليها وحتمية الانقياد لأوامرها الصارمة بغية الفوز بـ " الخلاص " و" الخلافة فى الأرض " على الأرض وبـ " ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر " فى العالم الآخر ، هى ثقافة لا تصلح لعصرنا الحديث ، عصر التنوير الذى حلت محلها فيه سيادة العقل والذى لا يعترف بأية سلطة سواها [ص28]
الجدير بالذكر ، أنه فى هذا السياق ، يلجأ إلى التلميح واللمز ، لا الكلام المباشر المستقيم .
أما الإقبال على الدين عنده ، فليس نتيجة الإيمان القلبى النابع من اقتناع العقل ، بل هو نتيجة للملل والسأم الناتجين من التخمة المادية واللذين يدفعان بصاحبهما إلى الغيبيات ، أو نتيجة للفقر والجوع اللذين يسوقان المبتلى بهما إلى التوجه لـ " كائنات علوية وقوى غير منظورة " ، يطلب منها عبثاً العون والمساعدة ، متوقعاً ظهور المهدى المنتظر الذى سيملأ الأرض عدلاً ورخاء كما ملئت جوراً وشدة .
وفى ضوء هذا نستطيع أن نفهم سخطه الشديد على الصحابة رضوان الله عليهم ، وانحيازه إلى أعداء الإسلام آنئذ ، الذين يقول عنهم إنهم " كانوا يدافعون عن وطنهم ومقدساتهم ، ضد الذين اقتحموها عليهم عنوة ، بمقولة إنهم يريدون أنهم يخرجوهم من عبادة العباد إلى عبادة الله ، مع أنهم لم يشتكوا إليهم من ذلك ، ولم يستعينوا بهم "[شدو الربابة:1/173]
( 7 ) .. مزيد من السم لن يضر أيضاً !
فى كتابه " شدو الربابة بأحوال الصحابة " ، يحمل حملة شعواء على العبادات جملة ، التى زعم سابقاً أنها صلب الإسلام .
وهكذا قارئى الكريم تسير خطة الملاحدة ..
فى البداية : مدح الإسلام وشموليته لكل مناحى الحياة
ثم : الدعوة إلى فهمه فهماً صحيحاً
ثم : قصر الدين على العبادات فقط
ثم : الهجوم على العبادات نفسها
فماذا يبقى من الدين إذن ؟!
فى هذا السياق ، يتهكم عبد الكريم بصلاة الاستسقاء وصلاة الكسوف والخسوف ، كما يسخر من نهى الرسول عن الصلاة عند طلوع الشمس ، مؤكداً أن هذا وأمثاله ليس إلا نتاج مجتمع بدوى قبلى متخلف ، ومن ثم لا يصلح لمجتمعنا الزراعى المتحضر [ص170]
وهو يفسر صلاة الكسوف والخسوف على أساس أن الرسول والصحابة كانوا ينظرون إلى هاتين الظاهرتين الجويتين بوصفهما " من علامات غضب الله ، وخاصة أن قوم عاد وثمود عاشوا فى جزيرة العرب ، وهلاكهم جاء على أيدى ظواهر جوية خوارق نتيجة انتقام السماء منهم " ، فهذه الصلاة إذن هى " من آثار المعتقدات القبلية " كما قال بأنها خرافة من الخرافات التى ورثها الإسلام وحافظ عليها .
أما الزكاة ، فهو يضيق بها صدراً ، ويتجهم لها ، وينفر منها ، ويدعى أنه لو " أنشئت لها مؤسسة " لجمعها من مظانها وتوزيعها على مستحقيها " لتحولت نسبة كبيرة من المجتمع إلى متسولين وتنابلة وكسالى " [ص188]
وأما الحج ، فيجأر كاتبنا بالشكوى إلى عنان السماء ، مولولاً على الأموال التى يهدرها المسلمون المتخلفون عليه ، وهو عمل لا ينفع ولا يشفع ولا معنى له فى نظره ، ويحرمون مصر منها رغم احتياجها إلى من يسدد عنها ديونها [ص116]
وبعد قليل ، يختم كلامه بما يتوقعه ، من إقبال " القاعدة الجماهيرية العريضة " على دعاة " التنوير " واستجابتهم لندائهم التنويرى " الكفيل وحده [ أى دون حج أو صلاة أو زكاة ] بانتشالها من الوهدة التى تردت فيها ، والتى جعلتها تبحث عن الخلاص فى الغيبيات والماورائيات "[ص118]
وأما بالنسبة للصيام ، ففى [ص10، صحيفة الأهالى ، 7/2/1996 ] ، كتب عبد الكريم مقالاً بعنوان " مجرد اجتهاد : الصيام فريضة المجتمع المعسكر " ، جاء فيه ما نصه : " عندما هاجر رسول الله إلى المدينة ، تغيرت الصورة جذرياً ، ولم يعد المسلمون مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس ، بل شرعوا فى إنشاء دولة هى حصراً " دولة قريش " ، أخذت تطلق السرايا وتشن الغزوات ... من أجل هذا كان مجتمع يثرب بمثابة معسكر حرب ... والمجتمع المعسكر له موجباته الخاصة ... منها أن يتمرن أفراده المدنيون على تحمل آلام الجوع والعطش ، إذا ما أحاط بهم عدو ... ، فإن الصوم بحالته التى نراها اليوم كان جزءاً من خطة رسمها رسول الله ؛ لتأهيل مجتمع المدينة عامة ، وجنود الغزوات والسرايا والبعوث وفرق المهمات الخاصة ، لما قد يستقبلهم من أهوال وبلايا " .
( 8 ) .. الوجه السافر للإلحاد القبيح(52/49)
فى كتابه " مجتمع يثرب ـ العلاقة بين الرجل والمرأة فى العهدين المحمدى والخليفى " ، يستفرغ خليل عبد الكريم كل وسعه فى محاولة تلطيخ سمعة الصحابة رجالاً ونساءً ، باتهامهم بالشبق الجنسى وبالزنا ، ثم يتوقح فيلمز الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه كان يسهل أمره ، ويخترع الوحى من أجل ذلك ..
فاعتبروا يا أولى الأبصار !
يؤكد كاتبنا الهمام على أن المجتمعات البدائية لا تعرف الأنشطة الرياضية أو الفنية أو الأدبية ، ومن ثم فليس أمام أهلها من سبيل لشغل أوقات فراغهم وتصريف طاقاتهم سوى الجنس ، وأن المرأة فى تلك المجتمعات قد استطابت مع طول العهد سيادة الرجل عليها وامتطاءه لها ، فهى تتحرق تحرقاً فظيعاً إلى ممارسة الجنس غير مبالية بحلال أو حرام أو سر أو علن ، وبخاصة إذا أضفنا عامل الطقس الحار الذى يزيد شهوات الجسد اشتعالاً [ص8]
(1) .. يقصد بالمجتمعات البدائية هنا بالذات مجتمع المدينة المنورة [ التى يسميها " يثرب " لأن النبى نهى عن ذلك ] !
(2) .. ما يمتعضه القارئ من ألفاظ ومعان قبيحة مبتذلة ، هو سمة رئيسة فى أسلوب مولانا الشيخ !
ومما يدل على الهوس الجنسى عند أفراد ذلك المجتمع ، فى نظر الكاتب ، كثرة الألفاظ التى تدل على ممارسة الجنس ... ولأن محمداً [!] كان يعرف طبيعة المجتمع العربى ويدرك أنه مجتمع ملتهب بالشهوة الجنسية ، فقد أخذ يشجع أفراده على الزواج المبكر ويسهل عليهم تكاليفه ، كما قرأ عليهم قرآناً [!] يغلظ عقوبة الزنا ... وأصدر أحاديث [!] تبشعه ، وبخاصة مع المغيبات ، أى النسوة اللاتى كان أزواجهن يغيبون فى الغزو أو التجسس أو الاشتراك فى التصفيات الجسدية لبعض الأعداء ... إذ كانت هؤلاء الزوجات يتشوقن إلى الوطء والمفاخذة [!] ، وكان هناك شبان ورجال يبقون فى المدينة لا يشاركون فى الغزو ، وليس عندهم ما يشغل فراغهم ، فكان هؤلاء النسوة يجدن عندهم تلبية حاجتهن .
[ لا تمتعض أخى المسلم فما زال هناك بقية ! ]
ولأن محمداً كان حريصاً على ألا ينصرف أزواجهن عن الغزو ، حتى لا تفسد خطته التى كان قد رسمها بإحكام لإقامة الدولة القرشية والسيطرة على شبه الجزيرة العربية وإخضاعها لزعامته ، فقد رأيناه يشدد فى هذه المسألة حتى يطمن جنوده إلى سلامة بيوتهم وإناثهم أثناء غيابهم [ص17]
الذى يجب أن يعلمه القارئ الكريم ، أن عبد الكريم يقصد باتهاماته " كل " المجتمع الإسلامى فى عصر الرسول عليه الصلاة والسلام .. كل رجاله ونسائه .. كلهم وكلهن بلا استثناء .
وهو يزعم أن دعوة الإسلام ، رغم كل مزاعم [!] الإعجاز للنصوص التى أتت بها ، لم تستطع أن تصنع شيئاً أمام تيار الجنس والزنا الكاسح فى مجتمع المدينة ، والمجتمع العربى بوجه عام ، لأن النصوص مهما قيل فى إعجازها لا تؤتى ثمرتها إلا إذا تغيرت عوامل الإنتاج وأساليبه [ص7،9،21]
هذه من دعاوى الشيوعية التى لا تعترف إلا بشىء واحد هو العامل الاقتصادى .
ويتوقح الزنديق اللئيم عبد الكريم ، عندما يتعرض لأم هانئ بنت عم الرسول عليه الصلاة والسلام ، وأخت على بن أبى طالب رضى الله عنه ، وللرسول نفسه ـ صلوات ربى وسلامه عليه ، فيسوق رواية تقول إنها " خرجت متبرجة قد بدا قرطاها " [ أى أن التبرج هنا هو بدو القرطين فى أذنيها ] ..
لكن المؤلف " المهذب " يعلق قائلاً : " ما الذى يدعو أم هانئ وهى من هى إلى التبرج ؟ إنها بلا شك ضواغط مجتمع يثرب " [ص54]
يقصد بالضواغط : الشبق الجنسى وتهالك النساء على الرجال وإرضاء الشهوة من أى سبيل !
أرأيت قارئى الكريم إلام وصلت الوقاحة ؟
بيد أنه لا يكتفى بهذا الحد من التطاول الوقح ، بل يأبى إلا أن يمس الرسول عليه الصلاة والسلام أيضاً ، فيقول إن عمر قد قال لأم هانئ ، لما رأى قرطيها ظاهرين : " اعملى ، فإن محمداً لا يغنى عنك شيئاً " ، فشكت ذلك لرسول الله ، الذى أكد لها أن شفاعته ستنال كل المسلمين ، فكيف لا تنال أهل بيته ؟ .. وعندئذ يعلق المؤلف المتطاول قائلاً فى تهكم : " أى أن تبرج أم هانئ مغفور لها بالشفاعة المحمدية " .
ولست أقصد أنه ينكر الشفاعة ، فالأم أطم من هذا كثيراً .. إنه يلمز الرسول بأنه لا يبالى بتبرج أم هانئ ؛ لأن شفاعته كفيلة بإصلاح كل شىء !
( 9 ) .. مزيد من الإلحاد(52/50)
فى نفس كتابه السابق ، يصور عبد الكريم المدينة المنورة على أنها ماخور كبير ، ما إن يخرج المجاهدون للغزو مع رسول الله حتى تفتح زوجاتهن بيوتهن وأحضانهن لمن بقى ولم يخرج للغزو من الرجال والشبان .. ولقد شدد محمد النكير على هذا التصرف عبثاً ، فلجأ إلى وسيلة أخرى ، على حد تعبير الشيخ المهذب : " سلك محمد فى علاج مشكلة المغيبات طريقاً آخر ، وهو نهى الأزواج عن مفاجأة زوجاتهم ليلاً ... " إذا دخلت ليلاً فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة " ... وقيل إن بعض الصحاب خالف هذه الأوامر الصريحة وطرق أهله ليلاً ، ففوجئ بزوجته فى أحضان رجل .. وكان الحتم اللازم أن يتوقع ذلك ! .. أليس هو ابن مجتمع يثرب وربيبه ؟ .. من الواضح أن محمداً بنهيه صحبه عن دخول بيوتهم ليلاً هو أن يجنبهم المرور بتجربة قاسية تحطم معنوياتهم وتمنعهم من الانخراط مرة أخرى فى سراياه وغزواته وبعوثه ، ونعنى بها تجربة مشاهدة الزوجة تحت رجل آخر ، لأن الاستحداد والمتشاط والاغتسال والتزين والتعطر لا تستغرق جميعها من الزوجة أكثر من ساعة ، وهذه لا تساوى أن يقضى الزوج الليل بطوله خارج بيته ، خاصة وأنه قد عاد مجهداً معفراً ... إن محمداً الحصيف كان يعرف أن الليل هو الوقت المفضل لتلاقى الأخدان خاصة فى ذلك الزمان ... لهذا نهى محمد أتباعه عن الدخول على الزوجات المغيبات فى ظلمة الليل حتى لا يفاجأوا بما لا يسرهم بل يفزعهم ويفجعهم ويدفعهم إلى الإحجام عن الخروج " [ص82]
إن هذا الملحد يفترى على سيد الخلق أنه كان يقنن " القوادة " ! .. ولمه ؟ .. لكيلا يفقد جهود رجال المدينة فى فتح البلاد التى يسعى إلى إخضاعها لسلطان الدولة القرشية !
انظر قارئى إلام تبلغ الوغادة ببعض الناس !
أستغفر الله ، وأستنزل منه اللعنة على كل عتل زنيم وفظ لئيم !
( 10 ) .. هل كان محمد مرسلاً من عند الله ؟!
فى كتابه " قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية " ، يقول إن الأمر بالنسبة لمحمد لم يكن أمر نبوة ، بل أمر زعامة ورئاسة ، فهو ليس أكثر من حلقة فى سلسلة تنتظم أجداده قصياً وهاشماً وعبد المطلب ، الذين كان كل منهم حاكماً على مكة وزعيماً لقريش وعمل على أن يجعل لها الزعامة على العرب كلها ، فلم يوفق إلى هذه الغاية ، إلى أن جاء محمد فكان أحسن منهم حظاً ، إذ استطاع أن يحقق ما لم يستطيعوه وأسس الدولة القرشية التى كانوا يصبون إلى إقامتها ، وذلك بفضل " الشروط الموضوعية " التى توفرت فى عهده ولم تتوفر لهم .
أما عن الوسائل التى اتخذها " النبى " للوصول إلى السلطة ، فيرى عبد الكريم فى كتابه " الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية " ، أن محمداً وضع خطة بذكاء شديد وإتقان وأخذ يطبقها بصبر ودأب لا يعرف الكلل ولا الملل واضعاً نصب عينيه تحقيق ما كان أجداده قصى وهاشم وعبد المطلب يطمحون إلى تحقيقه .. ولم يكن على محمد أن يذهب بعيداً فى سبيل اختراع الدين الذى يضحك به على قومه ويضمن انقيادهم له ..
لقد كان لدى العرب من العقائد والتشريعات والأنظمة ما لا يحتاج معه إلا أن يفتح عينيه ويمد يديه ليكبش من هذا البستان ويعبئ جيوبه ثم يطلع عليهم قائلاً لهم " أنا نبى ! " ، مع الاستعانة ببعض الحيل والألاعيب التى يحبها الجمهور .
وإيانا أن نظن أن العرب كانوا قوماً متخلفين ! ..
نعم .. إن الكاتب نفسه يستطيع أن يظن بهم التخلف ، بل أن يؤكده ويلح عليه إلحاحاً ، ويبدئ فيه ويعيد متى أراد .. لكنه هنا بالذات لا يسمح لنا بأن يدور فى خاطرنا أنهم كانوا متخلفين ؛ لأنهم لو كانوا متخلفين فهذا معناه أنه لم يكن عنهم شىء يقدمونه لمحمد كى يلفق منه دينه .. أما عندما يقول إنهم متخلفون فما علينا إلا أن نحنى الهامة ، للشيخ ذى العمامة ، وندعو لهم بالسلامة ، مرددين وراءه ما يقول دون أن نناقشه فى هذا التناقض .. ذلك أن السياق عندئذ يوجب رميهم بالتخلف وبالبلاهة أيضاً ..
وإلا .. فكيف يثبت مولانا الشيخ أن محمداً إذا كان قد نجح مع أولئك العرب فإنه فى الحقيقة لم يفعل شيئاً ، إذ أين النجاح فى أن تضحك على قوم بله أغرار مهيئين للاستماع إلى كل ناعق ما دام يلوح لهم براية " المقدس " ؟
أعرفت أيها القارئ ؟ .. إن مدار الأمر كله هو معاندة النبى عليه الصلاة والسلام والتهوين من شأنه فى كل حال !
وفى كتابه " شدو الربابة فى أحوال مجتمع الصحابة " ، يهول عالمنا الفهامة جداً فى معرفة النبى عليه الصلاة والسلام للحنفاء ، زاعماً أنه كانت له بهم صلة متوثقة ، أتاحت له الفصة للعلم بما كانوا يؤمنون به ، ويجرون عليه فى سلوكهم وأخلاقهم ، مثل التوحيد ، وتنفير الناس من عبادة الأوثان ، أو أكل ما يقدم لها من قرابين ونهيهم إياهم عن وأد البنات وشرب الخمر واغتسالهم من الجنابة ، وضاعفت كلك محصوله الثقافى الدينى [1/ص50]
ليس ذلك فقط ، بل إنه يتهم الرسول عليه السلام بأنه كان حريصاً على الاختلاء بسلمان الفارسى فى جلسات ليلية طويلة بالغة الطول بغية الاطلاع على ما عنده من كنز ثقافى ثمين ؛ إذ كان سلمان يحيط " بما لا يحصى من العقائد والمذاهب الدينية " [1/144](52/51)
وفى فصل " التغنيم والتنفيل " يؤكد أن الغنائم والأسلاب والأنفال " كانت أداة فعالة فى يده [ أى يد الرسول عليه السلام ] استعملها بمهارة فائقة فى رياضة الصحاب " [ص76]
( 11 ) .. جهاز الملاحدة الإجلابى لإرهاب القارئ
يستخدم عبد الكريم ، جرياً على سنة الملاحدة ، جهازاً يجلب به على القارئ ، كى يشغله بصوته العالى عن التركيز فيما يقوله له ، والتفكير فى مدى صوابه أو خطئه .
فهو لا يكتفى برد معظم ما يقوله إلى مصادر ، وإنما يرى واجباً عليه الطنطنة بعلو مكانة هذه المصادر عند " المتشددين " من المسلمين .
وهدفه من هذا هو إقناع القارئ أنه لا يقول إلا حقاً .. لكنه فى نفس الوقت لا يبالى أن يعبث بالنص أو يخلعه من سياقه أو يعطيه معنى غير المعنى الذى تدل عليه ألفاظه وعباراته .. وهو لا يتورع فى سبيل بلوغ هدفه عن التدليس والاستعانة بإخوانه الملاحدة المدلسين .
ومن عُدد هذا الجهاز : استعراضه لثروته اللغوية ..
إذ يحرص كثيراً على إيراد كلمات قد يحتاج فى فهمها إلى الرجوع إلى المعاجم ، أو لها فى تلك المعاجم معنى غير المعنى الذى لها فى حياتنا العصرية .. ثم يفتح قوساً يشرح فيه معنى هذه الكلمات ، ثم يغلقه بعد أن ينص على أنه نقل ذلك الشرح من القاموس الفلانى أو المعجم الترتانى .
كل ذلك فى حذلقة بغيضة أثقل دماً من دم البق !
وما أكثر ما ضحكت ، وأنا أقرأ كتابات سيدنا الشيخ ، وذلك لسببين :
الأول : أن ذلك الحرص على التفاصح ، على العكس مما يهدف إليه ، إنما يدل على أنه " محدث نعمة " فى ميدان الكتابة !
والثانى : أن أخطاءه اللغوية كثيرة رغم جهود المصححين قبل الطباعة ! [ الأسس الفكرية : ص4]
[ للأمثلة على ذلك ، يراجع : الفصل الأخير من كتاب اليسار الإسلامى للدكتور إبراهيم عوض ]
ويقوم الجهاز الإجلابى أيضاً عند الشيخ على التشدق بأسماء العلوم والمصطلحات الأجنبية كالفيلولوجى والأنثروبولجى واللينجووستك والبطرياركى والبنزيركى ... وهلم جرا .
وغايته من هذا تخويف القارئ بإيهامه أنه أمام عالم كبير متبحر فى العلوم المختلفة ، وبهذا تشل حاسته النقدية ، ويندفع إلى تصديق ما يلقيه إليه رغم غثائه وضحالته وضآلة محتواه .
وهو يحب ـ حباً جماً ـ أن يشقشق بالعلمية والموضوعية والعقلانية والتنوير وكراهية الغيبيات والماورائيات والفوق منطقيات ، متصوراً أنه يكفى أى شخص أن يدعى شيئاً حتى يكونه ! .. مع أنه هناك فرقاً بين الادعاء والواقع ، وغير دارٍ أن العلمية شىء وإنكار الغيبيات شىء آخر ، وإلا فأين العلمية فى أن نتهجم على وجود الله والملائكة والجنة والنار ؟
لقد انقضى الزمن الذى كان لهذه الأسطوانة الماركسية فيه سحرها عند بعض الشباب ، بيد أن شيخنا لا يدرك أن ذلك قد ولى ، وأن الماركسية والاتحاد السوفييتى قد أصبحا فى ذمة التاريخ ، لا رحمهما الله !
كذلك فهو يحاول الاستظراف كثيراً ، لكن طبيعة روحه لا تسعفه ، إذ بينها وبين الظرف آماد شاسعة ، فما بالك لو تكلف الظرف تكلفاً ؟ .. أعوذ بالله !
نقد كتاب النص المؤسس ومجتمعة لخليل عبد الكريم
1 ـ الفكرة الرئيسية للكتاب
2 ـ أدلة الكاتب على فكرته
3 ـ هدف الكاتب من وراء فكرته
... (أ) هدف الكاتب المعلن
... (ب) هدف الكاتب " المخفى "
... (جـ) السبب فى محاولة الكاتب إخفاء هدفه الحقيقى
4 ـ مدى أصالة فكرة الكاتب
5 ـ نقد الحجة الرئيسية للكاتب
... (أ) المزلق الأول
... (ب) المزلق الثانى
(1) الفكرة الرئيسية للكتاب
يحاول عبد الكريم أن يثبت أن القرآن نص تاريخى جدلى .
فالقرآن ـ عنده ـ ليس وحياً إلهياً ، وإنما هو من اختراع النبى عليه الصلاة والسلام ، فهو نص " تاريخى " ، يخضع للمرحلة التاريخية التى " أنتج ! " فيها .
ثم إن القرآن ـ بالإضافة لتاريخيته ـ لم " ينتج " كنص كامل منذ الوهلة الأولى ، وإنما تأثر بالظروف التى كانت تمر بمجتمع النبى عليه الصلاة والسلام ، فهو نص " جدلى " ، تناله التغييرات بالزيادة والنقصان ، تبعاً للمواقف التى كان يواجهها النبى " منتج " القرآن !
(2) أدلة الكاتب على فكرته
يمكن لأى إنسان أن يدعى ما شاء ، لكن لا تقبل هذه الدعوى إلا بدليل .. وعبد الكريم يقدم لنا أدلته على دعواه ببشرية مصدر القرآن ، وتتلخص الأدلة كلها فى " أسباب النزول " .
فقد عمد إلى الآيات التى نزلت فى مناسبة معينة ، واعتبر أن ذلك دليلاً على أن القرآن ليس من عند الله ، ولكنه ينزل " حسب الطلب " ، على حد تعبيره ( العلمى طبعاً ! ) .
تلك هى حجة عبد الكريم الرئيسية ، التى يحاول التأصيل لها على طول الكتاب وعرضه .
ثم صنف عبد الكريم هذه الآيات ..
فجعل منها آيات أنزلت " تحقيقاً لرغبة " النبى عليه الصلاة والسلام ، وقد عدها أربعة عشر ..
ثم جعل منها آيات أنزلت " تحقيقاً " لرغبات الصحابة ، وقد عدها عشراً ..
وجعل منها آيات أنزلت موافقة لما صرح به بعض الصحابة لفظاً أو معنى ..
وجعل منها آيات أنزلت إيضاحاً لمشكل أو استدراكاً أو استثناء .(52/52)
وبهذا ينتهى سفره الأول .. وعلى هذا المنوال ، من سوء التصنيف ، ورداءة التبويب ، يأتى سفره الثانى ، ليصنف بعض الآيات الأخرى ، تحت عناوين مختلفة .
(3) هدف الكاتب من وراء فكرته
للكاتب اليسارى من وراء ذلك هدفان : هدف معلن ظاهر ، وهدف يخفيه تعرفه فى لحن القول .
وتوضيح طريقة الكاتب ، هو توضيح لطريقة ملاحدة العرب عموماً فى كتاباتهم ، فتنبه أكرمك الله .
أ ـ هدف الكاتب المعلن
أما الهدف المعلن ، فهو أن يثبت أن العبرة من النص القرآنى بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ، فكل نهى أو أمر فى القرآن ، ليس على المسلمين العمل به كما توهموا لقرون طويلة ! .. وإنما كل أوامر ونواهى القرآن مرتبطة بأسباب معروفة ، ونزلت فى مناسبات معينة ، وتبعاً لمواقف محددة ، وقد انعدمت هذه الأسباب الآن ، وانتهت هذه المناسبات والمواقف ، وليس علينا أن نظل نطبق نفس الأوامر ، ولا أن نمنع أنفسنا عن تلك النواهى !
فليس على المسلمين الآن من حرج فى أن يتركوا الصوم ، فقد شرع الصوم لطبيعة الدولة العسكرية ، التى كان النبى ينشئها فى المدينة ، لتحقيق مجد لقبيلته قريش .. وقد تغير الوضع الآن ، فلا طبيعة عسكرية ، ولا دولة قرشية ، وبالتالى لا صوم على المسلمين ، لأنه شرع من أجل مناسبة وموقف ، وقد زال كل ذلك الآن !
ومثل الصوم فى ذلك كل أحكام الشريعة ، كلها ـ عنده ـ نزلت فى مواقف بعينها ، وفى مناسبات تاريخية معروفة ، وقد زال كل ذلك الآن ، فلا داعى للالتزام بهذه الأحكام التى زالت أسبابها .
ولأن هذا الكلام يغضب المسلم ـ أى مسلم ـ وقد يصف قائله بالكفر والردة ؛ لأنه يعلن التحرر من ربقة الشريعة الربانية .. لذلك يستدرك عبد الكريم وإخوانه من الملاحدة على ما سبق بقول آخر ، لعله يهدئ من روع المسلم !
فيقولون عقب هرائهم السابق ، بأن ليس معنى كلامنا ـ أيها المسلم ـ أن ندع الدين ولا نتبعه ، ولا أن نترك القرآن وننحيه جانباً ، بل نحن ـ العلمانيين العقلانيين ـ ندعوك إلى تطبيق كتاب الله ، والحكم بشريعته ! .. لكنك ـ أيها المسلم ـ تفهم الشريعة على أنها تلك الأحكام التى وردت بالقرآن ، وليس الأمر كذلك ! .. فهذه الأحكام قد زالت أسبابها ، وإنما الشريعة مباينة للأحكام ، الشريعة : هى الروح التى سرت فى النص وأنتجت هذه الأحكام ، الشريعة : هى القواعد الكلية والمقاصد الرئيسية التى راعى القرآن تحققها فى أحكامه الأولى أيام النبى .. هذه هى الشريعة التى سنتبعها ، وهى شىء آخر غير الأحكام التى وردت بالقرآن !
وهذه الشريعة عندهم ، هى عبارة عن إرادة التيسير على الناس ، ورفع المشقة عن المكلفين ، ومراعاة احتياجات العصر وتطوراته ، ومراعاة الأعراف الاجتماعية السائدة ! ... إلخ هذه الأمور العامة ، التى لا يستطيع أن يمسكها أحد من كلامهم ، والتى يستطيع أى أحد أن يكيفها لأغراضه كما يشاء ، ما دام لم يقيدها بالنصوص القرآنية التى توضح معناها ومغزاها .
ونتيجة ذلك أن تخلع المرأة حجابها ، لأن الأمر بالحجاب الوارد فى القرآن كان مرتبطاً بظرف تاريخى معين ، ونزل فى مجتمع له ظروفه الخاصة ، وقد تغير كل ذلك الآن ، فلا علينا من إلزام المرأة بالحجاب .. لكننا بذلك لا نترك القرآن .. مطلقاً ! .. وإنما سنطبقه خير تطبيق ! .. وذلك أن القرآن عندما أمر بالحجاب كان يراعى تقاليد وأعراف ذلك المجتمع البدوى المتخلف ، ونحن سنسير على روح القرآن ، وسنراعى ما راعاه ، وسنطبق " شريعته " التى هى مقاصده لا أحكامه .. ومقصد القرآن مراعاة تقاليد المجتمع .. فنحن سنترك مسألة " حشمة " المرأة بحسب تقاليد مجتمعها .. فإن كان عرف مجتمعها يستنكر ظهور شعرها ، كان ذلك منكراً فى ذلك المجتمع فقط ، وفى تلك الفترة التاريخية وحدها ! .. وإن لم يكن مستنكراً ، فلا عليها من سبيل فى تجميل شعرها وإبرازه وعرضه على الرجال !
وستجدهم ـ قارئى الكريم ـ يتحللون من كل أحكام الشريعة ، بمثل ما تحللوا به من الحجاب !
ب ـ هدف الكاتب " المخفى "
أما الهدف الثانى " المخفى " الذى تلحظه فى لحن القول ، فهو اتهام النبى بالكذب فى ادعائه وحى السماء ، ولا وحى ثمة ولا إله ! .. ولو كان صادقاً لنزل الوحى جملة واحدة ، أما أن يتنزل بحسب المواقف ، فهذا دليل على أن النبى كان ينفعل بالأحداث فيؤلف الآيات ويدعى نزول الوحى !
وهم يبغون الخروج من ربقة الدين جميعاً لا الإسلام وحده ، فالدين عندهم من اختراع الإنسان ، والأنبياء دجالون كذبوا على الناس ، واحتالوا عليهم بألاعيبهم ، لكن هذا الدجل وهذه الألاعيب لا تروج على العلمانيين العقلانيين !
جـ ـ السبب فى محاولة الكاتب إخفاء هدفه الحقيقى
إنه الجبن !
السمة الأساسية للملحدين ، خاصة العرب منهم !
الطريف فى الأمر ، أنك تجدهم أكثر الناس طنطنة ، بالشجاعة والجهاد بالكلمة وحرية القلم والفكر ... إلخ !
وعندما تسمع " طنينهم " هذا ، تتخيلهم فرساناً مغاوير ، لا يخافون فى " إلحادهم " لومة لائم ، ولو نشروا بالمناشير !(52/53)
ثم تجد أساتذتهم وأكابرهم فى كتاباتهم فى بلاد المسلمين كالدواجن فى خوفها ، وكالحرباء فى تلونها بحسب ما تقتضيه الظروف ، فلا يظهرون إلا ما يسمح به فساد المناخ ، وإلا ما يسمح به تهاون المسلمين فى دينهم .
هذا الجبن يجعل ملاحدة العرب يلجأون إلى التدرج فى خطاب الجماهير ! ..
فقد فوجئوا ـ منذ القديم ـ أنهم لا يستطيعون إتمام اللعبة بشكل جيد مع شعوب المسلمين كما فعل أسلافهم الغربيين ، وأنهم لا يستطيعون اختراق حصن الإسلام بنفس السهولة التى أذل بها أسلافهم ناصية النصرانية الوثنية فى أوربا ..
إن تمسك المسلم بالقرآن والسنة لا يقارن أبداً بتمسك النصرانى بكتاب اكتشف علماؤه أنفسهم تحريفاً فيه وإن لم يسموه باسمه .. ثم إن دين النصرانية عموماً أقوال رجال ، وليس نصوصاً صريحة فى الكتاب المقدس ، بخلاف حال المسلم فى دينه ، بهذه الصراحة والوضوح الشديدين فى نصوص القرآن والسنة الشارحة .
نعم .. وجد الملاحدة المسلمين فى غفلة من دينهم .. لكن ذلك لم يسهل عليهم الأمر ، إذ من نعمة الله على خير أمة ، أنه قد ألا تزال طائفة منها على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم .. وما أكثر ما كشف العلماء وطلبة العلم ألاعيب الملاحدة وحيلهم ، وما أكثر ما فضحوا جهلهم وهذيانهم .
من هنا كان حال القوم وشأن دينهم لا يساعد الملاحدة على إكمال لعبتهم ، فحثهم جبنهم على اللجوء إلى التدرج كلما استطاعوا .
لكن الله يظهرهم لنا فى لحن القول .. ثم إن ذكائهم لا يساعدهم على التخفى بشكل جيد ! .. كذلك الحقد الشديد والغيظ والكمد على هذا الدين وأهله ، كل ذلك يجعل من التخفى أمراً مكشوفاً فى أحيان كثيرة !
ونكرر فنقول : إن أكثر ما يثير غيظ الملاحدة ـ الماركسيين خصوصاً ـ هو أن دولتهم بادت ولم تبلغ سن الفطام ، وكان سبب انهيارها هو فشل الثقافة الإلحادية ذاتها على المستويين النظرى والتطبيقى .. على حين ما زال الإسلام طوداً شامخاً وجبلاً راسخاً وقلعة حصينة طوال أربعة عشر قرناً من الزمان .. تتزايد أعداد الموحدين فى أرجاء المعمورة ، رغم تخلف المسلمين الآن عن التقدم العلمى ، ورغم شدة تكالب أعدائهم عليهم ، ورغم كثرة الأيدى الممدودة إلى القصعة .. إن أكثر ما يغيظهم أن يسمعوا اسم " محمد " يتردد فى أرجاء الأرض ، متبوعاً بالصلاة عليه والتسليم ، من أفواه الملايين من البشر .. ليجعل الله ذلك حسرة فى قلوبهم !
(4) مدى أصالة فكرة الكاتب
من المعلوم مدى شغف معظم ملاحدة العرب بدعوى تاريخية النصوص وجدليتها ، إذ لا يستطيعون مخالفة ثقافتهم الماركسية ، التى تدعى على الأديان بأنها من اختراع البشر وتأليفهم ، فالإنسان ـ عندهم ـ هو الذى خلق الله !
من هنا كان لا بد ـ للماركسيين وتلامذتهم من الملاحدة ـ من إثبات ذلك على الأديان جميعها ، من كل سبيل ، صح أم لم يصح .
ولأن الملاحدة اليساريين يحتذون الفكر المادى حذو القذة بالقذة ، فسنجد عبد الكريم لا يتخلف عن الركب ، فيردد ـ فى كتابه ـ معظم مقولاتهم ، حتى الفرعى منها !
بدون ذلك ـ قارئى الكريم ـ لن تستطيع تفسير كثير من مقولات عبد الكريم المضحكة ! .. لأن رد جميع مقولاته إلى الإلحاد العام لا يكفى ، بل لا بد لك من تلمس آثار ماركس بين ألفاظ عبد الكريم .
مثال ذلك
بغض عبد الكريم للعرب ، متمثل فى الصحابة رضى الله عنهم .
لو رددت ذلك الكمد والغيظ لديه إلى مجرد الإلحاد لما كفى ذلك ، ولما أنصفت الرجل ، بل لا بد لك من التعرف على أحد معالم الفكر المادى ، صاحب دعوى الجدلية التاريخية .
وذلك أنهم يعتبرون الزراعة هى الأصل ، والمزارعين طيبى النية .. أما الرعاة فهم متوحشون همجيون ، يريدون التسلط والتملك لأدوات الإنتاج .. وما ذاك لشىء إلا لأن هؤلاء رعاة وأولئك مزارعون !
ثم إنهم يصنفون الصحابة فى بند الرعاة ولا بد ، وأقباط مصر فى بند المزارعين ولا بد .. وقد عدى الرعاة ـ المتوحشون طبعاً ! ـ على المزارعين ـ طيبى النية كما تتوقع ! ـ وتعدوا على أراضيهم !
لن يسمع منك الماركسى تنبيهك عليه بأنه لم يكن كل الصحابة رعويين ، بل كان منهم مزارعون ! .. ولن يسمح لك بأن تجابهه بأنه ليست كل البلاد المفتوحة للمسلمين كان أهلها مزارعين ! .. لن يسمع ولن يسمح .. لأنك بذلك تفقده متعة اللعبة الماركسية التى لا يمتلك غيرها ! .. بالضبط كما يغضب منك الطفل ذو الخيال الواسع ، عندما تجابهه بأن المقعد الذى يمتطيه ليس سيارة ، وأن حزمة الأوراق البيضاء التى يحملها ليست نقوداً حقيقية !
حتى لا يظن القارئ أننا ندعى ظلماً على عبد الكريم ، نورد نقلاً واحداً فقط ، من كتابه الذى بين أيدينا : السفر الثانى : الباب الأول : الفصل الأول : البند الخامس : تحت عنوان فرعى : " الزراعة والعلوج " .. يقول المتهوك :(52/54)
" بلغ استكبار ( العربان ) فى نظرتهم إلى الزراعة حدًا جعلهم يطلقون على ( الفلاحين ) فى البلاد التى دعسوها بسنابك أحصنتهم ـ دون أى مسوغ ـ ونهبوا خيراتها ... : " العلوج" وهى مقلوب "العجول".. مُنيت مصر المحروسة بالعديد من الغزو والاحتلال ، ولكن لم يقم أى من الغزاة والمحتلين بمثل ما قام به ( العُربان ) , نهبوا خيراتها واستوطنوا أراضيها وشمخوا بأنوفهم المحدوبة على شعبها , أعرق شعوب الأرض قاطبة ، وصاحب أقدم وأزهى حضارة عرفتها البشرية , ولم يكتفوا .. بل أقدموا على ما هو أوعر : أجبروهم على التخلى عن لغتهم ، وأكرهوهم على تعلم لسانهم الفصيح ، وأجبروهم على الأخذ بثقافتهم .. يطلقون على الفلاحين ( العُلوج ) مقلوب ( العجول ) جع عجل. فى معاجم اللغة : العلْج = الرجل الضخم من كفار العُجم. [ المصباح المنير للفيومى ]. بعضهم يطلق ( العلْج ) على الكافر المطلق. [ ذات المصدر ]. أى أن مجرد رفض إنسان / ابن آدم الدخول فى دينهم يحوله إلى حيوان : عِجْل أو عِلْج " ا.هـ.
لا شك أن القارئ قد لحظ أن المسألة هى مجرد لعبة : " لعبة عربان وفلاحين " لا أكثر ولا أقل !
لكن هذه اللعبة التى يهواها المتهوك ، تجعله يصب ناقم غضبه على أفضل خلق الله بعد رسله ، كما تجعله " يدلس " لغوياً وتاريخياً على القارئ ، متبعاً أثر أسياده الماركسيين وسنتهم فى الكذب المكشوف !
أعتقد أن القارئ الكريم قد أصبح مهيئاً لما نحن مقبلون عليه !
(5) نقد الحجة الرئيسية للكاتب
أ ـ المزلق الأول
( 1 )
يسود كلام المتهوك نغمة بعينها ، فهو يحدثنا عن المناسبة للآية التى يسوقها ، كأنها اكتشاف شخصى له ، أو كأن علماء المسلمين كانوا يخفون ذلك عن عوامهم ، فجاء البطل الماركسى المغوار ـ وكل الماركسيين مغاوير ! ـ ليكشف عن الحقيقة الغائبة ، ويسمع القارئ ما أخفاه عنه علماؤه أزمنة مديدة .
( 2 )
ننبه النصارى المساكين على المزلق الأول الذى أوقعهم فيه عبد الكريم بتشدقه !
لقد أوهمهم المتهوك بحديثه ، أنه " يبقر " بطون الكتب الصفراء بقراً ، و" يغوص " فى المصادر القديمة غوصاً ؛ ليحصل على هذه المناسبات والمواقف التى نزلت فيها الآيات ، ويظهر ما أخفاه علماء المسلمين لعوامهم المساكين !
وقد انساق المساكين وراء تفاخره المريض ؛ لتفشى الجهل فيهم ، ولعدم توافر حصانة علمية لديهم ، إذ ليس فى دينهم المحرف تعاليم تربى ذلك فيهم .
(1)
إن الكتب التى وضعها علماء المسلمين على مر العصور فى " أسباب النزول " جد كثيرة ، ومن العبث أن نحاول سرد بعضها هنا .
وإلى جانب هذه المؤلفات المباشرة ، فإنه توجد مؤلفات أخرى يستقى منها أسباب النزول ومناسباته ، بشكل صريح ظاهر ، دون الحاجة إلى الغوص أو البقر !
(2)
فهناك كتب التفسير على اختلاف ألوانها ، وأغلبها يحرص على توضيح سبب نزول الآية ومناسبته ، إيماناً من مفسرينا بأهمية ذلك فى فهم الآية وعلل التشريعات والحكم الإلهية .. إلى جانب إيمانهم بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب !
(3)
وهناك كتب السيرة النبوية ، والتى تؤرخ لسيرة النبى عليه الصلاة والسلام ، وتهتم كثيراً بربط الأحداث بنزول بعض الآيات ، لما فى ذلك من فوائد جليلة ، سواء فى مجال تحديد الترتيب الصحيح للأحداث ، أو فى مجال إظهار التدرج الإلهى فى تربية الفئة المؤمنة الأولى ، وعلى رأسها المصطفى عليه الصلاة والسلام ، إلى غير ذلك من المجالات .
(4)
بالإضافة إلى كتب علوم القرآن ، وهى تعد من علومها علم أسباب النزول ، وتفصل فيه القول ما شاءت .
ولم نذكر مع ما سبق كتب الصحاح والمسانيد ، التى حوت فى ثنايا رواياتها الكثير من هذه المناسبات .. لم نفعل لأننا شرطنا أن نورد الظاهر الصريح ، دون ما يحتاج إلى الاستقراء والاختيار ، مع السهولة المعروفة لذلك لدى طلبة العلم المسلمين !
وعموماً .. أى عالم مسلم عندما يريد الاستدلال بآية معينة ـ غالباً ـ لا بد أن يوضح سبب النزول ، ليتوصل إلى المعنى السليم للآية ، سواء أكان هذا العالم يتحدث فى مسألة فقهية ، أم يؤصل قاعدة أصولية ، أم يستنبط فقهاً من السيرة النبوية ... إلخ .
والمقصود :
التنبيه على أن النغمة التى يتحدث بها عبد الكريم عن مناسبات الآيات ، هى نغمة فاشلة ! .. فالمسلمون يعرفون ما تتحدث عنه يا متهوك منذ قرون مديدة ، ويؤلفون فيه على مر أزمان متطاولة ، وما أنت إلا مقتبس من نورهم ، لتحاول إيهام نفسك بأنك أول من أشعل الضوء ، على عادة ملاحدة العرب فى التفاخر المريض !
والمقصود أيضاً :
التنبيه على أن النصارى قد انساقوا وراء عبد الكريم ، وانخدعوا بتشدقه الجاهل ، لعدم وجود قواعد التثبت العلمية التى تحميهم من ذلك ، لا وجود لها فى كتابهم ، ولا فى كلام علمائهم .. هم محرومون من ذلك !
ب ـ المزلق الثانى
(1)
كلما أثبت عبد الكريم مناسبة لآية ، عد ذلك دليلاً دامغاً ـ وكل أدلته دامغة ! ـ على فكرته الرئيسية ، وهى أن كثيراً من آيات القرآن نزلت فى مناسبات بعينها ، وفى هذا الحجة البالغة ـ عنده ـ على أن القرآن من الأرض لا من السماء !(52/55)
وهو لا يتوقع من أى فلحاس ـ وكل معترض عليه فلحاس ! ـ أن ينبرى للرد عليه ، أو يتجرأ فينكر دليلاً واحداً مما أتى به ، لأن عبد الكريم يجابهه بالمنقول من كتب أسلافه ، وفيها الأدلة الدامغة على أن هناك آيات نزلت فى مناسبات !
(2)
لقد وجه عبد الكريم كل مجهوده إلى إثبات أكبر قدر ممكن من المناسبات للآيات القرآنية ، لكنه نسى !
نسى أن مجرد نزول الآيات فى مناسبات لا يعد دليلاً على بشرية القرآن .. لقد نسى الرجل أن يوضح لنا وجه التلازم المنطقى بين نزول الآيات فى مناسبات وبين اتهام النبى بالكذب .. لقد سرد الأمر كأن مجرد إثبات المناسبات للآيات يكفى تلقائياً للحكم على النبى بالكذب !
أعرف أنك مندهش الآن قارئى الكريم من هذا الأمر ، وقد اندهشت مثلك عندما تأكدت منه ، لكن ما حيلتنا فى ذلك ؟ .. الرجل نسى .. هذه حقيقة !
(3)
إن مسلك عبد الكريم فى كتابه ، يذكرنا بمسلك النصارى المضحك مع قضية مصدر القرآن .. فتجد النصرانى المسكين يعد لك مواضع التشابه بين قصص القرآن وقصص التوراة ، وكلما أورد لك موضعاً ، حسب أنه ألقمك حجراً ! .. كأن المسلمين ينكرون مواضع التشابه بين القرآن والكتب السابقة ، أو كأن القرآن شرط أن يخالف كل ما سبقه ، أو كأن القرآن ما وصف نفسه بأنه مصدق لما بين يديه .
لكن لعدم معرفة النصارى بالفرق بين فرضيات الادعاء وبين الأدلة على صحته ، فهم يعتبرون مواضع التشابه هى أدلة الادعاء نفسه ! .. وعندما تطالبهم بدليل واحد على ادعاء النقل عن أهل الكتاب ، يغضب منك النصرانى الذكى ؛ لأنه لم يعجبك كل ما قدم لك من " أدلة " !
عبد الكريم يفعل هنا نفس الشىء .. فهو يدعى أن القرآن من اختراع النبى ، ويقدم على ذلك حجته بأن الآيات كانت تنزل فى مناسبات ، وسيورد لك الآية تلو الآية ، ويثبت لك المناسبة تلو المناسبة ، حاسباً نفسه يسرد عليك الدليل تلو الدليل !
والنصارى ينشرون كتاب عبد الكريم ، فرحون بما فيه ، فعبد الكريم أورد " الأدلة " ( الدامغة طبعاً ) ، ولا يظنون المسلمين قادرين على تفنيد كل ذلك ، وحتى لو نجح المسلمون فى رد بعض ما قال عبد الكريم ، فستبقى هناك عشرات الأدلة ، على أن الآيات القرآنية كانت تنزل فى مناسبات بعينها !
والآن .. ما هو موقف المسلمين ؟ .. وماذا هم فاعلون ؟ .. كم من أدلة عبد الكريم سيستطيعون ردها أو إبطالها ؟
(4)
حسناً نفعل .. لنكن ـ نحن المسلمون ـ أكثر كرماً مع عبد الكريم وأنصاره من النصارى الوثنيين ! .. لنسلم لهم بصحة كل " دليل " أورده عبد الكريم ، على سبيل الإجمال ، دون الرضا بكافة التفصيلات .. لنسلم له وللنصارى بالحقيقة الواقعة التى لا سبيل إلى إنكارها ..
لنسلم بأن هناك كثيراً من الآيات القرآنية نزلت فى مناسبات محددة ، ومواقف معروفة !
أليس هذا أقصى ما يتمناه عبد الكريم من جداله ؟ .. أليس هذا أعظم ما يطمح إليه النصارى وهم يرقبون معركة بطلهم الملحد المغوار مع المسلمين ؟
(5)
السؤال الآن : وما الغضاضة فى ذلك ؟!
ما الغضاضة فى أن ينزل رب العزة بعض الآيات ـ أو حتى كلها ـ فى مناسبات ومواقف ؟!
هل هذا دليل على أن النبى يؤلف القرآن من عندياته ؟! ..
أليس الله على كل شىء قدير ؟!
إن من يجعل من تنزل القرآن فى مناسبات دليلاً على أنه من اختراع النبى لا من الله .. من يفعل ذلك يحكم باستحالة أن ينزل الله وحيه فى مناسبات ! .. فهل يحكم النصارى بذلك ؟ .. وهل ذلك يخدم إلحاد عبد الكريم ؟
(6)
فيما يختص بالبطل المغوار .. لا ينفعه ذلك البتة !
لأن العقل يجوز أن ينزل الله وحيه فى مناسبات ، ولا يلزم الله أبداً بأن ينزله جملة واحدة ، فالله يفعل ما يشاء ، ولا يحكم العقل ـ أى عقل ـ باستحالة أن ينزل الله وحيه فى مواقف بعينها ، فالذى يقدر المواقف هو الله ، والذى ينفذ قضاءه فيها هو الله ، والذى له أن ينزل وحيه أم لا هو الله ، فله المواقف الكونية ، وله الآيات الشرعية .. " ألا له الخلق والأمر " .
نعم .. ينكر عبد الكريم كإخوانه الملاحدة وجود الله .. لكن مناقشة ذلك وتبيين ما فيه من جهل له مقام آخر .. أما الذى يعنينا هنا ، هو أنه يتخذ من تنزل الآيات فى مناسبات دليلاً على كذب النبى ، لأنه لا وحى ولا إله هناك !
ولم يحاول عبد الكريم أبداً أن يبين لنا وجه الحجة فيما يدعيه ، فلم يوضح لنا ما وجه التلازم بين تنزل الوحى فى مناسبات وبين كذب النبى ، وإنما عد ذلك من المسلمات التى لا تحتاج إلى توضيح أو شرح ، ناهيك أن تحتاج إلى إثبات !
اكتفى على طول الكتاب وعرضه ، بمحاولة إثبات أن هناك آيات نزلت فى مناسبات ومواقف ، معتقداً أنه لو نجح فى ذلك ، فالبقية معروفة للجميع ، فما دامت آيات قد نزلت فى مناسبات ، فلا وحى هناك ولا إله ، بل نبى كاذب مخادع يسعى فى رضا أتباعه وشهوات نفسه !(52/56)
الطريف فى الأمر ، أن الطائفة التى ينتمى إليها هذا المتهوك .. طائفة الملاحدة خاصة العرب منهم .. لا يملون أبداً من تكرار نغمة بعينها ، مفادها أن الناس لا بد أن يفكروا تفكيراً علمياً ، وأن يعملوا عقولهم ، وأن يمنطقوا الأمور دائماً ، فقد خاب وخسر من عادى العلمانية ، وخاب وخسر من رفض العقلانية !
هؤلاء المتهوكون الذين يطنطنون بهذه الشعارات الجوفاء ، هم أبعد الناس عن العقل والمنطق !
لن نسعى لإثبات ذلك لك هنا قارئى الكريم ، لكننا ندلك على أصل المسألة ، ونستخدم من صنيع عبد الكريم فى كتابه كمثال على بعد هؤلاء المتهوكين عن العقل والمنطق .
كنا نتمنى أن يورد عبد الكريم أى وجه عقلى للتلازم الحتم ـ عنده ـ بين تنزل الآيات فى مناسبات وبين كذب النبى .. كنا نتمنى ذلك كى نبطله بفضل الله تعالى .. لكن الرجل حرمنا ذلك فلم يعبأ به !
(7)
أما بالنسبة للنصارى الأذكياء .. فلا ينفعهم أيضاً !
لا يستطيع النصارى استخدام " حجة " عبد الكريم ، لأنهم لو فعلوا ـ وقد فعلوا بنشرهم الكتاب ! ـ لكان معنى ذلك تسليمهم بذلك الأمر .. تسليمهم بأنه محال على الله عقلاً وشرعاً أن ينزل بعض وحيه فى مناسبات !
وهم لا يستطيعون ذلك أبداً ، لأن أناجيلهم تثبت عليهم التناقض لو فعلوا ، وذلك أن كلام المسيح عليه السلام عندهم وحى إلهى ، تجب طاعته واتباعه ، فى كل زمان ومكان ، وكثير من كلام المسيح لم يرد إلا فى مناسبات بعينها ، لولا وقوع تلك الحوادث لما نطق بما قال أو تفوه به .
فلم يقل المسيح : " يليق بنا أن نكمل كل بر " ، إلا عندما رفض يوحنا تعميده [متى : 3 : 15]
فهل يقال : إن المسيح اضطر لقول ذلك بسبب فعل يوحنا ، ولو لم يمنعه يوحنا لما قاله .. ثم يعد ذلك دليلاً على كذب المسيح ، فلا هو نبى صادق ولا إله !
كذلك لم يبح المسيح يوم السبت ، إلا بعد أن اعترض اليهود ، لأن أتباعه قد انتهكوا حرمته ، فعندما جاعوا ابتدأوا يقطفون سنابل من الزروع ويأكلون [ متى : 12 : 1 ]
ولم يقرر أن تلاميذه هم أمه وإخوته لأنهم يعملون بمشيئة الله ، إلا بعد أن طُلب منه أن يقطع كلامه ليرد على أمه وإخوته الذين يطلبونه بالخارج [ متى : 12 : 46 ]
ولم يعترض على هؤلاء الكتبة والفريسيين ، ويتهمهم بالرياء والبعد عن وصية الرب ، إلا دفاعاً عن تلاميذه ، الذين اتهمهم الكتبة بأنهم يخالفون تقليد الشيوخ ، لأكلهم بأيد غير مغسولة [ متى : 15 : 1 ]
ولم يعط التشريف لسمعان بطرس بإعطائه مفاتيح ملكوت السموات ، إلا بعد أن شهد له صراحة بأنه المسيح ابن الله [ متى : 16 : 16 ]
والأمثلة كثيرة جداً من حياة المسيح عليه السلام ، وهى موجودة فى حياة غيره من الرسل والأنبياء .. كثير من الوحى الإلهى يتنزل فى مناسبات معينة ، ومواقف محددة ، ليزيل إشكالاً ، أو يجيب سؤالاً ، أو يوجب أمراً ... إلخ .
فهل يقر النصارى بأن كل هذه المناسبات أدلة دامغة على كذب هؤلاء الرسل ؟!
بالطبع كلا ! ..
(8)
حقيقة الأمر ، أن الوحى الإلهى قد يتنزل مفرقاً تبعاً لملابسات موقف قدرها رب العالمين ، وكذلك النبى الكاذب يمكنه أن يدعى ذلك ، فليس الأمر معقوداً على وجود ارتباط بين الوحى والمناسبات ، وإنما يحتاج إلى إثبات صدق النبى من كذبه إلى أدلة أخرى .
لكن .. لأن النصارى يدعون كذب النبى عليه الصلاة والسلام ، ولأن عبد الكريم يدعى كذب الرسل بعامة ، اعتبر المتهوكون جميعاً أن مجرد ارتباط الوحى بالمناسبات هو دليل على ما هو مسلم عندهم .. اعتبروه دليلاً على كذب النبى .. وليس الأمر كذلك .
وإنما غاب عنه وعنهم ، لبعد الجميع عن استخدام العقل السليم والمنطق الصحيح ، إذ لا يستقيم للنصارى أمر دينهم الوثنى مع سلامة العقل ، ولا يتهيأ لعبد الكريم دينه الإلحادى مع صحة المنطق .. أضف إلى ذلك الحقد على دين الله المتين وأهله .. هذا الحقد يعمى أصحابه عن كل عقل ومنطق !
=================(52/57)
(52/58)
سلسلة كشف الشخصيات (23) : أحمد البغدادى
بقلم : سليمان الخراشى
- دكتور كويتي معاصر، وأستاذ بجامعة الكويت .
- له مشاركات في صحف الكويت، إضافة إلى هذه المؤلفات :
1- تجديد الفكر الديني: نشر دار المدى بسوريا، الطبعة الأولى عام 1999م .
2- الدولة الإسلامية بين الواقع التاريخي والتنظير الفقهي، دار قرطاس بالكويت، الطبعة الأولى عام 1994م.
3- حزب التحرير ، دار قرطاس بالكويت، الطبعة الثانية عام 2001م.
لمحة عنه:
- يعد البغدادي أحد أبرز العلمانيين الكويتيين، وأكثرهم جرأة في الطرح، وفي مهاجمة الإسلام وأهله.
وقد ذاع صيت الرجل بالسوء! عندما أطلق مقولته الكفرية التي اتهم فيها الرسولمحمدا صلى الله عليه وسلم بأنه قد "فشل" في دعوته!!
وقد قام بعض الغيورين في الكويت برفع أمره للمحكمة التي حكمت عليه بالسجن، إلا أنه سرعان ما خرج أو أُخرج !!
- لهذا الكاتب كتاب بعنوان (تجديد الفكر الديني)! كشف فيه عن وجهه القبيح دون استحياء ، وعن دعوته للعلمانية بتصريح دون تلميح . وسيكون التركيز عليه في ذكر انحرافات الرجل
انحرافاته:
1- أول انحراف للبغدادي -كما علمنا- هو تصريحه بفشل الرسو صلى الله عليه وسلم في دعوته ! وهذه عبارة كفرية يستتاب منها فإن تاب وإلا قُتل ردةً. (انظر مجلة المجتمع الكويتية، عدد 1373، ص 16-17).
2- ومنها: تهجمه على أحكام الشريعة الإسلامية بقوله -أخزاه الله- : "ما السبب الكامن وراء تبني المسلمين حكاماً ومحكومين المفاهيم العلمانية عملياً لا فكراً، دون حرج، أو لنقل دون تفكير؟ الإجابة بسيطة، لقد أصبحت هذه المفاهيم جزءً من متطلبات المجتمع المدني الذي أخذ المسلمون يقطفون خيراته من خلال دولة القانون. هذه الدولة التي ألغت -دون إعلان- معظم المفاهيم الدينية في العقوبات وأنواع العلاقات الجنسية غير العقلانية (ملك اليمين والتسري) وأبقت على الزواج فقط، وألغت الرق، وهجرت الزكاة مقابل تبني الاقتصاد الربوي الغربي، واستبدلت بكل ذلك العقل الذي أسس الدولة المعاصرة" ! (تجديد الفكر الديني، ص 40).
قلت: فهذا العلماني يُفضل حكم الكفر والطاغوت على حكم الإسلام، بل يتهم حكم الإسلام بأنه لا يناسب العصر، وهذه ردة عظيمة عن دين الإسلام -والعياذ بالله-.
3- ومن ذلك : قوله مصرحاً بعلمانيته: "من المعروف أن أسس الإيمان لا تتضمن السياسة" (المرجع السابق 46).
4- ومن ذلك: قوله : "إن من الطبيعي عجز رجل الدين عن اللحاق بإنجازات المجتمع المدني في المجال الفكري؛ لأن رجل الدين يعلم كل العلم أن ذلك يقتضي التخلي عن الكثير من آرائه البالية التي لم تعد صالحة للعصر الحديث وللمستقبل، وأنه ليس أمامه سوى أن يعترف بكونية العلمانية، وأن المستقبل لها" ! (المرجع السابق، ص47).
5- ومن ذلك : قوله ساخراً بمجتمع الرسو صلى الله عليه وسلم : "لنبحث في العلاقة المزعومة بين الإسلام والتنمية التي يدعيها التيار الديني، ولكن لنعلم أولاً وقبل كل شيء حقيقة مهمة هي أن المدينة المنورة مركز الدين وانطلاق الدعوة كانت أكثر المناطق الإسلامية فقراً" !! (المرجع السابق، ص291).
قلت: فالرجل علماني ينظر إلى الأمور بنظرة (مادية) (دنيوية)، وعنده أن من كان أكثر رخاء ونعيماً فإنه الأفضل! دون نظرٍ إلى دينه، وهذه نظرة كثير من العلمانيين المعاصرين الذين ينظرون بهذه النظرة (الدهرية)، متناسين سنن الله التي قضت بأن يمد هؤلاء وهؤلاء من عطائه، وأنه قد يبتلي المؤمن بالضراء. قال سبحانه (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا) أي ليس الأمر كما تظنون، وليس إنعام الله على العبد بالنعم الدنيوية دليلاً على رضاه عنه، وهكذا ليس تضييقها عليه دليلاً على سخطه عليه.
والأدلة الشرعية كثيرة في توضيح هذا، ليس هذا موضعها.
6- ومن ذلك قوله: "من استعراض تاريخ دار الإسلام والخلفاء وكتب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية يتبين فشل الدين في ضبط وتوجيه السياسة" !! (المرجع السابق، ص301).
فانظر إلى هذا العلماني الماكر كيف يستغل أخطاء البشر وانحرافاتهم عن الحق في تشويه صورة الإسلام وأنه غير قادر على سياسة الناس ! والإسلام كما هو معلوم حجة على الناس وليس الناس حجة عليه. وما مثل هذا الرجل إلا كمثل من رأى من يشرب الخمر فطعن في حكم الإسلام القاضي بتحريمها؛ لأنه لم يردع هذا الشارب !!(52/59)
7- ومن ذلك : قوله "نعلم مسبقاً بالتعارض القائم بين مفاهيم الديمقراطية كحقوق الإنسان وبعض النصوص الدينية على سبيل المثال اختلاف الأديان يمنع التوارث، وعدم حق المرأة بتولي الإمارة، وعدم حقها في الزواج ممن يخالف دينها وما إلى ذلك من نصوص، وهذا يستدعي من الفقهاء جرأة جديدة وقوية وغير عادية، خاصة أن هناك بعض العلماء المعاصرين الذين يمتازون بهذه الروح، ونضرب على ذلك مثلين، الأول كتاب خليل عبد الكريم، الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، والثاني كتاب العالم الإسلامي عبدالله العلايلي([1]): أين الخطأ: تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد، ويمكن أن نضيف إلى هذه الكتابات الإبداعية الجريئة كتاب إبراهيم فوزي: تدوين السنة، وهناك بعض المحاولات التي تتم على استحياء لكنها تتراجع في بعض الأوقات مثل كتابات الشيخ محمد الغزالي الذي يستشعر القارئ له ميوله الدفينة نحو الغرب، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه يحسد الغرب على ما وصل إليه في المجال السياسي وحقوق الإنسان" ! (المرجع السابق، ص408).
فهذا العلماني الأصل عنده أنه إذا تعارض الواقع العلماني الديمقراطي المزعوم مع نصوص الشريعة فإن الواجب أن تؤول هذه النصوص أو تُدفع وترد ويُقدم عليها هذا الواقع الكفري، -والعياذ بالله- !! ولا مانع عنده من تسمية هذا العمل اجتهاداً ! ما دام يوصل إلى مقصوده أخزاه الله.
8- ومن ذلك: سخريته بحديث صلى الله عليه وسلم المحذر من خروج المرأة من بيتها متعطرة ، وقوله: "نورد حديثاً نبوياً يردده معظم المتدينين، والقاضي بأن خروج المرأة من منزلها متعطرة حرام، والبعض يتشدد ويصف المرأة التي يُشتم منها الرجل رائحة عطرها بالزنا والعياذ بالله، لست مختصاً بعلم النفس، لكنني قرأت أن بعض الرجال تستثار غرائزهم عند شم رائحة العرق !!" ! (المرجع السابق، ص18-19)
9- ومن ذلك : زعمه أن الاقتصاد لا يقوم بدون ربا، وطعنه في حكم تحريم الربا، بقوله: "هل يمكن للاقتصاد المعاصر أن يستغني عن الأسلوب التجاري المستخدم في البنوك العادية والمرتبطة بالاقتصاد العالمي، وتعطيل مصالح الناس الاقتصادية بسبب مفهوم غير حاسم وهو الربا" ! (المرجع السابق، ص 19).
10- ومن ذلك : طعنه في حكم قتل المرتد وقوله: "هل يمكن تطبيق مفهوم الردة وهو تبديل الدين، والدعوة لقتل المسلم الذي يعتنق الديانة المسيحية أو اليهودية أو يرفض اعتناق أي دين؟ لا شك أنه من المستحيل تطبيق ذلك عملياً" (المرجع السابق، ص 19). (وانظر : ص 82، 123 وما بعدها، 345، 388).
وقال -قبحه الله- في (ص 105): "هناك أيضاً أحاديث خطرة على حياة الإنسان؛ مثل حديث : (من بدل دينه فاقتلوه) " !
11- ومن ذلك : زعمه "أن ليس هناك ما يسمى بالحقيقة الدينية المطلقة"! (المرجع السابق، ص7). ولا أدري هل يدخل في هذا: وجود الله سبحانه؟! أو اليوم الآخر؟! أو …. الخ لأن الرجل يهرف بما لا يعرف.
12- ومن ذلك: دعوته الملحة إلى تطبيق الديمقراطية (المزعومة!)، وتفضيلها على حكم الشريعة الإسلامية! (انظر كتابه السابق، ص 120، 408).
13- ومن ذلك : تهجمه الدائم على أهل الإسلام، كقول هذا السفيه عنهم: "لقد قلت سابقاً وأكرر : إن التيار الديني لا عقل له" ! (المرجع السابق، ص345).
قلت: الخلاصة أن الرجل ليس ذا فكر، إنما هو مردد لما يقوله غيره من غلاة العلمانيين في بلادنا الإسلامية، مع جرأة في الطرح وعلو صوت. وأفكاره التي يجترها في مقالاته وكتبه هي: الدعوة إلى العلمانية ومحاربة حكم الله ومن يطالب به.
نسأل الله أن يهديه ، أو يُكمد قلبه ويُسِخْن عينه بتحكيم شرع الله في جميع بلاد المسلمين.
------
([1]) سيأتي بيان انحرافات هذا (العالم الإسلامي)! ضمن إحدى مجموعات هذه السلسلة -إن شاء الله-.
=================(52/60)
(52/61)
سلسلة كشف الشخصيات (24) : جرجي زيدان
بقلم : سليمان الخراشى
ترجمته([1]) :
-ولد جرجي زيدان في بيروت عام 1861م، والبلاد تتخبط في الفتن والانقسامات والحزازات المذهبية.
-اضطر إلى ترك المدرسة صغيراً ليساعد أباه في تحصيل القوت، ثم تعلم في مدرسة ليلية اللغة الإنجليزية.
-التحق بالكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية) حيث تعلم الطب.
-هاجر إلى مصر كحال غيره من نصارى الشام.
-في مصر انصرف إلى العلم وتحرير جريدة (الزمان) والتأليف والترجمة، ثم عمل ترجماناً للمصريين والسودانيين عندما وجه الإنجليز حملتهم إلى السودان.
-في عام 1885م عاد إلى بيروت، فانتخب عضواً في المجمع العلمي الشرقي. ثم زار انجلترا.
-عاد إلى مصر منقطعاً إلى التأليف والصحافة.
-أسس في عام 1892م مجلة (الهلال) الشهيرة.
-توفي في سنة 1914م.
مؤلفاته:
-من مؤلفاته في التاريخ:
1- العرب قبل الإسلام -الجزء الأول، طُبع في مصر سنة 1908.
2- تاريخ التمدّن الإسلامي- خمسة أجزاء -طبع في مصر 1902-1906.
3- تاريخ مصر الحديث -جزآن- طُبع في مصر 1889.
-ومن مؤلفاته في اللغة وآدابها:
1- الألفاظ العربية والفلسفة اللغوية -بيروت 1889.
2- تاريخ آداب اللغة العربية -أربعة أجزاء- مصر 1911.
-ومن مؤلفاته في القصص التاريخي: عشرون رواية تستعرض التاريخ الإسلامي في مختلف أطواره، هي: فتاة غسان - أرمانوسة المصرية- عذراء قريش- 17رمضان- غادة كربلاء- الحجاج بن يوسف- فتح الأندلس- شارل وعبدالرحمن- أبو مسلم الخراساني- العباسة أخت الرشيد -عروس فرغانة- أحمد بن طولون- عبد الرحمن الناصر- الانقلاب العثماني- صلاح الدين - شجرة الدر- أسير المتمهدي- المملوك الشارد- استبداد المماليك- جهاد المحبين.
انحرافاته :
1- نصرانيته، وليس بعد الكفر ذنب !
2- يصدق فيه ما قاله الدكتور محمد السيد الوكيل في تقديمه لرسالة (نبش الهذيان من تاريخ جرجي زيدان) بأنه : "من أشهر من افترى وزيَّف التاريخ الإسلامي في العصر الحديث… الذي استتر برداء العروبة وتوارى خلف شعارات القومية، ومهّد له الإعلام الغربي ليلعب دوره الطبيعي في كتابه التاريخ الإسلامي مشوَّهاً ومبتوراً يزينه بأسلوب رقيق ممتع، ويغلفه بعناوين زاهية براقة، ويقدمه في صورة قصة غرامية أخاذة" (ص6).
3- لقد توجهت كلمات العلماء والناصحين إلى كتب وروايات هذا النصراني، محذرةً منها، ومبينة انحرافاتها، ومن ذلك:
I- تحذير الشيخ الهندي شبلي النعماني من كتاب (تاريخ التمدن الإسلامي) لزيدان، حيث فند أخطاءه، وكشف انحرافاته، وأبان عن تزويره وتلبيساته، وذلك في كتابه (انتقاد كتاب تاريخ التمدن الإسلامي) الذي لخص في مقدمته أبرز انحرافات زيدان قائلاً:
"إني أيها الفاضل! المؤلف غير جاحد لمنبتك فإنك قد نوهت باسمي في تأليفك هذا وجعلتني موضع الثقة منك، واستشهدت بأقوالي ونصوصي، ووصفتني بكوني من أشهر علماء الهند، مع أني أقلهم بضاعة، وأقصرهم باعاً، وأخملهم ذكراً، ولكن مع كل ذلك هل كنت أرضى أن تمدحني وتهجو العرب، فتجعلهم غرضاً لسهامك، ودربة لرمحك، ترميهم بكل معيبة وشين، وتعزو إليهم كل دنية وشر، حتى تقطعهم إرباً إرباً، وتمزقهم كل ممزق؟ وهل كنت أرضى بأن تجعل بني أمية لكونهم عرباً بحتاً من أشر خلق الله وأسوئهم، يفتكون بالناس، ويسومونهم سوء العذاب، ويهلكون الحرث والنسل، ويقتلون الذرية وينهبون الأموال، وينتهكون الحرمات، ويهدمون الكعبة ويستخفون بالقرآن؟!
أو هل كنت أرضى بأن تنسب حريق الخزانة الإسكندرية إلى عمر بن الخطاب، الذي قامت بعدله الأرض والسماء، وهل كنت أرضى بأن تمدح بني العباس فتعد من مفاخرهم أنهم نزلوا العرب منزلة الكلب، حتى ضرب بذلك المثل، وأن المنصور بني القبة الخضراء إرغاماً للكعبة، وقطع الميرة عن الحرمين استهانة بهما، وأن المأمون كان ينكر نزول القرآن، وأن المعتصم بالله أنشأ كعبة في (سامرا) وجعل حولها مطافاً واتخذ منى وعرفات؟!
وهب أني عدمت الغيرة على الملة والدين، وافتخرت كصنيع بعض الأجانب بأني فلسفي بحت عادم لكل عاطفة ووجدان، فلا أرضى ولا أغضب ولا أسر ولا اغتاظ ولا أفرح ولا أتألم، وهب أني حملت نفسي على احتمال الضيم، وقبول المكروه، والصمم عن البذاء، ومجازاة السيئة بالحسنة، ومكافأة الخبيث بالطيب، فهل كنت أرضى بأن تشوه وجه التاريخ، وتدمغ الحق، وتروج الكذب، وتفسد الرواية، وتقلب الحقيقة، وتنفق الهم، وتعود الناس الخرافة؟ بئس ما زعمت أيها الفاضل، فإن في الناس بقايا وأن الحق لا يعدم أنصاراً.
إن الغاية التي توخاها المؤلف ليست إلا تحقير الأمة العربية وإبداء مساويها، ولكن لما كان يخاف ثورة الفتنة غير مجرى القول، ولبس الباطل بالحق.(52/62)
بيان ذلك أنه جعل لعصر الإسلام ثلاثة أدوار: دور الخلفاء الراشدين، ودور بني أمية، ودور بني العباس، مدح الدور الأول وكذلك الثالث (ظاهراً لا باطناً كما سيجيء) ولما غر الناس بمدحه الخلفاء الراشدين، وهم سادتنا وقدوتنا في الدين، وبمدحه لبني العباس وهم أبناء عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وبهم فخارنا في بث التمدن وأبهة الملك، ورأى أن بني أمية ليست لهم وجهة دينية فلا ناصر لهم، ولا مدافع عنهم، تفرغ لهم، وحمل عليهم حملة شنعاء، فما ترك سيئة إلا وعزاها إليهم، وما خلى حسنة إلا وابتزها منهم…الخ" (ص2 ،3)
Ii- أما انحرافاته في كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية) فقد أبان عنها الشيخ أحمد عمر الإسكندري -رحمه الله-. في مقالة له نشرت في ذيل رسالة النعماني السابقة. جاء فيها : "الأمور التي تؤخذ على الكتاب: "يكفي القارئ أن أذكر بغاية الاختصار بعض هذه الأمور فإذا شاء أو شاء المؤلف فضل إيضاح لبعض المباحث فصلته تفصيلاً ويمكن توزيع هذه الأمور إلى الأنواع الآتية:
1- الخطأ في الحكم الفني: أي تقرير غير الحقيقة العلمية سواء كان ذلك بقصد من المؤلف أم بغير قصد.
2- الخطأ في الاستنتاج: وهو ما يعذر فيه المؤلف لأنه اجتهاد من عند نفسه فإن أصاب فله الشكر وإن أخطأ فمن ذا الذي ما ساء قط.
3- الدعوى بلا دليل: وهو ما يقرره المؤلف من غير تدليل عليه وقد يكون في ذاته صحيحاً ولكن في سوقه ساذجاً مجالاً للشك.
4- الخطأ في النقل: وهو آت من تصرف المؤلف في عبارات المؤلفين بقصد اختصارها أو من تسرعه في الجمع وقلة مراجعة الأصول .
5- قلة تحري الحقيقة: بمراجعة الكتب المعتبرة والتواريخ الصادقة ووزن كل عبارة بميزان العقل والأنصاف وقياس الأمور بأشباهها بل كثيراً ما تروج عند المؤلف أقوال الخصوم في خصومهم وأقوال الكتب الموضوعة لأخبار المجان أو لذكر عجائب الأمور وغرائبها.
6- تناقض بعض أقوال الكتاب.
7- الاختصار في كثير من التراجم والمباحث وإهمال ما ليس من شأنه أن يهمل .
8- إدخال ما ليس من موضوع الفن فيه لغير مناسبة أو لمناسبة ضعيفة جداً.
9- الاستدلال بجزئية واحدة على الأمر الكلي وهو كثير الحصول في جميع كتب المؤلف وفي أكثر استنتاجاته ودعاواه .
10- تقليد المستشرقين في مزاعمهم أو نقلها عنهم من غير تمحيص .
11- اضطراب المباحث وصعوبة استخراج فائدة منها لاختلال عبارتها أو لعدم صفاء الموضوع للمؤلف.
12- اضطراب التقسيم والتبويب إما بذكر المباحث في غير موضعها وإما بعدّ رجال عصر في عداد رجال عصر آخر، وربما زاد المؤلف عن ذلك بعد رجال فن في رجال فن آخر.
13- التحريف واللحن وهما كثيرا الشيوع في جميع كتب المؤلف مع سهولة الاحتراز عنهما بمراجعة الأصول عند التأليف والطبع واستئجار أحد المصححين العالمين بقواعد العربية.
14- تهافت المؤلف على تطبيق قانون النشوء والارتقاء حتى في الأمور التي فيها تدن وانحطاط لا نشوء ولا ارتقاء" (ص 8-81).
V- أما كتابه (تاريخ مصر الحديث) فقد تولى كشف زيفه الشيخ أمين بن حسن الحلواني المدني في كتابه (نبش الهذيان من تاريخ جرجي زيدان) خطّأ فيه زيدان في (101) موضع.
Viii- أما رواياته التاريخية فقد خصص الأستاذ شوقي أبو خليل كتابه (جرجي زيدان في الميزان) لبيان ما فيها من إفساد. ولخّص في خاتمته أبرز انحرافات زيدان في رواياته قائلاً:
(وهكذا.. قدمنا ملاحظاتنا حول روايات جرجي زيدان، التي تعمد فيها التخريب والكذب لأجل تحقير العرب، عن سوء قصد، لا عن جهل، فلا ينقص جرجي العلم بعد أن أوهم قرّاءه أنه عاد إلى مصادر ومراجع عربية.. لكنه تعمّد التحريف، وتعمد الدس والتشويه، وتعمد فساد الاستنباط مع الطعن المدروس.. لعمالته الأجنبية، ولتعصبه الديني، الذي جعله ينظر إلى تاريخنا العربي الإسلامي، وآداب اللغة العربية، بعين السخط والحقد.
ونحن في نقدنا الذي دوّناه فيما سبق.. لم نكن في موقف من يتصيد الأخطاء ويغمض عينه عن الصواب.. ولكننا كنا نبحث عن الصواب فلم نجده، فاخترنا من الأخطاء بعضها وأهمها.. ونحن لا نقول إن ما سجلناه هو كل ما يقال عن روايات جرجي، لا.. فمن يفتش يجد طعنات وأخطاء بقدر ما كتبناه وأكثر.. ولكننا أردناها لقيمات تتذوقها من "طبخة" كبيرة طبخها جرجي من تاريخنا، وقدمها للأجيال..
وخاتمة لدراستنا هذه .. يمكننا أن نستخلص من مجموع الروايات، ما أراده جرجي، وما هي الملاحظات الرئيسة التي توجه إلى هذه الروايات:
1-شوه جرجي سيرة أبطال الإسلام
ففي "فتاة غسان".. سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ورجالات الصدر الأول.. ووصفهم بالبطش، والفتك والنهب..
وفي "أرمانوسة المصرية" شوه حياة عمرو بن العاص.. وأظهر المسلمين سذجاً بسطاء أغبياء..
وفي "عذراء قريش" .. شوه سيرة عثمان وعلي وعائشة.. رضي الله عنهم.
وفي "17 رمضان" .. شوه سيرة خلفاء بني أمية.
وفي "فتح الأندلس" .. شوه سيرة طارق بن زياد وموسى بن نصير.
وفي "شارل وعبد الرحمن".. شوه سيرة عبد الرحمن الغافقي.
وفي "أبي مسلم الخراساني".. شوه سيرة المنصور.
وفي "العباسة أخت الرشيد".. شوه سيرة الرشيد.(52/63)
وهكذا شوه جرجي أيضاً سيرة المعتصم، وأحمد بن طولون، وعبدالرحمن الناصر، والظاهر بيبرس وقطز، ومحمد أحمد المهدي.
2-طمس جرجي بطولات وفتوحات المسلمين، وأثار الشكوك حولها.. تارة بالنهب والسلب، وتارة بالبطش والفتك.. وتارة بالظلم "جزية خراج، أتاوة..".
3-جعل جرجي الجزئية كلية، واستدل بجزئية واحدة على الأمر الكلي.. وهذا حاصل في كل استنتاجاته ودعاواه، يجعل الواقعة الجزئية قضية كلية وقاعدة عامة.. يضاف إلى هذا.. إغفال الأحداث الرئيسة في تاريخ الإسلام..
مثال ذلك.. أشار جرجي إلى نكتة ذكرها صاحب الأغاني لحسين بن الضحاك، فأنزلها منزلة الأمور العمومية في ذلك العصر، فهذا ليس بتاريخ، بل مسخ التاريخ، وقال جرجي "ومن ثمار الحضارة في ذلك العصر تكاثر الغلمان، وصاروا يحجبونهم كما يحجبون النساء" .. هذا ما رآه جرجي من ثمار الحضارة، ومن مميزات عصر النهضة الذهبي في تاريخنا !!.
4-جعل مسرح أحداث رواياته في الأديرة والكنائس، وجعل للرهبان والقسس دور التوجيه حيث الأمن والأمان والاحترام والطمأنينة، والرأي القويم السليم .. عندهم.
كما أضفى هالات مثالية على كل ما هو (مسيحي).. وسلط الأضواء على صور الصلبان والقديسين ومياه المعمودية المقدس.. وزيت مصباح الدير.. "الشفاء التام ببركة الماء المقدس وزيت المصباح وبركة صاحب الدير".
5-تلاعب بالمصادر والمراجع .. وإن أشار إلى مرجع ونقل فقرة، نقلها مشوهة ودون ذكر الجزء أو الصفحة أو الطبعة.. وما ذلك إلا لإيهام القارئ بموضوعيته..
كما وأنه يضع كلاماً بين قوسين، وكأنه ينقل حرفياً بأمانة.. مع أنه كلام من أفكار جرجي.. يدسه ويرويه على ألسنة أعلام مشهورين. وبخاصة حوار كبار الصحابة مع بطلاته الوهميات !!
6-ركز جرجي على فترات القلق السياسي، فكانت له أحداث الفتنة الكبرى، وأبو مسلم الخراساني، الأمين والمأمون، وشجرة الدر.. مرتعاً خصباً للخوض في غمار هذه الأحداث مجسماً الخلاف، مظهراً العيوب..
7-كما أكثر جرجي من "الدعوى بلا دليل"..
كاستهانة عبد الملك بن مروان بالقرآن الكريم : "هذا فراق بيني وبينك!" وكقوله إن معاوية أرسل بسر بن أرطأة، وأرسل معه جيشاً، أوصاهم أن يسيروا في الأرض ويقتلوا كل من وجدوه من شيعة علي، ولا يكفوا أيديهم عن النساء والصبيان !!
وكقول جرجي أن المنصور والمعتصم، بنيا كعبتين في بغداد وسامراء!!
وكقوله بكره المنصور للعرب.. وهو العربي وابن عم النبي العربي صلى الله عليه وسلم
وقوله إن "دائرة للمنجمين" في قصر الخلافة العباسية في بغداد.
وقوله: ذبح الخليفة أهل الكرخ بسبب جارية.
وقوله: إن للبطل الفاتح عبد الرحمن الغافقي "خباء من النساء"!!
8-أظهر شعوبية وحقداً على العرب..
لقد حقر جرجي -في ذهنه فقط- أمتنا، وأظهر مساوئها.. بل ما ترك سيئة إلا وعزاها لأمتنا، وابتز منها كل مكرمة.. واستغل الطورانيون، أعداء العرب، مؤلفات جرجي، فترجمت إلى اللغة التركية، للاستعانة بما كتبه في تحقير العرب، وانتقاص مدنيتهم، وغمط حضارتهم، وتفضيل الأعاجم، عليهم، فكادوا يولدون بذم العرب عصبية جديدة..
لقد جعل جرجي العرب غرضاً لسهامه، ودربة لنباله.. يرميهم بكل نقيصة، ومعيبة وشر..
9-أثار الأحقاد التي يرجو كل عاقل إطفاء نيرانها بين السنة والشيعة.. وبخاصة في رواياته: عذراء قريش. 17 رمضان. غادة كربلاء. أبو مسلم الخراساني. العباسة أخت الرشيد. الأمين والمأمون. عروس فرغانة . فتاة القيروان..
جاء في "فتاة القيروان" : "إن شيعتنا في ضنك شديد، إن هؤلاء الظالمين يسومونهم سوء العذاب من الإهانة والضرب والحبس بسبب وبلا سبب".
"إن شيعتنا مغلوبون على أمرهم يذوقون العذاب ألواناً من الحبس والقتل.." .
"إنهم يسومون شيعتنا ذلك لأنها تجل أبناء الرسول، لو قصصت عليك بعض الخبر لبكيت على حالنا"..
10-أثار غريزة الشباب، وحرك شهوات المراهقين، مستغلاً ضعف ثقافة الكثيرين منهم، وحاول إيصالهم إلى الغاية التي يرمي إليها في كل رواية، مع لواعج الغرام، اصطكاك الركب، خفقان القلوب، رعشات الحب، سريان الكهرباء عند تلامس الأيدي..
11-كما جعل جرجي تاريخنا العربي (مع الغرام والحب).. دسائس، جواسيس، لصوص، ظالمين، قطاع طرق، ثارات، طاغين، وشايات.. ولقد ذكرنا في كل رواية ما ورد من مثل هذه العبارات..
12-وجعل جرجي وراء سير الأحداث غانيات فاتنات، ملكات جمال ممشوقات القوام، ممتلئات الجسم، مستديرات الوجه كالبدر.. جمعن بين لطف النساء وحزم الرجال وشجاعتهم، يتنقلن بخفة متناهية بين بلد وبلد، وبين فئة وأخرى ليسيرن الأحداث في تاريخنا العربي الإسلامي.
فقطام في "17 رمضان" فتاة الكوفة الفتانة، التي ذاع صيتها في الآفاق، وسمع بجمالها القاصي والداني، حتى أصبحت فتنة الكوفيين ومضرب أمثالهم، وشخصت إليها الأبصار، وحامت حولها القلوب، فباتت معجبة بجمالها.(52/64)
وسلمى في "غادة كربلاء" عند النظر إليها أعجب الحبيب بها فلم ير جمالاً مثل جمالها في فتاة قبلها، طول عمره الذي قضاه في دمشق وضواحيها، مع كثرة ما شهد من بنات الروم والعرب والنبط والسريان واليهود، فلم تقع عيناه قبل تلك الساعة على فتاة في وجهها من الجمال والهيبة مثل ما في هذا الوجه، وقد أدهشه منها بنوع خاص جمال عينيها..
وجلنار في "أبي مسلم الخراساني" مضرب الأمثال بالجمال والتعقُّل والأنفة.. وهي على جانب عظيم من الجمال، مستديرة الوجه، ممتلئة الجسم، طويلة القامة معتدلتها، بيضاء البشرة مع حمرة تتلألأ تحت البياض، سوداء الشعر مسترسلته، نجلاء العينين كحلاءهما، تفيض جاذبية وحلاوة، وكان لها في مقدم الذقن فحص، وإذا ابتسمت ظهر على جانبي فمها فحصتان هما "الغمازتان" .
وهكذا .. في كل رواية .. كلما أزيح لثام، ظهر وجه كالبدر، ليكون وراء الأحداث بتعقل وحنكة.. وهذا تفسير فرويدي جنسي لتاريخنا العربي الإسلامي!!
13-عود الناس تصديق الخرافة والخيال.. فقصة الحب التي ينسجها بين حبيبين يباعد الفتح أو تباعد الأحداث بينهما، يعودان إلى اللقاء في نهاية القصة.. مع تنجيم، وسحر، وكهان، ورمل، ومندل وودع..
كل هذا في "روايات تاريخ الإسلام" !!
14-عدم استخراج فائدة، أو روح معنوية سامية من هذه الروايات.. مع أن الكاتب الكبير هو الذي يوجه قراءه إلى هدف كبير، وأول خطوة تجاه الهدف الكبير البعد عن الكذب والدس والتشويه والحذلقة والطعن والشعوبية.
الكاتب العظيم.. من يجعل فيما يكتبه مغزى عظيماً رفيعاً، ولن تكون العظمة فيما يُكتب إلا إذا التزم الكاتب الصدق، والأمانة، والموضوعية.. ولن يصل إلى المستوى الرفيع إلا إذا جعل ما يكتب للسمو بالجيل فكراً ونفساً وروحاً ومنهجاً.
15-كما قلد جرجي المستشرقين في شبهاتهم.. الرهبان علموا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، سطو العرب وحبهم للغنيمة، لا يشجع الإسلام حرية الفكر والفلسفة، إدانة الرشيد في نكبة البرامكة..
16-وكان جرجي يختصر في ما ينبغي الإطناب فيه، والإطناب فيما ينبغي الاختصار.. كوصف دير، أو بستان، أو غرفة، أو جارية.. صفحات ذكرناها فيما سبق.. بينما يذكر عين جالوت في سطرين دون ذكر اسمها، ولا يذكر غزوات صلى الله عليه وسلم مطلقاً، حتى أنه في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية" خصص اثنتي عشر صفحة لموضع أجنبي بعيد عن آداب اللغة العربية وهو آداب اللغة اليونانية وأطوارها، وتراجم مستقلة بصور كبيرة لفلاسفة اليونان، وآداب اللغة الفارسية وأطوارها، وآداب اللغة السريانية وأطوارها، وآداب اللغة الهندي.. نقل هذه المباحث من دوائر المعارف، نقلها هنا بلا مناسبة وكان الأولى به أن يحل محلها كتاب الدولة العباسية، وهم فحول البلاغة، وقادة الكلام.
ومما يذكر هنا.. التطويل والتكرار في موضوعين أو ثلاثة لغير موجب، مثل: وصف جمال الغانيات والجواري، والتهتك والخلاعة، وإثارة الأحقاد بين المسلمين، ثم إعادة ذلك بعينه في كل رواية!!
17-يتضح من مراجع (جرجي) أنه لم يطلع مطلقاً على "منهج البحث التاريخي".. ويتجلى ذلك في اعتماده على كتب شك المؤرخون بصحتها، بل وعرفوا كذبها ومجونها.. مثل الأغاني الذي جعله مرجعاً رئيساً في معظم رواياته..
18-كما دون جرجي في رواياته: تصورات أبطال هذه الروايات، وما قالوه في أنفسهم، وما سمعوه من هواتف، وما مر على خواطرهم من ذكريات.. حتى أحلامهم سجلها جرجي..
وليس بمثل هذه الخيالات يكتب تاريخ على وجه البسيطة!!) انتهى كلام الدكتور شوقي أبو خليل -وفقه الله-. (ص307-315).
أما الأستاذ أنور الجندي فقد قال عن روايات زيدان: (أما المجال الذي استطاع جرجي زيدان أن ينفث سمومه فيه بحرية؛ فهو مجال القصص، فقد ألف عدداً من القصص تحت اسم "روايات الإسلام"، دس فيها كثيراً من الدسائس والمؤامرات والأهواء، وحاول إفساد مفهوم الشخصية الإسلامية والبطولة الإسلامية، حيث أساء إساءة بالغة إلى أعلام من أمثال صلاح الدين الأيوبي، هارون الرشيد، السلطان عبد الحميد، عبد الرحمن الناصر، أحمد بن طولون، الأمين والمأمون، عبد الرحمن الداخل، شجرة الدر، وقد أقام تصوره على أساس خطير:
أولاً: تصوره للخلفاء والصحابة والتابعين بصورة الوصوليين الذي يريدون الوصول إلى الحكم بأي وسيلة، ولو كان على حساب الدين والخلق القويم مع تجريحهم واتهام بعضهم بالحقد وتدبير المؤامرات.
ثانياً: تزييف النصوص التي نقلها عن المؤرخين القدامى وحولها عن هدفها تحويلاً أراد به السخرية والاستخفاف بالمسلمين وبنى عليها قصصا غرامية باطلة.
ثالثاً: استهدف من حشد القصص الغرامية ذات المواقف المسفة داخل روايات "تاريخ الإسلام" إثارة غريزة الشباب وتحريك شهوة المراهقين، مستغلاً ضعف ثقافة الكثيرين منهم وجهلهم بالغاية التي يرمي إليها في الروايات، مع الاستشهاد بالأبيات الشعرية المكشوفة الساقطة التي تحرك الغرائز الدنيا.
رابعاً: تبين من البحث الذي قدمه عالم أزهري درس باستفاضة روايات جرجي زيدان أن معظم الأحداث التاريخية في رواياته قد حرفت وبنيت على أساس فاسد.(52/65)
فقد ظل جرجي على حد تعبير الباحث الدكتور… ينقب وينقر ويجهد نفسه في مزج الحق بالباطل، وتقديمه في أسلوب براق جذاب معتمداً على فن أدبي ذي أثر بالغ، وذلك هو فن القصة والرواية، حيث لم يكن حريصاً على تحري الحقائق التاريخية قدر حرصه على الحبكة القصصية وخلق الحوادث المثيرة خلقاً، وقد عمل جاهداً على طمس التاريخ الإسلامي وتشويه معالمه بغية تنفير أبناء العرب والمسلمين من ماضي آبائهم المجيد.
خامساً: من أخطر شبهاته أنه قال ببشرية القرآن وشك في مصادر العربية الأولى، ومدح بني العباس لأنهم أنزلوا العرب منزلة الكلب (على حد قوله)، ونسب إحراق مكتبة الإسكندرية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقد طبع اللبنانيون روايات جرجي زيدان مزدانة بالصور الملونة والألوان الصارخة بقصد استهواء الشباب وحملهم على قراءة هذه الكتب التي لا تعطيهم إلا صوراً مشوهة لتاريخ أمتهم وأخباراً ملفقة بغية التشكيك في ذلك التاريخ.
سادساً: أعطى نفسه الحرية المطلقة في تفسير أحداث التاريخ في معظم رواياته استناداً إلى موقف الأديب من التاريخ، وكانت تفسيراته متعسفة متكلفة في محاولة لإثارة مشاعر السخط في نفوس المسلمين.
سابعاً: تفسيره لتصرفات هارون الرشيد مع أخته العباسة وجعفر البرمكي بما لا يتفق مع ما عرف عن الرشيد من أنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً، وبما لا يتفق مع أيسر قواعد التفكير والمنطق السليم، وفي رواية أرمانوسة المصرية حاول أن يقول: إن الحب بين أرمانوسة وأركاديوس قائد حصن الروم هو السبب في هزيمة الروم وانتصار المسلمين، واتهم المسلمين بأنهم دخلوا البيوت ينهبون ويسلبون عندما فتحوا بلبيس، وهو مناقض تماماً لما أورده المؤرخون المنصفون.
ثامناً: في رواية "فتاة غسان"؛ أورد شبهة بأن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم أخذ تعاليمه عن الرهبان، وتأثر بتوجيهات الراهب بحيرا، واتسمت كتابته بالسخرية والاستخفاف بوثائق العهد النبوي، ووصف حادثة شق صدر صلى الله عليه وسلم بالغرابة، وادعى أن هناك خصومة بين خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح، وأخذ مصادره في هذا من كتب المستشرقين.
تاسعاً: في رواية "عذراء قريش"؛ أقام منطقه على تجريح الصحابة واتهام بعضهم بالحقد وتدبير المؤامرات، واتهم السيدة عائشة بالميل إلى سفك الدماء والنزوع إلى الشر، ووصف الخليفة عثمان بأنه رجل إمعة وذليل ومستسلم لابن عمه، وافترى على علي بن أبي طالب وفسر الفتنة تفسيراً مغرضاً، واتهم علياً بالتهاون في المطالبة بدم عثمان.
العاشر: وفي رواية "العباسة"؛ اتهم الرشيد بالاستهتار والمجون والاستبداد والظلم، وقدم تفسيراً خاطئاً ومغرضاً لقتل بني برمك، وشوه شخصية العباسة أخت الرشيد.
الحادي عشر: في روايات "شارل" و"عبدالرحمن"؛ زعم بأن القواد وأمراء الجند من المسلمين كانوا مشغولين بحب فتيات النصارى وقد فتنوا بجمالهن، وأن هذا الحب قد صرفهم عن أمر الفتح؛ فتركوا جنودهم في ساحة القتال وادعى أنهم كانوا يهتمون بالغنائم أكثر من اهتمامهم بما عداها، وجرى على تصوير حروب الإسلام على أنها حروب غنائم.
الثاني عشر: أجرى على لسان أبي مسلم الخراساني من الافتراء ما قال من أن العرب كانوا يحتقرون غير العرب ويسومونهم سوء العذاب، ثم يفتخرون عليهم بالنبوة، وطمس معالم التاريخ الإسلامي في هذه الرواية بالدس والافتراء، وقدم صوراً باهرة للكنيسة ورهبانها، وأشاد بالأديرة والرهبان حيث جعلها ملجأ الضعفاء وملاذ التائهين والخائفين.
وفي رواية "الأمين والمأمون"؛ كان واضح التحامل على العرب، واصفاً إياهم بالاستبداد وسوء التصرف مع الأجناس الأخرى التي تربطهم بهم رابطة الإسلام قبل كل شيء.
الثالث عشر: في رواية "فتاة القيروان"؛ حاول التشكيك في أنساب الكثيرين من حكام المسلمين، …، واعتمد في قصصه الغرامية على الخيال؛ إذ لا يوجد ذكر لكل هذه المواقف في جميع كتب التاريخ، وخاصة حاكم سلجماسة الأمير حمدون، بل أن صاحب سلجماسة في كتب التاريخ يختلف تماماً عما جاء في رواية زيدان مما يؤكد ميل زيدان إلى التزوير والتحريف.
بل إن صاحب سلجماسة هو محمد بن داسول وليس الأمير حمدان، ولم يقل ابن الأثير أن له بنتاً شغلت القائد جوهر؛ فخطبها لابنه، وقد أعطى زيدان اليهود في روايته دوراً إيجابياً وجعلهم أصحاب الفضل الأول في إزالة الدولة الإخشيدية وإقامة دولة الفاطميين([2]) مقامها.
الرابع عشر: في رواية "صلاح الدين" تلفيق وتزوير وإفساد للمجتمع؛ فقد ذهب إلى أن الخليفة العاضد لما ضعف أمره استدعى صلاح الدين وأوصاه بأهله خيراً، وأن صلاح الدين نقض هذا العهد بعد سويعات وحاصر قصر الخليفة وأخذ كل ما فيه ومن فيه، ولا ذكر في كتب التاريخ لتلك الوصية، ولا إشارة في كتب التاريخ إلى سيرة الملك هذه، وهذه الوصية التي ذكرها زيدان لم ترد في "الكامل" لابن الأثير ولا غيره؛ فهي ملفقة مزورة، كذلك؛ فقد زيف زيدان النصوص التي نقلها من ابن الأثير وحولها تحويلاً أراد به السخرية والاستخفاف بالمسلمين، وبنى عليها قصصاً غرامية باطلة.(52/66)
ولم يعن المؤلف بالتصوير الحي لشخصية صلاح الدين ولم يسجل مواقفه الحاسمة، وصرف الشباب عن الحديث عن الدور المهم الذي قام به صلاح الدين بالحديث عن مكائد الحشاشين، وتهديدهم لصلاح الدين، واعتمد على روايات طائفة الحشاشين تلك الجماعة الضالة المنحرفة، وحاول أن ينسب إلى صلاح الدين قصصاً غرامية كاذبة.
الخامس عشر: وفي رواية "شجرة الدر"؛ حاول أن يصور نساء السلطان الصالح نجم الدين أيوب بصورة النساء اللاتي يتاجرن بأعراضهن في سبيل الحصول على ما يتطلعن إليه، وليس معه أي دليل من التاريخ، وهذه الدعاوى التي أوردها حول شجرة الدر تختلف عن الحقائق الواردة في الكتب التي أرخت لهذه الفترة.
السادس عشر: وخلاصة ما يصل إليه البحث حول روايات جرجي زيدان:
1- تحويل مواقف الشخصيات التاريخية .
2- إثارة الشكوك حول البطولات الإسلامية.
3- تعمد إغفال الحوادث التاريخية المهمة.
4- إضفاء هالات مثالية على الأديرة والرهبان.
5- التلاعب بالمصادر والمراجع). انتهى كلام الأستاذ أنور الجندي -رحمه الله- من كتابه (إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام، ص 174-178).
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) الموجز في الأدب العربي وتاريخه، لحنا الفاخوري (4/226 - 232). وانظر : أعلام العرب المبدعين! في القرن العشرين، للدكتور خليل أحمد خليل.
([2]) الصواب أن تسمى دولة العبيديين الرافضة الذين تستروا بمحبة آل البيت زوراً، وسموا دولتهم بالفاطمية.
==============(52/67)
(52/68)
سلسلة كشف الشخصيات (25) : علي عبد الرازق
بقلم : سليمان الخراشى
ترجمته([1]) :
- هو : علي عبد الرازق.
- ولد في قرية "أبو جرج" بمحافظة "المنيا"، من صعيد مصر سنة 1305هـ 1887م.
- التحق -بعد أن حفظ القرآن الكريم- بالأزهر -في القاهرة- وكان من شيوخه الذي تلقى عنهم العلم الشيخ أحمد أبو خطوة [1268-1324هـ 1852-1906] والشيخ أبو عليان.
- في سنة 1008م نشأت الجامعة المصرية. لتنهج في التعليم مناهج الحضارة الغربية فالتحق بها علي عبد الرازق، وجمع بين الدراسة فيها والدراسة في الأزهر الشريف.
- في سنة 1912م تخرج من الأزهر، وحصل على شهادة "العالمية".
- وعقب تخرجه سافر إلى إنجلترا على نفقة أسرته، والتحق هناك بجامعة أكسفورد عازماً على دراسة الاقتصاد.. لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى جعله يعود إلى مصر سنة 1915م.
- في سنة 1915م عين قاضياً شرعياً.. واستمر في هذا العمل حتى أصدر كتابه [الإسلام وأصول الحكم] سنة 1925م -وكان قاضياً بمحكمة المنصورة الشرعية- فكان من تداعي أحداث المعركة السياسية التي أثارها هذا الكتاب أن فصل من عمله في 17 من سبتمبر سنة 1925م 29 من صفر سنة 1344هـ. تنفيذاً للحكم التأديبي الذي أصدرته "هيئة كبار العلماء" في 12 من أغسطس سنة 1925م 22 من محرم سنة 1344هـ ، والذي أخرجته بموجبه من "زمرة العلماء" !
- وبعد ذلك سافر إلى لندن، دارساً.. وإلى شمالي أفريقيا، سائحاً.. ومن هناك كتب عدداً من المقالات التي نشرتها له مجلة [السياسة] التي كان يصدرها، الأحرار الدستوريون".
- وبعد أن تولى أخوه الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا [1302-1366هـ 1885-1946م] مشيخة الأزهر سنة 1945م. أعاده إلى زمرة العلماء!
- دخل الوزارة، وزيراً للأوقاف، ما بين 28 من ديسمبر سنة 1948م و25 من يوليو سنة 1949م في الوزارة التي رأسها إبراهيم عبد الهادي باشا [1316-1401هـ] [1898-1981م].. كما شغل عضوية مجلس النواب، ومجلس الشيوخ.. وعين عضواً بمجمع اللغة العربية.
- توفي في جمادى الآخرة من عام 1386هـ الموافق 23 سبتمبر 1966م.
مؤلفاته :
1- الإسلام وأصول الحكم .
2- الإجماع في الشريعة الإسلامية.
3- أمالي علي عبد الرازق.
انحرافاته:
1-تأليفه كتاب (الإسلام وأصول الحكم) بعد سقوط الخلافة العثمانية! ليقول فيه بأن الإسلام دين لا دولة، ورسالة روحية لا علاقة لها بالحكومة والسياسة الدنيوية وعمارة الكون وتنظيم المجتمعات. وأنمحمدا صلى الله عليه وسلم لم يؤسس دولة! ولم يرأس حكومة ! ولم يسس مجتمعاً !، ولم يدعُ إلى شيء من ذلك، بل كان رسولاً فقط، ما عليه إلا البلاغ.
فهو يسقط نظرة النصارى إلى دينهم على دين الإسلام، ويدعو إلى علمانية تفصل بين الدين والدولة، ومما يلفت النظر في فعله هذا أمران:
1- أنه أصدره بعد سقوط الخلافة العثمانية من قبل الصنم (كمال أتاتورك) عام (1924م).
2- أن هذا العمل جاء من شيخ أزهري !
-بعد صدور كتابه هذا قام العلماء في الأزهر بدارسته ثم محاكمة مؤلفه وإخراجه من زمرة العلماء .
وقد لخصوا في بيانهم وحكمهم أهم انحرافات الكتاب، وهي:
1- جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا.
2- وأن الدين لا يمنع من أن جهاد صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
3- وأن نظام الحكم في عهد صلى الله عليه وسلم كان موضوع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجباً للحيرة.
4- وأن مهمة صلى الله عليه وسلم كانت بلاغاً للشريعة مجرداً عن الحكم والتنفيذ.
5- إنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لابد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا.
6- إنكار أن القضاء وظيفة شرعية.
7- وأن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم كانت لا دينية.
(انظر : حكم هيئة كبار العلماء في كتاب الإسلام وأصول الحكم، ص5،6)
ثم فند العلماء هذه الانحرافات في حكمهم السابق، فليراجع
-رد على هذا الكتاب مجموعة من العلماء، من أهم تلك الردود: كتاب (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) للشيخ محمد الخضر حسين، الصادر سنة 1926م.
-يقول الأستاذ أنور الجندي: (كتاب الإسلام وأصول الحكم ليس من تأليف علي بعد الرازق بل من تأليف مرجليوث.(52/69)
كان السؤال عن دعوى علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) التي لا تزال قوى التغريب والغزو الثقافي والماركسيون والشعوبيون تجدد نشرها.. لخداع جماهير المسلمين عن حقيقة دينهم، وإذاعة مفهوم الدين العبادي القائم على الروحيات والمساجد وإنكار حقيقة الإسلام.. بوصفه ديناً ومنهج حياة، ونظام مجتمع، ويقوم الادعاء الخبيث الذي يثيره الاستشراق والشعوبية على أن في الإسلام مذهبين.. أحدهما يقول: بأن الإسلام دين ودولة.. والآخر يقول: بأن الإسلام دين روحي.. ويضعون علي عبد الرازق على رأس الفريق الذي يقول هذا القول. والواقع أن الإسلام ليس فيه غير رأي واحد.. هو الرأي الأول.. وأن ما ذهب إليه علي عبد الرازق عام 1925م لم يكن من الإسلام في شيء .. ولم يكن علي عبد الرازق نفسه إماماً مجتهداً.. وإنما كان قاضياً شرعياً تلقفته قوى التغريب فاصطنعته تحت اسم (التجديد) ودعي علي عبد الرازق إلى لندن لحضور حلقات الاستشراق التي تروّج للأفكار المعارضة لحقيقة الإسلام وهدم مقوماته.. وأهدى هذا الكتاب الذي وضع عليه اسمه مترجماً إلى اللغة العربية وطلب إليه أن يضيف إلى مادته بعض النصوص العربية التي يستطيع اقتباسها من كتب الأدب. أما الكتاب نفسه فكان من تأليف قرم من أقرام الاستشراق، وداهية من رجال الصهيونية واليهودية العالمية.. هو (مرجليوث) الذي تقضي الصدف أن يكون صاحب الأصل الذي نقل عنه طه حسين بحثه عن (الشعر الجاهلي) والذي أطلق عليه محمود محمد شاكر (حاشية طه حسين على بحث مرجليوث)! ويمكن أن نطلق الآن اسم (حاشية علي عبد الرازق على بحث مرجليوث)، وقد كشف هذه الحقيقة الدكتور ضياء الدين الريس في بحثه القيم (الإسلام والخلافة في العصر الحديث).
وهكذا نجد أن السموم المثارة في أفق الفكر الإسلامي توضع أساساً من رجال التغريب.. ثم تختار لها أسماء عربية لتحمل لواءها وتذيعها.. إيماناً بأن الاسم العربي أكثر تأثيراً، وأبعد أثراً في خداع الجماهير.
ولقد طالما تحدث التغريبيون عن كتاب (الشعر الجاهلي) و(الإسلام وأصول الحكم) على أنهما دعامة النهضة في الفكر الحديث.. ونحن نرى أنهما دعامة التغريب التي حاولت خداع جماهير المسلمين عن حقائق الإسلام العظيم.
ومع أن حركة اليقظة الإسلامية واجهت كتاب علي عبد الرازق المنحول وفندت فساد وجهته وأخطائه.. فإن قوى التغريب لا تزال تعيد نشره وطبعه، مع مقدمات ضافية يكتبها كتاب مضللون شعوبيون يخدعون الناس بألقابهم وأسمائهم.. وهم يجدون في هذه الفترة التي يرتفع فيها صوت تطبيق الشريعة الإسلامية. والدعوة إلى الوحدة الإسلامية مناسبة لنفث هذه السموم مرة أخرى.. ولن يجديهم ذلك نفعاً.. فإن كلمة الحق سوف تعلو وتنتشر وتدحض باطل المضللين مهما تجمعوا له وقدموه في صفحات براقة مزخرفة، وأساليب خادعة كاذبة. إن أول من كشف حقيقة الكتاب هو الشيخ (محمد بخيت) الذي رد على الشيخ علي عبد الرازق في كتابه (حقيقة الإسلام وأصول الحكم) وهو واحد من الكتب التي صدرت في الرد عليه.. حيث قال:
(لأنه علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس له منه إلا وضع اسمه عليه فقط.. فهو منسوب إليه فقط.. ليجعله واضعوه من غير المسلمين ضحية هذا العار، وألبسوه ثوب الخزي إلى يوم القيامة). قد علق الشيخ علي عبد الرازق على هذا المعنى حين قال للماركسيين الذين اتصلوا به سنة 1964 لإعادة طبع كتابه أن هذا الكتاب كان شؤماً عليه، وقد ألصق به كثيراً من المتاعب والشبهات.. والحقيقة أنه بعد أن طرده الأزهريون من (هيئة العلماء) ظل منسياً ومهجوراً وعاش بقية حياته منقطعاً عن الحياة العامة.. بالرغم من أن محاولات جرت لإعادته إلى زمرة العلماء، وإلى مجمع اللغة.. فقد كان أشبه باللعنة على حياته كلها. ومن هذا الخيط الرفيع بدأت محاولة الدكتور ضياء الدين الريس فاستطاع أن يصل إلى الحقيقة بأن كاتب الكتاب في الحقيقة هو مستشرق إنجليزي يهودي الأصل شن الهجوم على الخلافة .. لأن بلاده (بريطانيا) كانت في حرب مع تركيا.. وقد أعلن الخليفة العثماني الجهاد الديني ضدها.. والنصوص في الكتاب قاطعة بأنه كان موجهاً ضد الخلافة العثمانية.. فإنه يذكر بالاسم (السلطان محمد الخامس) الخليفة في ذلك الوقت الذي كان يسكن (قصر يلدز) وهناك نص آخر عن (جماعة الاتحاد والترقي) وهي التي كانت تحكم تركيا.. أي دولة الخلافة طوال أعوام الحرب العالمية الأولى.. ونقول: إن الاتحاديين تلاميذ الماسونيين، وقد تربوا في محافلهم واعتنقوا شعارهم ومفاهيمهم، وقاموا بدور مسموم وهو فتح باب فلسطين أمام اليهود المهاجرين.. وكان السلطان عبد الحميد قد رفض ذلك، وكانوا هم -أي الاتحاديون- أداة الصهيونية العالمية في إسقاط هذا السلطان الشهيد..(52/70)
ورجح الدكتور ضياء الدين الريس أن مرجليوث اليهودي الذي كان أستاذاً للغة الغربية في أكسفورد بريطانيا هو كاتب الكتاب.. لأن آراء الكتاب هي آراؤه التي كتبها من قبل عن الدولة الإسلامية، وفندها الدكتور ضياء الدين الريس في كتابه (النظريات السياسية في الإسلام) وأثبت خطأها وبطلانها بالأدلة العلمية.. وهو يكتب عن الإسلام بنزعة حقد شديد، ويتسم أسلوبه بالمغالطات والمعلومات المضللة، والقدرة على التمويه.. كما يتصف بالالتواء.. وهذه الصفات كلها تظهر في هذا الكتاب المنسوب إلى الشيخ عبد الرازق.. ومعروف أن الشيخ علي عبد الرازق ذهب إلى بريطانيا وأقام فيها عامين.. فلا بد أنه كان متصلاً بالمستر مرجليوث. أو تتلمذ عليه.. وكذلك توماس أرنولد الذي يشير إليه الشيخ ويصفه بالعلامة قد ألف كتاباً عن الخلافة هاجم فيه الخلافة بوجه عام، والعثمانية بوجه خاص .. وقد نقدناه (القول للدكتور الريس) في كتابنا (النظريات السياسية الإسلامية). والقصة تتلخص في أنه إبان الحرب العالمية الأولى والحروب دائرة بين الخليفة العثماني وبريطانيا .. أعلن الخليفة الجهاد الديني ضد بريطانيا ودعا المسلمين أن يهبوا ليحاربوها، أو يقاوموها.. وكانت بريطانيا تخشى غضب المسلمين الهنود بالذات أو ثورتهم عليها.. في هذه الفترة كلفت المخابرات البريطانية أحد المستشرقين الإنجليز أن يضع كتاباً يهاجم فيه الخلافة وعلاقتها بالإسلام، ويشوه تاريخها ليهدم وجودها ومقامها ونفوذها بين المسلمين .. وقد استخدمت السلطات البريطانية هذا الكتاب في الهند وفي غيرها .. وبعد أن انتهت الحرب كان الشيخ عبد الرازق قد اطلع على هذا الكتاب أو عثر عليه.. هذا إن لم يفرض أن هذا كان باتفاق بينه وبين هذا المستشرق الذي اتصل به حينما كان في إنجلترا أو في بعض الجهات البريطانية التي كانت تعمل في الخفاء للقضاء على فكرة الخلافة، أو التي تحارب الإسلام.. فأخذ الكتاب إلى اللغة العربية، أو أصلح لغته إن كان بالعربية، وأضاف إليه بعض الأشعار أو الآيات القرآنية التي تبدو أنها لم تكن في أصل الكتاب، وبعض الهوامش والفقرات، وأخرجه للناس على أنه كتاب من تأليفه.. ظناً منه أنه يكسبه شهرة، ويظهره باحثاً علمياً، ومتفلسفاً ذي نظريات جديدة.. غير مدرك ما في آرائه أو في ثناياه من خطورة.. ولا يستغرب هذا لأنه لم يدرك أن إنكار القضاء الشرعي هو إنكار لوظيفته نفسها وعمله، وإلغاء لوجوده.. وكانت هذه هي البدعة السائدة في ذلك الوقت بين كتاب (السياسة) جريدة من أسموا أنفسهم (حزب الأحرار الدستوريين).. وهذا هو الذي فهمه (أمين الرافعي) فكتب في جريدة الأخبار أنه لم يستغرب أن يقدم الشيخ علي عبد الرازق على إصدار هذا الكتاب.. لما عرف عنه من الضعف في تحصيل العلوم، والإلحاد في العقيدة.. ثم قال: هذا إلى أنه انغمر منذ سنين في بيئة ليس لها من أسباب الظهور سوى الافتئات على الدين، وتقمص أثواب الفلاسفة والملحدين، وصار خليقاً باسم (الأستاذ المحقق) والعلامة الكبير.
ولم يعرف الأستاذ الرافعي أن المؤلف الحقيقي ربما كان غير الشيخ عبد الرازق.. ولكن كلامه يكاد يكون إثباتاً لذلك.. وهناك قرائن أخرى:
أولاً: ذكر اسم كتاب مترجم عن التركية طبعة عام 1924.. بينما هناك فقرة تنص على أن تاريخ التأليف قبل عام 1918.. وأنها ذكرت اسم السلطان محمد الخامس.. وقيل في الهامش أنه كتب في عهده.. وأقرب تفسير لذلك أن الكتاب ليس من تأليف شخص واحد.
ثانياً: يتحدث المؤلف عن المسلمين كأنه أجنبي عنهم وهم منفصلون عنه.. فيذكرهم بضمير الغائب ولا يقول عندنا.. أو العرب.. أو نحو ذلك.. كما يقول المسلم عادة.
ثالثاً: يكرر الشيخ عبد الرازق عبارة: عيسى وقيصر (مرتين).. ويكرر هذه الجملة التي يسميها الكلمة البالغة (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) مع أن أي مسلم صحيح الإسلام لا يمكن أن يؤمن بهذا التعبير.. وأن قيصر وما لقيصر لله رب العالمين.
رابعاً: يتعاطف مع المرتدين الذين خرجوا على الإسلام. وشنوا الحرب على المسلمين.. فيدافع عنهم.. في نفس الوقت الذي يحمل على رأي أبي بكر الصديق المسلم الأول بعد رسول ا صلى الله عليه وسلم فينكر خلافته.. ويقول إن محاربته لهؤلاء المرتدين لم تكن حرباً من أجل الدين.. ولكن نزاعاً في ملوكية ملك ولأنهم (رفضوا أن ينضموا لوحدة أبي بكر) وما هي وحدة أبي بكر يا عدو أبي بكر والإسلام.. أليست هي وحدة المسلمين..؟! ويقول (حكومة أبي بكر) أو ليست هي حكومة الإسلام والمسلمين..؟! ويتكلم عن أبي بكر هكذا بغير احترام أو تبجيل.. كأنه رجل عادي.. أو كما يتكلم عدو.
هل هذا هو أسلوب المسلم.. فضلاً عن الشيخ.. في الكلام عن الصحابة.. وعن أفضل الناس وأحبهم إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم وخير من دافعوا عن الإسلام، وجاهدوا في سبيل الله عز وجل ؟!(52/71)
خامساً: أن الأسلوب الذي كتب به الكتاب أسلوب غريب.. ليس مألوفاً في الكتب العربية.. فهو أسلوب مناورات ومراوغة، ويتصف بالالتواء واللف والدوران.. فهو يوجه الطعنة أو يلقي بالشبهة.. ثم يعود فيتظاهر بأنه ينكرها ولا يوافق عليها ويفلت منها .. ثم ينتقل ليقذف بشبهة أو طعنة أخرى على طريقة (اضرب واهرب). وحين يهاجم يصوغ عباراته في غموض.. وهذا يدل على أسلوب رجل سياسي متمرن في المحاورة والمخادعة.. وهو أشبه بالأسلوب الإفرنجي، وأسلوب الدعايات السياسية، أو الدينية التبشرية.. وليس هو أبداً الأسلوب العربي الصريح.. فضلاً عن أسلوب أحد الشيوخ المتعلمين في الأزهر.. وهذا مما يغلب الرأي بأنه كتاب مترجم.
سادساً: لم يعرف عن الشيخ علي عبد الرازق -من قبل- أنه كان كاتباً تمرس في الكتابة، ومرن على التأليف.. فيكتب بهذا الأسلوب، ويتعمد الطعن في الإسلام وتاريخه وعظماء رجاله.
ولم يعرف للشيخ كتاب أو مقالات قبل هذا الكتاب (أي في السياسة والتاريخ) بل كل ما كتب من قبل كان (كتيباً) في اللغة أو في علم البيان وهذا كل إنتاجه في أربعة عشر عاماً بعد تخرجه من الأزهر. ثم بعد أن كتب هذا الكتاب ظل أربعين عاماً لم يكتب كتاباً آخر في نفس موضوعه أو مثله، ولم يحاول أو لم يستطع حتى أن يدافع عن نفسه ويرد على خصومه بكتاب آخر.
سابعاً: هناك من القرائن والأدلة العديدة ما يدعو العقل إلى أن يرجح صحة الخبر الذي رواه فضيلة المفتي الشيخ محمد بخيت نقلاً عن كثيرين من أصحاب الشيخ علي عبد الرازق المترددين عليه من أن مؤلف الكتاب شخص آخر من غير المسلمين.. وقد غلبنا نحن أنه أحد المستشرقين.. ولكننا نقيد هذا الخبر بأن الشيخ قد أضاف بعض فقرات وتعليقات، وأنه هو الذي أورد الآيات من القرآن .. الظاهر أنها محشورة .. مجموعات في مكان واحد، وأبيات الشعر التي استشهد بها. كما كتب المقدمة التي زعم فيها أنه بدأ البحث في تاريخ القضاء منذ سنة 1915.. وذلك ليغطي المفارقة الظاهرية بين وضع الكتاب ووقت صدوره.. فإنه من غير المعقول أن يستغرق تأليف كتيب لا يزيد عن مائة صفحة عشر سنوات.
ثامناً: كانت هناك أسباب ودوافع مختلفة دفعت الشيخ إلى إصدار هذا الكتاب.. ولكن كان أقواها في نهاية الأمر حب الظهور والرغبة في الشهرة، وأن يوصف بأنه باحث أو محقق أو مجدد.. كما فعل غيره من قبل.. ونحن نعرف أن مسألة انتحال الكتب أو عدم الأمانة نسبة الأمور والمعلقات مسألة مألوفة في الشرق. ولا سيما النقل من الكتب الأجنبية.
وفي مثل هذه المسائل بالذات.. فإن هذه الحالة أسهل.. لأن النقل أو الترجمة من كتيب مجهول.. أو كانت المسألة بتصريح أو اتفاق لخدمة غرضين، فالطرف الأول يريد نشر آرائه لغايات سياسية ودينية والطرف الثاني له مأرب سياسي أيضاً.. ولكن الدافع الذاتي أنه يريد الشهرة أو الظهور أو الغرور" ا.هـ كلام الأستاذ أنور الجندي -رحمه الله- من كتابه (إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام، ص55 -61).
