(يبدو لي أن أول ما ينبغي إيضاحه منذ الآن ، هو أنه لم يكن عسيرا علي ، وليس عسيرا على أي قارئ غيري ، اكتشاف كون المؤلف " عبد الله القصيمي " خاضعا في معظم أفكاره وتأملاته وخواطره إلى عدد من الضغوط النفسية والفكرية العنيفة ، التي يصح أن نجعلها كلها في حالة أو وحدة تؤلف ما نسميه بالأزمة ، إذا لم نسمها عقدة ).
(2) ويقول أدونيس ( شيخ الحداثيين ) :
( عبد الله القصيمي لا تستطيع أن تمسك به ، فهو صراخ يقول كل شيء ولا يقول شيئا ، يخاطب الجميع ولا يخاطب أحدا ، إنه الوجه والقفا ).
(3) ويتحدث مخائيل نعيمة عن كتاب القصيمي ( العالم ليس عقلا ) فيقول :
( إنه كتاب هدم ونفي من الطراز الأول - هدم الآلهة والأخلاق والفضائل والثورات والمثل العليا والغايات الشريفة ، ولاعجب فأنت في أول فصل تنفي أن يكون لوجود الإنسان أي معنى ، والذي لا يعرف لوجود الإنسان ولعبقريته أي معنى كيف يكون لكلامه أي معنى ؟
إن قلمك ليقطر ألما ومرارة واشمئزازا وحقدا على خنوع الجماهير لا العباقرة ، ولو كان لمثل حقدك أن تصنع قنبلة لكانت أشد هولا من قنبلة هيروشيما ).
( شهادة القصيمي .... على نفسه بالمرض النفسي !! )
وهذه نصوص ننقلها لكم من كتاب القصيمي ( العالم ليس عقلا ) تبين مدى انهياره النفسي والعاطفي وما أصابه من عقد وأزمات، تخفي وراء الألفاظ الجميلة الأدبية ما تخفيه من ألم الحرمان، وصراع ومرض النفسي!
يقول القصيمي تحت عنوان ( قصيدة بلا عروض ) :
( إن كل دموع البشر تنصب في عيوني، وأحزانهم تتجمع في قلبي، وآلامهم تأكل أعضائي .. ليس لأني قديس، بل لأني مصاب بمرض الحساسية ) !!!
ويقول :
( دعوني أبكي فما أكثر الضاحكين في مواقف البكاء ، دعوني أحزن فما أكثر المبتهجين أمام مواكب الأحزان ، دعوني أنقد فما أكثر المعجبين بكل التوافه ، دعوني احتج على نفسي )
ويقول وهو يقصد نفسه :
( لا تسيئوا فهمه لا تنكروا عليه أن ينقد أو يتهم أو يعارض أو يتمرد أو يبالغ أو يقسو ... إنه ليس شريرا ولا عنيفا ولا عدوا ولا ملحدا ، ولكنه متألم حزين ، يبذل الحزن والألم بلا تدبير ولا تخطيط ، كما تبذل الزهرة أريجها أو الشمعة نورها ! لقد تناهى في حزنه وضعفه حتى بدا عنيفا ... ليس نقده إلا رثاء للعالم ورثاء لنفسه ، بل ليس نقده إلا تمزقا ذاتيا ).
( ما هو موقف الناس من القصيمي ؟ )
يقف الناس بالأمس واليوم من عبد الله القصيمي وقفات مختلفة ... يمكن أن نوجزها فيما يلي كما يقول ( بعض الباحثين ) :
(1) أناس استنكروا واشمأزوا وقرفوا من القصيمي وآثاره ، وحجتهم أنه رجل ارتد إلي الإلحاد بعد الإيمان بالله ، وبعد الاندفاع في تعظيم القيم الروحية . وأنه بلغ حدا بعيدا في التطاول على المعتقدات الدينية والروحية والتراث الأخلاقي ، وراح يدعو جهرة إلى الإلحاد والهدم ، بروح ملؤها النقمة على كل شيء !
(2) وأناس آخرون قرأوا ما كتبه القصيمي بكثير من السخرية ، واتهموه أنه مجنون ، أو أنه مصاب بمرض نفساني ، وحجتهم أن ما يكتبه كله متناقض ، كل سطر ينقض الذي قبله ، وهذا فريق استمسك بأحكام المنطق والعقل .
(3) وفريق ثالث قرأوا ما كتبه القصيمي بإعجاب لأنه أتى بما لم يأت به أحد قبله - على حد تعبيرهم .
وهذا فريق من الشباب الناشئ الذي لم يؤت ثقافة واسعة يستطيع أن يرد الأمور بها إلى نصابها ..!
ويمكن أن نبين هذا التقسيم أكثر كالتالي :
(أ) فئة يمثلها العلماء والمشايخ وكبار المفكرين الإسلاميين ، وهذه الفئة لما نظرت في فكر القصيمي وتطاوله على الذات الإلهية ، وطعنه في صلى الله عليه وسلم ، وطعنه في الدين ، حكمت بضلاله وكفره وارتداده بما قام لديها من براهين وأدلة من مقاله وكتابته تدل على انسلاخه من الدين ، وانعتاقه من ربقة الإيمان .
وهذه الفئة لم تعول كثيرا على الطرح الأدبي أو الجانب العقلي التحليلي النقدي بل ركزت على صلب الموضوع أساس الحكم ، وهو عقيدة الرجل في الله والرسالة والدين ، فوجدته ينقض كل ذلك بكلام واضح جلي لا يمكن تأويله أو حمله على وجه حسن .
(ب) فئة يمثلها جهابذة النقد الأدبي والعقلي والمنطقي ، من تيارات مختلفة ومتباينة ( كالشيوعية ، والاشتراكية ، والليبرالية ، والحداثية ) وهؤلاء نظروا لإنتاج القصيمي من ناحية حكم العقل والمنطق ، ووصلوا إلى أن فكر الرجل سطحي ومبعثر ومتناقض ومضطرب ، ولا يعد فكرا أكثر من أن يعد أوهام نفسية ، واضطرابات عقلية .
(ج) فئة يمثلها الشباب المندفع في أحضان الفلسفات الغربية، والمعجب بالثورة على كل شيء، كما يمثلها أصحاب المراهقة الفكرية، أو العبثية، وهذه الفئة تنظر إلى القصيمي كمثال التحرر والثورة والانطلاق .
( القصيمي وإعادة نشر رفات الأموات ! )
بدأت ألاحظ هذه الأيام اهتمام متزايد بشخصية عبد الله القصيمي !
ليس اهتماما علميا، ينقد فكر الرجل وانتاجه، كلا ... بل هو اهتمام دعائي إعلامي ، يروج لفكر عبد الله القصيمي، ولشخصيته؛ غاضا النظر عن حقيقة الرجل وخطورته وتهافت أطروحته !(51/126)
وهكذا بلينا في عالمنا الإسلامي - وللأسف - بثلة من الصحفيين ليس لهم هم إلا إخراج فرقعات وفقاعات إعلامية ليس لها هدف إلا الإثارة، دون النظر إلى حقيقة المثار هل هو من ثوابت الأمة وعقيدتها أم هو من الاجتهادات الفرعية .
وكم هو صادق من قال: إن في كل مجتمع ثمة طالب للشهرة ، البعض يريدها من أسهل وأقصر طريق ، ومن ثم فهو يتحدث عن الله أو كتابه أو سنة رسوله ، حديثا يعلم الكل عدم سلامته أو صدقه ، ومع ذلك نجد أن ذلك صار زادا يوميا ، هنا وهناك ، حتى صرنا ندور في حلقة مفرغة ، فالاستبداد يفضي إلى تخلف العقل، وتخلف العقل يؤدي إلى تخلف التربية ، وتخلف التربية يقود إلى نقد " التراث الديني " وهكذا نبقى كخنفسة في صوف ، ننتقل من المشاكل السياسية إلى المشاكل الثقافية والاجتماعية والتاريخية ، دون حسم لأي منها .
وهؤلاء " الأبطال " يخافون إلى حد " الموت " من الحاكم ، فلا يقولون في حقه كلمة ، لكنهم يظهرون عضلاتهم ضد الإسلام وضد الله تعالى وكتابه ورسوله، وأحيانا ضد الأمة وتاريخها وجميع ما أنجزت، لكننا لم نعرف لهم بطولات خارج ذلك .
ومن المقالات الحديثة التي طالعتنا بها الصحف العربية ، بخصوص عبد الله القصيمي، مقال كتبه أحدهم يقول فيه:
(إنه من المؤسف أن يتفجر في العالم العربي أديب بحجم القصيمي ولا نرى إلا نادرا من يكتب عنه ، أو يعمد من باب اللياقة إلى التذكير بأدبه وكتبه وأفكاره الفلسفية ، من المحزن أن يكون الجيل الجديد بعيدا كل البعد عن هذه المعرفة ).
أقول: عجيب والله !!! ومحزن حقا أن يحزن الكاتب - هداه الله - من أجل أن جيلنا هذا بعيد عن فكر عبد الله القصيمي، ألم يكن من الأجدر - لو كان منصفا - أن يقول: من المحزن أن يكون الجيل الجديد بعيدا كل البعد عن القرآن الكريم والسنة الشريفة ، قريبا جدا من القنوات المشفرة، والراقصة، والتجارية الإباحية ؟
نسأل الله لنا وله وللجميع الهداية والعافية ...
أخوكم/ صخرة الخلاص .
==============(51/127)
(51/128)
الوجه الآخر للدكتور طه حسين (1من ؟ )
طه حسين أسم لامع في سماء الأدب العربي المعاصر ، فاقت شهرته الوطن العربي إلى العالم بأسره بعدما صدر كتابه ( في الشعر الجاهلي )
لكن عميدنا أخذ حقاً لا يستحقه وإذا عرف السبب بطل العجب فنحن العرب خير من يمتدح وأسرع من يذم دون أن نعرف لماذا مدحنا ولما ذممنا ، المهم أن نجد الممدوح ممدوحاً لنمدحه أو مذموماً لنذمه ، ولا زلنا على هذا الحال حتى كتابة هذه الأسطر ، ولعلنا في نقل حقائق تاريخية عن هذه الشخصية نساهم في تعرية أمتنا العربية المبجلة قبل أن نعري شخوصها.
ومما حز في نفسي أن يتم اختيار نجيب محفوظ لجائزة نوبل حتى نصفق له ولأدبه الجنسي الماجن بينما يرحل الدكتور نجيب الكيلاني ولا أجد من يتحدث عنه وللحق وجدت في أحد الصحف السعودية وفي أحدى صفحاتها الداخلية سطراً واحداً يخبرنا برحيل هذا الأديب العملاق لا لشيء إلا أنه يعد أديبً إسلامي حسب تصنيفاتهم .
لنعد إلى عميدنا العربي
قدم فضيلة الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالي بالأزهر بلاغاً إلى النيابة بتاريخ 30مايو لسنة 1926 م ضد الدكتور طه حسين الأستاذ بالجامعة المصرية وتلاه البلاغ الثاني تقدم به شيخ الجامع الأزهر بتاريخ 5 يونيو لسنة 1926 م ثم البلاغ الثالث مقدم من عضو مجلس النواب عبدالحميد البنان بتاريخ 14 سبتمبر 1926 م .
التهم المقدمة ضد الدكتور طه حسين حول نشره كتاب أسماه في الشعر الجاهلي والذي يحتوي على طعن صريح في القرآن الكريم وفي الرسو صلى الله عليه وسلم ونسبه الشريف والطعن في الدين الإسلامي والذي هيج به المتدينين وأخل في النظم العامة بدعوته للفوضى .
حيث ذكر في كتابه ( في الشعر الجاهلي ) الصفحة 26 ما نصه [ للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً ، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة ، وبين الإسلام واليهود والقرآن والتوراة من جهة أخرى] انتهى النص
وفي نفس الكتاب تكلم عن القراءات السبع للقرآن والثابتة لدى المسلمين وزعم إنها قراءات للعرب استحدثوها لتسهيل قرأت القرآن
وفي الصفحة 27 طعن في نسب صلى الله عليه وسلم ما نصه ( ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه إلى قريش فلأمر ما اقتنع الناس بأن صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون صفوة بني هاشم وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي وأن تكون قصي صفوة قريش وقريش صفوة مضر ، ومضر صفوة عدنان ، وعدنان صفوة العرب ، والعرب صفوة الإنسانية كلها ) انتهى النص من الكتاب
كذالك أنكر أن للإسلام أولية في بلاد العرب وأنه دين إبراهيم وهذا نص قوله في الصفحة80 ( أما المسلمون فقد أرادوا أن يثبتوا أن للإسلام أولية في بلاد العرب ، كانت قبل أن يبعث النبي وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أو حاه الله إلى الأنبياء من قبل ) وفي الصفحة 81 قال ( وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة يجدد دين إبراهيم ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور ، ثم أعرضت عنه لما أضلها به المضلون وانصرفت إلى عبادة الأوثان ) أنتهى النص
ومن ما يثير العجب كذالك أن كتاب الدكتور طه حسين ( الشعر الجاهلي ) لم يكن من بنات أفكار طه حسين !!!
ويعود الفضل في انكشاف أمر هذه السرقة التاريخية إلى تلميذه ، الأستاذ محمود محمد شاكر .
وهنا يحدثكم الأستاذ محمود محمد شاكر بلسانه .
( قال لي وهو يبتسم أي المرحوم أحمد تيمور باشا - اقرأ هذه !!! . فإذا فيها مقالة للأعجمي المستشرق مرجليوث ، تستغرق في نحو اثنتين وثلاثين صفحة من هذه المجلة [المجلة الأسيوية الناطقة باللغة الإنجليزية في عدد يوليو 1925 م ]
بعنوان نشأة الشعر العربي وكنت خبيراً بهذا الأعجمي التكوين ، التكوين البدني والعقلي منذ قرأت كتابه عن محمد رسو صلى الله عليه وسلم ، أخذت المجلة وانصرفت وقرأت المقالة وزاد الأعجمي سقوطاً على سقوطه ، كان كل ما أراد أن يقوله : أنه يشك في صحة الشعر الجاهلي ، لا بل أن هذا الشعر الجاهلي الذي نعرفه هو في الحقيقة شعر إسلامي وضعه الرواة المسلمون في الإسلام ونسبوه إلى أهل الجاهلية وسخفاً في خلال ذالك كثيراُ . ولأني عرفت حقيقة الأستشراق لم ألق بالاً إلى هذا الذي قرأت وعندي الذي عندي من هذا الفرق الواضح بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي ) انتهى النص(51/129)
ثم يضيف الأستاذ محمود محمد شاكر ( كان ما كان ، ودخلنا الجامعة وبدأ الدكتور طه حسين يلقي محاضراته التي عرفت بكتاب [ في الشعر الجاهلي ] ومحاضرة بعد محاضرة وفي كل مرة يرتد ألي رجع هذا الكلام الأعجمي الذي غاص في يم النسيان وثارت نفسي وعندي الذي عندي من المعرفة بخبيئة هذا الذي يقوله الدكتور طه حسين ، وعندي الذي عندي من هذا الإحساس المتوهج بمذاق الشعر الجاهلي كما وصفته آنفاً والذي استخرجته بالتذوق وبالمقارنة بينه وبين الشعر الأموي والعباسي . وأخذني ما خذني من الغيظ وما هو أكبر من الغيظ ، وما هو أكبر وأشنع من الغيظ ولكني بقيت زمناً لا أستطيع أن أتكلم .
والسبب في ذالك [ الأدب ] الذي كان يؤدب به الآباء الأبناء ، فكان التلميذ يهاب أن يكلم أستاذه ) انتهى النص
وهنا يصف الأستاذ محمود محمد شاكر اليوم الذي واجه فيه أستاذه الدكتور طه حسين .
(ضللت أتجرع الغيظ بحتاً ، وأنا أصغي إلى الدكتور طه حسين في محاضراته ولكني لا أستطيع أن أتكلم ... لا أستطيع أن أناظره كفاحاً وجهاً لوجه وكل ما أقوله فإنما أقوله في غيبته لا في مشهده ، تتابعت المحاضرات وكل يوم يزداد وضوحاً هذا السطو العريان على مقالة مرجليوث ويزداد في نفسي وضوح الفرق بين طريقتي في الإحساس بالشعر الجاهلي وبين هذه الطريق التي يسلكها الدكتور طه حسين في تزييف هذا الشعر .
وفي اليوم التالي جاءت اللحظة الفاصلة في حياتي فبعد المحاضرة طلبت من الدكتور طه حسين أن يأذن لي في الحديث فأذن لي مبتهجاً أو هكذا ظننت وبدأت حديثي عن هذا الأسلوب الذي أسماه منهجاً وعن تطبيقه لهذا المنهج في محاضراته وعن هذا الشك الذي أصطنعه ما هو ؟ وكيف هو ؟ وبدأت أدلل أن الذي يقوله عن المنهج وعن الشك غامض وأنه مخالف لما يقوله ديكارت وأن تطبيقه منهجه هذا قائم على التسليم تسليماً لم يدخله الشك بروايات في الكتب هي بذاتها محفوفة بالشك . وفوجئ طلبة قسم اللغة العربية بما ذكرت ولما كدت أفرغ من كلامي انتهرني الدكتور طه وقام وقمنا لنخرج وانصرف عني كل زملائي الذين استنكروا غضاباً ما واجهت به الدكتور طه ولم يبقى معي إلا محمود محمد الخضيري .
وبعد قليل أرسل الدكتور يناديني فدخلت عليه فجعل يعاتبني يقسوا حيناً ويرفق أحياناً وأنا صامت لا أستطيع أن أرد . لم أستطع أن أكاشفه بأن محاضرته التي نسمعها كلها مسلوخة من مقالة مرجليوث لأنها مكاشفة جارحة من صغير إلى كبير ولكني كنت أعلم أنه يعلم من خلال ما أسمع من حديثه ، ومن صوته ، ومن كلماته ، ومن حركاته أيضاً !
وكتمان هذه الحقيقة في نفسي يزيدني عجزاً عن الرد عن الاعتذار إليه أيضاً وهو ما كان يرمي إليه ، ولم أول صامتاً مطرقاً حتى وجدت نفسي كأني أبكي من ذل العجز فقمت فجأة وخرجت غير مودع ولا مبالي بشي .
ومن يومئذ لم أكف عن مناقشة الدكتور في المحاضرات أحياناً بغير هيبة ، ولم يكف هو عن استدعائي بعد المحاضرات فيأخذني يميناً وشمالاً في المحاورة وأنا ملتزم بالإعراض عن ذكر سطوه على مقالة مرجليوث صارفاً همي كله إلى موضوع المنهج والشك وإلى ضرورة قراءة الشعر الجاهلي والأموي والعباسي قراءة متذوقة مستوعبة ليستبين الفرق بين الشعر الجاهلي والإسلامي أو ألتماس الشبه لتقرير أنه باطل النسبة وأنه موضوع في الإسلام ومن خلال روايات في الكتب هي ذاتها محتاجة إلى النظر والتفسير ، ولكن من يومئذ أيضاً لم أكف عن إذاعة الحقيقة التي اكتمها في حديثي مع الدكتور طه ، وهي أنه سطا سطواً كريهاً على مقالة المستشرق الأعجمي فكان بلا شك يبلغه ما أذيعه بين زملائي .
وطال الصراع غير المتكافئ بيني وبين الدكتور طه زماناً إلى أن جاء الذي عزمت فيه على أن أفارق مصر كلها لا الجامعة وحدها غير مبال بإتمام دراستي الجامعية طالباً للعزلة حتى أستبين لنفسي وجه الحق في قضية الشعر الجاهلي بعد أن صارت عندي قضية متشعبة كل التشعب .
ثم زاد الأمر عندي بشاعة فظعت بها حين نشر كتابه في الأدب الجاهلي [ حذف منه فصل ، وأضيف إليه فصول وغير عنوانه بعض التغيير ]
كان أبشع ما في الكتاب الفصل الأول الذي زاده بعنوان [ الكتاب الأول : الأدب وتاريخه ] لأنه جاء تسويغاً لهذا السطو وزيادة في هذا الادعاء بأنه قد أمتلك ما سطا عليه امتلاكاً لا ريبة فيه ! واستعلاء أيضاً ودلالة صريحة على أنه لا يبالي أقل مبالاة بكل ما سمعه من أنه سطا على مقالة مرجليوث بين أسوار الجامعة ولا بالكتب التي ألفت وطبعة في نقد كتابه والتي كشفت هذا السطو بالدليل والبرهان مع أن الأمر لا يحتاج إلى برهان أو دليل وجميعها كتب يقرأها الناس كيف يكون هذا ؟ !!
وبأي جراءة يستطيع طه أن يلقى الناس ؟ !
أي احتقار هذا للناس وأي استهزاء بهم وبقولهم هو أبشع من هذا ؟ !! لا أدري ) انتهى النص(51/130)
ولم يقف الدكتور طه حسين إلى هذا الحد من استحقار الغير بل تدرج به الأمر حتى وصل إلى أبعد من مرجليوث لقد وصل هذه المرة إلى السطو على كتاب محمود محمد شاكر ( المتنبي ) والذي كتبه في عدد خاص من مجلة المقتطف بمناسبة مرور ألف عام على رحيل المتنبي حيث نشر في عام 1936 م وبعد أقل من عام نشر الدكتور طه حسين كتابه [ مع المتنبي ] الذي يعده الأستاذ محمود محمد شاكر حاشية على ثلاثة كتب هي كتاب الأستاذ محمود محمد شاكر المتنبي وكتاب للدكتور عبدالوهاب عزام وكتاب للمستشرق بلاشير .
ويحدثنا الأستاذ محمود محمد شاكر عن هذه الواقعة بلسانه ( في سنة 1935 م كان الدكتور طه حسين في قمة مجده الذي حازه بالضجة التي ثارت حول كتابه في الشعر الجاهلي وأنه كان يروح ويغدو على ذراها يملآه الزهو والخيلاء ويميد به العجب !! [ في هذا العام كتب الدكتور طه حسين مقالات عن جيل محمود محمد شاكر ويصفه بأنه جيل مفرغ من ثقافة أمته]
ويقول الأستاذ محمود محمد شاكر .
أنني حين قرأت شهادة الدكتور طه حسين على جيلنا المفرغ من ثقافة أمته في سنة 1935 م توهمت بحسن الضن أنه سوف يبدأ عهداً جديداً في تفكيره وأنه سيفارق السنة التي سنها هو والأساتذة الكبار أعني سنة السطو وسنة التلخيص ولما فرغت من قراءة آخر مقالاته سنة 1935 م وجدت أنه يحاول أن يسلك طريق تذوق الشعر . وجاء أسبوع الاحتفال بمرور ألف سنة على وفاة أبي الطيب المتنبي بدار الجمعية الجغرافية سنة 1936 م .
وقبل ذالك بأيام كان قارئ الدكتور طه حسين المصاحب له قد لقيني في الطريق فأخبرني أن صاحبه يعني طه حسين يرى أن المتنبي [ لقيط لغية ] فاستكبرت ذالك واستنكرته مستعيذاً بالله من سوء ما أسمع.
كنت لم ألق الدكتور طه حسين منذ فارقت الجامعة سنة 1928 م حتى كان أسبوع هذا الاحتفال ، وفي أول يوم من الأسبوع بدأ الدكتور محاضرته واستفتحها قائلاً :
( لقد شك بعض الناس في نسب المتنبي ، وأنا أو افقه على هذا الشك )
يقول الأستاذ محمود شاكر : فكرت أقوم من فوري لأرد عليه ولأعلمه أني حاضر غير غائب . فقد غاظني زهوه وخيلائه وعنجهيته وهو يرتل ألفاظه ترتيلاً ليجمع أنظار الناس إلى مخرج كلماته كعادته في الزهو . وكان في جواري أحد الأساتذة المقربين إليه فأحس بما هممت به فأمسكني وقال :
لا تعجل !
فقلت له :
إذاً فأبلغ طه حسين أن موافقته أو مخالفته لا تعني عندي قرشاً ماسحاً تتلافظه الأيدي في الأسواق لأنه لفاظة لا تصلح للتداول
وانتهت المحاضرة .
وعند انصرافي رآني أستاذنا عبدالحميد العبادي رحمه الله فأقبل وأخذ بيدي وخرجنا من القاعة وإذا نحن فجأة خلف الباب خلف الدكتور طه حسين حين انصرافه .
فعزم علي أستاذنا العبادي أن أسلم على الدكتور فا ستعلن غضبي وأبيت ، ولكن لم أكد حتى سمعته يقول للدكتور طه حسين
- هذا محمود شاكر يا دكتور
- فوقفت والتفت التفاته يسيره ومددت يدي فسلمت وغلبني الحياء والخجل مما لقيني به من فرط البشاشة و الحفاوة
ثم أخبرني أنه قرأ كتابي كله وجاء بثناء لم أكن أتوقعه ، وطال وأفاض وغمرني ثناؤه حتى ساخت بي الأرض فمات لساني في فمي فلم أستطع أن أنبس بحرف حتى فرغ وهو آخذ بيدي لا يرسلها إلى أن ركب
- وافترقنا
لم أرتح إلى هذه الحفاوة المفرطة ولا إلى حديثه المسهب الذي يرشح ثناء وإطراء ورابني من أمره لأني أعرفه
فلما لقيت الشيخ مصطفى عبدالرزاق في داره بعد أيام وكان قد ذكرني بكلمته التي ألقاها في أسبوع المتنبي بثثت الشيخ ما في نفسي من الارتياب في أمر الدكتور وأني مقبلاً على تجرع أحد فعلاته !
فاستنكر الشيخ حديثي استنكاراً شديداً وغضب مزوراً عن كلامي وقال :
لا تكن سيء الضن بأستاذك وأمسك عليك لسانك وأوهامك !
وكل ما سمعه الشيخ مني سرعان ما تحقق على الوجه الذي فصلته تفصيلاً صريحاً وكان ما كان ورجعت حليمة إلى عادتها القديمة كما يقال في المثل بل هي لم تفارق عادتها قط ولا تملك أن تفارقها .
ففي يناير سنة 1937 م أي بعد أقل من عام منذ ظهور كتابي كان ما توقعته كالذي حدثت به الشيخ حيث نشرت لجنة التأليف والترجمة والنشر كتاب الدكتور طه حسين مع المتنبي في جزءان كبيران وهذا الكتاب هو حاشية كبرى على ثلاثة كتب أولها كتابي ثم كتاب الأستاذ عبدالوهاب عزام ثم كتاب بلاشير عن المتنبي !!!
ونحن هنا لا نفخر بأننا أو من كتب تاريخ المتنبي على هذا الوضع الذي تراه في كتابنا ولكنا نقر ذالك إقراراً للحق وبياناً للذي فعله الدكتور طه حسين أخذ آراءنا فأفسدها ووضعها في غير موضعها واستغلها بغير حقها وأخرج كتابه على غرار كتابنا
غير متهيب و لا متورع من مذمة أو أثم
أغراه في ذالك ما يعلم من عظيم شهرته وبعيد صيته وما يعلم مما نحن فيه من الخفاء والصمت وقلة الاكتراث بالدعاية الملفقة لأنفسنا ) أنتهى النص
وللحديث بقية نبدأها من ردت فعل الأستاذ محمود محمد شاكر على سرقة كتابه ونكمل كشف الوجه الآخر لعميد الأدب العربي
وفي ردت فعل الأستاذ محمود محمد شاكر على سرقة طه حسين لكتابه كتب اثنتي عشر مقالة نشرها في صحيفة البلاغ(51/131)
ونترك الأستاذ محمود محمد شاكر يحدثنا بلسانه :
( في 13 فبراير سنة 1937 م كتبت المقالة الأولى من المقالات التي جعلت عنوانها [ بيني وبين طه ] وحين بدأت اكتب كنت حددت طريقي تحديداً كاملاً هو أن أواجه الدكتور طه بثلاثة حقائق :
الحقيقة الأولى : أنه في أكثر أعماله يسطو على أعمال الناس سطواً عرياناً أحياناًُ أو متلفعاً بالتذاكي والاستعلاء والعجب أحياناً أخرى .
الحقيقة الثانية : أنه لا بصر له في الشعر و لا يحسن تذوقه على الوجه الذي يتيح للكاتب أن يستخرج دفائنه وبواطنه دون أن يقع في التدليس والتلفيق .
الحقيقة الثالثة : أن منطقه في كلامه كله مختل وأنه يستره بالتكرار والترداد والثرثرة .
ويكمل الأستاذ محمود محمد شاكر حديثه :
وإذا كان غيري قد قبل راضياً بما يفعله الدكتور بجهده ونصبه ومعاناته أو قبل ذالك صامتاً على مضض اتقاء لمعرة لسانه أو هيبة لما حازه من المجد والذكر والصيت أو مخافة من سوء ضن الناس به أو رجاء لخير يتوقعه على يديه فإني أبيت ... أبيت في سنة 1937 م أن أستخذي لهذا السطو والإرهاب الثقافي وأخذت هذه المقالة الأولى وذهبت إلى دار صحيفة البلاغ إلى أستاذنا إبراهيم عبدالقادر المازني وسألته أن يقدمني إلى صاحب [البلاغ] عبدالقادر حمزة باشا ولم أذكر له شيئاً مما أريده فقدمني 'ليه وانصرف ، وبعد حديث قصير عرفته بنفسي ، أخرجت المقالة ومددت يدي بها إليه ، وقرأ العنوان
[ بيني وبين طه ] والأسطر الأولى ثم نظر إلي وقال بهدوئه الركين :
[ قد قرأت عدد المقتطف ولكني لم أرى كتاب الدكتور طه ، ثم عاد يقرأ حتى فرغ . ثم وضع المقال أمامه على المكتب وقال :
لماذا كل هذا العنف ؟!
فبدأت أحدثه عن أولية أمري مع الدكتور طه في الجامعة حتى بلغت ما كان منه يوم دار الجمعية الجغرافية وما أفضيت به من شكوكي إلى الشيخ مصطفى عبدالرزاق وما تحقق من هذه الشكوك بتأليفه كتاب [مع المتنبي] وكان حسن استماعه لي وإصغائه يزيدني عنفاً في الحديث فلما بلغت الغاية وسكت .
قال لي :
ألا تخاف الدكتور طه ؟!
فقلت :
إني لا أهابه بل أنا أعرفه ، وأعرف أنه إذا ما قرأ المقالة الأولى وما بعدها سوف يعرف ما عندي والذي عندي من أدلة سطوه على آخرين سوف يمنعه أن يتكلم ولو تكلم فما كل بيضاء شحمة ولا كل سوداء ثمرة !
فضحك وقال يالك من مخاصم عنيد !
ثم قال :
سأنشر كل ما كتبته ولكني أحب كذا وكذا !
نصيحة ضمنت بعضها أول المقالة الثانية .
وكنت حريصاً منذ أول ما كتبت أن أكشف في مقالاتي الأولى عن أساليبه المتنوعة الماهرة في السطو العريان وعن أساليبه أيضاً في السطو الخفي الذي يحاول بالثرثرة البارعة أن يجعل ما سطا عليه يبدو كأنه رأي ما ارتآه هو بعد بحث ودرس وتنقيب وتحقيق إلى آخر ألفاظه التي يغري الناس بها عن الحقيقة . ومع ذالك فأنا أستطيع أن أقول :
إن الذي ذكرته منها بلا تفصيل في مقالاتي هو جماع أساليبه التي درب عليها من قبل في كتابيه : كتاب [في الشعر الجاهلي] وهو الحاشية الصغرى على مقالة [مرجليوث] وفي توأمة المعدل بعد أن علت به السن وهو كتاب[في الأدب الجاهلي] وهو الحاشية الكبرى على المقالة .
ومضيت أكتب أسبوعاً بعد أسبوع في البلاغ بعنوان واحد هو [بيني وبين طه] من بلاغ يوم السبت 2 من ذي الحجة سنة 1355 الموافق 3 فبراير سنة 1937 إلى أن كان اليوم الأخير من صفر سنة 1356 الموافق 10 مايو 1937 لم أكد أفرغ من كتابة المقالة الثانية عشر حتى جاءني نعي أستاذي وصديقي مصطفى صادق الرافعي رحمه الله فا نهدم في نفسي كل ما كان قائماً وذهب الدكتور طه وكتابه جميعاً من نفسي تحت الهدم .
وكذالك لم يكن مقدراً لي أن أتمم هذه المقالات على الوجه الجامع لأني لم أتجاوز في نقدي كتاب الدكتور طه الصفحة الثانية والتسعين من 711 صفحة . أنتهى النص
كتب الأستاذ محمود محمد شاكر قصته مع الدكتور طه حسين بعنوان ( لمحة من فساد حياتنا الأدبية )
ويقول الأستاذ محمود محمد شاكر ( فاقرأ غير مأمور ما كتبته في المقالات الثلاث فستعلم علم اليقين أن حياتنا الأدبية والثقافية والفكرية عامة والسفه المؤدي إلى انتقاص عري العقل عروة عروة حتى أثمرت هذه الثمرة اليانعة النضيرة التي تتحلى بها حياتنا الأدبية اليوم [1977] وتتميز تميزاً ظاهراً في كتابة الكتاب وبحث الباحثين لا يكاد واحدنا يستثني نفسه فهو جليس صاحب الكير [الحداد] إن لم تحرقه ناره ناله من شره .(51/132)
أما الآن فإني أتلفت إلى الأيام الغابرة البعيدة حين كنت أشفق من مغبة السنن التي سنها الأساتذة الكبار [ تلخيص ] أفكار عالم آخر ، ويقضي أحدهم عمره كله في هذا التلخيص دون أن يشعر بأنه محفوف بالأخطار ودون أن يستنكف أن ينسب إلى نفسه نسبة تجعله عند الناس كاتباً ومؤلفاً وصاحب فكر ، هذا ضرب من التدليس كريه ، ومع ذالك فهو أهون من السطو المجرد حين يعمد الساطي إلى ما سطا عليه فيمزقه ثم يغرقه ويغرق في ثرثرة طاغية ليخفي معالم ما سطا عليه وليصبح عند الناس صاحب فكر ورأي ومذهب يعرف به وينسب كل فضله له ومع ذالك فهذا أيضاً أهون من الاستخفاف بتراث متكامل بلا سبب وبلا بحث ، وبلا نظر ثم دعوة من يعلمون علماً جازماً أنه غير مطيقاً لما أطاقوا دعوته إلى الاستخفاف به كما استخفوا ومع ذالك فهذا أهون مما فعلوه وسنوه من سنة الإرهاب الثقافي الذي جعل ألفاظ القديم والجديد والتقليد والتجديد والتخلف والتقدم والجمود والتحرر وثقافة الماضي وثقافة العصر سياطاً ملهب بعضها سياط حث وتخويف لمن أطاع وأتى وبعضها سياط عذاب لمن خاف وأبى .
أتلفت اليوم ما أشفقت منه قديماً من فعل الأساتذة الكبار لقد ذهبوا بعد أن تركوا من حيث أرادوا أو لم يريدوا ، حياة أدبية وثقافية قد فسدت فساداً وبيلاً على مدى نصف قرن وتجددت الأساليب وتنوعت وصار السطو على أعمال الناس أمراً مألوفاً غير مستنكر يعيش في الناس طليقاً عليه طيلسان البحث العلمي وعالمية الثقافة والثقافة الإنسانية وإن لم يكن محصوله إلا ترديداً لقضايا غريبة صاغها غرباء صياغة مطابقة لمناهجهم ومنابتهم ونظراتهم في كل قضية واختلط الحابل بالنابل .
قل ذالك في الأدب والفلسفة والتاريخ والفن أو ما شئت فإنه صادق صدقاً لا يتخلف فالأديب مصور بقلم غيره والفيلسوف مفكر بعقل سواه ، والمؤرخ ناقد للأحداث بنظر غريب عن تاريخه والفنان نابض قلبه بنبض أجنبي عن تراث فنه ) انتهى النص .
من وجهة نظري
وبعد أن قرأنا شهادة الأستاذ محمود محمد شاكر لابد أن نذكر رائنا في الأستاذ محمود شاكر حيث اعتقد رغم كل ما فعله لم يكن إيجابياً بالشكل المطلوب ولعل له بعض العذر عندما كان تلميذاً يجلس في مدرج الجامعة لينهل من علم أستاذه الدكتور طه حسين ، حيث يمنعه من التصريح التأدب مع أستاذه والذي ذكره في قوله السابق وكذالك أن الدكتور طه حسين صاحب فضل على الأستاذ محمود محمد شاكر بمساعدته ليلتحق بالكليات الأدبية حيث يقول الأستاذ محمود محمد شاكر ( وللدكتور طه حسين علي يداً لا أنساها ، كان مدير الجامعة يومئذ أحمد لطفي السيد يرى أن لا حق لحامل بكلوريا القسم العلمي في
الالتحاق بالكليات الأدبية ملتزماً بذالك بظاهر الألفاظ فاستطاع الدكتور طه أن يحطم هذا العائق بشهادته لي وبإصراره أيضاً فدخلت يومئذ بفضله قسم اللغة العربية وحفظ الجميل أدب لا ينبغي التهاون فيه ) انتهى النص .
لكن لا يمكن أن نقتنع بالمبرر الذي ذكره الأستاذ محمود محمد شاكر حتى يتوقف عن أكمال مقالاته النقدية [بيني وبين طه] بسبب وفاة صديقه مصطفى صادق الرافعي خصوصاً أن صاحب صحيفة البلاغ عبدالقادر حمزة باشا قد شرع الأبواب أمام الأستاذ شاكر ليجلد به الدكتور طه حسين ولو لم يكن مقتنعاً أو راغباً بذالك لما وافق على نشر المقالات
لذالك سبب توقف الأستاذ شاكر عن نشر المقالة الثانية عشر من وجهة نظري الخاصة كان في عدم وجود ردة فعل معاكسة من قبل الدكتور طه حسين وربما لم تحدث تلك المقالات ردت فعل في الشارع الثقافي والسبب فارق المكانة بين الدكتور طه حسين والأستاذ محمود محمد شاكر فربما كان الأستاذ شاكر مغموراً وهذا ما استوحيته .
وهذا أن دل أنما يدل على ذكاء الدكتور طه حسين ورزانته في عدم الانجرار خلف تلك المقالات التي لن يكون له وقع أن تم تجاهلها وهذا ما حدث بالفعل ، وكان الأحرى بالأستاذ شاكر عدم الركون إلى اليأس والصبر واستغلال تلك الصحيفة فربما لو استمر أكثر سيخرج المارد من قمقمه الذي يتحصن به وهي مكانته في الشارع المصري وسطوته وخشية الكتاب من تسلط لسانه مما يقلل من مكانتهم ويدخلهم في صراع لا يرون داعياً له ، فلو تم ذالك وجر رجله في مناوشات صحفية ستكون الغلبة للأستاذ شاكر الذي يتضح تمكنه من الشعر الجاهلي خصوصاً والشعر الإسلامي عموماً ، كذالك شخصية طه حسين من النوع المداهن وهذا ما سيتضح لاحقاً عندما نستمر بتعريته أكثر والشخصية المداهنة وأن امتلكت زمام الأمور دائماً هي للجبن أقرب.
وحتى لا نحمل الأستاذ شاكر أكثر فليس هو الوحيد الذي تصدى للدكتور طه حسين بل كثير من الأقلام التي لها وزنها من أمثال فريد وجدي ومحمد عرفه والرافعي والغمراوي ولطفي جمعة و رشيد رضا ومحب الدين الخطيب .
وكذالك الدكتور محمد محمد حسين أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة الإسكندرية ويعد باحث أكاديمي متخصص له باع طويل وهذا ما يجعل رائه له قيمة كبيرة لذالك سيكون شاهدنا الثاني على الدكتور طه حسين من خلال كتاب مستقبل الثقافة في مصر والذي يقول عنه الدكتور محمد حسين أنه هذا الكتاب شديد الخطر ...........(51/133)
الدكتور محمد محمد حسين يقول عن كتاب طه حسين ( مستقبل الثقافة في مصر )
[ أما كتاب مستقبل الثقافة في مصر فقد ظهر سنة 1938 م حين كان الناس يكثرون من التحدث عن مستقبل مصر بعد المعاهدة التي عقدتها مع انجلترا سنة 1936 م فأراد المؤلف أن يرسم للناس سبل النهضة التعليمية في عهد نهضتها واستقلالها كما يقول في مقدمة كتابه !!!
وهذا الكتاب شديد الخطر وترجع خطورته إلى أن صاحبه شغل مناصب كبيرة في الدولة مكنته من تنفيذ برامجه وإرساء أسس تنفيذها على الأقل فقد كان عميداً لكلية الآداب بالقاهرة ، وكان مديراً عاماً للثقافة بوزارة المعارف وكان مستشاراً فنياً بها ، وكان مديراً لجامعة الإسكندرية وكان آخر الأمر وزيراً للتربية والتعليم ، ثم أن شهرته وكثرة المعجبين به وتأثر الكثرة الكبيرة من تلاميذه بآرائه ومناهجه وافتتانهم بها قد زاد في خطورة أثره ، ولم يكن هذا الإعجاب والافتتان به وبآرائه راجعاً إلى شخصه وحده وإلى ما أحيط به من دعاية ، ولكنه يرجع أيضاً إلى ظروف البيئة .
ويمكن رد ما حواه الكتاب إلى ثلاثة أصول هي :
1- الدعوة إلى حمل مصر على الحضارة الغربية وطبعها بها وقطع ما يربطها بقديمها وبإسلامها
2- الدعوة إلى أقامة الوطنية وشئون الحكم على أساس مدني لا دخل فيه للدين و بعبارة أصرح دفع مصر إلى طريق ينتهي بها إلى أن تصبح حكومتها لا دينية
3- الدعوة إلى إخضاع اللغة العربية لسنة التطور ودفعها إلى طريق ينتهي باللغة الفصحى التي نزل بها القرآن الكريم إلى أن تصبح لغة دينية فحسب كالسريانية والقبطية واللاتينية واليونانية
حيث يرى الدكتور طه حسين أن سبيل النهضة واضح بين مستقيم ليس فيه عوج ولا التواء وهو أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها حلوها ومرها وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب
حيث يرد مؤلف الكتاب طه حسين على خصوم الحضارة الأوربية ممن يشفقون على كياننا الديني فيقول :
أن الحياة الأوربية ليست أثماً كلها ، ففيها خير كثير .
ويستدل على ذالك بأنها حققت للأوربيين رقياً لا شك فيه والإثم الخالص لا يمكن من الرقي
ويرد عليهم أيضاً بأن الحضارة الإسلامية الرائعة لم يأت بها المسلمون من بلاد العرب وإنما أتوا ببعضها من هذه البلاد وببعضها الآخر من مجوس الفرس وببعضها الآخر من نصارى الروم ، وقد احتمل المسلمين راضين أو كارهين زندقة الزنادقة ومجون الماجنين قاوموا ذالك في الحدود المعقولة ولكنهم لم يرفضوا الحضارة الأجنبية التي أنتجت تلك الزندقة وهذا المجون انتهى النص .
ويضيف الدكتور محمد حسين [ لذالك فالمؤلف ( طه حسين ) لا يطالب بإلغاء المدارس الأجنبية في مصر ، بل يقرر أن نافر من ذالك أشد النفور ، لا لأن التزاماتنا الدولية تحول بيننا وبين ذالك ، بل لأن حاجتنا تدعو إلى الاحتفاظ بهذه المدارس والمعاهد
وقد مهد المؤلف ( طه حسين ) لما أراد أن يذهب إليه من اتخاذ الحضارة الأوربية طريقاً لها فبدأ بالفقرة الثانية من كتابه متسائلاً :
أمصر من الشرق أم من الغرب ؟ !!
وأخذ يستعرض تاريخ مصر منذ أقدم عصورها موازناً بين ما كان من إقرار الفراعنة للمستعمرات اليونانية قبل الألف الأولى قبل المسيح وبين ما كان من نفور المصريين من الفرس وثورتهم عليهم . وانتهى من ذالك إلى قوله :
ومعنى هذا كله آخر الأمر بديهي ، يبتسم الأوربي حين ننبئه به لأنه عنده من الأوليات ، ولكن المصري والشرقي العربي يلقيانه بشيء من الإنكار والازورار ، يختلف باختلاف حضهما من الثقافة والعلم وهو :
أن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل أن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط ، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط . انتهى النص
ويحلل الدكتور محمد حسين كلام طه حسين قائلاً [ إذاً فالعقل المصري القديم ليس عقلاً شرقياً ، إذا فهم من الشرق الصين واليابان والهند وما يتصل بها من الأقطار .
وقد نشأ هذا العقل المصري في مصر متأثراً بالظروف الطبيعية والإنسانية التي أحاطت بمصر وعملت على تكوينها ... فإذا لم يكن بد من أن نلتمس أسرة للعقل المصري نقره فيها فهي أسرة الشعوب التي عاشت حول بحر الروم .
وفي السبيل على التدليل على اعتبار صلات مصر بالغرب أوثق من صلاتها بالشرق كثيراً ما جآر الدكتور طه حسين على التاريخ كي يقيم مذهبه الذي يزعمه ولا مانع عنده من قلب الحقائق وذالك في مثل تصويره العرب غزاة ، دخلاء لا يطمئن إليهم المصريون في الوقت الذي يصورهم فيه مطمئنين إلى الفتح اليوناني لا ينكرونه ولا يتمردون عليه ، فيقول الدكتور طه حسين في العرب :(51/134)
( والتاريخ يحدثنا كذالك بان رضاها ( يعني مصر ) عن السلطان العربي بعد الفتح لم يبرأ من السخط ولم يخلص من المقاومة والثورة وبأنها لم تهدأ ولم تطمئن إلا حين أخذت تسترد شخصيتها المستقلة في ضل ابن طولون وفي ضل الدول المختلفة التي قامت بعده ) ثم يقول الدكتور طه حسين عن الفتح اليوناني ( فلما كان فتح الإسكندر للبلاد الشرقية واستقرار خلفائه في هذه البلاد اشتد اتصال الشرق بحضارة اليونان ، واشتد اتصال مصر بهذه الحضارة بنوع خاص وأصبحت مصر دولة يونانية أو كاليونانية ، وأصبحت الإسكندرية عاصمة من عواصم اليونان الكبرى في الأرض )
ويمعن الدكتور طه حسين في التضليل والتزييف والتزوير فيحاول أن يبين أن الإسلام لم يخرج المصري عن مصريته ولا ينبغي له أن يفعل وقيس ذالك بالمسيحية التي لم تخرج الأوربي عن خصائصه الأوربية .
ثم يعقد مقارنة بين الإسلام والمسيحية ليصل منها إلى ما يريد أن يدعيه من تقاربهما واتفاقهما في التأثر بالفكر اليوناني ولينتهي من ذالك إلى تأكيد وحدة الحضارة في حوض البحر الأبيض المتوسط ويختم ذالك بقوله ( ولا ينبغي أن يفهم المصري أن الكلمة التي قالها إسماعيل وجعل بها مصر جزءاً من أوربا قد كانت فناً من فنون التمدح ولوناً من ألوان المفاخرة ، وإنما كانت مصر دائماً جزءاً من أوربا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية على اختلاف فروعها وألوانها ) !!!
ويقرر الدكتور طه حسين بعد ذالك كله أن سبيل الحضارة الغربية هو السبيل الذي لابد لنا من سلوكه والمعنى فيه لا لأن تاريخنا يؤيد هذا المذهب في زعمه ، ولا لأن مصلحتنا تقتضي ذالك على ما يدعي ولكن لأن التزاماتنا الدولية في المعاهدة التي يسميها ( معاهدة الاستقلال ) تجبرنا على ذالك ، فيقول الدكتور طه حسين [ بل نحن قد خطونا أبعد جداً مما ذكرت فالتزامنا أمام أوربا أن تذهب مذهبها في الحكم ، وتسير سيرها في الإدارة ونسلك طريقها في التشريع . التزامنا بهذا كله أمام أوربا . هل كان إمضاء ( معاهدة الاستقلال ) . ومعاهدة إلغاء الامتيازات إلا التزاماً صريحاً قاطعاً أمام العالم المتحضر بأننا نسير مسيرة الأوربيين في الحكم والإدارة والتشريع ؟ فلو هممنا الآن آن نعود إدراجنا وأن نحيي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذالك سبيلا ولوجدنا أمامنا عقبات لا تجتاز ولا تذلل ]
وفي أعماق الدكتور طه حسين جرح غائر من الأزهر لمواقفه منه بدءاً من رسوبه وفشله في الحصول على شهادة العالمية منه ثم تصدي الأزهر له بسبب كتابه ( في الشعر الجاهلي ) لهذا ينضح كتاب ( مستقبل الثقافة في مصر ) حقداً وعداوة على للأزهر .
وأول ما ينبغي أن يزال عند طه حسين هو الأزهر .
فهو يتحدث عنه أول ما يتحدث في الفقرة السابقة من كتابه فيصوره أثراً من مخلفات العهود المتأخرة المنحطة ومشكلة المشاكل التي تتطلب حلاً وذالك حين يقول ( وقد استبقينا الأزهر الشريف نفسه ولكن أزمة الأزهر الشريف متصلة منذ عهد إسماعيل أو قبله ولم تنته بعد وما أضنها ستنتهي اليوم أو غداً ولكنها ستستمر صراعاً بين القديم والحديث حتى تنتهي إلى مستقر لها في يوم من الأيام .
ويحتل مؤلف الكتاب طه حسين لذالك الأزهر الذي لا يستطيع المجاهرة بإلغائه لأن وقت ذالك لم يحن بعد فيطالب بأن تشرف الدولة على التعليم الابتدائي والثانوي فيه ما دام مصراً على أن يستقل بهما بنفسه .
ومؤلف الكتاب طه حسين لا يخفي هدفه هذه المرة ولكنه يصرح به في بوضوح :
فجل ما يضايقه في الأزهر هو فهمه الإسلامي للوطنية . والذي يهدف إليه طه حسين هو أن يدخل في أدمغة أبنائه ويروض تلاميذه وخريجيه على فهم الوطنية فهماً إقليمياً حيث يقول طه حسين [ ولابد من تطور طويل دقيق قبل أن يصل الأزهر إلى الملائمة بين تفكيره وبين التفكير الحديث والنتيجة الطبيعية لهذا أننا إذا تركنا الصبية والأحداث للتعليم الأزهري الخالص لم نشملهم بعناية الدولة ورعايتها وملاحظتها الدقيقة المتصلة عرضناهم لأن يصاغوا صيغة قديمة ويكونوا تكويناً قديماً وباعدنا بينهم وبين الحياة الحديثة التي لابد لهم من الاتصال بها والاشتراك فيها وعرضناهم لطائفة غير قليلة من المصاعب التي تقوم سبيلهم حين يرشدون وحين ينهضون بأعباء الحياة العملية فالمصلحة الوطنية العامة من جهة ومصلحة التلاميذ والطلاب الأزهريين من جهة أخرى تقتضيان إشراف وزارة المعارف على التعليم الأولي والثانوي في الأزهر .
ويختم طه حسين مشاريعه البعيدة المدى بالدعوة إلى إنشاء معهد الدراسات الإسلامية بكلية الآداب ينافس الأزهر الذي لا سبيل إلى السيطرة عليه والتحكم في توجيهه والطلب نفسه ليس بدعاً ولكن البدع الخطير هو السبب الذي بنى عليه الدعوة حين قال الدكتور طه حسين ( وليس من شك أن طبيعة الحياة المصرية تقتضي أن تعنى كلية الآداب عناية خاصة بالدراسات الإسلامية على نحو علمي صحيح )(51/135)
والدكتور طه حسين لا يريد أن ينشئ هذه الدراسات في كلية الآداب بوصفها إحدى كليات الجامعة في بلد إسلامي ولكنه يريد أن ينشئها لتدريس الإسلام على النحو الذي يسميه ( نحواً علمياً صحيحاً ) والذي فسره بعد ذالك مباشرة حين مضى يقول ( لأن كلية الآداب متصلة بالحياة العلمية الأوربية وهي تعرف جهود المستشرقين في الدراسات الإسلامية ) .
أما الهدف الثالث الذي كان يهدف إليه طه حسين من كتابه ( مستقبل الثقافة في مصر ) : فهو تطوير اللغة العربية حتى يصبح الفرق بين لغة الكتابة والأدب وبين لغة القرآن مثل الفرق بين الفرنسية واللاتينية !!! .
يقول الدكتور طه حسين ( أن اللغة العربية عسيرة لأن نحوها مازال قديماً عسيراً ولأن كتابتها ما زالت قديمة وعسيرة ) .
ويقول في تقرير له قدمه إلى نجيب الهلالي حين كان وزيراً للمعارف سنة 1935 م : ( الناس مجمعون على أن تعليم اللغة العربية وآدابها في حاجة شديدة إلى الإصلاح ) ويقول أيضاً ( ولسنا نزعم أن الأمر يقتضي أحداث ثورة عنيفة على القديم وتغيير العلوم اللغوية والأدبية فجأة وفي شيء يشبه الطفرة ) .
ولا يكتفي طه حسين بالدعوة إلى إصلاح قواعد اللغة العربية بل هو يريد كما يقول ( أن نعمد إلى إصلاح أعمق من هذا الإصلاح يتناول الكتابة والقراءة ويعصم الناس "إلى حد بعيد من الخطأ حين يكتبون وحين يقرؤون ) .
والأهداف الخطيرة للدكتور طه حسين تدور حول ما يسميه مشكلة اللغة العربية فيقول الدكتور طه حسين ( والمشكلة تأتي في نظري مما يضفي عليه رجال الدين من قداسة باعتبارها لغة دينية ).
فهو يريد أن يعتبرها لغة وطنية أولاً قبل كل شيء فهي في رأي الدكتور طه حسين ملك لنا نتصرف فيها كما نشاء ولاحق لرجال الدين في أن يفرضوا وصايتهم عليها في أن يقوموا دونها للمحافظة عليها !!! .
وأخطر ما في هذه الفقرة هو قول الدكتور طه حسين (وفي الأرض أمم متدينة كما يقولون وليست أقل منا إيثاراً لدينها ولا احتفاظاً به ولا حرصاً عليه ولكنها تقبل من غير مشقة ولا جهد أن تكون لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها وتصطنعها لتأدية أغراضها ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخاصة التي تقرأ بها كتبها المقدسة وتؤدي صلاتها . فاللاتينية مثلاً هي اللغة الدينية لفريق من النصارى واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر والقبطية هي اللغة الدينية لفريق ثالث والسريانية هي اللغة الدينية لفريق رابع ) .
ومن هذا ترى أن الدكتور طه حسين لا يرى بأساً من أن تتطور لغة الكتابة الأدبية في العربية حتى يصبح الفرق بين اللغة الفرنسية واللغة اللاتينية وهنا فيما يبدو هو سبب آخر يضاف على الأسباب السابقة التي تدفع الدكتور طه حسين في كتابه إلى مهاجمة الأزهر والمطالبة بعزله عن الوصاية على اللغة العربية . انتهى النص
وهنا سنورد شيئاً من ما قاله زعيم حزب مصر الفتاة المرحوم بأذن الله تعالى أحمد حسين عن موقف طه حسين من الأزهر ومدرس العلوم الدينية علماً أن هذا الرجل سنستشهد به عن عند التطرق لحياة طه حسين الشخصية ( زوجته ، تنصره )
يقول أحمد حسين [ لم يكن بيني وبين الدكتور طه حسين أي خصومة فضلاً عن عداء ، وأنا لا أنافسه على لقب حصل عليه في حياته ، وليست لي أدنى رغبة في التنقيص من قدره بعد وفاته فها أنا ذا أقرر وبأعلى صوتي أن طه حسين كان وسيبقى أحد أعلام مصر الموهوبين ، ومن مفاخر مصر بحكم ما انتهى إليه .
ولكني من ناحية آخري أرفض كل ما كان يمثله طه حسين ويرمز إليه وينطق به حتى صار وزيراً ، وأشهد أن كل كلمة نطق بها طه حسين أو كتبها إلا وقصد بها التخريب والتدمير لمقوماتنا كشرقيين مسلمين وأدهش أنه بعد هذا التحول الذي انتهى إليه طه حسين في شيخوخته ، فلم يقل حرفاً واحداً عن آرائه السابقة مما يدلنا نحن شخصياً على أنه كان مرتبطاً مع آخرين لقول ما قال ورغبة في ( إبقاء الطابق مستوراً ) . فلم يتعرض لهذه الأقوال بحرف واحد ، وهو أمر شاذ وغير طبيعي بالنسبة لكاتب كبير والله تعالى أعلم ] .
وتحت عنوان ( هجوم على الأزهر وفروعه ) يقول أحمد حسين [ وإذا كان التعبير السابق يعد ثورة على الإسلام من قائله ، فقد أبى هذا القائل إلا أن يقوم بالدور الذي رسم له فراح يعمل على تقويض الأزهر وكل المؤسسات التي انبثقت عنه وأثبتت نجاحاً منقطع النظير كمدرسة دار العلوم التي أخرجت مدرسين للغة العربية لا مثيل لهم من قبل أو من بعد ، نادى طه حسين بوجوب إغلاق هذه المدرسة وشقيقتها مدرسة القضاء الشرعي ، فقد كان الشرط الأساسي في طلابها حفظ القرآن الكريم وهو ما يعتبر ه طه حسين منتهى التخلف ، وأنشأ في كلية الآداب البديل لدار العلوم وهو قسم اللغة العربية الذي يستغني فيه عن حفظ القرآن بتعلم اللغة اللاتينية لغة ( الكتاب المقدس ) .(51/136)
وقد شاء الله العلي القدير الذي أنا مدين له كأي كائن آخر بكل شيء ، شاء العلي القدير أن أشهد فجيعة طه حسين في تنفيذ مخططه ، فقد كتبت عام 1930 م وحضرت إحدى محاضرات طه حسين في فصوله الجانبية ، وكان فصلاً لقسم ( الليسانس ) الذي سيتخرج طلابه بعد قليل ليكونوا مدرسين للغة العربية ، ودعاء طه حسين أحد طلابه اللامعين ، يقرأ فإذا به يرتكب غلطة فاحشة من مثل رفع الاسم بعد حرف من حرف الجر وطلب منه طه حسين إعادة القراءة فإذا به يكرر نفس الغلطة الفاحشة واستوقفه طه حسين وسأله :
ما هي حروف الجر ؟
وأجاب الشاب بطريقة لا يحسد عليها ، وطلب منه طه حسين أن يعيد القراءة فطالع كما اعتاد أن يطلع وانفجر طه حسين ، وإني لأتصور الآن انفجاره لم يكن على الطالب ولكنه كان على جهوده الضائعة إذ لم تستطع اللاتينية أن تمكن أستاذاً سوف يعلم العربية أن ينطق كما ينطق بالعربية ، ولكن طه حسين كان لا يزال ماضياً في منهاجه ، أن على مصر أن تقطع كل صلاتها بالعروبة وبالإسلام ، فثقافتها أوربية رضيت أو لم ترضى ، وهي أقرب إلى الإغريق ، ويجب أن تنقل الحضارة الغربية بحلوها ومرها وخيرها وشرها ذالك هو قدر مصر الذي لا فكاك منه وتأييداً لذالك فكان يسفر إلى فرنسا ليقيم مع أهل زوجته بضعة شهور .
الدكتور محمد محمد حسين يقول عن كتاب طه حسين ( مستقبل الثقافة في مصر )
[ أما كتاب مستقبل الثقافة في مصر فقد ظهر سنة 1938 م حين كان الناس يكثرون من التحدث عن مستقبل مصر بعد المعاهدة التي عقدتها مع انجلترا سنة 1936 م فأراد المؤلف أن يرسم للناس سبل النهضة التعليمية في عهد نهضتها واستقلالها كما يقول في مقدمة كتابه !!!
وهذا الكتاب شديد الخطر وترجع خطورته إلى أن صاحبه شغل مناصب كبيرة في الدولة مكنته من تنفيذ برامجه وإرساء أسس تنفيذها على الأقل فقد كان عميداً لكلية الآداب بالقاهرة ، وكان مديراً عاماً للثقافة بوزارة المعارف وكان مستشاراً فنياً بها ، وكان مديراً لجامعة الإسكندرية وكان آخر الأمر وزيراً للتربية والتعليم ، ثم أن شهرته وكثرة المعجبين به وتأثر الكثرة الكبيرة من تلاميذه بآرائه ومناهجه وافتتانهم بها قد زاد في خطورة أثره ، ولم يكن هذا الإعجاب والافتتان به وبآرائه راجعاً إلى شخصه وحده وإلى ما أحيط به من دعاية ، ولكنه يرجع أيضاً إلى ظروف البيئة .
ويمكن رد ما حواه الكتاب إلى ثلاثة أصول هي :
1- الدعوة إلى حمل مصر على الحضارة الغربية وطبعها بها وقطع ما يربطها بقديمها وبإسلامها
2- الدعوة إلى أقامة الوطنية وشئون الحكم على أساس مدني لا دخل فيه للدين و بعبارة أصرح دفع مصر إلى طريق ينتهي بها إلى أن تصبح حكومتها لا دينية
3- الدعوة إلى إخضاع اللغة العربية لسنة التطور ودفعها إلى طريق ينتهي باللغة الفصحى التي نزل بها القرآن الكريم إلى أن تصبح لغة دينية فحسب كالسريانية والقبطية واللاتينية واليونانية
حيث يرى الدكتور طه حسين أن سبيل النهضة واضح بين مستقيم ليس فيه عوج ولا التواء وهو أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها حلوها ومرها وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب
حيث يرد مؤلف الكتاب طه حسين على خصوم الحضارة الأوربية ممن يشفقون على كياننا الديني فيقول :
أن الحياة الأوربية ليست أثماً كلها ، ففيها خير كثير .
ويستدل على ذالك بأنها حققت للأوربيين رقياً لا شك فيه والإثم الخالص لا يمكن من الرقي
ويرد عليهم أيضاً بأن الحضارة الإسلامية الرائعة لم يأت بها المسلمون من بلاد العرب وإنما أتوا ببعضها من هذه البلاد وببعضها الآخر من مجوس الفرس وببعضها الآخر من نصارى الروم ، وقد احتمل المسلمين راضين أو كارهين زندقة الزنادقة ومجون الماجنين قاوموا ذالك في الحدود المعقولة ولكنهم لم يرفضوا الحضارة الأجنبية التي أنتجت تلك الزندقة وهذا المجون انتهى النص .
ويضيف الدكتور محمد حسين [ لذالك فالمؤلف ( طه حسين ) لا يطالب بإلغاء المدارس الأجنبية في مصر ، بل يقرر أن نافر من ذالك أشد النفور ، لا لأن التزاماتنا الدولية تحول بيننا وبين ذالك ، بل لأن حاجتنا تدعو إلى الاحتفاظ بهذه المدارس والمعاهد
وقد مهد المؤلف ( طه حسين ) لما أراد أن يذهب إليه من اتخاذ الحضارة الأوربية طريقاً لها فبدأ بالفقرة الثانية من كتابه متسائلاً :
أمصر من الشرق أم من الغرب ؟ !!
وأخذ يستعرض تاريخ مصر منذ أقدم عصورها موازناً بين ما كان من إقرار الفراعنة للمستعمرات اليونانية قبل الألف الأولى قبل المسيح وبين ما كان من نفور المصريين من الفرس وثورتهم عليهم . وانتهى من ذالك إلى قوله :
ومعنى هذا كله آخر الأمر بديهي ، يبتسم الأوربي حين ننبئه به لأنه عنده من الأوليات ، ولكن المصري والشرقي العربي يلقيانه بشيء من الإنكار والازورار ، يختلف باختلاف حضهما من الثقافة والعلم وهو :(51/137)
أن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل أن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط ، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط . انتهى النص
ويحلل الدكتور محمد حسين كلام طه حسين قائلاً [ إذاً فالعقل المصري القديم ليس عقلاً شرقياً ، إذا فهم من الشرق الصين واليابان والهند وما يتصل بها من الأقطار .
وقد نشأ هذا العقل المصري في مصر متأثراً بالظروف الطبيعية والإنسانية التي أحاطت بمصر وعملت على تكوينها ... فإذا لم يكن بد من أن نلتمس أسرة للعقل المصري نقره فيها فهي أسرة الشعوب التي عاشت حول بحر الروم .
وفي السبيل على التدليل على اعتبار صلات مصر بالغرب أوثق من صلاتها بالشرق كثيراً ما جآر الدكتور طه حسين على التاريخ كي يقيم مذهبه الذي يزعمه ولا مانع عنده من قلب الحقائق وذالك في مثل تصويره العرب غزاة ، دخلاء لا يطمئن إليهم المصريون في الوقت الذي يصورهم فيه مطمئنين إلى الفتح اليوناني لا ينكرونه ولا يتمردون عليه ، فيقول الدكتور طه حسين في العرب :
( والتاريخ يحدثنا كذالك بان رضاها ( يعني مصر ) عن السلطان العربي بعد الفتح لم يبرأ من السخط ولم يخلص من المقاومة والثورة وبأنها لم تهدأ ولم تطمئن إلا حين أخذت تسترد شخصيتها المستقلة في ضل ابن طولون وفي ضل الدول المختلفة التي قامت بعده ) ثم يقول الدكتور طه حسين عن الفتح اليوناني ( فلما كان فتح الإسكندر للبلاد الشرقية واستقرار خلفائه في هذه البلاد اشتد اتصال الشرق بحضارة اليونان ، واشتد اتصال مصر بهذه الحضارة بنوع خاص وأصبحت مصر دولة يونانية أو كاليونانية ، وأصبحت الإسكندرية عاصمة من عواصم اليونان الكبرى في الأرض )
ويمعن الدكتور طه حسين في التضليل والتزييف والتزوير فيحاول أن يبين أن الإسلام لم يخرج المصري عن مصريته ولا ينبغي له أن يفعل وقيس ذالك بالمسيحية التي لم تخرج الأوربي عن خصائصه الأوربية .
ثم يعقد مقارنة بين الإسلام والمسيحية ليصل منها إلى ما يريد أن يدعيه من تقاربهما واتفاقهما في التأثر بالفكر اليوناني ولينتهي من ذالك إلى تأكيد وحدة الحضارة في حوض البحر الأبيض المتوسط ويختم ذالك بقوله ( ولا ينبغي أن يفهم المصري أن الكلمة التي قالها إسماعيل وجعل بها مصر جزءاً من أوربا قد كانت فناً من فنون التمدح ولوناً من ألوان المفاخرة ، وإنما كانت مصر دائماً جزءاً من أوربا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية على اختلاف فروعها وألوانها ) !!!
ويقرر الدكتور طه حسين بعد ذالك كله أن سبيل الحضارة الغربية هو السبيل الذي لابد لنا من سلوكه والمعنى فيه لا لأن تاريخنا يؤيد هذا المذهب في زعمه ، ولا لأن مصلحتنا تقتضي ذالك على ما يدعي ولكن لأن التزاماتنا الدولية في المعاهدة التي يسميها ( معاهدة الاستقلال ) تجبرنا على ذالك ، فيقول الدكتور طه حسين [ بل نحن قد خطونا أبعد جداً مما ذكرت فالتزامنا أمام أوربا أن تذهب مذهبها في الحكم ، وتسير سيرها في الإدارة ونسلك طريقها في التشريع . التزامنا بهذا كله أمام أوربا . هل كان إمضاء ( معاهدة الاستقلال ) . ومعاهدة إلغاء الامتيازات إلا التزاماً صريحاً قاطعاً أمام العالم المتحضر بأننا نسير مسيرة الأوربيين في الحكم والإدارة والتشريع ؟ فلو هممنا الآن آن نعود إدراجنا وأن نحيي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذالك سبيلا ولوجدنا أمامنا عقبات لا تجتاز ولا تذلل ]
وفي أعماق الدكتور طه حسين جرح غائر من الأزهر لمواقفه منه بدءاً من رسوبه وفشله في الحصول على شهادة العالمية منه ثم تصدي الأزهر له بسبب كتابه ( في الشعر الجاهلي ) لهذا ينضح كتاب ( مستقبل الثقافة في مصر ) حقداً وعداوة على للأزهر .
وأول ما ينبغي أن يزال عند طه حسين هو الأزهر .
فهو يتحدث عنه أول ما يتحدث في الفقرة السابقة من كتابه فيصوره أثراً من مخلفات العهود المتأخرة المنحطة ومشكلة المشاكل التي تتطلب حلاً وذالك حين يقول ( وقد استبقينا الأزهر الشريف نفسه ولكن أزمة الأزهر الشريف متصلة منذ عهد إسماعيل أو قبله ولم تنته بعد وما أضنها ستنتهي اليوم أو غداً ولكنها ستستمر صراعاً بين القديم والحديث حتى تنتهي إلى مستقر لها في يوم من الأيام .
ويحتل مؤلف الكتاب طه حسين لذالك الأزهر الذي لا يستطيع المجاهرة بإلغائه لأن وقت ذالك لم يحن بعد فيطالب بأن تشرف الدولة على التعليم الابتدائي والثانوي فيه ما دام مصراً على أن يستقل بهما بنفسه .
ومؤلف الكتاب طه حسين لا يخفي هدفه هذه المرة ولكنه يصرح به في بوضوح :(51/138)
فجل ما يضايقه في الأزهر هو فهمه الإسلامي للوطنية . والذي يهدف إليه طه حسين هو أن يدخل في أدمغة أبنائه ويروض تلاميذه وخريجيه على فهم الوطنية فهماً إقليمياً حيث يقول طه حسين [ ولابد من تطور طويل دقيق قبل أن يصل الأزهر إلى الملائمة بين تفكيره وبين التفكير الحديث والنتيجة الطبيعية لهذا أننا إذا تركنا الصبية والأحداث للتعليم الأزهري الخالص لم نشملهم بعناية الدولة ورعايتها وملاحظتها الدقيقة المتصلة عرضناهم لأن يصاغوا صيغة قديمة ويكونوا تكويناً قديماً وباعدنا بينهم وبين الحياة الحديثة التي لابد لهم من الاتصال بها والاشتراك فيها وعرضناهم لطائفة غير قليلة من المصاعب التي تقوم سبيلهم حين يرشدون وحين ينهضون بأعباء الحياة العملية فالمصلحة الوطنية العامة من جهة ومصلحة التلاميذ والطلاب الأزهريين من جهة أخرى تقتضيان إشراف وزارة المعارف على التعليم الأولي والثانوي في الأزهر .
ويختم طه حسين مشاريعه البعيدة المدى بالدعوة إلى إنشاء معهد الدراسات الإسلامية بكلية الآداب ينافس الأزهر الذي لا سبيل إلى السيطرة عليه والتحكم في توجيهه والطلب نفسه ليس بدعاً ولكن البدع الخطير هو السبب الذي بنى عليه الدعوة حين قال الدكتور طه حسين ( وليس من شك أن طبيعة الحياة المصرية تقتضي أن تعنى كلية الآداب عناية خاصة بالدراسات الإسلامية على نحو علمي صحيح )
والدكتور طه حسين لا يريد أن ينشئ هذه الدراسات في كلية الآداب بوصفها إحدى كليات الجامعة في بلد إسلامي ولكنه يريد أن ينشئها لتدريس الإسلام على النحو الذي يسميه ( نحواً علمياً صحيحاً ) والذي فسره بعد ذالك مباشرة حين مضى يقول ( لأن كلية الآداب متصلة بالحياة العلمية الأوربية وهي تعرف جهود المستشرقين في الدراسات الإسلامية ) .
أما الهدف الثالث الذي كان يهدف إليه طه حسين من كتابه ( مستقبل الثقافة في مصر ) : فهو تطوير اللغة العربية حتى يصبح الفرق بين لغة الكتابة والأدب وبين لغة القرآن مثل الفرق بين الفرنسية واللاتينية !!! .
يقول الدكتور طه حسين ( أن اللغة العربية عسيرة لأن نحوها مازال قديماً عسيراً ولأن كتابتها ما زالت قديمة وعسيرة ) .
ويقول في تقرير له قدمه إلى نجيب الهلالي حين كان وزيراً للمعارف سنة 1935 م : ( الناس مجمعون على أن تعليم اللغة العربية وآدابها في حاجة شديدة إلى الإصلاح ) ويقول أيضاً ( ولسنا نزعم أن الأمر يقتضي أحداث ثورة عنيفة على القديم وتغيير العلوم اللغوية والأدبية فجأة وفي شيء يشبه الطفرة ) .
ولا يكتفي طه حسين بالدعوة إلى إصلاح قواعد اللغة العربية بل هو يريد كما يقول ( أن نعمد إلى إصلاح أعمق من هذا الإصلاح يتناول الكتابة والقراءة ويعصم الناس "إلى حد بعيد من الخطأ حين يكتبون وحين يقرؤون ) .
والأهداف الخطيرة للدكتور طه حسين تدور حول ما يسميه مشكلة اللغة العربية فيقول الدكتور طه حسين ( والمشكلة تأتي في نظري مما يضفي عليه رجال الدين من قداسة باعتبارها لغة دينية ).
فهو يريد أن يعتبرها لغة وطنية أولاً قبل كل شيء فهي في رأي الدكتور طه حسين ملك لنا نتصرف فيها كما نشاء ولاحق لرجال الدين في أن يفرضوا وصايتهم عليها في أن يقوموا دونها للمحافظة عليها !!! .
وأخطر ما في هذه الفقرة هو قول الدكتور طه حسين (وفي الأرض أمم متدينة كما يقولون وليست أقل منا إيثاراً لدينها ولا احتفاظاً به ولا حرصاً عليه ولكنها تقبل من غير مشقة ولا جهد أن تكون لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها وتصطنعها لتأدية أغراضها ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخاصة التي تقرأ بها كتبها المقدسة وتؤدي صلاتها . فاللاتينية مثلاً هي اللغة الدينية لفريق من النصارى واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر والقبطية هي اللغة الدينية لفريق ثالث والسريانية هي اللغة الدينية لفريق رابع ) .
ومن هذا ترى أن الدكتور طه حسين لا يرى بأساً من أن تتطور لغة الكتابة الأدبية في العربية حتى يصبح الفرق بين اللغة الفرنسية واللغة اللاتينية وهنا فيما يبدو هو سبب آخر يضاف على الأسباب السابقة التي تدفع الدكتور طه حسين في كتابه إلى مهاجمة الأزهر والمطالبة بعزله عن الوصاية على اللغة العربية . انتهى النص
وهنا سنورد شيئاً من ما قاله زعيم حزب مصر الفتاة المرحوم بأذن الله تعالى أحمد حسين عن موقف طه حسين من الأزهر ومدرس العلوم الدينية علماً أن هذا الرجل سنستشهد به عن عند التطرق لحياة طه حسين الشخصية ( زوجته ، تنصره )
يقول أحمد حسين [ لم يكن بيني وبين الدكتور طه حسين أي خصومة فضلاً عن عداء ، وأنا لا أنافسه على لقب حصل عليه في حياته ، وليست لي أدنى رغبة في التنقيص من قدره بعد وفاته فها أنا ذا أقرر وبأعلى صوتي أن طه حسين كان وسيبقى أحد أعلام مصر الموهوبين ، ومن مفاخر مصر بحكم ما انتهى إليه .(51/139)
ولكني من ناحية آخري أرفض كل ما كان يمثله طه حسين ويرمز إليه وينطق به حتى صار وزيراً ، وأشهد أن كل كلمة نطق بها طه حسين أو كتبها إلا وقصد بها التخريب والتدمير لمقوماتنا كشرقيين مسلمين وأدهش أنه بعد هذا التحول الذي انتهى إليه طه حسين في شيخوخته ، فلم يقل حرفاً واحداً عن آرائه السابقة مما يدلنا نحن شخصياً على أنه كان مرتبطاً مع آخرين لقول ما قال ورغبة في ( إبقاء الطابق مستوراً ) . فلم يتعرض لهذه الأقوال بحرف واحد ، وهو أمر شاذ وغير طبيعي بالنسبة لكاتب كبير والله تعالى أعلم ] .
وتحت عنوان ( هجوم على الأزهر وفروعه ) يقول أحمد حسين [ وإذا كان التعبير السابق يعد ثورة على الإسلام من قائله ، فقد أبى هذا القائل إلا أن يقوم بالدور الذي رسم له فراح يعمل على تقويض الأزهر وكل المؤسسات التي انبثقت عنه وأثبتت نجاحاً منقطع النظير كمدرسة دار العلوم التي أخرجت مدرسين للغة العربية لا مثيل لهم من قبل أو من بعد ، نادى طه حسين بوجوب إغلاق هذه المدرسة وشقيقتها مدرسة القضاء الشرعي ، فقد كان الشرط الأساسي في طلابها حفظ القرآن الكريم وهو ما يعتبر ه طه حسين منتهى التخلف ، وأنشأ في كلية الآداب البديل لدار العلوم وهو قسم اللغة العربية الذي يستغني فيه عن حفظ القرآن بتعلم اللغة اللاتينية لغة ( الكتاب المقدس ) .
وقد شاء الله العلي القدير الذي أنا مدين له كأي كائن آخر بكل شيء ، شاء العلي القدير أن أشهد فجيعة طه حسين في تنفيذ مخططه ، فقد كتبت عام 1930 م وحضرت إحدى محاضرات طه حسين في فصوله الجانبية ، وكان فصلاً لقسم ( الليسانس ) الذي سيتخرج طلابه بعد قليل ليكونوا مدرسين للغة العربية ، ودعاء طه حسين أحد طلابه اللامعين ، يقرأ فإذا به يرتكب غلطة فاحشة من مثل رفع الاسم بعد حرف من حرف الجر وطلب منه طه حسين إعادة القراءة فإذا به يكرر نفس الغلطة الفاحشة واستوقفه طه حسين وسأله :
ما هي حروف الجر ؟
وأجاب الشاب بطريقة لا يحسد عليها ، وطلب منه طه حسين أن يعيد القراءة فطالع كما اعتاد أن يطلع وانفجر طه حسين ، وإني لأتصور الآن انفجاره لم يكن على الطالب ولكنه كان على جهوده الضائعة إذ لم تستطع اللاتينية أن تمكن أستاذاً سوف يعلم العربية أن ينطق كما ينطق بالعربية ، ولكن طه حسين كان لا يزال ماضياً في منهاجه ، أن على مصر أن تقطع كل صلاتها بالعروبة وبالإسلام ، فثقافتها أوربية رضيت أو لم ترضى ، وهي أقرب إلى الإغريق ، ويجب أن تنقل الحضارة الغربية بحلوها ومرها وخيرها وشرها ذالك هو قدر مصر الذي لا فكاك منه وتأييداً لذالك فكان يسفر إلى فرنسا ليقيم مع أهل زوجته بضعة شهور .
واقعة ( اعتناق طه حسين للنصرانية )
وتحت هذا العنوان يقول المرحوم أحمد حسين :
[ وقد ذكر الأستاذ فريد شحاتة موضع سر طه حسين لأربعين سنة ، ومن يقرأ له ويكتب له وينفذ في أخصب سنوات حياته واقعة ضخمة طويلة عريضة وليتصور الكثيرون ، أن الخوض فيها قد يعني التعصب الديني أو يجرح شعور زوجة طه حسين ، أما نحن الذين لا تنطوي نفسيتنا على ذروة التعصب الديني وحيث نؤمن بالإسلام كدين يعلو على سائر الأديان فإن بعض المسيحيين المؤمنين الصادقين يحتلون في نفوسنا مكانة لا يحتلها مسلم فلا التعصب الديني يؤلف شيئاً في حياتنا ولا الخوف من جرح إحساس السيدة زوجة الدكتور طه حسين لسبب بسيط جداً وهو إجلالنا في صدق وإخلاص للسيدة الفاضلة ... ]
ويقول أحمد حسين ما قاله الأستاذ فريد شحاته سكرتير طه حسين طوال أربعين عاماً [ إن الدكتور طه حسين قد اعتنق النصرانية وأقيمت الطقوس المؤدية إلى ذالك في كنيسة قروية بفرنسا ... ]
ويضيف[ ونريد قبل أن نمحص هذه الرواية أن نقرر بداءة ذي بدء أن الإنسان الوحيد في هذه الدنيا الذي يمكن أن يكون لتكذيبه وزن في هذه القضية هي شريكة حياته التي تنصر طه حسين من أجلها .
أما بالنسبة لطه حسين نفسه أن تكذيبه لهذه الرواية لا ينفع في قليل أو كثير ، فا الرجل الذي قالها هو رجل عمره الأوحد ، والمسئولية لا تقل عن كاهل طه حسين لمجرد أن يقول أن الرجل الذي اصطفاه من دون العالمين قد كذب عليه هذه الكذبة الكبرى بكل هذه البساطة وقديماً قالوا شاهداك قتلاك ]
ويضيف أحمد حسين
[ وقبل أن ننتقل إلى فرنسا حيث جرت أحداث الفيلم فنحن نتوقف أمام عمل يشهد له بالقدرة والنبوغ والعبقرية ولكنه في ذات الوقت يقطع بأنه لا يحترم المبادئ ، ولا يقيم وزناً للقيم التي تعارف عليها البشر وأن كل الذي يعنيه هو إثبات ذاته من خلال الخروج على المألوف وما تواضع عليه المجتمع .(51/140)
أما هذا الحدث فهو كتابته في جريدتين ، وفي حالة حرب دائمة وكان كل طرف من الطرفين يعتبر الآخر كافراً ، ومع ذالك كانت كلتا الجريدتين تفسح صدرها لهذا الطالب الأزهري الكفيف ، ويعتبره لطفي السيد تلميذاً نابهاً حيث كان يعتبر عبدالعزيز جاويش رئيس تحرير ( اللواء ) تلميذاً له ، وهذه الواقعة تدل على اقتدار طه حسين طه حسين وذكائه ولكنها في نفس الوقت تقطع بثورته على القيم السائدة فإذا أضفنا ذالك أنه خصص بعض مقالاته للهجوم على مصطفى المنفلوطي الذي كان هو نموذج التقدمية التي حمل لوائها فيما بعد نرى أنه كان ستاراً لغيره ممن يريدون النكاية بالمنفلوطي دون أن يجدوا في أنفسهم الشجاعة فاستخدموا هذا الفتى الضرير الذي لم تنقصه الشجاعة في تحدي الجماهير وكل الذي يهمه هو إثبات ذاته وقدرته وقد كان في هجومه على المنفلوطي يحصي عليه استعمال تركيب وألفاظ أبعد ما تكون عن استعمالات اللغة العربية وغني عن البيان أنه ما كان لشاب مبتدئ فوق كونه كفيفاً أن يخوض مثل هذه المعركة اللغوية إزاء شيخ من فحولها وقيل أن محمد صادق عنبر ( وهو فحل من فحول العربية ) هو الذي كان يزود طه حسين بمادة مقالاته .
هذا الموقف المبكر جداً يتلخص :
- في عدم التقيد بأي قيم .
- الشجاعة في تحدي الجماهير.
- الاستعداد ليكون ستاراً لغيره
هذه العناصر التي ضلت تلازم طه حسين القسم الأكبر من حياته فنحن نراه على سبيل المثال بعد رجوعه قطباً من أقطاب الأحرار الدستوريين ثم نراه يتحول قطباً من أقطاب الوفد ، وهو وضع انفرد به طه حسين . فقد شاهدت مصر أقطاباً يخرجون من الوفد ليصبحوا من معارضيه وربما اشد معارضيه ولكنها لم تجد أبداً في كل حياتها إنساناً عارض الوفد ثم أصبح من أقطابه حتى ليدخل الوزارة .
ولكن طه حسين كان هذا الإنسان الفذ الذي خاصم الوفد أشد الخصام عندما كان الوفد هو القوة الشعبية الساحقة في مصر ثم أصبح من أقطابه دون أن يرى في ذالك أي حرج
عودة إلى الطالب طه حسين في فرنسا
تحت هذا العنوان يقول أحمد حسين [ نرى أمامنا طالباً فقيراً ضريراً ومسلماً ديناً . فيجب أن نتساءل أي فرنسية هذه التي يمكن أن تتزوجه !!!
فنرى استحالة الأمر تقريباً ( لا على الإطلاق بطبيعة الحال ) ولنا أن نتصور أن تكون قد أحبته بالرغم من كل شيء وليس في الحب منطق ذالك متصور من غير شك ، ولكن الزواج الذي هو ربط مصير ، وهو في الدرجة الأولى ربط بين أسرتين ، فمسألة الحب لا تكفي ، إذ يصبح للأسرة شروطها ، حقاً قد تخرج الفتاة عن رغبة أسرتها ، وتتمرد في سبيل من تحب ولكن في هذه الحالة تسقط الأسرة العضو المتمرد عليها ، ولكن في حالة الدكتور طه حسين ، قد تزوج بمباركة الأسرة كلها بما في ذالك عم الزوجة الذي يقال أنه أحد القساوسة أي ابن بار من أبناء الكنيسة المسيحية .
ويكون المطلوب منا أن نلغي عقولنا ، ونتصور أنه منذ سبعين سنة تقريباً حيث كانت فرنسا تعتبر نفسها حامية المسيحية ، قد تزوجت فتاة فرنسية مسيحية ، ومن أسرة ممعنة في المسيحية ، شاباً مصرياً كفيفاً مسلماً ، وتم ذالك بمباركة الأسرة كلها بما فيها ذالك القسيس ومرة أخرى أقول :
أن تصديق هذه الصورة لا يكون ألا بإلغاء عقولنا وتكون رواية الأخ فريد شحاته أقرب الناس إلى طه حسين أربعين سنة هي الرواية الوحيدة التي تفسر لنا هذا الذي حدث ، فلابد أن يكون أشخاص ذوي نفوذ قد أشرفوا على العملية كلها ومولوها ، وتحدثوا عن الدور الخطير الذي سوف يقوم به هذا الشاب الذي ( وأن كان ضريراً ) فهو مقتدر وسوف يعهد له بدور خطير في حياة مصر ، وبغير هذا الضمان والتمويل المالي بمبالغ باهظة ، مع الوعد بتقديم مبالغ أكثر ، وأن يعتنق طه حسين النصرانية كا تأكيد لذالك كله ، وهو الذي يفسر لنا لماذا تم الزواج بموافقة الأسرة كلها ؟؟؟
ولماذا وافقوا على أن تسافر الزوجة إلى المجهول إلى إفريقيا مع شاب فقير ضرير ؟؟؟
إنها قصة لو لم تكن حدثت بالفعل لما صدقها إنسان و لا تعليل لها إلا أنها من نوع قصص المبشرين الذين قصدوا مجاهل إفريقيا ]
ويضيف أحمد حسين [ ولما كنا بنعمة من الله من المؤمنين فلا يمكن أن نقطع بشيء لم تراه أعيننا ولم نكن عليه من الشاهدين فلندع المسئولية عن الرواية للأستاذ فريد شحاته ، ولنقف منها موقفاً محايداً لا يصدق ولا يكذب ولنتحدث عما رأيناه وعاصرناه وعقلناه وهو يجمع كله على أن طه حسين بدأ منذ الدقيقة الأولى لوصوله إلى مصر حرباً شعوا على الإسلام والمؤسسات الإسلامية وأتخذ لنفسه رفيقاً يقرأ ويكتب له ويقوده وكان هذا الرفيق مسيحياً !!!
وأستمر كذالك أربعين سنة ثم حدث الافتراق بعد هذا العمر المديد .(51/141)
سنرى في هذا المنعطف سينهج طه حسين نهجاً جديداً إسلامياً أما حملته على الإسلام لاقتلاعه من جذوره ، فعندما شرع يلقي محاضراته على طلابه منكراً الشعر الجاهلي ، وليس يهمنا ما قاله طه حسين عن الشعر الجاهلي في قليل أو كثير ، ولكنه عندما أصدر كتابه عن الشعر الجاهلي أقحم في جملة تنفي عنه الإسلام والعلم معا وهي العبارة التي قال فيها ( للقرآن أن يحدثنا والتوراة أن يحدثنا عن وجود إبراهيم وإسماعيل ولكن ذالك لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي )
وهذه العبارة تنفي عن طه حسين صفته كمسلم بطريقة قاطعة لا تحتمل الجدل ، فما كان لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينفي أن ينفي عن القرآن أنه يقول غير الحق ، ولا يستطيع طه حسين أن يدعي أنه يتحدث بلغة العلم ، فكون إسماعيل أب العرب المستعربة مسألة لم يتحدث عنها القرآن فحسب بل تحدث عنها أقدم كتاب في العالم وهو ( العهد القديم ) ولا يعرف العرب المستعربة أباً آخر غير إسماعيل يتناقلون ذالك أباً عن جد ويتوارثون آثار الرجل وأبيه وهو زمزم والحطيم والكعبة ، بل ويتوارثون بطريق متواتر مناسك عبادة أورثها أبوهم إسماعيل وأبوه ، ولا يوجد ولم يوجد قول على مر العصور ينكر ذالك ، فإذا قال قائل بعد ذالك أن كل هذا لا يثبت الوجود التاريخي فإن العلم براء من القائل ...]
ويضيف أحمد حسين [ وهكذا باستطاعتنا بعيداً عن الزعم باعتناقه للمسيحية أن نقرر الحقائق الآتية :
1- أن تزوج بفرنسية تحمل اسماً مسيحياً رضيت أن تتبعه إلى مصر رغم فقره وكونه ضريراً
2- أن ذالك لم يؤثر على علاقته بأسرة زوجته المسيحية جداً إلى درجة أن أحد أقطابها قسيس في كنيسة
3- اتخذ ملازماً له إنساناً مسيحياً
4- جعل ديدنه الهجوم على الإسلام ومؤسساته وترويج آراء المستشرقين من يهود ونصارى ممن استقدمهم وملأ بهم كلية الآداب
وفي في إثارة هذا الموضوع لي عديداً من الدوافع والأسباب :
أولاً : أن قائل هذه الواقعة ( فريد شحاته ) جدير بكل تقدير وإعزاز من كل من يقدر طه حسين أياما كان الأمر قد انتهى بينه وبين طه حسين فإن يضل إنسان إلى جواره ثلاثين عاماً أو أكثر يقرأ له ويكتب له حتى وهو يصدر أخطر القرارات باعتباره وزيراً ، مثل هذا الشخص قد أفترى على طه حسين !!!
فإذا كان هذا الشخص قد أفترى على طه حسين فعليه هو وحده يقع وزر ما قاله وعلى طه حسين أن يتحمل مسئولية هذا القول الذي صدر عن صفيه وخليله لأكثر من ثلاثين سنة .
ثانياً : أن هذا الموضوع سوف يثار على أوسع نطاق بعد أن يزول جيلنا وجيل من تتلمذوا على يد طه حسين ويجيء جيل قد خلت نفسه من الحساسية وسوف تصادفهم هذه الرواية وسوف يرون فيها خير تفسير لمسلك طه حسين في شبابه بعد عودته من فرنسا وسيعجبون كيف خلت مصر ممن يناقشون هذا القول الذي قاله أقرب المقربين إلى طه حسين ، ولما كانت مجلة الثقافة هي وثيقة الأجيال القادمة عما يقال في عصرنا فقد أحببت أن لا تخلوا من هذا البحث
ثالثاً : على أن الأمر الذي يهمن في الدرجة الأولى هو أن أبصر الشباب ، أن الرغبة في التقدم لا تعني بحال طرح الدين جانباً ، فأعظم ما تحقق في حياتنا كان في ضل الدين ، وأعظم ما حققته أوربا وأمريكا في القرنيين الثامن والتاسع عشر كان باسم الدين واليوم وأوربا بشرقها وغربها تتدهور فلا تصرفها عن الدين ، ونحن إذا أردنا أن نعود لعزنا ومجدنا فسيكون ذالك عن طريق الدين ، فالدين بمعنى الإيمان بالغيب وأن الحياة الدنيا ليست كل شيء في حياة الإنسان وإنما ثمة حياة أخرى خير وأبقى وأن هناك إلهاً يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وأنه سوف يحاسب الإنسان أي إنسان على ما قدمت يداه أن خير فخير وأن شر فشر ، هذا الاعتقاد الذي هو جوهر الدين أي دين هو سر الحضارة .