-------------------------------------------------------------
([1]) انظرها موسعة في تقديم الدكتور محمد عمارة لكتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق.
__________________
لا يوجد أحد غير الملاحدة قد سخر هذا الكم الهائل من الفكر لتحويل البشر إلى حيوانات... فبعد التمعن فى ما كتبوه ومعرفة ما يريدونه للبشرية لم يبق لنا سوى انتظار المشى على اربعة !
روابط هامة :
فهرس مواضيع الرد على الملحدين والعلمانين ... فهرس قسم الحوار حول الإسلام
مجموعة من الكتب لاغنى عنها للرد على الملحدين والعلمانيين ... الدليل الجامع للرد علي الشبهات والاباطيل
أيها الموحدون .... انتبهوا إلى ألاعيب الملحدين !
على عبد الرازق: شرعية فصل الدين عن الدولة:
من الأفكار الرئيسية في الحضارة الغربية المعاصرة فكرة فصل الدين عن الدولة، وبعد إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا بعام واحد؛ أي في عام 1344هـ (1925م) صدر في القاهرة كتاب مشهور بعنوان: (الإسلام وأصول الحكم) لأحد علماء الأزهر الشيخ علي عبد الرازق، مستمدًا نفس الفكرة الغربية الفصل بين الدين والدولة([1])، لا ليدافع عنها من ناحية علمانية بحتة، ولن ليضفي عليها الشرعية الإسلامية، وليعتبرها أحد أفكار الإسلام الجوهرية. والطريقة التي اتبعها على عبد الرازق لإدخال هذه الفكرة الغربية في الإسلام، وإلباسها الزي الإسلامي بتأويل أحكام الكتاب والسنة والفقه، تضع كتاب هذا العالم الأزهري في قمة إنتاج فكر العصرانية.
وعلي عبد الرازق درس بالأزهر وحصل على العالمية منه، وتلقى محاضرات في تاريخ الأدب العربي وتاريخ الفلسفة في الجامعة المصرية على أيدي بعض المستشرفين، ثم سافر إلى إنجلترا ليكمل دراسته في جامعة (أوكسفورد)، ولكنه لنشوب الحرب العظمى عاد إلى وطنه واشتغل بالقضاء الشرعي([2])، ولم يكن علي عبد الرازق تلميذًا مباشرًا لمحمد عبده، ولكنه كان أثرًا من آثار النزعة الحرة في مدرسته.(52/72)
والفكرة الأساسية التي يدور حولها كتابه: أن الخلافة نظام تعارف عليه المسلمون تاريخيًّا وليس في أصول الشريعة ما يلزم به. وقد تصدى لهذه الفكرة كتاب قبله أصدرته حكومة الكاملين، وهو كتاب (الخلافة وسلطة الأمة)، فكتاب علي عبد الرازق لا يكاد المرء يظفر فيه بفكرة جديدة، ولكن الكتاب يمتاز بجمال الأسلوب أكثر من امتيازه بالتزام المنهج العلمي، وخطورته ترجع إلى الظروف التي أحاطت بظهوره، كما ترجع جرأته وعنفه في مصادمة عواطف الناس وفي تحدي مشاعرهم، وفي التشكيك الساخر أحيانًا فيما تطمئن إليه نفوسهم، دون أن يقدم الأدلة القوية الواضحة على ما يذهب إليه من مزاعم تخرج عن المألوف.([3])
والكاتب يجيد (الروغان) حول الآيات والأحاديث، وهو أكثر مهارة في (الروغان) من آرائه التي يعلنها بنفسه حتى ولو خطتها يمينه. ومن أطرف ما يمكن أن يقرأ دفاعه عن نفسه عند محاكمته، ووصمه الناس بعدم فهم مقاصد كلامه ومعانيه، ثم ما نشره بعد ذلك في الصحف دفاعًا عن (دفاعه)، عندما اتهم بالتردد والرجوع عن آرائه أمام المحكمة.([4])
والنتيجة التي انتهى عليها علي عبد الرازق يلخصها في خاتمة الكتاب بهذه الكلمات: « إن الدين الإسلامي برئ من تلك الخلافة التي تعارفها المسلمون، وأنها ليست في شيء من الخطط الدينية.. كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صِرْفَة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة».([5])
ويناقش علي عبد الرازق ما يورد من أدلة على الخلافة من آيات القرآن، فيذهب إلى أن معناها أوسع وأعم من أن يقصد به الخلافة، وأما ما ورد من الأحاديث في شأن الإمامة والبيعة والجماعة وغيرها، فهي لا تصلح دليلاً لأولئك الذين يتخذون الخلافة عقيدة شرعية، وحكمًا من أحكام الدين؛ إذ هي لا تدل على أكثر مما يدل عليه ذكر المسيح لبعض الأحكام الشرعية عن حكومة قيصر. ثم يناقش دليل الإجماع من أن المسلمين منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا أجمعوا على وجوب نصب خليفة، فيورد أن الخلافة الإسلامية كانت منذ عهد أبي بكر الصديق إلى هذا اليوم عُرْضَة للخارجين عليها المنكرين لها، ولحركة المعارضة هذه تاريخ كبير جدير بالاعتبار، وأنها أحيانًا كانت تتخذ شكلاً قويًّا، مما جعل الخلافة لا ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة والبطش، فهل بعد هذا يمكن أن يدعي الإجماع عليها؟.([6])
ثم يقول: «إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة كان صحيحًا ما يقولون من أن إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية يتوقفان على الخلافة، بمعنى الحكومة في أي صورة كانت الحكومة ومن أي نوع؛ مطلقة أو مقيدة، فردية أو جمهورية، استبدادية أو دستورية، ديمقراطية أو اشتراكية أو بلشفية».([7])
ويؤكد علي عبد الرازق أن زعامة الرسو صلى الله عليه وسلم كانت زعامة دينية وولاية روحية، لا شأن لها بالحكم والسياسة، وأن صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْعَ إلى تأسيس دولة، وأن كثيرًا من أعمال الحكومات ووظائفها الأساسية لم يكن موجودًا في عهد صلى الله عليه وسلم ، وأن بعض ما يشبه أن يكون في السيرة النبوية من مظاهر الحكومة السياسية وآثار السلطة، كان فقط وسيلة لجأ إليها صلى الله عليه وسلم تأييدًا للدعوة وتثبيتًا للدين.([8])
ثم يدرس الشيخ علي الخلافة والحكومة في التاريخ الإسلامي؛ ليقرر أن الإسلام نظام ديني لا صلة له بأنظمة السياسة، وأن ما تعارف عليه المسلمون من نظام للحكم فهو مسألة تاريخية لا دخل للدين بها، وأن دولة العرب قامت من قبلها دول وقامت من بعدها دول، ولهذا لا شيء في الدين يمنع المسلمين من أن يهدموا نظام الخلافة، ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا، وصوَّر لهم الخطأ والوهم أنه من الدين، وأن يبنوا نظام حكومتهم على ضوء تجارب الأمم الأخرى، وما أنتجته العقول البشرية في علوم الاجتماع والسياسة».([9])
والذي يرمي إليه علي عبد الرازق هو أن يأخذ المسلمون نظم الغرب السياسية ويؤسسوا حكمهم عليها، ولكن أخطر ما في الأمر والذي أثار الضجة العالية عن الكتاب هو أنه لم يَدْعُ إلى ذلك بالصراحة التي ينادي بها دعاة التغريب والعلمانيون، وإنما قدم دعوته في قالب الإسلام، وغلفها بغلاف الشرع، واحتج عليها بحجج دينية، وتلك هي العصرانية في صورة مِنْ أوضح صورها، وبوجه مِنْ أكثر وجوهها سفورًا وبروزًا.
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 147-150).
-------------------
([1]) انظر (الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي), محمد البهي، ص 265.
([2]) (الإسلام والتجديد في مصر)، تشالز آدمز، ترجمة عباس محمود، ص 252.
([3]) (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر)، محمد محمد حسين، ج2 ص 86.
([4]) راجع النصوص الكاملة للمحاكمة ودفاعه في الدراسة التي قدَّم بها محمد عمارة لكتابه (الإسلام وأصول الحكم).
([5]) (الإسلام وأصول الحكم)، ص 182.
([6]) المصدر نفسه، ص 121 - 134.
([7]) المصدر نفسه، ص 135.
([8]) المصدر نفسه، ص 139- 167.
([9]) المصدر نفسه، ص 174-182.
==============(52/73)
(52/74)
(52/75)
سلسلة كشف الشخصيات (26) ضياء كوك الب
من كتاب الاتجاهات الفكرية المعاصرة للمستشار الدكتور على جريشة
من ابناء تركيا (1) بلغ حد التاثير فى الجيل التركى الجديد ، وعين استاذا اول لعلم الاجتماع بجامعة استنبول عام 1915م (بمواهبه الشخصية) عين عام 1922م رئيسا للجنة التاليف والترجمة ، كان يؤيد مصطفى كمال بقوة وحماس ، وحمل لواء (علمنة تركيا) فكريا . يقول الاستاذ الندوى اكرمه الله :
(ان ضياء كوك دعا بكل قوة وصراحة الى سلخ تركيا من ماضيها القريب ، وتكوينها تكوينا قوميا خالصا ، وايثار الحضارة الغربية على اساس انها امتداد للحضارة القديمة التى ساهم الاتراك على زعمه فى تكوينها وحراستها)
يقول -اى كوك- فى مقالة له (ان الحضارة الغربية امتداد لحضارة حوض البحر الابيض المتوسط القديمة ، وكان مؤسسو هذه الحضارة التى نسميها بحضارة البحر الابيض المتوسط من الاتراك مثل الفينيقيين والرعاة ، لقد كان فى التاريخ عصر طورانى قبل العصور القديمة ، لان سكان اسيا الوسطى القدامى كانوا اجدادنا ، وفى زمن متاخر جدا رقى االاتراك المسلمون هذه الحضارة ونقلوها الى الاوربيين ، وبتحطم الامبراطوريتين الرومانيتين الغربية والشرقية احدث الاتراك انقلابا فى تاريخ اوربا ، لذلك نحن جزء من الحضارة الغربية ولنا سهم فيها)
ثم يقول (حين تقطع امة شاوا بعيدا فى نشوئها ، ترى من الواجب ان تغير حضارتها ايضا ، لما كان الاتراك قبائل رحالة فى اسيا الوسطى دانوا بحضارة الشرق الاقصى ولما انتهوا الى عصر (السلطنة) دخلوا فى مساحة الحضارة البيزنطية ، والان فى طور انتقالهم الى الحكومة الشعبية هم مصممون على قبول حضارة الغرب)
ثم يقول (وان شعوبا تدين بديانات مختلفة يمكن ان تدين بحضارة واحدة ، ان اليهود واليابانيين يشاركون الاوربيين فى حضارة واحدة)
وعلى ذلك فالدين شىء والحضارة شىء اخر ، وينسى الفرق بين طبيعة الدين الاسلامى والدين المسيحى فيقول (ليس الدين اسما لمجموعة من المؤسسات المقدسة والعقائد والتقاليد ، فالمؤسسات التى لا تحمل قدسا وتمجيدا دينيا (كالافكار العلمية والتطبيقية والادوات الصناعية ومثل الجمال) تؤلف نظاما مستقلا يخرج عن نطاق الدين والعلوم الايجابية : كالرياضات والعلوم الطبيعية وعلم النفس وعلم الحياة والاجتماع والطرق الصناعية والفنون الجميلة لا تمت بصلة الى الدين ، لذلك لا يصح اى ارتباط للحضارة بالدين ، ليست هناك حضارة مسيحية ولا حضارة اسلامية ، فكما لا يصح ان تسمى الحضارة الغربية حضارة مسيحية كذلك لا يصح ان تسمى الحضارة الشرقية حضارة اسلامية)
ثم اشار الى سبب نهضة الروس (رغم انهم شرقيون) (وهذه الحقيقة التاريخية تكفى لاثبات ان الحضارة الغربية هى الشارع الوحيد للتقدم)(2)
(علينا ان نختار احدى الطريقتين ، اما ان نقبل الحضارة الغربية او نظل مستعبدين لقوى الغرب) لابد ان نختار احد الامرين .
ثم لا يترك الاختيار الى من يخاطب بل يمضى ليقول : (يجب علينا ان نسيطر على الحضارة الغربية لندافع عن حريتنا واستقلالنا)(3) كل ذلك بغير اشارة واحدة الى تميزنا بشىء عن الغرب او احتفاظنا بشىء غير الحضارة الغربية!!
ويعلق على ذلك صاحب كتاب القومية التركية والحضارة الغربية (وكان -اى كوك- يتخيل القومية التركية كاساس دولى عالمى ، ويرى فيها عوضا عن الخلافة الاسلامية)(4)
ثم يقول (ومع ان دراساته عن الاجتماع والمدينة الشعبية والتاريخ ليست لها قيمة علمية كبيرة اذا قورنت بمؤلفات علماء تركيا الحضارة وغيرها ، ولكنه لا يستهان بقيمته كزعيم لهذا الاتجاه ومؤسس لهذه المدرسة)
وان بعض مفاهيمه نسيت او اغفلت فى تركيا الجديدة ، او انها تعتبر اليوم تافهة ولا يلاحظ فيها ابتكار ، مع انها كانت تبدو فى عصره جديدة ومبتكرة فذلك لانها اصبح تالان حقائق ، ويتجلى من ذلك عمق تاثيره .
--------------------------------------
(1) ولد بها عام 1875 او 1876 (فى دياربكة) ومات عام 1942 فى الثامنة او التاسعة والاربعين ، التحق بالمدرسة الثانوية العسكرية ، درس الادب والرياضيات والتاريخ واللغة الفرنسية والعلوم الشرقية ، وكانت افكار الثورة الفرنسية التى تسربت. اعجب بهيجل وبشنر واسبنسر ولى بون ، وسافر فى عام 1896 الى قسطنطينية ، التحق بجمعية الاتحاد والترقى وثارت هذه الجماعة عام 1906 ضد النظام الجائر بقيادة ضياء ، خلع السلطان عبد الحميد عام 1909 ، اصدر ضياء جريدتين بيام ، Pacle (الصراع بين الفكرة الاسلامية والفكرة الغربية - الندوى ص 39 )
(2) المرجع السابق ص 275
(3) ، (4) المرجع السابق
===============(52/76)
(52/77)
سلسلة كشف الشخصيات (27) ديموقريطس
من كتاب كواشف زيوف
http://www.eltwhed.com/vb/showth r ead.php?t=4581
ديموقريطس وأفكاره الإلحادية
من هو ديموقريطس؟
هو فيلسوف مادّي يوناني ، عاش ما بين (470-361 ق.م) وفلسفته المادّية تقول :
إن الوجود واحد ، وهو ينقسم إلى عدد غير متناهٍ من الوحدات غير المتجانسة وغير المدركة بالحسّ ، والواحد منها هو الجوهر الفرد ، أو الجزء الذي لا يتجزأ .
وهذه الوحدات غير المتجانسة قديمة أزلية ، نظراً إلى أن الوجود لا يمكن أن يخرج من العدم الكلي المحض ، وهي دائمة أبدية ، إذْ لا ينتهي الوجود إلى العدم الكلي المحض (اللاوجود مطلقاً).
وعن "ديموقريطس" وأستاذه "لوقيبوس" أخذ المادّيون بعدهما ، حتى فريق المادّيين المعاصرين ، فكرة أزلية المادة ، وأن وجود الكون ثمرة حركة مادّة الكون الأولى ، وأنه سيعود إلى مادّته الأولى ، ثمّ يستأنف الكرّة ، وهكذا دواليك .
والنفس عند "ديموقريطس" مادّية أيضاً ، وهي مؤلفة من أدقّ الجواهر وأسرعها حركة .
فكلّ ظواهر الوجود الكوني عنده تتحكم بوجودها آلية الحركة الذاتية للوحدات غير المتجانسة التي يتألف منها الوجود كله .
ويعرف هذا في الفلسفة بالمذهب الذري .
ومضى "ديموقريطس" بالمذهب الآلي إلى حده الأقصى ، ووضعه في صيغته النهائية ، فقال : إن كلّ شيء امتداد وحركة فقط .
ولم يستثن النفس الإنسانية ولا الآلهة التي كان يعتقد بها اليونانيّون ، فالآلهة في رأيه مركبة من جواهر كالبشر ، إلا أن تركيبهم أدقّ ، فهم لذلك أحكم وأقدر ، وأطول عمراً بكثير ، ولكنهم لا يخلدون .
ويقدّم "ديموقريطس" أفكاره هذه آراءً فلسفية ، غير مستندة إلى أدلة تؤيدها ، ويطرحها ادعاءً تصورياً بلا حجج ولا براهين .
نقد آراء ديموقريطس
لو تأمل ديموقريطس فيما عرض من أفكار ببصيرة نافذة ، لكانت كفيلة بنقض مذهبه في أزلية المادية وأبديتها واعتبار أنها هي الوجود كله .
1- أما قوله : إن العدم الكلي المحض لا يمكن أن يتحول إلى الوجود بنفسه ، وأن ما هو أزلي لا بد أن يكون أبدياً ، فهو قولٌ حقٌّ ، برهانه عقلي .
لأن العدم الكلي المحض لا يمكن عقلاً وبداهة أن يتحوّل بنفسه إلى الوجود ، فالعدم لا شيء ، ويستحيل عقلاً أن يتحول اللاشيء إلى شيء .
وما هو أزلي - أي: واجب الوجود - لا يمكن أن تأتيه حالة يكون فيها ممكناً حتى يقبل فيها العدم .
لكن هذا لا يفيد أزلية المادة ، إنما يهدي إلى وجود موجود أزلي هو الذي أوجد المادّة ، وخلق الكون بقدرته وعلمه وحكمته واختياره المطلق .
فالمادّة بطبيعتها المتغيّرة والمتحوّلة القابلة للتحليل والتركيب ، لا تصلح لأن تكون أزلية ، وما ليس أزلياً فهو حادث ، وما هو حادث لا بدّ له من مُحْدث .
2- تضمْنت آراؤه أنّ النظام الكوني الرائع ، كان نتيجة المصادفة العمياء الجاهلة التي لا قصد فيها ، ولا يوجهها علم ، ولا تدبرها حكمة
وهذا يتنافى مع حقائق الفكر ويقيناته ، فاليقينات الرياضية والبحوث العلمية ، تثبت استحالة وجود نظام الكون البديع مصادفة ، دون خطّة مدبّر عليم حكيم قدير مختار .
3- وتضمّنت آراؤه أن الحياة ، والإرادة في الأحياء ، والفكرَ في الإنسان الحي ، من ثمرات تطور المادة الخالية من هذه الأشياء الراقية .
فلزمه بهذا أن يقبل تحول الناقص إلى الكامل بنفسه ، وهذا نظير وجود الشيء من العدم الكلي المحض ، الذي وافق الآخرين على رفضه لبداهته ، ومن أجل ذلك قرّر أزلية المادّة.
وهنا نلاحظ تناقضه مع نفسه ، وحسبُ التناقض دليلاً على إسقاط أيّ مذهب .
وتناقضه يظهر في أنه أقرّ استحالة تحوّل العدم المطلق إلى الوجود بنفسه ، ثمّ أثبت وجود عنصر الكمال في المادة بنفسه مع أنه كان عدماً محضاً ، فالمادّة التي لا حياة فيها من أين جاءتها الحياة؟
-------------
الرد على من قال بازلية المادة
بقلم : سليمان الخراشى
الشبهة(1) : القول بأزلية المادة وأبديتها
وقبل أن ندخل في الردود عليهم يحسن بنا أن نذكر مقصدهم بالمادة، وصفاتها لديهم، حتى يتسنى لنا الردُّ على وجهٍ لا تبقى معه فجوة فيها.
تعريف المادة لدى «لينين»:
يعرف «لينين» المادة بقوله: (هي مقولة فلسفية تخدم في تعيين الواقع الموضوعي المعطى للإنسان في إحساساته التي تنسخه، تصوره، تعكسه، والموجود بصورة مستقلة عن الإحساسات).
وبناءً على هذا التعريف الذي يعتبر المادة شاملة لجميع مفاهيم الأشياء كالورد والشجر، والبيت ونحوها - إذ كلها مفاهيم - تكتسب المادة خاصية السبق على الإدراك والتأثير فيه، وبما أن الفلسفة تدرس المفاهيم شاملة إلى أقصى حدٍّ، أُطلق على هذه الدراسة مقولة فلسفية، وبما أن المادة تدرس المفاهيم شاملة إلى أقصى حدٍّ، فهي إذن على هذا الأساس مقولة فلسفية، ووظيفتها: تعيين الواقع الموضوعي؛ أي: الواقع المادّي الموجود خارج الإدراك، وهو المؤثر في أعضاء حواس الإنسان وإثارة إحساساته.
إذن: فالفكر انعكاس للمادة الواقعة على الدماغ، وهو يفكر في المادة التي تعكس عليه، وقبل انعكاس المادة على الدماغ لا يوجد فكر، فالمادة إذن تسبق الفكر عنده.(52/78)
بعد أن عرفنا المادة وأنها سابقة - حسب قولهم - في الوجود على الفكر، أذكر هنا رأيهم في أزلية المادة وأبديتها.
يقول الماديون: (وبالتالي فليس للكون نهاية ولا حدود، العالم أبدي وليس له أي (بداية) ولن يكون له أيّ (نهاية)، ومن هنا، فأيَّ عالم غيبي، غير مادي، غير موجود، ولا يمكن أن يوجد.
وفي واقع الأمر أنه إذا لم يوجد شيء غير المادة، فلا يوجد غير عالم مادّي واحد، وهذا يعني أنه عند وجود الأشياء والظواهر المختلفة في العالم المحيط بنا، هناك خاصية واحدة توحدها، هي: ماديتها).
إذن، فلا يوجد شيء - على حدِّ تعبيرهم - غير العالم المادي، ولا يمكن أن يوجد عالم روحي أو يوم آخر، كما جاءت به الأديان، فالإنسان، في نظرهم نتاج المادة فقط، فالمادة هي الخالقة، ولها خصائص الخالق، وليس هناك عالم غيبي؛ لأن العالم محصور فيما تدركه الحواس، ولم يكتفوا بإنكار وجود الله سبحانه وتعالى، بل صرَّحوا بأن الله من إبداع الإنسان، وأن المشكلة ليست هي مشكلة وجوده سبحانه، بل هي مشكلة فكرة وجوده.
إذن، مبدؤهم الذي ينطلقون منه: أن الله لا نفع فيه، وإثارة النقاش حول وجوده لا طائل تحته، إذ لديهم فكرة لا تتغير؛ وهي: أن ما وراء الكون المادي وهمٌ وهُراءٌ.
فهذه المادة هي كل شيء، ترد بمعنى الطبيعة، كما أن الطبيعة ترد بمعنى المادة.
وأما قولهم بأبدية المادة فيعللون لها بقولهم: (إن في الطبيعة لا ينشأ شيء من لا شيء، ولا يختفي أبدًا بلا أثر، وإذا كان الأمر كذلك فإن المادة أو الطبيعة قد وجدت دائمًا، لأننا إذا سلمنا بأنه في وقت من الأوقات لم يكن هناك شيء في العالم، أي لم تكن توجد مادة، فمن أين لها أن تنشأ؟ ولكن ما أن توجد المادة فهذا يعني أنها لم تنشأ في أي وقت من الأوقات، بل وجدت دائمًا، وستوجد دائمًا فهي أبدية وخالدة؛ ولهذا لم يمكن أن تُخلق، فلا يمكن أن يخلق ما لا يمكن إفناؤه، وبذلك فالمادة لم تنشأ أبدًا، بل وجدت دائمًا وستوجد دائمًا فهي أبدية).
إذن، فالمادة أبدية خالدة، لم تنشأ من العدم؛ لأنه لا يمكن أن يخلق ما لا يمكن إفناؤه؛ ولهذا لا يجوز السؤال عن بداية المادة ونهايتها؛ لأن آثارها واضحة ومشاهدة، والحركة كذلك محال خلقها وإفناؤها؛ لأنه صنعة المادة.
يقول «انجلز»: (المادة من دون حركة، أمر غير معقول، بقدر ما هي الحركة من دون المادة، وإذن فالحركة محال خلقها وإفناؤها قدر ما هو محال ذلك بالنسبة للمادة نفسها).
الردود على هذه الشبهة:
قبل البدء في الردِّ عليهم أورد هنا الأساس الفكري لهذه الفكرة المادية، فإن الأساس الفكري لهذه الفكرة المادية التي نشأت منها الشيوعية هو حصر نطاق المعرفة في المادة وحدها.
وهذا الفكر وإن كان نشأ ونما في أوروبا فيما بعد القرن السابع عشر، إلاَّ أنه قديم في البشرية قدم الآفات والانحرافات فيها، ويعتبر امتدادًا لفكرة هؤلاء الماديين أو الدهريين الذين أنكروا البعث قديمًا ونسبوا الموت للدهر بدلاً من الله... كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم: ]وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ[.
كذلك أعداء الرسالات أغلبهم مادّيون، ولذلك تراهم يتطاولون بالمادة وينكرون البعث واليوم الآخر ويرون الجزاء للإنسان قاصرًا على متع الحياة الدنيا... يقول سبحانه وتعالى: ]وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ[، ]أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ[.
كما يحكي القرآن مقالة الماديين لدى ظهور الإسلام: ]وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ[.
وقد بيَّن القرآن أن هذا الذي طلبه الماديون في شأن التصديق بالرسالة الخاتمة ليس غريبًا، ولا غير معهود في تاريخ البشرية، وإنما هو أمر تكرر على عهد الرسالات السابقة: ]وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [؛ أي: أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد.(52/79)
]يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً[.
]كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[، فتشابهت قلوبهم، وقال متأخروهم بما قال به متقدموهم.
فالظاهرة العامة لهم هي الركون إلى المادة، وإنكار ما وراء المحسوس المشاهد، ولا يعرفون غيرها في مجال الإقناع والاقتناع.
ولكنَّ هناك فروقًا بين الإلحاد القديم والحديث، من أهمها ما يلي:
أولاً: أن الإلحاد بمعنى: إنكار وجود الله أصلاً - وهو أبرز ما في الاتجاه المادي الحديث عمومًا - لم يكن ظاهرة منتشرة متفشية في القديم، وإنما الذي كان شائعًا هو الشرك بمعنى منح خصائص الألوهية لغير الله عز وجل، وإشراك آلهة مزعومة معه سبحانه.
صحيح أن الملاحدة الدهرية كان لهم وجود منذ القدم - كما أُشير من قبل - ولكن هؤلاء كانوا شرذمة قليلين مع اختلاف آرائهم في هذا الجانب، فإنهم كانوا على طائفتين:
الأولى: الفلاسفة الدهرية الإلهية، القائلون بقدم العالم، وكان من مقدمتهم أرسطو، وأتباعه، فهؤلاء لم يكونوا يقولون: بأن المادة هي الخالقة، بل كانوا يثبتون للعالم علة يتشبه بها.
الثانية: الفلاسفة الدهرية الملاحدة أو الطبيعية، القائلون بما ذكر الله عنهم بقولهم: ]مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا[ فهؤلاء يشبهون في بعض الجوانب الشيوعيين في العصر الحاضر، وقد ردَّ الله عليهم في هذا القول بقوله: ]وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ[؛ أي: (يتوهمون ويتخيلون)، فقولهم هذا ما كان مستندًا إلى علم أو يقين، بل كان عن ظن وتخمين.
ولكن الشيوعية الحديثة وإن كانت تشبه أفكارهم في جانب الإلحاد معهم إلاَّ أنها تختلف معها في بعض الجوانب - كما يأتي -.
ثانيًا: الإلحاد في هذا الزمن هو إنكار وجود الله أصلاً، انتشر في العصور الحديثة انتشارًا واسعًا في دول أوروبا بصورة ملفتة للنظر، وأصبح له حكومات تحرسه، ودول تحميه، بل لقد غزا بلاد الإسلام حتى قام في ربوعها ناعقون يرددون سفاهاته وينشرون ضلالاته.
ثالثًا: إن إلحاد هذا الزمان يضرب بسيف من العلم، ويزعم بأنه يقوم على سند من العلم وتأييد من البحث، وذلك أن الصفة التي تتصف بها المادية قديمًا وحديثًا هي أن الماديين يتصورون أن المادة حقائق محسوسة ملموسة وليست فروضًا وراء الحس... والنظرة العلمية في تصورهم هي ما تخضع للبحث التجريبي، وما لا يخضع للبحث التجريبي لا يسمّى علميًّا في نظرهم، ومن ثَمَّ أبعدوا مفاهيم الدِّين والغيب من مجال البحث العلمي حيث لا يقوم عليها دليل عندهم، ووصل الأمر أن أصبح الدين في حسِّ كثير من العلماء الأوروبيين مثلاً للخرافة، وصاروا يدفعون عقيدة الإيمان بالله بحجة أن العلم يأباها،.. وشنّوا حملة ضد الإيمان عامة وضدّ الإسلام خاصة... بل بلغ الأمر إلى أن أصبحت هذه الآراء والأفكار الملحدة تدرس في كثير من جامعات العالم الإسلامي تارة باسم الفلسفة، وتارة باسم الجيولوجية، وتارة باسم الاقتصاد الحديث.
وهذه النظرية يمكن إبطالها بما يلي:
1- عدم استقرارهم على منهج معين، وذلك؛
أ- تراجعهم عن تعريف المادة:
سبق تعريف المادة كما عرفوها، وذلك ما قال به الشيوعية أخيرًا، حيث أعادوا صياغة تعريفها بقولهم: هي: (الوجود الموضوعي خارج الذهن)، ولكن ماذا كانوا يقولون في تعريف المادة في أول أمرهم؟ كانوا يقولون: هي: (كل ما تقع عليه الحواس)، وحصروا موادها في أمور أربعة؛ الماء والهواء والتراب والنار، وكان المادّي يخبط المائدة بيده أو يضرب الأرض بقدمه ويقول لمن يجادله: هذه هي الحقيقة التي ألمسها بيدي وقدمي أو أراها بعيني وأسمعها بأذني.
ثم توالت الاكتشافات العلمية، وشاعت العلوم التجريبية في القرنين الأخيرين، وشاعت معها قوانين الحركة والضوء وسائر القوانين التي عُرفت بالقوانين الوضعية، فتجاوزت ما تقع عليه الحواس إلى عالم الذرة، فأعادوا صياغة تعريف المادة بأنها: (الوجود الموضوعي خارج الذهن).
ب تراجعهم عن القول بأسبقية المادة على الفكر:
إن هؤلاء الشيوعيين كانوا في بداية أمرهم يقولون بأسبقية المادة على الفكر، وأرادوا بذلك إنكار المغيبات على أنها أفكار، والمادة سابقة لها، فلا يفكر فيها، بل الأصل هو المادة.
ولكنهم سرعان ما تراجعوا عن القول بأسبقية المادة في الوجود على الفكر، يقول أصحاب أسس الماركسية اللينينية: (إن النشاط الذهني أو الفكر خاصة مميزة للمادة، ولكنها ليست شكلاً من أشكال المادة، وفي المسألة الأساسية في الفلسفة يطرح الفكر كضد للمادة والروح كضد للطبيعة، فالمادة هي أي شيء يوجد خارج العقل ولا يتوقف عليه، وبالتالي: من الخطأ الجسيم اعتبار الفكر جزءًا من المادة، وفي الوقت الحالي يعتبر التوحيد بين الفكر والمادة من مفاهيم المادية المنحطة).(52/80)
إذن، لقد وصف الشيوعيون أنفسهم الفكر المادي للقرن التاسع عشر الذي قامت الماركسية والشيوعية على أساسه، والذي يسوي بين المادة والفكر، ويعتبر الفكر شكلاً متطورًا من أشكال المادة يعكس الوسط المادّي، وصفوا هذا القول بأنه من المفاهيم المنحطة.
إذن، هؤلاء على اضطراب تام في تفسير الفكر، فبعضهم اعتبروه من المادة، وبعضهم اعتبروا التوحيد بين المادة والفكر كلامًا منحطًا، فلنتساءل: ما هو الحق لديكم في هذا الباب؟ هل هما شيء واحد، أم بينهما انفصال؟.
جـ- تراجعهم عن القول بالمادة بأنها هي أصل كل شيء، وذلك؛
أنه لما جاء القرن العشرون وجاء معه تفجير الذرة فتحولت المادة إلى طاقة وفتح ذلك الباب إلى تعريفات جديدة للمادة، منها: أنها صورة مختلفة من الطاقة فحسب، وقال آخر منهم: إن المادة مركبة من بروتونات وإليكترونات، أي شحنات موجبة وسالبة من الكهرباء.
فلمّا تغير مفهوم المادة ورأوا عدم صحة القول بأنها هي وراء كل شيء، بل اكتشف أخيرًا أن المادة في نفسها طاقة تشكلت بوضع خاص فصارت مادة، قالوا: وماذا في الأمر؟ إن ما نقوله بالنسبة إلى المادة قد انتقل إلى الطاقة التي هي أصل المادة، هكذا قال «لينين».
من العرض السابق لتعريف المادة وبيان أقوالهم حولها رأينا أن المادة التي قال بها الشيوعيون والماديون، وبنوا عليها مذهبهم قد تغير مفهومها تمامًا، ولم يَعُد لها ذلك المفهوم السطحي الذي نشأت الشيوعية في ظلها، فالمادة في القرن العشرين تحولت إلى طاقة.
وقررت الحقائق العلمية أخيرًا؛ أن الشيء الصلد الذي نلمسه فنراه ذا حجم ثابت ليس أكثر من شحنات كهربية وإلكترونية، بل العالم المادّي المكون من جبال وأنهار وأرض وأشجار ونحو ذلك مما تشهد به حواسنا، هو كتل من الإشعاعات الضوئية المتحركة.
وبهذا نكون قد قضينا على القول بأن المادة هي أصل كل شيء، وفيما يلي نقد أقوالهم في أزلية المادة وأبديتها.
2- عدم وجود دليل قاطع على أزلية المادة وأبديتها:
فإن هؤلاء الملاحدة عندما يوجه إليهم السؤال - الذي يقوم عليه التحدي - من خلق المادة؟ فإنهم يجيبون: إن العلم أثبت أنها وجدت دائمًا منذ الأزل، فنحن نطرح عليهم سؤالاً لابدّ من إجابته لإثبات هذا المدعى، وهو:
أين الدليل العلمي القاطع الذي يثبت صدق دعواكم أن المادة وجدت منذ الأزل؟ وكل ما ذكرتموه من الاستدلالات بأنها سابقة للفكر، وأنها لا تنشأ عن لا شيء، وما لا يمكن إفناؤه لا يمكن أن يخلق، هذه الشبهات الثلاث السابقة الذكر ليست إلاَّ تخمينات وظنون وليس عليها أيّ دليل علمي قاطع، فكيف تؤمنون بالنظريات هذه وأنتم ما أثبتموها إلاَّ بالظنون الكاذبة، ولم تؤمنوا بالخالق المبدع مع أنّ آثار وجوده ظاهرة وباهرة؟
3- مخالفة الشيوعية للمنهج العلمي: وذلك؛
أن فلسفتهم المادية هي - حسب زعمهم - الفلسفة العلمية الوحيدة التي تتفق وسائر العلوم، ومن شأن المنهج العلمي الطبيعي - كما هو معروف - الاقتصار على الكون المادّي، وعدم تجاوزه إلى ما وراءه؛ لأن وسائله التي يعتمدها هي الملاحظة والتجربة، وهذه الوسائل قاصرة عن إدراك ما وراء الكون المادّي، فهي لا تملك إزاءه أية وسيلة للنفي أو الإثبات. فكان الواجب على الماركسية والشيوعية أن تلتزم بموضوع هذا المنهج ولا تتجاوزه إلى غيره، فتركز همّها في دراسة الكون المادّي ولا تتعداه إلى غيره؛ ولكنها أقحمت نفسها بشيءٍ خارج عن مجال خطته التي خطها لنفسه، فتقحمت عالم الغيب، وأنكرت وجود الله سبحانه.
4- مخالفة المادة - التي زعموا أنها أزلية - خصائص الأزلية المعترف بها لدى جميع العقلاء، والمعترف بها لدى الشيوعيين أيضًا لزامًا: وذلك؛
أن الأزلي كما هو مجمع عليه عند العقلاء لابدّ أن تتوفر فيه الشروط الآتية:
1- أن يكون وجوده من ذاته ومتوقفًا على ذاته، ومن ثَمَّ فإنه يكون مستغنيًا في وجوده وفي بقاء هذا الوجود واستمراره عن غيره، ولا يستطيع غيره أن يؤثر عليه في إيجاد أو تحويل أو إعدام.
2- أن يكون قديمًا لا بداية له؛ لأنه لو كانت له بداية لكان محدثًا من العدم، فلا يكون أزليًّا.
3- أن يكون باقيًا لا نهاية له؛ لأنه لو كانت له نهاية لكان هناك مَن يستطيع إفناءَه.
والماديون عمومًا يسلِّمون بهذه الشروط الواجب توافرها فيما هو أزلي، ولكنهم يحاولون تطبيقها على المادة، ويزعمون أنها أزلية، فهل المادة كذلك؟ هذا ما سيحقق فيما يأتي في الردّ الخامس، وما بعده.
5- أدلة حدوث الكون أو المادة:
وهذه الأدلة يمكن تقسيمها إلى مجموعتين:
المجموعة الأولى: في بيان الأدلة العقلية الفلسفية القديمة:(52/81)
وأصل هذه الأدلة: هو إثبات حدوث العالم من ظاهرة التغير الملازمة لكل شيء فيه، وذلك؛ أن التغير نوع من الحدوث للصورة والهيئة والصفات، وهذا الحدوث لابدّ له من علة، وتسلسلاً مع العلل للمتغيرات الأولى سنصل حتمًا إلى نقطة بدء نقرر فيها أن هذا الكون له بداية في صفاته وأعراضه، وفي ذاته ومادته الأولى، وحينما نصل إلى هذه الحقيقة لابدّ أن نقرر أن هناك خالقًا أزليًّا- لا يمكن أن يتصف بصفات تقتضي حدوثه - وهذا الخالق هو الذي خلق هذا الكون وأوجده بالصفات التي هو عليها، والذي يوضح ذلك ما يلي:
1- دليل الإلزام العقلي بين الوجود والعدم:
قال تعالى: ]أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ[.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وقد قيل: ]أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ[: من غير رب خلقهم، وقيل: من غير مادة، وقيل : من غير عاقبة وجزاء، والأول مراد قطعًا، فإن كل ما خلق من مادة أو لغاية فلابدّ له من خالق، ومعرفة الفطر أن المحدَث لابد له من محدِث أظهر فيها من أن كل محدَث لابدّ له من مادة خلق منها وغاية خلق لها، فإن كثيرًا من العقلاء نازع في هذا وهذا، ولم يُنازع في الأول، طائفة قالت: إن هذا العالم حدث من غير محدث أحدثه، بل من الطوائف من قال: إنه قديم بنفسه واجب بنفسه ليس له صانع، وأمَّا أن يقول: إنه محدث حدث بنفسه بلا صانع، فهذا لا يعرف عن طائفة معروفة، وإنما يحكى عمّا لا يعرف).
وقال في موضع آخر: (قوله: ]أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ[ فيها قولان: فالأكثرون على أن المراد: أم خلقوا من غير خالق، بل من العدم المحض؟ كما قال تعالى: ]وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ[.
وكما قال تعالى: ]وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ[، وقال: ]وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ[، وقيل: أم خلقوا من غير مادة، وهذا ضعيف؛ لقوله بعد ذلك: ]أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ[ فدلَّ ذلك على أن التقسيم أم خلقوا من غير خالق، أم هم الخالقون؟ ولو كان المراد: من غير مادة لقال: أم خلقوا من غير شيء، أم من ماء مهين؟ فدل على أن المراد: أن خالقهم لا مادتهم؛ ولأن كونهم خلقوا من غير مادة ليس فيه تعطيل وجود الخالق، فلو ظنوا ذلك لم يقدح في إيمانهم بالخالق بل دلَّ على جهلهم؛ ولأنهم لم يظنوا ذلك، ولا يوسوس الشيطان لابن آدم ذلك، بل كلهم يعرفون أنهم خلقوا من آبائهم وأمهاتهم؛ ولأن اعترافهم بذلك لا يوجب إيمانهم ولا يمنع كفرهم، والاستفهام: استفهام إنكار، مقصوده تقرير أنهم لم يخلقوا من غير شيء، فإذا أقروا بأن خالقًا خلقهم نفعهم ذلك، وأمَّا إذا أقروا بأنهم خلقوا من مادة لم يغنِ ذلك عنهم من الله شيئًا).
والمقصود: بيان أن في هذه الآية، ذكر الله - عز وجل - شيئين في قضية الخلق، وهما:
أ إمّا أنهم خلقوا من العدم، والعدم هو الأصل.
ب وإما أنهم خلقوا من شيء، وخلقوا أنفسهم بأنفسهم، فالوجود هو الأصل.
فمعنى الآية: هل انتقلوا من العدم إلى الوجود من غير خالق؟ أم هل كانوا هم الخالقين لأنفسهم في هذا الانتقال؟ وكلاهما من الأمور المستحيلة بداهة.
والموجِد لا يكون عدمًا؛ لأن العدم لا يمكن أن يكون هو الأصل؛ لأنه هو النفي العام لكل ما يخطر بالبال، ونفي صفاته، فلا ذات ولا قوة ولا إرادة ولا علم ولا حياة ولا أي شيء، ولا يمكن أن يتحول هذا العدم إلى الوجود، ولا يمكن أن يأتي من هذا العدم العام: ذوات وصفات وقُوى تنطلق بنفسها منه إلى الوجود، فقد ثبت لنا أن العدم لا يمكن أن يكون هو الأصل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولم يذكر القرآن خلق شيء من لا شيء، بل ذكر أنه خلق المخلوق بعد أن لم يكن شيئًا، كما قال تعالى: ]وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا[، مع إخباره أنه خلقه من نطفة).
فإذا لم يكن العدم هو الأصل لابدّ أن يكون الوجود هو الأصل؛ لأنه نقيض العدم، ولذلك يستحيل عقلاً أن يطرأ العدم على وجود عِلمنا أنه هو الأصل.
ولو نظرنا إلى الموجودات التي تقع تحت مجال إدراكنا الحسّي في هذا الكون العظيم لوجدنا أن هذه الموجودات - ومنها الإنسان - لم تكن ثم كانت، وأن أشكالاً كبيرة كانت معدومة في أشكالها وصورها ثم وجدت، كما هو مشاهد لنا باستمرار، كما تبدو لنا صورة التغيرات الكثيرة الدائمة في كل جزء من أجزاء هذه المواد الكونية التي نشاهدها، أو نحسُّ بها، أو ندرك قواها وخصائصها، فمن موت إلى حياة، ومن حياة إلى موت، ومن تغييرات في الأشكال والصور إلى تغييرات في الصفات والقوى، وكل ذلك لا يعلل في عقولنا - وفق قوانين هذا الكون الثابتة التي استفدناها من الكون نفسه- إلاَّ بالأسباب المؤثرة التي تحمل سرّ هذه التغييرات الكثيرة المتعاقبة في كل شيء من هذا الكون على اختلاف جواهره وصفاته، سواء منها المتناهي في الصغر أو المتناهي في الكبر.(52/82)
وهنا نقول: لو كان الأصل في هذه الموجودات المعروفة على حواسنا (المادة) هو الوجود الأزلي، لم تكن عرضة للتحول والتغير والزيادة والنقص، والبناء والفناء، ولم يحتج صور وجوداتها وتغيراتها إلى أسباب ومؤثرات، وبما أنه عرضة للتغيير والتحويل، وبما أن قوانينها تفرض احتياجاتها إلى الأسباب والمؤثرات، لزم عقلاً ألا يكون الأصل فيها الوجود، وإنما يجب عقلاً أن يكون الأصل فيها هو العدم، ولابدّ لها من سبب أوجدها من العدم، وهو الله سبحانه وتعالى.
2- دليل الإمكان في الكون أو المادة:
بملاحظتنا لكل شيء في الكون، سواء كان من الأشياء المادية التي يمكن أن نُدركها ببعض حواسنا كالأرض والكواكب والنجوم، أو صفة من الصفات القائمة في الأشياء المادية التي نستنبط وجودها بعقولنا كالجاذبية الخاصة الموجودة في حجر المغناطيس، وكخواص المركبات المادية التي لا حصر لها في الكون سواء في ذلك الظواهر الكيميائية أو الفيزيائية، من خلال ملاحظتنا لجميع هذه الأشياء الكونية، ندرك بداهة في كل واحد منها أنه كان من الممكن عقلاً أن يتخذ صورة وحالة غير ما هو عليه الآن، فما المانع من أن يكون العقل في البهائم والنطق في العجماوات؟ وما المانع من أن تكون الأرض أدنى إلى الشمس والقمر من الوضع الذي هي عليه؟ أو غير ذلك من أشياء كثيرة.
فإن قيل: إن الحكمة تقتضي أن تكون هذه الأشياء كما هي عليه الآن، وإلاَّ لاختل النظام وفسدت النتائج المرجوة من هذا الكون.
قلنا: إن الحكمة هي من صفات الحكيم - هو الله سبحانه - وما دام أن كل شيء في الكون يحتمل أن يكون على واحد من أوضاع كثيرة غير الوضع الذي هو عليه الآن، فإن العقول لابدّ أن تحكم بداهة بأن ما كان كذلك فلابدّ من مخصص قد خصصه باحتمال موافق للحكمة والإبداع والاتفاق من جملة احتمالات كثيرة، ولولا وجود المخصص للزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر من غير مرجح، أو القول بأن موافقة الحكمة - فيما لا حصر له من الأعداد - كان على طريق التصادف، وكلاهما مستحيل عقلاً.
3- دليل الإتقان في الكون:
من أعظم ما يدهشنا في أنفسنا في الكون من حولنا ذلك الإتقان العجيب في التركيب والصنع، فما نصادف من شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ وهو في غاية الإتقان، مركب أحكم تركيب يؤدّي به إلى غايته التي خُلق من أجلها.
أليس من الإتقان هندسة الكون العجيبة، في مخطط كواكبه ونجومه، بحيث إن أيّ تغيير فيه يؤدّي به إلى الخلل والنقص أو الخراب والفناء، وكذلك أليس من الإتقان المدهش هذا الإنسان في خلقه وتكوينه، وكذلك هذه الحيوانات المدهشة في تكوينها؟ نعم، في كل شيء نرى فيه الإتقان المدهش الذي لا يصدر إلاّ عن متقن بنفسه يتقن كل شيء صنعًا.
فهذه أدلة علمية عقلية كلها تدل على أن الكون بما فيه المادة، حادثة وموجودة بعد أن لم يكن لها وجود، فهي حادثة، والحادث لابدّ له من مُحدِث، وبهذه يبطل قول الماديين بأزلية المادة كما أنها في حالة حدوث وتغيير دائمين، فحدوثها وتغييرها دليل على أن لها بداية، وهذا الدليل نفسه يقودنا إلى أن للمادة نهاية محتومة لابدّ أن تصير إليها؛ لأن كل شيء له بداية لابدّ أن يكون له نهاية.
وحين لا يسلم بهذه الأدلة المنطقية العقلية التي تدل على حدوث الكون (المادة) وبدايته ونهايته طائفة من المفتونين بالعلوم الحديثة وقوانينها، ومنجزاتها، فإنني أعرض لهم أدلة من هذه العلوم وقوانينها التي تثبت حدوث الكون، وأنه لابدّ له من إله أوجده من العدم، كما أن له نهاية محتومة سيصير إليها.
المجموعة الثانية: في بيان الأدلة العلمية على أن المادة ليست أزلية ولا أبدية:
وهذه الأدلة يمكن أن نقسمها قسمين:
الأول: الأدلة العلمية الحديثة الدالة على أن المادة ليست بأزلية:
وذلك بما يلي:
1- أثبتت الاكتشافات العلمية في العصر الحديث أن للمادة بداية، حيث لاحظ العلماء أن حركة المادة في الكون كله حركة دائرية، فكل ذرة من ذرات الكون مؤلفة من جزئي كهربيّ موجب، ويُسمَّى (البروتون)، وجزئيٍ كهربي سالب، ويُسمَّى (إليكترون)، وبعض الذرات تحتوي على جزء ثالث معتدل ويُسمَّى (النيترون)، هذا، ويشكل البروتون والنيترون في حالة وجوده كتلة النواة، أمَّا الإليكترون فهو يدور بسرعة دائرية هائلة، ولولا هذا الدوران لجذبت كتلة النواة كتلة الإليكترون، ولم يكن هناك امتداد لأيّ مادة على الإطلاق، بل لولا هذا الدوران لكانت الأرض كلها - كما يقال - في حجم البيضة.
هذا الدوران هو سنة الله في الطبيعة، فالقمر يدور حول الأرض، والأرض تدور حول الشمس، وهكذا كل ذرة تدور في هذا الكون، والذي نريده هو: أن الشيء الدائر لابدّ أن تكون له نقطة بداية زمانية ومكانية ابتدأ منها.(52/83)
2- يقول «إدوارد لوثر كيسيل» في معرض ردّه على القائلين بأزلية الكون: (ولكن القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية يُثبت خطأ هذا الرأي الأخير، فالعلوم تُثبت بكل وضوح أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًّا، فهنالك انتقال حراري مستمر من الأجسام الباردة إلى الأجسام الحارة، ومعنى ذلك؛ أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها جميع الأجسام وينضب منها معين الطاقة، ويومئذ لن تكون هناك عمليات كيماوية أو طبيعية، ولن يكون هناك أثر للحياة نفسها في هذا الكون، ولما كانت الحياة لا تزال قائمة؛ ولا تزال العمليات الكيماوية والطبيعية تسير في طريقها، فإننا نستطيع أن نستنتج أنّ هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًّا وإلاّ لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد، وتوقف كل نشاط في الوجود، وهكذا توصلت العلوم - دون قصد - إلى أن لهذا الكون بداية، وهي بذلك تثبت وجود الله؛ لأن ما له بداية لا يمكن أن يكون قد بدأ بنفسه، ولابدّ من مبدئٍ، أو من محرك أول، أو من خالق هو: الإله).
فهذه الأدلة العلمية القاطعة تُثبت أن المادة غير أزلية، والآن أعرض فيما يلي الأدلة العلمية على أن المادة ليست أبدية.
الثاني: الأدلة العلمية الدالة على أن المادة ليست أبدية:
من أشهر هذه الأدلة:
1- ما سبق معنا من قانون الديناميكا الحرارية، فإنه قد جاء فيه: أنّ مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجيًّا، وأنها سائرة حتمًا إلى يوم تصير فيه الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض هي الصفر المطلق، ويومئذ تنعدم الطاقة، وتستحيل الحياة، ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقة عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت.. ولا شك أنه يدل على أن للمادة نهاية محتومة ستصير إليها.
2- ومنها قانون تحطم الشموس، وفحواه: أن ذرات الشموس تتحطم في قلبها المرتفع الحرارة جدًّا، وبواسطة هذا التحطم الهائل المستمر تتولد هذه الطاقة الحرارية التي لا مثيل لها، وكما هو معلوم فإن الذرة عندما تتحطم تفقد جزءًا من كتلتها حيث يتحول هذا الجزء إلى طاقة، فكل يوم يمر بل كل لحظة تمر على أيّ شمس فإنها تفقد جزءًا ولو يسيرًا من كتلتها، ومعنى هذا بالضرورة أن سيأتي الوقت الذي تستنفد الشموس كتلتها نهائيًّا؛ أي: أنها تفنى.
3- (جون كليفلاند كوتران) عالم الكيمياء والرياضيات يقول: (تدلنا الكيمياء على أن بعض المواد على سبيل الزوال والفناء، ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة والآخر بسرعة ضئيلة، وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية..).
فهذه الأدلة كلها تدل على أن المادة ليست أزلية ولا أبدية، بل إنها مخلوقة وفانية، وبهذا يسقط دعوى الشيوعية في كون المادة هي الأصل، والحياة هي المادة.
) المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 692-712) .
==================(52/84)
(52/85)
سلسلة كشف الشخصيات (28) أبيقور
من كتاب كواشف زيوف
http://www.eltwhed.com/vb/showth r ead.php?t=4581
أبيقور والأبيقوريون
من هو أبيقور؟
هو فيلسوف مادّي يوناني ، تلميذ آراء وأفكار "ديموقريطس" . عاش ما بين (341-270 ق.م).
أخذ أسس مذهبه الذري عن أستاذه ، في بضع الآراء . وتلاميذ "أبيقور" يُنسبون إليه في الفلسفة اليونانية ، فيقال عنهم : أبيقوريون .
أهم مقولاتهم المادّية التي تلتقي مع الفكر الإلحادي
أولاً: أسس مذهب الأبيقوريين ترجع إلى المذهب الذري الذي قال به "ديموقريطس" من قبل ، لكن "أبيقور" أضاف فكرة الميل في التحرّك الآلي في الذرات ، ليحصل التصادم بينها ، فتتكوّن الظاهرات الكونية .
ونقض المذهب المادّي كلّه يرجع إلى براهين واحدة ، منها ما سبق بيانه لدى الكلام على "ديموقريطس" . وتفصيلها سيأتي إن شاء الله في فصل خاصّ ، يردّ على جميع آراء المادّيين .
ثانياً: للأبيقوريين أقوال يهاجمون فيها الدين الوثني المعدد للآلهة ، والذي كان منتشراً بين اليونانيين وغيرهم ، في تلك العصور .
فمن أقوال "لوكرتيوس" أحد الأبيقوريين : "إن الدين شرٌّ ما بعده شرّ ، وإن الواجب على الإنسان ومهمة الفلسفة الأولى أن تتخلص نهائياً من كل دين ، لأن الدين هو ينبوع كل شر ".
وربما لم يكن في عهدهم ذلك صورة صحيحة عن دين رباني صحيح ، وإنما لديهم أديان وثنية خرافية ، لذلك شجبُوا الدين الذي رأوا نماذجه في عصورهم .
ولذلك نجد في تعبيرات الأبيقوريين : أن الذي يؤمن بالدين الشعبي المألوف ومعتقداته يرتكب خطيئة دينية في الواقع ، بينما الذي لا يؤمن بها هو الذي يسلك سبيل الصواب .
وهجومهم على هذا النوع من الأديان لا شأن لنا به ، وقد يكون لهم في ذلك عذر ، لما عليه هذه الأديان من خرافات وأضاليل وأكاذيب .
ثالثاً: ينكر الأبيقوريون ظاهرة العناية الإلهية ، التي هي إحدى أدلة المثبتين وجود الله .
وإنكارهم لها مستند إلى ملاحظة أمور يرونها في الكون شرّاً ، ويرون أن وجودها ينقض بحسب تصوّرهم فكرة العناية ، حتى زعموا أن فكرة العناية الربانية وهم من الأوهام ، وقالوا :
* أين العناية الربانية في عالم حظّ الشرِّ فيه أكبر من حظ الخير ، ومصير فاعل الخير أسوأ من مصير فاعل الشر ؟
* وأين العناية الربانية في عالم لا يوجد فيه مكان يصلح لسكنى الإنسان إلا جزء ضئيل منه؟
* وأين العناية الربانية التي تركت الإنسان خلواً من كلا سلاح ، بل هو الحيوان الأكبر الأعزل ؟
إلى نحو ذلك من تساؤلات ، تعبّر عن إنكارهم لظاهرة العناية .
كشف بطلان هذه الفكرة
أولاً: إن هذه التساؤلات التي طرحها الأبيقوريون منذ نيّف وعشرين قرناً ، ويطرح نظيرها جميع منكري العناية الربانية ، تدل على نظرة قاصرة جداً ، حكموا بها على الوجود ، الأمر الذي يسمح لنا بأن نقول : إن هذه النظرة نظرةٌ سخيفة ومحدودة ، وينبغي أن لا تصدر مطلقاً عن ذي فكر عادي ، فضلاً عن باحث فيلسوف .
إن الرؤية الناقصة القاصرة المحدودة ، التي تتناول جانباً جزئياً صغيراً جداً ، من المجموع الكلي الكبير ، والتي لا تسمح لصاحبها بأن يدرك معاني الحكمة الكلية ، تجعله يصدر أحكاماً باطلة ، مبنية على رؤيته هذه .
فمن لم ير من الوجود إلا ما يسوؤه جلب إلى نفسه الاكتئاب ، وغدا متشائماً ، وحكم على الوجود بأن الشر هو الغالب فيه . وعكسه الذي لا يرى من الوجود إلا ما يسره ، فإنه يبتهج بالحياة ، ويتفاءل بكل شيء ، ويحكم على الوجود بأن الخير هو الغالب فيه ، وقد يطغيه ذلك .
لكن النظرة الإيمانية التي منحنا إياها الفهمُ الديني الصحيح الذي بينه لنا الإسلام ، تعطي المؤمنين رؤية كلية شاملة ، وهذه الرؤية تشاهد حكمة الله في الخلق ، بدءاً من حياة الإنسان في دار الامتحان ، وهي الدار الدنيا ، حتى منازل الخلود في دار الجزاء ، وهي الدار الآخرة .
فالإنسان في هذه الحياة مُبتلىً ممتحن ، وبديهة الفكر تقرر أن الإنسان ما دام قد خلق ليمتحن ، وليكسب مقادير آخرته باختياره ، فإنّ الامتحان في دار الحياة الدنيا هذه يستلزم أن يكون الإنسان فيها عرضة لقسمين من أقسام الامتحان ، نظراً إلى أن إحساسه الشعوري قائم على محورين ، محور اللذة ومستتبعاتها ، ومحور الألم ومستتبعاته .
فالقسم الأول : هو ما يلذه أو يفرحه ويسرّه من محابّ في هذه الحياة الدنيا وهي النعم المادّية أو المعنوية التي تمتعه ليختبر بها حمده وشكره ، واستقامته ، وعدم بطره وطغيانه ، فإذا كان من الناجحين في هذا الامتحان كان من الخالدين في السعادة يوم الدين .
والقسم الثاني : ما يؤلمه ويحزنه ويسوؤه من مكاره في هذه الحياة الدنيا ، وهي المصائب التي تمسّه ، ليختبر بها صبره واحتماله ، ورضاه عن الله فيما تجري به مقاديره ، واستقامته على طاعته ، وثباته على إيمانه بربه وبكمال حكمته ، رغم كل ما أصابه من مكاره .
إذن : فلا بد من وجود مصائب ومكاره في هذه الحياة الدنيا ، ليستوفي الامتحان شروطه اللازمة له ، بذل تقضي الحكمة .
هذه الحقيقة بينها الله عزّ وجلّ لنا بقوله في سورة (الأنبياء مصحف/73 نزول):(52/86)
{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.
وفي ظروف الحياة الدنيا قد تقضي الحكمة بمعاقبة بعض المسيئين والمجرمين ، عناية بالمسيء حتى يتوب ، أو تنبيهاً على قانون العدل الرباني ، أو مكافأة للمظلوم وجبراً لخاطره. على أن الجزاء الأوفى مدّخر إلى يوم الدين ، ونظير ذلك يكون في بعض صورة الثواب العجل .
وآلام الذين هم دون التكليف آلام إعداد وتربية ، اقتضتها السنن الثابتة العامة .
فكلٌّ من النعم والمصائب في هذه الحياة الدنيا ، إما أنها للامتحان وهو الأصل ، وإما أن تكون من معجّل الجزاء ، وإما أن تكون للتربية ، وكل ذلك مقرون بحكمة عظيمة .
فما زعمه منكرو العناية الإلهية باطل تماماً ، وما ادّعوه من أن مصير فاعل الخير أسوأ من مصير فاعل الشر ، فالفساد فيه آتٍ من وجهين :
الأول : أننا لا نجد هذه الدعوى منطبقة على الواقع الدنيوي انطباقاً كلياً ، بل قد يحدث هذا وقد يحدث عكسه ، وكلٌّ من الأمرين مشمول بقانون الابتلاء الرباني . هذا مع حصر النظر في ظروف الحياة الدنيا .
الثاني : أن قصة الوجود لا تنتهي بالموت في هذه الحياة الدنيا ، بل الموت عبارة عن انتهاء مدة امتحان الإنسان ، الموضوع موضع الامتحان في هذه الحياة .
وبعد ذلك تأتي الحياة الأخرى الخالدة ، التي يكون فيها الجزاء الأوفى .
والدين الحق يكشف أن قانون الجزاء الرباني يومئذ ، يتضمنه قول الله عزّ وجلّ في الدين الخاتم :
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.
ولا بد أن نلاحظ في هذا الموضوع أن من لوازم الامتحان المستوفي لشروطه ، تمكين المجرمين من ممارسة جرائمهم في الحياة الدنيا ، ليستوفوا عقابهم يوم الدين .
ويومئذٍ يكون التعويض عظيماً لمن وقعت عليهم الجرائم ، إذا هم آمنوا بالله وعدله وحكمته واستقاموا على طاعته .
وليس معنى ذلك أن لا ينتصروا لأنفسهم في الحياة الدنيا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، بل ذلك من مسؤولياتهم في حدود استطاعتهم .
ولولا تمكين المجرمين من ممارسة جرائمهم في ظروف هذه الحياة الدنيا ، ما استوفى الامتحان الأمثل شروطه اللازمة .
فإذا تركنا موضوعات النعم والمصائب وأنواع الشرور التي يمارسها الناس بإرادتهم الحرة ، والتي اقتضتها في هذه الحياة الدنيا مقتضيات الامتحان الأمثل ، وانتقلنا إلى كل ظواهر الوجود الأخرى ، فإننا نجد عناية الله ظاهرة في كل شيء.
هل يجد الباحثون في ظواهر الكون الكبير إلا التلاؤم التام بين الأشياء ، وبينها وبين حاجات الأحياء؟
أليس لكل داء دواء ، ولكل مرض وعلة وسيلة شفاء؟
أليس لكل حيّ ما يناسبه في الأرض من غذاء ؟
أليست العناية الربانية هي التي أتقنت كل شيءٍ خلقته ، من الذرّة إلى المجرّة . من الخلية إلى جسم الكائن الحيّ كله؟
لقد كفتنا العلوم الكونية المعاصرة المتعمقة التي قام بها العلماء المادّيون ، فقد أثبتت بشكل قطعي ظاهرة العناية الربّانيّة ، بما لا يدع مجالاً للشك مطلقاً .
فلسنا بحاجة إلى إثباتات عقلية ، أو استدلالات نعتمد فيها على الظواهر السطحيّة للكائنات بالرؤية العادية .
وأقول أخيراً :
إن قصور النظر إلى الواقع لا يغير من كمال الواقع شيئاً .
ثانياً: قولهم : أين العناية الربانية في عالم لا يوجد فيه مكان يصلح لسكنى الإنسان إلا جزء ضئيل منه؟ قول سخيف .
* هل استوعب الإنسان الأرض كلها حتى يبحث عن غيرها؟
* إن الأرض كلها لهذه الحياة الأولى ليست أكثر من مختبر ، لامتحان الوافدين إليه ، وليست هي الجنة المعدة للخلود . فجنات النعيم فيها كل ما يطلب أصحابها ، ومزيد لا يخطر على بالهم من فيض فضل الله وجَوده العظيم .
إن عدم فهم الحكمة من الخلق يوقع في الأغاليط الكثيرة .
* * *
ثالثاً: قولهم : أين العناية الربانية التي تركت الإنسان خلواً من كل سلاح ، بل هو الحيوان الأكبر الأعزل؟ هو قولُ ينقضه واقع حال الإنسان ، الذي سلّحه الخالق العظيم بالفكر ، الذي يستخدم به كل ما في الكون المسخر له بقضاء الله وقدره .
ونقول : أليس من عناية الله بالإنسان أن سخّر له كل ما في الأرض ، وما في السماء أيضاً ، وقد ظهر ذلك في عصرنا عصر الكشوف العلمية التي جعلت الإنسان يجوب في الآفاق ويصل إلى القمر وغيره من الكواكب ؟
أليس الإنسان هو المسلط بفكره ووسائله على كل كائنا البرّ والبحر؟
لقد كان مبلغهم من الرؤية قاصراً ، فكان مبلغهم من العلم قليلاً.
والحمد لله الذي هدانا للحق بدينه الخاتم ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
=============(52/87)
(52/88)
سلسلة كشف الشخصيات (29) برتراندرسل
بقلم عبد الرحمن حسن حبنكة الميدانى من كتاب كواشف زيوف
http://www.eltwhed.com/vb/showth r ead.php?t=4581
"برتراندرسل" وآراؤه الإلحادية
من هو "برتراندرسل"؟
هو فيلسوف إنكليزي ملحد معاصر . وذو تأثير قوي في ميدان الدراسات الفلسفية . عاش ما بين : (1873 - 1970م) .وهو من أسرة ارستقراطية معروفة . كان جده رئيساً للوزارة الإنجليزية ، على مبدأ الأحرار . وقد أثار حرباً شعواء ليظفر بحرية التجارة ، وبالتعليم العام المجاني ، وبتحرير طائفة اليهود .
كان "برتراندرسل" أشهر الفلاسفة الذين عرفهم الفكر الفلسفي أثناء الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية .
كتب في مختلف مجالات الفكر الفلسفي ، وكتب في غيرها أيضاً ، وكان ذا نشاط تأليفي غير عادي ، وقد ظل صاحب الخطوة الأولى لدى الذين يطلقون على أنفسهم تقدميين من المثقفين المعاصرين الملاحدة في أوروبا وذيولها .
وهو ذو تطرف سياسي . ومتطرف جداً في إلحاده . وقد بسط أفكاره السياسية والإلحادية المتطرفة في كتابات أدبية مؤثرة .
أثرت كتاباته السهلة على العامة ، وأثرت كتاباته العميقة على الفكر الأوروبي المعاصر كله .
استعراض لأهم آرائه وأفكاره وحركة فكره الفلسفية :
أولاً: سار في فلسفته ضمن أطوار ، من المثالية إلى الوضعية . وقد ركز اهتمامه أخيراً على المذهب الوضعي ، فصار يرى أن المعرفة تظل مستحيلة ما لم نستعن في محاولة الوصول إليها بمناهج الطبيعة .
وواقعية "رسل" قريبة من الواقعية الملاحظة في مذهب "هيوم" التجريبي .
وقد سيطر على فلسفته مذهب الشك ، حتى كاد الشك المطبق يخيم على جميع جوانب فلسفته .
وعلى الرغم من حدة ذكائه ، وسعة اطلاعه ، عجز عن أن يضع مذهباً فلسفياً متناسقاً ، يربط بين جميع آرائه ونظرياته ، وعجز أيضاً عن تحاشي الوقوع في التناقض ، إذ يلمس الباحث القارئ لكتبه ، ظاهرة التناقض جلية في بعض جوانب فلسفته .
لقد تبنى مواقف فكرية كان من سماتها التغير المتواصل ، فلم يكن يثبت عند موقف منها . وانتهى إلى الادعاء بأنه يستحيل إدراك الواقع خارج نطاق مناهج علوم الطبيعة ، فحصر المعرفة في العلوم الطبيعية وحدها ، ثمّ أخذ يتشكك حتى في قيمة تلك المعرفة ،وهو في ذلك يقول :
"حتى المعرفة التي تمدنا بها علوم الطبيعة لا تعدو أن تكون مجرد معرفة احتمالية".
ثانياً: رفض "رسل" مثالية "هيجل" كلها رفضاً قاطعأً ، وادعى أن العالم الواقع يتألف من مجرد معطيات حسية تترابط فيما بينها بواسطة علاقات منطقية صرفة . وزعم أن المادة وإن كان لها وجود واقعي ملموس ، فمن المستحيل إدراكها إدراكاً مباشراً.
ومضى "رسل" في بلورته لنظريته في المعرفة دون أن يخرج بها عن النظرية الأفلاطونية الكلاسيكية ، بيد أنه ينتهي فيما بعد إلى التسليم بعجزه عن تقديم حلول قاطعة لمشكلة المعرفة في جملتها ، نظراً إلى ما يكتنف تلك المحاولة في رأيه من صعوبات جمة ، فنراه يقترب من الموقف نفسه الذي انتهت إليه الوضعية قبله .
واعترف "رسل" بأن آراءه في علم النفس قد جاءت مغرقة في نزعتها المادية ، ومع ذلك فإنه لم يتبنَّ وجهة نظر مادية خالصة في هذا المجال .
ثالثاً: ذهب إلى اعتبار الإنسان جزءاً لا قيمة له بين أجزاء الطبيعة . وزعم أن العقل الإنساني خاضع للقوانين الطبيعية ، إذ اعتبرها متحكمة في جميع ضروب الفكر .
وزعم أن العلم الذي يشكل المصدر الوحيد لمعرفتنا ، لا يمكن أن يفسح مجالاً للاعتقاد بوجود الله ، أو بخلود النفس .
وزعم أن فكرة الخلود فكرة بالغة البطلان والاستحالة ، إذ لو كان الخلود هو المصير الذي ينتظر النفس بعد الموت ، فما السبب إذن في عجز النفس عن أن تشغل لها حيزاً إلى جانب الجسد في هذه الحياة الدنيا؟ .
رابعاً : أفرط "برتراندرسل" إفراطاً شديداً في صب هجومه على الدين قائلاً:
" إن الدين لا يقوم إلا على عوامل الترهيب والتلويح بالعقاب ، وبالتالي فإن الدين يشكل ضرباً من ضروب الشر التي تملأ هذا العالم . وهذا هو السبب في أننا نجد أن أولئك الذين لم يبلغوا بعدُ درجة كافية من النضج الأخلاقي والعقلي هم وحدهم الذين ما زالوا يتمسكون بالمعايير الدينية التي تناهض بطبيعتها جميع المعايير الإنسانية الخيرة التي يجب أن تسود عالمنا الحديث .
خامساً: يرى "رسل" أن للإنسان إرادة حرة تدفعه إلى أن يقيم لنفسه في الحياة مثلاً عليا ، يطمح بها إلى تحقيق حياة خيرة ، تسير على هدى المعرفة والمحبة الإنسانية ، ومن شأن حرية الاختيار هذه أن تغني الإنسان عن البحث عن نظريات أخلاقية لا طائل وراءها .
وإذ زعم أنه لا جدوى للنظريات الأخلاقية التجريدية لضرورات الحياة العملية ، فقد بدا له أن يقدم برهاناً على ذلك مثال الأم التي تواجه مرض طفلها الصغير ، فقال : إن تلك الأم لا تحتاج في سعيها وراء شفاء طفلها إلى مشرعين أخلاقيين ، وإنما تحتاج إلى طبيب ماهر قادر على وصف العلاج المناسب .(52/89)
وللتشجيع على الإباحية الجنسية ، زعم "رسل" أن القواعد الأخلاقية قد أخذت ترتكز اليوم شيئاً فشيئاً على تصورات خرافية باطلة . منها على سبيل المثال ما نشاهده من انحراف في سن التشريعات الأخلاقية الجنسية ، المتمثلة اتجاه المجتمعات الحديثة إلى تحريم جميع صور الزواج الجماعي ، وقصره على صورته الواحدية ، وفي استهجان الزنى ، ومحاربة الزانين .
وزعم أن السعادة التي هي الغاية التي يجب أن تطمح الإنسانية إليها ، لا سبيل إلى بلوغها إلا بقهر عوامل الخوف والإرهاب اللذين دأبت الأديان والشرائع الأخلاقية على التلويح بهما في وجه الإنسان ، وذلك بالوقوف في وجههما بفضائل الشجاعة والإقدام ، وتقويتهما عن طريق التربية ، وخلع الكمالات على الإنسان بالتحلي بشتى القيم...
سادساً: سئل "برتراندرسل" : هل يحيا الإنسان بعد الموت؟
فأجاب بالنفي ، وشرح جوابه بقوله :
"عندما ننظر إلى هذا السؤال من زاوية العلم ، وليس من خلال ضباب العاطفة ،نجد أنه من الصعب اكتشاف المبرر العقلي لاستمرار الحياة بعد الموت ، فالاعتقاد السائد بأننا نحيا بعد الموت يبدو لي بدون أي مرتكزٍ أو أساسٍ علمي . ولا أظن أنه يتسنى لمثل هذا الاعتقاد أن ينشأ وأن ينتشر لولا الصدى الانفعالي الذي يحدثه فينا الخوف من الموت . لا شك أن الاعتقاد بأننا سنلقى في العالم الآخر أولئك الذين نكن لهم الحب ، يعطينا أكبر العزاء عند موتهم ، ولكني لا أجد أي مبرر لافتراض أن الكون يهتم بآمالنا ورغباتنا ، فليس لنا أي حق في أن نطلب من الكون تكييف نفسه وفقاً لعواطفه وآمالنا ، ولا أحسب أن من الصواب والحكمة أن نعتنق آراء لا تستند إلى أدلة بينة وعلمية" .
سابعاً: كتب "رسل" قصة أدبية ، ذكر فيها أن السديم الحار دار عبثاً في الفضاء عصوراً لا تعد ولا تحصى دوراناً ذاتيا ، ثمّ نشأت عن هذا الدوران هذه الكائنات المنظمة البديعة ، بطريق المصادفة ، وأن اصطداماً كبيراً سيحدث في هذا الكون ، يعود به كل شيء إلى سديم ، كما كان أولاً .
وعلق الملحد "صادق جلال العظم" على هذه القصة الخيالية ، التي سماها قطعة أدبية جميلة فقال :
" هذا المقطع الذي كتبه "رسل" يلخص لنا بكل بساطة النظرة العلمية الطبيعية للقضايا التالية : نشوء الكون وتطوره . نشوء الحياة وتطورها . أصل الإنسان ونشأته وتطوره . نشوء الديانات والعبادات والطقوس وتطورها . وأخيراً يشدد على أن النهاية الحتمية لجميع الأشياء هي الفناء والعدم ، ولا أمل لكائن بعدها بشيء ، إنه من السديم وإلى السديم يعود" .
ثامناً : ذكر "وحيد الدين خان" ، أنه قرأ كل أعمال "برتراندرسل" واستطاع بعد قراءتها أن يلتقط من أقواله ما يكشف عن النهايات الفكرية التي انتهى إليها .
إنه بعد أن درس الفيزياء ، وعلم الحياة ، وعلم النفس ، والمنطق الرياضي ، انتهى إلى أن "مذهب التشكيك في الوجود مستحيل نفسياً". ومع ذلك فإن الإنسان عاجز عن أن يحيط إلا بأقل قدر من المعرفة .
ويقول بالنسبة إلى الفلسفة :
"تدعي الفلسفة منذ القدم ادعاءات كبيرة ، ولكن حصيلتها أقل بكثير بالنسبة إلى العلوم الأخرى ".
ويقول "رسل":
"عن تصورنا العلمي للكون ، لا تدعمه حواسُّنا التجريبية ، بل هو عالم مستنبط كلياً ".
ويبلغ به الأمر إلى أن يقول :
" إن أفكار الناس لا توجد إلا في مخيلاتهم فحسب".
أي : إن التجربة لا تستطيع أن تثبت مطابقة هذه الأفكار للواقع .
وانتهى "رسل" أيضاً إلى أن التجربة قد أعطيت لها الأهمية الكبرى ، ولذلك يجب أن تخضع "التجريبية" باعتبارها فلسفةً لتحديات مهمة . يقول هذا حتى في النظريات والقوانين العلمية .
ومع ذلك فإنه يختار لنفسه مذهب الإلحاد ، ويعتمد على افتراضات لا يمكن إخضاعها للتجربة بحال من الأحوال ، وذلك بالنسبة إلى نشأة الكون والحياة . ويرجح الداروينية مع أنها من وجهة نظره فكرة استنباطية لا تدعمها التجربة ، ولا تزيد على أنها فكرة في مخيلات أصحابها .
ويقول أيضاً:
" لقد وجدت معظم الفلاسفة قد أخطؤوا في فهم الشيء الذي يمكن استنباطه بالتجربة فحسب ، والشيء الذي لا يمكن استنباطه بالتجربة ".
ويقول أيضاً:
" لسوء حظنا لم تعد الطبيعة النظرية تحدثنا اليوم بالثقة الرائعة نفسها التي كانت تحدثنا بها في القرن السابع عشر . لقد كانت لأعمال "نيوتن" أربعة تخيلات أساسية ، هي : المكان ، والزمان ، والمادة ، والقوة .
وقد أصبحت هذه العناصر نسياً منسياً في علم الطبيعة الحديث. فقد كان الزمان والمكان من الأشياء الجامدة والمستقلة عند "نيوتن" والآن قد تمَّ تبديلهما بما يُسمى "المكان-الزمان" والذي لا يعتبر جوهرياً أساسياً ، وإنما هو نظام للروابط ، وأصبحت "المادة" شكلاً لسلسلة الوقائع ، وأصبحت "القوة" الآن "الطاقة" . والطاقة نفسها شيء لا يمكن فصله عن المادة الباقية . والسبب كان هو الشكل الفلسفي لما كان يسميه علماء الطبيعة بالقوة ، وقد أصبح هذا التصور قديماً ، إن لم أقل : إنه قد مات فعلاً ، إلا أن هذه الفكرة لم تعد قوية كما كانت من قبل" .
ويقول "رسل" أيضاً:(52/90)
"إنه قد توصل بعد دراسات استنفدت كل عمره ، إلى أن الاستنباط الذي لا يمكن إيضاحه يعتبر أيضاً مقبولاً وجائزاً ، وعند رفض هذا النوع من الاستنباط سوف يصاب النظام الكامل للعلوم والحياة الإنسانية بالشلل".
ويقول أيضاً:
" إن العلوم تشمل كلا العالمين :الحقيقي والعالم المتخيّل وجوده . وكلما تقدم العلم ازداد فيه عنصر الاعتقاد ، فبعض الأشياء في العلوم حقائق مشاهدة ، ولكن الأشياء العليا تجريدات علمية يتم استنباطها بناءً على المشاهدة . والحقيقة أنه لا يمكن رفض مذهب الشك الكلي إطلاقاً ، إلا أنه مع ذلك يصعب قبول التشكيك الكلي في نفس الوقت".
ويقول أيضاً:
"إنه لا يمكن الادعاء بالقطعية (في النظريات أو الآراء) على النحو الذي سار عليه الفلاسفة المتسرعون بكثرة وبدون جدوى".
ونظراً إلى واقع حال "رسل" التائه عن الحقيقة ، استطاع البروفسور "ألان وود" أن يقرظه بقوله : "برتراندرسل فيلسوف بدون فلسفة".
كشف الزيف
سأقتصر على كشف أهم ما في أقوال "رسل" وفلسفته من زيوف في الكواشف التالية ، عنواناً على سائر زيوفه:
الكاشف الأول : لقد اكتشفنا من أقوال "رسل" أن فلسفته تعتمد على الاعتراف بأن العلوم متى تجاوزت منطقة المدركات الحسية فإنها لا تملك معارف يقينية ، ولكن مع ذلك لا بد من قبول هذه المعارف التي يتوصّل إليها بالاستنباط ، وإن لم تكن يقينية ، لئلا تتعطل الحياة العملية ، وتقف عن الإنجاز ، إذ لا سبيل إلى اليقين فيها.
فليس هو في هذا من الذين لا يقبلون إلا ما يدرك بالحس المباشر أو غير المباشر ، وإنما يجعل ما يتوصل إليه من تفسيرات علمية مقبولاً بصفة ترجيحية ، لضرورة العجز عن الوصول إلى اليقين .
فما الذي صدّه إذن عن الإيمان بالله عزّ وجلّ ، والإيمان باليوم الآخر الذي هو من لوازم حكمته وعدله ، مع أن الأدلة الاستنباطية الترجيحية هنا - إن رُفِض اعتبارها يقينية- أقوى بكثير من التخيلات الأخرى ، التي يفسر بها الملحدون نشأة الكون وتطوره ، ونشأة الحياة وتطورها؟!
هنا تظهر عقدة الهوى والتعصب ضد الدين ، عند "رسل" وعند سائر الملحدين .
وهذا التعصب لديهم ، لا تدعمه أية أدلة مرجّحة لقضية الإلحاد ، بل ليس للإلحاد في الحقيقة أي دليل ، غير مجرد سفسطات وتخيلات تقوم في رؤوس أصحابها فقط .
إن التفسير البديل لقضية الإيمان بالخلق الربّاني إنما هو فرضية الارتقاء الذاتي ، وأزلية المادة .
أما أزلية المادة فقضية مرفوضة علمياً ومنطقياً.
وأما الارتقاء الذاتي فيعبّر عنه "السير آرثر كيث" - كما سبق - بقوله :
"الارتقاء غير ثابت ، ولا يمكن إثباته ، ونحن نؤمن بهذه النظرية لأن البديل الوحيد هو الإيمان بالخلق الخاص المباشر ، وهو أمرٌ لا يمكن حتى التفكير فيه".
لكن : لماذا لا يمكن التفكير فيه؟
والجواب الوحيد : لأنه لا يسمح له هواه بأن يعترف بالله الخالق ، وبأن يخضع له بعد ذلك خضوع العبادة والطاعة .
فتمرده وتمرد نظرائه الملحدين إنما هو تمرد المستكبرين المعاندين ، أو تمرد طالبي الفجور في الأرض ، دون أن يشعروا بأن فوقهم رقيباً محاسباً ، عزيزاً حكيماً .
وهم يدعون إلى الإلحاد لإضلال الجاهلين ، الذين لم تكشف لهم أضواء المعرفة طريق الحق .
ما أعجب سلطان الهوى ، وسلطان التعصب ، وسلطان الالتزام بالمبادئ الحزبية على الناس!!.
إن هذه المؤثرات التي تجنح بهم عن سواء السبيل ، تسوقهم إلى الشقاء الأبدي والعذاب الأليم ، وتجعلهم يؤثرون الضلالة على الهدى ، والظلمات على النور .
الكاشف الثاني : لقد سقط "رسل" في سخف استدلالي مفضوح جداً ، حين احتج على عدم جدوى النظريات الأخلاقية التجريدية لضرورات الحياة العملية ، على عدم الحاجة إلى مشرعين أخلاقيين ، بمثال الأم التي تواجه مرض طفلها الصغير ، إذ قال : إن تلك الأم لا تحتاج في سعيها وراء شفاء طفلها إلى مشرعين أخلاقيين ، وإنما هي تحتاج إلى طبيب ماهر قادر على وصف العلاج المناسب .
إنه بهذا الاستدلال قد لعب لعبة التعميم الفاسد مرتين :
الأولى : حين جعل هذا المثال كافياً لإلغاء حاجة البشرية إلى التشريعات الأخلاقية .
أظن أن مثل هذا الاستدلال لا يقبله أطفال المتعلمين فضلاً عن عقلاء الناس ومثقفيهم ، وذلك لأن الناس جميعاً يلاحظون أن للإنسان نوعين من السلوك :
أما أحدهما فهو يلائم هوى الإنسان وعاطفته أو شهوته ، وهو مع ذلك ينطبق على المبادئ الأخلاقية ، ولا يتعارض معها ، ومن ذلك عاطفة الأم التي تتحرك بلهفة لشفاء طفلها المريض .
وأما الثاني فهو يلائم هوى الإنسان وعاطفته أو شهوته ، لكنه يتعارض مع المبادئ الأخلاقية (الحق والواجب والفضيلة والجمال) ويدخل في هذا النوع الثاني آلاف الأمثلة من السلوك الإنساني . إن أمثلة العدوان على الحقوق ، وظلم الناس للناس ، وجنوح الأهواء الإنسانية إلى ما يسبب الهلاك والدمار ، أمور تدفع إليها الأهواء الإنسانية إلى ما يسبب الهلاك والدمار ، أمور تدفع إليها الأهواء والشهوات أو العواطف الخاصة ، فهي تتلاءم معها ، إلا أنها تنافى مع المبادئ الأخلاقية ، فهي تحتاج إلى مشرعين أخلاقيين .(52/91)
فماذا يقول "رسل" وأشياعه ، لو ضربنا آلاف الأمثلة التي يحتاج فيها البشر إلى تشريعات أخلاقية ، وهذه الأمثلة مأخوذة من واقع سلوك المجرمين ، والمنحرفين ، والظالمين في الأرض ، ومأخوذة من كثر من صور السلوك الإنساني التي تتكرر آلاف المرات ، في كل مجتمع مهما صغر ، وتكاد تكون هي الظاهرة الغالبة في كل سلوك إنساني ، تدفع إليه دوافع لا تلتقي أهواؤها مع الدوافع الأخلاقية النبيلة على طريق واحد ، فيلاحَظ من سلوك الناس فيها فعل الشرّ والإثم والبغي والعدوان ، لا فعل الخير والحق والعدل والفيلة وما هو حسن .
إن هواه في محاربة الدين والأخلاق قد أسقطه في تفاهات فكرية لا يسقط بمثلها الصغار جداً ، فضلاً عن الكبار والعلماء وأعلام الرجال الباحثين .
وكلمته التي قالها في شأن الأم التي تسعى وراء شفاء طفلها : إنها لا تحتاج إلى مشرعين أخلاقيين ، وإنما تحتاج إلى طبيب ماهر قادر على وصف العلاج المناسب . نقول في مقابلها :
إن الذين يموتون على أيدي الأطباء المهرة ، وفي المستشفيات المختلفة ، نتيجة الإهمال والرغبة بابتزاز الأموال ، لا يحتاجون إلى أطباء مهرة ، وأمهات حانيات رؤومات ، وإنما يحتاجون إلى تشريعات أخلاقية صارمة ، ومراقبين أخلاقيين ، يأخذون على أيديهم .
الثانية : حين لعب لعبة الزحف التعميمي ، من النظريات الأخلاقية التجريدية التي بدأ بها كلامه ، والتي قال عنها : "إنها غير ذات جدوى" ، إلى التشريعات الأخلاقية العملية التي أنهى بها كلامه ، بعد أن احتج بمثال الأم التي تسعى وراء شفاء طفلها ، واعتبر بذلك النظريات الأخلاقية التجريدية تشمل بمفهومها التشريعات الأخلاقية العملية التي تضبط سلوك الناس عن الانحراف ، بتوجيه قانوني ومراقبة اجتماعية .
فهو كمن قال : نحن لا نحتاج إلى الفلسفة النظرية لأصل اللغات . إذن فنحن لا نحتاج في اللغة العربية إلى قواعد النحو وتطبيقاتها على الكلام العربي .
هذا زحف تعميمي فاسد ، ينتقل به الزاحف من موضوع إلى موضوع ، ومن قضية إلى قضية أخرى مباينة لها تماماً ، والجسر بينها قد يكون كلمة موجودة في كل القضيتين ، لكنها في إحداهما غير تماماً في الأخرى .
إن مثل "رسل" لا يخفى عليه فساد مثل هذا التعميم ، لكنه إذا أراد التضليل تغابى ، لعل تغابيه يكون حيلة ينخدع بها الأغبياء ، فيأخذون فكرته التي طرحها بالقبول ، ويعتقدونها مبدأ ، وبذلك يكون قد وصل إلى هدفه من تضليلهم .
الكاشف الثالث : جاء إلى الحقيقة المهمة التي كشف عنها الدين ، وأقرتها العقول الإنسانية الحصيفة ، خلال التاريخ الإنساني الطويل ، وهي التي تثبت تكريم الإنسان وارتفاع قيمته بالنسبة إلى سائر الكائنات المدركة بالحواس ، وذلك بسبب ما لديه من خصائص علمية ، وأدوات معرفة ، وما لديه من صفات نفسية ، وأهمها حرية الإرادة ، بما لديه من قدرات فكرية ونظام جسدي يستطيع بهما السيطرة على الأرض بكل ما فيها ، والانتفاع من كثير من الطاقات المنبثة في السماء والأرض .
جاء "رسل" إلى هذه الحقيقة المهمة ، فألغاها بمجرد توجيه كلمة الإنكار ، لقيمة هذا الإنسان وبمجرد الإعلان بأن الإنسان جزء لا قيمة له بين أجزاء الطبيعة .
إن الاعتراف بقيمة الإنسان في هذا الوجود ينبه الفكر الإنساني ، على أن هذا الكائن لم يمنح هذه القيمة ، ولم يُعط هذا التكريم ، ولم يزود بجملة الخصائص الممتازة التي زود بها ، إلا ليوضع موضع الامتحان في ظروف هذه الحياة .
والاستدلالات المنطقية ترشد الفكر المستنير من خلال هذا المنطلق ، إلى قضيتين :
الأولى : قضية الإيمان بالرب الخالق الواهب ، الذي منح الإنسان خصائصه ، وفضله وكرمه .
الثانية : ما يستتبعه الامتحان من ضرورة إقرار مبدأ الجزاء ، لأن الامتحان بلا جزاء عبث ، والإيمان بالجزاء يشق الطريق إلى الإيمان باليوم الآخر .
ولما كان من الأهداف الرئيسية لفلسفة "رسل" والمقررة في خطته سلفاً ، أن يزلزل لدى قُرّائه عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر ، وما تستتبعه هذه العقيدة من مفاهيم ، كان عليه أن يأتي إلى كل الجذور الفكرية التي يمكن أن تهدي العقل البشري إلى هذه العقيدة ، فيقتلعها ، ولكنه لا يجد حجة منطقية يقتلعها بها .
إذن : فلْيَلْبَس ثوب الفلسفة العميقة العقيمة ، وليقدم آراءه الفلسفية أقوالاً تقريرية لا دليل عليها ، فهذه الأقوال المزيفة سيكون لها قيمة لدى الأغرار المفتونين بزخرف الفلسفات المعاصرة ، ما دام الذي يقدمها فيلسوفاً مرموقاً جداً ، وصاحب مؤلفات روجتها وسائل الإعلام المغرضة المضللة ترويجاً عظيماً ، وتقبّلتها الرؤوس الفارغة من الموازين الصحيحة .
كيف ينكر "رسل" قيمة هذا الإنسان ، ويعتبره جزءاً لا قيمة له بين أجزاء الطبيعة؟!
إن هذا الإنكار لأمر عجيب أن يصدر من مثله علماً وفلسفة .
أي كائن آخر في هذا الكون المشهود لنا استطاع أن يتوصل بالملاحظة والتجربة والاستنباط إلى كوامن قوى الكون ، ويستخدمها في أغراضه الخيرة والشريرة؟!(52/92)
أمع كل ما وصل إليه الإنسان ، من منجزات علمية وحضارية رآها فيلسوف القرن العشرين الميلادي بكل حواسه ، يظل الإنسان في نظره جزءاً لا قيمة له بين أجزاء الطبيعة؟!.
إنني لا أعتقد مطلقاً أن تكون هذه عقيدته الداخلية ، إنما هي أقوال يصدرها ليفتن بها الذين يثقون بفلسفته من أجيال هذا العصر ، خدمة للمخطط الرامي إلى نشر الإلحاد في الأرض ، وتدمير القيم الأخلاقية .
الكاشف الرابع : زعم "رسل" أن العلم - الذي يشكل المصدر الوحيد لمعرفتنا- لا يمكن أن يفسح مجالاً للاعتقاد بوجود الله ، أو بخلود النفس .
ولقد عرفنا أنه حصر "العلم" بالعلم التجريبي ، المستمد من الكون المادي ، وما تعطيه التجربة بشكل مباشر .
وهذا يعني أنه يرفض الاستنباط والاستنتاج العقلي ، مع أنه قد ناقض نفسه في هذا الموضوع بالذات ، إذ قال :
" إن تصورنا العلمي للكون لا تدعمه حواسنا التجريبية ، بل هو عالم متسنبط كلياً".
وإذ قال أيضاً:
" إنه قد توصل بعد دراسات استنفدت كل عمره ، إلى أن الاستنباط الذي لا يمكن إيضاحه ، يعتبر أيضاً مقبولاً وجائزاً ، وعند رفض هذا النوع من الاستنباط سوف يصاب النظام الكامل للعلوم والحياة الإنسانية بالشلل".
وإذ قال أيضاً:
" كلما تقدم العلم ازداد فيه عنصر الاعتقاد ، فبعض الأشياء في العلوم حقائق مشاهدة ، ولكن الأشياء العليا تجريدات علمية ، يتم استنباطها بناءً على المشاهدة".
وزعم أيضاً أن الكون بدأ من السديم ، ودار عبثاً في أحقاب مديدة حتى وصل إلى ما هو عليه الآن ، وسوف يصطدم بعضه ببعض ، ويعود بعد ذلك إلى مثل ما كان عليه أولاً.
هنا نقول له كاشِفين زيوفَه :
ترى هل فسح العلم لديه مجالاً لهذه المزاعم الخيالية ، التي لا يقدم العلم شيئاً منها ، بعد أن لم يفسح المجال للاعتقاد بوجود الله أو بخلود النفس بحسب زعمه؟!!
إنه يقفل أسوار العلم ، ويحصره في المعطيات التجريبية المباشرة ، فيبعد عنه قضايا الإيمان بالله واليوم الآخر ، التي يستنبطها العقل استنباطاً ، ويستنتجها استنتاجاً يقينياً ، بعد مشاهدته ظواهر الطبيعة ، وآيات الله في الكون ، وبعد رجوعه إلى موازين الفكر الثابتة ، التي تتفق عليها عقول الناس جميعاً . فيزعم أن العلم لا يمكن أن يفسح مجالاً للاعتقاد بوجود الله ، أو بخلود النفس .
ثمّ يأتي في مقابل ذلك فيقدم مزاعم خيالية ، دون استدلال علمي ، ودون استنباط عقلي ، ومن المعلوم أن العلوم التجريبية لم تثبت شيئاً من هذه المزاعم .
ثمّ يأتي أيضاً في غير قضايا الإيمان بالله واليوم الآخر ، فيقرر أن التجريدات العلمية العليا التي يتم استنباطها بناءً على المشاهدة لا يجوز رفضها ، وإلا فسوف يصاب النظام الكامل للعلوم والحياة الإنسانية بالشلل .
إنه هنا في هذه القضايا استطاع أن يدرك أن العلم يفسح مجالاً للتجريدات العلمية العليا ، ورأى أن الاعتقاد بها أمر ضروري .
ما بالُه زعم أن العلم لا يفسح مجالاً للاعتقاد بوجود الله ، أو بخلود النفس ، مع أن هاتين القضيتين هما من التجريدات العلمية العليا ، التي لا يقتصر استنباطها على فئة العلماء ، بل يتوصل إلى إدراكها معظم الناس ، بل كل الناس لو وجهوا أفكارهم للبحث عنها؟
هذا تناقض منطقي سقط فيه "رسل" وما أسقطه فيه إلا هواه الموجه ضد قضية الإيمان بالله واليوم الآخر .
الكاشف الخامس : زعم "رسل" أن فكرة الخلود فكرة بالغة البطلان والاستحالة ، إذ لو كان الخلود هو المصير الذي ينتصر النفس بعد الموت ، فما السبب إذن في عجز النفس عن أن تشغل لها حيزاً إلى جانب الجسد في هذه الحياة الدنيا؟
ما أشد ضعف هذا الاستدلال لإبطال فكرة بقاء الروح بعد الموت ، ولإبطال فكرة الحياة الآخرة والخلود فيها .
إذا كانت ظروف هذه الحياة الدنيا تستدعي كون الجسد المادي هو الوعاء أو الثوب الذي تظهر به في الماديات حركة الروح ، وتظهر به نشاطاتها .
وإذا كانت خطة الخالق الحكيم القدير قضت ذلك .
فهل يفيد ذلك أن الروح قد عجزت عن أن توجد مستقلة عن الجسد؟!
إن هذا الفهم السطحي القاصر هو من لوازم الانغلاق في حدود بعض ظواهر المدركات الحسية ، على أن التعمق القليل فيها يكشف أن معظم الماديات أوعية لطاقات هائلة ، وهذه الطاقات ليس لها وجود مستقل في غير أوعيتها .
يضاف إلى ذلك أن البصيرة العقلية ومستنبطاتها التجريدية لا تسمح مطلقاً بالانغلاق في حدود المادة .
إن الشيء الذي لا نشاهده في الواقع الحسي لا يلزم عقلاً أن يكون غير ممكن الوجود ، فعدم الوجود فعلاً لا يدل على استحالة الوجود .
فما بالك بالحكم على الواقع بأنه غير موجود ، وبأنه مستحيل ، لمجرد أننا لم نشاهده في دوائر حواسنا المحدودة جداً ؟!.
إن هذه المادّية السطحيّة ذات النظر القاصر ، حتى من وجهة نظر العلميين المادّيين ، فضلاً عن الذين يؤمنون بأن في الوجود الكبير حقائق كبرى ، لا تستطيع الوسائل العلمية التجريبية أن تتوصل إلى إدراكها وإثباتها ، وإنما ثبتها العقل بتأملاته الاستنباطية ، القائمة على اللوازم المنطقية ، والبراهين العقلية .(52/93)
أبهذا الاستدلال الواهن الواهي جداً يقرر الفيلسوف "رسل" إمام ملاحدة هذا العصر : أن فكرة خلود النفس فكرة بالغة البطلان والاستحالة؟!
إنه لسخف عجيب ، ومسلك من أمثاله غريب!!
الكاشف السادس: حين سُئِل "رسل" : هل يحيا الإنسان بعد الموت؟ وأجاب بالنفي ، ثمّ شرح جوابه بالمقولة التي سبق ذكرها لدى عرض آرائه . لم يقدّم غير الإنكار ، وادّعاء أنه من الصعب اكتشاف مبرر عقلي لهذه الحياة بعد الموت ، وادعاء بأنه ليس له مرتكز أو أساس علمي .
وأكرر هنا ما كتبته في كتاب "صراع مع الملاحدة حتى العظم" فأقول :
لا بدّ أن نضع كلام "رسل" تحت مناظير البحث العلمي ، لنرى قيمته من الوجهة العلمية .
ليس غريباً على "رسل" بعد أن اختار سبيل الإلحاد بالله ، واعتبار الكون ظاهرة مادية بحتة ، على خلاف ما قدّمته الأدلة البرهانية العقلية ، والاستنباطية من الظاهرات الكونية ، أن يصعب عليه - في الإطار المادي الصرف - اكتشاف المبرّر العقلي للحياة بعد الموت .
وليس غريباً عليه بعد ذلك أن لا يجد لعقيدة الحياة بعد الموت ، وعقيدة الدار الآخرة للحساب والجزاء ، مرتكزاً علمياً يستند إليه .
إن من ينكر حياة كائن ما بغير دليل ، يجد من الصعب عليه أن يكتشف المبرِّر العقلي لوجود إرادة لهذا الكائن ، لأن إرادته فرع لتصور حياته ، وبعد إنكار الأصل يكون إنكار الفرع شيئاً طبيعياً ، ومذهباً سهلاً ، لكن هذا الإنكار لا يعبّر عن الواقع بحالٍ من الأحوال .
إن الإيمان بالحياة بعد الموت للحساب والجزاء ، في دار غير هذه الدار ، قضية تعتمد على أصلين:
الأصل الأول : الإيمان بالله الخالق وعلمه وقدرته وحكمته وعدله ، فمن آمن بالله وبحكمته وعدله ، وضحت له ضرورة الجزاء ، بعد ظروف الامتحان في هذه الحياة الدنيا .
الأصل الثاني : الإيمان بالوحي الرباني ، وما جاء عنه من أخبار على لسان المرسلين .
فمن آمن بالله وبرسله ، كان لزاماً عليه أن يصدّق بالأخبار التي تأتي عنه على لسان رسله . ومنها الأخبار التي تبين وقائع المستقبل الذي قضاه الله بمقتضى حكمته ، فهو آتٍ لا محالة كما قضى وكما أخبر .
إن قضية الجزاء قضية عقلية لا محالة ، وهي مستندة إلى القضية العقلية الأولى ، وهي الإيمان بالله وكمال صفاته ، ومنها حكمته التي لزم منها أن لا يكون الامتحان في هذه الدنيا عبثاً ، فلا بد بعد الامتحان من حساب وجزاء ، في حياة غير هذه الحياة .
لكن الدار الآخرة وما فيها من جنة ونار قضية خبرية ، تستند إلى ما اختاره الخالق ، فوضعه في خطة الخلق ، وجعل له زماناً يتم فيه تنفيذه . وهي ليست قضية عقلية بحتة ، حتى نبحث في نطاق العقل عن دليل يدل عليها ، دون الاستناد إلى خبر عن الله صاحب الخطة .
لو أن عالماً من علماء الحيوان تحدث عن وجود حيوان بري غريب رآه بعينيه ، وأخذ يصف مشاهداته الحسية له ، ثمّ جاء سماك فقال :
لا أجد المبرر العقلي لوجود هذا الحيوان الغريب الذي يتحدث عنه هذا العالم ، فأنا لم أشاهد في البحر نظيره ، لما كان كلامه أكثر سقوطاً من ناحية الاستدلال العلمي من كلام "برتراند رسل" ، إذ أنكر وجود الحياة بعد الموت في ظروف غير ظروف هذه الحياة الدنيا ، على الرغم من أن هذا الرجل فيلسوف وعالم واسع الاطلاع ، إلا أن الهوى قد يحوّل العقل الفيلسوف الكبير ، إلى عقل هذا السماك .
وأضرب مثلاً آخر يشابه إنكار "رسل".
لو أن شركة "مرسيدس" الألمانية ، وضعت في خطتها أن تنتج سيارة بعد ربع قرن ، ذات صفات معينة حددتها ، ورسمتها ، وقدمت فيها لعملائها بعض مصوراتها ، وذكرت لهم قرارها في ذلك ، وقدمت لهم عروض مبيعات رخيصة الثمن على طريقة السلف ، أو السلم .
ثمّ جاء حوذي عربة نقل تجرها البغال في الأدغال ، فقال : لا أجد المبرر العقلي لإمكان وجود هذا النوع من السيارات التي قررت إنتاجها شركة "مرسديس" التي لا أعرفها ولا أؤمن بوجودها .
ألا يوجد تطابق كبير بين حال هذا الحوذي في إنكاره ، وحال "رسل" الفيلسوف الكبير؟.
فاعجب للهوى كيف يسقط صاحبه!!
لقد أراد "رسل" أن يخضع الدار الآخرة ، والحياة الأخرى ، للمقاييس التجريبية التي نخضع لها ظواهر هذا الكون المادّية ، في ظروف الحياة الدنيا التي نعيش الآن فيها ، مع أن الدار الآخرة ، والحياة الأخرى ، لا تخضعان منذ الآن لهذه المقاييس ، وهما عنا وراء ستار الغيب الذي أخبر عنه خالقه وواضع خطته القدير العليم الحكيم .
إن "رسل" بقياسه هذا يشبه من يزن الضغط الجوي بميزان البقال ، أو يزن الكثافة بميزان الحرارة ، أو يقيس الذكاء بمساحة الجمجمة ، أو يزن بحور الشعر بالسانتمتر .
ما هو مبلغ إنكار أي فيلسوف من الصحة ، إذا هو أنكر قراراً أصدرته دولة كبيرة قادرة ، بأنها ستنشئ في برنامج خطتها لربع قرن ، مدينة نموذجية بديعة جداً ، ولا تسكن فيها إلا الصالحين من شعبها ، وسجوناً لمعاقبة الجانحين والخارجين على قوانينها وأنظمتها؟!
فإذا قال فيلسوف كبير: لا أجد مبرراً عقلياً أو علمياً يؤكد أن مَنْشَأَتين من هذا القبيل ستحدثان ، أفيكون كلامه مقبولاً لدى العقلاء الذين علموا بقرار الدولة؟.(52/94)
كان الأحرى به أن يبني إنكاره لقضية الحياة بعد الموت ، والدار الآخرة ، على إنكاره لخالق الكون ، وذلك لأنه بجحوده للأساس الأول لزمه أن يجحد كل ما يلزم عنه ، وعندئذٍ تكون مناقشته من مواقع هذا الأساس ، لا مما يتفرع عنه ويُبنى عليه .
إن من يعتبر أن أساس الوجود مادة لا حياة فيها ، ولا علم ولا إرادة ولا حكمة ، لا بد أن يتصور أن الكون لا يمكن أن يهتم بآماله ورغباته وآلامه وسائر مشاعره ، فيقول مقالة "رسل" :
"لا أجد أي مبرر لافتراض أن الكون يهتم بآمالنا ورغباتنا ، فليس لنا حق في أن نطلب من الكون تكييف نفسه وفقاً فعواطفنا وآمالنا".
لكننا إذا تعمّقنا في دراسة نفوس الملاحدة ، الذين أنكروا وجود الله جحوداً ، بعد النظر في الأدلة على وجوده ، نجد أنهم هم الذين يريدون أن يكيّفوا الكون وفق رغباتهم وأهوائهم ، وذلك لأن الإيمان بالدار الآخرة والحياة الآخرة ، إنما هو إيمان بمحكمة العدل الرباني ، وما تستتبع من جزاء ، والرغبات الإنسانية لو تركت وشأنها لحلا لها أن تتخلص من قانون الجزاء لكي تنطلق في فجورها دون أن تقف في طريقها حدود أو ضوابط .
فقضية الإنكار هي القضية التي تحاول إخضاع الواقع الكوني للأهواء والعواطف والرغبات والشهوات ، لا قضية الإيمان باليوم الآخر .
وقد كشف القرآن هذه الحقيقة من حقائق نفوس المنكرين ، فقال الله عزّ وجلّ في سورة (القيامة/75 مصحف/31 نزول):
{بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}
بهذا التحليل تبين لنا أن الأمر على عكس ما ادّعاه "رسل" تماماً ، إذ أن عقيدة الدار الآخرة عقيدة قائمة على مفهوم الجزاء والعدل ، والإنسان ميال بأهوائه وشهواته إلى أن يصرف عن تصوره قانون العدل الرباني وما يتصل به ، لينطلق في حياته فاجراً ، دون أن تقف في طريقه تصوّرات قانون العدل .
لكن الله غر مستعد لأن يغير من سننه وأحكامه ومقاديره القائمة على أسس من علمه وحكمته وعدله ورحمته وفضله ،تلبيةً لرغبات الفاجرين .
فما حاول أن يستند إليه "رسل" هو في الحقيقة دليل ضدّه ، وليس دليلاً له ، هذا إذا قبلنا بالمنهج الذي سلكه في الاستدلال .
الكاشف السابع : ما صبّه "رسل" من شتائم ضد الدين , إذ زعم أن الدين لا يقوم إلا على عوامل الترهيب والتلويح بالعقاب ، كلام كذب على الدين .
وذلك لأن الدين يقوم على ثلاثة عناصر أساسية:
الأول : الهداية الفكرية للتي هي أقوم ، وهي تشتمل على وسائل الإقناع ، والتعليم ، والتربية المختلفة ، وإيجاد الحافز الذاتي للفعل حباً بالخير ، وابتغاء مرضاة الله .
الثاني : الترغيب بالثواب العظيم ، لمن آمن واستقام ، وبهذا الترغيب يمارس المؤمن الاستقامة وفعل الخير والأعمال الصالحة ، مدفوعاً بحافز الأمل الكبير فيما أعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، من أجر عظيم ، وثواب جزيل ، في جنة الخلد ، دار النعيم المقيم الذي لا نهاية له.
الثالث : الترهيب من العقاب بالعدل ، الذي رتبه الله للذين كفروا ويعملون السيئات .
وقد أعتد الله لهذا العقاب بالعدل ، داراً للجزاء الأكبر ، بعد ظروف هذه الحياة الدنيا .
وهذا الترهيب نفسُه مقرون بالترغيب في التوبة ، والعفو ، والغفران ، وتكفير السيئات لمن تاب واستغفر ، ما دامت ظروف الامتحان قائمة في هذه الحياة الدنيا .
وباستطاعة أي إنسان أن يستدرك أمره ، فيتوب من ذنبه ، ويستغفر الدين ، على خلاف ما زعم "رسل" .
أما وجود الجانب الترهيبي فهو ضرورة ، لا تستقيم المجتمعات البشرية ، ولا تتحقق ، إلا به .
فهل صحيح كما زعم "رسل" أن الدين لا يقوم إلا على عوامل الترهيب والتلويح بالعقاب ؟
وهل صحيح أن الدين يشكل ضرباً من ضروب الشر التي تملأ هذا العالم؟.
الواقع أن أعظم قسط من الشر في العالم ، هو ما يمارسه الملاحدة الماديون الذين لا دين لهم . ومها اقترب الإنسان من الاستمساك بالعقائد والشرائع الدينية الصحيحة خفت الشرور عنده .
وأقل الناس في الدنيا شراً ، وأكثرهم خيراً هم المؤمنون بالله واليوم الآخر ، الملتزمون تعاليم الدين الحق ، وهم يرجون ثواب الله ويخشون عقابه .
وقد عرفنا في تاريخ البشرية أن المحرومين من فضائل الأخلاق هم الذين ينفرون من الدين ، لأنه يفرض عليهم الأخذ بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، وكلما اشتد في الإنسان الانهيار الخلقي ابتعد عن الدين حتى دركة الإلحاد والكفر بالله واليوم الآخر .
وبرهان ذلك الملاحدة الشيوعيون ، من مستوى الفرد الشيوعي ، حتى أكبر دولة شيوعية ملحدة ، وكذلك سائر الماديين الملحدين .
أما النضج العقلي الصحيح فمن ثمراته الإيمان بالحق ، ولما كان الدين الصحيح هو مجمع عناصر الحق الكبرى ، التي تكشف مبدأ الإنسان وواجبه ومصيره ، كان نوابغ الدهر المتمتعون بالنضج العقلي الصحيح ، قمة الآخذين بالدين ، والمستمسكين بتعاليمه ، والداعين إليه .
وأما زعم "رسل" : "أن المعايير الدينية تناهض بطبيعتها جميع المعايير الإنسانية الخيرة التي يجب أن تسود عالمنا الحديث".(52/95)
فلست أدري عن أي معايير يتحدث ، إنه لم يذكر لنا معياراً واحداً من معايير الدين التي يرى أنها تناهض جميع المعايير الإنسانية الخيرة ، التي يجب - فيما يرى - أن تسود عالمنا الحديث؟!.
إن من أسس معايير الدين التي نعلمها ، وجوب إحقاق الحق وإبطال الباطل ، ووجوب إقامة العدل في الأرض ، ووجوب الدعوة إلى فعل الخير وترك الشر . ونجد من أسس معايير الدين تكريم الإنسان ، ونشر الإحسان في الأرض ، ونجد فضائل التعاون والتآخي والنظام وإتقان العمل ، ونجد محاربة الفحشاء والمنكر والبغي ، ومقاومة الرذائل ، لأن من شأنها جلب الشرور للإنسانية . ونجد من أسس معايير الدين العمل على إسعاد البشرية ورفاهيتها ، وإزالة العداوات والبغضاء التي تولّدها أنانيات أفراداها وجماعاتها ، إلى غير ذلك من معايير لا تجد البشرية أكمل منها ولا أفضل ...
فعن أي المعايير الدينية يتحدث ، حتى نناقشه في ادّعائه بأنها تناهض جميع المعايير الإنسانية الخيرة؟!.
أهكذا تُطلَق الشتائم دون أي دليل ، ودون ذكر أي مثال واحد للمدعي؟
ومع ذلك فإن أحكام "رسل" تأتي أحكاماً تقريرية لها صفة الشمول والعموم .
أهذا هو المنهج العلمي الرصين للفيلسوف الكبير؟!.
واعجباً!!
منطق الملحدينْ * * * منطقٌ مبتكر
من عُواءِ الكلابْ * * * أو قرون البقرْ
فاسخري يا عقولْ * * * واهزؤوا يا بَشَرْ
الكاشف الثامن: زعم "رسل" أن حرية الاختيار في الإنسان تغنيه عن البحث عن نظريات أخلاقية لا طائل وراءها ، مدّعياً أن إرادته الحرة تدفعه إلى أن يقيم لنفسه مُثلاً عليا ، يطمح بها إلى تحقيق حياة خيّرة تسير على هدي المعرفة والمحبة الإنسانية .
هذه الدعوى الباطلة التي قدّمها دون أي دليل ، منقوضة ببرهان التحليل النفسي ، وبرهان الواقع .
أما التحليل النفسي فيثبت أن الإرادة الحرة في الإنسان قوة موجهة للسلوك الإنساني حقاً ، إلا أنها تقع تحت تأثير باعثين داخل نفسه : فتقع تحت تأثير العقل الهادي إلى الخير أحياناً ، وتقع تحت تأثير الأهواء والشهوات والنزعات النفسية المختلفة أحياناً أخرى ، وعندئذ يضعف باعث العقل أو يُغشى عليه ، فتفسد رؤيته .
فو ترك الإنسان وشأنه دون ضوابط أو روادع أخلاقية تحدّ سلوكه في طرق الخير والفضيلة وكل ما هو نافع ومفيد ، لكانت إرادته الحرة عرضة لمؤثرات أهوائه وشهواته وأنانياته ونزغاته الجاحنة إلى سُبل الشرّ ، بنسبة أعظم بكثير من تأثرها بالمعرفة النافعة والمحبة الإنسانية .
وما من إنسان إلا يعرف هذا من نفسه ، ومن كل من عرف من الناس .
وأما برهان الواقع فيقدمه واقع حال الظالمين والطغاة والبغاة والمجرمين وكل العصاة في الأرض . وهؤلاء هم النسبة الأكثر في مجموعات الذين لا يخشون الله واليوم الآخر ، ولا تحد من انطلاق إرادتهم الحرة ضوابط أخلاقية مقرونة برجاء ثواب ، أو خوف عقاب .
الكاشف التاسع : السلوك الأفضل الذي رآه "رسل" هو الإباحية الجنسية ، وصور الزواج الجماعي .
ولذلك اعتبر أن التشريعات الأخلاقية الجنسية إنما ترتكز على تصورات خرافية باطلة .
إنه يدعو إلى هذه الإباحية الفوضوية ، رغم ما فيها من شرور صحية واجتماعية ، وانتكاس للمجتمع البشري ، ومنافاة للشروط السليمة التي تضمن سعادة الجنس البشري واستقراره وطمأنينته ، وسعادة الأسر والأنسال .
على أننا نقول : إن من هان عليه أن يجحد الحقائق الكبرى ، التي تتصل بمبدأ الإنسان وواجبه ومصيره ، لا بد أن يجد الإباحية الجنسية أمراً سهلاً ، فقد أبعد عن تصوّراته وظيفته في الحياة ، وأنه عبد مخلوق ممتحن ، وأن عليه إذا أراد أن يجتاز الامتحان بنجاح أن يؤمن بربّه أولاً ، ثمّ يعبده ثانياً ، فيطيعه ولا يعصيه ، والطاعة تكون بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه .
ويلاحظ هنا أن المكر الشيطاني يعتمد على تزيين ما تستحليه النفوس ، ودغدغة مواطن الشهوات ، لإيقاظها وتهييجها ، وتبرير انطلاقها الوقح الفاجر ، وإغضاء النظر عن العواقب الوخيمة التي تنتج عن ذلك .
الكاشف العاشر : اعترف "رسل" بأن السعادة هي المطلب الأسمى للإنسان في هذا الوجود .
إلا أنه أراد أن يضلل قراءه ، إذ حاول الإيهام بأن السبيل الوحيد للوصول إلى السعادة هو الانطلاق الفاجر الوقح إلى تلبية رغبات النفوس وأهوائها وشهواتها ، دون اكتراث بعوامل الخوف من الجزاء .
وجعل هذا الانطلاق الفاجر الوقح من فضائل الشجاعة والإقدام ، وزعم أن الإنسان يقهر بهذه الشجاعة وعوامل الخوف والإرهاب ، اللذين دأبت الحياة والشرائع الأخلاقية على التلويح بهما في وجه الإنسان .
ولكن ماذا سيحصل لو أن الإنسان خلع حياءه ، ولم يبق لديه خوف من الجزاء ، وانطلق في الحياة انطلاقاً فاجراً ، تدفعه إليه أهواؤه وشهواته وأنانياته؟
إنه حتماً سيكون وحش مسعور ، وبانطلاق الوحوش المسعورة من كل مكان يعم الظلم والطغيان ، والفسق والفجور والعصيان ، ويكثر القتل ، وتنهار أبنية الحضارة .
أليس هذا هو حال المجرمين في الأرض وقطاع الطرق؟(52/96)
نعم : هذه هي النتيجة التي يريدها هذا الفيلسوف وأمثاله ، ومنظمات التدمير البشري التي دفعته لإطلاق قنابل التدمير الإلحادية ، والإباحية غير الأخلاقية .
الكاشف الحادي عشر : من الخرافات التي تلبس ثوب العلم ، خرافة دراسة الإنسان ذي العقل والإرادة الحرة ، ذات الاختيارات المتناقضة في الأفراد ، وفي الفرد الواحد بأزمان مختلفة ، كدراسة الأشياء غير ذات الإرادات الحرة ، والمسيرة بطبائعها الجبرية .
وعلى هذه الخرافة قامت أبنية الفكر الإلحادي ، والفكر المادي بوجه عام .
واعتماد عليها قال "رسل" :
"إن تحقيق السعادة على وجهها الأكمل للإنسان لا تتم إلا بدراسة الطبيعة ، حتى في صورته الإنسانية دراسة علمية".
أي : كما تدرس في المعامل الأشياء في الطبيعة ، كسلوك الذرة ، وسلوك الخلية ، وكما يدرس النبات ، وتدرس الحشرات ، والأسماك والضفادع ، وغير ذلك من الكائنات في الطبيعة .
هذا التوجيه الخرافي يدعو إلى إطلاق السلوك الإنساني دون أي ضابط ، ثمّ إلى دراسته كما هو في الواقع ، واعتبار هذا الواقع هو الصورة الكاملة الصحيحة لسلوك الناس ، وبه تتحقق سعادة الإنسان ، أي : ولو استشرت قوة الأقوياء ، وأهلكت معظم البشرية ، وظلمتهم وعذبتهم واستعبدتهم .
الكاشف الثاني عشر : كلام "رسل" عن تطور الكون من السديم الذي دار عبثاً ، حتى وصل إلى ما هو عليه الآن من إتقان عجيب عن طريق المصادفة ، وأنه سيعود إلى ما كان عليه عند انطلاقته الأولى ، وأنه لا أمل لكائن بعد ذلك بشيء ، كلام خيالي صرف ، وهو لا يعبّر بحال من الأحوال عن أية حقيقة علمية .
إنه محض تخيل يجري نظيره في خيال أي كاتب لقصة خرافية .
إن مدعي الالتزام بالمناهج العلمية يزعمون أن العلم هو ما تقدمه التجربة ، ويخضع للاختبار المعملي ، حتى إن "رسل" قد حصر العلم - كما سبق بيانه - في العلوم الطبيعية وحدها ، فما باله هنا يتجاوز حدود العلوم الطبيعية والمعارف العقلية إلى الخيال المحض ، ثمّ يجعل من هذا الخيال حقيقة علمية .
وما بال الملاحدة يعتبرون مثل هذه القصة الخيالية التي تتحدّث عن الكون من الأزل إلى الأبد ، هي النظرة العلمية ، مع أن موضوعها لا يمكن إخضاعه لا للتجربة ، ولا للملاحظة ، ولا للاستنتاج العقلي .
إنهم يجعلون الاستنتاج العقلي المنطقي خارج قوس النظرة العلمية ، لأن الاستنتاج العقلي المنطقي مهما كان دليله برهانياً ، ليس ثمرة التجربة الحسية .
فلماذا إذن يجعلون الأوهام الخيالية الخرافية داخل قوس النظرة العلمية ، وهي غير ذات قيمة مطلقاً ، لا عند العقل ولا عند الحس ، إنه الهوى والتَعَصُّب الأعمى ضدّ قضيّة الإيمان بالله الخالق؟
ما أبعد المناهج العلمية عن القصص التقريرية الخيالية ، التي تستنتجها أخيلة الكتاب والأدباء والشعراء ، أو أخيلة واضعي الآراء والمذاهب الباطلة ، لأغراض معينة!!
أين الأمانة الفكرية والأمانة العلمية التي يزعمونها ؟!.
أهذا هو المنهج العلمي السليم لديهم؟!.
لا بد أن يكتسحهم الحق كما اكتسح الذين من قبلهم من أهل الضلال في تاريخ البشرية ، ولا بد أن يقذفهم كما يقذف السيل الزبد .
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ...*}.
{وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}.
============(52/97)
(52/98)
سلسلة كشف الشخصيات (30) كارل ماركس
بقلم عبد الرحمن حسن حبنكة الميدانى من كتاب كواشف زيوف
http://www.eltwhed.com/vb/showth r ead.php?t=4581
"كارل ماركس" وآراؤه الإلحادية في مذهبه الشامل
من هو "كارل ماركس"؟
هو مؤسس الشيوعية المعاصرة (أو ما يُسمى بالاشتراكية العلمية). والشيوعية مذهب اقتصادي اجتماعي وضع له أساس اعتقاديٌّ فكري ، قائم على إنكار وجود رب خالق لهذا الكون ، وأن المادة هي كل الوجود ، وأن أحداثها وتغيُّراتها مع أحداث التاريخ الإنساني تخضع لقانون جبريّ مزعوم في المادة ، على أنه صفة من صفاتها الذاتية ، أساسه فكرة فلسفية عنوانها "الماديّة الجدلية" .
وهو يهودي ألماني ، عاش ما بين (1818 - 1883 م). كان أبوه محامياً في ألمانيا ، فصدر قرار بمنعه من ممارسة المحاماة بسبب يهوديته ، فاعتنق المسيحية نفاقاً ، وعمّد أبناءه الثمانية وقد كان "كارل" في السادسة من عمره . لم يواصل دراسته الجامعية . وكان صاحب مزاج خاص . عاش على نفقة أبيه أولاً ، ثم على ما كانت تعطيه أمه وأخته المريضة . ثم على ما كان يبذله له صديقه ورفيقه في تأسيس الشيوعية "إنجلز" . من أساتذته الكبار الذين أثروا فيه اليهودي (موسى هس) رائد الصهيونية . تخلّى عن جنسيته الألمانية سنة 1845م.
ألف كتاب "المسألة اليهودية" وكتاب "رأس المال" . تعرض من أجل بعض ما كتب لهجوم اليهود والمسيحيين عليه ، لكن رائد الصهيونية "موسى هس" دافع عنه ، منبهاً على أن التراث اليهودي موجود في صلب مذهبه . وهذا يدل على أن التوجيه لتأسيس الشيوعية نابع من قيادة الحركة الصهيونية الخفية .
أسس المذهب الشامل الذي طرحه "كارل ماركس"
يتناول مذهبه الشامل الذي طرحه ما يلي :
الأول : إنكار وجود الله ، واعتبار المادة أزلية أبدية ، وهي كل شيء في الوجود .
الثانية : تفسير حركة المادة وتغيراتها بما يُسمّى بـ"المادية الجدلية" ، وهي فكرة اقتبسها "ماركس" من الفيلسوف المثالي "هيجل" وحذف منها ما ذكره "هيجل" من أن سنة الخالق في الخلق تجري وفق النظام الجدلي الذي تصوره . وزعم "ماركس" أن الإنسان هو الذي اخترع من عنده فكرة الرب الخالق .
الثالث : التفسير المادي للتاريخ الإنساني ، ويتلخّص بادّعائه أن التاريخ الإنساني خاضع أيضاً لنظام "المادية الجدلية" الذي زعم أن طبيعة المادة والحياة التي هي نتاج المادة ، بحسب زعمه ، خاضعة له .
الرابع : "الاشتراكية العلمية" أو "الشيوعية" وهي المذهب الاقتصادي الذي يقوم على إلغاء الملكية الفردية إلغاءً كاملاً في نهاية التطبيقات الاشتراكية ، وجعل الدول الممثلة للمجتمع هي المالكة لكل شيء ، والقاعدة الاقتصادية التي تطبق على الجميع هي : "من كل حسب استطاعته ، ولكل حسب حاجته".
الخامس : السبيل لإقامة الدولة الشيوعية هو سبيل الثورة المدمرة ، والوقوف ضد أي إصلاح اقتصادي أو اجتماعي قبل إقامتها .
السادس : النظام الاجتماعي في الدولة الشيوعية نظام تطلق فيه الحريات الشخصية على أوسع مدى ، بشرط أن لا تمس المبادئ الشيوعية أو نظام دولتها ، وأوامرها . وحينما تصل الدولة الشيوعية إلى غايتها المرسومة لها ، تلغى الأسرة ، وتكون العلاقات والممارسات الجنسية مشاعاً ، فكل الرجال لكل النساء ، أما الذرية فهي للدولة الشيوعية .
السابع : الأخلاق والقيم التقليدية المتعارف عليها بين الناس تلغى ، وتقوم بدلها أخلاق الطاعة للدولة الشيوعية وتنفيذ أوامرها وبرامجها ، وكل ما يحقق المجتمع الشيوعي ، مهما كان منافياً للأخلاق التقليدية .
الثامن : النظام السياسي والإداري الذي تقوم عليه الدولة الشيوعية ، هو الديكتاتورية الاستبدادية الصارمة ، التي تتولاها قيادة جماعية ، تقع في رأس هرم الحزب الشيوعي ، وتُسمَّى "ديكتاتورية" طبقة "البروليتاريا".
كشف الزيف
إنّ كشف الزيوف التي اشتملت عليها آراء "كارل ماركس" في المذهب الشامل الذي طرحه ، يتناول موضوعات كثيرة مختلفة .
ويجد القارئ كشف زيوفها في مواضع عديدة من هذا الكتاب بحسب موضوعاتها .
على أن النقد الرئيسي الشامل لها أنها ادعاءات تقريرية ، لا تعتمد مطلقاً على أي دليل عقلي أو علمي حسي تجريبي .
وكل ما قدمه دعاوى وآراء بدون بينات ، أو أدلتها وهمية .
يضاف إلى ذلك أن آراءه ذاتَ الآثار التطبيقية قد كشف الواقع التطبيقي فسادها وبطلانها ، وواقع الدولة الشيوعية برهان على ذلك .
=============(52/99)
(52/100)
سلسلة كشف الشخصيات (31) : نجيب محفوظ
تقرير موجز يكشف حقيقة الروائي ( نجيب محفوظ )
المصدر
بعد وفاة الروائي نجيب محفوظ بالأمس من المتوقع أن تقوم معظم وسائل الإعلام العربية بعمل هالة من البطولة الزائفة والعظمة المصطنعة له ، محاولة حجب حقيقته عن المتلقين ؛ لذا أحببت أن أساهم بهذا التقرير الموجز عنه ، دالا القارئ على الدراسات والمقالات التي توضح له الحقيقة دون زيف إن أراد الاستزادة :
- ولد نجيب محفوظ سنة 1911م في القاهرة، وبدأ رحلته مترجماً وكاتباً سنة 1932م قبل أن يتخرج سنة 1934م في جامعة القاهرة - قسم الفلسفة - . عمل موظفاً في إدارة الجامعة، وفي وزارة الثقافة حتى تقاعده عام 1971م. نال جائزة نوبل عن روايته السيئة "أولاد حارتنا" عام 1988م .
- له 52 عملاً روائياً من أشهرها: همس الجنون (1938م ) عبث الأقدار (1939م ) رادوبيس (1943م ) القاهرة الجديدة (1945م ) خان الخليلي (1945م ) زقاق المدق (1947م ) بداية و نهاية (1950م ) الثلاثية : - بين القصرين (1956م ) قصر الشوق (1957م ) السكرية (1957م ) - أولاد حارتنا (1959م ) اللص والكلاب (1961م ) السمان و الخريف (1962م ) الطريق (1964م ) الشحاذ (1965م ) ثرثرة على النيل (1966م ) ميرامار (1967م ) المرايا (1972م ) .
- كانت وجهته أول الأمر فرعونية جسدتها رواياته الأولى : (رادوبيس- كفاح طيبة- عبث الأقدار) . ثم توجه إلى الماركسية .
- استفاد الوجهتين - الفرعونية والماركسية - من أستاذه النصراني الحاقد على الإسلام " سلامة موسى " ، ويجد القارئ على ( هذا الرابط ) حقيقة أفكار أستاذه . يقول نجيب : "كان سلامة موسى هو الراعي والمربي الأدبي لي، نشر لي وأنا بعدُ في الثانوي ثم في الجامعة عشرات المقالات وكتاباً مترجماً، وأول رواياتي، إنه أستاذي العظيم" . (نجيب محفوظ بين الإلحاد والإيمان، ديب علي حسن، ص 30) . ( ويُنظر : "نجيب محفوظ يتذكر، ص45 " ، و " أتحدث إليكم، ص 59-60، وص87" ) . ويقول : " كان لسلامة موسى أثر قوي في تفكيري، فقد وجهني إلى شيئين مهمين، هما العلم والاشتراكية، ومنذ دخلا مخي لم يخرجا منه إلى الآن " . ( نجيب محفوظ يتذكر ، إعداد جمال الغيطاني ، ص 88 ) . ولذا قال الدكتور سيد فرج عنه : "اختزن أفكاراً حاقدة على الإسلام والمسلمين، رضعها من فكر النصراني الذي كان يُشهر إلحاده: سلامة موسى" ( أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب ، ص 55) . لقد حدد نجيب محفوظ موقفه من الدين ومن الإسلام بالذات منذ وقت باكر حسبما وجه أستاذه سلامة موسى بأن مهمة الدين قد انتهت وأن العالم يعيش ديناً جديداً هو الاشتراكية .
- تدور معظم رواياته حول أمرين : الماركسية ( وقد يسميها كذبًا بالعلم ) ، والجنس ( تعاطفًا مع المومسات والمنحرفات استجابة لنظرته الماركسية ) . قال له أحدهم : "إن من يتابع أعمالك الفنية قبل الثورة وبعدها يكتشف بوضوح أنك كنت تميل إلى حزب الوفد قبل الثورة .. أما بعد الثورة فمن الواضح أنك أصبحت تميل إلى الفكر الماركسي، فالماركسيون في رواياتك هم الأبطال الشهداء، وحاملوا الزهور الحمراء، وهم الذين يضيئون الحياة بنور الأمل في الظلمات..." ، فرد عليه قائلا : "لقد شخصتني فأجدت التشخيص" (أتحدث إليكم ، ص 15-16) . وقال في لقاء آخر : "إني مناهض للرجعية، وإن المثل الأعلى الذي أحترمه على الجيل الحالي هو الاشتراكية" (الشخصية وأثرها في البناء الفني لروايات نجيب محفوظ، نصر عباس، ص 29 نقلاً عن مجلة آخر ساعة) . ويقول : " سنحل الأمور الاجتماعية بالاشتراكية" (المنتمي، غالي شكري، ص295). وسأله سائل متعجبًا : " لماذا تستأثر المومس بمكانة كبرى في كتاباتك؟ " (مع نجيب محفوظ لكاتب أحمد عطية، ص23) . وقال عنه أحد رفقائه في الانحراف - خليل عبدالكريم - : " إن روايات نجيب محفوظ -ما عدا أولاد حارتنا- حفلت بحشد هائل من البغايا والراقصات والقوادين والديوثيين واللصوص والنشالين والفتوات وصانعي العاهات والمرتشين والملحدين". ( كتاب العصر ، أنور الجندي ، ص 201 ) . " إن قصص نجيب تقوم على الحط من قدسية الدين وهيبته، ومزج رموزه مع الخمر والجنس والنساء، وبالذات احترام المومسات، فلا تكاد تخلو قصة من قصصه من المومسات " ، و " حفلت قصصه التي تمثل تاريخ مصر بصور نساء غارقات في الخيانة، ومجتمعات تفوح منها رائحة الحشيش والإباحة " . ( السابق ، ص 206-207 ) . يقول الأستاذ أنور الجندي - رحمه الله - : " الجنس واضح في معظم روايات نجيب محفوظ، شأنه في ذلك شأن إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي، ولكنه عند محفوظ أشد خطورة؛ فهو يجعله نتيجة للفقر، ولا يرى للمرأة إذا جاعت إلا طريقاً واحداً، هو أن تبيع عرضها " . ( الصحافة والأقلام تالمسمومة ، ص 191 ) .(52/101)
- يوهم نجيب محفوظ قارئ رواياته أن هناك تناقضًا بين العلم - ويعني به عند التدقيق الماركسية الإلحادية ! - والدين . ثم يكون الحل في نظره باستبعاد الدين ليحل العلم محله ! ولكن أي دين يصوره نجيب في رواياته ؟ إنه دين الدروشة والخرافة والتصوف الذي عاشه في بيئته الكئيبة ، فنبذه متوجهًا إلى الماركسية بتوجيه من شيخه - كما سبق - . ولو كان صادقًا مع نفسه لعلم أن هذا الدين الخرافي هو مجرد بدع وشركيات يحاربها الإسلام الصحيح الذي لا تناقض بينه وبين العلم الدنيوي النافع . ولاعذر لنجيب ؛ لأن دعاة الكتاب والسنة كانوا منتشرين في بلاده تلك الأيام - ولله الحمد - ، ولكنه آثر الانحراف والتمادي في الباطل .
- يعتمد نجيب محفوظ في معظم رواياته - خاصة الأخيرة - على اللغة الرمزية ، مستفيدًا من دراسته الفلسفية . وهذه الرمزية تتيح له أن يبوح بفكره الماركسي ، ولمزه للإسلام بواسطة الرموز التي لاتُدرك إلا بعد التأمل ( يُنظر مقال الأستاذ عبدالعزيز مصطفى : أقلام الردة ، في مجلة البيان العدد 125 ، لمعرفة شيئ من دلالات رموزه في بعض قصصه ) . والرجل - حسبما تبين لي - يغلب عليه الجُبن والخوف من المواجهة . ( على سبيل المثال لامه بعض النقاد لوقوفه مع الناصرية ثم انقلابه عليها بعد وفاة جمال عبدالناصر ! ) .
- أعطى الغرب نجيب محفوظ جائزة نوبل عن روايته " أولاد حارتنا " ، التي بدأ نشرها مسلسلة في جريدة الأهرام سنة 1959م ثم ظهرت في كتاب عام 1967م عن دار الآداب ببيروت. وهي رواية رمزية تجرأ فيها على الله سبحانه وتعالى ، وعلى الأنبياء عليهم السلام ، وعلى الإسلام . وملخصها لايخرج عن فكرته السابقة في ادعاء التناقض والصراع بين العلم والدين ؛ ثم تكون النهاية بانتصار العلم . وقد حاول في هذه القصة أن يقول بالرمز كل ما عجز عن قوله صراحة.
- إن الحارة رمز للدنيا وأولاد الحارة هم البشر من لدن آدم عليه السلام إلى العصر الحاضر وربما دخل فيهم - عنده - الملائكة والشياطين. و" الجبلاوي " المتسلط في الرواية رمز لله - سبحانه وتعالى - ، و" قاسم " رمز ل صلى الله عليه وسلم ، و " جبل " رمز لموسى عليه السلام - لأن الله كلمه في الجبل - ، و" رفاعة " رمز لعيسى عليه السلام - لأن الله رفعه - .. وهكذا ، ثم جعل " عرفة " رمزًا للعلم الذي يقتل " الجبلاوي " !! نعوذ بالله من الكفر - . وفكرة " موت الإله " كما يقول الأستاذ عبدالله المهنا : " فكرة فلسفية غربية ، كتب عنها نجيب محفوظ في بداية حياته مقالات عدة ، وخاصة عندما كان يدرس الفلسفة ، وهي مستقاة من مقالات وكتب لسلامة موسى .. " . ( دراسة المضمون الروائي في أولاد حارتنا ، ص 62 ) . يقول الدكتور عبدالعظيم المطعني : " الخلاصة أن هذه الرواية تترجم في وضوح أن كاتبها ساعة كتبها كان زاهداً في الإسلام كل الزهد، معرضاً عنه كل الإعراض، ضائقاً به صدره، أعجمياً به لسانه، فراح يشفي نفسه الثائرة، ويعبر عن آرائه في وحي الله الأمين بهذه الأساليب الرمزية الماكرة، والحيل التعبيرية الغادرة، رافعاً من شأن العلم الحديث.. فالرواية -وهذا واقعها- رواية آثمة مجرَّمة بكل المقاييس" . ( جوانيات الرموز المستعارة .. ، ص 229 ) . فالرواية : - "ترسي مبادئ الاشتراكية العلمية والماركسية الملحدة بديلاً للدين والألوهية والوحي، وتبشر بوراثة العلم الدنيوي المادي للدين الذي ترى أنه استنفذ أغراضه، ووهنت قواه!" . (الطريق إلى نوبل عبر حارة نجيب محفوظ، ص5) .
- من أقوال نجيب محفوظ المهمة : "إن الثلاثية وأولاد حارتنا والحرافيش هم أحب أعمالي إلى نفسي" (نجيب محفوظ يتذكر، ص 68) . "أكتب بملابس البيت مع فنجان قهوة واحد على الأكثر، وسيجارة، ويمنعني السُكر من الاقتراب من الخمر" (أتحدث إليكم، ص42) . ( وقد اعترف في موضع آخر بتعاطي الخمر ، نجيب محفوظ يتذكر ، ص 88 ) . " أما عن حل المشكلة الجنسية في مجتمعنا فأنا لا أستطيع أن أقوله ، ولا أنت تكتبه ! ولكنني أستطيع أن أقول: أوروبا تمكنت من حل المشكلة الجنسية بطريقتها الخاصة، تجد أن البنت عمرها 15-16 تلتقي في حرية تامة مع أي شاب، لا مشكلة جنسية ولا مشكلة عفاف ولا بكارة، وحتى إذا أثمرت العلاقة طفلاً، فالطفل يذهب إلى الدولة كي تربيه إذا كانت أمه لا تريد" (نجيب محفوظ بين الإلحاد والإيمان، ديب علي حسن، ص 144 ) .
أنصح القارئ الكريم بهذه الكتب لمعرفة حقيقة فكر نجيب محفوظ :
1- أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب ، للدكتور سيد أحمد فرج ، مجلد في 325 عن دار الوفاء بمصر .
2- الصحافة والأقلام المسمومة ، للكاتب أنور الجندي - رحمه الله - ، ص 189-196 .
3- كتاب العصر تحت ضوء الإسلام ، له أيضًا ، ص 199-210 .
4- أعلام وأقزام ، للدكتور سيد العفاني ، ( 1 / 311- 363 ) .
5- جوانيات الرموز المستعارة لكبار أولاد حارتنا ، للدكتور عبدالعظيم المطعني ، مجلد في 236 صفحة ، وقد وجه في آخره نصيحة لمحفوظ لعله يتبرأ من روايته .. ولكن !(52/102)
6- دراسة المضمون الروائي في أولاد حارتنا ، للأستاذ عبدالله بن محمد المهنا ، مجلد في 222صفحة ، عن دار عالم الكتب بالرياض .
7- الطريق إلى نوبل عبر حارة نجيب محفوظ ، للدكتور محمد يحيى والأستاذ معتز شكري ، كتيب .
8- كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا ، للشيخ عبدالحميد كشك - رحمه الله - .
9- تحت المجهر ، للشيخ عبدالعزيز السدحان .
10- تركي الحمد في الميزان . على (هذا الرابط ) وفيه مقارنة بين ثلاثية نجيب محفوظ وثلاثية الحمد .
11- مقال : نجيب محفوظ .. خلفية فكرية لفنه الروائى ، للأستاذ مصطفى سيد ، مجلة البيان ( العدد 109 و110 ) .
12- مقال : الانحراف الفكرى لأصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ ، للأستاذ محمد الشباني ، مجلة البيان ، العدد 129. والله الهادي .
[line]
1 - الاسم : سليمان الخراشي من : تاريخ المشاركة : 7/8/1427 هـ
تحدث الدكتور سيد فرج في كتابه السابق " أدب نجيب محفوظ .. ، ص 26-27 " عن التناقض الذي عاشه نجيب في قضايا المرأة ؛ فبينما رواياته تعج بالفاحشة وعفن العلاقات المحرمة والتعاطف مع المومسات ، إلا أنه عندما اختار الزواج حرص " على الطريقة التي كرر في رواياته أنه يرفضها .. فتزوج على الطريقة التي تتزوج بها الأسر التي يعدها في رواياته برجوازية وجامدة " ، وباعد بين زوجته وبين حياته خارج البيت . أما ابنتاه " فلا يحاول أن يربطهما بعالمه من قريب أو بعيد ، فلا هو اختار ولاهما الاقتراب من عالم النساء الرجيم الذي تطفح به رواياته .. ولأنه شفوق عليهما أبعدهما عن عالمه ، وحاول أن يُشبع نهمه بأكل لحم الأخريات نيئًا .. إنه ببساطة يريد أن يسخر من كل النساء في كل زمان ومكان ، أما ابنتاه فإنه يسعى من أجل إسعادهما .. " الخ . وصدق الله تعالى : ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ) .
[line]
2 - الاسم : عبدالله زقيل من : تاريخ المشاركة : 7/8/1427 هـ
الشيخ الفاضل سليمان الخراشي .
جزاكَ اللهُ خيراً على ما سطرته يراعك عن نجيب محفوظ .
وسبحان الله كنتُ بالأمس في حديثٍ مع د. سعيد بن ناصر بعد أن رجعتُ إلى كتابهِ " الانحراف العقدي في أدبِ الحداثةِ وفكرها " للبحثِ فيه عن نصوصٍ من كلامِ نجيب محفوظ ، ولم أجد إلا نصاً واحداً سأضعه ، وقد أخبرني أن أفضل مؤلف بين فكر نجيب محفوط كتاب : " أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلامِ والتغريب " للدكتور سيد أحمد فرج ، وهو ممن درس د. سعيد بن ناصر - حسب ما فهمتُ منه - .
وإليك النص الذي ورد في رسالة الشيخ د. سعيد بن ناصر " الانحراف العقدي في أدبِ الحداثةِ وفكرها " (1/151 - 152) : " وهنا نذكر بعض أقوال نجيب محفوظ الذي ابتهج به العرب عندما منح جائزة نوبل ذات الاتجاه الصهيوني ، وعدوه من أعلام الأمة ونبلائها !! ، وقد كشف الدكتور السيد أحمد فرج أنواع انحرافاته الاعتقادية والسلوكية في كتابه النادر " أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب " ، ومن ذلك - مما له علاقة بهذا الباب - تشكيك نجيب محفوظ في وجود الله تعالى ، ففي رواية الحب تحت المطر يُجري حواراً بين شخصين وفيه قال أحدهم : ( - حدثني أحد الكبار ( الشيوخ ) فقال : إنه كان يوجد على أيامهم بغاء رسمي .
- زماننا أفضل فالجنس فيه كالهواء والماء .
- لا أهمية لذلك ، المهم هل الله موجود ؟ .
- ولم تريد أن تعرف ؟ .
- إذا قدر لليهود أن يخرجوا فمن سيخرجهم غيرنا .
- من يقتل كل يوم غيرنا !
- من قتل عام 1956 من قتل في اليمن من قتل في عام 1967 !
- لا أحد يريد أن يجبني أهو موجود ؟ .
- إذا حكمنا بالفوضى الضارية في كل مكان ، فلايجوز أن يوجد ) .
ويعقب الدكتور سيد أحمد فرج على هذا النص فيقول : ( إن الكاتب ونأسف له - يمارس في هذا الحوار - مجاملة لليهود وبغضاً للعرب ، وإنكاراً لوجود الله ... ) .ا.هـ.
صفحة الشيخ الدكتور سعيد بن ناصر
الغامدي
اضغط للدخول عليها
[line]
3 - الاسم : الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي من : تاريخ المشاركة : 8/8/1427 هـ
الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي في بحثه الماتع !
بسم الله الرحمن الرحيم
مات نجيب محفوظ وهذه بعض تركته
• توفي يوم الأربعاء 6
من شعبان من عام 1427 الموافق 31 أغسطس من عام 2006 وتركت وفاته ضجيجاً كبيراً في الإعلام بأنواعه ، وفي ظل سيطرة الدعاية تختفي كثير من الحقائق التي لابد من رؤيتها للوقوف على أرض صلبة من التصور والتقدير للأمور ، كما أنه في جو ما يعرف بـ(البوربغندا) أي الهيصة الاعلامية و الضجيج التسويقي الدعائي تنمو عقليات تابعة شعارها (سمعت الناس يقولون شيئا فقلته) ومن أجل ذلك وجب على كل صاحب قدرة أن يبين للناس الأوجه الأخرى التي خفيت عليهم أو أخفيت عنهم، وذلك لتعزيز الوعي وتعميقه بدلا من تسطيحه ودفعه في سوق الأمعية.(52/103)
ومما هو معلوم أن هناك فئة من الناس لا ترضى أن تخرج من هذه السطحية العقلية، وفئة أخرى تتعمد-بإصرار-تسطيح الوعي، وإزاحة أي معايير لا تتفق مع توجهاتها وأهدافها ،وفي ذات الوقت ترفع شعارات تستر بها هذا الوضع من مثل (الموضوعية، العقلانية،الرؤية الواقعية، الحقيقة المجردة) ونحو ذلك .
• وما نراه من مدائح تنهمر كالمطرعلى بعض الشخصيات، وإشادات لا يساويها في كثرتها وانحيازها واستخفافها بالعقل والإنسان إلا ما يشاهد في كثير من القنوات العربية من تردي وسخف واسفاف .
• إن الحديث هنا عن نجيب محفوظ هو لإبراز هذا العيب الفكري والاخلاقي الذي تمارسه جهات رسمية وغير رسمية، ولإظهار جانب من الحقيقة تعمد الكثير تجنبه وطمسه بل والاستهانة به .
• ليس الحديث هنا من أجل إصدار أحكام، وليس من مقاصد هذه الأسطر الدخول في الإجابة على أسئلة فقهية من قبيل ما طرح في بعض المواقع (هل نترحم على نجيب أم لا؟) أو من قبيل (هل نحكم عليه
بناء على أقواله بالكفر أم لا؟) كل هذا غير مراد ولا مقصود.
• على ماذا مات الرجل وبماذا ختم له، هذا علمه عند الله وحده، أما ماذا كتب وماذا ترك من فكر ونتاج فهذا ما نحاول عرض بعض الجوانب التي يراد إغفالها في ضوضاء الحدث، ثم العرض سيكون لشواهد يسيرة من بين كمية كبيرة من الدلائل والنصوص، لأن الإحاطة بكل ذلك غير ممكنة في هذا الحيز.
• سأكتفي بنقل أقواله وأقوال المعجبين به من النقاد والكتاب، وأترك للقارئ حرية النظر والتأمل في هذه النصوص، علما بأن من المتقرر شرعاً وعرفاً وعقلاً وقانوناً أن اللفظ دليل مادي قائم على حقيقة اللافظ.
• هناك نقل قليل عن كتاب مصريين ألفوا في كشف حقيقة هذا (الروائي العالمي!!!)
• لا يسرني ولا يسر أي مسلم منصف أن يوجد في أبناء الأمة من يتفوه أو يكتب أو يعمل ما فيه إنحراف ، ولكن إذا حصل ذلك، وخشي على أهل الإسلام وخاصة شبانهم وشابتهم، فلا مناص من إظهار الحقيقة نصيحة للأمة ورأفة بها وحفظاً لها من المزالق والانحدارات المهلكة.
• لا يفوتني أن أشكر الباحثة (إيمان بنت محمد بن عائض) التي استفدت كثيراً في كتابتي هذه من رسالتها العلمية (الماجستير) المخصصة عن دراسة المضامين الفكرية والاعتقادية لأدب نجيب محفوظ.
• أولاً : هل الروايات والقصص تؤثر في العقول والسلوك؟
في تقديري أنه أصبح من المعلوم لدى كثير من الناس ما للروايات والقصص والشعر والأدب عموماً من تأثير بالغ في النفوس، وسبب ذلك امتلاء السلبي منها بآلاف الحيل الزخرفية والفنية والأدبية والفكرية التي تجذب النفوس، وترضي الرغبات الأهواء والشهوات وتمتّع الحواس وتدغدغ الغرائز، وتحرّك المطامع، وتستغلّ المخاوف، وتجسّم
الشهوانية، وتهون من شأن الضوابط ، وتشجع النزوات وتجعل الأوهام والسلبيات حقائق في نفوس الناس كذباً وزوراً.
• ثانياً : هل يعتبر قول أشخاص الرواية قولا للكاتب؟؟؟
إن الروائي يدس فكره بين شخصيات روايته ، ويوصل رأيه من خلال الحوارات والمواقف العديدة . وفي ذلك يقول نجيب محفوظ : ( إن الأديب يختار شخصياته لأنه وجدها صالحة للتعبير عن شيء ما في نفسه ، كأن يجدد شخصية تتسم بالضياع ، وكان الأديب وقتها يشعر بالضياع أو شخصية ثائر وكان وقتها يعاني من ثورة مكبوتة ... ، المهم أن الرواية ككل يجب أن تعبر عن وجهة نظري ).
مجلة الشباب ، عدد إبريل
1989 م 1409 هـ : ص 22 و 23 نقلاً عن أدب نجيب محفوظ ص 56
و يؤكد الكاتب الحداثي
غالي شكري في دراسته عن نجيب أن الرواية وشخوصها ومسارها يصبح منهجا لمؤلفها .
و يؤكّد غالي شكري أن نجيب، استعار الهيكل العظمي لـ(الأسطورة) أي قصة نبيّ الله من وجهة نظرهم، ثمّ يكسوها بما لديه من لحم ودمّ وأن ذلك يمثّل وجهة نظر الكاتب الفكرية. انظر. كتاب المنتمي. غالي شكري. 251.
ثالثاً :
من هو نجيب؟
نجيب محفوظ بن عبدالعزيز إبراهيم أحمد الباشا ، ولد عام 1329 هـ/1911 م ، عمل سكرتيراً لوزير الأوقاف مصطفى عبدالرزاق ثم تقلب في أعمال وظيفية آخرها أنه عمل مستشاراً لوزير الثقافة ثم صحفياً في جريدة الأهرام ، منح جائزة نوبل لمواقفه الموالية لليهود وأعماله التغريبية ، وحصل على جائزة رابطة التضامن الفرنسية
العربية، تقلب في انتماءاته فعاش في كل فترة بحسب السلطة الغالبة ففي بداياته في العهد الملكي كان الوفد بارزاً فأصبح وفدياً، وفي عهد عبد الناصر صار إشتراكياً، وفي زمن السادات تحول نحو الغرب والمناداة بالسلام مع اليهود، ثم في العهد الأخير مال إلى الليبرالية الغربية ، وفي خلال ذلك كله لم يتخل عن إيمانه بالعلمانية ومعاداته لتحكيم الإسلام في الحياة ، وكراهيته للدعوات الإسلامية المنادية بذلك، كما لم يتخل عن إيمانه بالنوذج الغربي والاعتزاز بالأصل الفرعوني ، له روايات كثيرة مليئة بالمضامين المنحرفة فكراً وخلقاً .
انظر ترجمته في : حول الدين والديمقراطية ص 223 إلى 225 ، وأدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب .
رابعاً: نماذج من التراث الفكري والعقدي والسلوكي لنجيب محفوظ(52/104)
1- موقف نجيب محفوظ من قضية وجود الله تعالى في رواية الحب تحت المطر يُجري حواراً بين شخصين وفيه قال أحدهم : ( حدثني أحد الكبار ( الشيوخ ) فقال : إنه كان يوجد على أيامهم بغاء رسمي .
- زماننا أفضل فالجنس فيه كالهواء والماء
- لا أهمية لذلك ، المهم هل الله موجود ؟
- ولم تريد أن تعرف ؟
- إذا قدر لليهود أن يخرجوا فمن سيخرجهم غيرنا .
- من يقتل كل يوم غيرنا !
- من قتل عام 1956 من قتل في اليمن من قتل في عام 1967 !
- لا أحد يريد أن يجبني أهو موجود ؟
- إذا حكمنا بالفوضى الضارية في كل مكان ، فلايجوز أن يوجد ) رواية الحب تحت المطر : ص 38 و39.
ويقول في موضع آخر: ( اللعنة . من ذا يزعم أنه عرف الإيمان؟ قد تجلّى الله للأنبياء، ونحن أحوج منهم بذلك التّجلي، وعندما نتحسّس موضعنا في البيت الكبير المسمى بالعالم فلن يصيبنا إلا الدوار). رواية ( ميرامار ) .ص33 .
ويسأله( منصور باهي ) مستنكرًا أن تصيبه الحيرة وهو من جيل الإيمان؟
فيجيب ضاحكًا: (الإيمان..الشك..إنهما مثل النهار والليل، لا ينفصلان). رواية ( ميرامار ) . ص23.
أما (طلبه مرزوق) فيعجب منه عامر وجدي ويقول له:
(يخيّل إليّ أحيانًا أنك لا تؤمن بشيء. غير أنّه يدافع عن نفسه، فيجيب بحنق-
وبعبارات تشفّ عن تصوره عن ذات الله تعالى-: (كيف لا أؤمن بالله وأنا أحترق في جحيمه) رواية ( ميرامار ) ص34
وفي رواية (الطريق)
هناك شخص اسمه صابر يبحث عن أبيه (الرحيمي) لينقذه من الجريمة والضياع، وهو سيّد ووجيه ولا حدّ لنفوذه، والدنيا تهتزّ لدى محضره، وهو"لا عمل له إلا الحبّ، وفؤاده متعلّق بالعالم الكبير، ينتقل من بلد إلى بلد، ويوزّع رسائله من جميع القارات، كما أنّ علاقاته تشمل هذه القارات كلها حيث ينتشر أبناؤه". انظر . رواية (الطريق).
نجيب محفوظ. 166 و 167 .
وصابر، في ذات الوقت، يتساءل (أين الله حقًّا؟ هو عرف اسم الله ولكنه لم يشغل باله قطّ. ولم تشدّه إلى الدين علاقة تذكر) رواية (الطريق). نجيب محفوظ ص 44
ويكشف الكاتب الحداثي محمود أمين العالم عن مضمون هذه الرواية فيقول:
"هذه الصفات عندما نتعمق معناها يتحوّل معنى الأبوة عن المدلول الحرفي ليكون أكثر شمولاً، بل إنّ المؤلف يوحي لنا بهذا حين يقول على لسان المحامي ربّما تغيّر مفهوم الأبوّة إذا امتدّت فوق كثرة غير عاديّة). رواية ( الطريق ).172 .
وانظر. الرمز والرمزية. 228. نقلا عن محمود أمين العالم. (تأملات في عالم نجيب محفوظ).120.
ويوضح المعنى كاتب آخر من المعجبين بنجيب فيشير إلى أنه:
لا جدال إذًا في الرمزية الإلحادية لـ(سيّد سيّد الرحيمي) ؛حيث أنّ الأبوة تتجاوز حرفيتها، وممتدة إلى الأفق الأوسع تمامًا كأبوة الجبلاوي، فإننا نجدها هنا الأبوة في أشدّ صورها شمولا، وأكثر معانيها جوهرية وأصالة. فهو إشارة رمزية إلى الله، حيث حرص نجيب محفوظ على أن يعطي الأب دلالته المحددة باعتباره أبًا، وأيضًا دلالته الرمزية باعتباره ربًّا".
انظر كتاب الرمز والرمزية.ص 228. وكتاب الرجل والقمة. 161 و 162
إنّ صابراً، كما يوضح أحد المهتمين بنجيب، يمثّل الإنسان، واسم الرواية (الطريق)، أي طريق الإنسان من بدايته حتى نهايته، بما يقابله من متاعب وآمال وآلام في سبيل تفسيره لهذه الألغاز، ومحاولته اليائسة لحلّها، وفكّ طلاسمها. انظر كتاب قضية الشكل الفني عند نجيب محفوظ. نبيل راغب.ص284.و الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ. 243.
وإذا تجاوزنا اسم الرواية العام، وجدنا ذلك التلاحم بين الاسم والمعنى المرموز إليه، فسيّد الرحيمي هو سيّد السّادات الرحيم(انظر الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ. 243.
وصابر، كما يقرر رشيد العناني، هو الإنسان الصابر في سعيه من قديم وراء إله لا يني يراوغه أبدًا، وهي إشارة واضحة، لاعتقاد نجيب في عقم السعي البشري وراء فكرة الوجود الإلهي.
( انظر كتاب نجيب محفوظ قراءة ما بين السطور. رشيد العناني.ص54.
يقول أحد النقاد المشيدين به عن هذه الرواية :" هي قصة أخرى مجازيّة، تبيّن أنّ الانسحاب من عالم الواقع بحثًا عن المطلق {يريد به الله تعالى} لا يجدي شيئًا في حلّ المشكلات، وإنما يجلب الشقاء على الجميع".
كتاب نجيب محفوظ قراءة ما بين السطور. ص54
2- نجيب محفوظ وجائزة نوبل
من ضمن الضجيج الإعلامي في شأن نجيب في حياته وبعد موته افتخار المعجبين به بحصوله على جائزة نوبل، وتحويل أدمغة الناس عن الأسباب الحقيقية التي هيأته للحصول على
الجائزة، ثم على التعزية الأمريكية التي أطلقها الامبراطور الأمريكي {بوش} إثر وفاة نجيب وهو الذي لم يرف له جفن أمام المجازر في فلسطين ولبنان والتي تمارس بالسلاح الأمريكي والفيتو الأمريكي، فهل تستحق جائزة نوبل وصاحبها كل هذا الاحتفاء والفرح الطفولي؟!
سوف أحاول هنا تلخيص أبرز ما له علاقة بهذا الموضوع :(52/105)
أ )بداية نجيب محفوظ : ( قيل إن الذي اكتشف نجيب محفوظ ولفت الأنظار إليه هو المستشرق المبشر " جومييه " راهب دير الدمنيكان بحي العباسية بالقاهرة ، ويؤكد رشيد الزواوي في كتابه : " أحاديث في الأدب " أنه بعد ظهور الثلاثية بدأ الناس يقرون بموهبة نجيب محفوظ ، خاصة إثر المقال الذي كتبه الأب
جومييه ، فقد أحس هذا الراهب بذوقه الناقد أن فناً جديداً يولد في مصر ، فكتب مقالاً عن الملحمة الروائية الجديدة لنجيب محفوظ بالفرنسية ، ويقرأ طه حسين المقال ، ويبادر بقراءة نجيب محفوظ ، ويهتم به اهتماماً خاصاً ، ويكشف عن أن فن الرواية الأدبية قد بدأ يظهر في الساحة الأدبية على يد الروائي نجيب محفوظ ) .
أدب نجيب محفوظ ص 47 - 48 .
ب)كان محفوظ وفدياً ثم تحول إلى اليسار الوفدي ثم بعد الثورة إلى الاشتراكية العلمية ، ليصبح من غلاة التيار الاشتراكي أيام عبدالناصر ، وفي تلك الفترة ( برز بأهم نتاجه في عمل أرضى الزعيم ... وهو عمل إبداعي شيطاني لم يسبق له مثيل في أي عمل أدبي من آداب الأمم قاطبة سواء كانت متدنية أو علمانية ملحدة ، وأطلق عليه " أولاد حارتنا " نشر مسلسلاً في أكبر جريدة تنطق بلسان الحكومة هي جريدة الأهرام في نوفمبر وديسمبر سنة 1959 م ) . كتاب أدب نجيب محفوظ ص 48و49 .
جـ) - بدأ نجيب محفوظ غزله مع اليهود منذ كتب " خان الخليلي " أي منذ عام 1365 هـ 1946 م ومنحوه رضاهم قبل أن يمنح الجائزة ، بدأ الغزل مع اليهود من قبل أن يقوم كيانهم الخبيث في بلاد المسلمين فلسطين ، وفي عهد السادات تحول الغزل إلى صبابة ، فصارح الرئيس بأهمية الصلح مع اليهود .
انظر كتاب أدب نجيب محفوظ ص 50-51 .
ومن إعجابه باليهود واهتمامه بهم إيراده لهم في رواياته في صورة جذابة طيبة ذكية وجميلة ، كل ذلك في رواياته من " خان الخليلي " حتى " المرايا " حتى " زقاق المدق " حتى " الحب تحت المطر " و " قلب الليل ".
انظر : المصدر السابق ص 65 - 69 حيث ذكر المؤلف شواهد من كلامه .
د )مبادرة نجيب محفوظ للتطبيع مع اليهود ، حيث
أكد أنه هو صاحب المبادرة وأن السادات تبعه في ذلك ، وإقراره بدوره في مشروع إرضاء الصهيونية هو أحد أكبر العوامل لنيله جائزة نوبل .
يقول نجيب محفوظ : ( في أعقاب نكسة 1967 م جمع د . ثروت عكاشة " وزير الثقافة حينذاك " بعض المثقفين ، وأصحاب الرأي لتبادل الأفكار وكان رأيي الذي أعلنته وقتها ضرورة العودة إلى الديمقراطية تمهيداً للتفاوض مع إسرائيل ثم ناديت بالسلام مع إسرائيل بجريدة الأهرام ، حضرها العقيد القذافي في أواخر 1970 م في بداية حكم السادات ).
المصدر السابق ص 63 نقلاً عن مجلة الشباب عدد مارس
1989 م ص 7 - 8 .
( وكان في خلال أحاديث الصحفية لايفتأ يعيد إلى ذاكرة من يهمهم الأمر موافقته للصلح مع إسرائيل ، والصداقة معها ، وإذا أدلى بحديث صحافي حشر فيه حديث مقاطعة الدول العربية لرواياته من أجل صداقته لليهود ، ثم يفصل سبب المقاطعة كأن يقول : " في أول عهد السادات جاء القذافي إلى جريدة الأهرام وسألنا ماذا نفعل أمام الاحتلال " نعمل إيه في هذا الوضع " قلت : نحارب ، قال : " مش ممكن " ، قلت : نفاوض ، أيدني توفيق الحكيم وحسين فوزي ، أما حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام فقد غير الموضوع ، وأذكر أن القذافي لم يوافق ، وفي عام 1975 م قلت في حديثي لجريدة القبس الكويتية : " إنني ضد اللاسلم واللاحرب لأنها حالة تستنزفنا ، وأن المفاوضة هي مواجهة الموقف بواقعية ، ولم يكن السادات في ذلك الوقت قد فكر في المبادرة ،
--------------
::: نجيب محفوظ :::
:: صاحبُ الرواياتِ الوضِيعةِ فى مِيزَانِ الشَّريِعَة :::
المصدر
يقول الشيخ الدكتور
محمد بن اسماعيل المقدم
وفقه الله تعالى :
نجيب محفوظ :
الشاك فى كل قيمه , المتذبذب فى كل فكره , الضائع فى كل واد , المتحدى لعقيدة الامة , والمتجه ناحية المشارب الاخرى يعب منها حتى يطفح , فيفيض ما عليه على غيره, وينتكس بعد ذلك الى غيره.
وقد اتضح فى آثاره ظاهرتان خطيرتان
أولاهما : إشاعة الفاحشة , وتبريرها ,
وثانيتهما : الإلحاد , ولهذا يوليه الماركسيون إهتماماً خاصاً , و قد استخدموه فى دعوتهم الى الإباحية والى المفاهيم الاهدامة للإسرة والفتاة , وعمل المراة , وعلاقتها بالرجل .
وإذا علمنا انه صنيعة ( طه حسين ) و ( سلامة موسى ) , لم نستغرب اجتهاده فى تحطيم الشباب , فإن أستاذيه كانا يعرفان أنهما يقدمان سماً من نوع خطير الى الاجيال الجديدة , فيخدمان به دعوتهما , ويكوّنان جيلاً يحمل أفكارهما .
هذا وقد كافأته الأيدى الملحدة القذرة بمنحه جائزة نوبل للآداب لعام 1988 لتأليفه رواية ( أولاد حارتنا )وجاء فى حيثيات الترشيح الرسمية أن الرواية تعنى بالبحث الأزلى للانسان عن القيم الروحية ,فأدام وحواء وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الانبياء يظهرون فى تخفٍ طفيف ,(52/106)
وقد نُشِرَ ملخص هذه الرواية بجريدة النور عدد ( 22 ربيع الاول 1409 هـ ) , فإذا بها تتضمن الإلحد فى ذات الله , والتفريط فى جنب الله , والاستهزاء بكعبه الله , والتطاول عى مقامات أنبياء الله ,
وتجريح رسل الله , بما فيهم موسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين , والاستخفاف بملائكة الله , بحيث يتتحقق فى صاحب هذه الروايه قول القائل :
وكنت امرءاً من جند إبليس فارتقى .............. بى الحال حتى صار إبليس من جندى
ولا نبالغ إذا قلنا فى ضوء هذه الرواية التى رقّعت بوثنيات اليونان , وإباحيات الرومان , وخبث الماسون ,
وإلحاد الماركسيين ,لا نبالغ إذا قلنا إن انتساب ( نجيب محفوظ ) الى البشرية عار على الجنس البشرى , وأولى به ان يرجم كرجم العرب قبر أبى رغال ,وإن الكفر البواح , والشرك الاكبر الذين تلبس بهما ليجعلانه عدواً لدوداً لكل ذى دين ولو كان يهودياً أو نصرانياً , بله المسلم الموحد .} (1)
شعر :
لا بُوركت تلكَ الأكف فإنّها ............ ضَربت على الالبابِ سَداً عَاتيا
حجَبت صديعَ الرُشد عنها فارتمت ...... تجتاب ليلَ الغَى أسفع ناديا
بعثُوا الصحائفَ يلتوينَ كأنما ............... بعثوا بهن عقارباً وأفاعيا
صحفٌ يزلُّ الصدقُ عن صفحَاتِها ........... ويظلُ جدُ القولِ عنها نابيا
ليت الزلازلَ والصواعقَ فى يدى ... ..........فأصُبُهَا للغافِلين قوافيا
فنيت براكينُ القريضِ ولا أرى ...... ما شفنى من جهلِ قومى فانيا
فلئن صمتُّ لأصمتن تجلداً ............. ولئن نطقتُ لأنطقن تشاكيا } (2)
_______________________
(1) (2) الجزء الاول من موسوعة { عودة الحجاب }
الطبعة الاولى ( 1423هـ ـ 2002م )
دار العقيدة ـ الاسكندرية
صفحة (144) و ( 146) على الترتيب .
هل أغنى عنك عرفة شيئا؟
المصدر
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (قّ:19)، بهذا الوصف الوجيز البليغ أخبرنا الله عن الموت، وسكرته، وعن الإنسان وحيدته.
ولا شك أن الموت بكل ما يحمله من مشاهد الاحتضار التي يعاني من سكرتها المحتضر، ويعجز المحيطون به عن الدفع عنه، ثم مشاهد الموت حينما يغيب الميت عن حياتنا، ولا يملك أن يعبر عن نفسه، ولا يعرف حال أهله من بعده، مشاهد تملأ القلوب إجلالا وخشية، وتحض النفس على التفكر والتأمل، ولكن الشيطان يحاول دائما أن يصرف الناس عن التأمل والتدبر النافع لهم في أمر آخرتهم.
وقد توفي امس الكاتب الروائي نجيب محفوظ عن عمر يناهز ال95 عاما -اللهم لا تردنا إلى أرذل العمر- تاركا وراءه تركة تحسده عليها شياطين الجن من هذا الركام الهائل من روايات الجنس والعهر والمسكرات، ومما يزيد الطين بله أن معظمها قد تحول إلى أفلام سينمائية يفني مؤلفوها، ومنتجوها، وممثلوها وتبقى أوزارها، ليحملوا أوزارهم فوق ظهورهم ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم.
وتبقى مصيبته الكبرى، وداهية دواهيه رواية "أولاد حارتنا" -التي منح عليها جائزة نوبل التي لايزال أتباعه ومداهنوه يفتخرون بها- التي كتبها ليكرس فيها ضلالة استغناء الإنسان المعاصر عن فكرة الإله -الذي رمز له بالجبلاوي- بالعلم -الذي رمز له بعرفة- مرددا قول اسياده وكبرائه من فلاسفة الغرب الذين يرون أن الإله مجرد فكرة كاذبة، ادعها المصلحون -الذين هم الأنبياء عندنا- لكي يصلحوا بها العالم، وكان هذا هو الحل المثالي قديما. وأما بعد تطور العلم الحديث، ووصول الإنسان لكل ما يصبو إليه من أمن ورفاهية على وجه الأرض، فلا حاجة لنا بفكرة الإله.
وهذا الرمز في الرواية لم يخف على أي متأمل لها، مما دفع الأزهر إلى منع تداولها بعد نشرها على حلقات في جريدة الأهرام في حقبة الستينات.
وكذا جاء ذلك التحليل في أكثر من دراسة حول أدب نجيب محفوظ، بعضها حظي بتقريظ نجيب محفوظ نفسه.
قد يقول قائل: ولكن الرجل قد تاب.
ويعلم الله أن توبة التائب مهما كان جرمه، وأثمه هي الهدف الذي نسعى إليه، وليس إلقاء الناس في دائرة الكفر والباطل، ولكن الذي حدث من نجيب محفوظ هو مجرد الامتناع من نشر الرواية إلا بإذن الأزهر. وهذه ليست توبة. بل مدارة للأزهر، ولعموم المسلمين. ثم إنه قد أعاد صياغتها في رواية "الحرافيش" التي قدم فيها ثلاث مجتمعات صغيرة:
الأول: مجتمع المساجد. ولكي يضفي عليها طابع التخلف اقتصر على مساجد الأضرحة والأولياء.
الثاني: مجتمع الخمارة.
الثالث: مجتمع المقاهي. الذي جعله المجتمع المثالي أمام تطرف المجتمعين الآخرين، مع إسقاطات فلسفية كثيرة تنقض فكرة الإيمان أصلا وموضوعا، ثم إن نجيب محفوظ سيظل هو نجيب محفوظ حتى لو صح الفرض الجدلي بتوبته -وهو لم يصح- فسيبقى أنصاره، وتلاميذه، بل وللأسف ومداهنوه -بعضهم من الإسلاميين- يثنون على ثلاثيته التي ملأها عربدة وعهرا، وعلى سلسة رواياته الإلحادية التي أبدى فيها شكا كبيرا في حقائق الدين، على ألسنة أبطال رواياته، وإن كان لم ينف عن نفسه فعليا في كثير من حواراته، حتى صرح بأنه اضطر إلى الإيمان بقلبه تاركا عقله في شكه كما هو.(52/107)
وعموما لقد اغتر هذا الرجل بالعلم وبما قدم العلم الحديث للبشرية من رفاهية متناسيا أن الله هو خالق الكون، وهو الذي أودع فيه هذه الأسرار، وهو الذي هدي البشر إليها متى شاء، وكيف شاء.
ونريد أن نسأله هذه الأسئلة -ونحن نعلم أنه لا يملك الإجابة- ولكن لعل الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يتوبون، ولا يتمنون مكانه اليوم.
قضى نجيب محفوظ السنوات الأخيرة من عمره وهو لا يستطيع أن يمسك بالقلم، الذي طالما كتب به ما كتب، هل كان يملي بعض الحوارات المبعثرة على بعض الببغاوات ليكذبوها باسمه في الصحف؟ فهل أغنى عنه عرفة شيئا؟
أمضى نجيب محفوظ السنوات الأخيرة من حياته في آلام المرض والشيخوخة لا يعبأ به الناس، ولا بآلامه إلا حينما تدق الطبول الإعلامية تذكر خبر دخوله المستشفى أو خروجه منها. فهل أغنى عرفة عنه شيئا؟
عاش نجيب محفوظ حالة احتضار شارونية -نسبة إلى شارون الذي ستظل حالة احتضاره حالة تاريخية نادرة، ترى الناس كيف يستدرج الله أعداءه إلى عارهم وذلهم، وهم لا يدرون. فلو تأمل الصهاينة لحظة لسارعوا إلى إنهاء حالة الاحتضار المخزية لطاغيتهم شارون- وأجهزة عرفة ومعامله تحاول. ولكن هيهات، ترى لو كان يستطيع الكلام، هل كان سيأمر بنزع الأجهزة عنه لعله أن يستريح من عناء الاحتضار مع أن ما بعده أشد منه؟ أم كان سيتشبث بالحياة التى عرفها وأمن بها فرارا من المجهول الذي جحده وتشكك فيه؟
وأخيرا لقد مات نجيب محفوظ. فما الذي سيبكيه؟
المقاهي، والملاهي، ودور السينما.
من الذين سيشيعونه؟
الراقصون، والراقصات، والفنانون، والفنانات.
إن قيمة كل إنسان تعرف على وجه الحقيقة في الفراغ الذي سيتركه عند موته. فما هو الفراغ الذي سيتركه نجيب محفوظ في حياتنا؟ غير ما ذكرنا من أدب الكفر والإلحاد. أو على أحسن الأحوال أدب السكر والعربدة؟
وإذا كان الموت حقا على البر والفاجر، والصالح والطالح، وإذا كانت سكرات الموت شديدة على كل أحد، ولكن كفى بالإيمان مسليا لصاحبه عن آلام الاحتضار. وكفى بالرجاء معزيا لأهل المصائب في مصابهم. وكفى بالصدقات الجارية على أهل الخير والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فضلا ورحمة ورضوان من الله تعالى.
وكما أن هناك صدقات جارية، فكذلك هناك سيئات جارية، كما في الحديث (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شئ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص من أوزارهم شئ.)
فنصيحة لمن يحب نجيب محفوظ أن يخفف من تراكم الأوزار وتزايدها بما لا يعلم مداه إلا الله سبحانه وتعالى، وأن يمتنع عن نشر باطله، لاسيما ذلك الذي ضمنه الكفر والاستهزاء بالأنبياء وحقائق الإيمان، وإن كان كل تراثه حقيق بأن يتبرأ منه كل مسلم صادق غيور.
فاللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكنا الإسلام حتى نلقاك عليه.
www.salafvoice.com
موقع صوت السلف
============(52/108)
(52/109)
سلسلة كشف الشخصيات (32) : حسن حنفى
نقلا عن مقال زنادقة الفكر والادب
حسن حنفي:بطاقة تعريف: ولد حسن حنفي في القاهرة عام 1935م حصل على ليسانس الفلسفة عام 1956 ثم شق تعليمه الجامعي إلى أن حصل على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون عام 1966.. عين أستاذاً لتدريس الفلسفة في جامعة القاهرة.. شغل منصب السكرتير العام للجمعية الفلسفية المصرية.. يقدم نفسه على أنه صاحب مشروع اليسار الإسلامي.. يؤمن بدبن إسلامي على الطريقة الماركسية يتلاعب بالألفاظ .. وخلاصة أفكار اليسار الإسلامي: فخلاصة فكر هذه المدرسة (اليسار الإسلامي). أنها امتداد للفكر الإعتزالي ومايسمى بالمدرسة الإصلاحية بزعامة الأفغاني ومحمد عبده ومن رجال هذا التيار اليسار الإسلامي فتحي عثمان ومحمد عابد الجابري وغيرهم ويركز هذا التيار على الثورة وابني الإشتراكية والعدل الإجتماعي وتجديد التراث وغير ذلك. ويعتبر حسن حنفي أن اليسار الإسلامي هو النقد الذاتي للحركة الإسلامية وهو التيار المعارض والمصحح داخل هذه الحركة الإسلامية، كما أنه يجب إخياء الجوانب الثورية في الدين وتأويل كل حدث على أنه ثورة. هذه خلاصة أفكار اليسار الإسلامي تلك المدرسة التي يريد أن يفرضها علينا حسن حنفي ومن على شاكلته للأخذ بأيدي المسلمين للفوز بالسعادة الماركسية الحمراء وللمزيد من الإيضاح سنلقي الضوء بعون الله تعالى على أهم ركائز فكر حسن حنفي التدميري وذلك من خلال قراءة في كتابه (التراث والتجديد).. وقد اخترت هذا الكتاب بصفة خاصة عن سائر كتبه لأنه أوضح عبارة وأخطر طرحاً في إفصاحه المباشر عن اطروحته اليسارية ولا تحتاج عباراته إلى تأويل أو غموض قد يحتاج إلى تفسير جلي.. ولكي لا يتهمنا أحد بالتحامل على الدكتور حسن حنفي بزعم أننا نفسر أقواله بما لا تحتمل.. لذلك رشحت هذا الكتاب الذي لم يتب مؤلفه حسن حنفي ولم يعلن ذلك على الملأ بل إنه يعتز به وينادي بكل مافيه.. هذا الكتاب يحتوي على أبرز القضايا التي يدعو لها الدكتور حسن حنفي ويدندن حولها في كتبه ومقالاته وخاصة مؤلفه الضخم: (من العقيدة إلى الثورة محاولة لإعادة أصول الدين).. وكتابه: (الدين والثورة في مصر).. وكتابه: (مقدمة في علم الإستغراب).. وللكاتب مقالات أخرى في فلسفة اليسار الإسلامي غالبها يدور حول نفس الأفكار التي سنطرحها من خلال كتابه التراث والتجديد في هذه المقالة وأهم هذه الأفكار الهدامة هي:
أولاً: العلمانية أساس الوحي:
وحول هذا العنوان يتساءل حسن حنفي ويفتري على الله الكذب ويقول: "فإن قيل إن التراث والتجديد سيؤدي حتماً إلى حركة علمانية وفي العلمانية قضاء على تراثنا القديم وموروثاتنا الروحية وآثارنا الدينية، قيل قد قد نشأت العلمانية في الغرب إستجابة لدعوة طبيعية تقوم على أساس رفض الصور الخارجية وقسمة الحياة إلى قسمين واستغلال المؤسسات الدينية للجماهير وتوطينها مع السلطة وحفاظها على الأنظمة القائمة نشأت العلمانية استرداداً للإنسان لحريته في السلوك والتعبير وحريته في الفهم والإدراك ورفضه لكل أشكال الوصاية عليه ولأي سلطة فوقه إلا من سلطة العقل والضمير، العلمانية إذن رجوع إلى المضمون دون الشكل وإلى الجوهر دون العرض، وإلى الصدق دون النفاق، وإلى وحدة الإنسان دون ازدواجيته وإلى الإنسان دون غيره العلمانية إذن هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره والدونية طارئة عليه من صنع التاريخ، تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور، وما شأننا بالكهنوت والعلمانية ماهي إلا رفض له؟ العلمانية في تراثنا وواقعنا هي الأساس واتهامها باللادونية تبعية لفكر غريب وتراث مغاير وحضارة أخرى" ونلاحظ في الفقرة السابقة بياناً صريحاً لدعوة حسن حنفي الإلحادية.. فالصور الخارجية المرفوضة هي: علم الغيب/الجنة/النار/الملائكة.. فالوحي أي القرآن أو الدين بصفة عامة اغتصب حق الإنسان في السلوك والحرية حسب زعم حسن حنفي وأن العلمانية استردت هذا الحق المغصوب وأعادته للإنسان!! فالعلمانية تؤدي إلى الصدق!! أما الدين والوحي والقرآن فيؤدي كل منهما إلى النفاق والكذب!! العلمانية ترفض أي أشكال الوصاية على الإنسان والوصاية المقصودة هنا هي نصوص القرآن والدين بصفة عامة فالقرآن يضيق على تعبير وحرية الإنسان كما أن هذه العلمانية ترفض أي سلطة- أي النص القرآني- أما العقل فهو وحده رب العلمانية وإلاهها.. ويخلص حنفي إلى أن العلمانية جوهر والدونية طارئة عليه فالدين من صنع التاريخ!! بمعنى أوضح فالقرآن والدين الإسلامي نتاج بشري من صنع التاريخ ووليد ظروف اجتماعية متخلفة لأن الدين لايظهر إلا في مجتمعات متخلفة توقفت عن التطور والعلمانية ترفض هذا الكهنوت - أي الدين- ثم بعد ذلك يقرر هذه الحتمية التاريخية التي لايعرفها إلا حسن حنفي ومن على شاكلته: (العلمانية في تراثنا وواقعنا هي الأساس واتهامها باللادونية تبعية لفكر غريب وتراث مغاير وحضارة أخرى)!! فأي دونية يقصد حسن حنفي؟!! أعتقد أنه يقصد أن العلمانية هي الدين لأنها أساس الوحي حسب زعمه!!(52/110)
ثانياً: لفظ الجلالة (الله) وألفاظ (الرسول.. الدين الجنة.. النار..إلخ)
لم تعد عند حسن حنفي قادرة على التعبير عن مضامينها: لم تسلم شعائر الدين الإسلامي من طعنه، ولم يسلم رسول ا صلى الله عليه وسلم ولا حتى ذات الله واسمه الأعظم من افتراءات أستاذ الفلسفة حيث يقول: "إن العلوم الأساسية في تراثنا القديم مازالت تعبر عن نفسها بالألفاظ والمصطلحات التقليدية التي نشأت بها هذه العلوم والتي تقضي في الوقت نفسه على مضمونها ودلالتها والتي تمنع أيضاً إعادة فهمها وتطويرها، يسيطر على هذه اللغة القديمة الألفاظ والمصطلحات الدينية مثل: الله، الرسول، الدين، الجنة، النار، الثواب، العقاب(..) هذه اللغة لم تعد قادرة على التعبير عن مضامينها المتجددة طبقاً لمتطلبات العصر نظراً لطول مصاحبتها للمعاني التقليدية الشائعة التي تريد التخلص منها، ومهما أعطيناها معاني جديدة فإنها لن تؤدي غرضها لسيادة المعنى العرفي الشائع على المعنى الإصطلاحي الجديد، ومن ثم أصبحت لغة عاجزة عن الأداء بمهمتها في التعبير والإيصال" أقول: انظر إلى هذا الإفتراء وإلى هذه الجرأة الوقحة مع رب العزة سبحانه وتعالى، فلفظ الجلالة ما هو إلا لفظ قاصر ليس له واقع ولا يعبر عن شئ والرسولل والجنة والنار ماهي إلا ألفاظ جوفاء قاصرة لا تعبر عن واقع ولا عن شئ بل يدعو حسن حنفي إلى التخلص منها أي رفض الدين جملة وتفصيلاً!! فالأمر إذن دعوة للإلحاد بالمعنى الفصيحح. ثالثاً: لفظ الجلالة (الله) يحتوي على تناقض حسب افتراءات حسن حنفي: فحاشا لله أن يحتوي اسمه الأعظم على تناقض.. يشرح حنفي أسباب قصور اللغة القديمة _أي النص القرآني_ فيقول: "إنها لغة إلهية تدور الألفاظ فيها حول "الله" ولو أنه يأخذ دلالات متعددة حسب كل علم، فهو "الشارع" في علم أصول الفقه.. وهو "الحكيم" في علم أصول الدين، وهو "الواحد" في التصوف، لفظ "الله" يستعمله الجميع دون تحديد سابق لمعنى اللفظ إن كان له معنى مستقل أو لما يقصده المتكلم من استعماله، بل إن لفظ "الله" يحتوي على تناقض داخلي في استعماله باعتباره مادة لغوية لتحديد المعاني أو التصورات، مطلقاً يراد التعبير عنه بلفظ محدود" ويزيد حسن حنفي شرحه للفظ الجلالة: "يعبر عن اقتضاء أو مطلب، ولا يعبر عن معين أي أنه صرخة وجودية، أكثر منه معنى يمكن التعبير عنه بلفظ من اللغة أو بصور في العقل، وهو رد فعل على حالة نفسية أو عن إحساس أكثر منه تعبيراً عن قصد أو إيصال لمعنى معين، فكل ما نعتقده ثم نعظمه تعويضاً عن فقد، يكون في الحس الشعبي هو الله، وكل ما نصبو إليه ولا نستطيع تحقيقه فهو أيضاً في الشعور الجماهيري هو الله، وكلما حصلنا على تجربة جمالية قلنا: الله! الله! وكلما حفت بنا المصائب دعونا الله، وحلفنا له أيضاً بالله" وماذا بعد كل هذه الإفتراءات حول لفظ الجلالة؟! يخلص حنفي إلى الآتي: "فالله لفظ نعبر به عن صرخات الألم وصيحات الفرح أي أنه تعبير أدبي أكثر منه وصفاً لواقع، وتعبير إنشائي أكثر منه وصفاً خيرياً، وما زالت الإنسانية كلها تحاول البحث عن معنى للفظ الله" انظر إلى قوله (فما زالت الإنسانية كلها).. فلماذا كلها وليس بعضها؟! فهل هذا خطاب علمي موضوعي لرجل يزعم أنه أفنى عمره في البحث والتنقيب، فكأنه يخوفنا بتعميماته - الإنسانية كلها- لكن المسلمين وحتى أصحاب الديانات الأخرى ضد هذه الأطروحة الإلحادية.. أليس المسلمون وأصحاب الديانات الأخرى من الإنسانية؟!.. بالطبع هذا هراء علمي! وهذه طريقة الخطاب الماركسي في التعتيم والحتمية لإرهاب القارئ بأن ما يكتب مسلمة تاريخية!! وفي تطاوله المستمر على لفظ الجلالة يقول حنفي: (فالله عند الجائع هو الرغيف، وعند المستعبد هو الحرية، وهند المظلوم هو العدل، وعند المحروم عاطفياً هو الحب، وعند المكبوت هو الإشباع، أي أنه في معظم الحالات صرخة المضطهدين، والله في مجتمع يخرج من الخرافة هو العلم، وفي مجتمع آخر هو التقدم، فإذا كان الله هو أعز مالينا فهو الأرض، والتحرر، والتنمية، والعدل، وإذا كان الله هو ما يقيم أودنا وأساس وجودنا ويحفظنا فهو الخبز، والرزق، والقوت، والإدارة، والحرية، وإذا كان الله ما نلجأ إليه حين الضرر، وما نستعيذ به من الشرر فهو القوة والعتاد، والإستعداد، كل إنسان وكل جماعة تسقط من احتياجاتها علي، ويمكن التعرف على تاريخ احتياجات البشر بتتبع معاني لفظ "الله" على مختلف العصور (..) ومن ثم فتوحيدنا هو لاهوت الأرض، ولا هوت الثورة، ولا هوت التنمية، ولا هوت النظام، ولا هوت التقدم، كما هو الحال في العديد من الثقافات المعاصرة في البلاد النامية التي نحن جزء منها" أقول: هكذا يفتري هذا الرجل على الله تخرصاً (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً).. يفتري على اسم الله الأعظم.. تعالى الله عما يقول حنفي علواً كبيراً.. أهذا ما يريد اليسار الإسلامي لديننا!! أهكذا يكتب رجل عن رب العزة سبحانه وتعالى.. بكل هذه الوقاحة!! خبرونا إن لم يكن ما كتبه حسن حنفي في الفقرة السابقة إلحاداً وإنكاراً لوجود الله؟!! فماذا يكون إذن؟!!(52/111)
أهكذا يصل الخطاب تحت مظلة البحث العلمي بحق الله تعالى! في منتهى السخف
والإستهزاء بجناب رب العزة.. فضلاً عن الإستهزاء بعقيدة أهل التوحيد.. (سبحانك هذا بهتان عظيم).. لو طلب من حسن حنفي أن يكتب بحثاً أو مقالة في فرعون من الفراعين ما اجترأ أن يتحدث بهذه الطريقة الإلحادية التي تدل على زندقة سافرة.. (الله هو الرغيف!! والحب والتنمية والأرض والحرية و الرزق والقوت!!).. والله لقد قال هذا الزنديق الذي يصر على أنه مسلم قولاً (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا).. ورغم هذا الكفر البواح يتبجح حسن حنفي عبر وسائل الإعلام مدعياً أنه مسلم يقدم مشروعاً حضارياً لينقذ به أمة الإسلام!! رابعاً: لا تقديس للقرآن والسنة: قد تناول حنفي في طعنه أعظم ما تعتز به هذه الأمة من شعائر دينها والعاصم لها من الضلال بعد الهدى ومصدر شريعتها إذ يقول: "نشأ التراث من مركز واحد وهو القرآن والسنة ولا يعني هذان المصدران أي تقديس لهما بل هو مجرد وصف لواقع" سادساً: الحجاب كبت جنسي: لم يترك حسن حنفي أي شعيرة أو فضيلة في الإسلام إلا نقضها وطعن فيها وتطاول وافترى على المشرع الحكيم الذي فرض الحجاب وأمر به!! فيقول حنفي: "سيادة التصور الجنسي للعالم، البداية بالحجاب وعدم الإختلاط، والأمر بغض البصر، وخفض الصوت، وكلما ازداد الحجاب ازدادت الرغبة في معرفة المستور، والدعوة السياسية الإجتماعية أرحب وأوسع عن هذا التصور الجنسي للعلاقات الإجتماعية، ولماذا يصنف المواطن إلى رجل وامرأة؟ ولماذا ينظر إلى الإنسان باعتباره ذكراً أم أنثى؟ إن تأكيد النظرة الإنسانية أو الإعلان عن الثورة السياسية من شأنه إحداث ثورة في السلوك الفردي دون ماحاجة إلى التصنيف الجنسي للمواطنين، خاصة وإن كان لا يدل على فضيلة بل يدل على رغبة جنسية مكبوتة أو حرمان جنسي في حالة من التسامي والإعلاء" انظر إلى هذا الميزان المقلوب الذي يزن به حسن حنفي أسباب فشل تغيير الواقع بالقديم أي عن طريق القرآن!! فهناك تناسب طردي بين الحجاب والرذيلة!! فكلما ازداد الحجاب زادت الرذيلة!! فالحجاب في نظره رغبة جنسية مكبوتة!! والحجاب سبب تفشي الرذيلة والفوضى الجنسية في العالم!! ويتطاول حسن حنفي على النص القرآني (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين).. ويتساءل حنفي لماذا ينظر إلى الإنسان باعتباره ذكراً أم أنثى؟!! ولماذا يصنف المواطنون إلى رجل وامرأة؟!! صفوة القول في الدكتور حسن حنفي: رغم تمسحه بالإسلام ورغم مقالاته المتعددة في العديد من المجلات والدوريات التي تصدر على مستوى العالم الإسلامي وخاصة مقالاته الدورية في جريدة الزمان اللندنية التي يبطنها بالدفاع عن الإسلام في مواجهة الغرب إلا أن كل ذلك لا يؤثر في أنه زنديق من كبار الزنادقة الجدد في العصر الحديث وصاحب مشروع تخريبي لهوية الإمة الإسلامية..
من هو حسن حنفي ؟
هو أحد المفكرين التنويرين المعاصرين والذين يتبعون منهج المعتزلة ويقدمون العقل على النقل وهو الداعي إلى الثورة ضد العقيدة كما هو واضح من خلال كتبه والتي منها ( من العقيدة إلى الثورة ) ، ( التراث والتجديد ) ، وغيرها من الكتب التي تدعو إلى التحرر من الدين من خلال العقل والثورة ضد كل ماهو موروث ، فهو يعتبر الدين الإسلامي ميراث ثقافي يتغير بحسب الظروف والأحوال .
فيذهب حسن حنفي إلى أنه ليس هنالك دين في ذاته بل هناك تراث يمكن تطويره وتطويعه حسب الظروف والملابسات : " الأول التراث القديم لا قيمة له في ذاته كغاية أو وسيلة, ولا يحتوي على أي عنصر من عناصر التقدم ، وأنه جزء من تاريخ التخلف أو أحد مظاهره , وأن الارتباط به نوع من التغريب ونقص في الشجاعة وتخل عن الموقف الجذري ونسيان للبناء الاجتماعي الذي هو إفراز منه, وفي حين أن الجديد علمي وعالمي يمكن زرعه في كل بيئة " أهـ - التراث والتجديد .
ويذهب حنفي إلى ان العلمانية هو اساس الوحي ، فيقول : " العلمانية إذن أساس الوحي ، فالوحي علماني في جوهره ، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ " أهـ - التراث والتجديد .
فالدين طارئ والعلمانية هي الأصل والأساس ، هذا ما يذهب إليه حسن حنفي التحرر من الروابط العقائدية ، يدعو إلى استخدام العقل لإفادة المجتمعات ، ووصلت به زندقته إلى أن قال : " وهل تجب النبوة لحاجات عملية أي للتنفيذ والتحقيق وأداء الرسالة مادام الإنسان غير قادر على سن القوانين وتأسيس الشرائع وإقامة الدول أو تجنيد الجماهير وتوجيه الأمم وفتح البلدان، ألا يمكن للعقل قيادة المجتمعات مثل قيادة الإمام لها، هناك أيضا العقل الاجتماعي والعقل السياسي والعقل التاريخي لوضع القوانين وسن الشرائع.. إن العقل ليس بحاجة إلى عون، وليس هناك ما يند عن العقل . هل استطاعت النبوة أن تخفف من نقائص الإنسان وهي أول من يعترف بها؟ " أهـ - من العقيدة إلى الثورة .(52/112)
وهو ينكر شرع الله الملزم ويعتبر ما جاء في القرآن فكر ثقافي قائلاً : " ليس القرآن كتاب تحليل وتحريم بل كتاب فكر وليس الغرض منه تغليف العالم بقوانين وتقييد السلوك الإنساني بقواعد بل مساعدة الطبيعة على الازدهار والحياة على النماء " أهـ - من العقيدة إلى الثورة .
ويقول أيضاً : " نشأ التراث من مركز واحد وهو القرآن والسنة ولا يعني هذان المصدران أي تقديس لهما بل هو مجرد وصف لواقع " أهـ - التراث والتجديد .
ووصل به الإلحاد إلى أن قال : " وما أسهل أن يولد الدفاع عن حق الله دفاعا مضاداً عن حق الإنسان " أهـ - من العقيدة إلى الثورة .
وقد أفترى على صلى الله عليه وسلم قائلاً : " أن النبي محمداً كان يحمل هم الوحدة الوطنية للقبائل العربية وتكوين دولة في الجزيرة العربية، وكانت له مشاكل مع اليهود والنصارى ومع المشركين أيضا، فجاء المشركون إليه بعرض جيد -وأنا أتكلم عن الرسول كرجل سياسة وليس كنبي- وقالوا له: نعم أيها الأخ ، ما المانع أن تذكر اللات والعزى لمدة سنة واحدة وقل أنهم ليسوا آلهة.. فقال بينه وبين نفسه: إن هذا العرض يشكل بالنسبة لي كزعيم سياسي شيئا جيدا لأنه يحقق لي مصالحة مؤقتة مع العدو، وماذا يعني لو أنني ذكرت اللات والعزى لمدة سنة واحدة ثم أغير بعدئذ ؟ ثم إن الوحي يتغير طبقا للظروف " أهـ - الإسلام والحداثة .
إنه مذهب خبيث يخرب العقائد بحجة التحرر عن طريق الفلسفة والزندقة ، إنه من جيل الفلاسفة الملاحدة وعلى دربهم يسلك ، فقد قال عليه لعنة الله : " مع أن علماء أصول الدين يتحدثون عن الله ذاته وصفاته وأفعاله، فإنهم في الحقيقة يتحدثون عن الإنسان الكامل ؛ فكل ما وصفوه على أنه الله إن هو إلا إنسان مكَبَّر إلى أقصى حدوده " أهـ - التراث والتجديد
تعالى الله علواً كبيرا فهو المنزه عن النقائص سبحانه جل قدره .
يقول عليه لعنة الله : " إن لفظ ( الله ) يحتوي على تناقض داخلي في استعماله باعتباره مادة لغوية لتحديد المعاني أو التصورات، مطلقاً يراد التعبير عنه بلفظ محدود " أهـ - السابق
ويضيف : " فكل ما نعتقده ثم نعظمه تعويضاً عن فقد ، يكون في الحس الشعبي هو الله " اهـ - السابق .
ويضيف : " ومن ثم فتوحيدنا هو لاهوت الأرض، ولا هوت الثورة ، ولا هوت التنمية ، ولا هوت النظام ، ولا هوت التقدم ، كما هو الحال في العديد من الثقافات المعاصرة في البلاد النامية التي نحن جزء منها " أهـ - السابق .
وهو يقول موضحاً المنهج الإعتزالي كخيار بديل عن الدين : " أن وجداننا المعاصر يعاني من ضياع أخذ زمام المبادرة منه باسم الله مرة ، وباسم السلطان مرة أخرى ، ومن ثم فالاختيار البديل ، الاختيار الاعتزالي .. هذا الاختيار قد يكون أكثر تعبيرا عن حاجات العصر، وأكثر تلبية لمطالبه " أهـ - التراث والتجديد .
هذا هو حسن حنفي أحد الزنادقة الداعين إلى العصرنة بمفهوم عقلي قاصر والداعي لتحرير الفكر من ثوابت الدين الحنيف .
تطاول خطير على الذات الإلهية
شهدت ندوة نظمتها مكتبة الإسكندرية أمس تطاولاً غير مسبوق على الذات الإلهية والسخرية من بعض آيات القرآن الكريم والسنة، على لسان الدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة.
فقد فوجئ جمهور المكتبة أثناء حضوره ورشة العمل أقامتها المكتبة عن الحرية الفكرية، بسخرية الدكتور حسن حنفي من الأسماء الحسنى لله سبحانه وتعالى، بعد أن وصف أسماء المهيمن والمتكبر والجبار بأنها أسماء تدل على الديكتاتورية للذات الإلهية وأنه يجب حذف تلك الأسماء.
وزعم أن هناك تناقضًا بين آيات القرآن الكريم وخاصة التي وردت عن الرسول الكريم، مشيرًا إلى القرآن ذكر في بعض آياته أن الرسول هو مذكر للعباد وليس مسيطرًا عليهم وفي هذا تعبير عن الحرية، على حد تعبيره.
واستطرد قائلاً: إنه ليس هناك آية قرآنية واحدة تتحدث عن أن الرسول قد أمر أن يقاتل الناس حتى يشهدوا ويدخلوا الإسلام، معتبرًا ذلك أقصى درجات العنف في الإسلام.
كما انتقد الحديث الشريف الذي قال فيه الرسول " خير القرون هو قرني ثم الذي يليه "، قائلاً: ما ذنبي أنا حسن حنفي أن أعيش في قرن من أسوأ القرون ولماذا لم أعش في خير القرون.
وقد أثار كلامه هذا اعتراض جمهور الحضور الذين صاحوا مطالبين بإنزاله من فوق المنصة، إلا أن المسئولين عن المكتبة رفضوا وطلبوا منه مواصلة حديثه من منطلق حرية التعبير، على حد زعمهم.
وقد وصف جمهور الحضور ما تفوه به أستاذ الفلسفة حسن حنفي بأنه أخطر من الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها الصحف الدانماركية العام الماضي، وخاصة وأنه اعتاد ترديد مثل هذا الكلام في كل ندواته وكان آخرها في مؤتمر الفلاسفة والذي عقد في المعهد السويدي بالإسكندرية منذ عدة أشهر.(52/113)
وكان الدكتور إسماعيل سراح الدين رئيس مكتبة الإسكندرية دأب خلال الأعوام الماضية على دعوة واستضافة المثقفين الماركسيين والعلمانيين فقط للتحدث في كافة ندوات ومؤتمرات المكتبة سواء المحلي منها أو الدولي. وفي المقابل، تجاهل مثقفي الإسكندرية ورجال الدين من الحضور في تلك الندوات للرد على ما يثار فيها من شبهات مثل التي يرددها الدكتور حسن حنفي.
المصريون
28/8/2006
لوصفه القرآن بالسوبر ماركت.. أزهريون يهدرون دم حنفي
علمت الجزيرة نت أن إسلاميين وأساتذة وعلماء أزهريين أهدروا دم الدكتور المصري وأستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة حسن حنفي، مطالبين بفصله من الجامعة وإقامة حد الردة عليه بسبب ما أسموه الأفكار الشيطانية التي صدرت منه تجاه النص القرآني.
وقال د. عبد الصبور شاهين إن حنفي اعتاد على مهاجمة الدين وثوابته والتطاول عليه من خارج الإطار الجامعي، خاصة بعد أن أحيل إلى التقاعد لأنه -حسب قوله- سيكون منبوذا وممجوج الرأي لو طرحه من داخل الجامعة.
وشبه شاهين د. حنفي بطه حسين ونصر أبو زيد وذلك لتجرؤه وطعنه في صحة القرآن وبأنه متناقض ومتضارب، مؤكدا أن آيات القرآن لا تحمل تناقضا ولا تضاربا وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه قائلا "التناقض والتضارب موجود فقط في عقل حنفي".
كما أوضح أن التصدي لتفسير القرآن العظيم ليس من حق أي شخص لأن ذلك يتطلب -في رأيه- خبرة ودراية بأسباب النزول وطبيعة الأحداث التي كانت الدعوة الإسلامية تمر بها خلال 23 سنة، وهي الفترة التي قضاها الرسول الكريم في تبليغ رسالة ربه.
وأضاف د. شاهين أن كلام حنفي حول أسماء الله الحسنى وما قاله عن ضرورة حذف الأسماء التي تشير إلى القوة والجبروت بدعوى أنها تكرس الله - سبحانه وتعالى - كدكتاتور ، بأنه كلام "مساطيل" فأسماء الله الحسنى تنوعت بين الرحمة والعذاب وهذا من صفات الكمال.
من جهته قال عضو مجمع البحوث الإسلامية د. مصطفى الشكعة إن تفسير فهم معاني القرآن الكريم يتطلب إدراكا كاملا بدروب اللغة العربية ودراسة لتاريخ الدعوة الإسلامية وترتيب أحداثها والإلمام بالسيرة النبوية، بالإضافة إلى أن يكون المفسر كامل الإيمان بالله ولا ينحاز إلى عقله أو يعظمه متجاهلا النص القرآني.
وكان حنفي قد أثار هذا الموضوع بمحاضرة ألقاها بمكتبة الإسكندرية أثناء مشاركته بورشة عمل عن "الحرية الفكرية في مصر" وصف فيها كتاب الله العزيز بأنه أشبه بالسوبر ماركت ، مما أحدث ردود فعل كثيرة داخل أوساط مثقفين مصريين، بينما رفض هو التعليق عليها واعتبر الأمر شأنا لا يعنيه.
===============(52/114)
(52/115)
مشروع محمد عبده ( الإصلاحي ) وزرع الشوك
محمد جلال القصاص
لازالت شريحة كبيرة من المثقفين تتكلم عن محمد عبده على أنه إمام ورائد للنهضة الحديثة ، ويدعوا نفر من المحسوبين على التيار الإسلامي إلى إعادة نموذج محمد عبده الإصلاحي ثانية للنهوض بالأمة الإسلامية من جديد . . لذا رأيت أنه من الضروري إلقاء الضوء على نموذج محمد عبده الإصلاحي . وبيان كيف أنه كان البذرة التي أثمرت الشوك فيما بعد .
من هو محمد عبده ( 1849 م ــــ 1905 ) ؟!
بعد فشل الحملات الصليبية على البلدان الإسلامية ، وأسر لويس التاسع في دار بن لقمان بالمنصورة وفِديته . كان هذا الرجل فطنا ، عاد يحدث قومه : لن تستطيعوا التغلب على هذه الشعوب وأنتم تحملون الصليب ، هذه الشعوب تهب حين تُأْتَى من قبل دينها . فتعلم الصليبيون الدرس ، وعادوا إلينا يدَّعون أنها أهداف اقتصادية ، وأنهم علمانيون لا دينيون ، والحقيقة أنهم يحملون ذات الثارات القديمة ، والفارق بينهم وبين أجدادهم أنهم لا يجملون الصليب .وكان الاحتلال البريطاني لمصر جزء من هذه الحملة الصليبية الجديدة على العالم الإسلامي ، فمنذ قدومهم عملوا على نزع الهوية الإسلامية عن شعب مصر ،وإعادة قراءة النصوص الشرعية بما يتفق مع مطالبهم .وقد عملوا على إيجاد جيل كامل من أصحاب الشذوذ الفكري والطموح السياسي كما يقول الدكتور محمد محمد حسين ليتولى هو مخاطبة الشعب وتغيير هويته .
وقد وجد القوم بغيتهم في ( الشيخ ) محمد عبده... لماذا ؟
يرجع هذا إلى نشأة ( الشيخ ) وطبيعة أفكاره . فقد ( كان الشيخ اعتزالياً متتطرفاً ، هذا أقرب ما يمكن أن يوصف به الشيخ من الانتماءات المذهبية وإن كان في الواقع له اتجاه مستقل أحياناً ، وتظهر إعتزاليته في تفسيره للملائكة والجن والطير الأبابيل وخلق آدم ، وربما كانت هذه التأويلات هي التي دفعت كرومر إلى قوله " أشك أن صديقي عبده كان في الحقيقة لا إدرياً " نقلها عنه جب ص 399 دراسات في حضارة الإسلام ) [1]
تأثر ( الشيخ ) محمد عبده بجمال الدين الأسد أبادي (الأفغاني ) والذي نفي إلى مصر لفكره الاعتزالي وأرائه الغريبة إذ أنه كان منبهراً هو الآخر بالغرب وقوانينهم فنادي بأن الأمة هي مصدر الحكم ، ونادى بوحدة الأديان ، والسلام العالمي ،وأن الاشتراكية من الإسلام . ورحل إلى أمريكا مستنصرا . [2]
وحمل محمد عبده ذات الأفكار ، وأفسح الإنجليز له المجال ليتكلم إلى الشعب من أعلى المنابر في مصر وأكثرها قبولا لدى العامة وهو منبر الإفتاء ، وليكون لسانه لسان الشرع .
أما كونه حمل ذات الأفكار ودعى إليها فقد جاء في مقدمة رسالة التوحيد لمحمد أبو ريّة ـــ وهو من أحباء الشيخ ــــ نقلا عن مستر بلنت في كتابه( التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر) ص:76 وهو يتحدث عن الشيخ جمال الدين الأفغاني ورسالته في الشرق وإصلاحه يقول : أما عباءة المصلح نفسه ـــ يعني جمال الدين ـــ فقد ألقيت على عاتق أقوى من عاتق صاحبها الأصيل ( الشيخ ) محمد عبده وقد خلف جمال الدين في زعامة حزب الإصلاح الحر في الأزهر .
أما كون الإنجليز أفسحوا له المجال فهذه حقيقة لا يماري فيها من له أدنى دراية بـ ( الشيخ ) ، والذي يتضح لي أن شخصية محمد عبده اتفقت مع هوى الإنجليز ، فحدث بينهما التقاء وتعاون ، وثقة متبادلة ، يصفها البعض بالعمالة ويشتد البعض في اللفظ فيصفها بالخيانة والمحصلة واحدة ، وما يعنيني هو أن الشيخ كان على علاقة قوية بالإنجليز . لم ينكر هذا أحبابه فهذا يوسف الغزال في تقديمه لرسالة التوحيد يفسر سوء العلاقة بين الشيخ والخديوي عباس بقوة علاقة الشيخ بالإنجليز وكثرة تردده عليهم . [3] وعلانية امتدحه الإنجليز ورضوا عن أقواله وأفعاله ، ووقفوا ورائه يغدقون عليه الألقاب ، ويرسلون فتواه في كل مكان .
واقرأ هذا النص ، وهو من قول مستشار القضاء الإنجليزي بمصر في تقريره عن المحاكم لسنة 1905م وهو العام الذي توفى فيه الشيخ يقول : ولا يسعني ختم ملاحظتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي بغير أن أتكلم عن وفاة مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر يوليو الفائت وأن أبدي أسفي الشديد على الخسارة الفادحة التي أصابت هذه النظارة بفقده .. " إلى أن يقول : " وفوق ذلك فقد قام لنا بخدمة جزيلة لا تقدر في مجلس شورى القوانين في معظم ما أحدثناه أخيراً من القوانين المتعلقة بالمواد الجنائية وغيرها من الإصلاحات القضائية .... " [4]
معذرةً أرجو قراءة النص مرة أخرى !(52/116)
ومعروف أن المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر كان صديقا للشيخ محمد عبده ، وأنشأ سويا كلية لتخريج قضاة الشرع المسلمين يدرس فيها مجموعة من العلماء ذوي الطابع التحرري والتي يقول عنها :" أنها كلية أثبتت نجاحها من كل الوجوه " ويتحدث عن ذلك في تقريره لحكومته عام 1905م فبقول : وقد وضعت هذه المعلومات تحت تصرف لجنة ذات كفاية ممتازة يرأسها المفتي الأكبر السابق " محمد عبده " بقصد وضع خطة مشابهة تلائم ظروف مصر وحاجاتها وقد أتمت اللجنة في شهر يونيو السابق ـ والشيخ توفى في الشهر الذي بعده ، وهذا له دلالته ـ ووضعت النظم المقترحة تحت تصرف الحكومة .. وهذه النظم تذود الطالب ببرامج ثقافية ذات طابع تحرري ولا تحصر الطالب في الدراسات الخاصة "[5]
ولم يكن الشيخ مقرباً عند الإنكليز الكفرة وفقط بل " كان بين الطوائف الراقية من المصريين والأجانب محبوباً معظماً معترفاً له بمقام الإمام [6]
وأيضاً نال الشيخ احترام الكاثوليك العرب فهذا بشر الخوري صاحب معجم الموارد يقول بعد سلسلة من المدائح " .. والخلاصة أنك آية من آيات الله " [7] ]
بهذا تعلم أن محمد عبده نشأ في بيت مشبوه ورباه شيخ مشبوه هو جمال الدين (الأفغاني) ، وقام الإنجليز بزرعه في أعلى منصب في مصر ، وأخلوا بينه وبين الشعوب ليتكلم إليها كيف شاء .
أسس محمد عبده أثناء فترة تواجده في لبنان جمعية سريرة مع أحد دعاة التنصير تدعوا إلى الحوار بين الأديان [8].
دعوة الشيخ محمد عبده .
اشتهر الشيخ محمد عبده بدعوته إلى الإصلاح ، والإصلاح الذي كان يهدف إليه الشيخ ثلاثة أنواع :
إصلاح الدين وإصلاح اللغة والأدب وإصلاح السياسة [9]
( وكل الذين قاموا بالإصلاح في الميادين الثلاثة كانوا من تلاميذه وأصدقائه ممن صاروا على خطاه وتأثروا بطريقته منهم سعد زغلول ، وقاسم أمين ، وأحمد لطفي السيد ، وطه حسين وغيرهم )[10]
والشيخ ( أعظم من تجرأ على مفهوم الولاء والبراء ودار الحرب ودار الإسلام من المنتسبين للعلماء بتعاونه مع الحكومة الإنجليزية الكافرة ودعوته إلى التعامل مع الإنجليز وغيرهم بحجة أن التعامل مع الكافر ليس محرماً من كل وجه )[11].
والشيخ هو صاحب الفتوى الترنسفالية ، التي أباح فيها التشبه بالخواجات في لبس القبعة[12] .
والشيخ أول من أفتى بإباحة الربا في شكل صناديق التوفير معتمداً ـ كما يرى العقاد ـ على مفهوم الآية من أنه لم يحرم من الربا إلا الأضعاف المضاعفة فقط .[13]
والشيخ كان ظهيراً لقاسم أمين في كتابه " تحرير المرأة " فعندما أصدر قاسم أمين كتابه تحرير المرأة شك كثيرون في كونه كاتبه لما حواه الكتاب من عرض ومناقشة للأقوال الفقهية والأدلة الشرعية التي كان مثل قاسم قليل البضاعة منها ولكنهم لم يشكوا في أن الذي دفعه إلى الفكرة هو أحد رجلين إما محمد عبده وإما كرومر ؛ ويحل لطفي السيد الإشكال في كتابه قصة حياتي إذ يقول ( إن قاسم أمين قرأ عليه وعلى الشيخ محمد عبده فصول كتاب " تحرير المرأة "في جنيف عام 1897م قبل أن ينشره على الناس ")[14].
وقال ذلك نصا الشيخ محمد إسماعيل ـــ حفظه الله ــ المقدم في محاضرة له بعنوان المؤامرة على المرأة المسلمة وعلل ذلك بان الكتاب مليء بالمسائل الفقهية التي لا علم لقاسم أمين بها .
والشيخ نادى بتحريم تعدد الزوجات عملاً بحديث لا ضرر ولا ضرار.!! [15].
( وجملةً يمكن أن يقال أن ما من عملٍ من أعمال الخدمة الاجتماعية تم بعد وفاته إلا كان من مشروعاته التي هيأ لها الأذهان ومهد لها الطريق وبدأ فعلاً بالاستعداد لتنفيذها ومنها الجامعة المصرية التي كان يعني بها أن تقوم بتعليم العلوم وفقاً للمناهج الحديثة وتسهم في تجديد الحضارة العربية القديمة ) [16]
ومن المعلوم أن هذه الجامعة كانت مختلطة . وأنشأت فيها معاهد للرقص والفنون الجميلة وهذه هي الأخرى كانت من بنات أفكار الإمام محمد عبده كما يخبر العقاد في فصل الفنون الجميلة .
وتدبر : التعامل مع الكفار ( قبول الآخر ) ، التشبه بهم ، إباحة الربا ، تحرير المرأة ، تحريم تعدد الزوجات ، أليست هي ذات المطالب القائمة اليوم ؟!
لمن كانت ثمار دعوته ؟
بعد هذا العرض لأفكار الشيخ ودعوته يمكننا القول أن الذي جنى ثمار دعوة الشيخ هم الإنجليز ، وذلك على مستويين .
الأول : على مستوى عوام الناس حيث اتخذت الشعوب أفكار الشيخ وفتاويه مبرراً نفسياً لتقبلها للتغير العلماني المتدرج في الدول العربية وقد صور محمد المويلحي في عمله الرائع حديث " عيسى بن هشام "شيئا من ذلك على لسان أبطال الرواية إذ يسأل أحدهم متعجبا : كيف صاغ للمصريين أن يأخذوا بقانون نابليون المخالف للشريعة الإسلامية ؟ فيجيب الآخر بأن المفتي أقسم بالله أنه موافق للشريعة )(52/117)
الثاني : كانت أفكار الشيخ محمد عبده ـ كما يقول سفر الحوالي ـ حلقة وصل بين العلمانية الأوروبية والعالم الإسلامي ومن ثم باركها المخطط الصهيوني الصليبي العالمي واتخذها جسراً عبر عليها إلى علمانية التعليم والتوجيه في العالم الإسلامي وتنحية الدين عن الحياة الاجتماعية ، بالإضافة إلى إبطال العمل بالشريعة الإسلامية والتحاكم إلى القوانين الجاهلية المستوردة ، واستوراد النظريات الاجتماعية الغربية وهو ما تم جميعه تحت ستار الإصلاح أيضاً [17]
نعم كان محمد عبده مخلصا وجادا فيما يفعل ، وأراد محمد عبده الوقوف في وجهة الجمود العقلي الموجود في هذه الأيام ، وأن يجاري العقل الأوروبي صاحب الاختراعات والاكتشافات العلمية يومها ، فبالغ في إعمال العقل وصار تحت ردود الأفعال فأحدث انحرافا جديدا [18] .
ونعم أراد محمد عبده أن يقيم سدا في وجه الاستعمار الغربي والغزو الفكري يومها ، فأقام قنطرة عبر عليها العدو إلى ثوابتنا الإسلامية ، فكان ما كان . كما يقول الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم .
ومن يقرأ عن حياة محمد عبده ويأخذ شخصيته من كل جوانبها ، يجد أن الشيخ كان شغله الشاغل هو تحسين صورة الإسلام في أعين الغربيين . والنهوض بالأمة ، نهضة مادية كالتي كانت في أوروبا يومها ، وربما هذا هو القاسم المشترك بينه وبين من يحاولون إحياء دعوته اليوم .
من المهم جدا تحديد المنطلق ، ومن المهم جدا وضوح الهدف بدقة . وثلة غير قليلة من مثقفي اليوم ، تريد تحسين صورة الإسلام أمام الغرب ، وتريد الرقي المادي بالأمة الإسلامية ، وتجد أقلامهم تأن من كل فعل ( يشوه ) صورة الإسلام أمام الغرب ، وهم يصرحون بهذا في أكثر من مقام .
هذا هو هدفهم الذي يظهر لي ، وهذا هو منطلقهم الذي يخرجون منهم .
والذي أفهمه هو أن رسالتنا هي تعبيد الناس لله وليس الرقي المادي بحياتهم ، وأن الخطاب الأخروي لا ينبغي أن يغيب عن البال ، فالشرع جاء أساسا لإنقاذ الناس من نار جهنم " وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " ، وإصلاح الدنيا يأتي تبعا ، لا أصلا " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض "
والذي أفهمه أنه مر مائة عام على وفاة محمد عبده ، ولم نجن من مشروعه الإصلاحي إلا الشوك . . . حرية المرأة ، والجامعات المختلطة ، والسخرية من التيارات السلفية الملتزمة بالهدي النبوي . .. الخ .
نعم لم نجن من مشروع محمد عبده إلا الشوك ، والعجب كل العجب أن يأتينا آخر يريد منا اليوم بذر الشوك ثانية للأجيال القادمة . !!
كتب : محمد جلال القصاص
25 /06 /2005
18 /05 /1426
------------------------------------------
[1] [راجع إن شئت العلمانية للدكتور سفر الحوالي صـ 575]
[2] ومن أراد المزيد فليقرا خاطرات جمال الدين الأفغاني اختيار عبد العزيز سيد الأهل ص : 14 والاتجاهات الفكرية والسياسية والإجتماعية علي الحوافظة :102، 181،182 وكان للأفغاني نشاط ماسوني وكان يشرب الكونياك ـــ وهو نوع من الخمر ــــ كما ذكر ذلك محمد رشيد رضا في " تاريخ الأستاذ " جـ 1 / 49
[3] .[ رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده تقديم حسين يوسف الغزال ص: 15،20]
[4] [نقلا عن العلمانية للشيخ الدكتور سفر الحوالي ص :575 س
[5] المصدر السابق صـ 576، 577
[6] ".[ (3)رسالة التوحيد- محمد عبده تقديم محمد أبورية ص8
[7] [ المصدر السابق ص 10 ]
[8] " ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتاب ( منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير ) الدكتور فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي . صـ 124 ـــ 169 )
[9] ،[رسالة التوحيد تقديم حسين الغزال ص18 ]. قلت : وهذا يشي بانفصال الدين عن السياسة في رأس الرجل .
[10] [سلسلة أعلام العرب ص 20 ]
[11] [العلمانية 578]
[12] [أعلام العرب ص: 176]
[13] [أعلام العرب ص: 176]
[14] [ أحمد لطفي السيد ص 132 وجاء مثل هذا في كتاب قاسم أمين ص 158، 159]
[15] أورد هذا الكلام خالد محمد خالد في كتابه الديمقراطية أبداً ص: 164، 165 .
[16] [ العقاد :أعلام العرب ص : 176]
[17] .[ العلمانية ص :579 ]
[18] راجع ـــ إن شئت ـــ مقدمة كتاب مقومات التصور القرآني للأستاذ سيد قطب .
=============(52/118)
(52/119)
وهلك...(الماغوط)...!!
حسين العفنان
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على الحبيب محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فقد هلك (الماغوط) وذاق حر الموت وشدته، وانتقل من الأمل إلى الأجل، وتحول من المطلع إلى المصرع ،وضُرب بينه وبين شهواته بسور!
نَفَقَ (الماغوط) بعد أن سبَّ العظيمَ الجبار، وتنقصَ الحبيبَ المختار، وبعد ادعى النبوة، وسخر من الكتاب والسنة !
فَطَسَ (الماغوط) بعد أن أضل جبلا كثيرا من الشباب، وثلم أعراضهم ، وأفسد عفتهم، ونشر فيهم الفحش والبذاءة، وبث فيهم القِحة وقلة الحياء!
فتخلفُ الأمة وحِطتها،من أسباب (الماغوط) وشيعته، ومن سار على سبلهم من خُشارة الناس وسقطهم ، من حداثيين وليبراليين!
ومن نكد الدنيا أن ترى هؤلاء هم الصدر، وهم أهل الثقافة والفكر! وأهل الهمم والقمم! وحماة الأوطان وحراس الأعراض! وعنهم يؤخذ العلم والفضل والشرف!
ومن الكوائن ( أي المصائب) في هذا القرن نصبُ أهل الكفر والإلحاد، والزندقة والزيغ والنفاق! أمام بصر الشباب والنابتة فيتوهم الغِر وتأخذ بصره هاته الألون! فيقع في حبالتهم وتسقط دعائم دينه، فيخسر نعيم الدنيا والآخرة!
قدم (الماغوط ) على الجبار العدل ـ عز وجل ـ وسيسأله عن لحظاته ولفظاته! سيسأله عن قول ـ تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقوله هذا المعتدي الظالم ـ
( لماذا خلقني ؟
وهل كنت أوقظه بسبابتي كي يخلقني )
وعن قول :
( يارب
أيها القمر المنهوك القوي
أيها الإله المسافر كنهد قديم
يقولون أنك في كل مكان
على عتبة المبغى ، وفي صراخ الخيول
بين الأنهار الجميلة
وتحت ورق الصفصاف الحزين
كن معنا في هذه العيون المهشمة
والأصابع الجرباء
أعطنا امرأة شهية في ضوء القمر )
وعن قول :
( إنني أعد ملفا ضخما
عن العذاب البشري
لأرفعه إلى الله
فور توقيعه بشفاه الجياع
وأهداب المنتظرين
ولكن يا أيها التعساء في كل مكان
جُلَّ ما أخشاه
أن يكون الله أميّا )
وقول:
(يا إلهي يطلع النجم
دعه يغني لنا إننا تعساء
عذبْنا ما استطعت )
وقول :
( فأنا نبي لا ينقصني إلا اللحية والعكاز والصحراء )
وقول:
(قبرك البطيء كالسلحفاة
لن يبلغ الجنة أبدا
الجنة للعدائين وراكبي الدراجات)
وقول...وقول...وقول !!
يا عقلاء!
أبعد هذا يعظّم ويبجّل ويكرّم ويترحم عليه!
و يقال عنه (كان مهموما بقضايا أمته!!)
وما من كاتب إلا سيفنى= ويبقي الدهر ما كتبت يداه
(فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون)
يا أنصاره ! يا شيعته!
(واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)
كتبه
حسين العفنان
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
=============(52/120)
(52/121)
منصور النقيدان ... (جولة في ردهات نفسه وضميره) !!
دكتور استفهام
في تلك الليلة الصيفية دعاني أحد الزملاء الى استراحة للقاء سيتحدث فيه منصور النقيدان ، وكان الحضور قرابة العشرين او يزيدون قليلا ، وكنت قبلها لم أجلس مع منصور النقيدان إلا مرة واحدة ، بل ربما قبلها لم أسمع بشي يقال له منصور النقيدان إلا حين جلست مع أحد الشباب الذين شاركوا مع النقيدان في عملية التفجير في المركز النسائي في القصيم ..
لا أخفيكم سراَ أني تعجبت أشد العجب من منصور النقيدان في تلك الليلة التي تحدث فيها ما يزيد عن الساعة والنصف برتابة وقوة عبارة وكأنه يقرأ من ورقة ، وكان يرفع طرفه الى الأعلى وكأنه يستحضر نصوصا يحفظها عن ظهر قلب ، وكانت كلمته تنضح بالثورية الشديدة التي تذكرني بالثوريين العرب الذن يجعلون " الثورة " هدفا بذاته من دون مرجعية دينية واضحة في خطابه ، وكنت في تلك الليلة اتسائل : كيف وصلت هذه الفكرة الثورية الى منصور النقيدان ، وماهي مراجعه فيها وهو يعيش في القصيم الذي يغلب على طلبة العلم فيه الاهتمام بالكتب العلمية المدرسية ، وماهي الغاية التي يريدها النقيدان من هذه الثورية الطافحة في خطابه ، وكان يجلس بجانبه مشاري الذايدي الذي كان كث اللحية ، متحفزا إلى الكلام ، وكأنه محبوس في قفص يحاول التخلص منه ، وكان ثوبه قصير الى درجة ملفته للنظر ، وحين انتهى منصور انقض مشاري بكلام قاس ونبرة تكفيرية حادة ، ومقت للواقع ، يتسلل من عباراته وقد كانت عباراته أوضح في النقمة ، واقل في المستوى الأدبي من كلمات زميله منصور !
جالست منصور النقيدان بعد تلك الجلسة عدة مرات ، وزارني في بيتي مرة واحدة او مرتين - لا أذكر - ، وهو بحق ممتع في مجالسته ، وخاصة حين يطرب للحديث والذكريات ، مع قلق دائم وهم تجده باديا على ملامحه ، قد صنعه في ضميره الوقت الذي أمضاه بين مشكلات أوقع نفسه باتونها ، وكنت أجد في منصور نبرة المتحدي للآخرين ، المحب لأن يكون شيئا مذكورا ، الراكب للموجة الفكرية الحاضرة ، فهو يتوجه الى المسألة المثارة في الساحة الفكرية والدعوية بشغف ليستعرض كل طاقته أمام الشباب الخائضين فيها ، وأذكر ان الموجة في ذلك الوقت هي موجة الخلاف حول قضايا الارجاء ، وموقف الشباب من رأي الشيخ الالباني فيها ، ومخالفة بقية العلماء له ولتلامذته فيها ، وقد انتشر في ذلك الوقت كتاب الشيخ سفر الحوالي مخطوطا " ظاهرة الارجاء في الفكر الاسلامي " وكان منصور النقيدان مهتما بالموضوع ، ومحتدا كذلك فيه الى درجة انه حفظ طبقات المرجئة واقسام الارجاء ، والخلافات الدقيقة بين اقوالهم ، ومناضلا كبيرا في تقرير قضايا الايمان عند أهل السنة ، وكان من " غلوه " في هذا الجانب ما حُكي لي أنه دخل مسجدا في أحد المناطق ، وحين علم بأن الامام يقول بقول الالباني في الايمان من اشتراط الاستحلال في الكفر ، وانه لا يقع إلا في الاعتقاد لم يصل خلفه ، بل خرج من المسجد وبحث عن مسجد آخر ..!!
في اعتقادي أن منصور النقيدان يمثل نمطا لكثير من الشباب الذين عرفتهم ، وخاصة اذا كان الواحد منهم يرى في نفسه قدرات وطاقات لم تقدر من قبل الوسط الذي يعيش فيه ، فهو يرى أنه " نبي ضيعه قومه " ، وكان جزءا من النقمة التي ينقمها على التيار العلمي والدعوي العريض هو الاهمال الذي كان يعانيه ، فهو طلب العلم على الدويش وغيره ، وابتلي وسجن ، وأنكر وقاوم ، ومع ذلك لم يكن له حضوة كبيرة ، حتى أن شباب القصيم لم يكونوا يكنونه بالشيخ كما سمعت من كثير منهم ، كما ادعى هو في برنامج " إضاءات " ، بل كانوا يرونه شابا متحمسا طائشا ، كل يوم له مذهب ، وكل ساعة له طريقه ، فهو ينتقل من صورة سلوكية معينة الى مقابلها بأسرع وقت ، فقد تأتيه وهو جالس في بيت طين ، منعزلا عن الناس ، محرما الدراسة وكارها للخلطة ، وخجولا لا يكاد يرفع طرفه في نظر زائريه ، ويبدو عليه التعبد والخشوع ، ثم تفاجأ في الزيارة الأخرى او في مجلس آخر ، بذلك الشاب الجرئ المعلن لانكار المنكرات الحاث عليها ، الجرئ في نظراته وتعابير وجهه ، ثم يصل الامر معه الى مداه حين يقوم بالتفجير بنفسه ..!
إن الذي يبدو من هذا كله أن منصورا كان يبحث عن موطئ قدم يحقق فيه ذاته ، ويشكل له حضور ، ولعله كان يظن أن الحضور يصنعه في الساحة الغرابة في الطرح ، والجرأة فيه ، بعيدا عن مراعاة الجوانب المهمة التي تحقق الحضور والتأثير ، مثل الاستقامة والاتزان ، والتواضع وترك النزاع والتقليعات التي تنم عن شخصية غير مستقرة لانفسيا ولا فكريا ،ومراعاة ظروف المرحلة وتقدير رموزها من العلماء والدعاة ، ولذلك لم يكن منصورالنقيدان مشروعا ناجحا أبدا للدعوة ، ولعل اصدق عبارة تصدق على وضع منصور ما يفعله بعض المشاغبين في الحارات الذين يقولون ( لعبوني وإلا ابخرّب ) !(52/122)
لقد كان منصور النقيدان رمزا للشللية العمياء التي تتفق في الليل على فكرة ، ثم تروج لها في الصباح ، ولذا لم يكن حراكه الثقافي ناضجا في أي مرحلة من مراحل حياته ، وهذا ما سبب التعثر في كل مرحلة ، وفتح مرحلة من الصراع مع الخصوم الذي لا يهدأ ، وكان ابرز معالم تلك الشللية " الحدة في حمل الفكرة الى درجة الغلو فيها " و " الوثوقية في المنهج الى درجة القطع واليقين " ، و " الانتقال من الفكرة الى نقيضها " بلا أدنى استشعار للحرج من الآخرين ، و " محاولة الاستقلال " الى درجة المفاصلة ، و " محبة التميز " ولو على أكتاف نقد المعظمين عند الآخرين ، و " الصراحة " في البوح بما يحمل من فكرة حتى لو أدت الى المصادمة والمناكفة مع الخصوم ، وفي كل مرحلة يشعر هؤلاء الشلة أنفسهم بأنهم وجدوا ضالتهم المنشودة ، ووقعوا على طريدتهم الغائبة ، ولا أدري كيف يضمنون الآن سلامة ماهم عليه ، وهو نفس الشعور الذي يكتنفهم في أي مرحلة يمرون بها ..!
لعل منصور النقيدان مثل كثير من الشباب الذي تضرب عليهم صورة نمطية سيئة ، وينتشر عنهم سلوكا مرفوضا من الكثير ، ثم يستحيل بعد ذلك ان تتغير تلك الصورة في ذلك الوسط ، مما يدفع الشاب الى البحث عن بيئة لا تعرف خلفياته، ولا ماضيه وافعاله ، فهو يتنفس الصعداء حين يجلس في مجلس يعرفه لأول مرة ، فهو يخرج كل قدارته وطاقاته التي لا يراها اولئك شيئا يذكر ، ويحس بارتياح شديد للبيئة الجديدة ، وهذا ما حصل فعلا لمنصور حين ترك القصيم قافلا الى الرياض وغيرها في تنقلات كثيرة ، ولكنه سرعان ما ينكشف أمره من خلال الملاحقين له ، المعارضين لطريقته ، مما جعل منصور النقيدان يجد ان التيار كله يحتاج الى مواجهة وغسل وحرب لا هوادة فيها ، وهذا لا يأتي إلا من خلال " التحيز " الى تيار مقابل يشكل خصومة فكرية ونفسية ، وهذا بالضبط ما وجده منصور النقيدان في التيار " الليبرالي " الذي يعد خصما تقليديا للتوجه الاسلامي ، ولذلك كانت بداية منصور النقيدان هو في النكاية بأعظم رمز عند التيار وهو إمام أهل السنة " أحمد بن حنبل " الذي طالته اول مقالة سطرها منصور النقيدان ، ولذا لم يجد منصور النقيدان للبداية في هذا المشروع إلا مقالا سرقه الجابري من فهمي جدعان ، فسرقه هو من ذلك السارق ، حيث جعل الامام أحمد مستبدا ظالما ومتعاظما في مقابل المسكين الضعيف ابن أبي دؤاد الذي كان يسومه ابن حنبل سوء العذاب ، ففجأة فاذا الجلاد المعتدي مجلودا ، واذا المجلود الكسير ظالما جبارا ، فكانت فكرته اقرب الى العبثية واستفزاز المقابل أكثر من كونها دراسة واعية لشخصية كالامام أحمد الذي كان النقيدان يتغنى بذكره في مجالسه ، وكان أشد المعجبين به ، بل كان الامام أحمد وموقفه من فتنة خلق القران افتتاحية يفتتح فيها النقيدان خطاباته النضالية ، ورمزا للصمود والاباء والعزيمة ، وفجأة انقلب عليه .. ونصر خصمه اللدود ابن ابي دؤواد عليه !
في اعتقادي ان هذا المقال الأول الذي سطره النقيدان يصلح لأن يكون " تيرمومتر " لفكر النقيدان ، ومقياسا لمدى البعد النفسي الحاضر في كل ما قاله وفعله النقيدان في ايامه التي تلت ذلك المقال ، وخاصة ان النقيدان يحمل مخزونا من الافكار التي يمكن ان يجيّر أي طرف من قوليها فيما يريد ، ويعرف مداخل المسائل ومخارجها التي من خلالها يستطيع النكاية بخصومه ، ولذلك يستطيع ان يجلس في مجلس ليقرر فيه ان صلاة الجماعة فرض عين اذا كان في المجلس من يراها فرض كفاية ساردا نصوص القول الأشد ، ثم يستطيع كذلك ان ينتقل الى مجلس آخر بعد عشر دقائق ليقرر أنها سنة مؤكدة ، مستحضرا قول المقابل ، وتأويلات وتخريجات الفقهاء ، بل ويستطيع ان يأتي بشبهات كل فرقة على أهل السنة والتي في يوم من الايام كان يستحضرها للرد عليها ، والدفاع عن الكتاب والسنة ، ولعل مقاله في الدعوة الى نشر فكر " الإرجاء " خير شاهد على هذا ، فهو كان يرفض الصلاة خلف سني قال بقول فيه شوبة ارجاء ، ثم هو بعد سنة او أكثر يدعو الناس الى ان يشيعوا في نواديهم فكرة الارجاء التي تسلخ العمل عن الايان ، وكأن مسائل العلم اصبحت عنده مسرحا ينتقي منه ما يريد في سبيل النكاية بتيار يعاديه ، ويفرغ حنقه النفسي عليه من خلال لعبة التأويل في الاقوال ، او ضرب أدله الفرقاء بعضها ببعض ، وهذا ما رأيته بارزا في حلقة النقيدان في برنامج " إضاءات " حيث ظهر في الحلقة براعة النقيدان في " التأويل " في الأقوال التي يظهر في بشاعة القول الملفوظ ، وتخريجاته الباطنة التي لو صادف طالب علم يناقشه فيها لوجد له الف باب يخرج منه ، تماما كما يفعل الجربوع للعارفين بحال الجرابيع وطريقة هروبها من الاصطياد !
أليس عجيبا فعلا ان اسمع النقيدان قبل انتقاله الى وضعه الحالي بأشهر قليلة وهو إمام مسجد يحتد على شيخ مشهور ويقول حين عرض عليه قول له : " هذه زندقة " ، ثم بعد ذلك بقليل يركب موجة معادية لا للمتطرفين الارهابيين من التيار ، بل لكل التيار بأطيافه المختلفة ، ومدارسه المتباينه ، فهل للسرعة في الانتقال دلالة ومعنى ؟؟(52/123)
إن الاجابة التي استطيع ان اقولها في مثل هذه الظاهرة هي في الفرق بين حمل " الاسلام " قناعة راسخة وديانه لله تعالى ، تجعل الانسان يحمل قيمه اختيارا ويقينا حتى لو اصابه فتور او انحراف في بعض القول والعمل ، وبين من كان الجو الاسلامي والدعوي هو جو وجد فيه بلا اختيار ، او هو جو يحقق فيه الانسان ذاته ، او يسعى الى تحقيق ذاته ويجد رغبة ولذة في هذا ، من محبة الشهرة والصدارة والرياسة ، وهذا يظهر في كثرة الجدل والمناظرة ومحبة الانتصار وكسر الخصوم ، وخلق المعارك ، وحساب الارباح والخسائر فيها بدقة ، فاذا ما أحس بأنه ينازع في هذه اللذة ، أو يناكف عليها ،او احس بانطفاء جذوة الحضور والصدارة أو ان حظ نفسه قد زال ، بحث مباشرة عن جو آخر يحقق له ما يريد، بغض النظر إن كان جوا إسلاميا او غير اسلامي ، وهذا أمر يتسلل الى النفوس بلا وعي ولا شعور ، ويحتاج الى محاسبة النفس ، والنظر في الطريق ، ومراجعة الاخلاص في القول والعمل ، فاذا لم يوفق الانسان الى هذا ، كانت اللذة والرغبة والعاجلة هي المقدمة على كل شي ، حتى لو كان ذلك في الالحاد ، او الانحراف الفكري والسلوكي ... فنسأل الله الثبات !
إنني لم أكتب عن النقيدان ، ولم أكن أحب ان اكتب عنه إلا من أجل ان نجعل منه صورة تعرض طلبا لمراجعة الانفس ، والاتعاظ من حال من ارتكس بعد ان كان مهتديا ، ولا أقول هذا لأني اخالف النقيدان في بعض المسائل المحتملة للخلاف والاجتهاد ، ولكني اقول هذا لأني رأيت في النقيدان غلوا في حمل الفكرة المناهضة للديانة والاستقامة ، وهو طريق خطير على جيل الامة وشبابها ... عصمنا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن !
==============(52/124)
(52/125)
تركي الحمد وأطياف الأزقة المهجورة (1)
من هو تركي الحمد ؟
تركي الحمد من أسرة قصيمية انتقلت وسكنت بالمنطقة الشرقية ، وعلى وجه التحديد بالدمام .
وكان أبوه يعمل في شركة الزيت العربية الأمريكية ( أرامكو ).
وقد عاش تركي الحمد مرحلة شبابه ومراهقته في الستينات والسبعينات الميلادية بالدمام ، وهي المرحلة التي عاش فيها العالم العربي تحولات فكرية وسياسية متضاربة ، وأحزاب قومية متناقضة من القومية والناصرية والبعثية ... إلى الاشتراكية والشيوعية وغيرها من الأحزاب .
وقد كان للحمد اهتمامات وقراءات في هذه الأفكار أدت به في النهاية إلى الانضمام لحزب البعث العربي الاشتراكي وهو في الثانوية العامة .
ثم ألقي القبض عليه وهو في السنة الأولى الجامعية في جامعة الملك سعود ( الرياض سابقاً ) وذلك بعد كشف التنظيم ، وبقي في السجن مايقرب من سنتين وبعد الإفراج عنه سافر إلى امريكا للدراسة .
وهناك مكث ما يقارب العشر سنوات ثم عاد إلى جامعة الملك سعود أستاذا في العلوم السياسية .. ثم تفرغ حاليا ً للكتابة بعد طلبه للتقاعد المبكر .
وجل كتاباته مرتبطة بأفكاره القومية السابقة .. ومن ذلك :
الحركة الثورية المقارنة .
دراسات أيدلوجية في الجامعة العربية .
الثقافة العربية أمام تحديات التغيير.
عن الأنسان أتحدث.
رواياته الثلاث ( أطياف الأزقة المهجورة ) والتي تتكون من ثلاثة أجزاء :
العدامة ( حي مشهور في الدمام ) : طبع عام 1997 من 300 صفحة .
الشميسي ( حي مشهور في الرياض ) : طبع عام 1997 من 250 صفحة .
الكراديب ( أي السجون ) : طبع عام 1998 من 288 صفحة .
وآخر ما كتب .. رواية موسومة بشرق الوادي ، ولم أطلع عليها حتى الآن .
ما هي أطياف الأزقة المهجورة ؟
أطياف الأزقة المهجورة .. هي ثلاث روايات قام بتأليفها وكتابتها تركي الحمد بدءاً من عام 1997 ..
وهي مكونة من ثلاثة أجزاء :
العدامة : وهو حي مشهور في مدينة الدمام ، وقام بطباعتها في عام 1997 ، وهي مكونة من 300 صفحة .
الشميسي : وهو حي مشهور في مدينة الرياض ، وقام بطباعة الرواية في عام 1997 وهي مكونة من 250 صفحة
الكراديب : ويقصد بها السجون ، وقام بطباعتها في 1998 ، مكونة من 288 صفحة .
وكلها نشرت عن دار المجون والخلاعة ، ورعاية الرذيلة في البلاد العربية : دار الساقي ببيروت .
وما ستقرأه أخي الكريم في هذا الموقع من مقالات وتحليلات .. هي محاولة لمعرفة شخصية الرجل من خلال رواياته الأخيرة ، خاصة وقد سئل في صحيفة اليوم التي تصدر في المنطقة الشرقية يتاريخ 8 / 8 / 1419 هـ السؤال التالي :
س : هل كانت تلك الروايات سيرة ذاتية ؟؟
ج : إنها ليست سيرة ذاتية بل فيها الكثير مني .. فالبطل أنا من صنعه وأنا من وضع له العواطف والتجارب .
ويعني بالبطل هنا بطل الوايات الثلاث واسمه : هشام العابر .. والذي يمثل شخصية تركي الحمد ، أو انه فيه الكثير من تركي الحمد .
وسأدع تركي الحمد يتحدث عن الكثير عن نفسه ويكشف لنا عن مكنوناتها من خلال نقل حرفي من تلك الروايات التي لو اطلع عليها طفل ذا فطرة سوية سليمة نقية لشمأز نها ونفر .. فكيف بالعاقل اللبيب .
ومنهجنا في الطرح لن يكون بالرد على الكتابات والنقولات .. فالحق واضح أبلج لا غبار عليه ولاشك فيه ، وإنما سيكون في تصنيف الكتابات بصورة تعين القارئ على فهم شخصية ذلك الكاتب ومعرفة حقيقته وحقيقة مايدعو إليه ..