ونكمل شهادة الأستاذ أحمد حسين والتي فيها تعليقات على بعض أقوال زوجة طه حسين
نكمل شهادة أحمد حسين حيث يقول [ وأنا أعرض لطه حسين ، ووصفته أنه في الشطر الأول من حياته يمثل هذه الفترة المرفوضة من حياتنا فترة الجري خلف أوربا وآراء أوربا باعتبار أن ذالك هو سبيلنا إلى التقدم والتحضر
إلا من نحن معشر المسلمين وحسبك أن تعلم أن كلمة ( سافون ) الفرنسية ليست سوى ( الصابون ) بالعربية ، وما الصابون إلا صنو النظافة التي لم تعرفها أوربا إلا من خلالنا فنحن عندما نريد أن ننهض ونتقدم فما علينا إلا أن نغترف من تراثنا
أم طه حسين في شبابه قد تأثر بالمبادئ السارية في أوربا من الدعوة إلى العلمانية أي فصل الدين عن الدولة ، وعدم أخذ الدين في الاعتبار عند مناقشة أي أمر من الأمور الدنيوية .انتهى النص
وعندما ظهر كتاب ( معك ) الذي روت فيه مدام سوزان طه حسين ذكرياتها مع الدكتور طه حسين كتب المرحوم أحمد حسين
مقاله نشرها في مجلة الثقافة المصرية وجعل عنوانها ( لقد حسمت القضية وتحدد موقف طه حسين في تاريخ مصر )
ويقصد قضية اعتناق طه حسين للنصرانية .(51/142)
لأنه كما قال سابقاً في تعليقه على رواية الأستاذ فريد شحاته والتي تحدث فيها عن تعميد طه حسين في أحد الكنائس ليعتنق النصرانية بقوله ( الإنسان الوحيد في هذه الدنيا الذي يمكن أن يكون لتكذيبه وزن في هذه القضية هي شريكة حياته التي تنصر طه حسين من أجلها )
لذالك يقول أحمد حسين [ فطلبت من أبني أن يحصل على الكتاب ( يقصد كتاب معك ) لا أطالعه لأزداد معرفة بحياة طه حسين الخاصة من شريكة حياته ، فقد رددت في مقال سابق رواية ذكرها الأستاذ فريد شحاته سكرتير طه حسين وموضع سره بعد أخيه الأستاذ توفيق شحاته لعشرات من السنين وقدرت أن مدام طه حسين لابد أنها ستتحدث عن هذه الرواية بالنفي أو الإثبات ، فهي صاحبة الشأن الأول والأخير بالنسبة لهذه الرواية التي تقول :
أن طه حسين في شبابه المبكر وهو طالب في فرنسا قد تعمد ليكون مسيحياً ليظفر بزواج زوجته .
ومنذ بضعة شهور صدر كتاب طويل عريض باللغة الفرنسية ألفته السيدة الفاضلة ( مدام سوزان طه حسين ) أي زوجة عميد الأدب العربي الراحل الدكتور طه حسين ، وأنا أكتب كلمة ( مدام ) بدلاً من كلمة زوجة لأحقق الغرض الذي ألفت من أجله الكتاب لتعلن عن نفسها مسيحية فرنسية كانت تؤدي في مصر رسالة فرنسا ، وقد أدتها بأمانة تهنأ وتشكر عليها من كل وطني فرنسي .
وعندما يقول فريد شحاته روايته عن طه حسين فإن عدم الوقوف أمامها ، فضلاً عن تجاهلها لا يكون من العلم والمعرفة في قليل أو كثير .
ومن هنا فقد عرضت الرواية في مقالي ولم أشأ أن أصدقها أو أكذبها فالقطع بصدق الرواية أو كذبها لا يكون ألا بدليل أو على الأقل مرجح عقلي يميل بالقضية نحو هذا الجانب أو ذاك وأشهد أنني لم أجد هذا المرجح فوقفت عند ترديد الرواية ] انتهى النص
وينقل أحمد حسين نصوصاً من كتاب ( مدام طه حسين معك ) ليوضح بها قضيته ...
النص الأول .....................
تقول مدام طه حسين [ ثم يأتي يوم آخر لأقول فيه لأهلي إنني أريد الزواج من هذا الشاب وكان ما كنت أنتظره من رد الفعل :
كيف ... ومن أجنبي وأعمى وفوق ذالك كله مسلم ، لا شك أنني جننت تماماً ، ربما كان الأمر جنوناً ، لكني كنت قد اخترت حياة
رائعة اخترت من يدرس ؟!...... لقد قالت لي صديقة عزيزة ذات يوم : لقد كان عليك أن تضطلعي بهذه الرسالة ]
ويقول أحمد حسين ( تتلخص رسالتها فيما نذر نفسها من أجلها عشرات من أمثالها من الشبان والفتيات وهو أن يهبوا أنفسهم ويهبن أنفسهن للتبشير المسيحي فيخدمن المرضى والعجزة ويساعدن الفقراء باسم السيد المسيح ، وقد تكاثر هذا الطراز في أوربا في أو أخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، ولقد كان بينهم أشخاص إنسانيون فعلاً يخدمون في صدق وإخلاص ويضحون في بأنفسهم في سبيل الخير ومنهم السيدة سوزان على وجه التحقيق ، فعندما تزوجت هذا الطالب المصري الفقير الأعمى المسلم وجاءت معه إلى مصر كانت تضحي بكل شيء تماماً كأي مبشر شاب أو مبشرة ممن كانوا يقتحمون أو يقتحمن غابات إفريقيا بكل وحوشها وأوبئتها ومتوحشيها من بني البشر لا لشيء إلا لأنهم أو لأنهن يحملن رسالة ، وهكذا كانت السيدة سوزان عندما قبلت أن تتزوج من ستين سنة هذا الطالب المسلم الأعمى وأن تصحبه إلى مصر فلم يكن يدور في خلدها أنه سيصل إلى ما وصل إليه من مجد وسؤدد ، فزواجها كان تضحية بكل المقاييس وأني لأحني رأسي لهذه الفدائية والتضحية بكل شيء من أجل ما يعتقد الإنسان أنه رسالته ] انتهى النص
ويتحدث عن حقيقة العلاقة بين طه حسين وزوجته سوزان [ لم يكن زواج السيدة الفاضلة لطه حسين عن حب ولا عن ما هو قريب من الحب وما قد يلتبس به في بعض الأحيان من نزوات المراهقة ولا يتصور متصور أن ذالك استنتاج مني ولكنه صريح قول السيدة الفاضلة كتبته بلغتها التي تخاطب بها مواطنيها من الفرنسيين وترجم إلى اللغة العربية ]
تقول زوجة طه حسين ( ص 16 )
( وذات يوم يقول لي طه حسين اغفري لي ، لابد أن أقول لك ذالك فأنا أحبك ... وصرخت وقد أذهلتني المفاجأة ( بفضاضه ) ... ولكني لا أحبك ... وكنت أعني الحب بين الرجل والمرأة ولا شك )
ويعلق أحمد حسين على هذا النص بقوله [ فأنت ترى أن بعد ستين سنة من الزواج فإن السيدة الفاضلة ( ولها احترامي لصدقها وأمانتها وكرهها للنفاق ) ترى ضرورة ذكر هذه الواقعة ، وكيف أنها ذهلت من المفاجأة !!!
ولم يكفها هذا التعبير فوصفت ردها بأنه كان ( فضاً ) ولم يخرج عن تقرير الواقع ، ولكني لا أحبك
وتضيف السيدة الفاضلة الملاحظة الدقيقة : ( كنت أعني بالحب بين الرجل والمرأة) ولا شك لم تقل : أن هناك الحب للمسيح ومن أجل المسيح ولكن هذا ما فعلته بالفعل ومن هنا كان الوحيد الذي فهم هذا الزواج وشجع عليه حسب قولها في الكتاب هو عمها القس المسيحي ](51/143)
ثم يذكر أحمد حسين رسالة زوجة طه حسين فيقول أما رسالة السيدة الفاضلة وأنها إعلاء لشأن المسيحية في بلاد إسلامية ، فلن نستمدها من كون السيدة ضلت على مسيحيتها طوال مدة زواجها ولكن من هذا الكتاب ذي الثلاثمائة من الصفحات ونيفا وكأنه كشف حساب عن حياتها التي عاشتها وأنها لم تكن من هذا الحب الذي يقوم به بين الرجل والمرأة فأول سطور هذا الكتاب من سفر أشعيا وهذا نصها :
( وأسير العمى في طريق لم يعرفوها ... في مسالك لم يدروها ... أمشيهم ... أجعل الظلمة أمامهم نوراً ) أشعيا 42/16
ويقول أحمد حسين :
والكتاب بعد ذالك ( معك ) لا يعدو أن يكون سطوراً وكلمات قليلة كلما كانت في مصر ، ثم صفحات وصفحات عن كل شبر في أوربا أو بالأحرى ما يزورونه في أوربا ، هنا ترى كل شيء يوصف بإسهاب ، وقوائم بأسماء كل من يقابلون من قساوسة وأساقفة ورهبان ، ولا أضن أن أسقف السيدة الفاضلة اسم دير أو كنيسة أو كتدرائية زارتها مع زوجها العزيز ، ولا أن قساً قدم لها احترام في أي يوم من الأيام في أي مكان من الأمكنة إلا وتراه مسجلاً ومثبتاً في هذا الكتاب الذي أعود لأكرر كأنه كشف حساب وكأنما تقول السيدة الفاضلة في يوم الدينونة ( هاؤم اقرأوا كتابيه ) فهي لا تذكر إلا رجال دين مسيحي وإلا كنائس وأديرة ، ولن تجد في الكتاب كله إشارة إلى مسجد واحد لفت نظر السيدة صاحبة الرسالة حتى مسجد محمد علي الذي هو عنوان تلك القاهرة ويأخذ بلب الأجانب من السواح . وحتى بعد أن سافروا على أسبانيا ( والسيدة لا تعرف الأندلس ) وصفت الكثير مما رأت ولكنها لم تقل كلمة واحدة عن شيء يسمى ( مسجد قرطبة ) الذي يعتبر من أعظم الآثار التي يقف أمامها ملايين السواح مذهولين ، وإذا كان الكتاب ذو الثلاثمائة صفحة قد حوى كما قدمت لك من قبل سطور قليلة عن الذكريات في مصر فإن الأغلب في هذه الذكريات عن القسس والأساقفة والأب فلان والمستشرقين ( اليهود ) الذين كانوا يزورونهم وأرجوك ألا تتصور أنني أضع اليهود داخل أقواس هو نوع من التجني بل هو محاولة لتخفيف هذا النص ( ص 140 ) [ أما القلق العميق فقد عرفته القاهرة لحظة تهديد العلمين في حين أصاب الذعر اليهود فساعد طه حسين بعضاً منهم على الرحيل ومنهم تيجرمان ]
ويضيف أحمد حسين :
وهكذا لا تذكر إلا المعالم والأشخاص والأماكن المسيحية ، وقد فكرت في نقل بعض السطور لإبراز هذا المعنى فوجدت أن ذالك معناه أن أنقل الكتاب كله فكأن السيدة الجليلة تخشى أن يتهمها أحد لا أقول بانسلاخها من المسيحية بل لقلة حماسها للمسيحية ولعل هذا الحماس كان يتصاعد على مر الزمن وخاصة بعد أن تحول طه حسين إلى التراث الإسلامي في أخريات حياته .
فرنسا قبل كل شيء وفوق كل شيء
تحت هذا العنوان يقول أحمد حسين :
وإذا كان احتفاظ مدام سوزان بمسيحيتها أمر يقره الإسلام فقد أباح التزوج بكتابية فإن ما لا يسمح به الإسلام على وجه التحقيق أن تضل الكتابية على ولاؤها لمجتمعها القديم حتى ولو دخل في صراع عدواني لمجتمع زوجها المسلم ومدام طه حسين ظل ولاؤها لفرنسا حتى بعد أن جاءت لتسحق مصر وتذلها ، ومرة أخرى لا يتصور متصور أنني أقول هذا القول على سبيل الاستنتاج من أنها عاشت ستين سنة مع اللغة العربية دون أن تعرف هذه اللغة وعاشت في مصر خمسين سنة دون أن ينفذ إلى بيتها إحدى أغاني أم كلثوم أو عبدالوهاب أو سيد درويش حيث لا تجد في الكتاب أي أشارة عن قرب أو عن بعد لشيء من هذا ( الرجس ) حيث ترى الأحاديث المستفيضة عن موسيقى ( باخ ) وكل صنوف الموسيقى الغربية والأوبرا والمسرحيات الفرنسية بل وكانت تقام حفلات لهذه الموسيقى الغربية وكان العازف ( أعمى ) في بعض المناسبات ...
أن هذه السيدة ظلت تعتبر نفسها خلال خمسين سنة فرنسية مسيحية تؤدي رسالة .
فالكتاب لا يخلو من إقرار صريح وقاطع في أن فرنسا لا تخطئ أبداً .
الرسالة
يكتب أحمد حسين تحت هذا العنوان
[ وأحسب أنه لم يعد هناك شك في تمسك سوزان طه حسين ليس فقط بمسيحيتها بل بفرنسيتها وأن ذالك كان يتزايد كلما قوي طه حسين وعلا صيته حتى أنها أصدرت هذا الكتاب ليكون ذروة ذالك بعد وفاة طه حسين وصيرورته إلى ما صار إليه فما هي الرسالة التي قبلت السيدة الفاضلة سوزان أن تتزوج الأجنبي الأعمى وفوق ذالك مسلم ؟!
ولن تجد صعوبة في تحديد هذه الرسالة فهي مبثوثة في كل صفحة بل في كل سطر ولكننا كالعهد بنا لا نسمح لأنفسنا بالاستنتاج ولكننا ننقل نصين أو ثلاثة من عشرات النصوص الصريحة القاطعة ( ص 143 )
( فأصدر مجلة الكاتب المصري ، كانت هذه المجلة تستجيب للهدف الذي لم يتخل عنه أبداً وهو أن يقيم أكثر ما يمكن القيام به من الصلات بين الثقافة الغربية ومصر والعالم العربي ) وتقول :
( كان البرفسور جاك بيرك يقول لي قبل فترة من الوقت [ لقد أراد طه حسين أن يقرب الشرق من الغرب ، أما أنا فأريد أن أقرب الغرب من الشرق )(51/144)
وتقول أيضاً ( ص 37 ) : ( ويقص علي بكثير من التهكم وقائع إحدى جلسات الجمعية الملكية الجديدة للدراسات التاريخية إذ لم يكن بالطبع على اتفاق مع اتجاهات الأكثرية : يجب الاهتمام حصراً بمصر الإسلامية أما ما تبقى من العالم فلا يهمنا ، لا تهمنا مصر الفرعونية والهلينية أو الرومانية هل نحن مستقلون ؟! وكنت أثور غضباً )
ويعلق أحمد حسين على هذا بقوله :
أي أن الدكتور كان يحدثها متهكماً وكانت هي تفور غضباً عندما يقال أنه يجب الاهتمام فقط بمصر الإسلامية .
ويختم أحمد حسين مقالته عن طه حسين بهذه الأسطر :
وبعد فأحسب أنه من الفضول أن أثبت ما هو ثابت بل لما صدر الكتاب لإثباته ، وهو أن طه حسين كان يحيا في بيته وخاصة في النصف الأول من حياته كمستشرق مشبع بالعطف على مصر ولكن هواه الأكبر مع فرنسا والإغريق والثقافة الأوربية ( بخيرها وشرها بحلو ها ومرها ... إلى آخر ما كان يقول )
وأعود فأؤكد ما سبق أن أقررته وهو أنه أي كان شأن الدكتور طه حسين وكان أثره في جيله ، فهو ينتمي لهذه الفترة المرفوضة في حياتنا فترة الاحتلال البريطاني حيث تنازعت الثقافتان الإنجليزية والفرنسية ، وامتلأت مصر بالمستشرقين والمبشرين الذين بعد أن فشلوا في تحويل مسلم عن الإسلام لخصوا جهودهم في محاولة النيل من الإسلام والثقافة والعربية ، واعتبار ذالك كله مظهر الرجعية والجمود والتخلف واعتبار التقدم بحذق أساطير الإغريق والرومان والتعلق بأذيال فرنسا ، وهو ما أصيح بأعلى صوتي مرفوض ...
يقول الشيخ محمد الغزالي [ قرأت للدكتور طه حسين ، واستمعت له ، ودار بيني وبينه حوار قصير مرة أو مرتين فصد عني وصددت عنه !!!
أسلوب الرجل منساب رائق وأداوه جيد معجب ، وهو بين أقرانه قد يدانيهم أو يساويهم ويستحيل أن يتقدم عليهم ... بل عندما أوازن بينه وبين العقاد من الناحية العلمية أجد العقاد أعمق فكراً وأغزر مادة وأقوم قيلا ، وأكاد أقول :
إن الموازنة المجردة تخدش قدر العقاد ...
وأسلوب زكي مبارك أرشق عبارة وأنصع بياناً من أسلوب الدكتور طه حسين ، ولولا أن الرجل قتله الإدمان لكان له شأن أفضل
ودون غمط لمكانة الدكتور الأدبية نقول :
إنه واحد من الأدباء المشهورين في القرن الماضي له وعليه ... وحسبه هذا ...
بيد أنني لاحظت أن هناك إصراراً على جعل الرجل عميد الأدب العربي ، وإمام الفكر الجديد ، وأنه زعيم النهضة الأدبية الحديثة
ولم أبذل جهداً مذكوراً لأدرك السبب
إن السبب ، لا يعود إلى الوزن الفني أو التقدير الشخصي
السبب يعود إلى دعم المبادئ التي حملها الرجل ، وكلف بخدمتها طول عمره ، إنه مات بيد أن ما قاله يجب أن يبقى ، وأن يدرس ، وأن يكون معيار التقديم !!!
تدبر هذه العبارة للدكتور العميد :
إن الدين الإسلامي يجب أن يعلم فقط كجزء من التاريخ القومي !!!
لا كدين إلهي نزل يبين الشرائع للبشر ، فالقوانين الدينية لم تعد تصلح في الحضارة الحديثة كأساس للأخلاق والأحكام ، ولذالك لا يجوز أن يبقى الإسلام في صميم الحياة السياسية !!!
أو يتخذ كمنطلق لتجديد الأمة !!!
فالأمة تتجدد بمعزل عن الدين .
ويمكن الرجوع لمثل كتابه ( مستقبل الثقافة في مصر ) لتجد أشباهاً لهذه العبارات السامة .
ويشاء القدر أن تقع عيني على هذه العبارة وقد قررت ( إسرائيل ) وقف الطيران في شركة العال يوم السبت احتراماً لتعاليم اليهودية !
إن كان الإسلام وحده يجب إبعاده عن الحياة العامة !!!
أما الأديان الأخرى فلتقم باسمها دول ولترسم هداها سياسات !!!
وظاهر أن الدكتور طه حسين كان ترجماناً أميناً لأهداف لم تعد خافية على أحد عندما طالب بإقصاء الإسلام وأخلاقه وأحكامه وعدم قبوله أساساً تنطلق الأمة منه وتحيى وفق شرائعه وشعائره !!!
قائل هذا الكلام يجب أن يكون عميد الأدب العربي في حياته وبعد مماته ، وأن تشتغل الصحافة والمسارح بحديث طويل عن عبقريته ، ليكون علماً في رأسه نار كما يقول العرب قديماً ...
أما العقاد وإسلامياته الكثيرة فيجب دفنه ودفنها معه :
ومع أن الرجل حارب الشيوعية والنازية وسائر النظم المستبدة وساند الديمقراطية مساندة مخلصة جبارة فإن العالم ( الحر ) ينبغي أن يهيل على ذكراه التراب ، ليكون عبرة لكل من يتحدث في الإسلام ولو بالقلم فكيف إذا كان حديثاً بالفكر والشعور والدعوة والسلوك والمخاصمة والكفاح
هذا هو الخصم الجدير بالفناء والازدراء
والقوى التي تعمل دائبة على تخليد الدكتور طه حسين وتجديد فكره وإعلاء شأنه معروفة لدينا ، ونريد أن نكشف عنها ، إذ لا معنى لبقائها في جحورها تلدغ ثم تستخفي ، وتنال منا باسم حرية العلم ، وهي لا تعرف من الحرية إلا لوناً وحيداً ، كيف تضرب الإسلام وتطفئ جذوته وتميت صحوته .
ذالك أن الريح تعصف اليوم ضدنا أكثر مما كانت يوم ألف الدكتور طه ضد ديننا وتراثنا ، لقد أقامت اليهودية على أنقاضنا دولة تريد اجتياح حاضرنا ومستقبلنا ، وهي تربي النساء والأطفال لتحقق هذه الغاية ، وتعتبر المدرسة ثكنة العسكرية ، والثكنة معبداً دينياً ، والتوارة ديناً ودولة .(51/145)
أما الصليبية العالمية فإني أكتفي بنقل عبارات للشيخ ( عبدالله كنون ) سجلها في أحد زيارته لأوربا
قال :
( أذكر للاعتبار أني كنت في إسبانيا ذات مرة ، وصادف وجودي في غرناطة يوم الإثنين وهو يوم تعطل فيه الصحف الإسبانية ولا تصدر فيه إلا جريدة واحدة تسمى صحيفة الإثنين ، فأخذت هذه الجريدة لأنظر فيها من أنباء اليوم ... فإذا داخلها ملحق صغير للأطفال يكاد يستغرقه كله مقال رئيسي بعنوان ( محمد النبي المزيف ) كتب لغة سهلة مبسطة ، ولكنها مليئة بالهزء والسخرية !!!
وقد بني المقال على فكرة أن القرآن مقتبس من التوراة والإنجيل اقتباساً منشوهاً ، لأن صاحبه على حد تعبير الكاتب كان أمياً لا يعرف قراءة ولا كتابة ، وإنما تلقف ما ضمنه كتابه من أفواه اليهود الذين كانوا يسكنون جزيرة العرب ، ومن بعض الرهبان الذين لقيهم في أثناء رحلته إلى الشام !!!
وهكذا يعمل النصارى على تنشئة أبنائهم منذ الصغر على احترام عقيدتهم وحدها.
ويرابط الكاثوليك في حصن غرناطة مستأنفين إلى اليوم مطاردة الإسلام حتى في نشرات الأطفال بعد أن أجلوا أتباعه من هذا الحصن قبل بضعة قرون )
هذا ما سجله الأديب في كتابه اللطيف ( جولات في الفكر الإسلامي )
ومن حق القارئ أن يتساءل :
إذا كانوا يربون أولادهم على هذا الغرار فكيف نربي نحن أولادنا ؟؟؟
وما هي المناهج التي أخترها عميد الأدب العربي عندما كان وزيراً للتربية والتعليم ، أو اختارها أمثاله لتخريج أجيال تعرف دينها ونبيها وتاريخها وتراثها ؟؟؟
ويعلم أولو النهى وذوو الإنصاف أن الإسلام مخترع الحريات الدينية منذ العصور الوسطى ، وصانع المجتمعات البعيدة عن التعصب الأعمى ... وأنه قدم للعالم الحضارة الإسلامية نتاج جهود مشتركة وتعاون صالح بين الكثرة المسلمة والقلة اليهودية أو النصرانية .
حتى جاء الاستعمار الحديث فشرع يشحن أفئدة الطوائف الدينية في العالم الإسلامي بالحقد والغش على إخوانهم الطيبين ، ويختلق حكايات مفتراة عن ظلم الأكثرية للأقليات الدينية ، ويغري نفراً من الغلاة بمطالب مجنونة لا حصيلة لها إلا زرع الفتن
ويقول الشيخ (عبدالله كنون) في هذا المجال :
( أحب أن أوضح هذه النقطة التي أصاب العالم الإسلامي منها خطر كبير ، ذالك أن هذه الأقليات إن كانت تتمتع بجميع الحقوق ، ويتوفر لها ما ليس لأقلية أخرى في بلد غير إسلامي ، إلا أنها لا تقنع إل بالهيمنة على أجهزة الحكم والقوانين الدستورية ، واستطاعت بذالك إحكام سيطرتها على الدول التي تنتمي إليها .
أن بعض هذه الدول كان في دستورها أن دين الدولة هو الإسلام ، فحذف هذا البند من الدستور إرضاء لأقلية متحكمة ، وهو أمر لا نظير له في العالم أن تنقاد الأكثرية لحكم الأقلية .
ولا نذكر هنا الأقليات الإسلامية الكبيرة في الهند والصين والاتحاد السوفيتي ، وإنما نذكر الأقلية الكاثوليكية في المملكة المتحدة البريطانية ، وهي أقلية تبلغ أربعة ملايين - تزيد انجلترا قليلا عن خمسين مليوناً من البروتستانت - ونسأل :
هل دار بخلد هذه الأقلية أن تتحكم في الكثرة المخالفة لها في المذهب ؟
هل فكرت في معارضة الملكة عندما تؤدي القسم التقليدي على حماية الكنيسة الإنجيلية والإخلاص لها عندما ترتقي العرش ؟
ويطرد التساؤل عند الكلام على الأقليات الدينية في ألمانيا وهولندا وسويسرا وغيرها .
ولا نريد أن نقتبس أكثر من ذالك ، وإنما نريد المضي فيما بدأنا به ، وإشعار الذاهلين بخطورة الثقافات المؤذية بل القاتلة التي روجها يوما ما أدباء ضعاف الخلق مرض الإيمان ... فلما قضوا وتراجع مدهم أتى من يحاول استحياء فكرهم وتلميع أسمائهم حتى يقع الأغرار في شركهم ، ويستقر الأمر للاستعمار الصهيوني والصليبي على سواء ، على حساب الإسلام
ويحزنني أن أقول إن الدكتور طه حسين انتصر في معارك كثيرة لأن خصومه لم يكونوا على شيء ، فمن نيف وأربعين سنة أمر الدكتور وكان عميداً لكلية الآداب بالقاهرة بقبول طالبات في الكلية لأول مرة في تاريخ التعليم العالي الجامعي
وانفجرت مراجل الغضب عند الأزهريين وزلزلت الأرض زلزالها ، فقد كان إلحاق النساء بالتعليم العالي شيئاً إداً .
والواقع أن جماهير من المتدينين تستنكر على النساء التعليم في أي مرحلة .
ولو أنها غضبت لأن التعليم مختلط ، وينبغي تخصيص كليات للبنات لكانت على حق .
وفتحت بعد ذالك بعشرين سنة كليات للفتيات في الأزهر ، لقد استيقظ بعد ما فاته القطار ... إن التدين القاصر ينيل أعداءه مكاسب كبيرة دون جهد يبذلونه .
يقول الأستاذ أنور الجندي متحدثاً عن كتابه ( طه حسين حياته وفكره في ميزان الإسلام )
[ أن طه حسين في كتابنا هذا لا يحاسب من خلال كتاب واحد وإنما من خلال فكره كله ومن خلال مفاهيمه العامة التي تمثلها فلسفة واضحة كشف عنها في بعض كتبه وفي بعض مقالاته خلال أكثر من خمسين عاماً ](51/146)
ويقول أيضاً [ ولا نريد أن نتعجل الحكم على الرجل وآثاره وإنما نود أن نضئ الطريق إلى فهمه بتقديم الوقائع والوثائق المتصلة بحياته وفكره على النحو العلمي الصحيح حتى يجئ الحكم منصفاً عادلاً غير مشوب بشيء من التحامل أو التحيز
إننا لا نتهم طه حسين بشيء ولا نحكم عليه إلا بعد أن نستعرض وقائع حياته ومفاهيمه وآراءه بالأدلة والأسانيد والوثائق ]
يقول الأستاذ أنور الجندي بعنوان أزهري فاشل [ ولقد كانت فترة إقامته في الأزهر فترة دقيقة كان موزعاً فيها بين الحلقات يختار منها ويعرض ولا يستقر في أيها إلا حلقة الأدب والشعر ولذالك كانت ثقافته في العلوم الإسلامية قاصرة بحيث لم يتمكن من توفير فكرة كاملة عن الإسلام
وقد عرف طه حسين في الأزهر دروس الأدب ولم يقبل على دروس الفقه والعقائد
وسرعان ما ضاق صدره بالأساتذة لأنه لم يصبر على دقائق المسائل وضل الخلاف يتسع بينه وبين مشايخه حتى أغلق الباب بينه وبينهم واحداً واحداً ولقد ساء ضنه بالأزهر وشيوخه الذين أعرضوا عنه لسوء بادرته وجفوته لهم وقد تأثر بالمستشرقين في الغض من شأن المشايخ وإحراجهم بالأسئلة المضللة والرد عليهم في عنف وفي سخرية وذالك كله وارد في كتابه الأيام
وسوء موقفه من أساتذته واضح لا ريب فيه بأكثر من صورة وحادثة ولعل هذه الجفوة هي التي دفعت أساتذته إلى إحراجه في امتحان العالمية حين عجز عن الإجابة على سؤال يسير ]
ويذكر الأستاذ أنور ما قاله الدكتور محمد غلاب : إن التاريخ يسجل بالخط العريض أن الدكتور تقدم لامتحان الشهادة النهائية ( العالمية) ظناً أنه على كل شيء من العلم فلما جاء أمام لجنة الامتحان وسئل ونوقش أخفق إخفاقاً لم يشهد التاريخ مثله فنكص على عقبه وخرج لا يلوي على شيء ولا يزال الذين تقدم للامتحان بين أيديهم أحيا يرزقون ومن ذالك الوقت أخذ يحارب الأزهر
ولما كتب الدكتور طه حسين يبرر تركه للأزهر بقوله ( وشعرنا نحن تلاميذ الشيخ المرصفي أن طرق الأزهر عتيقة وشعرت أن الأزهر لم يعد يشبع ما في نفسي من الأغراض الأدبية فتركته والتحقت بالجامعة )
فيرد عليه الأستاذ حسن الشقرا فيقول ( ومن هنا يفهم القارئ أن السر في إخراج الدكتور طه من الأزهر عدم كفاية الأزهر لسد مطامعه الأدبية وهذا كذب صراح على التاريخ وجرأة مفضوحة على الحق والتاريخ يسجل بالخط العريض أن الدكتور تقدم للامتحان في الشهادة العالمية فلما جاء أمام اللجنة وسئل ونوقش أخفق أخفاقاً لم يشهد التاريخ مثله فنكص على عقبه وخرج ومنذ ذالك الوقت أخذ يحارب الأزهر ويغض من قدر أساطين المسلمين )
يقول الأستاذ أنور الجندي [ وقد أشار طه حسين في أحاديثه التي أفاض فيها أواخر حياته إلى مسألة إسقاطه في امتحان العالمية وقال لأن شيخ الأزهر سليم البشري طلب إلى اللجنة أن تسقطني في الامتحان ومصدر ذالك أني هجوته بشعر نشر في الصحف ]
ويدحض الأستاذ أنور الجندي قول الدكتور طه حسين قائلاً [ ولكن الذين يعرفون الوقائع يشهدون بأن طه حسين سئل عن شيء صغير مما يعرفه الطلاب في أوائل الدراسة الأزهرية فعجز عنه ]
صنع في فرنسا
ترك طه حسين الأزهر إلى الجامعة المصرية القديمة من عام 1908 م إلى عام 1714 م وتقدم برسالته عن ذكرى أبي العلاء وهي أول رسالة دكتوراه في الجامعة المصرية القديمة .
ثم سافر إلى أوربا والتحق بجامعة مونبليه ودرس الأدب الفرنسي واللغات الفرنسية واليونانية واللاتينية ثم عاد إلى مصر فأقام بها فترة ثم عاد إلى جامعة باريس حيث حصل على الليسانس سنة 1916 م وأحرز الدكتوراه عن أبن خلدون عام 1917 م
ثم عاد إلى القاهرة .
يقول الأستاذ أنور الجندي [ نعم كان للرحلة إلى أوربا أثرها البعيد والعميق في التكوين الثقافي والاجتماعي لطه حسين حتى يمكن أن يقال أنها خلقته خلقاً جديداً وأسلمته ولاء جديداً ضل مؤمناً به مدافعاً عنه إلى أن غرغرة الروح .
ولقد أنتجت الرحلة إلى أوربا آثاراً متعددة أهمها
1- الاتصال ببيئات المستشرقين وتبني مفاهيمهم ومعطياتهم وقد بلغ الدكتور طه حسين في هذا الاتجاه مبلغاً جعل الناس تضن أنه واحد من المستشرقين وكان يقول أنه ورث عقلاً يونانياً عن أجداده القدامى !!!
كان يشير دائماً بشيء من الرضا إلى ما كان يقال من أنه سفير فرنسا في مصر أو سفير الثقافة اللاتينية ( اليونانية الوثنية والفرنسية العلمانية ) في البلاد العربية
2- الإعجاب بفرنسا والولاء لها وهو إعجاب وولاء يصل به إلى أن يرجح كفتها على حقوق أمته ويقف مع فرنسا مدافعاً بينما تضرب بقنابلها دمشق ويهاجم المجاهدين في المغرب ويصفهم بالبداوة
3- التأثر الشديد بثقافة الثورة الفرنسية ومطامعها بينما الثورة الفرنسية هي عمل اليهودية العالمية للسيطرة على المجتمع الأوربي والفكر الغربي ويبدو ذالك واضحاً في إعجابه بفولتير وديدرو وروسو وغيرهم(51/147)
4- أتساع الخصومة مع الفكر الإسلامي والأزهر وذالك من طبيعة الأمور حيث لم يدع ميداناً للإسلام فيه رأي إلا قال فيه رأي الاستشراف وأثار شبهاته ودفع الناس دفعاً إلى الدخول في بوتقة التغريب وقد بلغ ذالك أقصى مدى حين دعا إلى الأخذ بالحضارة الأوربية خيرها وشرها حلوها ومرها وما يحمد منها وما يعاب
5- بعث الأدب الشعوبي والفكر الباطني والوثني والمجوسي القديم وذالك من طبيعة الهدف الذي حمل لواءه ومن شأن الأمانة التي حملها للتغريب والغزو الثقافي ]
ويضيف الأستاذ أنور الجندي بقوله [ لقد ذهب أحمد حسن الزيات ومصطفى عبدالرزاق وزكي مبارك ولكنهم لم يجدوا من العناية ما وجده طه حسين .
أما الزيات فقد كانت أمانته للأدب العربي ولأمته قوية وعميقة ، أما مصطفى عبدالرزاق كان لا يزال يحتفظ بباريس بعمامته بينما ألقى طه حسين عمامته في البحر بعد قيام السفينة في مشهد درامي مثير وأهدى قفطانه إلى راقصة فرنسية!!!
أما زكي مبارك فقد عارض منهجهم في رسالته وأصر على رأيه وتابعهم في القليل وخالفهم في أمر اللغة العربية أما طه حسين فقد استجاب لهم استجابة كاملة حتى قال ماسينون إننا حين نقرأ طه حسين نقول هذه بضاعتنا ردت إلينا )
لقد عرف طه حسين طلائع المستشرقين في الجامعة المصرية القديمة ثم ألقى بنفسه في أحضانهم عندما سافر إلى فرنسا للدراسة بها في الفترة مابين 1914 م إلى 1919 م حيث تتلمذ على أيديهم .
فقد تتلمذ طه حسين على ( نيلينو ) و ( جويدى ) و ( دور كايم ) و ( كازنوفا ) الذي كانت له صلات بدوائر الاستعمار وله اتصال بالكنيسة .
دور كايم وكازنوفا وماسينيون عملوا على صياغة فكر طه حسين ليكون غربياً خالصاً وصاغته البيئة الاجتماعية من الناحية الأخرى على نحو جعل أمانته للغرب ولفرنسا أكبر من أمانته للعرب وللإسلام بل جعلته يقدم بلاده للغرب لتكون تابعة في الفكر ضناً منه أن ذالك قد يحررها من الاستعمار السياسي والعسكري بينما هو بما قدم إنما استهدف أن يصهر أمته وفكرها في بوتقة الغرب احتواء وتبعية ]
ويعترف طه حسين نفسه بتأثره بالمستشرقين فيقول :
تأثري بالمستشرقين شديدا جداً ولكن لا بآرائهم بل بمناهجهم في البحث .
ويعلق الأستاذ أنور الجندي على هذا بقوله [ وتكشف هذه الدراسة أن طه حسين تأثر بآرائهم وتابعها بالرغم من معارضتها للحقائق التاريخية والعلمية الأصلية
لقد تابع طه حسين ( دوركايم ) في رأيه بابن خلدون استهانة وانتقاصاً وتابع ( كازنوفا ) في مفهومه للقرآن وتفسيره
ومن العجب أن طه حسين يقول ( إنه لم يفهم القرآن في الأزهر وفهمه في فرنسا على كازنوفا )
ويكاد طه حسين في كل أعماله الكبرى أن يكون خاضعاً للاستشراق متأثراً به تابعاً له معلياً من قدره متحدثاً عن فضله على الأدب العربي والفكر الإسلامي )
ويمكن القول بأن طه حسين لم يترك فرصة تمر دون أن يشيد بالمستشرقين ولا يحلو له أن يعرض لموضوع أياً كان دون أن يشير إلى الاستشراق بالتمجيد والمتابعة دون تحرج أو تحرز أو حياء من الإحساس الذي ينشأ عند قارئه إزاء تبعيته وعبوديته وولائه الشديد للفكر الوافد
وقد سعى المستشرقون إلى إلحاق طه حسين بكل مؤتمراتهم وكانوا فرحين به لأنه كان يأخذ خططهم فينفذها ويقدم لهم من التقارير ما يرضيهم
وعن طريق هؤلاء تشكلت في نفس طه حسين وعقله وأعماقه تلك العقيدة التي عاش متحمساً لها ومدافعاً عنها وحفياً بها وهي الوفاء للفكر الغربي ولفرنسا وللفكر اليوناني
يقول الأب ( كمال قلته ) في رسالته عن طه حسين وأثر الثقافة الفرنسية في أدبه :
( أن الفكر الفرنسي بالنسبة لطه حسين أكثر من مدرسة أو من معين لقد كان جزءاً من حياته وجزءاً من إنتاجه حتى تكاد تحسب من خلال قراءة ما كتبه عن فرنسا وعن أرجاء فرنسا وعن تاريخ فرنسا ما يقنعك بأن هذا الأثر لا ينتجه إلا من كان فرنسياً فكراً وثقافة وإحساساً فعلاقته بالفكر الفرنسي ليست علاقة أخذ فقط
البيئة الفرنسية كثقافة فيها فلسفة إنسانية هي امتداد للفلسفات اليونانية واللاتينية بل لعلها هي ميراث هاتين الفلسفتين
هذه البيئة الفرنسية هي أهم ما أثر طه حسين الفكرية
وفلسفته تنصب في ظني على غاية أساسية ، يخلق من مصر امتداداً لأوربا وللثقافة الغربية وفرنسا بالذات لقد كان يود من صميم قلبه أن تقوم في مصر حضارة ورقي كما في أوربا وخاصة فرنسا )
ويقول الدكتور طه حسين نفسه ( كل شيء في فرنسا يعجبني ويرضيني خير فرنسا وشرها وحلو فرنسا ومرها نعيم فرنسا وبؤسها كل ذالك يروقني ويلذني وتطمئن إليه نفسي اطمئناناً غريباً أني لأحس نفسي تسبق القطار ، إلى باريس على سرعة القطار )(51/148)
يقول الأستاذ أنور الجندي [ولطه حسين تبعية سياسية بالنسبة للاستعمار في سوريا ولبنان كما في المغرب يصور هذا خليل تقي الدين فيشير إلى أنه بعد أن أوقعت فرنسا عدوانها على سوريا ولبنان ويوم عقدت الجامعة العربية دورتها الطارئة لمواجهة هذا الحدث أوائل يونيه سنة 1945 م وقد وفدت وفود البلدان العربية إلى مصر ومن بينها وفدان يمثلان سوريا ولبنان يحملان إلى مجلس الجامعة أماني بلدين مناضلين في سبيل استقلالهما وسيادتهما وقد خلفا وراءهما مدناً هدمتها مدافع الفرنسيين وقبور ملئت بشهداء جشع الاستعمار وإذا بالدكتور طه حسين عميد الأدب العربي الكبير يطالع العربية بمقالات كالأنهر طولاً والتواء يحاول فيها أن يدافع عن سياسة ديجول تحت ستار الأدب والفن
وقيل لنا لا تؤاخذوه تلك أحقاد رجل أقصته السياسة عن الوظيفة وقال آخرون ما دخلت السياسة شيئاً إلا أفسدته أما نحن فلا ندري ما نقول
ويضيف الأستاذ أنور الجندي [ أن طه حسين لم يكتب منذ احتلال الصهيونية لفلسطين مقالاً واحداً حتى أنقضى أجله .
في الفصل الأول من كتاب (محاكمة فكر طه حسين ) للأستاذ أنور الجندي وتحت عنوان [ منهج الدراسة الأدبية عند الدكتور طه حسين ] بين أن منهج الدراسة الأدبية عند طه حسين يتضح في عناصر أساسية أهمها :
1- اعتماد المنهج التجريبي على الإنسانيات ودراسة الإنسان كما يدرس النبات وترتيب الشخصيات الإنسانية فيما بينها على نحو ما يصنع علماء النبات في ترتيب الفصائل النباتية المختلفة ( على النحو الذي سلكه الناقد الفرنسي سانت بيف )
2- لا اعتبار للفرد أساساً : وإنما الفرد أثر من آثار الأمة التي نشأ فيها ومن آثار الجنس لذي نشأ فيه وأن أخلاقه وعاداته وملكاته هي نتيجة للمؤثرين الذين تخضع لهما :
المكان وما يتصل به من حالة الإقليم والجغرافيا
الزمان وما يستتبع من الأحداث المختلفة سياسية أو اقتصادية
فالكاتب والشاعر من آثار الجنس أو البيئة والزمان وعن المؤثرات التي أحدثتها هذه العوامل بصدر الكاتب فيما كتب أو نظم (مفهوم الناقد الفرنسي تين )
3- إخضاع فنون الأدب لنظريات النشوء والارتقاء والتطور خضوع الكائن الحي ( نظرية الناقد برونتر )
يقول الدكتور سامي الدروبي : [ إن منهج الدكتور طه حسين في النقد الأدبي هو المنهج الاجتماعي :
منهج مدرسة الاجتماع الفرنسية وإعلامها من أمثال ( دور كيم وليفي بريل) لا يغنون بالأدب إلا كمرآة تلمع ]
وهذه الأسس التي اعتمدها طه حسين منهجاً له مدحوضة فاسدة لعدة أمور :
الأول : إخضاع الإنسان والعلوم الإنسانية للعلم الطبيعي
الثاني : تجاهل العناصر التي يتكون منها الكيان الإنساني وقصرها على الجوانب المادية وحدها وحجب عناصر العواطف والمعنويات والروحانيات وأثرها البالغ على تصرفات الإنسان
الثالث إنكار إرادة الإنسان ومسئوليته الفردية وإخضاعه لجبرية جماعية لا تعفيه من المسئولية والالتزام الأخلاقي
الرابع : إدخال الأدب والعلوم الإنسانية في دائرة الفلسفة المادية الخاضعة لمفهوم الطبيعة التي لا تعترف بالخالق ولا تخضع له
الخامس : فصل الأدب عن الفكر ومنحه حرية مرفوضة للاندفاع نحو تصوير الغايات الشاذة والجنسية والإباحية وإنكار أخلاقيات الأدب والحياة والارتباط بالمفهوم العام الأصيل الجامع
السادس : فتح الطريق إلى الأهواء التي يخضع لها الكاتب والناقد والتي من شأنها أن تصدر أحكاماً جائرة وفاسدة
وقد رأى طه حسين أن مذهبه الذب نقله من الأدب الفرنسي مع استمرار الزمن لم يعد صالحاً لعدة أسباب
1- أن التطبيق جرى في بيئة مختلفة تمام الاختلاف مع أدب له ذاتيته الخاصة التي شكلتها عقيدته وقيمه التي تختلف عن الأدب الفرنسي
2- ولذالك فأنه كان دائماً يحاول الإضافة إليه والحذف منه في سبيل المواءمة مع النظريات المختلفة التي يطرحها العلم والفلسفة والتي يتكشف تغايرها واضطرابها لأنها ليست حقائق علمية بقدر ماهي فرضيات قابلة للصحة والخطأ
هذا فضلاً عن الاختلاف العميق الواسع بين مفاهيم الأدب العربي الذي صنعه الإسلام الذي يتميز
أولاً : بالربط بين القيم ويجعل الأدب جزء من الفكر الإسلامي
ثانياً : يتميز بالتكافل الجامع بين قيم الروح والمادة والنفس والجسم والدنيا والآخرة
وطه حسين في كل ما كتب لم يستطع أن يتخلص من الهوى ولم يستطع أن يقدم نقداً علمياً خالصاً ، ومواقفه من المعري والمتنبي في القديم وأحمد أمين ومصطفى الرافعي في الحديث تؤكد ذالك
والأخطر من هذا كله أن طه حسين لم يكن تخصصه في الأدب وإنما هو قد درس التاريخ الروماني في باريس
ولكنه حين كلف بتدريس الأدب العربي في الجامعة تكشف أمره عن عجز كبير ، لم يستره إلا السطو على مؤلفات المستشرقين
ولعل أقرب الناس إليه فهماً هو تلميذه زكي مبارك الذي صحبه سنوات طويلة ين يقول :
[ني أراه قليل ا لصلاحية للأستاذية في الأدب العربي لأن اطلاعه على الأدب ضئيل جداً ويعرف أني أشهد له بالبراعة في تأليف الحكايات(51/149)
أن من العجب في مصر بلد الأعاجيب أن يكون طه حسين أستاذ الأدب العربي في الجامعة المصرية وهو لم يقرأ غير فصول من كتاب الأغاني وفصول من سيرة ابن هشام ، أن كلية الآداب ستؤدي حسابها أمام التاريخ يوم يقول الناس أن أستاذية الأدب العربي كانت هينة إلى هذا الحد
وطه حسين يشهد بنفسه بصدق ما أقول . أن الأستاذية في الأدب العربي عبء ثقيل لا ينهض به إلا الأقلون ، وهي تفرض الاطلاع الشامل على خير ما أبدع العرب في خمسة عشر قرناً وهي تفرض البصر الثاقب بأصول الأساليب وهي تفرض الفناء المطلق في التعرف إلى فحول الكتاب والخطباء ، وطه حسين ليس من كل أولئك في قليل أو كثير ]
هذا رأي زكي مبارك في طه حسين وهو رأي على كل معرفة واسعة عميقة مهما صحب إعلان هذا الرأي من تفجر الخلاف بينهما
ويقول زكي مبارك في بحث آخر بتاريخ 17 مارس سنة 1933 م في صحيفة البلاغ :
[ لقد صحبت هذا الباحث عشر سنين كانت خير ما مر بي من طيبات الحياة وعشنا معاً أياماً فيها الحلو والمر والشهد وجمعت بيننا ذكريات لا يجحدها ألا لئيم ، لقد كتبت للبلاغ كلمة مسموعة عن الأغلاط الثلاثة التي وقعت في محاضرته عن شعر البحتري ، وأراني مع الأسف الموجع عائداً إليه اليوم ، ولقد لا حضنا أن الدكتور لم يدرس ديوان البحتري حق الدرس ، هذا الكسل خطر جداً على مركز رجل كالدكتور طه حسين ، فإن ديوان البحتري يقع في نحو ثمان مائة صفحة ولم يخرج القصائد التي عرض لنقدها على الصفحات الأولى من ذالك الديوان ، هذه الطريقة السطحية في وزن أقدار الشعراء لا تليق برجل كان رئيس قسم اللغة العربية في كلية الآداب ، ولو تصفح الدكتور ديوان البحتري كله لكان له رأي في شعره غير رأيه الذي انتهى إليه من الوقوف عند المعاني والألفاظ
وعذر الدكتور أنه لم يقصد من تلك المحاضرات إلى الاستقصاء وإنما هي ساعة يتحدث فيها عن شاعر فيلهي سامعيه بجولات سريعة ، ولقد ظلم الدكتور شعر البحتري ظلماً شديداً ومصدر هذا الظلم أنه وقف في نقده عند الطريقة العتيقة في النقد فأخذ يمتحن شعره بيتاً بيتاً
وكنا نحب أن يذهب في نقد الشعر مذهب تلميذه صاحب نظرية الصور الشعرية فإن ذالك المذهب أصلح المذاهب لوزن قصائد الشعراء وهو مذهب يعتمد على نقد الغرض لا نقد المعنى ، واهم الجوانب في شعر البحتري هو الوصف ، وقد أغفل الدكتور هذا الجانب إغفالاً تاماً ولم يشر إليه بكلمة واحدة ، ولا أدري كيف يتحدث الباحث عن شعر البحتري ويغفل أهم ميزة من مميزات ذالك الشاعر ، فليت الدكتور يعود إلى البحتري فينصفه ]
وقد أوغل الدكتور طه حسين في هذا الهوى أكثر و أكثر
ذالك أنه ما إن كتب زكي مبارك يقول ((( الدكتور طه حسين يغلط خمس مرات فقط في محاضرة واحدة ))) حتى يعمد طه حسين إلى هذه الأغلاط فيشكلها في كتابه الذي نشرت فيه المحاضرة
ويقول زكي مبارك له ((( كأنك لا تعبأ بأي نقد يوجه إليك فما الذي كان يمنع من تدارك هذه الأغلاط )))
ويروي زكي مبارك حادثاً آخر يؤكد هذه الوجهة الخاطئة :
حدث في صيف 1929 م أن أنكرت على أن اتخذ شواهد لتطور النثر الفني من رسائل عبدالحميد بن يحيى وقلت لي :
إن عبدالحميد بن يحيى شخصية خرافية كشخصية امرئ القيس ، وكانت حجتك أن عبدالحميد ابن يحيى لم يرد أسمه في مؤلفات الجاحظ فرجعت إليك بعد أيام وأخبرتك أن الجاحظ تكلم عن عبدالحميد ابن يحيى مرات كثيرة فلم تجب بحرف واحد
ثم ألقيت وأنا في باريس محاضرة قلت فيها :
( إن عبدالحميد ابن يحيى أخذ أشياء من أدب اليونان وفاتك أن ينص على أسم الرجل الذي أقنعك بأنه لم يكن شخصية خرافية )
وهذا مغمز لآخر في افتراق طه حسين عن المنهج
ويمضي زكي مبارك في كشف هذا الجانب من شخصية طه حسين قائلاً :
[الرجل يعيش في أبحاثه عيش الحيران ينقض اليوم ما أبرم في الأمس ، لأنه لا يصدر في أبحاثه إلا عن المصادفات ولم يتفق له أن يشغل نفسه شغلاً جدياً بعمل مفيد ، وهو يختطف كل ما يراه في طريقه من الآراء ولا سيما الآراء التي تصله من بلد بعيد ويستطيع أن يجزم بأنه لا يتشيع لأي فكرة إلا وهو فيها تبع لشخصية يتوهم فيها أنها مستورة عن الناس ، ولكنه في هذا سئ الحظ ففي مصر رجل يعرفه كما يعرف نفسه ، وهذا الرجل صحب المستشرقين أكبر مما صحب وهو يعرف من أقوالهم أكثر مما يعرف فليس بغريب أن نرى الدكتور طه مطوقاً بتهمة السرقة الأدبية في أغلب ما ينشره من آراء .
منذ سنين حاول أن يثبت أن العرب لم يكن لهم نثر فني أنهم لم يجيدوا الإنشاء إلا حين اتصلوا بالفرس وأن أول كاتب في اللغة العربية هو ابن المقفع الفارسي الأصل ، نشر هذا الكلام في مجلة المقتطف وسرقه من المسيو مرسيه فكشف هذه السرقة في ترفق فغضب الرجل وأسرها في نفسه
والحق أن الدكتور طه حسين كان يأمن عواقب هذه السرقة الأدبية لأن كلام مسيو مرسيه كان قد نشر من زمان في مجلة مجهولة يندر أن يهتم بها المصريون ، وهي المجلة الإفريقية التي تصدر بالفرنسية في مدينة الجزائر ولكن الله هداني إلى تلك المجلة فكشفت بها سر سرقة ذالك الأستاذ الأمين .(51/150)
ماذا حدث بعد ذالك أخذ الدكتور يتراجع ويتقهقر في انتظام بديع وقد تنبه الدكتور طه إلى أن الشعوبية كان لهم دخل في تقديم الفرس على العرب ، ولو أنه شاء أن يفهم لعرف أن الشعوبية لا يزالون أحياء وأن لهم بقية تعيش في القرن العشرين ، ومن بقايا الشعوبية في القرن العشرين مسيو مرسيه الذي يقول :
بأن العرب لم يكونوا يعرفون النثر في الجاهلية ولا في صدر الإسلام وأن التفكير المنظم لم يجيئهم إلا عن طريق الفرس وأن أول كاتب في اللغة العربية هو ابن المقفع الفارسي الأصل ، وأنت يا دكتور طه شعوبي مقلد ... ]
وهكذا نجد أن الدكتور طه حسين لا يثبت أساساً على رأي ، فهو في موضع معين لإرضاء قوم معينين يثبت أن الفرس هم أصحاب الفضل على العرب ، وفي موضع ثاني يدعي أن اليونان هم أصحاب الفضل .
المهم أن العرب عنده مدانون مقهورون ولو شاء أن يبتغي طريق الحق لعرف أولية العرب في هذه الفنون وفضلهم الذي استمدوه أساساً من القرآن الكريم .
ويقول زكي مبارك :
[ أن مذهب إليه مرسيه وتبعه طه حسين من جهل العرب للنثر الفني حتى ظهر عبدالحميد وابن المقفع ، هو خطا فليس صحيحاً أن العرب لم يكونوا يعرفون من النثر غير الخطب وأسجاع الكهان والأمثال ، ولقد كان العرب كلفين بروعة التعبير ولتعرفنهم في لحن القول
ولهذا كانت معجزة النبي صلى الله وسلم من جنس ما تميزوا به وهو بلاغة المنطق وروعة التعبير وسحر البيان ، نعم كان
القرآن الكريم هو المعجزة العظمى ، هو البيان الذي شد العرب فتطامنوا لبلاغته ، فالقرآن هو ذروة البيان العربي وقد نزل بلسان عربي مبين كما يصفه الله تعالى ]
ولأن طه حسين لم يتشكل في ضوء بلاغة القرآن الكريم ولم يعرف أبعادها وآثارها في الأدب العربي والفكر الإسلامي أساساً
وإنما عرف منهج الغرب في نقد الأدب العربي والفكر الإسلامي ، وهو المنهج القائم على أساس الإثبات بكل الوسائل إنهما متأثران بالفكر اليوناني والفارسي فإنه لم يستطع أن يعرف كيف يواجه التراث الإسلامي مواجهة حقيقية أصيلة
فقد خدع بنظرية المستشرقين التي تقول :
أن الفكر الإسلامي تأثر بالأدب اليوناني القديم فلا بأس أن يتأثر الفكر الإسلامي في الحديث بالفكر الغربي وهي مسألة خاطئة الأساس لأن المسلمين لم يقبلوا الفكر اليوناني والفارسي وكل ما يتصل بالمجوسية والفلسفة الغنوصية والتصوف الفلسفي
كل هذا رفضه الفكر الإسلامي وقاومه وحلله ودحضه وكشف زيفه
ولقد جاءت الدراسات في مواجهة التحدي الذي قام به طه حسين من غير تعرف على أبعاد الدعوى التي حملها بغير دليل لتكشف هذا الزيف وفي مقدمتها دراسة الشيخ مصطفى عبدالرزاق ومحمود الخضري وعلى أوسع نطاق الدكتور علي سامي النشار .
وللدكتور طه حسين مقولة لم تلقى قبولاً وتلك هي قوله أن الشعر ظهر قبل النثر
وكيف يقال هذا والنثر سجية والشعر صناعة
وكذالك قوله أن أول عهد العرب بالبيان هو زمن الجاحظ وهي مقولة من ينكر على العرب بلاغتهم وبيانهم
لقد انطلق طه حسين في مصر قبل أن يذهب إلى الغرب من نظرية الجبرية التاريخية في رسالة عن أبي العلاء ، وبما سمعه من نلينو ، فلما ذهب إلى الغرب درس نظريات سانت نيف وأبيوليت سكين وحول ليمتر وهم قادة النقد في المدرسة الفرنسية وإلى جوارهم مدرسة العلوم الاجتماعية وقائدها دور كايم وزملاؤه ، ولاشك أن عرض نلينو لتاريخ الآداب العربية فيه كثير من الغمط والظلم وفيه تعصب وحقد على الرسو صلى الله عليه وسلم والإسلام والقرآن فقد أغفل شعراء المدينة الذين مدحوا الرسو صلى الله عليه وسلم مثل كعب ابن مالك وعبدالله ابن رواحه وكذالك شعراء المهاجرين والنساء الشواعر المسلمات وأهمل كثرة الشعراء في مكة والطائف
وكل هذا يوحي بأمر واحد هو أنهم حاولوا إخضاع الأدب العربي والقرآن لمناهج الأدب الغربي وروحه الأساسية القائمة على المادية أساساً وعلى المسيحية ثانياً وعلى استعلاء الغرب المستعمر على العرب والمسلمين ، ومن هنا لابد أن يوضع أدبهم في موضع الانتقاص
وهذا منهج سار فيه طه حسين وزكي مبارك وغيرهم بلا استثناء مع اختلاف قليل في هذه النظرية أو تلك ، ومن ذالك نظرية زكي مبارك بأن القرآن أثر جاهلي وأن العرب في الجاهلية كانت لهم نهضة علمية وأدبية وسياسية كان الإسلام تاجاً لها وهو ما دحضه فريد وجدي وغيره
وقد حرص الدكتور طه حسين لضعف مراجعه وعدم صبره على البحث وعجزه عن فهم النصوص ، ولظروفه الخاصة أن يعتصم بمذهب قوامه الذوق بدعوى أن الذوق أصبح في العصر الحديث علماً وقد لقي هذا المذهب انتقاداً شديداً وكشف عن قصور بالغ في مجال الدراسة ووصفه العقاد بأنه مذهب لا صلاحية له
يقول العقاد [ أن النقد الذي لا مقياس له غير ذوق صاحبه ولا غاية له إلا أن يخرج بك من الكتاب بأثر يدعيه ولا يقبل المحاسبة فيه إنما هو ثرثرة لا خير فيها وكثيراً ما ذكرتني طريقة هذه الطائفة الناقدة بخطابة جحا حين قيل له :
كم عدد نجوم السماء ؟
فقال لهم : عدد شعر رأسي
فقالوا له هذا غير صحيح وعليك البرهان(51/151)
قال : لا بل صحيح وعليكم أنتم البرهان عدوا النجوم وعدوا شعر رأسي وبينوا لي الفرق بين العددين إن كنتم صادقين ]
ولقد حاول طه حسين بادعاء عريض أن يدعي ما قدمه هو المنهج العلمي وكلمة المنهج العلمي كلمة فضفاضة مضللة لأنها لا تقوم على أساس صحيح فعلى أساسها أنكر طه حسين وجود إبراهيم وإسماعيل برغم من ذكرهما في القرآن الكريم والتوراة
وفي مجال دعوى العلم أنكر نزول الأديان حين قال :
إنها خرجت من الأرض كما خرجت الحياة نفسها ، والحقيقة أن هذا ليس هو العلم و إنما هذه الفلسفة المادية التي أدعى أصحابها أنهم أقاموها على أساس العلم ، بينما تغيرت المفاهيم بعد ذالك ولم تعد كلمة العلم تطلق إلا على العلم التجريبي وحده
وقد أدعى طه حسين المنهج العلمي في رسالة أبي العلاء المعري التي أقامها على مفهوم مادي فلسفي يرى أن الإنسان أثر من أثار البيئة لا يكاد يفترق عن الحيوانات والنباتات في انتفاء الحول وانعدام الإرادة
فهل يقر الفكر الإسلامي بتلك الجبرية الضالة وكيف يمكن أن يقوم الإنسان وهو صاحب الإرادة الحرة التي يتصرف بها ويمتلكها ويسأل عنها أن يوضع في صف الحيوانات و النبات ، الحقيقة أن هذا المذهب كان أثراً من آثار عملية النشوء والارتقاء التي حاولت النزول بالإنسان عن مكانته الحقيقية وشبهته بالحيوان ، ثم جاءت الفلسفات المادية لتجعله غير مسئول عن شيء ، ونما هو تابع للمجتمعات وواقع تحت رحمة القوى المحيطة به وأنه نتاج الوراثة والبيئة وهذا ما يرفضه الإسلام رفضاً تاماً ، وقد تحولت المذاهب عن ذالك من بعد وأعلنت أن العلوم الإنسانية لا يمكن أن تدرس بأسلوب العلوم التجريبية ، ومعنى هذا أن نظرية طه حسين سقطت سقوطاً ذريعاً وأن كل ما كتب في ضوئها من رسائل فقد طبقه على :
ابن خلدون : طه حسين
الأخلاق عند الغزالي : زكي مبارك
عصر المأمون : أحمد فريد الرفاعي
كانت قائمة على أساس باطل زائف
والحقيقة الأخرى أن الأستاذ صادق الرافعي قد كشف في كتابه عن الأدب العربي عن علم الرواية عند العرب وأوضح حدوده ، بحيث لا يخرج المنهج الحديث في دراسة النص عنه
وقد حمل عليهم الرافعي حملة شعواء ورماهم بالقصور والتقصير وقال أنهم تنكبوا طريق العرب في الرواية والحفظ
وأن ما قبل من أن ديكارت قد أعلنه عن منهج الشك في طريق الأيمان وليس الشك الفلسفي الزائف قد تبين أنه مأخوذ من رسالة ( المنقذ من الضلال ) للأمام الغزالي ، وأن الأستاذ محمد فريد وجدي كشف عن زيف مذهب النشوء والارتقاء قبل أن تجئ الحفريات الأخيرة التي زيفت ما خاض فيه الماديون خلال مائة عام
وقد تأثر بمذهب النشوء والارتقاء جورجي زيدان وشبلي سمئل والزهاوي والعقاد وأحمد أمين وسلامة موسى وكثيرون
ومن ثم فقد كان واضحاً أن ما قدمه طه حسين تحت أسم العلم والمنهج العلمي ليس إلا الفلسفة المادية الوضيعة ، ومفاهيم مدرسة العلوم الاجتماعية التي قام عليها أصدقاؤه اليهود ( دور كايم وليفي بريل ) وأنها كانت محاولة لإخضاع الأدب العربي والفكر الإسلامي للتفسير المادي الوثني للتاريخ
ومن ناحية أخرى فإن الدكتور طه حسين حريص على أن يعقد كل أبحاثه في مجال الأدب العربي والفكر الإسلامي على مجموعة من الأباطيل والأضاليل يرددها دائماً ويلوكها حتى تثبت في أذهان تلاميذه ومستمعيه :
أولاً : : أن البيان العربي مكون من ثلاثة عناصر أحدهما الفارسي ( وهو الذي يمثل البلاغة والظرف في القول والهيئة ) والعنصر اليوناني المؤهل بالمعاني الخاصة من حيث دقتها والعلاقة بينها وبين الألفاظ ، والعنصر العربي أي أن البيان العربي ليس بياناً عربياً خالصاً مستمداً من القرآن
ثانياً : الادعاء بأثر هليني واضح في الأدب والكلام وأن عبدالقادر الجرجاني هو تلميذ أرسطو
ثالثاً : أن أرسطو هو المعلم الأول للمسلمين ليس في الفلسفة وحدها ولكنه إلى جانب ذالك معلماً في علم البيان
وهذه الادعاءات الثلاث باطلة بطلاناً تاماً
رابعاً : الإشادة بفضل المستشرقين على الأدب والفكر وعلى أمثاله حتى أنه ليرى أنه لم يفهم القرآن إلا من كازنوفا ، ولم يفهم الأدب إلا من نلينو
وفي الفصل الثاني من كتاب الأستاذ أنور الجندي ( محاكمة فكر طه حسين ) وبعنوان الأدب العربي - تاريخه ونقده
بقول :(51/152)
تولى الدكتور طه حسين تدريس الأدب العربي في كلية الآداب بالجامعة المصرية في أول إنشائها عام 1925 م وكان من قبل في الجامعة القديمة - بعد عودته من أوربا عام 1919 م يدرس تاريخ اليونان والرومان وهي المادة التي درسها في فرنسا ولذالك فقد كان العمل في ميدان الأدب جديداً عليه ولم تكن لديه الأدوات الحقيقية لهذه المادة ، ومن هنا كانت كبواته وأخطاؤه ومناقصه ، وهذا القول وأن بدأ متجهماً فإنها الحقيقة التي شهد بها كثير من تلاميذه وزملائه والدارسين في مجال الأدب العربي في الجامعة ودار العلوم والأزهر ، ومن أجل أن يفرض آراءه فإنه خاصم جماعة الأساتذة الذين كانوا قد سبقوه في هذا المجال وتمكن من أخراجهم من كلية الآداب ومنهم من ذهب إلى دار العلوم أمثال أحمد ضيف ، والدكتور العناني ، ومن ثم فقد خلا له الجو فمضى يقوم برسالته الحقيقية التي كان مكلفاً بها وهي تزييف مفهوم النقد الأدبي وخلق روح السطو وإفساد منهج الكتابة الأدبية وخلق روح من التحلل والإباحة في مدرجات كلية الآداب ( وهذا هو ما شهد به تلميذان من أقرب تلاميذه إليه وهما محمود شاكر ونجيب البهيتي )
ونحن حين نستعرض آراءه هنا في الأدب العربي نجد ظاهرتين واضحتين :
الأولى : هي التخبط والانتقال من رأي إلى رأي آخر حسب ما تفرض به الأهواء والظروف كالقول بأن الأدب العربي أخذ من الأدب الفارسي مرة ومن الأدب اليوناني مرة أخرى
الثانية : الآراء المعروضة كلها مقتبسة من المستشرقين ومنقولة عن أدب آخر له ظروفه وأوضاعه ، وهو الأدب الفرنسي
وهي نظريات سانت منيف وأبيوليت تين وجول ليمتر ، وهي نظريات تحاكم الإنسان إلى مفهوم مادي ، ولا تؤمن باستقلالية العلوم الإنسانية فهي ترى أن الإنسان خاضع للجنس ولقمة العيش ، ولا ترى له تأثير بأي قيم معنوية أو روحية كما أنه يصدر في تصوره الإنساني كله في عالم الأدب على الجبرية المادية التي خضع لها منذ أول رسالة له عن أبي العلاء فقد أعتمد المذهب المادي في تفسير حياة الرجل
ومرجع هذا إلى دروس جويدي ونلينو وملبوي وكازنوفا وماسينون ، سواء فيما تلقاه عن بعضهم في الجامعة المصرية القديمة أم في باريس
ثالثاً : أعطى أهمية كبرى لما أسماه تأثير الوثنية واليهودية والنصرانية على الشعر العربي ( وهو ما ركز عليه طويلاً خدمة للصهيونية العالمية ) وانتهى به إلى نتائج مضللة وهو أن للوثنية واليهودية والنصرانية تأثيراً على الشعر العربي وحاول أن يوجد فضلاً مصطنعاً لليهود على شعراء العرب
رابعاً : عمد إلى إصدار الحكم على العصر العباسي من قراءة كتاب كالأغاني الذي لم يكن في نظر الباحثين مرجعاً أصيلاً لدراسة العصور الإسلامية ، وإنما هو كتاب ألفه شعوبي معروف جمع فيه أخبار المجان والشعراء والعشاق وأدعى في هذا الحكم على أن هذا العصر عصر فسق وفجور اعتماداً على وجود أمثال أبي نواس وبشار والضحاك ناسباً ومتجاهلاً عشرات من العلماء والحكماء وأهل الفضل
خامساً : يرى فصل الأدب عن الإسلام ( بوصفه حلاً جامعاً للقيم ) باسم حرية الأدب ودعوته إلى إطلاق الأدب والشعر والفن من قيود الفضيلة وقيم الإسلام فلا يكون على الكاتب والشاعر أو الفنان من حرج في أن يصور الرذيلة كيف يشاء ، وهو مذهب إباحي كان جزءاً من رسالته الإباحية والشعوبية عمد إلى إدخاله إلى الأدب العربي ، ومن خلاله أعلى شأن شعراء المجون والغلمة وقد عمل في هذا المجال عملين :
1- ابتعاث الشعر الإباحي
2- ترجمة القصص الجنسي الغربي
ساساً : نزعته الشعوبية التي جعلته يعلي من شأن أخوان الصفا والملاحدة والشعوبيين ونشر أفكارهم
سابعاً : دعوته إلى فصل اللغة العربية عن الإسلام بهدف تدمير رابطتها بالقرآن الكريم وإحياء العامية وتطوير النحو
ثامناً : دعواه بأن البيان العربي نسجت خيوطه من البلاغة العربية في المادة واللغة ومن البلاغة الفارسية في الصورة والهيئة ومن البلاغة اليونانية في وجوب الملأءمة في أجزاء العبارة
تاسعاً :دعواه إلى دراسة تاريخ الأدب كما يدرس صاحب العلم الطبيعي على الحيوان والنبات
ومن ثم فإن المنهج الذي رسمه طه حسين لدراسة الأدب العربي يقوم على
1- خليط من آراء انتقالية متباينة أراد بها أخراج الأدب العربي من أصالته فهو لم ينشئ في دراسة الأدب العربي ونقده ولا في دراسة تاريخه مذهباً عربياً أصيلاً ، وإنما كان تابعاً للمذاهب الغربية فأخذ من دور كايم منهجه في البحث التاريخي وطبقه على ابن خلدون ومن سانت بيف اتجاهه وأبرزه في حديث الأربعاء وأخذ من بلاشير رأيه في المتنبي
2- أعلى من شأن الأدب اليوناني القديم والفرنسي الحديث وأذاع جوانب معينة منهما تتعلق بالأدب المكشوف والإباحية
3- استعمل أسلوب الشك والسخرية والتهكم والتشكيك القائم على الضن والذي يعتمد على سند علمي صحيح ، وجعل
النظرة الذاتية غالبة على النظرة العلمية(51/153)
4- هاجم صلة الأدب بالأخلاق ، وهي صلة أساسية عميقة وجذرية في الأدب العربي وفتح باب الحرية الحسية في الأدب العربي الحديث على نحو لم يكن متقبلاً منه فترجم القصص الفرنسي المكشوف وأشعار بود لير وأولى اهتمامه لشخصيات أبي نواس وبشار وغيرهما من شعراء المجون
السؤال المثار دائماً :
هل طه حسين مدرس جامعي حقيقي وهل يملك الأداة الصحيحة للتربية والتعليم ؟؟؟
وقد أجاب على هذا السؤال الأستاذ حسن البنا في مقال مطول حين قال :
[ إن المدرس ينظر إليه من جهات ثلاثة : من مواهبه الخاصة في المادة التي يدرسها ومن مادته التي يقدمها لتلاميذه وفي طريقة التفكير وما يثبته في نفوس طلبته من أخلاقه وطبائعه .
والدكتور طه حسين متهم في ذالك جميعاً فهو لا يحسن الشعر ، وإن حاول ذالك أتى بالغث المتكلف الذي يمجه الطبع ويستثقله السمع على نمط لاميته التي يقول فيها :
مالي وما للبدر أطب رده ***** بل ما لأفلاك السماء ومالي
إلى آخر ما قاله من هذا النظم المهلهل والنسيج المتنافر واللفظ الضئيل الغاية وهو لا يجيد أسلوب الكتابة إذا حاكمته إلى الذوق العربي والبلاغة اللغوية وقسته بما وضعه الأئمة من أوزان البيان ومقاييسه ، أما في حشو القول والاتساع به وإطالته بالتشدق والنهيق فالرجل في ذالك لا يشق له غبار واعتبر في ذالك بما كان في قضية المعلمين وقصتهم التي كتب عنها في السياسة فأعيدت القصة وذكرت القصة بضع مرات فيما لا يزيد على عشرة أسطر من أسطر الجريدة ، وما هو بالناقد الذي يحسن النقد الصحيح ، في الشعر والنثر ، وأن أحسن التهجين والتجريح والزراية على غيره من الأدباء والكتاب وأن الذي يقرأ بيت شوقي في ميميته الذي يقرض فيها كتاب الأخلاق :
يا لطف أنت هوى الصدى ***** من ذالك الصوت الرخيم
فنفهم أن الشاعر يقول أن أرسطو كان ذا صوت رخيم ويورد على ذالك أن لا هو ولا شوقي سمع هذا الصوت ، ثم لا يدرك في هذه الإشارة البليغة من عذوبة وجمال وتناسب لحري به أن يدع الثقة لأهله وأن يعلم أن دعواه فيها كدعوى الحرب في زيادة ، وبعد فليس الدكتور طه حسين متخصصاً بدراسة تاريخ العرب لم يتلقه عن أستاذ ولم يلم به في مدرسة ، وإنما علم من ذالك ما يعلق في ذهنه من مطالعة كتب الأدب لا لتدرس ولكن ليراها وما نيل الدكتور طه حسين إجازته في تاريخ اليونان أو تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده أقوى الدعائم التي يستند إليها الكاتب إذا أراد أن يكتب في الأدب العربي فمن فاتته روايته ودرايته فقد فاته أس البحث ونبراسه وسار على غير هدى
ذالك من ناحية مواهب أستاذ الجامعة في الأدب العربي وتاريخه أما من ناحية ما يقدمه لتلاميذه فمن أفكاره ، فقد كانت باكورة ذالك كتابه ( في الشعر الجاهلي ) وقد حكم عليه عقلاء الأمة وأدباؤها بالخطأ والخطل والغثاثة وكشف المحققون الغطاء عن مغامز ومعايب فيه برأ منها العلم وأيد ذالك حكم القضاء
أما طريقته في التفكير وما يبثه في نفوس طلبته من طبائعه وأخلاقه فما علم الناس من ذالك إلا الشك والحيرة والانسلاخ عن العقيدة والدين وتسمية ذالك منهجاً علمياً وقد برهن العالم الضليع مؤلف ( النقد التحليلي ) أن هذا الأسلوب ليس من المنهج العلمي في شيء
فأي شيء بعد ذالك كله يسوغ بقاء أمثال هذا المدرس في منصب كبير كمنصبه الحالي
وإن عجب فعجب دفاع الأستاذ عباس العقاد عنه وزعمه أن الدكتور نابغة الدهر ونادرة العصر ، وأنه لا يمكن أحد أن يسد فراغه أو يملأ مكانه أو يدرس الأدب كما يدرسه ، وأنه قرأ كتابه فلم يجد فيه ما يمس الدين والأخلاق
حنانيك يا أستاذ عباس فإن الأمر هام لا يفتى فيه بالرأي ولا يؤخذ بالضن ، المسألة مسألة دليل وبرهان وحق يتبعه الجميع إنك بقولك هذا تتحدى الأمة جمعاء وتسئ إلى رجال وزارة المعارف الذين تخصصوا بدراسة هذه المادة وفيهم أساتذة الدكتور وأولياء نعمته وتطعن في تقارير تلك اللجان فحكمت عليه بالخطأ والتجهيل وأظهرت معايبه في عشرات المواضع وتحكم على الأمة بالجدب الأدبي حين تزعم أنه لا يستطيع أن يدرس الأدب فيها إلا واحد
ولعل حكمك هذا على رجال الأدب في مصر من نوع حكمك السابق على شوقي وحافظ وهما مفخرة أدب العرب وحاملا لواء الشعر العصري ولو كان لك وجه من الحق فما تقوله عن رجل الأدب من كفاءة لهان الأمر ولكن الذي تدعيه غير مسلم وليس من الحقيقة في شيء فإن كنت لا تعتد إلا بنفسك وبالدكتور وتدعان الحق والدليل فلكما شأنكما وإن كنت تطلب الحقيقة فهي ما أسلفناه بالدليل من أن الرجل متهم في مواهبه ومادته وطريقة تفكيره وغايته جميعاً ((( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً )))(51/154)
أما قولك أن الكتاب ليس فيه ما يمس الدين والأخلاق فاسمح لي أن أصارحك بأنك لست من أهل الدين المتخصصين به ، ولقد أقر هؤلاء خلاف رأيك فإذا لم يعجبك هذا وأبيت إلا الدليل فاذكر قصة إبراهيم وإسماعيل وتكذيب المؤلف للقرآن والتوراة والإنجيل وتهوين شأن صلى الله عليه وسلم ونسبته إلى التحايل بالأساطير والتهكم بالأجلاء من الصحابة ورميهم بالمخاتلة وعدم التأثر بتعاليم الدين إلا ظاهراً وتكذيب صريح الأحاديث الصحيحة وتعطيل أحكامها والخلط في الأعراض والأنساب والنتائج والأسباب
أذكر كل ذالك وغيره وما يمس الدين والأخلاق ثم قل لنا هل اقتنعت بما تذهب إليه أم لا تزال تقدم الدكتور على الحق الصريح
أن الأمر واضح لا يحتاج إلى بحث أو نقاش فالكتاب مبتذل ممقوت والمؤلف متهم في عقيدته ومادته والأدباء غيره كثير ، فا أعدموا الكتاب وأقصوا المؤلف عن بث بغضه على الإسلام في أبنائنا وشبابنا وأيدوا الحق وأريحوا الطلبة والأمة من هذا العبء الثقيل ]
وفي الفصل الثالث من كتاب ( محاكمة فكر طه حسين ) بعنوان أدب المجان والجنس والإباحة
يقول الأستاذ أنور الجندي :
كان من أكبر أهداف طه حسين إشاعة أدب المجان والجنس والإباحة وقد قصد إلى ذالك ناحيتين
الأولى : إحياء ما وجده في الأدب القديم من فنون الجنس عند بعض الشعراء المنبوذين من أهليهم وأمتهم ومما جمعه الشعوبي الخاطئ الأصفهاني في كتابه الأغاني
الثانية : مما عمد إلى ترجمته من القصص الجنسي الفرنسي الداعر
ومن الطبيعي أنه حين دعا إلى تحرير الأدب العربي من الارتباط بالفكر الإسلامي كان يهدف إلى دفعه في أو حال الشهوات والجنس والإباحية وهو هدف خطير قام عليه كتابه ( الشعر الجاهلي ) ونظريته كلها وليس أدل على خطورته مما أشار إليه المستشرق كاممفاير حين قال ( إن المحاولة الجريئة التي قام بها طه حسين ومن يشايعه في الرأي لتخليص دراسة العربية من شباك العلوم الدينية هي حركة لا يمكن تحديد أثارها على مستقبل الإسلام مهما أسرفنا في التقدير في فكرة لا تجد كلمة عنها )
هذا هو الهدف الذي يسعى إليه التغريب :
وهو فصل الأدب العربي عن مفهوم الإسلام الجامع الذي هو جزء منه لا ينفصل ، وهي الدعوة التي ضل طه حسين يرددها دون أن يتبين البعض مدى خطرها ، وهذا هو الهدف من عبارة ( الحرية ) التي كان يرددها دائماً
الحرية عنده بمفهوم الماسونية وهو من أهلها وهي الانطلاق وراء الأهواء والشهوات ، وقد عمد إلى شعر المجون فأذاع به ، كما اهتم بشعر الغلمة وحاول أن يضع لأبي نواس وبشار صورة بطولة ليست لهما في الحقيقة ، فقد كان مع المجموعة من شعراء المجان الذين عني بهم طه حسين في كتابه ( حديث الأربعاء ) مجموعة من الشعوبيين الإباحيين الذين هم موضع احتقار المجتمع وامتهان المثقفين والعلماء
ولكن طه حسين في جرأته على الله والحق والتاريخ لا يلبث أن يقول كلمته المسمومة : إن القرن الثاني للهجرة كان عصر شك ومجون وزندقة وفجور ، وانه يتخذ كنموذج لهذا العصر : أبا نواس وولبه و مسلم وأمثالهم من شعراء اللهو ، ويعتمد على كتاب الأغاني في كثير من الأحكام التي أصدرها من غير تحرج ولا احتياط على هذا العصر
بل ذهب إلى أبعد من هذا حيث دعا شباب كلية الآداب إلى اعتبار كتاب الأغاني مرجعاً في دراسة العصر ومصدراً لرسم صورة المجتمع الإسلامي وهذا زيف بالغ الخطر وجرأة على الحق
ولقد ووجهت أفكار طه حسين المسمومة هذه بالنقض ، ووقف له العلماء بالمرصاد ينتقضون آراءه الفجة
ومن ذالك ما قاله الأستاذ محمد عرفه في الرد على فرية اتهام القرن الثاني الهجري بأنه عصر شك واستهتار [ ليس معنى الحكم على عصر بأنه عصر شك واستهتار أنه قد وجد فيه الشك والاستهتار إذ لا يخلو من ذالك عصر من العصور
وإنما المعنى أن الروح العامة فيه هي الشك والاستهتار ، ولقد توصلت إلى حكمك العام على العصر الثاني باستقراء طائفة من الأدباء والشعراء والمترفين فرأيت فيهم الشاك والماجن فأخذت العصر بجريرة هؤلاء وحكمت على العصر بأنه عصر شك ومجون ، وأن تصفح طائفة ووجد أنها على صفة لا تعطي منطقياً الحكم على عصرهم جميعاً أن فيه هذه الصفة
في العصر الحسن البصري ومحمد ابن سيرين والشعبي وعمرو ابن عبيد ومالك ابن أنس ومحمد ابن إدريس والشافعي وأبو حنيفة النعمان وأحمد ابن حنبل ومالك ابن دينار وعبدالله ابن المبارك وربيعة الرأي وعمر ابن عبدالعزيز وطائفة الفقهاء والزهاد والمحدثين هم الذين يمثلون عصرهم ويعطون صورة صحيحة عنه ،أم طائفة الشعراء والمغنين مع تقدير أثر الدين في النفوس ودور هؤلاء العلماء في تخريج الأحكام ، لقد كان هؤلاء الشعراء يرون أنفسهم غرباء بخلقهم في ذالك العصر وأنهم شذاذ منه وكانوا يسعون بما لديهم من قوة في دفع القالة عنهم(51/155)
العصر الثاني عصر يقين واحتشام لا عصر شك واستهتار وأن السبب في الحكم بغير هذا وعلى ما أضن أن القارئ ( للأغاني ) يخيل إليه من كثرة ما يذكر من مجون هؤلاء أنهم في جو يسيل فسقاً ومجوناً وإلحاداً ولكن أذا تذكرنا أن صاحبه إنما عني بتاريخ طائفة فقط من الشعراء والمغنين وليس ذالك تاريخاً لسائر العصر ، حمينا أنفسنا من التورط في ذالك الحكم ]
ويقول الدكتور غلاب [ لقد ذهب طه حسين في هذا الكتاب بجرأة غريبة إلى أن العصر العباسي كله عصر شك ومجون وزندقة وفجور وأتخذ نموذجاً لهذا العصر أبا نواس ومسلم ابن الوليد وأمثالهم من شعراء اللهو والعبث ، واعتمد في كتاب الأغاني على كثير من الأحكام التي أصدرها من غير تحرج ولا احتياط على هذا العصر ]
ويقول الدكتور زكي مبارك في كتابه النثر الفني [ والدكتور طه حسين وجرجي زيدان قد أساءا فهم العصر العباسي وأنهما قد تورطا في الخطأ حين وصفاه بأنه عصر إلحاد ومجون وقد رماهما من طرف واحد خفي بأن حكمهما هذا إنما قلد الأصفهاني الذي لم يرسم العصر العباسي إلا على لوحة خلق معدنها من الكذب والتمويه وصيغة مادتها من الضلال والبهتان ]
وقال الأستاذ إسماعيل حسين [ أن كل ما ذكرته في حديث الأربعاء يرغب في معاداة القضية ويغري بارتكاب الرذيلة والإثم وينشر الإباحية
فإنك لم تذكر للعرب سوى الزندقة والمروق والإلحاد والنساء والغزل المذكر ، ولقد كنت هداماً شنيعاً للعرب الذين لم يخلق الله نفسية أعز من نفوسهم وعزمة أشد من عزماتهم الصادقة ]
وقد أشار الدكتور عبدالحميد سعيد إلى خطورة حديث الأربعاء في حديثه في مجلس النواب المصري عام 1933 م
يقول أنطوان كرم في كتاب ( الأدب العربي ) في آثار الباحثين عن كتاب ( حديث الأربعاء ) إن أبرز ما عني به طه حسين هو ميله إلى جعل أبي نواس في شعر لهوه وعبثه وخمره ، ابن عصره وجعله في شعره الجدي أبن الأعصر الخوالي
ويقول أن المؤلف اختط لنفسه أن يجمع بين الأنماط الثلاثة التاريخي والذاتي والفني وأن يحاول أن يجمع بين أسلوب سانت بوف وجول لميتر وتين ، فيجري فيها جميعاً على غير ما استيفاء للملامح ولا يتسلل إلى الدقائق فإذا به يخطي طريق المؤرخ الحق في جلاء الشك وتحري الحق الأخير ويخطئ طريقة الذاتيين في تفكيك الذات المبدعة حتى تقتصر فيها على بعض جوانب ويستند إلى الرواية بدل أن يكتشفها في الشعر ويحيي الرواية في الشعر ولا يجعل الشعر شاهداً على الرواية فتراه متحاملاً على بشار يتنكر للالتواء في نفسيته ويرد المتناقضات التي تقوم عليها الذات البشرية متجهة في منحى واحد هو منحى الشر والإثم ، ثم إنه أخطأ المنحى الفني إذ ألمع على مواطن الجمال لمعاً عاجلة يتسع مداها حتى ينطبق على غير شاعر من الشعراء يقول هذا جميل ، يسير التناول ، شديد التعقيد ، ولا يدير القول على سبيل التخصيص فيقع الحكم هاشياً عاماً خلواً من الدلالة ، ويصدف عن التحليل الفني الخاص ويشير من بعيد إلى الألفاظ الحلوة الجرس التي تملأ السمع على استساغة ولا يجاوز تلمس الخصائص ولا يقتضي التحليل
ونح نرى أن طه حسين ليس ناقداً له باع في فهم النصوص ، وكل ما وجهه إليه الكتاب على مدار أبحاثه يدل على قصور واضح ، فهو ليس بصاحب صناعة في النقد ولا في الأدب على وجه التحقيق ولكنه مراسل من مراسلي المعاهد التبشيرية العالمية لإثارة الشبهات ووضع السموم في قلب النصوص وهو في هذه البابة داعية الأدب المكشوف الذي يحاول أن يصم القرن الثاني الهجري بأنه عصر شك ومجون اعتماداً على صورة مسمومة رسمها الأصفهاني لبعض الشعراء الماجنين المنبوذين من المجتمع الإسلامي العريق الحافل في هذه الفترة بطائفة من ألمع رجاله
وهو في هذا ليس باحثاً متمكناً يستطيع أن يحكم عواطفه ، أو يدير أسلوب التغريب باقتدار ولكنه يكشف نفسه منذ اللحظة الأولى بأنه صاحب هوى وهو يدافع عن شبهاته بغير تحفظ ولا تحرج ولا احتباط فإذا ردت إليه واحدة بعد أخرى على أنها باطلة لم يسود وجهه ، ولكنه ذهب للبحث عن سموم أخرى هكذا عاش حياته كلها فهو قد ذهب في الشعر الجاهلي مذهبه في تزييف الحقائق ثم حين ينتقل منها إلى حديث الأربعاء يعلن في صراحة أن شعراء المجون يمثلون عصرهم أكثر من الشافعي وابن حنبل وأبي حنيفة ومن يصدقه في ذالك ، ويعتمد على الأغاني ( وصاحبه منهم في عقيدته وخلقه ، فهو من الشعوبية المارقين )
وقد أجمعت المصادر التي أرخت له ولكتابه أنه مثل طه حسين صاحب هوى لا يوثق بروايته وأنه يصرح في كتبه بما يوجب عليه الفسق ويهوى شرب الخمر ، وربما حكى ذالك عن نفسه ومن تأمل كتاب الأغاني رأى كل قبيح ومنكر
وكان في خلقه الشخصي مسرفاً أشنع الإسراف في اللذات والشهوات وما رواه ابن شاكر في كتابه ( عيون الأخبار )
أن الشيخ شمس الدين الذهبي قال ( رأيت شيخنا تقي الدين بن تيمية يضعفه ويتهمه في نقله ويستهول ما يأتي به ، وما ذكره تحت شيء من أوصافه :
كان أبو الفرج الأصفهاني وسخاً قذراً )(51/156)
الدكتور زكي مبارك هو من أوائل من نبه في العصر الحديث إلى هذه الحقيقة حول الأصفهاني وكتابه الأغاني ( المقتطف م 77 - يوليو سنة 1930 م ) وقد ضم هذا البحث لكتابه النثر الفني وكان ذالك من أسباب حملة طه حسين عليه لأنه حين كان يكشف زيف الأصفهاني أمام الباحثين أنما كان يوجه خنجراً إلى قلب طه حسين الذي كان أول من أعلن في كلية الآداب اعتبار كتاب الأغاني مرجعاً في دراسات الأدب بالرغم من كل ما عرف عن شعوبيته وزندقته وفساد وجهته .
قال زكي مبارك أن أبو الفرج قد طعن في بعض الروايات التي أوردها ، بل أريد أن أذهب إلى أبعد من ذالك فأزعم للدكتور طه حسين أن في الأغاني كثيراً من الأخبار الملفقة التي ربما تكون جازت على أبو الفرج فأوردها
ويتسأل زكي مبارك هل يصلح الأغاني مصدراً للتاريخ ، ويجيب أنه لا يصلح أن يكون المصدر الوحيد ولا أفضل المصادر ولا الجامع المانع
ويدافع التغريبيون أمثال جبور عبدالنور ( جامعة بيروت الأمريكية ) عن الأغاني ويتسأل : أمن الضروري إن يكون المؤرخ فاسقاً أو مسرفاً شنيع الإسراف في اللذات والشهوات أن لا يكون مؤرخاً وألا يكون صادقاً فيما روى أو يقول أو يكتب !!!
ونقول له نعم ، فهو قد شهد بفسق صاحبه وفي منهج الفكر الإسلامي أنه زنديق ، لا يؤخذ منه وأن هذه النفس المتردية
إلى كل هذا الفساد هل بقي فيها شيء يمكن أن يصل منه الصدق أو الحق أو الخير .
لقد كانت هناك محاولة مستميتة للدفاع عن الكتاب من دوائر الاستشراق والتغريب ، تحاول أن تعطي الأغاني القوة للصمود في دائرة المراجع ، ولكن كل ذالك قد سقط ، وليس هناك من يقول إنه يصلح مصدراً لفهم الحياة الاجتماعية في عصره ، ولا أنه كتاب أدب أو كتاب تاريخ
ولكن هل توقف طه حسين في دعوته إلى الزندقة والإباحية والجنس !