والله المستعان.
مراحل حياته
قبل أن أبدأ أعتذر لعموم الإخوة عما ستحتويه السطور القادمة من كلمات ماجنة وعبارات وقحة ذكرها الحمد في أطيافه المهجورة ..
مرحلته الابتدائية :
قال في ( الشميسي - ص68 ):
( كانا في الصف الرابع الابتدائي وكانت مادتي القران والتجويد أصعب وأبغض المواد عند التلاميذ ).
مرحلته الثانوية :
قال في (العدامة - ص 158 ):
[ كانت الشلة مجتمعة كعادتها في منزل عبدالكريم . كان عبدالكريم وعبدالعزيز يتحدثان حول رواية جديدة حصل عليها عبدالعزيز من قريب له قادما لتوه من بيروت وكان الاثنان يتحدثان بإثارة واضحة ، خاصة عبدالكريم الذي كان كثير الحركة وصر فخذيه إلى بعضهما .
كانت إحدى روايات البرتو مورافيا بعنوان ( مغامرات كارلا ) يزين غلافها صورة فتاة بيضاء بشعر أشقر وشفتين قرمزيتين وعينين خضراوتين واسعتين وقد جلست بإغراء على ساقين طويلتين وأفخاذها مكشوفة تماما في غاية …………………………
ولم يكن هشام قد قرأ الرواية بعد ولكنه قرأها بعد ذلك عدة مرات وخاصة تلك المقاطع التي تصف فض بكارة كارلا ليلة نام معها عشيق أمها وبقيت أحداث ليلة فض البكارة عالقة في ذهنه لأيام عديدة بعد ذلك ، حين كان يستعيد صور تلك الأحداث مرة بعد مرة في لحظات العزلة الخالصة في ليالي الشتاء الباردة ………(52/126)
كان سالم وسعود يلعبان الكيرم في أحد الزوايا فيما كان هشام وعدنان يجلسان متلاصقين في زاوية أخرى .. كان الجميع مرهفين آذانهم للكلمات التي تخرج من فم عبدالعزيز ويتابعون حركات عبدالكريم وهم يضحكون ويعلقون ( لم لاتذهب للحمام ياعبدالكريم وتفك الأزمة …)) قال سعود ضاحكا (( الآن عرفت سر الصابون الكثير في حمامكم )) قال سالم وهو ينظر إلى عبدالكريم (( لا أدري عن عبدالكريم ولكن عبدالعزيز يستخدم وسائل أخرى ..مبتكرة )).
قال سعود ذلك وانطلق في ضحكة طويلة وهو يصفك بيديه ويهز رأسه بعنف (( ياجماعة حرام عليكم لاتفضحوا خلق الله )) قال هشام وهو يتصنع الجد ثم انطلق ضاحكا مع الجميع (( الله أكبر يعني مايسوي ها الامور إلا حنا ..هشام يلبس نظارة وانت ياسعود وجهك مثل الكركم وانت ياسلم سعابيلك تقطر دائما ..من ايش كل هذا ؟)) قال عبدالكريم وهو يصنع بيديه حركة ماجنة أخذ الجميع يضحكون بعدها وهم يقولون (( غربلك الله ياعبدالكريم عز الله انك فضيحة ..صحيح يخرج الحي من الميت ويخرج الميت مت الحي . أبوك مطوع وانت داشر )).
مرحلته الجامعية :
فقد كانت بين السكر والجنس ، واسمعه يتحدث كثيرا عن نفسه في ( الشميسي - ص 101 ):
[ لديه ثلاثة نساء في حياته الآن .. واحدة يحبها ولا يسمح لنفسه باشتهائها واخرى يشتهيها ولا يشعر بالحب معها وثالثة يحبها ويشتهيها معا ..
فعلا لشد ما غيرته تلك الأشهر الخمسة بالرياض …سجائر وشراب ونساء وراتب كان للصرف على هذه الملذات ..]
النشأة وتكون الأفكار
مازلنا أيها الأحبة ..نحاول في سلسلة مقالاتنا هذه أن نميط اللثام عن شخصية د. تركي الحمد .. ونحن اليوم نتطرق إلى بداية اهتمامته وقراءته :
أولا : نشأته وبداية اهتماماته وقراءاته :
لقد كان لهذه النشأة أثر كبير في انحرافاته الفكرية والسلوكية فيما بعد والتي انتهت بانضمامه لحزب البعث العربي الاشتراكي .
قال في العدامة ص ( 253) وهو يتحدث عن نفسه إذا ذهب مع أسرته إلى بلده القصيم [ وانشغل هشام بجمع بعض الكتب التي كان يؤجل قراءتها لتكون زاده في نهار القصيم الطويل والممل .اختار ( الحرب والسلام ) لتوستوس التي كان يبدأ بقراءتها دائما ، ولكنه كان يشعر بالملل بعد عدة صفحات فيلقيها جانبا . واختار ( العقب الحديدية ) لجاك لندن ، ( وقصة الفلسفة ) لول ديورانت لقراءتها مرة أخرى ، و ( مبادئ الفلسفة ) لأحمد أمين ، بالإضافة إلى دراسة حصل عليها من زكي منذ زمن بعنوان ( من هو اليساري ) لكاتب فرنسي منشورة في مجلة الأزمنة الحديثة الفرنسية وترجمها عضو في منظمة العمل الشيوعي في بيروت ] أهـ
ثانيا : أثر هذه النشأة في فهمه ونظرته للدين :
أولا : نظرته للمذاهب :
يقول في العدامة ( 51 ) مخاطبا أحد رفقائه في حزب البعث [ لافرق عندي بين هذا المذهب أو ذاك بل إني لاأهتم بكل المذاهب الدينية ] .
ثانيا : نظرته للمتدينين :
وفي الشميسي ( 72 ) يتحدث عن عدنان كان صديقا له في الثانوية فلما التحقا بالجامعة التزم هذا الصديق وتدين وأصبح يخالط أصحاب اللحى قائلا [ ولم يكن عدنان يأتي للمقصف وحده فغالبا ماكان يرافقه زميلان من ذوي اللحى المتروكة وشأنها دون تهذيب ، وبعض الأحيان يزدادون إلى خمسة يشربون الشاي ويحدثون بهمس لايكاد يسمع وكان أكثر ما أثار استغراب هشام هو أنهم لايبتسمون أبدا وإذا حدث ذلك من أحدهم غطى فمه بطرف غترته وكأنه يعتذر ، ثم يعود إلى تلك الملامح التي لا توحي بشيء ].
ثالثا : فهمه للقدر :
قال في العدامة ( 181 ) : [ ثم اعتدل هشام في جلسته وهو يقول : ومالفرق بين العبث والقدر ؟ لم أفهم .. قال عبدالكريم : مانسميه قدرا قديكون عبثا ومايسمونه عبثا قد نسميه قدرا .. المسألة ياعزيزي هي كيف ننظر إلى الأمور وليس الأمور ذاتها . ليس هناك حقيقة في ذاتها بل المسألة تكمن في ....] ولك أن تتأمل أخي القارئ طريقته الفلسفية في الحديث ..
رابعا : أداؤه للصلاة :
تحدث عن بطل الرواية هشام والذي فيه الكثير منه كما في الشميسي ( 136 ) قائلا : [ لم يكن من عادته تأدية الفروض بصفة عامة ، وكان والداه متسامحين معه في هذه المسألة ، وإن كانا يحضانه على أداء واجب الرب ولو بعض الحيان ، فقد كانا يؤمنان أن الشدة في هذه الأمور تنفره من الصلاة بشكل كامل ..أما أن يؤدي الفروض في المسجد مع الجماعة فهذا انقلاب جذري في حياته .. حتى والده لم يكن يؤدي الفروض في المسجد أكثر الأحيان كأكثر أهل الدمام ، بل كان يؤديها في المنزل غالبا ، وذلك على عكس أهل الرياض والقصيم الذين لاتجوز الصلاة عندهم إلا في المسجد ...]
وهذا أخي القارئ غيض من فيض فيما يتعلق بالكاتب المذكور ..
أبو عبدالعزيز الظفيري
تركي الحمد وأطياف الأزقة المهجورة (2)
كفرياته وبذاءته
من تابع معنا الحلقات الماضية في ما كتبه الحمد من خلال رواياته الموسومة بأطياف الأزقة المهجورة ، وتابع نشأته وسيرته فلا ينتظر منه إلا الوقوع في المحرمات بل الكفريات ، فليس من المعقول أن يجنى من الشوك العنب !!(52/127)
لذلك فقد ضمت رواياته - والتي فيها الكثير منه - (( ألفاظا كفرية عديدة )) غير ماذكر من استهزاء بالأنبياء والملائكة .. ومن ذلك :
أولا / قال في [ العدامة ص 250 ] معلقا على صديق له ذكر الله عند ذكره للامتحانات والاعتقالات :
(( وابتسم هشام بالرغم منه .. فشعبية الله مرتفعة هذه الأيام ، لو كان ماركس في هذا الموضع لذكر الله كثيرا ))
ثانيا / قال في [ الكراديب ص 62 ] (( مسكين أنت يا الله دائما نحملك ما نقوم به من أخطاء ... ))
ثالثا / قال في نفس الرواية ص 176 ، وهو في السجن واصفا سيجارة بالجنة :
(( رحماك يالله .. ولكن أين الله في هذا المكان ؟ لقد ألغاه العقيد وجعل من نفسه ربا للمكان ، رحماك ياعقيد ، أريد جنتك فقد كوتني نارك ، رحماك ياعقيد فذاتي تقتل ذاتي … رحماك ياعقيد واحشرني مع الناس فأنا طامع في سيجارة ، وبدون وعي منه هب واقفا وأخذ يصرخ (( ياحارس .. ياحارس )) وجاء الحارس على مهل وهو يقول بغير اكتراث ( نعم إيش تبغى ؟ ) (( خذني إلى إله المكان .. أعني خذني إلى العقيد ..أريد المغفرة ..خذني إلى العقيد ))
[ واعترف …كتب لهم ماأرادوا ، ودفع لهم سعر الجنة .. خضع وتذلل وتمسكن واعترف ، ومنحوه الجنة .. كانت رائحة الدخان ألذ رائحة استنشها في حياته عندما دخل مكتب العقيد للاعتراف ] .
رابعا / أما عن بذاءته التي ما سلم منها قلمه في كل الروايات فأكتفي بنقل هذه الصورة فقط - مع التحفظ على الكلمة بذكر معناها الذي ذكره علانية في الرواية - :
قال في [ الكراديب ص 92 ] :
(( وابتسم العقيد وهو يشعل سيجارة أخرى ، ثم نظر إلى جلجل دون أن ينبس ببنت شفه الذي صرخ مزمجرا : على مين هادا الكلام يا ( من فعل ) أمك .. فرفتونا في عيشتنا الله يقرف عيشتكم أكثر مما هي مقروفة … والله لولا الدولة أعزها الله ، لدفنتكم أحياء في المزبلة اللي جنبنا .
وأحس هشام بالدم يغلي في عروقه ، والأرض تميد به … ( يكرر الكلمة الفاحشة السابقة ) .. كان يتصور أن يسبه أحد بأي شكل وأن يشتم أحدهم أمه بأي شكل …لكن ( يكرر الكلمة ) .. ابتلع المهانة بمرارة ، وهل له خيار غير ذلك ؟؟ ))
عموما هذا غيض من فيض .. وما خفي كان أعظم ، فتعالى الله عما يقولون علو كبيرا
الاستهزاء والسخرية بالدين
سنستعرض في هذا المقال سخريته بالدين :
أولا / سخريته ببعض الآيات :
قال في[ الشميسي - ص 39 ] : فيما حانت التفاته من عبدالرحمن نحو الكيس الذي يحمله هشام ويشد عليه فقال وهو يضحك : ( ما تلك بيمينك يا هشام ؟ ) وابتسم هشام وهو يقول ( لاشيء … مجرد كولا تروي عطشي ولي فيها مآرب أخرى ) وضحك الاثنان .
ثانيا / سخريته بالأنبياء :
قال في [ الكراديب - ص 122 ] : قتل قابيل هابيل من أجل المرأة وأخرج آدم من الجنة من أجل المرأة وأذنب داود من أجل المرأة وسخر سليمان الجن من أجل المرأة وقال رسولنا الكريم ( حبب إلي من دنياكم هذه الطيب والنساء وجعلت الصلاة قرة عيني ) [ لاحظ التحريف في الحديث ] ومزامير داود كلها عن المرأة وسكر لوط في التوراة من أجل المرأة وأبطل المسيح حد اليهود من أجل مريم المجدلية وخاف إبراهيم من فرعون مصر من أجل المرأة ….وضاعت الأندلس من أجل المرأة .
ثالثا / السخرية ب صلى الله عليه وسلم وقبيلة قريش :
قال في [ الكراديب - ص 125 ] : ونخر عارف بضيق وهو يقول : طز في قريش يا صاحبي .. ولماذا يجعل نزار قريشا مثلا أعلى ؟..ألأنها قبيلة النبي؟؟ .. والنعم بأبي القاسم ولكن قريشا لا… لقد جعلوا تاريخنا تاريخا لقريش.. ألم يكن هنا غير قريش في الساحة ؟؟
وابتسم هشام وهو يقول : لا تنس أن التاريخ يكتبه المنتصرون .. ثم وأرجو عدم الإحراج … أليس الشيعة هم من رفع شأن قريش ؟
وانتفض عارف وهو يقول : كلا .. كلا ..كان الشيعة مع الحق ..كانوا مع علي بن أبي طالب في مواجهة عمر أوبي بكر وعبيدة أصحاب المؤامرة لنزع الحق من أهله .. عليك بمناقشات السقيفة وأنت تعلم أين الحق .
رابعا / سخريته بالقهاء والمحدثين والإسناد :
قال في [ الكراديب - ص 122 ] : ويقال أن فقيها ركب مركبا في البحر وكان معه نصراني وله غلام يهودي ..فلما انتصفوا البحر دعا النصراني بزق من الخمر وأخذ يشرب.. فعرض بعضا من الخمر على الفقيه .. فأبى سائلا إياه : وماأدراك أن خمر؟؟ . فقال النصراني : باعها لي غلامي اليهودي هذا حالفا أنها خمر معتقة ..
فأخذ الفقيه الكأس وشربها دفعة واحدة وهو يقول : نحن جماعة المحدثين نكذب خبرا عن سفيان بن عيينه عن سفيان الثوري ، وتريدنا أن نصدق خبرا عن نصراني عن يهودي .. والله ماشريتها إلا لضعف الإسناد .
خامسا / سخريته بمجتمع القصيم -حفظه الله - وتدينه :(52/128)
قال في [العدامة - ص 253 ] : في الأيام القليلة التالية أطلق والده العنان لشعر لحيته منميا لحية صغيرة هلالية الشكل دون أن تشتبك بشعر الشارب واستعدادا للسفر فمن العيب أن يظهر شخص من (( عيال الحمايل )) وهو حليق في مدينتهم بريدة .. قد يغفرون للشخص أن يتغيب عن صلاة الفجر جماعة لسبب أو آخر حين يحصون الحضور لكنهم لا يغفرون له عدم وجود لحية خاصة إذا تجاوز سن الشباب .
تركي الحمد ... والجنس
إن روايات تركي الحمد الثلاث ، وبالتالي كثيرا من حياته مليئة بالمغامرات الجنسية ، ومتلطخة بالرذيلة والخنا والسكر حتى لتبدو الحياة البهيمية خيرا منها
ولقد صور المجتمع آنذاك ، وخاصة مجتمع الرياض وكأنه مجتمع فحش ودعارة ، وفجور وعهارة
ولولا الحياء وخشية نشر الفاحشة والرذيلة لنقلت بعضا منها ، ولكني سأكتفي بذكر بعض المواطن التي صور فيها الجنس في أبشع صورة
(( مع بالغ الاعتذار للإخوة القراء عما ستحتويه الأسطر القادمة من سخف ومجون والمجاهرة بالرذيلة والعياذ بالله ))
نقل في ( العدامة - ص 78 ) تلطخ أحد أقاربه بعلاقة جنسية وسخة ، وقد صورها بصورة مقززة .
وفي نفس الرواية ( ص 133 - 137 ) علاقة جنسية في بيتهم بابنة جيرانهم في الدمام أسماها
بالرواية نورة ، وكان في المرحلة الثانوية .
وفي ( ص 232 - 234 ) علاقة جنسية بنورة في بيت جيرانهم .
وفي ( ص 168 - 180 ) : صور عملية جنسية قذرة مع فتاة اسمها في الرواية رقية ، عرفها عن طريق ابن خال له في الرياض .
وفي ( الشميسي ص 34 -37 ) نقل علاقة رفقائه في سكن الرياض أثناء الدراسة بالنساء .
وفي ( ص 38 - 44 ) : رقية مرة أخرى .
وفي ( ص 53 - 56 ) : نقل مشهدا جنسيا بين رجل وزوجته - اسمها سارة أو سوير - كان ينظر إليهما من نافذة غرفته .
وفي ( ص 75 - 86 ) : كون علاقة جنسية مع سوير التي خانت زوجها ومكنته من نفسها .
وفي ( ص 164 - 177 ) : التقى بسوير وأبلغته أنها حملت منه وفي أحشائها ابنا له .
وفي ( 141 - 146 ) : التقى بنورة في إحدى الإجازات في الدمام بعد أن خُطبت ومازالت على علاقة به .
هذا بعض ما ذكره في الروايات عن مغامراته الجنسية ، والتي تمثل حياته الكثير منها .. والقليل يكفي .
أبو عبدالعزيز الظفيري
===============(52/129)
(52/130)
ما لا تعرفونه عن المعد الديني لـ "الحور العين":
حقائق فظيعة ومخزية !!
فتى الادغال
" الحورُ العينُ "
مسلسلٌ استفزازيٌّ ، أعدّهُ دينيّاً ! عبدُ اللهِ ابنُ بجادٍ العتيبيِّ ، وفي الوقتِ الذي وقفَ فيهِ أغلبُ النّاسِ ضدَّ التفجيراتِ وضدَ المُفجّرينَ ، وفي الوقتِ الذي قالَ فيهِ أهلُ العلمِ والمعرفةِ والفكرِ قولتهم وحسموا الفتنةَ ، وبينما كانوا ينتظرونَ كلمةً حانيةً تمسحُ عنهم أثر ذلك ، وتُباركُ جهودهم ومواقفهم ، وتجمعُ القلوبَ ، وتُعيدُ للمجتمعِ استقرارهُ وثباتهُ ووحدتهُ المعروفةَ ، تأتي بعضُ وسائلِ الإعلامِ التغريبيّةِ لتصبَّ الزيتَ على النّارِ ، وتقومَ باستفزازِ الصالحينَ ببثِّ مثلِ هذه المسلسلات التي تزيدُ الهوّةَ ، وتُعيدُ الفتنَ والقلاقلَ من جديدٍ .
ومن هو الذي يؤسّسُ ويخطّطُ لهذا المسلسلِ ! ، إنّهُ أحدُ الفتيةِ الذين بذروا بذورَ الغلوِّ ومارسوا التفجيرَ قديماً ، ثمَّ لمّا كفرَ برفاقِ الأمسِ ، أخذَ يزعمُ أنَّ التفجيراتِ من إنتاجِ فلان وفلان ، ونسيَ في غمرةِ ذلك نفسهُ وماضيهُ القبيحَ . في هذه المقالةِ سنقفُ جميعاً على قصّةِ ضياعٍ ، وفصلٍ من فصولِ الهزيمةِ ، حينَ ينهارُ العقلُ والتروّي ، وينهمكُ الجسدُ في خدمةِ النفسِ بدافعِ الجهلِ ، فينتجُ عن ذلكَ فكرٌ منحرفٌ ، يولّدُ أفكاراً عقيمةً عنيفةً ، يُصادمُ المُجتمعَ والوطنَ ، وقبلَ ذلكَ وبعدهُ يُصادمُ الدينَ الحنيفَ ، ذلكَ الدينَ الوسطَ العدلَ الأقومَ .
هنا سنرى الحقيقةَ الغائبةَ : هل العمليّاتُ الآثمةُ التي تجري في بلادِنا ، هي نتاجٌ لفكرِ المشايخِ والدعاةِ ، من أمثالِ : ابن جبرينٍ وسفرٍ وسلمانَ وعائضٍ والعمرِ والمنجّدِ والبريكِ وابنِ مسفرٍ - متّعهم اللهُ جميعاً بالعافيةِ - وغيرِهم ؟ ، كما يروّجُ لذلكَ ابنُ بجادٍ وصحبهُ ، عندما يصدحونَ في كلِّ محفلٍ ونادٍ بأنَّ الدعاةَ والمشايخَ هم من بذروا بذورَ الفتنةِ .
هل فعلاً بذرَ مشايخُنا بذورَ الفتنةِ ؟ ، أم أنَّ هناكَ فرقةً أخرى غيّبتْ نفسَها عمداً عن مسرحِ الأحداثِ ، كانَ لها قصبُ السبقِ في التفجيراتِ في هذهِ البلادِ المُباركةِ ، وهذه الفرقةُ تعلمُ يقيناً أنَّ المشايخَ المذكورينَ أنكروا عليهم ذلكَ في حينهِ أشدَّ الإنكارِ وأغلظهِ ؟ .
هل هناكَ حلقةٌ مفقودةٌ فعلاً ؟ .
نعم هناكَ فرقةٌ بدأتْ بالعنفِ ودعتْ لهُ ، ثمَّ انتكستْ على عقبيها ! .
هذه الفرقةُ هي فرقةُ ابنِ بجادٍ ومجموعتهُ كالنقيدانِ والذايديِّ خ ! .
هم الذين سلكوا طريقَ العنفِ ابتداءً ، وعرفوا مسالكهُ ، وعرفوا الكتبَ التي تدعو إليهِ ، بل شاركوا في تأليفِ بعضِها ، واليومَ بعدَ أن انحرفوا إلى ذاتِ الشمالِ ، أخذوا يرمونَ الأبرياءِ من أهلِ العلمِ والفكرِ ، ويلمزونهم في دينهم ، وقد صدقَ المثلُ القائلُ : رمتني بدائِها وانسلتْ .
إنَّ لمشايخِنا هفواتٍ وزلاّتٍ لا يسلّمُ منها أحدٌ من البشرِ ، وفي دعوتِهم وطريقتِهم من المؤاخذاتِ والتعقّباتِ ما فيهِ ، وصدورهم ونفوسُهم تنشرحُ لمن ينبّههم على الخطأ أو التقصيرِ ، ونحنُ لا نُقدّسُ أحداً ، أو نرفعهُ فوقَ منزلتهِ ومكانتهِ ، ولكنَّا نقولُ : العبرةُ بغلبةِ الخيرِ ، وهناكَ الكثيرُ من المواقفِ غيّرها هؤلاءِ المشايخُ ، وأصبحوا عوناً على الخيرِ ، وتراجعوا طوعاً عن الكثيرِ من آرائهم ، والمؤمنُ رجّاعٌ أوّابٌ .
وهانحنُ نرى الآن كيفَ يُهاجمُ المشايخُ الكِرامُ ، على ألسنةِ دعاةِ العنفِ - هداهم اللهُ - ، فلو كانوا شركاءَ لهم كما يزعمُ هؤلاءِ المأفونونَ ، لما جرتْ هذه العداوةُ بينهم ، ولما سارعَ المشايخُ إلى وأدِ الفتنةِ ، ووضعِ يدهم في يدِ المسئولينَ في محاولةٍ منهم لإصلاحِ الشبابِ ، وتهيئةِ وضعهم ، وعودتهم إلى جادةِ الصوابِ .
في هذه المقالةِ فصولٌ من العبرِ ، وآياتٌ من العِظاتِ ، ودروسٌ لكلِّ من قرأ الدينَ قراءةً خاطئةً ، ثمَّ جعلَ نفسهُ أهلاً للحكمِ والفصلِ في دينِ النّاسِ ، أنّهُ سوفَ يضلُّ ويزيغُ إلا أنْ يتداركهُ اللهُ برحمتهِ ، وأنَّ هذا الدينَ دينٌ عدلٌ وسطٌ ، لا غلوَّ فيهِ ولا إجحافَ ، ومن أرادَ مُباراةَ سُننهِ أو مُحادّةَ قيمهِ ، فسيهلكُ ولمّا يقطعْ من طريقهِ شيئاً .
سوفَ نرى كيفَ أنَّ الغلوَّ ذو عاقبةٍ وخيمةٍ على الدينِ والمُجتمعِ والبلادِ ، و ذو تسلسلٍ وترابطٍ ، يشدُّ بعضهُ بعضاً ، ويدعو بعضهُ إلى بعضهِ الآخرِ ، وليستِ البداياتُ الفكريّةُ إلا معبراً للدخولِ إلى القضايا العمليّةِ ، ولهذا يجبُ علينا أن نسدَّ ثغراتِ الغلوِّ الفكريِّ أوّلاً ومنافذهُ ، حتّى نأمنَ من غوائلِ الغلوِّ في العنفِ وآثارهِ المُدمّرةِ .
هذه قصّةُ شابٍ ضاعَ وتاهَ في دروبِ التطرّفِ والغلوِّ ، وترقّى في مدارجهِ حتّى صارَ من منظّريهِ ودعاتهِ ، ثمَّ انتكسَ وأصبحَ من دعاةِ الحرّيّاتِ المزعومةِ ، وتمرّدَ على الدعوةِ التي قامتْ عليها هذهِ البلادُ ، ونبذَ أمرَ الدعوةِ والتديّنِ ، وأصبحَ يدعو إلى أطروحاتٍ دخيلةٍ علينا وعلى مُجتمعِنا ، فهربَ من الغلوِّ ووقعَ في الغلوِّ المُضادِّ .(52/131)
جميعُنا يفرحُ بتركِ الغلوِّ والعنفِ ، ويسعدُ بذلكَ سعادةً كبيرةً ، ولكن ليسَ إلى غلوٍّ جديدٍ ، غلوٍّ في فكرٍ يرى أنَّ النظامَ الإسلاميَّ في الحكمِ هو استبدادٌ وتسلّطٌ ، فكرٍ يرى أنَّ المناهجَ والدعوةَ السلفيّةَ هي من أسّسَ للإرهابِ ودعا إليهِ ، فكرٍ زائغٍ ساقطٍ .
نحنُ أمامَ ظاهرةٍ شاذةٍ عن مجتمعنا ، دخيلةٍ على تُراثِنا ، وساقطةٍ فكريّاً وعلميّاً ، ومليئةٍ بالغرائبِ والأعاجيبِ تسمى " عبد الله بن بجاد العتيبي " . لابدَّ لنا من تحليلِ هذه الظاهرةِ المُتمرّدةِ على القيَمِ والأصولِ الجذريّةِ ، خاصةً في ظلِّ هذه المتغيراتِ التي نواجُهها في بلادنا .
إذْ كيفَ يتحوّلُ الإنسانُ من مفجّرٍ مهووسٍ بالدمارِ وساعٍ إليهِ ، ومكفرٍ يُكفّرُ بالجملةَ دونَ تبيّنٍ أو تثبّتٍ أو تفصيلٍ ، إلى مُنتكسٍ ناكصٍ على عقبهِ ، ومهاجمٍ شرسٍ على كلِّ ما يمتُّ لفكرهِ السابقِ بصلةٍ ووشيجةٍ .
ومن المعلومِ والمُتقرّرِ لدى أهلِ العلمِ والمعرفةِ من أصحابِ القصدِ والتوسّطِ : أنَّ مناطَ الكفرِ قد يتحقّقُ في الشخصِ المعيّنِ بعدَ لأيٍّ ، إذا استجمعتْ فيهِ الشروطُ ، وانتفتْ عنهُ الموانعُ ، وخرجَ من الدينِ بيقينٍ كما دخلهُ بيقينٍ ، ولكنْ كيفَ يُمكنُ تحقيقُ مناطِ الكفرِ في أفرادِ جماعةٍ كبيرةٍ ، تختلفُ نيّاتُهم ومقاصدهم ، ولا يُمكنُ ضبطُ أحوالِهم ، ولا النظرُ في طرائقهم ، ويعتريهم - أفراداً - من عوارضِ الأهليّةِ ما يعتريهم ، ومثلُ هذا يعسرُ ضبطهُ جدّاً ، وإطلاقُ القولُ فيهِ هو من المجازفةِ والتهوّرِ في أصلِ المسألةِ ، فضلاً عن تعميمِ التكفيرِ على الجميعِ ! .
هل الأمرُ يقتصرُ على كونها مُراجعةً فكريّةً سطحيّةً ، وتغييراً لقناعاتٍ سابقةٍ - كما يزعم - ؟ ، أم هو هوسٌ بالتنقّلِ والتخبّطِ المنهجيِّ ، وشذوذٌ فكريٌّ ، وانحسارٌ لمدِّ العقلِ المُرشدِ الهادي ؟ .
هل هذهِ آخرُ محطّةٍ فكريّةٍ وسلوكيّةٍ في حياةِ هذا الرّجلِ ؟ ، أمْ أنّها مرحلةٌ يلهو فيها ويعبثُ ، ثمَّ إذا ما ملَّ منها وسئِمَ ، تحوّلَ إلى مدرسةٍ أخرى ، أو رجعَ إلى التفجيرِ والتكفيرِ ؟ .
أم هو باحثٌ لاهثٌ عن ذاتِهِ الذائبةِ في حمأةِ التحوّلاتِ المُريبةِ لهُ ولشلّةِ الأنسِ من رفاقهِ ؟ ، خاصّةً بعدَ أن لفظهمُ المُجتمعُ كلّهُ ، وعرفوا حقيقتَهم وحقيقةَ فكرهم ، وأصبحوا يعيشونَ عُزلةً كبيرةً فُرضتْ عليهم قسراً ، وتجافاهم النّاسُ وأعرضوا عنهم ، ولم تنفعهم جميعُ محاولاتِ التلميعِ والتزويقِ التي أضفوها على أفكارِهم ومناهجهم .
قمتُ مُنقّباً عن أخبارِ هذه التحفةِ العصريّةِ ، والعقليّةِ الحجريّةِ الفذّةِ في البلادةِ ، كأني أنقبُ عن أحفورةٍ من الأحافيرِ المنقرضةِ ، أو بقيّةٍ من بقايا الهياكلِ التي قضتْ نحبَها في الزمنِ الغابرِ السحيقِ .
عبدُ اللهِ بنُ بجادٍ العُتيبيُّ ، وقصّةُ البحثِ عن الذاتِ ، من حيِّ شُبرا في الرياضِ ، إلى الأضواءِ والفلاشاتِ والمانشتاتِ العريضةِ في وسائلِ الإعلامِ ، هاكم الحقيقةَ دونَ أي رتوشٍ ، أقدّمها للجميعِ حتّى نستخلصَ منها العبرَ والفائدةَ ، ونعرفَ كيفَ ينشأ الغلوُّ وكيفَ يتكاثرُ ويتوالدُ ، وما هي البيئةُ الخصبةُ التي تغذّيهِ وترفدهُ .
ولدَ ابنُ بجادٍ عامَ 1394هـ تقريباً ، ونشأ في حي شبرا ، وكانَ كغيرهِ من الشبابِ لا يميّزهُ أمرٌ ، إلا شيئاً من قرضِ الشعرِ العاميِّ ، والذي كان يطربُ له بعضُ جُلسائهِ .
في عام 149هـ حدثَ أولُ تغيّرٍ في حياةِ ابنِ بجادٍ ، حيثُ بدأ مشوارَ الالتحاقِ بالإسلاميين - كما يسميهم - وبالتحديد بالإخوانِ - إخوان من طاع الله - ، وكانت بدايتهُ عن طريق محاضرةٍ للدكتورِ : عايضٍ القرني - وفّقهُ اللهُ - . التحقَ ابنُ بجادٍ بالإخوانِ ، فكان يحرّمُ أشياءَ كثيرةً مما أحلها اللهُ - كما هي طريقةُ الإخوانِ أصلحهم اللهُ - ، شديداً على نفسهِ وغالياً في تطبيقاتهِ وفهمهِ للدّينِ ، وكان يبحثُ عن الفتاوى التي فيها شدّةٌ على نفسهِ وعلى المخالفِ " ولن يُشادَّ الدّينَ أحدٌ إلا غلبهُ " .
وهذا نوعٌ من الحيَلِ النفسيّةِ التي لا علاقةَ لها بالشرعِ والتديّنِ ، أنْ يقصدَ الشابُّ إلى التشديدِ والتقتيرِ ، إظهاراً للتميّزِ والحدّةِ ، ومُحاولةً لصُنعِ هالةٍ من الإعجابِ والافتتانِ بهِ أو بسلوكهِ ومنظرهِ ، ويا للهِ كم هي تلكَ السلوكيّاتُ التي نعتدُّ بها ديناً وشرعاً ، وهما منهُ بريئانِ تماماً ، وكم شدّدنا وضيّقنا والأمرُ ليسَ على ما نصبو أو نرومُ ، بل على نقيضهِ من السماحةِ واليُسرِ والسهولةِ . خرجَ ابنُ بجادٍ من بيتِ والدهِ وابتعد عنهُ ، وربّما قادهُ ذلكَ إلى اللامُبالاةِ بوالدهِ أو بيتهِ ، فقد خطَّ لنفسهِ طريقاً محفوفاً بالعنتِ والشططِ ، وحاول الأبُ إرجاعَ ابنه إلى دارهِ وإلى جادّةِ الصوابِ فلم يفلحْ .(52/132)
فرِحَ كثيراً بلقاءِ رفيقهِ في التشدّدِ والانتكاسةِ مشاري الذايديِّ ، حيثُ جمعهما حبُّ الشعرِ وإنشادهُ ، وكان ذلك في عام 1411هـ ، وصارتْ بينهما علاقةٌ حميمةٌ جداً ، يصفُها ابنُ بجادٍ بقولهِ - وهو يتحدث عن رحلةٍ من رحلاتهما - : " ولكنَّ تلك الرحلةَ تركتْ لدى كلينا ارتياحاً عميقاً لصاحبهِ ، لم تستطعْ عوادي الأيامِ فيما بعدُ أن تفصمَ عراهُ أو تنالَ من عمقهِ " .
وقد صدقَ ابنُ بجادٍ في هذا ، فقد ترافقا شدّةً وليناً ، تديّناً ونكوصاً ، تطرّفاً وتمييعاً ، كأنّما خُلقا من تربةٍ واحدةٍ ، أو جمعهما رحمٌ واحدٌ ، وكأنَّ أرواحهم تلاقتْ في عالمِ الغيبِ وأقسمتْ على النصرةِ حقّاً أو باطلاً ، ولم يحنثْ لهما يمينٌ ، أو ينقضْ لهما عهدٌ ، بل مضوا على ذلكَ ابتداءً وانتهاءً ، ولا حولَ ولا قوّةَ إلا باللهِ .
كانَ الذايديُّ قد امتازَ على صاحبهِ ابنِ بجادٍ بحبّهِ للشعرِ الفصيحِ وقرضهِ ، وحاولُ ابنُ بجادٍ أن يقلّدَ صاحبهُ ويُجاريهِ في ذلكَ ، فقامَ بعدّةٍ زياراتٍ إلى الشاعرِ الكبيرِ : يوسف مُحي الدّينِ أبو هلالةٍ - أسعدَ اللهُ أيّامهُ - لعلّهُ أن يُفيدَ منهَ .
وفي تلكَ الحِقبةِ أيضاً كان مشاري الذايديِّ تناوبَ مع إبليسَ على الوسوسةِ والإغراءِ لابنِ بجادٍ بتركِ الدراسةِ ، فتركَها وهو في الثاني الثانوي التجاريِّ لأنها حرامٌ ، كما هي طريقةٌ الإخوانِ - أصلحهم اللهُ - في تحريمِ الدراسةِ ، ولهم في ذلكَ مُصنّفاتٌ مشهورةٌ ، منها شيءٌ كتبهُ جُهميانُ العتيبيُّ في رسالةٍ لهُ معروفةٌ . وممّا يؤكّدُ أثرَ فكرِ الإخوانِ على ابنِ بجادٍ ، أنّهُ كانتْ لهُ زياراتٌ مُتكرّرةٌ لهجرةِ البلازيةِ وهجرةِ المحيلاني ، حيثُ كان يجدُ نفسهُ هناكَ ، ويشمُّ رائحةَ الإيمانِ ، كما يذكرُ ذلك عن نفسهِ .
وفي المحيلاني- تحديداً - كانَ يتردّدُ على شخصٍ يُقالُ لهُ : أبو عيسى الحربيِّ ، وهو أحدُ كِبارِ الأشخاصِ في الإخوانِ قدراً وأثراً ، تقريباً كان والدَهم ، بلغ من العمر السبعين ونيّفاً ، وهو ينتظرُ متى ينصر الله الإخوانَ على أهل الباطلِ ، ومتى يُعزُّ اللهُ الدينَ ، وكان حنوناً وعطوفاً على ابنِ بجادٍ وأصحابهِ .
تردّدَ ابنُ بجادٍ أيضاً على شيخٍ قد تجاوزَ المئةَ من عُمرهِ ، وهو : شاهرُ بنُ هدباءَ المطيريُّ ، وكان شاهرٌ من رجالِ الملك عبد العزيزِ - رحمهُ اللهُ - ، ولكنّهُ تركهُ بعد معركة " السبلة " المشهورةِ بينَ الملكِ عبدِ العزيزِ وبينَ الإخوانِ ، وكان ابنُ بجادٍ من المعظّمين لشاهرٍ ، ويُكثرُ من زيارتهِ ، وكانا يرددانِ نفسَ الكلامِ ويحملانِ نفسَ الأفكارِ ، وتتلاقحُ هناكَ المناهجُ المُتشدّدةُ .
وكان ابنُ بجادٍ يردّدُ قصةً : أنَّ أحدَ الإخوانِ كان كلَّما مرَّ بديكٍ صاحَ ، وذاتَ مرةٍ مرَّ ذلكَ الرجلُ بالديكِ ، ولكنَّ الدّيكَ لم يصِحْ ! ، فعلِمَ أنّهُ وقعَ في معصيةٍ ، فحاولَ التذكّرَ فبحثَ في جيبه فوجدَ ريالاً ، والريالُ عليه صورةٌ ، فعلِمَ أنَّ الملائكةَ لم ترافقهُ ذلك اليومَ لأنّهُ يحملُ صورةً !.
في تلكَ الأيّامِ كانَ ابنُ بجادٍ سريعاً في مسائلِ التكفيرِ ، بل لمّا ناصحهُ أحدُ إخوانهِ في ذلكَ ، ردَّ عليهِ ابنُ بجادٍ قائلاً : أنا ختمي في التكفيرِ بحجمِ كفرِ السيارةِ ! .
هكذا قالَ ، وقد صغّرهُ جداً ، بل إنَّ حجمَ ختمهِ بحجمِ كفرِ الطائرةِ ، بل هو أكبرُ من ذلكَ ، فقد كانَ سريعَ الطيشِ والنزِقِ ، لا يُبالي بما يرميهِ جُزافاً من الأحكامِ والطّعنِ في دينِ النّاسِ .
وأضافَ إلى فكرهِ التالفِ السابقِ أمراً آخرَ لا يقلُّ نكارةً وسوءاً ، ألا وهو تأييدهُ المُطلقُ التامُّ لجهيمانَ العُتيبيِّ ولفكرهِ ، وكانَ يوزعُ كتبهُ بينَ الناسِ ، والويلُ والثبورُ لمن قلّلَ أو انتقصَ من أهميةِ وشرعيّةِ جهادهِ في الحرمِ ! ، فهو يعدّهُ مُجاهداً في سبيلِ اللهِ ، وأنَّ ما قامَ بهِ قتالٌ في سبيلِ اللهِ تعالى .
بلْ إنّهُ يؤمنُ بأشياءَ غريبةٍ جداً ، ومُضحكةٍ في نفسِ الوقتِ ، فقد كان يُردّدُ أنَّ محمدَ بنِ عبدِ الله القحطانيَّ هو المهديُّ الحقُّ ! ، وقد هربَ عبرَ المجاري إلى خارجِ الحرمِ ومنها إلى اليمنِ ، وهو في الجبالِ ومعهُ رشّاشٌ ليدفعَ عن نفسهِ من تلك السنينِ الغابرةِ ، وفي إحدى المرّاتِ قالَ : إنّهُ رُفعَ إلى السماءِ ! .
وقد ذكرَ ابنُ تيميّةَ - رحمهُ اللهُ - أنّهُ ما من شخصٍ خرجَ وادّعى المهديّةَ ، إلا ووقعَ بسببِ ذلكَ شرٌّ عظيمٌ ، أعظمُ من الخيرِ المرجوِّ بذلكَ ، ومن يتتبّعْ التأريخَ المُتصلَ لحركاتِ المهديّةِ والأشخاصِ الذين يدّعونها ، يرى أمراً عظيماً في الفتنةِ والشرِّ ، بل إنَّ التفرّغَ لظهورِ المهديِّ ، والبحثِ عنهُ مُخلّصاً هو لوثةٌ رافضيّةٌ ، سرتْ إلى أذهانِ بعضِ الشبابِ - هداهمُ اللهُ - ، سبّبها لهم رؤيةُ الظلمِ وضعفِ الإسلامِ ، وأُصيبوا بوهنٍ وخوَرٍ في نفوسِهم ، آثروا حينها الانكفاءَ على الذاتِ ، والتعلّلَ بانتظارِ المهديِّ .(52/133)
وقد اختارَ ابنُ بجادٍ أن يُساكنَ مجموعةً من أصحابهِ ، يحملونَ أفكارهُ ويعتنقونها ، فوقعَ رأيهُ على مجموعةٍ تركتِ الدراسةَ تحريماً لها ، وذلكَ لأنَّ فيها مناهجَ تدعو إلى الكفرِ ، وتديّنَ هو ورفاقهُ بهجرِ من لم يوافقهم على تلكَ المسألةِ ، والهجرُ في عرفهم وعُرفِ من سلكَ طريقَهم أمرٌ حتميٌّ لازمٌ للمُخالفِ ، يبدأون بالإنكارِ أوّلاً ، فإن لم يستجبْ لهم الشخصُ هجروهُ وتركوهُ وجوباً . كان يردّدُ مع صحبهِ دوماً : نحنُ أهلُ الحديثِ فقط ! .
إنَّ من يرى ابنَ بجادٍ في تلك الفترةِ الغابرةِ من حياتهِ ، وقد طال شعره و تركهُ بلا عناية مُتهدّلاً بينَ كتفيهِ ومن وراءِ شماغهِ ، يظنّهُ أحدَ القدماءِ الإسكندنافيين أصحابِ ابنِ فضلان ، أو من بقايا أصحابِ الكهفِ .
كانتِ المظاهرُ عندهم هي الدّينُ كلّهُ ، فلا بطاقاتٍ شخصيّةً معهم ، وشعورُهم طويلةٌ ، وأبشارُهم غيّرتها الشمسُ ، ولم يكونوا يعتنونَ بمظهرهم أبداً ، إذا رأيتهم رأيتَ شُعثاً غُبراً ، لم يرموا عصا الترحالِ عن عواتِقهم .
ولم يقفْ هجومُهم على الدراسةِ والمناهجِ فقط ، بل ازدادَ واتسعَ حتّى وصلَ إلى مرافقِ الدولةِ الأخرى ، بما فيها الهيئةُ ! ، فقد كانوا يرونَ الهيئةَ غطاءً من الدولةِ تُغطّي بها كُفرَها وردّتها كما يزعمونَ ، ولتثبتَ للنّاسِ أنّها دولةٌ إسلاميّةٍ ، وإذا وجدوا فُرصةً أو مناسبةً تجمعهم بأحدِ من يعملُ بالهيئةِ ، فإنّهم يُهاجمونهُ هجوماً عنيفاً ، ويأمرونهُ بتركِ العملِ فيها .
حاولَ بعضُ الرّفاقِ إدخالَ عناصرَ علميةٍ جديدةٍ ، في المسكنِ الذي يؤويهم ، وذلكَ عن طريقِ بعضِ المشايخِ ، لتدريسِ جملةٍ من العلومِ الشرعيةِ ، فوقعَ الاختيارُ على الشيخِ : محمد الددو - وفّقهُ اللهُ - وآخرين ، فغضب القسم الأكثرُ تشدداً من هؤلاءِ ، فهجروا الشقّةَ إلى الدرعيةِ ، وكان على رأسهم محمّدٌ الـ .... ( أبو حاتمٍ ) والذي لم يصبرْ طويلاً ، فقد ترك التديّنَ فيما بعدُ ، كما تركه ابن بجادٍ وغيرهُ من الرّفاقِ .
قامَ ابنُ بجادٍ بزيارةٍ للشيخِ : سفرٍ الحوالي - منَّ اللهُ عليهِ بالعافيةِ ومتّعهُ بالصحّةِ - في منزله بمكة - زادها اللهُ شرفاً - وسمعَ منهُ الشيخُ بعضَ أفكارهِ الشاذةِ فوبخهُ عليها ، ممّا حدا ابنَ بجادٍ إلى مقتِ الشيخِ وكُرههِ ، وبقيَ أثرُ ذلكَ في نفسهِ حتّى اللحظةَ . وأتذكّرُ هنا قصّةً طريفةً ذكرَها شيخُنا : سفرٌ الحواليُّ ، أنَّ مجموعةً من الشبابِ زارهُ في بيتهِ في مكّةَ - حرسَها اللهُ - وذكروا لهُ أنَّ المهديَّ معهم ! ، فذكّرهم الشيخُ باللهِ ، وأعلمهم خطأ طريقِهم وضلالَ نهجهم ، فخرجوا من عندهِ وهم يضمرونَ لهُ الكراهيةَ والمُنابذةَ ، قالَ الشيخُ : فلمّا سُجنتُ في الحائرِ ، علمتُ أنّهم جميعاً ألقيَ القبضُ عليهم بسببِ أفكارِهم المنحرفةِ ، وأودعوا في السجنِ ، فقلتُ في نفسي : لقد كانوا في سعةٍ وعافيةٍ من البلاءِ ! .
فكّرَ ابنُ بجادٍ لاحقاً باعتزالِ الناسِ ، فخرجَ إلى شقةٍ في منطقةٍ نائيةٍ ، مع أربعةٍ من أصحابهِ ، ولم يستطعِ الصمودَ هناكَ ، فرجعَ للرياضِ مرّةً أخرى .
وحصلَ التغيّرُ الثاني والمنعطفُ الخطيرُ في فكرِ ابنِ بجادٍ ، فقد قرّرتْ المجموعةُ التي معهُ أن تلجَ في تجربةِ التفجيرِ ! ، وكانُ ابنُ بجادٍ على علمٍ بما يخطّطونَ لهُ وربّما شاركهم في ذلكَ ودعمهم معنوياً وجسدياً ، وكانتْ تداعبُهم فكرةُ تصفيةِ بعضِ المنافقيَن - حسبَ قولهم - .
وهذا يؤكّدُ أمراً ذكرتهُ سابقاً ، ألا وهو أنَّ الغلوَ يتسلسلُ عبرَ مُقدّماتٍ فكريّةٍ مغلوطةٍ ، يخلصُ منها إلى نتيجةٍ حتميّةٍ ، ألا وهي الإلغاءُ للمخالفِ إمّا عبرَ التكفيرِ أو التفجيرِ أو التصفيةِ ، وجميعُ هذا ليسَ من الدّينِ في شيءٍ ، والفكرةُ الصحيحةُ تثبتُ على قدمِ البيّنةِ والبُرهانِ ، لا على طريقةِ المدفعِ والرشّاشِ ، والمدفعُ والرشّاشُ حامٍ للشريعةِ ، لا هادمٌ لها ومُنفّرٌ للنّاسِ عنها .
سافرَ ابنُ بجادٍ إلى اليمنِ تهريباً عبرَ الحدودِ ، زاعماً فيما يُظهرُ للنّاسِ أنه يريد الدراسةَ على الشيخِ : مقبلٍ الوادعيِّ - رحمه الله - ، ولم يُطِلِ الدراسةَ أو المكثَ هناكَ ، بل رجعَ سريعاً ، فلم يكُنْ ممن يصبرُ على طلبِ العلم ، أو يُجالدُ على ثني الركبِ عندَ أهلِ العلمِ .
ومن مضحكاتِ أمرهِ تلكَ الأيّام أنّهُ كان يحملُ عدسةً مكبّرةً يصحبُها في كلِّ كانٍ جذلاً بها كلِفاً ، فإذا سُئلَ عنها قالَ : منِ أجلِ قراءةِ المخطوطاتِ ! .
وانكشفتْ هناكَ الحقيقةُ القاصمةُ .
فلم يكنِ الأمرُ علماً أو دراسةً ، وإنّما تمويلاً لعمليّةٍ مسلّحةٍ داخلَ البلادِ ، هرّبوا أسلحتها من اليمنِ .(52/134)
قُبضَ على رفيقهم : م . ع ، الذي هرّبَ لهم الأسلحةَ من اليمنِ ، واعترفَ أنّهُ هربها بناءً على طلبِهم ، واعترفَ - أيضاً - أنَّ المجموعةَ قد خطّطتْ لنسفِ برجِ التلفازِ وتدميرِ سجنِ عليشةَ للمباحثِ ، فتم إلقاءَ القبضُ عليهم واحداً تلوَ الآخرِ ، وهناكَ وبدونِ مقدّماتٍ اعترفَ مشاري الذايدي عن عملياتهم الخالدةِ ، فاقتيدَ أناسٌ لم يكونوا ضمنَ القائمةِ الأولى على رأسهم الإنسانيُّ : منصور النقيدان .
ألا تذكرونَ الهجومَ العنيفَ من ابنِ بجادٍ على الشيخِ : سفرٍ ، حينَ زعمَ أنَّ سببَ التفجيرِ في البلادِ هو الشيخُ ! ، هل عرفتمُ الآنَ من هم أوّلُ من أذكى نارَ التفجيراتِ ، وعمِلَ على نشرِ العنفِ والدعوةِ إليها ؟ ، هل هو الشيخُ : سفرٌ ، وهو الرّجلُ الذي حاولَ كفَّ ابنَ بجادٍ عن أعمالهِ ، ودعاهُ إلى الحقِّ والعدلِ والوسطيّةِ ، فأبى وأصرَّ واستكبرَ ، أهو الشيخُ ، أم هو هذا الرّجلُ الذي خرجَ إلى اليمنِ ، وأقامَ معَ رفقةٍ لهُ تنظيماً إرهابيّاً مُناوئاً للدولةِ ولقطاعاتِها ؟ .
لا أظنُّ الأمرَ الآنَ يحتاجُ إلى بيّنةٍ ودليلٍ ، فقد اتضحَ كلُّ شيءٍ وللهِ الحمدِ ، وعرفنا لماذا يكذبُ بنُ بجادٍ ويزعمُ أنَّ الشيخَ : سفراً وإخوانهُ من المشايخِ والدعاةِ أهلِ المعرفةِ والرّسوخِ ، هم الذين أشعلوا نارَ الفتنةِ في هذه البلادِ ، مع أنّهم - والجميعُ يعرفُ هذا - من أكثرِ النّاسِ سعياً إلى إنهاءِ العنفِ والغلوِّ ، ويعملونَ جاهدينَ على جمعِ القلوبِ ورجوعِ الشبابِ إلى دائرةِ الجماعةِ ، وقد نجحوا في كثيرٍ من ذلكَ وللهِ الحمدُ والمنّةُ ، وباركَ الجميعُ جهودهم ، من المسئولينَ والعلماءِ وعامّةِ الشعبِ ، ولو كرهَ ذلكَ أمثالُ ابنُ بجادٍ ، أو كذبوا ولفّقوا على النّاسِ الباطلَ ، فرموا غيرُهم بدائهم وانسلوا ! . والأحاديّةُ في التصرّفِ والعملِ أمرٌ لهُ أضرارُ خطيرةٌ وتداعياتٌ سيئةٌ ، وهذا من الأصولِ الكِبارِ التي قامَ عليها فكرُ هذه المجموعةِ حينها ، فهم يؤصّلونَ المسائلَ كما يرونها ، ثمّ يبنونَ عليها الأحكامَ القاسيةَ ، ويُطلقونَ القولَ فيها ، ويبسطونَ الرأي ، ثُمَّ يفعلونَ ما يرونَ ، ويجرّونَ الأمّةَ كلّها إلى أتونِ الدمارِ والفتنةِ ، ويعتقدونَ أنَّ قيامَ الحجّةِ عليهم ، يلزمُ منهُ قيامهُ على الأمّةِ كلّها ! ، وأنَّ ما يرونهُ حقّاً وواجباً ، يلزمُ الأمّةَ كلّها المصيرُ إليهِ ، والعملُ بمقتضاهُ .
وطُغيانُ النزعةِ الفرديّةِ في تصرّفاتِهم ، وإغفالُ دور ِ الأمّةِ في ذلكَ ، سواءً كانَ دوراً مؤسّسيّاً ، أو دوراً بشريّاً ، أمرٌ يلحظهُ الجميعُ من المحايدينَ ، وهذه الطريقةُ هي أحدُ أسبابِ انتشارِ الفوضى في العالم ِ الإسلاميِّ ، حينَ يُناطُ العملُ بمجموعةٍ ترى في نفسِها النيابة َ عن الأمّةِ ، فترتجلُ القراراتِ والتصرّفاتِ ، دونَ النظر ِ في دور ِ الآخرينَ ، أو مدى ضرر ِ ذلكَ الفعل ِ عليهم ، ولهذا كانتْ آثارُ هذه التصرّفاتِ مرفوضة ً لدى عامّةِ النّاس ِ ، إمّا بسببِ ما لحقهم من الضرر ِ والأذى ، أو لإغفال ِ دورهم وتهميش ِ آراءهم . وهذا مزلقٌ عظيمٌ من مزالقِ الشرِّ والفتنةِ ، ويفتحُ أبوابَ الفوضى في الأمّةِ ، فإنَّ كلَّ من رأى رأياً ، أو اختارَ قولاً ، لو سلكَ فيهِ مسلكَ هؤلاءِ في إلزامِ المُسلمينَ بهِ ، لهلكتِ الأمّةُ ، وضاعَ النّاسُ ، وصاروا أسرى التجاربِ والأهواءِ .
ودخل ابن بجادٍ سجنَ الحاير ، وبقي لمدةٍ في الحبسِ الانفرادي ، ثم انتقل للقسمِ العامِ ، وبالتحديد للغرفة رقم (9) ، وفيها رفيقهُ الدائمُ مشاري الذايدي.
لم يحتملْ فكرةَ أن يكونَ في السجنِ وهو المفكرُ العظيمُ ، والباحثُ النحريرُ ، والعالُم بمقاصدِ الشريعةِ !! ، فأصيبَ بانهيارٍ عصبيٍّ تلوَ آخرَ ، وأدخل للمشفى النفسي .
وحلقَ لحيتهُ التي نبتتْ للتوِّ وكان يؤخرَ الصلاةَ عن وقتِها وربما تركها كذلكَ .
وربما أمضوا وقتهم بالنشيدِ وكان المتميّز بينهم هو مشاري ، وتارةً يمضونهُ في الشعرِ وقرضهِ ، وكانت هناك مساجلاتٌ فكريةٌ أو تكفيريّةٌ في السجنِ أيضاً .
ومن اللطائفِ أنَّ صاحبُهم م . ع كان يقولُ الشعرَ الفصيحَ ويحترفهُ ، فيُقرأ من جهتهِ مقلوباً ، وكتبَ بالعامي أيضاً ، يقول مشاري الذايدي عنهُ : " ومنّا من ظنَّ أنهُ قد وُلدَ في معتقلِ الحايرِ شاعرٌ عظيمٌ !! وخصوصاً " أبو راشدٍ " خفيفُ الظلِّ والعقلِ ! الذي توهمَ لفترةٍ أنهُ قد حقّق معجزةَ القرنِ العشرين بأشعارهِ التي يمكن أن تُقرأ بالفصحى والعامية ، ومن تحت ومن فوق ، وكلَّ شطرٍ على حدةٍ ، وكل شطرٍ مضموماً إلى الآخرِ !! لقد كان هذا الرجلُ الطيّبُ فكاهةَ السجنِ ، ولا أدري هل كان يأخذ الأمور على محمل الجد ، إلى هذه اللحظة لا أدري !! لاحقاً أصبحَ أبو راشدٍ من أشهر الأطباء الشعبيين على مستوى الخليج ، وعالج ، كما يقول ، عدداً من الفنانات المصريات منهنَّ شريهان ! " .
بعد خروجِ ابنِ بجادٍ من السجنِ ، وجد المجموعةَ السالفةَ تغيّرتْ ، فبقي هو وصديقه مشاري .(52/135)
ع . ع أحدُ الذين سُجنوا معهم في حادثةِ الأسلحةِ ، ومن أخصِّ أصحابِهم وأكثرهم جلداً وبأساً ، كان قد ذكرَ عنهم أشياءَ غريبةً وقعتْ في السجنِ ، وتصرّفاتٍ لا يُمكنُ صدورها من شخصٍ مستقيمٍ لاسيّما من منصور النقيدان ، وقد ذكرَ كثيراً من هذه الأفعالِ في ذلك الوقتِ ، إلا أنّها قوبلتْ باستنكارٍ شديدٍ ، إذ كيفَ يُتهمُ هؤلاءِ وهم طلبةُ علمٍ ومجاهدونَ ! ، ومع مرِّ الوقتِ تبيّنَ أنَّ صاحبُهم كانَ صادقاً في كلامهِ عنهم .
وصاحبهم هذا استمرَّ على نفسِ النهجِ ، بينما انتكسَ الآخرونَ ، ووصلَ بهِ الحالُ إلى أن قامَ بإطلاقِ النّارِ على بعضِ رجالِ المباحثِ ، وأصابَ منهم عشرةً ، وسطا على أحدِ نقاطِ التفتيشِ في أحدِ الطرقِ السريعةِ ، وغنمَ منها - كما عبّرَ بذلكَ - مجموعةً من الأسلحةِ ، إلى أن يسّرَ اللهُ أمرَ القبضِ عليهِ ، وهذه النتيجةُ نتيجةٌ حتميّةٌ لمن يسلُكُ طريقهم .
أعجِبُ ابن بجادٍ حينها بالمسعري وطارَ بأفكارهِ فرحاً ، وكان كثيراً ما يردّدُ : قال الشيخ المسعري كذا وكذا ، على وجهِ الإعجابِ بهِ وتقبّلِ أفكارهِ وآراءهِ .
ووقعتِ الكارثةُ الكُبرى : وقعَ تفجيرُ الرياضِ الأوّلِ في حيِّ العليا ، تلكَ الحادثةُ المُنكرةُ الغريبةُ على المُجتمعِ ، فكان ابنُ بجادٍ ممن يُدافعُ عن أصحابِ ذلكَ الفعلِ ويؤيّدُ عملهم من طرفٍ خفيٍّ ، بل كانَ بعضُ المنفذينَ من أصحابهِ ومعارفهِ .
وفي هذه المرحلةِ كانَ يُكثرُ من السفرِ إلى جدة ، والتقى هناكَ بمجموعةٍ من الشبابِ الذين سبقَ لهم السفرُ للجهادِ ، واستطاعَ أن يصنعَ لهو هو وللذايدي والنقيدان حضوراً لدى أولئكَ ، ممّا جعلَ الكثيرَ منهم يتأثّرُ بأفكارهم ، وابتدأت من هناك صلتهم بيوسف الديني ، وقد كانَ يتملّقُ أولئكَ الشبابِ بمجموعةٍ من الخطاباتِ الديماغوجيّةِ ، حتّى صارَ بينهم جهةً شرعيةً مُعتبرةً .
وأحبُّ أن ألفتَ النظرَ هنا إلى أنَّ عدداً من أولئكَ الشبابِ أُلقيَ القبضُ عليهم لاحقاً ، وحُكموا بأحكامٍ وصلتْ إلى 15 عاماً من السجنِ ، وكانَ لابن بجاد وأصحابهِ نفوذاً فكريّاً ومعرفياً واسعاً عليهم ، وكانوا يفتونهم بجوازِ الكثيرِ من الانحرافاتِ النظريّةِ والتطبيقيّةِ . اشتد الأمر على الكثيرِ من النّاسِ حينَ إلقاءِ القبضِ على الشيخِ سلمانِ العودة وآخرين من الدعاةِ والمشايخِ ، فهرب ابن بجادٍ لليمنِ ، ومنها زوّرَ جوازَ سفرٍ ليهربَ إلى سوريا ، وهناك يحدث الانقلابُ الفكريُّ الثالثُ في حياةِ الرّجلِ القصيرةِ جداً ، ولن يكونَ الأخير قطعاً .
طوّفَ ابنُ بجادٍ بين مجموعةٍ من الدولِ : اليمنِ فسوريا ، ثم استقرَّ بهُ المقامُ في الأردنِّ ، ثمَّ سافرَ لقطر مدّةً ، وعاد بعدها للأردنِّ مرةً أخرى ، والعجبُ أنَّ ابن بجادٍ ومشاري الذايدي لم يذكرا أبداً رحلاتهم للهندِ !! وما هي أسبابُ تلك الرحلاتِ !!.
قال ابن بجاد وهو يحكي جزءاً من قصّتِهم في الدوحةِ : " لا أنسى أنّنا خرجنا مرةً على كورنيشِ الدوحةِ نسيرُ على أقدامنا وكان مشاري يومها مولعاً بأبي العلاءِ المعري وشبهاتهِ في العقيدةِ - كما كنتُ أسمّيها أنا - قطعنا مسافة 8 كيلومترات نقاشاً حولَ آراء أبي العلاء وإيمانهِ وفلسفتهِ ، يا رعى الله تلك الأيامُ " .
بعد هروبٍ طويلٍ ربما تجاوزَ أربعَ سنواتٍ عانى فيهِ الأمرّينِ ، قرّرَ الرّجوعَ إلى أهله ، وكانَ في تنقّلاتهِ يخرجُ مُتنكّراً ، ويُهرّبُ تهريباً ، حتّى لا يُلقى القبضُ عليهِ .
داهمهُ رجالُ المباحثِ في بيتهِ حالَ خروجهِ منهُ ، فوضعتِ القيودَ في يده ، ليتدخّلَ لاحقاً بعضُ أقاربهِ للدفاعِ عنهُ ويقومونَ بضربِ رجالَ المباحثِ حتّى سالَ الدمُ من أحدِهم ، فيتراجعُ رجالُ المباحث ويفرُّ ابن بجاد ، وبعد هنيهةٍ تُداهم قوة من الأمنِ حيّهم ، ويُلقى القبضُ على عددٍ ممن شاركَ في تلك الفعلةِ .
ويبقى أخوه تركي في السجنِ لعدةِ أشهر وعبد الله مختفٍ غير مبالٍ ، ثم يتدخلُ شيخُ قبيلتهم " ابن جامع " ويشفعُ لهُ عندَ الأميرِ الأمير سلمان بن عبد العزيز ، ليسلم له عبد الله ابن بجاد نفسهُ ويخرج أخوهُ من السجنِ ، وقد عوملَ في السجنِ معاملةً كريمةً .
وانظرْ هنا - أخي الكريم - كيفَ يفعلُ هؤلاءِ الشُذّاذُ الزاعمونَ بأنّهم على منهجِ السلفِ حينها ، فيقومونَ بمواجهةِ رجالِ الأمنِ ، ويفرّونَ منهم ليقعَ غيرُهم ضحّيةً لغلوّهم وتطرّفهم ، فقد سُجنَ أخوهُ حيناً ، وبقيَ عبدُ اللهِ هارباً ، فأينَ هذه الأفعالُ المشينةُ من فعلِ السلفِ الكرامِ ، الذين كان ابنُ بجادٍ ورِفاقهُ يتمسّحونَ بهم ويزعمونَ أنّهم على طريقتهم .
يخرجُ ابنُ بجادٍ من السجنِ ، وتلك الفترةُ كانتْ بدايةً لكتاباتِ منصور النقيدان المنحرفةِ ، وبالتحديدِ مقالهُ " هل كان ابن أبي دؤادٍ مظلوما ؟ " .(52/136)
وفي لقاءاتهِ المُتكرّرةِ مع صحبهِ ورفاقهِ ، أخذَ يُبدي نوعاً من الامتعاضِ لما كتبهُ وحرّرهُ النقيدانُ ، وكان ينكر معهم الاعتداء على الإمام أحمد وعلى التأريخ ، مع أنّهُ على علمٍ بالمقالِ ، وكانَ مُتابعاً لهُ ولفكرتهِ ، وقد قال مشاري الذايدي ما نصه : " أنني كنتُ أتابعُ ولادةَ المقالِ أوّلاً بأوّلِ " .
كانَ هذا آخرَ العهدِ بالزمنِ الغابرِ : فكرهِ ، غلوّهِ ، رفاقهِ ، مآسيهِ ، لتبدأ المرحلةُ الجديدةُ .
وقبل أن نبدأَ بعرضٍ موجزٍ لأفكارهِ الحديثةِ لابدَّ أن نبينَ سببَ هذا الارتكاسِ العجيب فمن ظلاميةِ التكفيرِ والتفجيرِ والغلوِّ المقيتِ ، إلى ظلاميةِ التحرّرِ والتمييعِ والهدمِ لمعالمِ الإسلامِ وأصولهِ بحُجّةِ التنويرِ والعصرانيّةِ والتجديدِ ، ولنا أن نُفيد ابتداءً من القانونِ الفيزيائيِّ الثاني لنيوتن - وهو من الكفّارِ الذين لا يُقبلُ قولُهم ولا يؤخذُ رأيهم كما كان يراهم ابنُ بجادٍ حينها - : " لكل فعلٍ ردةُ فعل مساوية له في المقدار معاكسة له في الاتجاهِ " .
وليتَ الأمرَ وقفَ عندَ ردةِ الفعلِ فقط ، بل إنّهُ تجاوزهُ حتى وصلَ إلى مصافِّ النظريّةِ النسبيّةِ ، وللحديثِ عن النظريّةِ النسبيّةِ وتأثيرِها وقتٌ يضيقُ عنهُ هذا المقالُ ، ويمكنُ أنَّ نحيلَ هنا إلى إنشتاين ونظريّتهِ النسبيّةِ . وفي الأعمِّ الأغلبِ أنَّ من يكونُ غالياً مُتشدّداً في فكرهِ وسلوكهِ وتنظيرهِ ، فإنّ تركهُ لفكرهِ القديمِ سوف يحوّلهُ إلى فكرٍ مُخالفٍ تماماً لماضيهِ ومضادٍّ لهُ ، وقلَّ أن تجدَ لدى هؤلاءِ اعتدالاً أو توسّطاً .
وهذا التشددُ والغلوُّ يدفعُ بصاحبهِ إلى نتائجَ وخيمةٍ ، يكون ابتداءُ أمرِها السآمةُ من هذا التديّنِ المتشدّدِ فالمللُ ثم العجزُ عن إحداثِ التغييرِ في الواقعِ ، وقد يتطور الوضع تطورا كليّاً إلى كرهِ التشدّد ونبذه وأخيرا الانقلابُ والتمردُ عليهِ ، بل والانتقال من صفوف التطرّفِ الديني إلى التطرفِ المضادِ المعاكسِ وهو الانحلالُ من كلِّ المبادئ والقيم ، والتديّنُ على رأسِها .
وهذا مصداق قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ الدِّينَ يُسرٌ ولنْ يُشادَّ الدِّينَ أَحدٌ إلاّ غلبهُ فسدِّدوا وَقاربوا وأبشرُوا " رواه البخاري ، قال ابن حجر - رحمه الله - " المعنَى لا يتعمقٌ أَحد في الأعمالِ الدِّينِيَّة ويترك الرفق إلا عَجَزَ وانقطعَ فيُغلب . قَالَ اِبن المنير : في هذا الحديث عَلَم من أعلامِ النبوَّة , فقد رأينا ورأى النَّاس قبلنا أنَّ كلّ متنطِّع في الدِّين ينقطعُ " .
وليستِ الوسطيةُ في الإسلامِ وسطيةً رياضيةً حسابيّةً ، كأنْ تكونَ الخمسةُ هي وسْطَ العشرةِ ! ، ولا هي وسطيةٌ تلفيقيةٌ كما يفعل بعض المنتسبين للإسلام من خلطِ الأوراقِ ، فيخلطُ الإسلامَ بغيرهِ من الآراء الفاسدةِ والاطروحاتِ السمجةِ ويقولُ هذا هو الإسلامُ الوسطي المعتدلُ ! ، وليستِ الوسطيّةُ ردّةً عنيفةً عن الماضي بسلوكِ طريقٍ مُخالفٍ لهُ .
بل وسطيةُ الإسلامِ تكمنُ وترتكزُ في حقيقةِ الروحِ الإسلاميةِ الصافيةِ الميسورةِ ، كما أرادها الشارعُ وكما بينها صاحبُ الرسالةِ صلى الله عليه وسلم ، وسطيةٌ تعتمدُ على القرءانِ والسنةِ نصّاً وفهماً وانقياداً بالتطبيقِ والسلوكِ ، وسطيةً تقومُ على الرحمةِ بالخلقِ واللينِ لهم ، وزمّهم بأمرِ الخالقِ الحكيمِ .
ومن يستعرض التاريخُ المعاصرَ يجدُ أنَّ أبلغَ الحركاتِ تأثيراً في المجتمعاتِ الإسلاميّةِ والعربيّة ، هي الحركاتُ التي قادها رجالٌ يحسبونَ على التيارِ الإسلاميِّ ، من أمثالِ : أبي الأعلى المودوديِّ ، سيّد قطب ، جمالِ الدينِ الأفغاني ، محمدِ عبده ، عبدِ الرحمن الكواكبي ، محمّد رشيد رضا ، وغيرِهم ، وهؤلاءِ على الرّغمِ من وجودِ الهفواتِ الكبيرةِ لدى كثيرٍ منهم ، والقصورِ في علمِ الشريعةِ ، والتوسّعِ في إعمالِ العقلِ ، وتماهي بعضِهم في الحضارةِ الغربيّةِ ، إلا أنّهم لم يجدوا مكانةً لدى النّاسِ إلا لما أظهروهُ من الديانةِ والتعلّقِ بالشرعِ ، بغضِّ النظرِ عمّا يوجدُ لديهم من هفواتٍ وتجاوزاتٍ عظيمةٍ ، وهذا ما جعلَ النّاسَ تُقبلُ عليهم وتثقُ في مناهجِهم .(52/137)
إن العلمانية والحداثة والماركسيّةَ بل وحتّى القوميّةَ والحركاتِ الوطنيّةَ ، أضعفُ من أن تشكلَ خطراً حقيقياً على الدينِ ، لأنَّ الناسَ دائماً ما ينظرونَ لهؤلاءِ على أنهم من خارج الأسوارِ ، وعملاء ، ومن المتنكرين للأمةِ ، لكن من ينتمي للمدرسة الدينية سوف يكون لديه قدرةٌ على أشياءَ كثيرة ، أقلها المتاجرة بهذا الانتماء ، وتسويقُ الباطلِ تحتَ ستارِ التديّنِ والتمسّحِ بالشرعِ . لابد للإنسان أن يبحثَ عن نفسهِ وذاتهِ بعد عناءٍ طويلٍ طوّح فيه في غياهب السجون والضياعِ الفكريِّ والعقديِّ ، وأصبحَ دونَ هدفٍ أو فكرةٍ ، بل هو تائهٌ مُشتّتٌ بين ماضٍ مليءٍ بالتطرّفِ والجنوحِ والغلوِّ المقيتِ ، وبينَ حاضرٍ مؤلّمٍ ، تعبتْ فيهُ الرّوحُ من مسالكِ الضياعِ ودوربِ التيهِِ الشتيتةِ . عبدُ اللهِ ابن بجادٍ مثالٌ واضحٌ لشابٍ عاش حنقاً على المجتمعِ بأسرهِ ، فأشهر سيفَ التكفير ، وتلبس بأحزمةِ التفجيرِ ، وتلظّى بنارِ التشتّتِ الفكريِّ والمنهجيِّ ، ثم لمّا وجدَ أنها لا تنفعُ ولم يتحصل من وراءها على الشهرةِ التي كان يتمنّاها نكصَ على عقبيهِ ، وتبرّأ من ماضيهِ بحذافيرهِ .
إذن فهي مرحلةُ البحثِ عن الذاتِ ، وإعادةِ تشكيلِ الهويّةِ بعدَ تشظّيها في متاهاتِ العنفِ والغلوِّ ، لكنّهُ على غيرِ هُدىً من اللهِ ولا بصيرةٍ ، وإنّما هو الاتكالُ على النفسِ والثقةُ المُطلقةُ بالمُكتسبِ من المعرفةِ ، وهذا لا يُغني عن الحقِّ شيئاً .
يحقُّ للأستاذِ البحثُ عن الشهرةِ ليكونَ شيئاً مذكوراً في حياةِ الناسِ ، بعد أن عجزَ عن تحمّلِ الشريعةِ وتكاليفِها العظيمةِ ، تلكَ التكاليفُ والشرائعُ التي يجدُ فيها المسلمُ من الأُنسِ واللذةِ والراحةِ ما لا يجدهُ في غيرها من مباهجِ الحياةِ ومتعِ الدّنيا ، ولكنّها لا تتحصّلُ إلا لمن أتاها على الطريقةِ السويّةِ ، دونَ جنوحٍ أو شططٍ .
وكأني بابن بجادٍ وهو يحلمُ بقيامِ دولةٍ إسلاميّةٍ بزعمهِ ، على أنقاضِ دولتنا - حرسها اللهُ - بعد أن ذبحَ المرتدينَ وقاتلَ الطواغيتَ - وهم كثر جداً عندهُ - ولا شكَّ أنَّ ذبحهم أسهلُ عندهُ من ذبحِ الشياهِ ، فالكفرُ قد مدَّ رواقهُ وضربَ بأطنابهِ ، والإسلامُ قد بقيَ حكراً على فئةٍ من البشرِ اختارتِ الاعتزالَ في الباديةِ وتقطيعِ الوثائقِ الشخصيّةِ وتحريمِ التصويرِ .
وما زال يعتقدُ أنّهُ قد عُيّنَ مسئولاً عن امتحانِ الناسِ في عقائدهم ودينهم .
هكذا كانتْ أحلامُ ابنِ بجادٍ وهو يتردّدُ بين البلازية والمحيلاني .
ثم لما رأى أنّهُ لم يجنِ من السجنِ تلوَ السجنِ شيئاً ، فلم يهدمِ الدولةَ التي طالما حلمَ بالخروجِ عليها وإقامةِ حكمٍ جديدٍ على أنقاضِها ، ولم يوضعْ في المكانِ المناسبِ ، بل مازالَ المجتمعُ يحقرهُ ويحقرُ فكرهُ ، ولا يعتبره وبقيّةَ زمرتهِ وفئتهِ إلا شُذّاذاً لا تأثيرَ لهم ولا مكانةً .
قرّرَ حينها تغييرَ الطريقِ ، واستبدالَ المنهجِ بآخرَ أقلَ تكلفةً وأسهلَ فكراً ، لعلّهُ أن يصلَ لمنصبٍ ومكانةٍ في المجتمعِ ، أو ينالَ شيئاً من احترامِ الناسِ الذي فقدهُ طيلةَ فترةَ انحرافهِ السابقِ . لكنّهُ - وللأسفِ - لا يملكُ سوى شهادةِ المتوسطةِ ، وذلك لما سبقَ وبيّناهُ من حالهِ أنّهُ كانَ يرى تحريمَ الدّراسةِ وجميعَ الوظائفِ الحكوميّةِ ، فأي شيءٍ يفعلُ وهذه حالهُ ؟ .
لا يملكُ أيَّ ثقافةٍ تذكرُ ما خلا ثقافةَ الغلوِّ والانحرافِ الفكريِّ والمنهجيِّ المنبوذةِ ، وبعضَ التجاربِ التائهةِ في التفجيرِ وتهريبِ الأسلحةِ ، أي أنّها أشياءُ لا يمكنُ لرجلٍ سويٍّ عاقلٍ أن يبوحَ بها ويعلنها للملأ ، فضلاً عن اعتدادِها به ذخراً وحصيلةً .
وكانَ جلُّ وقتهِ في قراءةِ كتبٍ معينةٍ ، تلكَ التي تُغذّي الطريقَ المخالفةَ التي سارَ عليها ، وكانوا يفرحونَ فرحاً عظيماً بحصولِهم على نسخةٍ من أحدِ كُتبِ جهيمانَ ، أو كُتبِ الشيوعيِّ الثائرِ السعيدِ ، أو غيرِهم من الذين أعلنوا العصيانَ والخروجَ ، ولم يكونوا يهتمّونَ بمنهجِ المؤلّفِ أو فكرهِ ، بل إذا وافقَ هدفهم وغايتهم قرءوا لهُ وأوصوا بقراءةِ ما يكتبهُ ، كما كانَ مولعاً بامتحانِ عقائدِ الناسِ واختبارهم في أديانهم ، لا سيّما وهو يرى أنَّ أكثرَ الخلقِ ما بينَ كافرٍ مرتدٍ أو مسلمٍ زائغٍ منحرفٍ ، والحقُّ قد تمحّضَ في قلةٍ قليلةٍ تستوطنُ الباديةَ . يملكُ كرهاً للشبابِ الذين تعلّموا ودرسوا ففاقوهُ علماً وتحصيلاً . يملكُ بغضاً لمن كان يؤنّبهُ على أفكارهِ الظلاميةِ الفاسدةِ ، كما تقدّمَ معنا ذكرُ قصّةِ الشيخِ العلاّمةِ سفر الحواليِّ - متّعهُ اللهُ بالعافيةِ وشفاهُ - ، وكيفَ أنَّ نصيحةَ الشيخِ لهُ جعلتهُ يكرههُ كرهاً فظيعاً .
علمَ حينها أنّهُ منبوذٌ ، وماضيهِ لا يصلحُ أن يُناطَ به ما يكونُ سبباً للرفعةِ أو التوقيرِ . إذن لابدّ أن يفعلَ فعلَ الأعرابِّي الذي بالَ في ماءِ زمزمَ حتى يشتهرَ .
بدأَ ابنُ بجادٍ بالهجومِ . الهجومُ على كلِّ شيءٍ يذكّرهُ بماضيهِ المخزي ، فهو يسبُّ ماضيهِ ويصفهُ بأقبحِ الصفاتِ ، لعل أن يجدَ في ذلك سلوةً .(52/138)
يسبُّ المناهجَ التي خرّجتْ آلاف الشبابِ الصالِح والنافعِ والذين لم يفعلوا فعلهُ ، بل كانوا يُناصحونهُ ويدلّونهُ على الخيرِ ، فكانَ ينكُصُ على عقبيهِ ويستكبرُ عن سلوكِ طريقهم ، حتّى وصلَ بهِ الحالُ فكفّرَ بعضهم ، ورمى آخرين بالعمالةِ والزيغِ ، وكان يسبُّ المناهجَ أيضاً من قبلُ لأنها تكرّس الكفرَ وهو حبَّ الوطنِ !! .
يسبُّ كبارَ العلماءِ المخلصين لدينهم ، وكان يسبّهم من قبلُ كذلك لأنهم أعوانُ الطاغوتِ - كما يقول - وربما زادَ عن السبِّ فحكمَ على بعضهم بالنفاقِ والرّدّةِ الصريحةِ ، كما فعلوا ذلك معَ الإمامِ عبدِ العزيزِ بن بازٍ وصِنوهِ بنِ عثيمين - رحمهما اللهُ - ، ولا زلتُ أذكرُ صاحباً لهم من خاصّتهم - وقد صارَ مثلُهم الآنَ مُنتكساً - وهو يقولُ : لو قامَ الجهادُ في هذه البلادِ فإنَّ أوّلَ من يُبدأ بقتالهِ هو ابنُ بازٍ وابنُ عثيمينَ !! ، وهذا الرّجلُ نفسهُ قالَ لي : الألبانيُّ كافرٌ ، وإن شككتَ في كفرهِ فأنتَ كافرٌ ! .
فسبحانَ اللهِ ما أوضعَ هذا الطريقَ وأسخفَ سالكيهِ ، لم يعرفوا حقّاً لأحدٍ ، ولم يُراعوا حرمةَ العلمِ وأهلهِ ، ولكنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى لهم بالمرصادِ ، فحمى أعراضَ أولياءهِ ، فماتَ أولئكَ العلماءُ وبكتهم الأمّةُ جمعاءُ ، وشهِدوا لهم بالخيريّةِ والفضلِ ، وأمّا هذه الشرذمةُ فقط تساقطوا واحداً إثر واحد في الانتكاسةِ والانحرافِ ، وما ظلمهم اللهُ ولكن أنفسهم كانوا يظلمونَ . يشتمُ ويكرهُ من كانَ يردّدُ عليهِ : يا بُنيَّ ليسَ هذا هو الطريقَ الصحيحَ ، ولا المنهجَ السويَّ ، إنّهُ يكرههم مع أنّهم حاولوا ردّهُ عن غلوّهِ ، فقد وقعَ في شيءٍ لا يقلُّ غلواً عن سابقِ حالهِِ . إن ما حصلَ لابنِ بجادٍ بعد رحلاتهِ مجرّدُ انقلابٍ لشهوةٍ نفسيّةٍ عرضتْ ، وقد يتبعهُ انقلابٌ آخرُ ، ويعودُ على إثرهِ أخطرَ من ذي قبلُ وأشدَّ زيغاً وانحرافاً ، وكُرهاً للمجتمعِ وطبقاتهِ .
وقد تكونُ هذهِ المرحلةُ مرحلةَ كمونٍ وسكونٍ ، يتبعها نشاطٌ وفورةٌ .
ولنقفْ سوياً - أيّها القارئُ العزيزُ - مع " المفكّرِ ، والباحثِ في الجماعاتِ الإسلاميّةِ " عبد اللِه بن بجادٍ ، وهو يضعُ المبضعَ على الجرحِ ليُبيّنَ للناسِ وللدولةِ بالأخصِّ سببَ الغلوِّ الموجودِ عندنا والذي بدأ مبكراً بفضلِ ابنِ بجادٍ وأمثالهِ ، لكنّهُ نسيَ أنّهُ أحدُ من نفخَ في كيرهِ وذرَّ رمادهُ في عيونِ النّاسِ .
في مقالةٍ بعنوانٍ " التطرّفُ صناعةٌ محليةٌ أم مستوردةٌ " ، في جريدةِ الرياضِ : يتحدّثُ عمّا حصلَ بين الإخوانِ - رحمهم الله - وبين الملك عبد العزيزِ - رحمه الله - فيقول : " ...وبعد أن اكتشف الملك عبد العزيز عجز الخطاب الدينيِّ الرسمي عن إطفاء الفتنةِ ، لأنّهُ بكلِّ صراحةٍ كان سبباً في المشكلةِ فكيف يشاركُ في حلّها ! " .
هل كنتَ تقولُ بهذا الرأي في ظلاميّتكَ الأولى ؟ حينَ كنتَ تُمجّدُ الإخوانَ تمجيداً عظيماً ، وتعتقدُ أنَّ الملكَ عبدَ العزيزَ ما هوَ إلا يهوديُّ الأصلِ ، ودسيسةٌ بريطانيّةٌ ، ومرتزقٌ للأعداءِ ، وكافرٌ لا يُقبلُ حكمهُ ، وكنتَ تتذاكرُ أنتَ وبقيّةُ الرّفاقِ ما كنتم تسمّونهُ بأمجادِ السبلةِ الغائبةِ !! ، هل نسيتَ تلكَ الأيّامَ القاتمةَ ، ولم يكنْ معكم فيها إلا قلّةٌ من الرّجالِ ، منهم من قُتلَ في مواجهةٍ مع رجالِ الأمنِ في هذه البلادِ المُباركةِ ، وآخرينَ انحرفوا في مثلِ طريقكَ وسبيلكَ ! .
هاهو الآن يتحوّلُ إلى الشمشونيّةِ الفكريّةِ ، ويُعمّمُ الانحرافَ بعد أن تلبّسَ بلبوسهِ وانخرطَ في طريقهِ ، ولم يكفهِ ذلك بل تحوّلَ إلى داعيةٍ من دعاةِ الشرِّ والسوءِ ، حتّى يتخبّطَ النّاسُ كما تخبّطَ هو ، وليكونوا شركاؤهُ في ألمِ الضميرِ ، ووحشةِ الصدرِ ، وضيقةِ القلبِ ، وهي أعراضٌ لازمةٌ لكلِّ من صدَّ عن سبيلِ اللهِ يبغيها عوجاً ، أو حادَّ المؤمنينَ وتنكّبَ عن طريقهم .
إنَّ الكثيرَ من أهلِ الخيرِ والطاعةِ والاستقامةِ ليوحشُ صدرهُ ، ويُظلمُ قلبهُ ، بالمعصيّةِ المُجرّدةِ التي يفعلُها ، أو الذنبِ يجترحهُ ، فكيفَ بمن يهوّنُ على النّاسِ أمرَ الديانةِ والاستقامةِ ، وكيف بمنْ يفتحُ للنّاسِ بابِ الانحرافِ الفكريِّ والسلوكيِّ ، بل كيفَ هو حالُ من أعرضَ عن ذكرِ اللهِ إعراضاً تامّاً ، وصارَ قرينهُ الشيطانُ وأعوانُ الشيطانِ ، فهؤلاءِ ولا ريب عيشتهم قلقةٌ ، وحياتُهم مليئةٌ بالوحشةِ والقتامةِ . بدلاً من أن تلعنَ الظلامَ أوقد شمعةً .
بدلاً من أن تهاجمَ من كنتَ تمجّدهم إلى حدِّ الغلوِّ والتقديسِ المنكرِ ، ضعْ حجراً لبناءِ مستقبلٍ أفضلَ لكَ أوّلاً خاصّةً ، ثُمَّ للمسلمين عامةً ، ولكنَّ ماضيكَ وعهدكَ البائدَ لم يكنْ إلا موشّحاتٍ من الإقصاءِ للآخرينَ وتكفيرهم واتّهامهم في نيّاتهم وأديانهم ، ولم يكنْ - بحسبِ اعتقادِكَ - ثمّةَ ناجٍ إلا أنتَ ونفرٌ يسيرٌ ممّن معكَ ، والآن انقلبتْ على عقبيكَ ، ولكنّكَ لم تتركِ الإقصاءَ والطعنَ والقذفَ الذي كنتَ تمارسهُ ، بل عُدتَ إليهِ أسوأ من ذي قبلُ ، فأينَ هو التغييرُ الأمثلُ والتراجعُ الصائبُ بزعمكَ ؟ .(52/139)
إنّكَ تستخفُ بعقلِ القارئ ، وأنتَ تعلمُ جيّداً أنَّ كلامك كذبٌ محضٌ وإفكٌ مُفترىً ، فقد كانَ موقفُ أهلِ العلمِ واضحاً وصريحاً في وقوفِهم مع الملكِ عبدِ العزيزِ ضدَّ بعضِ تصرّفاتِ الإخوانِ وآرائهم المُخالفةِ ، وكان هذا مما أغضبَ الإخوانَ ، وصارَ أهلُ العلمِ يحذرون الناسَ منهم ، ولا شكَّ أنه قد مرَّ عليك كلامُ المشايخِ في الإخوانِ ، ولكنّهُ لم يكنْ يُرضيكَ ، بل كنتَ تراهُ نوعاً من النّفاقِ والعمالةِ والتزلّفِ ، فكيفَ جعلتهُ الآنَ موقفاَ شريفاً نبيلاً ؟ أرأيتَ أنّكَ لا تعي ما تقولُ وإنّما تُخالفُ لمُجرّدِ المخالفةِ وحُبِّ الظهورِ .
ومن المشايخِ الذين رفضوا أعمالَ الإخوانِ : الشيخُ عبد الله بن عبد اللطيف والشيخُ حسن بن حسين والشيخُ سعد بن عتيق والشيخُ محمّد بن عبد اللطيف وآخرونَ - رحمهم اللهُ جميعاً - ، وكان عددٌ من المشايخِ برفقةِ الملكِ وهم الشيخُ عبد الله العنقري والشيخ عبد الله بن مزاحمٍ والشيخ أبو حبيبٍ الشثري - رحمهم الله - .
وأنتَ تعلمُ أنَّ المسألةَ كانتْ في جزءٍ كبيرٍ منها حرباً سياسيةً ، ففيصل الدويش - رحمه الله - كان سياسياً وكانت له نوايا في الحكمِ بخلافِ غيرهِ من قادةِ الإخوان - رحم الله الجميع - ، وأنت تعلم كذلكَ أنَّ الملكَ عبد العزيز - رحمه الله - هو قائدُ الإخوانِ بل لقد قالها أمام البريطانيينَ : أنا الإخوان ! ، وقد ذكر هذا جون حبيب في كتابة "الإخوان السعوديون " و قال أيضاً : "حركةُ الإخوانِ هي أطهرُ حركةٍ عرفها التأريخُ " .
ثم إن كان الملك عبد العزيز - رحمهُ اللهُ - قد عفا عنهم وتركَ قتالهم ، فمالك ولمهاجمتهم ؟! .
وإن كنتَ تجهلُ موقفَ الملكِ من قادةِ الإخوانِ الذين خرجوا عليه ، فإليكَ ما يقرّرهُ جون حبيب ودكسون فقد قالا : " كان اللقاءُ بين المتمرّدين وبين الملكِ مؤثراً ، وبعد أن انهمرت الدموعُ على خدّيَ ابن سعودٍ سمحَ لكلٍّ من الأسرى أن يقبّله في أنفهِ " .
ألا يُغيظُكَ مثلُ هذا الموقفِ من الملكِ عبدِ العزيزِ ؟ ، واللهِ إنّهُ يُغيظُكَ ، كانَ يُغيظُكَ فيما مضى ، وهو يُغيظُكَ الآنَ ، لأنّكَ لا تبحثُ إلا عن الشذوذِ والمُخالفةِ ، مثلُكَ مثلُ الجراثيمِ لا تظهرُ إلا مع العفونةِ والمرضِ ، ومثلُ الضباعِ تعشقُ مرأى الجثثِ المُبضّعةِ والأوصالِ المُقطعةِ ، وأنتَ لا تظهرُ إلا حالَ الفرقةِ والتشتّتِ وتُباركُ ذلكَ وتدعو لاستدامتهِ ، كأنّكَ غرابُ البينِ . أم أن الذي يُغيظُكَ هو موقفُ الملك عبد العزيز - رحمه اللهُ - لما قال : " الحقيقةُ أننا سلفيّون محافظونَ على ديننا نتبعُ كتابَ اللهِ وسنّةِ رسولهِ - صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ - وليسَ بيننا وبيَن المسلميَن إلا كتابُ اللهِ وسنّةِ رسولهِ " .
ألم تكن تُغيظُكَ مثلُ هذهِ الكلماتِ من الملكِ عبد العزيزِ سابقاً ؟! ، وهيَ واللهِ الذي لا إلهَ إلا هوَ تُغيظُكَ الآن أضعافاً مُضاعفةً لأنّكَ تزعمُ أنَّ السلفيّةَ أسوأ الحركاتِ الإقصائيةِ ، وأنّها سببُ البلاءِ في بلادِنا - حرسها اللهُ - .
لماذا تعرضُ عامداً عن محاورةِ الملكِ عبد العزيز لبعضِ شيوخِ الإخوانِ وقادتهم - رحمهم اللهُ جميعاً - عندما ناقشوهُ وخالفوهُ في أمرِ البرقيّاتِ ، فقال لهم : " إنني على استعدادٍ لتدميرِ كل السياراتِ وأجهزةِ الهاتفِ واللاسلكيِّ ولكن بشرطِ أنْ يُدمّرَ الإخوانُ كلَّ أسلحتهم وذخائرهم التي هي من صنعِ الكُفارِ .. " .
فأقنعهم ذلكَ منهُ وتركوا هذهِ الشبهةَ ، وحصلَ بذلكَ نوعٌ من اجتماعِ القلوبِ ، وهو أمرٌ يحبّهُ اللهُ ورسولهُ ، لما فيهِ من تفويتِ الفرصةِ على هواةِ التفرقةِ وشقِّ الصفوفِ من المغرضينَ من أمثالكَ .
ولو كنتَ منصفاً - وما أبعدكَ عنها - لنقلتَ للقرّاءِ عددَ المرّاتِ التي ناقشَ فيها الملكُ عبدُ العزيزِ مخالفيهِ ، حتّى إن كثيراً منهم انضمَّ إليهِ بعد تلكَ المناقشاتِ ، وتركَ عداوتهُ .
ثمَّ مرّةً أخرى ينقلُ لنا ابنُ بجادٍ ما فعلهُ جهيمانُ في الحرمِ ، ممارساً طعناتهِ المعتادةَ في أصدقاءِ فكره الماضينَ ، فيقول:
" لقد أعادَ ذلك الخطابُ الدينيُّ إنتاج نفسهِ ، ليخلقَ جيلاً جديداً من الصادقين في تطبيقهِ ، من أولئك الذين لم تكنْ لديهم أيّة امتيازاتٍ اجتماعية أو سياسيةٍ تجعلهم يغضون الطرفَ عن التناقضِ بين النظريةِ والتطبيقِ ، ومع شروقِ شمسِ اليومِ الأوّلِ من شهرِ اللهِ المحرّم عام ألف وأربعمائةٍ خرجت علينا جماعةُ جهيمان العتيبيِّ في الحرمِ المكّي الشريفِ ، لتنتهكَ الشهرَ الحرامَ والبلدَ الحرامَ ، لا تأثّراً بفكرٍ دخيلٍ وخارجيٍّ ، ولكنّهم تخرّجوا من جديدٍ على يدِ كبارِ علماءِ الخطابِ الدينيِّ الآنفِ الذكرِ ، فاستحلّوا دماءَ المسلمين في البلدِ الحرامِ وبين الركنِ والحطيمِ ، كل هذا وهم يحسبون أنّهم يجاهدون في سبيلِ اللهِ وأنّهم يحسنون صنعاً !! " .
إذن - أيّها المُحلّلُ الفريدُ - فإنَّ المُشكلةَ تكمنُ في الخطابِ الدينيِّ وليس في فكرٍ وافدٍ .(52/140)
إنّهُ خطابٌ دينيٌّ كان ابن بجاد يحسنهُ تماماً ، بل وينشرهُ عبرَ توزيع كتب جهيمانِ ، وكانَ يفرحُ فرحاً شديداً إذا وجدَ كتيّباً أو وريقاتٍ كتبها جُهيمانُ ، فيقومُ بنشرها وتوزيعِها ، ضارباً عرضَ الحائطِ بكلامِ كبارِ العلماء الذين مازالوا ينهون عن تتبّعِ تلكَ الأسفارِ ، ويحرّمونَ ذلك الغلوَّ .
خطابٌ دينيٌّ متشنّجٌ ، كان الأستاذُ يُوالي عليه ويُعادي ، فهو يقولُ بكلِّ فخرٍ : " كم طالبٍ علمٍ حصرناهُ في المجلسِ حتى يُقرَّ بتكفيرِ الدولةِ ، أو أغلقنا عليهِ الحججَ في المكتبةِ ، حتى يُقرَّ بتحريمِ المدارسِ والوظائفِ ! " .
وليسَ للآخرِ مجالٌ أو عُذرٌ عند الأستاذِ قديماً أو حديثاً ، فالطبعُ يغلب التطبّعَ ، بل هوَ واللهِ المرضُ النفسيُّ المتأصّلُ .
وهنا يؤكّدُ ابنُ بجادٍ أنَّ جُهيمانَ كان صادقاً في التطبيقِ ، بينما كانَ كبارُ العلماءِ وأئمّةُ العلمِ في ذلك الوقت من الكاذبينَ !! .
العلماءُ الذين وقفوا مع التوسّطِ والعدلِ ونبذِ العنفِ والغلوِّ كاذبونَ أدعياءُ ! ، وأمّا جهيمان فهو صادقٌ !! .
العلماءُ الذين بذلوا الوسعَ واستفرغوا الجهدَ لتجنيبِ الأمّةِ الويلاتِ والتشعّثَ والتفرقةَ = خونةٌ ، لأنَّ لهم امتيازاتٍ اجتماعيةً أو سياسيةً .
تبسمت كثيراً وأنا أقرأ هذه العبارةَ ، فهي إسقاطٌ نفسيٌّ من عمق الماضي ، فقد كان ابن بجاد يشبعُ العلماءَ سبّاً وشتماً وتخويناً وما زال كذلكَ ، بل ربما ألزمهُ صديقُ الصبا محمد الـ ... (أبو حاتم) بتكفيرِ بعضهم ، ولم يكنْ ابنُ بجادٍ متورّعاً عن تكفيرِ أحدٍ .
" المهدي محمد بنُ عبد اللهِ القحطانيِّ - الذي قُتلَ في حادثةِ جُهيمانَ - رُفع للسماءِ كما رُفعَ عيسى ابنُ مريمَ - عليهُ السلامُ - ! أو خرجَ من المجاري وهربَ لليمنِ ، ومازالَ يحملُ رشاشاً في إحدى مغاراتِ اليمن " .
هكذا يكرّرُها ابنُ بجادٍ ، وقد سمعتُها واللهِ كثيراً من رِفاقهِ وأصدقاءِ دربهِ ، بل كانَ ابنُ بجادٍ يحتدُّ ويغضبُ على من يُخالف هذه الأضحوكةَ والسخافةَ ، ويطعنُ في العلماء الذين كذّبوا المهديَّ المذكورَ .
ولا أدري هل نزلَ المهديَّ أم مازالَ في السماءِ ؟ ، ومتى ينزلُ من الجبالِ ويتركُ المغارات والأحراشِ ويلقي الرشاش !؟ .
وقد صدقَ القائلُ قديماً : الجنونُ فنونٌ ! ، فهل رأيتم جنوناً - بعد جنونِ الرّافضةِ - كجنونِ عبدِ اللهِ بنِ بجادٍ ، فهل ثمّةَ عاقلٌ يقولُ بقولهِ هذا ، أو يُفكّر فيهِ ولو للحظةٍ سريعةٍ ؟! .
وكلما قرأتُ مقالاً لابنِ بجادٍ ترحّمتُ وترضّيتُ على الإمامِ ابن عساكرٍ - جادَ اللهُ ثراهُ بمزونِ الرّحمةِ - ، فكم كانَ مُصيباً لمّا قالَ في شأنكَ وشأنِ أمثالكَ : " اعلمْ يا أخي - وفقني اللهُ وإيّاكَ لمرضاتهِ وجعلني وإيّاكَ ممّن يخشاهُ ويتقيهِ حقَّ تُقاتهِ - أنَّ لحومَ العلماءِ مسمومةٌ وعادةُ اللهِ في هتكِ أستارِ منتقصيهم معلومةٌ ، وأنَّ من أطلقَ لسانهُ في العلماءِ بالثلبِ بلاهُ اللهُ قبلَ موتهِ بموتِ القلبِ .. " .
ولو لم يكنْ من آيةٍ على صحّةِ هذه العبارةِ من كلامِ الإمامِ ابنِ عساكرٍ ، إلا ابن بجادٍ وأمثالهِ ، لكفى بها دليلاً على صدقهِ ، فقد سقطَ ابنُ بجادٍ صريعاً في الدّنيا نتيجةً لإطلاقِ لسانهِ في الأئمّةِ وأهلِ العلمِ ، ولم يسلمْ منهُ الماضونَ بلهَ المعاصرينَ ، فإنَّ ابنَ عساكرٍ - رحمهُ اللهُ - كانَ متهماً عند ابنِ بجادٍ أصلاً !! ، فقد كانَ يعتبرهُ أشعرياً مُحترقاً !! .
ونجدُ أنَّ الأستاذَ يؤكّدُ مرّةً أخرى على تجريمِ ذلك الخطابِ الدينيِّ ، فيقول :
" وبقي الخطابُ ذاتهُ مستمرّاً يقودهُ ويمثّلهُ متنفذّونَ نفعيّونَ لا يشعرونَ بأيِّ حرجٍ في تناقضِ النظريةِ والتطبيقِ لديهم لتستمرَّ السلسلة ومضتِ السنواتُ حتّى خرجَ من أبناءِ الوطنِ من يملؤهُ تفجيراً وخراباً ودمارا ً، في العليا وفي الخبرِ وفي الرياضِ ، ونحن نعالجُ الظاهرةَ ونتركُ الجذرَ ، نشتمُ النتيجةَ ونُبرئُ المقدمةَ ، نلهثُ في محو الهامشِ ونتركُ المتنَ ، فهل نمتلكُ الشجاعةَ الكافيةَ لنعترفَ أننا بحاجةٍ لمراجعةٍ كلِّ شيءٍ ، وخصوصاً خطابُنا الدينيُّ المنتشرُ في المساجدِ والمدارسِ ووسائلِ الإعلامِ وبعضِ المؤسساتِ الرسميةِ ! " .
أتعجّبُ منكَ يا أستاذُ وأنتَ تشتدُّ على من سمّيتهم بـ " متنفذون نفعيون لا يشعرون بأي حرجٍ في تناقضِ النظريةِ والتطبيقِ لديهم " ولكن من هم ؟ ، لقد حدّدتهم بكل جسارةٍ وصفاقةٍ بقولكَ : " المساجدِ والمدارسِ ووسائلِ الإعلامِ " .
فمن هو الرئيسُ العامُ للمناهجِ في بلادِنا ! . ومن هو الرئيسُ العامُّ للشؤونِ الإسلاميةِ في بلادِنا ! . ومن هو الرئيسُ العامُّ للإعلامِ في بلادِنا ! .
هل تجدُ جرأةً هنا ، كما وجدتها في إطلاقِ لسانكَ دونَ حدٍّ أو قيدٍ في شرعِ اللهِ تعالى ؟ ، أم أنَّ الخوفَ والتملّقَ يحولُ دونكَ ودونَ ذلك ؟! ، أفلا خشيتَ اللهَ واتقيتهُ وكففتَ لسانكَ سابقاً ولاحقاً عن أوليائهِ وأنصارِ دينهِ ؟! .(52/141)
لماذا لا تكونُ صريحاً - يا ابنَ بجادٍ - وتقولُ : أنَّ الذين فجّروا في العليا في عام 1416 هم من أقربِ النّاسِ إلى قلبكَ ، وكنتَ ترتبطُ معهم بعلاقةِ ولاءٍ وصداقةٍ كبيرة ، بل كنتَ تُباركُ فكرهم وعملهم ، وتدعو لهم ليلَ نهارَ ، وتحثُّ الشبابَ على فعلِ المزيدِ من هذه العملياتِ التفجيريّةِ وأن يلتحقوا بركبِ الشهداءِ .
هل تستطيعُ أن تنكرَ شيئاً من هذا ؟ ، ألم يكنْ عامّةُ أهلِ العلمِ في تلك الفترةِ يحرّمونَ مثلَ هذه الأعمالِ ، ويُجرّمونَ من يقومُ بها ، بينما كنتَ أنت ترى أن الذي يُفتي بحرمتِها فهو مرتزقٌ منافقٌ عميلٌ ؟ .
ألم تكنْ تلكَ التفجيراتُ وما حصلَ بعدها من تفجيراتٍ وقوائمَ ، هي من إنتاجِ أصحابك ورِفاقكَ ومنتهجي أسلوبكَ وفكركَ ؟ ، هل نسيتَ أنَّ أبا مصعبٍ التهاميِّ - أحدُ المفجّرينَ في العليا سنة 1416 - دخلَ على زوجِ أختهِ في قاعةِ الاحتفالاتِ في ليلةِ عرسهِ ، وقام بإطلاقِ النّارِ عليهِ لأنّهُ تصوّرَ مع أختهِ ؟ والتصويرُ عندكم - حينها - جريمةٌ لا تقلُّ عن الشركِ باللهِ ، وتحوّلَ العرسُ إلى دموعٍ ودماءٍ ، وسُجنَ صاحبُكم على إثرها ! .
هل نسيتَ - يا ابنَ بجادٍ - سعود القرشيِّ ، سعود العتيبي ، إبراهيمَ الريّس ، سلطان بن بجاد ، والدخيل ، وغيرهم من قائمةِ المطلوبينَ ، ألم يكنْ هؤلاءِ يُحرّمونَ المدارسَ ، ويكفّرونَ الدولةَ ، ويتهمونَ العلماءَ بالعمالةِ والخيانةِ ، أو باختصارٍ : كانوا على نفسِ منهجكَ القديمِ وطريقتكَ ، بل كانوا من أخلصِ أصدقائكَ وأكثرهم قرباً منكَ ، فقد كانوا في وادٍ ، وأهلُ العلمِ قاطبةً في وادٍ آخرَ .
هل نسيتَ أنَّ مجموعةً كبيرةً من أصحابكَ وجلسائكَ ، حُكمَ عليهم بالسجنِ لمدّةٍ تصلُ إلى 15 عاماً ، بسببِ إنشائهم جماعاتٍ تُخططُ للسطوِ على بعضِ البنوكِ ، والقيامِ بأعمالٍ تخريبيّةٍ ، وهذه المجموعةُ كانتْ تستلهمُ منكَ ومن النقيدانِ والذايديِّ والدينيِّ وآخرين = النصيحةَ والإرشادَ والدعمَ الشرعيَّ ، ولم تكنْ تبخلُ عليهم بشيءٍ ، بل كنتَ تفتي لهم ، وتغرفُ فتاويكَ من بحرِ الغلوِّ والتطرّفِ ، حتّى كُشفَ أمرهم ، وتمَّ عقابُهم وسجنُهم ، بينما فررتَ أنتَ إلى الخارجَ !! .
لا أريدُ أن أذكرَ لكَ أسماءِ هؤلاءِ لأنَّ كثيراً منهم عادَ إلى رُشدهِ وصوابهِ ، وهم شهودٌ على غلوّكَ وضلالكَ ، وأنتَ تعرفُ أسمائهم كما تعرفُ نفسكَ وذاتكَ .
وقد قرّرَ الأستاذُ في مقالةٍ أخرى وبصراحةٍ أنَّ مسؤوليةَ التفجيرَ تقعُ على العلماءِ والسياسيين ، فقال في مقالةٍ بعنوانِ "محرقةِ التكفير " نُشرتْ في جريدةِ الوطنِ :
" إلى متى لا نعي أننا يجبُ أن نغيّر ، يجبُ أن نصلحَ ، يجبُ أن نهزّ البنيةَ المتخلفةَ التي أنتجت مثل هذا الانقلابِ الصاخبِ من جذورِها على كل المستوياتِ ، بدءاً من المستويين الدينيِّ والسياسيِّ ،لأنّهما - تحديداً - الأكثر مسؤولية عمّا جرى " . الأستاذُ يقرّرُ هنا أنّهُ يجبُ عليهِ وعلى حملةِ فكرهِ أن يهزّوا البنيةَ المتخلفةَ ، بدءاً من المسؤولين الدينيينَ والسياسيين .
وكما تعوّدنا من ابنِ بجادٍ في الماضي أنّهُ يُقحمُ جهلهُ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ ، مُعتقداً أنّهُ يملكُ من الأهليّةِ ما تجعلهُ المُجتهدَ الأوحدَ ، ومالكَ الحقِّ في الحكمِ على تصرّفاتِ العبادِ ، فإنّهُ الآن يعتقدُ في نفسهِ الصلاحيةَ المُطلقةَ للكلامِ على أحوالِ المُجتمعِ وأحداثِ العصرِ ، تلكَ الأحداثُ التي شاركَ في صنعها بفكرهِ ، بمجهودهِ ، بعملهِ ، برفاقهِ ، بل كانَ يوماً من الأيامِ يُخطّطُ لنقلِ التجربةِ إلى الخارجِ ، ولا أظنّهُ ينسى قصائدهُ الكثيرةَ في مدحِ أحداثِ الجزائرِ ، والتشوّقِ للسفرِ إلى هناكَ ، هذا عدا عن جمعِ التبرّعاتِ لهم في المساجدِ .
مع الأسفِ - يا ابنِ بجادٍ - أن المسئولين لم يستجيبوا لك حتى الآن ! ، فمكانك المناسب هناك ، في هرمِ التعليمِ لتصلحَ المناهجَ - يا ذا الشهادةِ المتوسطةِ ومُحرّمِ التعليمِ - ، أو هرمِ المؤسّساتِ الدينيةِ ، لتصلحَ الخطابَ الدينيَّ في المساجدِ والفتاوى - يا من كنتَ ترمي العلماءَ بالنفاقِ والتزلّفِ والتحالفِ مع الدولةِ - ، أو مكانك في أعلى هرمِ الإعلامِ ، لتصلحَ الخللَ في الكتبِ والمجلاتِ الدينيةِ - يا من كنتَ تُخطّطُ لتفجيرِ مبنى الإعلامِ ويا من فجّرتَ وأحرقتْ محلاّتِ الفيديو ! - .
أو أنَّ مكانك هناك في أعلى الهرمِ ، ليتحقّقَ لك حلمك في استتابةِ من كان ينتقصُكَ لأنك لم تتمَّ دارستك ، أو يحقرك لأفكاركَ التي لم تتحملها وانقلبتْ عليها سريعاً ، أو يلومك لأنّك لم تفهمْ دينكَ حقَّ الفهمِ ، أو أولئك الذين مزّقوكَ على أعمدةِ الصحفِ ، لمّا شاركت في تمزيقِ الوطنِ وتدميرِ مكتسباتهِ .
وننتقل لمقالة أخرى لفيلسوفِ العنفِ ، حيث يطالعنا في مقالة أخرى بعنوانِ " القابلية للعنفِ " في جريدةِ الرياضِ ، حيث يؤكّدُ على أنَّ سببَ العنفِ الثقافةُ المحليّةُ فيقولُ :(52/142)
" لماذا العنفُ !؟ ، سيقولُ البعضُ : بسببِ الظلمِ الخارجيِّ ، ولكنّنا لا نستطيعُ أن نقتنعَ بذلك ونحن نرى الكونَ كلّهُ من حولنا مليئاً بالظلمِ الخارجي ، مما يطرحُ سؤالاً لا يقل أهمّيةً عن سابقهِ ألا وهوَ : لماذا لم يحدثْ عندهم ما يحدثُ عندنا ؟ ، ولماذا نحنُ فقط الذين نجدعُ أنوفنا نكايةً بالخصمِ !! ، لماذا نحن فقط نحرقُ أوطاننا ، ونفجّرُ وحدتنا ، ونفرّقُ كلمتنا ، ونمنح الذرائعَ تلوَ الذرائعِ لكلِّ غريبٍ قويٍّ متربّصٍ بنا ؟؟ ، أحسبُ أنَّ شيئاً من تلمّسِ الجوابِ يكمنُ في القابليةِ للعنفِ في ثقافتنا المحليّةِ ، حيثُ تختلطُ الأفكارُ الصحيحةُ بالسقيمةِ ، ببعضِ الموروثاتِ الشعبيةِ إضافةً لبعضِ المعطياتِ السياسيةِ ، لتعطينا مزيجاً متداخلاً وغريباً ، يمتلكُ أكثرَ من غيرهِ مكانَ الصدارةِ في قيادةِ أفكارِنا وتحرّكاتنا ومواقفنا. "
يا للعجبِ ! ، كأنَّ ابنَ بجادٍ يحملُ مرآةً تعكسُ صورتهُ في مقالاتهِ ، فهو لا يعرفُ إلا فكرهُ وصورتهُ السالفةَ الماضيةَ ، وجميعُ مقالاتهِ إسقاطٌ لرؤيتهِ الماضيةِ على الحالِ الحاضرةِ ، فيُعمّمُ صورتهُ القبيحةَ الشاذةَ الماضيةَ ، على صورِ النّقاءِ والطّهرِ الحاضرةِ ، زاعماً أنّها ستئولُ إلى نفسِ النتيجةِ التي آلَ إليها رِفاقهُ وأصدقائهُ الغالينَ ! .
ومرّةً أخرى يحاولُ الأستاذُ الخروجَ من قمقمِ الماضي ووحشتهِ ، إلى سرابِ المستقبلِ والحلمِ الشمشونيِّ .
يُريدُ منّا أن نجدعَ أنوفنا لنصدق أنهُ وطنيٌّ مخلصٌ ! ، وأن نسملَ أعيُننا لكي لا نرى حرقهُ للوطنِ ومُقدّراتهِ وشبابهِ .
هل التفجيرات - أيّها المُحلّلُ الفريدُ - في بلادِنا فقط ؟! ، وهل من قام بها دونَ بقيّةِ العالمِ السلفيّونَ فحسب !؟ .
ألم تسمع بمن فجّرَ في مدينة الجبيلِ الصناعيةِ ، وبمن قاتلَ رجالَ الحرسِ الوطنيِّ في مدينةِ القطيفِ ، أو بمن تقصّدَ قتلَ أميرِ مدينةِ نجرانَ ؟! ، وهل نسيتَ الذين قتلوا الحجيجَ في مكّةَ - زادها اللهُ شرفاً - عام 147هـ ، ومن فجّرَ فيها عام 149هـ .
ومن يدري ! ، فلعلَّ الأستاذَ في لحظةٍ من لحظاتِ التجلّي والكشفِ يزعمُ أنَّ من فعلَ الأفعالَ السابقةَ هم من أتباعِ دعوةِ الشيخِ محمّد بنِ عبدِ الوهّابِ !! .
ألم تسمع بمن فجّرَ في الخبرِ ؟! ، ومن يدري فلعلَّ تفجيرَ الخبرِ من فعلِ المهديِّ القحطانيِّ ، نزلَ من السماءِ ففجّرَ ثم أرتفعَ مرّةً أخرى ، أو جاءَ من جبالِ اليمنِ فعملَ هذا العملَ ثم فرَّ هارباً إليها مع المهرّبين ، كما فعلت? - ?? ???? ????? - مراراً .
ونحنُ نسألكَ : هل منْ شاركَ في التخريبِ في بلادِنا هم من الصادقين في تطبيقِ الموروثاتِ - كما تسميهم - ؟! ، فلماذا لم تذكرِ الخلايا اليساريّةَ الشيوعيةَ والناصريةَ والقوميّةَ وما فعلتهُ في بلادنا ، لا أظنّكَ تجهلهم أو تجهلُ حقيقتهم ، فهم الآن من جلسائكَ وخاصّتكَ ، أنسيتَ كيفَ كانَ الناصريّونَ يخطّطونَ لقلبِ نظامِ الحكمِ واغتيالِ الملكِ فيصل - رحمهُ اللهُ تعالى - . إنّهُ أسلوبُ التحييد للآخرِ ، وإقصاءِ المقابلِ ، بل هو تهديدُ المحاورِ ، وهذا تُحسنه جيداً يا أستاذُ ، فكنتَ سابقاً تُهدّدُ بالتكفيرِ والتفجيرِ دونَ تورّعٍ أو تردّدٍ ، والآن صرتَ تصمُ مخالفُكَ بأنّهُ إرهابيٌّ أو صانعٌ لهُ أو من الأجنحةِ السياسيّةِ للإرهابيينَ .
اختلفت كلماتك في ماضيكَ وحاضركَ ، وحقيقتها واحدةٌ ، ونفسيّتكَ المأزومةُ لم تتغيّرْ أو تختلفْ :
ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ***** يجدْ مُرّاً بهِ العذبَ الزلالا
وأنقلُ للقرّاءِ الكِرامِ هنا عدداً من أخبارِ المنظّماتِ والأعمالِ الإرهابيةِ التي لم يشاركْ فيها مسلمٌ ، من كتابٍ للباحثِ : مختار شعيب بعنوان " الإرهاب " حيث قالَ : " إنَّ أوّلَ منظّمةٍ إرهابيّةٍ عرفها التأريخُ هي منظّمةُ " السيكاري " التي شكّلها بعضُ المتطرّفين من اليهودِ من طائفةِ " الزيلوت " الذين وفدوا إلى فلسطين في نهايةِ القرنِ الأوّلِ قبلَ الميلادِ ، بهدفِ إعادةِ بناءِ الهيكلِ الذي عُرفَ بالمعبدِ الثاني " .
ويضيفُ المؤلفُ أنّهُ في نهايةِ القرنِ التاسعِ عشرَ ظهرتْ أوّلُ بوادرِ الإرهابِ الحديثِ في روسيّا بظهورِ منظمةِ " الأرض والحريّةِ " في العامِ 1876م ، ثمَّ منظمةُ " الإرادةِ الشعبيةِ " التي تشكّلتْ عام 1879 وجعلتِ الإرهابَ جزءاً متكاملاً من العمليةِ الاجتماعيةِ الروسيةِ .
ثمَّ يُضيفُ أنَّ أوّلَ استخدامٍ للقنبلةِ في العملياتِ الإرهابيةِ ، كان من جانبِ الثوّارِ الأيرلنديين في العقدِ الثامنِ من القرنِ التاسعِ عشرَ في عمليةِ الفرارِ من سجنِ " كلير كنوبل " في لندنَ .
على أنَّ الإرهابَ في مظهرهِ الحديثِ كان من ابتداعِ الثورةِ الفرنسيةِ ، التي قامتْ في عهدِ روبيسير وجان جيست بقطعِ رؤوس 14ألفِ فرنسيٍّ ، وسجن 3 ألفٍ آخرين .(52/143)
وعرفتْ أوروبا خلالَ مرحلةِ الحربِ الباردةِ منذ بدايةِ خمسينياتِ القرنِ العشرين ما سُمّيَ بالإرهابِ الأحمرِ اليساريِّ ، الذي ارتبطَ بالتنظيماتِ الشيوعيةِ التي وجهتْ عملياتِها ضدَّ الدولِ الغربيةِ ، وضدَّ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ بصفةٍ خاصةٍ . كما عرفتْ أوروبا ما سُمّي بالإرهابِ الأسودِ الذي ارتبطَ بالتنظيماتِ الفاشيةِ والنازيةِ في إيطاليا وألمانيا والنمسا ، وعرفتْ كذلك الإرهابَ الانفصاليَّ الذي تقومُ به بعضُ الجماعاتِ الانفصاليةِ ، بهدفِ تحقيقِ انفصالِ أقليةٍ معينةٍ ، تقطنُ إقليماً معيناً عن الدولةِ الأمِّ ، كما في حالةِ الجيشِ الجمهوريِّ الأيرلنديِّ في بريطانيا ، وحركةِ " إيتا " في إقليمِ الباسكِ بأسبانيا ، وحزبِ العمال الكردستانيِّ في تركيّا .
ويضيفُ المؤلف أنّهُ منذ بدايةِ الستيناتِ عانى المجتمعُ الدوليُّ من أشدِّ العملياتِ الإرهابيةِ خطورةً وقسوةً ، وهي تلك التي تمارسُ ضدَّ الطائراتِ المدنيةِ التي تُستخدمُ في نقلِ الركابِ بين الدولِ ، والسيطرةُ عليها ، وإجبارُها بالقوةِ على تغييرِ مسارِها ، وحجزِ ركابها داخلها ، لتحقيقِ مطالبَ معيّنةٍ لخاطفيها الذين أُطلقَ عليهم مسمّى " قراصنة الجوِّ " ، حيث كان أولُ حادثِ اختطافِ طائرةٍ مدنيةٍ في البيرو عامَ 193 ، غيرَ أن هذهِ الظاهرةَ لم تستفحلْ إلا في النصفِ الثاني من القرنِ العشرينِ .
وبينما كانت المنظماتُ الإرهابيةُ خلال السبعيناتِ إما يساريةً أو فوضويةً ، وهي حركاتٌ تسعى إلى الحكمِ ، وأشهرها " الألوية الحمراء " في ايطاليا ، و" بادرماينموف " الألمانية و" لواء الغضب " البريطانيةُ ، و" العمل المباشر " الفرنسيةُ ، و" توبا ماروس " في أمريكا الجنوبية.
وقد استخدمتْ هذهِ التنظيماتُ العنفَ ضد الحكوماتِ ، وأهدافٍ مختارةٍ ، من المنشآتِ أو الأشخاصِ .
وفي عقدِ التسعينياتِ ، تحولتْ إلى عملياتٍ تهدفُ إلى الإضرارِ العامِ ، مثل عمليةِ نشرِ غازِ الساري في أحدِ أنفاقِ طوكيو ، التي ارتكبتها جماعةٌ دينيةٌ يابانيةٌ متطرفةٌ ، هي جماعة " اوم شيزيكيو " أو " الحقيقة السامية " ، وذلك إضافةً إلى عمليةِ أوكلاهوما سيتي بالولايات المتحدةِ ، التي وقعت في 19 ابريل (نيسان) 1995، وقتل فيها 168شخصاً ، والتي قام بها ديفيد كورش أحدُ أعضاءِ المليشياتِ البيضاءِ في الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ .
وأستطيعُ أن أنقلَ لك - أيّها المُحلّلُ الكذوبُ - أكثرَ مما نقلتُ ، وأنا أعلم أنّك تعلمُ أضعافَ ما كتبتهُ لكَ ، ولكنّكَ كالعادةِ تريدُ أن تخفيَ الحقائقَ عن أعينِ القارئ ، ممُارساً بذلك وصايتكَ القديمةَ على الآخرينَ .
رفقاً بنفسك يا أستاذُ ! ، فأنتَ لا تخاطبُ صُمّاَ ولا بُكماً ولا عُمياً ، وكفاك استعمال أسلوبِ الفراعنةِ " ما أريكم إلا ما أرى ما أهديكم إلا أسلوبَ الرشادِ " .
وننتقلُ لفكرةٍ أخرى من أفكارِ الأستاذِ ، ألا وهي محاربةُ الحوارِ مع المفجّرينَ أصدقاءَ الماضي ، بل ضمّت القوائمُ الأخيرةُ كثيراً من أخصِّ أصحابهِ ، واتهامه من يحاولُ محاورتهم ، أو إقناعهم بمراجعةِ الحقِّ وتسليمِ أنفسِهم = أنّهُ منهم . إنّهُ لمن المخجلِ ، بل مما يُضحك الثكلى ، أن يُتهمَ الشيخُ سفر الحوالي - شفاهُ اللهُ وعافاهُ - بأنّهُ على صلةٍ بأصحابِ فكركَ البائدِ يا أستاذُ .
الشيخُ سفر الذي ألّفَ رسالةً كنتَ تمقتها قديماً ، وهي بعنوانِ " التوحيد أهم فروض الأعيانِ " ، في الرد على الشهيدِ السعيدِ المجاهدِ عبد الله عزام - برّدَ اللهُ عليهِ مضجعهُ - : في كتابه " الجهاد أهم فروض الأعيان " .
الشيخ سفر الذي لم يؤيّدْ الذهابَ إلى أفغانستان ولا البوسنةِ ولا غيرها ، لا قديماً ولا حديثا ، أفيكونَ الآنَ زعيماً سياسياً للمفجرين ! ، مالكم كيف تحكمونَ وتفكّرونَ . ودعني - يا ابنَ بجادٍ - أهمسُ في أذنك فأرعني سمعكَ : هل قلتَ كلامكَ هذا بسببِ توبيخ الشيخِ لكَ وتعنيفهِ عليك فيما مضى ! ، وكأني أراه آخذاً بأذنكَ يفركُها لكَ مؤدباً ، فأبغضتهُ من تلك الفترةِ ، وحفظتها في نفسكَ ، وجاء وقتُ الانتقامِ .
يقولُ ابن بجادٍ ما نصّهُ :
" ويقول - أي الشيخ سفر - إنهم يعرفونَ بيتهُ ومنزلهُ وتاريخهُ ، وإنّهُ يُحسنُ الظنَّ بهم ، إنَّ أفكاركَ المنحرفة - يا دكتورُ - هي التي أدّتْ بهم إلى ذلك السبيلِ المشينِ ولذلك جئتَ اليوم تساومُ الحكومةَ والمجتمعَ ، وكأنّكَ جناحٌ سياسيٌّ ، يريدُ أن يستثمرَ ما يعتبرهُ نجاحاتٍ للجناحِ العسكريِّ " . نعم ! المفجرونَ يعرفونَ بيتهُ ، لأنّهُ ينصحُ لهم ويأخذُ على أيديهم ويُكرّرُ النصحَ لمن يحضر عندهُ ، كما نصحك من قبلُ . يعرفون بيتهُ كما تعرفُ بيتهُ جيّداً ، يوم جئته تحاوره ، فوبّخكَ ونهاكَ عمّا جئتَ من أجلهِ ، ومن يومها بلغَ الحقدُ في قلبكَ عليهِ ، فقد ظننتَ نفسكَ قريناً للشيخِ ومثلهُ في المكانةِ ، فلمّا أعرضَ عنكَ وحملَ على فكركَ ووضعكَ في حجمك الطبيعي ، وأعلمكَ أنّكَ لا شيء :
ويُقضى الأمرُ حينَ تغيبُ تيمٌ ***** ولا يُستأمرونَ وهم شهودُ(52/144)
أخذتكَ حينها العزّةُ بالإثمِ ، وبلغتَ في نفسكَ الذروةَ من الحملِ عليهِ . ثمَّ ما هي أفكاره المنحرفة كما تزعمُ ، أهي منحرفةٌ في نظرك السابقِ ، كما كنتَ تراها ، أم منحرفةٌ بنظركَ الحاليِّ ! .
أهي مُنحرفةٌ لأنهُ نهاكَ يومها عن الغلوِّ ، والإفساد في الأرض بالتفجيرِ ؟! . أم هي منحرفةٌ لأنّهُ لم يقبلكَ بعد أن صرتَ تلعنُ أخطاءَ الماضي ، وتُسقطها على الآخرينَ ، وتتوسّلُ إلى من يعرفك أن ينسى أيّام التفجيراتِ والفكرِ المنحرفِ ، وأن لا يُصرّحَ بشيءٍ من ماضيكَ .
ما الذي يضيرُك من محاولةِ الشيخِ سفر لإخمادِ هذه التفجيراتِ ، وإقناعِ مرتكبيها أن يُسلّموا أنفسهم ؟! ، وهي جهودٌ باركها أوّل من باركها المسئولون أنفسهم .
هل لأنّكَ لم تجدْ مساحةً أو مكانةً لدى النّاسِ ليقبلوا بكَ مؤثّراً أو صانعاً للأحداثِ في حياتِهم ، فصرتُ تحقدُ على من يجدُ حظوةً وقبولاً لدى النّاسِ ، بينما بؤتَ أنتَ بخزي الدّنيا ، فرماكَ الأقربونَ والأبعدونَ ، وصرتَ كالبعيرِ الأجربِ لا يُخالطهُ إلا أجربُ مثلهُ ؟! . أم أنك تريدُ للأحداثِ الداميةِ أن تبقى ، حتى يُزجَّ بالشبابِ في السجون - حيث كنت - ، وتمتلئَ البلادُ بالنيرانِ لترتويَ نفسك المريضةُ المهووسةُ بالدماءِ .
ألم تحذّرْ من وضعِ الجزائرِ ، فقلتَ في مقالتكَ " محرقة التكفيرِ " :
" الجميعُ بلا استثناءٍ مطلوبٌ منهم العملُ والجدُّ ، حتى لا نتحوّلَ غداً إلى جزائرَ جديدةٍ ، تأكلُ أبناءها ، وتدمّرُ مكتسباتها " .
الجميعُ لا بُدَّ أن يُشاركَ ، ولكنَّ الشيخَ سفر محرّمٌ عليهِ أن يحظى بهذا الشرفِ ! ، وأنتَ تزعمُ خوفكَ على البلادِ أن تُصبحَ جزائرَ أخرى ، بينما كنتَ في زمنِ انحرافكَ أحدَ الذين يدفعونَ الشبابَ السعوديَّ لأن يذهبوا للجزائرِ مُشاركين فيما كنتَ تراهُ جهاداً مُقدّساً ، وكتبتَ فيها أنواعَ القصائدِ .
إنّك تريدُ أن يشتركَ الجميعُ في حلِّ هذهِ المعضلةِ ، وتعرفُ تماماً أنَّ الوضعَ الجزائريَّ أنتهتْ كثيرٌ من فصلهِ بعد الحوار مع المقاتلين وتسليمِ أنفسهم ، وقامَ بذلك العقلاءُ ، إلا أنّكَ كفرتَ بالحوارِ والدعوةِ إلى تسليمِ النفسِ ، لمّا رأيتَ أنَّ من قامَ بها هو الشيخُ سفر ، الذي كانَ ينهاكَ قديماً عن الاستمرارِ في الغوايةِ والانحرافِ الفكريِّ ! . وإنّي أسألك : كيف انتهى موضوعُ فراركَ من رجالِ الأمنِ ، وتشتّتكَ بعد الهروبِ وتزويرِ الأوراقِ الرسميةِ ؟ .
ألم يتدخّلْ شيخُ قبليتك ابنُ جامع ، ويقومَ بتسليمك ، بعد أن شفعَ لكَ عندَ الأمير سلمان ، فقامَ الأمير مشكوراً بقبولِ شفاعتهِ ، وشعرت حينها بالأمنِ والطمأنينةِ ، وعوملتَ أحسنَ معاملةٍ ، وخرجتَ بعد مدّةٍ يسيرةٍ ، بينما حُكمَ على الذين تأثّروا بفكركَ وقاموا بأعمالٍ لا تُقرّها الشريعةُ بـ 15 سنةً ، بفضلِ انحرافكَ وزيغكَ .
ألم تسمعْ ما قالهُ اللواء المصريُّ فؤاد علام ، حيث قالَ في قناة العربية : " وجدنا بعدَ فترةٍ طويلةٍ ، أنَّ الحوارَ هو الحلُ الأمثلُ مع هؤلاءِ ، فأرسلنا الأحمدي فحاورهم مدّة 28 يوماً ، وبعدها انتهى كل شيء " .
فلماذا تريد أن تحرم هؤلاءِ فرصة الرجوع عما هم فيه ؟ ، ولعلّي أغيظُكَ حين أقولُ : أنَّ الدولةَ قامتْ بانتخابِ مجموعةٍ من أهلِ العلمِ الأفذاذِ لمناقشةِ ومحاورةِ الشبابِ في السجونِ ، وذلك لثقتِها في أنَّ تطويقَ الفكرِ المنحرفِ إنّما يكونُ بأهلِ العلمِ ، وليسَ بأمثالكَ من الزائغينَ المُتخبّطينَ ، ومع ما تفعلهُ وتكتبهُ ، إلا أنّكَ لن تجدَ مكاناً في الإصلاحِ أو جمعِ القلوبِ ، فالجميعُ يُدركُ أنَّ حقيقةَ فكركَ الجديدِ هو بثُّ التفرقةِ ، والطعنُ في المبادئِ والقيمِ ، باسمِ المراجعةِ الفكريّةِ .
وأختمُ المعركةَ الفكريةَ - كما يسمّيها ابنُ بجادٍ - بالمقالةِ التي نُشرتْ في جريدةِ الوطنِ بعنوانِ " الهجوم على نقَّاد الحوالي وصناعة التكفير " ، وروى فيها روايةً عن شابٍّ يُقرّرُ قتلَ المنافقين الذين ذكرهم له أستاذه ، بعد قراءة مقالٍ للشيخِ الدكتورِ ناصر العمر !! وممّا قاله :
" صادف محمّدٌ يوماً وهو خارجٌ من صلاةِ العصرِ جارهم الشابَّ المعروفَ بجهادهِ ، و شدّتهِ في الحقِ ، وإنكارهِ للمنكرِ ، وصراحتهِ التي يعدُّها بعضُ الجيرانِ وقاحةً ، فتحدّثَ محمدٌ معهُ عن قصّتهِ ، وأجوبتهِ التي جمعها من كلامِ الشيخِ العمرِ ، وملف المدرسِ ، المستندةِ جميعاً إلى كلامِ اللهِ الذي يحفظهُ ، وعلم الشيخ العمرِ الشرعي ، والواقعيِّ ، وتفاني مدرّسهِ في الخيرِ والصلاحِ ، .....انصرف محمّدٌ واجماً، عازماً على جهادِ نفسهِ ، حتى لا تُقعدهُ الأعذارُ السخيفة " . وهذهِ القصّةُ مُجرّدُ إسقاطٍ نفسيٍّ آخرَ ، لفترةٍ كان يُداعبُ فكرَ الأستاذِ اغتيال بعضِ المنافقين ، بل كانَ أحدُ أقربَ أصحابهِ إلى قلبهِ يُصرّحُ أنّهُ إذا قامتِ الخلافةُ فسوفُ يعمدُ إلى جميعِ المتبرجاتِ ويقتلهنَّ واحدةً تلوَ الأخرى بالكلاشينكوف !! ، وقد انتكسَ هذا الرجلُ الآن ، وصارَ خديناً للمتبرّجاتِ ، عدوّاتِ الأمسِ ! .(52/145)
وأنا أكادُ أجزمُ أنَّ هذهِ القصةَ تتضمّنُ فترةً من حياةِ الأستاذِ الماضيةِ ، يوم أنْ كان التكفيرُ والتفجيرُ هاجساً لهُ ، وربما كان هو ذلك الشاب ، وكان وقتها يرى أنَّ كثيراً من العلماءِ والدّعاةِ والكُتّابِ منافقينَ .
وبعدُ : فماذا تُريدُ يا ابنَ بجادٍ ، وإلى أين ترغبُ في الوصولِ ، وإنّما هذه التفجيراتُ والحركاتُ المتماديةُ غلوّاً في التكفيرِ ، كانتْ من صُنعكَ وصُنعِ نُظرائكَ ، وكانتْ من بقايا تفكيركم المتحجّرِ ، ولا تمثّلُ ظاهرةً أو حركةً متناميةً ، إنّما هم قلّةٌ لا يُمثلونَ إلا أنفسهم فحسب ، بل لن أكونَ مبالغاً إذا قلتُ أنّهم يمثّلونكم ويمثّلون ماضيكم ، وما عجزتم أنتم عن فعلهِ بعد أن بذرتم بذوره ، جاءَ هؤلاءِ ليأخذوا الرايةَ بدلاً عنكم .
واليومَ : تظهرُ أنتَ في ثوبِ الناصحِ الأمينِ ، وبزّةِ المحلّلِ البارعِ ، وتتنصّلُ من ماضيكَ ومشاركتكَ في صناعةِ هذه الفتنةِ ، لتُشخّصَ حالةً ، يكفي في تشخيصِها أن نقرأ سيرتكَ ، ويكفي في معرفةِ خطرها وضررها أن ننظرَ إلى حاضركَ ، فإنَّ من سلكَ هذه الطريقةَ إمّا أن يكونَ صريعاً في مواجهةٍ مسلّحةٍ داخليةٍ والعياذُ باللهِ ، أو أن يسلكَ طريقاً آخرَ لا يقلّلُ ضرراً وخطراً عن التفجيرِ والتكفيرِ ، ألا وهو فكرُكَ وطريقتُكَ الحاليةُ يا ابنَ بجادٍ .
واللهُ غالبٌ على أمرهِ ولكنَّ أكثرَ النّاسِ لا يعلمونَ .
================(52/146)
(52/147)
النقيدان من التحريف إلى التخريف
ماجد بن محمد الجهني
كغيري من المسلمين في هذه البسيطة المبتلين بقراءة التقيؤات الموجودة على صابرة كثير من الصحف اطلعت على ما سطره في جريدة الرياض يوم الخميس الموافق 14/7/1424هـ المدعو منصور النقيدان الذي ينتقل يوما بعد يوم من الانتكاس إلى الارتكاس ومن إدمان التحريف إلى هوس التزييف والتخريف ، هذا الدعي لبس ثوبا ليس له وأراد أن يصنع من نفسه المريضة مصلحا ومفكرا ومرشدا وارتقى مرتقى صعبا حين ظن هذا الألعوبة أنه بكلماته التي سطرها في جريدة الرياض يستطيع أن يرهب الآخرين الذين يدركون جيدا من هو النقيدان المتقلب على كل جنب والمنبطح في كل ردهة من ردهات الضعة والتناقض.
لقد بدأ مقالته التي حوت السم الزعاف والتي أبانت عن نفس مريضة ، وعقلية مكروبة فجة - أقول- بدأها بالتباكي على ماحدث لأمريكا في مقدمة طللية تظهر مدى مايتمتع به هذا الكويتب من قدره باهرة على التملق ومسح الجوخ واقتناص الفرص وكيف لايكون الأمر كذلك والكاتب هو النقيدان المفتون بنفسه والمجنون بما حازه من فنون ، ومع أنني لن أرضخ لابتزاز أمريكا ولا لابتزاز هذا الكاتب لأنني أقول : إنني لست مهتما بما يحدث لأمريكا لأنها بكبرها لا تساوي قطرة واحدة لدم مسلم أهدرته أمريكا إلا أنني أتعجب كيف يصنع الكذب نجوما وبمثل هذه السرعة الباهضة التي وصل إليها هذا الكذاب الأشر الذي هاجم المساجد والمكتبات وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم والإعلام الذي صنعه ولم يسلم عالم أو داعية أو مفكر من هجوم هذا النكرة وإلا فما تفسير قول صنيعة التغرير النقيدان " وأن بالإمكان التعامل مع العمليات الإرهابية والمسئولين عنها والمتورطين فيها بقسوة مفصولا عن التعامل مع ثقافة الغلو والتطرف الحاضنة لتلك التوجهات والتي يتم تلقينها في كل مركز صيفي وفي كل مسجد وجامع وفي كل حلقة تحفيظ وفي المخيمات الدعوية والبرامج الدينية في التلفزيون وإذاعة القرآن الكريم وحتى في فتاوى تنشر في الصحف والكتب والمنشورات التي تباع في المكاتب أو توزع مجانا" وهكذا النقيدان يطيش عقله ويفقد صوابه ويوزع التهم يمنة ويسرة مستخدما عبارة ( كل ) التي هي من ألفاظ العموم ، وهذه الكل ألقت بصاحبها النقيدان وبالجريدة التي مررت هذه المقالة في واد سحيق من الظلم وعدم المصداقية واللا موضوعية وهذه طعنة عميقة في خاصرة الكاتب الذي لم يبق له من المصداقية سوى التعريف باسمه ليتضح المعنى ولنتبين سلامة المبنى إن كان هناك مبنى للمصداقية يرضى بإيواء النقيدان.
لقد أماط النقيدان اللثام عن وجهه واتهم فيمن اتهم الدولة بنشر فكر التطرف والغلو ودليل ذلك اتهامه لأجهزة رسمية هي لسان الدولة الرسمي كالتلفاز وإذاعة القرآن الكريم والصحف ويالله ما أعظم جريرة الحقد والسفه تبدأ بصاحبها أولا فترديه في مهاوي الخزي والتناقض فبالله عليكم كيف يستقيم حال ما يقوله هذا الكاتب مع ما تقوله الدولة صباحا ومساءا من أن أساس الحكم في هذه البلاد الدين وأساس قيامها الإسلام وأن منهج الإمام محمد بن عبدالوهاب منهج دعوي تربوي علمي إصلاحي مع ما يقوله النقيدان وفي صحيفة رسمية يتهم من خلالها مؤسسات فكرية وعلمية ودعوية بل وحكومية رسمية بتعزيز ثقافة التطرف والخروج.
النقيدان بدا في هذا الحصاد المر الذي جناه قلمه رحيما بالأمريكان ، رحيما بالشيعة الذي بدأ يميل إلى كونهم أحرص على الأمن من أهل السنة ، وبدا رحيما بالعلمانيين والليبراليين ، ولكنه في الطرف الآخر نسف جموعا ضخمة وأدخلها عن سابق علم وإصرار وتطرف في بوتقة الغلو والخروج والتكفير وكل ذلك يحدث من النقيدان انتقاما لكرامة أسياده الأمريكان الذي علموه هو وشاكلته وآووه هو وشاكلته وأنفقوا عليه هو وشاكلته ورفعوه هو وشاكلته وأشعروه هو وشاكلته كيف يعيش آدميا على الطراز الحرباوي الأمريكي .(52/148)
إننا نعلم أن ربنا هو الذي أطعمنا من جوع وآمننا من خوف ، ونعلم جيدا أن ربنا لا يقدر شرا محضا عز وجل فمع ما حدث في مدينة الرياض من أمر مروع رفضناه ونرفضه من قبل أن نرى النقيدان وشاكلته ونرفضه ليس من باب الوطنية أو التزلف أو النفاق أو التلون أو النفعية كما يفعل البعض ولكن نرفضه تدينا ندين الله عزوجل به ، نعم لقد كان من نعم الله عزوجل في هذه الأحداث العظام التي تحدث في الكون أن كشف الله عزوجل أصحاب القلوب المريضة وكشف الله لنا أرباب الزيف والدجل الإعلامي ومن ضمن هؤلاء المدعو النقيدان الذي أراد الله عزوجل فضيحته على رؤوس الأشهاد بما خطت يداه وبما أبانه من حقد على المحاضن الدعوية وعلى منابر الخير في بلد الخير الذي يشهد له العالم كله بالوسطية والاعتدال ، جاء النقيدان ليفتئت في مقالته على ولاة أمر هذه البلاد من أمراء وعلماء ومصلحين والذين يرون أن الفكر التكفيري هو فكر القلة وأن غالبية أهل هذه البلاد هم ممن يتمتعون بالسير على منهج السلف الصالح رحمهم الله ولكن مثل هذا التوجه ومثل هذا الرأي من القيادة السياسية والعلمية لهذه البلاد المباركة لم يعجب النقيدان ومن استغفله وأزه فراح يوجه سهامه المسمومة إلى كل اتجاه ليقنع الآخرين بأنه وصل إلى مرحلة النضج التخريفي الذي وصل إليه المفكر المسيحي مارتن لوثر وبهذا يكون النقيدان أثبت لشلة الأنس التي تمتطي صهوة قلمه بأنه أصبح وبقدرة قادر المفكر العظيم الذي تحرر من كل قيد واستطاع أن يأتي بما لم تستطعه الأوائل.
إنني أهنيء الأمريكان وأهنيء الشيعة وأهنيء اللليبراليين العلمانيين وأهنيء جميع المرضى بشهادة النقيدان لهم فهذه شهادة جائتهم من رائد لا يكذب أهله ومن رجل لا يمثل إلا نفسه .
وأما هجوم النقيدان على جميع المراكز الصيفية وجميع المساجد وجميع الجوامع وهذا يقتضي الهجوم على جميع الأئمة والخطباء وكذلك هجومه على المخيمات الدعوية فهو مما يزيد هذه المؤسسات شرفا وهو مما يزيدها سموا وعلوا وقديما قيل :
إذا أتتك مسبتي من ناقص**** فهي الشهادة لي بأني كامل.
ختاما هذه المقالة أثبتت بما لايدع مجالا للشك بأن صحافتنا المحلية تحتوي على مجموعة من الكتبة الإرهابيين الذين يجب على الجميع أن يطالب الدولة بأن تكف بأسهم لأنهم هم وقود ومادة كل فساد وخراب في هذه الديار وهم من يمثل دور حمالة الحطب في هذه الفتنة.
================(52/149)
(52/150)
نظرة شرعية في فكر : عبدالله العلايلي
هوالشيخ عبدالله بن عثمان العلايلي، مفتي جبل لبنان سابقاً، ولد سنة 1914م بلبنان، وفيه تلقى تعليمه الأولي، ثم انتقل سنة 1924م إلى مصر والتحق بالأزهر، وتتلمذ فيه على أيدي علماء عدة منهم سيد المرصفي ويوسف الدجوي، وعاد إلى لبنان عام 1940م، له اهتمام كبير باللغة والأدب، من مؤلفاته: (الإمام الحسين) و(دستورالعرب القدامى) و(المعجم) و(المعري ذلك المجهول). انظر: د. فايز ترحيني -الشيخ عبدالله العلايلي والتجديد في الفكر المعاصر ص 21 وما بعدها، ط الأولى 1985م، منشورات عويدات - بيروت، باريس ". ( ص 52 ) .
قال الدكتور مفرح القوسي عنه في رسالته " الموقف المعاصر من المنهج السلفي " ( ص 234-238) :
" الشيخ عبد الله العلايلي: صاحب كتاب (أين الخطأ؟ - تصحيح مفاهيم نظرة تجديد) الذي ضمنه آراءه في تجديد الشريعة وفي تصحيح ما يظنه أخطاء، فنطالعه يقول في مدخل الكتاب -مبيناً رأيه في التجديد بعد أن يسوق حديث "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"(1)-: "والحديث الكريم هذا هو في نظري دستور كامل لحركية الشريعة وديناميتها في مجال صيرورة الزمن، فهي تجدد دائم يدوس أصنام الصيغ في مسار طويل… إذاً فلا قوالب ولا أنماط ولا مناهج ثابتة بل تبدلية عاملة دائبة، وكل توقف في التكيف داخل أطر يصيب الأفراد والجماعات بتحجر يؤول إلى حتمية تخلف، بل انحدار ذريع ، وقد أحس القدامى بدواعي التغير، فلا ينبغي أن يؤخذ الخلف والسلف جميعاً بالمقتضى الواحد (فقد خلقوا الزمان غير زمانكم)" (2). ويتابع قائلاً: "ثم نقع في الحديث الشريف على عبارة (يجدد دينها)؛ وهي أمعن في الدلالة على "التشكل والتكيف" بحسب الموجب أو المقتضي؛ لأنها تتجاوز الترميم إلى الإبداء والإنشاء ، إنشاء آخر، فلم تخص التجديد بشأن دون شأن أو بأمر دون أمر، بل أحياناً في أمورها مجتمعة، وهذا واضح بكلمة "دينها" الذي هو هنا بمعنى الأقضية والنظم"(3).
فالتجديد في نظر العلايلي تبدل وتغير وتشكل وتكيف في الشريعة إزاء الظروف المتغيرة أبداً، ويبدو ذلك أكثر صراحة ووضوحاً في عبارته التالية في وصف ما يسميه الشريعة العلمية: "فالشريعة العملية إذاً هي من الليان بحيث تغدو طوع البنان إزاء الظرف الموجب مهما بدا متعسراً أو متعذراً"(4)، وفي قوله: "وإذا ضممنا الحديث السابق إلى مثيل له وهو (إني بُعثت بالحنيفية السمحة) (5) يتضح ببيان جلي أن خاصية الشريعة الأولى هي الطواعية ومجافاة التزمت"(6).
ويضيف العلايلي حديثاً آخر مخضعاً إياه كسابقه لفهمه الخاص الجديد، حيث يقول: "وإذا كان الإسلام العملي مصدر إبداع فقد صوره الحديث النبوي بما هو أجمع وأكمل: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ) (7)، ولكن لا كما فهمه القدماء بظنهم أن كلمة "غريباً" من الغربة، بل هي من الغرابة أي الإدهاش بما لا يفتأ يطالعك به من جديد حتى لتقول إزاءه في كل عصر: (إن هذا لشيء عجاب)" (8). ويرى أن القرآن نفسه قابل لمعانٍ متعددة؛ ويستدل على ذلك بحديث (إن القرآن أنزل على سبعة أحرف) (9) الذي يدل -في نظره- على أن القرآن قابل لأشتات من وجوه المعاني ومطواع لتقبل الدلالات على أنواعها(10).
__________
(1) … رواه أبو داود (4291) .
(2) … أين الخطأ ص 16-17.
(3) … المرجع السابق ص 17.
(4) … المرجع السابق ص 18.
(5) … رواه الإمام أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها ج6/ص 116. وترجم البخاري في صحيحه بلفظ "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة" كتاب (الإيمان) الباب (29) ج1/ص 93، ورواه في (الأدب المفرد) بلفظك سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأديان أحب إلى الله عز وجل؟ قال: "الحنيفية السمحة" باب (حسن الخلق) الحديث رقم (287) .
(6) … أين الخطأ ص 18.
(7) … رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب (الإيمان)، باب (بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً) ج2/ص176.
(8) … أين الخطأ ص 23.
(9) … رواه البخاري في صحيحه في كتاب (الخصومات)، الباب (4)، الحديث رقم (2419) ج5/ص73. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب (صلاة المسافرين وقصرها)، باب (بيان أن القرآن على سبعة أحرف) ج6/ص 103-104.
(10) … انظر: أين الخطأ ص 72.(52/151)
والعلايلي في نظرته للشريعة -العملية كما يسميها- لا يحتج إلا بالقرآن والحديث المشهور، وما دون ذلك فهو عنده مما يستأنس به فقط ولا تقوم به حجة، فنراه يقول: "إني في الواقع لا أقول ولا أعتد إلا بالتنزيل الكريم وبالمشهور من الحديث الذي هو في قوة المتواتر، وبالمنطق الفقهي الشامل لـ(علوم الخلاف والأصول والاستدلال)، وما عدا ذلك لا أرتفع أو أرقى به عن مقام الاستئناس إلى مقام الحجية لأكون قويماً لحّاً أو صميماً مع الإسلام العملي الصحيح"(1). ويفرق في موضع آخر من كتابه بين العبادات والمعاملات في الاحتجاج بالسنة، فيرى أنه : "1-في (العبادات) ينبغي الأخذ بالقرآن وما صح من الحديث. 2-وفي (المعاملات) يؤخذ بالقرآن وحده ويستأنس بالحديث استئناساً فقط، ويبرر هذا التفريق المأثور والشائع (أنتم أدرى بشؤون دنياكم)…، ووجه التفرقة بين العبادات والمعاملات أن الأولى تبتلات وابتهالات شأنها تسامي الفرد روحياً… بينما الثانية شأنها التنظيم الاجتماعي العام… وهي خاضعة للمتغيرات العاملة الدائبة ففي كل حين هي في شأن"(2). ومن هذا المنطلق نجده في كتابه يجيز زواج المسلمة من الكتابي !! اعتماداً على قوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) (3)، فالآية كما أنها صريحة في النص على تبادل حلية الطعام؛ هي -في نظره- صريحة في تبادل حلية الزوجية؛ أي نساؤهم حل لنا ونساؤنا حل لهم، ويرى أن الفقهاء وإن درجوا إجماعاً على القول بعدم حل مثل هذا الزواج إلا أن إجماعهم -في نظره- متأخر ولا يقوم على دليل قطعي.
ولم يكتف العلايلي بجعل باب المعاملات في الفقه الإسلامي خاضعاً للمتغيرات الدائبة ووصفها بأنها كل يوم هي في شأن -كما تقدم- بل أشرك معها في هذا الشأن باب العقوبات، حيث ادعى بأن العقوبات المقررة في الشرع ليست مقصودة بأعيانها بل بغاياتها وهي الردع عن ارتكاب الجريمة؛ فكل ما أداها يكون بمثابتها. ومن هنا ادعى أنه لا رجم في الإسلام ولا قطع ولا جلد ولا حد إلا بعد معاودة الجريمة وتكرارها والإصرار عليها، فنراه يقول تحت عنوان (أبأعيانها أم بغاياتها هي الحدود الجزائية): "خلاصة ما انتهيت إليه في هذا الموضوع أن العقوبات المنصوصة ليست مقصودة بأعيانها حرفياً بل بغاياتها، وليس معنى هذا الرأي أن عقوبة القطع في السرقة ليست هي الأصل وأنها لا تطبق، بل أعني أن العقوبة المذكورة غايتها الردع الحاسم، فكل ما أدى مؤداها يكون بمثابتها، وتظل هي الحد الأقصى الأقسى بعد أن لا تفي الروادع الأخرى وتستنفد، ومثلها الجلد في موجبه. وجل ما في الرأي الذي أطرحه أنه أشبه بما يُتبع في القوانين الجزائية من النص على عقوبة ما فيتعداها ويتجاوزها القاضي إلى الأخف فيحكم بالغرامة لا بالسجن، وذلك تبعاً للدواعي والملابسات والتقدير. وانتهيت إلى هذا الرأي انسياقاً مع روح القرآن الكريم الذي جعل القصاص صيانة للحياة وإشاعة للأمن العام، وليس لجعل المجتمع مجموعة مشوهين؛ هذا مقطوع اليد والآخر مقطوع الرجل والآخر مفقوء العين أو مصلوم الأذن أو مجدوع الأنف. وحق لي من بعد أن أنتقل إلى المفاجأة الكبرى، وهي أنه لا رجم في الإسلام -كما هو مذهب الخوارج عامة- لأن ما شاع وذاع من قول بالرجم يعتمد على طائفة من أحاديث لم ترتفع عن درجة الحسن (منها الحديث المتعلق بماعز بن مالك الأسلمي، والحديث المتعلق بالغامدية الأزدية)، ولأن هذه الأحاديث مخالفة مخالفةً صريحة للقرآن فلا يُعتد بها. ولو كان عقاب المحصنة من الحرائر الرجم حتى الموت كان أحرى أن يُنص عليه تعييناً لهوله، وادعاء النسخ بالحديث قلبٌ لمقاييس الأحوال. ولا يتسنى لزاعم متزمت اتهامي بأني أنكر ما هو نص قرآني، لأني جعلته أقسى العقوبات الزواجر وأقصى الروادع التي يُلجأ إليها. والذي يهمني من وراء هذا كله هو اعتماد "التعزير" الخاضع لتقدير القاضي وحصر النظر به وحده، وأنه لا قطع ولا جلد ولا حد إلا بعد استتابة ونكول وإصرار معاود للمعصية"(4).
__________
(1) … المرجع السابق ص 19.
(2) … المرجع السابق ص 108.
(3) … سورة المائدة الآية 5.
(4) … المرجع السابق ص 73 - 83 بتصرف يسير.(52/152)
ومن غرائب ما يدعو إليه العلايلي في كتابه هذا لتجديد الشريعة وتطويرها: الدعوة إلى صهر المذاهب الفقهية المختلفة في بوتقة واحدة، وجعلها مستمداً لا ينضب معينه بغض النظر عن موافقتها للصواب من عدمه، ويكون ذلك كما يقول بـ"التسليم بكل ما قالت به المدارس الفقهية على اختلافها وتناكرها حتى الضعيف فيها، وبقطع النظر عن أدلتها، واختزانها في مدونة منسقة حسب الأبواب كمجموعة "جوستنيان"، وأعني كل ما أعطت المدارس: الإباضية والزيدية والجعفرية والسنية من حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية وأوزاعية وظاهرية…، وذلك يجعل هذه الثروة الفقهية منجماً لكل ما يجد ويحدث"(1). ويستطرد قائلاً: "ويتأسس على هذا المقترح أنه في حال ما إذا واجهتنا مشكلة من المشاكل اليوم، أو نازلة من النوازل نأخذ الحل من هذا المنجم الفقهي بقطع النظر عن قائله أو دليله، وبتغير الظروف يتغير الحكم المعتمد… فالمُرجّحُ إذاً هو الظرف فقط مادمنا قد سلمنا بأقوالهم جميعاً وقبلناها جميعاً، فما هجرناه اليوم من قول في مسألة ما ثم اقتضاه الظرف بعد حين نعمد إلى ترجيحه والأخذ به"(2). انتهى كلام الدكتور مفرح - وفقه الله - .
- وقال الأستاذ أحمد أبوعامر في الرد على العلايلي :
" كان العلماء المسلمون على مر التاريخ -انطلاقاً من كونهم حملة هذا الدين والمبلغين عن خاتم الأنبياء والمرسلين والورثة لما خلفه لنا الرسو صلى الله عليه وسلم من تعاليم- كانوا أحرص الناس على اتباعه واقتفاء سنته ، وكانوا أبعد ما يكونون عن مخالفة هديه وعن تنكب سيرته. لذا كانوا يمقتون المبتدعة والابتداع في الدين للتحذير النبوي الوارد عن صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي رواية (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) لذا تقرر عند علماء الإسلام قديماً وحديثاً أن الأقوال الواردة عنهم لا تؤخذ قضية مسلمة بل لابد من عرضها على الوحيين فما وافقهما أخذ وما خالفهما رد. وأثر عنهم أنه إذا خالفت أقوالهم الدليل فيضرب بها عرض الحائط.. وما يؤسف له أن وجد في القرون الأخيرة فئات من العلماء المحسوبين على الإسلام اختطوا لأنفسهم توجهات جديدة بعيدة كل البعد عن مشكاة النبوة لتحكيمهم العقل على النصوص ولتأويلاتهم واستنباطاتهم التي لا يسندها دليل من النقل والعقل ويسمون ذلك اجتهاداً منهم ، ولصاحبنا في هذه الحلقة آراء من هذا القبيل والتي تهدف إلى تطويع الإسلام للحياة ولي عنق الأدلة لتوافق ما يراه بل مما يؤسف له أن نجده يدعو إلى العلمانية بحذافيرها؛ ففي كتابه (دستور العرب القومي) يطالب بإعادة من سماهم برجال الدين إلى معابدهم فلهم فيها خير وصلاح وفيه للمجتمع خلاص من آثامهم وجهلهم!! وهذا التوجه منه بزعم جهل العلماء إنما هو افتراء لا مبرر له سوى ردود الأفعال منه حينما رفضت أفكاره التي رأى فيها إصلاحات للمحاكم الشرعية والأوقاف ورفضها المختصون آنذاك، فكيف يسوي بين علماء الإسلام ورجال الدين النصارى؟ بل إن هؤلاء يعملون في السياسة بخلاف ما يعتقدون وما تزال حتى الآن الأحزاب المسيحية الديمقراطية تحكم بعض الدول الأوروبية ولم يقل أحد مثلما قال الشيخ العلايلي.
إن ردة الفعل يجب أن تضبط وألا تؤدي بالفكر إلى مخالفة الصواب والوقوع في أخطاء خطيرة تناقض المعلوم من الدين بالضرورة وسنرى المزيد من تلك الآراء العجيبة له .
والحق يقال: إن الشيخ العلايلي نموذج فريد من حيث الإحاطة بالعلوم والفنون المتنوعة فهو خريج الأزهر ومحسوب على العلماء المعروفين في لبنان وكاد يكون مفتياً هناك كما سترى فيما بعد ، وهو لغوي متمكن وله جهود علمية لغوية جبارة يعجز عنها الكثيرون سأتطرق لبيانها فيما بعد ، وهو كذلك عمل بالسياسة كتابة وتحليلاً في بلاده والعالم العربي وهو منظر فكري وأيديولوجي وسيعجب القارئ حينما يعلم بأنه شارك في تأسيس الكثير من الأحزاب العلمانية المعروفة في لبنان ، ويعتبره بعضهم مصلحاً اجتماعياً لما طرحه من آراء وأفكار رأى فيها حلاً لمشكلات لبنان.
نبذة عن حياته:
هو الشيخ عبدالله بن عثمان العلايلي من إحدى الأسر العريقة في لبنان ولد عام 1914م وشجرة أسرته تعود جذورها إلى أصل (كريتي-يوناني) وفدت أسرته إلى مصر لأغراض تجارية في أواخر الحكم (العبيدي) وفي أواسط القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي ، وفدت أسرته إلى لبنان للتجارة وما يزال بعض (العلايليين في بيروت يرون أنهم يعودون إلى أصل تركي ، وفد من قرية (علايا) التركية لكن الشيخ عبدالله يرى أنهم يعودون إلى أسرة شريفة ترجع إلى (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه ولعل اسمها مصحف من (علي لي) على طريقة النسبة في اللغة التركية الشائعة آنذاك بمصر).
ومسألة الأصل في نظري لا تقدم ولا تؤخر ما لم تقدم على أساس من التقوى والاتباع للنبي r.
__________
(1) … المرجع السابق ص 99.
(2) … المجرع السابق.(52/153)
عاش الشيخ في صغره في حي شعبي في بيروت يموج بالفئات البائسة إبان الحرب العالمية الأولى وتركز في لا شعوره صور مؤثرة عن تلك الأحوال مما أنشأ لديه عاطفة الشفقة والرحمة للضعفاء، دخل الكتاب عام 1919 وتنقل بين ثلاثة منها ويرجع ذلك إلى ظاهرة الضرب المبرح التي يمارسها المعلمون لإجبار الأطفال على الحفظ ، ثم نقله والده إلى مدرسة (الحرش) التي أسستها (جمعية المقاصد الخيرية) وكانت تأخذ بالأساليب الحديثة في التربية وفيها تعلم مبادئ العربية والفرنسية والحساب والتاريخ، ثم غادر إلى القاهرة عام 1924 بصحبة أخيه (الشيخ مختار) الذي كان يدرس في الأزهر آنذاك وبقي معه حتى عام 1937 حيث درس هناك وتأثر ببعض أساتذة الأزهر مثل (سيد المرصفي) و(أبو الفضل الجيزاوي) و(محمد شاكر) واطلع على أفكار محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومصطفى كامل وناصر الحركة الوطنية ذات التوجه الإسلامي وكان يتابع الندوات الفكرية والسياسية وكان معجباً بإصلاحات علماء الأزهر، وكان يدرس أحوال المجتمع المصري متفاعلاً مع فئاته الشعبية وما تعانيه من أزمات اقتصادية، واطلع كذلك على المدارس المتنوعة هناك واختط لنفسه منهجاً مزج فيه بين القديم والحديث ، وكان معجباً بأسلوب (مصطفى الرافعي) وفي هذه الفترة كتب بعض الآثار التي فقدت ومنها (أدباء وحشاشون) ونظم قصيدته المطولة (رحلة الخلد) في 1500 بيت ولم يبق منها سوى جزء بسيط ترجم للفرنسية وله أيضاً مجموعة شعرية مطبوعة بعنوان (قصائد دامية الحرف بيضاء الأمل) أو من أجل لبنان وكتب في الإسلاميات (مدخل إلى التفسير) في مجلدين كبيرين.
وبعد تخرجه من الأزهر دخل كلية الحقوق في (جامعة الملك فؤاد: القاهرة حالياً) وتوقف عن الدراسة عام 1940 حينما نصح الأساتذة الطلبة الغرباء بالعودة إلى بلدانهم لورود أنباء عن زحف (رومل) على القاهرة فعاد إلى بيروت.
العمل السياسي:
بعد عودته بدأ بكتابة سلسلة مقالات ساخنة بدعوة من صديقة (ميشال أبو شهلا) رئيس تحرير مجلة ( الجمهور الجديد) تحت عنوان (إني أتهم) عن واقع المجتمع اللبناني شؤونه وشجونه، ثم انصرف إلى تأليف كتابه (دستور العرب القومي) وهو دراسة شاملة للقومية العربية التي يرى أنها رابطة مهمة يجب أن يلتف حولها العرب لتربطهم مع بعض برباط غريزي. (ويرى أن عناصر هذه القومية تتمثل في اللغة والمصلحة المشتركة والمحيط الجغرافي والتاريخ المشترك...) ثم تحدث عن مرتكزاتها ومواقفها من الأقليات وضرورة اندماجهم فيها لضمان مستقبلهم ، وكثيراً ما يتناول بالحديث مواضيع اجتماعية وسياسية وتاريخية وفكرية وهذا الكتاب مصدر لمن جاء بعده من كتاب كتبوا عن القومية كساطع الحصري ، والحقيقة أن القومية أحد العناصر التي نجح الأعداء في تكريسها لتمزيق كلمة المسلمين وتشتيت قواهم ونشوء عنصريات قومية رد فعل لها كما لا يخفى وقد أبدلنا الله بها الإسلام بقوله تعالى: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : "ليس منا من دعا إلى عصبية"، وفي الوقت الذي تجاوزت الأمم الأوروبية هذه النزعة الجاهلية تعمل جاهدة على الوحدة الأوروبية الشاملة وقد تطرق كثير من العلماء والمفكرين لدراسة القومية ونقدها بدراسات علمية جادة من أهمها (دراسات في القومية العربية) للشيخ محمد الغزالي ود. صالح العبود في كتابه (فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام) حيث ناقش دعاتها وأسقط حججهم واحدة بعد الأخرى. وهو في الأصل رسالة علمية.(52/154)
أما الأحزاب والتنظير لها: فقط شارك الشيخ العلايلي في التأسيس والتنظير لكثير من الأحزاب الوطنية والقومية اللبنانية مثل (حزب النداء القومي) و(عصبة العمل القومي) و(كتلة التحرر الوطني) واتفق مع كمال جنبلاط على تأسيس (الحزب التقدمي الاشتراكي) وأنه أشار إلى (ميشيل عفلق) باسم حزب البعث حيث أخبره بأنه استفاد من كتابه (دستور العرب القومي) ويرى الشيخ في (انطوان سعادة) -مؤسس الحزب القومي السوري الذي أعدم فيما بعد لنشاط حزبه المشبوه- إنساناً موهوباً وأنه معجب بأفكاره، ويعلل الشيخ مشاركاته تلك في تأسيس تلك الأحزاب بأنه يرى أنها تهدف إلى غرض نبيل وإيجابي في الخدمة الوطنية وتحاول صياغة علاقات متقدمة بديلة للعلاقات المختلفة القائمة على الطائفية والعشائرية والفئوية، لقد كان الشيخ صديقاً للحزبيين في لبنان على اختلاف منطلقاتهم إذ كان يلقي الخطب والمحاضرات في مراكزهم. وكان معجباً بحركة أنصار السلام ومنافحاً عنها وهو بالطبع ليس شيوعياً كما هو حال تلك المنظمة لكنه قد يكون معجباً بأفكارها اليسارية التي تزعم العمل على نهضة الشعوب وتقدمها ، ونعلم كيف تحطمت تلك الأفكار الشيوعية مؤخراً وصارت أثراً بعد عين بعد فشلها الذريع طوال حكمها بالحديد والنار في شرق أوروبا وغيرها. ولن أناقش الشيخ في مدى صلاحية تلك التوجهات الحزبية من عدمها لأنه بنفسه بعد رحلته الحزبية الشائكة وما لمسه من دورها الكبير في زعزعة استقرار بلاده وما أدت إليه من مآسٍ ونكبات تجده يقول عنها (إن الاضطرابات التي حصلت والتي لا تقوم على منطق الفكر وضعت علامة استفهام كبرى حول الكائن اللبناني وأجدني متألماً على الحاضر قلقاً على الغد اللبناني. لا وجود لأحزاب حقيقية توجد تجمعات غوغائية وليست أحزاباً مبدئية، ولو كانوا عقائديين لما اختلفوا ولما احتكموا إلى السلاح ) .
معركته مع الإفتاء:
وفي عام 1952 وبعد وفاة المفتي (محمد توفيق خالد) شغر منصبه فهب الكثيرون بطلب ترشيحه للمنصب على أثر مطالبة الصحافة والأحزاب وكانت لديه رغبة في ذلك إذ كان يمني نفسه بالإصلاحات التي تأثر بها من علماء الأزهر كالمراغي ويعزو فشله لوقوف السلطة في طريقه ثم يعود لمصر بعد ثورة 23 يوليو 1952 ويقف العلايلي منها مترقباً وسرعان ما عارضها وهاجمها بحجة أن حكم العسكر لم يكن في الواقع سوى إجهاض لمشاعر الشعب لا سيما بعد وقوف السلطة في وجه العمال المطالبين بزيادة أجورهم ثم إعدامهم لهم ومنهم (مصطفى خميس) فرثاه بقصيدة (قارع الأجراس).
جهوده اللغوية:
عاد الشيخ لأعماله اللغوية التي بدأها عام 1938 بكتابة (مقدمة لدرس لغة العرب) والذي تطرق فيه إلى تعريف اللغة ونشأتها وتطورها عند القدماء والمحدثين وتطرق لمسائل علمية مهمة كرأيه في التعريب والشروط التي يراها له وأدلى برأيه في المصطلحات العلمية والتي رأى أنه لا يصح أن تملأ لغتنا بكلمات أجنبية معربة دون داع وأن ما يكفل غنى العربية ويجعلها قادرة على مسايرة التطور هو الوضع فقط ولم يقتصر على ما أقرته المجامع والجامعات بل عمد إلى وضع مستحدثات كثيرة ذكرها في معاجمه وفي حواشي كتابه (أين الخطأ؟) وقد لاقى الكتاب قبولاً ورفضاً بين العلماء والمفكرين بين مادح أو قادح.
وفي عام 1954 قام بعمل جليل هو (المعجم الكبير) الذي صدر منه 4 مجلدات من الجزء الأول وكان مقرراً أن يصدره في 24 مجلداً ليكون تطبيقاً حياً لما أبداه من آراء في مقدمته الآنفة الذكر ولمحاولة طبع هذا المعجم أسست (دار المعجم العربي) بمساعدة نفر من الأدباء واللغويين المهتمين واشترت الدولة (1000) نسخة وكاد أن يطبع بكامله من قبل (الاتحاد السوفيتي) لولا تخوفه من أن يصبغ بصبغة معينة.
أما الدول العربية والمؤسسات المختصة فلم تقدم له إلا الدعم الكلامي فقط. وبعد عشر سنوات من بدء نشر معجمه الذي لم يكتمل فكر في نشر معجم وسيط يوظف مردوده المادي لتحقيق حلمه في طبع معجمه ومنحته جمعية أصدقاء الكتاب اللبناني جائزة رئيس الجمهورية السنوية تقديراً لجهوده اللغوية التي توجت بكتابه هذا وقد نهج في معجمه الوسيط نسق المعجم إلا أنه يقوم على ذكر المصطلح في موضعه من النطق متأثراً بطريقة الغربيين الحديثة في ترتيب معاجمهم لكنه لم يتخل عن المنهج العربي لدى القدماء، فعمد إلى إثبات تصريف الأفعال المجردة والمزيدة أما المشتقات فذكرها وفقاً للفظها لكنه أحال إلى موضعها حيث تقع من النطق، وهذا الكتاب لم يكتمل نشره بعد حيث توقف الطبع بعد نشوب الحرب الأهلية.
وله أيضاً (المعجم العسكري) الذي قام به بإيعاز من الرئيس السابق (فؤاد شهاب عام 1958) مع لجنة خاصة وتناول هذا المعجم المصطلحات العسكرية مع ما يقابلها بالإنجليزية والفرنسية وقد طبع الكتاب. ولكن يا ترى هل استفادت الجيوش العربية من هذا المعجم المهم أم لا..؟! وفي نظري لو أن الشيخ قصر جهوده على الأعمال المعجمية العربية لما تشتتت جهوده بلا طائل.
التجديد والإصلاح:(52/155)
سبق أن تقدم بآراء إصلاحية للمحاكم الشرعية والأوقاف لكنها لم يؤبه لها من الجهات المختصة وفلسفته في الإصلاح تنطلق من رأيه بأن واجب الكاتب هو هضم معطيات عصره والتفاعلات القائمة فيه وتمثيل الهضم التمثيل الكامل وأن قيمة الفرد لا تقاس بمقدار ما يملك بل بمقدار ما ينفع به الإنسان والمجتمع، ويرى العلايلي أن الإسلام حل من الحلول الكبرى وأنه (فكروية: أيدلوجية) متكاملة له مميزاته المستقلة التي هي سر قيمته ومحل شخصيته وأنها العلاج لعالم اليوم الذي يعيش السقم والعياء ، ويرى أن حديث (التجديد) دستور كامل لحركية الشريعة وديناميتها وأنها تجدد دائم وقد وضع منطلقاته في التجديد مطبقة في كتابه: (أين الخطأ-تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد) والذي صدر من دار العلم للملايين عام 1987 إذ يرى فيه أن الشريعة متجددة دوماً وإذا توقفت عن التجدد توقفت عن الحياة ولذا ضمنه آراء جديدة لا يقر عليها ؛ فعند حديثه عن الجانب الاقتصادي الإسلامي طرح رأيه حول البنوك الربوية مدعياً أن الفوائد جائزة مخالفاً بذلك الإجماع قديماً وحديثاً ، وعند حديثه عن الحدود الشرعية زعم أن الرجم للزاني والقطع للسارق غير لازم التنفيذ ويفلسف ذلك بأن الحدود إنما هي بغاياتها وليست بأعيانها وأن أي رادع يقوم مقامها يغني عنها!! وهذا ادعاء لا دليل عليه ويتناقض والأدلة الشرعية المحكمة التي أقرها إجماع علماء المسلمين قديماً وحديثاً.
وطامة الطوام في آرائه الجديدة هو تجويزه زواج غير المسلم من المسلمة !! مقرراً بذلك ما يعرف بالزواج المدني الذي تطالب به الأحزاب العلمانية وغير المسلمة في لبنان وهو يخالف أحكام الإسلام وإجماع المسلمين ، وهكذا يرى أخي القارئ بأن ما ادعاه من تجديد وإصلاح لا يمت للتجديد الذي دعا إليه الرسو صلى الله عليه وسلم في حديث التجديد إنما هو شيء آخر لا يمت للحقيقة بصلة وهو ترجمة لآراء المدرسة (العصرانية) التي تسعى لتقديم خليط من الإسلام ممزوج بأفكار أجنبية وتحاول إيجاد مواءمة بين النقيضين معتمدة على أساليب التأويل والتحوير وأسلوب التنازلات والتسويغ باسم الاجتهاد ، وبالطبع لن نناقش هذه المسائل الفقهية لأنها من المعلوم من الدين بالضرورة ولا يكفي المجال لإيضاح وبيان أخطائها لكن أحيل من يريد المزيد من البيان لحقائق هذه المسائل إلى المراجع التالية:
-ففي مسألة الفوائد الربوية أحيله إلى بحث في المعاملات المصرفية البديل د/ رمضان حافظ. وكتاب (فوائد البنوك هي الربا) د/ يوسف القرضاوي الذي ناقش أحد العلماء المعاصرين بما لا مزيد عليه.
-أما مسألة الحدود فأحيل القارئ إلى كتاب (التشريع الجنائي) لعبد القادر عودة.
- أما مسألة الزواج المدني فأحيله إلى كتاب (الزواج الإسلامي أمام التحديات) د/محمد علي الضناوي المحامي. حيث تعرض بالتفصيل لهذه المسألة والأسباب الخاصة والمشبوهة التي تدفع بعضهم وعلى الأخص في لبنان للمطالبة به والآثار الخطيرة المترتبة عليه " . انتهى كلام الدكتور أحمد أبوعامر ، ( المجلة العربية ، صفر 1412هـ ) .
يضاف على ماسبق :
قال الأستاذ عبدالله الطويل - حفظه الله - في رسالته " منهج التيسير المعاصر " ردًا على تجويز العلايلي زواجَ المسلمة من كافر :
" ومن المنتصرين لهذه المسألة الشيخ عبدالله العلايلي فقد فصل فيها وعلل وأطنب، فبعدما ذكر ما نُقل من إجماع العلماء على حرمة ذلك ادعى أن إجماعهم في هذه المسألة بالذات هو نوع من الإجماع المتأخر الذي لا تنهض به حجة إلا إذا استند إلى دليل قطعي ! ثم بين أن احتجاج الفقهاء بقوله تعالى: ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) لا يقوم حجة على حرمة زواج الكتابي من مسلمة، ويعلل العلايلي ذلك بأمرين: -
الأول: أن الكتابي ليس بمشرك ولا بكافر، وهو يعد الشرك والكفر مترادفين ولا يشملان أهل الكتاب.
الثاني: أن هذه القضية وإن تك فقهية، فإنها تؤول بدورها إلى مشكلة وطنية، أو هي عقبة دون التآخي الوطني الأكمل.
ولنقض ما تقدم ونقده أقول: إنه متى ما ثبتت الردة، أو إسلام المرأة وبقاء زوجها على كفره فإن التفريق أثر من آثار ذلك، لأنه لا يحل لامرأة مسلمة أن تبقى تحت رجل كافر، والدليل على وجوب التفريق بينهما قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم) .
فهذا نص قاطع في وجوب التفريق بين الزوجين بسبب كفر أحدهما، وقد قال ابن كثير-رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين"(1).
__________
(1) …تفسير القرآن العظيم (4/547).
ويقرر الشافعي -رحمه الله- وجوب التفرقة بين الزوجين إذا أسلم أحدهما والآخر مقيم على الكفر(1).(52/156)
وفي المدونة قال(2): " إذا ارتد رجل انقطعت العصمة بينه وبين امرأته ساعة ارتد" أي أنه يرى الردة مفرقة بين الزوجين دون الحاجة إلى حكم قضائي بالتفريق.
ثم قال -رحمه الله- : "إذا ارتد الزوج كانت تطليقة بائنة لا يكون للزوج عليه رجعة إن أسلم في عدتها"(3).
أما تعليلات العلايلي وتأسيساته فهي مجانبة للصواب، وذلك للأسباب التالية:-
أولاً: يقول العلايلي: إن القول بعدم حلية الزواج بين كتابي ومسلمة هو نوع من الإجماع المتأخر الذي لا ينهض حجة.
هذا الكلام غير مسلم به؛ لأن الإجماع على حرمة تزويج المسلمة من كتابي هو من إجماع السلف وخير القرون، يقول شيخ الإسلام: "وقد اتفق المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم ولا يتزوج الكافر المسلمة"(4) ومعلوم أن اتفاق المجتهدين من أمة صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي حجة قاطعة وهو محل اتفاق جمهور الفقهاء وعلماء الأصول، وأن ما يُبنى عليه من حكم يجب اتباعه ولا تجوز مخالفته، فإذا انعقد الإجماع على واقعة -كحرمة زواج الكتابي من مسلمة- فهو حجة قطعية يجب العمل به، وتحرم مخالفته، وتصبح المسألة المجتهد فيها قطعية الحكم، لا تصلح بعدها أن تكون محل النزاع، وليس للمجتهدين في عصر تال أن يجعلوا هذه الواقعة موضع اجتهاد، لأن الحكم الثابت بالإجماع حكم شرعي قطعي لا مجال لمخالفته، ولا لنسخه.
وعليه: فإن تأثير الإجماع هو رفع الحكم من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع ؛ أي أن يثبت المراد به على سبيل اليقين بأن يكون موجباً للحكم قطعاً كالكتاب والسنة وهو قول عامة المسلمين وجمهور العلماء(5).
ثانياً: خالف العلايلي إجماع العلماء في تأويل قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) ، فادعى أنها لا تقوم حجة على حرمة زواج الكتابي من مسلمة، ويعلل ذلك أن الشرك والكفر لا يشملان أهل الكتاب.
هذا التعليل من الشيخ باطل وغير مسلم به ؛ لأن العلماء بينوا أن النصوص لا تفرق بينهم لأن ملة الكفر واحدة، يقول قتادة والزهري في قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) : أي لا يحل لك أن تنكح يهودياً أو نصرانياً ولا مشركاً من غير أهل دينك(6)، وهذا يدل على أنه لا خلاف أن المراد بالشرك هنا الكل، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر البتة على اختلاف أنواع الكفر(7).
كما أن العلماء لم يفرقوا بين كافر ومشرك وكتابي، واعتبروا أن الجميع ينطبق عليه لفظ الشرك فيحرم تزويجهم بالمسلمة.
وهذا ما أكده الفخر الرازي حيث قال: "اختلفوا في أن لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب، فأنكر بعضهم ذلك، والأكثرون من العلماء على أن لفظ المشرك يندرج فيه الكفار من أهل الكتاب، وهو المختار"(8) ثم استدل لذلك بأدلة كثيرة منها: قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) وقوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) ثم قال في آخر الآية (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصرى المسيح ابن الله): وهذه الآية صريحة في أن اليهودي والنصراني مشرك(9). لذلك حرم الله تعالى على المؤمنات أن يتزوجن مشركاً من أي أصناف الشرك، سواء كان يهودياً أو نصرانياً، عابد وثن أو مجوسياً، أو من غيرهم من أصناف الشرك، وعلى هذا انعقد إجماع علماء الأمة وقد فصله الشيخ أبو زهرة فقال: "اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للمسلمة أن تتزوج غير مسلم، سواء أكان مشركاً أم كتابياً، وقد ثبت ذلك التحريم بنص القرآن والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هنَّ حلٌ لهم ولا هم يحلون لهن).
أما السنة فقد وردت الآثار الصحاح عن السلف الصالح أنهم كانوا يفرقون بين النصراني وزوجه إذا أسلمت، روي أن رجلاً من بني ثعلبة أسلمت زوجه وأبى هو أن يُسلم ففرق عمر رضي الله عنه بينهما، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها فهي أملك لنفسها" وبهذا استفاضت الأخبار عن أصحاب الرسو صلى الله عليه وسلم ما بنوا عليه حكمهم.
__________
(1) …الأم (5/71).
(2) …(2/315) بتصرف يسير.
(3) …المصدر السابق، وللتوسع في هذه المسألة، انظر: كتاب أثر إسلام أحد الزوجين في النكاح. للدكتور محمد أبو فارس.
(4) …مجموع الفتاوى (32/ 36).
(5) …انظر: أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (1/538).
(6) …جامع البيان في تأويل آي القرآن (2/379).
(7) …انظر مفاتيح الغيب للرازي (6/52).
(8) …مفاتيح الغيب (6/ 48).
(9) …انظر مفاتيح الغيب (6/49).
وقد انعقد إجماعهم على ذلك فكان ذلك ثابتاً بالإجماع، مع أن نص القرآن حجة قاطعة لا مجال للشك فيها"(1) لذلك كان زواج المسلمة بغير المسلم باطلاً حراماً بإجماع المسلمين.
ثالثاً: يعلل العلايلي فتواه أنها إذا رُفضت ومُنع زواج الكتابي من مسلمة سيؤول إلى مشكلة وطنية، أو عقبة دون التآخي الوطني !(52/157)
وهذا التعليل: هو تعد على الأصول العقائدية، وتلاعب بالمفاهيم الشرعية، وتعطيل للشريعة الإسلامية باسم التآخي الوطني، وكيف تقوم العائلة بزواج المسلمة من غير مسلم، وكيف تكون القوامة والولاية له وتستقيم قواعد الإرث... وغيرها ؟
كما أن إباحة زواج الكتابي من المسلمة لا يلزم منه بالضرورة الانصهار الوطني الذي جعله الشيخ من أساسات وغايات اجتهاده المصادم للنصوص القاطعة والإجماع.
وكان الواجب على الشيخ -الحريص على الوحدة الوطنية- أن يدعو أهل الكتاب إلى نبذ التعصب، والتخلي عن الممارسات الطائفية، لأن الدين لا يدفع للنزاع والصراع، بل هو صمام الأمان للتوافق والانصهار الوطني.
وكان الواجب على الشيخ أن يعلمهم أن الإسلام بما يدعو إليه من سماحة وعدالة قد كفل حرية الإنسان في عقيدته، وأن دار الإسلام ما ضاقت بغير المسلمين، بل وسعتهم بعدلها ونظمها وأحكامها، وتركتهم وما يدينون، وهذا كله أقوى ضمانة لأمنهم على أنفسهم وحقوقهم ومقدساتهم، يتمتعون بكافة حقوق المواطنة والانصهار الوطني، وهذا كفيل بأن ينمي أواصر التآخي والتماسك الوطني الأكمل(2).
نخلص مما سبق إلى أن زواج المسلمة بالكتابي، أو بقاءها تحت الكافر إذا أسلمت: حرام وباطل، لأن حكمه ثابت بالدليل الشرعي القاطع المحكم، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها " . ( منهج التيسير المعاصر ، ص ) .
وقال الدكتور سيد العفاني عن العلايلي :
" يقدم الشيخ (!)عبد الله العلايلي مفتي جبل لبنان سابقاً في كتابه "أين الخطأ" مجموعة من الأخطاء يريد تصحيحها, مثل : إباحة التعامل المصرفي الربوي , وأنه لا رجم في الإسلام, ولا قطع ولا جلد إلا بعد معاودة الجريمة وتكرارها, وأن الزواج المختلط بين المسلمين والكتابيين رجالهم ونسائهم حلال شرعاً !!
…- ويرى الشيخ (!) عبد الله العلايلي أن إقامة الحدود لا تتم إلا في حال الإصرار, أي المعاودة تكراراً ومراراً, إذ أن آخر الدواء الكي.. وبلغ من استهزائه بالحدود الشرعية أن قال: "إن إنزال الحد لا يتفق مع روح القرآن الذي جعل القصاص صيانة للحياة, وإشاعة للأمن العام, وليس لجعل المجتمع مجموعة مشوهين: هذا مقطوع اليد, والآخر مقطوع الرجل والآخر مفقوء العين, أو مصلوم الأذن, أو مجدوع الأنف".
…أما الرجم: فيقول فيه بمذهب الخوارج: "لا رجم في الإسلام كما هو مذهب الخوارج عامة, ومنهم من يعتد بخلافه فقهياً.. على أن ما شاع من قول بالرجم يعتمد على طائفة من الأحاديث لم ترتفع عن درجة الحسن, ومنها الحديث المتعلق بماعز بن مالك, والحديث المتعلق بالغامدية الأزدية !! (3)
يضاف - أيضًا - :
لمز العلايلي عمر - رضي الله عنه - بأنه لم يصب في ترشيح أهل الشورى، وأن سياسته المالية أضرت بالدولة! (انظر كتابه: مقدمات لفهم التاريخ، ص 139-141)
وطعن في عثمان -رضي الله عنه- في كتابه "سمو المعنى" . (انظر: الشيخ العلايلي والتجديد في الفكر المعاصر، فايز ترحيني، ص 301).
وطعن في عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أنه "لم يترك الانتخاب حراً بل استعمل فيه طريقة المداورة والانتهازية" !! (مقدمات لفهم التاريخ، ص139).
وطعن في معاوية -رضي الله عنه- . (انظر المرجع السابق، ص 298).
وأثنى بمبالغة على اليهودي عبدالله بن سبأ ، وجعل منه مصلحاً !! كما في كتابه (مقدمات لفهم التاريخ العربي، ص 65 وما بعدها و112).
=====================(52/158)
(52/159)
نظرة شرعية في فكر : علي حرب
- علي حرب مفكر لبناني معاصر ، يكتب في الفلسفة وفي ما يُسمى " النقد التفكيكي " على وجه الخصوص .
- وهو لايؤمن بجميع الأديان - لا الإسلام ولاغيره - ! وقد جهر بهذا في مواضع من كتبه ، منها : قوله : "إنني أسعى إلى التحرر من كل أدلوجة، وأحاول النهوض من كل سباتٍ عقائدي؛ أكان نبوياً أم فلسفياً، دينياً أم علمانياً، أصولياً أم حداثياً" . (الفكر والحدث، ص237).
- وقد اعترف في النهاية بأنه لا يملك مشروعًا فكريًا ! إنما هو الهدم للعقائد ، وعلى رأسها الإسلام ! ، يقول : "لا أزعم أنني صاحب مشروع فكري وثقافي" (الفكر والحدث، ص94). ويقول - أيضًا - : "لا مشروع عندي" . (السابق، ص265).
- ويقول معترفًا بعلمانيته " الملحدة " : "إنني إذ انتقد الأطروحة العلمانية لا أعني بذلك التخلي عن العلمانية " . (الممنوع والممتنع، ص26).
__________
(1) …الأحوال الشخصية، للشيخ أبو زهرة (ص/102) وممن نقل الإجماع شيخ الإسلام في الفتاوى (32/26) كما تقدم.
(2) …انظر: الفتوى الملاح (ص/811).
(3) …أعلام وأقزام ( 2/149) .
- ويقول ملمحًا إلى هدفه من نقده التفكيكي : "إن المنحى الحفري التفكيكي شكَّل أهم حدث فكري في النصف الثاني من القرن العشرين عند من يرى ويسمع، أو يقرأ ويفهم. به تزعزعت ثوابت فكرية راسخة، وتداعت قلاع ما ورائية حصينة" . (الممنوع والممتنع، ص24).
- أما عن مناقشة فكره التفكيكي فأتركها لأحد المتخصصين :
قال الأستاذ حسن الأسمري في رسالته الجامعية التي لم تُطبع بعد " موقف الاتجاه الفلسفي المعاصر من النص الشرعي " ( ص 385-395 ) مناقشًا فكر علي حرب :
" يعتني الدكتور علي حرب بالنص، وتقوم دراساته حول النصوص الفكرية والفلسفية، وسبب اهتمامه بالنصوص أن النص (لم يعد مجرد أداة للمعرفة، بل أصبح هو نفسه ميدانًا معرفيًا مستقلاً، أي مجالاً لإنتاج معرفة تجعلنا نعيد النظر فيما كنا نعرفه عن النص والمعرفة في آن. من هنا فهو يستأثر الآن باهتمام الباحثين، وينشغل به أهل الفكر على اختلاف ميادين عملهم ومجالات اختصاصهم) (1) النص (بات يشكل منطقة من مناطق عمل الفكر. وهذا ما يجعل منه منطقة من مناطق عمل الفكر) (2)، وتصور النص عند علي حرب تحكمه رؤية (جديدة مفتوحة تستبعد منهجين كلاهما يقوم على الحجب والاستبعاد، فهي تستبعد أولاً المنهج اللاهوتي الماورائي الذي يعتبر أن الخطاب هو مجرد تعبير عن معنى قائم بذاته موجود في عقل أعلى أو متعال، إلهي أو إنساني يتصف بالمعنى والقصد، وتستبعد ثانيًا المنهج الواقعي الموضوعي الذي يحكم على النص بإسناد الخطاب إلى مرجع خارجي أو من خلال مطابقة الكلام لموضوعه.. وحدها النظرية الجديدة التي أوثر تسميتها "أنطولوجيا النص" تعيد الاعتبار في آن، للنص ولتفاسيره وقراءاته..) (3)، منهج يهتم بالنظر إلى النص فقط، دون اعتبار لقائله والمتكلم به، ودون اعتبار لأي ظروف محيطة به، ويبقى الإشكال مع النصوص الدينية، فالنصوص الدينية لا تقبل الانفصال عن قائلها، فالقرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى، والحديث هو من الوحي الذي تكلم به الرسو صلى الله عليه وسلم ، وأي نظرة إلى كلام الله أو كلام رسول صلى الله عليه وسلم تستبعد المتكلم تقع في محاذير كثيرة، فإن هذه النصوص لا تنفصل عن قائلها وعن مراده، وأي نظر إليها دون النظر إلى مراد الله ومراد رسول صلى الله عليه وسلم يفتح الباب للقول فيها بالظنون والأقوال الباطلة.
وعلي حرب مع اهتمامه بالنص على الصورة السابقة، إلا أنه يهتم أكثر بنقد النص، والنقد والنص مفهومان مصنوعان في حضارة الغرب، مفهومان مفروضان من قبل الثقافة الغربية، بصورة ضيقة معروفة في بعض المنهجيات الفكرية الغريبة، وقد أخذ علي حرب هذين المفهومين وأنزلهما على الإسلام.
أي أن علي حرب لا يتعامل مع النص بصورته الواقعية المعروفة وإنما بصورته التي صنعتها بعض الاتجاهات الفكرية الغربية، فهو يتعامل مع (نص) صورته مصنوعة في فترة زمنية معينة، ومن قبل فئة معينة، وإذا أتى زمنٌ آخر وفئة أخرى بصورة جديدة للنص، انتقلنا إليها، وهكذا.
بعد هذا ننتقل إلى الأمر الثاني وهو النقد التفكيكي، خاصة أنه أصبح من أهم المفاهيم المنتشرة في الفترة الأخيرة عند كثير من الاتجاهات، وإن كان أكثر في الجانب الأدبي، إلا أنه موجود كذلك مع الاتجاه الفلسفي، مع أن أهل الاتجاه الأدبي التفكيكي لا يفرقون بين النصوص، فالأدبية والدينية والفكرية نصوص متساوية ينطبق عليها هذا المنهج، لكنهم يركزون نشاطهم فقط على النصوص الأدبية، ويرجع ذلك في أغلبه إلى طبيعة تخصصهم من جهة، ولظروف المكان الذي يعيشون فيه من جهة ثانية.
حرب والنقد التفكيكي :
إذا كان علي حرب يتعامل باهتمام مع النص، فإن نقده للنص هو أهم ما يميز تعامله مع النص، وذلك تحت مفهوم جديد وهو (النقد التفكيكي)، والآن نحاول التعرف على هذا النقد:(52/160)
في البداية ينبه علي حرب، ويكرر ذل مرارًا بأنه لا يمارس النقد بصورته التقليدية، فنقده (لا يقوم على نقد المذاهب والمدارس والأدلوجات على أساس التفريق بين الصحيح والفاسد، أو بين الصادق والكاذب، أو بين العلمي والخرافي) (4) وإن كان أحيانًا يذكر أهمية مثل هذا النقد، ولكنه لا يمثل أهمية كبيرة تعادل نقده الجديد، بل ويصب نقده اللاذع لمثل هؤلاء النقاد.
وهذه عادتهم جميعًا ، فلا بد من البدء بإلغاء الآخرين، وإلغاء المنهجيات الأخرى والتصورات الأخرى التي تخالفه، ثم يأتي وكأنه المنقذ وصاحب المنهج السليم.
يقول عن نقده بأنه يمثل (النقد الحديث كما مورس ابتداءً من كنط وكما تطور واغتنى بعده وبخاصة لدى المعاصرين بدءًا من نيتشة وانتهاءً بآخر المدارس النقدية) (5).
__________
(1) … علي حرب، النص والحقيقة، نقد النص ص 7، ط1 المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء 1993م.
(2) … المرجع السابق ص 8.
(3) … علي حرب. أسئلة الحقيقة ورهانات الفكر ص 33، ط1، دار الطليعة ، بيروت ، 1994م.
(4) … علي حرب . النص والحقيقة . نقد النص ص 201.
(5) … المرجع السابق ص 201.
وتتمثل شخصيات النقد التفكيكي في نيتشه وهيدغر وميشال فوكو وأخيراً جاك دريدا (الذي تبنى المصطلح وبرع في استثمار التفكيك حتى اشتهر به) ويأتي أحيانًا معهم جيل دولوز(1) إضافة إلى الذين ساهموا في تشكيل التيار البنيوي فقد مارسوا هذا النمط من التفكير أمثال ألتوسير ولا كان وليفي شتراوس وبارت(2)، أما فوكو ودريدا وجيل دولوز وألتوسير ولا كان وليفي وبارت فهم من المتأخرين في الثقافة الأوروبية، وأغلبهم يعيشون في مكان واحد، وبيئة واحدة، في فرنسا، ولهم تأثر كبير بالعلوم الاجتماعية الحديثة إضافة إلى علم اللغة الحديث الذي افتتحه دوسوسير، وكذلك يجمع بينهم إلغاء الإنسان أو إعلان موته، أو موت المؤلف، وذلك بعد أن أعلن نيتشه موت الله، وفي المقابل نجدهم يعلون من شأن بعض الأنظمة الفكرية واللغوية بصورة يجعلونها متحكمة في مصير البشر والفكر والمعرفة والتصورات إلى حد جعلها أشبه بالخالق المدبر لهذا الكون والمتصرف فيه.
ننتقل من النقاد إلى بعض الملامح العامة حول النقد عنده، ونرى تصوره للنقد، فالنقد عبارة عن (بحث في قبليات المعرفة وشروط إمكان الفكر… يرمي إلى البحث في المؤسسات والأبنية والممارسات التي تتيح للخطابات أن تتشكل وتنتشر …. باختصار إن النقد بالمعنى الحديث بل الأحدث، هو قراءة في النصوص والتجارب لسير إمكاناتها واستنطاقها عن مجهولاتها. وهذا هو النقد بالمعنى الأنطولوجي للكلمة… يستقصي المجهول والمغيب والمستبعد…)(3) وبهذا يتخطى النقد (نقد الفرق والمذاهب إلى نقد أصول المعرفة الإسلامية. نتخطى نقد التفاسير والشروحات إلى نقد الوحي نفسه، وذلك بالتعامل معه كمعطى يخضع للمعرفة النقدية وشروطها..) (4) والفضل في افتتاح هذا النقد يعود إلى محمد أركون(5).
وعلي حرب يرى أن هذه القراءة النقدية (تستثمر إمكانات النص وتعيد إنتاجه، فتحوله من معرفة جامدة إلى معرفة حية، بالتعامل معه كرأسمال ثقافي يمكن تحويله وصرفه) (6) هنا يتضح مدى التحول في معنى النقد الذي يتبناه علي حرب، وإن كان في حقيقته وجوهره يعود إلى المعنى المباشر من النقد. وهكذا يصبح (نقد النص) عبارة عن تلاعب في النص، وفيه تتم إسقاطات متنوعة من قبل الناقد على النص، وهذه الإسقاطات تشوه النص، وتخرجه عن مقصده، وهكذا فكل إنسان، وكل فئة، وكل مجتمع، هو الذي يُنزّل على النص ما يريده هو لا ما يريده النص، مع أننا نجد أن تركيزه منصب على كشف المستور والمخفي، وبهذا ينحصر النقد في جهة واحدة، وبهذا يصبح نشاطه محصورًا وضيقًا وهو يخالف زعمه عن القراءة المنفتحة، أو القراءة الحية كما يسميها، فقراءة القرآن الحية كما يقول: (تعنى بالبحث عن القَبْلي والمحتمل، وتهتم بالكشف عن المجهول والمغيَّب والمسكوت عنه… تبحث في النص عن البداهات المحتجبة أو عن القبليات المنسية أو عن البنيات المترسبة أو عن الآليات المستخدمة) (7).
وإذا كان النشاط النقدي عبارة عن إسقاطات، وعبارة عن معانٍ في أذهان هؤلاء ينزلونها على النصوص، ويحملونها ما لا تحتمله، فإن الباب لن يغلق أمام التلاعبات المتواصلة من قبلهم، كيف والنص عبارة عن رأسمال، يمكن صرفه في أي وقت، وبأي طريقة، وهذه هي حقيقة النقد التفكيكي، إنه نقد قائم على انعدام الحقيقة، وخاصة الحقائق النبوية، وبهذا فلا بأس بأن نقول في النص ما نشاء، وأن نقرأه كيفما نشاء، فهو نص رمزي، وعملة يمكن صرفها.
يضع علي حرب بعض القواعد حول نقد النص، ومن المناسب التوقف مع بعض ما فيها، لأنها حوت كثيرًا من الأصول التي تحرك الاتجاهات الفلسفية الأخيرة، ومن هذه القواعد:
أولاً: (النصوص سواء) فالاختلاف هنا لا يهمّ، والفرق هنا لا يهمّ، سواءً كان من حيث المضامين والمحتويات، أو من حيث الموضوعات والطروحات، إنما الذي يهم كيفية انبناء الخطاب وطريقة تشكله وآلية اشتغاله.
هنا يمكن الجمع بين النص الفلسفي والنص النبوي، إذ كلاهما يشكل نصًا لغويًا(8).(52/161)
وهو بهذه الصورة يستطيع التعامل مع النص النبوي كأي نص دون أي ميزة له، فيسقط عليه منهجياته ونقده، دون أي مشكلة أو تحرز، فكلام الله لأنه نص مثل كلام إبليس أو فرعون أو أي متكلم مخلوق لأنها كذلك نصوص !!
ولكن هل المنهج العلمي يتعامل مع الأسماء المشتركة على ما تحويه من معاني مختلفة على أنها شيء واحد؟ وهل العقل يقول بهذا؟ إن الجواب واضح.
__________
(1) … انظر علي حرب. النص والحقيقة . الممنوع والممتنع، نقد الذات المفكرة ص 23، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، 1995م.
(2) … انظر المرجع السابق ص 24.
(3) … النص والحقيقة. نقد النص ص 202.
(4) … النص والحقيقة. نقد النص ص 202.
(5) … انظر المرجع السابق ص 203.
(6) … المرجع السابق ص 204.
(7) … المرجع السابق ص 204.
(8) … انظر المرجع السابق ص 11 - 12.
ثانيًا: (كينونة النص) حيث يصبح النص مستقلاً، ويُنظر إليه من دون إحالته لا إلى مؤلفه، ولا إلى الواقع الخارجي. ففي منطق النقد يستقل النص عن المؤلف كما يستقل عن المرجع(1)، وهذا "الفصل" يطغى على الفكر البنيوي والألسني والفلسفي المعاصر. وإذا كنا نستطيع فصل النص عن قائله إلا أن دراسته وفهمه ستبقى ناقصة، وهذا في النصوص البشرية. أما كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول صلى الله عليه وسلم ، فإن فصله عن المتكلم به معناه الابتعاد عن مراد الله سبحانه الذي أوضحه لنا رسول ا صلى الله عليه وسلم أتم توضيح وبينه أفضل بيان، وبالتالي تُنزل الأهواء الشخصية والمرادات الفردية والرغبات الخاصة على هذه النصوص، وبهذا يصبح النص حتى على دعواه غير مستقل، وانفصاله لم يتم، فهو إن فصله عن المتكلم به، فقد جعل نفسه وكأنه المتكلم به، لأنه الوحيد الذي كشف حقيقته وعرف مراده المخفي والمعلن.
ثالثًا: لا يوجد حقيقة جوهرية للنص، وإذا لم تكن هناك حقيقة جوهرية وثابتة فلا مجال عندئذٍ للحديث عن الخطأ والصواب.. فالتخطئة أو التصويب يصحان إذا كنا نتعامل مع النص بوصفه يعكس أو يتطابق مع حقيقة ذهنية أو خارجية قائمة بمعزل عنه، وكمثال (فالنص النبوي، مثلاً، لا تكمن أهميته في كونه يروي الحقيقة ويتطابق معها. بل تكمن بالدرجة الأولى في حقيقته هو، أي في رؤيته للوجود وفي آلية إنتاجه للمعنى وفي كيفية تعامله مع الحقيقة أو في طريقته في الكلام على الأشياء) (2).
إذًا فالنص هو الذي يصنع الحقائق، لا أن هناك حقائق ثابتة يتحدث عنها النص أو يصفها، وعندما لا تكون هناك حقائق فالباب مفتوح أمام القارئ ليتخيل ما شاء من مضامين لهذه النصوص، وعلى هذا يكون فعل الرسو صلى الله عليه وسلم مع صحابته إنما هو من باب الغشّ لهم، فهو قد أخبرهم بهذه النصوص بما فيها من حقائق، واعتقدوها وصدقوا بها، وفي القرن العشرين تمّ الاكتشاف الحديث بأن هذه النصوص لا تدلّ على حقائق ثابتة كما يقول النقاد من طه حسين إلى علي حرب على خلاف بينهم في مستوى الإنكار!!
تأتي بعد ذلك أربع قواعد متقاربة، ففي "استراجية النص" يرى أنه (لا ينبغي التعامل مع النصوص بما تقوله وتنص عليه أو بما تعلنه وتصرح به، بل بما تسكت عنه ولا تقوله، بما تخفيه وتستبعده…)(3)، وأما سبب سكوت النص فهو يرى أن (النص يسكت ليس لأن مؤلفه ضنين بالحقيقة على غير أهلها ولا بسبب تقية من سلطة يخشاها ولا لغرض تربوي تعليمي يرمي إليه، كما ذهب بعض مفسري القرآن، بل لأن النص لا ينص بطبيعته على المراد، ولأن الدال لا يدل مباشرة على المدلول… ومن هنا يتصف النص بالخداع والمخاتلة ويمارس آلياته في الحجب والمحو أو في الكبت والاستبعاد…)(4)، وبهذا تتحول النصوص مع علي حرب إلى ألغاز وأسرار وخفايا، وبهذا لا يكون التعامل معه حسب ظاهرة، بل حسب ما يخفيه والذي لا يعرفه إلا أمثال علي حرب ! وعلى هذا فإن الله سبحانه وتعالى قد خاطب عباده بكلام لا تظهر فيه الحقيقة، بل هي مختفية، وهذه طبيعة في أي نص، بل هناك ما هو أكثر من ذلك توضحه القاعدة الخامسة (النص يمارس حجبًا مضاعفًا إذ هو يحجب ذاته كما يحجب ما يتكلم عليه) (5)، وبهذا يتحول النص إلى كلمات مغلقة، ومعاني مستعجمة، لا يمكن معرفتها والوصول إليها إلا بشق الأنفس، ويصبح النص محفوفًا بالمخاطر، والاعتماد على ظاهره خطأ فادح، والطمأنينة إلى ظاهره في غير موضعها ولها ضريبتها، بل يزيد من هذا البلاء من علي حرب بلاءًا آخر حيث يقول بأن (الحجب والمخاتلة) يمثل فعلاً قوة النص (ولهذا فأنا أذهب إلى أن قوة كل نص هي في حجبه ومخاتلته لا في وحدته وتجانسه) (6) وهنا ينحصر نقد النص في قراءة ما لم يقرأ، أو كشف المحجوب والمختفي، وهذه هي القراءة الحية، بخلاف القراءات الميتة، وهذه القراءة وهذا النقد من لا يقبلهما ومن لا يستوعبهما -حسب زعمه- فهو عاجز عن قبول التحدي(7).
هذه هي قواعد علي حرب، والمتتبع لنشاط أغلب الفلاسفة المتأخرين يجد أنهم يدورون حول هذه المعاني.(52/162)
يلاحظ أن هذه القواعد قد حولت النص، ومنه النبوي إلى لغز من الألغاز، بل وحصرت قوته وأهميته في قوة حجبه وإخفائه للحقيقة، وفي قوة تلاعبه وتمويهه بها ، وإذا نظرنا إلى ثقافات البشر، نجد أن هذه المعاني تناسب الألغاز، وتقترب من نشاط السحرة وأشباههم في تلبيس الحقائق، بل وتعتبر قوة الساحر في قدرته على إخفاء سحره وفي نجاحه في التمويه والتلاعب بأبصار الناس وعقولهم.
__________
(1) … انظر المرجع السابق ص 12.
(2) … المرجع السابق ص 14.
(3) … المرجع السابق ص 15.
(4) … المرجع السابق ص 15.
(5) … المرجع السابق ص 16.
(6) … المرجع السابق ص 18.
(7) … المرجع السابق ص 25.
ويجب التنبيه في هذا المقام إلى أن لكل نص صورته الخاصة التي تميزه عن غيره، وحالته الخاصة، ووضعه الخاص، ولذلك تتمايز النصوص، ويختلف بعضها عن بعض، فنصوص لا يناسبها إلا الوضوح، ونصوص مجالها في بلاغتها ومجازاتها واستعاراتها، أما النصوص النبوية فهي نصوص لا تدخل تحت هذه التقسيمات الخاصة بنصوص البشر، فهي وحي من السماء، وهي نصوص لهداية البشر، نزلت بأفضل صورة، وعلى أكمل وجه، وبلسان عربي مبين، ففيها الحق، وفيها النور، وفيها الحياة، وفيها البيان، وفيها الهداية، وما كان كذلك فلا يناسبه الغموض والاختفاء والتمويه والتلاعب والحجب الذي ينادي به علي حرب، والذي لم يُكتشف إلا في القرن العشرين، وبقي غامضًا على الأمة الإسلامية وعن علمائها أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، فما أعظم جنايته على كتاب الله تعالى وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، وعلى الأمة الإسلامية عمومًا، بل على الأديان السماوية كلها.
لقد جعل علي حرب للنص ظاهرًا وباطنًا، فالظاهر ما يعرفه الناس، وباطن أو مخفي أو محتجب أو مستور وهذا ما يعرفه علي حرب عن طريق تفكيكية اليهودي جاك دريدا، وهذا يذكرنا بالظاهر والباطن عند أهل التصوف وأهل الباطن، وهذا ربما يفسر سر إعجابه الكبير بابن عربي وببعض المتصوفة، وهو بهذا يخالف مزاعمه في جعل النص واسعًا حيث ضيقه، وجعله محصورًا في جانب واحد، وهو الباطن المخفي.
نعم إن كلام الله سبحانه وتعالى مليء بالمعاني والدلالات التي لا تنفذ، ولكن ليس معنى ذلك أن يُنظر إلى النص ويفسر أو يفكك -كما يقول علي حرب- بعيدًا عن سياقه، وبعيدًا عن مراد قائله، فالابتعاد عن النظر إلى النصوص متكاملة، والابتعاد عن قائلها يحول النصوص إلى ساحة لأهواء البشر ورغباتهم، وتفسير النصوص عندها بما يريده المفسر لا بما تريده النصوص وتدل عليه.
إن هذه الانحرافات الخطيرة، وخاصة في جانب النظر إلى النصوص الشرعية، عند علي حرب ومن شاكله في النقد أو التصور، له علاقة كبيرة بذلك التصور الفلسفي الفاسد نحو النصوص الشرعية الذي يزعم بأن النصوص الشرعية، نصوص تخييلية، أو أسطورية أو ما شابه ذلك من الأقوال حسب توجهات كل متفلسف، وإذا كان قد تم التحقق من السابقين من جهة أثر هذا التصور عليهم، ففي هذا الموطن ننظر إلى أثره في علي حرب.
يرى علي حرب وكما سبق بأن النص لم يعد يعبر عن حقيقة(1)، وإنما كل نص يصنع حقيقة ويوهم الناس بها وليس بالضرورة لها وجود، والفضل في هذا الكشف يعود إلى مفكري التفكيك، ويرجع كذلك إلى اكتشافات دوسوسير في زلزلة المعنى والحقيقة(2)، وهذا الأمر هو صورة غالية لقول الفلسفة وتصورها العام بأن النصوص النبوية نصوص تخييلية.
يركز علي حرب كغيره من المتأخرين على بعض القضايا التي تتعلق بالفرد والمجتمع من أجل الاستمرار -دون حذر- في نقد النص الديني أو أي نص، ومن أهمها الدعوة إلى فتح الباب أمام حرية الباحث في النقد، وأن يتحلى بها كل باحث، فيتخلص من كل سلطة حسية أو معنوية، وينفتح على نقد النصوص دون حرج، حتى ولو كانت هذه النصوص هي آيات كتاب الله أو أحاديث رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وهي دعوة إلى حرية النقد لهذه النصوص بصورة تجعل الحرية فوضى مدمرة.
يقول علي حرب عن هذه الحرية بأنها (إمكانية الدخول على الإسلام من هوامشه ومنافيه، أو من مكبوتاته ومرذولاته، أو من عوالمه السفلية وقبلياته التاريخية؟ أو إمكانية الدخول على التراث الإسلامي من خارجه، كما يفعل المفكرون العرب المعاصرون الذين يدخلون على الإسلام وتراثه من الفضاء الغربي الحديث على اختلاف عقلانياته وأدواته المنهجية وأنظمته المعرفية) (3)، وهذه الحرية (تعني إمكانية التعامل النقدي مع الإسلام لا بوصفه مرجعية مقدسة أو سلطة معرفية لا تجادل أو هوية ثابتة ونهائية، بل بوصفه أحداثًا تاريخية أو مخزوناً ثقافيًا أو رأس مال رمزي..) (4).(52/163)
هكذا أقام علي حرب نقده، على خطوات مرتبة، أولاً فتح النص أمام كل ناقد، خاصة بعد أن جعله كأي نص، وسلبه الحقيقة، وجعله نصا رمزيا ، أتى بعد ذلك ليزيل ما يمكن أن يتبقى لدى بعض المسلمين من احترام وتعظيم لكلام الله سبحانه وكلام رسول صلى الله عليه وسلم ، فمن خلال باب الحرية ومشروعيتها لا يبقى عند ذلك عائق عن النقد، وسواءً من جهة النص فهو مفتوح للنقد، أو من جهة قائله فلا عائق من جهة قائله (أو مؤلفه كما يقول علي حرب)، لأن النص قد تم فصله عن قائله والمتكلم به، ولا عائق من جهة الناقد القارئ ، فمن خلال شعار الحرية خف تعظيم الله سبحانه وتعظيم رسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم كلامهما.
__________
(1) … انظر مثلاً. النص والحقيقة، الممنوع والممتنع ص 19،28،73 وأسئلة الحقيقة ورهانات الفكر ص6،8،60،61.
(2) … انظر أسئلة الحقيقة ورهانات الفكر ص 17،73.
(3) … علي حرب الاستلاب والارتداد، الإسلام بين روجيه غارودي ونصر حامد أبو زيد ص 108، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، 1997م.
(4) … المرجع السابق ص 109.
مع أن الناقد والقارئ قد تم إلغاؤه من قبل علي حرب، وجعل إمكانيته النقدية والتفسيرية محصورة في صورة ضيقة وضعها.
وبهذا لم يترك علي حرب أي باب أمام من أراد نقد النص الشرعي إلا وفتحه وزينه، فنكون بذلك مع أسوأ المتفلسفين تعاملاً مع النص الشرعي باسم المنهج النقدي، نحن نجد أحيانًا بعض الاعتذارات عند أركون ونصر حامد بأنهم لا يقصدون نقد النص الشرعي، وإنما يقصدون نقد التصورات المحيطة به، مع أنها اعتذارات كاذبة، أما علي حرب فهو يرفض مثل هذه الاعتذارات؛ لأنه لا حاجة إليها، وعندما صرح أركون مرة بإعجابه بالقرآن، فهذا موقف لا يعجب علي حرب لأنه (موقف إيماني عقائدي أو عشقي لا موقف ناقد محلل) (1) أما ما يعجبه في أركون فهو نقده الصريح للقرآن، فإن قراءته النقدية (أجدى وأخصب من القراءات الأيدلوجية التبجيلية التي تتعامل مع النص بوصفه معرفة ميتة أي جاهزة نهائية) (2).
هكذا يصبح علي حرب أكثر غلوًا وتطرفًا في نقده للنص الشرعي، ويصبح أسوأ من الماركسيين والوضعيين وأشباههم، وهو يرى أن مشروعه يجعل الأولوية للإنسان بدل الإسلام والدين(3)، مع أن الله لم ينزل دينه ويرسل رسله إلا من أجل صلاح الإنسان وسعادته، ولكنه (كعلماني) (4) لا يمكن أن يقبل دين الله سبحانه، ولا يقبل بتطبيقه في حياة البشر، لأن الذين (فكروا بتعليم البشر، أو بتطبيق الأفكار والنظريات لم يحصدوا سوى سراب أو خراب، أكانوا أنبياء أم فلاسفة) (5)، وذلك يعود إلى أن النصوص النبوية بالذات والنصوص عمومًا لا تدل على حقائق، فإذا فرضناها على الناس، فنكون بذلك قد فرضنا عليهم أباطيل لا واقع لها، وعلى هذا القول الشنيع يكون جهد الأنبياء عليهم السلام في هداية الناس ودلالتهم إلى الحق إنما هو من باب العبث، لأن نصوصهم خالية من المعقولية حيث يقول: (لو نظرنا إلى النص النبوي من منظار نقد العقل لبدا لنا خاليًا من أية معقولية. من هذه الوجهة يُقرأ الخطاب بوصفه كلامًا لا مصداقية له ولا صلاحية، أي يجري التعامل معه وكأنه سند لا رصيد له من الحقيقة) (6) إننا نسير مع متفلسف لا يملك أية مبادئ أو ثوابت أو عقائد يؤمن بها ويصدق بها ولهذا فلا يستغرب منه مثل هذه المواقف ، يقول: (ليس المهم ما نؤمن به، وإنما المهم كيف يمارس المرء إيمانه أو يتعاطى مع معتقده سواء كان يؤمن بالدهر أم بغيره، بالخالق العظيم أم بالانفجار الكبير) (7). انتهى كلام الأستاذ حسن الأسمري - وفقه الله - .
يضاف على ماسبق :
- في مقاله: " الحجاب وما يفضحه"! يقول علي حرب : "إذا كنت أحيي شيخ الأزهر على موقفه، فأنا لست معه في رأيه حول الحجاب، إذ لا أعده فريضة دينية، بل عادة من عادات اللباس تعود إلى المجتمع الأبوي والعبودي، وعلى فرض أنه فريضة، فالفرائض والأحكام تخضع للتبديل، لا يسعنا الآن العيش باتباع نفس القواعد والأحكام والعادات التي خضع لها من سبقونا منذ أربعة عشر قرناً" !! (الإنسان الأدنى، ص 153). ويقول : "المرأة هي كائن اجتماعي من الدرجة الثانية في النظام الحقوقي الإسلامي"! (حديث النهايات، ص 65). و يقول : "لا يمكن للثقافة في أي حال وأياً كانت درجتها أن تحرر العلاقة بين الرجل والمرأة من طابعها الجنسي على ما تتوهم المرأة المثقفة" . (الفكر والحدث، ص179).
- يحارب علي حرب الإسلام في كتبه متخفياً تحت ستار محاربة ما يسميه الأصولية. (انظر مثلاً كتابه: الأختام الأصولية والشعائر التقدمية، وكتابه: العالم ومأزقه).
- يسخر من طالبان ومواجهتها لدولة الكفر "أمريكا"، ويقول عن الأفغان: "هم أكثر تشدداً وتطرفاً من العرب في ممارستهم لهويتهم الدينية، والشواهد على ذلك أسماؤهم الإلهية الدالة على الأحسن والأفضل، والأحق والأكمل، وهي صفات تكذبها على الأرض الممارسات البشرية الشيطانية". (العالم ومأزقه، ص80).(52/164)
- يقول: "إن مصطلحات كالنفقة والمتعة والمهر والأجر والهجر أو الضرب، وسوى ذلك من المفردات التي تنظم العلاقة بين المرأة والرجل؛ إنما تعود إلى العصر المملوكي والمجتمع الأبوي البطريركي" !! (حديث النهايات، ص59).
- ويقول متطاولا ومستهزئًا بالإسلام وأحكامه : "إذا تحدث الغربيون عن مسألة حقوق الإنسان نرفع الصوت عالياً بأن هذه الحقوق هي من صميم الإسلام، مع أن العقيدة الإسلامية شأنها -شأن سائر العقائد- لا تخلو من الاصطفاء والاستعباد" !!(حديث النهايات، ص65).
- ويقول : "الإسلام الحقيقي لم يوجد ولم يُطبق، لا في هذا الزمان ولا في صدر الإسلام" . (الممنوع والممتنع، ص 28).
__________
(1) … النص والحقيقة ، نقد النص ص 66.
(2) … النص والحقيقة ، نقد النص ص 66.
(3) … انظر الاستلاب والارتداد، ص 111.
(4) … انظر النص والحقيقة الممنوع والممتنع، ص 26.
(5) … المرجع السابق ص 43.
(6) … المرجع السابق ص 56 وانظر ص 65.
(7) … الاستلاب والارتداد ص 114.
- ويقول متهجمًا على أهل الإسلام : "لا أعتقد أن الحركات الإسلامية قدمت أفكاراً جديدة خصبة، تصلح لتفسير هذا العالم أو لتغييره وإعادة بنائه، بل إن ما تقدمه يتخذ طابع النفي والسلب، ويترجم دماراً ذاتياً" . (الممنوع والممتنع، ص85). وانظر : (الفكر والحدث، ص108)
- ويمدح الملحد صادق العظم ويعترف "بألمعيته وجدارته" ! (الممنوع والممتنع، ص165).
- ويقول متهجمًا على التاريخ الإسلامي - غير مفرق بين الجهاد الشرعي والحروب الأخرى - : " يستغرب الكثير من المسلمين العنف الذي يمارس في المجتمعات الإسلامية بين المذاهب والأحزاب والفصائل المتحاربة، فيتساءلون: هل يُعقل أن يتقاتل المسلمون على هذا النحو البربري؟ والحقيقة أنني كلما سمعت مثل هذا الاستغراب أجيب المتسائل: كأنك لست بمسلم، أو كأنك جاهل بتاريخ الإسلام السياسي الذي هو عبارة عن فصول من النزاعات والفتن والحروب، فالنبي خاض حروباً وقاد معارك، وبعد النبي تنازع خلفاؤه وصحبه على المشروعية واقتتلوا فأهرقت دماء في حروب أين منها داحس والغبراء! " . ( الممنوع والممتنع ، ص 176) .
عدمية علي حرب :
- بعد أن رفض علي حرب الأيدلوجيات - كما يقول - ، ومن ضمنها الإسلام طبعًا ، فهو يتجه نحو العدمية أو العبثية أو اللاأدرية أو الضياع ، وإليك بعض أقواله ، واحمد الله على نعمة الإسلام :
- يقول متفائلا بالعولمة ! : " ما تتيحه موجات العولمة وما بعد الحداثة، هو ولادة شكل جديد لوجود البشر وأنماط تعايشهم، يتجاوز الشكل اللاهوتي للمخلوق الآثم الذي ينتظر يوم الدينونة لكي يُحاسب على عمله، كما يتجاوز الشكل الماورائي للكائن الذي يستمد من خارجه عِلَل وجوده ومبادئ سلوكه، فالماورائيات والروحانيات لم تشكل عبر تاريخها سوى خطابات مخرومة تمزقها النوايا المفخخة والمقاصد المنتهكة، أو أستار رقيقة تشف عن تحولات الطبيعة ومخاتلة الرغبة " .
- ويتابع : " كذلك هو يتجاوز مقولة الإنسان الأعلى، بقدر ما يتجاوز في الوقت نفسه مقولة الإنسان الإله التي يدعو إليها لوك فرّي، هذه المقولة هي أيضاً دعوى خادعة ونبوءة كاذبة، إذ المسألة ليست الآن أن يَتَألهن الإنسان ولا أن يتأنسن الله، ذلك أن الشكلين، الإلهي والإنساني، الأعلى والأدنى، هما وجهان لممارسة قدسية واحدة، باسمها تشن الحروب وتهرق الدماء، ومن أجلها يجري تصحير الطبيعة وتدمير الكائنات، وأخيراً لا آخراً، فالشكل الممكن هو تجاوز ثنائية الله والشيطان، إذ الشيطان، بحسب المنطق الديني، هو مخلوق إلهي لا يسير العالم من دونه، ولذا فقد أعطاه الله سلطة الوسوسة والغواية على الخلق إلى نهاية التاريخ والإنسان ".
- ويتابع : "وهكذا فإن الشكل الجديد الذي تتيحه ظاهرة العولمة وانفجارات ما بعد الحداثة، هو محاولة لتفكيك الأشكال السائدة، القديمة والحديثة، ذات الجذر الديني واللاهوتي، أو ذات المنشأ العلماني والناسوتي " .
- ويتابع : " لم تعد المسألة أن نختار بين مشروع شمولي ومشروع آخر، بل أن نتخفف من أعباء المشاريع والروايات الطوباوية الواعدة بالتحرير الكبير " .
- ويتابع : " من هنا فإن السجالات بين العلمانيين والأصوليين، على الرغم من عنفها، إنما تنتمي إلى عهد إنساني آخذ في الزوال، ذلك أن المسألة الآن ليست أن نختار بين التدين والتعلمن، أو بين طوبى قديمة وأخرى حديثة، بل أن نكف عن تقديس الأفكار لكي ننخرط في تشكيل فضاء فكري جديد، يتجاوز العقليات القديمة والعقلانيات الحديثة التي باتت عاجزة عن فهم الوقائع وصناعة العالم، لقد أُرهق الإنسان من جراء عبادة الأصول والنماذج والنصوص، وما يحتاج إليه هو الخروج من عصور القداسة، القديمة والحديثة، التي أوصلت إلى هذه النهايات الحافلة بفضائحها والحارقة بعنفها وتوحشها ". ( حديث النهايات ، 191-193) .(52/165)
- قال عنه الدكتور محمد عمارة: "يتجاوز الآن الحداثة إلى عبثية وتفكيك وعدمية ولا أدرية ما بعد الحداثة عندما استخدم منهاج شنعت فوضحت في وصفه الموجز لهذه الحداثة فقال إنها القول بمرجعية العقل وحاكميته، وإحلال سيادة الإنسان وسيطرته على الطبيعة مكان إمبريالية الذات الإلهية وهيمنتها على الكون" !! (التجديد في الفكر الإسلامي - مجموعة أبحاث، ص 91- نقلاً عن مقال لحرب في جريدة الحياة 18/11/91م).
- أخيرًا : للدكتور عمر كامل رد على علي حرب بعنوان : "حوار مع علي حرب".
=====================(52/166)
(52/167)
نظرة شرعية في مؤلفات : خليل عبدالكريم
-كاتب يساري حزبي، يكتب في الإسلاميات. ولد عام 1348هـ وهلك عام 1423هـ .
- من أسوان بمصر تخرج في دار العلوم، تتلمذ على يد الحقوقي عبدالقادر عودة، انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين (!) وتنقل بين القرى والمدن المصرية للدعوة إليها، وتعرض للاعتقال أيام عبدالناصر، بعد أن تسلم السادات الحكم وبدأت فكرة عودة الأحزاب وجد أن حزب التجمع هو الأقرب إليه، إذ يهتم بالعمال والفلاحين والطبقة المسحوقة (كما يقول)، وبدأ الحزب ينظم له جولات لزيارة فروعه في المناطق والأرياف ويلقي بها محاضرات، وقد جمعها في كتاب أسماه "العمل والعمال وموقف الإسلام منها" ضمن سلسلة "كتاب الأهالي"، وكانت دور النشر تعتذر عن نشر كتبه لما فيها من تضليل وهجوم على الإسلام ورموزه .
- كان من أوائل المؤسسين لفرقة "اليسار الإسلامي" عام 1396هـ قبل أن ينضم إلى حزب "التجمع اليساري" حيث أصبح أحد قادته، وأثارت كتبه ومعاركه فتنة كبيرة، فصودرت كتبه وكُفّر من قبل بعض العلماء، ومثل أكثر من مرة أمام نيابة أمن الدولة لأجل ذلك، وكانت آراؤه مضلِّلة ومناقضة للنصوص الشرعية وتفسيراتها ، ويكفي دلالة على انحرافه كونه أحد قادة "التجمع اليساري" الحزب العلماني الاشتراكي، وقوله إن أول من مارس الإرهاب هو خليفة رسول ا صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، لا لشيء إلا لأنه حارب المرتدين! هذا ما ذكره في كتابه "النص المؤسس ومجتمعه"، وقال فيه أيضاً: "القرآن ربَّى مجتمع الصحابة تربية فاسدة؛ لأنه كان يحابيهم ويدللهم ويربت على أكتافهم" كبرت كلمة تخرج من فيه، وفي كتابه "الإسلام بين الدولة الدينية والدولة الدنية".
- دعا إلى إحلال الديمقراطية -بالمفهوم الغربي العلماني- محل الشورى في النظام السياسي الإسلامي؛ لأن التمسك بالشورى " يساعد على تجذير الطيف السياسي وتكريسه واستشرائه وإضفاء سند شرعي عليه" !! هكذا قال .
- امتازت كتبه بالوقاحة والتطاول على صحابة رسول ا صلى الله عليه وسلم ، في محاولة ماركسية دنيئة لتشويههم أمام الأجيال حتى لا يكونوا قدوة - كما سيأتي إن شاء الله - .
- عندما احتفل المسلمون في مصر بمرور أربعة عشر قرناً على الفتح الإسلامي لمصر كتب هو مقالاً بعنوان "نعم للاحتفال بدخول الإسلام مصر، ولا للاحتفال بالقرد العربي" !! معتبراً أن الفتوحات الإسلامية لم تستهدف نشر الإسلام أبداً ، بل كان الهم الأكبر والأوحد لأصحابها هو قضم ثروات البلاد الموطوءة وهبشها وسبي نسائها وفرض الضرائب . وكل هذا وغيره ترديد لأفكار أعداء الملة من المستشرقين ومنها ما لا يفسر إلا بالحقد الأعمى وحب الضلال .
- ختم حياته بأفظع كتبه "النص المؤسس ومجتمعه"، وقبله أكثر من (12) كتاباً آخر، منها: الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية، العرب والمرأة، حفرية في الأسطير المخيم، العمل والعمال وموقف الإسلام منهم، نعم للشريعة لا للحكم، قريش من القبيلة للدولة المركزية، شدو الربابة في أحوال الصحابة، فترة التكوين في حياة الصادق الأمين، الأسس الفكرية لليسار الإسلامي، دولة يثرب: بصائر في عام الوفود وفي أخباره، الطائفية إلى أين (بالاشتراك مع فرج فودة ويونان لبيب)، مجتمع يثرب: العلاقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي"(1).
- للدكتور إبراهيم عوض كتاب نافع في الرد عليه بعنوان " اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسولل والصحابة " في 267صفحة . أنتقي منه التالي :
- يقول الدكتور إبراهيم : " الشيخ خليل عبدالكريم كاتب يساري معروف، وكان في كتاباته الأولى يسمي نفسه هو وأمثاله بـ"اليسار الإسلامي" مؤكداً أنهم هم وحدهم أصحاب الحق في النطق باسم الإسلام والدعوة إلى مبادئه، لكنني في ذات الوقت كنت ألاحظ أنه يلمز الإسلام من طرف خفي متظاهراً بأنه إنما يريد حمايته ممن ينتقدونه ويشنّعون عليه، ثم أسفر الرجل وأصبح يهاجم الإسلام ونبيه وصحابته على نحو مباشر " ( ص 5 ) .
- " يؤكد خليل أن الإسلام ليس شيئاً آخر غير العبادات والأخلاق، مضيفاً أن ميدانه الأصيل هو "المساجد والجوامع والتكايا والربط والخانقاهات والزاويا والمصليات والحسينيات والخلاوي وحضرات الصوفية وحلقات الذكر ومجالس دلائل الخيرات"، وواضح ما في هذه العبارة من تهكم واحتقار، إذ لا يصلح الإسلام في نظره إلا للدراويش والتنابلة والراقصين في حلقات الذكر الذين يسيل لعابهم على أشداقهم وقد غابوا عن الوعي أو انخرطوا في نوبات عصبية من نوبات التطوح والصياح " . ( ص 24 ) .
- " يؤمن بتاريخية النصوص وربطها بأسباب ورودها والزمن والمجتمع والبيئة التي انبعثت منها، وكذلك الظروف الجغرافية ودرجة التحضر التي كان عليها المسلمون في عصر النبي ومستواهم الثقافي " . ( 28 ) .
__________(52/168)
(1) مجلة أدب ونقد ع 203 (يوليو 2002م) ص82، 95، جريدة الجزيرة (11/2/1423هـ، جريدة (الوطن السعودية) 4/2/1423هـ، مجلة تشرين الأسبوعي الثقافي ع 209(29/4/2002م ) . نقلا بتصرف عن الأستاذ محمد خير يوسف - وفقه الله - .
- يدعي " أن الأمية المذكورة في القرآن لا تعني الجهل بالقراءة والكتابة بل يُقصد بها الإشارة إلى الأمم الأخرى من غير اليهود، أي الأمم التي لم ينزل عليها كتاب سماوي، ومقصده من هذا القول أن الرسو صلى الله عليه وسلم كان يستطيع القراءة والكتابة، ومن ثم كان مطلعاً على التراث الديني عند أهل الكتاب وأفاد منه في القرآن الذي ألّفه وادّعى أنه نزل عليه من عند الله " . ( ص 30 ) .
- " في كتابه "مجتمع يثرب -العلاقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي" يستفرغ خليل عبدالكريم كل وسعه في محاولة تلطيخ سمعة الصحابة رجالاً ونساء باتهامهم بالشبق الجنسي وبالزنا، الذي يتوقح فيلمز الرسو صلى الله عليه وسلم من طرف خفي بأنه كان يسهل أمره ويخترع الوحي من أجل ذلك " !! " فهو يريد أن يقول إن القرآن والأحاديث لم يستطيعا أن يغيرا شيئاً في المجتمع العربي لأن الظروف المادية لم تتغير في عصر الرسول عنها في العصر الجاهلي ". ( ص 71-72 ) .
- " إن خيال الكاتب الجانح يسوّل له أن المسلمين الأوائل لم يكن لهم ما يشغلهم إلا الجنس، وكأنهم كانوا يعيشون في جنة وفيرة الثمار جارية الأنهار وارفة الظلال، فلا حاجة بهم من ثم إلى عمل أو كدّ أو كفاح في سبيل لقمة العيش، أو كأنهم لم يكن يحيط بهم الأعداء المتربصون من كل جانب فلا غزوات ولا حروب، أو كأنهم لم يكن عليهم أن يحفظوا القرآن ويدرسوا الإسلام ويصلوا ويصوموا ويحجّوا! أين مثل ذلك المجتمع يا ترى إلا في الخيالات المريضة؟ " . ( 78) .
- يقول الدكتور إبراهيم مخاطبًا خليل عبدالكريم : " إن الأمثلة التي أخذت تتقمّمها من هنا وههنا بتلذذ غريب ومريب هي أمثلة معدودة، وبعضها تكرره بطريقة توحي أنها أمثلة أخرى، وكثير منها لا عيب فيه إلا في العقول والنفوس غير السوية التي لا تجد في الورد عيباً فتقول له: "يا أحمر الخدين"! " . ( ص 83) .
- "يدعي بكل برود أن دعوة الإسلام، رغم كل مزاعم الإعجاز للنصوص التي أتت بها كما يقول، لم تستطع أن تصنع شيئاً أمام تيار الجنس والزنا الكاسح في مجتمع المدينة (والمجتمع العربي بوجه عام)، لأن النصوص مهما قيل في إعجازها لا تؤتي ثمرتها إلا إذا تغيرت عوامل الإنتاج وأساليبه، وهذه من دعاوي الشيوعية، التي لا تعترف إلا بشيء واحد هو العامل الاقتصادي، وكأن البشر لا يعملون إلا من أجل المال، والمال وحده، فلا حب ولا غيرة من الرجل على زوجته وأمه وبنته وأخته ولا جهاد في سبيل الله والوطن ولا تطلع إلى ثقافة ولا تذوق لمنظر جميل..إلخ أليس هذا عجيبا؟ إن على الباحث الذي يتمسك بالمنهج العلمي أن ينحّي نفسه وأشباهه وميولهم عن مجال بحثه حتى لا يتأثر بشيء من ذلك. وإذا كان الشيوعيون لا يرون في الدنيا شيئاً غير الفلوس، إذ هي في نظرهم المادي الشديد الضيق محركة التاريخ، ولا شيء يتم إلا بها، فهناك بشر كثيرون تحركهم دوافع أخرى أيضاً أرقى من الفلوس، وينبغي على الشيوعيين أن يضعوا هذا في الاعتبار عند دراستهم المجتمعات الإنسانية، وبخاصة بعد أن ثبت فشل نظريات كارل ماركس منذ البداية وانهار الاتحاد السوفييتي بعد سبعين عاماً فقط من قيام الثورة الشيوعية الكبرى في روسيا (وهذه الفترة في تاريخ الدول تقابل مرحلة الرضاعة في عمر الكائن البشري، أي أن الاتحاد السوفييتي قد مات وقُبر قبل أن يتم فطامه) بيد أن الشيوعيين للأسف لم يتغيروا، ولا أظنهم سيتغيرون " . ( ص 85-86) .
-" يحاول خليل عبدالكريم في كتابه "قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية" أن يقول إن الأمر بالنسبة ل صلى الله عليه وسلم لم يكن أمر نبوة بل أمر زعامة ورئاسة، فهو ليس أكثر من حلقة في سلسلة تنتظم أجداده قُصيّا وهاشماً وعبد المطلب، الذين كان كل منهم حاكماً على مكة وزعيماً لقريش وعمل على أن يجعل لها الزعامة على العرب كلها فلم يوفِّق إلى هذه الغاية، إلى أن جاء محمد فكان أحسن منهم حظاً، إذ استطاع أن يحقق ما لم يستطيعوه، وأسس الدولة القرشية التي كانوا يصبون إلى إقامتها ". ( ص 127) .
- " في كتابه "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية"، وهو الكتاب الذي يحاول فيه أن يثبت أخذ النبي عليه السلام دينه من عرب الجاهلية، ومن ثم فلا بد أن يكونوا قوماً مثقفين متحضرين حتى يسوغ هذا الاتهام الذي يوجّهه ل صلى الله عليه وسلم " . ( 184) .(52/169)
- يختم الدكتور إبراهيم كتابه بقوله : " إن هناك شيئاً يحيك في صدري بخصوص هذه المقالات والكتب التي طلع بها علينا فجأة سيدنا الشيخ ! بعد أن كبر، وبخاصة أنها تقوم على اصطياد الأخبار والروايات التي لا يكاد يعرفها إلا الذين يطلبونها طلباً ويفتشون عنها وينقّبون في بطون الكتب القديمة عمداً مع سبق الإصرار بهدف الكيد بها للإسلام والتشنيع عليه، وهم طائفة المستشرقين، فكيف يسهل على النفس أن تصدق أن ذلك من عمل سيدنا الشيخ؟ إن هذا شيء أحسه إحساساً، وأدع للدارسين من بعد أن يوالوا البحث فيه" . ( 264) .
- قلت : وللدكتور سامي عصاصة كتاب في الرد على خليل بعنوان : ( رد على حاقد آخر على الإسلام ) :
يقول فيه ( ص 5 ) : " من الكتب الخطيرة التي صدرت حول صلى الله عليه وسلم كتاب للباحث الأستاذ المحامي خليل عبدالكريم، العضو الرئيس في التجمع التقدمي الوحدوي عنوانه: "فترة التكوين في حياة الصادق الأمين" والعنوان يفسر نفسه بشكل تلقائي، فهو يبحث في الظروف التي رافقت، بل أحاطت بالأحداث التي عاشها في مطلع حياته الصادق الأمين أيمحمد صلى الله عليه وسلم .
- لقد نشر خليل أكثر من كتاب مهد بها للأفكار الجريئة التي أفصح عنها في كتاب "فترة التكوين" مثل: "قريش، من القبيلة إلى الدولة المركزية". و"الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية" حاول فيها ترسيخ الانطباع لدى القارئ بأن بعض التشريع الإسلامي أو كله مستمد من الحضارات القديمة أو هو من صنع الحكماء والشعراء المفكرين مثل قس بن ساعدة وزهير بن أبي سلمى وأمية بن أبي الصلت قبل الإسلام، وفي كتاب آخر له بعنوان: "شدو الربابة في مجتمع آل الصحابة" يأتي بتحليلات وأقاصيص تفكك بنيان سمعتهم وتسيء إلى ذكراهم " .
- " يمكن تلخيص أهداف خليل عبدالكريم بأن خديجة رضي الله عنها وورقة بن نوفل هما اللذان صنعا محمدًا r. وهما من البشر، وهذا ينفي فكرة الوحي الإلهي " . ( ص 129 ) .
- وقد كتب الأستاذ بدر الشبيب موجزًا بأهداف كتبه ، فقال :
" أولاً : كتاب ( للشريعة لا لتطبيق الحكم) :
وهذا الكتاب يقوم على فكرة واحدة أساسية ، هي أن تطبيق الشريعة الإسلامية ، لم يعد صالحًا في هذا العصر ، لأن هذا التطبيق سوف يجر علينا ، من المشاكل ما لا حصر لها . ومع أن الإسلام ، وكما جاء في القرآن العظيم ، هو الدين الخالد ، الذي يصلح للبشر كافة ، ويصلح في كل زمان ومكان ، إلا أن خليل عبد الكريم ، له رأي آخر ، فهو يقول بالحرف :" إن الإسلام ليس عبادات فقط ، بل هو أيضًا تشريعات وعقوبات ونظام سياسي " ، وهنا الخطورة من وجهة نظره ، إذ يرى أن تطبيق الشريعة ، سوف يؤدي بنا إلى أضرار ، تفوق بمراحل الأضرار ، التي تترتب على إهمالنا لتطبيقها . وتلك هي دعوة العلمانيين واللادينيين ، الذين يفضلون القانون الوضعي على الشريعة الإسلامية .
ثانياً : كتاب ( الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية) :
وهذا الكتاب ، يعتبر استكمالاً وتأصيلاً للكتاب الأول ، إذ أنه ينطلق من نفس الفكرة ، التي ترفض الشريعة الإسلامية ، وترفض تطبيقها ، وهنا يقول خليل عبد الكريم :
" إن هذه الشريعة التي ينادون بها ، هي مجرد تعاليم ، كان يقول ويأخذ بها عرب الجاهلية ، ثم جاء محمد ، فأخذ هذه التعاليم ، وأعمل فيها عقله وفكره ، حتى بدت وأنها شيء جديد ".ولهذا فإن السؤال الذي يطرحه خليل عبد الكريم ، هو : هل تصلح هذه التعاليم ، التي كان يطبقها بدو الصحراء ، قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا ، لكي تحكمنا اليوم ؟! على أن ما هو أخطر من هذا السؤال ، ما معناه وخلاصته ، أنه ليس ثمة شيء منزل من السماء ، بل إن الأشياء كلها من صنع نبينا محمد " r " … !!
ثالثاً : كتاب ( الأسس الفكرية لليسار الإسلامي) :
وفى هذا الكتاب ، يقول خليل عبد الكريم صراحة : إن الإسلام ليس شيئًا غير العبادات .مع أن طلبة المراحل التعليمية الأولى ، يعرفون أن الإسلام يقوم على دعامتين ، هما : العبادات ، والمعاملات .ومعنى هذا أن الإسلام دين للعبادة ، وليس دينًا للحياة . إنه يحصر وظيفته في دور العبادة ، أما شؤون الناس وتصريف حياتهم ، فليس للإسلام شأن بها . وهنا نعود إلى مقولات المغرضين ، الذين يقولون إن الإسلام ، ليس دينًا ودولة ، بل هو دين فقط .(52/170)
رابعًا : كتاب ( مجتمع يثرب .. العلاقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي) : وهذا كتاب مَعيبة ، لأنه يشوه الإسلام في أعظم عصوره ، أي في مرحلة النبوة ، وصدر الإسلام ، والخلفاء الراشدين . وسوف يلاحظ القارئ ، في اللحظة الأولى ، أن الكاتب يستخدم ، كلمة ( يثرب ) ولا يستخدم اسم ( المدينة ..... ) علمًا بأن الاسم الأول ، قد نسخه الإسلام ، وألغاه صلى الله عليه وسلم ، وأطلق عليها هذا الاسم الجديد الجميل . ولكن ليست هذه هي المشكلة في هذا الكتاب ، ولكن المشكلة ، هي في الدراسة الاجتماعية المزعومة ، التي قدّمها ، والتي شوه بها ، ومن خلالها ، أعظم المجتمعات وأعظم العصور وأعظم الشخصيات ، حين نكتشف ، أن المجتمع في مدينة رسول الله " r ، وهو المجتمع الذي أقام دولة ، ونشر دينًا ، هذا المجتمع ورجاله ، لم يكونوا مشغولين بشيء ، قدر انشغالهم بالمرأة والجنس معًا !!