لقد ذهب إلى أبعد من ذالك فكتب حياة أبي نواس في أواخر حياته ليصلها بما كتبه عنه في أوائل الشباب ( سنة 1926 م )
وبينهما أربعة عقود
وكان ذالك في إطار حملة تغريبية واسعة لتأكيد أبي نواس ونشره بين شباب الإسلام ( حيث كتب عنه العقاد وعبدالرحمن صدقي والدكتور النويهي وطه حسين ) ونشر ديوانه محققاً ، وإحياء أبي نواس إحياء لدعوة إلى الخمر وإلى الجنس وإلى الإباحة تذكر بعصبة المجان : بشار ومطيع وحماد عجرد والخليع ، كل هؤلاء وصفوا الخمر وغلوا في وصفها وقالوا عنها مالم يسبقوا إليه ، وكان أبو نواس إلى إسرافه في المجون والعبث شعوبياً حاقداً على الإسلام ويبطن حقده عليه بحقد ظاهر على العرب فهو مقرن في التفكير لهم والسخط عليهم وقد أتخذ أبا نواس رمزاً للاستهتار والازدراء بكل شيء وإهدار كل قيمة
كل هذا أذاعه طه حسين وتوسع فيه ، وقال أنه لا يخاف من أثره على الشباب وإن إذاعة هذا كله لا تفسد أخلاقهم ولا ميولهم
ونحن نتسأل : إذن فلم اهتمام طه حسين وإصراره على دراسة هذه الأشعار الخبيثة والنفس المريضة التي قالتها ، إلا أن يكون ذالك هدفاً مبيتاً يراد به إذاعتها من جديد ووضعها في يد الشباب المسلم لتحطم معنوياته ولتصرفه عن الطريق إلى
الأصالة وإلى فهم التحديات التي تحيط بأمته ، لقد كان ذالك خطوة في طريق هدفه المبيت إلى الأدب المنحل التي سار فيها إلى النهاية وتبعها بعد ذالك بخطوتين :
الأولى : ترجم شعر بودلير الماجن
الثاني : ترجم القصص الفرنسي الداعر
كتب الأستاذ إبراهيم عبدالقادر المازني في كتابه قبض الريح ص 63 وما بعدها ما يلي :
ولقد لفتني من الدكتور طه حسين في كتابه حديث الأربعاء وهو مما وضع وقصص تمثيلية وهي ملخصة ، أن له ولعاً بتعقب الزناة والفساق والفجرة والزنادقة ، وقد يفكر القارئ أنه أدخل القصص التمثيلية في هذا الحساب ويقول أنها ليست له وأن كل ماله فيها أنه ساق خلاصة وجيزة لها ، وهو اعتراض مدفوع لأن الاختيار يدل على عقل المرء ويشئ بهواه كالإنكار سواء بسواء ، وأن يختار المرء ما يوافقه ويرضاه ويحمله عليه اتجاه فكره حتى لا يسعه أن يتخطاه ، ولست بمازح حين أنبه إلى ذالك وهاهو حديث الأربعاء : ماذا فيه ؟؟؟
فيه كلام طويل عن العصر العباسي ، وللعصر العباسي وجوه شتى وفي وسعك أن تكتب عنه من عدة وجهات ولكن الدكتور طه حسين يدع كل جانب سوى الهزل والمجون ويروح يزعم لك أنه عصر مجون ودعارة وإباحية متغلغلة إلى كل فرع من فروع الحياة فلماذا ؟
لأية علة يقضي على الجوانب الأخرى لذالك العهد ، بل قل لماذا لا يرى في غير الماجنين والخليعين صورة منه ، ولست أفتري عليه فإن القائل في الصفحة السابعة والعشرين من كتابه : ادرس هذا العصر درساً جيداً واقرأ بنوع خاص شعر الشعراء وما كان يجري في مجامعهم من حيث تدهشك ظاهرة غريبة ، وهي ظاهرة الإباحة والإسراف في حرية الفكر وكثرة الازدراء لكل قديم سواء كان هذا القديم ديناً أم خلقاً أم سياسة أم أدباً(51/157)
فقد ظهرت الزندقة وانتشرت انتشاراً فاحشاً اضطر الخلفاء من بني العباس أن يبطشوا بالشعراء والكتاب لأنهم اتهموا بالزندقة وظهر إزدراء الأدب العربي القديم والعادات العربية القديمة والسياسات العربية القديمة بل ظهر ازدراء الأمة العربية نفسها وتفضيل الأمة الفارسية عليها وكانت مجالس الشعراء والكتاب والوزراء مظهراً لهذا كله ، وليس يعنينا أن تكون النهضة السياسية الفارسية وحرصها على الانتقام من العرب والاستئثار دونهم بالسلطان مصدر هذا التغير
وإنما الذي يعنينا أن هذا التغير قد وجد وقوي حتى ظهر في الشعر ظهوراً جعل إنكاره مستحيلاً
ولم يكتف الدكتور طه حسين أن يعمد إلى طائفة معينة من شعراء العباسيين وأن يرسم من سيرتهم صورة يزعمها صورة العصر بل هو ينكر أن غير هؤلاء العلماء أو الشعراء يمثل العصر العباسي واقرأ قوله في (صفحة 50من هذا الكتاب)
[ فقد بينا في ذالك الحديث أن هؤلاء الشعراء كانوا يمثلون عصرهم حقاً وكانوا أشد تمثيلاً وأصدق لحياته تصويراً من الفقهاء والمحدثين وأصحاب الكلام وأن هؤلاء العلماء على ارتفاع أقدارهم العلمية ومنازلهم الاجتماعية والسياسية وعلى أن كثيراً منهم كان ورعاً مخلصاً طيب السيرة لم يأمنوا أن يكون من بينهم من شك كما شك الشعراء ، ولها كما لها الشعراء واستمتع بلذات الحياة في عصره ، كما استمتع بها الشعراء في جهرهم ]
وهل يقف الدكتور عند هذا ويقنع بهذا القدر ، كلا يا سيدي ، بل يجري إلى آخر الشوط ، ويقول في ( الصفحة 39 من كتابه )
[ خسرت الأخلاق من هذا التطور وربح الأدب ] فلم يعرف العصر عصراً كثر فيه المجون وأتقن الشعراء التصرف في فنونه وألوانه كهذا العصر ، ثم كان من كثرة المجون أو بعبارة أصح ، كان من فساد الخلق في ذالك العصر والعصور التي وليته أن ظهر فن جديد من الغزل لم يكن معروفاً في الجاهلية ولا في صدر الإسلام ولا في أيام بني أمية ، وإنما هو أثر من آثار الحضارة العباسية هو أثر أنشأته هذه الحضارة الفارسية عندما خالطت العرب أو عندما أنتقل العرب إليها فاستقر سلطانهم في بغداد وهذا الفن الجديد هو الغزل بالغلمان الذي سنحدثك عن خصائصه في غير الفصل ]
إذا سمعت رجلاً يقول أن الأخلاق فسدت وخسرت وأن الأدب ربح من وراء ذالك أفلا ينهض لك العذر إذا قلت أن ينغم عن هذا الفساد ويسوغ هذه الخسارة ، نعم بلا ريب ، وأنت تحس من كلامه الرضى والابتهاج
حديث الأربعاء
تحت هذا العنوان يقول الأستاذ أنور الجندي :
يمثل كتاب حديث الأربعاء مجموعة مقالات نشرها الدكتور طه حسين في جريدة السياسة عام 1924 م تناول فيها عدداً من الشعراء الإباحيين الغزليين أمثال أبو نواس وبشار وواليه والخليع ومن إليهم
وقد حاول الدكتور طه حسين في جمع هذه المقالات أن يفرض فرضاً باطلاً زائفاً قوامه أن القرن الثاني عشر للهجرة كان عصر شك واستهتار ومجون اعتماداً على وجود هؤلاء الشعراء فيه
وأن هؤلاء الشعراء يمثلون عصرهم بأقوى وأعمق مما يمثله الفقهاء والعلماء والزهاد وقد اعتمد في ذالك على كتاب الأغاني الذي ليس مرجعاً صحيحاً يمثل العصر لأن صاحبه حدد هدفه وهو الحديث عن الأغاني ولا يجوز أن يحكم على المجتمع الإسلامي في العصر العباسي من قراءة كتاب الأغاني الذي ألفه صاحبه لأخبار المجان والشعراء
وقد عمد طه حسين في هذا الكتاب إلى إشاعة الفاحشة إذ تتمثل فيه الرذيلة بأبشع مظاهرها على حد تعبير الدكتور عبدالحميد سعيد وتظهر في نفسية الرجل بما يشرحه بعناية خاصة وإطناب من قصص المجون والفجور بأسلوب جذاب وبطريقة خلابة تؤثر في الناشئ المسكين وتزين له سبيل الفساد وتحبب له الانغماس في الشهوات بعد أن شوه له الدين وتعاليمه ومثله أمامه تمثيلاً لا يرغبه فيه وأعطاه صورة مشوهة منفردة عمن قاموا بالدعوة إليه ولم يترك مسبة إلا نسبها إليهم فقد طعن في الخلفاء والعلماء من عظماء الأمة الإسلامية
وشوه تاريخ الإسلام بحيث لم ينج من مطاعنه إنسان ولم يحظى باهتمامه في عصر الدولة العباسية الزاهر إلا هؤلاء الشذاذ من أهل المجون والفحش حيث جعلهم مرآة ذالك العصر
أما أولئك المصلحون من أهل الفضل والرأي الذين أقاموا صروح المدنية في العالم ورفعوا أعلام الفضيلة وأقاموا معالمها في سائر الأنحاء فلم يذكرهم بخير بل خلع عليهم من المساوئ والشتائم والسباب ما أثبت التاريخ أنهم بريئون منه وما لا يصدقه فيهم إنسان حتى لو كان من أعداء الدين الألداء
هذا هو رأيه في العصور الزاهرة للإسلام التي تفخر بها كل الفخار إن هذا الكتاب ( حديث الأربعاء ) ليموج بأمثلة الفسق والفجور والتهتك والاستهتار ويدعو إليها ويحض عليها
وأن كان ما ذكره من قصص أبي نواس وجماعته لينفر من ذالك الأدب الذي يدعي أنه يحترمه ويحميه
فقد جاء في ذالك الكتاب من مخالفة الآداب والحض على الفجور والفسق ما يهدم الجبال الراسيات ويقوض أركان الفضيلة ويهدم صرح الأدب
ومن أمثلة ذالك قوله :(51/158)
[ كان أبو نواس وأصحابه على فسقهم ومجونهم يتدينون ويقيمون الصلاة ، ولكنهم يعبثون في هذا كما يعبثون في غيره ، وربما قضوا الوقت الطويل عاكفين على الفجر ( بضم الفاء ) ثم يذكرون الصلاة فيقيمونها ولعلهم أقاموا الصلاة في مثل هذه الحال يوماً وأمهم أحد الندماء فغلط وهو يقرأ ( قل هو الله أحد ) فاستحالت الصلاة من خشوع الله إلى استهزاء بهذا الإمام الجاهل ، إلى أن قال :
وإذا أردنا مثالاً يختصر هذا العصر ويشخصه فهذا المثال هو أبو نواس الذي نتخذ من دراسته سبيلاً إلى درس هذا العصر كله]
وقد عد مجاهرة أبي نواس بالمعصية ضرباً من الصدق وعدم الجهر بالمعاصي نوعاً من الكذب لأنه إخفاء للواقع
الترجمة
تحت هذا العنوان يقول الأستاذ أنور الجندي :
يحاول طه حسين أن يثبت أن الأدب العربي في حاجة إلى مترجمات من الآداب العالمية وفي مقدمتها اللغة الفرنسية والأدب الفرنسي
وهو يذهب إلى أن يقتحم هذه الغاية فقدم أسوأ ما في الأدب الفرنسي من نتاج حيث اختار في جميع مترجماته الأدب الفرنسي المكشوف
وهو كي يداري وجهته يدعوا إلى النقل من الآداب العالمية كلها لا الأدب الفرنسي وحده ويبدأ هذه المحاولة بأن ينشئ مقارنة بين الأدبين العربي والفرنسي فيعلن أن الأدب العربي قد أخذ من الأدب اليوناني القديم فلا بأس عليه من أن يأخذ من الأدب الغربي الحديث
ثم يذهب خطوة أخرى فيجري مقارنة بين الأدب العربي والأدب الفرنسي فيشيد بالأدب الفرنسي والتبعية واضحة في الغاية وفي الوسيلة أيضاً
حيث يقول طه حسين في هذه المقارنة
[ تسألني عن الفرق بين الفرنسي و الأدب العربي ، فإني في ذالك لا أختلف من المستشرقين الذين بحثوا هذا الموضوع وهو في الواقع فرق بين العقل السامي والعقل الآري
فالأدب العربي سطحي يقنع في بالظواهر والأدب الفرنسي عميق دائم التغلغل وفي الأدب الفرنسي وضوح وتحديد لا وجود لهما في الأدب العربي .........]
وهو في هذا يردد ما قاله أكبر أعداء الإسلام والعرب ( رينان ) وهو ينطلق من هذه المحاولة المبطلة إلى الدعوة إلى نقل الأدب الفرنسي ، ولما كان لكل أدب أمة مميزاته وخصائصه المندمثة من حياة هذه الأمة وعقيدتها وأخلاقها فإن هذه المقارنة باطلة أساساً
كذالك فإن طه حسين حين ينقل فإنما ينقل أسوأ ما في هذا الآداب
ينقل ذالك اللون المكشوف الداعر الذي لا حاجة للأدب العربي به ، والذي لا يستطيع أن يعطي إلا الفساد والتحلل
وقد حرص طه حسين من خلال برنامجه التغريبي الواسع أن يقدم في جريدة السياسة يو الأربعاء شعراء المجون وأن يقدم يوم الاثنين القصص الفرنسي المكشوف
وقد كان هدف ذالك تقديم شحنة ضخمة من الإباحيات من التراث القديم ومن الأدب الحديث
وقال مستر ( جب ) إن القصص الذي ترجم لم يترجم ترجمة سليمة ولم يراع في اختياره حالة مصر الاجتماعية ولا حالة الثقافة العامة ولا الذوق الأدبي للبلاد
كما ندد بالمترجمات التي نقلت من اللغة الفرنسية ووصفها بأنها الإثارة دون المنفعة ، وأنها عملت على نقل الصور المكشوفة
وقد لقيت هذه القصص نقداً عنيفاً من عدد من النقاد في مقدمتهم الأستاذ عبدالقادر المازني الذي يقول
[ خذ إليك تلك القصص الفرنسية التي لخصها طه حسين من آن الآن يلهى بها كثيراً من النشء ويضل بها كثيراً ، هل ترى بينها وبين روح هذه الأمة صلة أو بينها وبين روح هذه اللغة صلة ، وإذا لم يكن فهل فيها شيء يحدو من عناصر الفضيلة والطهارة الروحية في هذه الأمة ويعينها على سبيل العزة التي تريد
ما نضن أحد دخل تلك القصص وخرج منها وهو أقرب إلى الفضيلة والعفاف منه قبل بدئها وهذا أهون ما يمكن أن يقال عنها ولو كنا ضاربين مثلاً ( الزنبقة الحمراء ) التي ألفها أنا تول فرانس كان فيها من المعاني ما كنا نضن أن أستاذاً يستحي أن ينقله إلى الناس أو أن مجلة مثل الهلال تنشره عليهم !!!
الدراسات الصهيونية
تحت هذا العنوان يقول الأستاذ أنور الجندي :
هناك عوامل متعددة تكشف عن صلة الدكتور طه بالفكر الصهيوني منذ خطواته الأولى في مجال الدراسة الجامعية في فرنسا تتمثل في اتصاله بجماعة المستشرقين اليهود المسيطرين على جامعة السربون وفي مقدمتهم المستشرق اليهودي دور كايم وتبنى آراءه في العلوم الاجتماعية وفي ابن خلدون وفي بشرية الأديان السماوية المنزلة ، كما ظهر ذالك في أكثر من موضع في كتاباته ودوركايم كان رأس مدرسة العلوم الاجتماعية التي تستمد مصادرها الرئيسية من النظرية الماركسية والتفسير المادي للتاريخ ، ومن هنا فإن وجهة نظر طه حسين يمكن أن تكون ذات شقين
شق صهيوني وشق ماركسي ولقد خطفت أبصار الناس في التعرف على طه حسين في مطالع شهرته إنكاره وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وإنكار ذهابهما إلى مكة وبناء البيت الحرام وفي عبارته الجريئة التي تقول إنه مهما ذكر ذالك القرآن وذكرته التوراة فهو لا يعترف به(51/159)
لم يكن واضحاً في تلك اللحظات أن هذه ( القنبلة ) كانت لخدمة الصهيونية وإنها هي مقولتهم التي اعتمدوا عليها في إعلان الحركة الصهيونية وخداع العالم ولكن اعتماد طه حسين على نظرية دور كايم اليهودي في علم الاجتماع ونظرية مرجليوث اليهودي في الشعر الجاهلي أعطت علامات مميزة ما لبثت أن اتضحت باستقدام طه حسين اليهودي ( إسرائيل والفونسون ) من فرنسا أعده لتقديم أطروحته المشهورة عن اليهود في جزيرة العرب ثم جاء بعد ذالك اليهودي الآخر بول كراوس
في هذه الفترة تمت عمليات أخرى جريئة في هذا الاتجاه أبرزها زيارة طه حسين للجامعة العبرية في القدس ( وقد أشار إسحاق نوفون رئيس إسرائيل إلى هذا الحدث في كلمته التي ألقاها في مصر ونشرتها الصحف في 17/10/1980 م عندما صحب طه حسين في زيارته لبعض القرى التعاونية الإسرائيلية
وقد تبين أن هذه هي الزيارة الثانية أما الأولى فقد أعلن عنها الدكتور حسين فوزي في مجلة أكتوبر في 28 أكتوبر عام 1979 م عندما قال إنه زار إسرائيل في عام 1944 م مع طه حسين الذي كان مديراً لجامعة القاهرة بالنيابة وطلب محمود فوزي قنصل مصر في القدس ألا يخبر أحداً من العرب أنه أتصل بأحد اليهود
وقد زار مع حسين فوزي كلية العلوم بالذات للاستدلال على مصادر الكتب الحديثة في أمريكا وآخر مبتكرات العلم
أما الأمر الثاني فهو تلك الزيارات المتصلة للمدارس الإسرائيلية في مصر والمحاضرات التي يريد طه حسين أن يقول فيها إنه كان لليهود حضارة تأثرت بها الجزيرة العربية في فجر الإسلام
أما الأمر الجلل الخطر فهو توليه دار الكاتب المصري اليهودية عام 1945 م وإصدار مجلة الكاتب المصري الشهرية وعدد من المؤلفات المترجمة ذات الغرض الواضح
فإذا أضفنا إلى هذا محاولة طه حسي ن في تبرئة عبدالله ابن سبأ اليهودي من تهمته الصريحة الواضحة في أثار الفتنة بين المسلمين مما أدى إلى مقتل الخليفة عثمان عرفنا إلى مدى ذهب طه حسين في وجهته نحو خدمة الفكر الصهيوني الحديث
أطروحة إسرائيل والفنسون : تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام
يقول طه حسين في تقديم هذه الرسالة :
الموضوع في نفسه قيم جليل الخطر بعيد الأثر جداً في التاريخ الأدبي والسياسي والديني للأمة العربية ، فليس من شك أن هذا المستعمرات اليهودية قد أثرت تأثيراً قوياً في الحياة العقلية والأدبية للجاهليين من أهل الحجاز وليس من شك في أن الخصومة كانت عنيفة أشد العنف بين الإسلام ويهودية هؤلاء اليهود
وفي إنها قد استحالت من المحاجة والمجادلة إلى حرب بالسيف انتهت بإجلاء اليهود عن البلاد العربية ولم يكن تاريخ هؤلاء اليهود في بلاد العرب قبل الإسلام معروفاً على وجهه وإنما هي طائفة من الأخبار والأحاديث يرويها القصاص
فإذا كان عالمنا الشاب ( يقصد إسرائيل والفنسون ) قد وفق إلى الخير في هذا الكتاب الذي قدمه إلى الجامعة المصرية ونال به شهادة الدكتوراه الذي أقدمه أنا إلى القراء سعيداً مغتبطاً فتوفيقه مضاعف ذالك لأنه وفق إلى أن يبسط تاريخ اليهود في البلاد العربية قبل الإسلام وإبان ظهوره بسطاً علمياً أدبياً ممتعاً في كتاب كانت اللغة العربية في حاجة إليه فأظفرها بهذه الحاجة ....................الخ
وقد كان هذا التصريح من طه حسين مرتبطاً بآرائه التي أذاعها في الجامعة المصرية سنة 1935 م تحدث فيها عن اليهود وما حاول أن يجعل لهم أثر ، لا في الحياة العربية فقط بل في الحياة الأدبية أيضاً
وقد كانت محاضراته أولاً في مدارس الطائفة الإسرائيلية بالإسكندرية في ديسمبر عام 1943 م عن اليهود والأدب العربي
==================(51/160)
(51/161)
النزعة المادية عند الشاعر محمد إقبال ... للأستاذ / عادل التل
بطاقة تعريف:
ولد محمد إقبال في مدينة (سيالكوت) الهندية عام 1873, وهو ينتمي إلى أسرة من سلالة وثنية, من البراهمة, ولقد اهتدى جده, الملقب بنديت إلى إلى الإسلام على يد أحد رجال الصوفية( 1) في كشمير.
درس إقبال المراحل الأولى في (سيالكوت) ثم في كلية الحكومة في لاهور, وقد برع إقبال, وظهرت عليه مظاهر النبوغ وفاق أقرانه, وتقدم عليهم, ونال الأوسمة و"الميداليات الذهبية" والدراسة بالمجان.
وعلى منصة جمعية "حماية الإسلام" أخذ يردد قصائده فجوّبت شهرته الآفاق, وسمع عنه القاصي والداني, وتبدأ قصة إقبال مع الفلسفة, وفي كلية لاهور حين التقى أستاذه الفيلسوف المستشرق "توماس أرنولد" وقد أشرف هذا المستشرق على تربيته على منهاج الفلسفة, وكان له خير مرشد ومعين, وسرعان ما توثقت بينهما أواصر الصداقة, واستحكمت روابط الألفة(2 ).
وقد تخرج إقبال من كلية لاهور ونال شهادة الفلسفة ثم عين أستاذاً للفلسفة واللغة الانكليزية فيها, ثم قصد "إنكلترا" والتحق بجامعة "كمبردج" ونال منها شهادة في الفلسفة والأخلاق, ثم قصد ألمانيا, ودرس في جامعة "ميونخ" ونال منها درجة الدكتوراه في الفلسفة.
أفكار إقبال
من المهم جداً - قبل البدء في نقد إقبال- فهم الدوافع التي دعتني إلى إدخال شخصيته في هذه الدراسة, وتسليط الضوء على أفكاره, بعد أن ضمه الثرى, ومضى عليه الزمن. وكانت رغبتي في أول الأمر أن تبقى تلك الصورة -لإقبال في قلوب المسلمين, ولقد هممت أن أتخلى عن وضعه في هذه الدراسة, لولا أن بعض المغرضين - من أصحاب الفكر المادي- أرادوا الاستفادة من شخصية إقبال -المقبولة في العالم الإسلامي- وقد حاولوا إظهار أفكاره, وبعثها من جديد, وإبرازها حتى عاد, وكأنه يعيش بيننا, بل كأن إنتاجه الفكري لم يصدر إلا اليوم.
ولقد تعرف العالم الإسلامي -في المنطقة العربية- على إقبال من خلال شعره قبل فكره, وكانت الصياغة المترجمة لأشعاره( 3) متأثرة بالأسلوب الأدبي, وتحمل من المشاعر الإسلامية الرائعة أكثر مما تهتم في تحديد الأفكار, وإبراز المبادئ.
ولقد تعرضت لأفكار إقبال -في هذه الدراسة- من خلال المقاطع التي استشهد بها (جودت سعيد ) ومن أجل توضيح الصورة كاملة, سأتعرض لمقاطع أخرى من كتبه أو من خلال الدراسات التي وضعت حول أفكاره.
ولابد من التنويه, أن هذه لا تشمل جميع كتب إقبال, ولا كل إنتاجه الفكري, وإنما كان التركيز على بيان مواضع الانحراف في منهج تفكيره, وهو الجانب الذي يمثل نزعته المادية, ذلك أن إقبالاً يؤمن بالمنهج الفلسفي, ويعتبره الحقل المناسب لتقديم الإسلام للناس, وقد تقلب إقبال, خلال مراحل حياته, بين مذاهب فلسفية شتى, فهو يعتمد منهج الفلسفة المادية, إلا أنه لا يتخلى عن منهج الفلسفة المثالية, فهو مضطرب بينهما, وهو بهذه المزية يشارك معظم الفلاسفة الأوربيين آراءهم, إلا أنه لم يخرج عن مذهب القدرية النفاة ومذهب الاختيار.
كان يعدّ شخصية جلال الدين الرومي مثله الأعلى, ورائده في الحياة, كما كان يوقر شخصية الحلاج وابن العربي وغيرهم من أصحاب مذهب الاتحاد والحلول, ويأخذ من أفكارهم.
مفهوم الذات.
تعرض إقبال لمفهوم الوجود من خلال المنهج المادي والمذهب القدري, وقد تجلى فكره حول الذات متأثراً بمبدأ الحلول والاتحاد, كما أن هذه الفكرة تنطلق من الفلسفة الأفلاطونية, وقد وصف الذات بأنها واحدة في الوجود, فقال:
"إن أصل العالم هو الذات, وإن تسلسل الحياة في الوجود إنما يقوم على استحكام الذات ودعمها وحسب, إن الذات واحدة, وإن ظهرت في الكون بمظاهر متعددة, ولكأن بعضها يصارع البعض الآخر, بل إن هذا الصراع في حقيقته ليس إلا مظهراً من مظاهر الكون, ولتحقيق أهداف العمل, تصبح الذات هي العامل والمعمول والأسباب والعلل, فتقوم وتثير, وتطير, وتشع وتنفر أو تحرق وتشعل وتقتل وتميت..."( 4).
وتقوم فلسفة الذات عند إقبال على نقطتين وهما:
"1- أن الشخصية هي الحقيقة المركزية للكون, وتتمثل في "الذات العليا" وأشار إليها العهد القديم, عندما وصف الحقيقة المطلقة بأنها "الأنا الكبرى" إلا أن القرآن الكريم يشير إليها بمزيد من التوقير حسب ما جاء في صفات الذات العليا ( لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.. ) {البقرة: 163}.
2- وأن الشخصية هي الحقيقة المركزية في تكوين الإنسان, وتتمثل في الذات الإنسانية وهي تتعلق "بالأنا" الصغرى أو المعتمدة على غيرها, وقد وصفت بأوصاف مختلفة منها أن الإنسان ضعيف قتور كفور, ومع ذلك وصفت بأنه في أحسن تقويم.
وهذه الأنا الضعيفة القابلة للفناء, يمكن أن يكتب لها الدوام كعنصر في تكوين الكون, إن هي تبنت لوناً معيناً من الحياة التي لها أن تختار طريقها فيها.(51/162)
وهذه الذات قادرة على الانتشار بامتصاصها ليس فحسب عناصر الكون, بل بقدرتها على امتصاص الصفات الإلهية, والتخلق بأخلاق الله, ومن ثم تكتسب القدرة على خلافة الله في الأرض"(5 ) ونحتاج أن نشير إلى حقيقة أساسية, وهي أن الخلافة المذكورة هنا ليست خلافة عن الله, فالله لا يحتاج إلى خليفة, والآية واضحة, ولا تؤدي هذا المعنى, يقول تعالى: ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) {البقرة: 30}
جاء تفسير هذه الآية في سورة أخرى خلال قوله تعالى: ( هو الذي جعلكم خلائف الأرض ) وغير ذلك من الآيات التي تشير إلى هذا الموضوع.
وأما رأي إقبال, فهو يقصد أن الخلافة هنا تمثل النيابة الإلهية, وهذه تتفق مع مفهومه عن الذات بأنها واحدة, ولها مظاهر شتى كما وصفها بالأنا الكبرى والأنا الصغرى, ولا يغيب عنا أن أصل هذه الفكرة قائمة عند اليهود والنصارى, قال تعالى: ( وقالت اليهودُ عزيرٌ ابن الله وقالت النصارى المسيحُ ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئِون قول الذين كفروا من قبل){التوبة: 30}.
وأصل هذه النظرية عند الفلاسفة أيضاً, أن الوجود واحد, ومنه كانت المخلوقات عن طريق الفيض(6 ).
ولقد انتقلت هذه الأفكار عن طريق الفلسفة إلى القدرية, وظهرت بأوضح صورة عند غلاة الصوفية من جماعة الاتحاد والحلول. مثل الحلاج والرومي وابن عربي.
ولقد أعطى إقبال الإنسان منزلة إلهية, كنائب للحق في الأرض باعتباره ينتمي مع الله إلى ذات واحدة.
وها هو يصف الإنسان: " بل إنه في الحقيقة سيد مصيره, وهو محور الحياة, وهدفها المطلق, ويمكنه أن يكيف حياته بحيث يرتفع إلى تلك الذرى التي يتساءل فيها الله -سبحانه وتعالى- عما يريده الإنسان قبل أن يتم التقدير" ( 7).
1-يلتقي إقبال في هذه الفكرة مع المعطلة من القدرية الذين يعتبرون الإنسان سيد مصيره ومالكاً لحريته المطلقة, بل يتجاوز إلى وحدة الوجود.
2-في تصوير إقبال لله تعالى, كأنه يجهل أهداف الإنسان, وفي هذا تشويه لمفهوم علم الله الشامل لما كان ولما سيكون.
3-وهو يلتقي بهذه الفكرة مع محمد شحرور الذي يعتقد أن علم الله على قسمين: أحدهما حقيقي والآخر احتمالي(8 ).
وقد تعرضت لهذه الموضوعات بإسهاب عند الحوار مع جودت سعيد ولا نحتاج لإعادتها ويعتبر إقبال الإنسان نائب الحق في الأرض, فيقول:"فإن نائب الحق مثله كمثل الروح للعالم, ووجود ظل للاسم الأعظم, فهو مطلع على رموز الجزء والكل وهو في الدنيا قائم بأمر الله"( 9).
ويبالغ إقبال في وضع مواصفات الإنسان الكامل على الطريقة القدرية الصوفية الحلولية:
"ويكون للنوع الإنساني بشيراً ونذيراً, فهو جندي وقائد وأمير, إنه مقصود علم الأسماء, وهو سر: سبحانه الذي أسرى... فمن عصا يده البيضاء هو ملم, والقدرة الكاملة توأم لعلمه, وعندما يمسك ذلك الفارس العنان باليد يزداد فرس الزمان بالإسراع, وتجعل هيبته النيل جفافاً, ويحمل إسرائيل من مصر, ومن "قوله" قم تنبعث الأجساد من القبور, وتصبح موات الدنيا مثل الصنوبر في الخميلة, وإن ذاته جبير لذات العالم, ويعطي لهذه الرؤيا تعبيراً جديداً "( 10).
وقد ظهر هذا الانحراف في تصوير الله بأنه يماثل الإنسان, في عقائد اليهود والنصارى, وانتشر بين الفلاسفة, وقد أخذ بهذا القول ابن عربي وأتباعه من الحيلولة, حيث يقول ابن عربي في فص (حكمة إلهية, في كلمة آدمية): "لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء, أن يرى أعيانها وإن شئت قلت: أن يرى عينه في كون جامع, يحصر الأمر كله, لكونه متصفاً بالوجود ,وسره إليه.
فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي إلا قبل رؤية نفسه من أمر آخر يكون له كالمرآة "( 11).
ثم قال: "فكان آدم عين جلاء تلك المرآة, وروح تلك الصورة, وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم, المعبر عنه, في اصطلاح القوم, بالإنسان الكبير"( 12).
ثم عبر ابن عربي عن صورة الإنسان كما فعل إقبال:
"فسمى هذا المذكور: إنساناً وخليفة, فأما إنسانيته, فلعموم نشأته, وحصره الحقائق كلها, وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين.. فهو الإنسان الحادث الأزلي, والنشء الدائم الأبدي"(13 ).
ثم قال: "فما صحت الخلافة إلا للإنسان الكامل, فأنشأ صورته الظاهرة من حقائق العالم وصوره وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى" (14 ).
ويقول ابن عربي في موضوع الصفات, ويستخدم أسلوب التورية:
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيداً
وإن قلت بالتشبيه كنت محدداً
وإن قلت بالأمرين كنت مسدداً
وكنت إماماً في المعارف سيداً
فمن قال بالإشفاع( 15) كان مشركاً
ومن قال بالإفراد كان موحداً
فما أنت هو( ) بل أنت هو( 16) وتراه في
عين الأمور مسرحاً ومقيداً(17 )
ولا يختلف إقبال في إبراز هذه المعاني عن ابن عربي أو الحلاج أو جلال الدين الرومي.
ولقد اهتم إقبال بإبراز شخصيته, ونسب إليها مظاهر التقديس الإلهي, كما فعل أقطاب الصوفية المشهورين, حيث ادّعوا أعمالاً خارقة, وحالات غريبة, كالطيران في الهواء أو السير على سطح الماء, أو الاتصال بالملأ الأعلى, ولم يخرج إقبال عن هذه القاعدة !.(51/163)
وقد وصف نفسه بهذا الشعر:
"إنني أحلّق عالياً, بحيث أنه على ذرى الفلك الأعلى, تحوم حومي مخلوقات الضياء آلاف المرات"(18 ).
وقد شرح المترجم هذه الأبيات:
"ذلك التحليق الرفيع بحيث وصل إلى ذروة مرتفعات الجوهر الروحي, فيما وراء السماوات, وكان على الملائكة أنفسهم, وهي مخلوقات الضياء, أن تطوف به الآف المرات لتتجسس عليه, وتتعرف على طريقته ومقصده.. وإن صعود الإنسان إلى مثل تلك المقامات, التي تخشى الملائكة ذاتها أن تطأها"(19).
إن هذا التصور عند إقبال مستمد, من خلال مبادئ تطور الإنسان وتفوقه, ومفهوم الإنسان الكامل, ومفهوم وحدة الذات, وفكرة العشق ومبادئ الحب, وتنتشر مثل هذه الشطحات عند غلاة الصوفية, حيث يقوم المريدون بتعظيم الأقطاب وتقديسهم.
ومن شطحات إقبال المشهورة, معراجه إلى السماء, حيث تمثل منظومة "جاويد نامة" الشعرية مبادئ إقبال, في التصوف والفلسفة والتاريخ, وقد ذكر فيها معراجه إلى السماوات, وكان دليله ومرشده في ذلك, الصوفي المشهور جلال الدين الرومي, صاحب مذهب وحدة الوجود, حيث يقوده في هذه المرحلة إلى "النهر الحي", ويعرج به في عدة سموات, ثم يشرف بالقرب الإلهي, ويصبح على صلة بالأنوار الإلهية, وقد أقام معراجه هذا على غرار معراج أبي يزيد البسطامي, ومعراج ابن عربي بالفتوحات المكية, بالإضافة إلى رسالة الغفران التي كتبها أبو العلاء المعري.
وتقوم فكرة المعراج إلى السماء عند الصوفية, على تصورات منحرفة, عن طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق, أو عن خلل في فهم العقيدة الصحيحة, في التفريق بين الألوهية والعبودية, ومن خلال انحراف في الاعتقاد, حيث يتوهم هؤلاء, أن باستطاعة الإنسان, أن يتصل بالله عن طريق فكرة "العشق" القائمة عند الفلاسفة القدماء, حيث يجري اللقاء بين الإنسان "العاشق" والإله "المعشوق" في السماوات العلى!!
ولا تخلو مثل هذه الرحلات الوهمية إلى السماء العليا, من خرافات وترهات, وخروج عن المألوف, في الأدب مع الله تعالى شأنه, وقد سمعنا من حوار إقبال وأساتذته مع الله تعالى, مما يستحي الإنسان, أن يتوجه به لإنسان أعلى منه مرتبة !!
وقد تأثر إقبال بالمبادئ الصوفية, وعمل من خلال شطحاتهم, ومصدر إلهامهم. وكان يصرح دائماً, بل يقسم أنه مأمور بتبليغ الناس هذه الأفكار, وأن الأمر خارج عن إرادته !!
وقد ينفعل إقبال مع الموقف, خلال استعراض مؤهلات الإنسان الكامل نائب الله في الأرض, فيقول:
"من ترابك ابن آدمياً وعمر للآدمي عالماً, فمضمون الحياة مكنون في العمل, ولذة التخليق هي قانون الحياة. انهض وكن خلاّقاً لعالم جديد, واحمل الشعلة( 19م) في الصدر وأقدم كالخليل"( 20).
وتزداد حدة الانفعال عند إقبال, ليصل إلى مرحلة الصراع بين السماء والأرض, ويظهر تفوق الإنسان القادر على إعادة صياغة الحياة من جديد, فيقول:
"وإذا لم تسر الدنيا على مرامه, فليدخل في حرب مع السماء, ويهدم صرح الموجودات, ويمنح الذرات تركيباً جديداً "(21 ).
ويظهر إقبال إيماناً كبيراً بمفهوم التطور, وقد أخذ بنظرية الانتخاب الطبيعي أو الصفات المكتسبة حيث قال عن تطور مفهوم الوحي:
"الوحي صفة عامة من صفات الوجود, وإن كانت حقيقته وطبيعته تختلفان باختلاف مراحل التدرج والتطور, في الوجود, فالنبات الذي يزكو طليقاً في الفضاء, والحيوان, الذي ينشئ له تطوره عضواً جديداً, ليمكنه من التكيف مع بيئة جديدة "( 22).
ويصف لحظات التطور, من خلال الشوق, فيقول:
"في كل لحظة يكون طور جديد, ووميض التجلي جديد, فيا إلهي ليت مرحلة الشوق لا يكون لها نهاية قط"(23 ).
ويشارك إقبال الرومي أفكاره, وقد قال الرومي, يصف التطور:
"إن حياتي هي في ترق مستمر, بدأت من تراب متحلل, تمر بمراحل المعادن والنبات والحيوان, ثم وصلت إلى محطة الإنسان"(24).
وقد قال إقبال, فيما ينقله عن الرومي, في قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم
"إن العالم كله سوف يتوه فيه" فيتجاوز إقبال كلام الرومي هذا, ليقول عن رضاء الإنسان: "في رضائه تتوه مرضاة الحق, فكيف يتقبل الناس هذا القول؟!!"( 25).
صيغة التعجب من وضع إقبال, لأن إقبالاً يؤمن بأن الذات واحدة, ولا يتعجب من هذا القول, فالإنسان مشارك بصنع وتطوير هذا الكون, يقول حول ذلك:
"من ثم فليس الكون فصلاً مستكملاً, وإنما هو في سبيل تكوينه, ولا يمكن أن تكون ثمة حقيقة كاملة عن الكون, لأن الكون لما يصبح "كلاً متكاملاً" ومازالت عملية الخلق مستمرة, يسهم الإنسان بنصيبه فيها, بقدر ما يساعد في إيجاد التنظيم في قسم من هذا الهيولي"( 26) وقد تبنى جودت هذه الفكرة أيضاً.
ولقد استغرق إقبال في مفهوم العشق المشهور عند الصوفية الحلولية, وهو في معنى الفناء في الوجود, والاتصال والاتحاد, فيقول:
"من لحاظ العاشق ينشق الحجر, وآخر العشق الحق بلوغ الحق بتمامه"( 27).
ويمثل إقبال لهذه الحالة باستخدام تعابير ومصطلحات الصوفية, فيقول: "يصبح التراب بعشقه قرين الثريا"( 28).
ويقول عن وصول الذات:(51/164)
"عندما تصير الذات محكمة بالمحبة, تصير قوتها حاكمة للعالم, وتصير قبضتها من قبضة الحق, وينشق القمر بإصبعها"( 29).
====================
مفهوم الرمزية عند إقبال
يقول عن قصة آدم:
"وهكذا نرى أن قصة هبوط آدم, كما جاءت في القرآن, لا صلة لها بظهور الإنسان الأول على هذا الكوكب, وإنما أريد بها بالأحرى بيان ارتقاء الإنسان في الشهوة الغريزية إلى الشعور بأن له نفساً حرة قادرة على الشك والعصيان"( 30).
كما ينطلق في موضوع تعريف الجنة والنار, من مفهوم رمزي, لوصف حالة أهل الشقاء وحالة أهل السعادة.
حيث يقول: "الجنة والنار حالتان, لا مكانان, وجاء وصفهما بالقرآن, تصوير حسي لأمر نفساني"(31 ).
أو رأيه في الموت فهو: "الموت عبارة عن عبور الأنا من حال, يرتبط بوجود جسد, إلى وعي جديد, ينتفي فيه عالم المحسوس والأبعاد والزمان والمكان".
وقد اهتم إقبال بموضوع الزمن, حيث وضع له فكرة فلسفية خاصة, فقال:
"إن الزمان الحقيقي هو الديمومة المحضة, أي التغيير من غير تعاقب, قام الفكر بتجزئتها.
إن الزمان هو مركب, ليس الماضي فيه متخلفاً, ولكنه متحرك مع الحاضر, ويؤثر فيه, والمستقبل يتصل بهذا الكل المركب, لا بوصفه موجوداً أمامه ليجتاز بعد, وإنما يتصل لهذا الشكل المركب, بمعنى أنه مائل في طبيعته, في صورة إمكان قابل للتحقيق.. هو ماهية الأشياء ذاتها, فهو القوة الكامنة التي تتحقق في الخارج"(32 ):
وعندما زار فرنسا, والتقى الفيلسوف برجسون(33 ), كان حديثه حول الفلسفة, وعندما ذكر إقبال الحديث النبوي الشريف "لا تسبوا الدهر, فإن الله هو الدهر"( 34) وثب برجسون عن كرسيه من شدة تعجبه من ذلك الحديث الذي يبني إقبال نظرته إلى الزمن من خلاله. ولقد وقع إقبال أسير منهجه المادي في تفسيره لهذا الحديث, حيث أوله هنا بمعنى الزمن المادي, ولا يخفى خطر التفسير المادي لمفهوم القدر عند أصحاب الفكر المادي.
وهذا التصور الذي أدهش برجسون, لا يستقيم مع الشرع, ولا مع اللغة, وظن بعض من ليس عنده علم, أن الدهر من أسماء الله.
جاء في مقاييس اللغة( 35) : "دهر. هو الغلبة والقهر, وسمى الدهر دهراً, لأنه يأتي على كل شيء, ويغلبه, وقال أبو عبيد في هذا الحديث: معناه أن العرب كانوا إذا أصابتهم المصائب قالوا: أبادنا الدهر, وأتى علينا الدهر.
وقال شاعرهم:
رمتني بناتُ الدهر من حيث لا أرى
فكيف بمن يرمي وليس برام
فلو أنني أرمى بنبلٍ تقيتها
ولكنني أرمى بغير سهام
فأعلم رسول ا صلى الله عليه وسلم أن الذي يفعل ذلك بهم هو الله جل ثناؤه, وأن الدهر الذي هو الزمان, لا فعل له, بل هو مخلوق من خلق الله تعالى, ومن سبَّ فاعل النوازل والمصائب فكأنه سبَّ ربه, تبارك وتعالى".
ويعَدُّ إقبال "مركز الحياة في الإنسان هو الذات أو الشخص, والشخصية حال من التوتر, يمكن أن تستمر فحسب, إذا استمر التوتر, بل ينبغي ألا يعمد الإنسان إلى الإخلاد والاسترخاء, وأن يبقى على حال التوتر, التي هي أهم إنجاز للإنسان, والتي تؤدي بنا إلى الخلود"(36 ).
وتقوم فلسفة إقبال حول الذات بأنها تستمر, بعد الموت, بالنشاط والسعي الدائم.
وقد تعرض محمد إقبال لنقد شديد, لتمسكه بالأفكار الخاصة بالإنسان الكامل, والتي تلتقي مع أفكار نيتشه ودارون وماركس وغيرهم من الفلاسفة ولم ينكر أنه يلتقي بالأفكار, وإنما أنكر أن يكون قد أخذ ذلك عنهم فيقول:
"لقد كتبت عن المبدأ الصوفي, للإنسان الكامل, قبل أن أقرأ أو أسمع شيئاً عن نيتشه"(37 ).
ونحن لا نهتم بمصدر أفكار إقبال, ولا نبحث من أين استلهمها, ولكن المهم هو مدى ارتباط هذه الأفكار بالإسلام, أو انحرافها عنه.
ونحن نتعامل مع إقبال باعتباره فيلسوفاً, وقد اعتمد على المنهج الفلسفي في تحديد أفكاره, وهو يعلن ذلك بل يؤكد سيطرة الفلسفة على الدين, حيث يقول:"ومما لا شك فيه أن للفلسفة الحق بالحكم على الدين"( 38).
كما أننا نتعامل مع إقبال باعتباره صوفياً, وقد جعل مشرده ورائده في ذلك جلال الدين الرومي المتصوف, وهو من أتباع القدرية الذين يؤمنون بوحدة الوجود.
وقد تعرض إقبال لنقد شديد من قبل العلماء المسلمين, وسأذكر هنا فصلاً موجهاً لإقبال خاصة, وللمدرسة الفلسفية عامة.
يقول سيد قطب:
"ثم إننا لا نحاول استعارة "القالب الفلسفي" في عرض "حقائق التصور الإسلامي" اقتناعاً منّا بأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين طبيعة الموضوع, وطبيعة القالب, وأن الموضوع يتأثر بالقالب, وقد تتغير طبيعته, ويلحقها التشويه إذا عرض في قالب في طبيعته عداء وجفوة عن طبيعته.
نحن نخالف "إقبال" في محاولته صياغة التصور الإسلامي في قالب فلسفي مستعار من القوالب المعروفة عند هيجل من "العقليين المثاليين" وعند أوجست كونت من "الوضعيين الحسيين".
لابد أن تعرض العقيدة بأسلوب العقيدة, إذ أن محاولة عرضها بأسلوب الفلسفة, يقتلها ويطفئ إشعاعها وإيحاءها.. ولسنا حريصين على أن تكون هناك "فلسفة إسلامية" ولا أن يوجد هذا القالب, فهذا لا ينقص الإسلام شيئاً, بل يدل دلالة قوية على أصالته ونقائه وتميزه..(51/165)
وإننا لا نستحضر أمامنا انحرافاً معيناً من انحرافات الفكر الإسلامي, أو الواقع الإسلامي, ثم ندعه يستغرق اهتمامنا كله, بحيث يصبح الرد عليه وتصحيحه هو المحرك الكلي لنا.
أما البحوث التي كتبت للرد على انحراف معين, فأنشأت هي بدورها انحرافاً آخر, فأقرب ما نتمثل به في هذا الخصوص, توجيهات الأستاذ الإمام محمد عبده, ومحاضرات إقبال في تجديد الفكر الديني في الإسلام"( 39).
وقد تحدث سيد عن محاولات المدرسة العقلية الفلسفية تعظيم دور العقل في مقابل الوحي, ونقل عن محمد عبده قوله:
"فالوحي بالرسالة الإلهية أثر من آثار الله, والعقل الإنساني أثر أيضاً من آثار الله. وآثار الله يجب أن ينسجم بعضها مع بعض, ولا يعارض بعضها بعضاً"( 40).
ثم استدرك سيد على محمد عبده ومدرسته, لتأثرهم بوجوب تأويل النص, ليوافق مفهوم العقل(41 ).
وسأقتصر هنا على نقد سيد لمحاولات إقبال الذي ينتمي إلى المنهج المادي الحسي.
يقول سيد: "لقد واجه "إقبال" في العالم الشرقي بيئة "تائهة" في غيبوبة "إشراقات" التصوف "العجمي" كما يسميه!.. فراعه هذا "الفناء" الذي لا وجود فيه للذات الإنسانية. كما راعته "السلبية" التي لا عمل معها للإنسان ولا أثر في هذه الأرض -وليس هذا هو الإسلام بطبيعة الحال- كما واجه من ناحية أخرى التفكير الحسي في المذهب الوضعي, ومذهب التجريبيين في العالم الغربي. كذلك واجه ما أعلنه نيتشه في "هكذا قال زرادشت" عن مولد الإنسان الأعلى (السوبرمان) وموت الإله! وذلك في تخبطات الصرع التي كتبها نيتشه وسماها بعضهم "فلسفة" !.
وأراد أن ينفض عن "الفكر الإسلامي" وعن "الحياة الإسلامية" ذلك الضياع والفناء والسلبية. كما أراد أن يثبت للفكر الإسلامي واقعية "التجربة" التي يعتمد عليها المذهب التجريبي ثم المذهب الوضعي!
ولكن النتيجة كانت جموحاً في إبراز الذاتية الإنسانية, اضطر معه إلى تأويل بعض النصوص القرآنية تأويلاً تأباه طبيعتها, كما تأباه طبيعة التصور الإسلامي. لإثبات أن الموت ليس نهاية للتجربة. ولا حتى القيامة. فالتجربة والنمو في الذات الإنسانية مستمران أيضاً -عند إقبال- بعد الجنة والنار. مع أن التصور الإسلامي حاسم في أن الدنيا دار ابتلاء وعمل, وأن الآخرة دار حساب وجزاء. وليست هناك فرصة للنفس البشرية للعمل إلا في هذه الدار. كما أنه لا مجال لعمل جديد في الدار الآخرة بعد الحساب والجزاء.. ولكن هذا الغلو إنما جاء من الرغبة الجارفة في إثبات "وجود" الذاتية, واستمرارها, أو الـ"أنا" كما استعار إقبال من اصطلاحات هيجل الفلسفية.
ومن ناحية أخرى اضطر إلى إعطاء اصطلاح "التجربة" مدلولاً أوسع مما هو في "الفكر الغربي" وفي تاريخ هذا الفكر. لكي يمد مجاله إلى "التجربة الروحية" التي يزاولها المسلم ويتذوق بها الحقيقة الكبرى. "فالتجربة" بمعناها الاصطلاحي الفلسفي الغربي, لا يمكن أن تشمل الجانب الروحي أصلاً, لأنها نشأت ابتداء لنبذ كل وسائل المعرفة التي لا تعتمد على التجربة الحسية.
ومحاولة استعارة الاصطلاح الغربي, هي التي قادت إلى هذه المحاولة. التي يتضح فيها الشد والجذب والجفاف أيضاً. حتى مع شاعرية إقبال الحية المتحركة الرفافة !
ولست أبتغي أن أنقص من قدر تلك الجهود العظيمة المثمرة في إحياء الفكر الإسلامي وإنهاضه التي بذلها الأستاذ الإمام وتلاميذه, والتي بذلها الشاعر إقبال.. رحمهم الله رحمة واسعة.. إنما أريد فقط التنبيه إلى أن دفعة الحماسة لمقاومة انحراف معين, قد تنشئ هي انحرافاً آخر. وأن الأولى في منهج البحث الإسلامي, هو عرض حقائق التصور الإسلامي في تكاملها الشامل, وفي تناسقها الهادئ. ووفق طبيعتها الخاصة وأسلوبها الخاص.."(42 ).
ونحن -وإن كنا نشارك سيداً في نقده لأفكار إقبال ومحمد عبده وفلسفتهما, إلا أننا لسنا معه في نظرته إلى جهودهم, فإننا اليوم نعاني من آثار جهودهم هذه, وإن ما يبذل لتصحيح الانحراف الذي أحدثته أفكارهم في العالم الإسلامي, ليس بالأمر القليل, ونحن نستطيع أن نجعل هذا الانحراف الذي وصل إليه إقبال ومحمد عبده انحراف بسيط, وننظر إليه كما نظر إليه سيد بأنه يمثل محاولة لتصحيح انحراف معين, والله أعلم أن الأمر أكبر من ذلك وأبعد مدى, ذلك أننا نرى ثمرة تلك الجهود التي تبذل من قبل دوائر الاستشراق وأتباعهم, والمحاولات المستمرة لإقرار هذه الأفكار في العالم الإسلامي.
وقد قام فريق من العلماء بتقديم أفكار إقبال إلى العالم الإسلامي وتصدير أفكاره خارج القارة الهندية.
ومن هؤلاء من فعل ذلك بحسن نية, ومنهم من ساهم في تقرير هذه الأفكار باعتبارهم تدعم جهود "المدرسة العقلية" التي قادها, الأفغاني ومحمد عبده.
وقد أثنى أبو الأعلى المودودي على إقبال وجهوده, باعتقاده أن إقبالاً "أعلن حرباً لا هوادة فيها ضد الغرب وحضارته المادية" وأن إقبالاً كان "الرجل الوحيد في عصره الذي لا يداينه أحد في تعمقه في فلسفة الغرب, ومعرفته بحضارته وحياته, فلما نهض يفند فلسفته وأفكاره المادية بدأ يذوب سحر الحضارة الغربية"(43 ).(51/166)
كما أن تقريظ أبي الحسن الندوي لشخصية إقبال وأفكاره وتأليف الكتب حول آثاره وروائعه, ساهم في غض الطرف عن انحرافات إقبال وتجاهلها, كما قامت جهود كبيرة في عرض فكر إقبال والثناء عليه, وترجمة إنتاجه الفكري والتركيز عليه كما فعل العقاد وعبد الوهاب عزام وهذه شهادات لها قيمتها بين شباب( 44) الأمة الإسلامية. وبهذه الطريقة كان دخول إقبال إلى قلب العالم الإسلامي, رغم الانحراف الظاهر في فكره, وربما يطلع المودودي على أفكاره إقبال كاملة, وربما اغتر هؤلاء بما حصل له من مديح وثناء واهتمام, فغطت تلك السحابة من الدعاية على حقيقة أفكاره, أو نظر هؤلاء إلى الجهود التي قام بها إقبال في مجال العمل السياسي, في حلبة الصراع بين المسلمين والهندوس, حيث برز إقبال كمدافع عن حقوق المسلمين.
كما أن هناك شخصيات إسلامية لم تنخدع بهذه الدعاية الإعلامية المفتعلة, ولم يتأثروا بثناء المودودي أو مديح الندوي, وقد ظهر ذلك من خلال النقد الشديد الموجه من قبل سيد قطب, إلى فكر إقبال ومدرسته الفلسفية المتعلقة بأفكار هيجل من "المثاليين العقليين" وبأفكار أوجست كونت من "الوضعين الحسيين", فإذا كانت هذه أفكار إقبال, فكيف يغتر به أهل العلم من المسلمين؟!(45 )
ومما لاشك فيه كان لاهتمام الإعلام الغربي دور فعال في إبراز شخصية إقبال, وتسليط الضوء على أفكاره, فتناقلت أفكاره المراكز الثقافية الإعلامية الغربية -الخبيرة في صنع الإبطال- فتهيأت له الزيارات للمراكز العلمية, واستقبل فيها بوصفه فيلسوفاً عظيماً, فالتقى مع كبار الشخصيات الأوربية, سواء على المستوى الثقافي أو في مجال السياسية والإعلام, وقد اجتمع مع بعض رؤوساء الدول وقام بمدح بعضهم, مثل موسوليني.
ويثير إقبال سؤالاً ملحاً مثل غيره من دعاة تطوير الشريعة الإسلامية "هل شريعة الإسلام قابلة للتطور؟".
لذلك دعا إقبال إلى التجديد, من خلال مفهوم التغيير, فالتجديد عنده تغيير بالأصول, لا كما يفهمه المسلمون بأنه إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة.
وقد برزت دعوته هذه من خلال كتابه: "تجديد الفكر الديني في الإسلام".
وتقوم فلسفة إقبال في التجديد, من خلال النموذج التركي الذي نبذ الأصول القديمة, وتبني المناهج المعاصرة.
يقول حول ذلك:
"إن نهضة الإسلام لابد أن تحذوا حذو المثال التركي, وأن تفعل ما فعله الترك, فتعيد النظر في تراث الإسلام"(46 ).
ويسخر إقبال من الأمم الإسلامية التي تدعو إلى التمسك بمذهب السلف فيقول:
"بعض الأمم الإسلامية اليوم يكررون القول بالقيم التي قال بها السلف, بطريقة آلية"( 47).
ويصف الانطلاقة التركية كأساس للتغيير, فيقول عنها:
"استيقظت من الرقاد الفكري, وهي وحدها التي نادت بحقها في الحرية العقلية" كما يقول: "لابد أن تستحدث تركيا مواقف توحي بآراء جديدة, وتقتضي تأويلات مستحدثة للأصول والمبادئ"( 48).
لقد كان يدعو صراحة إلى تبني أفكار الاشتراكية, ففي رسائله إلى جناه يقول:
" إلا أنه من الواضح لذهني أنه ما إذا تقبلت الهندوسية فكرة الديمقراطية الاشتراكية, فلابد لها أن تتوقف عن أن تكون هندوسية, أما بالنسبة للإسلام, فإن تقبل الاشتراكية الديمقراطية بشكل مناسب, يتفق مع أسس الشريعة الإسلامية, لا يعد ثورة, وإنما عودة إلى صفاء الإسلام الأصيل"(49 ).
وبعد أن يستنكر الاشتراكية الإلحادية يقول:
"وفيما يتعلق بالاشتراكية, فإن الإسلام ذاته شكل من الاشتراكية"( 50).
وإن ما يقرأ حواراته مع تولستوي وكارل ماركس وهيجل ومزدك, وحديثه عن واينشتاين ونيتشه والرومي, سيجد أنه يعتبر الفلاسفة هم حكماء العالم, فيجري حواراً بين الحكيم الفرنسي كونت ورجل أجير, وبين القيصر ولينين, ويظهر فيها أفكاره الفلسفية.
وقد وجه إقبال نقداً للاشتراكية, بسبب فقدانها الجانب الروحي, واستنكافها عن الإيمان بالله تعالى.
ولا يعنينا أن يوجه إقبال نقداً للاشتراكية الماركسية, وإنما الذي يهمنا هو تبنيه لأسسها ومبادئها. وقد كان معجباً بمؤسس الاشتراكية كارل ماركس حيث يمدحه, ويعتبره نبياً رغم ضلالته.
"إن مؤلف رأس المال أتي من نسل إبراهيم
أعنى النبي الذي لم يعرف جبريل
لأنه يحمل في طياته الحقيقة من خلال ضلالته
قلبه مؤمن رغم أن عقله مرتاب
ديانة ذلك النبي الذي لم يعرف الحق
مؤسسة على المساواة بين البشر"( 51).
وقد خاطب في أحد كتبه ماركس, وتوسل إلى روحه, بأن تعلن استنكارها للاستغلال الذي ساد أوربا الغربية.
كما ينال لينين جانباً من تفكير إقبال, ويذكره في قصيدة له, فيتصوره في السماء, يلقي الخطب التي يدين بها الرأسمالية, ويطلب من الرب تدمير بيوت الأغنياء وحقولهم, وإصلاح حال العبيد في كافة أنحاء العالم.
====================
الهوامش :
(1)ظلت النزعة الصوفية متغلبة على أفراد الأسرة حتى تأثر بها محمد إقبال فيما بعد.
(2)كل من كتب عن حياة إقبال, يذكر بافتخار علاقة إقبال, مع كبار المستشرقين, والفلاسفة الغربيين, واهتمام الإعلام الغربي به!!
(3)ديوان إقبال ترجمة عبد الوهاب عزام.(51/167)
( 4 ) أسرار خودي محمد إقبال ص 13 نقلت هذه العبارات من كتاب العلامة محمد إقبال حياته وآثاره د. أحمد معوض ص342.
(5)إملاء محمد إقبال على نذير نيازي راجع بتوسع كتاب د. أحمد معوض العلامة إقبال ص 334.
(6) يُعَدُّ أفلوطين ومدرسته من القائلين بنظرية الإفاضة.
(7)هذا ما أملاه إقبال على السيد نذير نيازي صيف عام 1937 راجع بتوسع إقبال حياته وآثاره د. أحمد معوض ص337
(8)انظر فصل العلم عند محمد شحرور, من هذه الدراسة ص 323.
(9)أسرار خودي ص 44 المصدر السابق.
(10) أسرار خودي 44-45 المصدر السابق.
(11)الفصوص لابن عربي ص 48.
(12)الفصوص لابن عربي ص49 انظر بتوسع "مصرع التصوف" برهان الدين البقاعي المتوفي عام 885هجري.
(13)المصدر السابق.
(14)الفصوص ص 55.
(15)أي من آمن بوجود الحق وبوجود الخلق على أنهما وجودان متغايران, ومعنى الإفراد هنا التوحيد, بأن يؤمن بأن الحق عين الخلق وجوداً وماهية.
(16)باعتبار الإطلاق.
(17)العلامة إقبال د. أحمد معوض ص88. وزبور عجم ص 127.
(18)باعتبار اليقين.
(19)مصرع التصوف ص44.
(20)يفخر إقبال بأنه من سلالة برهمية, فقد اعتنق أحد أجداده الإسلام, وهو يذكر هذا الأصل في شعره: "انظر إلى, فلن ترى في الهند آخر, برهمي الأصل, عارفاً برموز الروم وتبريز" زبور عجم ص13 وكليات إقبال ص405 ويشير بالروم إلى جلال الدين الرومي, وإلى تبريز إشارة إلى شمس الدين التبريزي مرشد جلال الدين ورائده.
(21)أسرار خودي ص49 وص357 محمد إقبال د. أحمد معوض يقصد هنا نبي الله إبراهيم.
(22)المصدر السابق.
(23)كتاب العمل ص149 وفصل التطور في هذه الدراسة ص185.
(24)يظهر أن فكرة دارون عن التطور, من مرحلة الحيوان إلى مرحلة الإنسان, لم تكن جديدة, وإنما لها جذور في الفلسفة القديمة محمد إقبال د. أحمد معوض ص396.
(25) أسرار خودي ص62.
(26) الإسلام والصوفية ص 250 راجع العلامة إقبال ص378 د. أحمد معوض.
(27)أسرار خودي ص18.
(28)المصدر السابق ص19.
(29)المصدر السابق ص25.
(30)تجديد الفكر الديني ص99 يشارك جودت سعيد ومحمد شحرور إقبالاً في هذا الرأي.
(31)المصدر السابق ص141 وانظر فلسفة إقبال د. على حسون ص125 وربما يكون قد استمد هذه الفكرة عن ابن سينا فمذهبه في البعث والنشور أنه بعث روحي, ولا يقول بالمعاد الجسماني, وهو وإن حاول إحالته إلى أدلة من منهج الشريعة, فإن ذلك للتضليل.
(32)فلسفة إقبال د.على حسون ص88.
(33)العلامة محمد إقبال د. أحمد معوض ص66.
(34)أخرجه مسلم 4/1762 حديث رقم 2246 وقد جاء الحديث بألفاظ أخرى عند مسلم: "يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر, فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر, فإني أنا الدهر, أقلب ليله ونهاره, فإذا شئت قبضتهما" رواه مسلم.
(35)معجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/306.
(36)أسرار خودي ص28 وما بعدها.
(37)محمد إقبال د. أحمد معوض ص392.
(38)تجديد الفكر الديني ص7.
(39)خصائص التصور الإسلامي ص15-18.
(40)رسالة التوحيد لمحمد عبده وخصائص التصور الإسلامي ص19.
(41)تعرضت في المقدمة لمفهوم المنهج الفلسفي العقلي باختصار, باعتبار أن دراستنا هذه معدة لنقد المنهج المادي.
(42)خصائص التصور الإسلامي سيد قطب ص 20.
(43)انظر كتاب "مفهوم تجديد الدين" بسطامي سعيد ص 135.
(44)أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي لهما شأنهما بين الدعاة المسلمين, كما أن العقاد وعزاماً لهما شأنهما في عالم الفكر والأدب.
(45)يتمثل أحد العوامل في غياب المنهج النقدي الإسلامي الشامل.
(46)تجديد الفكر الديني ص175-185.
(47)تجديد الفكر الديني ص175-185.
(48)المصدر السابق.
(49)المصدر السابق.
(50)رسائل إقبال إلى جناه ص17-18 وهو محمد على جناح أول رئيس لدولة باكستان المستقلة عن الهند.
(51)إقبال نامه ج1 ص319.
(52)كتاب رأس المال من تأليف ماركس وهو من أهم كتبه في استعراض المبادئ المادية, كما يشير إلى أصل ماركس اليهودي.
(53)عن نداء إقبال 168 د. على حسون.
===============(51/168)
(51/169)
لويس عوض ... الأسطورة والحقيقة ...!
ترجمته :
هو أحد نصارى مصر ، من الداعين إلى إحياء " الفرعونية " على حساب الإسلام في ذاك البلد العزيز ، إضافة إلى طائفية وعداوة شديدة للإسلام وأهله .
* ولد في قرية شارونه بمديرية المنيا في يناير سنه 1915 م ( ترتيبه الخامس بين إخوته العشرة ) وقضى سنوات طفولته في الخرطوم حيث كان أبوه موظفا بحكومة السودان .
* تلقى تعليمه الأولي بمدرسة " الفرير " بالمنيا ، وتعليمه الابتدائي والثانوي بمدرستي المنيا الابتدائية والثانوية حيث حصل على" البكالوريا " عام 1931 م .
* التحق بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1933 م - بعد كفاح مع والده الذي كان يصر على إلحاقه بكلية الحقوق - وتخرج عام 1937 م
* أوفدته جامعة القاهرة إلى جامعة كامبريدج حيث التحق بكلية " الملك " عام 1937 م - بمساعدة طه حسين - وحصل على الماجستير سنة 1940 م وكان موضوع رسالته " أسس البلاغة في الشعر الإنجليزي والفرنسي "
* عاد من الخارج عام 1940 م ليمارس العمل بالجامعة مدرسا مساعدًا ثم مدرسًا ثم أستاذا مساعدا .
* حصل على زمالة روكفلر بجامعة برنستون بين سنتي 1951 م و 1953 م حيث حصل على درجتي الماجستير والدكتوراة في الأدب الإنجليزي ، وكان موضوع رسالة الدكتوراة : " أسطورة بروميثيوس في الأدبين الإنجليزي والفرنسي " .
* عقب عودته من أمريكا اختير مشرفا على صفحة الأدب بجريدة الجمهورية حتى مارس 1954 م حيث استقال عقب أزمة مارس احتجاجا على استخدام العنف ضد المتظاهرين، واستنكارا للاعتداء البدني على السنهوري باشا رئيس مجلس الدولة .
* فُصل من الجامعة في سبتمبر 1954 م مع أكثر من خمسين أستاذا من المطالبين بالديمقراطية (!) وكان وقتها رئيسا لقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب - جامعة القاهرة .
* تم اعتقاله عام 1959 م لمدة ستة عشر شهرا مع الشيوعيين وأفرج عنه في 24 يوليو 1960 م
* عاد للعمل بجريدة الجمهورية في يناير 1961 م وانتقل بعدها إلى جريدة الأهرام التي ظل يعمل بها حتى وفاته .
* حصل على جائزة الدولة التقديرية عام 1989 م
* توفي في التاسع من سبتمبر عام 1990 م عن عمر يناهز الخامسة والسبعين ، قضى منها نحو نصف قرن في التدريس والكتابة .
له مؤلفات عديدة ، نحو خمسين كتابا في النقد والفكر إضافة إلى عشرات المقالات بالصحف والدوريات المصرية والعربية والأجنبية .
* للزيادة عنه : انظر " المشروع الثقافي للويس عوض " إصدار المجلس الأعلى للثقافة بمصر ! ، و" لويس عوض - مقالات وأحاديث " ، لنبيل فرج ، و " لويس عوض " للدكتور عبدالناصر هلال ، و " مدخل أقنعة المعلم العاشر لويس عوض " لعبدالرحمن أبوعوف .
رد كثيرون عليه من أهل الإسلام ومن غيرهم من القوميين ؛ فممن رد عليه : الشيخ محمود شاكر - رحمه الله - في كتابه " أباطيل وأسمار " ، وجلال كشك - رحمه الله - في " الغزو الفكري " وفي " دراسة في فكر منحل " ، والبدراوي عبدالوهاب زهران في " دحض مفتريات ضد إعجاز القرآن ولغته " ، والمستشار سالم البهنساوي في " تهافت العلمانية في الصحافة العربية " ، وخالد السيف في مقاله " وهلك لويس عوض " ( البيان - شوال - 1411) ، و محمود رمضان في مقاله " لويس : تُرى على من تطلق النار " ( المجلة العربية ، 128) .ومن أهم الردود الشاملة التي صدرت ضده : كتاب " لويس عوض : الأسطورة والحقيقة " للدكتور حلمي القاعود . وعنه أنقل التالي :
لويس عوض
الأسطورة .. والحقيقة
ترك لويس عوض تراثًا هائلا من الكتب ، جاء أغلبها تجميعًا للمقالات التى كتبها فى « الجمهورية » و « الأهرام » و « الكاتب » وغيرهًا ، ومعظمها يدور حول مراجعات الكتب والدواوين الشعرية ، ومتابعات القضايًا التى تدور فى الواقع الثقافى والاجتماعى ، وكان ينشر مترجماته وبعض كتبه المؤلفة فى موضوع واحد ، مسلسلة فى الصحف ، قبل أن تظهر بين دفتى كتاب .
والذى يعنينا فى هذا الفصل هو كتبه التى حملت آراءه الأدبية وتطبيقاته النقدية ، فقد غلبت عليه صافة « الناقد الأدبى » ، وهى الصفة التى أتيح له بموجبها أن يكون مشرفًًا على القسم الأدبى فى « الجمهورية » ثم القسم الأدبى فى « الأهرام » ، فإلى أى مدى استطاع لويس أن يكون ناقدًًا أدبيًًا ؟
الإجابة على هذا السؤال تقتضى منا أن نقترب من تصوراته حول الأدب ووظيفته ثم تصوراته للعمل الأدبى بناء وتشكيلا وصياغة ، وتطبيقاته على النماذج التى تناولهًا شعرًًا ونثرًًا .
وباستقراء كتابات لويس عوض فى هذا المجال ، لا نكاد نعثر على فكرة متكاملة توحى بأن الرجل يملك رؤية متكاملة أو منهجًا واضحًا ، فهو يبدو أقرب إلى الناقد الانطباعى الذى بشبه ناظر المدرسة فى مهمته ، حيث لا يعنيه التحليل والتعليل بقدر ما يعنيه الحكم والتقرير ، وعلى تلاميذه أو طلابه ( أى الكتاب والأدباء ) أن يسمعوا ويطيعوا ، ويقبلوا بأحكامه التى لا ترد ! .(51/170)
وقد بدأ لويس كتاباته النقدية متأثرًا بفكرة « الالتزام » النابعة من الواقعية الاشتراكية ، أو قل من النظرية الماركسية تحديدًًا ، حيث كان يرى كل شىء ( أحمر ) ... الحشائش حمراء ، والسموات حمراء ، والرمال والمياه وأجساد النساء وأحاديث الرجال والفكر المجرد كلها غدت بلون الدماء ، حتى الأصوات والروائح والطعوم غدت حوله حمراء كأنما شب فى الكون حريق هائل .. « فمن رأى السلاسل تمزق أجساد العبيد لم يفكر إلا فى الحرية الحمراء ..(1) .
وهكذا يدعو لويس إلى الخروج على تقاليد الفن الشعرى وتحطيم عمود الشعر العربى اقتداء بالشعر الغربى دون طرح أسباب علمية لها من وجاهة الرأى والاجتهاد ، ما يجعل الباحث يضعها فى ميزان الدرس الجاد ، وقد لاحظ ذلك بعض نقاد لويس حين رأى أن مقدمة لويس التى جعل عنوانهًا : « حطموًا عمود الشعر » تميزت بالنبرة الزاعقة ، وعدم معرفة لويس بمفهوم الشعر العربى ، وتجنبه للكلام عن عروض الشعر بكلمة واحدة ، ومثل هذا الكلام المسهب الذى قاله لويس عن العروض الجديد والعروض القديم « كان لا بد أن يحتوى على شىء من التحليل النقدى لهما معًا .. ، أو لأي منهما ، ولكننا لا نجد شيئًًا من ذلك مطلقًًا ، كأن الموضوع حماسى وشعورى ، وليس موضوعًا علميًا ومعرفيًا بأي شكل »(2 ) .
ولم يكتف لويس بالدعوة إلى متابعة الشعر الغربى - دون أن يضع فى حسبانه طبيعة الشعر العربى - بل كان يدعو الشعراء الذين يريدون النشر فى « الأهرام » إلى التزحيف والتعليل ، وعدم الالتزام بالقافية ، ونفى الشعر الخليلى تماما ، حيث رأى أن التفعيلة الصحيحة عبء على الشعر يجب التخلص منها . وقد ذكر « عبده بدوي » أن المترددين على لويس أيام كان مشرفًًا على القسم الأدبى فى « الأهرام » يؤكدون أنه غير راض عن التفعيلة فى صورتها الصحيحة ، فالتفعيلة التى ترضيه ليست التفعيلة المتعارف على صحتها ، ولكن التفعيلة التى بها نوع من النشاز، « ولكى نكون منصفين لموقف الرجل نذكر أن الشاعر « عبد المنعم عواد يوسف » ذكر لنا أمام عدد دباء كبير من الأدباء أنه سلم قصيدة للدكتور لويس ، فإذا به لا يرى بها عيبًا غير أن التفعيلة عنده تأتى سليمة ، ثم نصحه قائلا : ( زحف وأكثر من العلل )!! وقد تواتر هذا الخبر ، وكان آخر من رواه الشاعرة « وفاء وجدى » ، فقد أعادت الرواية التى ذكرها الشاعر عبد المنعم عواد يوسف ، مع فرق واحد هو ( زحفي وعللي ) ! فهذا شرط الشعر الممتاز . بل لقد وصل الحد إلى أن بعض الشعراء قد ذكر أن الدكتور عاتب عليهم لأنهم يقولون شعرًا عموديًا ، وحين ذكر واحد منهم أنه شعر قديم لديه يريد « تسويقه » قال له : انشره فى أى مكان إلا فى القاهرة »(3 ) .
ويبدو أن سعى لويس إلى هدم الحدود الفاصلة بين الشعر والنثر فى الأدب العربى ، كان مبعثه قصوره الأدبي ، وعدم استيعابه للشعر ، وبخاصة أنه يعترف بأنه لم يقرأ اللغة العربية طوال فترة تقرب من اثنتي عشرة سنة ( من سن العشرين إلى الثانية والثلاثين ) ، كما يعترف فى سابقة خطيرة ، بأن إحساسه باللغة العربية أجنبى جدًا على كل حال(4 ) .
هذا القصور المعرفى بالأدب العربي ، والشعر خاصة ، رافق لويس طوال حياته فى الواقع الثقافي ، ودفعه لاحتضان الخارجين على التقاليد الأدبية والقيم الفنية ، وبشر بهم بوصفهم طلائع التجديد والتحرر ، متناسيًا أن أستاذه « ت. س. إليوت » ، الذى يزعم لويس أنه تأثر به كثيرًا ، قد حرص على التوكيد مرارًا أن التقاليد الأدبية لها احترامها ، وأن التجديد الحقيقى لا يتم إلا من خلالها ، وهو ما عرفه أدبنا العربى قديما وحديثًا من خلال أبى تمام والمتنبي والبارودي وشوقي والعقاد وعلي أحمد باكثير ومحمود حسن إسماعيل ونازك الملائكة ...
ومن المفارقات العجيبة أن ينتقد لويس المجددين الرواد الذين حاولوا التقدم إلى ألوان أدبية جديدة ، وإثراء شعرنا العربي ، فهو مثلا ينتقد أحمد شوقي وعزيز أباظة بسبب عدم إدراكهما - فى زعمه - للفارق بين الشعر المسرحى والمسرح الشعرى(5 ) ، وبدلا من أن يشيد بجهدهما ودخولهما إلى ميدان جديد على الشعر العربى يصدر حكما عاما عليهما بالقصور دون أن يقدم مثالا واحدًا على ذلك ، بالرغم مما يمكن أن نجده من أداء فنى جيد فى بعض مسرحياتهما الشعرية على الأقل .
أيضًا ينتقد كتاب نازك الملائكة « قضايا الشعر العربى المعاصر» الذى حاولت فيه أن تطرح تصورها لشعر التفعيلة وأبعاده ، وشرح حركة التجديد الحديثة بصورة عامة ، دون أن يشير إلى ما أثارته من آراء أو يناقشها مناقشة علمية ، ولكنه يكتفى بوصفها أو تصنيفها سياسيًا بأنها من شعراء اليمين المتطور الذكي ، أو المحافظين المتطورين الأذكياء الذين يحاولون منع ظهور الجديد بتبني شعاراته ، وإدخال بعض التعديلات على الثوب القديم ليبدو فى زي جديد(6 ) .(51/171)
أما النزعة الصليبية فى التفسير الأدبي والتحليل النقدي لدى لويس ، فتسيطر على كثير من النماذج التطبيقية التي كتبها ، ولعله أول من زرع هذه النزعة ، بعد أستاذه سلامة موسى ، الذي الذى كان حانقًا على كل ما يمت للأدب العربي أو الثقافة العربية بصلة ، وقد استخدم لويس فى تحليلاته وتفسيراته المصطلحات الدينية المسيحية على نطاق كبير ، وبخاصة الصليب والخطيئة والخلاص والفداء والأقانيم وغيرها ، بل إنه يبدو متعاطفًا بقوة مع الأعمال الأدبية التي تحمل هذه المصطلحات أو بعضها ، ويشيد بها إشادة كبيرة ، وها هو يتناول قصيدة « الظل والصليب » لصلاح عبد الصبور التى نشرها فى ديوانه « أقول لكم » ، فيعدها من أجمل شعره قاطبة ، بل يعدها من أجود ما قرأ من الشعر فى لغات عديدة ( ؟؟ ) ، بالرغم من اقتباس فكرتها الأساسية من قصيدة من الشاعر الفرنسى المشهور « أراجون » ، وجوهرها - كما يرى لويس - أن الإنسان يحمل صليبه فى داخله ، وأن صليب الإنسان هو الحب ، فالوجود كله مصلوب بقانون أزلي هو قانون الحب ، حتى في لحظات السعادة العليا حين يفتح الإنسان ذراعين ليعانق الحبيب نرى ظله مرتسما على الجدار وراءه كأنه الصليب ، وقد أخذ صلاح عبد الصبور هذه الفكرة ، ثم بنى عليها من عنده شيئًا ، فهو يقول :
« هذا زمان السأم
نفخ الأراجيل سأم
دبيب فخذ امرأة ما بين إليتي رجل ..
سأم .
لا عمق للألم
لأنه كالزيت فوق صفحة السأم
لا طعم للندم
لأنهم لا يحملون الوزر إلا لحظة ، ويهبط السأم
يغسلهم من رأسهم إلى القدم » .
ويعجب لويس بالصورة البذيئة - دبيب فخذ امرأة ما بين إليتى رجل .. سأم - ويلح على فكرة الصلب والصليب طوال حديثه عن الشاعر ، والقصيدة التى يتكرر فيها ذكر الصلب والصليب :
« ومن يعش بظله يمشى إلى الصليب فى نهاية الطريق ..
يصلبه حزنه ، تسمل عيناه بلا بريق .. »(7 ) .
وهذا الافتعال فى التفسير « الصليبى » لشعر صلاح عبد الصبور ، كان مهربًا بلا ريب من الوقوف عند جماليات القصيدة وبنائها الفني ، وبالرغم من إعجابه الشديد بفكرتها ، فإنه لم يقل لنا أبدًا لماذا جعلته القصيدة يعجب بها ؟ أو ما الذي جعله يُعجب بالصورة الجميلة البذيئة التى أشار إليها ؟ اللهم إلا إذا كانت مسألة الصليب الذى يحمله الإنسان الصليبي هي سبب الإعجاب والإشادة ، والجودة ! وهو أمر لا علاقة له بالنقد والأدب !
وفى السياق نفسه ، ينتقل إلى تفسير بعض الأعمال الأدبية تفسيرًا صليبيًا يقوم على فكرة التثليث أو الثالوث ( الأب والابن والروح القدس ) ، كما وردت فى النصرانية الإرثوذكسية خاصة . فعندما يتناول رواية « الطريق » لنجيب محفوظ ينطلق من التفسير المسيحى لمشكلة بنوة الإنسان أهو ابن الطبيعة من الزنا ، أم إنه ابن شرعى أنجبته الطبيعة من الله ، فهو ابن الله كما تقول بعض أديان التوحيد مجازًا كالمسيحية ؟ (8 ) ، وهو كما نرى تفسير مفتعل لم يقصد إليه « نجيب محفوظ » فى روايته البوليسية العادية ، ولا خطر على باله ، ولكن ميل لويس إلى الاعتساف هو الذى يجعله يغرق فى التفسير الصليبي ، ويكثر من استخدام المصطلحات المسيحية ، فهو مثلا يستخدم مصطلح « الخلاص » فى مقالتيه عن « صلاح عبد الصبور » ( الخلاص بالموت - الخلاص بالحب ) ، ويتردد فيهما مصطلحات الخطيئة ، الخلاص بالإيمان ، والخلاص بالأعمال ، والعذراء ، والقديسين ، والتوراة .
وبالرغم من تردد هذه المصطلحات التى تحمل معنى الإيمان المناقض للكفر ، فإن لويس يركز على فى مقالتيه على الأبيات التى تعمر بالشك عند صلاح عبد الصبور ، مثل قوله :
[ يا ربنا العظيم ، يا إلهنا / أليس يكفي أننا موتى بلا أكفان / حتى تُذل زهونا وكبرياءنا ؟ ] .
[ يا ربنا العظيم ... / لشد ما أوجعتني / ألم أخلص بعد / أم ترى نسيتني / الويل لي ، نسيتني / نسيتني / نسيتني ... ] .
ويدخل لويس إلى معمعة الشك فى تعليقه على الأبيات ، قائلا :
« الله إذن قد نسي الإنسان على الأرض بعد أن نسج الأحلام فى عينيه ، وزرع فى صدره الشك والإيمان ، وأمطره بالأفراح والآلام ... ولم يعد أمام الإنسان من حل إلا أن يذكر الله بأن ينتشله من الجحيم ويأخذه إلى جواره .. »(9 ) .
وينصب النقد التطبيقي لدى لويس في معظمه ، على الإنتاج الحديث فى المسرح والشعر والرواية والقصة ، الذي كتبه رفاقه اليساريون أو المتعاطفون معهم ، أو الذين لا يميلون نحو الفكرة الإسلامية ، أو الذين يشغلون مناصب مهمة ، فقد كتب عن عبد الرحمن الشرقاوى ، وعبد الرحمن الخميسي ، وصلاح عبد الصبور ، وأحمد عبد المعطي حجازى ، وعبد القادر القط ، وبدر شاكر السياب ، ومصطفى بهجت بدوى ، وجبران خليل جبران ، وألفريد فرج ، ويحيى حقي ، ويوسف إدريس ، ونجيب محفوظ ، وإحسان عبد القدوس ، وشكري عياد ، وفتحي رضوان ، وتوفيق الحكيم ، ويوسف الشاروني ، ومحمد إبراهيم أبو سنة ، ومحمد عفيفي مطر ، ومحمد مهران السيد ، وفاروق شوشة .. وغيرهم .(51/172)
لقد زعم لويس أنه هو الذى وضع الأساس النظرى لنظرية النقد التاريخى فى الأربعينيات عبر مقدمات كتبه : بلوتولاند ، وبروميثيوس طليقًا ، وفن الشعر لهوارس ، بالإضافة إلى ما كتبه فى الأدب « الإنجليزي الحديث »(10 ) ولكنه لم يلتزم بهذه النظرية ، ولم يستخدمها بصورة واضحة فى نقده التطبيقى ، لقد كان منحازًا لعملية سرد المضمون التى سبقت الإشارة إليها ، متأثرًا بالاتجاه الماركسى أو الأدب للمجتمع أو الأدب للحياة ، مع انطباعاته أو ذكرياته الشخصية التى لا تخرج فى الغالب عن هوى ذاتي يشبع ميوله وأحلامه .
إن لويس عوض كتب الكثير فى مجال النقد تنظيرًا وتطبيقًا ، ولكنه غثاء كغثاء السيل ، لم يضف جديدًا إلى تراثنا النقدى ، ولم يحلل عملا أدبيًا تحليلا له قيمته الموضوعية والفنية ، ووظف كتاباته لخدمة الفكرة الصليبية ، وإطارها الماركسي ، وكان فى معظمها ميالا إلى الادعاء والدعاية والحكم العام ، بعيدًا عن الدرس الجاد والاتزان العلمى والحكم الموضوعى .
بل إنه لا يتورع أن يشيد بالأقباط الذين هم النصارى المصريون وحدهم فى زعمه ، وذلك فى مجال تفسيره لسلوك فؤاد منقريوس فى رفضه القتل ، فيقول عنه : « لعل لأرومته التى أكلت الزيت ألفي عام دخلا فى ذلك إذ كسرت فيه ناب الشر ودمثته على طريقة الأقباط »(11 ) ، وكأن الآخرين من غير ملة فؤاد منقريوس دخلاء على مصر !
ويعبث لويس بالذات الإلهية عبر المرحلتين المنشورتين من القصيدة ، عبثًا لا مسوغ له ، فى أي دين من الأديان ، ويتحدث عنها حديث مستهتر لا يحفظ لها قدسيتها وهيبتها ، بل يشوهها تشويهًا بشعًا حين يضعها فى العديد من الصور غير اللائقة ، وبخاصة فى المرحلة الثانية « الناسوت » الذى يبدأ مقطعه الأول هكذا :
[ وقالوا : ربنا واحد ، فقلت : ليته عشره
كمثل زيوس فى الأوليمب يحسو الراح فى زمره
ويؤنس بعضهم بعضًا ، وتحلو العزلة المره
وينسونا ، وننساهم ، ويشرب آدم خمره ]
وفى هذا الإطار الذى يتصور فيه الرب إنسانًا ، له خصائص البشر ، يضعه فى المقطع الثالث من الناسوت على هيئة مخلوق نهم يحب اللحم ، فيقول على لسان قابيل :
[ وخلت الله يهوى اللحم كالعزى وأوثان
فقدمت أخي المذبوح نحو الله قرباني ]
ثم يضعه فى صورة أخرى لمخلوق يخر مصابًا بالشلل فى المقطع الرابع :
[ وخر الرب مفلوجًا كمعلول بلا علل
تعلق لطفه في الكون بين الفجر والطفل
فيا غوثاه ، إن وقفت إرادته على شلل ] .
أو يضعه في صورة عديم المرءوة والنخوة - تعالى الله عما يقول هذا الصليبي- فى المقطع الخامس ، على لسان هابيل :
[ رآنى الله مذبوحًا كشاة خضبت بدم
فما مد اليد الطولى لينقذني من العدم ] .
أو يسند إليه - جل وعلا - صفات رخيصة يأباها المخلوق السوي ، فيقول فى المقطع السادس على لسان نبى الله أيوب :
[ أنا أيوب ، مشهور بتسبيحي وتقبيحي
ويوم بصقت ، يا الله ، فى وجهي وفى روحي
شكرت ، فزدتني بصقا ، وثرت ، فزدت من قيحي
سألت الغابة العذراء ، ثم صرخت فى الريح :
لماذا يبصق الرحمن فى وجهي وفي روحي ؟ ] .
وفى المقاطع الباقية يصف الله بالراعى الفارع العود ( المقطع السابع ) ويذكر أنه أكل الله فى خبزه ( المقطع الثامن ) وشربه فى خمره ( المقطع التاسع ) ويصفه بالصائد الماكر ( المقطع العاشر ) والعنكبوت ( المقطع الأخير ) .
وهكذا يتبدى عبثه بالذات الإلهية غير عابئ بأية مواضعات دينية أو خلقية أو اجتماعية ، والسؤال الذى يطرح نفسه هنا : لماذا فعل لويس ذلك فى الوقت الذى يسعى فيه إلى ما يسمى بالدين القومي ، ذي الوجه المسيحى ؟
والإجابة على هذا السؤال تبدو صعبة ، وبخاصة أنه يشير فى مقدمة القصيدة إلى أنه كان على أبواب الكثلكة وأبواب الدير . ولا ريب أن التناقض الذى يطبع حياة لويس عوض بصفة عامة ، وفكره بصفة خاصة من وراء هذا العبث الذى يؤكد الحضور العقلي والجدلي الممتد على مدى منظوماته جميعًا ..
إن مسرحية « الراهب » تحمل فى جوهرها روحًا طائفية غريبة على نصارى مصر ، ولو كان الكاتب مخلصًا لانتمائه الثقافي الإسلامي الذي ينتمي إليه كل المصريين لجعل من مسرحيته فرصة حيوية لبسط كفاح الشعب المصري ضد غاصبيه عام 296 ميلادية ، الذي نعرفه بعصر الشهداء ، ولكنه آثر الانصياع لميراث ثقافي بشع ، تشربه فى إنجلترا وفرنسا ، أكبر عدوتين للشعوب الإسلامية والشرقية عمومًا ، وهما اللتان أشعلتا فى نهاية القرن الحادي عشر حربًا صليبية آثمة لا تقرها المسيحية ولا الأخلاق الإنسانية ، ومازالتا تضرمان النار فى أحشاء العالم الإسلامى بوحشية وعنصرية لا ندري سرها حتى الآن ؛ كما يجرى فى البوسنة والهرسك .. ولا ريب أن النظرة الطائفية التى اعتمدها لويس هى حصاد الفكر العنصري الصليبي ، الذي لا يكل فى شحن الأقليات التي تعيش داخل العالم الإسلامى بالتعصب والتمرد والانعزال .(51/173)
يدعي « لويس عوض » أنه لا يكتب فى السياسة ، قال ذلك عندما نشر كتابه « على هامش الغفران » فى معرض رده على الذين تناولوا أعماله بالتصحيح والتصويب ، حيث زعم ساخرًا أنه لا سبيل إلى معرفة آرائه في السياسة إلا لمن أوتي العلم اللدني والقدرة على التفتيش فى ضمائر الناس(12 ) ، وهذا الادعاء يبدو طريفًا ومضحكًا أكثر منه جادًا وواعيًا ، لسبب بسيط جدًا ، يكمن فى أن معظم أعماله لها حضور سياسي إن لم تكن سياسية مباشرة ، حتى تلك الأعمال الإنشائية ( الرواية - المسرحية - الشعر .. ) التى كتبها وخلفها بعد رحيله ، ذات صبغة سياسية بالدرجة الأولى ، وتتناول الواقع من منظور سياسي مباشر أو فني . ولعله يقصد بادعائه أنه ليس كاتبًا متخصصًا فى تناول الأحداث السياسية اليومية الجارية ، من قبيل تغيير الوزارة ، أو إصدار قرار سياسي ، أو موضوع راهن يؤثر على سياسة الدولة ... إلخ ، وهذه الأحداث يتناولها عادة الصحفيون كل في مجال تخصصه الدقيق ، بحيث تخرج التحليلات والتفسيرات بنتائج ما يستفيد بها القارئ أو أصحاب القرار السياسى أو لا يستفيدون .. قد يقصد لويس هذا ، بيد أن نقاده ليسوا من السذاجة حتى يتصوروا أن السياسة وقف على مجرد التناول الصحفي ، فالسياسة علم وعالم من الفكر الدائب والمستمر الذي يتجاوز الراهن من الأحداث إلى صناعة الأحداث بالفكر والرأى ، وبخاصة فيما يتعلق بالقضايا ذات التأثير البعيد المدى على الشعب أو الأمة أو الطائفة أو المذهب أو النظرية أو النظام ، وانعكاس هذا التأثير على المجتمع الخارجي .. فهل كان لويس بعيدًا عن ذلك حقًا ؟
لقد كان لسانًا من ألسنة النظام الناصري الأول ، وواحدًا من أبرز أعوانه ، وداعية من كبار دعاته ، وأتيح له ما لم يتح لغيره تلميعًا ومناصب ومنابر ، فضلاً عن نفوذ كبير خفي استطاع من خلاله قمع معارضيه ، وبخاصة أصحاب التصور الإسلامى الناضج ، على النحو الذى أوضحناه فى موضع آخر ، وقد أكد ذلك تلميذه غالي شكرى حين أشار إلى ارتباطه بالسلطة « ولكنه لا يخرج على المؤسسة الشرعية »(13 ) .
صحيح أن النظام اعتقله لبعض الوقت ( 59 - 1965 ) ، ولكن الرجل خرج فى ظل المد الاشتراكي وسيطرة النفوذ السوفياتي أكثر قوة ، وتأثيرًا فى الواقع الأدبى ، لاتصاله من خلال عمله بالكاتب « محمد حسنين هيكل » رئيس تحرير جريدة « الأهرام » آنئذ ، والصديق الشخصي للرئيس الأسبق « جمال عبد الناصر » ، ويعترف لويس بأن « هيكل » وقف إلى جانبه فى المواقف التى أثارت عليه الآخرين ، وأعطاه الفرصة كاملة ليكتب ما يشاء على صفحات « الأهرام » ، والجريدة الأكثر توزيعًا وانتشارًا أيام العصر الناصرى دون السماح لمنتقديه بالرد أو التعليق على صفحاتها ، وقد أشار إلى ذلك تلميذه غالي شكرى حين ذكر فى معرض نشر بعض رسائله إليه أن مواقف هيكل مما يسميه معارك لويس عوض « قد أشعرته بأنه يستطيع أن يقول كلمته في أصعب الظروف »(14 ) .