خامساً : كتاب ( قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية) :
وهذا الكتاب ، ينزع فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم صفات الرسالة والنبوة والوحي جميعًا ، إذ يحاول المؤلف أن يثبت ، أنه ليس هناك شيء من هذا كله ، ولكن الأمر كان ينحصر في رغبة قريش ، في أن تقيم دولة ، وأن تسود على القبائل العربية ، في شبه الجزيرة وما حولها . وقد تم هذا وفق تخطيط محكم قام به رجل داهية ، هو جدّ النبي ، r ! وهو عبد المطلب الذي جاء بحفيده " محمد " r ، ولم يكن أقل منه ذكاءً ، وصنع منه حاكمًا ومؤسسًا لهذه الدولة . لقد أراد عبد المطلب ، أن " يصنع " ملكًا فصنع نبيًا ، أي أن الحكاية كلها هي الحكم ، وهي السيطرة ، وهي السيادة إلى جوار ملوك وأباطرة ، يحيطون بقبائل العرب ، ابتداء من كسرى حتى هرقل .
سادساً : كتاب ( شدو الربابة بأحوال الصحابة ) :
وهذا كتاب لا يقل سوءًا ، إن لم يزد عن الكتب السابقة ، وهو أيضًا يأتي استكمالاً لكتابي مجتمع يثرب ، وقريش القبيلة والدولة . وفي هذا الكتاب الجديد ، يعرض المؤلف لأحوال صحابة رسول الله ، فيقول فيهم كلامًا ، لم يرد في كتب السيرة ، ولا في كتب التاريخ ، ومنه أن رسول الله ، r ، كان يختلي بالصحابي الجليل سلمان الفارسي ، لأيام طويلة لكي يأخذ منه ، ويتعلم على يديه ، لأن سلمان ، فيما يقال كان من كبار مثقفي عصره ، وكان عالمًا بالعقائد والأديان ، وكان يحيط بالمذاهب المختلفة . وقد جلس صلى الله عليه وسلم بين يديه ، كما يجلس تلميذ بين يدي أستاذه ، ليتعلم منه كل الأسس والقواعد والتجارب والتواريخ والسير ، التي استفاد منها النبي بعد ذلك في رسالته الإسلامية المحمدية
سابعًا : كتاب ( فترة التكوين في حياة الصادق الأمين) :
وهذا هو آخر كتب ، خليل عبد الكريم ، ولعله من أخطرها جميعًا . ويقوم هذا الكتاب على فكرة واحدة أساسية ، هي أن نبينا صلى الله عليه وسلم ليس نبيًا !! ولكنه تلميذ عبقري ، لمجموعة من الأساتذة هم : السيدة خديجة ، وابن عمها ورقة بن نوفل ، وبقية أفراد الأسرة وهم : ميسرة ، والراهب بحيرا ، والراهب عداس ، والبطرك عثمان بن الحويرت! ولقد قامت هذه المجموعة على " صناعة " هذا صلى الله عليه وسلم ، بعد أن عكفوا على تعليمه ، لأكثر من خمسة عشر عامًا ، حفظ فيها كتب الأولين والآخرين ، وعرف التوراة والإنجيل ، والمذاهب والعقائد ، وانتهى هذا كله بنجاح " التجربة " أي الرسالة ، وصنع هذا العبقري ، الذي أصبح نبيًا ، ووضع كتاب حيّر العاملين ، على امتداد القرون هو القرآن الكريم ! " .
يضاف على ماسبق :
- يقول خليل في كتابه : " الأسس الفكرية لليسار الإسلامي " ( ص 11 ) :
" نحن نؤمن بتاريخية النصوص وبربطها بأسباب ورودها وبالفترة الزمنية التي ظهرت فيها وبالبيئة التي انبعثت منها وبالمجتمع الذي ولدت فيه، بل وبالظروف الجغرافية التي واكبتها بالدرجة الحضارية للمخاطبين بها وبمداهم المعرفي وأفقهم الثقافي مع الوضع في الاعتبار أن النصوص ذاتها ذكرت صراحة أنها تتوجه إلى أمة أمية " .
- ويقول ( ص 17 ) عن الخلافة وتحكيم الإسلام : " إنه ليس فرضاً دينياً ولو كان كذلك لما استطاع أتاتورك إلغاءه لأن الغازي لم يلغ رسماً من رسوم الإسلام مثل الصلاة والصيام والحج " !!
- ويقول ( ص 45) : " إن كل من قرأ تاريخ مصر منذ غزتها جيوش الفتح العربي الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص، تأكد لديه أن الفتنة بين المسلمين والقبط لا تستيقظ وتطل بوجهها الكئيب الكالح إلا بفعل مؤثرات خارجية، لأن المصري صاحب أعرق حضارة عرفها التاريخ -ومهما كان نصيبه من التعليم- يدرك في أعماق نفسه أن الدين مسألة ذاتية لا علاقة ولا تأثير ولا فعالية لها في مجال التعامل مع الآخرين " .(52/171)
- ويقول في كتابه " مجتمع يثرب " ( ص 89 ) مصرحًا بهدفه من الهجوم على الصحابة رضي الله عنهم : " إن هذا الضرب من الدراسات والبحوث الذي ندعو إليه بكل ما نملك من قوة سوف يؤدي بطريق الحتم واللزوم إلى تفكيك "القباب المقدسة" قداسات زيوف والتي تخيم على العقل العربي (بما فيه المصري) منذ قرون فتحجب عنه الهواء النقي والشمس الساطعة وإلى كسر القيود التي تكبله وتمنعه من الانطلاق إلى الآفاق الرحيبة والفضاءات غير المحدودة التي تسبح فيه عقول الآخرين وإلى تسليط الأنوار الكاشفة على "النصوص" لتُعرف على حقيقتها، وساعتها ينعتق المخاطبون بها من هيمنتها وتسلطها عليهم في كل مناحي حياتهم حتى عندما يدخلون أماكن قضاء الحاجة!!!وإلى تعرية رموز كبيرة الشأن رفيعة المقام ونزع الهالات المصطنعة التي أحاطوها بها وعرضها بالصورة الحقيقية الواقعية بلارتوش كما هي مرسومة في كتب التراث بعد إقصاء التزويقات والتجميلات التي أشرنا إليها فيما سلف، وساعتها سوف يصيح من "يعاينها على الطبيعة" :كم كنا مخدوعين!! " .
- ويقول في كتابه : " الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية "( ص 130 ) : " إن القبائل العربية وقت المبعث بتقاليدها وأعرافها ونظمها وشعائرها هي المسودة أو البروفة أو التجربة للإسلام والشريعة الإسلامية "!
- ويقول مبينًا هدفه من فريته السابقة ( ص 131) : " إن دراسة القبائل السابقة عن طريق ما كتب عنها في مختلف المجالات وفي الآثار التي خلفتها على قلتها والقبائل الحالية ومالديهما من أعراف وتقاليد ونظم وعادات، هذه الدراسة سوف تضع أيدينا على إجابات لكل الأسئلة والمشاكل التي تصرفنا عن تدبر حاضرنا ومستقبلنا وتدفعنا إلى الانشداد إلى الماضي الذي لن يعود والتي يفجِّرها الدعاة مثل: الحجاب والنقاب وعمل المرأة وحبسها في البيت والفصل بين الجنسين في معاهد التعليم ومنعن الآلات الموسيقية خلا الدف والذهاب إلى الجامعة على ظهر ناقة والذهاب إلى قضاء الحاجة في الخلاء الصحراء في جماعة متشابكة الأيدي، والاستجمار بثلاثة أحجار بدل الماء بشرط ألا يكون من بين تلك الأحجار روثة لأن استخدامها في الوقود أجدى وأنفع ولا عظمة لأنها طعام إخوتنا الجن، وتحريم الفنون الجميلة: الموسيقى، المسرح، السينما، الأوبرا، ...الخ لبس شورت الرياضة للرجال تحت الركبة حتى لا تظهر العورة التي تبدأ من السرة حتى الركبتين، ولعب الفتيات الرياضة في الخفاء بعيداً عن عيون الناظرين وتحريم فوائد المدخرات والأنشطة المصرفية ما لم يتغير اسمها إلى عوائد أو أرباح أو منح من الدولة في حالة شهادات الاستثمارعندئذ سوف تنقلب من سحت إلى حلال سائغ وإلى أن استبدال الأعضاء المريضة أو عمل غسيل للكبد أو الإدخال لغرف الإنعاش أو العناية المركزة أو إجراء عملية جراحية كل هذا حرام لأنه يهدف إلى إطالة عمر المريض ويناقض إرادة الرب الذي حكم عليه بهذه العلل ليقبض روحه، وضرورة سفر ذي رحم محرم مع المرأة التي تسافر لأبعد من مسافة قصر الصلاة...الخ ..الخ.
إننا إذا توصلنا بطريقة علمية منهجية إلى أن كل هذه القيود التي يتمسك بها الدعاة ويصرون على تطبيقها إنما هي في أصلها أعرف قبلية لها تاريخ مسطور استخرجه العلماء من بطون الكتب مختلفة الأنواع والآثاريون من الحفريات التي قاموا بها في مواطن القبائل العربية وعلماء الاجتماع من اختباراتهم للممارسات اليومية التي تصدر من أفراد القبائل التي تعيش معنا اليوم والتي تمثل المخزون الحي للأنظمة العتيقة التي توارثها جيل عن جيل خاصة ما كان من تلك القبائل من يتواجد في أماكن شبه منعزلة يجعل تأثرها بالتطورات الحديثة شبه معدوم نقول إذا ثبت ذلك كله حُق لنا أن نعيد النظر في تلك القيود التي يريدون أن يكبلوا بها حركتنا إلى الأمام ويكون من السائغ بحثها وتمحيصها من منطلق شهادة المنشأ الخاصة بها والتي توصل إليها العلماء عن طريق دراساتهم الجادة ".
خليل عبدالكريم يجمع بين الاشتراكية والتشيع الرافضي !!
قلت : ومما لا يعرفه كثيرون أن خليل عبدالكريم أبان عن تشيعه ورافضيته التي تناقض هجومه على جيل الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - ، وإلا فلماذا يستثني علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - دون غيره ، ويكيل له المدح ؟!
فقد ألف خليل لهذا الغرض كتابه " إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " ، وتطاول - أخزاه الله - على الصحابة بكلمات سوء ، أنقل شيئًا منها ليعرف القارئ مدى الغل الذي يحمله هذا الرافضي الوقح ، مع الاعتذار لكل من تؤذيه هذه العبارات التي مانقلتها إلا لكشف حقيقة الرجل :
- يقول الخبيث عن عائشة- رضي الله عنها - (ص 30) : " من المعلوم أن التيمية بنت عتيق بن أبي قحافة هي الضلع الأول: أما الثاني فهو طلحة بن عبيد الله وثالثهم الزبير بن العوام . ومن عجائب التاريخ أن هذا الثالوث غير المقدس دأب على التحريض على الخليفة الثالث الأموي عثمان بن عفان والتحريض على قتله" .(52/172)
ويقول - قبحه الله - ( ص 42-43) : " العدوية (عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل.. كانت عند عبدالله بن أبي بكر بن أبي قحافة ومات شهيداً في حصار الطائف، فتزوجها عمر بن الخطاب فلما قتل عمر خطبها طلحة ابن عبيد الله فمشى في أمرها هبّار بن الأسود فأفسد عليه فتزوجها الزبير بن العوام.
وبعده تزوجها محمد بن أبي بكر فخرجت معه إلى مصر فقتل ومثل به فتزوجها عمرو بن العاص، وهذا العمرو له يد طولى في قتل محمد بن أبي بكر والتمثيل بجثته بيد أن العربة -رجالاً ونساءً- لا يعرفون فضيلة الوفاء والإخلاص بل يتصفون بالخساسة والجبانة ، ودليله أن العاتكة العدوية أو العدوية العاتكة لم تر أي بأس في الزواج بالسفاح الذي ساهم في نحر حليلها السابق ولا مشاحة أن النكاح المنحوس تم في اليوم التالي مباشرة لانقضاء عدتها.
وما لنا نلومها على فعلتها فابن عمها وأحد بعولها العدوي ابن الخطاب اقترح على التيمي عتيق الخليفة الأول حرق بيت فاطمة بنت محمد سيدة نساء العالمين لأن شيعة الإمام علي اتخذوه مقراً لاجتماعاتهم " .
- ويقول - عامله الله بعدله - ( ص 108) : " إن غالبية رموز تلك الحقبة أضيفت إليها قداسات زيوف وأضفيت عليها هالات متخيلة وأن التاريخ الذي حملته مصنفات السير والطبقات..الخ، التي لا مطعن عليها يناقض الصورة المزورة التي يرقش بها كتبهم الطبالون والزمارون والمداحون " .
- ويقول عن عمر و المغيرة بن شعبة - رضي الله عنهما - ( ص 109 ) : " وأختم مقالي بمسألة حيرتني ووقفت عندها ملياً هي أن هذا المغيرة الشبق بشهادة صديقه العدوي والذي شهد عليه ثلاثة أحدهم صحابي والذي حصر همه في مفاخذة النسوان حتى ضرب الرقم القياسي في هذا المضمار -هذا الذرائعي الذي وظّف دهاوته في جر النفع لنفسه حتى باستعمال الرشوة المحرمة في كل الأديان والعقائد والملل والنحل، هذا (الصحابي الجليل) كما لا يزال يصفه التفخيميون والتعظيميون يحمل بعض دواوين السنة ذات المقام المحمود لدى أهل السنة والجماعة عدداً من رواياته لأحاديث المصطفى عليه السلام " .
رضي الله عن الصحابة أجمعين ، وخيب الله شانئهم في الدنيا والآخرة .
أخيرًا :
للدكتور سليمان العنقري مقال - في حلقتين - يرد فيه على أفكار خليل عبدالكريم ، في صحيفة الجزيرة ( عدد 11052) .
للأستاذ صلاح الزيات بحث على الشبكة في نقد كتاب " النص المؤسس ومجتمعه " لخليل عبدالكريم ، بعنوان : " الوعد المنجز في نقد النص المؤسس " ، تجده على هذا الرابط : http://www.saaid.net/book/open.php?cat=88&book=1630
=================(52/173)
(52/174)
نظرة شرعية في فكر : حسين أحمد أمين
" هو ابن الكاتب والمؤرخ أحمد أمين، ولد بالقاهرة في 19 يونيو 1932م، تخرج في كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1953م، ثم درس الأدب الإنجليزي بجامعة لندن، تنقل في أعمال كثيرة منها المحاماة والإذاعة والسلك الدبلوماسي المصري الذي وصل فيه إلى درجة سفير سنة 1986م، وهو كاتب نشط ساخر سليط اللسان، له العديد من المقالات والبحوث المنشورة في المجلات العربية، كمجلة (العربي) و(الثقافة) و(الرسالة) و(روز اليوسف)، ومن مؤلفاته: (معضلة الرجل الأبيض) و(الحروب الصليبية في كتابات المؤرخين والعرب المعاصرين).
انظر: غلاف كتابه " دليل المسلم الحزين"، و " العقلانية هداية أم غواية " لعبدالسلام بسيوني ، ص 131-132.
- قال الدكتور مفرح القوسي عنه في رسالته " الموقف المعاصر من المنهج السلفي " ( ص 419-426) :
" هو أحد دعاة العلمانية المعاصرين المتحمسين لنشر مبادئها بين المسلمين، ومن أشهر المعادين للاتجاهات الإسلامية عامة؛ والسلفية منها بوجه خاص، ولا سيما في كتابيه (دليل المسلم الحزين) و(حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية) اللذين هاجسه الأساسي فيهما: أن أمة المسلمين في عصرنا الحاضر أمة متخلفة، وسر ذلك التخلف -عنده- هو يد الماضي الميتة التي تكبل أعناق المسلمين، ويد الماضي هي منهج السلف والسنة النبوية التي نسبها الفقهاء -كذباً على حد زعمه- إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ليضفوا على أفكارهم الشخصية صفة مقدسة تضمن لاجتهاداتهم الرواج. وحيث إن النسخ وقع في القرآن فإن على المسلمين أن يطوروا دينهم بما يوائم معطيات العصر، حتى لو أدى بهم ذلك إلى الخروج على نصوص قرآنية قطعية الدلالة، فالمهم: استلهام روح الإسلام لا النصوص التي نزلت لمعالجة أوضاع خاصة بالمجتمع البدوي في شبه جزيرة العرب في العهدين النبوي والراشدي، ولذا يُطالب بإلغاء الحدود الشرعية وإقرار عقوبات عصرية تناسب أحوال القرن العشرين.
ويمكن تلخيص أهم أفكاره فيما يلي:
أولاً: الحط من قدر السلف الصالح ومنع الاقتداء بهم، فنراه يعقد في كتابه (حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية) فصلاً بعنوان (تأملات في حقيقة أمر السلف الصالح) يسعى فيه إلى الحط من قدرهم -رحمهم الله- والنيل من مكانتهم لدى المسلمين، والطعن في صحة المصادر الإسلامية التي تُشيد بصحة منهجهم وحسن سيرتهم وتمسكهم بدينهم، ويعد الإشادة بمناقبهم في المصنفات الإسلامية تصويراً رومانسياً خيالياً بعيداً عن الموضوعية، ويرد هذه النظرة الرومانسية إلى أسباب عدة منها:
1-"اضطرار المؤرخين إلى تبني موقف من أحداث الماضي شبيه بموقف الفقهاء منها؛ بسبب انتصار الأخيرين عليهم في الحرب التي قامت بينهما -على حد زعمه- فأضحى الهدف من الكتابات التاريخية هو الهدف الذي حدده الفقهاء للمؤرخين، ألا وهو أن يكون علم التاريخ وأدب التراجم وسيلة من وسائل غرس القيم الدينية والمبادئ الأخلاقية الرفيعة والمثل العليا، لا تسجيل الحقائق بأكبر قدر مستطاع من الموضوعية بعد تمحيص ما تجمع منها لدى المؤرخ"(1)، ويستطرد فيقول: "ومن هنا بدأت تتكون نظرة المسلمين الرومانسية إلى تاريخهم وأبطال ماضيهم، وأضحت للحقيقة التاريخية مكانة تقل في الأهمية بكثير عن هدف تعزيز الإيمان والوعظ وبيان نماذج السلوك التي ينبغي على المتقين أن يحذو حذوها أو يتجنبوها، وكانت ثمرة ذلك أن بات المسلمون ينظرون إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز مثلاً على أنه من أعظم خلفاء الإسلام لمجرد ورعه وتقواه وموقفه العادل من العلويين وبني هاشم، في حين لم تجلب السياسة المالية والإدارية لهذا الخليفة غير خراب الدولة، ولا يزال المسلمون إلى يومنا هذا يمصمصون شفاههم إعجاباً بموقفه من واليه على حمص الذي كتب إليه: " إن مدينة حمص قد تهدم حصنها، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في إصلاحه" ، فرد عليه عمر بن عبد العزيز بقوله: (أما بعد فحصنها بالعدل والسلام)، وهو رد -رغم ما فيه من بلاغة تستهوي العرب- يستوجب المؤاخذة البرلمانية في أي نظام حكم ديمقراطي"(2).
2-"طبيعة تكوين العقلية العربية الإسلامية، فالمعروف عند العربي اتجاهه إلى اتخاذ مواقف عقلية متطرفة من الناس والعالم والأحداث حوله، وإلى النظر إلى كل ما يصادفه وكل من يلقاه بمنظار لا يرى من الألوان غير الأبيض الناصع أو الأسود القاتم، دون الفروق الدقيقة في الأفكار والألوان والظلال، ولا يعبر عن رأيه إلا في صيغة منتهى التفضيل، ولا يرتاح خاطره إلا إن تطرف في أحكامه، فالشيء عنده إما ممتاز أو فظيع، والعمل الفني إما أكثر من رائع أو في منتهى السوء، والرجل إما ملاك كريم أو شيطان رجيم"(3).(52/175)
3-"شغف العربي بالأوضاع والأشكال المثالية، حتى مع إدراكه في قرارة نفسه أنها تناقض الواقع وتخالف الحقيقة وطبائع الأشياء، وهو واجد في هذه الصورة المثالية ما يرضي حاسته الجمالية إرضاء لا توفره فوضى الواقع الذي يعيش فيه وتعقده… وقد كانت تعاسة غالبية أفراد المجتمعات الإسلامية أحد الأسباب الرئيسة في اختيارهم الهرب إلى الماضي، علّهم يجدون في أمجاده تعويضاً عن واقعهم البائس"(4).
ويستكثر حسين أمين أن يكون للأمة الإسلامية سلف صالح، وينسب إلى الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه خامس السابقين إلى الإسلام وعاشر المبشرين بالجنة أنه لم يكن يُحسن الصلاة ويُفطر في نهار رمضان. ويصف حسين أمين الأئمة والفقهاء بـ(اللؤم وقلة الأمانة)، ويصنفهم ضمن صنف الجبناء، ويتحدث عن مجتمع المسلمين بحسبانه أرض النفاق في عنوان بارز(5).
ثانياً: وَصْم المنهج السلفي بالجمود وضيق الأفق، فنجده يصف منهج السلفيين الذين رفضوا التحايل على الأحكام الشرعية، أو التلاعب بنصوص القرآن الكريم، يصفه بالجمود الفكري والسطحية وضيق الأفق(6). ويقول: لكي تسير سفينة العالم الإسلامي لابد من إلقاء الجثث منها، وأضخم هذه الجثث وأشدها تعفناً هي قبول المسلمين بتمكين يد الماضي الميتة من القبض على أعناقهم، وبتحكم قيم هذا الماضي ومعتقداته في حاضرهم ومستقبلهم(7).
ثالثاً: معاداة الاتجاهات الإسلامية السلفية المعاصرة، فنراه يقول مهاجماً ومعنفاً: "تظهر جماعات دينية تطالب بالعودة إلى سنن السلف الصالح وتطبيق الشريعة، وهي لا تعلم شيئاً عن تاريخ أمة المسلمين، ولا عن تاريخ موضوع تطبيق الشريعة، ولم يرضها مدى تمكن الماضي من أنفسنا، بل تصر على أن يكون لهذا الماضي الهيمنة الكاملة على سلوكنا ومعتقداتنا ومقدراتنا، قاصرة حق التفكير على الأموات، وآبية على نفسها وعلى الغير حق التجديد والابتداع، … وكيف يسعني أن أصفح وأغتفر إذ أرى فريقاً قوياً من متخلفي العقول يقودهم أفراد من المرتزقة الخبثاء أو من المجانين؛ يسعى في نجاح إلى الرجوع بالأمة الإسلامية مئات السنين إلى الوراء، وإلى وأد كل فكر حر وكل بحث مخلص عن الحقيقة"(8).
__________
(1) … حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ص 268 بتصرف يسير.
(2) … المرجع السابق.
(3) … المرجع السابق ص 270.
(4) … المرجع السابق ص 271 - 272.
(5) … راجع المرجع السابق في الصفحات : 274 - 275، 203 - 207، 217 - 218. ودليل المسلم الحزين ص 126 - 133.
(6) … انظر: حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة ص 214 - 215.
(7) … انظر: دليل المسلم الحزين ص 4.
(8) … حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة ص 209، ودليل المسلم الحزين ص 7 - 8.
ونراه يعنف بشباب الصحوة الإسلامية ويصفهم بالمتطرفين لاطلاقهم اللحى، وارتداء بعضهم الجلابيب، وارتداء نسائهم النقاب، ولاقتناعهم بتحريم الموسيقى والغناء واقتناء الصور، وضرورة الأكل باليمين، وكراهية شرب المسلم وهو قائم، ولحرصهم على أداء الصلاة جماعة في المسجد، وقراءة صحيح الإمام البخاري(1).
رابعاً: اتهام علماء الأمة وفقهائها بوضع الأحاديث واختلاق الأسانيد، فهو يدعي أن أتقياء المسلمين وفقهاءهم في عصور الإسلام المتقدمة كانوا يتساهلون بوضع الأحاديث التي من شأنها خدمة الإسلام وتعزيز الفضائل والإيمان، وأنه "لم يكن المعيار عندهم هو صدق نسبتها إلى رسول الله أو كذبها، وإنما المعيار هو مدى اتفاق مضمونها مع تعاليم الدين"(2). ويزعم أنهم لما أفزعهم الكذب على الرسو صلى الله عليه وسلم أرادوا محاربة هذا الكذب فوضعوا أحاديث تحرم الكذب علي صلى الله عليه وسلم ، أي: أنهم أرادوا أن يحاربوا الكذب فكذبوا ووضعوا أحاديث في ذلك، ويضرب مثلاً لذلك بحديث (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار(3))(4)، علماً بأنه من الأحاديث المتواترة، وقد رواه أكثر من ستين صحابياً(5)، ولم يستطع حتى الوضاعون نفيه، وإنما حاولوا صرف مدلوله عنهم؛ بزعمهم أنهم لم يكذبوا عليه وإنما كذبوا له. ويقول أيضاً: "ظل الفقهاء دوماً يُعملون فكرهم ويصلون إلى الرأي بالاجتهاد، غير أنهم صاروا إذا أرادوا الخروج به وتدريسه يلجأون إلى وضع الأحاديث، أو تفسير الأحاديث القائمة تفسيراً يوافق رأيهم؛ حتى يلقى الرأي قبولاً لدى العامة وأولي الأمر، وحتى يخرسوا المعارضين"(6).(52/176)
ولم يكتف حسين أمين بذلك، بل شكك في أمانة الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، وأومأ إلى اتهامه بوضع الأحاديث واختلاقها على النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال بعد ذكره تورع بعض كبار الصحابة عن رواية الأحاديث النبوية خشية التقديم أو التأخير فيها أو الزيادة أو النقص: "بيد أن سائر الصحابة ما كانوا جميعاً كهؤلاء النفر، فأبو هريرة مثلاً -وهو الذي لم يصحب النبي إلا خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حياته- تبلغ مروياته في كتب الأحاديث ثلاثة آلاف وخمسمائة حديث -وفي رواية ابن الجوزي خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً- تشغل زهاء ثلاثمائة صفحة من مسند ابن حنبل، وقد أثارت كثرة مروياته عن رسول الله شكوك سامعيه؛ خاصة أنه كان مزاحاً"(7)، وقال أيضاً: إنه "كان هناك بين أجلة الصحابة -كعبد الله بن عمر ابن الخطاب- من يُسيء الظن به، بل وأطلق عليه البعض وصف الكذاب الورع"(8).
خامساً: رفض الأحكام الشرعية وربطها بزمان نزولها في صدر الإسلام، وبالتالي تغيير هذه الأحكام وكذا القيم والمفاهيم الإسلامية بتغير الزمان، والزعم بأن التمسك بها في وقتنا الحاضر والإصرار عليها يؤدي إلى الجمود ويعرقل التطور، فنراه -على سبيل المثال-:
يُبدي انزعاجه الشديد من الحجاب الإسلامي، ويعد عودة النساء المسلمات إلى الحجاب ظاهرة غير عادية، كما يعد هؤلاء العائدات نساء غير عاديات(9)، ويحاول جاهداً إقناع قراء كتابه -"حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة"- بأن حجاب المرأة المسلمة ليس من الإسلام في شيء(10).
ويدعي أن عقوبة قطع يد السارق في الشريعة الإسلامية خاصة بالمجتمع البدوي أو الجاهلي في شبه جزيرة العرب زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث كانت السرقة أكثر الجرائم شيوعاً في ذلك المجتمع، وتثير العداوات والحروب بين الأقوام، وأنها غير مناسبة البتة للتطبيق في مجتمعنا المعاصر، الذي -كما يقول- اختلفت أحواله أشد الاختلاف عن أحوال المجتمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، بحيث بات قطع يد السارق فيه منافياً كل المنافاة لعلة الحد في العصر الذي فرض فيه(11).ويعقب على ذلك فيقول: "أما ما نقبله وندعو إليه فصياغة إسلامية للتطوير؛ صياغة من منطلق إسلامي تكون وسيلة للتقدم ولمواجهة احتياجات العصر لا عقبة في سبيلهما، وإذا المبتورة(12) سُئلت بأي شرع قطعت"(13).
__________
(1) … راجع: حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة ص 317 - 318، 198.
(2) … دليل المسلم الحزين ص 60.
(3) … رواه البخاري في صحيحه في كتاب (العلم)، الباب (38)، الحديث رقم (110) جـ1/ص202.
(4) … انظر: دليل المسلم الحزين ص 61 - 62.
(5) … انظر كلاً من : فتح الباري جـ1/ص 203، ومقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث ص135-136، ط عام 1378هـ/1978م، دار الكتب العلمية - بيروت.
(6) … دليل المسلم الحزين ص 72. وانظر: الدعوة إلى تطبيق الشريعة ص 194.
(7) … دليل المسلم الحزين ص 59.
(8) … دليل المسلم الحزين ص 59.
(9) … راجع: حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة ص 227 - 236.
(10) … راجع: المرجع السابق ص 237 - 251.
(11) … يعني عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، راجع: المرجع السابق ص 213 وما بعدها، ودليل المسلم الحزين ص141.
(12) … يعني يد السارق بعد قطعها .
(13) … حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة ص 223.
ويقرر "أن الأخذ بروح الإسلام لا الالتزام بأحكام معينة متناثرة هو الكفيل بأن يكون بمثابة البوصلة التي تهدينا سواء السبيل في أي مكان أو زمان كنا فيه، ومع اختلاف الظروف"(1).
سادساً: مدح علي عبد الرازق، بل والمبالغة في ذلك المدح، والإشادة بكتابه (الإسلام وأصول الحكم) وما تضمنه من أفكار تدعو إلى الفصل بين الدين والدولة(2) " . انتهى كلام الدكتور مفرح القوسي .
- وقال الدكتور سيد العفاني في الرد عليه :
" المفكر المستنير الطاعن في الثوابت الدينية الماركسي حسين أحمد أمين مؤلف كتاب (دليل المسلم الحزين):
الرسو صلى الله عليه وسلم ليس معصوماً عند حسين أحمد أمين:
الرسو صلى الله عليه وسلم في نظره ليس معصوماً إلا في نقله للقرآن فقط، وبهذا المفهوم يلغي السنة تماماً.
يقول هذا المستنير: " ومع أن رسول ا صلى الله عليه وسلم لم يدع قط أنه معصوم من الخطأ إلا حين يملي أو يتلو آيات ربه (!!) بل ونبه القرآن إلى أخطاء بدرت منه؛ فقد افترض أنصار الالتزام بالسنة - يقصد جمهور أهل السنة والجماعة ابتداء من الصحابة حتى أيامنا هذه- أن العناية الإلهية إنما كانت توجه كل عمل أتى به وكل كلمة صدرت عنه، منذ بعثه الله رسولاً إلى قومه، إلى أن مات، ومن ثم فقد رأوا أن أحكام السنة ملزمة في الحالات التي لم يرد بصددها نص قرآني" (3).(52/177)
يقول هذا المستنير الماركسي (الدوحة - مارس 83): " كان هؤلاء المجتهدون يفكرون لأنفسهم (!!) ويراعون في وضعهم الأحكام مراعاتها للظروف المتغيرة في مجتمعاتهم، غير أنهم سلكوا مسلكاً خاطئاًً - لاحظ المصادر الكاملة للنيات والحكم عليها بتعمد الخطيئة لا الخطأ - إذ صاغوا آراءهم المبتدعة في قالب أحاديث نسبوها إلى صلى الله عليه وسلم واختلقوا لها الأسانيد الكاملة حتى تلقى قبولاً من الأمة" .
وهكذا بجرة قلم خاطئة تسقط المدارس الفقهية والحديثية، وعلوم الجرح والتعديل، بل وسائر العلوم التي قامت على أساس الإسناد كفقه اللغة العربية وغيره.
ويقول المستنير نفسه في كتابه (دليل المسلم الحزين) (ص45):
" لجأ الفقهاء والعلماء إلى تأييد كل رأي يرونه صالحاً، ومرغوباً فيه؛ فهم يصنعون أو (يفبركون الأحكام ويختلقونها) بحديث يرفعونه إلى النبي صلي الله على وسلم " (4) !!
إنكار حسين أحمد أمين لكثير من الأحاديث الصحيحة في كتابه (دليل المسلم الحزين):
أنكر حسين أحمد أمين كثيراً من الأحاديث الصحيحة في كتابه (دليل المسلم الحزين)، وراح يتهم الفقهاء بوضع الأحاديث النبوية، ويهاجم رواة الحديث بشدة، وما سلم من هجومه أحد حتى بعض الصحابة رضي الله عنهم(5).
ومن أقواله في كتابه: " وكيف يمكن لنا انتقاء الصحيح من الحديث؟ إنه لمن السهل علينا تبين كذب الأحاديث التي اختلقها أتباع الفرق السياسية، كالشيعة والخوارج والأمويين ... وكذلك من السهل اكتشاف كذب الأحاديث التي تتنبأ بوصف ليوم القيامة تأباه عقولنا، أو كل ما ناقض المنطق ومجه التفكير السليم .." .. وذهب ينكر بعض الأحاديث الصحيحة، مردداً أقوال من سبقه من المبتدعة والحاقدين.
يقول ساخراً من حديث رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله" يسخر من هذا الحديث؛ لأنه لا يخضع لعقله فيقول: " كان انتقاء البخاري للأحاديث الصحيحة على أساس صحة السند لا المتن، فالإسناد عنده وعند غيره هو قوائم الحديث إن سقط سقط، وإن صح السند وجب قبول الحديث مهما كان مضمون المتن" (6) (7).
البيان في تفسير القرآن تفسيراً ماركسياً:
__________
(1) … المرجع السابق.
(2) … المرجع السابق ص 277 - 290.
(3) يقصد قراءة المسلم المسلّم بالنص ولزوم اتباعه على غرار من فسر القرآن ابتداء من رسول ا صلى الله عليه وسلم وابن عباس وانتهاء بالمسلم المؤمن بحجية القرآن الكريم.
(4) أنظر ((جولة في فكر محمد عركون)) (ص266)، و((اليسار الإسلامي)) (ص33).
(5) أنظر ((دليل المسلم الحزين)) لحسين أحمد أمين (ص43-63).
(6) دليل المسلم الحزين)) (ص60، 59).
(7) العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب)) ((ص226-227).
يقوم المستنير حسين أحمد أمين بتفسير القرآن الكريم تفسيراً ماركسياً على حلقات في مجلة (العربي) تحت عنوان: (البيان في تفسير القرآن)، ومما جاء في العدد (351) في تفسير قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيما وأسيراً) : يقرر أن الماركسية مع الإسلام، ويسقط من روحها عليه ليثبت أنها لا تفارقه كما يهاجم - كعادة الشيوعيين - الرأسمالية فيقول: " لقد تنبأ كارل ماركس في القرن الماضي بأنه من شأن النظام الرأسمالي أن يزيد الفجوة بين مستوى معيشة الأغنياء ومستوى معيشة الفقراء" إلى أن يقول: " ومع ذلك فإن نبوءة كارل ماركس بدأ يظهر صدقها، واحتمال تحققها في مجال آخر ما كان هو نفسه ليتوقعه أو يحلم به، ألا وهو اتساع الفجوة بين مستوى المعيشة في الدول الغنية والدول الفقيرة.." إلى آخر التحليل الشيوعي الذي يريد أن يفسر به الآية (!!)(1).
إنكاره لأصول الإسلام:
يقول حسين أحمد أمين، نابذاً الاعتقاد بالقدر - ويترتب عليه نبذ القرآن الكريم نفسه - ومحاولاً القول بأن الاعتقاد بالقدر عقيدة بدائية جاءت مع حركة التدرج الإنساني والنمو الحضاري (جريدة الشعب المصرية - ديسمبر 87): " ثمة مواقف عقلية هي نتاج منطقي لطبيعة حياة البدوي، فرضت نفسها على أهل الحضر والريف من شعوب الأقطار التي فتحتها جيوش الإسلام، رغم مخالفتها للموقف العقلية الأساسية لأفراد المجتمعات الزراعية وسكان المدن، خذ لذلك مثلاً: نزعة الإيمان بالقضاء والقدر. إن لمن السهل علينا أن نتبين جذور هذه النزعة وأسبابها عند البدوي، فحياة البدوي تعتمد اعتماداً يكاد يكون كلياً على الماء والكلأ، يجد في الغيث نجاة، وفي الجفاف تهلكة، وكلاهما لا سلطان له عليه ولا حيلة له فيه" .
" فهو يفسر نشأة عقيدة القدر ويردها إلى أسباب اقتصادية على طريقة ماركس، فهي من نتاج البيئة الصحراوية في الحجاز، ثم هو يقرر أن هذه العقيدة البدوية قد انتقلت إلى الإسلام(؟!) مع تغير طفيف، (إذ حلت فيه) - كما يقول - " فكرة الله محل الدهر" (2).(52/178)
ويقرر حسين أحمد أمين أن الحجاب " وهم صنعه الفرس والأتراك، وليس في القرآن نص يحرم سفور المرأة أو يعاقب عليه" ، و" أن الرجال يتمسكون بالحجاب ليستبدوا بالمرأة فينفسوا عن قهرهم سياسياً واجتماعياً".
ويؤول حسين أحمد أمين آية الحجاب تأويلاً بعيداً عندما يقول:"بالنسبة للحجاب الذي يفرض في المدينة حيث كان النساء يلقين من المتسكعين من شباب المدينة كل مضايقة وعبث كلما خرجن وحدهن إلى الخلاء فنزلت آية (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) ، وذلك حتى يميز الشبان بين المحصنات وغير المحصنات"(3) !
موقفه من الفقه والفقهاء:
هاجم حسين أحمد أمين الفقهاء وأهل الحديث معاً فقال: " لقد شاءت المعارضة، التي بات لها الغلبة في الدولة ؛ أن ترجع كافة الأحكام الشرعية إلى سند من القرآن أو السنة، وأبت الأخذ بالرأي والاجتهاد" ، وذلك في القرنين الثاني والثالث من الهجرة. ثم يقول: " وإذا كانت الأحاديث المتوفرة آنذاك قليلة ولا تكفي، لجأ القوم إلى الاختلاق، وقد عظم هذا الاختلاق للأحاديث كلما زاد إصرار العلماء على الاستناد إلى الحديث في بيان الأحكام، أي أن العرض زاد بزيادة الطلب " (4).
وقد اتهم حسين أحمد آمين بني أمية بتشجيع الفقهاء لوضع الأحاديث، ومنها حديث: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " ليصرفوا الناس عن الحج أثناء سيطرة عبدالله بن الزبير رضي الله عنه على الحجاز، وذلك بزيارة مسجد الصخرة الذي بناه عبد الملك بن مروان في القدس(5).
والاتهامات ساقطة من أساسها، وتافهة لا تنم إلا عن ضحالة فكر وتبعية ذليلة لمستشرق حاقد ، وهذا الاتهام مسروق من أستاذه جولد زيهر" (6).
مع أن الحديث رواه البخاري في صحيحه - كتاب فضل الصلاة في مكة والمدينة، ومسلم في كتاب الحج .
ولحسين أحمد أمين فتوى عجيبة في حد السرقة، عندما يقول: " لقد كان الاعتداء على الساري في الصحراء بسرقة ناقته بما تحمل من ماء وغذاء وخيمة وسلاح في مصاف قتله؛ لذلك كان من المهم للغاية أن تقرر الشريعة عقوبة حازمة رادعة بالغة الشدة لجريمة السرقة في هذا المجتمع" (7) !!
يمجد الحجاج ويجهل عمر بن عبد العزيز:
قال حسين أحمد أمين عن الحجاج: " إنه أعظم الإداريين في العالم"(8).
__________
(1) اليسار الإسلامي)) (48).
(2) اليسار الإسلامي)) (ص51).
(3) موقف القرآن من حجاب المرأة)) مقال لحسين أحمد أمين - جريدة الأهالي القاهرية 28/11/1984م عن كتاب ((غزو من الداخل)) (ص55)، و((العصرانيون)) (ص263).
(4) دليل المسلم الحزين)) (ص62).
(5) المصدر السابق (ص21-22).
(6) العصرانيون)) (ص228-229).
(7) دليل المسلم الحزين)) (ص141) - طبعة مدبولي/ نقلاً عن ((إسلام آخر زمن)) للأستاذ منذر الأسعد (ص 84) - دار المعراج.
(8) دليل المسلم الحزين)) (ص269).
ومع هذا فإنه يصب جام غضبه على إمام الهدى عمر بن عبدالعزيز، فيرى أنه ساهم بجهله في الشئون السياسية في تدهور أحوال الدولة الأموية ثم سقوطها، ثم يقول: " ولم تجلب سياسته المالية والإدارية غير خراب الدولة "(1) !!
حسين أحمد أمين يصف الفتوحات الإسلامية بأنها استعمار كالاستعمار الغربي لبلاد المسلمين فيقول:
" إن الدول الإسلامية، كانت في عصر من العصور على وشك التهام القارة الأوربية-بعد التهامها أقطارًا عدة في أفريقيا وآسيا.
وقد يحتج بعض المسلمين بأن الاستعمار الإسلامي! لدولة أسبانيا كان بناء وفي خدمة التمدين والعمران، ولم يتخذ شكل النهب والسلب، الذي اتخذه الاستعمار الأوربي لدول آسيوية وأفريقية.
غير أن الاستعمار الأوربي لأمريكا الشمالية وأستراليا كان هو الآخر بناء، وفي خدمة التمدين والعمران، في حين لم يجلب الاستعمار العثماني (!) للبلقان غير الخراب"(2).
ولست أدري كيف يستوي - عند مسلم - نشر دين الله وإقامة العدل بأروع صورة بين البشر مع غزو الأوربيين الذي قام على النهب والاستنزاف؟
ولذلك فهو يهاجم الكاتب ((جوستاف لوبون)) الذي قال: " لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب " (3) . " أعلام وأقزام " ( 2/137-143) .
وقال الأستاذ أحمد أبوعامر في الرد على حسين أمين :
" مما رزيء به عالمنا اليوم في عقوده الأخيرة ظهور اتجاهات فكرية جديدة أخذت تلبس لبوس الإسلام، حينما فشلت التيارات العلمانية في طروحاتها وتساقطت أوراقها بعد أن استبان للكثيرين عوارها، فلم يكل العلمانيون، فركبوا موجة التدين، فوجد ما سمي بالعصرانية وما يسمى (باليسار الإسلامي) ، وهي اتجاهات لها فلسفاتها ورموزها ؛ ومنهم الكاتب (حسين أحمد أمين) ، والذين تكشفت حقائقهم من واقع أبحاثهم ومؤلفاتهم وهذه الفئة في الغالب ليسوا متخصصين في الدراسات الإسلامية، ومع ذلك تجدهم قد أعطوا أنفسهم حق الاجتهاد وحرية القول مما سنراه مما يضحك الثكالى.(52/179)
صاحبنا هو ابن الكتاب والأديب المعروف (أحمد أمين) الذي درس التعليم الأولي بالأزهر والتحق بمدرسة القضاء الشرعي بعد افتتاحها ومنها تخرج وعُين معيداً بالمدرسة عن طريق أستاذه (عاطف بركات) الذي عرف عنه النزعة العقلية وعنه أخذ هذا الاتجاه وتأكد ذلك لديه من الدروس التي كان يتلقاها على يد بعض المستشرقين في الجامعة المصرية ، وظهر هذا المنحى في أبحاثه ودراساته في (فجر الإسلام وضحاه وظهره) ويلمس القارئ ذلك بصورة بارزة حينما تطرق (أحمد أمين) (للحديث النبوي) في (فجر الإسلام) تأريخه وتدوينه حينما تبني طروحات المستشرقين الناقدة بلا علم للسنة. وكان يرى نقد أقوال المستشرقين دون عزوها إليهم لئلا تقابل بالرفض من القراء لها كما هي نصيحته لزميله (د.علي عبدالقادر) التي بينها ووضح مدى مجابهتها للحقيقة ود. مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه القيم (السنة ومكانتها في التشريع) ، وكان (أحمد أمين) يحتفي باتجاه المعتزلة باعتباره أكثر المدارس التزاماً بالعقلانية وأخذ الابن هذا الاتجاه عن أبيه كما سنرى فيما بعد.
حياة الابن ودراساته: قضى حسين سنواته الثلاث الأولى في روضة الأطفال والسنة الأولى الابتدائية حيث يقول: إنها أهم السنوات في تكوين شخصيته وتكثيف استعداداته وقد أوجدت منه صبياً جم المطامح شديد الإحساس بذاته لا يرهب الناس ولا يرضى بغير الزعامة. وفي صباه المبكر كان والده يسمح له بحضور الندوات الأدبية والفكرية مع زملاته من رجال الفكر والأدب.
في المدرسة النموذجية: وهي مدرسة خاصة على نسق المدارس الإنجليزية التي لا يؤمها سوى أبناء الذوات، وكان يُحظر فيها التحدث بغير الإنجليزية وقد أسست لإيجاد طبقة من الشباب تكون مؤهلة للقيام بأعباء الدولة المختلفة.
__________
(1) دليل المسلم الحزين)) (ص203)، و((إسلام آخر زمن)) (ص69-70).
(2) دليل المسلم الحزين)) (ص172).
(3) إسلام آخر زمن)) لمنذر الأسعد (ص66) ، نقلاً عن دليل المسلم الحزين.
تربية والده: ذكر حسين أن والده يحرص في أحاديثه معه وأخوته أن ينمي فيهم ما سماه (بنظرة الدين المستنيرة) التي لا تشوبها الأوهام والخرافات كقوله بأن (الجنة) في حقيقة الأمر هي: طمأنة الروح وسكونها! وأن (الجحيم) هو العذاب الناجم عن تأنيب الضمير ووخزه! وأن هذا بخلاف ما يقوله الخدم من الوصف الحسي المعروف للجنة والنار والذي هو أقوى تأثيراً في نفوسهم مما يقوله والدهم ، وأنه لم يعرف الدين وهو في السابعة إلا حين يشارك أهله في السحور في (رمضان) والاستعداد للعيد وحضور الصلاة ، واستطاع أن يطلع في مكتبة والده على أعمال (جورجي زيدان) الروائية وأعمال العقاد والحكيم وهيكل وابن تيمية وابن حزم ومن الأجانب قرأ: لنتشه وأفلاطون وبدأ يشارك في مجلة الثقافة التي يحررها والده الذي كان يقول لهم (ألا يسمحوا للآراء الشائعة للنقاد أو الناس أن تحد من حريتكم في الحكم على ما تقرأون). ونتيجة لاطلاعه على بعض الكتب الإلحادية نتج عنده اضطراب فكري شجعه للانضمام إلى (جمعية سرية شيوعية) مع بعض زملائه واستشار زميل والده عما يفيده في الفكر الشيوعي فأشار عليه بقراءة (رأس المال) لماركس لكنه سئم ومل من تعقيد أسلوبه فتركه ، وبعد أن عثر بواب العمارة على زميله يوزع منشوراتهم ضربه علقة ساخنة فتر بعدها حماسه للجمعية فانتقلت العدوى للآخرين من الأعضاء فتلاشت تلك الجمعية.
تدينه ومآله: كان أخوه عبد الحميد متديناً ولعله تأثر به ولكنه تدين كما يقول بعنف بعدما شاهد ابنة عمه الشابة التي كان يحبها تقع تحت عجلات القطار فاتسم بقتامة كئيبة وجدية مفرطة لا يعرف معها هزلاً حتى أنه لا يفتح موضوعاً مع إخوانه إلا وذكر حكم الشرع فيه ويقول: إن ذلك منه (ثقل دم شديد)!! فضج إخوانه منه ومن سعيه لهدايتهم وتحول صبرهم إلى سخرية منه حيث كانوا ينادونه (الشيخ حسين) مما أفلحوا معه في إسكانه ، وفي هذه الفترة اطلع على اتجاه (الأخوان المسلمين) عن طريق زميله خليفة وأنه لم يوافق على رأي الإخوان في الجمع بين الدين والسياسة وكيف أنه كان يحب (الزعيم النقراشي) الذي يذكر أن الإخوان قتلوه. كل ذلك جعل رحلته مع أهله في الصيف إلى الإسكندرية وسكنهم بجوار أسرة لها بنات متبرجات حاولن إغراءه لكنه مستعصم كما يقول بقراءة كتاب في الأحاديث الموضوعة مما دعا والده للتدخل وأمره بترك كتبه وكراساته وإقناعه بأن ما هو فيه ليس من الدين في شيء!! ويتحطم تدينه حينما رأى فيلماً خليعاً. والتدين بلا أساس صحيح سريعاً ما ينهار بنيانه.
الفكر الجديد أو ما يسمى باليسار الإسلامي:
هذا الاتجاه الذي سبق أن أشرنا لوجهته في البداية انطلق منه الكاتب (حسين أحمد أمين) والذي أرجعه في نظري إلى أساسين:
تأثره بوالده الذي كان متأثراً بالاستشراق كما سبقت الإشارة إليه في كتابه فجر الإسلام ، وعلى هذا الأساس نجد (سلسلة الظلام) فيما يرويه حسين أحمد أمين عن أبيه عن المستشرق المجري (جولد تسيهر) ولذا لم نعجب من تأثر والده بالمدرسة الاعتزالية التي يزعم أنها أسلم المدارس منهجاً.(52/180)
تأثره بما تلقاه في مدرسته النموذجية ذات الاتجاه العلماني والذي قال عنها: إنها ثاني أحد العوامل في تكوينه.
تأثره بما قرأه واطلع عليه من الدراسات العقلانية التي وافقت هواه ووجهته، مع العلم أنه غير متخصص في الدراسات الإسلامية ولا تلقاها عن ثقاة وعلى هذا النهج ظهر (حسين) مفسراً ومحدثاً ومفكراً ، فما مدى صحة ما جاء به من آراء وتوجهات. هذا ما سأتطرق له بإذن الله.
أولاً: كيف ادعى علم التفسير:
التفسير لغة هو الكشف والإبانة وفي الشرع الكشف عن معاني آيات الله والغوص في أعماقها للوصول إلى مراد الله بقدر الجهد البشري ولابد للمفسر كما اتفق العلماء أن يكون تفسير القرآن بالقرآن أو تفسيره بالسنة أو تفسيره بأقوال الصحابة وبأقوال التابعين وبعموم لغة العرب، لكن ما هو تفسير هذا الكاتب الذي يتطرق فيه إلى بعض الآيات القرآنية ويحكم فيها رأيه بما لم ينزل الله به سلطاناً ولنرى:
أولاً: في زاويته (البيان في أسباب نزول القرآن) التي نشرتها مجلة (العربي) ففي العدد (322) عند تطرقه لقوله تعالى: { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } الآيات وقوله تعالى: { قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم } فبعد ما نقل ما قاله المفسرون قال: إننا ابتلينا في السنوات الأخيرة بمن صار يرى جوهر الدين وحقيقة الإسلام في مسائل كالجلباب وتقصيره وضرورة الأكل باليمين، وقال: إن من يقصرون فحوى الآيات أو يضيفون لها الأوامر والنواهي يسيئون للدين عن قصد أو عن غير قصد وأن هذا الأسلوب يعود بالمسلمين للوراء. داعياً إلى عدم الإصغاء لهؤلاء لوضوح عبارات الآيات لئلا يقع السائل في براثن من لا يرى بها الخير.
والتفسير ليس بالرأي وإنما له أسلوبه الذي سبق ذكره ودعوى معرفة القرآن لوضوحه فيه نظر. ولذا كان هناك كتب كثيرة للتفسير منها ما هو بالرأي وما هو بالأثر وما جمع بينهما وليس فيهما ما زعمه المفسر المزعوم (انظر البيان في أسباب نزول القرآن) العربي 322.
1-وقوله تعالى: { إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين } وبعدما نقل ما أورده صاحب طبقات بني سعد حمل على من يدعو إلى الاقتداء بالسلف ووصفهم بالغلاة لأنهم بزعمه يرفضون الاجتهاد ويقصرون الحق على التفكير بالأموات وإن هذا راجع إلى شغف العربي بالأوضاع والأشكال المثالية وانتهى إلى أنه لا مخرج لنا من التحجر الذي نعاني منه سوى الكف عن الحنين للماضي وأن سلطان العقل هو الذي يحدد ما ينفعنا بين الماضي والحاضر. (انظر البيان في أسباب نزول القرآن) العربي 327. فأين ضوابط الشرع المطهر للتعامل والسلوك ؟ إنها في رأيه لا قيمة لها بما طرح من ضوابط عقلية.
2-عند حديثه عن سورة (المسد) تحت عنوان (تأملات في حقيقة أبي لهب يهوذا بني هاشم) بدأ بالتشكيك في سبب النزول ورأى أنها ليست من السور المكية وإنما نزلت في الغالب بعد وفاة أبي لهب ولم يستند فيما رآه إلى أي حجة بل مجرد تخرصات لم يسبق إليها واتهم المفسرين باختراع سبب النزول مع أنه ثابت في صحيحي البخاري ومسلم وبقية الصحاح ، والكاتب لم يلبث أن كشف أوراقه وبين ما يسعى إليه من نشر مذهبه المادي من خلال كتابته هذه ، فهو يجرد الدعوة الإسلامية من علاقتها بالوحي ويفسر أحداثها تفسيراً مادياً ذاكراً علاقة الرسول الطيبة به قبل الإسلام وأن ابنيه قد خطبا ابنتي الرسول فماذا حدث حتى يكون أبو لهب من رءوس الكفر !! ثم أخذ يشرح كيفية انتقال المجتمعات من رعوية إلى تجارية وهي دعاوى باطلة لا دليل عليها أثبتها النقل الصحيح فلا مجال لأي عقل ليقول ما لا علم له به رحم الله سلف الأمة: فقد حذروا من التفسير بالرأي لقوله تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم } ولقوله صلى الله عليه وسلم "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار"، ولذا وجدنا (أبو بكر رضي الله عنه) يقول: (أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم) فهل يعي ذلك أدعياء العلم.
كيف أصبح محدثاً ؟
السنة هي التفسير العملي للقرآن والتطبيق الواقعي والمثالي للإسلام والمنهاج التفصيلي لحياة الفرد والمجتمع في الإسلام وإجماع الأمة عبر العصور، فالسنة هي المصدر الثاني للتشريع وأصبحت السنة علماً له أصوله ومصطلحاته مما لا يعرفها صاحبنا لكنه يأبى إلا يتحدث في الأحاديث فيصحح ويصوب بلا علم ولا كتاب مبين فتجده في مقاله (دور الأحاديث المنسوبة إلى النبي في تاريخ المجتمع الإسلامي) يزعم أن حديث الرسو صلى الله عليه وسلم لم يجمع إلا في عصر التابعين وأن الرسول لم يدع أنه معصوم عن الخطأ إلا حين يملي أو يتلو آيات ربه ثم تطرق لوضع الحديث وأثر الصراع بين المذاهب فيه واتهم الصحابي الكبير (أبو هريرة) بأنه يضع الأحاديث وأن الفقهاء يضعون الأحاديث حسب الطلب مما أصبح معه الحديث بحراً خضماً يختلط فيه الصحيح بالزائف.(52/181)
أما كيف نعرف الحديث الصحيح فقال: إنه يمكن معرفة الأحاديث التي اختلقتها الفرق من ذم بعضها أو مدح نفسها وأن الأحاديث التي تتنبأ بأحداث مستقبلة مكذوبة وأن الصعوبة في معرفة مدى صحة نوعين من الأحاديث النبوية.
1-فضائل الأعمال التي تحث على مكارم الأخلاق أو آفاتها.
2-ما يتعلق ببيان الحلال والحرام وأحكام الشريعة وبخاصة وأن الفقهاء حينما يجتهدون في مسألة يلجأون إلى وضع الحديث أو تفسيرها حسب رأيهم !!
وهذه مقالات لو نسبها لصاحبها الأصلي (جولد تسهير) لكان ذلك غير مستغرب أما أن يتبناها وينشرها باسمه فهذه هي الطامة لأنها كلها مفتراة ولا أساس لها من الصحة. فالسنة جمعت منذ عصر الرسول وعرف بعض الصحابة أن لهم صحفاً يكتبون فيها وهذا يطول شرحه ويمكن الرجوع إلى كتاب (السنة قبل التدوين) د. محمد عجاج الخطيب ، والرسولل معصوم من الخطأ فيما يبلغ عن ربه { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } الآية ولقد قام العلماء المختصون في الجرح والتعديل ببيان حقيقة الوضاعين للأحاديث. انظر إلى رسالة (الوضع في الحديث) للدكتور عمر فلاته ، أما اتهام أبي هريرة رضي الله عنه فهي شنشنة نعرفها من أخزم تولي كبرها أعداء السنة قديماً وحديثاً ونحيل القارئ الكريم (إلى السنة ومكانتها في التشريع) للسباعي لتتبين منه كذب ادعاءات الكاتب في اتهام الفقهاء بوضع الأحاديث. أما معرفة الحديث الصحيح من الموضوع فقد نقحه العلماء العدول ووضحوا الصحيح من غيره. انظر سلسلتي (الأحاديث الصحيحة) ( والضعيفة والموضوعة ) للعلامة الألباني على سبيل المثال لا الحصر، ورأيناه يورد أحاديث نبوية مثل (من تصبح كل يوم بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر) وحديث (لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر) رافضاً تلك الأحاديث بزعم مصادمتها للعقل !! منطلقاً من مبدأين يراهما وهما:
الحفاظ على ثقة الناشئة بالسنة النبوية.
التخلص من الأحاديث التي تقف في طريق التطور والتقدم.
والحقيقة أن هناك مبادئ أساسية للتعامل مع السنة تنفي انتحال المبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين وهي:
أولاً: توثيق السنة بثبوت صحتها حسب الموازين العلمية الدقيقة.
ثانياً: فهم النص النبوي وفق دلالات العربية وفي ضوء سياق الحديث وسبب وروده وفي ظلال النصوص القرآنية والنبوية الأخرى وفي إطار المبادئ العامة والمقاصد الكلية للإسلام.
ثالثاً: التأكد من سلامة النص من معارض أقوى منه من القرآن وأحاديث أخرى أوفر عدداً أو أصح ثبوتاً أو أوفق بالأصول وأليق بحكمة التشريع مع العلم أن الحديث الأول ورد في صحيح البخاري والثاني في مسلم ، وللحديثين الأوليين تأويلات لدى العلماء يمكن الرجوع لها في كتاب (السنة ومكانتها في التشريع) للسباعي و(مشكلات الأحاديث) للقصيمي. مع العلم أن تحكيم العقل في مناقشة النقل الصحيح يقود الباحث إلى التورط في إنكار جانب كبير من السنة وهو خطأ نتيجة للنزعة الحسية الأوروبية ينتهي بأصحابه إلى تحكيم العقل حتى في القرآن وتفسيره تفسيراً تعسفياً بغية إخضاعه لمنطق العقل نفس المنطلق الذي حوكمت به السنة وهو حشر للعقل خارج محاله الصحيح.
الكاتب مصلحاً ومفكراً:
أولاً: وبنفس المنطلقات العقلانية التي لا تقيم للنص احتراماً كما سبق بيانه يحرص على أن يسمى مصلحاً ومفكراً وهو أبعد ما يكون عن هذين الأسمين ولأنه فيما طرحه من أفكار فجة وتفسيرات وطروحات لا يقيم للنصوص أي قيمة معتبرة وبالتالي يضرب بعرض الحائط أقوال العلماء والفقهاء ولعلنا نشير إلى بعض الآراء التي طرحها في هذا الباب ومنها:
1-القرآن في نظره ليس فيه نص يحرم سفور المرأة أو يعاقب عليه ، وأن الرجال إنما يتمسكون بالحجاب لنسائهم ليستبدوا بالمرأة فينفسون عن قهرهم سياسياً واجتماعياً ولا ندري إلى ماذا استند في رأيه الغريب هذا ؟ أما آيات الحجاب في سورتي النور والأحزاب فهل هي غير كافية في نظره أم أنها كما يقول بعض المتفيقهين إنما هي لنساء صلى الله عليه وسلم ؟ وأنى يذهب بالقاعدة الأصولية (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) لو كانت خاصة بنساء النبي جدلاً.
2-خبط خبط عشواء وخلط بين البدع في العبادات والبدع في أمور الدنيا حيث يرى أن نظرة علماء المسلمين لا تفرق بين الأمرين مستدلاً بما زعمه من تحريم بعضهم لشرب القهوة واستخدام الملاعق والسكاكين بل وحتى الطباعة وتساءل هل استنكار البدعة وكراهية الجديد موقف إسلامي؟ أم جاهلي؟ فأجهد نفسه في إيراد الأدلة من غير أن يوفق لجواب صحيح والقول الحق هنا أن البدعة في العبادات موقف إسلامي وكراهية الجديد في غيرها موقف غير إسلامي.
3-وضع رسالة له في (الإصلاح الديني ) على هيئة خطاب ناقد له وذكر أن صاحبه الناقد قال عنه بأنك قلت: إن الهدم أحياناً يفوق البناء في القيمة وأن التشكيك له ما للإيمان من أهمية ونفع ، إذ كيف يمكن للمرء أن يقبل الحق عقيدة إن كان عقله وقلبه لا يزالان قانعين بالكثير من البهتان والزور. وحينما رد عليه لم ينكر ما اتهم به وكأنه يرى أن ذلك حق، وأضاف على تلك السمات:(52/182)
- التدرج والترفق في تعليم العامة فذلك السبيل الأوحد إلى صلاح عقائدهم.
- تعليم الناس قدر عقولهم حتى يستوعبوا ما يلقى عليهم من علم.
- متى أضرت النوافل بالفرائض لزم رفضها وأن المرء ما أراد العدل الأكبر فلا بأس من بعض الظلم.
- إن من الدعاة من ترك صالح دعوته بسبب تجاهله لواقعه.
- أنه متفائل من الناس بواسطة التعليم والدعوة المستنيرة والتقنية سيتضح الناس ويستقبلون الحقائق مجردة من الخرافات والترهات.
- هذه هي منطلقات المدرسة (العصرية) التي يريدون من ورائها تحقيق أهداف بعيدة المدى:
أ- حملة على السنة لاستبعادها من المعاملات ليسهل تسلل نظم الغرب إلى عقائدنا ومجتمعاتنا .
ب- حملة على الفقه والفقهاء ليفقد الإسلام ضوابط الأحكام الشرعية ولهدم المنطلقات الأصولية.
ج- يؤدي ذلك إلى انقضاء الإسلام عروة عروة أولها الحكم وآخرها الصلاة.
ثانياً: ألف عدة كتب أشهرها (دليل المسلم الحزين إلى مقتضى السلوك في القرن العشرين) وقد نال عليه جائزة أحسن كتاب إسلامي في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة عام 84هـ !!
وهو في نظري لا يستحق الجائزة ككتاب إسلامي لأنه لم يتقيد بمسماه إلا إذا أريد بالإسلامي أن يكتب في الإسلام بصرف النظر عما إذا كان مع الإسلام أو ضده وهذا الكتاب فصول لما تطرق له في هذه المقالة من الشك في سورة المسد والتشكيك في مكانة السنة ورسالته في الإصلاح وغيرها.
أما موضوع العنوان الذي سمى به الكتاب فهو يدور حول بدايات الحضارة الغربية في العالم الإسلامي وتأثيرها على دعوات التجديد في العالم الإسلامي وأزمة الغرب الروحية وموقف المسلم في هذا العصر ما بين إفراط وتفريط ثم السلوك المطلوب في خضم تصارع الأهواء والفرق وشيوع الجهل والخرافة والتأويل الزائف واختراع الحديث من أجل فرض الرأي، وقال : إننا بحاجة إلى سيرة نبوية لا تطمس الوقائع ولا تخترعها وإلى استبعاد المخترع من الحديث ولو أدى ذلك إلى إسقاط جله وإلى كتابة التاريخ الإسلامي على أسس جديدة!! وإلى تنمية نظرة الدين والتراث لا باعتبارها وسيلة للهرب إلى الماضي من المشكلات والإحساس بالأمن الزائف وإنما كوسيلة للتصدي إلى مشكلات الحاضر والمستقبل وغرس القيم الإيمانية في الناشئة القائم على الحقائق الثابتة لا الأكاذيب . وهذه الآراء هي مجرد كلام يحتاج إلى قاعدة وفلسفة ينطلق منها الكاتب لكننا عرفنا أنها تفتقر إلى منهج علمي حق في الفهم وفي الاستدلال ومنهج علمي في الولاء والبراء لهذا الدين وبخاصة أن الاتجاهات العقلية قد تؤدي بصاحبها أحياناً إلى ضلال مبين ما لم تكن منطلقة من أسس نقلية لشريعة قائمة على التوحيد وهذا مع الأسف ما ينقص صاحبنا كما ظهر من آرائه المضطربة " . انتهى كلام الأستاذ أحمد أبوعامر . ( المجلة العربية ، رجب ، 1411هـ ) .
يضاف على ماسبق :
- للأستاذ منذر الأسعد رد على حسين أحمد أمين باسم: "إسلام آخر زمن: قراءة في آراء حسين أحمد أمين" - ثلاثة أجزاء- صدر عن دار المعراج بالرياض.
قال الأستاذ منذر في مقدمة رده (ص 15):
" بين يديّ الطبعة الثالثة من كتاب "دليل المسلم الحزين" والطبعة الثانية من كتاب "حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية"... وقد جمع الكتابان -وهما من تأليف الأستاذ حسين أحمد أمين- في كتاب واحد يتكون من 400 صفحة من القطع المتوسط، نشرته مكتبة مدبولي عام 1987م.
وقد سبق للمؤلف أن نشر فصول الكتاب في عدد من المجلات العربية في مصر وقطر.
الهاجس الأساس للمؤلف هو أن أمة المسلمين في عصرنا الحاضر أمة متخلفة، وسر ذلك التخلف عنده -هو يد الماضي الميتة التي تكبل أعناق المسلمين... ويد الماضي هي السنة النبوية التي نسبها الفقهاء -كذباً- إلى النبي الكريم، ليسبغوا على أفكارهم الشخصية صبغة مقدسة، تضمن لاجتهاداتهم الرواج، وحيث أن النَّسخ وقع في القرآن، فإن على المسلمين أن يطوروا دينهم بما يوائم معطيات العصر، حتى لو أدى ذلك بهم إلى الخروج على نصوص قرآنية قطعية الدلالة، فالمهم هو استلهام "روح" الإسلام، لا النصوص التي نزلت لمعالجة أوضاع خاصة بالمجتمع البدوي في شبه جزيرة العرب، في العهدين النبوي والراشدي !
خلال ذلك يطلب المؤلف أن تلغى الحدود الشرعية كحد السرقة والخمر، ليضع المجتمع عقوبات تناسب (أحوال القرن العشرين).
- يحمل حسين أمين حملة ظالمة لتشويه صورة السلف الصالح، وفي المقابل يُعظم الفراعنة ويقول: "إن كان لابد من التطلع إلى سلف صالح؛ فإن أخناتون بنظرته الثاقبة هو بكل تأكيد ذلك السلف الصالح"! (جريدة الوطن الكويتية، عدد 5367).
- استمرأ حسين ذم الحجاب وتشويهه (انظر: دليل المسلم الحزين مبحثي: عودة النساء إلى الحجاب، وحجاب المرأة هل هو من الإسلام، ص 227- 251).(52/183)
- يقول حسين : "إن أفضل العلاقات بين أفراد الطوائف الدينية المختلفة هي تلك التي تسود بين الملحدين من كل طائفة، ممن قد تلاشت لديهم العقيدة، وجمع بينهم الشك في صحة الأديان جميعاً، هنا يختفي التعصب والحيطة والحذر، ويصبح من الممكن أن تقوم الصداقة الحرة والألفة الحقيقية، ويصبح شعارهم بيت الشاعر القروي: سلام على كفر يوحد بيننا، وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم!". قال الأستاذ محمد مبروك تعليقاً على هذا الكلام الكفري: " أي أن الإلحاد هو الحل لديه لتعايش الأديان" . (مواجهة المواجهة، ص 269).
- ويقول حسين ملخصاً رأيه في حكم الشريعة لما سئل : "هل يمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام كنظام حكم؟" قال: "لا، طبعاً، إذا اكتفت باقتباس أحكامها من القرآن والسنة فقط"!! (رأيهم في الإسلام، ص86).
-يرى أنه لا يكفي مجرد التسامح مع الكفار، إنما نتجاوزها إلى الاعتراف والمعايشة! بل وصل به الحال إلى تقرير وحدة الأديان ! و"أن كل رؤية تحمل جانباً من الحقيقة لم تركز عليه سائر الرؤى"! وأنه "ليس ثمة دين خاطئ إن كان معتنقوه يرونه كافياً لسد احتياجاتهم الروحية"!! (التسامح الديني والتفاهم بين المعتقدات، ص 27، 30).
قلت: ولا يخفى على المسلم ما في هذه الدعوة من كفر وضلال باتفاق أهل الإسلام.
- ممن رد عليه - أيضًا - : الدكتور أحمد عبدالرحمن في كتابه "أساطير المعاصرين" (ص 133-166).
======================(52/184)
(52/185)
نظرة شرعية في فكر منحرف ... محمود العالم
- مفكر مصري ( شيوعي ) .
- ولد في 18 فبراير في حي الدرب الأحمر في القاهرة.
- بدأ دراسته الأولى في كتّاب الشيخ السعدني في مدخل حارة السكرية. ثم في مدرسة الرضوانية الأولية في حي القرية، ثم في مدرسة النحاسين الابتدائية بحي الجمالية، ثم في مدرسة الإسماعيلية الثانوية الأهلية بحي السيدة زينب، ثم مدرسة الحلمية الثانوية بالقرب من حي القلعة.
- التحق بعد شهادة الثانوية (البكلوريا) بقسم الفلسفة - كلية الآداب - جامعة فؤاد الأول (القاهرة اليوم)، حصل على شهادة الليسانس.
- حصل على درجة الماجستير من الكلية نفسها في موضوع (فلسفة المصادفة الموضوعية في الفيزياء الحديثة ودلالتها الفلسفية) . ثم عمل بالجامعة .
- تم فصله عام 1954 م مع عدد آخر من الأساتذة والمدرسين من مختلف كليات جامعة القاهرة لأسباب سياسية، كما تم فصله من الإعداد لرسالة الدكتوراة . بعد فصله عمل في إعطاء دروس خاصة في الفلسفة والمنطق واللغتين الانجليزية والفرنسية حتى التحق بمجلة روز اليوسف مسؤولاً عن افتتاحيتها السياسية . كما أخذ يكتب فيها مقالات في النقد الأدبي .
- عمل في مجلة الرسالة الجديدة مديراً لتحريرها تحت رياسة الأستاذ يوسف السباعي، وكانت المجلة تصدر عن مؤسسة التحرير، وفي هذه المجلة بدأ سلسلة من الكتابات النقدية.
- تم فصله من عمله في الرسالة الجديدة وفي مؤسسة التحرير عامة.
- في أواخر نوفمبر 1958 م بدأت حملة اعتقالات واسعة للشيوعيين المصريين وفي فجر يوم أول يناير 1959 تم اعتقالة في منزله .
- تم الإفراج عنه منتصف عام 1964.
- عمل محرراً أدبياً في مجلة " المصور " الأسبوعية, ثم ما لبث أن عُيِّن بعد ذلك رئيساً لمجلس إدارة هيئة الكتاب، ثم شركة الكاتب العربي، ثم رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة المسرح، ثم رئيساً لمجلس إدارة أخبار اليوم.
- ثم تمت إحالته إلى المعاش باقتراح من الأستاذ الوزير الجديد للثقافة أنذاك "يوسف السباعي" وموافقة رئيس الجمهورية أنور السادات.
- تعين في جامعة أكسفورد ، ثم انتقل إلى باريس ليُعيّن في جامعة باريس 8، مدرّساً للفكر العربي. ويظل بها من 1973 م حتى عام 1984 م .
- خلال هذه الفترة في باريس أنشأ مع بعض الرفاق المصريين مجلة شهرية هي " اليسار العربي " ، وشارك في الجبهة الوطنية المصرية المناهضة للسياسة الساداتية عندما بدأ مشروعه للصلح مع إسرائيل، مما أفضى إلى أن يُقدّم غيابياً لمحكمة "العيب" ويحكم عليه بحرمانه من حقوقه المدنية والسياسية ويتعرض للتقديم للمحاكمة في حالة عودته إلى مصر.
- بعد وفاة السادات عاد إلى مصر .
-تفرّغ فور عودته لإصدار كتاب غير دوري هو " قضايا فكرية " ، كما اختير مقرراً للجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة، فضلاً عن أنه عضو في نقابة الصحفيين، وعضو في اتحاد الكُتّاب، وكان نائباً لرئيس رابطة المثقفين المصريين التي كان يرأسها سعد الدين وهبة.
- أهم مؤلفاته :
1- ألوان من القصة المصرية- دار النديم- 1955 تقديم د. طه حسين .
2- في الثقافة المصرية بالاشتراك مع د. عبدالعظيم أنيس- طبعة ثالثة 1989 -القاهرة.
3- معارك فكرية : دار الهلال 1970- ترجمة روسية 1974-موسكو.
4- الثقافة والثورة : دار الآداب-1970-بيروت.
5- تأملات في عالم نجيب مجفوظ : 1970 القاهرة- الهيئة العامة المصرية للتأليف والنشر.
6-فلسفة المصادفة : 1971- دار المعارف- القاهرة.
7-هربرث ماركيوز أو فلسفة الطريق المسدود : 1972- دار الآداب-بيروت.
8-الإنسان موقف : 1972- المؤسسة العربية للدراسات-بيروت.
9- الرحلة إلى الآخرين : 1974- دار روز اليوسف-القاهرة.
10-الوجه والقناع في المسرح العربي المعاصر ك 1973-دار الآداب-بيروت.
11- البحث عن أوروبا : 1975 - المؤسسة العربية للدراسات-بيروت.
12-توفيق الحكيم مفكِّراً فناناً : 1994 - دار قضايا فكرية-القاهرة.
14-ثلاثية الرفض والهزيمة : دراسة نقدية لثلاث روايات لصنع الله إبراهيم - 1985-دار المستقبل العربي-القاهرة.
15- الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر : طبعة ثانية - دار الثقافة الجديدة- 1988-القاهرة.
16-الماركسيون العرب والوحدة العربي : دار الثقافة الجديدة - 1988.
17-مفاهيم وقضايا إشكالية : دار الثقافة الجديدة - 1989 .
18-البنية والدلالة - في الرواية العربية المعاصرة 1994-دار المستقبل العربي.
19-الفكر العربي بين الخصوصية والكونية : دار المستقبل العربي - 1996 .
20- مواقف نقدية من التراث : دار قضايا فكرية - 1997 .
قال الدكتور مفرح القوسي عنه في رسالته " الموقف المعاصر من المنهج السلفي " ( ص 502-508) :(52/186)
- " محمود أمين العالم: من كبار المفكرين العرب الماركسيين، الذين تناولوا في كتاباتهم العديد من القضايا الفكرية وحاولوا معالجتها على أساس المنهج المادي الجدلي؛ ووفق الرؤية الماركسية عامة، ومن المتحمسين للتوجه الماركسي، فنجده ينافح عن الماركسية ويمتدحها ويدافع عنها دفاعاً قوياً، من ذلك على سبيل المثال قوله: "والحقيقة أن النظرية الماركسية هي أنضج النظريات وأعمقها وأصرحها كذلك في فهم الديمقراطية وتقييمها، إنها النظرية الوحيدة التي تعترف بالأساس الاجتماعي الطبقي للديمقراطية، وتحدد السبيل العملي لتوفير أرقى مستوى من الديمقراطية للمجتمع البشري، ومنها اختلفت الآراء حول التطبيق الديمقراطي في البلدان الاشتراكية ، وحول مفهوم دكتاتورية البروليتاريا، فإن النظرية الماركسية للديمقراطية تكاد تكون النظرية العلمية المسلم بها عند المناضلين في جميع أنحاء العالم، على اختلاف تجاربهم الاجتماعية، بل وعلى اختلاف مواقفهم من النظرية الماركسية نفسها. والنظرية الماركسية للديمقراطية هي في الحقيقة تعميم علمي لتجربة المجتمع البشري عبر تاريخه الطويل، وهو يتمرس بأنماط متنوعة من علاقات الإنتاج وأشكال الحكم…"(1). وقوله: "إن القول بالحتمية التاريخية لا يتنافى أبداً مع القول بقدرة الإرادة البشرية على التغيير الاجتماعي والتاريخي، بل إن إرادة الإنسان تُمكِّن للحتمية أن تتحقق، كما أن الوعي بالحتمية يُمكّن للإرادة أن تكون فاعلية وحرية"(2).
ونجده يرد على منتقدي المبادئ الماركسية(3)، ويدعو إلى دكتاتورية الطبقة العاملة (البروليتاريا)، ويجتهد في تبرير تلك الدكتاتورية وبيان فضائلها ومحاسنها(4).
كما نجده يدعو إلى التطبيق العملي للماركسية أو الاشتراكية العلمية -كما يسميها- بوصفها الطريق الوحيد لتحقيق الرقي والتقدم الاجتماعي والتوحيد القومي(5).
ويقف من السلفية والسلفيين موقفاً معادياً متهجماً متجنياً، حيث يُعَرِّف السلفية في الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر بأنها: "نزعة دينية تتخذ من العودة إلى الأصول ومن الاستئناس بتراث الماضي معياراً أساسياً لتقييم الحاضر ومواجهته وصياغة المستقبل"، ثم يقول بعد ذلك: "وهذا تعريف صحيح، ولكنه غير كاف وحده لتحديد معالم الحركة السلفية في فكرنا الحديث والمعاصر، فالسلفية كذلك وبشكل عام حركة وطنية إصلاحية، تتسم بالمعارضة والرفض لأوضاع الفساد والتخلف والتشرذم الاجتماعي والتبعية للغرب، وهي دعوة إلى اتخاذ الأصول الدينية وتراث الماضي أساساً للتخلص من هذه الأوضاع. فإذا انتقلنا من التعريف الأول المجرد، ومن التعريف الثاني العام، وحاولنا أن نتلمس الحركة السلفية في تجلياتها الواقعية المختلفة لوجدنا اختلافات شتى في الممارسات العملية والتوجهات الفكرية، فليس هناك سلفية واحدة، هناك أكثر من سلفية تختلف باختلاف العوامل الموضوعية والاجتماعية التي وَلَّدتها وأبرزتها في هذه البلد أو تلك، في هذه اللحظة التاريخية أو تلك، بل هناك أكثر من سلفية داخل السلفية الواحدة، فقد تبدأ من نقطة، وسرعان ما تتغير وتتبدل عبر ممارساتها، بل قد تنتهي إلى نقطة وموقف البداية، وما أكثر الأمثلة الحية الماثلة في واقعنا العربي منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم. لقد أصبحت بعض الحركات السلفية أدوات لتكريس التخلف وتعميق التبعية بعد أن كانت قد بدأت دعوتها حرباً عليهما، أصبحت أيديولوجيات رسمية لبعض أنظمة الحكم العربية، لإضفاء مشروعية عليها، ولإخفاء تخلفها وفسادها وتبعيتها. على أن الجانب الوطني الإصلاحي المتمرد على واقع التخلف والفساد والتبعية لا يزال صفة بارزة لبعض الحركات السلفية المعاصرة، وإن اختلفت منهاجها العملية وتوجهاتها الفكرية، فمن بين هذه الحركات المتمردة نزعات تتسم بالتزمت والجمود، وفقدان الرؤية الاجتماعية والتاريخية تماماً، ومن بينها نزعات تتميز بالتفتح والاستنارة، كهذا التيار الفكري الذي أشرنا إليه فيما سبق وأسمينا أصحابه بالسلفيين الجدد"(6)، ويعني بهم محمد عمارة، وحسن حنفي، وأنور عبد الملك، وطارق البشري، وعادل حسين، وجلال أحمد أمين.
__________
(1) … معارك فكرية ص 175-176.
(2) … المرجع السابق ص 205.
(3) … راجع: المرجع السابق ص 201-214.
(4) … راجع: المرجع السابق ص 178-186.
(5) … راجع: المرجع السابق ص 188-200.
(6) … الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر ص 237-238، ط الأولى 1988م، نشر: دار عيون، الدار البيضاء -المغرب.(52/187)
- ويَدَّعي -عند حديثه عن المفهوم الديني السلفي للزمن التاريخي- أن الزمن عند السلفيين المُحْدَثين زمن هابط، وأنهم تجريديون مثاليون يسعون إلى إلغاء حركة التاريخ، بفرض نسق تاريخي معين على التاريخ كله، فنراه يقول -خالطاً مع السلفيين غيرهم-: "يَعتبر المفهوم الديني السلفي الذي نتابعه، منذ بدايته الأولى في الحركة الوهابية حتى حركة الإخوان المسلمين، وخاصة في كتابات سيد قطب، وفي حركة (التكفير والهجرة)، يعتبر هذا المفهوم الحاضرة الحديثة شكلاً آخر من أشكال العصر الجاهلي الذي ينبغي رفضه وإزالته، على أن يُستبدل به نسق آخر من الحياة، هو نسق مرحلة الدعوة الأولى. والزمن عند أصحاب هذا المفهوم زمن هابط، إلا أنه في المقدور السيطرة عليه وتعديل مساره. وبالرغم أن هذا المفهوم يتضمن مشروعاً في التاريخ وفي مواجهة التاريخ، إلا أن هذا المشروع مشروع غير تاريخي يقوم على التماثلية في حركة التاريخ، أي: إلغاء هذه الحركة بفرض نسق تاريخي معين على التاريخ كله. والفعل التاريخي بحسب هذا المفهوم هو فعل إرادي انقلابي أساساً، يهدف إلى إزالة ما يراه شذوذاً في مرحلة تاريخية، ليحقق تماثلاً مع مرحلة أخرى مثالية نمطية"(1).
- ويحدد النهج السلفي في التفكير فيقول: "هو تنقيب في الماضي التاريخي والتراثي لاكتشاف ثوابت معيارية يمكن اتخاذها سنداً لإضفاء المشروعية على توجهات سياسية أو فكرية في الحاضر، أو تقديم تبرير تاريخي تراثي لها…، والتاريخ عند المفكر السلفي متماثل الآنات واللحظات والمراحل غير متحرك أو متطور، بل قد يكون تراجعاً وانحداراً وليس تقدماً أو تطوراً. فالماضي عنده هو محور الإشارة الذهبي المطلق الصحة والكمال، ولهذا فقيمة أي فكر أو أي فعل إنما تقاس بمدى مطابقتها أو اقترابها من محور الإشارة هذا، على أن هذا النهج السلفي في التفكير قد نجده كذلك عند كثير من المفكرين الذين يتبنون دعوة التحديث والتجديد، وتتمثل هذه السلفية عندهم في التوقف عند نص باعتباره معياراً ثابتاً مطلق الصحة، ورفض أي محاولة لتأويله أو الخروج عليه إذا كشفت حركة الحياة المتجددة ضرورة ذلك، كما تتمثل هذه السلفية في مختلف مواقف التشبث والجمود عند ثوابت أو سمات معينة في مختلف الخبرات الإنسانية الماضية، واتخاذها كذلك معياراً ثابتاً مطلق الصحة للحكم والتقييم والسلوك، مع افتقاد روح العقلانية والنقد والكشف والإبداع"(2).
- ويعود مؤكداً قوله السابق فيقول: "خلاصة الأمر أن الموقف السلفي -عامة- من مفهومي الخصوصية والأصالة، سواء في المجال الديني أو السياسي أو الاجتماعي، هو: البحث عن ثوابت مجردة مطلقة، واتخاذها معياراً نهائياً لتقييم الحاضر وتبريره وتكريسه. على أن الخصوصية في الحقيقة ليست ثوابت مجردة مطلقة فوق المكان والزمان، بل هي سمات مشروطة اجتماعياً وتاريخياً، ولهذا تختلف الخصوصيات باختلاف الملابسات الاجتماعية والتاريخية. حقاً هناك بعض السمات المشتركة المتصلة عبر التاريخ، ولكن هذه السمات نفسها تختلف وتتنوع باختلاف وتنوع الملابسات الاجتماعية والتاريخية. ولا شك أن الأوضاع الجغرافية الثابتة قد تلعب دوراً في تحديد بعض هذه السمات، على أن الأوضاع الجغرافية نفسها محكومة في كثير من الأحيان -إن لم يكن دائماً- بالأوضاع السياسية، فهي في الحقيقة أوضاع جغرافية سياسية؛ ولهذا فهي بالضرورة كذلك مشروطة اجتماعياً وتاريخياً. وتأسيساً على هذا فإن القول بالاستمرارية التاريخية المجردة المطلقة هو قول ميتافيزيائي غير علمي، وقول سلفي في جوهره وكذلك الشأن بالنسبة للأصالة، فالأصالة لا تكون بالارتباط بثوابت تراثية قديمة على نحو مجرد مطلق، وإنما تكون باستيعاب التراث القديم استيعاباً نقدياً، كما تكون -أساساً- بعمق الفاعلية الإبداعية الإنسانية، بحسب مقتضيات وملابسات وتكوينات الواقع الاجتماعي والتاريخي المعين، لا ارتفاعاً فوقه أو تعالياً عليه أو تغافلاً عن حقائقه الحية. ليست الخصوصية استمراراً تاريخياً راكداً لنمط ثابت، وليست الأصالة استغلاقاً وانغلاقاً فكرياً وقيمياً في إطار خبرة تاريخية في لحظة عبر سيادة روح النقد والعقلانية والفاعلية والبناء والإنجاز والإبداع، أما غير ذلك فهو شكل من أشكال السلفية والجمود إن لم يكن الغفلة والتضليل"(3).
__________
(1) … دراسات في الإسلام -لمحمود أمين العالم وآخرين ص 125، ط الثالثة 1985م، دار الفارابي -بيروت.
(2) … الوعي والوعي الزائف ص 201 - 202.
(3) … المرجع السابق ص 203.(52/188)
- ويصم الاتجاه السلفي في العصر الحديث بـ(التزمت)، فنراه يقول تحت عنوان (ليست ظاهرة دينية خالصة): "التيار السلفي المتزمت هو نهاية المطاف في حديثنا الذي طال عن (التراث وتحديات العصر)، على أن الحديث عن هذا التيار حديث متشعب، فبرغم أن هذا التيار الفكري يتخذ من التراث الديني عامة، ومن ظاهر النص الديني خاصة معياراً مطلقاً للحكم والتقييم والسلوك، فما أشد التنوع والاختلاف في الرؤية والنهج والموقف العملي داخل هذا التيار نفسه، وهو اختلاف ينبع من اختلاف الملابسات التاريخية والاجتماعية التي يتجلى فيها هذا التيار أو يوظف. وما أريد في هذا المقال أن أفصل القول في ذلك، وإنما حسبي أن أعرض لهذا التيار في أشد مظاهره وتجلياته وتوظيفاته تزمتاً"(1)، ضارباً المثل لهذا التيار بجماعة (التكفير والهجرة) من خلال قراءة نقدية لكتاب أميرها ومنظرها -شكري مصطفى- المعروف بكتاب (التوسمات) (2).
- ويزعم أن النظرة السلفية إلى التراث "نظرة تقديسية تسعى لفرض الماضي على الحاضر؛ تسعى لتثبيت الحاضر وتجميده باسم الماضي، وهي تبطن موقفاً اجتماعياً مختلفاً"(3).
- ويشن حملة قوية على جميع الجماعات الإسلامية المعاصرة؛ الغالية منها والمعتدلة، متهماً إياها بالجهل والتخلف والجمود وسوء النوايا(4)، كما يربط بين التمسك بأحكام الشريعة الإسلامية وتطبيقها وبين التعصب والجمود والتخلف الحضاري، فنراه يقول -مدعياً-: أنه "ليس ثمة بلد عربي واحد تتعارض قوانينه وتشريعاته الأساسية والفرعية مع الشريعة الإسلامية…، بل إن بعضها يغالي في تطبيق الشريعة إلى حد الحرفية والجمود والتعصب المظهري الشكلي. والأمر الذي له دلالة أن هذا يتمثل بوجه خاص في أشد البلاد العربية والإسلامية تخلفاً من الناحية الاجتماعية والثقافية والحضارية عامة"(5) !!
- ويصف مفهوم الداعين إلى تطبيق الشريعة بأنه: "مفهوم مثالي لا تاريخي ولا اجتماعي للتشريع عامة، فليست القضية الأساسية أن نطبق التشريع الإسلامي أو لا نطبقه، إنما القضية الأساسية هي ما هو التوجه السياسي والاجتماعي الذي نطبق التشريع بمقتضاه، فالتشريع هو تعبير عن علاقات اجتماعية وإنتاجية سائدة، أي: هو انعكاس لعلاقات الإنتاج، أو لنمط الإنتاج السائد. ولهذا يختلف التشريع باختلاف أنماط الإنتاج، واختلاف العلاقات الاجتماعية عامة، ولهذا فليس بالتغيير التشريعي وحده يتغير المجتمع، وإنما يتغير المجتمع أولاً ثم يأتي التشريع لتكريس هذا التغيير وإعطائه مشروعيته، ويضمن له الاستقرار والاستمرار"(6). انتهى كلام الدكتور مفرح القوسي .
يضاف على ما سبق :
يقول العالم عن نفسه: "استقريت على الماركسية منهجاً، والشيوعية طريقاً وطريقةً" .(اعترافات شيخ الشيوعيين العرب، ص27).
غير مقتنع بسقوط الماركسية (انظر كتابه: مواقف، ص219). ويقول في لقائه لموقع إيلاف: "حتى لو انهار الاتحاد السوفيتي لم تنهار الماركسية"!
ويقول : "لا حداثة بغير تحرير المرأة من القيود التي تقيد جسدها وفكرها وحياتها" . (مفاهيم وقضايا إشكالية، ص 82).
يقول الدكتور عبدالحكيم بدران: "يظل محمود أمين العالم ماركسياً، يلاحق التجمعات الماركسية والمؤتمرات التي تُعقد الآن تحت دعاوى النظر في شرعية النظرية الماركسية وإمكانية تطويرها..." . (خيانة المثقفين، ص 54).
يدعي العالم أن العلمانية لا تعارض الإسلام! يقول : "الخلاف هو في واقع الأمر بين العلمانية من ناحية، والفهم الأصولي للدين والفكر الديني المتعصب الذي يتسم بالجمود والنصية الحرفية واللاتاريخية والاطلاقية والنزعة الاستعلائية الاقصائية من ناحية أخرى" . (العلمانية بين الإسلام والعقل والتأسلم، د رفعت السعيد، ص 59 نقلاً عن: الأصوليات الإسلامية في عصرنا الراهن).
من أقواله: "إن العودة إلى الماضي خديعة" . (مفاهيم وقضايا إشكالية، ص8).
وينظر لقاء مجلة المستقبل العربي معه (العدد323) ، وكتاب "اعترافات شيخ الشيوعيين العرب" للأستاذ سليمان الحكيم.
أخيرًا : قال عنه الأستاذ جمال سلطان: "أحد جسور الغزو الثقافي الماركسي للعقل العربي، وهو من مؤسسي الحركة الماركسية في مصر" . (دفاع عن ثقافتنا، ص 16).
__________
(1) … المرجع السابق ص 259- 260.
(2) … راجع: المرجع السابق ص 260 وما بعدها .
(3) … المرجع السابق ص 19
(4) … راجع: بحثه (الفكر العربي المعاصر بين الأصولية والعلمانية) المنشور ضمن كتاب (الأصوليات الإسلامية في عصرنا الراهن) لمجموعة من الكتاب ص 11-17، وهو الكتاب الثالث والرابع عشر من سلسلة كتب (قضايا فكرية) الصادر بالقاهرة في أكتوبر 1993م، بإشراف: محمود أمين العالم.
(5) … المرجع السابق ص 11.
(6) … الوعي والوعي الزائف ص 244.
=====================(52/189)
(52/190)
نظرة شرعية في مؤلفات : د / سيد القمني
- باحث مصري ولد - كما يقول - في 13/3/1947 بمدينة الواسطي من أعمال محافظة بني سويف أولى محافظات صعيد مصر. انتهج الوجهة الماركسية في نظرته للكتاب والسنة ؛ حيث التطاول عليهما ؛ لأنهما - عنده - مجرد نصوص تاريخية خاضعة للنقد ! ، وليستا وحيًا من الله . وهكذا فعل مع التاريخ الإسلامي .
وهو يصرح بهذا ولا يخفيه . يقول في كتابه " أهل الدين والديمقراطية " ( ص 305 ) : " إن ذعر الاقتراب من الدين الإسلامي نقداً أو تفكيكاً وتحليلاً أو لمجرد تقديم قراءة وتفسير جديد، جعل الجميع يحذرون الاقتراب من جوهر المشكلة، رغم أن المشكلة الآن هي في تركيب الدين نفسه وتكوينه الذي يتفرد به عن معظم الأديان الأخرى، والتي وسمته بخصائص جعلته يحمل كثيراً من التناقضات الداخلية في المفاهيم والأحكام " !!
ويقول ( ص 309 ) : " القرآن ليس كتاب علم، بل هو كتاب دين روحي، وهناك تناقضات تتراكم كل يوم وليلة بينه وبين واقع الحياة المتغير المتبدل دوماً " !!
ويقول ساخرًا ممن يرى أن الإسلام جاء بحقوق الإنسان ( ص 311 ) : " .. يعلنون سبق الإسلام في ميدان الحقوق رغم مبدأ كقتل المرتد أو نهاية الرق من التاريخ وبقائه بالإسلام " .
ويقول عن أحكام المرأة التي جاء بها الإسلام ( ص 312-313) : " لدينا مشكلة مستعصية فيما يتعلق بوضع المرأة في الإسلام ووضعها الحقوقي اليوم، ففي الإسلام هي ناقصة دين في العبادة، وناقصة عقل عن الولاية وهي نصف الذكر في الميراث وفي الشهادة...
أليس عدم المساواة بين المرأة والرجل في الميراث اليوم ظلما؟ أليس عدم المساواة بين غير المسلم والمسلم اليوم ظلما؟ " !!
ويقول - أخزاه الله - ( ص 318 ) : " العقيدة الإسلامية مليئة بالأساطير، كيف يمكن تنقيتها من كل هذه الشوائب؟ كل الأديان مليئة بالأساطير وليس الإسلام وحده " !!
- وقد ادعى مؤخرًا أنه رجع عن أقواله بسبب تلقيه خطاب تهديد من الجماعات الإسلامية ! والعارفون به يقولون إن الأمر مجرد ترويج لكتبه ، وإثارة إعلامية .
- للأستاذ منصور أبوشافعي كتاب في الرد عليه بعنوان " مركسة التاريخ النبوي " ، ثم لخصه في مقال بموقع إسلام أون لاين ، قال فيه :
" سيد القمني باحث ماركسي في التراث استطاع على مدى الخمسة عشر عاما الماضية وبأربعة عشر كتابا أن يضع مشروعه الفكري في قلب الخطاب العلماني الذي سوّقه باعتباره "فتحا وكشفا كبيرا" و"اقتحاما جريئا وفذًا لإنارة منطقة حرص من سبقوه على أن تظل معتمة"، بل واعتبر "بداية لثورة ثقافية تستلهم وتطور التراث العقلاني في الثقافة العربية الإسلامية ليلائم الإسلام (وليس التراث) احتياجات الثورة الاشتراكية القادمة".
ولم يقف التسويق العلماني عند هذا الحد. ففي حين لا يتورع عن أن يرى أن القرآن (الإلهي) "يجسد نصّا تاريخيّا" لا بد من وضعه "موضع مساءلة إصلاحية نقدية"!! فقد تعدى هذا الإعلام نقطة الانحياز وأغلق في وجه العقل باب مراجعة أو إمكانية نقد مشروع القمني بحجة أن محاولة نقده "نقدا موضوعيّا أمر مستحيل"!! وهو ما أراه انهيارا للعقل العلماني أمام مشروع د. القمني (الفكري - النسبي - البشري)؛ إذ القول باستحالة نقده يكاد يعني "قداسة" هذا المشروع و"تطهره من الخطأ"!
وبدا أن القمني نفسه والذي قيل عنه إنه "واحد من العلماء الصارمين الذين يعتمدون العلم لا الأساطير". يؤكد هذه القداسة ولا ينفيها حين يقول عن نفسه إنه في مشروعه الفكري عاين التراث "حيّا بلحمه وشحمه ودمه" وقدمه "كما كان حقّا".
وعلى كلٍ فقد مارس القمني حقه الكامل في السؤال وفي البحث وفي الإجابة في كتبه ومقالاته التي يحوم بعضها حول المناطق الحساسة في التاريخ والعقيدة. وبعضها الآخر يقتحم -بلا حذر وأحيانا بتهور- هذه المناطق تحت ضغط أيديولوجي فاقع اضطره -في أغلب كتاباته- إلى التضحية بالمعلوم بالضرورة في كتب مناهج البحث العلمي عن "نقد الأصول". وإلى اعتماد "الأساطير" سواء التراثية أو حتى الاستشراقية بحجة -كما قال وأكد- أن "مهمتنا (مهمته) أبدا ليست تدقيق معلومة يعطيها لنا علماء"، وأن "المعلومات سواء كانت خطأ أم صوابا فهي ذلك المعطى الجاهز لنا من أهل التاريخ".
ولأن ذلك كذلك. فسأحاول -وبإيجاز شديد- إلقاء بعض الضوء على المشروع الفكري للدكتور القمني. وكيف أعاد إنتاج الإسلام ماركسيّا "ليلائم احتياجات الثورة الاشتراكية"؟.
وللأهمية القصوى نبدأ بإثبات تعريف القمني لنفسه بقوله: "أنا مادي". ومن المهم كذلك إثبات حقيقة أن الفارق الجوهري (الفلسفي) بين الموقف "المثالي" والموقف "المادي" في "ألف - باء" الماركسية، يتلخص في أن:
الأول يقول بـ"أولية الله على المادة في الوجود"، وبالتالي فهو يؤمن بوجود إله خالق للكون وللطبيعة وللإنسان، وبأن العلاقة بين الله (الخالق) والإنسان (المخلوق) يمكن أن تكون في شكل رسالة (وحي) ورسول (نبي - بشري).(52/191)
وأما الثاني فيقول بـ"أولية المادة على الله في الوجود"؛ وبالتالي فهو حسب "المادية الديالكتيكية" لا يؤمن بوجود موضوعي حقيقي لله. ومن ثَم -وهذا طبيعي- لا يذهب إلى إمكانية وجود علاقة (سواء في شكل دين أو وحي) بين إله (غير موجود عنده أصلا) وبين إنسان هو الخالق الفعلي لله!! وحسب "المادية التاريخية" فـ"المادي" لا بد أن يبحث في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للإنسان عن وجود وتطور فكرة الله والدين.وهذا ما حاول القمني الالتزام به في مشروعه الفكري الذي رفض فيه ما أسماه بـ"الرؤى الأصولية" التي تقول بأن الإسلام "مفارق سماوي"؛ لتناقض هذا القول "الأصولي" أو "المثالي" مع "مادية" القمني التي تقول بـ"أنه لا شيء إطلاقا يبدأ من فضاء دون قواعد مؤسسات ماضوية يقوم عليها ويتجادل معها، بل ويفرز منها حتى لو كان دينا". والذي حاول فيه (ومن خلال دراسته للأديان عموما وللإسلام خصوصا) إثبات أن "فكرة التوحيد" هي الأخرى لا تأتي من فراغ، ولا تقفز فجأة دون بنية تحتية تسمح بها؛ لأن هذا القفز الفجائي يخالف منطق التطور وشروطه المجتمعية والاقتصادية والسياسية"، حسبما تعلم "في فلسفة التاريخ وقوانين الحراك الاجتماعي".
ولاعتقاد القمني (الماركسي - المادي) أن الإسلام مجرد "إفراز" أفرزته "القواعد الماضوية" (الجاهلية). ولأنه -حسب الرؤية المادية- لا يمكن تفسير الظهور التاريخي للإسلام (كبناء فوقي) وفقا لوعي الإسلام المثبت في قرآنه، بل ينبغي تفسيره بتناقضات الحياة المادية (كبناء تحتي)؛ لذلك فقد رجع القمني في دراساته عشرات الأعوام في عمق الحقبة الجاهلية؛ لينقب في وقائعها عن جذور "جاهلية" لمثلث (الرسول - الرسالة - الدولة).
ولكن ليقين القمني أن اللحظة التطورية (الاقتصادية - الاجتماعية) في الزمن الجاهلي لحظة بدائية أو بدوية لن تسعفه وقائعها في "جهلنة" المثلث الإسلامي، خصوصا أن هذه الوقائع -في رأيه- قد تم "أسطرتها" بزيادة هائلة ومكثفة "عند تدوين التراث الإسلامي في سجلات الإخباريين"، فلم يبدأ القمني دراسته للقواعد الماضوية بنقد الوقائع المدونة في سجلات الإخباريين لتخليصها من النسبة الأسطورية "الهائلة والمكثفة" في معلوماتها. وإنما -وعن قصد- تخلى عن عقله النقدي، وتجنب الوقائع العقلانية في السجلات التراثية. وذلك ليوسع رقعة "الأسطرة" كضرورة أيديولوجية وليست علمية تمكنه من تفكيك المثلث الإسلامي وإعادة ترتيبه ليكون الإسلام (الرسالة) مجرد "إفراز" أرضي وليس وحيا سماويّا.
تحت ضغط هذه الغاية اعتمد الدكتور ما أسماه بـ"المعطى الجاهز له من أهل التاريخ" عن الصراع الهاشمي الأموي قبل البعثة الإسلامية. ورغم أن سبب هذا الصراع كما سجله الطبري (مرجع القمني) أن هاشم بن عبد مناف أطعم قومه الثريد "فحسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف -وكان ذا مال- فتكلف أن يصنع صنيع (عمه) هاشم، فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش، فغضب (أمية) ونال من هاشم". ورغم أن أغلب الكتب التراثية التي روت واقعة الصراع قدمت معلومات تشكك في حقيقته، منها أن "هاشم توأم عبد شمس"، و"كان لهاشم يوم مات خمس وعشرون سنة". أي وكان لعبد شمس يوم مات "توأمه" خمس وعشرون سنة. وهي معلومة -كما نرى- تثير تساؤل: كم كان سن أمية يوم مات عمه أخو أبيه وتوأمه؟ (خمس سنوات أو حتى عشرة). بل ورغم أن ابن إسحاق وابن هشام وابن سيد الناس وابن كثير سكتوا عن مجرد الإشارة إلى هذا الصراع في مؤلفاتهم التي تصنف ككتب "أصول". فقد تجاهل القمني كل ما سبق حتى لا يشك في تاريخية هذا الصراع الذي انتقاه ليكون "القاعدة الماضوية" والمحرك للمجتمع المكي على جسر "الدين" نحو "الدولة".
وبدون دخول في تفاصيل كثيرة. أو تعليق على عشرات الأخطاء "الطلابية" التي امتلأت بها معالجة القمني لمراحل وتطور هذا الصراع؛ فالذي يجب رصده أن "الحزب الهاشمي" في بدايات تأسيسه لم يكن فاعلا بشكل جذري؛ لأنه -في أهدافه (سواء في زمن قيادة هاشم أو في زمن قيادة شقيقه المطلب)- كان ملتزما بخط "قصي" (الجد). ويكاد يدور في دائرته؛ لذلك كان الصراع يحل سلميّا "حرصا على المصالح التجارية وما سبق أن حققه عمه "المطلب" الذي "رحل تاركا له استكمال المهمة الجليلة". فقد نقل الصراع مع أبناء عمومته (الحزب الأموي) من المناوشات المحدودة إلى المواجهة الشاملة. وبتعبير القمني "من التكتيك إلى الأيديولوجيا".
ولأن عبد المطلب -كما يقول القمني- تربى في يثرب "حيث كان كل التاريخ الديني
يتواتر هناك في مقدسات اليهود"، وحيث كانت حكايات اليهود "عن مغامرات أنبيائهم القدامى، وعن دولتهم الغابرة التي أنشأها النبي داود". فقد أتى من يثرب إلى مكة بالمشروع الإسرائيلي (اليهودي) بمثلثه (العرقي - الديني - السياسي) ليهتدي به في "مهمته الجليلة" بـ"وضع أيديولوجيا متكاملة لتحقيق أهداف حزبه الهاشمي".(52/192)
أولا: أرجع النسب العربي من نسب أسلاف القبائل المتفرقة إلى التوحد في "سلسلة النسب الإسرائيلية". وأعلن "أن العرب جميعا وقريشا خصوصا يعودون بجذورهم إلى نسب واحد، فهم برغم تحزبهم وتفرقهم أبناء لإسماعيل بن إبراهيم".
ثانيا: بعد "قراءة" للواقع العربي المتشرذم تمكن عبد المطلب من "تحديد الداء (المكي - العربي) ووصف الدواء. والداء فرقة قبلية عشائرية. والأسباب تعدد الأرباب وتماثيل الشفعاء."ومن هنا انطلق عبد المطلب يضع أسس فهم جديد للاعتقاد" و"انطلق يؤسس دينا جديدا يجمع القلوب عند إله واحد".
ثالثا: وبإزالته أسباب "الفرقة القبلية" لم يكتف عبد المطلب -في رأي القمني- بتبشير قومه بـ"إمكان قيام وحدة سياسية بين عرب الجزيرة تكون نواتها ومركزها مكة تحديدا". لكنه عمل أيضا على ملء المساحة الفاصلة بين نقطة الوسيلة (الدين) ونقطة الغاية (الدولة) بحركة جماهيرية تكون بمثابة الجناح الديني للحزب الهاشمي. وهو ما حدث فعلا في رأي القمني "فقد آتت مخططات عبد المطلب ثمارها واتبعه كثيرون" كوّنوا حركة الحنفاء "حتى شكلوا تيارا قويّا، خاصة قبل ظهور الإسلام بفترة وجيزة". وكان عبد المطلب هو "أستاذ الحنيفية الأول" و"الرجل الأول" في هذا التيار.
رابعا: ولأن المشروع الإسرائيلي هو المرجع، ودولته "التي أنشأها النبي والملك داود" هي النموذج، ولأن عبد المطلب التزم في "استكماله للمهمة" وفي "وضعه للأيديولوجيا" الهاشمية بخطوط التجربة الإسرائيلية. فقد انتهى إلى "أنه لا حل سوى أن يكون منشئ الدولة (العربية) المرتقبة نبيّا مثل داود".
خامسا: بالوصول إلى حل "النبي الملك" أو "الملك النبي" كحل سبق تجريبه، وحقق توحيد "أسباط" اليهود في "دولتهم الغابرة". وليبقى أمر التنفيذ -كما في أمر التخطيط- محصورا في البيت الهاشمي. فقد ذهب د. القمني إلى أن عبد المطلب زعيم قريش وقائد الحزب الهاشمي سلّم عقله ويداه لـ"الحبر اليهودي" ليشاهد ويشهد "أن في إحدى يديه ملكا وفي الأخرى نبوة". وليرشده (بعد قراءة الكف) بحتمية زواجه من بني زهرة "لأن فيهم الملك والنبوة". وسارع عبد المطلب بالزواج -هو وابنه عبد الله- من بني زهرة في ليلة واحدة.
بالتحول "الانقلابي" و"الثوري" للصراع الهاشمي الأموي من صراع ساذج على "إطعام قريش الثريد" -كما في الخبر التراثي- إلى صراع حضاري غير مسبوق في التاريخ. وبوضعه لـ"الأيديولوجيا" الهاشمية استطاع عبد المطلب "ذاك العبقري الفذ" أن يغير -بجذرية- ليس فقط الواقع العربي الجاهلي. وإنما أيضا كل المستقبل الإنساني بدوره "التأسيسي" للدين (الحنيفية - الإسلام) وللدولة (العربية - الإسلامية) ولنبوة حفيده محمد !!
نعم في توثيقه لدور عبد المطلب "التأسيسي" للدين "التوحيدي" قطع القمني بأن ما ذهب إليه هو نفس ما يؤكده ابن كثير بما رواه عن عبد الله بن عباس عن "ديانة أبي طالب بن عبد المطلب: هو على ملة الأشياخ. هو على ملة عبد المطلب". وبالرجوع إلى مرجع القمني ("البداية والنهاية" - جـ 3 - 170) وجدنا ابن كثير في فصل "وفاة أبي طالب" وفي تعليقه على آية (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) يروي عن عبد الله بن عباس "أنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله أن يقول: لا إله إلا الله. فأبى أبو طالب أن يقولها. وقال: هو على ملة الأشياخ.. هو على ملة عبد المطلب".
ومن سياق ما رواه ابن كثير (وأخفاه القمني بقصد) نفهم أن الحفيد (عبد الله بن عباس بن عبد المطلب) روى أن عمه (أبو طالب) رفض أن يقول "لا إله إلا لله". وتمسك (ضد هذا القول التوحيدي) بملة الأشياخ (آباء البيت - الحزب الهاشمي). وتحديدا بملة عبد المطلب التي حسب ظاهر وباطن السياق لا تقول (أي لا تؤمن) بلا إله إلا الله. ورواية الحفيد (ابن عباس) استشهد بها ابن كثير لتأكيد موقفه الذي سجله في أكثر من موضع في كتابه من أن "عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية" (ج2 ص 285).
ونضيف أن ما فعله القمني من تحريف لما رواه ابن كثير كرّر فعله مع ما نقله عن "السيرة الحلبية" (جـ1 ص73) في توثيقه لما أسماه بـ"علم عبد المطلب اليقيني بنبوة حفيده محمد" وسعيه لتحقيق هذا "اليقين" على أرض الواقع بالزواج من بني زهرة. وأيضا هذا التحريف هو ما فعله مع ما نقله عن كتاب "طوالع البعثة المحمدية" (للعقاد) في توثيقه لشرط "توحيد الأرباب" في أنه كمقدمة لازمة لـ"توحيد القبائل" في دولة، ولشرط "أن يكون منشئ الدولة المرتقبة نبيّا مثل داود".
وكل هذه الوقائع (وهي قليل جدّا من كثير جدّا) تؤكد تدخل القمني في نصوص مراجعه "ليجبرها" (بالتحريف والتحوير) على تمكينه (كماركسي - مادي) من تخييل عبد المطلب ليس فقط كقائد لـ"الحزب الهاشمي" في صراعه (الأسطوري) مع "الحزب الأموي". إنما -أيضا والأهم- لتخييله "كمؤسس" للدين (الحنيفية - الإسلام) وللدولة (العربية - الإسلام). وكل هذا لحصر دور حفيده محمد بن عبد الله بن عبد المطلب في دائرة "التنفيذ".(52/193)
هنا نود لفت نظر القارئ إلى سكوت القمني عن تناول -أو حتى الإشارة إلى- المساحة الزمنية الفاصلة بين انتهاء التخطيط لمثلث (الدين - الرسول - الدولة) في حياة (الجد) عبد المطلب وبين بداية التنفيذ بإعلان (الحفيد) محمد نبوته. فالمعروف أن عبد المطلب مات ومحمد في الثامنة من عمره، ومحمد أعلن نبوته في سن الأربعين، أي أن المساحة الزمنية الفاصلة بين التخطيط والتنفيذ تزيد على الثلاثين سنة، وطول هذه الفترة يستنفر في عقولنا السؤال الطبيعي عن مدى فاعلية أداء "الحزب الهاشمي" أثناءها؟ وهل تلقف راية "الحزب" أحد أبناء عبد المطلب لاستكمال الكيان التنظيمي والأيديولوجي؟ أم أن عبد المطلب استكمل كل شيء؟ وهذا كان يوجب على د. القمني أن يشغل عقله بالسؤال عن الموانع التي منعت عبد المطلب من تنفيذ ما خطط له؟ أو بالسؤال عن أسباب زهد أبناء عبد المطلب في نيل شرف تنفيذ خطة "الحزب الهاشمي"؟ وهل مرور هذه الفترة الطويلة جدّا كان نتيجة فراغ قيادي؟ أم كان نتيجة تمرد أبناء عبد المطلب على "دينه" الذي "أسسه"؟ أم أنه حسب "الخطة المرسومة والمدروسة والمنظمة" كان كمونًا تكتيكيًا معلومًا ومتفقًا عليه بين قيادة وقاعدة "الحزب الهاشمي" إلى حين تهيئة الحفيد (محمد) لـ"الداودية" (النبي - الملك).
وأستطيع القول: إن هذا هو ما حاول القمني طرحه ليس كغرض وإنما كحقيقة موثقة. فالثابت في دراسات القمني أنه كما اعتمد الجد (عبد المطلب) على التجربة الإسرائيلية (العرقية - الدينية - السياسية) في تأسيسه للدين وللدولة وفي ترويجه لنبوة حفيده. فالحفيد (محمد) في تنفيذه لـ"خطة" جده تخفف من العبء الأخلاقي. فأولا: ولتحقيق الأمان المالي تزوج "الأرملة الثرية" خديجة بنت خويلد بعد خداع والدها وتغييبه عن الوعي (بالخمر) لانتزاع موافقته التي تنكر لها بمجرد استيقاظه. ووصل الأمر بالأب إلى حد التظاهر ضد هذا الزواج في شوارع مكة. ولتأكيد هذا الخداع أشار القمني وبكل ثقة إلى نقله لهذه المعلومة عن ابن كثير.
وبالرجوع إلى مرجع القمني وجدناها بنصها في كتاب "البداية والنهاية" جـ2 - ص 229). ولكن وجدنا أيضا (وأخفاه د. القمني بقصد) أنها رواية ضمن روايات "جمعها" ابن كثير ليرجح عليها رواية أخيرة هذا نصها "قال المؤملي: المجتمع عليه أن عم خديجة عمرو بن أسد (وليس والدها) هو الذي زوجها محمدا. وهذا -في رأي ابن كثير- هو الذي رجحه السهيلي وحكاه عن ابن عباس وعائشة قالت: وكان خويلد مات قبل (حرب) الفجار، أي قبل زواج محمدمن خديجة بخمس سنوات.
وثانيا: والمهم عند القمني- أنه بعد تحقيق الأمان المالي بدأ الحفيد (محمد) "يتابع خطوات جده" لتحقيق النبوة بالوحي. وهي خطوات قادته إلى سرقة أشعار أمية بن أبي الصلت. وادعاء أنها وحي الله إليه. وبقصد وليوهم د. القمني القارئ بأن ما قاله عن المصدر الشعري (الجاهلي) للقرآن ليس رأيا تفرد به، فقد أكد أن ما قاله كان نقلا عن عالم مشهود له بالموضوعية والدقة هو د. جواد علي. وبالرجوع إلى موسوعة د. جواد "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" (جـ6 من ص 490 حتى ص 498) اكتشفنا أن د. القمني قام بتحريف أقوال د. جواد ليجبره على أن يقول بما ختم به القمني دراساته.
"لعبت هاشم بالملك فلا ... ملك جاء ولا وحي نزل"
وهذه جزئية تناولتها بإسهاب وتفصيل في كتابين: الأول بعنوان "مركسة الإسلام" والثاني بعنوان "مركسة التاريخ النبوي" (صدر في سلسلة "التنوير الإسلامي").
وما أوردته فيها من أدلة موثقة على تعمد القمني الكذب ليتمكن من إرجاع مثلث (الإسلام - الرسول - الرسالة) إلى منابع جاهلية ويهودية. يغنيني -الآن- عن الإطالة ويغريني بالتوسع في دراسة موقف د. القمني من القرآن (مصدره -جمعه وتدوينه- وعملية التعامل مع نصوصه). وهذا ما أحاوله الآن " . انتهى مقال الأستاذ منصور أبو شافعي .
وللدكتور عمر كامل كتاب في الرد على القمني بعنوان " الآيات البينات لما في أساطير القمني من الضلالات " .
قال فيه ( ص 61 و 383-391) - ملخصًا أفكار القمني - : " لقد وَلِهَ "سيد القمني" بكتابات المستشرقين والعلماء الغربيين، ولعله نوع من العقد النفسية التي تلازم المنبهرين بحضارة الغرب، وكأن مصدر الانبهار هو تطور علومهم التاريخية أو الدينية أو اللغوية، وليس العلوم الطبيعية والتكنولوجيا.
فأخذ بآراء علماء تشابهت عليهم الأمور لأسباب عديدة منها: عدم رسوخ علوم اللغات القديمة، حيث نجد أن الترجمة تختلف من شخص لآخر كتابة ولفظاً.
ثم إن علم الحفريات لم ينته بعد، وما تزال فيه فجوات كبيرة، فمن الخطأ الجزم به لا سيما إذا كان الأمر على قدر كبير من الخطورة وهو ادعاء أن تعدد الآلهة هو الأصل !!
إن الرسالات السماوية تؤكد أن الأصل هو التوحيد، وعندما يحث الانحراف يبعث الله رسولاً ليصحح ما فسد من عقائد الناس.(52/194)
وإن المطلع على كتابي: "مفهوم الألوهية في الذهن العربي القديم" و"تاريخ الله" للكاتب "جورجي كنعان" يكتشف الكثير من الأخطاء والمغالطات التي وردت في ثنايا دراسات الغربيين، وهي التي اعتمد عليها "سيد القمني" في صدامه مع القرآن وعقيدة التوحيد. ولكن لا غرو فـ"كل فرنجي برنجي"!
وهذا موجز لما في كتب القمني :
1-كتاب قصة الخلق :
- قوله: فعندما كان المجتمع في الابتداء مشاعاً كان أرباب السماء في متعة الشيوع تمرح، وعندما تم تقسيم العمل على الأرض تحول مجتمع السماء إلى آلهة شغيلة، وآلهة للتفكير والتدبير، وعندما تمكن الإنسان من الابتكار وصنع الجديد تمكنت آلهة السماء من الخلق والتكوين!!
- قوله: الأمر { كن } .. لم يعد الآن مجدياً بعد أن وجد الكون فعلاً بالطريقة اليدوية التصنيعية!!
- تجرؤه وسوء حديثه وقبح عبارته مع الأنبياء حيث قال عن نبي الله يوسف عليه السلام : أما مصدر شهرة يوسف فهو أنه كان جميلاً فتاناً!! والثاني: أنه كان كثير الأحلام !! والثالث: أنه كان مفسراً أيضاً للأحلام".
- وقوله: عن نبي الله موسى عليه السلام: قُدِّر لهذا النبي أن يكون صاحب مغامرات كبرى وشهيرة.. ألقته أُمه في اليم، لكن "أقدرا الميلودراما" !! ساقته إلى قصر الفرعون.. لكنه كان يعرف أصله العرقي مما دفعه للانتصار لأحد اليهود من بني جلدته فقتل بسبب انتصاره لعصبيته مصرياً دون أن يتحقق حتى من موضع الحق.. ولما طلبه القانون للقصاص هرب وهناك قابله رب اليهود ليقود شعبه المختار!!
- رفضه مُلك نبي الله سليمان عليه السلام ودليله المزعوم: أنه لم يكتشف نص واحد إلى الآن يشير من بعيد أو قريب إلى مُلك باسم سليمان أو داود.. وهو أمر غريب بالقياس إلى ما ادعته التوراة عن شهرة المملكة السليمانية وبالتالي فهو يغمز القرآن لأنه أشار لملك سليمان وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم
2-كتاب الأسطورة والتراث :
- حزنه العميق للتوجهات الإعلامية الرسمية وسعيها الدؤوب لوضع الدين على قمة الهرم الفكري، لخوفه من أن يظهر الدين وحده، والإسلام تحديداً كما لو كان هو كل تراث أمة العرب.
- غمزه ولمزه في سيده، ترجمان القرآن في عصرنا وحامل لواء تقديمه للناس، فيصفه: بالمتعالم التلفازي، وبأنه يحيل شبابنا بعيداً عن كتب الكيمياء والفيزياء والاجتماع والتاريخ والسياسة... الخ، إلى كتاب الله وحده!!
- زعمه أن إبليس كان ملاكاً عاصياً وينقم على المفسرين أن يجعلوا إبليس من "الإبلاس" كل ذلك بسبب لهثه وراء مراجع ملئت بالخرافات فيلعق منها ما وافق قصده الخبيث.
- نقمه على الإسلام إفراد الله تعالى بالعبادة وحده فيقول: ولم تنته عبادة الأنثى إلا في بيئة رعوية مائة بالمائة، ذكرية مائة بالمائة، أقصد في الدين الإسلام الذي تحول بالعبادة عن الأنثى نهائياً.
- زعمه أن وقفة عرفات لممارسة الجنس !! وليست للعبادة واسمع لقوله: "عُرف الجبل باسم عرفة لأن "آدم" عرف أو جامع "حواء" عليه، ومن هنا تقدس الوقوف بعرفة، وكان الوقوف بعرفة من أهم مناسك الحج الجاهلي، فكانوا يتجهون إلى هناك زرافات ذكوراً وإناثاً يبيتون ليلتهم حتى يطلع عليهم النهار. وإن العقل ليتساءل أمام مشهد ألوف الرجال والنساء يتجهون إلى الجبل ليبيتوا هناك جميعاً حتى الصباح؛ ما وجه القدسية في هذا الطقس؟ إن لم يكن من قبل ذلك تجمعاً لممارسة طقس الجنس الجماعي طلباً للغيث والخصب ولا نعرف جبلاً يجمع اسمه إلا "عرفات"؟! فهل الجمع هنا للجبل أم للمجتمعين على الجبل في حالة جماع أو عرفات يماثلون به الفعل الأول الذي قام به "إساف" عندما عرف "نائلة" أو "آدم" عندما ضاجع "حواء" !!
- ثم يضيف: "وطقس عجيب آخر هو الاحتكاك بالحجر الأسود، وأن كلمة "حج" مأخوذة أصلاً من فعل الاحتكاك، فهي في أصلها من "ح ك" مع الأخذ بالاعتبار "هيئة الحجر الأسود وشكله"!!
- ويضيف: "وما لزوم طقس حلق الشعر -وبالذات عند المروة- الذي لا يمكن فهمه بالمرة إلا في ضوء طقوس الخصب الجنسية القديمة والذي كان بديلاً عن الجنس الجماعي.. والحلق هو المستدير في الشيء وهو رمز جنسي واضح.
- زعمه وجود التضارب والتناقض بين كثير من الآيات !! فيقول: والمعلوم أنه عندما جمع المصحف "زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه" تم جمع كثير من الآيات المنسوخة وهو الواقع الذي أدى إلى ظهور كثير من الآيات بمظهر التضارب والتناقض.
- زعمهم ممالأة القرآن لليهود قبل وصول صلى الله عليه وسلم للمدينة.. وأن صلى الله عليه وسلم اشترع للمسلمين صوم يوم الغفران اليهودي، والتوجه في الصلاة وجهة اليهود.
3-كتاب رب الزمان :
- زعمه أن المأثور الإسلامي كان دوماً إلى جانب الإسرائيلي ضد كل حضارات المنطقة متجاهلاً بل متعامياً أن القرآن الكريم لعن اليهود واتهمهم بتحريف التوراة، وقتلهم الأنبياء بغير حق .. الخ .
- تمجيده للفرعوينة، وزعمه أن اليهودية كدين ليس فيه إيمان بالبعث والحساب .(52/195)
- نفيه الصريح للنبوة والأنبياء حين يزعم: أن التاريخ كعلم؛ لا يعرف في وثائقه المدونة ولا في حفائره الأركيولوجية على الإطلاق شخصاً باسم يوسف، ولا جماعة باسم الأسباط، ولا صديقاً للإله باسم إبراهيم، ولا نبياً باسم موسى، ولا عظيماً باسم داود، ولا حكيماً حاز على شهرة فلكية مُلِّك على مملكة أسطورية باسم سليمان.
- ويواصل نفث سمومه فيزعم أن التاريخ كعلم لم يسمع أبداً ولم يسجل في مدونات مصر، ولا في مدونات الدول المجاورة مصر، ولا في مدونات الدول المجاروة خبر جيش الدولة العظمى، وهو يغرق في بحر تفلقه عصا !
- كذبه وادعاؤه على موسى أنه الذي أخذ آل فرعون بالسنين .
- تكذيبه للقرآن وللأحاديث الصحيحة في أن ملك سليمان لم يؤته أحد من العالمين ويقول: "إذا قيست منشآت سليمان بمنشآت تحتمس الثالث، أو رمسيس الثاني أو نبوخذ نصر، فإن منشآت سليمان تبدو من التوافه الهينات" !
- وصفه للأمة المسلمة بأنها أغرب أمة أُخرجت للناس!! وسبب اتهامه ذلك الرؤيا الإستاتيكية !! فهو برؤيته الإستاتيكية هذه يتهم الأمة بأنها تخلط التراث بمسلمات ما أنزل الله بها من سلطان بالحكى الشعبي، بالتاريخ الحقيقي، مع تزييف نموذجي ليلتقي بالمأثور الديني.
- الكذاب!! يريد أن يخرج من دائرة الإيمان والكفر إلى قضاء أوسع لا يظله إلا مناخ علمي حر تماماً، بالطبع لأنه يرى في الإيمان تقييداً لحريته العبثية فهو يريد أن ينفلت من دين الله، بدليل أنه يرفض أن يظل أسيراً لتواتر الوحي القرآني والإسلام.
- يُريد أن يُبقي الآيات القرآنية حبيسة الوقائع التاريخية لأسباب النزول فقط؛ وبالطبع انتهت هذه الأسباب الآن فلا دور إذن للقرآن بيننا الآن؟!
- زعمه أن الدين الإسلامي أعاد المرأة إلى زمن حواء الأسطوري، زمن الخطيئة الأولى، يمركز الشر كله حولها، فهي شيطان غواية لأنها رفيق إبليس، ويسخر من أحاديث صلى الله عليه وسلم بأنها خلقت من ضلع أعوج، وناقصة عقل ودين، وما خلت برجل إلا كان الشيطان ثالثهما؛ والرد على هذه الترهات وبيان كذبه وجهله بأحكام الدين، ووصاية صلى الله عليه وسلم بالنساء.
4-كتاب النبي إبراهيم والتاريخ المجهول :
- إنكاره للدين وأنه منزل من عند الله رب العالمين وادعاؤه أن : "الأديان الكبرى الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام، أفرزتها المواطن السامية شرقي المتوسط " .
- إنكاره زيارة نبي الله إبراهيم لجزيرة العرب، ونفيه لأي علاقة بين الخليل إبراهيم والإسلام، وثقته في التوراة الموجودة الآن أكثر من ثقته في القرآن والدليل أنه يستدرك بها على القرآن.
- معاودة إنكاره للنبي إبراهيم عليه السلام جرياً وراء أسياده المستشرقين، وعلى أساس أنه لم يُعثر في آثار وادي النيل، أو آثار وادي الرافدين له على أثر !!
- اتهامه للنبي r بالكذب في نسبت صلى الله عليه وسلم للنبي إبراهيم عليه السلام وزعمه أن ذلك كان لتأليف قلوب اليهود، فلما فشل النبي في ذلك -بزعمه- أخذه من الجميع عنوة واقتدارا، وزعم أنه جده البعيد، وجد جميع العرب المسلمين ومؤسس العقيدة الإسلامية !
- اتهامه -كذباً وجهلاً بحقائق الأمور وتدليساً على القارئ- للمؤرخين الإسلاميين بأنهم استقوا معلومات هائلة، كما وكيفاً من التوراة الموجودة الآن، وأصبحت هذه التفاصيل مرجعاً إسلامياً.
- تكذيبه للقرآن في قصة الذي حاج إبراهيم في ربه، وإنكاره أصلاً لوجود ذلك النمرود ؛ وزعمه أن هذا الاسم لم يعرف إلا في بداية العصور الإسلامية.
- تأويله الخاطئ المبني على قصور في الفهم نتيجة للجهل بالحديث الشريف الذي ورد في أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وهما صحيحا البخاري ومسلم بحق خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام بخصوص: الثلاث كذبات.
- اعتباره القرآن الكريم والأحاديث النبوية مأثوراً شعبياً، واتهامه زوراً كعب الأحبار بأنه دس أحاديث الأنهار التي في الجنة والتي وردت في صحيحي البخاري ومسلم، وذلك تعصباً لجنسه فهو عبراني يهودي، كما يقول مؤلف الشؤم هذا.
- تخبطه الشديد في أنساب العرب حتى زعم أن العدنانيين ليسوا عرباً أصلاً. وبذلك ينفي هذا الدعي الجاهل نسب صلى الله عليه وسلم للعرب، ولا ندري ما السبب في ذلك؟ فلم تفصح عنه نفس خبيثة منهم حتى الآن، وليس ببعيد أن ينسبوا صلى الله عليه وسلم إلى الإسرائيليين في يوم ما. ربما يمهدون بهذا الهراء؛ لذلك، فاعلم أيها الرويبضة -أنت ومن على شاكلتك- أن نسب صلى الله عليه وسلم الشريف إلى عدنان. متفق عليه بين كل النسابين ولا شبهة غبار عليه، ولعنه الله على الجاحدين.(52/196)
- وفي قاصمة - قصم الله ظهره- يفْجُرُ على نبي الله، وخليل الرحمن الذي جعله الله تعالى أمة وحده، فيقول: "وعندما يترك الابن الضال بيت أبيه، يخسر كل ما يعطي الحياة قيمة حقيقية، وينحط إلى مستوى الخنازير، ولو شعر في بداءة الأمر بنشوة السرور الوقتي للحصول على الشهوة المشتهاة، إن سقطة إبراهيم في مصر تعطينا صورة عن طبيعته الأصيلة التي لم تكن نبيلة بأي حال من الأحوال، فإبراهيم بطبيعته الأصيلة لم يكن يسمو كثيراً عن سائر بني المشرق، الذي لا يترددون عن الكذب لكسب خير، أو دفع ضر" !!
- زعمه أن كلمة "آمين" التي يُؤَمِّن بها المصلي خلف الإمام أن أصلها يرجع إلى الواحد الخفي -هل تعرفون من هو ذلك الله الخفي؟ - إنه يزعم أنه الإله المصري القديم "آمون" والذي حُرف وأصبح "آمين"!!
5-كتاب الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية :
- يلف ويدور حول أن أجداد صلى الله عليه وسلم يحاولون تأسيس دولة في شبه الجزيرة وإن كانوا عجزوا عنها فسوف يحقق هذا الحلم حفيدهم محمد!!
- غمزه ولمزه لزواج صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة رضي الله عنها.
- اتهامه صلى الله عليه وسلم أنه ألب العبيد على أسيادهم ووعدهم بكنوز كسرى وقيصر، وأن عتقه لعبده زيد بن حارثة ثم تبنيه؛ أعطى للدهماء من الأعراب أملاً عظيماً متجاهلاً أن القرآن الكريم هو الذي قال: { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } .
- غمزه للأنصار واتهامهم بالانتهازية في إرسالهم الوفود للنبي r ومبايعته .
- اتهامه للنبي r بمصانعة اليهود حتى تحين له الفرصة ليتخلص منهم .
- إفصاحه عن خبيئة نفسه الخسيسة بقوله: "أما المهمة الجليلة والعظيمة فكانت قيام صلى الله عليه وسلم بإنشاء نواة لدولة عربية إسلامية في الجزيرة محققاً نبوءة جده: إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء " .
6-كتاب حروب دولة الرسو صلى الله عليه وسلم :
الجزء الأول :
- اتهامه للنبي r بأنه تحول إلى جهة أخرى مرحلية على خطوات الطريق الاستراتيجي الطويل، تحول بموجبها نحو المستضعفين وهم دوماً مادة الحروب لمصالح الطبقات المسيطرة، ومادة الانتقال الثوري لمصالح طبقة غيرهم، والمعُدَمين والعبيد يدعوهم إلى النسب وامتلاك كنوز كسرى وقيصر.
- ويواصل مفترياته على صلى الله عليه وسلم فيقول: وتبع تلك الخطوة خطوات متتابعات سريعة فتم تكثيف الهجوم المباشر على الأثرياء وتوعدهم بسوء المآل... ثم يعدد كل مآثر الإسلام ونصرته للحق وللضعيف ووقوفه في وجه الظالم وأكل أموال الناس بالباطل على أنها خطة من صلى الله عليه وسلم في سبيل تدعيم مملكته الجديدة.
- تصويره لبيعة العقبة الأولى والثانية على أنهما لقاء بين صلى الله عليه وسلم وأخواله اليثاربة لينتقل إلى حمى جديد يرفع الضغط عن أعمامه.
- اتهامه للجماعة الإسلامية كلها أنها تحولت إلى دولة محاربة هجومية دولة عسكر ومغانم متكاملة كالقبيلة تماماً، واتهامه للنبي r بأن تأجيله لوعده بالرخاء والنعمة إلى الآجل في رغد الجنة بأنه كان تأجيلاً ميتافيزيقياً لحل قضيتهم.
- محاولة غمزه للنبي r بالكذب عندما قال للأعرابي: "نحن من ماء" .
- غمزه للمسلمين بحبهم للحرب والدماء، ومدحه لقريش ووصفها بأنها مُحبة للسلم.
- اتهامه للنبي r بأن له خبيئة نفس والطعن في شرفه وذمته فيقول - قبحه الله - : "...والقول الشريف هنا يُفصح عن خبيئة نفس المصطفى عليه الصلاة والسلام لأهله وبلده، وعن التناقض الآتي الذي سيفصح عن نفسه في أواخر الحياة النبوية المشرفة..." .
- اتهامه دون دليل للمسلمين بقتل الأسرى في بدر.
- زعمه أن جيش المسلمين في بدر كان كله من الشباب، وجيش قريش كان من الشيوخ والأشراف، لذا كانت الهزيمة لهم والانتصار للمسلمين.
- ادعاؤه إلغاء "المؤاخاة" وظهور طبقة برجوازية بعد غزوة بدر.
- إشادته بأخيه عبدالله بن أُبي ابن سلول ووصفه بالحنكة العسكرية وتندره على التاريخ الإسلامي حين يضع ابن أُبي كرأس للمنافقين.
الجزء الثاني :
- زعمه أن الحروب الإسلامية كانت بدافع المغانم، وأنها كانت هي الوسيلة الوحيدة لحل مشكلة المعدمين وانخراطهم مع العصبية الإسلامية.
- اتهامه لآيات القرآن وسوره؛ بأنها سايرت الواقع وهادنت الأثرياء، وهدأ تنديدها بهم، مع إهمالها لقضايا المستضعفين بعد أن كانوا مادة الحركة ووقود حروبها.
- غمزه لفريضة الزكاة، والصدقة، واتهامهما بغسل الأموال التي استولى عليها المسلمون بالغزو في زعمه.(52/197)
- اتهامه للدولة الجديدة بزعمه والتي ظل يدندن حولها وكيف أفلح صلى الله عليه وسلم فيما أخفق فيه أجداده، بأنها دولة تحوي كل النقائض، وأنها اعترفت بمقدسات القرشيين والتي كانت تعد وثنيات، وتقديس شعائر الوثنيين، وتكريس المقامات، وضرورة أن يكون للدولة معبد بعد أن تراجعت عن القدس "أورشليم"، وأن يكون هذا المعبد معبد قريش قبيلة الرسول في المقام الأول، وسدنته الهاشميون آل البيت. تدليس وكذب وافتراء، كل ذلك بسبب إنكاره للحج في الإسلام واعتباره شعيرة من شعائر الوثنية " . انتهى كلام الدكتور عمر كامل .
- للشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - تعقب على دراساته التاريخية . ( انظر : مجلة العرب ، جمادى الأولى والثانية 1415هـ ) .
يُضاف على ما سبق :
سخريته في كتابه " الفاشيون والوطن " ( ص 97 وما بعدها ) من بعض الأحاديث النبوية ؛ كحديث قطع المرأة للصلاة وغيره .
هجومه على الصحابة - رضي الله عنهم - ؛ كعثمان وعمرو بن العاص ، في كتابه " عفاريت التراث " ( ص 62 ومابعدها ) ، وادعائه أن فتوحاتهم كانت لمجرد المال !
- إنكاره لعقوبة الرجم ، في كتابه السابق ( ص 547ومابعدها ) . وقوله عنها في كتابه " أهل الدين والديمقراطية " ( ص 309) : " فقهاء الإسلام طبقوا التوراة بدل القرآن في حد الرجم فلا وجود لحد الرجم في القرآن " .
طعنه في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بأنه مستبد ومتسلط وظالم بسبب قتاله لأهل الردة ! ( انظر كتابه : شكرًا ابن لادن ، 100) .
قوله في كتابه السابق ( ص 107 ) عن سياسات أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - أنها " كانت كلها صراعًا على الدنيا " ! ولا أدري لماذا لم يذكر عليًا - رضي الله عنه - معهم !!
- قوله في كتابه " أهل الدين والديمقراطية " ( ص 319 ) : " أما مفهوم الجهاد فهو مفهوم طائفي عنصري، يقصي من العمل الوطني كل أبناء الوطن من غير المسلمين، ويدافع من أجل الله ومقدساته قبل وطنه ويؤدي إلى نفور الضمير الدولي الذي تجاوز العنصرية والطائفية " .
- أخيرًا : من الطريف أن هذا الماركسي عندما رأى سقوط وتهافت الماركسية في هذا الزمن تحول - كغيره من المرتزقة - 180 درجة إلى الضفة الأخرى بادعاء الليبرالية !! ، يقول : " تبنيت الطرح القومي مع موقفي النقدي من الإسلام والخطاب الإسلامي حتى حدث احتلال الكويت وما تلاه، لأهتم قليلاً بالقراءة السياسية حيث اهتزت قناعتي القومية أو بالتحديد العروبية المصبوغة بنماذج كالناصرية، لأتحول إلى الليبرالية مبدأ وعقيدة كنموذج أمثل لخلاص الوطن " !
======================(52/198)
(52/199)
نظرة شرعية في فكر (محمود شلتوت)
ترجمته(1) :
هو: "محمود شلتوت: فقيه مفسر مصري. ولد في منية بني منصور (بالبحيرة) وتخرج بالأزهر (1918م)، وتنقل في التدريس إلى أن نقل للقسم العالي بالقاهرة (1927م)، كان يقول بفتح باب الاجتهاد. وسعى إلى التغيير في الأزهر فعارضه بعض كبار الشيوخ وطرد هو ومناصروه، فعمل في المحاماة (1931-1935م) وأعيد إلى الأزهر، فعين وكيلاً لكلية الشريعة ثم كان من أعضاء كبار العلماء (1941م)، ومن أعضاء مجمع اللغة العربية (1946م) ثم شيخاً للأزهر (1958)! إلى وفاته.
وكان خطيباً موهوباً جهير الصوت.
له 26 مؤلفاً مطبوعاً، منها: "التفسير" أجزاء منه في مجلد، ولم يتم، و"حكم الشريعة في استبدال النقد بالهدي" و" القرآن والمرأة" رسالة، و"القرآن والقتال" و"هذا هو الإسلام" و"عنصر الخلود في الإسلام" و"الإسلام والتكافل الاجتماعي" و"فقه السنة" الأول منه، و"أحاديث الصباح في المذياع" و"فصول شرعية اجتماعية" و"حكم الشريعة الإسلامية في تنظيم النسل" محاضرة، و"الدعوة المحمدية" رسالة، و"فقه القرآن والسنة" الجزء الأول، و"الفتاوى" و"توجيهات الإسلام" و"الإسلام عقيدة وشريعة" و"الإسلام والوجود الدولي".
-كانت لشلتوت جهود غير مشكورة في مداهنة الرافضة والسعي للتقارب معهم. حيث قاموا بخداعه عندما كان شيخاً للأزهر بأن يصدر أمرًا بتدريس مذهب الرافضة في الأزهر! فوضع مشروعاً لذلك؛ إلا أن وقوف بعض شيوخ الأزهر ضد هذا المشروع حال دون إتمامه -ولله الحمد-(2).
ولكنه أصدر فتوى بجواز التعبد بالمذهب الإمامي سنة 1368هـ فطار الروافض بهذه الفتوى فرحاً، ونشروها في الآفاق، وكالوا المديح لشلتوت(3).
تنبيهات :
__________
(1) … نقلاً عن الأعلام للزركلي (7/173) بتصرف.
(2) … للتوسع: انظر رسالة الدكتور ناصر القفاري -وفقه الله- "مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة".
(3) … انظر على سبيل المثال : كتاب "مع رجال الفكر في القاهرة" للرافضي مرتضى الرضوي (ص24-63)، وكتاب "الوحدة العقائدية عند السنة والشيعة" للدكتور الرافضي عاطف سلام (ص36). وقد نشر نص فتوى شلتوت، وذكر أنها نشرت في مجلة "رسالة الإسلام" العدد الثالث، السنة الحادية عشرة.
…وانظر أيضاً: "مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية" لمجموعة من الباحثين، تقديم عبد الله العلايلي. حيث ذكروا جهود دعاة التقريب -ومن ضمنهم شلتوت- في هذا المجال. ولكنهم جميعًا باؤا بالفشل -ولله الحمد-.
الأول: أنني أدخلت شلتوت ضمن الطائفة العصرانية لأنه -كما يعلم الباحثون- أحد شيوخ هذه المدرسة ممن تأثروا بأفكار مؤسسيها، فكان له أثر كبير فيمن بعده من العصرانيين اللاحقين، حيث أصبحوا يرددون أفكاره وآراءه التي ذكرها في كتبه؛ لا سيما كتابه الشهير "الإسلام عقيدة وشريعة" -كما سيأتي إن شاء الله-.
فمن تلك الأفكار والآراء التي رددها العصرانيون بعده :
غلوه في تعظيم العقل البشري على حساب النصوص الشرعية! لا سيما نصوص السنة.
جواز موالاة الكفار.
رده لأحاديث الآحاد.
دفاعه عن الفرق المنحرفة.
إنكار المعجزات.
تشكيكه في حجية الإجماع.
تشكيكه في حكم المرتد.
اختياره أن المسلم يُقتل بالكافر.
ادعاؤه أن الكفار إخوان للمسلمين في الإنسانية.
ادعاؤه أن الجهاد في الإسلام للدفاع فقط.
تقسيمه السنة إلى "تشريعية وغير تشريعية".
غلوه في باب المصلحة ولو أدى ذلك إلى التنصل من الحكم الشرعية.
اتكاؤه على قضية "الصحيفة" التي يروى أن صلى الله عليه وسلم كتبها عند مقدمه للمدينة في إقرار أمور غير شرعية؛ كموادة الكفار أو استعمالهم أو غير ذلك مما يقوله العصرانيون كما سبق في الرد على هويدي وعمارة.
هذه بعض الأمور التي استفادها العصرانيون الجدد من شلتوت، ولعله قد استفاد أكثرها ممن سبقه.
الثاني: أنني قد اقتصرت في بيان انحرافات شلتوت على كتاب واحد له هو "الإسلام عقيدة وشريعة"؛ لأنه عمدة كتبه، وقد وضع فيه معظم آرائه واختياراته. وقد استفدت كثيرًا من كتاب الشيخ عبد الله بن يابس -رحمه الله- "إعلام الأنام بمخالفة شيخ الأزهر شلتوت للإسلام".
انحرافاته: الأول: تهوينه من شأن النصوص الشرعية في مجال العقيدة وأنها لا تُحصل الإيمان للمسلم بخلاف ما يزعمه من الدليل العقلي يقول شلتوت: "أما الأدلة النقلية فقد ذهب كثير من العلماء (!) إلى أنها لا تفيد اليقين ولا تُحصل الإيمان، ولا تثبت بها وحدها عقيدة؛ لأنها مجال لاحتمالات كثيرة تحول دون هذا الإثبات" (ص53).
ولهذا: فقد رد شلتوت -كما سيأتي- كثيراً من العقائد الثابتة بنصوص الكتاب والسنة لأن عقله لم يقبلها!(52/200)
الانحراف الثاني: زعمه أن الإسلام يتسع للأفكار والثقافات البعيدة عنه! يقول شلتوت (ص9): "الإسلام دين يتسع للحرية الفكرية العاقلة (!) ولا يقف فيما وراء عقائده وأصوله على لون واحد من التفكير أو منهج واحد من التشريع.." ففي هذا الكلام أن الإسلام يتسع لألوان الكفر والأهواء المختلفة، ويرضى بنشرها في سلطانه، ولا ينكر على أهلها! وهذا من الكذب والافتراء على دين الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى (لا يرضى لعباده الكفر) بل يأمرهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأي منكر أعظم من السماح بنشر الأديان المنحرفة والمذاهب الباطلة التي تحوي ألواناً من الشركيات والكفريات أو البدع والمخالفات ؟!
الانحراف الثالث: عدم تكفير اليهود والنصارى، ولو بلغتهم دعوة الإسلام ما لم يقتنعوا بها!! (ص 19-20).
وهذا قول ضال خالف به شلتوت نصوص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين في كفر اليهود والنصارى إذا بلغتهم دعوة الإسلام. كما قال صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه مسلم.
قالت اللجنة الدائمة برئاسة الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "من أصول الإسلام: أنه يجب اعتقاد كفر كل من لم يدخل في الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم" "ولهذا: فمن لم يكفِّر اليهود والنصارى فهو كافر"(1).
الانحراف الرابع: اقتصاره في معرفة العقائد على القرآن وحده! يقول شلتوت: "الطريق الوحيد لثبوت العقائد هو القرآن الكريم" (ص 57).
ويُقال له: فأين قوله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه)، وقوله (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)؟! وغير ذلك من الآيات الآمرة بالرجوع إلى الكتاب والسنة جميعاً؟! أم أن شلتوت متأثر بالمعتزلة وأضرابهم من معظمي العقل البشري القاصر؟!
الانحراف الخامس: موالاته للكفار وعدم بغضهم. يقول شلتوت (ص44): "الإسلام لا يرى أن مجرد المخالفة في الدين يبيح العداوة والبغضاء"! وهذا مخالف للنصوص الشرعية الكثيرة الآمرة ببغض الكفار وعدم موالاتهم(2)، وفي مقدمها قوله تعالى (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براؤ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده)، وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق)، وقوله (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) الآية.
__________
(1) … فتوى رقم (19402). وانظر للزيادة : "الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان" للشيخ بكر أبو زيد.
(2) … انظرها في رسالة "الموالاة والمعادة في الشريعة الإسلامية" لمحماس الجلعود، و"الولاء والبراء" للدكتور محمد بن سعيد القحطاني.
الانحراف السادس: تشكيكه في كثير من مسائل العقيدة بدعوى أنها لم ترد بطريق قطعي! كرؤية الله عز وجل، وظهور المهدي، والدجال، والدابة، ونزول عيسى -عليه السلام- آخر الزمان.. إلى غير ذلك مما لم يقبله عقله القاصر. (انظر ص55 من كتابه).
الانحراف السابع: دفاعه عن الفرق المبتدعة التي انحرفت عن الحق وخالفت سبيل أهل السنة بأنه لا يجوز رميها بالضلال أو أنها حائدة عن الصواب!!
ومعنى هذا أن جميع الفرق التي تنتسب إلى الإسلام مصيبة في رأيها حيث إنها لم تحد عن الصواب، وأنها غير ضالة. ومن ضمن ذلك: الجهمية الذين سلبوا الله صفاته وقالوا بخلق القرآن وكفرهم السلف. والرافضة الذين يقدحون في صحابة رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ولديهم من العقائد الكفرية الشيء الكثير وغيرهم. ويلزم من هذا تضليل علماء السلف بل الصحابة الذين أنكروا على المبتدعة وحذروا منهم وردوا عليهم.
الانحراف الثامن: ادعاؤه أن حديث الآحاد لا يفيد اليقين (ص59). فيلزم من هذا رد كثير من العقائد الواردة بطرق صحيحة ولكنها آحاد. وهذا مخالف لعمل الصحابة -رضي الله عنهم- والسلف الصالح الذين قبلوا خبر الآحاد إذا اكتملت شروط الصحة فيه. وللرد على هذه الشبهة بتفصيل انظر، رسالة: "حديث الآحاد" للشيخ الألباني -رحمه الله-.
الانحراف التاسع: إنكاره -كغيره من العقلانيين- لكثير من المعجزات التي لم يقبلها عقله؛ كانشقاق القمر، وحنين الجذع (ص 64). مع أنها ثابتة بطرق صحيحة.
الانحراف العاشر: تشكيكه في حجية الإجماع (ص 65 وما بعدها). وأدلة حجية الإجماع يعلمها كل طالب علم، فمن خالف ذلك فقد خالف الإسلام.
انظر رسالة : "حجية الإجماع" للدكتور محمد فرغلي
الانحراف الحادي عشر: تشكيكه في حكم المرتد، وأنه من الممكن تغييره؛ لأنه لم يثبت إلا بحديث الآحاد! (ص281)، وفي هذا مخالفة صريحة للنصوص الشرعية الواردة في قتل المرتد، ومخالفة لإجماع علماء المسلمين. قال ابن قدامة -رحمه الله-: "أجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد"، (المغني 8/123).(52/201)
الانحراف الثاني عشر: اختياره أن المسلم يُقتل بالكافر! (ص314،374) وهذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يُقتل مسلم بكافر" رواه البخاري.
الانحراف الثالث عشر: تصريحه بأن للكفار أن يدعو إلى دينهم في بلاد المسلمين! (ص453)، وفي هذا إقرار للكفر، وإقرار للطعن في دين الإسلام لمن تأمل.
الانحراف الرابع عشر: وصفه للكفار بأنهم "إخوان في الإنسانية" للمسلمين! (ص453)، ويكفي في رد هذا الهراء قوله تعالى (إنما المؤمنون إخوة) فليس هناك أخوة بين مسلم وكافر(1).
الانحراف الخامس عشر: ادعاؤه أن الأسرى لا يجوز قتلهم! (ص 455). وفي هذا تكذيب لسنته الفعلية r التي أجاز قتل الأسرى إذا اختار ذلك الإمام. كما فع صلى الله عليه وسلم بأسرى يهود بني قريظة عندما أنزلهم على حكم سعد بن معاذ الذي أمر بقتل مقاتلتهم. وحوادث أخرى كثيرة. فالإمام مخير في الأسرى بين المن عليهم أو مفاداتهم أو قتلهم.
الانحراف السادس عشر: ادعاؤه أن الجهاد في الإسلام للدفاع فقط (ص453)، وانظر كتابه: (القرآن والقتال، ص126).
وللرد عليه: انظر: رسالة: "تسامح الغرب مع المسلمين" لعبد اللطيف الحسين، (ص327 وما بعدها)، ورسالة: "الجهاد والقتال في السياسة الشرعية" للدكتور محمد هيكل (1/511 وما بعدها).
وللرد على هذه الفكرة الانهزامية راجع محاضرة الشيخ ابن باز -رحمه الله- "ليس الجهاد للدفاع فقط"، منشورة في مجموع فتاواه (3/171).
الانحراف السابع عشر: زعمه أن الواجب في آيات صفات الله عز وجل هو التأويل أو التفويض، وأن التفويض هو مذهب السلف! (ص432). وهذا غير صحيح وعدم فهم لمذهب السلف، فالتأويل والتفويض كلاهما مذهب مبتدع لم يقل به السلف. وإنما مذهب السلف هو الإيمان بكل ما ورد في كتاب الله وسنة صلى الله عليه وسلم من صفات الله عز وجل من غير تمثيل ولا تأويل مع تفويض (كيفية) الصفة لا (معناها)؛ لأن معنى الصفة معلوم أما كيفيتها فعلمه عند الله، -عز وجل-.
الانحراف الثامن عشر: ادعاؤه تقسيم السنة إلى "تشريع وغير تشريع" وأدخل في السنة غير التشريعية أي التي لا يلزم اتباعها: سنن الأكل والشرب والنوم والتزاور والمشي .. الخ! وبهذا التقسيم المحدث أخرج كماً هائلاً من السنة النبوية من الشريعة! وسيأتي الرد على هذا أثناء بيان انحرافات أبي المجد والعوا -إن شاء الله-.
الانحراف التاسع عشر: قوله: "إذا وجدت المصلحة فثم شرع الله" (ص475). والصواب أن شرع الله يؤخذ من القرآن والسنة؛ لأن المصلحة أمر غير منضبط. فما يكون مصلحة عند شخص قد يكون مضرة عند آخر. بل قد يتفق بعض الناس على تحليل ما حرم الله بدعوى المصلحة. كأن يحللوا الربا لأن فيه مصلحة، وكذا الخمر والزنا.. الخ.
__________
(1) … انظر للفائدة فتاوى الشيخ ابن باز -رحمه الله- (2/173)، مقالاً بعنوان "لا أخوة بين المسلمين والكافرين".
الانحراف العشرون: اختياره أن دية المرأة كدية الرجل (ص236). وهذا مخالف لإجماع المسلمين. قال الشافعي -رحمه الله- في (الأم) (6/114): "لم أعلم مخالفاً من أهل العلم قديماً ولا حديثاً في أن دية المرأة نصف دية الرجل".
هذه أبرز انحرافات شلتوت أحد شيوخ العصرانية من كتاب واحد له! قاده إليها نهجه الباطل في الغلو في العقل وتضخيمه على حساب النص الشرعي، إضافة إلى تأثره بمؤسسي المدرسة العصرانية الذين أرادوا تمييع الإسلام وأحكامه لعله يتماشى مع الحضارة الغربية الطاغية -زعموا-. فلا دنياً أقاموا، ولا ديناً أبقوا. والله المستعان.
========================(52/202)
(52/203)
نظرة شرعية في فكر الدكتور محمد عمارة(1)
ترجمته :
هو الدكتور محمد عمارة.
ولد عام 1931م. حصل على الشهادة الابتدائية من معهد دسوق الديني عام 1949م، ثم الشهادة الثانوية من معهد طنطا (المعهد الأحمدي).
التحق بدار العلوم وتأخر حصوله على شهادتها حتى عام 1965م بسبب سجنه بتهمة الانتماء إلى التنظيمات اليسارية.
حصل على الماجستير عام 1970م وكانت رسالته حول "مشكلة الحرية الإنسانية عند المعتزلة".
حصل على الدكتوراه عام 1975م وكانت رسالته حول "نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة".
عمل باحثاً في وزارة الأوقاف، ومستشاراً في الهيئة المصرية العامة للكتاب.
متفرغ للعمل الفكري والتأليف.
مؤلفاته: كثيرة؛ منها :
القومية العربية ومؤامرات أمريكا ضد وحدة العرب.
فجر اليقظة القومية.
العروبة في العصر الحديث.
الأمة العربية وقضية الوحدة.
إسرائيل.. هل هي سامية؟
مسلمون ثوار.
عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين.
الإسلام والوحدة الوطنية.
قاسم أمين وتحرير المرأة.
محمد عبده، مجدد الإسلام.
جمال الدين الأفغاني، موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام.
عبد الرحمن الكواكبي: شهيد الحرية ومجدد الإسلام.
علي مبارك، مؤرخ المجتمع ومهندس العمران.
رفاعة الطهطاوي. رائد التنوير في العصر الحديث.
المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية.
الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية.
المعتزلة وأصول الحكم.
المعتزلة والثورة.
نظرة جديدة إلى التراث.
عندما أصبحت مصر عربية.
الجامعة الإسلامية والفكرة القومية عند مصطفى كامل.
معارك العرب ضد الغزاة.
محمد عبده، سيرته وأعماله.
المادية والمثالية في فلسفة ابن رشد.
العرب والتحدي.
الفكر الاجتماعي لعلي بن أبي طالب.
العدل الاجتماعي لعمر بن الخطاب.
نظرية الخلافة الإسلامية.
الإسلام والثورة.
الإسلام والسلطة الدينية.
الإسلام والحرب الدينية.
ثورة الزنج.
التراث في ضوء العقل.
الإسلام وقضايا العصر.
الإسلام والعروبة والعلمانية.
دراسات في الوعي بالتاريخ.
الإسلام وأصول الحكم.
تيارات الفكر الإسلامي.
تيارات اليقظة الإسلامية والتحدي الحضاري.
الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري.
الفريضة الغائبة، عرض وحوار وتقييم.
الفكر القائد للثورة الإيرانية.
الإسلام بين العلمانية والسلطة الدينية.
ماذا يعني الاستقلال الحضاري لأمتنا العربية الإسلامية؟.
جمال الدين الأفغاني المفترى عليه.
الإسلام والمستقبل.
العلمانية ونهضتنا الحديثة.
الإسلام وحقوق الإنسان.
الاستقلال الحضاري.
معالم المنهج الإسلامي.
الإسلام والفنون الجميلة.
الشيخ محمد الغزالي.
-كان الدكتور محمد عمارة في شبابه يسارياً متطرفاً إبان فترة توهج الفكر الماركسي اليساري في بلاد المسلمين، ثم تحول عنه في بداية السبعينات لما رأى -كما يدعي!- "سلبيته القاتلة" وأنه مجرد وافد على بلاد المسلمين، ومن ثم توجه عمارة إلى ما يسميه "الفكر العربي الإسلامي العقلاني المستنير".
-بعد رجوعه عن الفكر اليساري اتجه محمد عمارة إلى إحياء تراث المعتزلة قديماً والمدرسة العقلية (مدرسة الأفغاني ومحمد عبده) حديثاً.
يقول عمارة عن توجهه الجديد: "لقد استطعت أن أنجح في خلق(!) قارئ جديد. قارئ إسلامي ليس هو اليساري التقليدي، وليس هو الإسلامي التقليدي"! (رحلة في عالم الدكتور محمد عمارة، ص 107).
أي أنه حاول في توجهه الجديد أن يمزج الإسلام باليسارية التي كان يدين بها! بعد أن فشلت فشلاً ذريعاً في عالمنا الإسلامية -ولله الحمد-. وهذا دليل على بقاء تعلقه بذلك الفكر المنحرف واستنكافه وتكبره عن التراجع التام عنه -نسأل الله العافية وأن يرزقنا التوبة النصوح-.
انحرافاته :
1-غلوه في تعظيم العقل البشري القاصر:
يبالغ الدكتور عمارة -شأنه شأن أسلافه من المعتزلة وأتباعهم- في تمجيد العقل البشري القاصر وإنزاله محلاً رفيعاً يجعله حاكماً على النصوص الشرعية لا محكوماً لها؛ وهذا مما أداه إلى رد كثير من النصوص والأحكام الشرعية التي لا توافق عقله.
__________
(1) … اختصرت هذا المبحث من كتابي "محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة"، وهو مطبوع فمن أراد تفصيل الرد على انحرافات الدكتور فليرجع إليه غير مأمور.
يقول عمارة متحدثاً عن شيوخه المعتزلة ومؤيداً لهم: "قالوا إن الأدلة أولها العقل؛ لأنه به يميز بين الحسن والقبيح" (الطريق..، ص100) ويقول: "إن مقام العقل في الإسلام مقام لا تخطئه البصيرة ولا البصر.." (التراث..، ص183)، ويقول: "إن الإسلام لا يمد نطاق علوم الوحي والشرع إلى كل الميادين الدنيوية التي ترك الفصل فيها والتغير لعلوم العقل والتجربة الإنسانية" (الدولة الإسلامية، ص172).
قلت: وللرد على شبهات العقلانيين -ومنهم محمد عمارة- في تعظيم العقل وتقديمه على النقل يراجع كتاب "محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة" (من ص140 إلى ص258).(52/204)
وأكتفي هنا بنقل جميل عن الدكتور محمد رفعت زنجير ذكره في كتابه "اتجاهات تجديدية متطرفة" (ص57)، يرد به على معظمي العقل على حساب النقل: يقول الدكتور: "وقضية تقديم العقل على النقل مطروحة من أيام المعتزلة، ونحن لا نرى إقحام العقل في تفاصيل قضايا الإيمان بالغيب، وصفات الله، والمتشابهات، لأن العقل محدود العلم، وما يجهله أكثر مما يعرفه، فلا ينبغي له أن يتدخل فيما يجهله، لأنه سيقود إلى نتائج غير سليمة. ونضرب لذلك مثلاً: لو أن إنساناً قبل عصر الطيران قال إن البشر سيطيرون من شرق الأرض إلى غربها في يوم واحد، لاتهمه الناس بعقله، فالعقل لا يقول بإمكانية ذلك آنذاك، أما اليوم فمن أنكر ذلك فهو الذي يتهم بالخبل، فإذا كان العقل عرضة لتغيير أحكامه في أمور الدنيا تبعاً لمتغيراتها بين الأمس واليوم، فهو أكثر عرضة لتغيير آرائه بالنسبة للدين، يؤكد هذا أن الله تعالى كلما بعث نبياً، وأصلح الناس، قام الناس بعد رحيل نبيهم بتغيير المنهج وتحريف الرسالة، وهم يعتمدون في ذلك على ما تكن به نفوسهم ويخطر في عقولهم، ولو أنهم التزموا بما أنزل الله إليهم ولم يحرفوا، أو يبدلوا، لبقي المنهج سليماً، وساد الإصلاح، فالعقل قد يضل، أو يتبع الهوى، وليست جميع العقول مستنيرة".
2-اعتناقه واحياؤه لمذهب "المعتزلة":
سبق لنا أن الدكتور بعد أن ادعى الانخلاع من الفكر الماركسي لجأ إلى إحياء تراث فرقة المعتزلة بعد أن لفظته الأمة منذ قرون، محاولاً بذلك صرف شباب الأمة إلى هذه البدعة من جديد. يقول الدكتور ممجداً المعتزلة: "كان التوحيد بمعناه النقي المبرأ من الشبهات هو الذي دعا المعتزلة لنفي القدم عن القرآن…" (نظرة جديدة..، ص91)، ويخصص كتاباً كاملاً هو "المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية" لينصر فيه قولهم في القدر. ويقول عن شيخهم عمرو بن عبيد: "علامة بارزة على طريق تطور العقل العربي المسلم، وعلم من الأعلام الذين صنعوا النشأة الأولى للتيار العقلاني في تراثنا". (مسلمون ثوار، ص161)
ولبيان انحرافات المعتزلة بإمكان القارئ الرجوع إلى رسالة "المعتزلة وأصولهم الخمسة" للشيخ عواد المعتق -وفقه الله-.
3-اعتناقه واحياؤه لتراث تيار المدرسة العصرانية الحديثة:
وكما أحيا محمد عمارة تراث المعتزلة لتوافقه معهم في الغلو في العقل البشري على حساب نصوص الوحي، فإنه كذلك أحيا تراث أتباعهم في هذا العصر؛ وأعني بهم مدرسة الأفغاني ومحمد عبده العصرانية، الذي يقول محمد عمارة، عن تيارهم: "أبرز تيارات التجديد في حركة اليقظة العربية في العصر الحديث" (العرب والتحدي، ص291) ويدعو الأمة إلى التزامه.
ولهذا أشرف الدكتور على طباعة ما سماه الأعمال الكاملة لكل واحدٍ منهم؛ نظرًا لتوافقه معهم في انحرافاتهم التي سبق في المقدمة ذكرها، ومن أبرزها: دعوتهم إلى الوطنية، والعلمانية، والاشتراكية، وتحرير المرأة، والتقريب بين الأديان والمذاهب.. الخ
وكما سبق في مقدمة هذه المجموعة -أيضاً- فقد رد العلماء والباحثون على هذه المدرسة، وبينوا انحرافاتها، وأنها في حقيقتها "علمانية" مستترة، وسلاح بيد الأعداء لتغريب ومسخ بلاد المسلمين. فبإمكان القارئ الرجوع إلى ما ذكرته من المصادر.
4-من أخطر انحرافات محمد عمارة أنه لا يرى كفر اليهود والنصارى!! بل هم في نظره مؤمنون مسلمون! كما ذكر ذلك في كتابه "الإسلام والوحدة، ص60،70،71،625". وفي هذا مخالفة لما علم من دين الإسلام بالضرورة؛ لأن الأدلة من الكتاب والسنة صريحة في تكفير من تدين بدين سوى الإسلام، وعلى هذا أجمع المسلمون. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "إن اليهود والنصارى كفار كفرًا معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام"(1). وقال ابن حزم في مراتب الإجماع: "واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفارًا"(2).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "إن كل من زعم أن في الأرض ديناً يقبله الله سوى الإسلام فهو كافر لا شك في كفره". ومن أراد الأدلة التفصيلية فليراجعها في أصل الكتاب، وفي رسالة "الإعلام بكفر من ابتغى غير الإسلام" إعداد علي أبو لوز.
__________
(1) … الفتاوى (35/201).
(2) … مراتب الإجماع (ص 119).
5-ومن انحرافات عمارة دعوته إلى "الوطنية" التي تجمع المسلم بالكافر، وتجعله يتخذه ولياً من دون المسلمين من غير أهل الوطن، وقد قال تعالى (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء). ومع هذا يقول عمارة: "إيمان هذه الأمة بالوحدة الوطنية والقومية إيمان راسخ لا شك فيه"! (التراث..، ص234).
6-ومن انحرافات عمارة دعوته إلى القومية العربية التي تجعله يوالي العربي الكافر على حساب المسلم غير العربي -كما سبق-، وقد خصص -هداه الله- كتاباً يدعو فيه إلى هذا الأمر، سماه "الإسلام والوحدة القومية".
ولبيان انحرافات هذه الفكرة: راجع كتاب الشيخ ابن باز -رحمه الله- عن القومية، وكتاب "فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام" للشيخ صالح العبود.(52/205)
7-ومن انحرافات عمارة دعوته إلى "العلمانية"! وقد يتعجب البعض من هذا وهم يقرأون ويتابعون أن محمد عمارة يرد كثيرًا على من يسميهم "غلاة العلمانيين"، وقد خصص لهذا بعض كتبه ككتابه "العلمانية ونهضتنا الحديثة".
وسيزول عجب هؤلاء إذا علموا أن محمد عمارة يقسم العلمانية قسمين:
علمانية الغلاة؛ وهذه يرفضها ويرد عليها؛ وهي ما يسميه "العلمانية الغربية" التي تفصل الدين عن الدولة -كما يزعم-. (راجع كتابه: الدولة الإسلامية، ص64).
علمانية إسلامية! أو مستنيرة! وهي التي تقرر -كما يقول- أن "ما قضاه وأبرمه الرسول في أمور الدين عقائد وعبادات لا يجوز نقضه أو تغييره حتى بعد وفاته؛ لأن سلطانه الديني كرسول ما زال قائماً فيه. وسيظل كذلك خالداً بخلود رسالته عليه الصلاة والسلام. على حين أن ما أبرمه من أمور الحرب والسياسة يجوز للمسلمين التغيير فيه بعد وفاته؛ لأن سلطانه هنا قد انقضى بانتقاله إلى الرفيق الأعلى" !! (الدولة الإسلامية، ص76).
إذن فالدين عند عمارة لا دخل له في أمور السياسة والحرب؛ ومعلوم أن هذا يشمل: علاقة المسلمين بغيرهم، وأحكام الجهاد، وأحكام الخلافة والولاية، وأحكام الحسبة، وأحكام الاقتصاد.. الخ. وإنما يتدخل الدين في أمور العقائد والعبادات فقط! فإن لم تكن هذه هي العلمانية فلا ندري ما العلمانية؟! ولا فرق بينها وبين ما يسميه بعلمانية الغلاة، بل يستويان في حكم الشرع عليهما بالكفر.
8-ومن انحرافات الدكتور عمارة دعوته إلى الاشتراكية التي يسميها زورًا "بالعدل الاجتماعي"! كما في كتابه "الإسلام والثورة، ص53،54، 57،64،70،71".
وقد بين علماء الإسلام حكم الاشتراكية المستوردة من الشرق بما لا مزيد عليه؛ فليراجع مثلاً كتاب الشيخ عبد العزيز البدري -رحمه الله- "حكم الإسلام في الاشتراكية"، ورسالة الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- "الاشتراكية في الإسلام".
9-ومن انحرافات الدكتور: محاولته للتقريب بين أهل السنة والرافضة، كما في كتابه "عندما أصبحت مصر عربية، ص74، 113".
وقد بين العلماء عدم إمكانية مثل هذا التقارب الموهوم؛ لأنه لا توجد أرض مشتركة بين الطائفتين؛ طائفة الحق وطائفة الضلال، بل هما دينان مختلفان، إلا أن يكون ذلك على حساب أهل السنة بحملهم على التنازل عن كثير من عقائدهم إرضاء لأعداء الصحابة.
ومن أراد بيان استحالة مثل هذا الأمر وخطورته على أهل السنة؛ فليراجع رسالة الدكتور ناصر القفاري: "مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة".
10-ومن انحرافات الدكتور: دعوته إلى تغريب المرأة المسلمة، متابعة منه للعصريين من أمثال قاسم أمين تلميذ الشيخ! محمد عبده. "انظر كتاب عمارة: الإسلام والمستقبل، ص99، 227، 237، 241" وكتابه الآخر عن المودودي (ص 371، 384، 385، 378، 380) حيث أباح سفورها واختلاطها وعملها في الفن والسياسة.. الخ.
وقد بين العلماء زيغ هذه الدعوة الماكرة وخطرها على نساء المسلمين ومجتمعاتهم في عدة رسائل ونصائح وتوجيهات. راجع منها: "عودة الحجاب" للشيخ محمد بن إسماعيل، و "حراسة الفضيلة" للشيخ بكر أبو زيد.
11-ومن انحرافات الدكتور: أنه يرى أن الجهاد في الإسلام للدفاع فقط وليس للطلب! (انظر كتابه: الدولة الإسلامية؛ ص 136).
وهذا عين ما يردده المنهزمون الذين يريدون أن يُظهروا الإسلام أمام الناس بمظهر الوديع المسالم المتسامح! ولو أداهم ذلك إلى إلغاء شيء من أحكامه. ومن المحزن أن يتبنى هؤلاء فكرة قصر الجهاد في الإسلام على الدفاع فقط، رغم أن العدو لم يدعهم وشأنهم بل أصبح (يطلبهم) في ديارهم و"ما غزي قوم في دارهم إلا ذلوا".
ومن أراد الرد على هذه الفكرة المنهزمة فعليه بمحاضرة الشيخ ابن باز -رحمه الله- "ليس الجهاد في الإسلام للدفاع فقط"، وهي منشورة في فتاواه كما سبق.
12-ومن انحرافات الدكتور: عدم أخذه بحديث الآحاد الصحيح في مجال العقيدة (انظر كتابه: الإسلام وفلسفة الحكم، ص 118)، كما هو مذهب أهل البدع الذين ردوا كثيرًا من عقائد الإسلام بهذه الشبهة. وللرد عليهم راجع رسالة الشيخ الألباني -رحمه الله-: "الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام.
13-ومن انحرافات الدكتور: لمزه لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- بأنها عادت الفلسفة وعلم الكلام! (انظر كتابه: الطريق..، ص160).
ومعلوم أن هذه صفة مدح لا ذم! لأن علم الكلام والفلسفة علم مبتدع يحوي صنوفاً من الضلال، ويتناقض مع الإسلام، مهما حاول أصحابه ودعاته أن ينفوا ذلك. وقد بين هذا كثير من علماء الإسلام. راجع كتاب "ذم الكلام" للهروي.
14-ومن انحرافات الدكتور: لمزه المتكرر للدعوة السلفية. يقول الدكتور: "نحن في مواجهة خطر السلفية النصوصية"! (المعتزلة..، ص5). (وانظر كتبه: نظرة جديدة..، ص13، والإسلام والمستقبل، ص249).
ثم يصيبك العجب عندما ترى الدكتور يدندن كثيرًا بأنه من دعاة "السلفية"! فهل السلفية الحقة إلا اتباع نصوص الكتاب والسنة؟!
والدعاوى ما لم تقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء(52/206)
15-ومن انحرافات الدكتور: طعنه في بعض الصحابة -رضي الله عنهم-؛ كمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-؛ (كما في كتابه: الإسلام وفلسفة الحكم، ص 158). وهذا ليس بمستغرب من رجل متشرب لتراث المعتزلة أعداء الصحابة. ومعلوم -كما قال شيخ الإسلام- أن "من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم "(1).
16-ومن انحرافات الدكتور: مدحه للصوفية الملاحدة وأهل البدع . يقول عمارة عن ابن عربي الصوفي: "ابن عربي في التصوف الفلسفي قمة القمم"! (التراث..، ص 291).
ويقول عن رأس الاعتزال عمرو بن عبيد: "علامة بارزة على طريق تطور العقل العربي المسلم.."! (السابق، ص 27).
ويقول عن غيلان الدمشقي القدري المعتزلي: بأن حياته كانت "نموذجاً فريداً…"! (مسلمون ثوار، ص 149). ولبيان حقيقة هذه الشخصيات المنحرفة وغيرها: راجع الأصل ( ص 653-670).
17-ومن انحرافات الدكتور: تمجيده وفخره "بالثورات" التي قامت بها الطوائف المنحرفة في تاريخنا الإسلامي؛ كثورة الزنج، والعبيديين. ولبيان الحقيقة راجع الأصل (ص 671-676).
ختاماً: هذه أبرز انحرافات الدكتور محمد عمارة الذي اختار عند انخلاعه من اليسارية والاشتراكية أن يستبدل ذلك بما يسميه "التيار الإسلامي المستنير" ! الذي يلتقي أفراده على مجموعة من الانحرافات -سبق بيانها في مقدمة هذه المجموعة-، فأفسد ولم يُصلح؛ بل أشغل الساحة الإسلامية بخلافات ونزاعات كان في غنىً عنها لو ارتضى ما رضيه الله لعباده؛ من التزام شرعه واتباع كتابه وسنة رسول صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح. ولكن (لله الأمر من قبل ومن بعد). نسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه.
=======================(52/207)
(52/208)
نظرة شرعية في فكر فهمي هويدي(2)
تعريف بهويدي :
هو: محمود فهمي عبد الرازق هويدي.
ولد في 30 أغسطس عام 1937م، بمدينة الصف محافظة الجيزة.
متزوج وله 3 أبناء .
حصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة.
عمل محررًا بقسم الأبحاث بجريدة الأهرام عام 1958م.
ثم سكرتير تحرير سنة 1965م.
ثم مدير تحرير مجلة العربي الكويتية (1976-1982م).
ثم نائب رئيس تحرير مجلة أرابيا (1982-1984م).
ثم مساعد رئيس تحرير جريدة الأهرام 1984م.
يعمل حالياً بجريدة الأهرام.
مؤلفاته :
معظم مؤلفات فهمي هويدي مقالات صحفية سبق نشرها في عدة صحف ومجلات، يقوم هويدي بتصنيفها على هيئة موضوعات مختلفة، ثم تُطبع كل مجموعةٍ منها في كتاب مستقل أقرب إلى الصحيفة منه إلى الكتاب العميق المتأنى في كتابته.
وهذه قائمة بأسماء مؤلفاته :
القرآن والسلطان -ط2- 1402هـ -دار الشرق(3).
مواطنون لاذميون -ط2- 1410هـ -دار الشروق.
تزييف الوعي - دار الشروق.
حتى لا تكون فتنة - ط1- 1410هـ -دار الشروق.
إحقاق الحق -ط1 -1414هـ -دار الشروق.
التدين المنقوص.
المفترون -ط1 -1416هـ -دار الشروق.
مصر تريد حلاً -ط1- 1418هـ -دار الشروق.
إيران من الداخل -ط3 - 1408هـ -مركز الأهرام للترجمة والنشر.
الفتنة الكبرى -ط1991م -الفائز بجائزة علي وعثمان حافظ!
حدث في أفغانستان .
المسلمون في الصين.
أزمة الفكر الديني.
العرب وإيران .
أزمة الوعي الديني .
وهويدي -كما سبق- يكتب في عدة صحف ومجلات في آنٍ واحد؛ وهي على سبيل المثال:
جريدة الوطن الكويتية .
جريدة الشرق الأوسط .
جريدة الأهرام.
مجلة العربي الكويتية .
مجلة المجلة .
مجلة الحرس الوطني السعودية .
مجلة النور الكويتية .
مجلة المسلم المعاصر.
مجلة البنوك الإسلامية.
مجلة الموقف اللبنانية .
مجلة المختار الإسلامي.
تصريحه بانتمائه إلى المدرسة العصرانية:
__________
(1) … الفتاوى (3/152) .
(2) … اختصرتها من كتابي "فهمي هويدي في الميزان".
(3) …وهي الدار التي تعتني -عناية خاصة- بطبع تراث العقلانيين! من أمثال: شلتوت والغزالي والقرضاوي ومحمد عمارة وأحمد كمال أبو المجد ومحمد سليم العوا وطارق البشري وهويدي وغيرهم. يقول صاحباها إبراهيم وعادل المعلم في مقدمة منشوراتها (ص3): "وتمضي دار الشروق منارةً للفكر الإسلامي المستنير"!
يقول هويدي: "قد أزعم أنني أنتمي إلى مدرسة في الفكر الإسلامي تدين هذا الموقف وتخاصمه، وتعتبر أن الحرية هي أثمن ما جاء به الإسلام، وأن التوحيد قرين التحرير"(1).
ويقول: "إن أحد الأوجه المضيئة للظاهرة الإسلامية ظل غائباً أو مغيباً عن الخرائط السياسية المعتمدة، ومن ثَمَّ عن الوعي العام في جملته، وغاية ما ظهر معتبرًا عن ذلك الوجه هو عطاء نفر من الناس الذين قدموا كتابات وأبحاثاً جليلة في إثراء المشروع الحضاري الإسلامي بمختلف مجالاته"(2).
ويصرح هويدي بانتمائه إلى مذهب أفراد المدرسة العقلانية -ومن ضمنهم الكواكبي(3)- فيقول: "نحن -بالمناسبة- على مذهب شيخنا عبد الرحمن الكواكبي في قوله: إن أصل الداء، وأُس كل بلاء في الشرق هو الاستبداد السياسي، ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية"(4).
وعلى صفحات جريدة "الأهرام" المصرية(5) يمدح هويدي وثيقة إسلامية طبعها د. أحمد كمال أبو المجد أحد رموز العصرانية بعنوان "رؤية إسلامية معاصرة"(6)، وهي -كما سيأتي إن شاء الله- ملخص للأفكار الرئيسة التي يلتقي عليها العصرانيون تكفل بصياغتها لهم أبو المجد، وأثنى عليها هويدي، وشيخهم القرضاوي(7)!
ويتأسف هويدي على كون أفراد هذا التيار ما زالوا مشتتين. يقول هويدي: "أما الذين حاولوا التجديد عن طريق تثبيت الدين واستهدفوا إعلاء كلمته، ورفع الحرج عن المسلمين، هؤلاء لا يزالون أفرادًا مشتتين، ترتفع أصواتهم هنا وهناك، وكثيرًا ما تضيع صيحاتهم وسط ضجيج العصر وهدير الأمة"(8).
ويقول مؤكدًا أهمية هذا التيار: "إن ساحة العمل الإسلامي ظلت تفتقر إلى التيار الناضج الذي يقود الجماهير المؤمنة"(9).
ويقول عن ارتباط هذا التيار بمدرسة محمد عبده: "لكن ما ينبغي أن يلفت انتباهنا حقاً هو أن هذا النهج في تناول الموضوع ليس الوحيد المطروح في الساحة، وإنما هناك آخرون كتبوا في الموضوع ذاته، وكانوا أفضل تعبيرًا عن تعاليم الإسلام الداعية إلى البر والتآلف، من الإمام محمد عبده في بداية القرن، إلى الشيخين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي"(10).
ويقول عن الغزالي والقرضاوي: "اثنين من أبرز فقهائنا وعلمائنا المعاصرين"(11).
ويسمي القرضاوي: "أحد أعلام الاجتهاد في زماننا"(12).
ويقول عنه: "لقد سمعت من الدكتور يوسف القرضاوي، وهو بالمناسبة من الأصوليين المنحازين إلى الديمقراطية والتعددية.." (13).
ويقول عنه: "الدكتور يوسف القرضاوي الفقيه الكبير"(14).
ويعرض في مقالاته كتابيه: "كيف نتعامل مع السنة النبوية" و"أولويات الحركة الإسلامية"(15).
وينقل عنه في نقد الدولة الدينية(16)، وفي مقال له بمجلة العربي الكويتية عرض هويدي كتاب القرضاوي "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف" مثنيًا عليه، ومروجًا له(17).(52/209)
ويقول عن كتاب الغزالي "السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث": "إن الكتاب صدرت منه 8 طبعات في مصر، كما صدر في طبعات خاصة ظهرت في الأردن والجزائر، وتُرجم إلى الإنجليزية، وطُبع ثلاث مرات في إنجلترا، وفي الوقت ذاته فقد صدرت له ترجمات بالإنجليزية في الهند وباكستان، وفي زيارتي الأخيرة لماليزيا وجدته مترجماً إلى اللغة الملاوية!
هذا الرواج يعني مباشرة أن هناك حالة من التعطش الشديد لاستجلاء الوجه الحقيقي للإسلام، الذي حاول الكتاب أن يقوم به"(18).
__________
(1) … جريدة الأهرام، تاريخ: 27/9/1988م.
(2) … 30/7/1991م.
(3) … الكواكبي هو عبدالرحمن بن أحمد بن مسعود الكواكبي، رحّالة متشبع بالفكر القومي، ولد وتعلم في حلب، ثم رحل إلى مصر، وساح في العالم الإسلامي. له كتاب "طبائع الاستبداد" يدعو فيه إلى الحرية، ولذا فالعقلانيون، كهويدي وغيره، معجبون بهذا الكتاب لأنه يمهد لهم الطريق نحو الديمقراطية؛ توفي الكواكبي عام (1320هـ). انظر: الأعلام للزركلي (3/298).
(4) … جريدة الأهرام، تاريخ: 9/10/1990م.
(5) … جريدة الأهرام، تاريخ: 8/10/1991م.
(6) … الطريف أن أبا المجد قد مدح هويدي وشكره في مقدمة وثيقته! فالعصرانيون يتبادلون الثناء فيما بينهم، ويلمع بعضهم الآخر ترويجًا لأفكارهم. انظر: مقدمة الوثيقة.
(7) … انظر: "ملامح المجتمع المسلم" للقرضاوي (ص 78).
(8) … مجلة العربي، العدد: 232، ص 36.
(9) … مجلة العربي، العدد: 232، ص 36.
(10) … جريدة الأهرام، تاريخ : 17/3/1987م.
(11) … مجلة العربي، العدد: 290، ص 82.
(12) … جريدة الأهرام، تاريخ: 11/11/1989م، وانظر أيضاً: جريدة الأهرام، تاريخ: 24/3/1987م.
(13) … جريدة الأهرام، تاريخ: 23/7/1991م.
(14) … جريدة الأهرام، تاريخ: 18/11/1986م.
(15) … جريدة الأهرام، تاريخ: 18/6/1991م.
(16) … جريدة الأهرام، تاريخ: 25/4/1989م.
(17) … انظر: مجلة العربي، العدد: 291، ص 40.
(18) … جريدة الأهرام، تاريخ: 18/6/1991م.
هذه بعض أقوال هويدي التي تبين للقارئ أنه مجرد (صحفي) (عصراني) يؤيد هذا التيار بما آتاه الله من حُسن بيان، ولكن عمدته ومرجعه في الأمور العلمية والفقهية هما الغزالي القرضاوي، فهو مجرد ناقل لأقوالهما واختياراتهما، وناشر لها على نطاق واسع، بسبب خبرته الصحفية، وكثرة مقالاته!
فهمي هويدي والكفار:
يقول هويدي: "وحدة الأصل الإنساني ثابتة في نصوص القرآن الكريم، والمساواة والأخوة بين بني البشر، والقداسة التي أحيطت بها كرامة الإنسان بصرف النظر عن دينه أو جنسه من الأمور الثابتة في نصوص القرآن والسنة، أما التفاضل بين الناس في الآخرة فله معايير أخرى"(1).
ويقول: "إن الأمر الهام هو أن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية والمساواة بين البشر جميعاً، هذا كله مقرر في الإسلام على أساس العقيدة، وليس من مسائل الاجتهاد والنظر"(2).
ويقول: "إن التفرقة بين البشر فيما هو دنيوي حسب اعتقادهم أو جنسهم أو لونهم ليس من منهج القرآن في شيء، إذ القاعدة هي المساواة، والجميع في ديار الإسلام أمة واحدة، والخلق كلهم (عيال الله) بالتعبير النبوي، فضلاً عن أن الناس خلقوا (من نفسٍ واحدةٍ) بالتعبير القرآني(3).
ويقول: "لابد من الاعتراف بأن هناك إحياءً دينيًا على الجانبين -الإسلامي والمسيحي- في مصر، الأمر الذي كان ينبغي أن يُقابل بما يستحقه من حفاوة مصحوبة بجهود جادة وحثيثة لاستثمار ذلك الإحياء، لكي يُصبح قاعدة لنهضة إيمانية تستهدف إشاعة المودة والتراحم بين الناس، وعمارة الدنيا مع عمارة الآخرة"(4).
ويقول أيضاً: "إن الذين قالوا بأن غير المسلم يعتبر مواطناً من الدرجة الثانية في المجتمع الإسلامي، لم يورد أحدهم نصًا شرعيًا يستند إليه في دعواه"(5)!
ويرى هويدي: "إن ديار المسلمين ينبغي أن تظل ملكًا للمسلمين وغير المسلمين، بغير تسلط ولا أفضلية من أحد على أحد، لأنه لا فضل لإنسان على إنسان إلا بتقواه وعمله الصالح"(6).
ويرى هويدي أن آية (أفنجعل المسلمين كالمجرمين)، "تتحدث عن الآخرة وليس الدنيا"(7).
فليس فيها دليل على عدم المساواة مع الكفار!
هويدي لا يرى كفر اليهود والنصارى!!
يقول هويدي: "إن المسلمين في لغة القرآن الكريم هم المؤمنون بالله الواحد، وليسوا أتباع دين خاص، كما يقرر الشيخ محمد دراز في كتابه الهام حول (الدين)" (8).
هويدي يرى أن للكفار الطعن في الإسلام!!
يقول هويدي عن أهل الذمة الذين يعيشون في ديار المسلمين: "سيكون لهم الحق في انتقاد الدين الإسلامي مثل ما للمسلمين لنقد مذاهبهم ونِحَلهم"(9).
هويدي يرى أن الجزية بدلٌ عن حماية الدولة الإسلامية للذمي، فإذا شارك معهم في الجهاد سقطت عنه !
يقول هويدي: "حقيقة الأمر هي أن الجزية بدل عن حماية الدولة الإسلامية للذميين لإعفائهم من واجب الدفاع عن دار الإسلام"(10).
هويدي يرى أن الحرب في الإسلام هي للدفاع فقط:
يقول هويدي: "إن طريق الدعوة لا يمر بساحة الحرب في أي موضع وتحت أي اعتبار، وينبغي أن لا يمر"(11).(52/210)
ويقول: "قد خلق الله الناس شعوبًا وقبائل ليتعارفوا -بنص القرآن- لا ليتعاركوا ويتنابذوا، كما يتوهم البعض. والاستثناء الوحيد الذي يرد على هذه القاعدة هو أن يقع على المسلمين ظلم أو عدوان من جانب الآخرين"(12).
هويدي ينكر وجود (دار الحرب):
يقول هويدي: "قد نشأ تعبير دار الإسلام منذ اعتبرت دار الهجرة -المدينة- في زمن صلى الله عليه وسلم هي دار الإسلام. (فلما أسلم أهل الأمصار صارت البلاد التي أسلم أهلها هي بلاد الإسلام، فلا يلزمهم الانتقال منها). وبالمقابل، ظهرت دار الحرب، وهو ما عبر عنه ابن حزم بقوله: (وكل موضع سوى مدينة رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فقد كان ثغرًا، ودار حرب ومغزى جهاد).
وقد أدى شيوع هذا التعبير في كتب الفقه والسير والتاريخ، إلى تبني بعض الفقهاء والباحثين المعاصرين لفكرة أن معيار تحديد الآخرين ينبني على اعتقادهم، وكونهم مسلمين أم غير مسلمين.
وفي هذا الصدد كتب الأستاذ أبو الأعلى المودودي "أن الدولة الإسلامية تقسم القاطنين بين حدودها إلى قسمين: قسم يؤمن بالمبادئ التي قامت عليها الدولة، وهم المسلمون. وقسم لا يؤمن بتلك المبادئ، وهم غير المسلمين".
__________
(1) … جريدة الأهرام، تاريخ: 7/10/1986م.
(2) … مواطنون لاذميون، ص 99.
(3) … مواطنون لاذميون، ص 156.
(4) … جريدة الأهرام، تاريخ: 26/5/1992م.
(5) … مواطنون لاذميون، ص 121.
(6) … مواطنون لاذميون، ص 126.
(7) … جريدة الأهرام، تاريخ: 17/3/1987م.
(8) … جريدة الأهرام، تاريخ: 17/3/1987م.
(9) … مواطنون لاذميون، ص 175، نقلاً عن المودودي الذي أساء لنفسه بهذا الرأي الشاذ -عفا الله عنه-.
(10) … مواطنون لاذميون، ص 134.
(11) … مواطنون لاذميون، ص 235.
(12) … مواطنون لاذميون، ص 89.
وفي الاتجاه ذاته كتب الدكتور عبد الكريم زيدان أن "الشريعة تقسم البشر على أساس قبولهم للإسلام أو رفضهم له، بغض النظر عن أي اختلاف بينهم".. ويستخرج من بعض آيات القرآن الكريم "أن الناس أحد اثنين: إما مؤمن برسالة الإسلام، وهو المسلم، وإما كافر بها، وهو غير المسلم".
غير أن هذا المعيار العقيدي لقسمة الناس ليس الأوحد المأخوذ به. فالأحناف والزيدية يرون أن القضية الفاصلة توفر عنصر "الأمان" بالنسبة للمقيمين فيها. فإذا كان الأمن فيها للمسلم على الإطلاق، فهي دار إسلام، وإن لم يأمنوا فيها فهي دار حرب. ومن الباحثين من يذهب إلى القول بأنه إذا تحقق الأمان للمسلمين، وإذا أقيمت الشعائر الإسلامية أو غالبها كانت البلاد دار إسلام، حتى ولو تغلب عليها حاكم كافر.
وأستاذنا الدكتور عبد الوهاب خلاف يؤيد الرأي القائل بأنه "ليس مناط الاختلاف الإسلام وعدمه، وإنما مناطه الأمن والفزع"، وهو ما يصفه "بانقطاع العصمة". وهو ما يؤيده أيضاً الدكتور صبحي محمصاني، في قوله: إن الإسلام "لم يميز بين المسلمين وغير المسلمين على اعتبار اختلاف الدين، كما لم يميز بين المواطنين والأجانب على أساس جنسيتهم أو تابعيتهم. فلذا، من الخطأ الناتج عن الجهل والتضليل، زعم بعض الكتاب أن صفة المواطن كانت للمسلمين وحدهم، وأن غير المسلمين كانوا جميعاً من الأجانب".
ويقول في موضع آخر، إن الإسلام "لم يتعرف إلى فكرة الجنسيات، بل صنف الناس على أساس صفة المسالمة والمحاربة، ووزعهم من ثم بين مسالمين وهم الأصل، وحربيين وهم المستثنى، ثم اعتبر الحربيين وحدهم أجانب بطبعهم، واعتبر بلادهم بلاد العدو أو دار الحرب".
وهذا المعيار الثاني هو الأقرب إلى المنطق الذي عالج به الرسو صلى الله عليه وسلم مسألة الآخرين، فضلاً عن أنه المنطق الأكثر قبولاً حتى في لغة الواقع المعاصر.
ودليلنا الأول على ذلك من السيرة النبوية ذاتها. فالرسو صلى الله عليه وسلم عندما وقع أول معاهدة مع "الآخرين"، من قبائل العرب الأخرى واليهود، نصت المعاهدة التي تعد أول دستور للدولة في الإسلام، على "أن يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم".
هنا لم يوضع غير المسلمين في مربع دار الحرب، ولكنهم كانوا مع المسلمين "أمة واحدة"، ما داموا مسالمين.
وهنا لم يكن الدين هو الحد الفاصل بين دار الإسلام ودار الحرب، إنما كانت المسألة هي المعيار الذي أخذ به.." (1)
هويدي يرى جواز موالاة اليهود والنصارى:
يقول هويدي: "المستقر بين أهل الفقه أن النهي عن (الموالاة) مقصود به أعداء الإسلام الذين يكيدون له، وليس من أهل الكتاب"(2).
ويقول: "إن الموالاة المنهي عنها شرعًا -كما أفهمها- هي تلك التي تتم على حساب مصالح المسلمين أو عقيدتهم، وإن المسلم مدعو لأن يكون عونًا لكل جهد يستهدف الخير والبر والإصلاح، وقد أيد الرسول عليه الصلاة والسلام حلف الفضول الذي أقامه بعض مشركي قريش لنصرة أحد المظلومين، بينما كان النبي يوسف عليه السلام وزيرًا في حكومة فرعون مصر"(3).
هويدي يدعو إلى إقامة معابد الكفار في (جميع) بلاد المسلمين:(52/211)
يقول هويدي: "إننا نستطيع القول في ثقة تامة بأنه لن ينتقص شيء من أعلام الإسلام، إذا ما أقيمت على أرض الإسلام معابد لغير المسلمين، تماماً كما لم ينتقص شيء من مسجد رسول الله حينما استضاف فيه وفد نصارى نجران وحاورهم في رحاب المسجد، وأذن لهم بالصلاة فيه جنبًا إلى جنب مع المسلمين"(4).
تعليق:
هذه -أخي المسلم- أبرز المسائل التي خالف هويدي فيها الصواب في قضية (أهل الذمة وحقوقهم) واختار جانب تقديم التنازلات الكثيرة على حساب النصوص الشرعية وإجماع الأمة بغية الظهور بمظهر المفكر (العقلاني) (الوسطي) (الحضاري) … إلخ.
وليته -هداه الله- اكتفى بالجنوح لتبني هذه الآراء الشاذة دون أن يُعَرض لقرائه بأن قوله هو القول الذي يُمثل قول جمهور علماء الأمة قديمًا وحديثًا! إذاً لهان الخطب، لأننا لا نملك أن نردّ كل ضال عن أن يصرِّح بقناعاته التي تعلق بها.
فهويدي قد جمع بين اختيار القول الشاذ أو الباطل المخترع، وبين نسبة ذلك زورًا إلى الفئة العظمى من علماء الأمة.
فما الذي دعاه لذلك؟ وما هي شبهاته التي ساقته إلى المجاهرة بتلكم الآراء الغربية؟ هذا ما سنعرفه الآن من خلال تتبع كتاباته.
الشبهة الأولى:
احتجاجه بآيات تكريم الإنسان في القرآن.
تعقيب :
يخلط هويدي هنا خلطًا عجيباً، حيث يزعم أن آية تكريم الإنسان (ولقد كرّمنا بني آدم) (5) فيها دليل على مساواة المسلم بالكافر!!
ولا يعلم بأن هذه الآية واردة في الإنسان من حيث هو إنسان، حيث كرمه وفضله على غيره من المخلوقات، ويسرَّ له أسباب السير في البر والبحر، ورزقه من الطيبات.
__________
(1) … مواطنون لاذميون، ص 104 - 107 .
(2) … جريدة الأهرام، تاريخ: 17/3/1987م.
(3) … جريدة الأهرام، تاريخ: 18/8/1987م.
(4) … مواطنون لاذميون، ص 200.
(5) … سورة الإسراء، الآية: 70.
فكان الواجب على هذا الإنسان أن يشكر ربه على هذا التكريم وهذه النعم الكثيرة، فيتبع رسله، ويطيع أوامره، ويجتنب نواهيه، ويوحده حق توحيده، ويقوم بعبادته -سبحانه وتعالى-.
فأما إذا لم يفعل هذا واختار الكفر على الإيمان والمعصية على الطاعة، فإن هذا التكريم للنوع الإنساني ليس بنافعه، لأنه سيكون من المهانين عند الله تعالى عندما بدل نعمته كفرًا.
ومثال هذا -ولله المثل الأعلى-: أن يقوم ملك من الملوك بتكريم بعض عبيدة وإعطائهم ما يحتاجونه في معيشتهم ويميزهم على غيرهم من عبيدة الآخرين ثم يطلب منهم أن يعملوا له عملاً من الأعمال جزاء هذا التكريم، فبعضهم لم يقم بهذا العمل بل عصى الملك وخالف أمره، فما ظنكم؟ هل يساوي الملك بين الطائفتين: العاملة والمقصرة!؟ أم يقول لمن عصاه بأنني نعم قد كرمتكم وفضلتكم على غيركم ولكنكم لم تراعوا هذه النعمة، بل استخدمتموها في معصيتي ومخالفة أمري، فلهذا ليس لكم عندي إلا الإهانة وعدم مساواتكم بالطائعين!؟
فهكذا الإنسان كرَّمه الله وفضله على كثير من خلقه، ثم طلب منه اتباع أمره واجتناب نهيه، فإن أجاب بقي على تكريمه السابق، وإن لم يجب انقلب ذاك التكريم إلى مهانة.
وقد اختلفت أقوال المفسرين في هذا (التكريم) ما هو؟ فقال ابن جرير الطبري: "(ولقد كرَّمنا بني آدم) بتسليطنا إياهم على غيرهم من الخلق، وتسخيرنا سائر الخلق لهم"(1)، "(وفضّلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً) ذُكر لنا أن ذلك تمكنهم من العمل بأيديهم، وأخذ الأطعمة والأشربة بها، ورفعها بها إلى أقواهم، وذلك غير متيسر لغيرهم من الخلق(2).
وقال ابن كثير في تفسير الآية: "يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها. كقوله (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) أن يمشي قائماً منتصباً على رجليه ويأكل بيديه، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع، ويأكل بفمه، وجعل له سمعًا وبصراً وفؤاداً يفقه بذلك كله وينتفع به ويفرق بين الأشياء، ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية"(3).
وقال الشوكاني: "هذه الكرامة يدخل تحتها خلقهم على هذه الهيئة الحسنة، وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس على وجه لا يوجد لسائر أنواع الحيوانات مثله"(4).
وقال القرطبي: "الصحيح الذي يعوَّل عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف"(5).
وقال سيد قطب: "ذلك وقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه، كرمه بخلقته على تلك الهيئة، بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان!
وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته؛ التي استأهل بها الخلافة في الأرض، يغير فيها ويبدل، وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل، ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة.
وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك.
وكرمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جل شأنه تكريم هذا الإنسان!" (6).
وقال ابن الجوزي: "فإن قيل: كيف أطلق ذكر الكرامة على الكل، وفيهم الكافر والمهان؟
فالجواب من وجهين:(52/212)
أحدهما: أنه عامل الكل معاملة المكرَم بالنعم الوافرة.
والثاني: أنه لما كان فيهم من هو بهذه الصفة، أجرى الصفة على جماعتهم، كقوله (كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس) (7)"(8).
قلت: والأولى أن يقال ما سبق أن ذكرته، وهو أن الإنسان مكرَّمٌ من حيث هو إنسان، ومفضل على غيره من المخلوقات، أما إذا كفر وأعرض فإنه يكون مهاناً عند الله، ولا ينفعه تكريمه السابق، فهذا التكريم كالولد والمال فإنها من نعم الله على الإنسان، ولكنها لا تقرِّب الإنسان زلفى عند الله، إلا من آمن واستغل ذلك كله في طاعة الله، كما قال سبحانه: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن) (9).
أقول هذا ليكون هناك عدم تعارض بين هذه الآية وآيات (إهانة) الكفار -كما سيأتي0.
أما هويدي فإنه عندما أحس بهذا التعارض الذي سيُبطل قوله أخفى آيات (الإهانة) ولم يتعرض لها! وهذا دأب أهل البدع يذكرون الذي يظنونه مؤيداً لبدعتهم، ويخفون ما ينقضها ولا يذكرونه، بخلاف أهل السنة الذين وفقهم الله -تعالى- للعمل بآياته كلها موفقين بينها.
أما الآية الثانية التي ظن هويدي أنها تشهد لبدعته فهي قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) (10) فهي كالآية السابقة، يخبر فيها الله -عز وجل- بأنه قد خلق الإنسان في صورة حسنة، وهيئة كاملة.
قال ابن كثير: "في أحسن صورة، وشكل منتصب القامة، سوي الأعضاء، حسنها"(11).
__________
(1) … تفسير الطبري (8/115).
(2) … تفسير الطبري (8/115).
(3) … تفسير ابن كثير (3/55).
(4) … فتح القدير (3/350).
(5) … تفسير القرطبي (10/294).
(6) … في ظلال القرآن (4/2241).
(7) … سورة آل عمران، الآية: 110.
(8) … زاد المسير (5/63).
(9) … سورة سبأ، الآية: 37.
(10) … سورة التين، الآية: 4.
(11) … تفسير ابن كثير (4/563).
وفي هذه الآية ردٌ بليغ على هويدي ولكنه لم ينتبه له، أو تعمد إغفاله! ولهذا حجب ما بعد هذه الآية ولم يذكره، لأنه يعود على قوله بالنقض، حيث قال الله بعد هذا الخلق الحسن (ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) (1).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "(ثم رددناه أسفل سافلين) أي إلى النار، قاله مجاهد وأبو العالية والحسن وابن زيد وغيرهم: ثم بعد هذا الحُسْن والنضارة مصيرهم إلى النار إن لم يطع الله ويَتَّبع الرسل، ولهذا قال (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات)" (2) .
أما من قال بأن قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين) (3) أي إلى أرذل العمر فقد رده ابن كثير بقوله: "لو كان هذا المراد لما حَسُن استثناء المؤمنين من ذلك، لأن الهَرَم قد يصيب بعضهم، وإنما المراد ما ذكره، كقوله: (والعصر، إن الإنسان لفي خُسرٍ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) (4)"(5).
قلت: فتأمل قوله ما أحسنه، وهو رد مفحم على هويدي بنفس الآية التي احتج بها على بدعته! ولكنه شابه اليهود بإخفاء آخرها.
أما احتجاج هويدي بقوله تعالى: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) (6)، وقوله (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) (7)، وقوله (فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)(8) فهو من أعجب العجب، لأن هذه الآيات واردة في آدم -عليه السلام- وأن الله قد كرمه باسجاد الملائكة له، فما دخل (تكريم) الكفار بهذا!؟ وهل يلزم من تكريم أبينا آدم -عليه السلام- أن يكون جميع أبنائه -مسلمهم وكافرهم- مكرَّمين!؟ لا يقول هذا عاقل، لأن ابن آدم لصلبه عندما قتل أخاه لحقه من الذم ما لحقه، وقال فيه صلى الله عليه وسلم "لا تُقْتل نفس ظُلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل"(9).
فإذا كان r قد قال هذا عن ابن آدم لصلبه، فما حال أبنائه الآخرين ممن بدَّل وأعرض عن الهدى؟
قلت: ما سبق كان ردًا على الشبهة الأولى التي احتج بها هويدي، وبقي في نقضها أن يقال:
1-ما قول هويدي في آيات (الإهانة) للكافرين والمعرضين، وكيف يوفق بينها وبين هذا (التكريم) المزعوم للجميع الذي يراه هويدي؟
فقد وردت عدة آيات تدل على أن الله قد أهان الكفار وأذلهم ولم يكرمهم سواء في الدنيا أم في الآخرة، فمن ذلك قوله تعالى: (ومن يُهن الله فما له من مُكرمٍ) (10)، فدل على أن هناك من يهينه الله، فإذا أهانه لم يكن من (المكرمين).
وقال تعالى عن بعض الكفار في الدنيا (فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون) (11).(52/213)
وقال عنهم في الآخرة (اليوم تُجزن عذاب الهُون) (12)،(فاليوم تُجزون عذاب الهُون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون)(13)، (وللكافرين عذابٌ مُهين)(14)،(ولهم عذابٌ مُهين)(15)،(ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مُهين)(16)،(والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا فأولئك لهم عذابٌ مهين)(17)،(ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علمٍ ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مُهين)(18)،(وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين)(19)، (وأعتدنا للكافرين عذاباً مُهيناً)(20)،(إن الله أعدّ للكافرين عذاباً مهيناً)(21)، (وأعدّ لهم عذاباً مُهيناً)(22)،(يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً)(23)، وقال عن المنافقين (اتخذوا أيمانهم جُنَّة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذابٌ مُهين) (24)، فما قول هويدي في هذه الآيات!؟
2-وردت عدة آيات في التفريق بين المسلمين والكافرين، أو بين المؤمنين ومن يعمل السيئات، وذم من يسوِّي بينهم، وهذه الآيات لم يتعرض لها هويدي لأنها تهدم قوله بالمساواة بين المسلمين والكافرين، فلهذا اختار أن لا يقربها!
__________
(1) … سورة التين، الآيتان: 5-6.
(2) … تفسير ابن كثير (4/563).
(3) … سورة التين، الآية: 5.
(4) … سورة العصر، الآيات: 1-3.
(5) … تفسير ابن كثير (4/563).
(6) … سورة الأعراف، الآية: 11.
(7) … سورة البقرة، الآية: 30.
(8) … سورة الحجر، الآية: 29.
(9) … أخرجه البخاري، ومسلم.
(10) … سورة الحج، الآية: 18.
(11) … سورة فصلت ، الآية: 17.
(12) … سورة الأنعام، الآية: 93.
(13) … سورة الأحقاف، الآية: 20.
(14) … سورة البقرة، الآية: 90.
(15) … سورة آل عمران، الآية: 178.
(16) … سورة النساء، الآية: 14.
(17) … سورة الحج، الآية: 57.
(18) … سورة لقمان، الآية: 6.
(19) … سورة الجاثية، الآية: 9.
(20) … سورة النساء، الآية: 37.
(21) … سورة النساء، الآية: 102.
(22) … سورة الأحزاب، الآية: 57.
(23) … سورة الفرقان، الآية: 69.
(24) … سورة المجادلة، الآية: 16.
فمن ذلك قوله تعالى: (قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور) (1) أي المؤمن والكافر، وقال (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون) (2)، وقال (قل لا يستوي الخبيث والطيب) (3)، وقال (وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور) (4)، وقال (وما يستوي الأحياء ولا الأموات) (5)، وقال (وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء) (6)، وقال (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) (7)، وقال (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلاً) (8).
وقال سبحانه (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) (9)، وقال (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون) (10).
فإن تعنت هويدي وقال بأن هذه الآيات واقعة في الآخرة وليس في الدنيا!
قلنا له:
أولاً: لم يقل أحد من المسلمين بقولك هذا، وإنما فهموا من هذه الآيات أنها عامة في الدنيا والآخرة حيث لا يتساوى المسلم والكافر عند الله، كما لا يتساوى المؤمن ومن يعمل السيئات.
ثانياً: ورد من آيات الإهانة للكفار في الدنيا ما ينقض قولك هذا.
ثالثاً: قد وردت آية في كتاب الله تُلقمك الحجر، حيث بينت خطأ من ساوى بين الفريقين في الدنيا والآخرة.
قال تعالى (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) (11).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول تعالى لا يستوي المؤمنون والكافرون كما قال عز وجل (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون)، وقال تبارك وتعالى (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) أي عملوها، (أن نجعلهم كالذين أمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم) أي نساويهم بهم في الدنيا والآخرة (ساء ما يحكمون) أي ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة وفي هذه الدار"(12).
فلهويدي نصيب من هذا الظن السيء بربه حيث ظن أن الله مساوٍ بين المسلمين والكافرين في هذه الدنيا، وفي الآخرة(13).
الشبهة الثانية :
احتجاجه بأن نفوس الكافرين كغيرها من النفوس، فلماذا التفرقة!؟
تعقيب:
أما قتل النفس الإنسانية (بغير حق) فهو من الظلم البيِّن الذي لا يجوز، ولكن ما دخل هذا بمساواة المسلمين بالكافرين!؟ إن قال هويدي بأنه لا يجوز قتلهم كما لا يجوز قتل المسلمين، وهذا دليل تساويهم.(52/214)
نقول له: عدم قتلهم ليس لأجل كفرهم! بل إن كفرهم هو سبب قتلهم! وأنت عكست القضية. لأن المسلمين مطالبون بنشر الدعوة وقتال الكافرين وقتلهم -كما سيأتي- حتى يدينوا بالإسلام أو يرضوا بإعطاء الجزية والدخول تحت ذمة المسلمين فعندها يُكفُّ عنهم وتُصان أرواحهم وعندها يكون لهم نصيب من هذه الآية التي استشهد بها هويدي (من قتل نفسا…)(14)، لأن من قتلهم بعد ذلك فقد اعتدى عليهم وظلمهم، لأنهم قد دخلوا في ذمة المسلمين، فكانت أرواحهم مصانةً لا يجوز التعدي عليها، وهذا من كمال عدل الإسلام.
فليس عدم قتلهم، أو تعظيم قتلهم، هو بسبب (كفرهم) كما يظنه هويدي، وإنما سبب ذلك أنهم بذلوا الجزية وخضعوا لسلطان الإسلام، فلم يعد لنا سبيل عليهم إلا بأن ينقضوا عهد الذمة -كما سيأتي-.
أما احتجاج هويدي بأن صلى الله عليه وسلم قام لجنازة يهودي وقال: "أليست نفسًا" فهذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم، أن صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: "أليست نفسًا"(15).
وليس فيه أن صلى الله عليه وسلم قام لها "تحيةً واحترامًا" كما يزعم هويدي!! بل هذا من تلبيسه على القراء.
وهذا الحديث الذي احتج به هويدي قد روي بعدة روايات تبين علة قيام النبي صلى الله عليه وسلم ، وأطال العلماء في شرحه توضيحًا لمعناه لكي لا يتأوله متأول على غير مراد صلى الله عليه وسلم كما فعل هويدي!
فقد رواه مسلم من طريق آخر أنه قيل له صلى الله عليه وسلم إنها يهودية، فقال: "إن الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا"(16).
قال الحافظ ابن حجر: "قال القرطبي: معناه أن الموت يُفزع منه، إشارة إلى استعظامه. ومقصود الحديث أن لا يستمر الإنسان على الغفلة بعد رؤية الموت، لما يُشعر ذلك من التساهل بأمر الموت، فمن ثَمَّ استوى فيه كون الميت مسلماً أو غير مسلم"(17).
__________
(1) … سورة الرعد، الآية: 16.
(2) … سورة السجدة، الآية: 18.
(3) … سورة المائدة، الآية: 100.
(4) … سورة فاطر، الآيتان: 19،20.
(5) … سورة فاطر، الآية: 22.
(6) … سورة غافر، الآية: 58.
(7) … سورة الحشر، الآية: 20
(8) … سورة هود، الآية: 24.
(9) … سورة ص، الآية: 28.
(10) … سورة القلم، الآيتان: 35،36.
(11) … سورة الجاثية، الآية : 21.
(12) … تفسير ابن كثير (4/162).
(13) … لأنه لا يعتقد كفر بعض الكافرين، وهم اليهود والنصارى -كما سبق- !! والعياذ بالله.
(14) … سورة المائدة، الآية: 32.
(15) … أخرجه البخاري (1312)، ومسلم (7/29 نووي).
(16) … أخرجه مسلم (7/28 نووي).
(17) … فتح الباري (3/215).
قال الحافظ: "وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها ويضطرب، ولا يظهر منه عدم الاحتفال والمبالاة"(1).
قال: "قوله "أليست نفسًا" هذا لا يعارض التعليل المتقدم حيث قال: "إن للموت فزعًا" على ما تقدم، وكذا ما أخرجه الحاكم من طريق قتادة عن أنس مرفوعاً فقال: "إنما قمنا للملائكة"، ونحوه لأحمد من حديث أبي موسى، ولأحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا "إنما تقومون إعظاماً
للذي يقبض النفوس" ولفظ ابن حبان "إعظامًا لله الذي يقبض الأرواح" فإن ذلك أيضاً لا ينافي التعليل السابق، لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله، وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك وهم الملائكة.
وأما ما أخرجه أحمد من حديث الحسن بن علي قال: "إنما قام رسول ا صلى الله عليه وسلم تأذيًا بريح اليهودي" زاد الطبراني من حديث عبد الله بن عياش بالتحتانية والمعجمة "فآذاه ريح بخورها" وللطبراني والبيهقي من وجه آخر عن الحسن "كراهية أن تعلو رأسه" فإن ذلك لا يعارض الأخبار الأولى الصحيحة.
أما أولاً: فلأن أسانيدها لا تقاوم تلك في الصحة، وأما ثانياً: فلأن التعليل بذلك راجع إلى ما فهمه الراوي، والتعليل الماضي صريح من لفظ صلى الله عليه وسلم فكأن الراوي لم يسمع التصريح بالتعليل منه فعلل باجتهاده.
وقد روى ابن أبي شيبة من طريق خارجة بن زيد بن ثابت عن عمه يزيد بن ثابت قال: "كنا مع رسول ا صلى الله عليه وسلم فطلعت جنازة، فلما رآها قام وقام أصحابه حتى بعدت، والله ما أدري من شأنها أو من تضايق المكان، وما سألناه عن قيامه"(2).
قلت: فقيام صلى الله عليه وسلم ليس "تحية واحترامًا" لجنازة اليهودي كما يدعي هويدي!! وإنما هو قيام لأجل الفزع من أمر الموت الذي لا ينبغي للمرء أن يتلهى عنه، وأن يعتبر به، ولو كان في جنازة يهودي، لأن عدم القيام يدل على عدم المبالاة بأمر الموت.
الشبهة الثالثة :
قوله: "وقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام في صلاة آخر الليل: "اللهم إني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، وأن العباد كلهم إخوة" (أبو داود)".(52/215)
والجواب: أن هذا الحديث الذي احتج به هويدي على أخوة الكفار للمسلمين! حديث ضعيف(3)، استفاده هويدي من شيخه القرضاوي الذي احتج به في هذا الموضوع في عدة كتب له(4)، ولو صح فإنه يحمل على أن "العباد" هم المسلمون المؤمنون؛ لكي لا يعارض النصوص الشرعية الصريحة في إبطال الأخوة بين المسلمين والكفار.
الشبهة الرابعة :
احتجاجه(5) بقوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم) (6)، وقوله تعالى: (وإذا حُيّيتم بتحيةٍ فحيّوا بأحسن منها) (7)، وقوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام)(8)، وقوله صلى الله عليه وسلم "إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام" رواه أبو داود، وحديث عبد الله بن عمر: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: "تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" متفق عليه.
تعقيب:
أما قوله تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم) (9)، فهي واردة في البر والقسط مع الكفار الذين لم يقاتلونا، وليست واردة في موالاتهم ومودتهم كما يدعي هويدي ومن شاكله.
قال ابن كثير في تفسيرها: "أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة منهم (أن تبروهم) أي تحسنوا إليهم (وتقسطوا إليهم) أي تعدلوا (إن الله يحب المقسطين)" (10).
وقال الحافظ ابن حجر: "البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتودد المنهي عنه في قوله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) (11)، فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يُقاتل"(12).
__________
(1) … المرجع السابق.
(2) … فتح الباري (3/215-216).
(3) … أخرجه أحمد (4/369)، وأبو داود (1508)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (325) لأن في سنده (داود بن راشد الطفاوي) قال عنه ابن معين: ليس بشيء. وفيه أيضاً: (أبو مسلم البجلي) مجهول العين لم يرو عنه سوى الطفاوي الضعيف.
(4) … كما في "ملامح المجتمع المسلم" (ص 139).
(5) … مواطنون لاذميون، (ص113).
(6) … سورة الممتحنة، الآية: 8.
(7) … سورة السناء، الآية: 86.
(8) … سورة الزخرف، الآية: 89.
(9) … سورة الممتحنة، الآية: 8.
(10) … تفسير ابن كثير (4/373).
(11) … سورة المجادلة، الآية: 22.
(12) … فتح الباري (5/233).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله- تعليقًا على الآية التي احتج بها هويدي: "إنما معنى الآية المذكورة عند أهل العلم الرخصة في الإحسان إلى الكفار والصدقة عليهم إذا كانوا مسالمين لنا بموجب عهد أو أمان أو ذمة، وقد صح في السنة ما يدل على ذلك، كما ثبت في الصحيح أن أم أسماء بنت أبي بكر قدمت عليها في المدينة في عهد صلى الله عليه وسلم وهي مشركة تريد الدنيا، فأمر صلى الله عليه وسلم أسماء أن تصل أمها وذلك في مدة الهدنة التي وقعت بين صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة، وصح عن صلى الله عليه وسلم أنه أعطى عمر جبة من حرير فأهداها إلى أخ له بمكة مشرك. فهذا وأشباهه من الإحسان الذي قد يكون سببًا في الدخول إلى الإسلام والرغبة فيه وإيثاره على ما سواه، وفي ذلك صلة للرحم، وجُوْد على المحتاجين، وذلك ينفع المسلمين ولا يضرهم، وليس من موالاة الكفار في شيء كما لا يخفى على ذوي الألباب والبصيرة"(1).
أما احتجاج هويدي بقوله تعالى:(وإذا حُييّتم بتحيةٍ فحيّوا بأحسن منها)(2)، فهو من أعجب الاحتجاج، إذ معنى الآية كما قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم، أو ردوا عليه بمثل ما سلم، فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة"(3)، أي إذا قال: السلام عليكم فيستحب أن تقول ردًا عليه: وعليكم السلام ورحمة الله، فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله، فيُستحب أن تقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فالزيادة مندوبة، والرد كما قال ابن كثير فرض.
أما من قال بأنها تدل على جواز رد السلام على الكفار فقد أخطأ في الاستدلال.
قال ابن كثير: "وهذا التنزيل فيه نظر كما تقدم في الحديث من أن المراد أن يرد بأحسن مما حياه به فإن بلغ المسلم غاية ما شُرع في السلام رد عليه مثل ما قال، فأما أهل الذمة فلا يُبدؤن بالسلام، ولا يزادون، بل يرد عليهم ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم، فقل: وعليك" وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام.." (4).
أما احتجاج هويدي بقوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام) (5)، فهي أعجب من سابقتها! إذ هذه الآية خطاب للنبي r قبل أن يُشرع الجهاد بأن لا يرد على الكافرين مثل قولهم السيئ بل يعفو ويصفح إلى أن يأتي أمر الله، ولهذا قال بعده (فسوف يعلمون) (6).(52/216)
قال ابن كثير: "هذا تهديد من الله لهم، ولهذا أحل بهم بأسه الذي لا يُرد، وأعلى دينه وكلمته، وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب"(7).
أما احتجاج هويدي بحديث "إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام"، وحديث: ".. تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" فهي أحاديث خاصة بالمسلمين، ولكنَّ هويدي يتغافل عن هذا ويضعها في غير موضعها لتدل -بزعمه- على السلام على الكفار! ناسيًا قول صلى الله عليه وسلم السابق: "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام".
الشبهة الخامسة:
احتجاجه بالصحيفة التي كتبها r مع اليهود عندما قدم المدينة.
تعقيب:
هذه الصحيفة مما افتتن بها المعاصرون ترديدًا لها في كتبهم، متوهمين (صحتها) وأنها تشهد لما حَمَّلوها من جواز موالاة الكفار أو مساواتهم بالمسلمين -زعموا-!
وقد ذكر مجموعة ممن احتج بها الأستاذ محمد حميد الله في كتابه (مجموعة الوثائق السياسية) (8).
قال الأستاذ مشهور سلمان -حفظه الله-: "وهي متداولة في كتب السيرة وفي كتب النظم الإسلامية. وقد حكم عليها الأستاذ يوسف العش(9) بالوضع، والصحيح أنها ضعيفة فحسب، ولا مجال لسرد طرقها والكلام على أسانيدها، ومن أراد الاستزادة، فلينظر كتاب الأخ ضيدان بن عبد الرحمن اليامي (بيان الحقيقة في الحكم على الوثيقة)" (10).
حيث قال بعد أن ذكر أسانيد (الصحيفة) وضعفها جميعًا: "فعلى هذا يتضح لك ضعف هذه الصحيفة وما ورد فيها"(11).
قال: "ومن ثمَّ لا ينبغي الاحتجاج بها"(12).
وقال الشيخ ربيع المدخلي في كتابه "صد عدوان الملحدين" (ص 34) عن هذه الصحيفة -على فرض ثبوتها-: "معاذ الله أن تكون المعاهدة قامت على هذا الأساس الوطني، ولا ينبغي أن تحمل هذه المعاهدة ولا غيرها من النصوص الشرعية على المصطلحات السياسية المعاصرة".
__________
(1) … نقد القومية العربية (ص 45-46).
(2) … سورة النساء، الآية: 86.
(3) … تفسير ابن كثير (1/544-545).
(4) … تفسير ابن كثير (1/544-545).
(5) … سورة الزخرف، الآية: 89.
(6) … سورة الحجر، الآية: 3.
(7) … تفسير ابن كثير (4/147-148).
(8) … ص 39 - 41.
(9) … في حاشية (9) من (ص20) من كتاب "الدولة العربية وسقوطها" لفلهوزن، ترجمة العش.
(10) … كتب حذر منها العلماء، 2/247-248.
(11) … بيان الحقيقة في الحكم على الوثيقة، ص 38.
(12) … المرجع السابق، ص 39. وانظر أيضاً: "دفاع عن الحديث النبوي" للشيخ الألباني -رحمه الله-، ص25، حيث بين أن إسنادها منقطع.
قلت: وقد بينت في كتاب "محمد عمارة في ميزان أهل السنة" أن كثيراً من محتويات هذه الصحيفة تنقض دعاوى العصرانيين وتمايز بين المسلمين والكفار. (انظر: ص 431-432 من الكتاب السابق).
الشبهة السابعة:
احتجاجه بقول علي -رضي الله عنه- عن أهل الذمة: "أن دماءهم كدمائنا، وأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا" وزعمه أن هذا قول "كل فقهاء المسلمين من أولهم إلى آخرهم"(1) !!
تعقيب:
هذا الأثر عن علي -رضي الله عنه- ذكره الكاساني الحنفي في كتابه (بدائع الصنائع) (2) عند حديثه عن أهل الذمة دون إسناد، انتصارًا لقول الأحناف بأن دية الذمي كدية المسلم! وهي من مسائلهم المستشنعة التي تخالف الأحاديث الصحيحة.
ثم وجدت محمد بن الحسن الشيباني قد ذكر أثرًا مشابهاً له في (كتاب الحجة على أهل المدينة) (3) قال: "أخبرنا قيس بن الربيع عن أبان بن تغلب عن الحسن بن ميمون عن عبد الله بن عبد الله مولى بني هاشم عن أبي الجنوب الأسدي قال: أُتي علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- برجل من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة، قال: فقامت عليه البينة، فأمر بقتله، فجاء أخوه فقال: قد عفوت عنه. قال: فلعلهم هددوك أو فَرَقوك؟ قال: لا، ولكن قتله لا يرد عليَّ أخي وعوضوني فرضيتُ، قال: أنت أعلم، من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا، وديته كديتنا".
قلت: وهذا الأثر -فضلاً عن مخالفته للأحاديث الصحيحة- فهو ضعيف، قال الألباني: "أخرجه الشافعي (1429) والدارقطني (350) وقال: وأبو الجنوب ضعيف. وأورده صاحب الهداية بلفظ: "إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا" وهو مما لا أصل له كما ذكرته في "إرواء الغليل" (1251)"(4).
وقال الأستاذ علي رضا بن عبد الله(5) في رسالة بعثها إليَّ: "أثر علي رضي الله عنه: فيه الحسن بن ميمون مجهول كما قال الحسيني ووافقه الحافظ في "تعجيل المنفعة" (ج1/ص448) رقم (208)- ووهم المحقق فخلطه بالحسين بن ميمون وليس به على الراجح وإن اتفقا في الرواية عن أبي الجنوب الأسدي لكن الأول هو الذي يروي عنه أبان بن تغلب ويروي عن أبي الجنوب كما في "التعجيل" فالظاهر أنهما رجلان، وهذا مقتضى صنيع الحافظ ابن حجر في إقراره كلام الحسيني. وقد يكونان رجلاً واحداً كما يتضح من رواية الدارقطني الآتية.
وقيس بن الربيع: سيئ الحفظ كما في "الميزان" (3/393)، بل قال النسائي: متروك. وقال أحمد: يتشيع وكان كثير الخطأ، وله أحاديث منكرة.(52/217)
وأبو الجنوب اسم عقبة بن علقمة الكوفي: قال أبو حاتم: ضعيف بين الضعف لا يشتغل به. وكذا ضعفه الدارقطني "الميزان" (3/87).
فالإسناد ظلمات بعضها فوق بعض !!!
والحديث : أخرجه الدارقطني في "السنن" (3/147) رقم (200) وابن المظفر في "غرائب شعبة" -مخطوط- (ورقة 18/أ)، والبيهقي في "الكبرى" (8/34) من هذا الوجه وضعفته في تحقيقي لـ"مسند علي" (ج1/ص290-291) برقم (1690،1691،1696) وقال البيهقي- كذا قال: حسن، وقال غيره: حسين بن ميمون- وعلى تقدير أنه الحسين فهو لين الحديث كما في "التقريب" (1366)" اهـ كلام الأستاذ علي رضا بن عبد الله -حفظه الله-.
قلت: وهم -أي فقهاء الأحناف إلا من رحم الله- ليسوا حجة في معرفة الأحاديث والآثار، وإنما يذكرون في كتبهم منها ما ليس له خطام ولا زمام، أو ما كان ضعيفاً لا يصلح للاحتجاج، كما فعلوا بهذا القول الشاذ (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) حيث عزوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم !! حتى قال الزيلعي -وهو أحدهم ولكنه عالم بالحديث- عند تخريجه لهذا القول (لهم ما لنا..) الذي ذكره صاحب الهداية: "قلت: لم أعرف الحديث الذي أشار إليه المصنف"(6).
وقال الشيخ المحدث الألباني -حفظه الله- عن هذا القول: (لهم ما لنا..): "باطل لا أصل له في شيء من كتب السنة، وإنما يذكره بعض الفقهاء المتأخرين ممن لا دراية لهم في الحديث".
قال: "وقد جاء ما يشهد ببطلان الحديث، فقد ثبت أن صلى الله عليه وسلم قال: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" ليس في أهل الذمة، وإنما في الذين أسلموا من أهل الكتاب والمشركين، كما جاء في حديث سلمان وغيره، رواه مسلم وغيره. وهو مخرج في (الإرواء) (1247) وغيره .
وإن مما يؤكد بطلانه مخالفته لنصوص أخرى قطعية كقوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون) (7)، وقوله صلى الله عليه وسلم "لا يُقتَل مسلمٌ بكافر"، وقوله: "للمسلم على المسلم خمس: إذا لقيته فسلم
عليه.." الحديث، وقوله: "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام..". وكل هذه الأحاديث مما اتفق العلماء على صحتها.
__________
(1) … مواطنون لاذميون، ص 124، وص 153.
(2) … (7/111) .
(3) … (4/352-355) تعليق مهدي الكيلاني.
(4) … السلسلة الضعيفة (3/224).
(5) … أحد الأفاضل المختصين بعلم الحديث النبوي، له عدة مؤلفات في المكتبات، وفقنا الله وإياه.
(6) … نصب الراية، 4/55. وأقره الحافظ في الدراية، 2/162.
(7) … سورة القلم، الآيتان: 35، 36.
ومن هنا يظهر جليًّا صدق عنوان كتابنا هذا في الأحاديث الضعيفة: "وأثرها السيئ في الأمة"، فطالما صرفَتْ كثيرًا منهم على مر الدهور والعصور عن دينهم، لا فرق في ذلك بين العقائد والأحكام والأخلاق والسلوك، وليس ذاك في العامة فقط، بل وفي بعض الخاصة، وهاهو المثال بين يديك، فإن هذا الحديث الباطل قد تلقاه بالقبول بعض الدعاة والكتّاب الإسلاميين، وأشاعوه بين الشباب المسلم في كتاباتهم ومحاضراتهم، وبنوا عليه من الأحكام ما لم يقل به عالم من قبل! فهذا هو كاتبهم الكبير الشيخ محمد الغزالي يقول فيما سماه بـ"السنة النبوية.." (ص18): "وقاعدة التعامل مع مخالفينا في الدين ومشاركينا في المجتمع: لهم ما لنا وعليهم ما علينا. فكيف يهدر دم قتيلهم؟!".
وهو تابع في ذلك للأستاذ حسن البنا رحمه الله، فهو الذي أذاعه بين شباب الإخوان وغيرهم، وهذا هو سيد قطب عفا الله عنه يقول مثله، ولكن بجرأة بالغة على تصحيح الباطل: "وهؤلاء لهم ما لنا وعليهم ما علينا بنص الإسلام الصحيح"!! كذا في كتابه "السلام العالمي" (ص 135-طبع مكتبة وهبة الثانية).
وقد جرى على هذه الوتيرة من المخالفة للنصوص الصحيحة، اعتماداً على الأحاديث الضعيفة غير هؤلاء كثير من الكتاب المعاصرين، لجهلهم بالسنة، وتقليدهم لبعض الآراء المذهبية، ومن هؤلاء الأستاذ المودودي رحمه الله، وقد تقدم الرد عليه في تسويته بين المسلم والذمي في الحقوق العامة تحت الحديث المتقدم رقم (460) (1).
وإن مما يحسن لفت النظر إليه أن الأحناف الذين تفردوا بهذا الحديث الباطل، لم يأخذوا به إلا في المبايعات كما تقدم ذكره عن كتابهم "الهداية"، خلافاً لهؤلاء الكتّاب الذي توسعوا في تطبيقه توسعاً خالفوا به جميع العلماء. فاعتبروا يا أولي الألباب!" (2)اهـ. كلام الشيخ الألباني -حفظه الله-
وقال الدكتور عبد الله الطريقي: "وأما قول بعض الفقهاء "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" فليس فيه دلالة على المساواة في الحقوق والواجبات؛ بدليل الواقع، فإن حقوق المسلم كثيرة؛ منها: السلام، والنصح، وإجابة الدعوة، والعيادة في المرض، وتشييع الجنازة، وأهم من ذلك موالاته ومؤاخاته، وإعطاؤه من الزكاة، وغير ذلك"(3).
الشبهة الثامنة:
قوله: "وقد استحضر الإمام علي بن أبي طالب تلك المعاني في كتابه إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر بعد مقتل محمد بن أبي بكر، عندما قال: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم.. فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق"(4).
تعقيب:(52/218)
هذا الأثر مما التقطه هويدي من كتاب (نهج البلاغة) المكذوب على علي -رضي الله عنه-(5).
فهو مما لا يُفرح به.
قال الذهبي في ترجمة المُرتْضَى أبي علي بن حسين ابن موسى الموسوي (المتوفى سنة 436هـ): "هو جامع كتاب "نهج البلاغة" المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي رضي الله عنه، ولا أسانيد لذلك، وبعضُها باطلٌ وفيه حقٌ، ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها، ولكن؛ أين المنصف؟ وقيل: بل جَمْعُ أخيه الشريف الرّضي"(6).
وقال أيضًا: "وفي تواليفه سبُّ أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فنعوذ بالله من علمٍ لا ينفع"(7).
وقال أيضاً في ترجمته: "وهو المتهم بوضع كتاب "نهج البلاغة"، وله مشاركة قويّة في العلوم، ومن طالع كتابه "نهج البلاغة"؛ جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ففيه السّبُّ الصّراح والحطُّ على السيدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة، وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين؛ جزم بأن الكتاب أكثره باطل"(8).
__________
(1) … ومنهم القرضاوي -هداه الله- في كتابه "فتاوى معاصرة 2/670".
(2) … سلسلة الأحاديث الضعيفة، 5/195-197.
(3) … فقه الإحتساب على غير المسلمين، ص 23.
(4) … مواطنون لاذميون، ص 83.
(5) … انظر: شرح نهج البلاغة، 5/24، تحقيق حسن تميم.
(6) … وهذا هو المشهور.
(7) … سير أعلام النبلاء، 17/589، 590.
(8) … ميزان الاعتدال، 3/124. وانظر: لسان الميزان، 4/223.
وقد حكم بكذب كثير مما في هذا الكتاب على عليّ رضي الله عنه العلامة المقبلي؛ فقال رحمه الله: "أخرج البخاري عن علي رضي الله عنه؛ أنه قال: اقضوا كما كنتم تقضون؛ فإني أكره الخلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي. قال: وكان ابن سيرين يرى عامة ما يروون عن علي رضي الله عنه كذبًا، وصدق ابن سيرين رحمه الله؛ فإن كل قلب سليم، وعقل غير زائغ عن الطريق القويم، ولب تدرب في مقاصد سالكي الصراط المستقيم؛ يشهد بكذب كثير مما في "نهج البلاغة" الذي صار عند الشيعة عديل كتاب الله بمجرد الهوى الذي أصاب كل عرق منهم ومفصل، وليتهم سلكوا مسلك جلاميد الناس، وأوصلوا ذلك إلى علي برواية تسوغ عند الناس، وجادلوا عن رواتها، ولكن؛ لم يبلغوا بها مصنفها، حتى لقد سألت في الزيدية إمامهم الأعظم وغيره؛ فلم يبلغوا بها الرضّي الرافضي، ولو بلغوه لم ينفعهم فإن مذهب الإمامية تكفير من لم يكن على مذهبهم كفرًا صريحًا لا تأويلاً"(1).
وقد أشار إلى الكذب الذي فيه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/161).
وقد قال محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمة تعليقه عليه: "إنه يعتقد أن محمد عبده(2) كان مقتنعاً بأن الكتاب كله للإمام علي رضي الله عنه وإن لم يصرح بذلك، وحتى إنه ليجعل ما فيه حجة على معاجم اللغة"!
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلمة في بيان كذب كثير مما في هذا الكتاب على عليّ رضي الله عنه، وهذا نص كلامه: "… وأيضًا؛ فأكثر الخطب التي ينقلها صاحب "نهج البلاغة" كذبٌ على عليّ، وعليّ رضي الله عنه أجلّ وأعلى قدرًا من أن يتكلّم بذلك الكلام، ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا أنها مدح؛ فلا هي صدق ولا هي مدح، ومن قال: إن كلام عليّ وغيره من البشر فوق كلام المخلوق؛ فقد أخطأ، وكلام صلى الله عليه وسلم كلامه، وكلاهما مخلوق.
ولكن هذا من جنس كلام ابن سبعين الذي يقول: هذا كلام بشير(3) يشبه بوجهٍ ما كلام البشر، وهذا ينزع إلى أن يجعل كلام الله ما في نفوس البشر وليس هذا من كلام المسلمين.
وأيضًا؛ فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام عليّ موجودة في كلام غيره، لكن صاحب "نهج البلاغة" وأمثاله أخذوا كثيرًا من كلام الناس فجعلوه من كلام عليّ، ومنه ما يُحكى عن عليّ على أنه تكلّم به، ومنه ما هو كلام حقٌ يليق به أن يتكلم به، ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره.
ولهذا؛ يوجد في كلام "البيان والتبيين" للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول من غير عليّ، وصاحب "نهج البلاغة" يجعله عن عليّ.
وهذه الخطب المنقولة في كتاب "نهج البلاغة" لو كانت كلّها عن عليّ من كلامه؛ لكانت موجودة قبل هذا المصنّف، منقولة عن عليّ بالأسانيد وغيرها، فإذا عَرَف من له خبرة بالمنقولات أن كثيرًا منها بل أكثرها لا يُعرف قبل هذا؛ عُلم أن هذا كذب، وإلا؛ فليبيّن الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك، ومن الذي نقله عن عليّ، وما إسناده؟ وإلا؛ فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد.
ومن كان له خبرة بمعرفة طريقة أهل الحديث ومعرفة الآثار والمنقول بالأسانيد، وتبيّن صدقها من كذبها؛ عَلِم أن هؤلاء الذي ينقلون مثل هذا عن عليّ من أبعد الناس عن المنقولات، والتمييز بين صدقها وكذبها"(4).(5)
قلت: بهذه الشبهة انتهت الشبهات التي احتج بها هويدي في كتبه ومقالاته انتصارًا لرأيه الشاذ في (مساواة) المسلمين بالكافرين، وما تفرع عنها من مسائل قبيحة لا يتلفظ بها من يخاف الله -عز وجل-.
تقسيم الناس حسب موقفهم من الإسلام :(52/219)
الناس إما مسلمون أو غير مسلمين، وغير المسلمين قسمان:
أهل حرب.
أهل عهد.
كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان المشركون على منزلتين من صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. كانوا: مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه"(6).
وأهل العهد ينقسمون ثلاثة أقسام:
أهل ذمة (ذميون).
مستأمنون.
معاهَدون، من الموادعين والمحايدين: وهم من كان لهم عهد مؤقت بكف القتال عنهم.
هذا هو تقسيم الناس بالنسبة لموقفهم من الإسلام. ويهمنا
الفرق بين الذمي والمعاهد والحربي
عرفنا فيما سبق أن الذمي هو: "كل كافر حر بالغ قادر يجوز إقراره على دينه بالجزية".
أما المعاهد: فيراد به من كان له عهد مؤقت بكف القتال عنه وهو "من عقد مع المسلمين أو عقد معه المسلمون، من الكفار من أهل الحرب عهدًا بالكف عن القتال مدة معينة".
__________
(1) … العلم الشامخ، ص 237.
(2) … وهو شيخ مشايخ هويدي! فلا يُستغرب احتجاج هويدي بهذا الأثر الذي ارتضاه محمد عبده.
(3) … كذا في الأصل !
(4) … منهاج السنة النبوية، 7/55-56. وانظر في التحذير من هذا الكتاب وبيان أنه مكذوب على علي رضي الله عنه: فجر الإسلام، 148-149. وترجمة علي، لأحمد صفوت، ص 122. والبيان لأخطاء بعض الكتاب، ص 69-85، للشيخ صالح الفوزان، وتعليق محب الدين الخطيب على "المنتقى من منهاج السنة" للذهبي، ص 20،430،508، ومجلة المقتطف، جزء 42، ص 248-252، سنة 1331هـ.
(5) … كتب حذر منها العلماء، 2/250-256، بتصرف يسير.
(6) … أخرجه البخاري، 2586. فتح الباري، 9/417.
وعليه فإنه يمكن أن يُطلق على الذمي "معاهَداً" لأن أهل الذمة هم أهل عهدٍ دائم مقابل أداء الجزية.
أما المعاهَد عهدًا مؤقتًا -وهم أهل الهدنة- فلا يُطلق عليه لفظ الذمي، وعليه فلفظ الذمي أخص من لفظ المعاهَد مطلقًا، فكل ذمي معاهَد وليس كل معاهَد ذميا، لجواز أن يكون عهدُه عهدًا مؤقتًا.
وعليه فأهم الفروق بين الذمي والمعاهد هي:
أولاً: أن الذمي يقيم إقامة دائمة في بلاد المسلمين أو في بلادٍ يشرفون عليها. أما المعاهَد فإنه إن أقام في بلادهم فهو لحاجة ثم يغادرها.
ثانياً: الذمي يتمتع بحماية المسلمين له بمقتضى عقد الذمة ويلزمه أداء الجزية، أما المعاهَد: فليس عليهم حمايته ولا يُلزم بدفع جزية. ( ولكن ليس معنى هذا جواز الإعتداء عليه كما قد يفهم البعض ؛ فإن هذا محرم بالنصوص الشرعية الصريحة ) .
ثالثاً: مدة عقد الذمة مطلقة مؤبدة، ولا تُحَد بوقتٍ كما نص على ذلك الفقهاء، فسموها بـ"العقد المؤبد" أما مدة عقد الهدنة فالواجب فيها التحديد.
رابعاً: الذمي يلتزم بدفع الجزية وبسريان أحكام المسلمين عليه. أما المعاهَد فليس عليه شيء من ذلك . ( وضوابط ذلك تجدها في رسالة الدكتور الطريقي كما سيأتي إن شاء الله ) .
خامساً عقد الذمة: يجب أن يكون صاحبه كتابيًا أو مجوسيًا في الراجح من أقوال العلماء. أما عقد الهدنة فيُعْقد مع كل كافر.