ويمكن أن نفهم موقف لويس من السلطة أو النظام بوضوح أكثر ، إذا استعرضنا آراءه فى عهد ما قبل الانقلاب العسكرى فى 23 يوليو 1952 ، والعهد الذي بعده .. فقد كان موقفه من الحكم السابق على 1952 ، موقف العداء والرفض ، ويشير إليه بالعهد البائد ، ويرى فيه كل الموبقات ، ويشيد تأسيًا على ذلك بجمال عبد الناصر الذى سماه « بالجراح العظيم » الذى أجرى عملية البتر دون أن يريق قطرة من الدماء .. ذلك أن أم القيح مصدر العفن من وجهة نظره هى الملك وكبار الملاك والرأسمالية الذين خسروا حرب فلسطين ، وجمدوا غضب الشعب المقدس ( كذا ؟ ) ضد الإنجليز ست سنوات ( 46 - 1952 ) (15 ) . وهى وجهة نظر غير علمية وتحتاج إلى كلام طويل ، يمكن تلخيصه أن أم القيح مصدر العفن ما زالت تعيش بها مصر حتى اليوم ، وقد تضخمت بصورة غير مسبوقة ، وأن الملك صار ملوكًا أكثر شراسة وقسوة وفسادًا ، وكبار الملاك والرأسمالية صاروا كبار النهابين واللصوص الثوريين الذين سرقوا حرية الشعب وآماله وكرامته ، وهؤلاء الكبار الجدد لم يجمدوا غضب الشعب فحسب ، بل أضاعوا ما تبقى له من كرامة ، ومنحوا اليهود كل فلسطين بما فيها القدس وسلموا لهم سينا مرتين ، وجعلوا لأولاد الأفاعي مدينة على خليج العقبة وممرًا فيه ، وسفارة وعلمًا على ضفاف النيل ، كما منحوهم حق المرور في قناة السويس ، وصار من يرفضهم أو يقف ضد منهج الإجرام اليهودي يوضع فى خانة « المتطرف » و « الإرهابي » ؟ إن لويس يتناسى أن الاحتلال الإنجليزي قد ذهب ، وأن الاحتلال الثوري الوطني قد جاء ومعه أحدث تكنولوجيا التعذيب والقهر ومصادرة الحرية ، والأخلاق ، واقتلاع الإسلام ، وتكريس الوصولية والانتهازية والنفاق ، وكتابة التقارير ضد الشرفاء والأحرار بوساطة التنظيمات السرية ( التنظيم الطليعى ) والعلنية الاتحاد الاشتراكي وذريته من بعده .. أرأيتم كيف يحكم لويس على الماضي والحاضر ببساطة شديدة دون علم أو موضوعية ؟(51/174)
وقف لويس عوض من القوى السياسية والعالم الخارجى موقفًا يتسق مع توجهه الطائفي سلبًا وإيجابًا ؛ فالقوى التي تعتمد على تصور الإسلام أو شيىء منه ، وقف منها لويس موقفًا عدائيًا صريحًا ، لم يكتف بإعلان هذا الموقف بل ألح على هجاء هذه القوى ووصمها بكل ما هو بشع وقبيح . أما القوى التي تبعد عن التصور الإسلامي أو تعاديه فهي قريبة إلى نفسه ، تحظى بوده وتعاطفه ، ولا يجد غضاضة في الإشادة بها ، بل يجد لزامًا عليه أن يلح فى امتداحها والتماس الأعذار لها ..
وفى سياق المظاهر التي تعبر عن عثرة لويس ، وخطيئته فى حق الإسلام والمسلمين ، معارضته لتطبيق الشريعة الإسلامية ، ووصف المطالبين باعتماد التصور الاسلامي بالرجعيين أو المحافظين ..
إنه يعارض تطبيق الشريعة الإسلامية صراحة ، لأنه يقرنها أو يعدها ستفضي إلى حكومة دينية ، ثم يشيد بمن يسميهم الجنود العاملين فى ميدان معارضة تطبيق الشريعة الإسلامية من الصحفيين والكتاب الذين يسميهم « مستنيرين » !! ويقول :
« يبدو أننا بعد نصف قرن من تلك الأيام البعيدة لم يتقدم قاموسنا السياسي كثيرًا ، رغم أن خطر الحكومة الدينية ( ! ) قد استفحل كثيرًا عما كان عليه فى 1925 ، بل ولعله تأخر ( ؟ ) ، فنحن الآن نداور وندور حول المشكلة الأساسية ، وهي صلاحية الحق الإلهى لأن يكون أساسًا للدولة ، ونحن لا نسمى الأشياء بأسمائها رغم أن بعض المشتركين منا فى مناقشة قضية الثيوقراطية وأصول الحكم من كبار المستنيرين مثل توفيق الحكيم وزكى نجيب محمود وأحمد بهاء الدين وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح حافظ وفرج فودة - ولعل أكثر المعاصرين اقترابًا من بؤرة الموضوع هما : صلاح حافظ وفرج فودة .
وكل هؤلاء معادون للثيوقراطية ، ولكنهم يداورون ويناورون فيما يكتبون خوفًا من الغوغاء والكهنة(16 ) .
وخطورة كلام لويس تتمثل أساسًا في تشبيهه للإسلام بالكنيسة وعصور أوربة الوسطى وتحكم رجال الدين بالأوربيين .
فالإسلام على مدى تاريخه لم يعرف الحكومة الدينية ولا الحق الإلهي ولا الثيوقراطية ولا الكهنة ! فمن أعطى لشخص مثل لويس أن يصم الإسلام بهذه الخطايا ، وأن يسقط ما فعله رجال الدين فى أوربة على الإسلام ؟
إن الحكومة الإسلامية محكومة بالثوابت الإسلامية ، ثم إنها قائمة على الاختيار والمبايعة ، والدعم والمؤاخذة ، ومقولة أبي بكر - رضي الله عنه - مشهورة : ( إن أحسنتُ فأعينوني وإن أسأتُ فقوموني ) ، ومقولة عمر - رضى الله عنه - مشهورة أيضًا : ( لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها ) ومقولة رجل من عامة المسلمين لعمر مشهورة كذلك : ( والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا ) ، ومقولة امرأة من عامة المسلمين لعمر مشهورة بما فيه الكفاية : ( كيف تمنع حقًا فرضه الله ؟ ) ورد عمر عليها مشهور أيضًا بما فيه الكفاية : ( أصابت امرأة وأخطأ عمر ) .. فأين الثيوقراطية والحق الإلهي والحكومة الدينية والكهانة ؟
إن أسلوب لويس المتدنى فى هجاء الإسلام وصل إلى درجة غير مقبولة ، فضلاً عن افتقاره إلى الأساس العلمي الذى يقيم عليه فكره الرديء ..
أما إشادته بمن أسماهم المستنيرين ، وأغلبهم من اليساريين أو الباحثين عن الشهرة ، فهم لا يفقهون الإسلام ولا يدركون طبيعته ، لسبب بسيط وهو أن تفكيرهم قاصر ، وأدواتهم قاصرة ، لأنها تدور فى دائرة واحدة ؛ هي الترويج للفكر الماركسي فى ثياب مختلفة ولا علاقة لهم بالمفاهيم الإسلامية دراسة أو ممارسة .. ولا نغالي إذا قلنا إن بعضهم كان مدفوعًا بدوافع مريبة لتشويه صورة الإسلام والمسلمين ، وإلا ماذا نقول عمن لا يرى في الإسلام وتاريخه إلا مذابح ، وجواري ، وفتنًا وخمرًا ، ومللاً ونحلاً ... إلخ ، ولا يرى فيه إيجابية واحدة ؟!
========
الهوامش :
(1 ) لويس عوض ، بلوتولاند وقصائد أخرى من شعر الخاصة ، ص 26 - 27
(2 ) سامى خشبة ، لويس عوض ومسألة الجهل بالثقافة العربية ، إبداع ، إبريل 1991 ، ص 72
(3 ) الرسالة ، العدد 1085 ، 23 من جمادى الآخر 1384هـ - 29 من أكتوبر 1964 ، ص 51
(4 ) بلوتولاند ، 22
(5 ) لويس عوض ، دراسات عربية وغربية ، دار المعارف بمصر ، 1965 ، ص 100
(6 ) السابق ، 121
(7 ) لويس عوض ، مقالات فى النقد والأدب ، مكتبة الأنجلو المصرية ، القاهرة ، د. ت ، 185 - 190
(8 ) الثورة والأدب ، 133
(9 ) الثورة والأدب ، 110
( 10) جهاد فاضل ، حوار مع لويس عوض ، مجلة الحوادث ، لندن ، 1 / 1 / 1988 ، ص 54 وما بعدها .
(11 ) السابق ، 158
( 12) على هامش الغفران ، ص8
(13 ) المثقفون والسلطة فى مصر ، ص 348
( 14) الوطن العربى ، رسائل لويس عوض ( 2 ) ، العدد 187 - 713 بتاريخ 12 / 10 / 1990 .
وانظر أيضًا : إيداع ، عدد سبتمبر / أكتوبر 1990 .
( 15) العنقاء ( المقدمة ) ، ص26
( 16) السابق ، 302
حول استراتيجيات الغزو الفكرى للمجتمعات الإسلامية:
تطبيق مصرى:
نموذج تطبيقى لويس عوض:
جناحان مخربان:
اعتمدت عليهما الهجمة الصليبية على العالم الإسلامى فى ثوبها الأخير لضرب الإسلام بالغزو الفكرى
ظهرا بوضوح فى مصر على الوجه الآتى :(51/175)
الجناح الأول :
عناصر مسيحية ترى فى المسلمين مستعمرين يجب التحرر منهم ويسمون النصارى بالأقباط
وهذا الجناح يتجاهل أن الكنيسة كانت مضطهدة حتى أتى المسلمون إلى مصر ويتجاهلون الثابت من التاريخ أن أجدادهم النصارى المصريون هم الذين قدموا المعونة للمسلمين ليتخلصوا من الظلم الواقع عليهم وعلى كنيستهم من الرومان ومن كنيسة روما
ويتجاهلون دخول الشعب المصرى فى الإسلام عن قناعة ويرون أن أكثر من 60 مليون مسلم مستعمرين قادمين من جزيرة العرب وأن الأقل من عشرة مليون مسيحى هم المصريين الأقباط فقط
ويتهمون المسلمين بنشر الإسلام بحد السيف متجاهلين أن وجودهم فى مصر حتى الآن دليل إحصائى على كذب دعواهم وهو أقرب لما طبقه النصارى الأوائل مع الوثنيين المصريين حيث أبادوهم بالكامل وأبادوا من هرب منهم إلى الواحات الغربية بعد ذلك كما يتفق وقضاء المسيحيين المؤمنين بالأقانيم على الأريوسيين من النصارى الموحدين
فلم يبق أحد الوثنيين حتى الآن بمصر كما لم يبق أحد من النصارى الموحدين بمصر الآن
حملة تشويه كاذبة على الإسلام أفرزت عناصر مصرية متطرفة من النصارى المصريين استثمرها الإنجليز فور دخولهم مصر
واستقطب العديد من مثقفيهم لإحداث التمرد على الخلافة العثمانية وللدعوة للفصل بين الدين والسياسة ولإحداث تغيير جوهرى فى نظام التعليم بمصر وهو أداة الجناح الثانى للهجمة الصليبية العالمية على الإسلامى لاستخدامه فى سياسة التغريب والغزو الفكرى
الجناح الثانى :
وهم أبناء المصريين المسلمين ممن تم استقطابهم كما يلى :
1) فتح مدارس أجنبية إنجليزية وفرنسية وإيطالية وأمريكية لتعليم المصريين بعيدا عن المساجد والكتاتيب لم يهمل فيها تعليم الدين الإسلامى بمناهج موجهه
2) استخدام سلطة الإحتلال الإنجليزى فى زحف العناصر المنبهرة بالحضارة الغربية على مناصب الدولة تدريجيا وإحلالهم بديلا عن العناصر المنتمية للأمة الإسلامية
3) توفير البعثات للمتميزين من العناصر المنتمية للحضارة الغربية وتيسير حصولهم على درجات علمية رفيعة وتزويج أكبر قدر ممكن منهم بغربيات منتميات للحضارة الأوروبية
4) دعم هذه العناصر لتتولى المناصب القيادية فى الإقتصاد والسياسة وكافة الأنشطة الحياتية
5) حفز العائلات الكبيرة والثرية لتعليم أبناءهم فى المدرس والجامعات الأجنبية وتيسير البعثات الدراسية حيث كان الناس يرون أن خريجى هذا النوع من التعليم هم من يجدون يحصلون على الوظائف المرموقة .
6) التعليم العربى بالمدارس المصرية كان يسد النقص فى الوظائف البسيطة
لو دعا المتطرفون المسيحيون وحدهم إلى التغريب لرفضت دعواهم ولكن الإستعمار البريطانى وظف مسلمين سابقى الإعداد بواسطة الجناح الثانى فى إحداث الغزو الفكرى بواسطة المنبهرين بالحضارة الغربية وهو سبب الذى نعانى منه رغم خروج المحتل من مصر فكان الغزو الفكرى لمصر وغيرها لامن بلاد المسلمين مع اختلاف فى بعض الخطوات واختلاف فى سرعة التغريب من بلد إلى بلد
هذا النموذج الذى أتيتم به لويس عوض جمع بين العمل على الجناحين ووظف وضعه المجتمعى وثقافته الغربية وما يكنه قلبه من اعتقاد للمشاركة فى دعم عجلة التغريب التى كانت قد أتت ثمارها الضارة
وإذا عرف الداء زادت احتمالات العثور على الدواء
شكر الله لكم أخى فضيلة الشيخ سليمان الخراشى على هذه الدراسة القيمة
================(51/176)
(51/177)
مريم نور .. موضة جديدة في الإلحاد .. !
مذ خرجت علينا هذه العجوز الشمطاء .. وفي القلب منها أشياء وأشياء .. حتى قرأت في موقع شبكة الدفاع عن السنة هذا المقال -أدناه- فأحببت من باب: الدين النصيحة تحذير إخواني منها ومن دعوتها ومن هم على شاكلتها .. فكم من العوام قد اغتر بدعوتها وكلامها الذي تدس فيه السم بالعسل .. وكم من أولاد المسلمين متعلقين بها وينادونها: ماما نور !!
رسالة الدكتور يوسف البدر:
أثناء طلبي للعلم خلال الفترة الماضية من حياتي، وبعد إطلاعي على الكثير من العلوم التي لم تأخذ نصيبها الكافي في عالمنا العربي والإسلامي، وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، الطب الشرقي، الماكروبيوتك، العلاجات البديلة،....إلخ، قطعت على نفسي عهدا بأن أبذل كل ما بوسعي ضمن الإمكانيات المتاحة لي لنقل هذه العلوم إلى بلادنا، وترجمتها، وتهذيبها، وتطويعها بما يتماشى مع عقيدتنا وأعرافنا وتقاليدنا، ليستفيد منها أبناء جلدتنا، ولإثراء المكتبة العربية بما هو جديد ومفيد.
وقد قمت بذلك العمل لا أريد منه إلا وجه الله تعالى، مما اضطرني إلى مراجعة تلك الكتب والعلوم مراجعة دقيقة لحذف كل ما يتنافى مع ديننا الحنيف وأعرافنا الحميدة، محاولا قدر الإمكان عدم المساس أو التأثير على المادة العلمية للكتاب. ومما أشعل همتي وشجعني على ذلك حاجة الناس لمثل هذه العلوم، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو أولاد يدعون له" وهذا الحديث الشامل إنما يتضمن جميع العلوم النافعة سواء كانت دينية أم دنيوية.
ولكنني في الآونة الأخيرة لاحظت بروز تيارات ونداءات تتستر بغطاء هذه العلوم لبث أفكار هدامة ومدمرة لمجتمعاتنا وشبابنا على وجه الخصوص. وربما كان صمتي حينها لقناعة شخصية بأن هذه التيارات ليست بتلك القوة والنفوذ الذي يمكنها من الوصول والتأثير على شبابنا وقيمنا، لكن وأنا أشهد صعود هذا التوجه بقوة، وتحركه من كل حدب صوب، مستغلا نفوذه وتأثيره تارة، وغطاء العلوم والعلاج تارة أخرى، رأيت أن أخرج عن صمتي لأذَكِّر إخواني ممن يغارون على هذا الدين، وعلى مستقبل مجتمعاتنا وشبابنا، ومنبها على خطورة هذا التيار الجديد في حلته، القديم في أهدافه، الذي لن يهدأ له بال حتى يسلخ هذه الأمة عن قيمها ومبادئها التي عاشت بها لأكثر من 14 قرن.
الزعيم الروحي المعاصر لأتباع ودعاة هذا التيار شخص يدعى "أوشو" "OSHO" هندي الأصل، وضع نهجا جديدا لمحاربة الدين من خلال ما سماه بالتأمل، واستغل بعض مفاهيم الطب الشرقي للتستر بها وجذب عقول الناس والأتباع.
ويأتي على رأس هؤلاء الأتباع والدعاة، المبشرة بهذا الدين الجديد والمعروفة بِ (م.ن) وبعض العرب، الذين وضعوا نصب أعينهم، وعلى رأس أولوياتهم الترويج لهذه المبادئ والأفكار في العالم العربي من خلال ترجمة وتوزيع كتب هذا الملحد، وإنشاء مراكز في العالم العربي لهذا الغرض، ظاهرها رحمة وعلاج وباطنها كفر وإلحاد، وهذا بشهادتها على نفسها في لقائها الصحفي مع يومية الرأي العام عدد 13350، بتاريخ 8/1/2004، حين سُئِلت عن مهمتها في الوقت الحالي فأجابت: "حاليا مهمتي فتح بيوتات سلام في كل العالم العربي"!!!. وما هي أحدث غزواتك أو أحدثها؟ فأجابت : "الكويت"!!!. وما بيوتات السلام هذه التي تتكلم عنها سوى أوكار لنشر الأفكار الهدامة، والانحلال، والانسلاخ عن جميع القيم والأخلاق الحميدة، وهي شبيهة جداً بتلك التي يتخذها عَبَدَة الشيطان في كثير من الدول، وباعترافها في نفس اللقاء الصحفي أن هذه الجماعات، هي "سر وسحر وسكر وجنس"، وأن الجماعة تزيل الكبت خلال مدة ست سنوات، فلا يبقى إلا الجنس لأنه حاجة،كما تقول، ولكنه يتحول إلى حب!!! وجعلت ممن ساعدها في فتح هذه البيوت أطباء يعالجون الناس، وعلماء يلقون المحاضرات، وهم لا شهادة ولا خبرة لهم، شهادتهم فقط أنهم آمنوا بفكرها وبدين "أوشو"، فاحذروهم.
أما عن "أوشو" أو المعلم، كما يحلو لها تسميته، فتقول أنه قال لجدته وهو في عمر الأربع سنوات أن هناك دين غير هذه الديانات موجود!!!؟؟. والمجال هنا لا يسمح بذكر ما يتضمه فكره من كفر بواح لا يقبله أي عقل سليم، بل ويكفي أن نعلم بأن الكنيسة في أمريكا قد أهدرت دمه، فماذا عن موقف الإسلام إذاً.
يقول هذا الملحد في كتابه "من الاستطباب إلى التأمل" "F r om Medication to Mediation"
(إن التأمل هو الطريق نحو السيطرة على كيانك، ليست هناك حاجة للإله، ليست هناك حاجة للتعاليم الدينية، ليست هناك حاجة للكتاب المقدس، ليست هناك حاجة لأحد لكي يصبح مسيحيا أو يهوديا أو هندوسيا- كل هذه الأشياء تنتهي بلا معنى). بدون تعليق!!!!
(إذا ما أردت أن تضعي طفلك بطريقة علمية ينبغي أن تكوني على وعي، ونشاط، ومعرفة أنك سوف تضيفي إلى هذا العالم زائرا جديدا. نحن نعلم من هو، ونعلم كينونته، و ما هو مآله في نهاية المطاف، وكم يكون عمره، وما هو مدى ذكائه).(51/178)
(بمقدور البشرية الآن أن تُخرج أجيالا تجعلهم يتمتعون بصحة أفضل من ذي قبل. بل ويمكن أيضا أن نَتَحكم في أعمارهم ونجعلهم يحيون ماقدّرنا لهم أن يعيشوا،بل ويمكن أن نجعلهم أكثر ذكاء ما تطلبت مهام وظيفتهم ذلك). أليس هذا كلام لا يقوله إلا رب العزّة؟!!!
(ألا ترغبين أن تترقي عن مستوي الحيوانات ؟ أم أنَكَ ترغب في أن تكون البويضة هي بويضة زوجتك، أو يكون المني هو ماؤك فهذا أمر سخيف. إن الأطفال هم ملك لهذا الكون الرحيب، فما هي الخصوصية إذن أن يكون هذا الوليد من ماؤك أم لا ؟) الله أكبر ..
(نعم ماذا تريد أن تفعل، بداية أن تخلق طفلا أعمى يعاني من الظلام، طفل لا يعلم ما خارج كينونته، ثم بعد ذلك تجعله عبدا وترغمه على اعتناق أي من الأديان السائدة سواء كانت النصرانية أو الهندوسية أو المحمدية، ثم ترغمه أيضا على أن ينضم إلي أي من الأحزاب سواء كانت الاشتراكية أو الفاشية أو الشيوعية، وليس طفل هذا عمره بمقدرة على أن يثور على هذه الأنواع المختلفة من العبودية. إن الطفل الذي في ذهني يجب أن يتمتع بحرية مطلقة، سوف لا يعتنق أي مذهب سياسي، سوف لا يعتنق أي من الديانات المشهورة، سوف يكون له دين من نوع خاص به هو.!!!!!!!؟؟؟) وأي دين هذا؟؟؟
(ويتساءل لماذا لا يتزوج الرجل من أخته بل يجب أن يكون هذا النوع من الزواج هو أبسط أنواع الزواج، أن يتزوج الرجل من أخته. إنكَ في الحقيقة تحبها فهي التي عاشت معك منذ ميلادك، إنك تعرفها وتعرفك ولكن لماذا تُحَرِمْ ذلك؟) وهل هناك كفر وضلال أكبر من هذا؟ وما هذه إلا سطور من ضمن 330 صفحة تضم بين طياتها ما هو أعظم وأفظع. وللعلم فإن هذا الكتاب وغيره يوزعون على الجماعة في بيوتات السلام المذكورة في الوطن العربي وخاصة الكويت.
وأعود إلى موضوع نقل هذه المعارف، وكيف تم استغلالها من قبل أتباع هذا الزنديق الملحد، حيث أنني رأيت أن أطبع الكتب في البلد العربي الشقيق لبنان، لما يُعرف عن هذا البلد من تقدم وازدهار في مجال النشر. فاتفقت مع "دار الخيال" من أجل طباعة هذه الكتب ضمن عقد واتفاق رسمي، وعند توزيع هذه الكتب لاقت معارضة شديدة من أتباع ذلك المدعو "أوشو" بسبب قيامي بحذف كل ما يتناقض مع عقيدتنا الإسلامية، وعاداتنا وتقاليدنا وأعرافنا. وبعد سنة من توزيع هذه الكتب لم يقم صاحب دار الخيال المدعو "جان عموص" بالوفاء بالتزاماته الأدبية والمالية، بل إنه قام بطباعة الكتب دون مراجعة أخيرة مني بعد أن قام بحذف اسمي وصورتي من الكتب، بل أنه وصل به الحد إلى طباعة كتب لم يوضع عليها اسمي، وقام بنشرها كما هي دون تعديل، مما جعل محتواها يمس بالذات الإلاهية. ولا أبالغ إذا قلت بأنني اشتريت كتبي، لأكثر من مرة من السوق، حيث أنني لم أحصل منه على كتبي، وقد تم اللجوء إلى القضاء في الكويت، وإلغاء العقد المبرم بيننا.
ولم أكن أعلم بالسبب الذي دفع صاحب هذه الدار للقيام بهذا العمل، بالرغم من استفادته المادية من هذه الكتب، حتى اكتشفت صلته بالمبشرة (م.ن)،والتي كان سبب خلافنا معها هو معارضتها منذ البداية لإجراء أية تعديلات أو حذف ما يتعارض مع ديننا وأعرافنا. وقد قامت عند بداية طباعة هذه الكتب بتحريض أتباعها بعدم شراء كتبي مدعية عدم إجادة ترجمتها، ولكنها في الحقيقة عارضتها لقيامنا بحذف ما يتعارض مع ديننا وأعرافنا. ولكن وبعد اتفاقها مع صاحب دار الخيال لطباعة الكتب من جديد دون مراجعتي، قامت بتوصية جميع أتباعها في الوطن العربي بشراء الكتب التي تطبعها هذه الدار. وبدأ الإثنان معاً في إعادة طباعة ونشر العديد من الكتب بعد حذف ما جاء فيها من إضافات وتهذيبات. وهكذا تأكدت أن هذه الدار تتبع للجماعة المذكورة ضمن شبكة واسعة تحاول أن تطول جميع العالم العربي والإسلامي. وما تأخري في الإعلان عن هذا الأمر سوى حرصي على الفائدة العلمية التي تحتويها هذه الكتب والتي كان يستفيد منها الجمهور، بالرغم من انتهاك هؤلاء لحقوقنا المادية والأدبية، وسرقة كتبنا التي نملك حقوقها، وقيامهم بطباعتها ونشرها.
وبالإضافة إلى الكتب، قام أنصار المدعو "أوشو" بتكوين جماعات في العديد من الدول العربية منها: لبنان، سوريا، السعودية، الكويت...، وفتحوا مواقع لهم على الإنترنت ينشرون فيها هذه الأفكار الهدامة، على صورة مقالات يومية مقتبسة من فكر الملحد "أوشو".
وأؤكد هنا بأن هذه الأعمال لن تثنينا عن مواصلة الرسالة، ونشر المزيد من الكتب العلمية التي تحتوي على الفائدة المرجوة من قرائها، مع مراعاة تماشيها مع قيمنا وعقيدتنا السمحاء، وتفاديا لأي لبس قد يتعرض له القراء، فإن هذه الكتب ستكون إما باسم شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، أو شركة دار الحياة للنشر والتوزيع والترجمة.
كما أنوه قراءنا الكرام باستعدادنا لتقبل أية شكاوى، أو معاناة للأشخاص ممن تعرضوا لدجل هذه الجماعات، ونوفر لهم إمكانية نشرها على صفحتنا الخاصة، بغرض فضح هذه الممارسات الخطيرة، والمدمرة لمجتمعاتنا.(51/179)
وأنا إذ أذكر هذه الوقائع، فذلك من باب التذكير وتنبيه القراء الكرام إلى خطورة هذا الفكر، حيث أن بعض هذه الكتب تحمل اسم الدكتور/ يوسف البدر على غلافها أو في صفحتها الداخلية، وأعلن عن إخلاء مسؤوليتي عن أي خطئٍ طبي، أو مخالفة شرعية، وأنا مما جاء فيها براء، براء، لأن هذه الكتب تطبع من غير مراجعتي وإشرافي وعلمي. وإن شراء هذه الكتب الصادرة عن دار الخيال تعتبر تشجيعا ودعماً لهذه الجماعة وأهدافها، ناهيك عن كونها تشجيع للسارق على فعلته. فاحذروا إخواني هذه السموم التي دُسَّت في دَسَم العلم والطب لإشاعة الفساد في الأرض، وهتك ستار العفة والتقوى الذي تتحصن به هذه الأمة التي كرمها مولاها عن سائر الأمم. ألا هل بلغت، اللهم فاشهد...
موضوع آخر، له صلة بما سبق .. وله أبعاد وخيمة وأهداف خطيرة تنطلي على السذج من المسلمين .. فالحذر .. الحذر إخواني ..فالمؤمن كيس فطن، عقله ينقد كل وافد .. لا يمرر بضاعة الكفار حتى يغربلها .. فيقبل الصالح منها الموافق لعقيدة التوحيد ويرفض الفاسد منها .. وما كان له في ديننا أصل، كان به الغُنية عما سواه ..
ووالله إن القوم لا يرضون لنا توحيداً خالصاً نقياً لله .. تجدهم في كل مرة يخرجون علينا بتقليعات جديدة .. نظريات ومصطلحات وحركات وفلسفات .. والعبرة في النهاية بالمضامين وليس بالعناوين .. فالحذر .. الحذر!
وصدق نبينا الكريم .. عليه أفضل الصلاة والتسليم : (يسمونها بغير اسمها)
والمقال منقول أيضا من إخواننا في شبكة الدفاع عن السنة - سددهم الله-!
حوار مع د/عبدالغني مليباري اعده د.عبدالهادي القحطاني
البرمجة اللغوية العصبية بين القبول والرد
البرمجة اللغوية العصبية منهج جديد يقول دعاته: بأنه يقوم بصياغة الواقع في ذهن الإنسان من تصورات وعادات وقدرات بحيث تصبح في داخل الإنسان وتنعكس على قدراته، وقد انتشرت هذه الصرعة في المجتمعات العربية ومنها مجتمعنا السعودي وكانت محل حوار علمي بين دعاته ومنتقديه ولأهمية عرض هذا الاتجاه الجديد للقراء ومعرفة حقيقته كان من المناسب الحوار مع أحد المهتمين به هو د/عبدالغني محمد مليباري، المشرف التنفيذي على التعليم الإلكتروني بجامعة الملك عبدالعزيز والأستاذ المشارك ورئيس قسم الهندسة النووية الذي وضع النقاط على الحروف ولا أزيد لاترككم مع الحوار الساخن الذي كشف فيه حقيقة هذا العلم وتجاربه وما يحويه من خلط ومدى مطابقته أو مخالفته للواقع والدين فإلى هذا الحوار..
ما علم البرمجه اللغوية العصبية ومتى تأسس؟
> "البرمجة اللغوية العصبية" واختصارها الغربي "NLP " هي خليط من العلوم والفلسفات والاعتقادات والممارسات، تهدف تقنياتها لإعادة صياغة صورة الواقع في ذهن الإنسان من معتقدات ومدارك وتصورات وعادات وقدرات بحيث تصبح في داخل الفرد وذهنه لتنعكس على تصرفاته. يقول المدرب البريطاني وايت ود سمول: "الـ NLP عبارة عن مجموعة من الأشياء. ليس هناك شيء جديد في الـNLP ، أخذنا بعض الأمور التي نجحت في مكان معين، وشيئاً آخر نجح في مكان آخر وهكذا". وهو علم جديد له ظاهر يدعي أهله أنه يحسن قدرة الفرد على الاتصال مع الآخرين، وقدرته على محاكاة المتميزين. وله باطن يركز على تنويم العقل الواعي بإحداث حالات وعي مغيّرة لزرع بعض الأفكار (إيجابية أو سلبية) في ما يسمونه "اللاوعي" بعيداً عن سيطرة نعمة العقل.
وقد تأسس في السبعينيات الميلادية 1973/1978م، وانتشر بين العامة في الغرب انتشاراً ساحقاً في الثمانينيات، فاهتمت به الجهات العلمية وتم تقييمه في بداية التسعينيات وتحقق للمقيمين العلميين عدم صحة كثير من ادعاءات مروجيه. ومن أشهر تقييماته التقييم المقدم للجيش الأمريكي من الأكاديميات القومية ففي عام 1987م بعد انتشار دورات تطوير القدرات رغب الجيش الأمريكي في تحري الأمر فقام معهد بحوث الجيش الأمريكي The US A r my r esea r ch Institute بتمويل أبحاث تحت مظلة "تحسين الأداء البشري"، وعُهد لمجموعات مختلفة بمراجعة البحوث حسب الإجراءات المعتمدة لدى أكاديميات البحوث الأربع. قدم الفريق ثلاثة تقارير:
الأول عام 1988م تقييمًا للعديد من الموضوعات والنظريات والتقنيات منها البرمجة اللغوية العصبية الذي ذكر عنها ما نصه: " أن اللجنة وجدت أنه ليس هناك شواهد علمية لدعم الادعاء بأن الـNLP استراتيجية فاعلة للتأثير في الآخرين، وليس هناك تقييم ل لـNLP كنموذج لأداء الخبير ".
واستمر البحث والتحري في مجال "تحسين الأداء البشري" وبعد ثلاث سنوات يشيد التقرير الثاني 1991م بنتائج التقرير الأول والقرارات التي اتخذها الجيش الأمريكي بخصوص عدد من التقنيات السلبية ومنها الـNLP حيث أوصى بإيقاف بعضها، وتهميش بعضها، ومنع انتشار البعض الآخر.
وبعد ثلاث سنوات أخرى اكتفى التقرير الثالث 1991م -نصاً- في موضوع البرمجة اللغوية العصبية بما قُدم في التقريرين الأول والثاني.(51/180)
وكذلك التقييم المقدم من د. مايكل هيب Michael Heap عالم النفس السريري بجامعة شفيلد البريطانية في عام 88م، حيث قام بتقييم سبعين بحثاً علمياً في البرمجة اللغوية العصبية وانتهى إلى إن البرمجة اللغوية العصبية تفتقد إلى الأدلة الموضوعية لإثبات ادعاءاتها، وأن البحث التجريبي المقدم في هذه البحوث فشل في دعم فرضياتها.
وحالياً فإن أكبر الفئات المتبنية له في العالم هي حركة "النيو اييج" العصر الجديد، و دعاة عبادة قوى النفس "الشامانيون الجدد " وهم من حركات الوثنية الجديدة في الغرب.
> لماذا أحدث هذا العلم ضجة إعلامية على مستوى العالم ؟
لأنه انتشر انتشاراً كاسحاً في الثمانينيات في أوساط العامة في أوربا وأمريكا وبخاصة عند عموم الناس، كما أن مروجيه يدعون ادعاءات كبيرة جداً مما جعل الجهات العلمية والبحاثة والجهات الرسمية تسعى للتأكد من مصداقيته لاسيما وأنها لم تلحظ آثاراً إيجابية على المتدربين ولا بنصف ما يدعيه المدربون.ويرى علماء النفس الذين درسوا هذه البرامج أن المشاركين فيها يكونون في "حالة من التحول" (Alte r ed State) مما يُمكن قادة مجموعاتهم من التأثير على طريقتهم في التفكير وزرع ما يرغبون فيه من أفكار، ومما يساعد على ذلك؛ تغيير إدراك الناس ووعيهم بإضافة بعض التقنيات النفسية في حياتهم مثل التأمل (بمفهوم البوذية)، والتنويم والترنيم (بمفهوم الهندوسية)، والتغذية (بمفهوم الطاوية)، والعزلة والاستهداء بالأرواح والكائنات ذات القوى الروحية - الوثنية- (كالتماثيل والأحجار الكريمة والألوان والجودات والجوديسات) ذكرت ذلك مجلة النيويورك تايمز في عددها الصادر 29 سبتمبر 1986م في مقالة بعنوان "المبادئ الروحية. تجتذب سلالة جديدة من الملتزمين".
> هل تعتبر البرمجة اللغوية العصبية من العلوم الباطنية ذات التأثير العقدي التي وفدت إلى البلدان الإسلامية؟
ليس الأمر اعتبارًا شخصيًا، وإنما هي حقيقة فالبرمجة اللغوية العصبية علم باطني، لا يخضع للضبط التجريبي، ومحاولات ادعاء إخضاعه كلها تجارب أثبتت فشلها كما ذكرت سابقاً في تقديم رئيس علم النفس السريري "د.مايكل هيب"، فهو علم له ظاهر يعرفه إخواننا المبرمجون، وباطنه يعرفه خاصة "الإنلباويين الغربيين" ويمارسون أسراره الخفية مستخدمين السحر والتارو والتقمص وأنواع من التانترا البوذية والهندوسية. وللبرمجة العصبية اتصالها بكثير من العلوم الباطنية القديمة حيث كان قدماء الباطنية يعولون كثيراً على العقل الباطن والتفسير الباطن والممارسات الباطنية ولهم تصورات باطنية خاصة للعقل والروح والنفس.
كما أن الجامعة الوحيدة التي اعتمدت البرمجة اللغوية العصبية ضمن مناهجها هي جامعة "أميركان باسيفك " التي تعد الجامعة الرئيسة للعلوم الباطنية.
> كثيرا ما نسمع بقدرة العقل الباطني عن طريق التركيز على إحداث تغييرات معينة للإنسان، هل بالفعل يتحكم بالرسائل الإيجابية والسلبية للفرد نفسه؟ وكيف؟
لا نشك أن للإيحاء أثر كبير في النفوس، فالإنسان يستطيع أن يقنع نفسه بفكرة ما عن طريق الإيحاء أو يقنعه بها الآخرون، فإذا صدق الفكرة وآمن بها يفعل بها الأعاجيب، وهذه القدرة من نعم الله على الإنسان إذا استخدمها من أجل تحقيق غايته " العبودية لله تعالى " فتكون بمنزلة عون رباني للعبد في مواجهة تثبيط الشيطان وكيده ووسوسته التي تورث العجز والكسل، أما إذا عوّل عليها واغترّ بها فقد تخرجه عن غايته وتصرفه عن هدفه وعندها فما أسهل أن يغويه الشيطان ويصور له أمورًا كثيرة وقد يعينه ويحقق له أموراً مما يستطيعها وصدق الله العظيم: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}، والقرآن يحكي لنا قصة فرعون الذي كان يقول: {أنا ربكم الأعلى} و{ما علمت لكم من إله غيري} كان يتصرف في قومه وكأنه إله فعلا فقصمه الله وأخذه أخذ عزيز مقتدر.
وفي الحقيقة هناك أناس كثيرون يحكون تجربتهم في تدريبات التركيز ومن ثم استخدام قدرات العقل الباطن الخارقة -كما يعتقدون- وأنهم استطاعوا إيصال رسائل غير مسموعة ولو عبر القارات إلى عقول من يريدون، أو يرسلون لأنفسهم وأعضائهم الداخلية بالذات فيما يتعلق بالشفاء من الأمراض العضوية والنفسية. وموقفنا التصديق بما جاء في النصوص مما يدل على أثر الإيحاء في النفوس (تفاءلوا بالخير تجدوه) وأثر حسن الظن في حياة العبد ومآله (أنا عند حسن ظن عبدي بي)، أما العقل الباطن وادعاء قدراته الخارقة تحت هذه النصوص أو غيرها فهو لا يخرج عن كونه ادعاء، مع كوننا نثبت خوارق العادت التي تحدث بقدرة مسبب الأسباب سبحانه فهو الذي خلق الأسباب وهو الذي يبطلها متى شاء وهو على كل شيء قدير، وخوارق العادات هذه تأتي بلا اكتساب وتدريب وممارسة فإذا أتت لأهل خير كانت كرامة، وإذا أتت على خلاف ما يرجو صاحبها كانت إهانة، وإذا أتت لأهل مخالفة أو فسق ومعصية كانت استدراجًا. أما ما يكون بجهود بشرية لحدوثه فذلك إما أن يكون سحراً أو شعوذة وكهانة، أو إعانة من الشيطان.(51/181)
> كيف أثبت أنها علم باطني لايخضع للتجربة، وقد دخل إلى المسلمين عن طريق المزاحمة والاقتران بالعلوم الأخرى؟
البرمجة اللغوية العصبية ليست علماً محايداً، ولا يمكن أن تصنف هكذا وإنما هي خليط -كما أوضحنا في البداية- وكتبها في الغرب تصنف غالباً تحت عنوان "حركة العصر الجديد" أو تحت العلوم الباطنية. وأؤكد أنها لو خلت من الحقائق والعلوم لما تبقى منها إلا ظنون ودجل وأوهام، وسحر وشعوذة، ولرفضها عامة العقلاء وأصحاب الديانات السماوية، ولهذا فقد جمعت خليطاً من الحقائق من عدد من العلوم هي التي شكلت ظاهر البرمجة اللغوية العصبية.
لذا فالفاحص لها بروية وموضوعية يجد فيها من العلوم التجريبية ومن النظريات مالا يستطيع رفضه، ولكنه ممتزج معها بصورة باطنية خفية تخفى على أكثر الناس لسحر التخييل واللغة وأوهام وظنون وافتراضات. من هنا فهي مليئة بالادعاءات التي تزاحم الحقائق وتقارن النظريات فيقبلها فريق من الناس لظاهرها دون أن يتفطنوا لخطورتها الباطنية.
أما عدم خضوعها للتجربة فلست أنا من أثبته، وإنما أثبتته الجهات العلمية للأكاديميات القومية، وأثبته الدكتور "مايكل هيب" عندما فحص سبعين بحثًا يدعي أصحابها إثبات ادعاءات البرمجة وأكد في تقريره على فشل أدلتهم في دعم دعاواهم !!! فكونها مجرد ادعاءات أمر ذكره كثير من المتخصصين العلميين، كما يستطيع كل ذي بصر- غير متورط ولا مفتون - أن يثبته بمجرد حضور الدورات أو سماع الادعاءات التي لا يفتأ إخواننا "المبرمجون" يرددونها دون أن نجد لها أثراً حقيقياً في واقع الناس، وهاهي البرمجة تتم عامها السابع في مجتمعنا ولم يكن من أثر يُلحظ على إنجاز الشركات، أو حالات الطلاق، أوعلى الإبداع والنبوغ !! وإنما الأثر الوحيد الملحوظ لكل ذي بصيرة الزيادة الهائلة في أعداد "الإنلباويين"ما بين ممارسين ومدربين، كما سيلاحظ غياب الخطوات الجدية لتحصيل النتائج كأسباب طبيعية -بعد الدعاء -لتحل محلها ادعاءات العقل الباطن وممارسات الاسترخاء أو عزو الأمر إلى ضعف في الطاقة الحيوية للإنسان مما يتطلب مضاعفة الجهود للتدريب على أخت البرمجة الكبرى "الطاقة" بما تحمله من فلسفة شركية وادعاءات باطلة عقلا ونقلا. وقد حذرنا الرحمن الرحيم من خطوات الشيطان.
> ذكرت في إحدى المحاضرات أن البرمجة آخذة في الانتشار بترويج من الحركات الوثنية الجديدة في الغرب بقيادة حركة "العصر الجديد" ومجموعة "الشامانيون الجدد". من هم هؤلاء وعلى ماذا تقوم أهدافهم؟
حركة العصر الجديد "النيو إييج"، حركة واسعة الانتشار -في أمريكا الشمالية والغرب اليوم -بين طوائف الشباب بالذات فقد رفضوا الفكر المادي الذي تربوا عليه، ورفضوا الجفاف الروحي في الكنائس والمعابد الذي لم يروِ ظمأ أرواحهم ؛ فانتموا إلى هذه الطائفة التي يدعي أصحابها أنهم أصحاب عصر جديد من الفهم والنضوج الذهني شبيه بعصر النهضة التي تلت القرون الوسطى في أوروبا. وعقيدتهم تشمل مزيج المعتقدات والتقنيات والنظريات (المتناقضةأحياناً) وأكثرها مستعار من الديانات الشرقية المبنية على عقيدة وحدة الوجود، وإمكانية الوصول إلى خوارق العادات، ورواد هذه الحركة لا يهتمون بما يوجد أو يتبقى في أذهان أتباعهم من الأفكار والعقائد، ومنها الديانات السماوية وغيرها، إنما يهتمون فقط بما يضاف إلى العقول من أفكار. ويفسرون عدم اهتمامهم بأن منهجهم الجديد مع الزمن كفيلان بترسيخ المفاهيم الجديدة وتلاشي المفاهيم القديمة، ومن هنا فهم يركزون على الأدوات والممارسات المدروسة بعناية والتي تولد مع الزمن عقائد وقناعات كفيلة بمحو السابق لها مثل:
التأثير على العقل من خلال برامج الـ (NLP) وما شابهها.
التأثيرعلى النفس من خلال الـ ( r eiki) وماشابهه من برامج الطاقة.
التأثير على الجسد من خلال برامج مثل الماكروبايوتيك المضادات الحيوية الدقيقة وما شابهه.
التأثير على الروح من خلال برامج مثل اليوغا والهونا وغيرها.
> حتى نكون منصفين للرأي الآخر هناك دعاة نحسبهم -والله حسيبهم- أصبحوا ممارسين متقدمين في البرمجة اللغوية وسخروا ذلك في الدعوة لها. هل تعتقد أنهم على خطأ وأنتم على صواب؟(51/182)
حقيقة أنا لا أشك لحظة في صلاحهم والله حسيبهم، ولي منهم رفقاء وأحبة حاورتهم وناقشتهم وناصحتهم مراراً ولكن ليس هناك أحد معصوم، ومن المعلوم أن المتورط في شيء يغم عليه الحق وتتلبس عليه الأمور، بخلاف من يرى الأمر وهو غير داخل فيه قال الإمام ابن تيمية موضحاً هذا الأمر للإمام ابن القيم: "لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها، ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته". ولست وحدي من تصدى لهذا الأمر بالبيان، والإشكالية تكمن في أن معرفة حقائقه تحتاج إلى إتقان اللغة الإنجليزية ومعرفة بمصادر المعلومات وأدوات البحث بالإضافة إلى الثقافة العامة والمعرفة الدينية وهذه قد لا تتوافر مجتمعة عند كثير من الناس، وهناك من نقد البرمجة غيري فزوجتي تفعل هذا في أوساط النساء، والدكتور عوض عودة والدكتور خالد الغيث والدكتور صالح الزهراني والدكتور سعيد الغامدي وغيرهم كل من وجهة نظره ومن زاويا متعددة.
> الكثير علق فشل (NLP) على فشل كارنيجي صاحب كتب: دع القلق وكيف تكسب الأصدقاء الذي مات منتحراً.كيف تربط ذلك الفشل بالبرمجة؟
الفارق بين ما قدمه "كارنيجي" وبين ما تقدمه البرمجة كبير جداً من حيث الصحة فكارنيجي قدّم كثيراً من الأفكار المستنبطة بالعقل والنظر، ولكنها ليست كفيلة أبداً بمنح صاحبها سعادة وطمأنينة مالم تخالط بشاشة الإيمان قلبه. ومن هنا فالذي: يربط بينهما ربما باعتبار أنه لا يصلح أن يكون الحائر الضال مرشداً ومدرباً في أمور القلوب وتزكية النفوس، وأحسب أنه ينطبق عليهم قول الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- إذ قال: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء إنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ". فكيف يهتدي المسترشد والدليل حائر.
> ما حجج المعارضين لرأيك وهل اقتنعت بجزء منها ؟ولماذا لم يكن هناك تدخل مباشر من الجهات المعنية إذا كانت بهذا الخطر سيما وأن دوراتها تعقد باستمرار وبأسعار باهضة الثمن؟
المعارضون لا حجة لديهم إلا كونهم وجدوا فيها شيئاً من المنفعة ويتذرعون بشبه عديدة لتبرير انغماسهم في دوراتها تدريباً وتدرباً ومن ذلك:
قولهم: البرمجة علم حيادي يخدم الأمور الدنيوية الحياتية، فالأخذ بها من باب:" أنتم أعلم بأمور دنياكم" .
وشبهتهم هذه ظاهرة البطلان فالبرمجة كما بينا سابقاً إنما هي علم باطني وليست علمًا حياديًا، و"أنتم أعلم بأمور دنياكم " جزء من حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حادثة تأبير النخل المشهورة، وفهمه ينبغي أن يكون في ضوء القصة وسياقها لا بحسب الهوى والرغبة، فأمور دنيانا هي أمور صناعتنا وزراعتنا وسائر الأمور المتعلقة بالأمور الدنيوية البحتة من إدارة، وتخطيط، ومواصلات، واتصالات، وتقنيات، ونحوها، أما أمور تربية ذواتنا وتزكية أنفسنا، وتهذيب أخلاقنا، ونشاط همتنا، وسمو أرواحنا فهي من الأمور الدينية التي بعث الله بها محمداً - صلى الله عليه وسلم - بمنهج كامل شامل نافع وهي من أخص مهماته عليه الصلاة والسلام قال تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
كذلك هم يحتجون ببعض منافع حدثت لهم أو على أيديهم، وقولهم: ثبت نفع هذه التطبيقات بالتجربة:
ولهم أقول: لا شك أن الشيطان يزين الباطل ويجمله بما يظهره نافعاً وقد يحقق بأسباب الباطل نفع ظاهر، ومن ذلك ما بينه ابن مسعود -رضي الله عنه- في قصته مع امرأته عندما كانت تجد النفع عندما تتداوى بغير المشروع لمرض عينها فتبرأ فقال لها: " إنما ذلك عمل الشيطان كان ينخسها بيده فإذا رقيتها- رقية غير مشروعة- كفِّي عنها، إنما يكفيك أن تقولي: أذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً " ثم إنه لابد لإثبات النفع من منهجية علمية، وفهم دقيق لقانون السببية، فليس الاقتران الذي يحدث بين حصول نفع وتطبيق أمر ما كافيًا على القول بأنه سببه، قال ابن تيمية: "إن الشيطان زين لهم نسبة الأثر إلى مالا يؤثر نوعاً ولا وصفاً ؛ فنسبته إلى وصف قد ثبت تأثير نوعه أولى أن يزين لهم" وقال عن الصالين في باب الأسباب والمسببات: "يتوهمون كل شيء سبباً ولو كان في دين النصارى والمجوس"، ولمزيد من البيان في هذا الباب ارجع إلى شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم).
ولهم حجج أو بالأصح شبه غير ذلك كثيرة ومنها: تذرعهم بدعوى "الأسلمة" فيقولون نحن "نُفلتِر" هذه الوافدات وننقيها، ونأخذ الصحيح منها مع الاستدلال عليه بالآيات والأحاديث، وهذا الصحيح إنما هو من ديننا أصلا ولكننا غفلنا عنه:(51/183)
والرد عليهم من كلامهم فما دمنا قد غفلنا فلا بد أن نعود لما غفلنا عنه، لا أن نكمل الغفلة بتقديم صوارف عن العودة. ثم لابد أن نفرق بين ما يمكن " أسلمته" وبين ما لا يمكن، فلا يقول مسلم عاقل: بأننا يمكن أن نؤسلم النصرانية، واليهودية، والبوذية والطاوية، ويمكن أن ننقي عقيدة التثليث من الدخن، ونقبل من عقيدة التثنية بعض تطبيقاتها، فالعقائد المنحرفة ترفض ولا نقبل فيها ترقيعاً وإنما تكون أسلمتها الصحيحة - إن صح التعبير- برفضها وأخذ الإسلام الصافي الذي قد توافقه في بعض أفكارها، بخلاف مالو قلنا: سنؤسلم نظريات الإدارة، وتقنيات الإقناع؛ فنرفض منها ما يخالف الدين، ونقبل ما لا يتعارض مع الدين فيكون مما يرفض مثلا: تقنيات الإدارة التي تقود لعبودية المرؤوسين للرؤساء، أو وسائل الإقناع والتأثير التي ينتج عنها التغرير بالمستهلكين وخداع المفاوضين وغير ذلك. ولهذا ينادي كثير من علماء النفس المسلمين بما أسموه "أسلمة المؤسلمين" لما رأوا من جرأة في الاستدلال بالنصوص على غير مرادها الحقيقي وما يتبعه من تسويغ للضلالات.
ــــــــــــــــــــ
المراجع
ــــــــــــــــــــ
1- مجموع الفتاوى (13 / 135).
2- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية( 9 / 266).
من بحث عن الحق وجده
الحمدلله علم القرآن خلق الانسان علمه البيان وأصلي وأسلم على سيد الأناممحمد صلى الله عليه وسلم
الحمدلله الذي هدانا وماكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
الأخ الأستاذ الفاضل مالك المناع وفقك الله وسدد خطاك
سبحان الله منذ سنوات وأنا مهتمة بهذا العلم لا لشيئ سوى أن أطور نفسي للأحسن وكنت مهتمة بمن يكتب في هذا المجال ولقد أشتريت الكثير من أشرطة سمعية أو مرئية وكتب ولكن كان يجول في النفس شيئ منها وكان نفسي أسأل أهل العلم وخاصة عندما كنت في الجامعة منذ عام 1418وسألت ولم أجد من يشفيني فكل من سألته لا يعلم عن هذا العلم شيئا ولكني توقفت عن قرأتها..... تعلم لماذا ؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!! قرآني منعني- فقد كان هناك صراع فظيع في نفسي عندما كنت أعمل التمارين -ويقول هذا يناقض عقيدتي ..منها:
تكرار أنا سأكون كذا وكتابة ذلك مرارا كل يوم وجدته يناقض مبدأ الدعاء والتذلل لله عزوجل يناقض (وما تشاؤون الا أن يشاء الله)يناقض مبدأ التوكل على الله يارب من كتبه آخذ الماستر في الدراسات الاسلامية وهو(د.صلاح الراشد)هو أعلم مني ولكن تأتي عقيدتي وترفض تلك التمارين -فعلتها في المرة الأولى وكنت معتقدة بصحتها ولكن وجدت العكس تماما فرجعت الى عقيدتي وقلت والله ماأفعله مناقض لما تعلمت فتركتها وفي النفس شيئ- ووالله عندما تركتها ولجأت الى الدعاء تحقق ماأردت فقلت سبحان الله ألح على نفسي بطلب شيئ وليست هي بالخالقة ولا ألح على الله وهو خالق كل شيئ!!!!!!!!!
أسأل هل د. صلاح الراشد منهم وكذلك د.طارق السويدان ؟؟!!
===============(51/184)
(51/185)
الحلل المحبوكة في الرد على صاحب السكسوكة !!
بقلم : فتى الادغال
• الصراعُ بينَ الأصالةِ والمُعاصرةِ ، صراعٌ مُختلقٌ متوهّمٌ ، لم يفتعلهُ إلا بعضُ المستغربينَ المُتأخرينَ ، والذينَ كانوا يرونَ الدينَ والديانة َ مجموعة ً من القيمَ الفاضلةِ ، والأخلاق ِ الحميدةِ ، وجزءً من التراثِ والتأريخ ِ ، وذكرياتٍ جميلة ً ، ولكنّهُ لا يصلحُ للتطبيق ِ ، أو الممارسةِ الكاملةِ في هذا العصر ِ ، وإن كانَ ولا بُدَّ منهُ ومن ممارستهِ ، فبعدَ تهذيبهِ وتنقيتهِ من دسائس ِ السلفيةِ ، ومكر ِ الوهّابيّةِ ، والتي أرسى دعائمها الشيخُ المُجدّدُ : محمّدُ بنُ عبدِ الوهّابِ ، وحملَ فيما بعدُ رايتَها ملوكُ هذه البلادِ - أدامَ اللهُ سعدهم - ، وجعلوا منها نهجاً لهم وأساساً لمملكتهم وحكمهم .
وقبلَ أيّام ٍ خرجَ علينا البكّاشُ الكبيرُ ، ذو السكسوكةِ المُحترمةِ : سعودٌ السرحانُ ، بمقالةٍ يمجّدُ فيها دعاة َ التغريبِ ، ويحطُّ ويضعُ على من أسماهم فيها بالمحافظين ! ، ويختطفُ الشريعة َ من كونها ديناً وحُكماً ، فيجعلها سياسة ً وولاءاتٍ ، لا دخلَ للدين ِ فيها .
لا يُلامُ السرحانُ في أطروحاتهِ هذه ، فالرّجلُ يُعاني من فوبيا مزمنةٍ معقّدةٍ ، تُسمّى : " السلفيّة َ " و " الوهّابيّة َ " ، فهو يشتمُها بمناسبةٍ وبلا مناسبةٍ ، ويختلقُ حولها الأكاذيبَ والأباطيلَ ، ولا يجرأ على مناقشةِ أحدٍ منهم ، فهم - بحسبِ كلامهِ - أصحابُ شبهٍ ، ويحبّونَ الجدلَ ! ، وإذا خلا هو إلى شياطينهِ عضَّ على أناملهِ غيظاً ، واخترطَ قلمهُ وانتزعَ طِرسهِ ، ثمَّ ثلطَ بكلام ٍ ممجوج ٍ ، وأسلوبٍ ثقيل ٍ ، يجمعُ ضحالة َ الطرح ِ ، وبرودَ الأسلوبِ ، والتلفيقَ والكذبَ ، مع نفثاتٍ مقهور ٍ لكثرةِ ما يُعاني من ضرباتٍ موفّقةٍ منهم .
ومع ذلكَ فنحنُ نُحِبُّ السرحانَ كثيراً ، ونقرأ لهُ ، ونكرهُ أن يتركَ الكتابة َ ، فالنفوسُ قد ملّتْ من الأخبار ِ والحوادثِ ، والنوادرُ اضمحلّتْ ، والطرائفُ تلاشتْ أو كادتْ ، والحمدُ للهِ الذي منَّ علينا بهذا المهيريج ِ ، لنضحكَ من ثقافتهِ العاليةِ المستوى ، وكِتاباتهِ الجليلةِ المكانةِ ، وتدليسهِ الذي بزَّ بهِ من سبقَ .
هذا الرّجلُ هو الأبُّ الرّوحي للمهرِج ِ الآخر ِ : حسن ِ بن ِ فرحانَ المالكيِّ ، ذلكَ الخنفشاريُّ الممتعُ ، والذهينُ المتشبّعُ بما يجهّزهُ لهُ السرحانُ ، فالسّرحانُ هو من يحضّرُ النصوصَ لعلاّمةِ الزمان ِ ابن ِ فرحانَ ، والآخرُ يخرجُ مزهواً بها ، يمدُّ بها أشداقهُ ، وينفخُ بها كيرهُ .
لا تعجبوا فالزّمانُ كلّهُ عجائبُ ! .
رحمَ اللهُ نادرة َ الزمان ِ أبا العيناءِ ، ذلكَ الأديبَ النديمَ الظريفَ ، أوحدَ الزمان ِ في الطرافةِ والمجون ِ والملاحةِ في الجوابِ ، وأحدَ دهاةِ الدهر ِ في سرعةِ البديهةِ واللطافةِ ، فقد سُئلَ ذاتَ مرّةٍ : لمَ لا تشربُ الخمرَ ، فقالَ : لأنّي أعجزُ عن قليلهِ ، وأفتضحُ عندَ كثيرهِ ، ورحمهُ اللهُ وبرّدَ مضجعهُ ، فقد أنصفَ من نفسهِ ، وتركَ تعاطي ما يجلبُ عليهِ العارَ والفضيحة َ .
وليتَ باحثة َ العصر ِ ونادرة َ الزمان ِ السرحانَ ، أخذ َ نصيحة َ صاحبِنا أبي العيناءِ ، فتركَ الكتابة َ والبحثَ ، وذاكَ لأنّهُ يفتضحُ عندَ قليلهِ قبلَ كثيرهِ ، ويضنيهِ التجرّدُ و يُتعبهُ الإنصافُ ، فيحملانهِ على التزيّدِ والكذبِ والتدليس ِ .
كم تمنّيتُ لو كانَ السرحانُ سطراً في حياةِ أبي العيناءِ ، لأنَّه سيجدُ فيهِ مادّة ً خصبة ً لنوادرهِ وتهكّماتهِ ، ويخلعُ عليهِ صفاتِ الثّول ِ والأفْن ِ ، فيثبتُ خبرهُ في الأذهان ِ ويستقرَّ في النفوس ِ ، ويغدو مع مرور ِ الزمان ِ رمزاً من رموز ِ الشلل ِ الفكري ، والإعاقةِ العلميّةِ .
يقولُ السرحانُ فيما كتبَ أخيراً : " اتخذ الصراع على لبس "البرنيطة" وجهاً آخر فقد صار صراعا بين مؤيدي الخلافة والداعين إلى إعادة إحيائها، لا سيما في مصر والشام، وبين الذين فرحوا بزوال الخلافة وملك آل عثمان، وانتهاء عهد السلطان عبدالحميد المستبد " .
لاحظوا هنا توظيفَ بعض ِ المفرداتِ المنفّرةِ في مكر ٍ منهُ ، والتي تحوي خلفها كمّاً هائلاً مُختزلاً من المعاني الموتورةِ ، والمقاصدِ الموبوءةِ ، فهو يقصدُ بذلكَ أنَّ الخلافة َ انتهتْ لأنَّ الناسَ أرادوا ذلكَ ، حيثُ كانَ " السّلطانُ عبدالحميدِ " مُستبدّاً ، وقامعاً لهم ، فضجَّ النّاسُ وملّوا ، وارتموا في حضن ِ أتاتورك وجماعتهِ .
هنا تكمُنُ بشاعة ُ فكر ِ السّرحان ِ ورهطهِ ، وكيفَ يختلونَ بالقرّاءِ ، فقد أغفلَ في لؤم ٍ منهُ ، جميعَ ممارساتِ أتاتوركَ القمعيّةِ ، وجميعَ أشكال ِ الاستبدادِ التي فعلها ، ولم يوجّهُ لهُ كلمة َ نقدٍ واحدةٍ ، أو حرفاً لاذعاً ، بل على العكس ِ من ذلكَ جعلهُ هو وأصحابهُ : " تيار التحديث الذي يجمع دعاة التنوير والاصلاح ومعهم دعاة التغريب ويطلق عليهم خصومهم اسم "المتفرنجين"، وهؤلاء كانوا يدعون إلى الاصلاحات الدينية والسياسية والاجتماعية والسعي إلى النهوض بالأمة، وكانوا يدعون إلى الاستفادة مما وصل إليه الغرب من معارف " .(51/186)
هذه هي أساليبُ التدليس ِ المفضوحةِ ، والتي تعتمدُ على الكذبِ الصريح ِ ، ولفّهُ فيما بعدُ تحتَ عباءةِ الفكر ِ المُستنير ِ ، والبحثِ الحرِّ النزيهِ .
لقد أغفلَ هذا الشابُ الظريفُ ! جميعَ أفعال ِ أتاتوركَ القمعيّةِ ، وممارساتِهِ الإقصائيةِ ، والتي تمثّلتْ في إعدام ِ مجموعةٍ كبيرةٍ من العلماءِ ، ومن مؤيدي الخلافةِ ، ومطاردتهم في جميع ِ البلدان ِ ، فقد قامَ أتاتوركُ بطردِ السلطان ِ عبدِ الحميدِ وإخراجهِ من قصرهِ في منتصفِ الليل ِ وهو بلباس ِ النّوم ِ ، وبعدَ يومين ِ قامَ بطردِ جميع ِ أمراءِ آل عُمانَ وأميراتِهم من البلادِ .
ثمَّ في تدليس ٍ آخرَ يقولُ : " فالصراع على لبس "البرنيطة" كان صراعاً فكرياً على الحداثة والتحديث فالتحديثيون دعوا إلى لبس البرنيطة (التي كانت تلبس في الغرب) بدلاً من الطربوش شعار الدولة العلية العثمانية، أما المحافظون فكان لبس البرنيطة عندهم حراماً " .
هكذا يحصرُ الخلافَ في لبس ِ البرنيطةِ على مدرستين ِ فكريتين ِ ويجعلهُ صِراعاً فكريّاً فحسبُ ، ولكنّهُ يغفلُ أنَّ أتاتوركَ الذي حرّمَ لُبسَ البرنيطةِ ، وهو نفسهُ من حرّمَ جميعَ مظاهر ِ الديانةِ والتديّنُ في تركيّا ، بلغ َ بهِ الاستبدادُ مبلغهُ حينَ قامَ الأتراكُ بقتل ِ المئاتِ من المُسلمينَ وتعليقهم على أعوادِ المشانق ِ ، لرفضهم لُبسَ البقعةِ والبرنيطةِ ، وقد تمّتْ مُحاكمة ُ أولئكَ في محاكم ِ الاستقلال ِ التي أقيمتْ في جميع ِ أنحاءِ تركيّا آنذاكَ .
لقد كانتْ أفعالُ أتاتوركَ المُستبدّة ُ أكبرَ بكثير ٍ من مجرّدِ قتل ٍ مئةٍ أو مئتين ِ ، بل وصلتْ إلى حدِّ الإسفافِ والتبجّح ِ ، حينَ فرضوا على النّساءِ السفورَ ونزعَ الحِجابِ ، بل زادَ صلفهُ ووقاحتهُ حدّاً لا مزيدَ عليهِ فيهِ ، حينَ حرّمَ الكتابة َ باللغةِ العربيّةِ ، وأربى على ذلكَ بأنهُ جازى من يفعلُ ذلكَ في المطابع ِ التركيّةِ بالسجن ِ لمدّةِ ثلاثةِ أشهرَ وغرامةٍ ماليّةٍ قدرُها عشرة ُ جُنيهاتٍ .
ولولا خشيتْ الإطالةِ لنقلتُ لكم هنا كلامَ المستشرق ِ " كارل بروكلمان " حولَ ما فعلهُ المستبدُّ الظالمُ " مصطفى كمال أتاتوركَ " من عظائمَ وطوامٍّ يندى لها الجبينُ ، والتي قامَ الباحثُ النزيهُ " السرحانُ " ! بغضِّ الطرفِ عنها ، وكأن لم تكنْ ! ، وأمّا عبدُالحميدِ ورهطهُ فهم المتزمّتونَ ، والمستبدّونَ ، وهم من جعلوا البرنيطة َ حراماً ، والطربوشَ واجباً ! .
عندما يكونُ رائدُ البحثُ هو الهوى ، وحاديهِ الحقدُ والكراهية ُ ، فسوفَ تكونُ النتيجة ُ الكذبُ والتزويرُ ، والحمدُ للهِ أنَّ كتبَ أهل ِ العلم ِ موجودة ٌ ، والتأريخ ٌ حاضرٌ ، ومن أرادَ المزيدَ فليرجعْ إلى الكتبِ التاليةِ :
- تركيا الحديثة ُ لمحمّد عزّت دروزة .
تاريخُ الشعوبِ الإسلاميّةِ لكارل بروكلمان .
- التيّاراتُ القوميّة ُ والدينيّة ُ في تُركيّا المُعاصرةِ لأحمدَ السعيدِ سُليمانَ .
- الذئبُ الأغبرُ لأرمسترونج .
وغيرُها من الكتبِ والمراجع ِ ، والتي توضّحُ بجلاءٍ حقيقة َ أولئكَ الغزاةِ من التغريبيينَ الحاقدينَ ، والذين كانوا يدّعونَ التنويرَ والحضارة َ ، فتحوّلوا بينَ عشيّةٍ وضُحاها إلى دعاةٍ قتل ٍ واستبدادٍ وهمجيّةٍ ، ومع ذلكَ لم نسمعْ من هذا الباحثِ المنصفِ النزيهِ المُحترم ِ ! كلمة َ لوم ٍ واحدةٍ ، أو حتّى إنصافاً لخصومهم ، والذي كانوا يُحاولونَ الحفاظَ على ما تبقّى من كرامتهم ودينهم ، في وجهِ ذلكَ المدِّ اللادينيِّ السافر ِ .
وهاهو التأريخُ يعيدُ نفسهُ ، فهذه ربّة ُ الحضارةِ المُعاصرةِ ، أمريكا المصونُ ، تلكَ الحية ُ الرّقطاءُ ، والذئبة ُ الغبراءُ ، تكشفُ عن حقيقةِ حضارتِها ، وتعلّمُ العالمَ أصولَ الديمقراطيّةِ ، فيفجأنا الواقعُ بالصور ِ الفاضحةِ ، والمشاهدِ البائسةِ ، لأولئكَ الأشرافِ الذين سُجنوا في سجون ِ دعاةِ الحضارةِ ذاتِ القذارةِ ، فتبيّنتْ حالُهم ، واتضحَ زيفُ دعواهم ، وسقطوا وأسقطوا معهم أولئكَ النفرَ المفتونينَ بتراثِ الغربِ العظيم ِ من حقوق ِ الإنسان ِ ، ودعم ِ الحرّياتِ .
ثمَّ يقولُ : " وبعد إلغاء كمال أتاتورك الخلافة العثمانية سنة 1924م وبدئه بمحاربة كل ما يمت إلى الخلافة بصلة " .(51/187)
لاحظوا عِبارة َ : " ما يمتُّ إلى الخلافةِ بصلةٍ " ! ، وكأنَّ الأمرَ لم يعدُ عن كونهِ تغييرَ لنظام ِ حكم ٍ بنظام ٍ آخرَ بديل ٍ ، والمسألة ُ مسألة ُ حضارةٍ وتقدّم ٍ ، ويُقابلها آخرونَ قابعونَ في التخلّفِ ، متقوقعينَ على أنفسهم ، منكفئينَ على ذواتِهم ، وهو في هذا يذهبُ بعيداً ، فيختلسُ من قارئهِ الموافقة َ على أنّ أساسَ الخلافِ هو هذا فقط ، وهو أمرٌ لم يقلهُ حتّى دهاقنة ُ الكفر ِ وعباقرة ُ الباحثينَ منهم ، برغم ِ عظيم ِ حقدهم على الإسلام ِ ، ومحاولتهم للنيل ِ منهُ ومن دولتهِ ، إلا أنّهم أنصفوا جدّاً ، حينما ذكروا أتاتوركَ ، وكيفَ أنَّ الرجلَ هدمَ صوى الإسلام ِ ومنارها في تركيّا ، وحوّلها إلى دولةٍ علمانيّةٍ لا دينيّةٍ ، وكانَ يقصدُ إزالة َ جميع ِ مظاهر ِ الديانةِ ما أمكنهُ ذلكَ ، وتضييق ِ الخِناق ِ على الإسلام ِ ليبقى في أقلِّ دائرةٍ لهُ ، فياللهِ كيفَ يكونُ كفرة ُ بني آدمَ ، أكثرَ عدلاً وإنصافاً لأهل ِ الإسلام ِ من أهلهِ ! .
ثمَّ يقولُ : " إن لهذا اللباس الظاهر للرجال والنساء المنتسبين إلى الصحوة دلالة سياسية فمع كونه أصبح رمزاً للصحوة، وعلامة فارقة لها، فإنه يعطي إشارة إلى كثرة المنتمين إليها في المجتمع مما يشكل وسيلة لاستعراض القوة " .
أرأيتم الباحثَ النزيهَ ذا السكسوكةِ المحترمةِ ! ، كيفَ لم يقاومْ حنقهُ وغيظهُ ، حينَ خرجَ علينا بأسلوبٍ لا علميٍّ ، ولا يمتُّ للبحثِ النزيهِ بصلةٍ ، فوصفَ مظاهرَ الديانةِ والتديّن ِ أنّها مُجرّدُ " وسائلَ لاستعراض ِ القوّةِ " ، فهو بهذا يُخليها من الجانبِ الرّوحيِّ فيها ، والتعبّدِ للهِ بها ، والقيام ِ بإظهار ِ شعائر ِ اللهِ تعالى ، وأنّها مجرّدُ مظاهرَ داجّةٍ ! ، لا تمتُّ للدين ِ بصلةٍ .
لكن ما هو رأيُ الباحثِ النزيهِ بالدول ِ التي تنتشرُ فيها مظاهرُ السفور ِ والتفسّخ ِ ، وتكثرُ فيها مغاني الشرِّ وقلاعهُ ، هل ذلكَ أيضاً دليلٌ على استعراض ِ القوّةِ ، أم أنّهُ حريّة ٌ شخصيّة ٌ ، وواقعٌ يجبُ قبولهُ ، واعترافٌ بآخرَ لهُ حقُّ العيش ِ والمواطنةِ وإبداءِ الرأي ؟ .
لقد أصبحَ كلُّ آخر ٍ مقبولاً مكفولاً لهُ حقُّ المواطنةِ والرأي ، إلا آخرُ آخرٌ جلسَ هناكَ بعيداً ، حينَ رفضهُ عقلاءُ العقلاءِ ! وسادة ُ البحثِ النزيهِ ، ولفظوا رأيهُ وفكرهُ ، وجعلوا منهُ ومن آراءهِ ورماً لا بُدَّ أن يستأصلَ ، ومرضاً لا بُدَّ أن يُقضى عليهِ ، وهذا الآخرُ هو من التزمَ الإسلام ِ بحرفيّتهِ ونصوصهِ ، وجعلهُ أساسَ الحياةِ ومادّة َ الوجودِ المُديرةِ لنظامهِ ، والمُصلحةِ لشئونهِ .
ثمَّ يقولُ : " لذا فإن الحكومة الفرنسية لما أرادت أن تخوض حرباً مع جماعات الإسلام السياسي بدأت بمحاربة هذا الرمز تحت مسمى منع الرموز الدينية، وهو لم يكن رمزاً دينياً بقدر كونه رمزاً أيديولوجياً " .
آه من هذه الضحالةِ المُفرطةِ ، والسذاجةِ المُضحكةِ ! ، وعجباً لهذه السطحيّةِ الفظيعةِ من هذا الباحثِ الأكاديميِّ المهذّبِ ! .
فرنسا تُحاربُ إسلاماً سياسياً .
يا للغباءِ حينُ يكتنفُ شخصاً كهذا ، فيجعلهُ أضحوكة ً ومهزلة ً لم تحصلْ ، فلقد غابَ عن عقليّةِ المفكّر ِ الفذِّ أن فرنسا ذاتَها هي من حرّمتْ الصليبَ الكبيرَ البارزَ على صدور ِ النصارى ، فهل هذا يرمزُ للنصرانيّةِ السياسيّةِ أيضاً ؟ ، أم هو الحربُ على الحجابِ وغيرهِ من المعالم ِ لأنّها من الدين ِ والشرع ِ ؟ ، وليسَ كما يصوّرهُ هذا الشخصُ المهذّبُ ! على أنّهُ مجرّدُ رمز ٍ سياسيٍّ لأناس ٍ امتطوا صهوة َ الدين ِ لنيل ِ مآربَ سياسيّةٍ ومطامعَ رئاسيّةٍ .
يعمدُ هؤلاء ِ المستغربونَ إلى شعائر ِ الدين ِ وتعاليمهِ ، فينتزعوا قدسيّتها ،ويزعموا أنها ليستْ سوى شِعاراتٍ لإسلام ٍ سياسيٍّ ، الغرضُ منها احتلالُ السلطةِ ، وخوضُ معاركَ رئاسيّةٍ ، أو لانتزاع ِ ولاءاتٍ شعبيّةٍ ، واستعراض ٍ للقوّةِ .
ويبدو التناقضُ واضحاً هنا حينَ يقولُ : " إلا ان الجدير بالملاحظة انه مع إفتاء علماء السعودية بجواز لبس العقال، إلا أن المشايخ وطلبة العلم الديني لا يلبسونه اليوم " .
من الذي يجعلُ اللباسَ الآنَ شِعاراً سياسيّاً ! ، هل هم أربابُ الإسلام ِ السياسيِّ - على حدِّ قول ِ المهذّبِ - ، أم خصومهم الذين يحشرونَ جميعَ أفعالهم سواءً كانتْ عفواً أو قصداً ، على أنّها تسييسٌ للدين ِ ، وحربُ مظاهر ٍ مع الطوائفِ الأخرى ، ومحاولة ٌ لكسبِ ودِّ الشارع ِ ، أو التميّز ِ عنهم .
لقد كنّا ولا زلنا نلبسُ أشمغتنا تارة ً بعقال ٍ وأخرى بدونِها ، وأكثرُنا حينَ يذهبُ وظيفتهُ أو يخرجُ في مناسبةٍ فإنّهُ يُزيّنُ رأسهُ بلبس ِ العقال ِ ، وهناكَ أكثرية ٌ من الناس ِ لا تلبسهُ استثقالاً لهُ ، وتخفيفاً منهُ ورحمة ً بالرأس ِ ، فلماذا يُجعلُ من الفعل ِ البريءِ الخالص ِ من شوائبِ المظاهر ِ دليلاً على ولاءٍ وانتماءٍ لطائفةٍ أو أخرى ! .(51/188)
إنَّ هؤلاءِ البؤساءِ لا يعرفونَ معنى حلاوةِ الإيمان ِ ، ولا طعمَ العبادةِ ولذّةِ المناجاةِ ، فلفرطِ بعدهم عن اللهِ أظلمتْ قلوبُهم ، ورقّتْ أفهامهم ، وخارتْ عزائمهم ، وأصبحوا يعلمونَ ظاهراً من الحياةِ الدنيا وهم عن الآخرةِ هم غافلونَ .
إنّهُ الرانُ ، حينَ يغشى القلوبَ ، فتعمى وتعشى عن الهُدى ، فتنتكسَ وتنقلبَ ، فيغدو الحقُّ باطلاً ، والمعروفُ منكراً ، فلا تعرفُ إلا هواها ، ولا تريدُ غيرَ مبتغاها ، فتهيمُ في أوديةِ الدنيا ، وتتردّى في مهاوي الشقاءِ والتيهِ ، فلا تلقى إلا صدراً حرجاً ضيّقاً ، كأنّما يصّعّدُ في السماءِ .
و ارحمتا لهُ ولحالهِ ، كم هو مسكينٌ واللهِ .
هذا بعضُ تهوّرهِ - وهبهُ اللهُ فهماً ورزقهُ عقلاً - فيما كتبَ واستطالَ بهِ على القرّاءِ الكِرام ِ ، ومن تتبّعَ سقطاتهِ وجدها على قارعةِ الطريق ِ سهلة َ المُتناول ِ ، حمىً مباحاً لكلِّ أحدٍ .
إنَّ هذا السرحانَ كغيرهِ من عقلانيِّ العصر ِ ، ومتسولةِ الفكر ِ ، والذينَ يُحاولُ جاهداً أن يحذوَ حذوهم ، ويسيرَ في ركابهم ، ويقلّدهم فيما يطرحونَ ، مع أنّهُ لا يفقهُ كثيراً ممّا يقولونَ ، وإنّما ينتشي فرحاً بما يجدُ ، ثمَّ يمتطي جوادَ فكرهِ المتبلّدِ ، ليكتبَ جملاً وعباراتٍ يسمّيها تجوّزاً : " حروفٌ وأفكارٌ " ، وهي بريئة ٌ من الفكر ِ براءة َ هبنّقة َ من الفطنةِ والذكاءِ ، فتجيءَ وقد حوتْ زيفاً ، واشتملتْ تدليساً ، فلا هو بالذي انتفعَ بما يكتبُ ، ولا هو بالذي حرسَ غفلة َ قومهِ ، أو حصّنَ عورتهم ، بل دلَّ العقلاءَ على خطل ِ رأيهِ ، و أبانَ مخبوءَ حالهِ ودفينَ جهلهِ .
عندما تقرأون لأمثال ِ هذا المهيريج ِ المهذّبِ ! ، لا بدَّ أن تستعرضوا ما بينَ السطور ِ من مكر ٍ وتلبيس ٍ ، وتستخرجوا منها أباطيلهِ وألاعيبهُ ، فتطربوا حيناً وتسترجعوا أخرى ، فمثلُ هذا الباحثِ المُنصفُ الحصيفِ ! جديرٌ بأن يكونَ معلماً بارزاً ، ونُصُباً تذكارياً ، لخنفشاريٍّ حديثِ الفكر ِ ، كثير ِ التخبّطِ ، يُعاني من عسر ٍ هضم ٍ للمعلوماتِ ، وتهتّكٍ في خلايا الفهم ِ والاستيعابِ ، لينالَ بجدارة ٍ لقبَ : سِرحان ِ العصر ِ .
لقد كذبتِ المعتزلة ُ من قبلُ والجهميّة ُ والملاحدة ُ والفلاسفة ُ ، ثُمَّ مشى على دربهم وسلك طريقهم الصليبيّونَ من المستشرقينَ ، وتابعهم دعاة ُ العقلنةِ والتغريبِ ، وحاولوا أن يطفئوا نورَ اللهِ بأفواههم وأقلامهم ، وتباروا جميعاً ليكونوا أشقى القوم ِ ، في وأدِ القيم ِ ودثر ِ الفضائل ِ ونشر ِ التبرّج ِ والسفور ِ ، والتعالي على تعاليم ِ الشرع ِ ، فجاءهم سوطُ ذي النقم ِ ، وجهّزَ لهم بمكر ٍ لطيفٍ منهُ عباقرة ً أفذاذاً ، فبيّنوا للنّاس ِ زيفهم ، وكشفوا عوارهم ، وجعلوهم عبرة ً للنّاس ِ .
ولا تنسوا دوماً : إنَّ للبيتِ ربا يحميهِ .
==============(51/189)
(51/190)
خالص جلبي شيخ (العصرانيين) في القصيم !!
بسم الله الرحمن الرحيم
القسم 1
انحرافات
خالص جلبي
شيخ (العصرانيين) في القصيم !!
إعداد
سليمان بن صالح الخراشي
1422 هـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلا زالت بلادنا -حفظها الله وثبتها على الحق- ملاذاً آمناً لكل من يريد إقامة دينه ودنياه من أبناء المسلمين على اختلاف هوياتهم، وملتقىً لهم بما خصها الله به من وجود الحرمين الشريفين على أراضيها. وقد أمَّها الكثير منهم، ما بين كبير وصغير، وعالم وجهل، فعاد فئام إلى أهاليهم وقد استقامت أحوالهم الدينية -ولله الحمد- بعد أن تبصروا وتفقهوا في تلك الأحوال وفق ما جاء في الكتاب والسنة، وهو ما لم يجده كثير منهم في بلاده نظراً للظروف التي مرت بالعالم الإسلامي، مما لا يجهلها أحد.
ولكن بقي فئات قدمت إلى هذه البلاد (متشربة) البدعة ومخالفة الكتاب والسنة، راضية بما هي عليه من انحراف، قد انتكست فطرتها، فرأت المعروف منكراً والمنكر معروفاً.
أتت وقد تشبعت قلوبها من أئمة الضلال ببغض دعوة الكتاب والسنة التي تقوم عليها بلادنا -ولله الحمد- ، فلم ترض أن تتنازل عن ما هي عليه من باطل.
وهذه الفئة صنفان:
1- صنف أتى لهذه البلاد طالباً للعيش، وجوار الحرمين الشريفين، غير ساعٍ في نشر بدعته وانحرافه بين أهلها، إما خوفاً([1]) أو عدم حماس لها، مما جعله يتستر عليها ولا يُسر بها إلا لخواصه الأدنين ، جاعلاً شعاره قول المتنبي:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدواً له ما من صداقته بدُ !
وقول الآخر :
ودارهم ما دمت في ( دارهم ) وأرضهم ما دمت في ( أرضهم ) !
وهذا الصنف قد كفانا مؤنة الرد عليه وفضحه، لما هو عليه من تستر وتحفظ من نشر بدعته وانحرافه، فهو (مبتدع) غير داعية إلى بدعته .
فمثل هذا يناصح برفق، ولا يرد عليه علناً، لكي لا تشتهر بدعته، أو تأخذه الحمية في نصرتها.
2- والصنف الآخر: كالأول تماماً في بدعته وانحرافه، لكنه لم يخضع كما خضع الأول ! ولم يستتر كاستتاره ، بل جاهر ببدعته وانحرافه، مستعملاً كل أسلوب متاح لترويج ذلك بين شباب هذه البلاد؛ لكي يصرفهم عن دعوة الكتاب والسنة إلى ما يوافق مشربه.
فهو لأجل ذلك يُصنف الكتب، ويكتب في الصحف والمجلات، ويشارك في الندوات .
وهؤلاء يختلفون في بدعهم ومشاربهم؛ فمنهم الأشعري الخَلَفي، والصوفي الخرافي، والمعتزلي العقلاني.. الخ
إنما يجمعهم كلهم: (بغض دعوة الكتاب والسنة) ومحاولة صرف الشباب عنها إلى أهوائهم.
فهذا الصنف يجب على دعاة الكتاب والسنة أن يتصدوا له، وأن يفضحوه بين الناس، ويُشهّروا به في الآفاق؛ حتى يدع بدعته أو يكف عن بثها ونشرها.
والطبيب خالص جلبي من هذا الصنف ! فهو قد قدم إلى هذه البلاد منذ عشرات السنين مستقراً في بلاد القصيم! ليعمل في أحد مستشفياتها.
قدم وقد تشربت نفسه انحرافات عديدة ظنها حقاً يجب أن يبشر به الناس حوله.
قدم وفي نفسه (أشياء) من دعوة الكتاب والسنة التي لم يجد فيها بغيته! ولم تُرض طموحه! لهذا فما أن ألقى عصاه في بلاد القصيم وطاب له المقام فيها، حتى شمر عن ساعديه في نشر انحرافاته وأفكاره التي استولت على نفسه. فبدأ يؤلف الكتب، وينشر مقالاته في مختلف الصحف، ويجتمع بالآخرين لينقل إليهم ما عنده؛ هادفاً من هذا إلى تجميع الشباب حول أفكاره التي آمن بها ورضيها، ولا زال على هذا الحال!
قد يقول قائل ممن يعرف ما عند الدكتور: يا فلان لقد ضخَّمت القضية، فالرجل ليس عنده سوى مذهب (السِّلم ونبذ العنف) الذي آمن بجدواه بعد أن جرَّب غيره، في بلاده، وهذا المذهب (السلمي) الخانع مع أعداء الأمة لن يؤمن به الشباب مهما حاول الدكتور؛ نظراً لمخالفته للفطرة ولطبائع البشر قبل مخالفته لشريعة رب العالمين -كما سيأتي- .
فأقول: نعم ، فكرة الدكتور الكبرى وهي الدعوة إلى السِّلم (مع الجميع!) لن تشد أحداً من الشباب إليها كما قلت ، بل سيتخذها بعضهم سخرياً في زمنٍ لا يؤمن إلا بمبدأ واحد هو القوة، ولو تعامى الدكتور عن ذلك.
لذا فأنا لا أخاف على الشباب من هذه الفكرة الخيالية الحالمة، إنما أخاف عليهم من حواشيها! ومتطلباتها! ؛ لأن الدكتور -كما سيأتي- جعل لنجاح هذه الفكرة شروطاً ينبغي أن تتحقق في المؤمنين بها، وهو ما أخافني منه على الشباب!؛ فهو يرى أن العالم ينبغي أن يعيش في سلم عام، يتحقق له عن طريق:
1- احترام وجهات النظر والرأي الآخر مهما كان !
2- حرية الإنسان في الدعوة إلى ما يعتقده في كل مكان!
3- حرية الإنسان في التنقل بين العقائد والأديان!!
4- إلغاء ما يعارض ذلك، وهو حد الردة !!
5- أن الحقيقة المطلقة لا يملكها أحد من البشر!!(51/191)
إلى غير ذلك من الشروط والحواشي الخطيرة! ، وهي ما نجح الدكتور في بثها في عقول بعض الشباب ممن يسمون (بالعصرانيين) ، وساعده على ذلك أن هذه الحواشي والأفكار الفرعية تلائم عصر العولمة! وترضخ للضغوط المعاصرة التي لا يجهلها أحد، إضافة إلى أنها تريح النفوس البطالة التي تعبت من الدعوة إلى دين الله الحق وأصابها (طول الأمد) والملل !
فجاء الدكتور يستثمر هذا كله، ويستفيد منه في نقل أفكاره إلى عقول بعض شبابنا ممن نراهم يدندنون كما ما يدندن الدكتور.
أما فكرته الكبرى (وهي الدعوة إلى مذهب السلم) فلا أظنها تلقى الرواج والقبول عن الشباب ، كما لقيته هذه الأفكار الفرعية.
لهذا كله: كان لابد من عرض أفكار الدكتور -ولو بإيجاز- تحت مجهر الكتاب والسنة؛ ليتبين للشباب ما عند الرجل من انحرافات ، لتكون هذه الرسالة عوناً لهم تركها أو الحذر منها .
ولعل الشباب الذي تأثر بدعاوى (العصرنة) و (التمييع) يراجع نفسه، ويجدد حياته ، ويعود إلى سبيل النجاة بعد أن تنكب عنه سنين عددًا ، أضاعها في الترويج لهذه الأفكار ( العصرانية ) المنحرفة .
وليتعظ المرء من هؤلاء بحال من سبقوه من أساطين العصرنة الذين أرادوا تشذيب الإسلام حتى يوافق عقولهم القاصرة وعصرهم المتقلب ، ولكنهم لم يجنوا من ذلك سوى ضياع الدين وخسارة الدنيا ، والعياذ بالله .
ولا تزال لهم قدم سوء في هذه الأمة التي ضللوها عن دينها القويم .
فليعتبر ناصح نفسه بحالهم ومآلهم ، ولا تأخذه العزة بالإثم أن يعود إلى الحق ؛ فإن ( الحق قديم ).
أسأل الله أن يهدينا جميعًا إلى صراطه المستقيم ، وأن يباعد بيننا وبين البدعة وأهلها ، وأن يوفق الدكتور جلبي للخلاص مما وقع فيه من انحرافات .
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه (أجمعين)
كتبه
سليمان بن صالح الخراشي
1/7/1422هـ
تعريف بالدكتور خالص جلبي([2]) :
- هو الدكتور خالص مجيب جلبي كنجو من مواليد القامشلي، سورية 1945م، تخرج من كلية الطب ، جامعة دمشق 1971م، وتخرج من كلية الشريعة، جامعة دمشق 1974م، وحصل على الزمالة الألمانية (تخصص جراحة) من ألمانيا الغربية 1982م.
يعمل حالياً رئيساً لوحدة جراحة الأوعية الدموية في مستشفى الملك فهد التخصصي بالقصيم .
من مؤلفاته:
1- الطب محراب الإيمان (جزءان).
2- ظاهرة المحنة.
3- النقد الذاتي .
4- الإيدز الطاعون الجديد.
5- عندما بزغت الشمس مرتين: قصة السلاح النووي.
6- أين يقف العلم اليوم .
7- ثلاث مقالات ، أبحاث في العلم والسلم.
8- مخطط الانحدار .
9- سيكولوجية العنف واستراتيجية الحل السلمي.
10- العصر الجديد للطب .
11- جدلية القوة والفكر والتاريخ .
- يكتب الدكتور مقالاته في صحف ومجلات متنوعة، أبرزها جريدة الشرق الأوسط، ومجلة الفيصل، وزاويته بجريدة الاقتصادية .
- الدكتور متزوج من ليلى سعيد أخت المفكر (المادي) المشهور جودت سعيد، الذي كان له أثر كبير في فكر خالص جلبي -كما سيأتي- ، وكما يعترف الدكتور نفسه.
خالص جلبي متأثر بجودت سعيد:
لكي نفهم خالص جلبي لابد أن نفهم (أخ زوجته) جودت سعيد، فالدكتور متأثر به جداً، ويكاد أن يكون رجع صدى لصوته بصورة شكلية مغايرة. والدكتور لا يخفي هذا الأمر بل يفخر به، فهاهو يهدي كتابه (في النقد الذاتي) إليه قائلاً ((إلى أخي المفكر جودت سعيد، فهو الذي غرس النباتات الأولى لهذا الإتجاه عندي)) (ص7).
ويقول في نفس الكتاب: ((لابد من ذكر فضل خالص للأستاذ جودت سعيد في إثارة هذا الجانب العقلي ودفعه للنمو)) (ص11).
ويثني في كتابه (سيكولوجية العنف) (ص12) على كتاب (شيخه) جودت (حتى يغيروا ما بأنفسهم) ويرى أنه "جدير بالمراجعة والتأمل" .
يقول الأستاذ عادل التل بعد أن عرض لمجموعة من أفكار جودت سعيد: (( يتابع جودت على هذه الأفكار : خالص جلبي وزوجته ليلى سعيد…)) (النزعة المادية في العالم الإسلامي ، ص 83 ) . (وانظر أيضاً ص 69 و ص99)
قلت : ولكي نفهم جودت سعيد لابد من قراءة كتبه ومقالاته التي ينشرها بين المسلمين ، وكذا قراءة كتاب الأستاذ عادل التل (النزعة المادية في العالم الإسلامي: نقد كتابات جودت سعيد، محمد إقبال ، محمد شحرور، على ضوء الكتاب والسنة) وقد قمت بهذا ولخصت كتاب الأستاذ التل مع بعض الزيادات في بحث بعنوان (انحرافات جودت سعيد) سأنشره قريباً -إن شاء الله-
وأوجزه في نقاط :
1- يعد جودت سعيد أبرز دعاة مذهب (السّلم) ونبذ ما يسميه (بالعنف)، فهو يدعو إلى هذا بكل ما أوتي من استطاعة، وقد خصص له جلَّ كتبه ومقالاته، وعلى رأسها كتيبه الشهير (مذهب ابن آدم الأول) .