تلك هي الفوارق بين الذمي والمعاهَد.
ويتفقان فيما يأتي:
أولاً: كلٌ من الذمي والمعاهَد يجب له الوفاء بعهده إذا التزم بأحكام وشروط هذا العهد.
ثانياً: وجوب نبذ العهد إلى كلٍ من الذمي والمعاهَد في حال ظهور بوادرَ للخيانة.
أما الفروق بين الذمي والحربي فهو كما يلي:
أولاً: الذمي محقون الدم بموجب عهد الذمة. أما الحربي فدمه هَدَر، حيث لا عهد له.
ثانيًا: في الراجح من أقوال العلماء أن الذمي لا يكون إلا من أهل الكتاب أو المجوس. أما الحربي: فيُطلق على من تهيأ لمحاربة المسلمين وناصبهم العداء: كتابيًا كان أو وثنيًا.
ثالثاً: لا يتعرض المسلمون لذراري الذمي لدخولهم في عقد الذمة ضمنًا. أما ذراري الحربي إذا ظفر بهم المسلمون فهم سبي ولا يُقَاتلون قصدًا.
رابعًا: مال الذمي له حُرمته فلا يُتَعرض له، ويحافظ عليه كمال المسلم. أما مال الحربي: فلا حرمة له وهو غنيمة للمسلمين.
أحكام الجزية
أما الجزية التي حاول هويدي أن يشكك فيه ويتمحل في سبيل إسقاطها عن "إخوانه اليهود والنصارى!" بشتى التمحلات، فهي ثابتة بالقرآن والسنة والإجماع.
أما ثبوتها في القرآن: فبالنص عليها في قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون) (1).
وأما السنة: فقد ورد ذكرها في أحاديث كثيرة لا تُحصى وفي مقدمتها حديث بريدة المشهور الذي نص فيه الرسو صلى الله عليه وسلم على هذا الحكم وشرعه للأمة من بعده، دون تقييد بزمان أو مكان.(52/220)
قال بريدة -رضي الله عنه-: "كان رسول ا صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجرى عليه حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم" الحديث رواه مسلم وغيره(2) واللفظ له.
ففي هذا الحديث الصريح بيان أن سنة الرسو صلى الله عليه وسلم في حروبه وغزواته، وفي وصاياه لقواده أن يخير الكفار بين الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وأن هذا دأبه دائمًا، يشهد لهذه قول بريدة: "كان رسول ا صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرًا.." فهو دليل على الاستمرار والعادة الدائمة.
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز أخذ الجزية بالجملة، قال ابن قدامة رحمه الله: "والأصل فيها -يعني الجزية- الكتاب والسنة والإجماع"(3). وقال ابن رشد: "فأما من يجوز أخذ الجزية منهم فإن العلماء مجمعون على أنه يجوز أخذها من أهل الكتاب العجم والمجوس"(4). وقال ابن القيم: "أجمع الفقهاء على أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس"(5).
__________
(1) … سورة التوبة، الآية: 29.
(2) … صحيح مسلم بشرح النووي، جـ12،ص 37. الأموال لأبي عبيد، ص 35.
(3) … المغني لابن قدامة، جـ10، ص567.
(4) … بداية المجتهد لابن رشد، جـ1، ص405.
(5) … أحكام أهل الذمة لابن القيم، جـ1، ص1.
تنبيه: من أراد الزيادة والفائدة في موضوع أحكام المعاهدين، والموقف الشرعي منهم؛ فعليه بالرسالة القيمة "فقه الإحتساب على غير المسلمين" للدكتور عبد الله الطريقي -وفقه الله-.
فهمي هويدي والرافضة :
مقالاته وأقواله -حسب علمي- تشهد بأنه متأثر بدعوة (الرافضة) عادًا إياهم أحد التيارات المؤثرة في الصحوة الإسلامية(1) وعادًا ثورتهم الأخيرة ثورةً إسلامية شجاعة، ومادحًا لرموزهم وأشخاصهم، وملمعًا لمذهبهم وبلادهم -والعياذ بالله-.
وإليك -شيئاً من مواقفه وأقواله- تشهد عليه بهذا كله:
فهو قد خصص كتاباً كاملاً سماه (إيران من الداخل) خصصه للحديث عن أحوال الثورة الخمينية، محاولاً تقريب السنة إليهم، كما في (ص9،11،205،306،313 وما بعدها).
واصفاً الخميني بأنه "كان زاهدًا عظيمًا"(2) !! ومادحاً (منتظري) بأنه "واحد من التابعين الذين كان همهم الزهد والورع"(3)!!
وتدليلاً على محبة هويدي وموالاته للروافض فقد تكلف عناء السفر لتهنئة الخميني بقيام دولته (الرافضية)! (4)
ويقول عن فقه الواقع: "الثورة الإسلامية في إيران أرست قاعدة عريضة لهذا الفقه"(5).
وفي تعليق له على تقرير عن (الحالة الإسلامية في الوطن العربي) الذي أصدره مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام، يقول: "لسنا نعرف كيف غاب عن الباحثين رصد مظاهر الحالة الإسلامية في الخليج ومؤشرها في صعود مستمر على الأصعدة السياسية والاجتماعية، خصوصًا بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وما ترتب على ذلك من أصداء بين شيعة الخليج"(6).
ويرى هويدي أن نجاح ثورة الرافضة في إيران أحد مظاهر نجاح الصحوة الإسلامية(7)!
ويقول عن الرافضي باقر الصدر(8): "العلامة السيد محمد باقر الصدر"(9)!
ويقول مدافعًا عن الروافض، ومبرزًا حسناتهم: "إن الشيعة الذي كان البعض يشكك في ولائهم، وأبدى نفر من الكاتبين تخوفاً منهم بعد الغزو خيبوا ظن هؤلاء الجميع، وأثبتوا أنهم جزء لا ينفصم من الصف الوطني، وكان صمودهم المشهود، وشبابهم الذين سيقوا إلى الإعدام، منهم ثلاثة من أسرة (دشتي) وحدها، كان ذلك إبراءً لذمتهم، وإعلاناً عن مصداقية انتمائهم، الذي ثار حوله بعض اللغط منذ قامت الثورة الإسلامية في إيران"(10).
ويخص الزيدية والإمامية الروافض بمزيد دفاع حارٍ، ويستثنيهم من بقية الشيعة المذمومين بكل لسان، فيقول: "فات بعض الكاتبين أن الشيعة فرق متعددة، بينهم المعتدلون والغلاة وصحيحو العقيدة وفاسدوها، وفي مقدمة المعتدلين وصحيحي العقيدة: الزيدية المنسوبة إلى الإمام زيد بن علي، ويتركزون في اليمن، وهم الأقرب إلى السنة، والإمامية الاثني عشرية!! وهم أكبر فرق الشيعة وأشهرها"(11).
وفي مقال له بعنوان (معركتنا ليست ضد الشيعة) يحاول هويدي أن يوهمنا بأن تصرفات النظام الإيراني لا يتحمل وزر أخطائها مذهب الروافض، فيقول: "لا أعرف كيف يمكن أن نكبح جماح عواطفنا وانفعالاتنا، بحيث نفرق بين ممارسات النظام السياسي الإيراني وبين تعاليم المذهب الشيعي"(12).(52/221)
وهاهو ينتقد أحد الدعاة الذين بينوا خطر الرافضة، وحذروا منهم(13).
وعندما أنكر هويدي ظهور (المهدي المنتظر) آخر الزمان عَقَّب على ذلك بقوله: "إن ما عرضته بشأن وجهة نظر السنة في مسألة المهدي المنتظر ينبغي ألا يُحمل باعتباره إساءة أو تشهيرًا بما يعتقده الشيعة في هذا الصدد، فرأينا فيما يعرض علينا من معتقدات، لا ينبغي أن يخل باحترامنا لما يعتقده الآخرون، خاصةً وأن لديهم من الأسانيد والحجج ما يدعم اعتقادهم ويعززه"(14).
قال هذا الئلا يُغضب أعداء الصحابة، وأما أهل السنة من أتباع السلف الصالح فهم -في نظر هويدي- لا يستحقون الاعتذار، علمًا بأن "لديهم من الأسانيد والحجج ما يدعم اعتقادهم ويعززه" كما قال هويدي!
ويتابع هويدي الروافض في ذمهم للصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- قائلاً: "لعلنا نذكر ما جرى في موقعة صفين بين علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، ومعاوية بن أبي سفيان والي الشام الطامع في الإمارة"(15).
__________
(1) … بخلاف السلفيين الذين يراهم معوِّقين للصحوة!
(2) … إيران من الداخل (ص 182).
(3) … المرجع السابق (ص 116).
(4) … إيران من الداخل (ص 9).
(5) … جريدة الأهرام، تاريخ: 2/1/1990م.
(6) … جريدة الأهرام، تاريخ: 11/10/1988م.
(7) … جريدة الأهرام، تاريخ 11/10/1988م، مقال بعنوان "الإسلاميون في أحدث تقرير".
(8) … رافضي جَلد، تميز بكتبه الاقتصادية.
(9) … جريدة الأهرام، تاريخ: 18/9/1990م.
(10) … جريدة الأهرام، تاريخ: 16/10/1990م.
(11) … جريدة الأهرام، تاريخ: 15/9/1987م.
(12) … جريدة الأهرام، تاريخ: 15/9/1987م.
(13) … في مقالة على صفحات مجلة العربي، العدد 292، ص 45.
(14) … جريدة الأهرام، تاريخ: 21/1/1986م.
(15) … مجلة العربي، العدد 234، ص 35.
ويكتب مقالاً بعنوان "معركتنا ليست ضد الشيعة"(1) يستغرب فيه أن تنشر الكتب ضد الشيعة في بلاد مصر "ذات الدور الرائد في التقريب بين المذاهب، والتي لم تصب بأي حساسية تجاه الشيعة، ولقد درج المؤرخون على وصف المصريين بأن لهم هوىً مع آل البيت"، كما يقول هويدي، ثم راح يدافع عن عقائدهم، ويُنكر أنهم يقولون بتحريف أو نقص القرآن الكريم أو أنهم يسبون الصحابة!!
فهمي هويدي والديمقراطية
يعد هويدي من أبرز الدعاة إلى الديمقراطية في عالمنا الإسلامي، حيث أبرز محاسنها وجَمَّلها في عدد كثير من مقالاته، متابعةً منه لشيخيه الغزالي، والقرضاوي، اللذين يعوِّل على كلامهما في الديمقراطية كثير من دعاة الاستنارة والعقلانية.
وإليك شيئًا من أقواله في هذا الموضوع:
يقول هويدي في مقال بعنوان (الإسلام والديمقراطية.. أو الطوفان!) مبالغاً في مدح الديمقراطية: "إننا نعتبر أن الديمقراطية هي أفضل صيغة ابتكرها العقل الإنساني حتى الآن لإدارة المجتمع على نحو كفء وصحي"(2).
ويقول: "سنصبح في مجرى التاريخ، ويصبح انتسابنا للعصر حقًا، فقط عندما نتعامل مع الديمقراطية بشروطها وجوهر وظيفتها، أعني عندما يسقط احتكار السلطة، وتصبح الأمة شريكة في صناعة القرار، وصياغة حاضرها ومستقبلها"(3).
ويقول معبرًا عن ماهية الديمقراطية التي يدعو إليها: "جوهر الديمقراطية هو مشاركة الأمة صناعة القرار السياسي من خلال وضع مؤسسي دائم وملتزم"(4).
ويقول: "لسنا نعرف لماذا يصر البعض على سوءات الديمقراطية وعوراتها، مع تغييب تام لإيجابياتها وإنجازاتها، وجملة المقاصد الجليلة التي تحققها"(5).
ونراه ينقل فتيا القرضاوي في تأييد (الديمقراطية) في مقالة له بعنوان "فتوى في الديمقراطية"(6).
فهمي هويدي والسلفية
يُكثر هويدي -شأن جميع العصرانيين- من الطعن في المتمسكين بعقيدة السلف الصالح ومنهجهم، ويلمزهم بشتى التهم، ساخرًا منهم لاتباعهم سنة صلى الله عليه وسلم إلى أن يصل به الشيطان إلى الطعن والسخرية بالسنة ذاتها! -والعياذ بالله-.
وأنا سأنقل بعضًا من أقواله التي يوردها في هذا المقام متابعةً منه لأسلوب شيخه الهالك (الغزالي) ليتعرف القارئ على شيء مما تكنه صدور هؤلاء التنويريين على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والمتمسكين بها، مع تعرفه على رأيهم في انتشار عقيدة ومنهج السلف في العالم الإسلامي خلال السنوات الأخيرة -ولله الحمد-.
يقول هويدي: "تيارات تكفير المجتمع وجماعات الغلو والتشنج والهلوسة باسم الدين، هؤلاء جميعًا لم يظهروا إلى الوجود إلا في المرحلة التي صودرت فيها حرية العمل الإسلامي الشرعي"(7).
وينقل طعن الغزالي في السلفية مؤيدًا له(8).
ويسخر من كتاب الشيخ أبي إسحاق الحويني(9) "نهي الصحبة عن النزول بالركبة"(10) مدعيًا أنه لا فائدة من بحث هذه المواضيع الفقهية التي يسميها هويدي ومن هم على شاكلته (الجزئيات)، وأن الأولى أن تُصرف الجهود إلى الاهتمام بقضايا الأمة الكبرى، ومواجهة أعدائها الذين يكيدون لها.(52/222)
ولكن: مما يثير الطرافة أننا علمنا -سابقاً- أن هويدي يرى أن اليهود والنصارى كالمسلمين، ويرى جواز قيام أحزاب علمانية وماركسية، فلا أدري بعد هذا من هم أعداء الأمة الذين يريد لنا هويدي أن نتصدى لهم، وهو لم يُبق عدوًا لنا!!؟
ويقول هويدي في ندوة عقدت بالأردن ساخرًا من مجموعة من الشعائر والسنن الإسلامية: "الأمر تجاوز المسواك والأكل بأصابع اليد والجلباب القصير، إلى حديث أصح وأجدى حول الارتقاء بالإنسان، والنهوض بالأمة، وصياغة المستقبل على نحول أفضل"(11).
ثم ينقل عن القرضاوي ذم من يُقَصر ثوبه اتباعًا لسنةمحمد صلى الله عليه وسلم .
فهويدي مشغول عن هذه السنن بـ"الارتقاء بالإنسان والنهوض بالأمة، وصياغة المستقبل على نحوٍ أفضل)!! إلى آخر عباراته التي لا ثمرة لها.
__________
(1) … جريدة الأهرام، تاريخ 15/9/1987م.
(2) … جريدة الأهرام، تاريخ: 14/3/1992م.
(3) … جريدة الأهرام، تاريخ: 13/2/1990م.
(4) … جريدة الأهرام، تاريخ: 13/2/1990م.
(5) … جريدة الأهرام، تاريخ: 13/2/1990م.
(6) … جريدة الأهرام، تاريخ: 18/8/1992م.
(7) … مجلة العربية، العدد 265، ص 25-26.
(8) … مجلة العربية، العدد290، ص 82-86.
(9) … أحد علماء الحديث البارزين في مصر -حفظه الله-.
(10) … مجلة المجلة، العدد 503، ص 23.
(11) … جريدة الأهرام، تاريخ: 11/7/1989م.
ويقول: "لا نعرف لماذا -عند ذكر الصحوة- يُهال التراب على روادها من جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، ورشيد رضا، وحسن البنا، فيُطمس فكرهم، ويُلغى وجودهم، بينما لا يُذكر سوى عمر عبدالرحمن، وعبود الزمر، وشكري مصطفى، وعلي بلحاج. أعني لماذا يُسقط الاصلاحيون والتحديثيون من الحسبان، وتُسلط الأضواء فقط على الانقلابيين والسلفيين"(1).
ويذم أصحاب (الكآبة والجهامة والجفاف)!! الذين يحرمون الغناء والموسيقى والتمثيل والنرد والشطرنج.
ويرى -بجهل أو بخبث- أن مصدر هذا الفقه الكئيب يعود إلى السعودية!! (2)
ويقول: "إن الخطاب الإسلامي أصبح يعنى بأمور لا حصر لها، ليس بينها بالضرورة قضايا الساعة وشواغل الناس، حتى يبدو أحياناً كما لو كان قادمًا من زمنٍ آخر وربما من كوكبٍ آخر، وما الجدل الدائر بين شبابنا حول الاختلاط والنقاب وإقامة الخلافة وصحة أحاديث المهدي سوى نموذج لما ندعيه"(3).
=========================(52/223)
(52/224)
نظرة شرعية في فكر أحمد كمال أبو المجد
ترجمته (4):
كاتب ومفكر مصري معاصر، من مواليد محافظة أسيوط بمصر سنة 1930م.
تخرج في كلية الحقوق سنة 1950م.
حصل على دبلوم في القانون العام سنة 1951م، ودبلوم في الشريعة الإسلامية سنة 1952م.
حصل على درجة الماجستير في القانون المقارن من جامعة ميتشقن في الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى درجة الدكتوراه في القانون من جامعة القاهرة.
يعمل أستاذًا للقانون العام في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، ويتولى رئاسة المحكمة الإدارية للبنك الدولي بواشنطن!
يعمل -أيضاً- محامياً أمام محكمة النقض ومجلس الدولة، والمحكمة الدستورية العليا في مصر.
عضو في: مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن، والجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والتشريع، ولجنة الخبراء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للبنك الدولي، ولجنة الخبراء التابعة للوكالة الدولية للتنمية.
كان وزيرًا للشباب في مصر بين عام 1971م-1973م.
عمل وزيرًا للإعلام بين عام 1973م-1975م.
عمل عميدًا لكلية الحقوق والشريعة في جامعة الكويت سنة 1977م، ثم مستشارًا لولي العهد بدولة الكويت من 1980م إلى 1986م.
له عدة مؤلفات؛ منها :
"حوار لا مواجهة" وهو أهم كتبه، عبارة عن مقالات متنوعة كان ينشرها في مجلة "العربي" بالكويت، صب فيها خلاصة أفكاره.
"رؤية إسلامية معاصرة إعلان مبادئ" ، وهو عبارة عن عدة مبادئ صاغها أبو المجد لتكون وثيقة جامعة للأفكار الكبرى التي ينادي بها العصرانيون، ويلتقون عليها. وقد راجعها وأثنى عليها غير واحد منهم(5).
فحبذا لو قام أحد طلبة العلم بتفنيد ما جاء في هذه الوثيقة العصرانية من انحرافات .
النظام الدستوري في دولة الإمارات العربية المتحدة.
دراسات في المجتمع العربي.
التطرف الديني وأبعاده.
قال رضوان السيد عن أبي المجد: "أذكر من المتحولين إلى الفكر الإسلامي، نماذج مشرفة مثل أحمد كمال أبو المجد، وطارق البشري، فالأول مع أنه بدأ
إخوانيًا، لكنه صار في مرحلة من عمره ناصريًا اشتراكياً، ثم عاد إلى موقعه إسلاميًا"(6)
وذكر مثل هذا عنه الدكتور محمود الطناحي في كتابه "مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي" (ص150).
انحرافاته :
يعد أحمد كمال أبو المجد أحد المنظرين للفكر العصراني في زماننا، حيث ارتضى هذا الفكر أخيرًا بعد أن تنقل يمينًا ويسارًا، وهو في مؤلفاته وكتاباته وندواته لا يخرج عن الدعوة للأهداف السابقة التي يلتقي عليها "العصرانيون".
وأبتدئ بدراسة قيمة للدكتور مفرح القوسي -وفقه الله- لفكر الرجل ثم أعقبها ببعض الإضافات التي لم ترد في دراسته .
__________
(1) … جريدة الأهرام، تاريخ: 18/2/1992م. ومن ذكرهم هويدي ليسوا جميعاً من السلفيين، بل تجاوزوا السلفية إلى فكرٍ متأثر بالخوارج في استباحة الدماء والخروج -دون ضوابط- على الحكام… إلخ. هدانا الله وإياهم للرجوع إلى الحق.
(2) … كما في مقاله: "هذه الدعوة إلى الكآبة والجفاف"، جريدة الأهرام بتاريخ: 19/3/1988م.
(3) … جريدة الأهرام، تاريخ: 17/6/1986م.
(4) … استفدتها من كتاب"الإسلاميون والحوار مع العلمانية والدولة والغرب"لهشام العوضي.وكذا من رسالة الدكتور مفرح القوسي"الموقف المعاصر من المنهج السلفي.."(ص49)،ومن كتاب "من أجل وحدة ثقافية -عربية-حوار مع الدكتور أحمد كمال أبو المجد"إصدار منتدى عبدالحميد شومان الثقافي بالأردن، 1998م.
(5) … كما في ص 23. وقد فرح العلمانيون بهذه الوثيقة (العصرية) لأنها تحقق لهم أهدافهم بواجهة (إسلامية). يقول العلماني سيد ياسين في كتاب "قضايا المعاصرة والخلافة، ص9" عن هذه الوثيقة: "إنها ترديد لبعض المبادئ الراسخة في النظرية والممارسة الليبرالية الغربية..".
(6) … العلمانية والممانعة الإسلامية؛ لعلي العميم، ص 164.(52/225)
يقول الدكتور القوسي:"الدكتور أحمد كمال أبو المجد(1) الذي دأب في كتاباته على التقليل من شأن السلف الصالح من الصحابة والتابعين وانتقاد منهجهم، والزهد بعلمهم، والتنصل من أقوالهم واجتهاداتهم. ومن ذلك على سبيل المثال قوله في الدعوة إلى التحديث والتوسع في الاجتهاد:"أما اجتهاد القدماء من السلف فإنه يظل تجربة غير ملزمة.. وتاريخ المسلمين منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا تاريخ أمة من البشر عامر بالخير والشر معاً، فإلى جوار أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، عاش أبو جهل وأبو لهب وأمية بن خلف، وإلى جانب العدل الذي قام عليه الحكم في أيام الخلافة الراشدة وجدنا من يصف الحاكم بأنه ظل الله في الأرض… وكما كان أصحاب صلى الله عليه وسلم أشداء على الكفار رحماء بينهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، خلف من بعدهم خلف رجعوا كفارًا يضرب بعضهم رقاب بعض، وصار بأسهم بينهم أشد من بأسهم على عدوهم… تلك إذن أمم قد خلت لها ما كسبت ولنا -اليوم- ما كسبنا، والتراث تجارب، واجتهاد السلف سوابق، والحاضر لا يصلح له إلا اجتهاد جديد"(2). وقوله أيضاً: "البشر كل البشر يُؤخذ من كلامهم ويُترك، ويُقبل من آرائهم ويُرفض، ويناقشون فيما يقولون ويفعلون، والتسليم لهم -بغير مناقشة- ذل وعبودية، وإهدار لنعمة العقل وملكة البحث"(3)، ويُدخل أبو المجد في هذه الآراء آراء فقهاء الأمة وأئمتها محتجاً في ذلك -على سبيل المغالطة- بأن الإمام أبا حنيفة كان إذا انتهى الأمر به إلى فقه التابعين وتابعيهم يجتهد كما اجتهدوا، ويقول: "هم رجال ونحن رجال"(4).
ويصنف أبو المجد عناصر الجمود التي أراد مواجهتها إلى أربعة تيارات معاصرة، ويجعل على رأسها: التيار المحافظ الذي -كما يقول-: "يفسر السلفية بأنها التزام ما انتهى إليه الأولون من السلف من آراء ومواقف وأحكام؛ لا يُنكر جواز الاختيار بينها ولكنه يرى في تجاوزها تجاوزاً للإسلام وابتداعاً فيه، وفتحاً لأبواب الهوى وتحكيماً للمعقول في الشريعة، وقد جاءت حاكمة للناس لا محكومة بعقولهم وأهوائهم"(5).
ويُطلق -وهو يتحدث عن الصحوة الإسلامية المعاصرة- على المحافظين على منهج السلف الصالح اسم "مدرسة الجمود على الموجود"، ويعدُّها إحدى المدرستين اللتين يموج بهما العالم الإسلامي المعاصر(6)، ويقول عن منهج هذه المدرسة: إنه "منهج خوفٍ مقيم على الإسلام، وهلع مذعور على المسلمين من كل نغمة جديدة أو اجتهاد جديد يجتاز به أصحابه السدود الكثيفة، ويخترقون حجب الجمود إلى أفئدة المسلمين وعقولهم، وكأنما استحفظ أفراد تلك المدرسة -وحدهم- على دين الله وعلى ضمائر العباد"(7).
وينكر أبو المجد -في عموم كتاباته- على الملتزمين بالمنهج السلفي محافظتهم على شريعة الإسلام من أن تنالها أيدي العبث والتغيير تحت مسمى (التحديث) و(التطور)، وتَمَسكَهم بالضوابط الشرعية للاجتهاد في الأحكام. ويصفهم -على سبيل الازدراء- ببعض الأوصاف البذيئة، كقوله: بأنهم "يرفضون أن ينظروا إلى أبعد من مواقع أقدامهم، ويتصورون أن من حقهم أن يضربوا بين المسلمين وبين سائر العالم بسور غير ذي باب، أو يتخيلوا أن المسلمين يستطيعون أن يقيموا مجتمعهم على صورة نماذج المجتمعات الإنسانية التي قامت منذ آلاف السنين، وأن يستغنوا بذلك عن الاجتهاد من جديد، أولئك يحرثون في البحر ويطلبون غير مطلب، ولن تتوقف الحياة لتناقش خيالهم المريض"(8). ويُرجع سوء تصرفهم وخطأ منهجهم -في نظره- وإشفاقهم من سوء فهم بعض التيارات الإسلامية للإسلام إلى أسباب عدة منها:
"أولاً: الاتجاه إلى اجترار الماضي واستعادة تجاربه الأولى، والذهول عن حقائق الحاضر وتغيرات المستقبل"(9).
"وثانياً: الاتجاه إلى التمسك بحرفية النصوص، وتعطيل دور العقل في عملية تغيير المجتمع"(10).
ويقول راداً عليهم تحذيرهم مما في الدعوة إلى تحديث الإسلام من مزالق ومحاذير: "إن خطر الجمود والعقم هو الخطر الأكبر الذي ينبغي أن نبدأ بالتنبيه إليه، وإن تحريك المسلمين عامتهم وعلمائهم إلى خوض معركة التجديد والاجتهاد وتحمل تبعاتها يحتاج من الشجاعة والصبر إلى أضعاف ما يحتاج التذكير بهذه المحاذير"(11).
__________
(1) … سبقت ترجمته .
(2) … حوار لا مواجهة ص 242.
(3) … المرجع السابق ص 86-87.
(4) … المرجع السابق ص 89.
(5) …مقال (مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر)، مجلة (العربي)، العدد (222) الصادر في مايو 1977م، ص 16.
(6) … انظر: حوار لا مواجهة ص 7.
(7) … المرجع السابق ص 8، وانظر: ص 5-6 من المرجع نفسه.
(8) … المرجع السابق ص 90.
(9) … المرجع السابق ص 174.
(10) … المرجع السابق ص 175.
(11) … مقال (الخيط الرفيع بين التجديد في الإسلام والانفلات منه)، مجلة (العربي)، العدد (225) الصادر في أغسطس 1977م ص 15.(52/226)
ويقول أيضاً -منتقداً منهجهم في جعل ولاء المسلم لدينه وعقيدته لا لوطنه وقومه-: "ومن الناس من يرى أن الإسلام هو وحده مصدر القيم ومحدد مضمون الثقافة، وأنه وحده -عند المؤمن- أساس الارتباط بالأمة، وأن محاولة صرف المسلمين عن هذا الولاء إلى ولاءات عرقية يُعَدُّ رجعة إلى الوراء وتفتيتاً لوحدة المسلمين وتوهيناً لأخوة الإسلام، كما يرون فيما يصاحب الدعوة القومية -عند بعض دعاتها- من مناداة بالعلمانية؛ مناقضاً تماماً لطبيعة الإسلام ولا يسع مسلماً قبوله"(1). ويرى أن الصواب هو "أن يظل العربي المسلم عربي الثقافة واللسان، عربي التوجه السياسي، مدركاً لخصوصية الرابطة الثقافية والمصلحة التي تربطه بالعرب جميعاً مسلمين وغير مسلمين"(2).
ويقول أبو المجد كذلك منتقداً موقفهم من حق التشريع: "هناك من يرى أن التشريع في الجماعة المؤمنة لا يكون لغير الله، وأن التشريع من جانب البشر مشاركة لله تعالى في حاكميته، وهو لذلك يكاد -عملياً- يحصر دائرة التشريع في النصوص، ويخشى أشد الخشية من نداءات الأخذ بالمصالح واعتماد دور العقل في التشريع، وقد يضيف بعضهم إلى ذلك أن لا حاجة بالعرب والمسلمين إلى إقحام العقل في هذا الميدان، لأن الكتاب والسنة يغنيان، ولأن القرآن جاء كما يقول الحق سبحانه وتعالى: (تبياناً لكل شيء) (3)، ثم قد يضيف بعض العامة إلى ذلك تصوراً مؤداه أن التشريع الإسلامي قائم وموجود وكامن في أقوال السلف والعلماء، وأنه ما من مسألة تعرض لنا اليوم إلا ولها حكم في الكتاب والسنة، ولها شرح وتفصيل وتعليل في مؤلفات السلف من الفقهاء والأصوليين"(4).
والإسلام عند أبي المجد لا صلة له بتنظيم أمور الحياة وتقديم الحلول الثابتة للمشكلات، وليس من مقتضياته، حيث يقول: "إنه إن كان الإسلام نظاماً شموليا بحكم وحدة مصدره وترابط قيمه وأحكامه، وبحكم وحدة الكيان الإنساني الذي يتعامل معه، وإذا كانت هذه الشمولية تجعل منه ديناً ودولة وعقيدة ونظاماً كما يقال بحق، فإن هذا لا يعني بالضرورة أنه فصل أحكام بناء الدولة ودقائق نظام الاقتصاد"(5). ويرفض ما سماها "النظرة الدينية الشمولية التي تستغرق أحوال الفرد والجماعة على اختلافها، وتعالج أمورها من منظور ديني خالص يستمد شرعيته ومضمونه معاً من النصوص الدينية التي يُعتبر التسليم بها جزءاً أساسياً من أجزاء اليقين الديني"(6)، ويرى الصواب في "أن الدين -والإسلام بصفة خاصة- يمتد اختصاصه إلى جوانب الحياة الفردية والجماعية للمؤمنين به، ولكنه امتداد عناية ورعاية وتوجيه، وليس -بالضرورة- اختصاص تدخل مباشر بالتنظيم وتقديم الحلول النهائية الثابتة"(7). ويقول: "يُسرف البعض في تصوير تميز الإسلام عقيدة وشريعة عن كل ما عداه، ويتصور لذلك أن تطبيق الشريعة يعني أولاً سقوط كل التشريعات الوضعية المطبقة في بلاد المسلمين، وإقامة نظام جديد تماماً على أسس اعتقادية وأخلاقية جديدة"(8).
ويرفض أبو المجد رفع شعار (حاكمية الله على خلقه) في البلاد الإسلامية، وكذا شعار (لا حكم إلا لله)، وذلك لأنهما -في نظره- من شعارات الخوارج ومبعث فتنة وتفرق بين المسلمين، فنراه يقول: "والحق أننا لا نستريح البتة لهذا التعبير -الحاكمية-"(9). ويقول أيضاً: "والحق أن شعار (لا حكم إلا لله) منذ رفعه الخوارج في وجه علي -رضي الله عنه- إلى يومنا هذا كان مبعث فتنة وباب فوضى ومدخل تشرذم وتفرقة بين المسلمين"(10).
ويعتقد أبو المجد بطلان قول العلماء: "إنه لا مدخل للعقل في التشريع، لأن الحكم لله وحده وحق التشريع لا يملكه أحد سواه؛ دخولاً في طاعته واعتزازاً بحاكميته"(11)، ويدعو -في اتجاهه التحديثي- إلى "توسيع دائرة العقل والإفساح له ليؤدي دوره في ميدان التشريع"(12)، وذلك على النحو التالي:
التوسع في فتح باب الاجتهاد، وعدم الاقتصار فيه على الفروع فحسب، بل والأصول أيضاً، حيث يقول: "والاجتهاد الذي نحتاج إليه اليوم ويحتاج إليه المسلمون، ليس اجتهاداً في الفروع وحدها، وإنما هو اجتهاد في الأصول كذلك، وكم من مسألة تواجه المسلمين اليوم فإذا بحثوها وأعملوا الجهد طلباً لحكم الإسلام فيها أفضى بهم بحثهم إلى وقفة مع الأصول"(13).
__________
(1) … حوار لا مواجهة ص 19.
(2) … المرجع السابق ص 20.
(3) … سورة النحل الآية 89.
(4) … حوار لا مواجهة ص 18.
(5) … مقال (مواجهة مع عناصر الجمود) ص 20.
(6) … حوار لا مواجهة ص 16.
(7) … حوار لا مواجهة ص 16.
(8) … المرجع السابق ص 18.
(9) … المرجع السابق ص 127.
(10) … المرجع السابق ص 136.
(11) … المرجع السابق ص 34.
(12) … المرجع السابق ص 19.
(13) … المرجع السابق ص 35.(52/227)
الاعتماد على مقاصد الشريعة دون نصوصها، فهو ممن يرون "أن الشريعة مقاصد قبل أن تكون نصوصاً، وأن تكاليفها كلها ترجع إلى تحقيق مقاصدها، وأنها ليست إلا أمارات ودلائل على تحقيق تلك المقاصد في حالات جزئية هي ما جاءت به النصوص"(1)، وأن التعويل في الأحكام الشرعية إنما هو على تحقيق المصالح، فالمصالح -في نظره- غاية التشريع وأساس العلة التي يرتبط بها كل حكم شرعي، فإذا زال هذا الأساس أو تغيَّرت تلك الغاية معها الحكم الشرعي. ولذا نجده يعيب على المسلمين المحافظين على دينهم احتياطهم في الأخذ بالمصالح، وقيامهم بربطها بالنصوص الشرعية مما يؤدي -في نظره- إلى إلغاء دورها بوصفها مصدراً مستقلاً من مصادر الأحكام(2).
رَبْط الأحكام الشرعية بأسباب نزولها، ونَسْف قاعدة (أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، فنراه يقول: "والنصوص في تطبيقها على الوقائع لابد أن يُحدد معناها لغة واصطلاحاً، وأن يُعرف سبب نزولها وظروف تطبيقها، إذ هي لا تنفك عن ذلك كله أبداً. ومهما قال الأصوليون من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فهذا أيضاً لا يؤخذ بغير مناقشة، فكم فعلٍ للنبي r -وأفعال صلى الله عليه وسلم نوع من السنن- جاء مرتبطاً بإطار موضوعي معين معالجاً لظروف قائمة وثابتة وعارضة، ومن هنا لا يستغني مجتهد عن معرفة ذلك كله والتأمل فيه"(3). ويقول أيضاً متحدثاً عن تغير الأحكام بتغير الزمان: "هذا أدق أبواب الاجتهاد وأصعبها وأقربها إلى مواطئ الزلل، والحجة الرئيسية التي يثيرها الرافضون لهذا الباب جملة أنه لا نسخ في الأحكام بعد انقطاع الوحي بانتقال صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وأن التغيير -بعد عهد النبوة- لا يمكن إلا أن يكون تغييراً في الفتيا أو القضاء أي في الاجتهاد، والواقع أن الفارق بين الأمرين لا يظهر إلا حيث يكون في الأمر نص قرآني أو نبوي لا يحتمل التأويل، ولكن تقوم القرينة على ارتباطه بواقعه معينة هي سبب نزوله ووروده، فينفتح الباب عندئذ لمناقشة مدى الارتباط بين الحكم وسبب نزوله. ومن هذا الباب أيضاً ما نجده أحياناً من قول بعض المجتهدين عن حكم معين: إن ذلك كان والناس حديثو عهد بشرك أو جاهلية، بمعنى أنه إذا تباعد الزمن واستقر الإيمان وزالت مخاوف الشرك الجلي لم يعد للاحتياط الذي جاء به النص ضرورة ولا لزوم"(4). ويضرب على ذلك مثالاً، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم "خالفوا المشركين وَفّروا اللحى واحفوا الشوارب"(5)، حيث يرى أن الحكم الشرعي المستفاد من هذا الحديث، وهو: وجوب إعفاء اللحى وحف الشوارب إنما هو تشريع زمني روعي فيه زي المشركين وقت نزول الوحي على صلى الله عليه وسلم وقُصد فيه مخالفتهم في هذا الزي! وأزياء الناس لا استقرار لها(6).
__________
(1) … المرجع السابق ص 18.
(2) … انظر: المرجع السابق ص 47.
(3) … مقال (مواجهة مع عناصر الجمود) ص 19.
(4) … حوار لا مواجهة ص 46.
(5) … متفق عليه.
(6) … انظر: حوار لا مواجهة ص 47.
تقسيم السنة إلى سنة تشريعية وغير تشريعية، وذلك بالاعتماد على مبدأ التمييز بين بشرية الرسو صلى الله عليه وسلم ونبوته، في هذا يقول أبو المجد: "و صلى الله عليه وسلم بشهادة القرآن وحكمه الذي لا يرده كلام فلاسفة ولا متكلمين "بشر مثلنا يوحى إليه"، والوحي إلي صلى الله عليه وسلم هو جميع القرآن وبعض ما صدر عن صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وليس كل ما صدر عنه من هذه الأحوال الثلاثة وحياً يوحى، فهذا أيضاً باطل بالعقل وباطل بالنقل، فبشريت صلى الله عليه وسلم حاضرة في سيرته حضور نبوته، وهو باطل بالنقل لقوله صلى الله عليه وسلم "إنما أنا بشر مثلكم، فإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر"(1)، وهو الحديث الذي تقول فيه رواية مسلم: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"(2)، ومن الحق والإنصاف لعلماء الإسلام أن نُذكِّر كثيراً من الناسين أنهم فَرَّقوا -بعبارات مختلفة- بين ما هو تشريع من أقوال الرسو صلى الله عليه وسلم وأفعاله وما هو دون ذلك، ذاهبين تارة إلى التفريق بين ما هو من العادات وما هو من العبادات، وذاهبين تارة أخرى إلى بيان ما فعل صلى الله عليه وسلم اجتهاداً منه تحقيقاً لمصلحة جزئية يومئذ وليس من الأمور اللازمة لجميع الأمة"(3). ويقول أيضاً -محدداً المسائل التي ينبغي ضبطها عند التفريق بين التجديد في الإسلام والانفلات منه-: "الثانية: تحديد ما يُعد تشريعاً وما لا يُعد تشريعاً من أقوال صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وأساس الحاجة إلى هذا التحديد ما قررناه وأجمع عليه المسلمون وشهد له القرآن الكريم من أن صلى الله عليه وسلم بشر يوحى إليه، وأن بشريته حاضرة في حياته حضور نبوته، وأن كثيراً من أقواله وأفعاله قد صدرت عنه بحكم تلك البشرية دون أن يكون المقصود منها التشريع وتقرير الأحكام الملزمة للناس من بعده"(4).(52/228)
وقد ضرب أبو المجد أمثلة عديدة للمسائل التي يرى ضرورة الاجتهاد وإعمال العقل فيها للخروج برأي يجيزها -بعد أن كانت محرمة- مواكبة لظروف العصر ومقتضيات التطور، ومن تلك المسائل:
التدرج في تطبيق أحكام الإسلام وشريعته في المجتمعات الإسلامية المعاصرة(5).
النظر في إباحة الفوائد الربوية عن طريق التعامل مع البنوك والمؤسسات المالية الاستثمارية بدل أن "يعيش المسلم المعاصر حياة تحكمها الحيرة والقلق، فإما أن يُمسك عليه ماله ويحبسه عن عالم تستثمر فيه الثروات بالفائدة، وإما أن يتعامل مع الواقع وفي قلبه منه شبهة"(6).
النظر في إباحة سماع الموسيقى والغناء والعزف على المعازف، سيما وأن الشباب "يتطلعون اليوم إلى ترويح قلوبهم المعناة في هذا الزمن الصعب الذي تثقل وطأته على الأعصاب"(7)!". انتهى كلام الدكتور مفرح القوسي.
رد الأستاذ جمال سلطان على أبي المجد :
يقول -وفقه الله-: "وعلى هامش الخلافة، يترفق الدكتور أحمد كمال أبو المجد، فيرى أن "مصطلح الخلافة نشأ على عهد أبي بكر، عندما أطلق عليه الناس لقب خليفة رسول الله"(8).
فلا اعتبار -إذن- بورود الأحاديث الصحيحة لإثبات الخلافة لفظاً ومعنى في مثل: "فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها" الحديث(9). "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً" الحديث(10). "..وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا فما تأمرنا؟ قال: فوا بيعة الأول" الحديث(11). "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ما شاء الله أن تكون.." الحديث(12) وغير ذلك من النصوص. بيد أن هدم شرعية "المصطلح"، هو مجرد تقدمة -عند الدكتور أبي المجد- لأمر آخر سيأتي بيانه"(13).
__________
(1) …يُنقص أبو المجد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم "إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به". أخرجه مسلم.
(2) … رواية مسلم بلفظ: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" صحيح مسلم، كتاب (الفضائل)، باب (وجوب ما قال صلى الله عليه وسلم شرعاً) جـ 15/ص 118.
(3) … مقال (مواجهة مع عناصر الجمود) ص 19-20.
(4) … مقال (الخيط الرفيع بين التجديد في الإسلام والانفلات منه) ص 16.
(5) … انظر: حوار لا مواجهة ص 94.
(6) … المرجع السابق.
(7) … المرجع السابق ص 96.
(8) … د. أحمد كمال أبو المجد "حوار لا مواجهة" /82.
(9) … رواه أبو داود والترمذي من حديث العرباض بن سارية، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(10) … رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم وأحمد والبيهقي، وصححه الحافظ: ابن حجر والذهبي والحاكم والترمذي وغيرهم من حديث سفينة أبي عبدالرحمن مولى رسول ا صلى الله عليه وسلم به مرفوعاً، انظر "السلسلة الصحيحة" /الألباني/ رقم 460.
(11) … رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر.
(12) … رواه أحمد وأبو داود الطيالسي والبزار والطبراني من حديث أبي أمامة/ انظر "السلسلة الصحيحة" رقم 5.
(13) … غزو من الداخل، ص 10.
-"وعلى صعيد "الديمقراطية" أيضاً، يدهش الدكتور أحمد كمال أبو المجد، وينزعج بشدة من هؤلاء الذين يرفضون الديمقراطية -مع اعترافه بمعايبها وخروقها- ويرى أن هؤلاء محجوجون بالنقل العقل، ونحن لا ندري -ولا إخاله هو يدري!- أي نقل وأي عقل؟ ولكن هكذا قال: "يدهشنا أشد الدهش أن يتساءل البعض من حولنا عن قيمة الديمقراطية، إذا كانت المجتمعات الديمقراطية لا تزال تعرف ألواناً من القهر والظلم، أو أن يقيم بعضهم الحجة عليها، بدعوى أن الأغلبية في ظلها تسن قوانين لا يقبلها عقل ولا شرع، وذلك -فيما نرى- خلط قبيح ينبغي أن يرد أصحابه إلى جادة العلم بالنقل والعقل، وألا يترك منطقهم "الأعرج" ليفسد على الناشئة عقولها وصدق توجهها"(1).
والدكتور -لا شك- يعلم جيداً من هو "صاحب المنطق الأعرج"، ونحن كذلك، نضم أصواتنا إلى صوته، وننادي بضرورة إبعاد هؤلاء، الذين أفسدوا على الناشئة عقولهم وتوجهاتهم وأخلاقهم ودينهم كذلك، والناس ما زالت تسمع أنباء البلد المنكود، وما أدارك ما البلد المنكود، والمستشار مؤتمن أيها "المستنير"، ولا حول ولا قوة إلا بالله"(2).
-"ونعرض لمثل آخر، ورؤية أخرى، لتقنية الشريعة، لا تختلف عما قدمنا إلا في أسلوب العرض وطريقة الطرح:
فالدكتور أحمد كمال أبو المجد يرفض رفضاً باتاً، تلك النظرة التي أسماها: "النظرة الدينية الشمولية، التي تستغرق شرعيته ومضمونه معاً من النصوص الدينية التي يعتبر التسليم بها جزءاً أساسياً من أجزاء اليقين الديني"(3).
أما ما يراه صواباً وهدى ورشاداً فهو:
"أن الدين -والإسلام بصفة خاصة- يمتد اختصاصه إلى جميع جوانب الحياة الفردية والجماعية للمؤمنين به، ولكنه امتداد عناية ورعاية وتوجيه، وليس -بالضرورة- اختصاص تدخل مباشر بالتنظيم، وتقديم الحلول النهائية الثابتة"(4).
ولذلك فهو يتعجب. ويتأفف من هؤلاء "المسرفين" الذين يرون ضرورة إسقاط القوانين الوضعية:(52/229)
"ويسرف البعض في تصوير تميز الإسلام، عقيدة وشريعة، عن كل ما عداه، ويتصور لذلك أن تطبيق الشريعة يعني -أولا: سقوط كل التشريعات الوضعية المطبقة في بلاد المسلمين، وإقامة نظام جديد تماماً، على أسس اعتقادية وأخلاقية جديدة"(5).
فالإسلام -عند الدكتور أبي المجد- لا صلة له بالتنظيم في الحياة، وتقديم الحلول الثابتة للمشكلات، وكذلك ليس من مقتضياته هدم القوانين الوضعية، لإقامة قوانين جديدة على أسس الإسلام الاعتقادية والأخلاقية. والذي أخشاه، أن يكون هذا الكلام مبرراً متهافتاً، لموقف شخصي، قام على تنفيذ هذه القوانين "الوضعية"، وفي الأخلاق بالدرجة الأولى.
ثم يأخذ الدكتور أبو المجد في "تأصيل" دعوته المستنيرة فيدعو إلى "زلزلة قواعد الشريعة" حيث لا يقصر الاجتهاد على الفروع فحسب، بل والأصول أيضاً:
"والاجتهاد الذي نحتاج إليه اليوم ويحتاج إليه المسلمون، ليس اجتهاداً في الفروع وحدها، وإنما هو اجتهاد في الأصول كذلك، وكم من مسألة تواجه المسلمين اليوم فإذا بحثوها وأعملوا الجهد طلباً لحكم الإسلام فيها، أفضى بهم بحثهم إلى وقفة مع الأصول"(6).
ومن تلك الأصول "قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، وهي قاعدة -كما قرر أهل العلم- قطعية في فهم الشريعة والعمل بها، وكذلك فمن المعروف أنها من "السهام القاتلة" لنظرية المستنيرين في قصرهم الشريعة على الأزمنة الأولى للإسلام.
ومن ثم فقد وجه الدكتور أبو المجد هجومه عليها، ويرى أنها لم تعد قابلة للتسليم بغير مناقشة:
"ومهما قال الأصوليون من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا أيضاً لا يؤخذ بغير مناقشة، فكم فعلٍ للنبي r -وأفعال صلى الله عليه وسلم نوع من السنن- جاء مرتبطاً بإطار موضوعي معين، معالجاً لظروف قائمة وثابتة وعارضه، ومن هنا لا يستغني مجتهد عن معرفة ذلك كله والتأمل فيه"(7).
وهذه -كما هو ظاهر- فلسفة ملتوية لمسألة عدم ملاءمة الشريعة لقضايا العصر الذي نعيشه اليوم، لارتباطها بعصر صلى الله عليه وسلم ومشكلاته "الثابتة"، وهي ما عبر عنها صراحة الدكتور عمارة بقوله:
"فإن أحداً لن يستطيع الزعم بأن الشريعة يمكن أن تثبت عند ما قرره نبي لعصره"(8).
والدكتور أبو المجد يفتح الباب على مصراعيه للتلاعب بالشريعة عن طريق "التفسير"، فهو من الأبواب الواسعة "للتجديد" التي تتيح لنا التحكم في النصوص القرآنية، وتوجيهها إلى حيث نريد ونميل ونهوى، حتى ولو كان هذا التوجيه غير مقصود منها أصلاً:
__________
(1) … د. أحمد كمال أبو المجد "الديمقراطية… نظرة جديدة"، العربي الكويتية عدد 306 - شعبان 1404هـ/ مايو 1984م.
(2) … غزو من الداخل، ص 23.
(3) … د. أحمد كمال أبو المجد "حوار لا مواجهة" / 10.
(4) … المصدر السابق/ 11.
(5) … المصدر السابق / 12.
(6) … المصدر السابق / 42.
(7) … المصدر السابق / 44.
(8) … د. محمد عمارة "المعتزلة وأصول الحكم"/ 330.
"وكثيراً ما يكون هذا الباب -باب التفسير- أوسع أبواب التجديد، لأنه يلتزم أساساً بالنص، ولا يحاول معارضته بدليل آخر، ولكنه يحمله مع ذلك، كل ما يريد، مما قد لا يكون مقصوداً به أصلاً!! أو يختار من معانيه المختلفة أكثرها اتفاقاً مع ميله واجتهاده واختياره، وما أصدق ما قرره أحد رؤساء المحكمة العليا الأمريكية في شرح موقف القاضي من نصوص الدستور حيث يقول: إننا نخضع للدستور، ولكن الدستور هو ما نقرر نحن أنه كذلك"(1).
وهكذا، فالقرآن المجيد -على نظرية الدكتور- هو ما نقرر نحن أنه قرآن أي "مراد الله من بيانه"، وقد يكون واضحاً أن الحكيم الخبير لا يقصد هذا الذي نذهب إليه البتة، ولكن لا مانع من أن نحمله كل ما نريد، وأن نطوع النصوص بحيث توافق "ميلنا واختيارنا".
وهذه -في الحقيقة- دعوة صريحة لهدم قواعد الإسلام، وزلزلة أصول الدين، ولقد كان من ثمار تلك النظرية "الشيطانية" أن وجدنا القرآن الكريم يوماً فلسفة اشتراكية، ويوماً فلسفة رأسمالية، ويوماً مؤيداً للنظم الديكتاتورية، ويوماً مؤيداً للنظم الليبرالية الديمقراطية.
بل لا يزال "الخاطر الحي" يذكر أن القرآن الكريم كان هو "الميثاق الناصري"، ثم أصبح "الكتاب الأخضر". وكذلك وجدنا -من ثمرات النظرية "المستنيرة"- كيف أن القرآن لا يعارض نظرية "داروين"، ولا يمنع من أن يكون أصل الإنسان قرداً؟(2) .
ولا جرم في ذلك، فالأمر -في مذهب الدكتور- باب متسع للتجديد والتنوير.
الطريف أن الدكتور يطلب بعد ذلك -في ملح الكلام- أن نضع ضوابط للتفسير الصحيح(3)، وهذا من العجب، فإذا كانت النصوص تتحمل كل ما نريد، وتميل حيث نميل، وتطاوعنا حيث ذهبنا، تماماً كالدستور الأمريكي، فأي ضوابط تريدها بعد ذلك يا صاحبي؟ ثم إذا كانت الضوابط التي وضعها الصحابة والأئمة الأعلام قد نسفتها نفساً، وطالبت بإعادة النظر فيها، فمن يا ترى الذي تنتظر أن يضع لنا الضوابط "الأهدى سبيلا"؟(52/230)
ثم إذا كانت أصول الشريعة تحتاج إلى التجديد والتغيير، والنصوص تدور مع المصالح حيث دارت(4)، والقرآن يدور مع "هوانا" حيث دار، فأي دين بقي بعد؟ بل أي ضابط يمكن أن تضعه بعد ذلك لفهم أو دراسة أو تطبيق للإسلام؟ وهل يبقى الإسلام بعد ذلك إلا دين فلان وفلان، ممن تعرف وأعرف؟.
(فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) (5)" (6).
ويقول جمال سلطان -أيضاً- :
-"أما الدكتور أبو المجد، فهو يطرح "القضية" بأسلوب آخر، ومدخل مختلف، فهو يرى أن:
"الإسلام لم يفرض نظاماً سياسياً مفصلاً، والخلافة ليست نظاماً محدد المعالم"(7). وهو يؤكد رفضه لكل قول خلاف ذلك الذي قاله:
"ورأي آخر نرفضه كذلك، يرى أن للإسلام نظاماً في الحكم مفصل المعالم متميز القسمات، أقامه صلى الله عليه وسلم وألزم المسلمين من بعده بإقامته، وأنهم أقاموه فعلاً أيام الخلافة الراشدة، وقبل أن تتحول إلى ملك عضوض، وأن على المسلمين كذلك أن يرفضوا كل ما حولهم من أنظمة الحكم والسياسة، وأن ينحوها عن مقاعد السلطة والرئاسة؛ ليضعوا نظامهم الإسلامي، على رأس دولتهم الجديدة"(8).
وهو كذلك يرفض "زعم" المودودي -رحمه الله- أن الدستور الإسلامي سرمدي لا تبديل فيه ولا تغير: "ولهذا لا يسعنا أن نوافق العلامة أبا الأعلى المودودي، رحمه الله، حيث يقول عن الدستور الإسلامي: إنه لا يقبل شيئاً من التبديل والتغيير، فإن شئت خرجت عليه وأعلنت عليه الحرب كما خرجت عليه تركيا وإيران -قبل الثورة- ولكن ليس لك أن تحدث فيه أدنى تغيير، فإنه دستور إلهي سرمدي لا تغيير فيه ولا تبديل"(9).
ومع أن الدكتور أبا المجد يرفض كلام صاحبه خلف الله الذي "يزعم أن العقل البشري هو الواضع لنظام الخلافة"(10)، فإنه في الواقع، يرفض هذه الحدة والصراحة، إذ أنه يقرر في موضع آخر:
"ما الذي بقي لنا اليوم من نظام الخلافة؟ إننا لا نجد في أصول الإسلام ونصوصه وإجماع علمائه المجتهدين ما يدعونا للتمسك بلفظ الخلافة، إذ العبرة كما يقول علماؤنا إنما هي بالمقاصد والمعاني، وليست بالألفاظ والمباني"(11).
__________
(1) … د. أحمد كمال أبو المجد "حوار لا مواجهة" / 66.
(2) … انظر محمد عمارة "الأعمال الكاملة للأفغاني" / 107.
(3) … د. أحمد كمال أبو المجد "حوار لا مواجهة"/ 66.
(4) … راجع ما قرره في ذلك في المصدر السابق/ 65.
(5) … سورة البقرة/ آية 79.
(6) … غزو من الداخل، ص 41-44.
(7) … د. كمال أبو المجد "حوار لا مواجهة" /112.
(8) … المصدر السابق/ 113.
(9) … المصدر السابق/ 113.
(10) … المصدر السابق / 82.
(11) … المصدر السابق / 82.
ولنا أن نعجب -من حيث المبدأ- من داعي هذا التأفف البالغ الذي يصيب "كاتباً عربياً مسلماً" من لفظ "عربي إسلامي ذي جذور تبلغ عمق الحضارة الإسلامية"، حتى لو افترضنا موافقته على أنه ليس في "نصوص الإسلام" ما يدعونا للتمسك بلفظ "الخلافة"، في حين أنه يتمسك -بقوة- بمصطلح غريب "على العربية وعلى الإسلام وعلى الحضارة الإسلامية" وهو "الديمقراطية"، وهل تصل "الانهزامية الفكرية والنفسية" بكاتب إلى هذا الحد ؟!
ثم إذا كان صلى الله عليه وسلم قد سمى نظام الحكم الذي يخلفه "بالخلافة"، والحاكم المسلم بالخليفة في نصوص كثيرة، لا يضرها شيئاً جهل الدكتور بها، في مثل قوله صلى الله عليه وسلم "… فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" الحديث(1).
وقوله "… الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً" الحديث(2).
وقوله "لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر…" الحديث(3).
وغير ذلك، فلماذا يحرص الدكتور على هدم هذا "المصطلح" الشرعي، حتى لو سلمنا معه أن العبرة بالمقاصد دون الألفاظ؟ وإلا، فإن "المصطلح" في الإسلام له قيمته البالغة في ذاته، وقد نبهت النصوص الشرعية إلى ذلك في غير موضع، وذلك أن "المصطلح" كما حدده الشارع، يرتبط به العديد من المسائل "المنصوصة" الخاصة به، فهدم "المصطلح" كفيل بإثارة الارتباك في فهم المسائل المتعلقة به، فضلاً عن أنه لا يحل العدول عن الاسم الذي سماه الله تعالى أو رسوله أي "الاسم الشرعي" إلى أي بديل له "وضعي"، حتى ولو ظننا موافقته لمعناه، فكما لا يجوز هدم مصطلح الصلاة، وإبداله "بالرياضة"، أو هدم مصطلح "الزكاة" وإبداله "بالتكافل الاجتماعي"، فكذلك لا يجوز هدم مصطلح "الخلافة" تحت أي شعار وضعي آخر.
ثم إذا كان الأمر يقف عند مجرد رفض "المصطلح" دون مضمونه، فأي قيمة تلك لهدم المصطلح إذن؟ ولماذا لا نعكس المسألة، ونسمي "رئيس فرنسا" "بالخليفة"؟ وفي اعتقادي -حسب عهدي بالمستنيرين- أن هدم المصطلح، هو تمهيد لهدم مضمونه، وقد سبق أن نبهنا إلى خطورة "لعبة المصطلحات" في ختام الفصل السابق.
-وكما قدمنا: الدكتور أبو المجد -يرى أن الإسلام لم يفصل نظاماً للحكم، وكذا فالإسلام- في نظره:(52/231)
"يكتفي بتقرير المبادئ الأساسية التي تتصل اتصالاً مباشراً بالقيم العليا التي جاء لنشرها وتثبيتها بين الناس، كقيم العدل والحرية والمساواة بين الناس وتقديم الخير والإحسان، ومن هنا فإن الدفاع الأعمى مثلاً عن صورة من صور الحكم السياسي، حملت يوماً من الأيام أسماء إسلامية!!، ورفعت لافتات "الحكم الإسلامي"، إنما يدخل في باب التعصب ولا يدخل في باب الاعتصام"(4)، والدكتور لم يفصح لنا عن هذه الصورة التي رفعت يوماً ما لافتة الحكم الإسلامي، ولم يحدد لنا في أي يوم من الأيام كانت ترفع هذه اللافتة، ومتى سقطت؟
وذلك أنه يدري جيداً أن هذه الصورة هي "الخلافة الإسلامية"، وأن هذا "اليوم" هو ثلاثة عشر قرناً من الزمان، هي كل عمر الإسلام "كأمة واحدة" ذات سيادة، وتميز حضاري، وحاكمية ربانية، حتى ظهرت تلك الأجيال المنكودة، التي طارت وراء "بريق الحضارة الغربية" ونظمها وفلسفاتها، بما فيها فلسفة الحكم، فإذا هم "فرق" وأشتات ودويلات، وإذا الأمة تصبح "أمما"، وكلهم -مع الأسف- يرفعون شعارات الحرية والعدالة والمساواة والتقدمية والثورية…الخ، وكلهم -مع الأسف أيضاً- يقولون: إنهم ديمقراطيون!
وكما يرفض الدكتور أبو المجد مصطلح "الخلافة"، فهو يرفض كذلك مصطلح "الحاكمية" وشعار "لا حكم إلا لله"، وذلك لأنها من شعارات الخوارج.
"والحق أننا لا نستريح البتة لهذا التعبير -الحاكمية- والحق أن شعار "لا حكم إلا لله" منذ رفعه الخوارج في وجه علي كرم الله وجهه، إلى يومنا هذا، كان مبعث فتنة، وباب فوضى ومدخل تشرذم وتفرقة بين المسلمين"(5).
وهكذا.. يستوي المنادون بتطبيق الشريعة اليوم مع الخارجين على أهل الشريعة أمس ويستوي الحاكمون بغير ما أنزل الله، بالحاكمين بما أنزل الله، وهذه هي الموضوعية، وتلك هي العلمية!! بل الأمر أوضح من ذلك عند الدكتور أبي المجد، فهو يعجب لمن يظن أن المجتمعات المعاصرة لا تسير على الإسلام فيقول:
"والمجتمعات المعاصرة -في زعمهم- لا تسير على الإسلام، فأعمالها وتصرفاتها ونظامها السياسي والاقتصادي ليست إسلامية"(6).
__________
(1) … رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
(2) … رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وغيرهم، وصححه عدد من الحفاظ، ومر تخرجيه.
(3) … رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر.
(4) … "حوار لا مواجهة" / 45.
(5) … المصدر السابق / 116.
(6) … المصدر السابق / 214.
ونحن نطالب الدكتور، بمثال واحد فقط، ومن تجربته هو، يدلل: كيف كانت إسلامية؟!! والحقيقة أن المتتبع لأطروحات أبي المجد، يجده يدور مع نفسه في حلقة مفرغة، يزيدها تعقيداً عنده، حرصه الشديد، وعدم الجرأة على المصارحة، ونحن نرجو له -ولكافة أصحاب الفكر المستنير- الهدوء والاطمئنان، فإن ما يدعون إليه سوف يظل هو "الديمقراطية الغربية"، وإن ما ندعو إليه سيظل هو "الخلافة الإسلامية" وأبداً لن يخدعوا أحداً بمثل هذا التخليط إلا أنفسهم، وأبداً لن تتحطم صورة الخلافة الإسلامية في أذهان المسلمين وضمائرهم، ونقول لهم ما قال العربي الحكيم:
يا ناطح الجبل العالي لتوهنه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل"(1)
ويقول جمال سلطان -أيضاً-:
-"وهذا التفريغ للفكرة الإسلامية، وأولياتها، إن كان حاداً وصريحاً عند المنطق الكبير" فهو "ألطف" عرضا وأكثر التواء عند الدكتور أبي المجد.
فهو يقرر أن الإسلام إنما يعنى "بالمبادئ العامة" المتصلة بالقيم العليا، كالحرية والعدالة ونحوهما، ولكن الإسلام "لا يشغل نفسه" بالأمور التفصيلية التي يمكننا إدراكها بعقولنا، وهذا -في نظره- لا يخدش شمولية الإسلام: "إنه إذا كان الإسلام نظاماً شمولياً يحكم وحدة مصدره، وترابط قيمه وأحكامه، وبحكم وحدة الكيان الإنساني الذي يتعامل معه، وإذا كانت هذه الشمولية تجعل منه ديناً ودولة وعقيدة ونظاماً، كما يقال بحق، فإن هذا لا يعني بالضرورة أنه فصل أحكام بناء الدولة، ودقائق نظام الاقتصاد، ولن ينقص من هذه الشمولية بحال أن يكتفي بتقرير المبادئ الأساسية، التي تتصل اتصالاً مباشراً بالقيم العليا التي جاء لنشرها وتثبيتها بين الناس، كقيم العدل والحرية والمساواة بين الناس، وتقديم الخير والإحسان وإفشاء الود والسلام، وتعميق الروابط بين الإنسان والإنسان، وتربية العقول وتحريضها على التأمل في الكون، واستكشاف الجديد من خباياه، ولكن لا يشغل نفسه بتفاصيل يمكن أن تهتدي إليها العقول، وهي تطلب مصالحها، وتجتهد في هذا الطلب، أو بجزئيات تتساوى -وإن اختلفت- في مدى ارتباطها بالمبادئ الأساسية والقيم العليا للإسلام"(2).
فالحكم في الإسلام، ليس إعمال النصوص في الوقائع، وإنما هو-فحسب- الالتزام بالمبادئ والقيم العليا، وليس مهماً بعد ذلك التزام "جزئياتها" بالإسلام والنصوص الشرعية، ما دامت العقول قد تهتدي بنفسها إلى تحقيق هذه القيم العليا والمبادئ السامية.
ومعلوم أن هذه القيم العليا، قد يتفق فيها حتى الأديان المختلفة، كالحرية والعدالة والمساواة، ونحو ذلك، فبأي شيء إذن يتميز الإسلام "كدين وشريعة" عن غيره؟(52/232)
ولقد انتبه الدكتور إلى هذه الحقيقة، ولذلك فهو ينعى على الذين "يسرفون" في القول بتميز الإسلام على غيره كاليهود والنصارى، فذلك -في نظره- مخالفة للقرآن الكريم ذاته، "والذين يسرفون في الإلحاح على تميز الإسلام والمسلمين تميزاً شاملاً مطلقاً، محجوجون بنصوص القرآن الكريم، التي تصف أنبياء الله قبل نبينا صلى الله عليه وسلمبوصف الإسلام" : (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلما) (3).
وهم محجوجون كذلك بحقيقة وحدة الإنسانية، ووحدة مصدر الأديان السماوية، وبأن العهد الذي أخذ بحمل الأمانة، إنما أخذ على آدم أبي البشرية، وعلى بنيه مسلمين وغير مسلمين.
(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) (4)، والذين يلحون هذا الإلحاح الشديد على اختلاف الإسلام عن كل ما عداه، يمنحون فرصة نادرة للذين يصورون المسلمين كما لو كانوا غرباء على حضارة العصر كلها، وييسرون مهمة الإعلام الصهيوني الذي ملأ الدنيا صياحاً بما سماه "الميراث اليهودي المسيحي"؛ ليوهم العالم المسيحي كله أن المسلمين غرباء عن هذا التراث، وأن اليهودية والمسيحية وحدهما ميراث مشترك(5).
وهذا تخليط غريب، جمع عدة متناقضات وغرائب.
وبداية، كيف فهم الدكتور أن وحدة الدين بين النبيين تعني وحدة الشريعة؟ ثم كيف فهم أن "التراث الإسلامي" يتفق مع "اليهودية والنصرانية" اليوم، كما اتفق إبراهيم عليه السلام في وحدة الدين مع نبينا عليهما الصلاة والسلام؟ فأي ميراث هذا الذي يتحدث عنه الدكتور "المستنير"؟ ميراث تزوير الكتاب، وكتمان الحق، وإلباس الحق بالباطل؟ أم ميراث عبادة المسيح والأحبار والرهبان؟ أم ميراث عبادة يهوه وعزير؟ أم ميراث الكهنوت وصكوك الغفران؟
ثم أين هي في واقع الأرض الآن الشريعة المسيحية أو اليهودية التي يحكم بها الغرب على أساس الإنجيل والتوراة "والميراث المشترك"؟
__________
(1) … غزو من الداخل، ص 47 - 50.
(2) … د. أحمد كمال أبو المجد "حوار لا مواجهة" /45 - 46.
(3) … سورة آل عمران/ آية: 67.
(4) … سورة الأعراف / آية 172.
(5) … د. أحمد كمال أبو المجد "حوار لا مواجهة" / 207.
أما بدعة التمسح في معاداة الصهيونية، فهي مرفوضة تماماً، وهي خدعة قديمة، دلفت تحت عباءتها الفضفاضة، ضلالات القومية والتقدمية والاشتراكية وسائر اللافتات المعروفة، وإذا كانت الصهيونية تصور للغرب "وحدة الميراث المسيحي واليهودي" فلها ذلك، ولا يضر الإسلام ذلك في شيء، كلا، بل يضره أشد الضرر، تلك الدعوات الهدامة، التي تريد أن تجعل منه تراثاً مشتركاً مع التراث "المزور" والمزعوم لليهودية والنصرانية.
وأخيراً، أين وجد الدكتور أبو المجد، أن الميثاق المذكور في آية الأعراف، قد أخذه الله على المسلمين وعلى غير المسلمين؟ وفي أي كتاب وجد هذا الفهم الغريب والشاذ؟ وقد حدثتنا جميع كتب التفسير والحديث، أن هذا العهد هو "الفطرة" التي فطر الله عليها بني آدم، وهي فطرة الإسلام والتوحيد، ومن ثم فكل مولود يولد على هذه الفطرة، وهي الإسلام، حتى يكون أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، أو ينشئانه على "الفكر الديني المستنير"!
(فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) (1)، ويقول رسول ا صلى الله عليه وسلم عن رب العزة: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم…"(2).
وفي حديث "كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية على هذه الملة- حتى يكون أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"(3).
ففي أي مرجع أو فهم، وجد الدكتور أن الميثاق قد أخذ على "المسلمين وغير المسلمين"؟!(4)"(5)
إضافات :
1-تهوين أبو المجد من شأن الحكم بما أنزل الله:
في بحثه "النظام الدستوري لدولة الإمارات العربية المتحدة" يعلق أبو المجد على المادة القائلة: "الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع" فيقول: "أما إضافة أداة التعريف قبل كلمة (مصدر) فهي في الواقع استجابة لتيار تزايد تأثيره على امتداد العالم العربي خلال الفترة التي عاصرت وضع مشروع الدستور الدائم؛ وهو تيار تشدد في المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، وإنهاء العمل بالقوانين الوضعية المستمرة من نظم قانونية أجنبية"(6).
ثم يبين أن لا فرق كبير بين الأمرين !
ومعلوم لكل عاقل أن عبارة "الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع" تدل على أن الشريعة الإسلامية تكون حينئذٍ هي المصدر (الوحيد) الذي يُرجع إليه في ما تسنه الدولة من أنظمة وقوانين.
وأما "النص على أن الشريعة الإسلامية هي "مصدر رئيس للتشريع" لا يعني إلزام المُشَرع بالأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية، وإنما كل ما يعنيه هذا النص هو إبراز دور الشريعة الإسلامية كمصدر من مصادر التشريع. فالمُشَرع يبقى حرًا يأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية أو بغيرها من شرائع البشر للبشر"(7).
فلماذا يخلط أبو المجد بين الأمرين؟! أم أن الشريعة الإسلامية هانت عنده حتى ساوى بها أفكار البشر وزبالاتهم -تأثرًا بما تلقاه عن شيوخه القانونيين-؟!(52/233)
-ويقول أبو المجد منادياً بتطبيق الديمقراطية الغربية ونحوها من النظم الكافرة في بلاد المسلمين: "إن التيار الإسلامي الجديد (أي تياره العصراني!) يحرص على وضع حد لما هو سائد بين كثير من دعاة الإسلام والمنادين بتطبيق شريعته من استخفاف بتجارب الأمم والشعوب في مجال النظم السياسية والاقتصادية، بدعوى أن المسلم لا يحتاج إليها، وأنه لا يجوز له أن يستورد ثمرات تجربة تمت خارج نطاق الإسلام.." (8)
قلت: كان الأولى بالدكتور أن يرضى بدين الله -عز وجل- وشرعه بعد أن ارتضاه سبحانه وأكمله لعباده الصالحين؛ (اليوم أكملت لكم دينكم..) فلا حاجة بنا إلى الأفكار البشرية القاصرة مهما ازّينت ما دامت تخالف في أصولها النصوص الشرعية، وأنا لست بصدد الحديث عن بيان مخالفة الديمقراطية الغربية لأحكام الإسلام، فقد بينها كثيرون -ولله الحمد-(9)، ولكني ألفت النظر إلى أن من ينادي بها في بلاد المسلمين هو أحد رجلين:
__________
(1) … سورة الروم / آية 30.
(2) … رواه مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي.
(3) … متفق عليه من حديث أبي هريرة.
(4) … راجع ما جمعه الحافظ ابن كثير عن هذه الآية.
(5) … غزو من الداخل، ص 60-62.
(6) … بحث "النظام الدستوري لدولة الإمارات.." منشور ضمن كتاب "دولة الإمارات العربية المتحدة - دراسة مسحية شاملة"، ص 26.
(7) … تطبيق الشريعة الإسلامية في دولة الكويت، للدكتور عبد الرزاق الشايجي، ص 26. ومعلوم تشابه ما بين الدستورين "دستور الكويت" و"دستور الإمارات" بل جميع الدساتير العربية في هذه المادة؛ التي تجعل من الشريعة الإسلامية مجرد مصدر من مصادر كثيرة مساوية لها، يُلجأ إليها، إن لم تكن تلك المصادر تُقدم عليها!.وانظر تأكيداً لهذا:رسالة"الشريعة الإسلامية لا القوانين الجاهلية" للشيخ عمر الأشقر،ص130-137.
(8) … رؤية إسلامية معاصرة ، ص 47-48.
(9) … انظر على سبيل المثال: "الديمقراطية في الميزان" لسعيد عبد العظيم، و"الديمقراطية الغربية في ضوء الشريعة الإسلامية" للدكتور محمود الخالدي، و"حقيقة الديمقراطية" لمحمد شاكر الشريف، و"خمسون مفسدة جلية من مفاسد الديمقراطية" لعبد المجيد الريمي، وغيرها .
الأول: من يعلم النظام السياسي للإسلام، ومدى مخالفة هذه الديمقراطية له، ومع ذلك يفضلها عليه ويرى أنها تحقق العدل -لا سيما في موضوع الأقليات غير المسلمة، وموضوع المرأة، وموضوع حرية التعبير..الخ- ما لا يحققه الإسلام! وهذا كفر صريح مخرج من الملة.
الثاني: من يجهل حقيقة الحكم الإسلامي، ويخلط بينه وبين ما يسمى: "الحكومة الدينية" التي وجدت في أوربا في زمن سابق، وتسلط من خلالها الكهنة والقساوسة ورجال الكنيسة على رقاب الناس وأموالهم وحرياتهم. ويظن أن الحكم الإسلامي -في حال تطبيقه- سيكون كتلك الحكومة! وأن البديل للكهنة ورجال الكنيسة سيكونون "الفقهاء"!! الذين سيحكمون المسلمين بأهوائهم، وكل هذا خلط بين لا حقيقة له؛ لأن السلطة في الإسلام ستكون للنص الشرعي، وما لم يكن فيه نص شرعي صريح سيكون مجالاً للتشاور بين أهل الحل والعقد الذين يرتضيهم المسلمون.
والحكم في هذا الرجل أن يُعَلَّم حقيقة الحكم الإسلامي لكي يتبين له خطأه(1).
بقي صنف من الكتاب (ومن يسمون المفكرين) قد يقولون بأننا عندما نستقي النظام الديمقراطي ونستقدمه لبلاد المسلمين سوف نخضعه للشروط الإسلامية، فنلغي منه ما لا يتوافق مع الإسلام!
مثلاً: في النظام الديمقراطي: الأمة مصدر السلطات وهذا لا يتوافق مع الإسلام؛ لهذا سنضيف عليه قيدًا يؤسلمه؛ وهو: "الأمة مصدر السلطات فيما لا يناقض نصاً قطعياً"(2)
وقس على ذلك ..
فأقول: ما دمتم قد أجريتم هذه التعديلات الشرعية على النظام الديمقراطي، فإنه حتمًا سيصبح نظاماً آخر غير الديمقراطية الغربية! فلماذا لا تسمونه "الإسلام" وتريحون بالكم من هذا الاستلاب للغرب الكافر؟!
2-أبو المجد يدعو إلى حرية الكفر في بلاد المسلمين:
يقول أبو المجد تعليقاً على المادة (32) من دستور دولة الإمارات العربية المتحدة التي تنص على حرية الشعائر الدينية لأتباع الأديان السماوية ما دام ذلك لا يخل بالنظام العام أو ينافي الآداب العامة!!
يقول أبو المجد: "إن هذا القيد لا ضرورة له؛ ما دام النص يشترط أن لا يخل ذلك بالنظام العام، أو ينافي الآداب العامة؛ إذ يمكن أن يكون معيار النظام العام أساساً لإسباغ الحماية الدستورية أو لانحسارها عن ممارسة شعائر العقائد غير السماوية"(3)
فلا مانع عنده أن يمارس الكفار -بجميع أديانهم ومذاهبهم- شعائرهم وعباداتهم دون قيد شرعي، إنما بشرط أن لا يتعارض ذلك مع النظام والآداب العامة! ولا أدري ما حقيقة هذا النظام العام وتلك الآداب العامة؟! هل هي نابعة من النصوص الشرعية، أم أنها تتبع ما رأته "العقول" القاصرة نظاماً أو أدباً ؟!
3-أبو المجد يطلب مساواة الكفار بالمسلمين مساواة "كاملة" !(52/234)
كشأن إخوانه من العصرانيين في تقديم التنازلات لليهود والنصارى، ومحاولة إرضائهم، والظهور أمامهم بمظهر المتنورين كما يظنون، فإن أبا المجد قد طالب بالمساواة "الكاملة" بين من قال الله عنهم بأنهم (شر البرية) بمن أخبر أنهم (خير البرية)، ثم راح يلغي من أحكام الله ما يظنه ممايزًا بين الفريقين! -نعوذ بالله من حاله-.
يقول أبو المجد في رؤيته العصرانية التي أيدها أصحابه: "إن الموقف الإسلامي الصحيح (!) من الأقليات غير المسلمة داخل الأقطار الإسلامية موقف واضح.. وهو موقف يقوم على المحاور التالية:
أولاً: المساواة "الكاملة بين المسلمين وغير المسلمين.." (4) !!
قلت: فلم تعد المساواة -عند هؤلاء- تكتفي ببعض الحقوق، إنما أصبحت مساواة "كاملة" كما يقول. أي في أمور العبادات والمعاملات والسلوك، وغير ذلك من الأحكام. وفي هذا إلغاء لكثير من النصوص الشرعية التي تفرق بين المسلمين والكافرين، وتجعل لكلٍ منهما حكماً خاصاً به.
ولكن كل هذا لا يهم عند هؤلاء العصرانيين ما دام يحقق لهم -كما يتوهمون- الوحدة الوطنية !
وكل مسلم مهما كانت درجة ثقافته يعرف بطلان هذه المساواة؛ لما يعلمه من نصوص شرعية تناقضها .
__________
(1) …ومن أفضل من كتب في هذا من المعاصرين؛ خالد العنبري، في كتابه "فقه السياسة الشرعية في ضوء القرآن والسنة" حيث الاختصار ووضوح العبارة.
(2) …قال هذا: خالد محمد خالد في مذكراته (487) محاولاً إقناع القارئ بهذا النظام الكفري. كما أن له كتاباً بعنوان "دفاع عن الديمقراطية" وقد بينت شيئاً من انحرافاته في كتابي "خالد محمد خالد في الميزان" لم يطبع بعد. والدكتور القرضاوي يردد نفس مقولة خالد محمد خالد؛ كما في فتاواه المعاصرة (2/646)، وعنه يستقي تلاميذه العصرانيون.
(3) … دولة الإمارات العربية المتحدة -دراسة مسحية، ص 26.
(4) … رؤية إسلامية معاصرة، ص 56، وانظر أيضاً: ص 68 وقد سبق في رد الدكتور مفرح القوسي عليه تضجره من استمرار التمايز بين المسلمين والكفار.
وصدق الله القائل في الرد على من يساوي بين أوليائه وأعدائه: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون) والقائل (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، أم نجعل المتقين كالفجار)، والقائل (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة)، والقائل (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم، ساء ما يحكمون).
4-أبو المجد يقول عن الكفار: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" !
كما في رؤيته المعاصرة (ص16). وقد سبق بيان بطلان هذه المقولة عند الحديث عن انحرافات صاحبه "فهمي هويدي".
5-أبو المجد يطالب بإلغاء "أحكام الذمة" !
متابعة منه لتحقيق الأهداف التي يلتقي فيها مع طائفته العصرانية. يقول أبو المجد: "إن فكرة أهل الذمة تحتاج إلى إعادة وتأمل ومراجعة من جانب الأطراف جميعاً، فالذمة ليست مواطنة من الدرجة الثانية…"(1)
فأبو المجد وجماعته يؤذيهم ويقلقهم التميز والعزة التي ارتضاها الله لعباده المسلمين؛ باتباعهم لدينه الحق، وطاعتهم لخاتم رسله. ويؤلمهم -في المقابل- الصَغَار الذي جعله الله لمن خالف أمره، فيحاولون بذلٍ وخنوع إزالة هذا كله، وإذابة الفريقين (المسلم والكافر) في فكرة واحدة موهومة أطلقوا عليها "الوحدة الوطنية"! مفضلينها على أحكام الله، التي يرمونها -وإن لم يصرحوا بذلك- بأنها سبب تفرق أبناء البلد الواحد! وأنها قاصرة عن تحقيق آماله وأهدافه! ولهذا فقد قرروا تشذيبها وإلغاء بعضها مما يرونه عائقاً أمام أهوائهم، نسأل الله العافية. وصدق الله القائل (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون).
6-أبو المجد و"تحرير" المرأة المسلمة :
يقول أبو المجد عن حجاب المرأة المسلمة : "أما الحجاب وما يثار حوله فإنه لا يعدو أن يكون من آداب الزي؛ يصان به العرض ويتميز به أهل الفضل، وتدرأ قالة السوء"(2) فهو من الآداب لا من الواجبات! وهو مجرد "زي" قد يتبدل ويتغير بتغير الأحوال بمقاييس البشر في نظرتهم إلى "الاحتشام" و"العري" دون أي اعتبار للنصوص الشرعية المحددة لشروط الحجاب .
7-أبو المجد والاختلاط:
يقول أبو المجد: "أما مشاركة المرأة الرجل في العمل العام أو الخاص على ملأ وفي صحبة الآخرين فلم يرد فيه نهي يحتج له محتج.." (3).
قلت: وهذا من الكذب الصريح. فالنصوص الشرعية والكثيرة جاءت بتحريم الاختلاط، وسدت كل ذريعة توصل إليه(4).
8-أبو المجد يثني على كتاب "تحرير المرأة في عصر الرسالة" !(52/235)
يقول أبو المجد: "وحديثاً تولى الصديق العزيز الأستاذ عبد الحليم أبو شقة تحقيق وشرح الأحاديث الواردة في شئون المرأة، وذلك في سفر نافع من أربعة أجزاء، اقتصر على الأحاديث الواردة في صحيحي البخاري ومسلم، كاشفاً بهذا التحقيق عن عديد من الأخطاء الشائعة بين عامة المسلمين، وكثير من خاصتهم في شأن المرأة وحقوقها ومكانتها، وعلاقتها بالرجل، وهي أخطاء أدت إلى الخلط بين التصور الإسلامي لقضية المرأة بجوانبها المختلفة، وبين العرف السائد في كثير من مجتمعات المسلمين"(5)
قلت: كتاب أبو شقة أصبح دستور العصرانيين في قضية المرأة، وقد احتوى على انحرافات ومتابعة للأهواء والشهوات بما يفوق ما قام به قاسم أمين!، وقد بينت هذا في مذكرة بعنوان "نقد كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة" تجدها منشورة في موقع "صيد الفوائد" على شبكة الإنترنت. فراجعها غير مأمور.
وانظر أيضًا ما كتبه الأستاذ جمال سلطان عن هذا الكتاب السيئ في "ثقافة الضرار" مقال بعنوان "تحرير المرأة في عصر الضلالة!" (ص 71-74).
9-أبو المجد يبيح الموسيقى والتمثيل …
يقول أبو المجد: "إن الاهتمام بالفنون المختلفة من شعر ورسم وموسيقى وغناء وتمثيل، وتسخيرها لتثبيت القيم الإنسانية الفاضلة أمر لا يجوز أن يبقى خارج اهتمام الداعين إلى الإسلام"
ثم يقول ساخرًا ممن يقولون بتحريم ما حرم الله: "إن القول بتحريم الفنون مطلقاً قول لا دليل عليه في العقل ولا شاهد له في النقل، وهو أثر بداوة وجفوة وقسوة مزاج وغلظة طبع.." (6) !!
قلت: يعلم أبو المجد أن أتباع الكتاب والسنة لا يحرمون "الفنون" "مطلقاً" كما يزعم ! ويعلم -هداه الله- أن ما حرموه؛ كالموسيقى مثلاً إنما اتبعوا فيه النصوص الشرعية ولم يتبعوا فيه المزاج والبداوة!! ومن طالع فتاوى كبار العلماء السلفيين علم هذا(7). ولكن أبا المجد يلجأ إلى هذا الأسلوب الساخر الذي تعلمه من شيخه الغزالي تنفيرًا من الحق وأهله بعد أن أعيته الحجة، وصرفًا لانتباه القارئ عن مطالبته بالأدلة.
10-سخريته بالسلفيين :
__________
(1) … رؤية إسلامية معاصرة ، ص 56.
(2) … القيم والتحولات الاجتماعية المعاصرة ، ص 68.
(3) … المرجع السابق.
(4) … انظر: "فتاوى الشيخ ابن باز -رحمه الله-" (4/245-258). ورسالة الدكتور مفرح القوسي السابقة (ص 332 - 374).
(5) … رؤية إسلامية معاصرة، ص 20
(6) … رؤية إسلامية معاصرة ، ص 55.
(7) … انظر رسالة : " "
كما هي عادة العصرانيين في حمل الحقد والضغينة على أتباع دعوة الكتاب والسنة؛ لأنهم يقفون عقبة أمام أهوائهم، فإنهم لا يخلون أي حديث أو مقال أو كتاب لهم دون أن يسخروا منهم ويتهجموا عليهم، وعلى هذه الطريقة سار أبو المجد -هداه الله-. وقد سبق شيء من تنقصه لهم في دراسة الدكتور القوسي لفكره. وأضيف هنا ما ذكره في ندوته التي عقدها بالأردن بعنوان "من أجل وحدة ثقافية عربية" ونشرتها له مؤسسة عبد الحميد شومان.
يقول أبو المجد ساخرًا ممن يسميهم "الحَرْفيين" الذين يقولون "إن النصوص مقدسة"(1): "الشورى غائبة عن أكثر دول العالم الإسلام، التقدم الاقتصادي ناقص جداً، التبعية تكاد تلف العالم الإسلامي: من أوله إلى آخره، الجهل ونسبة الأمية عالية جداً، وتجد دعاة على المنابر لا تهتز في رأسهم شعرة للقمع ولا لغياب الشورى، ولا للتأخّر، ولا للتبعية، مشغولون بقضيتين: تقصير الثوب ومنع الموسيقى! كنا في اجتماع للجنة محترمة تابعة لليونسكو، نناقش موضوع الموسيقى، علماء موسيقى أتوا من المغرب، ومن تونس، ومن ليبيا، ومن الأردن، ومن مصر، ومن سوريا، وإذا بشاب ملتحٍ -بالمناسبة أنا دائماً أقسم اللحى قسمين: لحى ودية ولحى عدوانية- يدخل وبيده ورقة كبيرة جداً قائلاً: أخرجوا أولادكم من المدارس التي تعلم الموسيقى، لماذا؟ من قال لك: إن الموسيقى حرام؟ غلبتني لغة السجع، فقلت له: يا سيدي الموسيقى حلال كالماء الزلال! وعندي فعلاً دليل نصّي وعقلي على ذلك، يطول شرحه.
إن صلى الله عليه وسلم بُعث نبياً ولم يبعث تَرْزياً" !! (2)
قلت: هذا أسلوب إنشائي تهويلي يذكرنا بأسلوب الغزالي شيخ أبي المجد في سخريته المتكررة بأهل السنة.
وإلا فإن كل عاقل يعلم أن غياب الشورى وزيادة نسبة الأمية.. الخ لا يبيح لنا ارتكاب المحرمات أو سماعها والتهاون فيها.
فما علاقة هذا بهذا ؟!
والدكتور يعلم -علي سبيل التنزل معه- بأن ما لا يدرك كله لا يترك جله. فإذا كنا مفرطين فيما ذكره(3)؛ فإن هذا التفريط لا يسوغ لنا أن نفرط في غيره من فعل الواجبات أو ترك المحرمات. وما حال من يفرط في الأمرين إلا كحال من يشرب الخمر ثم يحدث نفسه بأنه ما دام يرتكب هذا المحرم فليتبعه غيره من المحرمات! ليدع الصلاة مثلاً أو يرتكب الفاحشة .. الخ إلى أن يتخلص من هذا المحرم. فهل يفعل هذا عاقل ؟!
بل الواجب : تقليل التفريط بفعل ما يستطيعه الإنسان، ثم إكمال ما نقص.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
==========================(52/236)
(52/237)
نظرة شرعية في فكر الدكتور محمد سليم العوا
-باحث ومفكر مصري معاصر، ينتمي إلى الاتجاه "العصراني"، متخرج في جامعة الإسكندرية، ومن المختصين بالدراسات القانونية الجنائية.
-عمل أستاذاً لفقه العقوبات بجامعة الرياض (الملك سعود حالياً).
-من مؤلفاته:
في أصول النظام الجنائي الإسلام.
في النظام السياسي للدولة الإسلامية.
الحق في التعبير.
أزمة المؤسسة الدينية.
الأقباط والإسلام.
الفقه الإسلامي في طريق التجديد.
انحرافاته :
هو -كما سبق- واحد من رموز التيار "العصراني" في زماننا، حيث يجتمع معهم في الدعوة إلى عدة أفكار وأصول سبق بيانها في مقدمة هذا البحث. وأبدأ بما قال الدكتور مفرح القوسي -وفقه الله- عن العوا، ثم أتبع ذلك ببعض الإضافات التي تحصلت لي من قراءتي لكتب ومقالات الرجل.
قال الدكتور مفرح القوسي(4) :
"الدكتور محمد سليم العوا: أحد رواد ما يسمى باليسار الإسلامي، وممن قدم العديد من الطروحات التحديثية، والتي من أهمها ما يلي:
__________
(1) … النصوص هي: قال الله، وقال رسول صلى الله عليه وسلم ! وهي مقدسة ومُطَهرة. فهل يرى أبو المجد غير ذلك؟! نعوذ بالله من حال عباد العقول.
(2) … ص 34.
(3) … وتفريط الأمة في هذه الأمور لا يختص بفرد أو طائفة دون غيرها، بل المسؤلية متعلقة بالجميع ، وعلى رأسهم حكام المسلمين الذين بسبب تقصيرهم في النهوض بالأمة وإعزازها تسلط علينا الأعداء من كل جانب كما هو مشاهد. فليت الدكتور عرَّض بذكرهم، ولم يؤاخذ غيرهم بجريرتهم. لئلا يقال له:
غيري جنى وأنا المعذّب فيكم --- فكأنني سبابة المتندم !
(4) … في رسالة : "الموقف المعاصر من المنهج السلفي في البلاد العربية"، (ص 256-259).
أ)قسم سنة الرسو صلى الله عليه وسلم تشريعيه وسنة غير تشريعية، وادعى أن أغلب المروي عن صلى الله عليه وسلم هو من النوع الثاني، وأنه لا يلزمنا العمل به، واستدل على ذلك بحديث تلقيح النخل المروي بروايات عدة، منها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن رافع بن خديج أنه قال: قدم نبي ا صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل -يلقحون النخل- فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً، فتركوه فنفضت أو فنقصت، قال فذكروا ذلك له، فقال: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر"(1)، حيث يقول العوا عن هذا الحديث: "ولو لم يكن غير هذا الحديث الشريف في تبيين أن سنت صلى الله عليه وسلم ليست كلها شرعاً لازماً وقانوناً دائماً لكفى، ففي نص عبارة الحديث -بمختلف رواياته- تبيين أن ما يلزم اتباعه من سنة رسول الله صلى الله وسلم إنما هو ما كان مستنداً إلى الوحي فحسب، وذلك غالبه متعلق بأمور الدنيا وأقله متعلق بأمور الدين، وليس أوضح في الدلالة على هذا من قوله صلى الله عليه وسلم "إنما أنا بشر وأنتم أعلم بشؤون دنياكم"، وكان بوسعه أن يقول: إنني لا خبرة لي بالنخل -إذ ليس في مكة نخل- أو لا أحسن الزراعة فبلدي وادٍ غير ذي زرع، ولكنه عليه الصلاة والسلام تخير أحسن العبارات وأجمعها، وجعل من حديثه في هذه المسألة الجزئية قاعدة كلية عامة مؤداها أنه في مالا وحي فيه من شؤون الدنيا فالأمر للخبرة والتجربة والمصلحة التي يُحسن أرباب الأمر معرفتها دون من لا خبرة له به، فلم يكن الجواب قاصراً على مسألة تلقيح النخل، وإنما جاء شاملاً لكل أمر مما لم يأت فيه وحي بقرآن أو سنة"(2).
ب)ادعى أن تصرفات صلى الله عليه وسلم في القضاء والإمامة ليست من السنة التشريعية الملزمة، محتجاً بتقسيم الإمام القرافي لتصرفات صلى الله عليه وسلم إلى أربعة أنواع: تصرفات بالرسالة، وأخرى بالفتيا، وثالثة بالحكم (القضاء)، ورابعة بالإمامة(3).
ج)دعا إلى أنه يجب أن يتبع الحكم الشرعي "المصلحة ويدور معها، فما حقق المصلحة أجريناه، وما عارضها أو ألغاها توقفنا عن إجرائه، وإلا كنا مخالفين للأمر الرباني بطاعة رسول الله(4). ويضرب العوا لذلك مثالين من الأحكام الشرعية التي يجب -في نظره- أن تدور مع المصلحة فعلاً وتركاً، فيقول: "ومن أمثلة هذه السنن التي بنيت على المصلحة القائمة في زمن الرسو صلى الله عليه وسلم قوله في شأن الزي: "خالفوا المشركين أوفروا اللحى وأحفوا الشوارب"(5) في صيغة النص ما يفيد ارتباط الحكم أو الأمر بزي المشركين وعاداتهم في توفير اللحية والشارب معاً، وأزياء الناس وزينتهم أمور لا استقرار لها، فهو لذلك تشريع زمني روعيت فيه البيئة التي كان يعيش فيها الرسو صلى الله عليه وسلم ، ولا يبعد هنا أن يُقال إن الأمر في توفير اللحى للندب يثاب فاعله ولا يلام فضلاً عن أن يعاقب تاركه. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم "إن اليهود [والنصارى] لا يصبغون فخالفوهم"(6). أي لا يصبغون الشعر حين يشيب، فذلك أيضاً مرتبط بعادات اليهود والنصارى، أفنخالفهم إن تغيرت العادة لديهم إدارة منا للحكم مع علته وسببه؟ أم نبقى على تنفيذ الأمر الوارد في هذا الحديث حتى ولو فات بذلك تحقيق مقصوده؟ لا شك أن الأول أولى بنا وأوفق"(7).(52/238)
ويحتج العوا لضرورة اتباع الحكم الشرعي للمصلحة بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أرض العراق حين فتحها الله على المسلمين عنوة، حيث راعى -آنذاك- مصلحة الأمة فلم يقسمها بين المسلمين قسمة الغنائم كما فعل صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه أرض خيبر عنوة(8).
__________
(1) … صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب (الفضائل)، باب (وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره صلى الله عليه سولم من معايش الدنيا على سبيل الرأي) جـ15/ص 117.
(2) … بحث (السنة التشريعية وغير التشريعية)، مجلة (المسلم المعاصر)، العدد الافتتاحي الصادر في شوال 1394هـ/ نوفمبر 1974م ص 33.
(3) … انظر: المرجع السابق ص 34-37.
(4) … المرجع السابق ص 37.
(5) … رواه البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في كتاب (اللباس) الباب (64) الحديث رقم (5892) ج10/349. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب (الطهارة)، باب (خصال الفطرة) ج3/ ص 147.
(6) … رواه البخاري في صحيحه في كتاب (الأنبياء)، الباب (50)، الحديث رقم (3462) ج6/ص496. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب (اللباس والزينة) باب (استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة) ج14/ص79-80.
(7) … بحث (السنة التشريعية وغير التشريعية) ص 38.
(8) … انظر: المرجع السابق ص 41.
د)ذهب "إلى أن العقوبة التي شرعها الإسلام لجريمة شرب الخمر هي عقوبة تعزيرية المقصود بها ردع الجاني عن العودة لارتكاب الجريمة ومنع غيره من أفراد المجتمع من ارتكابها، ومن ثم فإن هذه العقوبة يمكن أن تتغير بتغير الأحوال والظروف الفردية والاجتماعية"(1).
هـ)كما ذهب إلى "أن عقوبة الردة عقوبة تعزيرية مفوضة إلى السلطة المختصة في الدولة الإسلامية تقرر بشأنها ما تراه ملائماً من أنواع العقاب ومقاديره، ويجوز أن تكون العقوبة التي تقررها الدولة هي الإعدام"(2).
قلت: وانظر لزيادة الرد على العوا: كتاب "العصريون معتزلة اليوم" (ص45، 46، 53، 54، 57).
إضافات :
1-العوا وعقوبة المرتد :
سبق معنا في حديث الدكتور مفرح القوسي أن العوا يجعل عقوبة المرتد من العقوبات التعزيرية التي يمكن أن تتبدل في يوم ما فيكتفى بدلاً من قتل المرتد بسجنه مثلاً. وفي هذا مخالفة صريحة للأحاديث الصحيحة الواردة في وجوب قتل المرتد وعلى هذا أجمعت الأمة(3).
وقد أكد العوا رأيه هذا عندما أثيرت قضية الحكم بالردة على الكاتب المصري "نصر حامد أبو زيد" في السنوات الأخيرة من بعض العلماء، حيث فزع الدكتور لهذا! وقام بتأليف كتابه "الحق في التعبير" ! وقف فيه كما يقول: "ضد محاكمة نصر أبو زيد، وضد طلب التفريق بينه وبين زوجته" (ص13)، مؤكدًا فيه رأيه السابق المخالف للأحاديث الصحيحة بوجوب قتل المرتد والاكتفاء بتعزيره ! (ص67-69).
وانظر للرد عليه في هذه المسألة: رسالة "حقوق الإنسان في الفكر السياسي الغربي والشرع الإسلامي" للدكتور محمد مفتي، والدكتور سامي الوكيل، ص 89-93.
2-عدم تفريقه بين إرادة الله الكونية وإرادته الشرعية :
من المعلوم أن الله عز وجل أراد وقضى "كونًا" أن يختلف الناس ما بين مسلمين مؤمنين وكفار جاحدين، وما بين أهل حق وأهل باطل؛ قال تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) وقال تعالى: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن)
ولكنه في المقابل أراد "شرعاً" أن يؤمن الناس ويستقيموا على صراطه (يا أيها الناس اعبدوا ربكم)، (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)؛ ولهذا بعث الرسل وأنزل الكتب.
والسني المؤمن لا يخلط بين الإرادتين، بل يتبع الحق عند اختلاف الناس، وينصح المخالف ويرد عليه.
أما العصرانيون -ومن ضمنهم العوا- فإنهم لم يفرقوا بين الإرادتين، وظنوا -لجهلهم بمذهب السلف- أن كل ما قضاه الله وأراده "كوناً" من اختلاف بني الإنسان فقد رضيه وأراده "شرعاً"؛ ولهذا فقد ارتضوه بل تفاخروا به ودعوا إليه! فتجد في كتاباتهم التمدح بوجود مختلف الطوائف والمشارب داخل الدولة الإسلامية قديمًا!! فرحين بهذا الأمر، مطالبين باستمراره في عصرنا، مطلقين عليه "التعددية في الإسلام"! أو نحو هذا الاسم.
جاهلين أن هذا الأمر الذي فرحوا به قد جاء الكتاب والسنة بذمه والتحذير منه. قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) وقال: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم). وقال: (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، كل حزبٍ بما لديهم فرحون). وقال: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله). وقال: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا)، إلى غير ذلك من الآيات(4). وقال صلى الله عليه وسلم "عليكم بالجماعة" وقال: " "
وقد ألف العوا كتابه "التعددية في الإسلام" لإقرار اختلاف المسلمين ما بين أهل سنة وغيرهم من أهل البدع المتنوعة، راضياً ومطالبًا ببقاء هذا الاختلاف أو "التعدد" كما يقول! (5)
مجيزاً لأجل ذلك قيام الأحزاب المختلفة داخل الدولة الإسلامية (ص 9-10)(52/239)
مكذباً -للسبب نفسه- قوله صلى الله عليه وسلم "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"(6). ومن أعجب شيء قوله عن هذا الحديث الصحيح بأن شيخه الدكتور محمد عمارة "قد فحص هذا الحديث ووجده حديث آحاد لا يؤخذ به في العقائد، ووجد أن التاريخ يكذبه" (ص28) !! واصفاً إياه بأنه من "أهل الرواية"!
__________
(1) … في أصول النظام الجنائي الإسلامي ص 137، ط عام 1979م، دار المعارف - القاهرة.
(2) … المرجع السابق ص 155.
(3) … قال ابن قدامة -رحمه الله- في المغني (8/123): "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد". وقال ابن عبد البر -رحمه الله- في التمهيد (5/318) بعد أن ساق الأحاديث في وجوب قتل المرتد: "فالقتل بالردة -على ما ذكرنا- لا خلاف بين المسلمين فيه".
(4) … انظر رسالة: "واعتصموا بحبل الله جميعاً" للشيخ عبد الله الجار الله -رحمه الله-.
(5) … إضافة إلى رضاه باختلاف أهل الإسلام مع غيرهم من أهل الأديان والنحل الباطلة!
(6) … حديث صحيح. انظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني -رحمه الله- (حديث 203-204). ورسالة : "نصح الأمة في فهم أحاديث افتراق الأمة" للشيخ سليم الهلالي.
فمتى كان محمد عمارة عالماً من علماء الحديث ؟! وما عهدناه إلا معتزلياً معظماً للعقل على حساب نصوص الوحي التي تشهد كتاباته -هداه الله- بالإعراض عنها، وعدم التضلع منها.
3-العوا والكفار:
أ-الكفار مساوون للمسلمين عنده ! :
يقول العوا: "المساوة بين الناس أصلها بالخلقة وليس بالدين"(1)
ب-إلغاء عقد "الذمة" واستبداله بالمواطنة !
يقول العوا : "إن عقد الذمة الذي بسببه تثور جميع المشاكل انتهى، انتهى العقد وانقضى بموت أطرافه. الدولة الإسلامية احتُلت وانهدمت، ولم يعد هناك دولة إسلامية، والأطراف الذين أبرموا هذا العقد لم يعودوا موجودين. والعقد هذا هو كأي عقد في الدنيا إذا مات أطرافه وقضوا انقضى. الآن أصبح الجميع في وضع جديد هو وضع المواطنة"(2) ! فانظر -رعاك الله- ضحالة الحجة من هذا العصراني المستكبر. وعقد الذمة -كما سبق في الرد على فهمي هويدي- حكم شرعي ثابت بنصوص الوحي لا يجحده وينكره ويتبرأ منه إلا من اتبع هواه وكره ما أنزل الله.
ج-منع الكفار من الزواج بالمسلمات هو من البر بهم -عند العوا-!!
يقول العوا: "منع زواجهم من نسائنا اتخذ براً ورأفة بهم؛ لأن زوج المرأة واجبه أن يأخذها إلى مكان عبادتها.. فبرًا به ورأفة ورحمة منعه الله من زواجها"(3)!!! وهذا من التقول على الله -عز وجل- والتلاعب بشرعه؛ لأجل إرضاء إخوان القردة والخنازير وعباد الصليب، وخجلاً من أن يجهر بالحق الذي يعرفه؛ ليحق فيه قوله تعالى (لا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون). وإلا فهو يعلم أن سبب منعهم من الزواج بالمسلمات هو صيانة المسلمة أن يعلوها العلج الكافر، ويستولدها كفارًا مثله، ويفتنها عن دينها. وفيه من الاحتقار للكفار (شر البرية) ما فيه مما لا يريد العوا الإعتراف به.
د-يؤلف العوا كتاباً بعنوان "الأقباط والإسلام" :
يقدم فيه تنازلات عديدة ويحرف نصوصاً شرعية كثيرة؛ لعله بذلك يرضي عباد الصليب ويطمئنهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون! وكأن هؤلاء النصارى لم يعيشوا أكثر من ألف عام تحت ولاية الدولة الإسلامية آمنين مطمئنين،لم تصبهم نكبات أو اضطهادات. وإن وقع ظلم عليهم من بعض الجهلة فهو كالظلم الذي يقع بين المسلمين أنفسهم؛ لا يقره الإسلام ولا يرضى به.
ومن انحرافاته في هذا الكتاب :
أ-وصفه للنصارى بأنهم "إخوانه" ! (ص 18). ومعلوم لكل مسلم أنه لا أخوة بين المسلم والكافر -كما سبق في الرد على هويدي-.
ب-إلغاؤه للجزية ! (ص 40). يقول العوا : "إن غير المسلمين من المواطنين الذين يؤدون واجب الجندية؛ ويسهمون في حماية دار الإسلام لا تجب الجزية عليهم".
ج-تمدحه بأن المصريين (مسلمهم وكافرهم) لا فرق بينهم ولا تمايز! وأنهم "شعب واحد، وعنصر واحد، وأمة مصرية واحدة"! (ص11). وهذا من الوطنية الضيقة التي ينادي بها هؤلاء العصرانيون في مقابل تهميشهم للإسلام وللأمة الإسلامية التي شرفت وكرمت بحملها لهذا الدين.
د-تحريفه لآيات الولاء والبراء؛ فهو عندما ذكر شيئاً منها لا يؤيد رأيه وإخوانه العصرانيين في تذويبهم للفروق بين المسلمين والكفار، كرَّ على هذه الآيات بالتأويل الباطل وحرفها لتتوافق مع هواه .
يقول العوا: "فالنهي ليس عن اتخاذ المخالفين في الدين أولياء بوصفهم شركاء وطن أو جيران دار أو زملاء حياة، وإنما هو عن توليهم بوصفهم جماعة معادية للمسلمين تتخذ من تميزها الديني لواء تستجمع به قوى المناوءة للمسلمين، والمحادة لله ورسوله" (ص 33). فهو قد جعل علة البراءة من الكفار تحزبهم ضد المسلمين ومحاربتهم. أما غيرهم من الكفار فيجوز لنا "موالاتهم" عنده وكل هذا لتسلم له موالاة إخوانه النصارى في مصر!(52/240)
فهو لم يفرق بين "الموالاة" التي لا تجوز لجميع الكفار للنصوص الصريحة من الكتاب والسنة التي تنهى عن هذا الفعل الشنيع الذي يقدح في إيمان المرء المسلم(4) وبين "البر" و"القسط" الذي يكون لغير المعتدين منهم، وهو الوارد في قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ويخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم). وهذا "البر" و"القسط" لا ينافي معاداتهم لأجل كفرهم. وعدم موالاتهم؛ -كما سبق-
هـ-يردد الدكتور العوا -هداه الله- في كتابه ما يردده العصرانيون من أن للكفار ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. (ص44) (5). وهذا خلاف دين الإسلام -كما سبق بيانه-.
لماذا تميع الدكتور العوا في موضوع "أهل الذمة" ؟!
__________
(1) … مقابلة مع مجلة المنطلق، العدد 116.
(2) … السابق .
(3) … السابق.
(4) …انظرها في رسالة : "الموالاة والمعاداة "للشيخ محماس الجلعود. ورسالة: "الولاء والبراء" للدكتور محمد بن سعيد القحطاني.
(5) …وقال مثل هذا في كتابه: "في النظام السياسي للدولة الإسلامية، ص 54.
يقول الدكتور بعد أن طالب بإلغاء كثير من الأحكام المتعلقة بأهل الذمة -وقد مضى شيء منها- قال الدكتور: "هذا الحل يرفع عن كاهل المشرع المسلم المعاصر كثيراً من الحرج الدولي والسياسي والاجتماعي"(1) فالهدف من تقديم هذه التنازلات هو ضغط الواقع والحرج والإنكسار أمام الكفار الذين لن يرضيهم ما جاء في الكتاب والسنة من أحكام شرعية، فلهذا يحاول العوا وإخوانه لأجل إرضائهم والظهور أمامهم بمظهر "المتمدن"! -زعموا- أن يتنصل من أحكام دينه ويخفيها أو يلبسها بالباطل؛ ليصدق فيه قوله تعالى: (لا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) وقوله (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم) وقوله : (ودوا لو تدهن) وأوجه نصيحة إلى العوا ومن معه: هي قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم). فهم لن يرضوا عنك مهما قدمت لهم من التنازلات إلا أن تتنصر، ولا أظنك فاعلاً -إن شاء الله-. ولذا: انج بدينك ولا توهنه أو تثلمه بهذه التنازلات الخطيرة التي لن تؤدي إلى نتيجة (دنيوية)، فضلاً عن تعريضها للمتنازل لعذاب الله.
4-موقف العوا من قضايا المرأة :
لقد اختصر لنا العوا رأيه في قضايا المرأة بجملة واحدة، وهي أنه على طريقة شيخيه الغزالي(2) والقرضاوي! يقول العوا: "في كل القضايا المتعلقة بالمرأة المسلمة أنا منظم انضماماً تاماً لرأي العالمين الجليلين الدكتور يوسف القرضاوي وفضيلة الشيخ محمد الغزالي"(3)، فعلى هذا القول الصريح يلحقه ما يلحق شيخيه من انحرافات في قضايا المرأة؛ كقولهما بجواز سفورها، واختلاطها، ومصافحتها للأجانب، وسفرها لوحدها، وتمثيلها، وغنائها، وانشغالها بقضايا السياسة… الخ(4)
ومن أقوال وآراء العوا المؤكدة لهذا الأمر:
"أنا من الذين قالوا منذ زمن ولا زلت أقول إنه لا يجوز الحجر على المرأة عن أي عمل كان"(5) وتأمل "أي عمل" !
يجيز الدكتور للمرأة أن تكون "رئيسة للدولة الإسلامية"(6)! مخالفاً قول صلى الله عليه وسلم "ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" رواه البخاري.
وكشأن أسلافه العصرانيين فإن العوا يمجد الديمقراطية الغربية:
ويرى أنها الحل الأمثل للمسلمين! ويُلبس على الناس بأنها لا تختلف عن مبدأ الشورى في الإسلام!
وقد صرح بهذا في بحثه المعنون بـ"العرب والشورى بعد أزمة الخليج" (ص68-69) (7).
==========================(52/241)
(52/242)
نظرة شرعية في فكر طارق البشري
ترجمته(8) :
هو طارق عبد الفتاح سليم البشري، ولد بالقاهرة عام 1352هـ-1933م.
حصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة سنة 1953م.
عمل قاضياً بالقانون الوضعي !! بمجلس الدولة سنة 1954م. ثم مستشاراً بالمجلس سنة 1975م، ثم نائباً لرئيس المجلس سنة 1985م إلى أن تقاعد سنة 1998م.
رئيس إدارة الفتوى بالعديد من الوزارات، ومستشار قانوني لعدد من الوزارات والمراكز .
عضو مجالس الوزارات والعديد من الهيئات العامة .
له عدد من المؤلفات منها :
الحركة السياسية في مصر 1945-1952م صدر سنة 1972م.
الديمقراطية والناصرية، صدر 1975م.
سعد زغلول يفاوض الاستعمار: دراسة في المفاوضات المصرية- البريطانية 20-1924، صدر سنة 1977م.
المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية، صدر سنة 1981م.
الديمقراطية ونظام 23 يوليو 1952-1970، صدر سنة 1987م.
دراسات في الديمقراطية المصرية، صدر سنة 1987م.
بين الإسلام والعروبة - القسم الأول، صدر سنة 1988م.
بين الإسلام والعروبة - القسم الثاني، صدر سنة 1988م.
"بتحرير ومشاركة" في منهج الثقافة الإسلامية بجامعة الخليج العربي وحمل عنوان: "نحو وعي إسلامي بالتحديات المعاصرة"، وصدر سنة 1988م.
منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي، صدر سنة 1990م.
__________
(1) … صحيفة المدينة والشورى النبوية، جزء من وقائع ندوة النظم الإسلامية؛ إصدار مكتب التربية لدول الخليج العربي، ص 65.
(2) …يسميه العوا "حجة الإسلام" ! كما في كتابه "أزمة المؤسسة الدينية" ، ص 36.
(3) …مجلة الاقتصاد الإسلامي، العدد 144 ومن الطريف أن هذا القول مخالف لإدعاء العوا أنه لا يرى تقليد العلماء بل يأخذ من حيث أخذوا ! ويطالب المسلمين بهذا! (انظر: دراسات تربوية، العدد 54، ص 55).
(4) …لمعرفة أقوال القرضاوي والغزالي في هذه القضية انظر ما صدر من ردود عليهما؛ وهي كثيرة مشهورة. ولا فرق لمن تأمل بين آراء هذا التيار العصراني بقيادة شيخيه القرضاوي والغزالي وبين آراء التيار العلماني. فالهدف واحد وهو "تحرير" المرأة المسلمة من شريعة ربها. انظر "العصرانية قنطرة العلمانية" لكاتب هذا البحث.
(5) … مجلة المنطلق ، العدد 116.
(6) … السابق .
(7) … البحث منشور في كتاب "أزمة الخليج وتداعياتها على الوطن العربي" إصدار مركز دراسات الوحدة العربية.
(8) … استفدتها من الكتاب الصادر بمناسبة إحالته للتقاعد: "طارق البشري، القاضي المفكر"، إعداد الدكتور إبراهيم البيومي غانم. دار الشروق، 1420هـ فمن أراد الزيادة عن حياة الرجل فليرجع إليه.
…وكذا من كتاب "الإسلاميون والحوار مع العلمانية والدولة والغرب" لهشام العوضي.
مشكلتان وقراءة فيهما، صدر سنة 1992م.
شخصيات تاريخية، صدر سنة 1996م.
سلسلة "في المسألة الإسلامية المعاصرة" وابتدأ صدروها في سنة 1996 وتضم الكتب التالية:
ماهية المعاصرة .
الحوار الإسلامي العلماني.
الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر.
الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي.
ما قيل عنه :
قال عنه رضوان السيد: "أذكر من المتحولين إلى الفكر الإسلامي نماذج مشرفة مثل أحمد كمال أبو المجد وطارق البشري؛ فالأول مع أنه بدأ إخوانياً لكنه صار في مرحلة من عمره ناصرياً اشتراكياً. ثم عاد إلى موقعه إسلامياً. والآخر كان يسارياً ثم تحول إلى إسلامي"(1).
وقال عنه الدكتور أيمن الظواهري: "طارق البشري كاتب وطني أميل إلى تيار اليسار"(2).
وقال عنه غالي شكري: "أحد أبرز المؤرخين التقدميين المصريين"(3).
قلت: كان طارق البشري مفكرًا وكاتباً يسارياً مع تمجيد كبير للقومية العربية (بصورتها الناصرية)، ثم تحول إلى الاتجاه الإسلامي ضمن من تحولوا من القوميين واليساريين بعد نكسة 67م إلا أنهم -كما سبق في المقدمة- لم يتخلوا وينخلعوا من إرثهم اليساري ويتوبوا إلى الله توبة نصوصاً تحملهم على نبذ كل ما يخالف الإسلام من عقائد وتصورات. بل بقيت معهم "رواسب" يسارية جعلتهم ينتقون من الإسلام ما يوافقها ويسير معها، مشكلين بذلك ما يسمى "اليسار الإسلامي" أو "الفكر الإسلامي المستنير"، محدثين في صفوف أهل الإسلام شرخاً وانقساماً بسبب صنيعهم هذا حيث لم يرتضوا الدخول في السلم كافة.(52/243)
يقول محمد عمارة مؤكدًا هذا: "لقاؤنا -أي هو والبشري- بدأ كما قلت قبل ثلاثة عقود تقريباً من مرحلة السبعينات، وكان لنا لقاء فكري نجتمع خلاله في بيوتنا. وكان محرك هذا اللقاء وهذه الجماعة الفكرية هو عادل حسين. حتى إن البعض أطلق عليه لقبه أمير الجماعة الذي يجمع الجماعة وينظم الاجتماعات. وسرنا في هذه المرحلة ونحن نعاني معاناة شديدة؛ لأننا كنا آنذاك نناقش هموم هذه الأمة التي تناوشها تحديات من الداخل والخارج. وكانت مرحلة من الإنضاج ومن التطور الفكري ومن التحولات في الرؤى والأفكار. أتصور أنه عندما يُكتب سيشار إليها وإلى أبعادها حتى خارج مصر؛ لأن هذا التجمع صار يمثل تيارًا فكرياً تجديدياً. وبالمناسبة: أطلق علينا الماركسيون نحن الثلاثة لقب "التراثيون الجدد"، ولو أنصفوا لقالوا: التراثيون المجددون وليس التراثيون الجدد"(4).
-من يتأمل كتابات طارق البشري يجد أن كثيراً منها يبحث في المسائل التاريخية للحركة السياسية المصرية من وطنية وقومية وإسلامية، وقلة منها التي تبحث في قضايا الشريعة، والذي يظهر لي أن البشري قد اكتفى في هذا بكتابات واجتهادات من يثق بهم من الشيوخ المتنورين الذين لهم باع طويل في العلم الشرعي يجعلهم أقدر منه على طرق تلك القضايا. فهو يذكرني بصنيع صاحبه فهمي هويدي الذي هو مجرد تابع لشيخه الغزالي والقرضاوي. والبشري مثله في هذا الأمر حيث يكتفي عند طرق قضية شرعية ما بالنقل عن شيوخه الذين يعظم أقوالهم وعلى رأسهم الغزالي والقرضاوي، دون أن يكون له رأي مستقل واضح.
يقول البشري عند الحديث عن اجتهادات علماء المسلمين في المسائل الشائكة؛ كمسائل أهل الذمة وغيرها:
"لنا أن نشير هنا إلى الجهود الفقهية الكبيرة التي قام بها مفكرون وفقهاء مصريون خلال السنوات الماضية؛ ومنها جهود الشيخ القرضاوي والشيخ الغزالي والدكتور فتحي عثمان والأستاذ فهمي هويدي والدكتور محمد سليم العوا"(5) وجميع هؤلاء على مشربة -كما هو معلوم-.
ويقول الدكتور إبراهيم البيومي غانم :
"صاحب الأثر في أستاذنا طارق البشري هو الشيخ محمد الغزالي" فكان يقول عنه "هذا شيخي وشيخنا"(6).
قلت: ولهذا رثاه بمقال نشره في مجلة "المسلم المعاصر" (العدد 81) تحت عنوان "الراحلون إلينا" ووصفه بأنه شيخه.
انحرافاته :
لهذا كله فقد جاءت انحرافات البشري تبعاً لانحرافات شيوخه العصرانيين في القضايا المشهورة التي كان لهم فيها اجتهادات شاذة .
فعلى سبيل المثال:
1-ينقل البشري عن شيخه الغزالي قوله في قضية أهل الذمة: "قد أجمع فقهاء الإسلام على أن قاعدة المعاملة بين المسلمين ومسالميهم من اليهود والنصارى تقوم على مبدأ (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)" (7)!!
وهذه من أكاذيب الغزالي! فليس هناك إجماع ولا هم يحزنون، وقد سبق عند الرد على فهمي هويدي بيان بطلان هذا المبدأ الضال.
2-وينقل عنه -أيضاً- ناقضاً مبدأ الولاء والبراء ومحرفاً للأدلة الشرعية الواردة فيه: "إن الآيات التي وردت بالقرآن الكريم تمنع اتخاذ المؤمنين لليهود أو النصارى أو الكافرين أولياء إنما وردت جميعاً في المعتدين على الإسلام والمحاربين لأهله.." (8)
__________
(1) … العلمانية والممانعة الإسلامية، علي العميم، ص 164.
(2) … الحصاد المر، ص 176.
(3) … أقنعة الإرهاب، ص 66.
(4) … طارق البشري، القاضي المفكر، ص 39.
(5) … السابق، ص 70.
(6) … السابق، ص 86.
(7) … بين الجامعة الدينية والجامعة الوطنية، ص 29.
(8) … السابق، ص 28.
ثم يؤكد هذا بقوله: "إن مبدأ المساواة القانونية والتواد الاجتماعي مقرر، تسبغ به صفة المواطنة على غير المسلمين"(1).
- بل يزيد : "إن غير المسلم يستطيع تولي كل الوزارات، ويستطيع تولي القضاء، بل ويستطيع تولي رئاسة الجمهورية"(2)!
ويكتب بحثاً بعنوان "أحكام الولاية العامة لغير المسلمين"(3) يورد فيه الشبهات التي يراها تؤيد رأيه الشاذ هذا. ملخصها كما يقول: "لقد غدت الغلبة العددية للمسلمين في بلادهم، ولم يعد ثمة موجب للخشية على إسلام المسلم من مساهمة غير المسلمين مع المسلمين في الشؤن العامة"!!
وكأن المانع من توليتهم هو الخوف على إسلام المسلمين، وليس اتباع النصوص الشرعية التي تحذر من هذا الأمر الشنيع الذي يعلم الله ضرره على دولة الإسلام. ولهذا أكد هذا التحذير في آيات كثيرة؛ يأتي في مقدمتها قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً…) الآية. قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيرها: "أي من غيركم من أهل الأديان" وقال -بعد أن ذكر أثر عمر في عدم توليتهم الكتابة-: "ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التي يُخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب".(52/244)