2- يرى أن هذا المذهب (مذهب السلم) هو الأنجح في حل قضايانا، وتحقيق أهدافنا ، بخلاف غيره، ولو كان الجهاد! .
3- يرى أن (الوحي) و (النبوة) قد انتهى دورهما !! وأن لنا أن نستبدل ذلك (بقراءة التاريخ والسنن الكونية) ! ، ولهذا نجده لا يُعظم حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم أو يجعله مرجعاً له. بل -والعياذ بالله- يرى أن الرجوع إلى الكتاب والسنة مما يزيدنا فرقة واختلافاً!!
4- يتابع الفلاسفة (أهل التخييل) في أمور الغيب !(51/192)
5- يمجد الفلاسفة والكفرة ويُعظم أفكارهم؛ من أمثال سقراط وغاندي وماركس وكونت وغيرهم، لاسيما إذا كانوا يخدمون فكرته.
6- يحرف المعاني الشرعية؛ كمعنى الشرك ومعنى العبادة…، بمعانٍ مخترعة من عنده.
7- يطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
8- يؤمن بفكرة (النشوء والارتقاء) البائدة ! .
9- يُحرف آيات القرآن الكريم بما يخدم أفكاره.
قلت : هذه بعض انحرافات جودت سعيد، ولتوثيقها ومعرفة المزيد عنه، مع تفنيد هذه الانحرافات ، انظر : (انحرافات جودت سعيد) .
التلميذ يتابع شيخه :
تابع خالص جلبي شيخه جودت سعيد في أفكاره السابقة كلها، وعلى رأسها (الدعوة لمذهب السلم) الذي استحوذ على معظم كتاباته -كما سيأتي- وفي ظني أن الذي دعاه لهذا أمران :
1- قربه من جودت سعيد، فهو متزوج من أخته - كما سبق- ، ومعلومٌ أن القرين بالمقارن يقتدي، وأن الصاحب ساحب، ولهذا نعلم حكمة (النهي عن مجالسة المبتدعة) الذين يلقون الشبه في ذهن المرء فيشككونه في أمر دينه ، حتى يرى المنكر معروفاً والمعروف منكراً. مهما ادعى المرء أنه ذو حصانة من هذا التأثر، أو أن مبدأ (النهي عن مجالسة المبتدعة) ينبئ عن عدم ثقة بما لدى الإنسان من حق .. الخ ما يردده (العصرانيون) في زماننا.
2- أنه اتخذ مبدأ (العنف) و (العمل السري) في مطلع حياته، فلما لم يثمر هذا المبدأ سوى التعرض للسجن والتنكيل من قبل السلطة الحاكمة في بلاده، انقلب الرجل إلى الضد من ذلك، و (كفر) بما كان يؤمن به سابقاً من جدوى (العنف) و(العمل المسلح)، وأصبح لفعله الأول ردة فعل عليه بعد خروجه من السجن قادته إلى (تطرف) آخر على الجهة المقابلة، وهو الدعوة إلى (مذهب السِّلم) ونبذ كافة أنواع (العنف) ولو كان من ضمنها الجهاد المشروع !
بل قاده ذلك إلى تقبل (الآخر) والدفاع عن معتقداته وحريته في نشر تلكم المعتقدات مهما كانت ! بدعوى (الحرية) و (الحوار) و (قبول وجهات النظر) و (الآراء المختلفة) … الخ ما يدندن حوله عصرانيو اليوم .
يقول خالص في مقدمة كتابه (سيكولوجية العنف واستراتيجية الحل السلمي) -الذي خصصه للدعوة إلى مذهب السلم- : ((منذ ظروف المعتقل في عام 1974م ما زال هذا البحث ينمو عندي ويترسخ)) (ص 24).
ويقول -أيضاً- : ((ثم سجلت خطة العمل المستقبلية في كتابي (ظاهرة المحنة) مؤكداً على ضرورة تطهير ساحة العمل من (العنف) و (التنظيمات السرية) (المرجع السابق، ص 25) .
فالرجل قد عالج الخطأ بخطأ آخر أعظم منه. فهو في مطلع شبابه لم يلتزم منهج السلف أهل السنة والجماعة في التعامل مع الحكام، من حيث الصبر على جَوْرهم وظلمهم مع الاستمرار في الدعوة إلى الحق إلى أن يقضي الله أمره، استجابة للأحاديث الكثيرة عن رسول ا صلى الله عليه وسلم الآمرة بذلك، مع عدم الالتفات إلى دعاوى (التثبيط) أو الاتهام بالخوف أو التخاذل إلى آخر دعاوى المتحمسين أو المبتدعة من الخوارج أو المعتزلة.
ولكن الدكتور آثر مذهب (الخروج) على الحاكم والتأليب عليه، والانخراط في الأعمال السرية للإطاحة به، مما أدى به إلى السجن ؛ لأن الحاكم سيدافع حتماً بما أوتي من قوة عن سلطته ولن يفرط فيها بسهولة، كما قد يتوهم البعض .
فلما علم الدكتور -بعد حين- خطأ مسلكه الأول ، لم يصححه بالتزام مذهب السلف أهل السنة والجماعة في عقيدته ودعوته، بل ارتد إلى الطرف الآخر وهو نبذ (العنف) بكافة ألوانه والتنفير منه، والدعوة إلى (مذهب السلم) الذي ظن بجهله اتباعاً لشيخه جودت أنه سيسود العالم في يومٍ ما !! -كما سيأتي- .
فقاده هذا (التطرف) تجاه الجهة المقابلة إلى عدة انحرافات خطيرة سترى شيئاً منها فيما يلي -إن شاء الله-. فكان كما قيل:
إذا استشفيتَ من داء بداء
فأقتل ما أعلك ما شفاك !
وأنا لن أتهم الدكتور -وكذا شيخه- كما فعل البعض، بأنهما مجردُ صنيعتين من صنائع أعداء الأمة (من اليهود والنصارى) ، استخدموهما لترويج مذهب (السلم) بين أفراد الأمة وشبابها لإماتة روح الجهاد التي تقلق الأعداء -كما هو معلوم- .
أنا لن أفعل هذا؛ لأنه لا دليل مؤكد عليه حتى الآن، بل سأتعامل معهما كمنحرفَيْن من مئات المنحرفين الذين مروا على أمة الإسلام، هادفاً التحذير من أطروحاتهما التي قد تروج على البعض ؛ نظراً لتماشيها مع ضغط الواقع المعاصر!
فإلى انحرافات الدكتور:
الانحراف الأول: دعوته إلى مذهب "السِّلم" أو "السلام"، ونبذه لجميع أنواع ما يسميه "بالعنف" دون تفريق بين حقٍ وباطل. وحصره مفهوم الجهاد الشرعي في الدفاع عن البشر المظلومين (أياً كان دينهم) المكرهين على تغيير آرائهم واعتقاداتهم، وذلك بعد قيام الدولة الإسلامية بواسطة الطريق السلمي، أما قبل قيامها فلا يجوز أيُّ نوع من أنواع الجهاد (المسلح) ! .
وإليك شيئاً من أقواله تبين هذا ، ثم التعقيب عليها:
- يقول الدكتور تحت عنوان (أنظمة فكرية أربعة في كيفية استعمال العنف): ((توجد أربعة أنظمة فكرية، أو أربع لغات في جواز استخدام العنف ومشروعيته من حرمته وعدم جواز استخدامه:(51/193)
1- فاللغة الأولى هي شريعة الغاب : القوي فيها يأكل الضعيف ولا يوجد أي ظل لأي قانون ضمن الدولة الواحدة أو بين الدول، وهي مرحلة مشى فيها الجنس البشري، وهو يودعها تقريباً الآن، وقد يعترض من يقول: لا ، إن الوضع لم يتغير، وهذا ينسف كل إمكانية أو تحقيق أي تطور عن الإنسان والجنس البشري عموماً، وهو تصور غير صحيح، في ضوء إنجازات الجنس البشري حتى الآن، من نظام الأمم المتحدة، ومحكمة لاهاي للعدل الدولي، ومنظمات حقوق الإنسان، ومعاهدة جنيف لأسرى الحرب، ومنظمة الهلال والصليب الأحمر الدوليين… الخ . وهذا لا يعني الكمال في الإنجاز، ولكنها خطوة متواضعة، في طريق تحقيق الكمال الإنساني، والدولة العالمية الواحدة، لتأمين الخبز، ودحر المجاعات، واحتكار السلاح ، وإيقاف الحروب.
2- واللغة الثانية هي لغة الديموقراطيات الغربية: وتؤمن بالعنف لإطاحة الحكومات الظالمة المستبدة، وتحرم العنف بعده، ويصب معهم في الاتجاه نفسه تيار (الخوارج) من التاريخ الإسلامي، الذين لم يؤمنوا باستقراطية الحكام (أن يكونوا من قريش مثلاً)، فالإنسان الأسود (كونه من الشرائح المستضعفة في قاع المجتمع) يمكن أن يتولى منصب الرئاسة، كما هو الحال في نيلسون مندلا، في جنوب أفريقيا الآن، وهذا التصور كان مستحيلاً في تلك الأيام، كما آمنوا بالثورة المسلحة، لتغيير الحاكم المنحرف (وهو ما تفعله جماعات الإسلام السياسي في الوقت الحاضر، حيث أحيت مذهب الخوارج من جديد)، فالخوارج رأوا في الحكم الأموي، أنه غير إسلامي وظالم؛ فوجب الإطاحة به، على كل حال هم يُكَفِّرون مرتكب الكبيرة ، ولقد كفَّروا عليّاً واستباحوا دمه، ثم قتلوه في النهاية، وقد استنفدوا طاقتهم في الصراع مع الأمويين، وجعلوا الدولة الأموية تنزف حتى الموت، وسقطت كالتفاحة الناضجة ليست بأيديهم، ولا بأيدي آل البيت المنتظرين بفارغ الصبر، بل بيد العبّاسيِّين المحنَّكين، المختبئين في الظلام المجهولين!
3- واللغة الثالثة هي لغة الأنبياء: الذين حَرّموا صناعة الحكم بالقوة المسلحة وبالعنف، من خلال الانقضاض على الحكومات القائمة، حتى لو كان مجيئها إلى السلطة بالسيف وبالعنف، فاللاشرعية لا تزال باللاشرعية، بل بالشرعية، والخطأ لا يزال بالخطأ ، بل يُقَوم بالعمل الصحيح، وهذا ما فعل الرسو صلى الله عليه وسلم ، الذي غيّر المجتمع بالفكر وسلميّاً، فحين فشل في اختراق مجتمع مكة والطائف، نجح في نشر دعوته في أهل يثرب، التي ستأخذ اسم مدينة الرسو صلى الله عليه وسلم بعد ذلك (المدينة المنورة) ، حتى تفشى الإسلام في مجتمع المدينة، فلم يذهب إليهم على ظهر الدبابات بانقلاب عسكري، بل خرجوا لاستقباله، في مظاهرة ضخمة، ضمت أهل المدينة من الرجال والنساء، في مشاركة رائعة، مع فرقة موسيقية كاملة،([3]) والكل ينشد: طلع البدر علينا،([4]) معلنين خضوع مجتمع المدينة للفكرة الجديدة ، دون سفك قطرة دم واحدة، وهذا التحول المدهش، في مجتمع المدينة المنورة سابقاً وبهذه الطريقة السلمية، غاب عن أعين المسلمين منذ ذلك الوقت، وعطلوا سنة عظيمة من سُنن الإسلام، في كيفية بناء المجتمع أو معالجته حين الانحراف، وتبخر الحكم الراشدي تحت حرارة العنف ودمويته، وانزلق المجتمع الإسلامي، إلى ليل التاريخ، حيث المغامرون والانقلابيون يتناوبون قنص السلطة الدموي دون رحمة، ولم يخلص العالم الإسلامي من هذا المرض حتى اليوم، وأعيد مذهب الخوارج، بكل عنفوانه وقوته مرة أخرى، في مناطحة الحكومات، واستنفاد الجهود في معارك مدمرة، بحيث توقفت عملية نقل السلطة السلمي، وتحول المجتمع إلى شرائح، لا يثق بعضها ببعض، وتوقف الحوار، وأضمرت النفوس الحقد والتآمر، وسُفِكت الدماء غزيرة.
4- وأما اللغة الرابعة: فهي بعد قيام الحكم الشرعي، فإذا صار الحكم شرعياً، استطاع وسُمح له بالجهاد المسلّح، بعد أن بنى مجتمع (اللاإكراه).
عند ذلك، من لا يريد أن يدخل في السلم، ويريد أن يُكره الناس على أي دين ومبدأ وفكرة، فهذا يتصدى له المجتمع الإسلامي (مجتمع لا إكراه في الدين)، فهذا هو مجال الجهاد، أي حماية الناس من الفتنة (الإكراه) ([5]) (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة)، (والفتنةُ أشدُّ منَ القتلِ)، وهذا يتولد منه مجموعة هامة من المعاني: الجهاد هو لحماية المخالف، والجهاد أداة واحتكار للعنف بيد السلطة، والسلطة أي سلطة، لا يسمى ما تفعله جهاداً، حتى يتم وصولها إلى الحكم برضا الناس، فالجهاد هو ذو جانبين في المجاهِد (بكسر الهاء) والمجاهَد (بفتح الهاء) ضدّه، فلا جهاد إلا بيد سلطة وصلت إلى الحكم برضا الناس، ولا جهاد إلا ضدّ من يمارس الظلم على الآخرين بإخراجهم من ديارهم وأديانهم بالقوة المسلحة (لا يَنهَاكُمُ الله عنِ الذينَ لم يُقاتلُوكُمُ في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسِطُوا إليهِمْ)) ([6]) .
قلت: هذا المقطع الطويل يوجز لنا الفكرة التي يدندن حولها الدكتور في كثير من كتاباته .(51/194)
فالتغيير (أي تغيير السلطة الظالمة) يكون سلمياً دون (عنف) أو (استخدام سلاح)، وبعد الوصول إلى السلطة من قبل (السلميين) يجوز استخدام (الجهاد) أو (السلاح) أو (العنف) لا لنشر الإسلام وحماية الدولة الإسلامية !! إنما لحماية المكرهين على تغيير آرائهم ومعتقداتهم فقط !! .
وهذا فيه تلبيس عجيب من الدكتور الذي لو تابع مذهب السلف أهل السنة والجماعة بعد نبذه للعمل السري الحربي المسلح لأراح نفسه وجنبها تحريف الحقائق الشرعية وتزويرها - هداه الله- .
فنصوص السنة تفصل في هذه المسألة التي أرقت الدكتور حتى جعلته يصنف كتابه هذا، وتخبر بأن الحاكم (المسلم) الظالم الجائر لا يجوز الخروج عليه بالسلاح ، وعلى هذا استقر مذهب السلف . أما إذا ارتكب هذا الحاكم كفراً بواحاً ظاهراً فإنه يجوز الخروج عليه بالسلاح وتغييره إذا كان المسلمون لديهم القدرة على ذلك، وأقوال صلى الله عليه وسلم كثيرة مشهورة في تقرير هذا؛ من أوضحها ما رواه عوف بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول ا صلى الله عليه وسلم : ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم))، قال: قلت : يا رسول الله ! أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال : ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)) أخرجه مسلم .
وقول صلى الله عليه وسلم : ((ستكون بعدي أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ ، ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع)) قالوا : أفلا نقاتلهم؟ قال : ((لا ، ما صلوا )) أخرجه مسلم([7]).
فالجهاد أو ما يسميه الدكتور (بالعنف!) يجوز استخدامه من قبل المسلمين قبل الوصول للسلطة -لا كما يزعم الدكتور- وذلك في الحالة السابقة ، وأقوال صلى الله عليه وسلم تشهد بهذا ، وهي لا تخالف سيرت صلى الله عليه وسلم التي حاول الدكتور أن يوهمنا أنها تعارض هذا ، لأنه هو نفسه الآمر بذلك الجهاد أو (الخروج) الشرعي.
انحرافات أخرى للدكتور تفرعت عن انحرافه الأول:
قلت : فترتب على (غلو) الدكتور في هذا المذهب الغريب مذهب السِّلم وعدم العنف انحرافات كثيرة، سأذكرها مع مقولة أو أكثر للدكتور تشهد لكل واحدة منها ، ثم أعقب عليها بإيجاز بما يبين للقارئ بطلانها:
1- الدكتور يؤمن بأن الحروب ستنتهي !
يقول الدكتور: "كانت الحروب قديماً تؤدي دوراً من الغنائم والأسلاب والرقيق ، واليوم فات وقتها ، فكما تم إلغاء الرق فالعالم في طريقه لإلغاء مؤسسة الحرب" (سيكولوجية العنف، ص143).
قلت : هذا مقولة إنسان خيالي يسبح عقله في ما يتخيله مثالياً، لا أساس لها من الواقع.
وهي -أيضاً- مقولة إنسان لا يؤمن بحكمة مشروعية الجهاد في الإسلام! حيث ارتبطت الحروب عنده فقط بالغنائم والأسلاب والرقيق والأمور (المادية) التي تناسب تفكيره (المادي)! التي متى ما استغنى الناس عنها -كما يزعم الدكتور- سيتوقف (القتال)!! ([8]) متغافلاً عن أن الجهاد في الإسلام لا تأتي هذه الأمور (المادية) إلا تبعاً لحِكَمِهِ العالية ومقاصده الشريفة؛ وعلى رأسها (إعلاء كلمة الله في الأرض)، ونشر دينه، واكتساب المجاهدين الأجر العظيم الوارد فيمن جاهد لأجل ذلك، وغير ذلك من المقاصد الشريفة([9]).
فليست مقاصد الجهاد في الإسلام هي مجرد الغنائم والرقيق كما يزعم جلبي الذي ينظر للأمور بتفكير (مادي).
وأيضاً: ففي كلامه هذا مصادمة لنصوص الشريعة (الآمرة) بالجهاد والمخبرة عن استمراره إلى يوم القيامة؛ كما في قول صلى الله عليه وسلم في مسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ) وقول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين:(الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة).
بل هذا من جملة عقائد أهل السنة الثابتة عندهم دون شك، قال الطحاوي -رحمه الله- في عقيدته : ((والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين ، برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما)) ([10])
ويقول الشيخ علي العلياني في كتابه (أهمية الجهاد، ص 186): "لا ينتهي جهاد الكفار إلا إذا أسلموا أو خضعوا لحكم الإسلام ودفعوا الجزية" .
وأيضاً: ففي كلامه السابق مصادمة للنصوص الشرعية (المخبرة) عن استمرار القتال (من جميع الأطراف) ! على وجه الأرض إلى أن تقوم القيامة، ومن راجع ما جاء في أشراط الساعة علم هذا ، ويأتي على رأس ذلك مقاتلة المسلمين لليهود التي أخبر عنها صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، وكذا خروج يأجوج ومأجوج ، وغير ذلك .
فكلام الدكتور باطل (شرعاً) و (قدراً) .
ثم قوله (تم إلغاء الرق) ليس فيه دليل على (تحريم) الرق أو أن الإسلام قد جاء بما يشين -كما يوهم كلامه- .
بل الرق باقٍ ما بقي الجهاد ، ولا حرج منه . وإجماع (العالم) على إلغائه لا يغير من حكمه شيئاً في الإسلام ؛ لأن الإسلام يُحْتج به ولا يُحتج عليه بالأمور الواقعة. ولو فعلنا هذا لحللنا كثيراً من المحرمات التي (استباحها) أو (أذن بها) العالم اليوم .(51/195)
يقول الشيخ عبدالله بن يابس -رحمه الله- في تعقبه على بعض الكتاب : ((وإذا كان القتال ماضياً إلى قيام الساعة، والكفار موجودين في كل زمن فسنة الإسلام جواز الاسترقاق لمن استولوا عليه بطريق الحرب)) ([11]).
ويقول الدكتور علي العلياني راداً على بعضهم ممن يرى رأي الدكتور: ((من الأحكام الإسلامية المتعلقة بالجهاد التي حرفها تلاميذ الاستشراق والاستعمار: حكم الرق، حتى إنا نرى بعض أولئك الضعاف المهازيل من قليلي العلم والتقوى الذين أعجبوا بمبادئ الدول الغربية والشرقية من الدول الكافرة والملحدة يعتذرون عن رب العالمين في تشريعه للجهاد، ويعللون إباحة الإسلام للرق بتعليلات ساقطة من عند أنفسهم، لم يدل عليها دليل من كتاب ولا سنة…))([12])
وقال رداً على من قال: بأن الإسلام لا يتعارض مع إلغاء الرق من العالم اليوم !: ((هذا كذب صراح وافتراء على الإسلام …. وهل يظن هذا الكاتب أن المسلمين منذ عهد الرسو صلى الله عليه وسلم إلى عام 1842م عندما وُقعت اتفاقية دولية تحرم الرق كانوا يعملون غير مباح؟! نعوذ بالله من هذا التحريف المشين)) ([13]) .
2- الدكتور يتمنى قيام دولة عالمية واحدة !!
يقول الدكتور تحت عنوان (الدولة العالمية كمقصد أعلى للبشر) : "إن وجود دولة عالمية تحتكر العنف من الدول سيحقق الأمن عالمياً، فندخل العصر الذي تتوقف فيه الحروب" ويقول : "الأمل أن تتحقق الدولة العالمية الواحدة في مدى القرنين القادمين أو ربما أسرع…. عندها تنتهي لعبة الحروب نهائياً ، ويلغى عصر الجوع" !! (سيكولوجية العنف..، ص158) .
ويقول في موضع آخر : "الطريق ما زال طويلاً لإقامة الدولة العالمية التي ستحتكر السلاح والخبز، فتلغي الحروب بين الدول، وتنهي عصر المجاعات" (المرجع السابق، ص 218)
قلت : لا زال الدكتور يحلم ويمني النفس! وليته إذ مارس (حلمه) و (أمنياته) هذه مارس ذلك لوحده أو بين أهله إذاً لكففت القلم عنه وقلت
إذا تمنيتُ بتُّ الليل مغتبطاً إن المنى رأس أموال المفاليس !
ولكن حلمه هذا تحول إلى فكرة تشغل ذهنه ، ثم سوّلت له نفسه نشرها وتكتيل الأنصار حولها ، فعندها لزم الرد، وإيقاظ الدكتور من نومه.
أما أن فكرته عبارة عن حلم ، فهذا يعرفه كل مسلم، وكل من له عقل، وقد قضى الله (كوناً) هذا الخلاف بين البشر وقدَّره .
يقول سبحانه عن البشر (ولا يزالون مختلفين) .
وليس معنى هذا -كما يتوهم البعض- أن يرضى المسلم بهذا الاختلاف ويقره ولا يحاول تغييره ؛ لأن هذا الأمر مما يحبه الله ولذلك قدره!! .
فهذا قول من لا يفرق بين إرادة الله (الكونية) وإرادته (الشرعية)، -كما هو معتقد أهل السنة-، ويخلط بينهما ، فيظن أن الله إذا قدر وأراد (شيئاً) بإرادته (الكونية) ينبغي للمسلم أن يقر ذلك ويرضاه ، وهذا قول شنيع، يلزم منه أن يقر صاحبه الكفر والمعاصي ويرضى بها، ولا يحاول تغييرها! والله تعالى يقول (ولا يرضى لعباده الكفر) ، مع أنه واقع في الأرض بإرادته سبحانه (الكونية) لا (الشرعية) .
فاختلاف البشر واقع ولا يزال مستمراً ، وقد أراده الله بإرادته (الكونية) التي لا يخرج عنها شيء من المقدَّرات، ولكنه لم يرده (شرعاً)، بل أراد لعباده جميعاً أن يعبدوه ويوحدوه ، والمسلم مطالب بعدم الرضا بهذا الاختلاف ، والسعي لإزالته بما يستطيع، ومحاولة جمعهم على الكتاب والسنة. والله أعلم.
ثم ليت الدكتور حينما خالف هذا الأمر الكوني بحلمه وأمنيته تلك حلم وتمنى بأن يجتمع العالم في دولة (إسلامية) واحدة، تحكم بشريعة الله -سبحانه وتعالى-، وهو حلم كل مسلم.
لكنه لم يفعل هذا ، بل تمنى دولة عالمية واحدة تطعمه من الجوع وتؤمنه من الخوف!! مهما كان دينها أو مذهبها!! كل هذا لا يهم عند الدكتور، مادام ينام هانئاً آمناً ممتلئاً بطنه بالخبز والماء البارد، ونعوذ بالله من دناءة المطلب.
3- الدكتور يدعي أن الغرب المتحضر ترك (العنف) و (الحرب) !
يقول الدكتور: "غدت الحرب موضة قديمة يمارسها المتخلفون، وكل بؤر النزاع والحروب في العالم اليوم هي في معظمها مناطق المتخلفين " !! (المرجع السابق، ص 164) .
قلت : كل متابع للأحداث يعلم بطلان هذا القول ومخالفته للواقع، بل (العنف) و (الحروب) مستمرة ما دام هناك بشر مختلفون ، دون تفريق بين (متحضر) و (متخلف) كما يزعم الدكتور.
وشاهد ذلك من الواقع كثير: فهذه زعيمة التحضر (أمريكا) لا تزال تمارس عنجهيتها وعنفها مع المسلمين ؟ كما حدث في السودان وأفغانستان .
وهذه روسيا تفعل ذلك في الشيشان .
وهذه إسرائيل وهي من الدول المتحضرة عندك بلا شك! لامتلاكها للتكنولوجيا والصناعة المتطورة، غارقة في أوحال الحرب مع العرب بين حين وآخر .
إن قال الدكتور: ما يحدث من روسيا وأمريكا ليست حروباً، إنما هي حملات تأديب ! أو نحو ذلك. أقول له :
هذه التي تسميها (حملات تأديب) أليست هي عنفاً في نظرك؟! هي كذلك بلا شك، وهذا مما ينقض قولك ؛ لأن من مارس (العنف) الجزئي سيمارسه (كلياً) عندما يحتاج إليه ! ويحمى الوطيس.(51/196)
أيضاً: فقل لي -بالله- متى خلت البلاد (المتقدمة) من الحروب؟! أليست الحرب العالمية الثانية لم تضع أوزارها إلا قبل خمسين عامًا تقريباً، فكيف حكمت بهذا الحكم خلال هذه المدة القصيرة ؟ ! ومثل هذه الأحكام لا تبنى إلا خلال قرون.
ثم أقول: لقد غاب عنك، أن هذه الدول المذكورة لم تدع (الحروب) في السنوات الأخيرة نظراً (لتقدمها) أو (لتحضرها) كما تزعم بل ودعتها لأنها تعلم أن حروب اليوم لو وقعت لأكلت الأخضر واليابس، ولأحرقت الجميع بنارها؛ نظراً لتطور الأسلحة ، فسبب تركهم -إن سلمناه لك - هو خوفهم من الموت ومن الهلاك ، ولا علاقة (بالتحضر) في هذا الأمر.
4- (المتقدم) يحل مشاكله بالحوار لا بالعنف ، عند الدكتور!
يقول الدكتور: "العالم اليوم فيه شريحتان: شريحة ودعت الحرب وتحل مشاكلها بالحوار، وشريحة لم تصل إلى هذا المستوى، فتحل مشاكلها بالصدام والسلاح" ! (المرجع السابق، ص144) . (وانظر ص 164 و219 وما بعدها)
قلت: وهذه كذبة أخرى للدكتور يؤيد بها (أحلامه) !
ونحن لم نر هذا الحوار في تعامل أمريكا مع السودان أو أفغانستان !
ولم نره في تعاملها مع العراق !
وهكذا لم نره في تعامل الروس مع الشيشان .
ولا في تعامل اليهود مع المسلمين الفلسطينيين .
5- الصراع بين الناس لا يمكن حله إلا بالسلام !
يقول الدكتور: "هذا الصراع بين الإنسان وأخيه لا يمكن تحويله أو إلغاؤه إلا بالسلام" (المرجع السابق، ص184) وكثيراً ما يردد الدكتور بأن (العنف لا يحل المشكلة) (سيكولوجية العنف ، ص152، وانظر : ص168، 211).
قلت : وهذا ليس على إطلاقه ! بل بعض الصراعات تُحل بالسلام وبالصلح ، وبعضها -وهي الأكثر- لا تحل إلا بالقوة والعنف !! وشاهد هذا من التاريخ القديم والمعاصر كثير لا يخفى على عاقل . فرسول ا صلى الله عليه وسلم وهو قدوتنا لو تعامل بمنهجك هذا مع الكفار لما استجابوا له، ولما خضد شوكتهم ، وكسر هيبتهم، وحل بديارهم .
ولقد أحسن القائل:
دعا المصطفى دهراً بمكة لم يُجب
وقد لان منه جانبٌ وخطابُ
فلما دعا والسيف صلتٌ بكفه
له أسلموا واستسلموا وأنابوا
وهكذا خلفاؤه لو فعلوا ذلك مع الفرس والروم وغيرهم لما ازدادوا إلا ضعفاً وتراجعاً .
------------------------
([1]) ولتعلم صدق هذا : انظر إلى حالة بعد خروجه من هذه البلاد، كيف ينقلب ! (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها).
([2]) نقلاً عن مجلة " الفيصل" (العدد 225، وغلاف كتابه "جدلية القوة والفكر والتاريخ " ، مع إضافات يسيرة.
([3]) !!
([4]) ذكر ابن القيم في الزاد (3/551) : أن هذا كان عند مقدم صلى الله عليه وسلم من تبوك وقال : ((بعض الرواة يهم في هذا ويقول : إنما كان ذلك عند مقدمه إلى المدينة من مكة، وهذا وهم ظاهر؛ لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام)).
([5]) الفتنة : الشرك، ولكن هذا من تحريفات الدكتور للآيات حتى توافق هواه ! _كما سيأتي-.
([6]) سيكولوجية العنف … (ص 123-126).
([7]) وانظر للزيادة : كتاب "الورد المقطوف في وجوب طاعة ولاة أمر المسلمين بالمعروف " للأخ فوزي الأثري، تقديم الشيخ صالح الفوزان.
([8]) قلت: وهذا الافتراء في أن غايات الجهاد اقتصادية تلقفه جلبي من المستشرقين وأذنابهم، الذين نشروا هذه الفكرة الخبيثة محاولين تشويه الجهاد الإسلامي. يقول صاحب كتاب (تاريخ العرب المطول) (ص195): ((لم تكن الحماسة الدينية بل الحاجة الاقتصادية هي التي دفعت بمعاشر البدو الذين تكونت منهم أكثر جيوش الفتح إلى ما وراء تخوم البادية..))! وانظر في الرد عليه: رسالة (افتراءات فيليب حتى وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي) للأستاذ عبد الكريم علي باز (ص 53 وما بعدها) ، وكذا انظر كتاب (افتراءات حول غايات الجهاد) للأستاذ محمد نعيم ياسين.
([9]) يقول الشيخ علي بن نفيع العلياني في أهداف الجهاد في الإسلام : (الهدف الرئيسي هو تعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد، وإزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً) (ص158)، ثم ذكر أهدافاً أخرى .
([10]) العقيدة الطحاوية (ص 387، بتحقيق الألباني) .
([11]) مجلة المنار ( ج 2 م 34 ص141) .
([12]) أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية (ص 371) .
([13]) المرجع السابق (ص 374)
http://66.34.76.88/SuliemanAlkha r ashy/Khalis1.htm
==============(51/197)
(51/198)
فيلسوف القومية ... ( ساطع الحصري )
بسم الله الرحمن الرحيم
هو ساطع بن محمد هلال بن مصطفى الحصري " أبو خلدون " ، ولد في صنعاء من والدين حلبيين في 1297هـ الموافق 1880م ، تعلم في إسطنبول زمن الدولة العثمانية ، فتترك ثم تعرب ! وبقي ضعيفًا في العربية ! . لما انفصلت سوريا عن الحكم العثماني دعته حكومة الملك فيصل بن الحسين " القومية " ليُعين وزيرًا للمعارف ، ولما احتل الفرنسيون سوريا سافر إلى بغداد ليعمل مديرًا لدار الآثار ، ورئيسًا لكلية الحقوق ، ثم أجبر على مغادرة العراق سنة 1941م فعاد إلى سوريا مستشارًا في وزارة المعارف . ثم عهدت إليه جامعة الدول العربية إنشاء معهد الدراسات وإدارته . ألف أكثر من خمسين كتابًا ؛ معظمها في التنظير لفكرة القومية العربية ؛ حتى سمي " فيلسوفها " ، وقد صدرت مجموعة أعماله الكاملة في 3 مجلدات عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت عام 1985م . توفي الحصري عام 1968م .
يُنظر للمزيد عن ترجمته : " الأعلام " للزركلي ( 3/70 ) ، و " دعاة الفكر القومي العربي " لشاكر اليساوي ( ص 9-38) ، و " الجمعيات القومية العربية وموقفها من الإسلام " للدكتور خالد الدبيان ( 1/441-463) ، ومجلة " المستقبل العربي " ( العددان 244و248 مخصصان للحديث عنه ) ، و " ساطع الحصري وفلسفة القومية العربية " لمحمد ناجي عمايره ، ومقدمة أعماله الكاملة .
ويُنظر في الرد عليه وعلى فكرته " القومية الجاهلية " : رسالة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - " نقد القومية العربية " ، ورسالة " فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام " للشيخ صالح العبود ، ورسالة الدكتور الدبيان السابقة .
========================
يقول الأستاذ محمد فاروق الخالدي عن الحصري : ( كان من أبرز دعاة الفكر القومي العلماني الحديث ، ويعتبره القوميون فيلسوف القومية العربية . لقد كان الحصرى هو العقل المفكر لفتنة القومية التي لم يأت منها إلا أننا كنا أمة واحدة هي « أمة صلى الله عليه وسلم » فصرنا جمعية أمم ، وكنا إخوة يجمعنا الحب في ظلال الإيمان ، فصرنا أعداء تفرقنا هذه الدعوة الجاهلية ..
وقد أفسد مناهج سوريا لما دعا بعد الاستقلال لإصلاحها ، إذ كان يُعتبر من السابقين والمربين العرب ، وإن عاش حياته الطويلة ومات وهو لا يحسن العربية لا نطقًا ولا كتابة ! *كان من المشتغلين بالتربية من عام 1908م في تركيا ثم في الشام والعراق » (1) .
- لقد كان فكر الحصرى يمثل جاهلية جديدة ، باسم القومية العربية .
كان يستمد نظريته القومية من النظرية الألمانية ، التي تقول باللغة والتاريخ ، وكان من أكبر أساتذته « ماكس مولو » وماكس نوردو ، وهما فيلسوفان يهوديان ، كانا يقصدان من وراء نظريتيهما إحياء القومية اليهودية(2) .
- ومعلوم أن الحصرى قد ربي في تركيا ، وتلقى في شبابه التربية لدى جيل تركيا الفتاة ذات التوجه الطوراني اليهودي (3) .
- وكان الحصرى قد شغل مراكز هامة في وزارة التربية العثمانية ، وصار وزيرًا للتربية في حكومة الملك فيصل بن الحسين ، ثم عين وزيرًا للتربية في العراق .
- وكان الحصرى معروفًا بولائه للمبشرين ، ويرى أن الرابطة القومية أقوى وأعم من الرابطة الإسلامية ، وأن الوحدة الاسلامية باتت حلمًا وخيالاً .. وأن الدين طارئ على الأمة العربية ، وكان همه بعث أمجاد العرب قبل الإسلام ، بل كان يدعو إلى دراسة الحثيين والآشوريين والآراميين والبابليين والعبرانيين ، ويشرح أمجاد هذه الأمم البائدة « من خلال آثارها » تلك الأمم التي أهلكها الله بكفرها ، ويدعو إلى الفخر بتلك الوثنيات وآلهتها المتمثلة بعبقرية والاختراع (4) .
- كان الحصرى لا يرى إقحام الدين في السياسة ! ويجب - عنده - أن تُفسر النصوص الشرعية وتنفذ حسب ظروف الزمان والمكان ، فالنصوص شيء ، والتفسير شيء آخر ، « وما كان يصلح للناس في القرن الأول لا يصلح لغيرهم في القرن الرابع عشر ، وما يناسبنا اليوم ، نحن معشر العرب ، هو أن نعلق هذه النصوص وغيرها » !! (5) . فالحصرى يدعو إلى علمانية متطرفة ، يشجب فيها خط القرآن ، خط الافتخار بحملة لواء العقيدة ، عقيدة الإيمان بالله تعالى ونبذ الأمم الكافرة المعادية لمنهج الله .. وهي نكسة إلى الجاهلية الأولى ..
- وقد نفذ الحصرى مفاهيمه هذه ، منذ أن استلم وزارة المعارف في عهد فيصل بن الحسين 1918م بدمشق ، وفي العراق طيلة عهد فيصل أيضًا .. وقد استطاع أن يعمم هذا الخط عن طريق الجامعة العربية ، وعمله من خلالها ومن الاتفاقيات الثقافية (6) .
- يعتبر فكر الحصري مرجعًا أساسيًا لدى القوميين العرب فيما بعد ، وتعتبر الحركات القومية الحديثة استمرارًا لهذا الفكر ، وتطبيقًا لهذا الانحراف ، طوال النصف الثاني من القرن العشرين *) اهـ " التيارات الفكرية والعقدية .. " ( ص 139- 141) .
========================/(51/199)
- قلتُ : من أقوال الحصري الدالة على قيامه ببناء فكرته على غير هدى الإسلام ؛ قوله : ( الرابطة الدينية وحدها لا تكفي لتكوين القومية ، كما أن تأثيرها في تسيير السياسة لا يبقى متغلبًا على تأثير اللغة والتاريخ ) " آراء وأحاديث في الوطنية والقومية ، ص 41 " .
ومنها : قوله : ( أما الوحدة الإسلامية فمستحيلة التحقيق ؛ لأنها تضم قوميات مختلفة ) !! " مجلة الرسالة ؛ س 7 م 2 العدد 315 " .
*وقوله : ( إن الرابطة الوطنية والقومية يجب أن تتقدم على الرابطة الدينية ) . " الأعمال الكاملة 2/74 " .
ولذا قال عنه الأستاذ شاكر اليساوي : ( أما علاقة الدين بالقومية فقد كانت في فكر الحصري علمانية ؛ لأن القومية نفسها فكرة علمانية ) . " دعاة الفكر القومي ، ص 17 " . ويؤكد هذا أنه عندما قيل للحصري في إحدى الحفلات المقامة لتكريمه ! : ( مرحبًا بالمناضل الكبير في خدمة العروبة والإسلام ) رد : ( عرب نعم .. إسلام لا .. أنا لاييك ) ! أي علماني أو لاديني . " شخصيات اختلف فيها الرأي ؛ لأنور الجندي ، ص 74 " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ذكريات علي الطنطاوي ، جـ1 ، ص65 - 66 ، دار المنارة للنشر ، جدة ، طبعة ثانية 1409هـ - 1989م .
(2) أخطاء المنهج الغربي الوافد : أنور الجندي ص206 ، دار الكتاب اللبناني عام 1974م .
(3) الفكر العربي في عصر النهضة : ألبرت حوراني ، ص371 ، دار النهار - بيروت ، ترجمة كريم عزقول .
(4) ينظر : الحركات القومية الحديثة في ميزان الإسلام : منير محمد نجيب ، مكتبة المنار بالأردن ، ط : ثانية ، 1403هـ . ص9 - 29
(5) العروبة أولاً : ساطع الحصري، بيروت الطبعة الثانية ، 1955م ، ص106
(6) الحركات القومية الحديثة في ميزان الإسلام ، ص23 - 24 ، بتصرف وإيجاز .
==============(51/200)
(51/201)
من يساعدنى على كشف شخصية سعد زغلول ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
من الشخصيات ذات التاثير على المسلمين خاصة فى مصر والهجوم على مظاهر الاسلام خاصة الحجاب والمساندة والتشجيع لمن تسموا بالتنويريين حتى ظهر لنا امثال قاسم امين .ذاك المسمى بسعد زغلول
فيجب علينا امام شخص كهذا السعد ان نكشف شخصيته ونبين حقيقته ويضم اسمه الى سلسلة كشف الشخصيات فقد فتن به الكثير من الناس حتى اصبح نجم من النجوم وعلم من الاعلام وهو والله داعية ضلال ولا حول ولا قوة الا بالله .فمن من الاحبة سيساعدنى على كشف هذه الشخصية ؟
سعد زغلول كان مدمن للقمار وكان الناس في مصر مفتونين به لدرجة ان شاعت مقولة "لو رشح سعد حجراً لانتخبناه"
ولكن من الانصاف ان نذكر ما قاله عن كتاب الاسلام واصول الحكم وعن كاتبه علي عبد الرازق
"كم "قرأت كثيرا للمستشرقين ولسواهم فما وجدت ممن طعن منهم فى الاسلام حدة كهذه الحدة فى التعبير على نحو ما كتب الشيخ على عبد الرازق لقد عرفت أنه جاهل بقواعد دينة بل بالبسيط من نظرياته والا فكيف يدعى ان الاسلام ليس مدنياً ولا هو بنظام يصلح للحكم"
جزاك الله خيرا على هذه الاضافة يا اخى ولكن الناظر الى انكار سعد يتذكر قول القائل (اتنهى عن قول وتاتى بمثله؟ عار عليك ان فعلت عظيم) اما تاثر الناس بكلامه فهو مخطط لخداع الناس البسطاء وسنبين هذا باذن الله فى المشاركات القادمة
يقول الشيخ سفر الحوالى فى كتاب العلمانية
وقد كان من أهداف أعداء الإسلام ما أوصى به مؤتمر القاهرة التبشيري المنعقد سنة 1906م، من وجوب إنشاء جامعة علمانية على نمط الجامعة الفرنسية لمناهضة الأزهر، والذي قالوا: "إنه يتهدد كنيسة المسيح بالخطر!".
وقد قام الأذيال بتنفيذ المهمة، إذ أنه بعد انتهاء المؤتمر بسنتين -تقريباً- أسس سعد زغلول وأحمد لطفي السيد وزملاؤهم الجامعة المصرية، وكان النص الأول من شروط إنشائها هو: ألا تختص بجنس أو دين، بل تكون لجميع سكان مصر على اختلاف جنسياتهم وأديانهم، فتكون واسطة للألفة بينهم( )
وهذا الشرط الجائر -في جامعة تقوم في بلد مسلم وعلى نفقات شعب مسلم- انعكست آثاره على مناهج التعليم في الجامعة، فلم يكن من بينها شيء من علوم الإسلام احتراماً لمشاعر القلة غير المسلمة، وهكذا كان التعليم الجامعي الحديث علمانياً من البداية، وكان نتاجه تلك الجموع المستعبدة للغرب فكراً وسلوكاً، النافرة من دين آبائها وأجدادها.
ويقول الشيخ محمد قطب فى كتاب واقعنا المعاصر :
كان الهدف الأول للاستعمار هو تحويل حركات الجهاد الإسلامى ضد الاستعمار الصليبى إلى حركات وطنية ، كما فعل سعد زغلول فى مصر وغيره من الزعماء " الوطنيين " على اتساع العالم الإسلامى . والحركة الوطنية تفترق عن حركة الجهاد الإسلامى بادئ ذى بدء فى أنها لا تنظر إلى " العدو " على أنه " صليبى مستعمر " ولكن على أنه " مستعمر " فقط .. وفرق واضح فى درجة العداء وطريقة المجاهدة بين أن يكون العدو منظورا إليه على حقيقته ، وبين أن يكون مغلفا برداء الاستعمار فحسب .
والهدف الثانى هو تحويل حركات الجهاد الإسلامى إلى حركات " سياسية " عن طريق تحويلها إلى حركات وطنية .. فالعدو غير قادر على " التفاهم " مع الحركات الإسلامية : لأنه لا سبيل إلى التفاهم معها فى الحقيقة إلا بإخراج ذلك العدو خارج البلاد ، ومن ثم فلا سبيل إلى استعمال " السياسة " من جانب العدو . أما الحركات الوطنية فالتفاهم معها سهل وممكن ! وعود من المستعمر بالجلاء ، ويأتى الوقت الموعود فيتذرع المستعمر بشتى المعاذير لتأجيل جلائه ، ويعطى وعودا جديدة يعتر عنها بدورها إذا جاء دورها .. والساسة " الوطنيون " يغضبون - أو يتظاهرون بالغضب لإرضاء الجماهير ! - والجماهير تثور ثورة صاخبة - لكنها فارغة - سرعان ما تنطفى بعد الاستماع إلى خطبة رنانة من الزعيم الوطنى يعد فيها بأنه لم يفرط فى شبر من الأرض ، ولم يرضى بغير " الجلاء التام أو الموت الزؤام " ! " " وبين هذا وذاك تجرى " مفاوضات " بن السياسة والاستعمار تنتهى إلى أشياء تافهة يلعب بها الساسة على عقول الجماهير فيوهمونها أنها " مكاسب وطنية " وقد تنتهى إلى غير شئ على الإطلاق ، ومع ذلك يقول زعيم يعتبر من كبار الزعماء الوطنيين فى العالم الإسلامى فى العصر الحديث وهو سعد زغلول : " خسرنا المعاهدة وكسبنا صداقة الإنجليز ! " ويقول " الإنجليز خصوم شرفاء معقولون " !! وهو شئ ما كان يمكن أن يحدث لو بقيت حركة الجهاد الإسلامية كما كانت فى مبدئها ، ولم تتحول إلى حركة وطنية على يد الزعيم الكبير !
دوره فى حركة تحرير المراة
يقول الدكتور محمد قطب فى كتاب واقعنا المعاصر :
أثار كتاب "تحرير المرأة " معارضة عنيفة جعلت قاسم أمين ينزوي في بيته خوفا أو يأسا، ويعزم علي نفض يده من الموضوع كله.
ولكن سعد زغلول شجعه وقال له: أمض في طريقك وسوف أحميك!
وفى الموسوعة الميسرة فى الاديان والمذاهب والاحزاب المعاصرة :(51/202)
ومن دعاة الفكر الاعتزالي الحديث سعد زغلول الذي نادى بنزع الحجاب عن المرأة المصرية وقاسم أمين مؤلف كتاب تحرير المرأة و المرأة الجديدة، ولطفي السيد الذي أطلقوا عليه: " أستاذ الجيل " وطه حسين الذي أسموه "عميد الأدب العربي " وهؤلاء كلهم أفضوا إلى ما قدموا . هذا في البلاد العربية .
وفى نفس الموسوعة :
كتاب تحرير المرأة تأليف قاسم أمين، نشره عام 1899م، بدعم من الشيخ محمد عبده وسعد زغلول، وأحمد لطفي السيد. زعم فيه أن حجاب المرأة السائد ليس من الإسلام، وقال إن الدعوة إلى السفور ليست خروجاً على الدين
• وأول مرحلة للسفور كانت عندما دعا سعد زغلول النساء اللواتي يحضرن خطبه أن يزحن النقاب عن وجوههن. وهو الذي نزع الحجاب عن وجه نور الهدى محمد سلطان التي اشتهرت باسم: هدى شعراوي مكونة الاتحاد النسائي المصري وذلك عند استقباله في الإسكندرية بعد عودته من المنفى. واتبعتها النساء فنزعن الحجاب بعد ذلك.
ويقول الشيخ سفر الحوالي فى كتابه العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة
يؤكد صلة سعد زغلول بالحركة النسائية سكرتيره في كتابه عن حياته، فقد ذكر أن سعداً هو الزعيم الحقيقي للحركة النسائية، مستشهداً بخطابه الذي ألقاه بمناسبة زيارة وفد مختلط من طلبة مدرسة الحقوق الفرنسية لمصر، ومنه:
(إنني من أنصار تحرير المرأة ومن المقتنعين به، لأنه بغير هذا التحرير لا نستطيع بلوغ غايتنا، ويقيني بهذا ليس وليد اليوم بل هو قديم العهد، فقد شاركت منذ أمد بعيد صديقي المرحوم قاسم بك أمين في أفكاره التي ضمنها كتابه الذي أهداه لي -يريد كتاب المرأة الجديدة( ).
صفية زغلول
يقول الشيخ سفر الحوالي فى كتابه العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة
يقول سكرتير سعد زغلول أن زوجة سعد كانت مثقفة ثقافة فرنسية، وأنه كان يمنحها الحرية الكاملة (!) ويبدو من مسيرة زوجة سعد أنها أول زوجة زعيم سياسي عربي -تقريباً- تظهر معه سافرة في المحافل والصور، وتتسمى على الطريقة الغربية صفية زغلول، كما أنها أول من اتخذت بدعة لقب أم المصريين( )
ويذكر الكاتب أن صفية زغلول هي الزعيمة النسائية الحقيقية، لكنها آثرت ألا تظهر ذلك، وأسندت هي وزوجها الأمر إلى هدى شعراوي التي عينها سعد رئيسة لجنة الوفد المركزية للسيدات سعد زغلول( )، على أن سكرتير الزعيم يثبت -دون أن يدري - إدانة الزعيم والحركة النسائية وارتباطها بالاستعمار، وذلك في معرض حديثه عن صديقة سعد منيرة ثابت الملقبة "الفتاة الثائرة" وأول صحفية مصرية، فهو يقول: (كانت الوزارة الزيورية تضطهد الصحافة الوفدية وتغلق جرائدها واحدة بعد الأخرى، ولا تسمح لوفدي بأية رخصة جديدة، وعلى حين فجأة غابت الآنسة منيرة ثابت أياماً عن بيت الأمة، ثم عادت تحمل رخصتين لصحيفتين جديدتين باسم: الأمل ولسبوار أولاهما عربية سياسية أسبوعية، والثانية فرنسية سياسية يومية، وقدمتهما للرئيس (سعد) لتكون رهن تصرفه، أما كيف حصلت على الرخصتين فلا أعرف عنه وإلى اليوم شيئاً).
وفى كتاب العصرانية قنطرة العلمانية للشيخ الخراشى
يقول الشيخ محمد بن إسماعيل- : "المنفذ الفعلي لأفكار قاسم أمين" وذلك بواسطة زوجته صفية التي كانت من أوائل المتحررات.
وفى كتاب : قاسم أمين في كتابه "تحرير المرأة" ودعاة التحرير في هذا العصر للشيخ الخراشى
أما الدكتورة المتحررة آمال السبكي فترى في كتابها (الحركة النسائية في مصر ما بين الثورتين..) (ص 142-143) أن صفية زغلول زوجة سعد زغلول هي أول من نزع الحجاب لما عادت مع زوجها من منفاه.
سعد زغلول بين الوطنية ومعاداة الدين
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة heidgge r
ما الذي ترمون اليه؟
اهو اثبات ان احد اعظم رموز التحرر في مصر لا يستحق مكانته؟
أولاً : التحرر من ماذا يا سيدى الفاضل؟
إذا كان التحرر من الاستعمار فبها ونعمت.
أما إن كان التحرر من شعيرة إسلامية فهنا لنا معه ومع غيره وقفة بل وقفات.
إذا كان هو يبحث عن مكانة وطنية ، فقد حصل عليها ، وأصبح يشار إليه بالبنان ، بل وسيرته مسطرة فى كتب التاريخ ، وللأسف تدرس لأبنائنا فى المدارس على أنه عظيم من العظماء.
والشاهد : أنه قد حصل على المكانة الدنيوية التى يرغب فيها.
أما أن يطعن فى الدين من أجل الحصول على هدف دنيوى ، فهنا تكمن الكارثة.
ألا تتفق معى فى هذا؟
ليس هجوماً على شخص بل حماية للإسلام
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة heidgge r
سعد زغلول شخص عظيم و علمانيته هي فكره اما موضوع الحجاب فهو موضوع مطروح للنقاشدوةما و ليس سببا لمهاجمة شخص بسبب رأيه فيه
كونه يتخذ العلمانية فكراً له ، فهذا شأنه هو ، لن ننكر عليه أى شئ يعتقده. فأمره إلى الله.
أما أن يشكك فى مسألة مقطوع بها دينياً :
أولاً : هو ليس أهلاً للحديث فيها. فهو ليس عالم دين. فلماذا يتدخل ويتكلم فى ما لا يعنيه.
سعد زغلول رجل قانون ،فإن كان هو رجل دين فنحن إذن قضاة.
ثانياً : شرع الإسلام ليس لكل من هب ودب ، وليس لآراء كل أحد. بل هو علم له قواعده وأصوله.(51/203)
ثالثاً : موضوع الحجاب ليس مطروحاً للمناقشة : هذا يا سيدى ليس برلمان ولا مجلس شعب.
وعموماً : ألخص لك مسألة الحجاب :
العلماء - وانتبه جيداً لهذه الكلمة - العلماء اختلفوا فى مسألة تغطية وجه المرأة ما بين قائل بوجوب التغطية ، وبين قائل باستحباب التغطية.
بمعنى أن جميع العلماء قالوا بالتغطية ، ولكن الفرق بينهما - أى بين الفريقين - هو هل التغطية واجبة أم مستحبة.
واتفق جميع العلماء على وجوب التغطية فى زمن الفتنة.
إذن الموضوع منتهى يا سيدى الفاضل.
فهل تشك أننا فى زمن الفتنة؟
ولكن الغريب فى الأمر أن الموضوع أصبح يأخذ أبعاد مختلفة تماماً : كيف؟
أصبح البعد فى مسألة الحجاب الآن : هل تغطى أم تكشف؟
وهنا فارق كبير بين ما يدعون إليه الآن - وما كان يدعو إليه سعد زغلول - وبين ما تحدث فيه علماء المسلمين قديماً وحديثاً.
ملحوظة مهمة انتبه لها جيداً :
عندما يتحدث علماء المسلمين فى مسألة فقهية من عدة قرون وينتهى الحوار فيها ، فكيف يأتى أحد السفهاء الأحداث ومن غير المتخصصين وبعد قرون طويلة ويقول : معلش والله أصل أنا لى رؤية مختلفة.
عندها سنقول له : من أنت؟؟؟؟؟؟؟؟
فقط كل ما نريده ألا يتحدث فىالدين إلا من هو أهل لذاك.
نعم لم تكن رسالة سعد زغلول وامثاله فى سبيل الله ولا تحت راية الاسلام ... وحتى لو كانت دعوته صادقة وثورته فى سبيل الوطن وليست بدافع صناعة مجد شخصى ... ما الذى يميزه كمسلم عن باقى زعماء العالم الملحدين والكفرة والمشركين امثال غاندى وجيفارا وغيرهم .. كل منهم كان زعيما له قضيته وشعبيته وعمل فى سبيل بلده .. جميعهم كانوا اكثر شعبية وانتشارا وشهرة عالمية .. ما الذى اضافه سعد زغلول ومصطفى كامل وغيرهم من الزعماء لرفعة الاسلام .. هو وامثاله كانوا من الكبر والغرور والعجرفة والتعالى على العمل باسم الله وتحت راية الاسلام .. هو وامثاله مكروا بشعوبهم وضللوهم باسم الثورات التحررية وليست الجهادية .. ولا يحيق المكر السىء الا باهله حذفوا لفظ الجهاد من قواميسهم .. وان شاء الله سينكشف لنا اكثر عن حقيقتهم .. ويوما ما ستصبح اعمالهم وثوراتهم كسراب بقيعة .. وستلقى اسمائهم فى مزبلة التاريخ
================(51/204)
(51/205)
إعلان سيد القمنى الاعتزال: خواطر وتساؤلات
د. إبراهيم عوض ـ الدوحة
ظهر للدكتور رفعت سيد أحمد فى مجلة "كتابات" الضوئية بتاريخ 22 تموز 2005م مقالٌ عنوانه "عن سيد القمنى والتهديد بقتله"، وذلك بمناسبة الضجة التى أحدثها سيد القمنى مؤخرا بسبب إعلانه اعتزال الكتابة خوفا من أن تنفذ تهديدها الجماعة الإسلامية التى قال إنها أرسلت له رسالة مشباكية تهدده فيها بالقتل جزاء اجترائه فى كتاباته على الإسلام، وقد لفت انتباهى قولُ الدكتور رفعت عن القمنى: "بين أيدينا اليوم قصة طريفة لواحد ممَّن يسمون أنفسهم بالمفكرين الاسلاميين المستنيرين اسمه سيد القمنى، ويتردد أنه حاصل على درجة الدكتوراه (لا أدرى فى أى فرع، أو فى أى جامعة، ولا متى حصل عليها) خرج علينا برواية شديدة العجب والهزل، ولكنها لا تخلو من طرافة ودلالة، فلقد قال الرجل إنه هُدِّدَ بالقتل من قِبَل تنظيم "القاعدة فى بلاد الرافدين" برسالة جاءته على بريده الالكترونى وأمهلته الرسالة خمسة أيام لكى يعلن التوبة مما كتبه ضد الإسلام فى بعض الصحف والمجلات التى لا تُقرأ مثل "روز اليوسف"، وإنه أخذ التهديد بِجّدّية، ومن ثم فهو قد أصدر بياناً نشرته بعض الصحف ومنها "صوت الأمة" يعلن فيه التوبة والتبرؤ مما كتب طيلة حياته. لقد استوقفتنى هذه القصة التى تناولتها بعض الصحف بحيادية، والبعض الآخر صنع منها حدوتة عما أسموها بـ"الارهاب الظلامى الجديد" وأعادوا اجترار نفس "اللبانة" القديمة السخيفة التى صدعوا رؤوسنا بالحديث عنها رغم أنها وبالشكل الذى يقدمونه غير موجودة، وقد تكون كلها من ألفها الى يائها مفبركة مثل قصة الأخ سيد القمنى!! ومن هذه الصحف كانت المعالجات المبالغ فيها والتى تحمل العديد من التزيد والتطير التى قدمتها صحيفتا "القاهرة" و"الأهالى" يومى 19 و20/7/2005". وأود أن تكون وقفتى هنا عند قول د. رفعت إنه لا يدرى فى أى موضوع ولا من أية جامعة ولا متى حصل القمنى على درجة الدكتوراه، فمن الواضح الذى لا يمكن أن تخطئه العين تشكيكه فى حصول سيد القمنى على هذه الدرجة أصلا، إذ جاءت إشارته إليه بأنه "واحد ممَّن يسمون أنفسهم بالمفكرين الاسلاميين المستنيرين اسمه سيد القمنى، ويتردد أنه حاصل على درجة الدكتوراه". وهى عبارة لها ما وراءها، لأن الدكتور رفعت، فيما أعرف عنه من خلال قراءتى له أو سماعى به، ليس بالشخص الهازل ولا بالذى يلقى الكلام على عواهنه، وبخاصة فى مثل هذا السياق، اللهم إلا إذا كنت قد ضُلِّلْتُ فيما فهمتُ من شخصيته، وهو أمر وارد، وإن كنت أستبعده.
كذلك هل يمكن أن يُقْدِم د. محمد عباس (وهو الذى له من الأعداء الكثيرون ممن ينتظرون منه زَلّةً يوقعونه بها فى شر أعمالهم) على وصف ذلك الشخص نفسه فى مقال له بموقعه على المشباك تحت عنوان عام: "ثَبِّتْ قلبى على دينك"، وعنوان جانبى: "أفاعٍ سامَّةٌ"، بأنه "زوَّر لنفسه شهادة الدكتوراه ليسبق اللقبُ اسْمَه، ... لم يركع لله ركعة ويجاهر بقصص ممارساته للزنا والفجور والمخدرات، ... لا يُجِيدُ إلا الكذب وترديد أقوال المستشرقين، ومع ذلك فإن الدولة أفردت له المجلات والصحف وتولى اليساريون الأشرارُ تلميعَه وتقديمَه كمثقف، وجاءته الأموال من حيث لا ندري ليكتب موسوعات كلها كذب وعفن وطعن في الدين تهلل لها النخبة العفنة"، هل يمكن أن يُقْدِم الدكتور عباس على وصفه بهذه الألفاظ ويشكِّك فى حصوله على الدكتوراه على هذا النحو، وبتلك اللغة القوية، دون أن يكون متأكدا من أنه لم يحصل على دكتوراه ولا يحزنون؟(51/206)
صحيح أن هناك مقالا فى ذات الوقت (ركيكا أبله يقوم على المبالغة الجامحة لواحد لم أسمع به من قبل اسمه عزت أندراوس نشره فى موقع "coptichisto r y" عن القمنى أيضا، وبعنوان مثير يقطر، مثل سائر المقال، كذبا وسما وحقدا لا على الرئيس مبارك وحده بل على مسلمى مصر أجمعين رغم كل ما فعله المسؤولون فى عهد مبارك لإرضاء الأقباط ومجاملتهم، هذا نصه: "قَتْل الكتّاب والصحفيين فى عصر مبارك") يقول فيه صاحبه: "وُلِدَ سيد القمنى في مدينة الواسطى محافظة "بني سويف" عام 1947م، وحاصل على ماجستير في الفلسفة من جامعة عين شمس، ثم حصل أيضاً على درجة الدكتوراه، وله العشرات من الكتب والمؤلفات التي أثارت جدلاً واسعاً في الشرق الأوسط كله هى: "موسى وآخر أيام تل العمارنة"، (3 أجزاء)، و"الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية"، و"النبي إبراهيم والتاريخ المجهول"، و"رب الزمان"، و"حروب دولة الرسول"، وآخر كتبه المنشورة هو "شكراً بن لادن"، كما ينشر مقالاً أسبوعياًّ بمجلة "روز اليوسف"..."، لكن الملاحظ أنه، فى الوقت الذى عَيَّنَ فيه أندراوس الجامعةَ التى يقول إن القمنى أحرز فيها درجة الماجستير (وإن لم يعين الكلية ولا القسم ولا الموضوع الذى كتب فيه رسالته المذكورة)، فإنه لم يفعل شيئا من ذلك عند حديثه عن الدكتوراه التى يقول إنه حصل عليها، إذ كل ما ذكره هو أنه حصل عليها. فهل هذا مجرد مصادفة؟ أم هل هو تعمية مقصودة بغية التلبيس على القارئ المسكين؟ إن الكرة الآن فى ملعب سيد القمنى، ومن ثم فبيده إذا أراد أن يضع حدا لهذا اللغط وذلك الاختلاف، إن لم يكن من أجل تبرئة ساحته والنَّأْى بسمعته عن أن تكون محلا للتشكيك من قِبَل المخالفين أو للمزايدة من جانب المشايعين، فعلى الأقل من أجل تجلية الحقيقة، تلك الحقيقة التى يعلن دائما أنه إنما يتجشم ما يتجشم فى الكتب التى تحمل اسمه من أجل إظهارها! فهل تراه يفعل وينهى هذا الخلاف الذى أذكر أنه قد ثار من قبل منذ وقت غير قريب، ولم يحاول من يومها فى حدود علمى أن يحسمه، مع أن حسمه فى منتهى السهولة، إذ كل ما هو مطلوب منه أن يحدد القسم والكلية والجامعة التى درس فيها وحصل منها على درجة الدكتوراه، والموضوع الذى كتب فيه رسالته، والمشرف الذى كان يدرس على يديه طوال تلك الفترة، والمكتبة الجامعية التى يمكن المتشككين أن يراجعوها ليَرَوْا نسخ الرسالة التى حصل بها على الدرجة المذكورة، والتاريخ الذى تم فيه ذلك، والزملاء الذين كانوا يدرسون معه تحت توجيه المشرف ذاته، ومدى أهلية الجامعة التى حصل منها على الدكتوراه لإعطاء مثل تلك الشهادة إن كان حقًّا وصدقًا قد حصل عليها، ولماذا لم يطبع رسالته حتى الآن يا ترى؟ بل لماذا لا نرى له مؤلَّفا واحدا فى تخصصه، وهو الفلسفة، فى الوقت الذى نرى عدة مؤلفات (عدة مؤلفات لا عشرات فيما أعلم) تحمل اسمه، كلُّها فى الإسلاميات، وهى ليست من تخصصه ولا هو منها فى شىء؟... مما يستطيع أن يجُبّ به عن نفسه الغِيبَة ويُلْقِم المتَّهِمين له حجرا يُسْكِتهم بل يُخْرِسهم، وفى نفس الوقت يريح ضمائر الباحثين عن الحق والحقيقة، ولا شىء غير الحق والحقيقة؟(51/207)
إن الأمر، كما نرى، فى منتهى السهولة واليسر، ولا يحتاج لوقت أو جهد أو بحث أو مال أو أى شىء آخر سوى أن يجيب سيد القمنى على الأسئلة السالفة، وكان الله يحب المحسنين! وبغير ذلك فللقارئ الحق فى تصديق اتهام المتَّهِمين للقمنى بأنه لم يحصل على الدكتوراه على الأقل، وبخاصة أنه من غير المفهوم أن يبقى واحد كسيد القمنى له عشرات المؤلفات كما يزعم أندراوس، الذى يعرف تماما مثلما أعرف أن الكلام ليس عليه ضريبة ولا جمرك ولا جزية، على الأقل لأن المسلمين الآن فى أهون حالاتهم وأذل فترات تاريخهم، فهم لا يستطيعون أن يفرضوا شيئا حتى ولا على قطة جرباء (فما بالكم بإنسان يزعم أن القمنى قد وضع عشرات المؤلفات، لا آحادها فقط كما هو الواقع فى حدود ما أعرف؟ على الأقل هناك عدة كتب تحمل اسمه)، أقول إنه من غير المعقول أن يبقى عبقرى مثله خارج الجامعة دون أن يحاول على أهون تقدير أن يتقدم لشَغْل وظيفة مدرس فى إحدى الجامعات المصرية مادام حاصلا على جواز المرور الذى يخوِّل له العبور من بوابة الجامعة إلى حيث يكون دكتورا فيها بدل بقائه دون شغل ثابت فيما أفهم طوال هذا الوقت، أو على الأقل فى وظيفة أقل مستوى من شهادته وخبرته! والطريف أن سيد القمنى يكتب تحت اسمه فى بعض المواقع أنه "باحث أنثروبولوجى وأستاذ جامعى من مصر". فأما "باحث أنثروبولوجى" فنفوّتها له، لكن متى كان سيادته أستاذا فى الجامعة؟ ليس الأستاذ الجامعى بالتمنى، ولكن ما وقر فى كشوف أعضاء هيئة التدريس، وصدّقه العمل فى المحاضرات وقبض المرتبات، "أو كما قال. ادعوا الله"! ومع هذا فالأمانة تقتضينى أن أذكر هنا الآن، وبعد أن كنت قد فرغت من هذا المقال، أن الأستاذ مجدى عبد اللطيف الصحفى بجريدة "آفاق عربية" قد أخبرنى أن واحدا من بلد سيد القمنى أكد له أنه حاصل فعلا على درجة الدكتوراه، ثم أضاف الصديق الصحفى أنه قد اشتغل فترة فى الجامعة. فإن كان هذا صحيحا لقد اقتربنا إذن من حسم المسألة لصالح سيد القمنى، لكن الوثائق بطبيعة الحال هى الفيصل ما دام هناك على الجانب الآخر من يشكك فى كل هذا. ولا شك أن الرجل سيقدم خدمة كبيرة للتاريخ العلمى فى مصرنا الحبيبة لو أجاب على الأسئلة التى طرحتُها عليه فى هذا المقال والتى خطرت لى من خلال ما قرأتُه فى هذا الموضوع!
ومما له مغزاه فى هذا السبيل أيضا أن الدكتور كمال حبيب، فى مقاله الذى نشره مؤخَّرًا فى موقع "المسلم" بعنوان "المشروع العلماني يعلن فشله في صورة القمنى"، لم يستخدم قط لسيد القمنى لقب "دكتور". لقد جاء على لسان ابنة سيد القمنى فى مقال يحمل اسمها (وإن لم يكن بالضرورة من تأليفها) فى نشرة "سورية الغد" الضوئية عنوانه: "فى مجتمع اللئام، الصمت أبلغ من الكلام: حكاية والدى مع روز اليوسف " أن حبيب قد حاز هزيمة منكرة أمام والدها فى برنامج "الاتجاه المعاكس" بقناة "الجزيرة" القطرية، وهو ما يمكن أن يلقى بشىء من ظلال الريبة على موقف حبيب. بيد أننى (لحسن الحظ، لا أدرى، أو لسوئه!) كنت أحد من شاهدوا هذا السجال بين الرجلين، وأشهد أن حبيب كان مهذبا دمثا غاية الدماثة والتهذيب، ولم يحاول على أى نحو أن ينزل إلى السوقية فيلجأ إلى التراقص والتقصع وتلعيب الحواجب والأذرع كما تصنع النسوان البلدى، بَلْهَ الشماتة الرخيصة بالإسلام والمسلمين، فى الوقت الذى كان كلامه مؤيَّدًا بالحجة الناصعة الدامغة المفحمة، ومن ثم لم يكن بحاجة إلى الزعيق العصبى المتوتر الذى يدل على إفلاس صاحبه وشعوره بالخطر وأنه على شفا جُرُفٍ هارٍ يمكن أن ينهار به فى أى حين فى نار جهنم: جهنم الهزيمة فى "الاتجاه المعاكس" على أقل تقدير، إن لم يكن فى جهنم الحمراء التى نعرفها نحن المؤمنين!(51/208)
قد يقول بعض الناس الطيبين (من أمثالى قبل أن ترينى الحياة بعض عجائبها التى لا تُصَدَّق) أنه من غير المتصور إقدام أحد على تزوير شهادة دكتوراه، لكننى كنت شاهدا فى السنوات الأخيرة على حادثة من هذا النوع بل أشد فجورا، إذ لم يكتف صاحبها بالقول بأنه حاصل على درجة الدكتوراه وكفى، بل قدم لإحدى الجامعات الخليجية شهادة تقول إنه أستاذ مساعد، على حين أنه لم يحصل إلا على الدكتوراه فحسب، ولم يسبق له أن ترقى إلى الدرجة التى تليها. وقد ظل عامين يقبض بكل بجاحة مرتبًا أعلى من المرتب الذى يستحقه دون أن يطرف له جفن، ثم لم يكتف بذلك بل فكر، بعد أن اطمأنّ إلى أنه قد قَرْطَسَ المسؤولين بالجامعة الخليجية المذكورة، فى أن يخطو الخطوة التالية فتَقَدَّم للكلية التى يعمل بها بطلبٍ يعلن فيه عن رغبته فى التقدم لوظيفة "أستاذ" حِتَّةً واحدةً، وأعد لذلك مجموعة من الأبحاث السريعة لا علاقة بينها وبين تخصصه على الإطلاق. وكان من الممكن أن ينجح فى تدليسه هذا أيضا لولا مصادفة عارضة لا مجال هنا للحديث فى تفصيلاتها كشفتْ أمره فاتصلت الجامعة بليبيا حيث كان يشتغل قبل قدومه إليها وتأكدتْ أنه لا يزال مدرسا وأنه لم يسبق له أن ترقى إلى وظيفة "أستاذ مساعد"، وأنه لجأ إلى حيلة خبيثة فى خداع المسؤولين بتلك الجامعة، إذ لعب على الاختلاف فى مسمَّيات الدرجات الجامعية بين الدول العربية، فأوهمهم أن "أستاذ مساعد" الليبية (ومعناها "مدرس") هى هى نفسها "الأستاذ المساعد" فى جامعتهم (وهو اللقب التى يعنى فى ليبيا وفى بعض الدول الأخرى أن صاحبه "أستاذ مشارك"). وقد انتهى أمره إلى الطرد من الجامعة، لكن الأيدى التى تهتم بأمثاله لم تدعه يسقط، بل امتدت فى حنان فانتشلته من الطين وعينته فى الحال، وفى ذات الدولة أيضا، فى وظيفة لا تقل مرتبا عن وظيفته الأولى. وقد كنت فى البداية متعاطفا معه ظنًّا منى أن ما يشيعه فى كل مكان عن اضطهاد بعض زملائه المصريين له ممن كانوا قد سبقونى إلى تلك الجامعة واتهامهم إياه بالإلحاد ظلمًا هو كلام صحيح، وبالذات لأنى كنت أراه حتى بعد معرفتنا بإنهاء الجامعة عقده يمشى فى تؤدة وثقة ورباطة جأش شأن من لم يرتكب مثل هذه الخيانة الخسيسة، أو هكذا كنت أظن بخبرتى الحياتية الضيقة، وإن كان بعض زملائنا ممن يفهمون النفس البشرية أفضل منى كانوا يعلقون على ذلك بقولهم: "مياه مالحة، ووجوه كالحة!"، إلى أن جمعتنى الظروف على انفراد بأحد المسؤولين فى الجامعة، فسألته عن حقيقة الأمر، فأكد لى تأكيدا قاطعا ما حكيته هنا، فسقط الرجل من اعتبارى، إذ أحسست بعد تعاطفى المتسرع معه وكأنه قد خدعنى أنا شخصيًّا قبل أن يخدع الجامعة المذكورة. واسم هذا الزميل، سامحه الله، هو عبد الله إبراهيم، وهو للأسف الشديد من العراق الحبيب بلد البطولة والأبطال والتصدى المُذِلّ لمغول العصر المتوحشين الهمج.
أقول هذا حتى يبادر الزميل المذكور رغم ذلك كله إلى تصحيح ما كتبته هنا إن كان الأمر كما يصوره هو وليس كما يقول الآخرون مما تأكدت بنفسى منه، كما أبادر أيضا على الفور للاعتذار إلى عراق الكرامة ممرّغ أنوف أبناء العم سام فى الأوحال والزفت والقطران وقاهرهم وكاسر شوكتهم ومحطّم أسطورتهم وجاعل الذى لا يشترى يتفرج على خيبتهم القوية والذى ستكون هزيمتهم على أيدى أبطاله بمشيئة الله سببا فى انهيار أمريكا واندحار إمبراطوريتها الشيطانية! ولقد جعلتنى هذه الحادثة أعيد النظر فيما صنعه الإنجليز معى فى المجلس الثقافى البريطانى بالقاهرة حين تقدمت منذ عدة أعوام بطلب لتوثيق شهادة الدكتوراه التى أحرزْتُها من جامعة أوكسفورد، إذ ضاق صدرى ضيقا كبيرا حين أخبرونى أن الأمر سيستغرق عدة أيام قبل توثيق الشهادة لأنهم سوف يرجعون إلى جامعة أوكسفورد لسؤالهم فى الأمر، وكان ظنى أنهم سوف يوثِّقونها فى الحال اعتمادا على خاتم الجامعة الذى لم أكن أظن أن بإمكان أحد الشك فيه، ولم أقتنع بقولهم إنهم قد اكتشفوا أن بعض الأشخاص يزوِّرون أمثال هذا الخاتم. ولكن ها هو ذا أحد الدكاترة المحترمين يصنع ما هو أشنع من هذا وأضلّ سبيلا! ومن يدرى؟ فقد يكتشف أحدهم يوما أن الدكتوراه التى معه مضروبة هى أيضا. ولم لا؟ ألم يُقْدِم ببرودة قلب على تزوير درجته الجامعية؟ ترى هل هناك فرق؟ ألا يمكن أن يكون قد خدع الليبيين من قبل كما خدع القطريين فيما بعد؟ إننى، على المستوى شخصى، أميل إلى استبعاد ذلك رغم ما ظهر لى من أمره، لكن الأيام، كما تَعَلَّمْنا منها هى نفسها، قادرة على أن تذهلنا بين الحين والحين بما فى جَعْبَتها مما تتفوق به حتى على أكثر المؤلفين شطحات خيال! ومما تقدم يرى القارئ كيف أن الباحث سوف يظل حيران مبلبلا فى مسألة سيد القمنى ما لم يتقدم الرجل بما يدل على صدق دعاواه هو ومحبيه ومشجعيه وأن ما يشيعه عنه خصومه كَذِبٌ مائةً فى المائة. ولسوف يستحق حينئذ شكر الباحثين لاهتمامه بتجلية هذه القضية الشائكة ووضعه إياهم على المحجّة البيضاء التى ليلها كنهارها والتى لا يزيغ عنها إلا هالك، وهو ما لا نريد له ولا لنا أن نكونه!(51/209)
لكن المسألة التى لا يمكن حسمها تماما وإلى غير رجعة ولا مَثْنَوِيّة هى طبيعة الإعلان الذى أذاعه سيد القمنى عن نيته فى اعتزال الكتابة: ترى هل أعلن الرجل ذلك بعد أن تبين له أنه كان على خطإ فيما كتبه عن دين الله فأراد أن يبين للقراء أنه قد كان على ضلال فيما كتب عن سيد الأنبياء ودينه، وها هو ذا الآن يتوب عما جنت يداه؟ لقد قرأت مثلا لكاتب من كتّاب صحيفة "آفاق عربية"، هو الأستاذ عامر شماخ فى عدد الخميس 28 يونيه 3005م تحت عنوان "القمنى يفضح العلمانيين"، حديثه عن سيد القمنى على أساس أنه قد تاب فعلا توبةً نصوحًا وأن هذا هو السبب فى أن عشرات الضالين والملاحدة ممن يعادون الإسلام قد هاجموه هجوما شرسًا، ومن ثم رأينا الأستاذ شماخ يدعو سيد القمنى إلى الثبات فى توبته وألا يبالى بما يقول هؤلاء فى حقه. لكنى حين ذكرت هذا الرأى لبعض من خاطبونى فى الموضوع لم يأخذوا تفسير الأستاذ شماخ مأخذ الموافقة، بل استبعدوه على الفور وبقوة. أم ترى القمنى فعل ما فعل سعيًا لإحداث ضجة من أجل غرض فى نفس يعقوب، أىْ غرض فى نفس سيّدٍ ذاته؟ لكن ما هذا الغرض؟ أهو، كما جاء فى كلام بعض الكُتّاب، الترويج لكتبه التى لا يقرؤها أحد كما قالوا، وهى حيلة يلجأ إليها بعض الكتاب الذين يهاجمون الدين فكانوا، فيما قرأنا، يتفقون مع أمثالهم على أن يتهموهم فى الصحف بأنهم ملاحدة وأن الكتاب الفلانى أو العلانى فيه وفيه وفيه مما يتناقض مع دين الله الحنيف ويسىء له حتى يثيروا الرأى العام ويلفتوا إليهم وإلى كتبهم الأنظار؟ وممن شككوا فى الأمر كله، فيما أذكر، الأستاذ مجدى محرم، الذى أكد وقتها فى تعليق له بجريدة "شباب مصر" الضوئية أن القمنى سوف يلحس كلامه بعد قليل ويعود إلى الكتابة كرة أخرى حين تؤتى الضجة التى أراد إحداثها أُكُلَها فى تنبيه الناس إليه من جديد بعد أن انزلق إلى عالم النسيان. لقد كانت حجة فريق من أصحاب هذا التفسير أنهم لاحظوا على الفور قيام المكتبات التى تنشر للقمنى أو توزع كتبه بالإعلان عن تلك الكتب التى صرّح هو نفسه بتبرؤه منها! وهذه، فى الواقع، ملاحظة مهمة! أم ترى الغرض من وراء ذلك هو التشنيع على المسلمين جريا وراء البدعة الشيطانية الجهنمية السائدة فى العالم الغربى هذه الأيام والتى يتبناها فريق آبقٌ مجرمٌ ممن ينتمون لهذه الأمة مَيْنًا وزُورًا وتصويرهم إياهم هم بصورة المتوحشين الذين لا يطيقون أن يسمعوا رأيا مخالفا، وذلك بغية التغطية على الجرائم البشعة التى ترتكبها أمريكا فى حقنا نحن المسلمين والتى لن يكون المسلمون "بنى آدمين" حقيقيين إذا غفروها لأمريكا وللغرب كله، تلك الجرائم التى يُنْزِلها بنا الغرب منذ قرون دون أن تكون استجابتنا لها على المستوى الذى يليق بأمة حية كريمة عندها نخوة ودم حار يجرى فى عروقها لا ماء مثلج يتلكأ خلالها، وهى جرائم من شأنها أن تحرّك الجماد وتخلق فيه الإحساس والثورة، فما بالنا بالبشر الذين يتحولون، على العكس من ذلك للأسف، إلى جمادات بل إلى جثث هامدة بل متحللة تطيرها هبات النسيم الخفيفة ذراتٍ فى الهواء؟ وفى هذه الحالة فإن الرسالة التى يقول سيد القمنى إنه قد تلقاها على المشباك لن يكون لها أى أساس من الصحة. أم ترى للرسالة وجود حقيقى، لكن مرسلها ليس إلا شخصا عابثا أراد أن يداعب سيد القمنى مداعبة سخيفة كما خمّن أحد الكتاب؟(51/210)
كلّ ذلك علمه عند الله، الذى لا تخفى عليه خافية من الوقائع الظاهرة أو النيات المستكنة فى الصدور أو المؤامرات المَحِيكَة التى لا تريد أبدا مهما طال الزمن أن تترك المسلمين فى حالهم رغم المستنقع المنتن الذى انغرسنا وانغرزنا فيه والهوان الذى يحاصرنا من كل جانب، اللهم إلا الجانب الذى يقف على ثغره أبطال فلسطين والعراق وأفغانستان ممن لم يَبْلُهم الله بتحول دمائهم كما تحولت دماؤنا نحن إلى ماء ثلجى! يا أمة المسلمين، ما الذى جرى حتى أصبحتِ بهذا التنطع وتلك البلادة والاستكانة لسكين الجزار الغربى والأمريكى بالذات؟ أوقد فَقَدْتِ صلاحيتَك للحياة؟ فلِمَ لا تُقِرّّين بذلك إذن وتعلنين على العالم أنك خرجتِ من التاريخ وتقولين لأمريكا إنك لا تريدين بعد اليوم أن يكون لك أية صلة بمحمد ودينه وتاريخه، على الأقل حتى تتركك أمريكا فى حالك ما دمت ستتحولين إلى أمة من العبيد والإماء بدلا من زنوجها الذين شعروا بأنهم لا يقلّون عن البِيض فى شىء فثاروا لكرامتهم وتمردوا على قيودهم إلى أن أصبح من بينهم عدد من كبار المسؤولين فيها هى نفسها؟ إياك أيتها الأمة الكاذبة الخاطئة أن تزعمى أن السبب فيما أنت فيه هو حكامك! إن هؤلاء الحكام ما هم إلا جزء منك، فيهم ما فيك من حسنات وعيوب. ثم إنك أنت التى صنعتِهم وألَّهْتِهم، ولم يكونوا ليتجبروا عليك ويذيقوك ما تَشْكِين منه كذبا من إذلال ومرمطة لولا أنك على الأقل قد رَضِيتِ بما يصبّونه على دماغك من إهانة واستبداد! والله لو أن ملاكا من ملائكة البشر الأطهار تولى حكم أى بلد مسلم ثم رأى منك هذا الهوان والنفاق والجبن لاستحال فى الحال إلى جبار من أعتى الجبارين، فهذه هى طبائع البشر! إن المال السائب، كما تقولين، يعلّم السرقة، وقياسا عليه فإن الشعوب الذليلة تعلّم ولاة أمورها الاستبداد والغشم والأذى والتجبر على خلق الله المنافقين التافهين البلداء. هل هناك أحد من البشر الذين نعرفهم أو ممن لا نعرفهم يجد تدليلا ثم لا يتدلل ويمدّ قدميه فى وجوهِ بل فى عيونِ عبادِ الله؟ هاتوه لى، وأنا أصدِّقكم وأرجع عن رأيى. لهذا فإنى لم أعد أَحْمِل على الحكام بقدر ما أُحَمّل الأمة المسؤولية، إذ فَرَّطَتْ فى حقوقها، فلم يعد لها الحق فى أن تشكو من حرمانها هذه الحقوق. ثم إن السماء والأرض لا تبكيان على أحد ما دام هذا الأحد لا يبكى على حاله! وانتظرى إذن يا أمتى الذبح والإبادة من أمريكا، وفُضِّيها سيرةً من الآن، وأريحى الآذان من هذه الشكاوى التعيسة المتهافتة الضارعة الذليلة التى لا تصدر من القلب بل تلوكها الشفاه لَوْكًا متبلِّدًا كريهًا إلى أن تصبحى خبرا من أخبار التاريخ الغابر لا يثير حتى المصمصة من الشفاه لأن أصحابه لم يكونوا يستحقون أى قدر من الشفقة، ونحن معك بطبيعة الحال يصدق علينا ما يصدق عليك. ذلك أننا بَضْعَةٌ منك، ولسنا أفضل من غيرنا فتيلا!
على كل حال لا أحب أن أهمل هذه الفرصة لأُورِد نص ما قاله الأستاذ شماخ لتميزه عن سائر الآراء كما ألمحتُ. قال: "عشرات من سيوف العلمانيين سُلَّتْ علي رفيق الأمس سيد القمني، ونسي هؤلاء أنه كان منذ يوم أو يومين سيدهم وحبرهم ورأس الحربة فيهم، فلما تاب اعتبروه خائنًا جبانًا, وهذا منطق العلمانيين -كاليهود، جهلاء، يعبدون مصالحهم، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتي.
التوبة التي أعلنها القمني سببت صدمة عنيفة لهؤلاء الضالين. تلحظ ذلك فيما كتبته مجلاتهم وصحفهم, وهذا يدفعنا إلي ترجيح الرأي الذي يقول إن توبة القمني حقيقية وإنه بالفعل قد برئ مما قدم, وعاد إلي دينه وربه, وليس كما قالوا إنه أعلن توبته جبنًا وخوفًا من مضمون الرسالة التي تلقاها من إحدي المنظمات (الجهادية), خاصة أن «روز اليوسف» أكدت أنه تلقي تهديدات مماثلة من قبل... لكنه لم يتخذ قرارًا بالتراجع مثل قراره هذه المرة. ونحن لا نستغرب أن يعود علماني أو ملحد إلي ربه, بل إن هناك شواهد عدة لكتاب كبار كانوا رءوسًا للكفر والزندقة, وصاروا الآن أعمدة هدي ومفكرين مرموقين, وبالتالي لا نستغرب أن يعود القمني إلي الحق, وبنفس شجاعته وحماسه في الباطل. والمتأمل لبيان توبته لا يشك لحظة أنه صادق, بخلاف ما يدعيه بعضهم من أن هناك خلافًا بينه وبين رئيس تحرير روز اليوسف الجديد, فإنه قد انقطع عن الكتابة -حسب بيان روزا- قبل التغييرات الصحفية بأسبوعين, كما أن الكتابة في المجلات والصحف تعد جزءًا من نشاطه الفكري الذي يتوزع علي الفضائيات وتأليف الكتب والمساجلات والفعاليات الفكرية. يقول القمني في بيان توبته: «إنني أعلن براءة صحيحة من كل ما سبق وكتبته, ولم أكن أظنه كفرًا, فإذا به يُفهم كذلك. لذلك أعلن توبتي وبراءتي من كل الكفريات التي كتبتها في مجلة روزا اليوسف وغيرها براءة تامة صادقة يؤكدها عزمي علي اعتزال الكتابة نهائيًا من تاريخ نشر هذا البيان».(51/211)
العلمانيون كانوا يتمنون أن يظل القمني علي فكره المتطرف لأن في ذلك رواجًا لسلعهم البائرة ودعمًا لمصالحهم, لكن الله أخزاهم وفضح سرهم, ولمن أراد أن يعرف من هم العلمانيون فليعد قراءة بيان القمني الذي وصف ما كان يكتبه بالكفر, وهذا يضعنا أمام واقع لابد من مواجهته, فإن مرابط الخيل من صحف ومؤسسات حكومية مخصصة للشيوعيين والملاحدة, آن الأوان لتخليصها من هؤلاء الأبالسة الذين يحاربون الإسلام وأهله, ويشككون في دينه ورسالاته مستخدمين وسائل التضليل وأساليب الخداع كالذي يضع السم في العسل, كما آن الأوان كي يحترم النظام معتقدات الناس ودينهم, فلا يقدم هؤلاء الفساق ويجعلهم قادة المجتمع ورموزه, ويؤخر المسلمين الموحدين.
وللمهتدي سيد القمني نقول: اصبر فإن وعد الله حق, ولا تيأس من رَوْح الله, فإن الإسلام يجُبّ ما قبله, وكُنْ كعُمَر, فما أقعده ما فعله في الجاهلية عن الذود عن الإسلام وحب الله ورسوله, فرزقه الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة, ولا تلتفت إلي الجاهلين الملحدين فإنما هم سدنة الشيطان وعبدته. اللهم إن كان صادقًا -وأنت تعلم ذلك منه- فثبته وارزقه اليقين والحجة, واجعله يا ربنا لسان صدق واختم له بخير. اللهم آمين".
وقد انقسم التيار الذى على شاكلة القمنى فى أفكاره وكتاباته (على شاكلته على الأقل قبل أن يعلن اعتزاله الكتابة وندمه على ما فَرَط منه) فريقين: فريق يثنى عليه ويجد له العذر فيما أعلنه من انتواء التوقف عن الكتابة نهائيا، وربما كذلك فى التفكير فى اللجوء إلى دولة غربية حسبما قرأت فى أحد المقالات، ويشنّ على مناوئيه هجومًا طاغيًا يبدو وكأنه كان مدبَّرًا بلَيْل، لكنه ينتظر فقط المناسبة لكى ينطلق مجلجلاً بل هادرًا مصمًّا، وفريق آخر ينتقده ناعتًا إياه بأنه بئس المفكر الجبان، ويمثلهم الدكتور شاكر النابلسى، الذى كتب فى موقع "إيلاف" بتاريخ 17 يوليه 2005م تحت عنوان: "سيّد القمني: بئس المفكر الجبان أنت!" ما يلى:
"1- الساقط في بئر الخوف
قال الباحث والكاتب المصري سيّد القمني ، عبر مكالمة هاتفية تلقتها منه (إيلاف،16/7/2005)، أنه قرر التوقف عن الكتابة والحديث لوسائل الإعلام والنشر في الصحف، والمشاركة في الندوات. ليس هذا فحسب، بل و أعلن "براءته" من كل ما سبق له نشره من كتب ومقالات وبحوث، قائلاً إنه تلقى تهديدات جدية بقتله إذا لم يقدم على هذه الخطوة، ولأنه "ليس راغباً في الموت بهذه الطريقة"، فقد قرر الامتثال للتهديدات التي تلقاها عبر عدة رسائل في بريده الإليكتروني، ومن هنا فقد قرر أن يتوقف عن الكتابة والإدلاء بأية تصريحات صحافية، ويرجو الذين هددوه أن يقبلوا موقفه، ويعدلوا عن تهديدهم إياه.
2- المفكر الجبان
بمرارة وحسرة وألم شديد، نقول أنه كان بودنا، وكنا نرحب، بأن يتخلّى سيّد القمني عن افكاره السابقة عن قناعة شخصية ومعطيات فكرية جديدة تثبت لنا وله أنه كان على خطأ، لا أن يكون هذا التراجع وهذه "التوبة" تحت ضغط وتهديد الجماعات الأصولية الإرهابية. والتراجع والمراجعة الفكرية عن قناعة ونتيجة لفكر جديد وتصوّر جديد، عمل محمود ومشروع وخطوة مباركة. وعبد الخالق حسين سبق وساق عدة أمثلة على ضرورة التغير الفكري. حيث لا يتغير إلا الحجر الذي هو بدوره يتغير أيضاً بفعل عوامل الطبيعة. فالفيلسوف الألماني نيتشه يقول: "الحية التي لا تغيِّر جلدها تهلك، وكذلك البشر الذين لا يغيِّرون أفكارهم يهلكون." والفيلسوف البريطاني برتراند راسل يقول: " أنا لست مستعداً أن أموت في سبيل أفكاري لأنها قد تتغير." (يا ليت القمني غيرّ أفكاره لأنها تغيرت من ذاتها فعلاً، لا لأنه تحت تهديد الإرهاب الأصولي، لكنا رفعنا له القبعة تبجيلاً). والمفكر الاجتماعي العراقي علي الوردي يقول : "الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام. والذي يريد أن يبقى على آرائه العتيقة هو كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شداد".
3- سيّد القمني: بئس المفكر الجبان أنت(51/212)
سيّد القمني: لقد كنت مثالاً للمفكر الجبان، وتركت لدى الإرهابيين الأصوليين المجرمين انطباعاً كاذباً، بأنهم انتصروا على الليبراليين، ولو شددوا علينا التهديد فمن الممكن أن نتخلّى عن أفكارنا وآرائنا كما تخلّيت أنت جبناً وضعفاً وحباً في الحياة. وهذا من حقك الشخصي ومن حق عائلتك وأطفالك عليك. ولكنك بهذا نصرت الإرهاب الأصولي على الفكر العقلاني الشجاع بتصرفك هذا. لقد انتصر الإرهاب على التنوير. انتصرت الغوغاء على الفكر العربي الحر. ولكن لا بأس، فلست أول وآخر من تخلّى عن أفكاره في مصر المحروسة، تحت التهديد والوعيد الغوغائي من خفافيش الظلام، ومن كارهي التنوير، وأعداء المستقبل من السلفيين الارهابيين. الشيخ علي عبد الرازق صاحب الكتاب القنبلة المدوية ( الإسلام وأصول الحكم، 1924) الذي قطع فيه، أن لا دولة في الإسلام، قال محمد عمارة بأن عبد الرازق قد ندم على كتابة هذا الكتاب. وأن ابنه (محمد علي عبد الرازق) قد شهد أمام محمد عمارة بأن أباه كان قد قرر قبل موته 1970 أن يكتب كتاباً ينكر فيه كل ما جاء في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) ولكن الموت لم يمهله. وهذا مثال على "عقدة الذنب الدينية" التي تميّز بها الفكر المصري في القرن العشرين. كذلك فعل طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي، 1926) حين استجاب لتهديد الغوغاء من الإرهابيين السلفيين، وألغى فصلاً كاملاً من كتابه التنويري، وأعاد نشره من جديد تحت اسم (الأدب الجاهلي). وكتب بعدها مجموعة من الكتب الدينية: (الفتنة الكبرى)، (علي وبنوه)، (على هامش السيرة)، و( في مرآة الإسلام) .. الخ. تكفيراً عن "ذنبه" وإرضاءً للغوغاء وتخلصاً من شرورهم كما فعل الآن سيّد القمني. وهذا مثال ثانٍ لـ "عقدة الذنب الدينية" التي تميّز بها الفكر المصري في القرن العشرين. كذلك فعل الشيخ خالد محمد خالد حين أصدر كتابه (الدولة في الإسلام، 1981) واعتبر ذلك مراجعات وليس تراجعات، عمّا كتبه من انكار للدولة الدينية في كتابه التنويري (من هنا نبدأ ،1950) تحت تهديد الجماعات الإسلامية التي قتلت السادات 1981، وهو نفس عام صدور (الدولة في الإسلام)، كما كان مثالا ثالثاً على "عقدة الذنب الدينية" التي تميّز بها الفكر المصري في القرن العشرين. وكنت أنت يا سيّد الرابع في هذه القائمة للأسف الشديد، ولن تكون الأخير في مصر، في ظني واعتقادي نتيجة لتحكم "عقدة الذنب الدينية" في الفكر المصري.
4- سيّد: لست وحدك
هل تعتقد يا سيّد بأنك أنت الوحيد، الذي يتلقى تهديدات بالقتل والسحل كل يوم. كلنا نحن معشر المفكرين الليبراليين، نتلقى كل يوم مثل هذه التهديدات. بل انهم حاولوا قتلنا فلم نخبر ولم نكتب ولم نخف ولم نتراجع. وأنا أكشف هنا سراً لأول مرة. لقد سبق للارهابيين أن كسّروا لي بيتي ليلاً على مدار يومين كاملين 3- 4/7/2003، واضطررت أن أرحل منه إلى بيت آخر. والبوليس الأمريكي في دينفر لديه سجل كامل بهذه الحادثة. وقد سبق وهُدد من قبلنا طوابير من المفكرين الليبراليين، فلم ينثنوا، ولم يخافوا، ولم يجزعوا، واستمروا في رسالتهم حتى النهاية. فرج فودة المفكر المصري، لم يتخلَّ عن أفكاره، وقضى نحبه شهيداً للفكر الليبرالي على يد الإرهابيين السلفيين.
حسين مروة المفكر اللبناني، لم يتخلَّ عن أفكاره، وقضى نحبه شهيداً للفكر الليبرالي على يد الإرهابيين السلفيين. مهدي عامل المفكر اللبناني، لم يتخلَّ عن أفكاره وقضى نحبه شهيداً للفكر الليبرالي على يد الإرهابيين السلفيين. محمود طه المفكر السوداني، علّقه حسن الترابي على مشنقة جعفر النميري (أمير المؤمنين)، ولم يتخلَّ عن أفكاره. صادق جلال العظم المفكر السوري، لم يتخلَّ عن أفكاره، ولم ينكر ما كتبه في (نقد الفكر الديني)، ولم يستجب لتهديد الإرهابيين السلفيين.
أحمد البغدادي المفكر الليبرالي الكويتي، لم يتخلَّ عن أفكار في (تجديد الفكر الديني) وسُجن وعوقب من قبل الإرهابيين السلفيين. العفيف الأخضر المفكر التونسي الليبرالي، لم يتخلَّ عن أفكاره، وطُرد من جريدة "الحياة"، وكاد أن يموت جوعاً ومرضاً، ويتعرض كل يوم للتهديد حتى الآن على يد الإرهابيين السلفيين ، وكان آخر تهديد جاءه من راشد الغنوشي زعيم "حركة النهضة" التونسية.
نصر حامد أبو زيد المفكر الليبرالي المصري، لم يتخلَّ عن أفكاره وكتبه، وهرب من مصر إلى هولندا، خوفاً من تهديد الإرهابيين الأصوليين بتطبيق الحسبة عليه وعلى زوجته.
5- لماذا لا تكون شهيداً يا سيّد؟
لماذا لا تسير يا سيّد على خطى شهداء الفكر والرأي الحر كأبي ذر الغفاري، وابن المقفع، والجعد بن درهم، وغيلان الدمشقي، والسهروردي الإشراقي، وفرج فودة، وحسين مروة، ومهدي عامل، ومحمود طه، وأحمد البغدادي وغيرهم؟ لماذا أعدت سيرة المتراجعين عن أفكارهم التائبين عن قيمهم الليبرالية من المصريين، كعلي عبد الرازق، وطه حسين، وخالد محمد خالد، ومحمد عمارة وغيرهم؟(51/213)
كلنا يا سيّد نطلب الشهادة في سبيل فكر الحرية الآن، في هذا الزمن المالح التعيس، وفي مدن الملح القاحلة من الحرية والديمقراطية والكرامة التي نعيش فيها؟
كلنا ينتظر الساعة التي يقطع فيها الإرهابيون السلفيون رؤوسنا جزّاً كالشياه ، كما سبق أن جزَّ الوالي خالد القسري في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك رأس الجعد بن درهم صباح عيد الأضحى في أسفل منبر المسجد. أو الشواء في الفرن كما شوى الخليفة المنصور ابن المقفع. أو الذبح كما ذبح الملك الظاهر الأيوبي (ابن صلاح الدين الأيوبي) الفيلسوف الإشراقي السَّهْرُوَرْدِيّ في حلب. أو التعليق شنقاً على بوابة المدينة كما تمَّ تعليق غيلان الدمشقي. أو الموت في الصحراء جوعاً وعطشاً كما مات أبو ذر الغفاري في "الربذة" قرب المدينة المنورة، حين سجنه الخليفة عثمان بن عفان. كيف لنا أن نبني عصر النهضة دون هذه الشهادة، يا سيّد؟ كيف لفجر التنوير العربي أن يبزغ دون دماء المفكرين الليبراليين فداءً له، يا سيّد؟ فلننظر الى شهداء الفكر في أوروبا الذين فجروا عصر التنوير الأوروبي ماذا فعلوا، يا سيّد؟
6- العرب الآن في القرن الثامن عشر
يعيش العرب الآن في القرن الثامن عشر الذي عاشته أوروبا، ولكن بوجهه القبيح المظلم، وليس بوجهه الجميل المنير المشرق. فهذا القرن الذي كان عصر التنوير الأوروبي، لم يكُ طريقاً ثقافياً مفروشاً بالحرير والزهور، بل كان طريقاً شاقاً دفع فيه فلاسفته ومفكروه حياتهم ثمناً غالياً. ولا بُدَّ أن نعلم أن عدم استمرارية عصر السحرة والمشعوذين والدراويش وتكاياهم وزواياهم في أوروبا في القرن الثامن عشر (وهو العصر العربي الآن، حيث يصرف العرب مليارات الدولارات سنوياً على السحر والشعوذة) وسيادة عصر العلم والعقل، جاء نتيجة للتضحية الكبرى والمقاومة العنيفة التي أبداها رجال الفكر والعقل في عصر النهضة. فلم تكن أنوار عصر النهضة كلها أنواراً بهية مُرحباً بها. ولم تكن طرقات ومعارج هذه النهضة مفروشة بالحرير وفرو السمّور الذي كان يتدثر به شيوخ الإسلام في العهد العثماني، بل تخلل عصر النهضة هذه، دماء أُريقت، ومجازر نُصبت، وأبرياء قُتلت، وفرسان فكر سُحقت، وكل هؤلاء كانوا فداءً لعصر العقل المنير. صحيح أن الكنيسة في القرن الثامن عشر، كفّت يدها عن حرق المفكرين وشوائهم على السفود (السيخ) كما فعلت في الماضي مع جاليلو وسافونارلاو، إلا أنها لم تكُ متهاونة مع المفكرين والفلاسفة. فظلت تلاحقهم من حين لآخر (كما يفعل الأزهر الآن) وتقوم بحرق كتبهم ومصادرتها ومنع تداولها. فكانت كتب فولتير وروسو وديدرو وهلفتيوس ودولباخ وغيرهم، من أحرار الفكر في قائمة الكتب المحرمة التي لا يُسمح بقراءتها إلا بإذن من البابا نفسه (ول ديورانت، قصة الحضارة، جزء40، ص 170). ولم يقتصر الاعتداء على حرية الفكر من قبل الكنيسة والدولة، ولكن تعداه إلى المجتمع نفسه الذي كانت بعض فئاته تناصب حرية الفكر والمفكرين الأحرار العداء. ففي انجلترا اشتد الهجوم على العالم بريستلي (1733-1804) لتأييده الثورة الفرنسية. فأحرق الرعاع الانجليز بيته في برمنجهام وكسّروا مختبره، وظلوا يجوبون الشوارع ثلاثة أيام، وهم يقسمون أنهم سيقتلونه، ويقتلوا كافة الفلاسفة. إلى درجة أن أهالى برمنجهام علقوا على أبواب بيوتهم خوفاً ورعباً من الإرهابيين لافتة تقول: "لا يوجد لدينا فلاسفة"(ول ديورانت، قصة الحضارة، جزء 35، 91). وأحرقت الكنيسة في روما العالم الايطالي برونو على سيخ الشواء في العام 1600 عقاباً له على أفكاره التي كانت ضد تعاليم الكنيسة. وحاكمت الكنيسة في روما العالم الايطالي الفلكي جاليلو، وطلبت منه التخلّي عن أفكاره وسجنته وعذبته إلى أن أُصيب بالعمى. وسجن الملك هنري الثامن المفكر والفيلسوف الانجليزي توماس مور (1478-1535) صاحب الكتاب المشهور (المدينة الفاضلة Utopia ( ثم أعدمه وعلق رأسه فوق جسر لندن،. وقتل الرعاع الفرنسيون الفيلسوف الفرنسي بيير راموس (1515-1572) في بيته رمياً بالرصاص، ثم ألقوا بجثته من نافذة مكتبه بالدور الخامس في باريس، حيث جرّها خصومه من الطلبة وألقوا بها في نهر السين، ثم أخرجه فريق آخر من النهر، وقطعوه إرباً إرباً ( ج. د. برنال، موجز العلم في التاريخ، ص90). وأعدمت محاكم التفتيش المئات من المثقفات وأحرقت الكنيسة 13 رجلاً وامرأة دفعة واحدة بتهمة الزندقة في مدينة مودينا الايطالية ، وهي التهمة الموجهة الآن لسيّد القمني، والتي قرر على إثرها الاستسلام للأصوليين الارهابيين للأسف الشديد، والسقوط في بئر الصمت والخوف، معلناً توبته عن الفكر الليبرالي وقيمه، على النحو الذي جاء في الخبر السابق".(51/214)
وبعد قراءتنا لهذا المقال لا بد لنا من وقفة نتأمل فيها بعض ما ورد به من أفكار وآراء: فأما أن المفكر ينبغى أن يتمسك بما يؤمن به ولا يتخلى عنه خوفا وجبنا، فنحن معه فى هذا، وإن كان الناس، هنا كما فى كل ميدان آخر، معادن: فمنهم من يرفع صوته لا يبالى بتهديد ولا وعيد، ومنهم من يخافت من هذا الصوت، ومنهم من يعلن التقية، ومنهم من يغير فعلا آراءه مسايرة للمخالفين واستجلابا للمصالح. والدكتور النابلسى سبق له أن غير فكره وآراءه، فبعد أن كان أيام اشتغاله فى السعودية يلعن "أبا خاش" أمريكا صباحًا ومساءً ويرى فيها هى وإسرائيل العدو الأوحد الذى لا يصلح معه إلا الجهاد الدينى كما بينتُ بالوثائق فى مقال لى سابق عنوانه "فضيحة بجلاجل للعلمانيين فى برنامج الاتجاه المعاكس" (أم تراه كان يجارى الجو العام فى السعودية؟ إذن لكانت هذه أيضا خيبة قوية!)، نقول إنه بعد ذلك قد أضحى من مناصرى أمريكا والصهيونية حينما انتقل للعيش فى بلاد العم سام وتولى بعض المناصب هناك. وكان قد كتب ذات مرة أيام موقفه القديم يمجِّد السعودية ويؤكد أنها سبقت أمريكا ذاتها (إى والله أمريكا ذاتها) فى معدل التنمية زمنا وحجما! فلماذا لا يقبل من سيد القمنى أن يغير رأيه وموقفه حتى لو كان تغييرا ظاهريا لا يمس الأعماق؟ أم تراه يظن أن له هو وحده الحق فى ذلك؟ ثم من أين له كل هذا اليقين بأن جميع الذين تراجعوا من الكتّاب المصريين عما كانوا يقولون أيام مروقهم وانحرافهم قد تراجعوا خوفا وكذبا؟ ألا يتراجع الإنسان تراجعا صادقا إلا إذا كان تراجعه عن الإيمان بالله؟ إن هذا لَتفكيرٌ غريب! أم لا بد أن يمر المتراجعون على النابلسى أوّلاً كى يأخذوا منه صكًّا بجواز التراجع، وإلا كان تراجعهم باطلا لا يستقيم ولا يصحّ؟(51/215)
كذلك قال النابلسى إن العرب الآن يعيشون فى القرن الثامن عشر. وهذا الكلام، وإن كان فيه مبالغة شديدة، فإنه صادق مع ذلك بروحه (لا بلفظه)، بمعنى أنهم لا يريدون أن يهتموا بالعلم ويعرفوا أنه لا خلاص لهم مما هم فيه، إلى جانب الإيمان بالله سبحانه وتعالى ونبيه الكريم والتمسك بكتابهم المجيد وسنة نبيهم المطهرة وقِيَمهما العبقرية الخالدة، إلا بالعلم والتفكير العلمى، وهو ما دعا إليه الإسلام وحث عليه وأعلن أن الله مُجَازٍ به خير الجزاء، وأكد أن فَضْل العالمِ على العابد كفَضْل البدر على سائر الكواكب، وأن تفكُّر ساعة خير من عبادة سَنَة، وأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، علاوة على أن الله لم يأمر نبيه بالاستزادة من شىء إلا من العلم: "وقل: رَبِّ، زِدْنِى علما" (طه/ 114)...إلخ. ومن هنا فإننا نضم صوتنا إلى صوت الكاتب رغم اختلافنا معه جِذْرِيًّا فيما عدا هذا ونقول للأمة إنها ما لم تُفِقْ مما هى فيه من التمسك بالخرافات والاعتقاد فى العمل والأحجبة والزار والسحر والشعوذة والفهلوة والاهتمام المرضى بالشكليات والحرص القاتل على أن يكون كل شىء تمام التمام على الورق ثم لا شىء بعد ذلك، وما لم تُقْبِل على العلم وتطلبه بكل طريق وتنفق فيه كل ما لديها من غالٍ ومُرْتَخَص ويتحول تفكيرها إلى المنهج العلمى الذى لا يرضى به الله ورسوله بديلا، فإنها ضائعة لا محالة وذاهبة إلى ما وراء الشمس كما كان المصريون يقولون إبّان حكم عبد الناصر عمن يعارضه! وهذا إن لم تكن قد ذهبت فعلا إلى ما وراء الشمس! ونحن عندما نقول: "العلم" فإننا نقصد العلم الحقيقى لا القشور والتفاهات الفارغة التى تمضى الأمة بها وقتها المتثائب البليد، العلم بكل أنواعه من علوم طبيعية وعلوم إنسانية وعلوم رياضية وعلوم دينية بحيث لا تقتصر قراءات المتديّنين منها مثلا على كتب الفقه والتوحيد (وهذا إن قرأوها كما ينبغى وفهموها حق فهمها، ولم يكن الأمر مجرد ترديد لما فى تلك الكتب دون تدبر!)، وكأن من يُلِمّ بها قد ضمن النصر المؤزَّر فى الدنيا والآخرة، مع أنها لا تعدو أن تكون لونا من التخصص العلمى يعكف عليه فريق من الدارسين والباحثين كما يعكف كل فريق على فرع من فروع العلوم يتعمق فيه ويجتهد بكل وسعه ويبحث عن الجديد، مع التنبه فى ذات الوقت إلى الأصول والأسس التى ينبغى أن نرسى نهضتنا عليها حتى لا تتشتت جهودنا أو تنحرف خُطَانا، وإن لم يمنع هذا من الأخذ من كل فرع من الفروع العلمية الأخرى بطَرَفٍ حسبما يستطيع القارئ ويحبّ! ولا شك أننا الآن أحوج ما نكون إلى التقدم فى ميدان العلوم الطبيعية والرياضية بالذات والوصول فيها إلى درجة الاجتهاد لا مجرد الترديد لما سبقَنا إليه الغرب والوقوف عنده لا نعدوه ولا نضيف إليه، وهى الدرجة التى نستطيع بها أن نسامته ونخترع كما يخترع ويكون لنا كيان مرهوب الجانب ونوقفه عند حده ولا ننتظر الكلمة دائما من فيه، وإلا شَلَّتْ إرادتنا وتوقَّفْنا بل تجمَّدْنا ومُتْنا حيث نحن. هذه خطيئة مهلكة سوف يحاسبنا الله عليها يوم القيامة كأمةٍ وكأفرادٍ معا، ولسوف يكون الحساب عليها عسيرا أشد العسر رغم أن الأمة لا تفكر فى هذا البتة وتراه أمرا تافها لا يعدو أن يكون من نافلة القول، مع أنه بكل يقين ليس كذلك على الإطلاق!
إن الكِتَاب بالنسبة للمسلمين بوجه عام فى هذا العصر النَّكِد هو، مع الأسف المُمِضّ المزعج، من المحرَّمات الكبائر: لم تحرّمه الحكومات، بل حرّمه الناس على أنفسهم كراهيةً منهم للعلم ووجع الدماغ الذى يأتى من ورائه، مع أن الإسلام هو دين العلم بحيث إذا لم يهتم به أتباعه لم يكونوا مؤمنين صادقين وضاعوا فى لجة الحياة المتلاطمة الأمواج! لا أدرى والله ماذا يمكن أن يصنع المصلحون والعلماء والمفكرون كى ينبهوا الأمة إلى المضيق المسدود الذى انتهت أمورها إليه. كثيرا ما أقول لطلابى وطالباتى فى الجامعة: ما الذى تريدون منا أن نفعله كى تهتموا بالقراءة وتجدّوا فى الدراسة وتقدِّروا العلم حق قدره؟ لقد بُحَّتْ أصواتنا معكم فى هذا السبيل وحاولنا مرارا وتكرارا بالحسنى والتشجيع مرة، وبالشدة والتخويف مرة، وبغير ذلك من الوسائل مراتٍ ومراتٍ، ولم يبق أمامنا من وسيلة إلا أن نشعل النار فى أنفسنا أمامكم فلعلكم تفهمون. بيد أنى فى كل مرة أقول لهم فيها هذا ألاحظ أنهم يظلون فاغرى الأفواه زُجَاجِيِّى العيون كأنهم سمك ميت: لا حس ولا حركة ولا وعى ولا استجابة. ترى هل يستجيب الأموات؟ وإنى لموقن أننا لو فقدنا عقولنا وظننّا أن المسألة تستأهل وأشعلنا النار فعلا فى أنفسنا فلن يلفتهم ذلك فى شىء، بل سيظلون ماضين فى ثرثرتهم التافهة تفاهة عقولهم واهتماماتهم، فإذا خيبوا ظننا رغم ذلك والتفتوا كان رد فعلهم التنكيت والدخول فى قافية حول الأستاذ المسكين فى عقله الذى أخذ المسألة جِدًّا ولم يكبِّر دماغه!(51/216)
ثم إن الذين ضربهم النابلسى أمثلة على الفكر الحر عندنا فى العصر الحديث إنما يعملون فى الغالب لحساب المستعمر الذى يريد تدميرنا: سواء فطنوا لذلك (وهو ما نرجحه فى معظم الحالات) أو لم يفطنوا. إنهم يصوّبون مدافعهم وقنابلهم فى تاريخنا وثقافتنا وعقائدنا إلى النقاط التى يصوّب إليها هذا المستعمر المجرم مدافعه وقنابله، ألا وهى الدين ورجاله بدءا بالنبى والصحابة وانتهاء بكل عالم معاصر من علماء المسلمين، تاركين العلم والحثّ عليه، اللهم إلا حين يظنون، أو يريدون أن يوهموا القراء، أن الدين يعادى العلم، كما صنع القمنى عندما زعم أن حديث القرآن عن خلق السماوات والأرض فى ستة أيام خطأٌ لأنه يناقض ما يقوله العلماء من أنهما قد خُلِقَتا فى أحقاب سحيقة تُعَدّ بملايين السنين، غافلا عن أن اليوم عند الله ليس كاليوم عند البشر، فالله لا يسكن الأرض، بل كل الكون زمانًا ومكانًا وكائناتٍ فى قبضته سبحانه، واليوم عند الله يختلف حسب السياق، فقد يكون كألف سنة مثلا أو كخمسين ألفًا مما نعرف كما ورد فى القرآن المجيد، فضلاً عن أن الأيام بالمعنى الأرضى الذى يعرفه البشر لم يكن لها وجود قبل خلق الكون بشمسه وقمره ونجومه وأرضه، لأن اليوم البشرى يستلزم وجود الشمس والأرض أولا. ومن يقل بغير هذا فهو من العوام مهما أغدق عليه المارقون من أمثاله ألقاب العلماء والمفكرين، على عكس المعنى الذى يقصده مؤلف سفر "التكوين"، الذى نصّ نصًّا فى كلامه عن قصة الخلق أن اليوم كان يتكون من مساء وصباح كمسائنا وصباحنا، وأن الله قد استراح من تعب العمل فى اليوم السابع وقدَّسه. يقصد يوم السبت (تكوين/ الإصحاح الأول كله). فهذا هو الفرق بين فهم العوام وفهم العقلاء الراقين، ومع هذا نرى هؤلاء الخارجين المشاغبين لحساب أعداء الإسلام يشككون فى كل شىء: فى القرآن والرسولل والسنّة والقيادات التاريخية والعسكرية والسياسية والعلمية المسلمة، كما يعملون بكل ما أوتوا من قوة وخبث على نشر التيئيس والتثبيط فى نفوس المسلمين، وبالذات فى مجال المقاومة والكفاح، رغبة منهم فى التمكين للمستعمرين فى بلادنا وأموالنا ومساعدتهم على حصد الأرواح واغتصاب الأعراض وتهديم البيوت والمؤسسات. والدين المستباح عندهم هو الإسلام، والإسلام وحده: يستوى فى ذلك أن يكون الكاتب من المنتمين إلى أمة محمد أو من المنتمين إلى أمة الصليب! وفضلا عن ذلك فالملاحظ أن معظمهم ذو علاقة مشبوهة بالدوائر المعادية للإسلام والمسلمين لا يستتر بها.(51/217)
وأتحدى أيا من هؤلاء المفاليك أن يجرؤ واحد منهم فيوجه نقدا ولو رقيقا كخطرات النسيم إلى النصرانية أو إلى أى من قياداتها فى بلادنا رغم أن الإسلام، لو أنهم مخلصون، كان ينبغى أن يكون أقرب إلى نزعتهم العلمية المدَّعاة حتى لو كان كفرهم به نابعا من قلوبهم وعقولهم، على الأقل باعتباره تاليا للنصرانية من الناحية التاريخية، فهو على أسوإ تقدير يمثل خطوة متقدمة عليها، علاوة على أنه لا مكان فيه للخرافات ولا للأسرار ولا لتأليه البشر العجزة الفانين الذين يبولون ويخرأون ويجوعون ويظمأون ويخافون ويقلقون ويُشتَمون ويهانون ويَسُبّون ويَلْعَنون حتى تلامذتهم، ويتبرأون حتى من أمهاتهم وإخوتهم، ويمرضون وينامون ويُضْرَبون ويُطْعَنون بالَحَرْبة فى جنوبهم وتُكْسَر رُكَبهم وتُسّمَّر أيديهم وأرجلهم فى الخشبة التى تجلب اللعنة على كل من يُعَلَّق عليها بنصّ كتابهم المقدس جِدًّا جِدًّا جِدًّا (...إلى آخر الـ"جِدَّنات" التى فى الدنيا كلها) لا بنصّ أى كتاب آخر، ويصيح المساكين من بُرَحاء العذاب فلا يجدون أبًا ولا أُمًّا يسأل عن صحتهم، ثم يموتون ويحاسَبون شأن أى عبدٍ مخلوقٍ فانٍ، ويُسْأَلون عن مدى موافقتهم على ما يزعمه أتباعهم بشأنهم فيُنْكِرون ويستنكرون ما يقولونه من كُفْرٍ ويتبرأون منه ومنهم، كما أن المعجزات لا تمثل ركنا من أركانه على عكس الحال فى تلك الديانة التى لا فكاك لها من المعجزات ولا يقوم الإيمان فيها على العقل، بل ليس للعقل فيها مكان! ومع هذا فليس هناك أى هجوم عليها أو حتى انتقاد لها. وها هو ذا الدليل: فالقرآن الكريم لم يقل، ولا يمكن أن يقول، إن الأيام الستة التى تم فيها الخلق هى كأيامنا الأرضية، بل بيَّن أن الأيام عند الله تختلف عن أيامنا هذه اختلافا تاما، على حين أن الكتاب المقدس قالها بصريح العبارة بما لا يمكن المماراة فيه أو إساءة فهمه، ومع هذا نرى سيد القمنى يترك الكتاب المقدس ويهاجم القرآن. ومن هنا نفهم لماذا ترجم واحد كمحمد أسد قوله تعالى: "فى ستة أيام" إلى "in six aeons" كما فى الآية 54 من "الأعراف" والآية 7 من "هود" مثلا. ثم يقول الأقباط عن سيد القمنى إنه مفكر كبييييييييييييييييييييييييييييييييييييير، متباكين عليه أن يسلقه خالد بن الوليد ويأكل لحمه "هَمّ النَّمّ" كما تقول عفاف راضى (أو كما نقول نحن فى قريتنا: "هَمّ يا مَمّ")، ثم يحبس بعدها بواحد سفن أب كبييييييييييييييييييييييييييييييييييييير لزوم الهضم السريع لِلَحْم المفكر الكبييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييير، ليتجشأ بعدها وهو يخبط على بطنه الكبييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييير فى رضًا وحُبُور، مطمئنا أنه خلّصنا من سيد القمنى وأراحنا من مشاغباته غير العلمية!
نواصل لكم أيها القراء ما كتبناه عن إعتزال!!! سيد القمني
وها هو ذا ما قاله سيد القمنى فى الموضوع حسبما نقلتُه من مقال كتبه من سمى نفسه: "شهيد الحق" بموقع "ساحة الإقلاع" تحت عنوان: "علماني يزعم أن بالقرآن أخطاء علمية": "يقول الدكتور القمنى معلقا على قضية الإعجاز العلمى فى القرآن: إن التلميذ يدرس فى حصة (الدين) أحكام خلق الكون فى ستة أيام ثم يدخل حصة الكيمياء والبيولوجى فيجد أنها خُلِقَتْ فى ملايين السنين، فلماذا لا نجعله محل اعتقاد وايمان وأدرس كيف تم الخلق بالطريقة العلمية حتى ولو كان بها مخالفة واضحة وصريحة لما جاء فى النصوص القرآنية؟".
ليس ذلك فقط، بل يعرف القاصى والدانى أن المواقع النصرانية تحتفى بتلك الكتابات أيما احتفاء، ودائما ما تجعلها جزءا من برنامجها فتنشرها كاملة وتسهِّل تحميلها لمن يريد متكلفةً فى ذلك ما تتكلف من تعب ونفقات، وكأنها كتابات تبشيرية تدعو للنصرانية. كما أنها دائمة الإشادة بالقمنى والدفاع عنه وعما يَكْتُب ضد الإسلام كذلك الموقع القبطى المهجرى الذى يصف الرسول الأكرم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام بـ"الرسول المخنث" ويخترع سورا قرآنية هازلة تتهكم على الله ونبي صلى الله عليه وسلم . ليس ذلك فقط، بل الملاحظ أن أولئك المارقين عادة ما ينتصرون فى كل خصومة أو جدال فكرى أو عقيدى للنصرانية والنصارى. بل إن من الكُتّاب الذين يردون على أولئك المارقين المتمردين من يكتبون فى الصحف عنهم أن فلانا أو علانا يقبض من الجهة الكنسية أو التبشيرية الترتانية دون أن نسمع أن أيًّا منهم قد فكر فى رفع دعوى ضد الذى يتهمهم بهذا! كذلك فمنهم من ليست له شغلة يتكسب منها، ومع هذا نراه يعيش فى بحبوحة من العيش يحاول التعمية عليها من خلال التباكى الكاذب من شُحّ العيش دَيْدَنَ كل لصٍّ خبيث. فعلام يدل ذلك كله؟ أترك الجواب للقارئ.(51/218)
وإنى لأهتبل هذه السانحة لأستشهد بما قاله فى الهجوم على الإسلام، أثناء دفاعه عن سيد القمنى، كاتب نصرانى اسمه جاك عطا الله كى يعرف القارئ كيف أن الغارة على الإسلام (حتى ممن بيوتهم زجاجٌ هشٌّ) والإشادة بهؤلاء الكتّاب المارقين هما وجهان لعملة واحدة. قال عطا الله فى "صفحة كتاب أقباط متحدون" بتاريخ 18 يوليه 2005م تحت عنوان: "سيد القمنى- احمد زكى يمانى و حرية القتل على الفكر بالدول العربية" فى أسلوب غبى ركيك يعج بالأخطاء التى لا يصح صدورها من تلميذ من تلاميذ المرحلة الابتدائية: "كلنا يعرف الان ان المفكر المصرى الدكتور سيد القمنى والباحث المدقق وخبير المخطوطات الاسلامية الدكتور احمد زكى يمانى السعودى المتجنس ووزير البترول الاشهر بالسعودية قد تابا الى الله توبة نصوحه لوجه الله تعالى واقلعا عن فكرهما المستنير وعادا الى حظيرة الايمان بعد كفرهما. هذا ما اعلنه كلا منهما علانية بعد النصائح الاخوية اللطيفة بالذبح الشرعى الحلال من اخوانهما بالدين، و نعرف ان الدين النصيحة، وبارك الله فى الناصح والمنصوح وما بينهما. السيد القمنى كان يرتجف وهو يعلن توبته بالتليفون وعودته عن تفكيره الشيطانى و انه قرر ان يعيد مخه الى مكانه الطبيعى (تحت السرة): لا تسألوا عن اشياء ان تبدو لكم تسوءكم، احتراما وتقديرا لنصائح الاخوة اللطيفة وانه يفضل ان يعيش بدون هذا العضو المؤذى المسمى مخ عن ان يكون المرحوم المذبوح القمنى ومخه سيتحلل وستأكله البكتريا على كل حال عند موته وكما يقول المثل المصرى الجرى نص الشجاعة. اما الدكتور الاخر احمد زكى يمانى فقد تلقى هو الاخر تهديد اخوى لطيف بالذبح بعد نشره مقالا بالصحف السعودي يقول فيه انه رأى بأم عينه رقعا مكتوبة على جلد بدون تشكيل ولا تنقيط بمكتبة الفاتيكان لنصوص قرأنية غير موجودة بالمصحف العثمانى المتداول حاليا وانه احضر خبيرا من عنده وقدر عمر الرقع بالف واربعمائة سنة او اكثر واستنتج من هذا ان القرأن الحالى ناقص وهو ما استنتجه قبله العديد من المفكرين والبحاث المسلمين وهو نفس ما اثبتته ابحاث العلماء الالمان الذين عثروا وفحصوا المخطوطات اليمنية المسماة بمخطوطات صنعاء".
وأنا فى الواقع لا أدرى لم سكت الفاتيكان هذا السكوت الطويل فلم يعلن عن تلك النسخة التى يقال إن يمانى رآها بأم عينيه وأحضر كذلك خبراء من لدنه فأكدوا له أنها نسخة صحيحة غير مزورة. كذلك لماذا لم يذكر يمانى أسماء أولئك الخبراء المزعومين أو الوسائل التى استخدموها فى التحقق من صحة النسخة المخطوطة حبرًا وورقًا وخطًّا... أو الظروف التى تم فيها هذا؟ وحتى لو كان كل ما قيل صحيحا لا شائبة من الشك فيه، أفينبغى أن تكون تلك النسخة برهانا على أن القرآن قد سقط منه شىء؟ أليس يقتضى المنطق أن تكون تلك النسخة هى نفسها الخاطئة، بدلا من اتهام كل المصاحف والكاتبين والقارئين والحَفَظَة الذين تتابعوا على صفحات التاريخ جيلا بعد جيل على مدى الأربعة عشر قرنا بأنهم هم المخطئون؟ ثم متى كان يمانى خبيرا فى الخطوط الإسلامية؟ بل هل هناك أصلا شىء اسمه الخطوط الإسلامية؟ لو قال صاحبنا: "الخطوط الجوية السعودية" مثلا لكان لكلامه معنى. وقد قرأت فى موقع "إيلاف" بتاريخ 19 يونيه 2005م إشارةً إلى ما كتبه، فى الرد على أحمد زكى يمانى، عبد الله خياط الصحفىُّ السعودىُّ، الذى يرجِّح أن يمانى إنما أراد أن يتقرب للشيعة بعدما فشل فى النجاح عند الليبراليين. فإن كان هذا صحيحا لقد اتضحت طبيعة النقص الذى يزعمه يمانى إن كان قد قال ذلك، ألا وهو أن هناك نصوصا حُذِفَتْ من القرآن كانت تنص على حق علىٍّ وأولاده فى ولاية المسلمين. ولكاتب هذه السطور دراسة هى الأولى من نوعها عن سورة "النورين"، التى هى أكبر وأشهر نص فى هذا الصدد، واسم هذه الدراسة: "سورة النورين التى يزعم فريق من الشيعة أنها من القرآن الكريم- دراسة تحليلية أسلوبية"، وقد أثبتُّ فيها أن السورة المقصودة لا تمت للقرآن بأية صلة: سواء من جهة الأسلوب أو من جهة المعانى. وهى داسة تحليلية مستقصية تقوم على الإحصاءات والمقارنات، وليس فيها موضع للعاطفيات على الإطلاق. كما أن علماء الشيعة ينكرون إنكارا شديدا أن يكون قد حُذِف شىء من كتاب الله. ومع ذلك فهناك من يدافع عن يمانى قائلا إن كلامه قد أُسِىءَ فهمه وتفسيره واقتُطِع اقتطاعا من سياقه، إذ هو رجل شديد التدين يغار على القرآن، وله مؤسسة دينية فى لندن اسمها "الفرقان".(51/219)
وقد ظللتُ أبحث عما كتبه يمانى حتى صادفتُ فى موقع "شفّاف الشرق الأوسط" بتاريخ 22 يونيه 2005م مقالا للرجل عنوانه "من جعبة الذاكرة - البابا ومكتبة الفاتيكان" ينتهى بهذه الفقرة التى هى كل ما يهمنا فى الموضوع والتى أنقلها هنا لكى يكون القارئ على بينة مما زعمه عطا الله وما قاله يمانى فعلا: "ومن طريف ما رأيت قِطَعاً (الصواب: "قِطَعٌ") من الجلد كُتبَ عليها آيات من القرآن بحروف غير منقَّطة وقيل انه أُجريت دراسات علمية لمعرفة عمر الجلد الذي كُتبت عليه الآيات فتجاوز عمره مائتين وخمسين وألف سنة ميلادية وهذا ما قادهم إلى افتراض أن بعض كُتاب الوحي من بني أُمية لم يسلموا ما لديهم أو بعضه من آيات الكتاب الحكيم عندما جُمع المصحف في عهد الصديق رضي الله عنه وأُتلفت جميع الآيات المتفرقة التي نزلت منجمة، وأنه عندما دالت دولة الأمويين في الشام وهرب عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس حيث أقام دولة الأمويين استطاع فيما بعد نقل الذخائر ومنها تلك القطع التي كُتب عليها آيات من القرآن أثناء نزول الوحي على رسول ا صلى الله عليه وسلم . وهذا الافتراض مع كل قرائنه يقرب من الصحة وينبئنا أن المسلمين إذا تفككوا واختلفوا فقدوا الكثير من تراثهم بل وفقدوا كيانهم، وذلك حال ملوك الطوائف فيما مضى وهو حال دويلات الطوائف في عصرنا هذا. وآيات الكتاب الكريم التي كُتبت في حضرة رسولنا عليه السلام هي من أعز وأثمن ما أعرف من التراث".
ونلاحظ على الفور أن يمانى ليس هو الذى قام باختبار صحة المخطوطة كما زعم كذبًا المدعوّ: "جاك عطا الله"، بل قيل له إنهم (فى الفاتيكان طبعا) هم الذين تحققوا من صحتها. وقد انحصر دوره فى القول بأنه يعتقد أن ما قالوه صحيح! كيف؟ وعلى أى أساس؟ لا ندرى! ثم ما هى هذه النصوص التى لا وجود لها الآن فى القرآن؟ والجواب هنا أيضا: "لا ندرى"، ذلك أنه لم يذكر من تلك النصوص شيئا، بل انحصرت مهمته فى تكرار ما قال الفاتيكان وحسب! والفاتيكان لم يقل إن المخطوطة تمثل دليلا على وجود نقص فى النص القرآنى الكريم. كذلك فإن عمر المخطوطة حسب كلام الفاتيكان هو اثنا عشر قرنا ونصف تقريبا لا أربعة عشر قرنا أو أكثر كما جاء فى الكلام الأبله الذى تلفظ به عطا الله! ثم من مؤلف هذه المخطوطة؟ لقد قيل إن صفحة العنوان منزوعة، وهو ما يصعِّب التحقق من الأمر تصعيبا شديدا. وأيًّا ما يكن الأمر، هل يصحّ فى العلم أن نترك كل الدلائل والبراهين التى لا تنتهى عددًا والتى تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن نص القرآن المجيد لم يَطُلْه أى عبث، ونصدّق هذه الشبهة التى لم يقلها لا الفاتيكان ولا الوزير السعودى؟ وعلى أى حال لماذا لا يضع الفاتيكان هذه المخطوطة بين أيدى الدارسين كى يَرَوْا رأيهم فيها بدلا من قصرها على مناقشات جانبية، إن كان عند رجاله ملاحظات على جمع القرآن تختلف عما يقوله علماء المسلمين؟ ثم إن المخطوطة المذكورة، حسبما جاء فى مقاله، تبحث فى مسائل الطهارة والعبادات، والفَلَك، والآلات الموسيقية، فما علاقة ذلك كله بما يقال من أن هناك آيات قرآنية قد حُذِفَتْ؟ وما هذه الآيات؟(51/220)
وبالمثل فقد ورد فى مقال يمانى أنهم فى الفاتيكان افترضوا "أن بعض كُتَّاب الوحي من بني أمية لم يسلِّموا ما لديهم أو بعضه من آيات القرآن الحكيم عندما جُمِع المصحف في عهد الصديق رضي الله عنه وأتلفت جميع الآيات المتفرقة التي نزلت منجمة، وأنه عندما زالت دولة الأمويين في الشام وهرب عبدالرحمن الداخل إلى الأندلس حيث أقام دولة الأمويين استطاع فيما بعد نقل الذخائر، ومنها تلك القطع التي كتبت عليها آيات من القرآن أثناء نزول الوحي على رسول ا صلى الله عليه وسلم ". فهل هذا هو ما يبنى عليه المتزيدون المشككون تشكيكاتهم؟ طيب: إذا كان بعض كُتّاب الوحى من الأمويين "طَلَعُوا ناسًا سَكَّة وأىّ كلام" ولم يسلِّموا كل ما عندهم من الوحى، فأين كان بقية المسلمين الذين لم يكن بنو أمية يمثلون أكثر من قطرة فى بحرهم الطامى؟ ألم يكن أحد منهم يحفظ شفويًّا أو كتابيًّا ما أراد الأمويون إخفاءه؟ بل أين كانت النسخة التى تركها النبى عليه السلام مكتوبة واعتمد عليها أبو بكر فى جمع القرآن فى كتاب كامل بين دفتين؟ إياكم أن تقولوا إن الأمويين قد سَقَوْا بقية المسلمين جميعا "حاجة أصفرة" حتى لا آخذ على خاطرى منكم لأن هذه قد أصبحت حجة ممجوجة! وإذا كان بنو أمية لم يسلِّموا بعض ما كان فى أيديهم من القرآن، فلِمَ ظلوا يحتفظون به، وكان الأجدر بهم أن يتخلصوا منه تماما بتدميره حتى لا يقع يومًا فى يد من لا يريدون اطلاعه عليه فيعودوا بذلك إلى المربع رقم واحد كما كان يقول المعلِّقون على مباريات كرة القدم التى كنت أُحْسِنها يوما؟ يا لطيف اللطف! كذلك إذا كان عبدالرحمن الداخل قد أخذ هذه النصوص معه، فلماذا لم يظهرها جلالته أو يتكلم عنها أى من علماء الأندلس؟ وإذا كان قد دمرها فكيف وصلتنا إذن؟ وهذا إذا كان فى كلام يمانى ما يشكك فى حفظ الله سبحانه للقرآن الكريم، وهو ما تبين لى أنه لم يحدث إذا ما قرأناه بعيدا عن التعليقات النصرانية الحاقدة. ولقد عاد الرجل بعد ذلك كله فأكد، حسبما قرأت فى موقع "المجالس الينبعاوية" فى أغسطس 2004م، أن القرآن كما هو بين أيدينا اليوم فى المصاحف هو نفسه القرآن الذى تركه لنا سيدنا رسول الله عليه السلام كاملا لم ينقص منه حرف، ولكننى مع هذا لا أستطيع أن أفهم كيف أن يمانى هذا هو الذى حَظِىَ، دون غيره من البشر، بالإهداء الذى كتبه د. محمد عبد الحى شعبان (الأستاذ المصرى الذى كان يشتغل رئيسا لقسم التاريخ الإسلامى بجامعة إكستر البريطانية) فى صدر كتابه "Islamic Histo r y" الصادر فى تلك الفترة (عام 1980م بالتحديد عن جامعة كمبردج البريطانية) والذى حمل فيه على الرسالة الإسلامية وصاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام واتهمه بأنه لم يكن إلا تاجرا ولا علاقة له بالنبوة من قريب ولا من بعيد، وأن ما تحقق للعرب والمسلمين من نتائج بسبب دعوته وسياسته إنما تم بمحض المصادفة، ولم يكن يدور له ببال ولا بخيال. وهذه هى كلمات الإهداء أنقلها كى يتمعن فيها القارئ: "إلى صديقى الشيخ أحمد زكى يمانى، الذى أعادت سياسته إلى الحياة كثيرا من خصال أسلافه العظام"! (انظر كتابى: "ثورة الإسلام فى ضوء ظروف البيئة التى ظهر فيها"/ مكتبة زهراء الشرق/ 1419هـ- 1999م/ 40- 41 بالذات).
وهذا الذى أثاره المسمَّى جاك عطا الله هو مجرد مثال على العقلية الحاقدة الغبية التى تحسب أن لحم الإسلام سهل المأكل طيب المذاق. لا يا أخا الصليب! أنت واهم، ولسوف أريك حالا أنكم، باتخاذكم كتابات القمنى وأشباهه سلاحا لضرب الإسلام، إنما تصوّبون الرصاص إلى صدوركم وأنتم لا تعقلون، شأنكم شأن مستعملى الأسلحة الفاسدة فى حرب 1948م. ولكن لنسمع أولا ما يقوله عزت أندراوس السالف الذكر عن سيد القمنى وعن الحكومة المصرية ومسلمى مصر وخالد بن الوليد فى هلوسة هستيرية ليس لها فى الوقاحة وقلة الأدب والعمل على إثارة الفتن وركاكة العقل وتهافت الفكر وقبح اللغة مثيل: "رحمة الله عليكى يا مصر لأنك تدوسين أبناؤك وتأكليهم، أأعدتم خالد بن الوليد إلى الحياة فى مصر هذا هو سيف الله المسلول الذى قطع رأس مسلم وسلقه وطبخه واكله، أهذا هو الإسلام؟ أم أهذا هو أمن الدولة؟ أم أهذه هى ديمقراطية النظام؟ أفيقوا يا اهل الكهف من سباتكم وأعرفوا مكانكم الحقيقى فى العالم، ألا يوجد إلا مصر فى العالم يأتى منها أخبار الإرهاب، إن ما يصلنا من أخبار يدل أنه لا يوجد بلداً أسمها مصر ولكن يوجد فقط شئ أسمه عصابات مصر الإجرامية. ثم ماذا يفعل أمن الدولة والبوليس فى مصر أهو متفق مع عصابات بن لادن العالمية الإرهابية على سفك دماء المفكر العظيم سيد القمنى، أيكفى ثلاثة من عساكر الأمن الذين اتو من وراء الجاموسة من صعيد مصر على حماية رجل له وزنه الفكرى".(51/221)
إن المذكور لا يعجبه أن تعين الدولة ثلاثة من رجال الشرطة لحماية سيد القمنى من التهديد الذى قال، صدقًا أو زورًا، إنه تلقاه على بريده المشباكى، ويصفهم بأنهم آتون من وراء الجاموسة، وكأنه (هو الآتى من وراء الخنزير وجامع روثه وآكله) أفضل حالا منهم، وهو الذى يَكْذِب ويتصور أنه بوقاحته سوف يهين المسلمين ودينهم، وما دَرَى بغبائه أنه إنما يهين نفسه وتخلفه هو وأمثاله فى العقيدة والدين! صحيح: لماذا لم تحوِّل حكومةُ مصر جيشها وشرطتها جميعا ليرابطا أمام بيت سيد القمنى وتترك حدودها دون حراسة، وللحدود ربٌّ اسمه الكريم، إذ يكفيها أن تسهر شرطتها وجيشها على راحة سيد القمنى وألا يكون لها شغلة ولا مشغلة إلا رضا سعادته! ثم ما دخل خالد بن الوليد فى هذا الموضوع؟ أترى أندراوس يريدنا أن نُقِيمه من الأموات ونُحْضِره هو أيضا ليَذُود بسيفه المسلول عن سيد القمنى ويقوم على خدمة جنابه؟ ثم كيف عرف هذا الأبله يا ترى أنه، رضى الله عنه، كان يأكل لحم البشر بعد سلقه؟ وبالمناسبة هل كان يرش عليه مِلْحًا وفُلْفُلاً حتى تكون النكهة أفضل، إذ من المعروف أن اللحم المسلوق ليست له جاذبية اللحم المحمَّر والمشمَّر؟ هذه واسعة حبتين يا عمّ أندراوس! ما كنت أعرف أن المسلمين بهذا الهوان حتى يطمع فيهم أمثال هذا الكائن! لكنى أعود فأقول إنهم يستحقون هذا وأفظع منه! فمَنْ يَهُنْ يَسْهُل الهوانُ عليه، وما لِجُرْحٍ بميّتٍ إيلام! وهم، كما سلف القول، قد ماتوا، وإن لم تُدْفَن جثتهم بعد لأن أحدا لا يفكر فى إكرامهم بالدفن!
إن للقمنى مثلا فى موقع "شفّاف الشرق الأوسط" بتاريخ 14 يوليه 2005م مقالا بعنوان "احذروا فتنة المسيخ الدجال" يسخر فيه من أحاديث المسيح الدَّجّال والمؤمنين بها. أفلا يعلم النصارى المولَّهون بما يكتب سيد القمنى أن المسيح الدجال قد ورد ذكره فى كتبهم عدة مرات (وإن كان اسمه عندهم هو "ضد المسيح" أو "المسيح الكاذب"، مع اختلاف تصورهم له عما فى الإسلام بعد أن حرَّفوا عقائدهم)، وقال عنه يوحنا فى رسالته الأولى إنه موجود الآن فى الدنيا رغم قوله أيضا إن ميعاد مجيئه هو الساعة الأخيرة، أى قبيل يوم القيامة، كما جاء فى مواضع أخرى أنه وحش بسبع رؤوس وأنه تنين أحمر...إلخ، فضلا عن إشارة بولس إلى أنه عند إتيانه سوف يتصرف وكأنه هو الله، وأنه سوف يفتن الناس ويضلّهم من خلال عجائبه وآياته التى يساعده فيها الشيطان؟ ثم ألا يعلمون أن اليهود هم أيضا يعتقدون فى مجىء المسيح الدجّال؟ (انظر مادة "Antich r ist" فى كل من "The Catholic Encyclopedia" و"The Inte r national Standa r d Bible Encyclopedia " و"Easton's Bible Dictiona r y" و"Smith's Bible Dictiona r y" على المشباك، و"Encyclopedie de la Bible"/ طبعة Editions Sequoia/ باريس وبروكسل). وهذا الذى أشرنا إليه متناغم مع ما ورد فى الحديث الشريف من أنه ما من نبى إلا حذّر أُمّتَه الدَّجّال؟ ألا يعلم النصارى كل هذا؟ بلى إنهم ليعلمون، لكنهم يظنون أن المسلمين لا يتنبهون له، والمسألة عندهم ليست حقا وباطلا، بل وسيلة لختل المسلمين عن دينهم بالكذب والدجل والتلون والنفاق. بل إن ورود ذكر المسيح الدجال فى العهد الجديد يختلف بطبيعة الحال عن وروده فى الأحاديث النبوية، التى لا تتمتع بما يتمتع به القرآن من يقينية مطلقة، أما عندهم فهذه العقيدة جزء من الأناجيل التى تقابل القرآن لدينا! ومع ذلك فنحن لا نقف طويلا عند هذه النقطة المفحمة مع ذلك، بل كل ما أردناه منها أن تكون فاتح شهية لما سيأتى، وأنتم يا أخا الصليب الذين فتحتم موضوع القمنى (ويمانى أيضا فوق البيعة!) وحسبتم أنكم قادرون على أن تجعلوا منه قنابل نووية فتاكة! فلتذوقوا إذن، ولا مكان هنا للغضب، فالزَّعَل ممنوع، والصراخ من حَرّ الألم مرفوع، والرزق على الله، والذى يعتدى على الآخرين بالباطل لا ينبغى أن يتوقع منهم أن يباركوا عدوانه ويُرَبِّتوا على أكتافه ولا على أردافه، وإلا كان أحمق حماقة مطلقة!(51/222)
كذلك فللقمنى كتاب بعنوان "الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية" يستعين به المدعوّ زكريا بطرس فى موقعه متصورا أنه يمكنه من خلاله هو وما كان على شاكلته من الكتب كتلك التى تحمل اسم خليل عبد الكريم أو سعيد العشماوى مثلا أن يفتن ويضلل بها أبناء المسلمين، وما درى أنه إنما جلب على نفسه الخراب والدمار عاجلا غير آجل، ففى مقدمة ذلك الكتاب القمناوى مباشرة نقرأ السطور التالية: "ورغم أن كتابنا هذا كتاب في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي وليس كتاباً في الدين أو أي من علومه، فقد تم تصنيفه تصنيفاً آخر، ولم يتسع أفق المهاجمين خارج دائرة يكن لنا غرض إطلاقاً سوي فتح نافذة أطل زمانها، إزاء رتل من المصنفات يملأ أرفف المكتبة العربية، يكرر ويزيد في تكرار وإملال لذات المقولات، بنغمة واحدة وخط واحد من تفاسير وشروح التفاسير وتفسير الشروح وتعقيبات على الشروح والتفاسير... الخ وهي النافذة التي أردنا أن نطل منها بقراءة علمية على الفرز الذي أدى إليه جدل أحداث المرحلة القبل إسلامية، وقراءة أوضاع جزيرة العرب آنذاك الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وهو الفرز الذي كشفناه مطلباً للتوحد القومي بقيادة نبي مؤسس لدولة واحدة مركزية. ويبدو أن هذا اللون من القراءة قد صدم مقولاتهم الثابتة، حتى أنهم لم يروا فيه سوى المروق، الذي يبدو أنه كان حكماً تأسس على عدم قدرة قبول الأمر باعتباره أمراً اعتيادياً تسبقه مقدمات لابد أن تؤدي إلى نتائج يقبلها العقل ومنطق الواقع، بعد أن اعتادوا على منهج يرى أن كل شئ يجب أن يظهر فجأة من عدم، غير مرتبط إطلاقاً بواقع، لغزاً غير مفهوم، بهذا فقط يكون مرهوباً ومخيفاً ومحترماً ، المهم ألا يكون مفهوم الأصول وألا يكون منطقي أو طبيعي النشأة ، وأن معرفة جذوره وممهداته ومنابته تخلع عنه حالته الإنقطاعية، وتسحب عنه قطيعته مع ما سبقه، ومن هنا كان لابد أن تستمر معاملته في قطيعته مع كل شئ إلا الغيب ولا يمكن تصوره إلا كذلك. رغم أننا لو أتستخدمنا منهج الدين ذاته بشكل أكثر احتراماً للدين نفسه، ولله صاحب هذا الدين ، لأدركنا أن فهمنا للدين سيكون أكثر جمالاً وفهماً عندما يكون الرب متسقاً مع ذاته ، لا يخالف قوانين المفترض أنه هو واضعها ، وأنه كي يتم المراد من رب العباد وقيام نبي الإسلام بدعوته ، فإنه كان لابد من تمهيد الواقع كي يفرز نتائجه المنطقية التي تتسق مع تلك المقدمات، وتتفق مع كمال ذلك الرب، ذلك الكمال الذي يفترض اتساق قراراته مع قوانينه و سننه، ناهيك عما سيحققه مثل ذلك الفهم على المستوى التربوي للعقل، لنخرج من حالة الركود البليد الذي ينتظر بكل سقم معجزات مفاجئة تعيدنا لعصر الفتوحات تتقدمنا جيوش الملائكة. تحت قيادة جبريل على فرسه حيزوم ولأننا لا نتصور إمكان حدوث المعجز الملغز، ولا حدوث أمر جلل دون مقدمات موضوعية تماماً تؤدي إليه وتفرزه، ولأننا لا نتصور ممكنات، كسر قوانين الطبيعة الثابتة لأجل عيون أمة مترهلة، فلم يبق سوى أن نحاول إعادة قراءة ذلك التاريخ قراءة أخرى، تربط النص بواقع، وتعيد النتائج إلى مقدماتها وأصولها الحقيقية لا الوهمية، من أجل إعادة تشكيل بنية العقل ومنهجه، ومن أجل غد أفضل لأجيالنا المقبلة، ولتراثنا ذاته".(51/223)
وواضح تمام الوضوح سخرية سيد القمنى من المعجزات ومن جبريل وحيزوم والأمة المترهلة، وهى فعلا أمة مترهلة لا أختلف معه بشأنها، ومن أدلة ترهلها أن نفرا من أبنائها يخوضون، بغباءٍ قاتلٍ وخيانةٍ عاهرةٍ سافلةٍ وحُبُور مجرمٍ وشماتةٍ خسيسةٍ، معركةَ أعدائها ضدها هى نفسها حتى يريحوا هؤلاء الأعداء من بذل الجهد والتعب فينتصروا عليها دون أن يتكلفوا فى هزيمتها شيئا: "حاجة ببلاش كده!". فالرجل إذن لم يتجنَّ على الأمة فى شىء، لكن هذا لا يعفينا من أن نبين للقراء أن البندقية التى يمسك بها زكريا بطرس ويصوبها إلى صدر الإسلام سيرتدّ رصاصها إلى صدره هو. كيف؟ إننا لو جرينا على ما يريد سيد القمنى وأنكرنا المعجزات فلن يضير ذلك الإنكارُ الإسلامَ فى شىء، إذ إن المعجزات لا تحتل فى النسق العقيدى الإسلامى مكانا ذا شأن، اللهم إلا بالنسبة للأديان السابقة التى يذكر القرآن الكريم معجزات رسلها أمانةً منه عجيبةً لا مثيل لها فى العالمين، أما الإسلام فقد أعلن كتابُه المجيدُ أن عصر المعجزات التى يتعنّت بها الكفار على أنبيائهم ورسلهم فتستجيب السماء لهم وتُنْزِلها عليهم قد ولَّى. وعلى هذا فلن يُضَارّ دينُ محمد كثيرًا ولا قليلاً من جراء إنكار المعجزات، ولكن ماذا عن الدين الذى فتح زكريا بطرس دكانته لترويجه وعلق على مدخلها ملابس الأطفال والنساء مدلاةً بألوانها البلديّة الصارخة لجذب أنظار العوام من أمثاله كما يفعل الباعة فى الأحياء الشعبية؟ كيف يا ترى سنفسِّر ميلاد السيد المسيح فى هذه الحالة مثلا (أقول: مثلا)؟ الواقع أنه من غير الممكن فى هذه الحالة الاستمرار فى القول بأنه كان ميلادا إعجازيا، ولا يبقى أمامنا إلا أنه عليه السلام قد حُمِل به بالطريق الطبيعى الذى لا تعرف طريقًا سواه سُنَنُ الكون الصارمة التى لا تقبل الانكسار ولا التبديل من أجل عيون الأمة المترهلة إياها، أمة المسلمين يعنى. يعنى ماذا؟ يعنى أنه عليه السلام قد جاء من التقاء رجل بامرأة. أليس هذا ما تقتضيه قوانين الكون التى لا تقبل الانكسار ولا التبديل؟ سَمِّعُونا إذن صلاة النبى، ولا تجلسوا هكذا صامتين كأن على رؤوسكم الطير! فمن المعروف أن السيدة مريم لم تتزوج يوسف النجار، على الأقل لم تتزوجه قبل أن تنجب عيسى عليه السلام، فماذا يعنى هذا أيضا لو جرينا على مذهب سيد القمنى الذى يحتفى المدعوّ: "زكريا بطرس" به وبكتاباته، ونشر له فى موقعه الكتاب الذى نحن بصدده بمقدمته هذه التى اقتبسنا منها السطور الحاليّة؟ أترك الجواب للقراء الكرام، فهو لا يحتاج إلى كبير ذكاء! هذا، ولن نتكلم عن معجزات عيسى التى ستسقط فى الحال من تلقاء نفسها طبقا لمذهب سيد القمنى الذى ينكر المعجزات، كما لن نتكلم عن ألوهيته ولا عن نصف ألوهيتة (بما يذكرنى بقولهم: " نصف لبّة"، و"نصف كمّ" وأغنية نانسى عجرم: "نُصّ نُصّ")، فهو أمر لا يدخل عقل عاقل، وكان المظنون أن مثل هذا الاعتقاد قد ذهب فى التاريخ الأول مع العصر الحجرى، لكن ما زال هناك للأسف ناس يعتقدونه، وهو ما لا اعتراض لنا عليه، فكل إنسانٍ وكل جماعةٍ أحرارٌ فيما يعتقدون حتى لو عبدوا عِجْلاً أو جعرانًا كما كان بعض أجدادنا الأقدمين يفعلون أيام وثنيتهم، لكن الطامّة الثقيلة أن أصحابه قد جُنّوا وتفككت صواميل أمخاخهم إلى الحد الذى يرسلون فيه إلينا فى المشباك رسائل تشتم ديننا ونبينا وتدعونا فى غباء وجلافة إلى الدخول فى دين الصليب والتخلى عن دين التوحيد، مؤكدين فى حمقٍ منقطع النظير أن هذا العصر هو عصر النصرانية، وأن أمريكا والدول الغربية لن تترك الإسلام تقوم له قائمة بعد اليوم، وأنه لا خلاص لنا إلا بالإيمان بألوهية المسيح... إلى آخر هذا الخبل العقيدى!(51/224)
لقد فات الأغبياءَ من عينة زكريا بطرس وأمثاله أن الإسلام هو الدين الوحيد الذى يشهد كتابه لمريم عليها السلام بالعفة، فهل من العقل أن يأتى إنسان إلى الشاهد الوحيد الذى يملكه فيسبّه ويتطاول ويتسافه عليه ويكذِّبه ويفترى ضدَّه الأكاذيب؟ إن ذلك لهو الجنون بعينه! ومعروف ما يقوله، عن عيسى وأمه عليهما السلام، اليهود الذين يتعاون معهم الأوغاد ضدنا. إنه عندهم ابن سِفَاح، وكانوا يعرّضون به قائلين فى وجهه: "لسنا مولودين من زِنًى" (يوحنا/ 8/ 42). وبطبيعة الحال لا يمكن إبطال مثل هذه التهمة بأدلة قانونية، إذ المعروف أن المرأة لا تحمل ولا تلد إلا إذا اتصلت برجل: عن طريق الزواج أو من خلال علاقة غير شرعية. ولم تكن مريم، كما سبق القول، قد تزوَّجَتْ بعد، فلم يبق أمام الناس إلا الباب الثانى، اللهم إلا إذا ثبت بدليل غير عادى أنها لم تَزْنِ، وأين هذا الدليل إلا فى القرآن الكريم؟ لقد ذكر المولى فى كتابه أن جبريل عليه السلام قد أتاها رسولا من الله ونفخ فى جيبها فحملتْ بعيسى. لكن أحدا لم يَرَ جبريلَ وهو يفعل ذلك، فلم يبق إذن إلا تبرئة القرآن الكريم لها، فضلا عما حكاه عن كلام عيسى فى المهد دليلا على عفتها، وهو أيضا دليل إعجازى ينبغى نبذه كى نرضى السيد القمنى وزكريا بطرس! والغريب أن هذا الدليل الذى يقول به القرآن لتبرئة مريم غير موجود فى الأناجيل الموجودة فى أيدى النصارى! فما معنى هذا؟ معناه أن الحمقى المغفلين من عينة زكريا بطرس يتركون الدنيا كلها ويتفرغون للتطاول والتباذُؤ والتسافُه وإقلال الأدب والحياء على المسلمين، الذين يمثلون المخرج الوحيد لهم من ورطتهم! وهذا دليل على الخبال الذى هم فيه، وهو أمر طبيعى جدا، إذ ما الذى ننتظره لمثل هؤلاء الأباليس؟ أننتظر أن يوفقهم الله جزاء كفرهم وبغيهم على رسوله والكتاب الذى أنزله عليه نورًا للعيون وهُدًى للقلوب؟
ولم يكن اليهود هم الوحيدين الذين ينسبون عيسى عليه السلام إلى أب من البشر، بل كان الناس جميعا يقولون إن أباه هو يوسف النجار. لا أقول ذلك من عندى، بل تذكره أناجيلهم التى نقول نحن إنها محرفة فيكذّبوننا عنادا وسفاهة! لقد كتب يوحنا فى إنجيله (1/ 5) أن الناس كانت تسميه: "ابن يوسف"، وهو نفس ما قاله متى (1/ 55) ولوقا (3/ 23، و4/ 22)، وكان عيسى عليه السلام يسمع ذلك منهم فلا ينكره عليهم. بل إن لوقا نفسه (2/ 27، 33، 41، 42) قال عن مريم ويوسف بعظمة لسانه مرارًا إنهما "أبواه". كذلك قالت مريم لابنها عن يوسف هذا إنه أبوه (لوقا/ 2/ 48). ليس ذلك فحسب، بل إن الفقرات الست عشرة الأولى من أول فصل من أول إنجيل من الأناجيل المعتبرة عندهم، وهو إنجيل متى، تسرد سلسلة نسب المسيح بادئة بآدم إلى أن تصل إلى يوسف النجار ("رجل مريم" كما وصفه مؤلف هذا الإنجيل) ثم تتوقف عنده. فما معنى هذا للمرة التى لا أدرى كم؟ لقد توقعتُ، عندما قرأت الإنجيل لأول مرة فى حياتى، أن تنتهى السلسلة بمريم لا بيوسف على أساس أن عيسى ليس له أب من البشر، إلا أن الإنجيل خيَّب ظنى تخييبا شديدا، فعرفت أنّ من طمس الله على بصيرته لا يفلح أبدا.(51/225)
ثم ألا يذكر كتابهم المقدس "فوق البيعة" أن داود قد رأى زوجة قائده العسكرى أوريّا وهى تستحم عارية فى فناء بيتها المجاور لقصره حين صعد ذات يوم إلى سطح هذا القصر؟ وإن كنت لا أدرى لماذا، إلا أن يكون من أولئك العَهَرة العرابيد الذين يتجسسون على نساء الجيران، وبالذات اللاتى ليس فى بيوتهن حمّامات فيُضْطَرَرْن إلى الاستحمام عاريات فى فناء البيت "على عينك يا تاجر" ، وكأننا فى فلم من أفلام الإستربتيز! ومن يدرى؟ فربما كان معه منظارٌ مقرِّب حتى تتمّ المتعة على أصولها! المهم أنها وقعت فى عينه وقلبه كما لا أحتاج أن أقول، فأرسل فأحضرها وزنى بها (بارك الله فيه!)، ثم لم يكتف بهذا العمل الإجرامى الذى يليق تماما بجدّ الرب الذى يعبده هؤلاء المتاعيس المناحيس، بل كلف رجاله فى ميدان المعركة أن يخلّصوه من الزوج المسكين بوضعه على خط التَّماسّ مع العدو فى قلب المعمعة، ونجحت مؤامرته الخسيسة وقَتَل العدوُّ أوريّا، فألحق داود زوجته بحريمه بعد أن مرت أيام المناحة والحداد طبعا (سفر الملوك الثانى/ 16 كله). انظروا إلى حرصه الجميل على التقاليد! والله فيه الخير! وبَتْشاَبَع هذه بالمناسبة هى أم سليمان النبى الملك! أَنْعِمْ وأَكْرِمْ بهذا النسب الملكى النبوى الإلهى الشريف! أى أن نسب المسيح، حسبما يقول كِتَابهم هم، هو نسبٌ عريقٌ فى الفُحْش والإجرام، وهو ما يناسب الطريقة التى لا يمكن تفسير حمله ولا ولادته بغيرها إذا ما نبذنا عقيدة المعجزات التى تتشبث بها الأمة المترهلة التى هى أمة الإسلام كما يريد منا سيد القمنى أن نفعل. أما نحن فننزّهه، عليه السلام، عن ذلك تمام التنزيه لأن أنبياء الله لا يكونون إلا من ذؤابات قومهم شرفًا وفضلاً ونبلاً. ولعل هذا هو السبب فى أن السيد المسيح، كما جاء فى "متى" (22 / 45)، قد نفى أن يكون من ذرية داود! والله معه حق، فإن مثل هذا النسب لا يشرّف أحدا، وإن كنا نحن المسلمين لا نصدّق حرفا من هذه الحكايات وأمثالها مما سطرته أيدى اليهود الفَسَقة الفَجَرة لتشويه كل قيمة نبيلة وشريفة فى الحياة!
وهذا كله، ولم نبرح مقدمة كتاب سيد القمنى، أما ما جاء بالداخل فلا يمت للقضية التى تهمنا هنا، وهو على كل حال لا يختلف فى شىء ذى بال عما قاله خليل عبد الكريم فى الكتب التى تحمل اسمه والتى أبديت شكى الشديد فى أن يكون هو مؤلفها. ومن الواضح أنه هو والقمنى ينزعان عن قوس واحدة، ولهذا نراهما يتقارضان الثناء ويصف كلاهما الآخر بأنه كذا وكذا فى عالم البحث والتأليف مما أفضتُ فيه القول فى كتابى عن عبد الكريم: "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسولل والصحابة"، وهو الكتاب الذى بينت فيه بالأدلة الموثقة تهافت الكلام المنسوب لعبد الكريم فى الكتب التى تحمل اسمه وسخفه وزيفه وبطلانه، وأحيل القارئ عليه إذا أراد أن يعرف وزن ما يقوله القمنى فى كتابه الذى نحن بصدده. ثم شفعت كتابى هذا بكتاب آخر عنوانه: "لكن محمدا لا بواكى له" خصَّصْتُه للرد على قلة الأدب والعربجة التى يعج بها كتاب "فترة التكوين فى حياة الصادق الأمين"، الذى يحمل اسم عبد الكريم أيضا، وأكدت فيه أننى لا تصور أبدا أن يكون عبد الكريم هو مؤلفه.
وقد وصل الكتابان إلى يد خليل عبد الكريم، وإذا بى أتسلم، وأنا خارج أرض الوطن منذ ثلاثة أعوام تقريبا، رسالة من أحد معارفى تتضمن صورة لمقال كتبه خليل عبد الكريم عنى وعن كتابى: "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسولل والصحابة" ونشره فى مجلة "أدب ونقد" فى عدد أكتوبر2001م (ص41- 43). والشاهد فى القصة أن عبد الكريم لم يحاول أن يرد على أى شىء مما بينتُ سخف منطقه وتدليسه فيه (أو بالأحرى: منطق الذين كتبوا له الكلام وتدليسهم)، وهو كثير كثرة فادحة، بل اكتفى بالثناء علىّ والقول بأنى... وأنى... مما سيطالعه القارئ الآن. وقد تعمدت أن أضع المقال كاملا بين يدى القارئ كى يعرف أن أمثال عبد الكريم لا يملكون شيئا من الحجة، وإلا لردّ على انتقاداتى له وتفنيداتى العنيفة لما جاء فى الكتب التى تحمل اسمه. بل بالعكس أَقَرَّ بأننى قد نجحت فى فهم مرامى كلامه ووضعت يدى على ما يريد أن يقوله مما لم يحن الوقت بعد للتصريح به، وهو إقرار غريب لأن أمثال عبد الكريم دائما ما يدّعون أنهم أفهم للإسلام ممن يغارون على الدين وأحرص على الدعوة إليه وانتشاره. كما أود أن ألفت القارئ إلى التدليس الذى لجأ إليه هنا أيضا والمتمثل فى تلاعبه بعنوان كتابى، إذ سماه: "اليسار الإسلامى وتطوراته.." (هكذا بالحرف والنقطة)، بدلا من "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسولل والصحابة" كى يضلل القارئ عن العنوان الحقيقى الذى يفضحه ويفضح مراميه ومرامى من يشجعونه على هلاكه. وهذا هو نص المقال، وعنوانه: "فى كتاب إبراهيم عوض: اليسار الإسلامى وتطوراته..":(51/226)
"سلك أ. د. إبراهيم عوض سلوكًا حضاريًّا بالغ الروعة والسموّ يليق به كأكاديمى وأستاذ جامعى بخلاف من عداه من "الإسلامويين". أصدر، مشكورًا، كتابًا يقرب من ثلاثمائة صفحة قدَّم فيه عرضًا نقديًّا لمؤلفاتى: "لتطبيق الشريعة لا للحكم"، "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية"، "قبيلة قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية"، "الأسس الفكرية لليسار الإسلامى"، "مجتمع يثرب: العلاقة بين الرجل والمرأة فى العهدين المحمدى والخليفى"، "شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة". ويتضاعف امتنانى له لو تفضل بآخر يتناول باقيها: "الإسلام والدولة الدينية والدولة المدنية" و"العرب والمرأة" و"بصائر فى عام الوفود وفى أخباره" و"فترة التكوين فى حياة الصادق الأمين".
ووجه الرقىّ فى منحى الأستاذ الفاضل والذى فهمتُه بعد قراءة كتابه يتمثل فى عدة أمور أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: 1- أنه لم يجنح إلى التكفير كبعضهم، ولم يعمد إلى الرمى بالردة، ولم يسارع إلى الاتهام بالخروج عن الملة، ولم يُفْتِ باستحلال الدم، ولم يحرّش على القتل، بل على العكس يدين هذه الاتجاهات. 2- وبالتالى فهو يؤكد أن الإيمان علاقة شديدة الخصوصية بين العبد والرب، وأن الله جل شأنه هو وحده الذى يحاسب عليه. 3- لم يستنفر فخامة رئيس الجمهورية (كما فعل أحدهم، ومن أعجب الأمور أن البعض حتى هذه اللحظة يعدّه مفكرا مستنيرا) ولا غيره من المسؤولين ولا حرّض أحدا منهم ضدى. 4- لا يقر اللجوء إلى القضاء، إذ يرى أن السلوك الأمثل هو الرد والتفنيد والتعقيب، ومبدؤه: "كتاب مقابل كتاب"، وهو ما حدث إبان الحضارة الإسلامية الزاهرة. وهو ذاته حقق ذلك فى هذا الكتاب الذى نقد فيه طائفة من كتبى، وأنتظر منه الآخر لتغطيةِ (أو بمعنى أدق: لنَقْدِ) باقيها، وله المنة. كما أصدر تعقيبا على كتاب د. محمود على مراد عن السيرة النبوية عنوانه: "إبطال القنبلة النووية" وغيره. 5- لم يقرأ قراءة سطحية كما يفعل البعض (هذا إذا قرأ ولم يسمع كلمة من هنا وجملة من هناك ثم يدبج مقالة)، بل تعمق فى المطالعة، ومن ثم فطن إلى ما هو مخبوء بين السطور وما جاء، تحت ضغط الظروف، تلميحا لأن الوقت لم يحن بعد، وربما لعقود قادمة، للتصريح به، وما ألغزتُ فيه ففَقِهَ ما رميتُ إليه. 6- امتلك قدرًا مُفَرْسَخًا من الفراسة جعله يدرك أن المستجِدّات المتلاحقة والمستحدثات المتوالية والتغييرات المتعاقبة قضت باستحالة استمرارية الأسلوب التفخيمى التبجيلى عند الكتابة عن الصحابة مثلما فعل العقاد وهيكل وخالد محمد خالد...إلخ أو عن غيره من المواضيع، وأنه من الحتم اللازم ظهور الأسلوب الموضوعى النقدى المتوازن مثل الذى ألزمْنا أنفسنا به، وأن من الخطإ المنهجى الفادح قَمْعَ هذا المنزع لأن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء عبث وتضييع وقت. 7- دَلَّ كتابُه الناقد أو نقدُه المكتوب على صبره وتأنِّيه، فهو لم يتسرع أو يهرول بل نقَّب وحَفَر ونقَّر، وبذا قدّم دليل الثبوت على أن مؤلفاتنا (وهذا من فضل الله علينا) شديدة التوثيق. بل إن هناك من وصفها بالمبالغة فى هذا المضمار. ولعل هذا يفسر إحجام كل من كتب عنها حتى من الهيئات العلمية عن التصدى لنقدها نقدا موضوعيا كما فعل الدكتور إبراهيم عوض. أكتفى بهذه النقاط حتى لا يطول المقال.
أما تعدِّيه على شخصى الضعيف فى كل صفحة تقريبا فلم يؤذنى لأننى أتأسَّى بالحبيب المصطفى عليه وآله أزكى السلام، فقد خرجتُ من طول معايشتى لسيرته العطرة أنه ما غضب لنفسه قط. إنما آلمنى أنه جرَّح بسببى أخى وصديقى د. سيد محمود القمنى، ونال من الزميلتين الفاضلتين الأستاذتين فريدة وأمينة النقاش، وكنتُ آمل ألا أغدو طريقا لإيلامهم. مسألتان أَسْتَمِيحه عذرا كيما أعلِّق عليهما: الأولى- سألت الله تبارك وتعالى له أن يريح صدره مما حاك فيه بأن يوفق أحد الدارسين فى حياته لا من بعده ويثبت له أن مؤلفاتى ليست من عملى، ولكنها من تصنيف طائفة من المستشرقين (ص260)، لأنه يؤذينى كثيرا أن يظلّ هذا الخاطر يَسُوط فى صدره (فى "أساس البلاغة" للزمخشرى: سَاطَ الهريسة، وساط الأَقِط: خَلَطَه). الأخرى- أفزعنى عندما شكك فى مصريتى ونسبنى إلى الجزيرة إياها البالغة القداسة الشديدة البركة، فأنا لا يسرنى يا دكتور أن يكون عندى "حُمْر النَّعَم" كما يقول أصحابك الميامين فى أمثالهم البليغة ولغتهم الفصيحة وأن تُنْزَع عنى مصريتى! أتعرف لماذا؟ لأن مصر وحدها دون غيرها هى التى علَّمت الدنيا بأسرها أمرين: الضمير والحضارة. ختاما أ. د. إبراهيم عوض، شكرا".(51/227)
وإذا كان لى أن أُعَقِّب على هذا الكلام فهو أننى كنت قد اتهمته بالتسرع والالتواء فى قراءة النصوص والجهل بنصوص أخرى على قدر كبير من الأهمية أو التجاهل لها، فضلا عن العجز عن استخلاص النتائج الصحيحة مما يقرأ، إلى جانب تدليسه فى الاستشهاد بالنصوص هو وسيد القمنى، الذى نقل عن د. جواد على من كتابه "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" نصًّا طويلاً فأسقط بضعة عشر سطرا منه عامدا متعمدا دون أن يترك مكانها نقاطا كى يعرف القارئ أن هاهنا كلاما محذوفا (بغض النظر الآن عن أن هذا المحذوف لا يصح حذفه البتة لأنه يفسد المعنى ويقلبه رأسا على عقب)، ثم زاد على ذلك فلَحَمَ الكلامين بطريقة خبيثة لا يتنبه معها القارئ إلى عملية التلاعب الدنيئة التى تمت بلَيْل! والنص المذكور خاص بالكلام عن أمية بن أبى الصلت، وهل استعان بالقرآن فى نظم الأشعار المنسوبة إليه والتى تشبه آى الذكر الحكيم؟ أم هل النبى هو الذى استعان بشعر الرجل؟ أم ترى الأمر كله لا يخرج عن استقاء الاثنين من مصدر مشترك؟ وقد انتهى جواد على إلى أن أشعار أمية ذات الصبغة القرآنية الواضحة منحولة عليه بعد الإسلام، ومن ثم فلا تشابه بين شعره وبين كتاب الله على الإطلاق مما لا يعود معه مجال للحديث عن أثر شعره فى القرآن المجيد. لكن تدليس سيد القمنى يقلب القضية رأسا على عقب، إذ يُظْهِر جواد على فى صورة المشايع لما يردده ملاحدة عصرنا من أن الرسول قد استعان بشعر أمية، وهو عكس ما انتهى إليه الرجل فى كتابه. ويمكن القارئ الرجوع إلى دراسة مطولة لى فى هذا الموضوع منشورة فى بعض المواقع المشباكية عنوانها: "القرآن وأُمَيّة بن أبى الصلت: أيهما أخذ من الآخر؟"، بيَّنْتُ فيها بالدليل الصارم القائم على وقائع التاريخ وتحليل النصوص واستشفاف الجو النفسى والاجتماعى فى ذلك العصر أن من المستحيل القول باقتباس القرآن من شعر أمية، وإلا لكان قد فضح النبىَّ عليه السلام هو ومن يشايعه على موقفه من مشركين ويهود، وبخاصة قومُه بنو ثقيف الذين دخلوا جميعا الإسلام ولم نسمع من أى منهم ولا حتى من أقرب المقربين إليه كأخته أو أبنائه أن هناك تشابها (مجرد تشابه!) بين شعره وبين القرآن الكريم، وأنه إذا كان لا بد أن نقول بالتشابه بين شعره وبين كتاب الله فلا بد أن يكون هو المقتبس من القرآن لا العكس. لكن القمنى قد تلاعب بالنص الذى نقله من كتاب "المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" بحيث يبدو وكأن جواد على يقول بتأثر القرآن بشعر الشاعر الثقفى كما ذكرنا، وهو ما يجده القارئ مفصَّلاً فى كتابى: "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسولل والصحابة" (مكتبة زهراء الشرق/1420هـ- 2000م/ 72وما بعدها).(51/228)
وهذا التدليس، بالمناسبة، قد تم فى كتاب القمنى الذى بين أيدينا، وها هو ذا النص المدلَّس أضعه بين يدى القارئ: "وفي أكثر ما نسب إلى هذا الشاعر من أراء ومعتقدات ووصف ليوم القيامة والجنة والنار؛ تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلاً، لما ورد عنها في القرآن الكريم، بل نجد في شعر أمية استخداما لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله والحديث النبوي قبل المبعث، فلا يمكن بالطبع أن يكون أمية قد اقتبس من القرآن؛ لم يكن منزلاً يومئذ، وأما بعد السنة التاسعة الهجرية؛ فلا يمكن أن يكون قد اقتبس منه أيضاً؛ لأنه لم يكن حيّا؛ فلم يشهد بقية الوحى ، ولن يكون هذا الفرض مقبولاً في هذه الحال. ثم إن أحداً من الرواة لم يذكر أن أمية ينتحل معاني القرآن وينسبها لنفسه، ولو كان قد فعل لما سكت المسلمون عن ذلك، ولكان الرسول أول الفاضحين له". ولكى يتبين القارئ مدى التدليس هأنذا أسوق له النص المتلاعَب به على وضعه الأصلى قبل أن يتم العبث فيه: "نجد في شعر أمية استخداما لألفاظٍ وتراكيبَ واردةٍ في كتاب الله والحديث النبوي، فكيف وقع ذلك؟... هل حدث ذلك على سبيل الاتفاق أو أن أمية أخذ مادته من القرآن الكريم أو كان العكس...؟ أو أن هذا التشابه مردّه شىء آخر هو تشابه الدعوتين واتفاقهما فى العقيدة والرأى واعتماد الاثنين على مورد أقدم هو الكتابان المقدسان: التوراة والإنجيل وما لهما من شروح وتفاسير أو كتب أو موارد عربية قديمة كانت مدونة ثم بادت... أو أن كل شىء من هذا الذى نذكره ونفترضه افتراضا لم يقع وأن ما وقع ونشاهده سببه أن هذا الشعر وُضِع على لسان أمية فى الإسلام وأن واضعيه حاكَوْا فى ذلك ما جاء فى القرآن الكريم...؟ أما الاحتمال الأول، وهو فَرْض أَخْذ أمية من القرآن، فهو احتمال إن قلنا بجوازه ووقوعه وجب أن نحصره فى مدة معينة وفى فترة محددة تبتدئ بمبعث الرسول وتنتهى فى السنة التاسعة من الهجرة، وهى سنة وفاة أمية بن أبى الصلت. أما قبل المبعث فلا يمكن بالطبع أن يكون أمية قد اقتبس من القرآن"... إلى آخر ما قاله جواد على وقطع به الطريق على أى بكّاش يريد أن يشكك فى الرسول والقرآن. ومع ذلك كله فكما يرى القارئ لم يحاول خليل عبد الكريم أن يرد على كلمة واحدة من هذه الاتهامات الموثقة كلها بالبراهين والشواهد. والعجيب أن كتابى الذى فضح التدليس القمناوى قد صدر منذ أكثر من خمس سنوات، بيد أن سيد القمنى لا يزال مصرًّا على أن يبقى التدليس كما هو، إذ لم يقم بتصحيح النقل الذى أخذه من الدكتور جواد على وعبثت أصابعه فيه، فعلام يدل هذا؟ وبالمثل نجد فى بحث الأستاذ منصور أبو شافعى عن "سيد القمنى ومَرْكَسَة الإسلام" أمثلة أخرى على هذا التدليس الذى يرتكبه صاحبنا فيما يسوق من اقتباسات لتعضيد آرائه بالباطل. كذلك لا أظن القارئ إلا تنبَّه إلى ما قاله خليل عبد الكريم عن نياته ومراميه التى صرّح بكل وضوح أننى قد تنبهت لها وأنه لم يئن الأوان بعد للكشف التام عنها. ومع هذا لا نعدم بين صبيان الإلحاد الصغار من ينبرى ويهاجمنا بحجة أننا لم نقرأ كما ينبغى ما يقوله أساتذتهم!
أما قول خليل عبد الكريم إننى قد تعديت على شخصه الضعيف...إلخ فكم كان بودى أن يقول للقراء ما صدر عنه فى حق النبى والصحابة والقرآن والإسلام والمسلمين والعلماء والفقهاء كله من غمز ولمز وتهكم واتهامات أقل ما توصف به أنها سافلة. ولكنْ للأسف هذا دَيْدَن خليل عبد الكريم وأمثاله: إنهم يشتمون ويتطاولون ويتهمون الآخرين بالغباء ويتصورون أنهم يفهمون (وهذه هى المصيبة الكبرى)، فإذا ما رددتَ عليهم بالمثل وألقمتهم بحُجَجِك أحجارا فى أفواههم تصايحوا وتباكَوْا وقالوا إنك تشتمنا، ثم هم مع ذلك كله لا يردون على حججك بشىء. وهو بالضبط ما يفعله هذه الأيام الدكتور أحمد صبحى منصور، إذ يسلِّط (هو ومن أجَّروه للهجوم على السنة النبوية بغية القضاء على الإسلام كله خطوةً خطوةً، بدعوى الغيرة على القرآن الكريم ونقائه) بعضَ اليرابيع للقيام بالشَّوْشَرة والسِّباب الذى لا يرتفع إلى مواطئ الأقدام مما لا يأبه به أحد، لكنه لا يحاول أبدا أن يجيب على الحجة بمثلها رغم ما تحدّاه به بعض القراء فى "عرب تايمز" وفى "شباب مصر" أن يرد على ما وُجِّه له من "نقد صاعق" حسب تعبير أحد الأفاضل. ولا شك أن القراء قد التفتوا إلى ما قاله خليل عبد الكريم ذاته من أننى استطعتُ أن أستشفّ مراميه وأدرك ما يهدف هو وأمثاله إليه ولا يستطيعون التصريح به الآن. أى أننى لم أظلمه ولم أسند إليه ما لم يقصده، فالحمد لله أن أنطقه بالصواب هذه المرة فلم يداور كعادته هو ومن يشاركونه طريقه الملتوى
سيد القمني و"مركسة" الإسلام
بقلم : منصور أبو شافعي**(51/229)
سيد القمني باحث ماركسي في التراث استطاع على مدى الخمسة عشر عاما الماضية وبأربعة عشر كتابا أن يضع مشروعه الفكري في قلب الخطاب العلماني الذي سوقه باعتباره "فتحا وكشفا كبيرا" و"اقتحاما جريئا وفذا لإنارة منطقة حرص من سبقوه على أن تظل معتمة"، بل واعتبر "بداية لثورة ثقافية تستلهم وتطور التراث العقلاني في الثقافة العربية الإسلامية ليلائم الإسلام (وليس التراث) احتياجات الثورة الاشتراكية القادمة".
ولم يقف التسويق العلماني عند هذا الحد. ففي حين لا يتورع عن أن يرى أن القرآن (الإلهي) "يجسد نصّا تاريخيّا" لا بد من وضعه "موضع مساءلة إصلاحية نقدية"، فقد تعدى هذا الإعلام نقطة الانحياز وأغلق في وجه العقل باب مراجعة أو إمكانية نقد مشروع القمني بحجة أن محاولة نقده "نقدا موضوعيّا أمر مستحيل"!! وهو ما أراه انهيارا للعقل العلماني أمام مشروع د. القمني (الفكري - النسبي - البشري)؛ إذ القول باستحالة نقده يكاد يعني "قداسة" هذا المشروع و"تطهره من الخطأ".
وبدا أن القمني نفسه والذي قيل عنه إنه "واحد من العلماء الصارمين الذين يعتمدون العلم لا الأساطير". يؤكد هذه القداسة ولا ينفيها حين يقول عن نفسه إنه في مشروعه الفكري عاين التراث "حيّا بلحمه وشحمه ودمه" وقدمه "كما كان حقّا".
وعلى كل فقد مارس القمني حقه الكامل في السؤال وفي البحث وفي الإجابة في كتبه ومقالاته التي يحوم بعضها حول المناطق الحساسة في التاريخ والعقيدة. وبعضها الآخر يقتحم -بلا حذر وأحيانا بتهور- هذه المناطق تحت ضغط أيديولوجي فاقع اضطره -في أغلب كتاباته- إلى التضحية بالمعلوم بالضرورة في كتب مناهج البحث العلمي عن "نقد الأصول". وإلى اعتماد "الأساطير" سواء التراثية أو حتى الاستشراقية بحجة -كما قال وأكد- أن "مهمتنا (مهمته) أبدا ليست تدقيق معلومة يعطيها لنا علماء"، وأن "المعلومات سواء كانت خطأ أم صوابا فهي ذلك المعطى الجاهز لنا من أهل التاريخ".
ولأن ذلك كذلك. فسأحاول -وبإيجاز شديد- إلقاء بعض الضوء على المشروع الفكري للدكتور القمني*. وكيف أعاد إنتاج الإسلام ماركسيّا "ليلائم احتياجات الثورة الاشتراكية"؟.
مشروع مادي
وللأهمية القصوى نبدأ بإثبات تعريف القمني لنفسه بقوله: "أنا مادي". ومن المهم كذلك إثبات حقيقة أن الفارق الجوهري (الفلسفي) بين الموقف "المثالي" والموقف "المادي" في "ألف - باء" ماركسية، يتلخص في أن:
الأول يقول بـ"أولية الله على المادة في الوجود"، وبالتالي فهو يؤمن بوجود إله خالق للكون وللطبيعة وللإنسان، وبأن العلاقة بين الله (الخالق) والإنسان (المخلوق) يمكن أن تكون في شكل رسالة (وحي) ورسول (نبي - بشري).
وأما الثاني فيقول بـ"أولية المادة على الله في الوجود"؛ وبالتالي فهو حسب "المادية الديالكتيكية" لا يؤمن بوجود موضوعي حقيقي لله. ومن ثَم -وهذا طبيعي- لا يذهب إلى إمكانية وجود علاقة (سواء في شكل دين أو وحي) بين إله (غير موجود عنده أصلا) وبين إنسان هو الخالق الفعلي لله. وحسب "المادية التاريخية" فـ"المادي" لا بد أن يبحث في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للإنسان عن وجود وتطور فكرة الله والدين.
وهذا ما حاول القمني الالتزام به في مشروعه الفكري الذي رفض فيه ما أسماه بـ"الرؤى الأصولية" التي تقول بأن الإسلام "مفارق سماوي"؛ لتناقض هذا القول "الأصولي" أو "المثالي" مع "مادية" القمني التي تقول بـ"أنه لا شيء إطلاقا يبدأ من فضاء دون قواعد مؤسسات ماضوية يقوم عليها ويتجادل معها، بل ويفرز منها حتى لو كان دينا". والذي حاول فيه (ومن خلال دراسته للأديان عموما وللإسلام خصوصا) إثبات أن "فكرة التوحيد" هي الأخرى لا تأتي من فراغ، ولا تقفز فجأة دون بنية تحتية تسمح بها؛ لأن هذا القفز الفجائي يخالف منطق التطور وشروطه المجتمعية والاقتصادية والسياسية"، حسبما تعلم "في فلسفة التاريخ وقوانين الحراك الاجتماعي".
تفسير ماركسي
ولاعتقاد القمني (الماركسي - المادي) أن الإسلام مجرد "إفراز" أفرزته "القواعد الماضوية" (الجاهلية). ولأنه -حسب الرؤية المادية- لا يمكن تفسير الظهور التاريخي للإسلام (كبناء فوقي) وفقا لوعي الإسلام المثبت في قرآنه، بل ينبغي تفسيره بتناقضات الحياة المادية (كبناء تحتي)؛ لذلك فقد رجع القمني في دراساته عشرات الأعوام في عمق الحقبة الجاهلية؛ لينقب في وقائعها عن جذور "جاهلية" لمثلث (الرسول - الرسالة - الدولة).(51/230)
ولكن ليقين القمني أن اللحظة التطورية (الاقتصادية - الاجتماعية) في الزمن الجاهلي لحظة بدائية أو بدوية لن تسعفه وقائعها في "جهلنة" المثلث الإسلامي، خصوصا أن هذه الوقائع -في رأيه- قد تم "أسطرتها" بزيادة هائلة ومكثفة "عند تدوين التراث الإسلامي في سجلات الإخباريين"، فلم يبدأ القمني دراسته للقواعد الماضوية بنقد الوقائع المدونة في سجلات الإخباريين لتخليصها من النسبة الأسطورية "الهائلة والمكثفة" في معلوماتها. وإنما -وعن قصد- تخلى عن عقله النقدي، وتجنب الوقائع العقلانية في السجلات التراثية. وذلك ليوسع رقعة "الأسطرة" كضرورة أيديولوجية وليست علمية تمكنه من تفكيك المثلث الإسلامي وإعادة ترتيبه ليكون الإسلام (الرسالة) مجرد "إفراز" أرضي وليس وحيا سماويّا.
تحت ضغط هذه الغاية اعتمد الدكتور ما أسماه بـ"المعطى الجاهز له من أهل التاريخ" عن الصراع الهاشمي الأموي قبل البعثة الإسلامية. ورغم أن سبب هذا الصراع كما سجله الطبري (مرجع القمني) أن هاشم بن عبد مناف أطعم قومه الثريد "فحسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف -وكان ذا مال- فتكلف أن يصنع صنيع (عمه) هاشم، فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش، فغضب (أمية) ونال من هاشم". ورغم أن أغلب الكتب التراثية التي روت واقعة الصراع قدمت معلومات تشكك في حقيقته، منها أن "هاشم توأم عبد شمس"، و"كان لهاشم يوم مات خمس وعشرون سنة". أي وكان لعبد شمس يوم مات "توأمه" خمس وعشرون سنة. وهي معلومة -كما نرى- تثير تساؤل: كم كان سن أمية يوم مات عمه أخو أبيه وتوأمه؟ (خمس سنوات أو حتى عشرة). بل ورغم أن ابن إسحاق وابن هشام وابن سيد الناس وابن كثير سكتوا عن مجرد الإشارة إلى هذا الصراع في مؤلفاتهم التي تصنف ككتب "أصول". فقد تجاهل القمني كل ما سبق حتى لا يشك في تاريخية هذا الصراع الذي انتقاه ليكون "القاعدة الماضوية" والمحرك للمجتمع المكي على جسر "الدين" نحو "الدولة".
أيديولوجيا تأسيس الإسلام!
وبدون دخول في تفاصيل كثيرة. أو تعليق على عشرات الأخطاء "الطلابية" التي امتلأت بها معالجة القمني لمراحل وتطور هذا الصراع؛ فالذي يجب رصده أن "الحزب الهاشمي" في بدايات تأسيسه لم يكن فاعلا بشكل جذري؛ لأنه -في أهدافه (سواء في زمن قيادة هاشم أو في زمن قيادة شقيقه المطلب)- كان ملتزما بخط "قصي" (الجد). ويكاد يدور في دائرته؛ لذلك كان الصراع يحل سلميّا "حرصا على المصالح التجارية وما سبق أن حققه عمه "المطلب" الذي "رحل تاركا له استكمال المهمة الجليلة". فقد نقل الصراع مع أبناء عمومته (الحزب الأموي) من المناوشات المحدودة إلى المواجهة الشاملة. وبتعبير القمني "من التكتيك إلى الأيديولوجيا".
ولأن عبد المطلب -كما يقول القمني- تربى في يثرب "حيث كان كل التاريخ الديني يتواتر هناك في مقدسات اليهود"، وحيث كانت حكايات اليهود "عن مغامرات أنبيائهم القدامى، وعن دولتهم الغابرة التي أنشأها النبي داود". فقد أتى من يثرب إلى مكة بالمشروع الإسرائيلي (اليهودي) بمثلثه (العرقي - الديني - السياسي) ليهتدي به في "مهمته الجليلة" بـ"وضع أيديولوجيا متكاملة لتحقيق أهداف حزبه الهاشمي".
أولا: أرجع النسب العربي من نسب أسلاف القبائل المتفرقة إلى التوحد في "سلسلة النسب الإسرائيلية". وأعلن "أن العرب جميعا وقريشا خصوصا يعودون بجذورهم إلى نسب واحد، فهم برغم تحزبهم وتفرقهم أبناء لإسماعيل بن إبراهيم".
ثانيا: بعد "قراءة" للواقع العربي المتشرذم تمكن عبد المطلب من "تحديد الداء (المكي - العربي) ووصف الدواء. والداء فرقة قبلية عشائرية. والأسباب تعدد الأرباب وتماثيل الشفعاء.
"ومن هنا انطلق عبد المطلب يضع أسس فهم جديد للاعتقاد" و"انطلق يؤسس دينا جديدا يجمع القلوب عند إله واحد".
ثالثا: وبإزالته أسباب "الفرقة القبلية" لم يكتف عبد المطلب -في رأي القمني- بتبشير قومه بـ"إمكان قيام وحدة سياسية بين عرب الجزيرة تكون نواتها ومركزها مكة تحديدا". لكنه عمل أيضا على ملء المساحة الفاصلة بين نقطة الوسيلة (الدين) ونقطة الغاية (الدولة) بحركة جماهيرية تكون بمثابة الجناح الديني للحزب الهاشمي. وهو ما حدث فعلا في رأي القمني "فقد آتت مخططات عبد المطلب ثمارها واتبعه كثيرون" كوّنوا حركة الحنفاء "حتى شكلوا تيارا قويّا، خاصة قبل ظهور الإسلام بفترة وجيزة". وكان عبد المطلب هو "أستاذ الحنيفية الأول" و"الرجل الأول" في هذا التيار.
رابعا: ولأن المشروع الإسرائيلي هو المرجع، ودولته "التي أنشأها النبي والملك داود" هي النموذج، ولأن عبد المطلب التزم في "استكماله للمهمة" وفي "وضعه للأيديولوجيا" الهاشمية بخطوط التجربة الإسرائيلية. فقد انتهى إلى "أنه لا حل سوى أن يكون منشئ الدولة (العربية) المرتقبة نبيّا مثل داود".(51/231)
خامسا: بالوصول إلى حل "النبي الملك" أو "الملك النبي" كحل سبق تجريبه، وحقق توحيد "أسباط" اليهود في "دولتهم الغابرة". وليبقى أمر التنفيذ -كما في أمر التخطيط- محصورا في البيت الهاشمي. فقد ذهب د. القمني إلى أن عبد المطلب زعيم قريش وقائد الحزب الهاشمي سلّم عقله ويداه لـ"الحبر اليهودي" ليشاهد ويشهد "أن في إحدى يديه ملكا وفي الأخرى نبوة". وليرشده (بعد قراءة الكف) بحتمية زواجه من بني زهرة "لأن فيهم الملك والنبوة". وسارع عبد المطلب بالزواج -هو وابنه عبد الله- من بني زهرة في ليلة واحدة.
بالتحول "الانقلابي" و"الثوري" للصراع الهاشمي الأموي من صراع ساذج على "إطعام قريش الثريد" -كما في الخبر التراثي- إلى صراع حضاري غير مسبوق في التاريخ. وبوضعه لـ"الأيديولوجيا" الهاشمية استطاع عبد المطلب "ذاك العبقري الفذ" أن يغير -بجذرية- ليس فقط الواقع العربي الجاهلي. وإنما أيضا كل المستقبل الإنساني بدوره "التأسيسي" للدين (الحنيفية - الإسلام) وللدولة (العربية - الإسلامية) ولنبوة حفيده محمد.
ما بعد أخطاء المنهج
نعم في توثيقه لدور عبد المطلب "التأسيسي" للدين "التوحيدي" قطع القمني بأن ما ذهب إليه هو نفس ما يؤكده ابن كثير بما رواه عن عبد الله بن عباس عن "ديانة أبي طالب بن عبد المطلب: هو على ملة الأشياخ. هو على ملة عبد المطلب". وبالرجوع إلى مرجع القمني ("البداية والنهاية" - جـ 3 - 170) وجدنا ابن كثير في فصل "وفاة أبي طالب" وفي تعليقه على آية (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) يروي عن عبد الله بن عباس "أنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله أن يقول: لا إله إلا الله. فأبى أبو طالب أن يقولها. وقال: هو على ملة الأشياخ.. هو على ملة عبد المطلب".
ومن سياق ما رواه ابن كثير (وأخفاه القمني بقصد) نفهم أن الحفيد (عبد الله بن عباس بن عبد المطلب) روى أن عمه (أبو طالب) رفض أن يقول "لا إله إلا لله". وتمسك (ضد هذا القول التوحيدي) بملة الأشياخ (آباء البيت - الحزب الهاشمي). وتحديدا بملة عبد المطلب التي حسب ظاهر وباطن السياق لا تقول (أي لا تؤمن) بلا إله إلا الله. ورواية الحفيد (ابن عباس) استشهد بها ابن كثير لتأكيد موقفه الذي سجله في أكثر من موضع في كتابه من أن "عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية" (ج2 ص 285).
ونضيف أن ما فعله القمني من تحريف لما رواه ابن كثير كرّر فعله مع ما نقله عن "السيرة الحلبية" (جـ1 ص73) في توثيقه لما أسماه بـ"علم عبد المطلب اليقيني بنبوة حفيده محمد" وسعيه لتحقيق هذا "اليقين" على أرض الواقع بالزواج من بني زهرة. وأيضا هذا التحريف هو ما فعله مع ما نقله عن كتاب "طوالع البعثة المحمدية" (للعقاد) في توثيقه لشرط "توحيد الأرباب" في أنه كمقدمة لازمة لـ"توحيد القبائل" في دولة، ولشرط "أن يكون منشئ الدولة المرتقبة نبيّا مثل داود".
وكل هذه الوقائع (وهي قليل جدّا من كثير جدّا) تؤكد تدخل القمني في نصوص مراجعه "ليجبرها" (بالتحريف والتحوير) على تمكينه (كماركسي - مادي) من تخييل عبد المطلب ليس فقط كقائد لـ"الحزب الهاشمي" في صراعه (الأسطوري) مع "الحزب الأموي". إنما -أيضا والأهم- لتخييله "كمؤسس" للدين (الحنيفية - الإسلام) وللدولة (العربية - الإسلام). وكل هذا لحصر دور حفيده محمد بن عبد الله بن عبد المطلب في دائرة "التنفيذ".
هنا نود لفت نظر القارئ إلى سكوت القمني عن تناول -أو حتى الإشارة إلى- المساحة الزمنية الفاصلة بين انتهاء التخطيط لمثلث (الدين - الرسول - الدولة) في حياة (الجد) عبد المطلب وبين بداية التنفيذ بإعلان (الحفيد) محمد نبوته. فالمعروف أن عبد المطلب مات ومحمد في الثامنة من عمره، ومحمد أعلن نبوته في سن الأربعين، أي أن المساحة الزمنية الفاصلة بين التخطيط والتنفيذ تزيد على الثلاثين سنة، وطول هذه الفترة يستنفر في عقولنا السؤال الطبيعي عن مدى فاعلية أداء "الحزب الهاشمي" أثناءها؟ وهل تلقف راية "الحزب" أحد أبناء عبد المطلب لاستكمال الكيان التنظيمي والأيديولوجي؟ أم أن عبد المطلب استكمل كل شيء؟ وهذا كان يوجب على د. القمني أن يشغل عقله بالسؤال عن الموانع التي منعت عبد المطلب من تنفيذ ما خطط له؟ أو بالسؤال عن أسباب زهد أبناء عبد المطلب في نيل شرف تنفيذ خطة "الحزب الهاشمي"؟ وهل مرور هذه الفترة الطويلة جدّا كان نتيجة فراغ قيادي؟ أم كان نتيجة تمرد أبناء عبد المطلب على "دينه" الذي "أسسه"؟ أم أنه حسب "الخطة المرسومة والمدروسة والمنظمة" كان كمونًا تكتيكيًا معلومًا ومتفقًا عليه بين قيادة وقاعدة "الحزب الهاشمي" إلى حين تهيئة الحفيد (محمد) لـ"الداودية" (النبي - الملك).(51/232)
وأستطيع القول: إن هذا هو ما حاول القمني طرحه ليس كغرض وإنما كحقيقة موثقة. فالثابت في دراسات القمني أنه كما اعتمد الجد (عبد المطلب) على التجربة الإسرائيلية (العرقية - الدينية - السياسية) في تأسيسه للدين وللدولة وفي ترويجه لنبوة حفيده. فالحفيد (محمد) في تنفيذه لـ"خطة" جده تخفف من العبء الأخلاقي. فأولا: ولتحقيق الأمان المالي تزوج "الأرملة الثرية" خديجة بنت خويلد بعد خداع والدها وتغييبه عن الوعي (بالخمر) لانتزاع موافقته التي تنكر لها بمجرد استيقاظه. ووصل الأمر بالأب إلى حد التظاهر ضد هذا الزواج في شوارع مكة. ولتأكيد هذا الخداع أشار القمني وبكل ثقة إلى نقله لهذه المعلومة عن ابن كثير.
وبالرجوع إلى مرجع القمني وجدناها بنصها في كتاب "البداية والنهاية" جـ2 - ص 229). ولكن وجدنا أيضا (وأخفاه د. القمني بقصد) أنها رواية ضمن روايات "جمعها" ابن كثير ليرجح عليها رواية أخيرة هذا نصها "قال المؤملي: المجتمع عليه أن عم خديجة عمرو بن أسد (وليس والدها) هو الذي زوجها محمدا. وهذا -في رأي ابن كثير- هو الذي رجحه السهيلي وحكاه عن ابن عباس وعائشة قالت: وكان خويلد مات قبل (حرب) الفجار، أي قبل زواج محمد من خديجة بخمس سنوات.
وثانيا: والمهم عند القمني- أنه بعد تحقيق الأمان المالي بدأ الحفيد (محمد) "يتابع خطوات جده" لتحقيق النبوة بالوحي. وهي خطوات قادته إلى سرقة أشعار أمية بن أبي الصلت. وادعاء أنها وحي الله إليه. وبقصد وليوهم د. القمني القارئ بأن ما قاله عن المصدر الشعري (الجاهلي) للقرآن ليس رأيا تفرد به، فقد أكد أن ما قاله كان نقلا عن عالم مشهود له بالموضوعية والدقة هو د. جواد علي. وبالرجوع إلى موسوعة د. جواد "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" (جـ6 من ص 490 حتى ص 498) اكتشفنا أن د. القمني قام بتحريف أقوال د. جواد ليجبره على أن يقول بما ختم به القمني دراساته.
"لعبت هاشم بالملك فلا
ملك جاء ولا وحي نزل"
وهذه جزئية تناولتها بإسهاب وتفصيل في كتابين: الأول بعنوان "مركسة الإسلام" والثاني بعنوان "مركسة التاريخ النبوي" (صدر في سلسلة "التنوير الإسلامي").
وما أوردته فيها من أدلة موثقة على تعمد القمني الكذب ليتمكن من إرجاع مثلث (الإسلام - الرسول - الرسالة) إلى منابع جاهلية ويهودية. يغنيني -الآن- عن الإطالة ويغريني بالتوسع في دراسة موقف د. القمني من القرآن (مصدره -جمعه وتدوينه- وعملية التعامل مع نصوصه). وهذا ما أحاوله الآن.
اقرأ أيضًا:
الفلسفة الغربية.. من معاداة الإيمان والحق إلى نسيانهما
هل الإسلام أيديولوجيا؟
تغيير المناهج الدينية.. لمصلحة من؟ ( ملف خاص)
تنقيح القرآن: لعبة التأويل والنص القرآني
--------------------------------------------------------------------------------
** كاتب وباحث
* اعتمدت هذه القراءة على نقد ما طرحه سيد القمني في مؤلفاته: حروب دولة الرسول، الحزب الهاشمي، الأسطورة والتراث، السؤال الآخر، رب الزمان.
==============(51/233)
(51/234)
تعرف على الملحد .. ( صادق العظم )
خرج علينا قبل أيام عبر قناة الجزيرة : الماركسي القديم ( صادق العظم ) خلال محاورة فكرية ، وكنت أظن أن مثل هذه المخلوقات قد انقرضت بعد سقوط أمها وحاضنتها روسيا الشيوعية ؛ ولكن يظهر أن بعض بني قومنا ماركسيون أكثر من ماركس نفسه ! وقد أحببت أن أعرف القراء بحقيقة هذا الرجل الذي ربما يجهل البعض تاريخه ... فأقول - مستعينًا بالله - :
- هو صادق جلال العظم، ملحد سوري (من أصل تركي) يدين بالفكر الشيوعي البائد. ولد في دمشق سنة 1934م. - والده جلال العظم كان أحد العلمانيين المعجبين بتجربة كمال أتاتورك في تركيا (انظر ص 14-15 من كتاب " حوار بلا ضفاف "، الذي أجراه صقر أبو فخر مع العظم ). وزوجته هي فوز طوقان (عمها الشاعر إبراهيم طوقان وعمتها الشاعرة فدوى طوقان).
- يعترف العظم بأنه نشأ في جو علماني متحرر لا يعرف أحكام دينه ولا ينفذها. يقول (ص 15 من المرجع السابق) : (كان هناك -أي في بيته- تدين عادي ومتسامحٍ وغير متمسك بالشعائر والطقوس)!! ويقول أيضاً (ص22): (لم يكن أحد حولي يصلي أو يصوم)! - سأله صقر أبو فخر (ص 63): (هل ترى في السلفية الجديدة خصماً حقيقياً؟) فأجاب: (نعم، هي خصمٌ جدي) !
- درس الفلسفة، وكانت رسالته عن الفيلسوف (كانط)، عمل في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم أستاذاً بجامعة عمَّان سنة 1968م، ثم باحثاً في مركز الأبحاث الفلسطيني، ثم عاد إلى دمشق وتولى رئاسة قسم الفلسفة، بجامعة دمشق.
- اعتنق العظم الفكر الشيوعي (وجهر) بإلحاده في كتابه الشهير "نقد الفكر الديني" المطبوع عام 1969م، الذي خلاصته الزعم بأن الدين (لاسيما الإسلام!) يناقض العلم الحديث! كما هي دندنة الشيوعيين سابقاً قبل أن ينكشف زيفهم وتنتكس شعاراتهم وأفكارهم.
وإليك شيئاً من أقواله في هذا الكتاب :
- (إن كلامي عن الله وإبليس والجن والملائكة والملأ الأعلى لا يُلزمني على الإطلاق بالقول بأن هذه الأسماء تشير إلى مسميات حقيقية موجودة ولكنها غير مرئية) ! (ص59من الطبعة الثامنة).
- (أصبح الإسلام الأيدلوجية الرسمية للقوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي وخارجه: السعودية، أندنوسيا، الباكستان) (ص 16-17).
- (إن الدين بديل خيالي عن العلم) (ص17).
- (يعترف رجال الدين الإسلامي! وكتابه بوجود تناقض ظاهري -على أقل تعديل- بين العلم الحديث وثقافته ومناهجه من ناحية، والدين الإسلامي) (ص23) ولا ندري من هؤلاء المعترفون؟!
- يطعن العظم في القرآن (صراحة) بقوله (ص25): (يشدد القائلون بالتوافق التام بين الإسلام والعلم أن الإسلام دين خالٍ من الأساطير والخرافات باعتبار أنه والعلم واحد في النهاية، لنمحص هذا الادعاء التوفيقي بشيء من الدقة! بإحالته إلى مسألة محددة تماماً. جاء في القرآن مثلاً أن الله خلق آدم من طين ثم أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس، مما دعا الله إلى طرده من الجنة. هل تشكل هذه القصة أسطورة أم لا ؟ نريد جواباً محدداً وحاسماً من الموفقين وليس خطابة. هل يفترض في المسلم أن يعتقد في النصف الثاني من القرن العشرين بأن مثل هذه الحادثة وقعت فعلاً في تاريخ الكون؟ إن كانت هذه القصة القرآنية صادقة صدقاً تاماً وتنطبق على واقع الكون وتاريخه لابد من القول أنها تتناقض تناقضاً صريحاً ! مع كل معارفنا العلمية..)!! الخ هرائه. ولا ندري ما هي هذه المعارف العلمية التي تناقض كلام الله؟! إلا إذا كانت معارفه المادية التي لا تؤمن بالغيب.
- يقول الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه "صراع مع الملاحدة حتى العظم" (ص12-13) بأن العظم ألف كتابه السابق: (خدمة للماركسية والداروينية والفرويدية، وسائر النظريات بل الفرضيات اليهودية الإلحادية. وهو في كل ذلك يتستر بعبارات التقدم العلمي والصناعي والمناهج العلمية الحديثة، ولا يقدم من البينات إلا قوله مثلاً: إن العلم يرفض هذا، أو لا يُسلم بهذا، أو يثبت هذا، دون أن يطرح مناقشات علمية نقدية تتحرى الحقيقة).
- ويقول العظم عن عقيدته الشيوعية (ص 29): (إنها أهم نظرية شاملة صدرت في العلوم)!
- ومما يثير العجب: أن العظم -رغم إلحاده- عقد فصلاً في كتابه السابق "نقد الفكر الديني" يدافع فيه عن (إبليس) !! سماه (مأساة إبليس) (ص55 وما بعدها) ردد فيه شبهات إبليس التي نقلتها بعض الكتب السابقة في اعتراضه على القدر؛ ككتاب "الملل والنحل" للشهرستاني (7-10) . ولكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى (8/115): (هذه المناظرة بين إبليس والملائكة التي ذكرها الشهرستاني في أول المقالات ونقلها عن بعض أهل الكتاب ليس لها إسناد يعتمد عليه).
وقال -رحمه الله- معدداً طوائف القدرية (القسم الثالث: القدرية الإبليسية الذين صدقوا بأن الله صدر عنه الأمران [أي أنه قدَّر وأمر ونهى]، لكن عندهم هذا تناقض.. وهؤلاء كثير في أهل الأقوال والأفعال من سفهاء الشعراء ونحوهم من الزنادقة) (الفتاوى 8 /260).(51/235)
ثم ختم العظم كلامه بقوله عن إبليس (ص85): (يجب أن نرد له اعتباره بصفته ملاكاً يقوم بخدمة ربه بكل تفان وإخلاص!... يجب أن نكف عن كيل السباب والشتائم له، وأن نعفو عنه ونطلب له الصفح ونوصي الناس به خيراً) !! فتأمل هذا (الكفر) ما أعظمه ؟
قد يقول قائل: كيف يكون العظم ملحداً ثم يعترف بوجود إبليس ؟! فأقول: قد صرح الملحد في بداية كلامه -كما سبق- أنه لا يعترف بوجود إبليس لأنه لا يعتقد أصلاً بوجود خالقه ولكن بحثه -كما يدعي- (ص57): (يدور في إطار معين لا يجوز الابتعاد عنه على الإطلاق؛ ألا وهو إطار التفكير الميثولوجي الديني الناتج عن خيال الإنسان الأسطوري وملكاته الخرافية) فهو يريد دراسة شخصية إبليس (باعتبارها شخصية ميثولوجية أبدعتها ملكة الإنسان الخرافية، وطورها وضخمها خياله الخصب) (ص 57).
ومع هذا: فقد قال الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه "هوامش على كتاب نقد الفكر الديني" (ص61) بأن بحث العظم عن إبليس: (لم يكن من بنات أفكاره، ولا من وحي ثقافته العلمية، وإنما استقى خطوطه الأساسية من بحث المستشرق "ترتون" عن الشيطان، وبحث المستشرق "فنسنك" عن إبليس المنشورين في الانسكلوبيديا الإسلامية). قلت: انظر البحثين في دائرة المعارف الإسلامية (14/46-57).
أخيراً : فقد قام بالرد على العظم كثير من العلماء والكتاب؛ من أبرزهم:
1- الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه "صراع مع الملاحدة حتى العظم".
2- الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه "هوامش على كتاب نقد الفكر الديني".
3- الأستاذ جابر حمزة فراج في كتابه "الرد اليقيني على كتاب نقد الفكر الديني".
4- الأستاذ محمد عزت نصر الله في كتابه "تهافت الفكر الاشتراكي".
5- الأستاذ محمد عزة دروزة في كتابه "القرأن والملحدون" .
6- الدكتور عبداللطيف الفرفور في كتابه "تهافت الفكر الجدلي".
7- الباحث حسن بن محمد الأسمري في رسالته "موقف الاتجاه الفلسفي المعاصر من النص الشرعي". ( لم تطبع بعد ) .
8- الأستاذ أحمد أبو عامر في مقاله "إلى متى تنطح صخور الإسلام" في المجلة العربية (رجب 1413هـ).
وقد قمت باختصار مقالة الأستاذ أحمد -حفظه الله- ليستفيد منها القراء؛ نظراً لوفائها بالمقصود: قال الأستاذ أحمد: (صادق جلال العظم كاتب يحمل درجة الدكتوراة في الفلسفة، ويقوم بتدريس تخصصه في الجامعة الأمريكية في بيروت. ماركسي متطرف في توجهه وطروحاته الفكرية. من أشهر كتبه "نقد الفكر الديني" سأوضح نبذة عنه وكيف تصدى له كثير من العلماء والمفكرين بالنقد والمناقشة العلمية، ولا يغيب عن الذهن قول أحد المفكرين المعاصرين من حملة الفكر الفلسفي. إذ يقول: إن الفيلسوف إما أن يحيط بعلمه فيكون مؤمناً أو لا يحيط به فيلحد، وجل الملحدين من هؤلاء أنصاف وأرباع فلاسفة. وهذا هو حال (العظم) الذي يتظاهر بمظهر الفيلسوف وهو ليس كذلك بل هو داعية ملحد في طروحاته الفكرية المعروفة. ولقد بدأ الرجل كاتباً في عدد من الصحف الشيوعية والعلمانية المشبوهة مثل (الثقافة العربية) يسارية، و(دراسات عربية) ماركسية، و(حوار) وهي ذات عمالة لأحد مراكز الاستخبارات الغربية. وكانت تلك المجلات التي تصدر في بيروت تتبنى الطروحات الإلحادية من دعاوى مصادمة العلم مع الدين والدعاية لنظرية النشوء والارتقاء والدعوة إلى أن نهاية كل شيء هو الفناء والدعوة إلى الاتجاه المادي للحياة. وكتابات العظم في تلك المجلات التي جمع بعضها في كتابه (نقد الفكر الديني) يتبين منها إلحاده ومحاولة تستره خلف ظلال باهته من المعرفة المشوهة والعلم الناقص والادعاءات الفارغة والملونة بألوان من الفلسفة والفكر، وأنا حينما أقول ذلك لا أتجاوز الحقيقة كما سترون.
هو كما أسلفت جمع لعدد من مقالاته السابقة وبعض محاضراته التي ألقاها في بعض المنتديات اليسارية والعلمانية، ومن تلك المقالات (الثقافة العلمية والفكر الديني) ومحاضرته (مأساة إبليس) ومحاضرة (الله والإنسان في الفكر المسيحي المعاصر) والتعليق على زعم ظهور (مريم العذراء في مصر) وأما ما يعتبر جديداً وينشر لأول مرة فهو مقالته عن الدعوة إلى التصور العلمي المادي للكون وتطوره. ومن خلال هذه العناوين يمكن تلخيص أفكاره في النقاط التالية:
1- الفكرة الأساسية للكتاب إنكار وجود الباري جل وعلا إنكاراً كلياً!
2- زعمه وجود تناقض بين العلم والدين.
3- إنكاره ما سماه بالنظرية الدينية وزعمه تناقضها مستشهداً بقصة إبليس في القرآن الكريم.
4- دعوته لإقامة تصور مادي للكون وتطوره بمعزل عن الدين.
وقد تناول كثير من العلماء والمفكرين كتابه هذا الذي طارت به الصحف والمجلات الماركسية دعاية وتأييداً كعادتها، لكن علماء الإسلام بعد قراءته نقدوه نقداً علمياً بين تهافت أفكاره وسقوطها.
ولابد من وقفات سريعة تبين تهافت مزاعمه الإلحادية السابقة على النحو التالي:
أولاً: وجود الباري عز وجل: فالعظم لا يقتنع بالأدلة النقلية لأنه لا يؤمن بها أصلاً، فلم يعد أمامي سوى النقاش العقلي الذي أضعه في النقاط الآتية:(51/236)
1- لابد لكل حادث من محدث ؛ إذن هذا العالم وما يحويه لابد له من خالق مبدع متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقصان وإنكار ذلك ضلال وخطأ.
2- هذا الكون ليس أزلياً لا ابتداء لوجوده ؛ إذ لو كان كذلك لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد وتوقف كل نشاط في الوجود وهذا ما يؤكده العلم التجريبي في (القانون الثاني للحرارة الديناميكية) والذي ينص على أن الطاقة في الكون تقل تدريجياً بصورة مطردة. وبما أن له بداية فلا يمكن أن يكون قد بدأ بنفسه كما مر في الفقرة الأولى.
3- القول بالمصادفة بالنسبة لنظام الوجود الشامل المحكم ذي الإتقان العجيب لا يقول به إلا جاهل بعيد عن التحقيق ومكابر يرى الحق ويعرض عنه وهذا ما تؤكده القاعدة الرياضية في حساب الاحتمالات أو (قانون المصادفة) وتفصيلة يطول به البحث. ومن ينكر هذه الحقائق العلمية فما عليه إلا أن يعالج نفسه من أسباب الإنحراف الفكري من جهل وكبر وهوى وتردد في قبول الحق وحينها ستشرق في نفسه بوادر الحق وتتلألأ في قلبه أنوار اليقين.
ثانياً: لابد من إقناعه بنبوة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم الذي جاء برسالة الإسلام، فقد أخبر بالغيوب كغلبة الروم للفرس (سورة الروم الآيات 1-6)، وإخباره بوعد الله باستخلاف المؤمنين في الأرض (سورة النور آية 55) وإخباره بإظهار دين الإسلام على سائر الأديان (الفتح28) . ودليل نبوت صلى الله عليه وسلم معجزته الخالدة القرآن الكريم التي أعجزت العرب قديماً وحديثاً ويكفي القرآن فخراً أن أثبت بحث المستشرق الفرنسي (موريس بوكاي) صدقه في دراسته المعروفة (التوراة والإنجيل والقرآن في ضوء المعارف الحديثة) ويمكن لمعرفة المزيد الرجوع إلى (الوحي المحمدي) لرشيد رضا.
ثالثاً: أما الزعم بوجود تناقض بين الدين والعلم فهو تعميم مرفوض وغير مقبول في الدراسات العلمية، نعم قد يوجد هذا التناقض في الأديان الأخرى غير الإسلام مثل النصرانية واليهودية وكتبهم المقدسة شاهدة على ذلك. أما أن يدخل الإسلام في هذه الدعوى فهو مردود عليه وعلماء المسلمين قد بينوا هذه المسألة قديماً وحديثاً ، فشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) أو ( الرد على المنطقيين ) ناقش هذه المسألة وبين استحالة ذلك مما تسقط معه هذه الشبهة .وفي العصر الحديث كتب عنها كثيراً؛ ومن أبرز ما كتب كتاب (الدين في مواجهة العلم) للداعية الإسلامي الهندي وحيد الدين خان حيث ناقش هذه الإلحادية الغربية في مواقفها المتشنجة من الدين وأسقطها وبين أن هذه الدعوى وليدة الصراع بين العلم الحديث والكنيسة النصرانية، ولا علاقة للإسلام بها إذ أنه دين العلم والفكر، وما جاء في الإسلام من أحكام قد يكشف العلم أسراره وحكمه وقد يعجز لكنه قد يكشف مستقبلاً وصدق الله العظيم (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) ولذلك كان لكثير من عقلاء الغرب وقفات منصفة مع الإسلام أعلنوا بعد إطلاعهم عليه إسلامهم ومنهم رجال للدين النصراني، فهل بعد ذلك يصح (للعظم) أو غيره إثارة هذه الدعاوي الباطلة؟ وهل يغتر بها سوى الجهلة والمضللين؟ وعلاج هؤلاء بالعلم والإنصاف وستتضح لهم الحقيقة وما بعد الحق إلا الضلال.
أما ضرب العظم (لقصة إبليس ورفضه السجود لآدم) مثالاً للتناقض في الدين وزعمه إنها أسطورة دينية تنتهي بمأساة بطلها إبليس القديس المظلوم، لأنه وضع بين أمرين: الأمر بالسجود لآدم وأن السجود لغير الله كفر. فهذا التناول للقصة خاطئ لاعتماده فيه على آراء شخصية إلحادية وباطنية مع التستر بالمذهب الجبري في موضوع (القضاء والقدر).
فهذه المسألة :
أولاً : دينية يجب أن تبحث على ضوء الدين كتاباً وسنة ولا دخل للفلسفات الأخرى فيها.
ثانياً: أن السجود المطلوب سجود تحية وكان معتبراً قديماً كما سجد أبو يوسف بين يديه تحية له. وبيان سقوط الاتجاه الجبري ورفض الإسلام له يطول به البحث.
وقد نوقشت هذه الشبهة علمياً، ومن أحسن الردود العلمية عليها بحث د. فاروق الدسوقي، وهو بعنوان (مواضع التلبيس في شبهات إبليس) المنشور في مجلة (المسلم المعاصر) العدد33، وكذلك كتاب (أنيس الجليس في رد شبهات إبليس) للأستاذ محمد عزت نصر الله، وقد ناقشها العلامة عبدالرحمن الميداني في كتابه (صراع مع الملاحدة حتى العظم) في ص (345) وما بعدها.(51/237)
ثالثاً: أما الدعوة إلى إقامة تصور علمي مادي للكون فهي الفكرة الماركسية في توجهها الإلحادي وهم يهدفون من هذه الدعوى إلى أن الكون ليس بحاجة إلى خالق وينتفي تبعاً لذلك الدين كله. وهذا المنطق الإلحادي المنكوس قديم جداً وهو سابق للماركسية بآلاف السنين وهو ما كان دافعاً للتكذيب بالأديان والرسل على مر العصور حتى جاء (كانت) في كتابه (نقد العقل الخالص) زاعماً (أن كل كلمة لا رصيد لها إلا الحس المادي فهو الذي يبين صدقها أو زيفها) وتبعه ماديو الحضارة الغربية أمثال ماركس وسارتر وراسل وغيرهم. والماديون يقعون في تناقض ظاهر حينما ينكرون كل ما عدا المحسوسات بينما هم يؤمنون بغيبيات كثيرة في العلم التجريبي مثل (الأثير) و(المغناطيس) و(الإلكترون) وغيرها ؛مع أن إيمانهم بها مبني على مجرد الاستنتاج المنطقي ومعرفة آثاره ، بينما ينكرون الباري جل وعلا وهو معروف بالعقل والنقل وآثاره تملأ الكون (وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد) جل وعلا.. فلماذا يؤمن الماديون الملحدون بمبدأ الاستنتاج المنطقي والمعرفة بالآثار لأنفسهم ويحرمونه على غيرهم ؟! إني أدع ذلك لفطنة القارئ ليكشف تناقض الملحدين وصدق الله العظيم: (إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ) .
إن الفلسفة الماركسية أفلت شمسها والمبادئ المادية تساقطت على ضوء العلم نفسه، فلم يعد للإلحاد أي معنى ويجب أن تعود أيها ( العظم ) إن كنت ( صادقًا ) حقًا إلى المحاسبة الذاتية بعيداً عن كل خلفية فكرية، وستجد أن الإيمان هو الحل. ونذكرك بالحديث النبوي الذي يقول: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فإذا لم يكن بينه وبينها إلا مقدار ذراع سبق عليه القول فعمل بعمل أهل الجنة فكان من أهلها"، ولا شك أن وقفة متأنية للمحاسبة والاطلاع على الدراسات العلمية التي وضحت تجارب العلماء التجريبيين الغربيين التي دعتهم إلى العودة إلى الإيمان يمكن أن تخلخل نوازع الإلحاد في النفس المضطربة.
ومن ذلك (العلم يدعو إلى الإيمان) لكريسي موريسون، وكذلك كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) لمجموعة من العلماء ترجمة د. الدمرداش سرحان. كل ذلك جدير بأن يعيد نفحات الإيمان الفطرية إلى مستقرها في الفؤاد الشارد وفيها ستجد أن غمامات الإلحاد تنقشع وظلمات الضلالة تتلاشى وستتبدل بها برداً ويقيناً، ثم لماذا لا تعود إلى مصادر الإسلام الأصيلة والدراسات العلمية التي كتبها علماء ومفكرو الإسلام ممن جمع بين العلم والإيمان فسترى فيها معالم علمية ستساعدك على العودة إلى الله مثل دراسات الأستاذ وحيد خان والأستاذ عبدالرحمن الميداني وجمال الدين الفندي وستجد فيها المنهج العلمي للمعرفة في الإسلام والمنهل العذب لآفاق اليقين.
أرجو أن تتأمل فيما قلته، وأرجو ألا تأخذك العزة بالإثم. فاللهم أرنا الحق وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ). انتهى كلام الأستاذ أحمد أبو عامر -بتصرف يسير واختصار-.
ختامًا : العظم ( ملحد ) أي لا يؤمن بوجود إله .. فأتمنى أن لايخرج علينا من يستغفر له أو يترحم !!
قراءة صادق جلال العظم
بقلم: مروان رفيق صباغ
وضع صادق جلال العظم كتاباً بعنوان "نقد الفكر الديني" أواخر الستينات متأثراً بمقولة كارل ماركس "إن الدين هو أفيون الشعوب". ومن هذه القاعدة انطلقت دراسته المتسرعة والتي كانت تستهدف التحريض أكثر من استهدافها المعرفة. فصادق جلال العظم الدارس للفلسفة في الولايات المتحدة لم يدرس الفكر الإسلامي من منابعه الأصلية، بل اتسم تحليله لهذا الفكر بالعمومية والسطحية، ولم يؤهل كتابه لأن يكون مرجعاً يُعتد به في يوم من الأيام، بل كان يتم تناقله بين صغار الماركسيين والمراهقين الثوريين، ولم يصمد "نقد الفكر الديني" أمام أي محاكمة منطقية أو معرفة متوسطة بالتاريخ والفكر الإسلاميين.
ولكن صادق جلال العظم لم يتوقف عند ذلك، وتابع طريقته الاستفزازية في البحث عن الإثارة الفكرية وعثر في سلمان رشدي ومن ثم تسليمة نسرين على ضالته، فوضع كتابين عن سلمان رشدي بعنوان "ذهنية التحريم" و"ما بعد ذهنية التحريم"، شن فيهما هجوما كاسحا على الفكر الإسلامي غير القابل للنمو أو التأقلم مع الحداثة. وقد رد على صادق جلال العظم مفكرون علمانيون انتقدوا طريقته "الصبيانية" في التعامل مع القضايا ومنهم أحمد برقاوي وهادي العلوي الذي كان يمتلك حصيلة فكرية موسوعية أساسها إسلامي ونهاياتها ماوية ولينينة.
وقد ظهر بؤس النظرية "العظمية" في المناظرة التلفزيونية الشهيرة بين صادق العظم والشيخ يوسف القرضاوي التي اعترف العظم في نهايتها بهزيمته عندما قال "لقد بدا الشيخ أكثر استنارة مما كنت أتوقع". وهذا الإقرار كان كفيلاً بوضع كل مقولات صادق العظم في موضع الشك بعد أن تبين أنه لا يعرف من يحاور.
إنَّه لكَاذبٌ ولو كان اسمهُ ''صادق''(51/238)
عرفناه في كتاباته التي "انتقد" فيها الدين وفكره وعقائده. وهو مجاهر بإلحاده ويفوق علمانيي الغرب علمنةً وقد يبدو فرويد نفسه خجولاً أمام جرأته على شرع الله ودعوته إلى التفلت والتحرر من كل شيء وخاصة في كتابه الذي استهزأ به من عقلية التحريم, زاعماً بأن التحريم يؤدي إلى الكبت والحرمان و"العُقَد" النفسية.
إنه صادق العظم, "الفيلسوف" الذي أغرقه الغرب بجوائز تقديراً لجهوده الإنسانية العلمانية. ويكأنَّ الغرب يتبنى كل من يصدع بالكفر ويشرح بالإلحاد صدراً ويتخذونهم أولياء! (كما كرّموا سلمان رشدي صاحب "الآيات الشيطانية" من قبل, والذي دافع عنه العظم بكل "فخر"!). قرأنا رد الشيخ عبد الرحمن الحبنكة -رحمه الله- على العظم في كتابه "صراع مع الملاحدة حتى العظم" الذي فنَّد فيه كل ادعاءاته التي افتراها على الدين بشكل عام والإسلام بشكل خاص. ولكن يبدو لنا أن الفيلسوف لا يزال مغترًّا بما لديه من فرضيات ونظريات معادية للدين ويظن بأنه على حق, معانداً بذلك كل ما جاء من الله بالحق.
استضافت الجامعة الأمريكية ذلك القطب المظلِم بلحمه وعظمه ليلقي محاضرة بعنوان:
"Islam and Mode r nity: Conflict o r Conce r t" أي "الإسلام والحداثة صراع أو انسجام؟" وذلك في شهر رمضان عند آذان العشاء -لعلها "صدفة"!- والمسلمون حينئذ منشغلون بصلاتهم وعباداتهم. تم تقديم العظم على أنه ذلك المفكر العظيم المعاصر "المستنير", المتحرر من قيود الدين والتقاليد ومن ما يسمونه بـ"أساطير الأولين" والميتافيزيق (ما وراء المادة أو الغيب). كما تم عرض أسماء مؤلفاته والجوائز التي كرَّمه بها الغرب -ولن تنفعه جوائز الدنيا كلها إذا حُرِمَ من جائزة رضا الله عز وجلّ- وبعد الاستعراض, إلتهم العظم عقول أكثر الحاضرين بسفسطته المعهودة, وبعباراته المعجمية ومصطلحاته المعقدة, كمثل الذي يدس السم في الدسم. ومن النقاط التي ناقشها العظم, بعد أن عظَّم من شأن دينه ومنهاجه, ألا وهو العلمانية الإنسانية "Secula r Humanism", زاعماً بأن الفلاح والنجاح لا يكون إلا بهذا المنهاج المتعارف عليه لدى الدول المتقدمة, وبأنه سبب في تقدم ورقيّ الحضارة الغربية. وبعد ذلك, ادَّعى بأن الإسلام لن يتماشى مع الحداثة والعصرنة, إذ أن حقوق الإنسان مُنتَهَكة ومُتَجَاهَلَة في جميع أنحاء العالم الإسلامي, وهذا أمر صحيح ولكن السبب ليس الإسلام, إذ أن الدول العربية وحتى الإسلامية لا تطبق النظام الإسلامي, بل أن أكثرها قد تبنى نهجاً علمانياً أو إشتراكياً أو حتى ديكتاتورياً. وأضاف العظم بأنه يجب على المسلمين أن يقوموا بـ"تعديل" الإسلام بالشكل التالي ليتناسب مع الحداثة والعصرنة!
اعتبر العظم الحكومة التركية نموذجاً إسلامياً لا بدَّ من الاقتداء به. فالحزب "الإسلامي" الحاكم في تركيا نموذج متحضِّر ومنفتح ويسعى إلى إدخال تركيا في الإتحاد الأوروبي. ومن الواضح أن العظم يمدح تركيا لعلمانيتها, وإن وجود حزب أسلامي في السلطة لا يعني بالضرورة الحكم بما أنزل الله وتطبيق للشريعة الإسلامية, بل إن على الإسلاميين التماشي مع العصر والانسجام مع الحداثة... من هذا المنطلق, كما يزعم العظم, يجب على الإسلاميين أن يقوموا بالتالي وإلا فليس لأيديولوجيتهم مكان في عالمنا "المتحضِّر":(51/239)
o إلغاء كل الأحكام المتعلقة بأهل الذمَّة -كالجزية-, والانتهاء التام عن وضع غير المسلمين في خانة الكفار والملاحدة والزنادقة والفجرة... بإيجاز, تطبيق حرية التدين ومعاملة الناس دون اعتبار انتماءهم الديني أو إلحادهم, لذلك فإن أي شكل من أشكال التمييز يعتبر خرقاً لحقوق الإنسان! وقوله لذلك يدل على تغافله عن عدالة الإسلام ورحمته في التعامل مع غير المسلمين. ووجود النصارى وكنائسهم في بلاد المسلمين إلى يومنا هذا أكبر دليل على ذلك, إذ أنهم لو أكرِهوا على الإسلام أو عُذِّبوا لعدم إسلامهم لما بقي منهم أحد خلال القرون الأربعة عشر الماضية. كما أن التاريخ يشهد على حسن معاملة المسلمين للكتابيين وغيرهم [ انظر: Edwa r d Gibbon, The Histo r y of the Decline and Fall of the r oman Empi r e, vol. V, p. 264, 269, 270.] ؛ وكما لجأ اليهود إلى بلاد المسلمين حينما اضطهدوا في أوروبا من قبل الكاثوليك. وكما أمر القاضي المسلم بخروج جيوش المسلمين من مدينة سمرقند الوثنية بعد احتجاج أهلها على دخول المسلمين إليها,[ المصدر: تاريخ الطبري 6/567, أحداث سنة 99 هـ. ] وغير ذلك من الشواهد والأدلة. أما الجزية, وهي لا تُفرض إلا على الذكور القادرين على حمل السلاح, وفي ذلك إعفاء من القتال, وهي رسم سنوي يتفاوت مقداره بحسب قدرة الكِتابي وثروته, وأقصى حد تصل إليه الجزية, لا يصل إلى مقدار ما يدفعه المسلم المتوسط الثروة من الزكاة. وفي المقابل, ينفق بيت مال المسلمين على الفقراء والشيوخ من الكتابيين عدا عن كثير من الخدمات, ويضمن المسلمين حماية النصارى مقابل هذه الجزية, وقد قام المسلمون برد الجزية إلى أهلها في شمال بلاد الشام قبيل هجوم جيوش الروم, وذلك لعدم قدرتهم على حماية النصارى في تلك المنطقة لكثرة عديد جيش الروم. فأين الظلم إذاً يا عظم؟ والتاريخ يشهد عندما قام أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه باستدعاء حاكم مصر آنذاك لأن ابنه ضرب شاباً قبطيًّا من نصارى مصر, فأمر عمر بأن يضرِبَ القبطيُّ ابنَ الحاكم والحاكم, لأن الابن ضَرَبَ بسلطان أبيه. وفي مخطوطات يهودية قديمة إشارة إلى أن اليهود كانوا يدعون في صلاتهم بأن ينصر الله المسلمين على الصليبيين! [ المصدر: مارك هانسون المعروف بـ"حمزة يوسف", العالم الأمريكي في برنامج له على قناة MBC ] ومنذ أشهر (من تاريخ كتابة المقالة) في باكستان, وفي تظاهرة قام بها مسلمون يطالبون بالحكم بالشريعة الإسلامية, أتدرون من تظاهر معهم؟ الأقليات الهندوسية والبوذية! [ المصدر: قناة الجزيرة ] لماذا؟ هل لأن الإسلام يظلم غير المسلمين؟ بل لأن تطبيق شرع الله يضمن لهذه الأقليات حقوقها. يبدو إن العظم ينظر إلى الإسلام من خلال قلة شاذة لا تفقه الإسلام على حقيقته, فالله تعالى نهانا عن سبِّ ما يعبد الكفار, وعلَّمنا بأنه لا إكراه في الدين, وبأن الدعوة تكون بالحكمة والموعظة الحسنة, والجدال لا يكون إلا بالتي هي أحسن أسلوباً ومضموناً, وعلَّمنا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بأن لا نيأس ممن ندعو إلى الله, وبأن هذا الإنسان قد كرَّمه الله تعالى بالإنسانية, وعلينا أن نحترمه ما دام حيًّا راجين هدايته, إلا إذا اعتدى وظلم فعلينا حينئذٍ أن نضعَ له حداً منعاً لأذى الآخرين.(51/240)
o إلغاء جميع العقوبات الموجودة في الشريعة الإسلامية بما فيها الرجم حتى الموت وقطع اليد والجلد, ووصف العظم هذه العقوبات بالهمجية والبربرية, وزعم أن الغرب قد توصل إلى طرق أكثر تمدناً وإنسانية للتعامل مع الجريمة والإجرام, وعلى العالم الإسلامي أن يحذوَ حذو الغرب في هذا المجال. (لعلَّه لم يطَّلع على ما فعله الأمريكان الـ"متمدنون" في سجون غوانتانامو وأبي غريب والفلوجة). ويبدو أن العظم يجهل أو يتجاهل عدالة الإسلام والحكمة من إقامة الحدود, وبأن الحدود لا تقام على من سرق رغيف خبز مثلاً, ولا تقام دون محاكمة وشهود عدول! وكأنه لا يعلم بأن الدول والولايات التي ألغت عقوبة الإعدام إرتفعت فيها نسبة الجرائم بشكل كبير. ولا يعلم بأن العقوبة فُرضت لتَمنَع الإجرام, لا لمجرد تطبيقها؛ فمن لم تردعه خشية الله والعقوبة الغيبية في الآخرة, ردعته العقوبة الدنيوية, والله أعلمُ بما في شريعته من الحِكَم. بالاضافة إلى دقة تطبيق تلك العقوبات, فهي لا تطبق لمجرد الظن, ولا يقوم الناس أو الحاكم بالعقوبة عند وقوع التهمة, بل لا بد من شهود عدول, وخاصة في قضية الزنى, حيث أن المحكمة لا تقيم الحد على الزاني, سواء كان مُحصناً (متزوجاً) أم غير مُحصن, إلا في حال وجود أربعة شهود عُدُول, مشهود لهم بالصدق, ويشترط لهم بأن يكونوا قد شهدوا فاحشة الزنى, ولا يقبل القاضي ثلاثة شهود أو أقل من ذلك... وإن اتهم أحدهم رجلاً أو امرأةً بالزنى وأصرَّ على الاتهام دون توفر شهود, يُقام عليه الحد (جَلداً). إذاً, الأصل في الإسلام الستر, وليس الفضح, والرحمة والعفو موجودان مثلاً في حالة القتل, إذا عفا أهل المقتول عن القاتل يعفي الحاكم عنه, وخاصة إذا أظهر بوادر التوبة ولم يكن مصرًّا على الجريمة أو السلوك الإجرامي. ولا يُقتل المرتد عن دينه بمجرد ارتداده, إذ أنه ليس في الإسلام شرطة إيمانية تقيم محاكم تفتيش لتحاسب الناس على اعتقادهم, بل إن الحدَّ يُقامُ إذا حرَّض هذا المرتدُّ الناسَ على الكفر والارتداد وقام بنشر الفتنة بين الناس. عندئذٍ يؤتى بهذا الرجل ويُستتاب, أي يُطلب منه مراجعة أقواله للتراجع عنها, ويؤتى له بعلماء ليحاوروه في أسباب ارتداده -ولعلَّه قد يكون أساء فهم مسألة ما من مسائل الاعتقاد أو التشريع- ويُمهلُ مُدَّةً من الزمن ليُراجع أفكاره, وحتى إذا لم يقتنع من العلماء المحلِّيين, يؤتى له بعلماء من خارج المنطقة من خيرة العلماء ليحاوروه في مسائله وأفكاره. فإن تاب, فتوبته مقبولة. وقد يُظهر إيمانه دون أن يكون صادقاً في ذلك -لينجوَ من حدِّ الرِّدة- ولا يُحاسَبُ على ذلك, إذ أنه لا يَعلم ما في القلوب إلا الله وحده, ولكن -على الأقل- يتوقف هذا الرجل عن إشاعة الفتنة وبثِّ الأفكار الإلحادية.
o الكفّ عن النظر إلى المرأة كـ"عورة", ويعني بذلك تحرير المرأة حتى من ثيابها! وعدم اعتبار الحجاب فرضاً على النساء المسلمات (وكأن شرع الله لعبة بين يدينا نعدِّله كيف نشاء!). وعند انتهاء المحاضرة, قامت امرأة مسلمة بالمشاركة (وهي أمريكية اعتنقت الإسلام منذ سنوات) واعترضت على ما قال العظم قائلةً بأنها عند التزامها بالحجاب شعرت بارتياح شديد وبأنها لم تشعر بأنها كائن ناقص في ظل الإسلام, أو "عورة" كما زعم العظم... فاستهزأ بها مرحباً بها في الإسلام -بسخرية واضحة- وقال: "هل يسمح لي الإسلام أن أكون مسيحياً؟ أو هندوسياً؟" ويقصد بذلك أن الإسلام لا يسمح لأحد من معتنقيه أن يرتدَّ عن دينه, وأن في ذلك "تقييد" لحرية الإعتقاد (وفي ذلك أيضاً خروج عن موضوع المرأة). إن الذين يشابهون العظم في فكرِه لا يميزون بين حقّ -أو حرّية- الإعتقاد, والإعتقاد الحقّ. فالإسلام هو الدين الحق الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده, وعلى الإنسان أن يبحث ويتدبر في ذلك الأمر, ويمكنه الاطلاع على الإديان والعقائد الأُخرى ليتأكد بأن الإسلام هو الدين الصحيح. وهل الذي يسجد لصنمٍ حجريّ, أو يقول بأن الثلاثة واحدٌ والواحد ثلاثة كالذي يشهد بأنه لا معبود بحقٍّ سوى الله, ويصف خالقه بكل كمال وينزهه عن كل نقصان؟ فلا انغلاق فكري في الإسلام, لأن الله تعالى دعا الناس إلى التدبر والتفكر والتعقل, وترك تقليد الآباء والأجداد بشكل أعمى, والتخلص من الانقياد للهوى واتِّباع الطواغيت ودعاة الباطل, وحث الناس على أن يسيروا في الأرض, ويتفكروا في الخلق, وضرب لهم من الأمثال ما ينير البصائر ويشرح الصدور. ثم قالت له: "هل تظن أنه من الصواب أن تكون المرأة سلعة رخيصة يُعرَض جسدها في الإعلانات لترويج البضائع وينظر إليها الناس؟ فقال ساخراً: "إنني لا أجد عيباً في النظر إلى أجساد النساء, بل على العكس, أجد ذلك ممتعاً!" فضحك العظم وصفَّق له جمهور الحاضرين, إذ أنه بذلك دغدغ غرائزهم بأسلوبه الإبليسي الخسيس. وبهذه العبارة أوضح العظم عقيدته الإباحيّة المنحطَّة.(51/241)
o ومن أعجب ما دعا إليه العظم, وذلك إشاعة للتسامح -كما يدَّعي- كما قامت الكنيسة الكاثوليكية بإصدار عفو عن اليهود والاعتراف بما قامت من محاكم تفتيش واعتذارها عن ذلك, وكما اعتذر الألمان لليهود عما قام به هتلر من محارق جماعية بحقهم, دعا العظم زعماء وعلماء السنة إلى الاعتذار من الشيعة لمقتل الحسين !رضي الله عنه فصفَّق له الجمهور بحرارة -وجهل- ولا أدري إن كان العظم يجهل التاريخ الإسلامي, أو أنه لا يعلم أن أهل السنَّة يعتبرون مقتل الحسين رضي الله عنه جريمة نكراء, وأنهم لا علاقة لهم بمقتله وينكرون قاتله, أو أنه ربما يتجاهل, ليصطنع حججاً باطلة يتهجم بها على الإسلام, ويثير الفتنة بين المسلمين, ويقنع الناس بعدم صلاحية الإسلام كنظام للحياة كامل متكامل, وليضحك بذلك على المساكين من الجامعيين, الذين لا يعلمون عن الإسلام والأديان إلا قليلاً ممَّا جاء ذكره في المناهج المُعَلمنة والموجَّهة...
إنَّ الباحثَ والمفكرَ الموضوعي يحكمُ على الإسلام من مصادره الأصيلة, القرآن الكريم والسنة النبوية وسنّة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم, ومن اتبع هذا النهج العظيم من الخلفاء والحكام المتأخرين, كعمر بن عبد العزيز وصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح العثماني رحمهم الله. هؤلاء وغيرهم شهد لهم التاريخ بالعدل والاستقامة, حتى المنصفين من المستشرقين لم يبخلوا عليهم بالمدح والإعجاب. وأما الشذاذ والمنحرفين الظالمين, فلا يمثِّلون الإسلام, ولا يمتُّون إليه بِصِلَة, فالإسلام مبادئ وقوانين وقيم, وعلى طالب الحقيقة أن يعرف الرجال بالحقِّ لا الحقَّ بالرجال!
===============(51/242)
(51/243)
أسامة أنور عكاشة حجر حقير على رقعة شطرنج أكثر حقارة
قبل أيام قليلة من حلول شهر رمضان المبارك ، تناقلت الصحف والوكالات المصرية والعربية والدولية ، أخباراً تحت عناوين : "كاتب يسئ إلى عمرو بن العاص" ، "دعوى قضائية للتفريق بين عكاشة وزوجته" ، "أسامة أنور عكاشة يتعدى على أحد الصحابة" ، ....
قالت تفاصيل هذه الأخبار والتقارير أن كاتب المسلسلات التلفازية المعروف أدلى بتصريحات حول شخصية الصحابي عمرو بن العاص (فاتح مصر) رضي الله عنه ، ونعته بأوصاف لا تليق بأحد صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، الأمر الذي أحدث ضجة في الأوساط الدينية .
ونقلت هذه الأخبار عن علماء في الأزهر؛ أنهم سيطرحون الأمر على اجتماع مقبل لـ"مجمع البحوث الإسلامية" ، وهو أعلى هيئة في الأزهر "لاتخاذ قرار في شأن القضية" .
وتفاعلت الأزمة أكثر، بعدما أعلن عكاشة عبر برنامج "القاهرة اليوم" الذي بثته قناة "أوربت" الفضائية بعد تصريحاته الصحفية ـ على الهواء مباشرة ـ تمسكه برأيه ، ساخراً من محاوره الداعية الإسلامي الشيخ خالد الجندي الذي فضح عكاشة من غير قصد، إذ تساءل عكاشة قائلاً باستهزاء : "هو لما يكون ده رأينا في عمرو بن العاص أبقى خرجت عن الإسلام أو أنكرت ما هو معلوم من الدين؟ " .
وأوضحت المصادر الإعلامية أن حديث عكاشة دفع متابعي البرنامج إلى التدخل عندما اتصل المحامي الإسلامي منتصر الزيات هاتفياً وعاتب الجندي على هدوئه في الرد على شخص "شتم أحد الصحابة علناً" ، واحتد الزيات وهاجم عكاشة ، فحجب القائمون على البرنامج صوته ، فما كان من عكاشة إلا أن سأل مقدم البرنامج الصحفي عمرو أديب : "إنت جايب محامي الإرهابيين اللي دافع عن اللي قتلوا أهلنا" ، ثم تدخلت إحدى المشاهدات هاتفياً أيضاً وتساءلت : " كيف يسمح لمن يكتب مسلسلات عن (سماسم) العالمة (وهي راقصة وبطلة مسلسل "ليالي الحلمية) ليتحدث في الدين" ؟
تلك هي البداية والنهاية المعتادة لهذه الزوابع التي اعتاد أن يثيرها مشتهي الشهرة وعشاق الأضواء ، أما الذي تقيأه أسامة سماسم (نسبة إلى راقصته الشهيرة) ، وتحرجت كثير من الصحف ووسائل الإعلام ووكالة رويتر من ذكره ، هو قوله الفاحش نصاً : (إن ابن العاص لا يستحق أن يمجد في عمل درامي من تأليفه) ثم قوله الأكثر فحشاً : (إنني لو قدمت شخصية عمرو بن العاص سأظهره "أفاقاً") ثم إضافته الأكثر فجوراً : (لأنه من أحقر الشخصيات في تاريخ الإسلامي) .
وفي الحقيقة أنني قبل كتابة هذا المقال ، استطلعت كل ما كتبه المسلمون في الصحف وعلى مواقع (الإنترنت) عن أسامة سماسم قبل أن يتقيأ هذا الفحش ، فعجبت أن واحداً من المسلمين الغيورين على دينهم ، لم يكتب كلمة واحدة عن أسامة وتاريخه الأسود ، لا بخير ولا بشر ، وقد يرى البعض أنه أحط من أن يهتم بشأنه أهل الإسلام ، وهذا القول إن صح من جانب أن المثقفين والدعاة المسلمين قد لا يسمع بعضهم عن هذا الكائن ، غير أنني أرى ذلك زلة كبيرة من زلات المثقفين أن يغفلوا عن متابعة شياطين الإنس من حولهم ، ويكون لهم فيهم قولاً ، وعيبٌ على الدعاة ألا يتابعوا وبدقة ما يبثه الفضاء الإعلامي من ثقافات وأفكار أولاً بأول ، وأن يتنبهوا أن أسامة سماسم ـ وغيره كثيرين ـ لم يكن ليجرؤ على هذا القول إلا بعد أن مارس هو بنفسه من قبل - في جميع أعماله - طعن الثوابت الشرعية ، والإسهام في فك عرى عديدة من عرى الإسلام التي أشار إليها المصطفى (صلى الله عليه سلم) دون أن ينتبه إليه أحد أو يؤاخذه ، حتى ظن هو أن تأليفه لروايات الفسق والفجور والدعارة ، هي جواز مرور لاستباحة حرمات الدين ، غروراً منه في غير محله ، هيئ له أن عنقه التي هي أقرب للأرض ، في ميزان الإسلام ، يمكن أن تتساوى مع نعل واحد في قدر ومكانة الصحابي الجليل عمرو بن العاص ، إذ تصور بخبل ليس غريباً عليه ، أن عمرو بن العاص انتظر أربعة عشر قرنا ًمن الزمان ، حتى يقدمه أسامة سماسم للمسلمين ، ونسي أنه أقل شأناً من أن ينال شرف الكتابة عن عمرو بن العاص ، لأن الذين تربوا على موائد الراقصات وخَبِرَ مواخير الزنا و الخَنَا والشذوذ ، لا يجوز له بل ويُمنع قسراً من أن يأتي على لسانه ذكراً لاسم صحابي جليل ، قال عنه خير ولد آدم ، وإمام الأنبياء والمرسلين ، المصطفى بختم سلسلة النبوة (صلى الله عليه وآله وسلم) : (أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص) ، ولو لم يكن لابن العاص من الدنيا غير هذه الشهادة ، لكفاه فخراً وعلوً وسمو مكانةً في نفوس وقلوب المسلمين ، ولو صدق فيه كل ما قاله رعاع الشيعة وعبدة الصليب المعاندين والمستشرقين والمستغربين ، فأين يذهب قولهم أمام قول رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ؟(51/244)
لقد طعن أسامة سماسم في شخصية عمرو بن العاص ، سيراً على درب أهل الكفر والضلال ، أما نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم فقد اتخذه سفيراً أول له في دولة الإسلام الأولى ، وجعله ممثلاً شخصياً لدعوته ، فابتعثه ليدعو باسمه صلى الله عليه وسلم إلى دين التوحيد ، ثم كان له شرف إسقاط دولة الأوثان والشرك في عُمان ، وفي فلسطين ، وبه سقطت دولة الصليب في مصر ، وتحول أهلها من عبادة الصليب والرب مثلث الوجوه والوجود ، إلى عبادة الله الواحد القهار .
فهل اختار وانتصر وزكَّى وأوفد خير البرية ، رجلاً يقول فيه أسامة ما قال ، وهو الذي يجب أن يراجع نفسه في ماله ورزقه وطعامه وطعام أولاده ، أهو من حلال أو حرام ، والعياذ بالله ؟
ونعلم أن أسامة سماسم لم يكن هو أول الوقحين ، الأفاقين ، الذين برعوا في تحقيق النجومية بمعصية الله رب العالمين ، ولن يكون هو آخرهم ، لأن الباطل قائم مادام الحق قائماً إلى يوم الدين ، وإن قصد أسامة سماسم بسوء أدبه مع صاحب رسول ا صلى الله عليه وسلم ، أن يقلل من قدر عمرو بن العاص ، فقد تفجرت قضايا عظيمة وأحداث مشرفة حول تاريخه ، كان كثير من الناس خواصهم وعوامهم ، يجهلونها فعرفوها اليوم بحمد الله وفضله ، ولعلها تكون مناسبة أن يطالب المثقفون المصريون من أصحاب العقل والحكمة والالتزام العقدي والأخلاقي ، بعودة اسم عمرو بن العاص ثانية إلى الشارع الذي حمل اسمه لسنوات طويلة ، وهو اليوم يعرف بشارع كورنيش النيل ، ويقول المولى سبحانه وتعالى :"وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" .
***
وخروجاً من دائرة أسامة سماسم الشخصية ، إلى محيط الصورة الكلية لتلك الفعلة الفاحشة التي أقدم عليها ، فإنه يلزمنا الوقوف أمام هذا الحدث من جهتين ، أولاهما : كون أسامة سماسم ليس إلا قطعة شطرنج ، تحركها أصابع فوقية - خفية أو غير خفية - تحت ستائر الشعوبية العلمانية الرافضة للدين والتدين ، وثانيهما : الجانب التاريخي الذي يخص عمرو بن العاص في مصرنا الحبيبة ، كوطن نعيش فيه ويعلو بنا في سماء التوحيد .
حجر حقير على رقعة شطرنج أكثر حقارة :
إن تلازم الفكر مع العمل هو الدلالة الأولى على هوية الإنسان ، لذلك تسلط الغرب بأدواته علينا ليخطفنا من هوية الإسلام ويقذف بنا إلي هَويَّة الشيطان ، تلك الهَويَّة التي تتنازعها المذهبيات سابقة التجهيز ، التي أملاها أعداء الأمة على ضعافها من أصحاب العقول الفارغة الرافضة للثوابت ، القابلة للتحويل والتبديل والانقياد ، المضطربة وجدانياً - وإن بدوا أمامنا مكتملي الأهلية - بتلك الأضواء المبهرة التي تخفي الجوهر بجمال الشكل الخادع .
وإن دعوة الفصل الجبري للدنيا عن الدين ، ما هي إلا خدعة أراد بها خصوم الكنيسة أن يسلبوا بها حق ممارسة ضبط الناس وتقويمها، وتقييمها، فأرادوا لها أن تنشغل هي بالدين كله وتترك لهم الدنيا كلها ، خلاصاً من الكنيسة ، بعد ما طغت وتجبرت وأصبح القائمون عليها هم أرباب صغار في الأرض ، يُشَرِّعون ويحكمون ، ثم ينفذون ما شَرَّعوا و حكموا به وفقاً لما أسموه كنسياً بصكوك الغفران ، الموقعة باسم الإله الرب يسوع مثلث الأقانيم .
وتغافل هؤلاء أن المسجد ليس هو الكنيسة ، ولا الإسلام هو النصرانية ، ومن فاحش الفهم أن يربط عاقل بينهما ، فقد كانت الكنيسة - قبل ثورة الإصلاح في الغرب - هي حكومة الدنيا والآخرة ، هي الحاكم للبشر والحجر والشجر ، من يتزوج يدفع الضريبة ومن يطلق يدفع الضريبة ، ومن ينجب يدفع الضريبة ، ومن يموت يدفع عنه أهله الضريبة التي يضمن بها الملكوت .
وذلك المفهوم "الدراماتيكي" ، هو العالق بالضرورة في عقل أسامة سماسم ، مما علَّمه له شيوخه ، فأسقط كل هذه الطاغوتية بجهالة على الإسلام وأهله ، ثم عقد لنا محكمة ، وأصدر الحكم ، وتولى التنفيذ ، لذلك كره أسامة سماسم شخصية عمرو بن العاص ، وتاريخ عمرو بن العاص ، وسيرة عمرو بن العاص .
أما في الإسلام فلا كهنوت ، ولا سكرتارية خاصة للإله ، ولا مندوب سامي يتصف بالقداسة ، لأن الدستور الإلهي هو الحَكَم وهو الشاهد ، ولأنه إلهي فقد امتزجت مكوناته ، وانسجمت معطياته ، وتلازمت أوامره مع نواهيه في دقة تعلو مقامات البشر ، فالروح والمادة متكاملان ، والدنيا والآخرة متصلان ، والعلم والدين متداخلان ، لأن الدين عند المسلمين هو علم الإنسان بمبادئه وأصوله ، والعلم عند المسلمين هو حق الإنسان في فهم الدنيا ، فيكون الدين دعوة لفهم الدنيا ، والعلم هو أداة الإنسان لفهم الدين .
ومن هذه المقدمة المختزلة ، التي أصف بها حالة ، لا أُشَخِّص بها داءاً ، أنتقل مباشرة إلى حالة أسامة سماسم ، فأقول إنه ليس إلا واحداً من ضحايا الانبهار الثقافي بالآخر ، ورمز من رموز ظاهرة مرضية أصابت مجتمعنا كتبعة من تبعات الاحتلال الصليبي الذي جثم على صدر الأمة رِدْحَاً طويلاً من الزمان ، مخترقاً جدار دولة الخلافة لمدة قرن كامل من الزمان ، ومتسلطاً عليها لمدة قرن ثان ، باسم الخلافة أيضاً وتحت رايتها .(51/245)
هذه الظاهرة التي وصفها البعض بالبريق الزائف ، وتقوم على رعايتها مؤسسات إعلامية ماسونية ضخمة ، تجيد فن تحويل (الفَسيخ) إلى (شربات) ، وتصور (الحَبّة) على أنها (قُبّة) ، وتجعل من "الحقير" كياناً "معتبراً" ، فَتُعلي الصغار وتَعْمَى عن الكبار ، وتصنع من الأنصاف والأرباع نجوماً ثقافية وفنية ، تُلهي مسيرة الأدب والفن بالإثارة والشغف والأضواء وتلبية نداءات الشهوات ، حتى يظن الضحايا أنهم على الحقيقة ؛ نجوماً وكباراً ومشاهيراً يشار إليهم بالبنان .
وإذا استكثر أسامة سماسم من منتصر الزيات المحامي ، أن يدافع عن الصحابي الجليل عمرو بن العاص "متهماً" إياه بالتطرف والإرهاب ، ذلك "الاتهام" الذي كان خلال السنوات العشر الأخيرة تجارة رابحة لمن لا صنعة له ، فلا بأس أبداً من ذلك ، لأنه بذلك قد اختار لنفسه كما اختار منتصر ، المقام المناسب له والأليق به ، فاختار أسامة سماسم طابور المُنَصِّرين والمستشرقين والمدلسين وكذبة التأريخ من الشيعة والمتشيعين، وإحساناً بالظن ـ راجياً من الله الغفران ـ سأعتبره أنا من جهلة التاريخ والجاهلين بالدين ، أما منتصر الزيات ، فقد اختار طابور صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
ولا يلومني واحد إن قلت بالفم المليء أن أسامة سماسم بمعاداته لعروبة مصر لغةً وتاريخاً ووطناً ، وتألمه من اختيار أجداده الأوائل وأبويه اللذين ولداه رغماً عنه وعلى يد عمرو بن العاص للإسلام ديناً وعقيدة ، ومعاناته النفسية أن ينتسب أهل مصر مصاهرةً وحسباً ونسباً إلى صحابة رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) ، ومقته الشديد لهذا الصحابي الجليل على وجه التحديد ، الأمر الذي جعله يتوعد ويهدد أن يؤلف مسلسلاً لينتقم منه ويا لخزي وعار ما يؤلف وما ألف .
فأقول : إنه ـ أسامة سماسم ـ واحد من طابور الشعوبية التي ظننا خطأ أنها ماتت ، فإذا بصبي من صبيانها ـ هوـ يجهر بالسوء ، ناطقاً بالباطل ، ثم يُصِرُّ على ما قال من "الضلالة" ، مستعلناً بخصومته لعمرو بن العاص ، حبيب خاتم الأنبياء وخير البرية عليه الصلاة والسلام ، تماماً كنكرات أخرى على شاكلته([1]) .
ولا يرفع "علماني شعوبي" عقيرته ليبرىء نفسه وصاحبنا أسامة سماسم من صفة العلمنة الشعوبية ، فإنها إجمالاً سلكت سبلاً عديدة بين ظاهر ومستور ، غايتها وأتباعها :
1- إرباك العقيدة لدى المسلمين .
2- وتشوية المفاهيم .
3- وسوء التأويل .
4- وفساد العقل .
5- وسوء الظن .
6- والتشدق بثقافة أعداء الأمة .
7- وتمجيد كل ما يتعارض مع الدين .
8- والحط من حضارتنا .
9- لحساب حضارة الممولين .
فإن برىء أسامة سماسم من هذه التسع سيئات ، فالعاشرة وهي الضلالة ، لاصقة به باختياره ، ومدعاة لفخاره ، والرجل ليس له (ذقن) ليخفيها ، ولن يرفع نصفه السفلي لأعلى ليدس رأسه في الرمال كالنعامة ، فجاهر وأكد كرهه لمن أحبه رسول الله ، واحتقر من أعلى شأنه صِدِّيق أمة الإسلام وفاروقها ، رضي الله عنهما .
ذلك لأن حرب العلمانيين الشعوبيين على الإسلام ليست حرباً مكشوفة كما يظن البعض ، إنما الذي نراه في وضح النهار ليس إلا مفاتيح لخطط خفية ، لها وسائلها ومناهجها الخاصة ، بقصد الاستيلاء من الداخل على العقول والأفكار والعواطف من خلال بعض الأعمال الفنية ، حتى إن انبهر الناس بهم وتحركت مشاعرهم نحوهم ، إعجاباً بهزلهم وما يثيرون به أحاسيسهم ورغباتهم ، تسلطوا على الناس لإعادة صياغة هذه المشاعر وتشكيلها من جديد ، فتصبح مهيأة لاستقبال صيغهم الفكرية الشاذة في هدوء شديد ، بأن يكون الواحد منهم مصدراً موثوقاً به إن تكلم ، وشكلاً مألوفاً إن شوهد ، تحت مظله نجوميته كرمز من رموز المجتمع ، لكن هيهات هيهات أن تمر تلك الحوادث بهذه البساطة ، ما دامت هناك بقية من نخوة ، وبقية من تقوى ، في قلوب وصدور ومعتقدات المسلمين .
والذي يمكن أن نفهمه بجلاء ، من هذا التطاول الذي جهر به أسامة سماسم على الصحابي الجليل عمرو بن العاص ، وشتان بين الثرى والثريا ، وبين الجرذان والأسود ، إن أسامة سماسم قد أفلس ، وانحسرت من حوله الأضواء ، فأراد العودة إليها ولو أن يقذف بنفسه في نارها ، فأوكل شيطانه أن يدبر له حيلة ، وانتهى به المقام إلي سب واحد من كبار رجال الأمة والتاريخ قاطبة ليطعن فيه .(51/246)
ومشكلة أسامة سماسم بالتحديد ، أنه يعيش معنا في زمن العولمة ، بينما ما زال يحمل في رأسه كل زمن الانحسار في العهود البائدة ، ذلك الزمن الذي عَمَّت فيه بلوى لغة المقاولين ، وشراء الألقاب كالباشاوية والباكوية والأفندية ، أو منحها لذوي النجابة من أصحاب المواهب والمهام الخاصة جداً ، فهذه كوكب الشرق ، وهذا عميد الأدب العربي ، وتلك سيدة الشاشة العربية ، وذلك أمير الشعراء ، وهذه سندريلا ، وذاك عندليب ... وهكذا سعى أسامة سماسم جاهداً أن يلوذ بواحد من هذه الألقاب ، لكنه فقد الوعي بأن العولمة تجاوزت هذه المرحلة من التخلف ، وأصبحنا الآن في عصر تنوير إيناس الدغيدي ودينا ولوسي وروبي ووحيد حامد وشعبان عبد الرحيم وداليدا ونانسي عجرم و ....... و أسامة سماسم ، فكلهم كما نرى نجوماًًًًًً ، لكن بدون ألقاب اكتفاءً بدلالات أسمائهم التي أصبحت بذاتها تُغني عن التعريف وبئس التعريف .
إذ يشهد الواقع على أن ثقافة أسامة سماسم وأمثاله من العلمانيين الشعوبيين ، إنما هي ثقافة التخلف عن ركب حضارة الإسلام وتاريخه العريق ، وهي ثقافة الانهزامية الذاتية التي تسقط بصاحبها في بئر الحيرة العقلية ، وتحول بينه و بين الحق وشواهده ، وتحول بينه وبين الارتباط بهويته ، فَتُحبِط سعيه ، وتضلل طريقه نحو أداء الرسالة التي خُلِقَ من أجلها ، فأنساه الله لها ، وحرمه من أن يكون من المستخلفين في الأرض وفق المنهج الرباني .
وأحذر بشدة أن يُهوِّن واحد من تلك الجريمة النكراء التي ارتكبها أسامة سماسم ، في حق ديننا ، ثم في حق كل من ينتسب إلى هذا الدين ، ثم في حق نفسه هو ذاته ، لأن خطورة ما قاله من وقاحة في حق الصحابي الجليل ، أنه بهذا القول البذيء يحاول أن يفتح باباً للرعاع ، يكون هو في مقدمته ، يتطاول من خلاله على رموز الأمة ، ويقذفون من خلفه المسلمين بالحجارة كصبيان الشوارع ، فإن سكت المسلمون زاد وطغى وبغى ، وإن حملوا عليه لهث جرياً أو ألجم ، خشية ورعباً كمن وصفهم رب العزة سبحانه وتعالى بالكلاب .
وإنني إذا ما حاولت أن ألتمس عذراً لأسامة سماسم فيما قاله - وهو أمر شاق للغاية - فلأن الدين أصبح عنده وعند أمثاله ؛ "بعبعاً" يعطل إبداعهم الشيطاني ، وأصبح المسجد "مدفناً" يحرمهم من التنوير ، أما تعاليم الإسلام فقد أصبحت عنده وعندهم "مزاميراً" لإبليس ، بعدما وضعوا الإسلام في قاموسهم محل "الشيطان" والعياذ بالله .
وقد يسأل سائل : ما الذي أودى بواحد مثل أسامة سماسم إلى هذا الفهم المغلوط ؟ ومن أين ؟ ولماذا ؟ وكيف ؟ ، فأقول أن الإشكالية المتسلطة على أذهان أسامة سماسم وأمثاله من العلمانيين الشعوبيين ، هي مشكلة المنهج الانتقائي الذي تقمقموا فيه ، معتمدين على مسلمات مشوهة ، أو متأثرين بمعالم كُفريَّة (ولا حرج أبداً في ذلك القول) ، فتمردوا على الدين وثوابته ، ومن ثم يلجأون وفق هذا المنهج التشويهي ، إلى بتر الحقائق ، وتضييق المفاهيم ، وتزييف المعاني ، والقطع الجبري للصلة الفطرية بين ذواتهم المحدودة والمطلق اللامحدود ، فيحدث النكوص المزعج عن الحق وأهله .
وأنبه إلى نقطة في غاية الأهمية ، أسُدُّ بها الطريق أمام أسامة سماسم ومن سيرفعون عقيرتهم دفاعاً عنه ، أن مسلماً أياً من كان ، لا يملك أن يصدر صكاً كالذي في الكنيسة بحرمان هذا من الملكوت أو إدخال ذاك إلى الفردوس ، إنما العلمانيون الشعوبيون أنفسهم ، هم الذين يختارون مكانهم وبدقة شديدة ، عندما يصرخون في وجوهنا على صفحات صحفهم ومجلاتهم التي يرتعون فيها ـ ولا نصيب لنا فيها ولو حتى مقابل ما ندفعه من ضرائب وجبايات تجفف الدم والجيوب ـ قائلين لنا :
• هل أنتم المسلمون وحدكم ونحن الكفار ؟
• من الذي أعطاكم حق الوصاية لتكفير الناس ؟
فالحقيقة الغائبة ، أنهم هم أنفسهم الذين يحددون أماكنهم ، إنما على لسان المسلمين ، ليبرؤا أنفسهم من اتهامهم لذواتهم ، ومن كثرة ما رددوه من اتهام لأنفسهم بالكفر ، صدقوا حقاً أننا الذين وجهنا إليهم هذا الاتهام بما هم يعلمونه عن مكانتهم عند ربهم ، ولو كنا نملك القدرة على النطق به لأنه الحق ، لتلمسنا الأجر العظيم من الله بقول الصدق .
وإن سمح لي أسامة سماسم أن أحلل حالته ، وأُشَخِّص له المرض ، فأقول أن العلمانيين الشعوبيين على العموم وهو واحد منهم ، يعيشون حالة انفصام شخصية شديدة ، تسيطر على عقولهم ومعتقداتهم وسلوكهم ، فهم متمسكون بالإسلام (الدين) ، لكنهم رافضون للإسلام (الدنيا) ، يؤمنون بالكتاب ، لكنهم غير قادرين على الامتثال لأوامره ونواهيه ، فيجدون أنفسهم مندفعين نحو نفي هذه الأوامر والنواهي ، ثم ما يلبثون إلا ويضعوا على أعينهم "نظارة" الرفض الشعوبية العلمانية ، فلا يرون معنىً ولا فهماً إلا من خلالها ، ولو توقف الخلل عند هذا القدر من ظلم النفس لكان أمراً هيناً ، إنما نراهم وفي جرأة عجيبة ، يُحَرِّمون في الوقت ذاته على الناس استخدام أي "نظارة" غير نظارتهم ، حتى لا تفسد رؤاهم لمعتقدنا الذي يفضح انفصامهم .
درس في التاريخ :(51/247)
فإذا ما انتقلنا إلى الجانب التاريخي ، الذي أود أن يعيه أسامة سماسم ويتعلمه جيداً ، فهو قدر عمرو بن العاص وتقواه وقيمه وسلوكياته وإرادة الله العظيمة التي استجاب لها راضياً مرضياً ، جاهداً مجاهداً حتى تم له فتح مصر فيما سمي بالفتح اليسير ، وذلك هو الذي يجهله أسامة سماسم ، أو أنه يعلمه بحسب النظارة العلمانية العوراء .
ورأفة بأسامة سماسم ، واحتراماً لمشاعره التي لا يجب أن يحترمها مسلم ـ لكنني أحترمها من باب الدعوة والنصح والإرشاد ـ فسوف ألتزم بأن تكون مصادري العلمية ، وأن يكون شيوخ هذا الدرس للتاريخ ، له ولأمثاله من العلمانيين الشعوبيين ، هم من كبار رجال الكنيسة في مصر ، إذ أحسب أنهم أحب إليه وأكثر ثقة مما لو أتيت له بشيوخ من المسلمين .
وسوف أعتمد ثلاثة مصادر([2]) فقط على سبيل الاسترشاد والاستشهاد ، يمكنه أن يرجع إليها إن شاء ، ولأزيده اطمئناناً وإثلاجاً لصدره ، فإن أصحاب هذه المصادر التاريخية ، هم أشد منه تعصباً ضد الإسلام ، وأكثر منه كرهاً للمسلمين ، وأشط منه غلواً في حقدهم على عمرو بن العاص ، وبذلك أكون قد جاملت أسامة سماسم كثيراً ، ولم أقصر في حقه على الإطلاق .
فماذا يقول هؤلاء الكنسيين عن فتح مصر وعن عمرو بن العاص ، برغم ما هم عليه من تعصب وكره وحقد وغل مقيت ؟
أجيب لأسامة سماسم ، بتلك السطور المتناثرة التي اتبعت فيها المنهج العلماني الشعوبي "الانتقائي" ، إنما هنا انتقيت ما استطعت بعد جهد جهيد ، نتفات الخير من تلال الشر المتراكمة ، أما المنهج العلماني الشعوبي فينقب عن الزَلَّة ما استطاع بعد جهد جهيد ، ليشوه بها الثوب الأبيض الناصع البياض للمسلمين عقيدة وسيرة وتاريخاً .
المصدر الأول : يقول الراهب القمص أنطونيوس الأنطوني (ص 62) : (وإن كنا نذكر مظالم العرب الفاتحين فلابد – إنصافاً للحقيقة – أن نقول أن هذه المظالم لم تكن عامة أو شاملة خاصة في الفترة الأولى للفتح العربي، فقد اكتشف البروفسور جروهمان وثيقتين برديتين يرجع تاريخهما إلى سنة 22 ه - 642 صليبية ، مكتوبتين باليونانية، وملحق بهما نص آخر بالعربية :
الوثيقة الأولى: إيصال حرره على نفسه أحد أمراء الجند يدعى الأمير عبد الله بأنه استلم خمساً وستين نعجة لإطعام الجند الذين معه، وقد حررها الشماس يوحنا مسجل العقود ، في اليوم الثلاثين من شهر برمودة من السنة المذكورة أولاً ، وقد جاء بظهر الورقة ما يلي : "شهادة بتسليم النعاج للمحاربين ولغيرهم ممن قدموا البلاد وهذا خصماً عن جزية التوقيت الأول" .
أما الوثيقة الثانية: فنصها : "باسم الله ، أنا الأمير عبد الله أكتب إليكم يا أمناء تجار مدينة بسوفتس ، وأرجو أن تبيعوا إلى عمر بن أصلع ، لفرقة القوطة ، علفاً بثلاث دراهم كل واحد منها (بعرورتين) وإلى كل جندي غذاء من ثلاثة أصناف" .
ويعلق الأستاذ جروهمان على الوثيقتين بقوله : "إن هذه المعاملة إزاء شعب مغلوب ، قلما نراها من شعب منتصر" .
ثم يستطرد الراهب القمص قائلاً (ص 64) : "كان البابا بنيامين (البطريرك الـ 38) هارباً من قيرس (المقوقس) البطريرك الملكاني ، وبعد الهزيمة التي مني بها الروم ورحيل جيشهم عن مصر ، غدا القبط في مأمن من الخوف ، وبدأوا يشعرون بالحرية الدينية ، ولما علم عمرو باختفاء البابا القبطي بنيامين ، كتب كتاب أمان للبابا بنيامين يقول فيه : "الموضع الذي فيه بنيامين بطريرك النصارى القبط ، له العهد والأمان والسلامة من الله ، فليحضر آمناً مطمئناً ويدبر حال بيعته وسياسة طائفته" ، كما يقول : "أن عمرو وهو في طريق عودته بعد فتح الإسكندرية ، خرج للقائه رهبان وادي النطرون، فلما رأى "طاعتهم" سلمهم كتاب الأمان للبابا ، فلم يلبث عهد الأمان أن بلغ بنيامين ، إلا وخرج من مخبئه وعاد إلى الإسكندرية بعد أن ظل غائباً ثلاثة عشر عاماً .
ثم يستطرد الراهب أنطونيوس الأنطوني واضعاً خشبه غليظة في عين أسامة سماسم ومن على شاكلته ، وهو ينهي كلامه معترفاً أنه لولا مشيئة الله بفتح عمرو بن العاص لمصر ، لما بقي وجود للنصارى فيها منذ ذلك الزمان البعيد ، فينقل نصاً : "ولقد كان لعودة بنيامين أثر عظيم في حل عقدة مذهب القبط ، إن لم تكن عودته قد تداركت تلك الملة قبل الضياع والهلاك") أ.ه.(51/248)
المصدر الثاني : أما القس منسي يوحنا ، فقال كلاماً غير مسبوق في أي مصدر من المصادر الإسلامية ، نطق به القس المؤرخ وكأنما يرد به على الكاتب الجاهل الجهول أسامة سماسم ، فقال (ص 306) : "وكان جيش العرب في فاتحة هذا القرن ، حاملاً لواء الظفر في كل مكان ، وظل يخترق الهضاب والبطاح ، ويجوب الفيافي والبلاد ، حتى وصل إلى حدود مصر تحت قيادة عمرو بن العاص ، فدخل مدينة العريش وذلك سنة 639 م ، ومنها وصل إلى بلبيس وفتحها بعد قتال طال أمده نحو شهر ، ولما استولى عليها وجد بها "أرمانوسة" بنت المقوقس [على رأس جيش صليبي محارب] فلم يمسها بأذى ، ولم يتعرض لها بشرِّ ، بل أرسلها إلى أبيها في مدينة منف ، مكرمة الجانب ، معززة الخاطر ، فَعَدَّ المقوقس هذه الفعلة جميلاً ومكرمة من عمرو وحسبها حسنة له" .
ثم يستطرد القس منسي يوحنا قائلاً (ص 307) : "فجمع المقوقس رجال حكومته ، وذهب للتفاوض مع رسل من قِبَل عمرو .
فبدأ وفد الروم بالتهديد والوعيد للمسلمين ، بقتلهم وإفنائهم وأنه لا بديل أمام المسلمين غير الموت أو الرحيل ، فلما بدأ وفد المسلمين ، فلم يفعل كوفد أهل الصليب إنما طرح أمامهم ثلاثة بدائل : أولها الإسلام وثانيها الاستسلام مع دفع الجزية لقاء قيام المسلمين بتسيير أمور البلاد ، ثم كان الخيار الثالث والأخير وهو الحرب والقتال الذي طرحة جيش الصليبيين الروم المحتلين لمصر كاختيار لا بديل .
فاتفق رأيهم على إيثار الاستسلام والجزية ، واجتمع عمرو والمقوقس وتقرر الصلح بينهما بوثيقة مفادها : أن يُعطَي الأمان للأقباط ، ولمن أراد البقاء بمصر من الروم ، على أنفسهم ، وأموالهم ، وكنائسهم ، وفي نظير ذلك يدفع كل قبطي "دينارين" ماعدا : الشيخ ، والولد البالغ 13 سنة ، والمرأة" .
ويضيف القس منسي يوحنا : "وذكر المؤرخون أنه بعد استتباب السلطان للعرب في مصر ، وبينما كان الفاتح العربي يشتغل في تدبير مصالحه بالإسكندرية ، سمع رهبان وادي النطرون وبرية شيهات ، أن أمة جديدة ملكت البلاد ، فسار منهم إلى عمرو سبعون آلفاً [يصفهم القس منسي يوحنا في دقة شديدة قائلاً] حفاة الأقدام ، بثياب ممزقة ، يحمل كل واحد منهم عكاز ... تقدموا إليه ، وطلبوا منه أن يمنحهم حريتهم الدينية ، ويأمر برجوع بطريركهم من منفاه ، [وعلى الفور ، وبورع الأتقياء ، وتواضع المنتصرين المحكومين بشرع الله] أجاب عمرو طلبهم ، وأظهر ميله نحوهم فازداد هؤلاء ثقة به ومالوا إليه" .
ولم يكتف القس منسي بذلك كله ، إنما يضيف للحقير - أسامة سماسم - الذي نشك في أنه يعرف شروط ماء وضوئه ، كما قال منتصر الزيات ، فيقول القس منسي ما يجعل المسلم منبهراً بما قال: "خصوصاً لما رأوه يفتح لهم الصدور ، ويبيح لهم إقامة الكنائس والمعابد ، في وسط [منطقة] الفسطاط التي جعلها عاصمة الديار المصرية ومركز الإمارة ، على حين أنه لم يكن للمسلمين [إلى هذا الوقت] معبد ، فكانوا يصلون ويخطبون في الخلاء" .
أما عن موقف نصارى مصر من عمرو بن العاص ، فيضع القس الراحل منسي يوحنا خضبة غليظة في عين أسامة سماسم ، قائلاً (ص209) : "أنه قَرَّب إليه الأقباط ، وردّ إليهم جميع كنائسهم التي اغتصبها الرومان" .
المصدر الثالث : فإذا ما أتينا إلى القمص تادرس يعقوب ملطي ، فنجدة يقول (ص 77) : "وسط هذا الجو المتوتر ، حيث كان قيرس لا عمل له سوى متابعة الأساقفة والكهنة والرهبان ، حتى في البراري ، بحملة عسكرية يعذب ويقتل ، وصل الزحف العربي إلى مصر تحت قيادة عمرو بن العاص ... ثم انطلق العرب نحو الإسكندرية (ص79) : إذ فقدت البلاد وحدتها ، وحُرِمَ الولاة المعينون من قبل الإمبراطور من كل خبرة عسكرية ، لا همَّ لهم سوى جمع الضرائب ومقاومة الكنيسة ، لم يفكر أحدهم في مساعدة أخيه ، إذ تفشى فيهم روح عدم المبالاة" ، هذا ويرى المستشرق الفرد بتلر : "أنه من الخطأ أن يُدَّعَى أن الأقباط كان في استطاعتهم في ذلك الوقت أن يجتمعوا أو يفاوضوا العرب" .
ثم يستطرد القس الملطي ، فيقول تحت عنوان (عودة البابا بنيامين) : "وإذ استتب الأمر دار النقاش بينه وبين الأقباط حول عودة البابا وأساقفته ، ولم يطلب عمرو من المصريين سوى الجزية ، بعد إلغاء الضرائب البيزنطية الفادحة [وكانت أربعة وعشرون نوعاً من الضرائب] وكان معتدلاً في المبلغ الذي يطلبه .... هذا وقد ترك للمصريين حرية العبادة ، وحرية التصرف في الأمور القضائية والإدارية ، بل وعيَّن بعضاً من الأقباط مديرين في جهات كثيرة" .
***(51/249)
تلك هي المصادر الثلاثة ـ مسيحية أرثوذكسية مصرية ـ أسوقها إلى كل من يتبنى الوقاحة وقلة الأدب مع رموز الأمة ، ويجهر بجهله وجهالاته وسخف عقله ورداءة فهمه ، لتشهد على نبل وتحضر ورقي عمرو بن العاص وجيشه ، فلا أحسب أن جيشاً في تاريخ الأمم قاطبة ، من قبل أو من بعد جيش عمرو بن العاص ، وهو جيش محارب ، يتورع رئيس جنده من إطعام ثلاثة من خيوله ، أو عدد من جنده ، إلا ويكتب له بما طَعِم إيصال أمانه ، كما لا أحسب أن جيشاً في تاريخ الأمم قاطبة من قبل أو من بعد جيش عمرو بن العاص ، وهو جيش منتصر ، يستقبل المغلوبين ويحسن وفادتهم ، ويمنحهم الأمن والأمان والعهد والميثاق ، وأن يتولى حمايتهم ، ويؤمن عبادتهم ، ويعيد إليهم كبيرهم ويلغي ثلاثة وعشرون نوعاً من الضرائب ويبقي على واحدة هي الجزية ، ثم يرفعها عن شيوخهم ونسائهم وصبيانهم ، ومن لا يقدر عليها يأخذ من بيت مال المسلمين ما يقضي به حاجته .
كما لا أحسب أن جيشاً في تاريخ الأمم قاطبة، من قبل أو من بعد جيش عمرو بن العاص، وهو الذي أسقط دولة الروم في مصر وكسرها كسرة لم تقم بعدها أبداً ، يسمح لأهل البلاد المهزومين ، الذين تولى هو تحريرهم من الاستعباد والذل والهوان ، بأن يبنوا لأنفسهم كنائساً ودور عبادة ، في نفس الموقع الذي فيه إمارة الدولة والجيش ، ويشهد نصارى مصر أنهم صلوا في كنائسهم هذه ، وكان الجيش المنتصر يصلي ويتعبد في العراء .
وأؤكد مرة ثانية على حقيقة أن التاريخ الذي كتبته الكنيسة حول الفتح الإسلامي ، ملئ بالظلم للإسلام والمسلمين ، وملئ بالتعصب الأعمى والمقيت ، وملئ بالتزييف والتدليس والكذب الذي يصل إلى درجة "الحقارة" ، تلك اللفظة التي وصف بها أسامة سماسم بجهل وجهالة عمرو بن العاص ، مفتقداً أدنى درجات الأدب في الخطاب ، عن رمز عظيم من رموز خير أمة أخرجت للناس ، فكان أشد ظلماً لنفسه ، وأسوأ حظاً ممن كتبوا هذا التاريخ من كبار رجال الكنيسة ، عندما أنقل إليه نصاً كتبه صليبي غربي أكثر تعصباً وكراهية للإسلام والمسلمين من أسامة سماسم ومن النصارى الذين استشهدت أنا بهم ، وهو ألفريد بتلر ، في كتابة (الفتح العربي لمصر) ، ترجمة محمد فريد أبو حديد ، وإصدار الهيئة المصرية للكتاب ، وإمعاناً في دغدغة مراكز الصدق في رأس أسامة سماسم عساها أن تستيقظ ، وزغزغة مراكز الإحساس في لسانه عساها أن تتحفظ وتتعلم الأدب ، أنقل هذا النص ، ليس من كتاب ألفريد بتلر ، إنما أنقله على لسان الراهب أنطونيوس الأنطوني الذي أورده في كتابه ، ليستشهد به على أن الله سبحانه وتعالى شاء لنصارى مصر ، أن يكون إنقاذهم من الفناء والهلاك والعدم ، على يد الصحابي الجليل عمرو بن العاص الذي وصفه أسامة سماسم ـ الذي لا ذكر له إلا بين الفسقة والفجرة ـ بالحقير ، فيقول الراهب (ص64) : إن بنيامين سَعِدَ كثيراً بعمرو ، كما رحب عمرو ببنيامين ، وطلب عمرو بن العاص من بنيامين أن يدعو له حتى يمضي ليحرر أرض ليبيا هي الأخرى من ظلم الرومان الصليبيين ، فيقول أنطونيوس الأنطوني نصاً :" فدعا له البابا بنيامين ، وقال له كلاماً طيباً أعجبه والحاضرين ، ثم انصرف مكرماً مبجلاً " .
ويستطرد أنطونيوس قائلاً (ص65) : "كل ذلك حدا بالمؤرخ بتلر أن يقول : "ولقد كان لعودة بنيامين أثر عظيم في حل عقدة مذهب القبط وتفريج كربهم ، إن لم تكن عودته قد تداركت تلك الملة (الأرثوذكسية) قبل الضياع والهلاك" .
فهل بعد ذلك يكون لأسامة سماسم وجه ، يستطيع أن يطل به علينا مرة أخرى في الفضائيات ، ليؤذينا بتقاطيعه المكدرة ولسانه البذيء ليسب هذا الصحابي الجليل أو غيره من نجوم الأمة الأوائل ؟ وكفى نعماً وسخاءاً من الله العلي القدير أن جعل لعمر بن العاص نصيباً من كل صلاة يصليها مسلم في مصر وكل أفريقيا منذ أن فتحها قبل أربعة عشر قرناً من الزمان وإلى يوم الدين .
أنصح أسامة سماسم ، أن يعود إلى الحق ، وأن يتوب إلى الله ، وأن يستغفر ربه ، وألا يجد حرجاً في أن يتعلم قراءة تاريخ المسلمين بنظارة المسلمين لا بنظارة المستشرقين والمستغربين والعملاء المأجورين ، أن يخلع عن عينيه نظارة الظلم والظلمات التي يحرص على الظهور بها ، كما لو كان يخيفنا بسوادها ، أو أنه يؤكد لنا أنه جيمس بوند([3]) المصري ، المتحدث الرسمي باسم سقط متاع الشعوبيين العلمانيين في بلاد المسلمين .
وآخر دعوانا أن يقطع الله لسان كل غمازٍ مشاءٍ بنميم، مناعٍ للخيرِ معتدٍ أثيم، عُتُلٍ بعد ذلك زَنِيم، وأن الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وخير المرسلين ، وعلى عمرو بن العاص وصحبه الغر الميامين ، وعلى سائر المسلمين الصالحين.
--------------------------------------------------------------------------------(51/250)
([1]) مثل أحمد الشهاوي الذي ألَّف كتاباً يسجد فيه للحب ويركع للعشق ، وحسن طِلب الذي ظن بشِعْرِه أنه ألَّف سوراً من القرآن ، ونوال بنت زينب الشهيرة بنوال السعداوي ـ التي تشق الجيوب وتلطم الخدود ليل نهار ، أنها تصاب بالطمث والحمل والولادة ، وزوجها لا يصاب بواحدة منها وترى في ذلك ظلم للمرأة المسلمة شديد ، فاتفقت هي وهو ألا يكون بينهما سبباً لهذا الظلم ـ وتماماً كما فعل من قبله طه حسين وسلمان رشدي ونسرينه وعلاء حامد وصبحي منصور وصلاح محسن وتلك المرأة التي ادعت النبوة في حي المطرية بالقاهرة ، ووقاحة صاحب الرواية الجنسية الشهيرة التي أصدرها قصر ثقافة المنوفية عام 1998 تحت مسمى الإبداع ، ومثل محمد مشتهري منكر السنة ولطفي الخولي عميل الصهاينة وحيدر حيدر صاحب الوليمة العفنة ، والقائمة تطول وتطول لأصحاب الضلالات ، فهل الباع كبير بين هؤلاء وأسامة سماسم ؟
([2]) المصدر الأول هو : الراهب القمص أنطونيوس الأنطوني في كتابة (وطنية الكنيسة القبطية وتاريخها) ، المطبوع بدار الطباعة القومية – القاهرة ، ويحمل رقم إيداع 9836/95 ، والصادر في 30 يناير 1996 بحسب مقدمة المؤلف ، وتتصدر صفحته الأولى صورة مكتوب أسفلها (قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث ، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وسائر بلاد المهجر) ، وعلى ما يبدوا أن هذا الكتاب الضخم طبع ونشر على نفقة دير الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر .
المصدر الثاني هو : مرجع أساسي في الدراسات الكنسية للقس منسي يوحنا ، في كتابه (تاريخ الكنيسة القبطية) ، إصدار مكتبة المحبة بالقاهرة ، عام 1983 بحسب رقم الإيداع ، وتتصدر صفحته الأولى صورة مكتوب أسفلها (قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث) ، وهو لا يقل حقداً وكراهية للإسلام والمسلمين عن سابقه .
أما المصدر الثالث : الذي اخترته مع سابقيه اختياراً عشوائياً من بين كومة كتب التاريخ الكنسية ، فهو القمص تادرس يعقوب ملطي ، في كتابه (الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والروحانية) الصادر بدون تاريخ عن كنيستي الإسكندرية بمصر وسانت ماري بكندا ، و تتصدر صفحته الأولى صورة مكتوب أسفلها (قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث) وكأنها صك الاعتماد المقدس لكل واحد من هذه المصادر .المصادر الأول ص 7 والثاني والثالث ص 8 .
([3]) جيمس بوند شخصية روائية تعمل في المكتب (الطابور) الخامس البريطاني (المخابرات الإنجليزية) .
http://baladynet.net/abuislam/essays/osama_anwa صلى الله عليه وسلم htm
لعلي أخبركم بمعلومة تخفى على الكثيرين حول ((أسامة أنور عكاشة)) حيث سمعه الناس في التلفزيون المصري يقول: إنه ولد في الأسكندرية، وعاش وتربى فيها.
والحقيقة يا سادة أن الرجل من مواليد محافظة ريفية اسمها: ((كفر الشيخ)) في مصر، وأبوه رحمة الله عليه (لأنه كان راجل طيب جدًا) كان يعمل تاجر (ميني فاتورة) وبيته في منطقة شعبية جدًا في مدينة كفر الشيخ اسمها ((الحكر)) أغلب من فيها من الفقراء رغم أنها مشهور بالبلطجية و....
وفي هذه المنطقة ولد ونشأ وتربى أسامة أنور عكاشة، ولا زال أولاد عمامه عندنا يتبرأون منه، ولا يحبونه أبدًا، ولا يزورنه أو يزورهم، ولي في هؤلاء أصدقاء، وأحد أولاد عمامه لا يزال يعمل في التدريس في إحدى المدارس الثانوية، في مادة التاريخ، وهو رجل فاضل جدًا، وقد درس لي قديمًا في المرحلة الثانوية.
المهم إن ((أسامة)) لا هو من الأسكندرية ولا يحزنون، بس هي عقدة النقص!!
روى الخطيب البغدادي رحمة الله عليه في كتابه ((الكفاية)) عن إمام المحدثين الكبار أبي زرعة الرازي رحمة الله عليه قوله فيمن يطعن في الصحابة الكرام: ((إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق . وذلك أن الرسول عندنا حق والقرآن حق . وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة . والجرح بهم أولى . وهم زنادقة)) كتاب الكفاية للخطيب البغدادي صفحة 93.
ويقول الإمام الكبير الطحاوي رحمة الله عليه في كتاب ((العقيدة الطحاوية)) في كلامه عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم: ((وحبهم دين وإيمان وإحسان . وبغضهم كفر ونفاق وطغيان)) كتاب العقيدة الطحاوية صفحة 467.
لاحول ولا قوة الا بالله
من يكون هذا العكاشة حتى يتطاول على صحابي جليل ذو ايادي بيضاء ومجاهد صلب في وجه اعداء الاسلام
ومن يجني كل ثانية ثواب اسلام كل بني مصر التي فتحها وعبدها لله , فليبقى غارقا فيما هو فيه من ضلال ولن يرد
عليه احد طبعا لانه كمثل النملة التي تحاول ان تؤذي فيل لم يظهر سوى انعدام فهمه وثقافته ودينه واضمحلال تفكيره لكل من شهد او سمع ماتقياه فهنيئا له ذلك(51/251)
انما هذا القائد رضي الله عنه هو أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل السهمي بطل أجنادين، وفاتح مصر، وأول حاكم ألغى نظام الطبقات فيها، وكان السبب الأول في عروبتها وإسلام أهلها، وشريك مسلميها في حسناتهم من زمنه إلى الآن لأنه الساعي في دخولهم في الإسلام - هذه الرجل العظيم عرفه التاريخ بالدهاء ونضوج العقل وسرعة البادرة، وكان نضوج عقله سبب انصرافه عن الشرك ترجيحاً لجانب الحق واختياراً لما دلَّه عليه دهاؤه من سبيل الخير، فجاء مزيِّفو الأخبار من مجوس هذه الأمة وضحاياهم من البلهاء فاستغلُّوا ما اشتُهر به عمرو من الدهاء استغلالاً غبيا لاينم سوى عن عقول تعيسة لاتحوي سوى السطحية والغباء
والاخ السابق الذي تحمس للدفاع عن نسب عكاشة الشريف بتنطع ملحوظ مامعنى سؤالك عن نسب عمرو بن العاص؟
للقارئ له معنيين :اما ان تكون شيعي مضلل ومحرف
او تكون قارئ نهم بدون تفكير لضلالاتهم
لاشك أننا نعرف من يكون عمرو بن العاص القائد العادل رضي الله عنه... في الوقت نفسه نعرف من يكون هذا الرقيع أسامة أنور عكاشة.. كما نعرف المدافع عنه من لهجته.
ويا ليتك ذكرت أسماء لها قيمتها لكن سعد زغلول أخو شفيق زغلول القاضي الذي حكم على المصريين بالإعدام لصالح الإنجليز المحتلين لمصر في حادثة دنشواي الشهيرة... وأما سعد يحيى سعد.. وتبًا لسعد وما فعل سعد.. فهو أول من رفع برقع الحياء عن وجه صفية زغلول فكشف وجهها لتتفرنج مثل الإنجليز.. وبهذا بدأ الفساد والتخلي عن الحجاب الإسلامي ينتشر.. وتفشي كشف الوجه في المصريات بعد أن كنّ يلبسن الحجاب والبرقع ولا يكشفن وجوههن أمام الرجال الغرباء عنهن.
أما أحمد زويل صاحب الجائزة المعروفة ... فقد سمعنا من تقول إنه سرق اكتشافه منها... وذلك في بعض حلقات برنامج (مساء الخير يا مصر).. فياليت أحدهم يراجع لنا هذه المسألة أيضًا.
وقد سمعنا سمسم عكاشة بنفسه يقول إنه ولد في الإسكندرية وهذا كذب بلاشك.
==============(51/252)
(51/253)
المفكر الغربي ( نيتشة ) - نقد علمي لفكره -
فر يدريك نيتشه ، "1844-1900م"1260-1318هـ" ، فيلسوف ألماني ملحد ..
أولاً : حياته :
كان أبوه قساً بروتستانتيا, وكذلك كان جده, توفي والده وهو طفل,فتولي تربيته نسوة العائلة, فنشأ مدللاً رقيقاً حساساً, مما جعله محل سخرية زملائه في الدراسة, مما دفعه للبحث عن وسيلة تجعله خشناً صلباً, وتخلصه من الطابع الأنثوي الذي نشأ به, وكان سبباً في كونه محطاً لسخرية الآخرين. ولعل رد الفعل هذا له أثره في جنوحه- فيما بعد- إلى مذهب القوة والعنف والقسوة الذي كان طابع فلسفته.
كان ابن قس, وحفيد قس, وأراد في حداثته أن يكون قساً, فنشأ على التزام بالنصرانية ديانة آبائه, وكان كثير القراءة في الإنجيل النصراني, وكان يقرأه على زملائه بصورة مؤثرة تجعل الدموع تجري من مآقيهم, حتى أطلق عليه الجميع في هذه الفترة اسم " القسيس الصغير " .
لكن هذا القس الصغير لم يلبث وهو في سن الثامنة عشرة أن فقد إيمانه بالنصرانية و كفر بها, ودخل في مرحلة من الشك والحيرة خرج منها كافراً بكل شيئ, ناقماً على كل شيئ, ولم يرجع إلى الدين ثانية, بل اندفع في طريق الإلحاد حتى نهايته, فأعلن موت الآلهة, ثم اتخذ من " السوبرمان " الإنسان الأعلى- كما يسميه- إلهه ومعبوده, وأمضى بقية حياته يبشر به, ويرسم الطريق للإنسانية كي تصل إليه .
- درس بجامعتي " بون وليبزج" بألمانيا, حتى حصل على الدكتوراه, ثم عمل بجامعة "بال" بسويسرا أستاذًا لفقه اللغة ((1869 م )) ثم مرض وزادت علته, حتى اضطر إلى التدريس (( 1879م ))والعيش على ((معاش)) تصرفه له الجامعة . وبعد ذلك بعشر سنين انتهى به المرض إلى الشلل الكلي والجنون , وتولت أخته رعايته , حتى لفظته الحياة , كما يلفظ البحر جيفه عكرت بنتنها ماءه الصافي , لكنه خلف وراءه فكرا ضالا ركبه اليهود ليصلوا من خلاله إلى الكثير من أهدافهم الخبيثة , مما جعلهم يشيدون به وبأفكاره في بروتوكولا تهم ومجامعهم.
****************
ثانيٍا : مؤلفاته:
لنيتشه مؤلفات كثيرة أهمها :
1-أصل المأساة "1872م". وهو دراسة للثقافة اليونانية من خلال القصص والروايات أو "الدراما" .وفي هذا المؤلف الذي يطلق عليه أحياناً "نشأة التراجيديا" فضل القوة الجسدية, على الفكر الذهني الذي جاء به سقراط ومن بعده.
2-إنساني مجاوز للحد " 1878". وفيه تحدث عن الانتخاب الذاتي, وضرورة أن يعمل الإنسان على أن يتجاوز نفسه إلى كائن أعلى منه, والذي سماه فيما بعد: "السوبرمان".
3-المسافر وظله"1880م". وفيه بين أن المشاعر الخلقية من الشفقة والرحمة والعدل والتواضع, إنما هي عوامل مضللة, تناقض التفسير العلمي للأشياء, وتعوق مسيرة التقدم لدى الإنسان, وتعرقل الوصول إلى الإنسان المجاوز للحد "السوبرمان".
4-الفجر"1881م".
5-المعرفة المرحة "1882م".
6-هكذا تكلم زرا دشت"1883م". وهذا الكتاب هو أهم مؤلفاته, ألفه في أسلوب أدبي شعري, ووضع فيه خلاصة مذهبه من جانبيه: السلبي الذي تمثل في نقد الدين والقيم والأخلاق, ومحاربة فكرة الوطن والقوم والأمة وكل شيئ موروث, ثم الإيجابي الذي يتمثل في الدعوة إلى الصراع ضد الدين والقيم, والعمل على تحقيق الإنسان المجاوز للحد من خلال التطور الذاتي, وقد جعل بطل هذا المؤلف ينطق بكل ما يريد نيتشه, فكان نيتشه يلقي بآرائه الفلسفيه من خلال "زرا دشت" هذا.
7-فيما وراء الخير والشر"1886م". وفيه يكرر أضاليله حول القيم, ويقرر أن القوة والجبروت هو الخير, وأن الضعف والتواضع شر .
8-في أصل الأخلاق"1887م". تكلم فيه نيتشه عن الفضائل والقيم, وقرر أنها تزييف للواقع, وتكلم- تحديداً- عن الزهد, ووصف الزاهد الذي يحتقر القوة والعنف بأنه مخادع.
9-إرادة القوة "1901م" نشر بعد هلاك نيتشه.
10-غروب الآلهة "1989م" وفيه يعلن نيتشة أن الآلهة قد ماتت, كما كان قد قبل ذلك, ويطالب الإنسان بأن يخرج الآلهة من قلبه, ويقبرها في حفرة عميقة, يضع على بابها حجر ثقيل, حتى لا تخرج ثانية فتفسد حياة الإنسان.
11-هذا هو الإنسان"1908م" وقد نشر- أيضاً- بعد هلاك المؤلف. وفي هذا الكتاب يبشر" نيتشه" بإنسان جديد يتجاوز الإنسان العادي ويفوقه من حيث القوة والقسوة, يعيش حياة المغامرة والحرب والعنف, وتتحد فيه إرادة الحياة مع إرادة القوة, بحيث يصيران شيئاً واحداً, فالحياة هي القوة, والقوة هي الحياة .
ثالثاً: مفتاح شخصيته :يبدو أن شخصية هذا الفيلسوف لا تفهم إلا من خلال ردود الأفعال التي انتظمت فكره وسلوكه وشئونه الحياتية كلها.
وردود الأفعال إنما تكون- غالباً- تفسيراً لسلوك نوعين من الناس متضادين.(51/254)
الأول: إنسان ضعيف الشخصية, ضحل الإمكانات الذهنية, قليل الثقة بنفسه, فهو حين يحب أن يظهر نفسه, ينتظر ليرى الناس يفعلون شيئاً, ثم يفعل هو نقيضه أو ضده. ليؤكد ذاته, وليلفت الأنظار إليه, متخذا من المثل القائل:" خالف تعرف " منهج حياة, وقاعدة سلوك. . أما النوع الثاني., فعلى النقيض من الأول, حاد الذهن شديد الذكاء, قوي الثقة بنفسه, مفرط الكبر والغرور, يرفض التقليد والتبعية لأي شيئ ولو كان الدين, حاقد على الآخرين, ماقت لكل شيئ, ناقم على الحياة والأحياء, سعادته كلها في مخالفة الآخرين, ورفض آرائهم وتسفيهها.
وقد كان " نيتشه" يمثل النوع الثاني شر تمثيل.
فقد كان من أسرة متدينة, على صلة وثيقة بالنصرانية والكنيسة, والوظائف الدينية, حيث كان أبوه قساً, وكذلك كان جده, وقد أعده أهله ليكون قسيساً, وبخاصة لما لاحظوا فيه من ضعف صحته, ورقة إحساسه, وميله إلى العزلة.
لكن الرجل اندفع إلى الاتجاه المخالف المضاد, فلم يكتف برفض الوظائف الدينية, بل رفض النصرانية نفسها وكفر بها, بل إنه لم يكتف في ردود أفعاله بهذا, وإنما جعل من أهداف حياته مهاجمة النصرانية ومحاربتها, وبيان أباطيلها, وكشف مفاسد رجالها, بل إنه حارب الدين كله, ولم يفرق بين حق أو باطل.
كذلك كان الفيلسوف عليل الصحة, ذا بنية جسمية ضعيفة, ثم مرض مرضاً شديداً فزاد ضعفاً على ضعف, ولقد خلف له المرض آلاماً حادة في الرأس وفي المعدة, وفي العينين حتى تركه شبه أعمي , ولقد لازمته تلك الآثار المرضية طوال حياته.
ومرة ثانية نصطدم بردود الأفعال لدى " نيتشه" فبدلاً من أن يسير سيرة فكرية تناسب حالته تلك, فإنه يندفع إلى الاتجاه الضد,فيعيب الضعف والضعفاء, ويمجد القوة والأقوياء, بل إنه ليدعو المرضى والضعفاء إلى قتل أنفسهم انتحاراً, تطبيقاً لمبدأه الذي يقول فيه : "مت في الوقت المناسب", أما في حال عدم استجابة الضعفاء والمرضى لدعوته تلك وانتحارهم ، فإنه يدعو الأقوياء إلى أن يقوموا بهذه المهمة نيابة عن الضعفاء ,فيقتلونهم, حتى يخلو المجتمع مما يعوق تقدم الإنسانية إلى تحقيق " الإنسان المجاوز للحد ".
وقد كانت حياة الرجل بما فيها من مرض وضعف وآلام, ليس أقلها إصابته بالشلل, وضعف البصر الشديد, وآلام الرأس والمعدة, كانت مثل تلك الحياة من شأنها أن تجعل صاحبها متشائماً يائساً قنطاً, وبخاصة لرجل مثله لا يؤمن بالله- سبحانه- ولا يؤمن بيوم آخر يكافأ فيه على صبره واحتسابه من ربه. . كان ذلك هو المنتظر من ذلك الفيلسوف الذي جمع بين الخستين: المرض والآلام, ثم الإلحاد .
لكن جاء رد الفعل عنده, فرفض التشاؤم, ونعى على التشاؤم والمتشائمين وهاجم بعنف النزعة التشاؤمية لشوبنهاور, وعاش يدعو إلى التفاؤل, وإلى العيش في الدنيا بروح مرحة.
ولقد كان من شأن رجل ضعيف مريض مثله, فقد سلامة الصحة والبصر, أن ينحو منحى السلامة, ويدعو إلى التحوط والحذر من كل يوحي بالخطر.
ومرة ثالثة نصطدم بردود الأفعال عند نيتشه فقد اندفع الرجل المريض الضعيف شبه الأعمى يمجد الخطر, ويدعو الناس إلى أن " يعيشوا حياة الخطر, وأن يبنوا مساكنهم على حافة بركان " فيزوف" ، وأن يركبوا زوارقهم كي يكتشفوا البحر الذي لم يرتده أحد من قبلهم", وأن يتحدوا جميع المخاطر بروح لا تعرف الخوف.
على أن ثمة حدثاً له دلالته وآثاره على تلك النفس المريضة المنحرفة, ذلكم أن " نيتشه" وقع في حب إحدى النساء القريبات منه, ولكنها لم تبادله حباً بحب,وفضلت عليه رجلاً آخر, ولم تجد محاولاته في إقناعها بحبه, وهنا برز رد الفعل عند نيتشه, حيث اندفع هائماً على وجهه يرسل النقد تلو النقد للنساء جميعهن, واصفاً إياهن بأقبح الصفات, مدعياً أنهن لسن أهلاً لحب أحد الرجال, وبخاصة حب رجل عظيم مثله, وهذا الحدث ليس بدعاً من القاعدة التي ذكرناها, وإنما هو تطبيق لها, أعني من أوضح الأمثلة على أن الرجل يعيش على ردود الأفعال.
رابعاً : فلسفته :
تقوم فلسفة " نيتشه" على أسس أهمها:
1-التأكيد على الذاتية في مقابل الموضوعية بالنسبة للصلة بين الإنسان والعالم. فقد ذهب نيتشه- كما ذهب " شوبنهاور" من قبله- إلى أن أفكار الإنسان ومعارفه عن العلم الخارجي متأثرة بأوهام ذاتية, ومعتقدات شخصية لا حقيقة لها في الخارج. وأن الحقائق الموضوعية للعالم تختلف عما يتصوره الإنسان ويعتقده عنها, لذلك كانت معارف الإنسان عن العالم إنما هي أوهام ذاتية, وخرافات مورثة.
2-إن أخطر هذه الأوهام الذاتية, وأكبر تلك الخرافات المورثة التي تخالف الواقع وتصادم الموضوع إنما هو الدين وكل ما يتصل به.فالدين هو أكبر خرافة توارثتها الإنسانية جيلاً بعد جيل, وليس من شك أن الدين والأخلاق وما يتصل بذلك إنما هي مظاهر ضعف وانحطاط, لكن هذه المظاهر يتعهدها رجال الدين القساوسة, ويظهرونها على أنها فضائل, لكي يحتفظوا بسيادتهم على جماهير الناس, وتزداد مكانتهم ومكاسبهم المادية, رغم وضوح الكذبة ورغم أن الدين وما يتصل به أمور يرفضها العلم, ويكفر بها العقل الذكي.(51/255)
3-أهم ما في فلسفته جانبان : جانب سلبي, وجانب إيجابي, أما الجانب السلبي .,فيتمثل في النقد العنيف والقاسي والملح للدين والقيم والأخلاق, فهو لا يفتأ في كل مؤلفاته ينقدها ويحاربها على أمل أن يقضي عليها. وقد استغرق هذا الجانب السلبي القدر الأكبر من مؤلفاته, وأما الجانب الإيجابي., فهو تمجيد القوة والدعوة إليها, وإلى القضاء على كل ما يعارض القوة ويعرقل مسيرتها, ويعوق تقدم الإنسان مما يسمى بالقيم والأخلاق, من مثل : الحب, والرحمة, والعدل, فهذه الأمور أمثالها قد عاقت الإنسان إلى أن يتجاوز نفسه, ويرتفع عن مستواه الحالي, ليصل إلى الإنسان الأقوى, أو ما سماه "السوبرمان" ولن تصل الإنسانية إلى هذا الإنسان الأقوى إلا إذا ألقت وراء ظهرها بما يسمى بالقيم, ثم استعملت القوة في الصراع بين الضعفاء والأقوياء, ومن ثم يقضى على الضعفاء, ولا يبقى إلا الأقوياء, ثم الصراع بين الأقوياء, وهكذا حتى تصل البشرية إلى المستوى الأعلى دائماً.من أجل ذلك دعي الرجل " فيلسوف القوة", ودعيت فلسفته " فلسفة القوة". وهي تسميات غير دقيقة, وإطلاقات خاطئة, والاسم الصحيح, أو الوصف الدقيق لهذه الفلسفة وكل ما يماثلها أنها: " فلسفة الحمقى والمجانين", وليس ذلك إطلاقاً مجاوزاً للحقيقة, فقد صدقت الأحداث ذلك. وكان الرجل حين تسجليه أفكاره هذه وكتابته مذهبه شبه مجنون, ثم أصيب بالجنون فعلاً وظل الأحد عشر عاماً الأخيرة من حياته في جنون شبه كامل, ورغم ذلك كان يكتب ويحرر مذهبه ذاك .
4-فيما يتصل بالجانب الخلقي ., فقد وضع مقياساً للأخلاق ربط فيه بين القوة والفضيلة, بصرف النظر عن مجالات استعمالها, فإن القوي عنده له مطلق الحرية في استعمال قوته في كافه المجالات, ولو كان سفك الدماء البريئة, بل إنه يحض الأقوياء على سفك دماء الضعفاء حتى لا يعوقوا مسيرة البشرية إلى الأعلى, كذلك كل ضعف هو رذيلة. بصرف النظر- أيضاً-عن أسباب الضعف, وسواء كانت بفعل الإنسان وإرادته كمن يجهد نفسه فوق الطاقة, أو يتعاطى مطعومات أو مشروبات تضعف الصحة, أو كان ذلك خارجاً عن إرادته وإمكاناته كالضعف بسبب المرض, أو بطبيعة بنية الجسم. وأيضاً :ربط بين الخير والقوة والشر والضعف ؛ فأضحى الميزان الخلقي عنده : أن القوة هي الخير وهي الفضيلة ، وأن الضعف هو الرذيلة وهو الشر.
5-دعا " نيتشه" إلى شعار يقول " كن نفسك, ولا تكن غيرك ". وهو يعني بهذا أن يرفض الإنسان كل الأشياء التي ورثها, والتي تربطه بالآخرين, وأن يحطم القيم, والعادات, والأعراف, والتقاليد, بل يجب عليه أن يحطم أخطر تلك القيود التي تمنعه عن " الخلق" والابتكار وتحقيق ذاته, وهذه القيود الأخطر هي في نظره: الدين , والوطن, والأمة. فهذه الثلاثة يمثل كل منها قيداً يمنع الإنسان من الانطلاق نحو " الخلق" والابتكار. فالناس يؤمنون بهذه الأشياء, والإيمان يعوق الإنسان عن تحقيق ذاته: لأن الدين مأخوذ عن السابقين, فأنت لا تخلقه ولا تنشئه, بل تقلد السابقين, وكذلك الأمة والوطن, ومثل ذلك كل القيم. إنما هي موروثات عن الذين سبقوك. فأين أنت؟ أين ما قمت أنت بخلقه واختراعه؟ لا شيئ, ولذلك فأنت صورة مكررة ممن سبقوك. . ولكي تبدع, ولكي تكون نفسك, وتحقيق ذاتك, لا بد أن ترمي بكل شيئ موروث عن السابقين, وتخترع أنت القيم الخاصة بك, والتقاليد والأعراف والسلوك الخاص بك أنت, والذي يناقض كل ما كان عليه الآخرون السابقون.
6-يركز " نيتشه" في فلسفته على " خلق" الإنسان الأعلى, أي الوصول بالإنسان عن طريق الصراع, و"التطور الذاتي الصاعد", وهو يطبق هنا مذهب التطوريين, فيذهب إلى أن الكائنات بدأت من الخلية الواحدة" الأميبا", ثم تطورت إلى الأعلى, حتى وصلت في تطورها إلى الإنسان وقف عند حد معين ولم يكمل مسيرة الارتقاء ليصل إلى الأعلى منه, فكل الكائنات من أدناها قد أدت رسالتها في الترقي إلى الإنسان, وكان على الإنسان أن يفعل نفس الشيء, لكنه وقف في محله, وقد عوقته أوهامه الذاتية عن الدين, والأخلاق, والقيم, والإبقاء على الضعفاء, وهذه أفقدت المسيرة أهدافها, وعلى الإنسان أن يبدأ المسيرة من جديد, ولن يتم ذلك إلا بالقضاء على الدين والقيم, وإحياء الصراع, وتطبيق قانون" البقاء للأقوى" حتى يصل في النهاية إلى الإنسان السوبرمان.(51/256)
7-وللوصول إلى هذه الغاية يجب ألا تترك الأمور تسير تلقائياً, بل يجب أن تسير الأمور حسب منهج معين, يلتزم به الجميع دون تهاون, والمنهج اللازم إنما يتم عن طريق أمرين: تحسين النسل, والتعليم, وتحسين النسل يأتي في المرتبة الأولى.وتحسين النسل يتطلب رفض الزواج العشوائي الذي يقوم على ما يسمي: الحب, والذي يقع فيه عظماء الرجال ضحايا للخادمات وأمثالهن تحت ما يسمى بالحب, لكن ينبغي أن يختار الأرقى من الرجال لأمثالهم من النساء, فتتزوج النساء الراقيات الرجال الراقين, ويكون الزواج محكوماً بهذه المعايير, يقول " نيتشه" : " يجب ألا نسمح بزواج يقوم على الحب, وأن يتزوج خير الرجال من خير النساء, أما الحب فلنتركه لحثالة الناس, إذ ليس الغرض من الزواج مجرد النسل, بل يجب أن يكون وسيلة للتطور والترقي... بمثل هذا المولد وهذه التربية يرتفع الإنسان فوق الخير والشر, ولا يتردد في اللجوء إلى العنف والقوة في سبيل الوصول إلى غايته" .. والغاية التي يقصدها الرجل إنما هي الوصول إلى الإنسان الأعلى " السوبرمان".
8-وكما بذل " نيتشه" مجهودا ضخماً ومستمراً في الدعوة إلى حياة الصراع والقوة للوصول إلى " خلق " وإيجاد " السوبرمان ". كذلك بذل الفيلسوف مجهوداً مضاعفاً ومستمراً في محاولات القضاء على الأديان التي تمثل عدوه الأول. ويتمركز حولها حقده ومقته الشديد, لقد جعل بطله " زرا دشت " الذي اخترعه ليكون شبيهاً بسميه الفارسي " زرا دشت ". وليكون معلماً كما كان " زرا دشت " الفارسي معلماً, لقد وضع نيتشه على لسان بطله زرا دشت حديثاً طويلاً رمزياً أراد أن يبين فيه أن الدين خرافة, وأن الآلهة قد ماتت, يقول " نيتشه " في كتابه : " هكذا تكلم زرا دشت ": " ينزل زرا دشت وهو في الثلاثين من عمره من جبله الذي أوى إليه سابحاً في تأملاته, ليعظ الجماهير, ولكن الجماهير كانت مشغولة عنه بمشاهدة رجل يرقص على الحبل, ولكن الراقص على الحبل يسقط ويموت, فيحمله زرا دشت على كتفيه ويذهب به بعيداً ليدفنه في قبره ويغلقه عليه" , إن هذه القصة الرمزية أراد بها نيتشه أن يبين للناس الحقائق الصحيحة, لكن الناس كانوا مشغولين بالدين والقيم والخرافات, التي رمز لها " نيتشه" بالأراجوز أو الراقص على الحبل, لكن الدين ما يلبث أن يموت بفضل جهود نيتشه, كما مات الراقص على الحبل عندما رأى زرادشت, وأن نيتشه هو الذي سوف يدفن الدين بيديه, ويعلن موت الآلهة كما فعل زرا دشت... لقد التقى زرادشت وهو نازل من الجبل بناسك يحدث الناس عن الإله ، فقال زرادشت لنفسه : " هل يمكن أن يكون ما قاله الناسك حقاً؟ يبدو أن هذا الناسك العجوز الخرف لم يسمع بعد أن الآلهة قد ماتت, لقد مات الله حقاً وماتت جميع الآلهة... لقد ماتت جميع الآلهة, ونريد الآن أن يعيش " السوبرمان " الإنسان الأعلى ".
9-زعم " نيتشه" أن الوجود له غاية ، وغاية الوجود هي " الصيرورة " أو " الدور السرمدي ". وهو يعني بهذا أن ينفي ما جاءت به الأديان من القول بالنعيم الدائم, والعذاب المقيم, وأن هذه الدنيا ستنتهي بدار خالدة أبداً لا تفنى, وحتى يحارب هذه الحقيقة الدينية, قال بنظرية " الدور السرمدي", وهي نظرية معروفة في التراث الثقافي اليوناني, وهي تقرر أن الموجودات جميعها تمر في دورات متتاليات صاعدات, تبدأ الدورة بالخلية الأولي, أو بالذرة, ثم تترقى وتتطور تصاعدياً, حتى تصل إلى أعلى ما يمكن أن تصل إليه الموجودات من ترق صاعد, ثم يفنى كل شيء تماماً, لتعود دورة أخرى من جديد وعلى نفس النمط, وتتكرر نفس الظروف والأحوال والموجودات... وهكذا في دورات دائمة سرمدية لا تنتهي .. قالوا: وهذه غاية الوجود.... وهذه النظرية جمع فيها القائلون بها من اليونان بين أمرين ظنوهما حقيقتين مسلمتين, أولهما: أن العالم الطبعي دائم أزلي أبدي, لا بداية له ولا نهاية, وثانيتهما: أن الوجود الشخصي متغير ولا يبقى على حال , ورأوا أنهم بذلك قد حلوا مشكلة الثبات والتغير في الوجود المادي الذي لا يؤمنون إلا به, فالعالم في مجموعه ثابت ودائم, لكن الأشياء والصور فيه متغيرة وصائرة من حال إلى حال, وقد اعتنق " نيتشه" هذه الفكرة الفاسدة التي تخلي عنها حتى أصحابها, وظن أنه بذلك وضع النهاية للدين وكل ما جاء به... لكنه زاد على الفكرة الإغريقية التي شرحناها, فكرة أخرى أضافها هو من عنده, وهي أن الأشياء التي تعود في الدورة التالية هي نفسها التي كانت في الدورة السابقة, حتى " نيتشه" والشعب الألماني بصفاته وسماته دون أي تغيير .
خامساً : نقد فلسفته :(51/257)
1-ليس هناك فكر, وليست هناك فلسفة تخلو من نقد أو تقويم, لكن فلسفة " فردريك نيتشه" لا تنطبق عليها هذه القاعدة, فهي لا تحتاج إلى نقد أو تقويم, ليس لأنها تعلو على النقد, أو لأنها خالية من المآخذ, بل لأنها أقل قيمة, وأوضح بطلاناً, وأظهر سقوطاً وإسفافاً, وأبين ضلالاً وفساداً من أن تنقد, إن الفكر لكي يخضع للنقد لا بد أن يحتوي على حد أدني من العقل والمنطق, يجعله أهلاً لأن ينظر فيه العقلاء ويهتموا له, لكن فكر هذا الرجل قد فقد الحد الأدنى من العقل والمنطق, حتى أضحى خيالاً وأوهاماً هي في الواقع أحط من الخيال, وأسف من الأوهام.. إنه لا يقدم للناس أفكاراً وحقائق يقيم الأدلة على صدقها, بل يكتفي بأن يسرد أوهامه ويتجشأ خيالاته التي تنضح بالحقد والمقت لكل شيء في الوجود : الدين, والأخلاق, والقيم, والإنسان, والحق, والخير, والجمال, ولم يفلت شيء في الوجود من مقته وكراهيته وحقده, حتى نفسه التي بين جنبيه.
2-إن خيالاته وأوهامه التي يقدمها للناس على هيئة أفكار فلسفية, إنما هي خيالات وأوهام مريضة, لإنسان فاسد مريض, وقد كانت خيالاته وأوهامه جديرة بأن تذهب سدى, وأن ينبذها الفكر الإنساني كما نبذت الحياة صاحبها, لولا أن اليهود توسموا في هذا الفكر ما يفسد الإنسانية, ويلوث كل ما فيها من حق وخير وجمال, فأمسكوا بهذا الفكر ونشروه, فكان منه هذا الكم الهائل من الغثاء, والذي أضحى معدوداً من المذاهب الفكرية التي على الناس أن يدرسوها ويحللوها حتى يظهروا ما فيها من زيف وفساد فيجنبوا أنفسهم والآخرين ضررها ووباءها.. وإلا فكم من المجانين قادر على أن ينتج مثل هذا الهراء وأكثر.
3-إن " نيتشه"- كما قلنا- لم يقدم لنا فكراً منطقياً يقيم الدليل على صدقه, بل يكتفي بسرد أفكاره وتجشؤ أوهامه . إنه قدم خيالا ووهما لا فكرًا ، ومن ثم كانت جميع أفكاره من ألفها إلى يائها كمًا من التخيلات التي لا دليل عليها, ولا سند لها. سوى أنها إفرازات تكشف عن صفتين أساسيتين لصاحبها. أولاهما : كم هائل من الحقد والكراهية والمقت لكل شيء في الوجود., الدين والأخلاق والقيم والمجتمعات الإنسانية, إنه يمقت كل شيء حتى نفسه, ويصل مقته نفسه إلى التحريض المستمر على قتلها والقضاء عليها.. أليس قد ملأ فلسفته بتحريض الأقوياء على قتل الضعفاء والمرضى؟ ومن كان أشد منه ضعفاً ومرضاً؟ إن فكره يجعله أول المستحقين للقتل والتدمير وإخلاء المجتمع الإنساني منه.. إننا نمقت قتل الإنسان أخاه, لكنا نقول: ليت قوياً من الأقوياء في زمانه سمع مقالته مرة واحدة ونفذها في شخص واحد, ليت أحد الأقوياء تبرع وناب عن الإنسانية كلها في قتله, وتطهير المجتمع الإنساني منه ومن أفكاره.
ثانيتهما : جرأة مرضية اتسمت بقدر هائل من التبجح والتوقح والعدوانية, جعلته يتجشأ على الناس ويقذف في وجوههم بآرائه المريضة, وأفكاره المعتوهة كأنها حقائق مسلمة, ويعتدي على أقدس المقدسات, ويناقض البدهيات والفطريات دون أدنى قدر من الحرج . وهذه كلها شكلت أقوى الأدلة على جنون الرجل, وانقلاب الموازين عنده.
4-إن " نيتشه" أقام فلسفته وأفكاره على أساس من التعارض بين الذاتية والموضوعية, فقرر أن معارف الناس عن العالم الخارجي إنما هي أوهام متأثرة بذواتهم, ومغايرة للواقع, كذلك قرر أن الواقع مغاير لمعارف الناس. وإذا كان الفيلسوف قد وضع نفسه في كفة والعالمين في كفة, ثم أصدر حكمه منفرداً على جميع الناس أنهم واهمون, وأن علومهم ذاتية لا صلة لها بالواقع., نقول: إذا كان هو قد سمح لنفسه أن يفعل هذا؟ أو ليس من حق الناس أن يتخذوا منه نفس الموقف, ويحكموا عليه بمثل ما حكم به هو عليهم ؟ ومن ثم., فإن معاملة " نيتشه" بنفس منطقه هذا, وتطبيق تلك القاعدة التي جاء بها, من شأنه أن يزري بفكره كله, وأن ينسف فلسفته بجملتها ؛ لأنها- حسب قواعده- مجرد أوهام ذاتية لا صلة لها بالواقع, والواقع معارض لها ومغاير, وكل ما فيه مختلف عنها... فليس علينا- كي نهدم فكره من جذوره- إلا أن نعامله بفكره, ونطبق عليه مبادئ فلسفته.بل إنه أولى بذلك من غيره, لأنه إذا كان قد اتهم الأسوياء من الناس بأنهم واهمون, وأن أفكارهم وعقائدهم إنما هي خيالات وأوهام ذاتية لا صلة لها بالواقع., فماذا عنه هو الذي قضى حياته مريضاً مشلولاً شبه أعمى نصف مجنون, ثم وقع به الجنون المطبق قرابة الاثني عشر عاماً الأخيرة من حياته التي قضاها يتخبط في ظلام العمي والجنون؟ ليس من شك في أنه الأولى والأحق بصفة الواهم المتخيل الذي يعيش بعيداً عن الواقع, والذي لا يمت له بصلة.(51/258)
5-إن الفيلسوف الحاقد قد أقام فلسفته على أنقاض كل ما هو خير وحق وجميل في هذه الحياة. إنه عاشق للشر والباطل وكل قبح وفساد, إنه ينفر ويحذر من كل ما هو خير وطيب وفاضل, ويرغب في كل ما هو شر وخبيث ودنس... إن أوضح الأدلة على فساد مذهبه أنه أخذ على عاتقه أن يقلب الحقائق, وأن ينقض القيم, وأن يحيل المجتمعات البشرية إلى ساحات للحرب, يقضي فيها الأقوياء على الضعفاء, ثم تستمر الحرب بين الأقوياء, حتى تتحول المجتمعات البشرية إلى أنقاض وخرائب يرتفع فوقها نعيق الغربان والبوم.
6-إن الرجل المريض بعقله يخلط بين الوسيلة والغاية, فالقوة التي ظل طوال حياته يتغنى بها ليست غاية في ذاتها, وإنما هي وسيلة, إن القوة تكون خيرة إذا ما استعملت في سبيل الخير, وتكون شريرة وقبيحة إذا ما استعملت في تحصيل الشر, أما القوة في ذاتها فلا توصف بخير ولا شر, ولا بفضيلة ولا رذيلة, وإنما يتوقف ذلك على الموضوع الذي تستعمل فيه, ولعلنا نتذكر هنا ما ورد في السنة الشريفة من ميزان توزن به القوة من حيث كونها خيراً أو شراً, حين مر على أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم- رجل شاب قوى, يسرع في طريقه, فقال أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم : لو كان هذا في سبيل الله.- يقصدون قوة الفتى وشبابه وسرعته في السعي-, فأخبرهم الرسو صلى الله عليه وسلم بالميزان الصحيح للقوة حيث قال : إن كان قد خرج يسعى على أبوين كبيرين, فهو في سبيل الله, وإن كان قد خرج يسعى على نفسه ليعفها عن المسألة فهو في سبيل الله, وإن كان قد خرج بطراً ورياء فهو في سبيل الشيطان, أو كما قا صلى الله عليه وسلم , هذا هو الميزان الذي توزن الذي القوة, وقد اقتصر الرسو صلى الله عليه وسلم في ذم القوة على أن يكون صاحبها قد خرج كبراً ورياء ومفاخرة. فماذا لو علم الرسو صلى الله عليه وسلم أنه خرج- كما يدعو نيتشه الأقوياء- ليقتل الضعفاء, ويروي الأرض بدماء المرضى ؟
7-إن الرجل المريض أراد أن بحول المجتمعات الإنسانية إلى مختبرات, وأن يحول الناس رجالاً ونساء إلى فئران تجارب وأن يلغي من حياة الناس العواطف والمشاعر ، حيث يدعو إلى أن تقوم العلاقات بين الرجال والنساء حسب قواعد جامدة, وبرامج باردة يضعها القائمون على الأمر, فيأتون برجل معين ويفرضونه على امرأة معينة, وكأن الناس قطيع من الأغنام قام عليها راع قاسي القلب, ميت الإحساس.. وبذلك تتحول المجتمعات إلى بيئات لا أثر فيها لعاطفة أو شعور, إن هذه وحدها كفيلة بأن تضرب المجتمع الإنساني في الصميم, وتحيله إلى أخس من مجتمع الحيوان الأعجم.
( المصدر : مذاهب فكرية معاصرة ، للدكتور محمود مزروعة ، ص 211-227) .
من كتاب كواشف زيوف
"نيتشه" وأفكاره الإلحادية
من هو "نيتشه"؟
هو "فردريك نيتشه" . فيلسوف ألماني ملحد . يعاني من نزعة الكبر والعجب بالنفس وعقدة العظمة إلى حد مشاعر الربوبية ، عاش ما بين (1844-1900م). وهو من سلالة قساوسة . تخرّج بجامعة "بون" . وعين أستاذاً بجامعة "بال" بسويسرا . ثمّ استقال من الجامعة أخيراً وتفرّغ للتأليف .
يدّعي واضعو الدستور الشيطاني اليهودي ، أنه أحد وكلائهم الذين نشروا الإلحاد وعملوا على هدم الأخلاق في فكر الأميين "الجوييم" .
تأثر "نيتشه" أول الأمر بفلسفة "شوبنهور" . ثمّ فيسنة (1874 م) بدأ إعجابه بفلسفته يتبدد ، حتى سقطت من نفسه كلياً .
ثمّ صار "نيتشه" يفقد أصدقاءه واحداً فواحداً ، حتى أمسى في عزلة تامة عن كل العالم ، وغدا الناس لا يحفلون به ، ولا يقرؤون شيئاً مما يكتب ، وغدا الناشرون لا يقبلون طبع كتبه .
وازداد إهمال الناس له ، وجفاء القراء لكتبه ، فزاد ذلك من آلامه ، وغاظه وأثار غضبه الشديد ، وكان المرض ملازماً له .
ثمّ استولى عليه جنون العظمة ، حتى ظنّ نفسه الإله : "ديوزينوس" . وفي سنة (1889م) حل به الجنون الحقيقي .ثم هلك في (25/8/1900م).
أبرز آرائه وأفكاره الفلسفية
أولاً: اعتبرت فلسفة "نيتشه" العقل عاجزاً عن إدراك حقيقة الوجود .
فألغى مبادئ الفكر ، وادّعى أنها ليست سوى أوهام ، وإن كانت ضرورية لحياة الناس ، لكنّها لا تعبّر عن الحقيقة.
وقال : إن العقل في حياة الإنسان لا حاجة إليه ، وهو خطر .
وقال : إن الذي يمكن تصوّره عقلياً لا بد أن يكون وهماً لا حقيقة له .
وزعم أن معظم ما في الحياة يسير بدون عقل .
ثانياً: أنكر "نيتشه" عالم الظواهر ، كما أنكر عالم الحقائق ، وقضى عليهما معاً .
وزعم أن الوجود الحقيقي كلّه ينحصر في "الصيرورة" أي : التغيّر الدائم ، و"الحياة" و"الطبيعة" . وزعم أن هذه الثلاثة ذات معنى واحد .
وزعم أن "الصيرورة" التي هي الوجود ، وهي الواقع الآني الراهن ، ليس لها غاية تنتهي إليها ، بل هي غاية في نفسها ، وهي كلّ شيء ، ولا شيء وراءها .
ثالثاً : وزعم أن المعرفة والوجود الحقيقي يتنافيان ويتناقضان .
إذن فلا يمكن أن تكون المعرفة الإنسانية مطابقة للحقيقة بحال من الأحوال ، إذ هما دائماً متنافيان متناقضان .(51/259)
رابعاً : زعم أن القوة هي الفضيلة العظمى في الوجود ، بل هي الفضيلة الوحيدة ، فدعا إلى القوة ، وجعل القوة وحدها دون الرحمة والشفقة هي محور الأخلاق .
ومن أجل ذلك سمّيَ فيلسوف القوة .
وقال : "الخير هو كل ما يزيد الشعور بالقوة ، هو إرادة القوة ، هو القوة نفسها . والشر هو كل ما ينشأ عن الضعف ، هو الضعف ".
خامساً : أخذ بمذهب التطوّر الذاتي الصاعد ، وهو مذهب النشوء والارتقاء ، فزعم أن كل صنف يخلق صنفاً أرقى منه ، فالحيوان في خلق كل صنف منه لصنف أعلى قد وصل في آخر الأمر لخلق الإنسان ، فعلى الإنسان أن يخلق الصنف الأعلى منه ، وهو "السوبرمان" أي : الإنسان الأعلى .
سادساًً : ويقول بالنسبة إلى ما بعد الموت : "أما الجزع مما بعد الموت فليس له ما يبرره ، لأنه ليس بعد الموت شيء ، وما بعد الموت لا يعنينا بعد".
وسيطر مفهوم القوة على كل مشاعره ، حتى رأى الموت الإرادي مظهراً من مظاهر هذه القوة المجيدة ، وبذلك كان من الداعين إلى الانتحار حينما يكون الوقت مناسباً لاختيار الموت ، أي : متى وجد الإنسان أن الحياة لم يَعُد لها هدف لديه . فهو يقول على لسان "زرادشت":
"كثير من الناس يموتون في وقت متأخر جداً ، وبعضهم يموتون في وقت مبكر جداً ، ولا زال هذا القول : (مت في الوقت المناسب) يبدو غريباً" .
لكنه مع رأيه هذا ، ورغم أمراضه وعلله الكثيرة ، وآلامه في حياته ، فقد كان متفائلاً يحبّ الحياة ، ويحرص عليها . وأدركه الجنون ولم ينتحر .
سابعاً : دعا إلى خلق الإنسان الأعلى "السوبر مان" وقال :
"إنني أدعوكم بدعوة الإنسان الأعلى ، فإن الإنسان شيء يجب أن يُعلى عليه ، فماذا عملتم من أجل العلاء عليه؟.
إن كل الكائنات حتى الآن قد خلقت شيئاً أعلى منها ، فهل تريدون أنتم أن تكونوا جزراً لهذا المد العظيم ، وتفضلون الرجوع إلى الحيوانية على العلاء على الإنسانية؟!".
فالغاية من الإنسانية عنده هي خلق هذا الإنسان الأعلى .
وإذْ دعا الناس إلى خلق الإنسان الأعلى طالبهم بأن لا يتركوا الأمر فوضى للانتخاب الطبيعي .
لكنه رأى أن ذلك يتم بطرائق التربية التي ترفع الفرد وتسمو به ، وبتحسين النسل البشري ، باختيار الممتازين من الرجال والنساء للتزواج ، وأن يكون الزواج أساسه اختيار الأرقى من النساء بشرياً ، للأرقى من الرجال بشرياً ، حتى يخلق الزوجان بإرادتيهما إنساناً أرقى منهما ، وهكذا . وهاجم الزواج الذي يقوم على أساس الحب ، ورأى أن من الواجب أن نجعل الحب مانعاً من الزواج ، فخير الرجال لخير النساء ، أما الحب فنتركه لحثالة البشر ، إذ ليس الغرض من الزواج مجرّد النسل ، بل يجب أن يكون وسيلة للتسامي والرقي .
وسمى هذا الزواج الذي دعا إليه : إرادة اثنين ليخلقا إنساناً يسمو على خالقيه .
ثامناً: بعد هذه الأفكار والآراء المشوشة المختلطة الفاسدة ، التي هدم بها العقل وكل مبادئ الفكر بأقوال خيالية فلسفية ، توصّل إلى هدفه المراد من وضع هذه الأفكار الباطلة ، فزعم أنه لا بد من وضع قيم جديدة للوصول إلى خلق الإنسان الأعلى ، وهذه القيم تتلخص بأن يكون الإنسان حراً ، قد حطم كل القيود ، وبدد ما أسماه بالأوهام الثقيلة الخطيرة ، التي أتت بها المذاهب الأخلاقية ، والدينية ، والفلسفية . وبذلك جحد كل القيم التقليدية ، ودعا إلى جحدها .
وأراد أن يرفع الإنسان الأعلى فوق الناس ، والأخلاق ، والقوانين ، والتقويم التقليدي للأشياء .
وهذه الحال تقتضي من الإنسان ألا يظل متعلقاً بشخص ما ، ولا بوطن معين ، ولا بأي نوع من أنواع الشفقة والعطف ونحو ذلك .
والإنسان في الأخلاق الجديدة التي أرادها ، هو فوق كل قيمة ، وكل قانون ، وكل ما يعتقده عامة الناس ، ولا يعنيه قال الناس عن هذا الشيء: إنه خير ، أو قالوا عن الآخر : إنه شر . لأن مهمته الرئيسية أن يكون هو خالقاً للقيم ، يضع للأشياء من القيم ما يريد ، مما يؤدي إلى تحقيق الغاية من الإنسانية ، فهو حرٌّ في أن يضع شرعة القيم التي يرتئيها في الأخلاق ، والسياسة ، والفلسفة ، وغير ذلك .
وزعم أن هذا الإنسان الأعلى هو الذي يحدد معتقدات العصر بأكمله ، ويعطي للحضارة صورتها ، ويخلق القيم في حرية تامة ، غير آبه للخير والشر ، والحق والباطل ، فهو كل شيء ، يخلُق الأخلاق ، ويحدّد الحق بإرادته ، ويفرض على الناس ما يضع لهم من قيم فرضاً ، وليس عليهم هم إلا أن يطيعوه ، فالطاعة أولى فضائل الذين ليسوا هم من طبقة الإنسان الأعلى .
وتمنى في نفسه أن يكون ذلك الإنسان الأعلى الذي لم يولد بعد .
وربما كان يحلُم بأن يأخذ صفة الإله ، فاستولى عليه جنون العظمة بعنف قاتل .
تاسعاً: تصور "نيتشه" أن مزاعمه التي طرحها في رداء فلسفي قد ألغت من أفكار الناس عقيدة الإيمان بالله عزّ وجلّ ، فأعلن أن الله قد مات ... نعوذ بالله من مقالته .
وقال على لسان "زرادشت":
"إذا كان هنالك آلهة ، فكيف أطيق أن لا أكون إلهاً ؟ وإذن فلا آلهة هناك".
وقال أيضاً :
"لقد ماتت الآلهة جميعاً ، ونريد الآن أن يعيش السوبرمان...".
وقال أيضاً:(51/260)
"إني أهيب بكم يا إخواني أن تخلصوا عهدكم للأرض ، وأن لا تصدّقوا من يحدثونكم عن أملٍ سماوي ، إنهم ينفثون فيكم السم بذلك ، سواءٌ أعلموا بذلك أم لم يعلموا".
عاشراً: وزعم أن الوجود يسير في دورات متطابقة ، فهو يكرّر نفسه باستمرار ، وجعل وجود الإنسان الأعلى "السوبرمان" هو نهاية دورة الوجود ، ليعود بعد ذلك إلى نقطة البداية .
وقال : "إن التكرار الأبدي موعده بعد وجود الإنسان الأعلى ، فسيعود كل شيء بالتفصيل الدقيق مرة ومرة ، إلى ما لا نهاية له ، حتى "نيتشه" سيعود ، وهذه الأمة الألمانية التي يعيش بين ظهرانيها ، والتي تمجّد الدم والحديد ستعود...".
حادي عشر: ويظهر أن الغرور وجنون العظمة قد ضربا دماغ "نيتشه" بعنف ، حتى تمثل الربوبية في نفسه ، وأوصله ذلك إلى الجنون الحقيقي ، فعاش أواخر حياته مجنوناً ، ومات جنوناً .
كشف الزيف
ما أظنني بحاجة إلى كشف زيوف آرائه وأفكاره ، فهي من الخبط والخلط والتخريف ، وإنكار الحقائق ، ما يجعل الناظر إلهيا يؤمن بفسادها وبطلانها مباشرة ، ولا يحتاج من يكشف له زيوفها .
ومع ذلك فسأقتصر على ذكر كاشفين عامين :
الكاشف الأول : أن "نيتشه" قدَّم آراءه الفلسفية ، وضلالاته التخريفيّة ، وإنكاراته للحقائق الجليات ، أقوالاً ادّعائية تقريرية ، غير مقترنة بأي دليل يشهد لها .
فهي لدى التقويم الفكري لا وزن لها مطلقاً .
الكاشف الثاني : يكفي لردّ أفكاره وآرائه أن نطبق عليها ما قاله هو عن الفكر والعقل ، وعن عالم الظواهر وعالم الحقائق .
ألم يلغ مبادئ الفكر وموازين العقل؟
إذن: فنصيب أفكاره من ذلك أنها ملغاة ، بمقتضى حكمه هو ، فهو لا يؤمن ها ابتداءً .
وقد كان المفروض فيه أن لا يكون متناقضاً مع نفسه ، فلا يبحث قضايا ، ولا يقدم أفكاراً مجالها الفكر وتصوراته وتخيلاته .
ألم يعتبر كل ما يمكن تصوره عقلياً لا بد أن يكون وهماً لا حقيقة له؟
إذن : فأفكاره وآراؤه وهمٌ في وهم ، بمقتضى حكمه هو ، إنه يعتقد أنها كذلك بمقتضى حكمه هو ، إنه يعتقد أنها كذلك بمقتضى مبدئه ، فلماذا نناقشها ، وهو نفسه يقدمها ويعتقد أنها وهم لا حقيقة له؟.
ألم ينكر عالم الظواهر وعالم الحقائق ؟
إذن : فآراؤه وأفكاره لا قيمة لها مطلقاً من وجهة نظره هو ، لأنها تصف بالوهم والتخريف أشياء هي : إما من عالم الظواهر ، أو من عالم الحقائق ، هذا هو حكمه عليها .
فما شأن الباحثين بكشف زيوف آرائه وأفكاره وكل فلسفته ، ما دام هو لا يرى فيها شيئاً يصف الحقيقة ؟ فهي من وجهة نظره هو –وهو صاحبها- زيوف كلها ، ووهم في وهم .
ويكفي لإسقاط أقوال أي إنسان ، أن نطبق عليها اعتقاده فيها .
أما إن كان يقدّم آراءه هذه معتبراً أنها مفاهيم صحيحة ، فإنه بذلك يكون متناقضاً مع نفسه تماماً.
وحسب التناقض مع النفس دليلاً على بطلان أصل الادعاء .
تعليق أخير
يبدو أن أساليب أغاليطه الفكرية الكثيرة على الرغم من ذكائه الشديد ، ترجع إلى رؤيته السريعة الناقصة للأشياء ، وأحكامه التعميمية السريعة ، المقرونتين بغروره بنفسه ، وإعجابه برأيه ، واعتداده بذاته اعتداداً مفرطاً ، الأمر الذي سبب له جنون العظمة . ثمّ هو لا يستقر طويلاً في بحث أي موضوع يعالجه ، بل يتنقل في موضوعاته الفكرية تنقلاً سريعاً ، فيراها رؤى ناقصة سريعة ، ويصدر فيها أحكاماً تعميمية سريعة باطلة ، ويقفز عنها إلى غيرها ، وهكذا .
فتجد في مقولاته تعبيرات ذكية ، ولكنها تشبه ذكاء الأدباء الساخرين ، والشعراء الخياليين ، لا الحكماء والفلاسفة العقلاء المتأنين .
============(51/261)
(51/262)
المفكر الغربي ( دافيد هيوم ) - نقد علمي لفكره -
حياته :
ولد (( دافيد هيوم )) لأسرة إسكتلندية برجوازية ، وجهته أسرته إلى دراسة القانون . لكنه كان شغوفا بالفلسفة ، فخرج على رغبة أسرته في دراسة القانون واتجه إلى دراسة الفلسفة . بعد أن تخرج من جامعة ( أدنبره) اتجه إلى التجارة شان الأسر المتوسطة ( البورجوازية) في ذلك الوقت لكنه فشل في تجارته ، فتركها إلى الاشتغال بالكتابة . فسافر إلى فرنسا وهو في سن الثالثة والعشرين ، ومكث بها ثلاث سنين وهو يكتب ويحرر بعض المقالات ، ثم عاد إلى وطنه ليواصل الاشتعال بالتأليف ، ثم عين وزيراً في الحكومة البريطانية ، وبقى في منصبه عاما ً واحدا (( 1768م )) ثم ترك الوزارة وأقام بمدينة (( أدنبره)) مسقط رأسه ، واشتعل بتحرير فلسفته والتصنيف فيها حتى مات (( 1776م))
مؤلفاته :
سافر (( هيوم )) إلى فرنسا وهو في الثالثة والعشرين ، وظل ثلاث سنين يحرر مقالاته وآراءه فلما عاد إلى إنجلترا نشر أفكاره وآراءه تلك في مجلدين ، ثم أتبعهما بمجلد ثالث ، وكان من ذلك ما أسماه (( رسالة في الطبيعة الإنسانية )) ثم وضع كتاباً آخر تحت عنوان (( مقالات سياسية)) ثم نشر كتابا تحت عنوان : (( تاريخ بريطانيا العظمى )) الذي لقي قبولا من الأوساط الأدبية ، فخفف عنه فشله في كتابة الأول ، ثم كتب مؤلفا سماه (( محاورات في الدين الطبيعي )) لم يشأ أن ينشره في حياته ، خوفا من محتوى الكتاب الذي يهاجم فيه عقائد الناس ومقدساتهم . ثم وضع كتاباً في نفس الموضوع سماه : (( التاريخ الطبيعي للدين )) . أما كتابه (محاورات في الدين الطبيعي ) فقد نشر بعد موته بثلاث سنين فاكتمل بذلك مذهبه الإلحادي ، وأفكاره الضالة عن الدين وكل ما يتصل به . وقد تميزت أفكاره وكتاباته عن الدين بالسفسطة والمغالطة ، إلى مافيها من هجوم عنيف يدل على ما كان لدى الرجل من عداء للدين بكافة صورة
************
الأسس التي تقوم عليها فلسفته :
تقوم فلسفة (( هيوم )) الإلحادي على عدد من الأسس أهمها ::
أولاً : تنطلق فلسفته وآراؤه جميعها من الحس كمجال وحيد للمعرفة ، ومنبع فريد للإدراك . فالمعارف عنده تقوم على أساس حسي بحت ، والمادة الجامدة هي مصدر المعارف ، وليس هناك مصدر آخر يستقي الإنسان منه معارفه . وكل ما يتحدث عنه المتدينون من مصادر للمعرفة غير الحس والمادة ، فإنما هي أوهام لا حقيقة لها ، ولا وجود لها إلا في مخيلة أصحابها .
ثانياً : أكد على الذاتية في مقابل الواقعية والموضوعية . وذهب إلى أن معتقدات الإنسان وآراءه عن العالم الخارجي إنما هي من وحي خيال الإنسان ومن خلق أوهامه وأنها لا ترجع إلى العالم الخارجي، وإنما ترجع في حقيقة الأمر إلى ما يتوهمه الإنسان عن العالم الخارجي ، وذلك نتيجة لما لديه من معتقدات سابقة ، ومدركات ذهنية مختزنه ، فهو يسقط كل ذلك على العالم الخارجي ويفسره بها ، فتكون الحصيلة أن يعلن عن ذاته . وعن مكونات نفسه ، ولا يعلن عن الحقائق الخارجية التي يزخر بها العالم الواقعي .
ثالثاً: استمراراً في تأكيده على الذاتية في مقابل الموضوعية ، ونتيجة لذلك ، فقد جعل أفعال الإنسان وسلوكه إنما هي ردود أفعال لما يعتمل في نفسه من إحساس باللذة أو الألم ، واستجابة لكل ما يشعر به اتجاه الأشياء من سعادة أو شقاء ، فأفعال الإنسان تحكمها الحواس الظاهرة من الإحساس باللذة والألم ، ويتبع الحواس الظاهرة الحواس الباطنية مثل المحبة والكراهية ، أو الرجاء والخوف ، والفرق بين الحواس الظاهرة والحواس الباطنية أن الأولى مباشرة ، فاللذة والألم يحس بها الإنسان مباشرة من مصادر كل منهما . ثم يأتي رد الفعل بعد ذلك على هيئة إحساس باطني أو انفعال وجداني ، فنحب النوع الأول ، ونحرص عليه ونرجو تحقيقه ، ونكره النوع الثاني الذي هو الألم ، ونتجنبه ونفر منه .
رابعاً : تأكيدا على ماتقدم ، وتأسيسا عليه ، يذهب (( هيوم )) إلى أن الفرق بين ما هو خير ، وما هو شر ، إنما يكمن فيما ينتج من كل من لذه أو ألم ، فالفيلسوف (( هيوم)) يربط بين اللذه والخير ، والألم والشر ، فكل ما سبب للإنسان لذة أو سعادة فهو خير ، وكل ما سبب له ألماً أو تعاسة فهو شر .وبالتالي فإن الفضيلة والرذيلة تخضعان لنفس المقياس ، مقياس اللذة والألم ، فكل ما يحقق للإنسان لذة فهو فضيلة ، وكل ما يسبب له ألماً فهو رذيلة .
ويأتي هنا سؤال هام وخطير : أين محل إرادة الإنسان من كل هذا ؟ثم ما أثرها في توجيه الإنسان ما دامت أفعاله ردود أفعال؟
والجواب الواضح والحتمي بناء على المبادئ التي يعتنقها (( هيوم)): إن إرادة الإنسان الحرة المختارة لا وجود لها ، إن الإنسان يتحرك كآله تحركها مشاعر الألم واللذة ، وتتحكم فيها أو هامة ، وخيالاته عن العالم الخارجي ، الذي لا يتعامل معه إلا من خلال ردود الأفعال .
وهكذا قضى الرجل على الأخلاق على مرحلتين :
الأولي : حين ربط بين الخير واللذة ، والشر والألم ، ثم ربط الفضيلة إلى اللذات ، والرذيلة إلى الآلام ، فجعل الأخلاق في أساسها تقوم على أصول حسية مادية بحتة .(51/263)
الثانية : حين جرد الإنسان من مسئوليته على أفعاله بأن جعل كل أفعاله إنما هي ردود أفعال ، وقيد إرادته الحرة التي تقوم عليها المسئولية الفردية والخلقية بما يحس به من لذة وما يحس به من ألم ، فإنه يندفع إلى الأولى بلا وعي وينفر من الثانية كذلك بلا وعي .
مفتاح شخصيته :
1- طبق الفيلسوف مبدأه في ذاتية المعارف في مقابل موضوعية العالم الخارجي على قانون السببية والعلية .
فقد أنكر أن يكون هناك قانون للسببية أو العلية ، بل إنه أنكر ما يسمى بالأسباب والعلل . مدعيا أن ما يزعمه الناس من قوانين للأسباب والمسببات ، أو العلل والمعلولات ، إنما هو من أوهام النفس وخداع الذات ، وأن الواقع أنه لا يوجد ما يسمى بالسببية أو العلىة .
أما كيف يفسر الرجل دعواه هذه؟
فإن الرجل يدعي أن ما يسمى سببا وما يسمى مسبباً ، كل منهما ظاهرة منفصلة تماما عن الأخرى ، وانه لا توجد أية علاقة حقيقية بين الظاهرتين ، كل ما هنالك أن الناس لاحظوا أن الظاهرة الثانية تأتي عقب الظاهرة الأولى ، فربطوا بينهما بسبب اقترانها في الوجود زماناً ومكانا ، وهذا الربط إنما هو افتراض ذهني ذاتي قائم على تداعي المعاني ، ولا حقيقة له فالإنسان يشعل النار ، وهذه ظاهرة ، ثم يشعر بالحرارة والدفء ، وهذه ظاهرة أخرى قد جاءت عقب الظاهرة الأولى ، ولا يوجد دليل في العقل أو الواقع على ضرورة وجود الظاهرة الثانية دائما عقب وجود الظاهرة الأولى كمالا يوجد دليل على علاقة بين الظاهرتين .
وهو يضرب مثالا بكرات (( البلياردو )) التي يضرب اللاعب بإحدى الكرات لتصطدم بالكرات الأخرى وتحركها إلى حيث يريد اللاعب .. فيقول : إنني أرى كرة البلياردو تتحرك ، فتصادم كرة أخرى ، فتتحرك الأخرى ، وليس في حركة الأولى دليل على ضرورة تحرك الثانية حين تصطدم بها الأولى . ويضرب الرجل مثالاً ثالثاُ يقوم على تحرك أعضاء الجسم تبعاً لإرادة الإنسان فيقول : نرى الإنسان يريد أن يأكل تفاحة وضعت أمامه, فتتحرك يده لتلقط التفاحة وترفعها إلى فمه, ويبدأ في قضمها مرة بعد مرة, ولا توجد علاقة بين رغبة الإنسان في أكل التفاحة ، وامتداد يده إليها ورفعها إلى فمه . فالرجل يدعي أنه لا علاقة بين إرادة الإنسان وحركة يده نحو التفاحة وحملها إلى فمه ، ويرفض أن تكون إرادة الإنسان هي السبب أو العلة في حركة اليد . ويقول :
(( أنا لا أدري كيف يمكن لفعل ذهني – يقصد إرادة الإنسان – أن يحرك عضوا ماديا ً – يقصد يد الإنسان – إني لا أدرك علاقة بين إرادة الإنسان وحركة يده ))
إن الرجل يرجع قانون العلية والسببية إلى ما سماه قوانين التشابه والتقارن في الزمان والمكان
وهو يقصد بالتقارن في الزمان والمكان ـ أن ظاهرة السبب وظاهرة المسبب قد ألف الناس اقترانها في الوجود معاً متعاقبين في نفس الزمان والمكان ، فقد ألف الناس أن اصطدام العصا باليد – في حالة الضرب بالعصا – تحدث شعورا بالألم ، وأن هناك اقترانا بين الأمرين أو الظاهرتين في الزمان والمكان . فبسبب هذا الاقتران توهموا علاقة بين الظاهرتين سموها علاقة السببية !!
وقد تحقق نفس الألم عقب الاصطدام بين العصا واليد ، في كل مرة يحدث ذلك ، فهناك تشابه في كل الحالات . وهذا ما سماه الرجل ( قانون التشابه )!
فهو يزعم أن القول بالسببية والعلية ناشئ عن هذا الاقتران والتشابه . ويسمى ذلك : قوانين التشابه والتقارن في الزمان والمكان ويسميها كذلك : (( قوانين تداعي المعاني )) ويفسر قانون تداعي المعاني بقوله :(( إن ما يسمى بالعلة شئ كثر بعده تكرار شئ آخر حتى إن حضور الشيء الأول يجعلنا – عن طريق تداعي المعاني – دائما نفكر في حضور الشيء الثاني )).
*********
موقف(( هيوم )) من الدين :
(( هيوم)) فيلسوف ملحد لا يؤمن إلا بالمادة وحدها ، ولا يرى وسيلة للمعرفة إلا الحس الذي يستقي معارفه ، ويستمد علومه من المادة . وهو يرفض الإيمان بأي شئ خارج نطاق العلم الطبعي المحسوس . ومن ثم فقد أعلن (( هيوم)) الحرب على الدين ، وسخر فلسفته في جانبها الأكبر والأهم لمحاربة الدين ، وإقامة أوهامة التي اعتبرها أدلة على بطلان الدين ، وإثبات أن الدين ما هو إلا خرافة ووهم من الأوهام التي تعود إلى الذاتية ، والتي لا حقيقة لها في الخارج .
ليس هذا فحسب ؛ بل إن المبادئ الأساسية التي تقوم عليها فلسفة هذا الملحد إنما وضعها وأكد عليها ليصل من خلالها إلى إثبات أن الدين باطل ،وإنه من أوهام النفس وخيالات الذات .
وواضح أن الرجل بدأ ملحدا، ثم رسم لنفسه من بدايات اشتغاله بالفكر والتفلسف أن يسخر فكره وفلسفته لهدف واحد ، وهو حرب الدين ، والقضاء عليه في نفوس المتدينين .. ولذلك فنحن نستطيع أن نحدد نقطة الانطلاق في فكر الرجل وفلسفته ، ونبين الركيزة الأساسية التي يرتكز عليها مذهبة بأنها : الإلحاد .
الإلحاد – إذن – هو مفتاح شخصية الرجل والمحور الذي يدور عليه فكره وهذا يتضح من المجهود الذي بذله طوال حياته من خلال مؤلفاته . وإن نظرة إلى مؤلفاته يتضح منها أنه لم يكتب شيئا في الفلسفة والفكر إلا حول الإلحاد ، ومحاربة الدين .(51/264)
فنحن إذا استثنينا مؤلفة : (( مقالات سياسية )) ثم مؤلفه الآخر الكبير : (( تاريخ بريطانيا العظمى )) . وهما كتابان في شئون بعيدة عن الفلسفة ، أوأن صلتها بالفلسفة صلة محدودة فإن مؤلفاته الأخرى جميعها تدور حول الإلحاد وتأكيده ، وبيان افتراءاته على الدين .
ونحن لا نهتم كثيرا بكفره بالنصرانية البروتستانتية التي يدين بها قومه – وإن كان النصراني أفضل من الملحد – لكن الذي يهمنا أن الرجل لم يقف حربه على النصرانية ، ولكنه حارب الدين بكل صورة ، واخذ يركز حربه كلها وافتراءاته جميعها على وجود الله – سبحانه وتعالى عما يصفون – ومن ثم فلم يعد الأمر وقفا على نصرانيته ( المحرفة ) ، بل أصبح الأمر عاما شاملا لكل دين ؛ حتى الدين الحق ( الإسلام ) .
•وقد وضع الرجل مبادئ فلسفته لهذا الهدف الخبيث .
1-فهو حين أنكر علاقة الفكر الإنساني بالواقع ، وأكد على الذاتية في مقابل الأمور الخارجية ، والحقائق الموضوعية ، واتهم الإنسان بان كل ما يدعيه من معارف إنما هي ناشئة عن أوهامة الذاتية ، إن الرجل حين وضع هذا المبدأ أو روج لهذه الفكرة ، إنما أراد أن يقرر أن المتدينين ، وكل من يعبد ربه ، وكل من يخضع لإلهه ، أيا كان ذلك الدين ، فإن هؤلاء جميعا واهمون ، وأن الدين وكل ما يتصل به من عقائد وعبادات ، إنما هي من أوهام الذات التي لا صلة لها بالواقع .
2-وهو حين أنكر قانون السببية والعلية ، فإنه فعل ذلك ليصل إلى إبطال الأدلة على وجود الله – سبحانه وتعالى ..
إن أشهر الأدلة وأقواها على وجود الله – سبحانه وتعالى – وأكثرها شيوعا بين عامة المتدينين إنما هو الدليل القائم على الانتقال من الخلق إلى الخالق ، أو من الصنعة إلى الصانع ، إن الفطرة ، وبديهية العقل ، ومسلمات الفكر وأولياته تجعل لكل فعل فاعلا، وتجعل من الفعل دليلا على فاعله ، ومن قديم والناس يستدلون على الخالق - سبحانه وتعالى – من خلال خلقه ، كما يستدلون بوجود صنعة ما على وجود صانعها ، بل إنهم ليستدلون على صفات الصانع من خلال ما يرون في الصنعة من حكمة وإبداع وإتقان فيقولون : صانع بديع حكيم
أو قد يرون في الصنعة خلاف ذلك أو عكسه ، فيصفون الصانع بما يناسب ما رأوا ، هكذا كان الناس ، وهكذا هي فطرهم التي فطرهم الله تعالى عليها ، لا غرو ، قد لفت الله – سبحانه وتعالى – الناس إلى خلقه ودعاهم إلى أن ينظروا إلى ما في ذلك الخلق من إتقان وعناية وحكمة وإبداع ثم إلى الإيمان بالخالق الذي خلق وأتقن وأبدع فإن الخلق آية وعلامة على الخالق . يقول عز وجل :
(وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون . وجعلنا فيها جنت من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون . ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون . سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ( .
هذه الأدلة وغيرها قائمة على أساس من قوانين السببية والعلية ؛ بمعنى أن انتقال الإنسان من الخلق إلى الخالق ، أو من الصنعة إلى الصانع ، هو من باب انتقاله من المسبب إلى سببه أو من المعلول إلى علته .
إذا عرفنا ذلك ؛ وقد عرفنا قبل ذلك أن (( هيوم )) ملحد ، وقد نذر نفسه للانتقاض على الدين والمتدينين وسد الطريق أمام الناس الذي يصلون من خلاله إلى الاستدلال على وجود الله – سبحانه – فماذا هو فاعل ؟
إن ذلك الشيطان فكر وقدر ، قتل كيف قد ، ثم وجد أن أيسر الطرق إلى القضاء على الدين ، وتجفيف منابع التدين في نفوس المتدينين ، إنما هو القضاء على قانون السببية ،وإبطال كل علاقة بين السبب والمسبب حتى لا يقيم الناس من المسببات التي هي المخلوقات ، طريقا أو قنطرة يصلون من خلالها إلى المسبب أو الخالق – جل الله و عز .
إذن ؛ فكل هذه الثورة من الفيلسوف الملحد على قانون السببية ، وهو قانون فطري بدهي ، عبر عنه البدوي قديما بقوله : ( البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير ، سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا تدل على العليم الخبير )؟ والذي ذكره العربي القديم فطرة الله في كل الخلق فهو ليس قصرًا على العربي لأنه لا يرجع إلى عروبته التي تخص جنسه ، بل يرجع إلى إنسانيته أو فطرته كإنسان ، وتلك تجمع الخلق كلهم ، فما أحس به العربي وأشار إليه من الانتقال من الفعل إلى الفاعل ، أو من المسبب إلى السبب ، فطرة الله في الخلق أجمعين ، ولذلك حينما فكر الفيلسوف الملحد دله شيطانه أن يتوجه بالطعن إلى الأسباب والمسببات ، فيبطل العلاقة بينهما ، ثم تكون النتيجة إبطال الانتقال من المسبب إلى سببه وهكذا يقضي ذلك الشيطان على شجرة المعرفة وأصلها فهو يحمل معوله ليضرب به في أصل الشجرة ، ليقطع جذعها ، وليس غصنا من أغصانها(51/265)
والرجل الملحد لم ينكر ذلك . بل صرح به في كتبه كلها التي وضعها لهذا الهدف ، فهو يردد في كل ما كتب ( أن الصنعة لا يمكن أن تدل على صانع لها إلا إذا رأينا الصنعة في يد الصانع يقوم بتشكيلها ، ورأيناها تخرج من بين يديه ، إننا حكمنا بأن الساعة لها صانع ، لأنا رأينا الصانع يقوم بصنعها ، لكنا لا نستطيع أن نطبق ذلك على الكون ، لأنا لم نر الكون داخل مصنع ، والصانع يجتهد في صنعه ) !
ويقول : (( لماذا نبحث للمادة عن صانع مفارق – ولماذا لا نمد المادة إلى لا نهاية ثم نجعلها هي الله فيكون الإله أمامنا ومن بيننا ) ؟
واخيراً يقول :( إذا كنا سوف نتمسك بقانون السببية ،وأن كل موجود له سبب ؛ فسوف نجد أنفسنا مطالبين بالسير في القانون إلى نهايته فنبحث عن سبب لوجود الله نفسه ) !
*********
بين الغزالى وهيوم :
لا يسع القارئ عن موقف ( هيوم) من قانون السببية والعلية ، إلا أن يتذكر ( أبا حامد الغزلي – رحمه الله -) وموقفه من السببية كذلك . فإن ( أبا حامد الغزإلى ) قد أنكر قانون السببية ، وقد يكون الفيلسوف الملحد ( هيوم) قد قرأ عن موقف أبى حامد من السببية فنحا نحوه ، وانتهج طريقه ، لكن ينبغي أن نعرف أن ثمة فارقًا شاسعا بين الاثنين ، فلا نجمع بينهما في حزمة واحدة ، لمجرد أن جمعهما طريق إنكار السببية ، فإن الطريق الواحد قد يسلكه اثنان : طبيب ليحيي نفسا مريضة ، وسفاح لقتل نفسا صحيحة . وإن السكين الواحدة لتقع في يد اثنين : أحدهما ليسفح بها دم بهيمة أحل الله – سبحانه – ذبحها ، والثاني ليسفح بها دم نفس حرم الله – تعالى – قتلها . فأبو حامد الغزلي أنكر السببية ، وكذلك فعل هيوم ، لكن هناك فروقا بين الرجلين ، وأهم هذه الفروق والاختلافات بينهما ما يتصل بالمنطلق والنتيجة . ونعنى بالمنطلق ؛ السبب الذي حدا بكل منهما إلى إنكار قانون السببية ، ونعنى بالنتيجة ؛المحصلة النهائية التي وصل إلىها كل منهما من خلال مذهبه في إنكار السببية.
أما من حيث المنطلق :
فقد أنكر ( أبو حامد ) السببية كرد فعل لما كان عليه الفلاسفة المنتسبون إلى الإسلام ،حيث ذهبوا إلى أن العلاقة بين السبب والمسبب علاقة حتمية ضرورية وأن نقض هذه العلاقة من المحالات ، بل ذهبوا إلى أن الأسباب تفعل في مسبباتها بذواتها ، ومن هنا فقد أنكروا خرق العادات، وشغبوا على المعجزات للأنبياء ، والكرامات للأولياء ، ونحن نعرف أن (( أبا حامد)) قد نذر حياته لحرب الفلاسفة ، وفضح آرائهم ، وبيان فساد عقائدهم . فكان من شدة رفضه مذاهبهم ، والحرص على مخالفتهم في كل ما ذهبوا إليه ، أن وقع فيما وقع فيه من تطرف شديد ، كرد فعل لما ذهبوا إليه .أما الفيلسوف الملحد ( هيوم ) ، فقد سبق أن منطلقة في مذهبه إنما كان الرغبة الشيطانية عنده في محاربة الدين ، ونفى الأدلة على وجود الله –سبحانه وتعالى – وقد بينا ذلك أفضل بيان ، وأن فلسفته كلها تقوم على تحقيق تلك الرغبة الشيطانية .وأما من حيث النتيجة التي وصل كل منهما إليها في فلسفته ؛ فإن ( أبا حامد )- رحمه الله تعالى-، قد أكد على عقيدته في أن الله –سبحانه – هو الفاعل التام الحقيقي في ذلك الوجود ، وأن الأسباب لا تفعل بذواتها ، وإنما هي أمور عادية مألوفة ، آثارها في مسبباتها موقوفة على إرادة الله تعالى ، أما الفيلسوف الملحد ، فقد التزم الهدف الذي سعي إليه وأكد على النتيجة التي ظن أنه قد حققها من خلال أوهامه وأضاليله في إنكار السببية ، وإبطال الأدلة على وجود الله عز وجل . وقد هلك الرجل وهو يظن أنه قد حقق ما أراد . ولكنه لم يهلك حتى رأى ثورة الكثيرين ووقوفهم ضد أفكاره الإلحادية مما دفع به إلى أن يمسك عن نشر أحد كتبه التي يهاجم بها الدين بعنف وهو (محاورات في الدين الطبيعي ) فلم ينشر إلا بعد موته بثلاث سنين ، بهذا يتضح أن بين الرجلين الرافضين قانون السببية من الخلاف كمثل ما بين سماء الله وأرضه. فهما يختلفان من حيث السبب الدافع لكل منهما إلى رفض ذلك القانون ، ويختلفان من حيث السبب الدافع لكل منهما ليرفض ذلك القانون ، ويختلفان كذلك في النتيجة والهدف والغاية التي توخى كل منهما تحقيقها والوصول إليها.
نقد آراء هيوم :
إن الذي يتعرض لنقد الآراء الباطلة ، والفلسفات الفاسدة ، يجد نفسه أمام نوعين ؛ منها نوع خفي البطلان ، مستور الفساد ، يحتاج من الناقد ذكاء في الذهن ، ودقة في النظر وعمقا في التحليل ، وصبرا على التنقيب بين ثنايا تلك الفلسفات ، وخبايا هذه الآراء ، حتى يستطيع أن يظهر ما كان منها خفيا ، ويكشف ما كان منها مستورا ، ويبين للناس فسادها وبطلانها ، ولكن بعد جد وجهد ومثابرة .
والنوع الثاني : من تلك الآراء والفلسفات على عكس النوع الأول ، ظاهرة الفساد واضح البطلان، بين الزيف ، لا تحتاج من الناقد جهدا ، ولا تكلفه مشقة ، بل إن بعض هذه الفلسفات الفاسدة ، والآراء الزائفة الباطلة ، لتكون من وضوح البطلان ، وظهور الفساد إلى الحد الذي لا يجد الناقد ما يقوله فيها ، حيث يكون فسادها أوضح من أن يوضح ، وبطلانها أظهر من أن يحتاج إلى إظهار(51/266)
وآراء هذا الفيلسوف الملحد التي نعرضها للنقد ، هي من النوع الثاني ، إذ هي بينه الفساد ، واضحة البطلان . لكنا نزيد ذلك بيانا ووضوحا ، فنتناول أفكارها الأساسية التي قامت عليها تلك الفلسفة بالنقد في نقاط محددة .
أولاً : إن الرجل الملحد يصدر آراءه وفلسفاته على صورة تقريره بحتة ، دون أن يكون لدية دليل على أي منها . فهي آراء وأفكار لا وجود لها إلا في ذهنه المريض فقط ، وإذا ما طالبناه بدليل على شيئ مما يقول ، لم نجد لديه سوى ادعاءاته ، وافتراضاته ، وسوف يتضح لنا ذلك من مناقشة آرائه فيما يلي .
ثانيا: ادعاؤه بأن الناس يعيشون داخل ذواتهم ، وأن صلاتهم بالعالم الخارجي مقطوعة ، وأن كل ما يعرفه الإنسان عن العالم الخارجي إنما هو أوهام من صنع نفسه ، ولا صله لها بالواقع . هذا الادعاء أوضح في البطلان من أن يوضح ، فإن العالم الذي نعيشه حقيقة واقعة ، ونحن نتعامل مع قوانينه ومعطياته في كل لحظة من لحظات حياتنا ، وليس هناك ما يختلف حوله الناس من تلك القوانين والمعطيات ، فهل يختلف الناس على أن النار محرقة ؟ وهل هذه حقيقة من الحقائق الخارجية أم أنها وهم من أوهام الذات ؟ إن الناس يأكلون ليشبعوا من جوع ، ويشربون ليرووا من ظمأ ، ويتداوون ليبرأوا من مرض ، ويبيعون ويشترون فهل كل هذه أوهام ذاتية ؟ أم أنها حقائق خارجية ؟... ثم إن الفيلسوف الملحد نفسه عندما كان يشعر بالجوع ؛ هل كان يسارع إلى الطعام ليحفظ على نفسه حياته ؟ أم أنه كان يقول لنفسه ما يقول للناس في فلسفته : إن شعوره بالجوع وهم من أوهام ذاته، ثم يجلس بلا طعام حتى يهلك ؟ إنه لو فعل لأراح الناس من أباطيله ، لكن سلوكه نفسه يدل بوضوح على بطلان ما يدعيه .
ثالثا : مثل ما ذكرنا في النقد السابق ، نذكر هنا في نقدنا موقف الرجل من قانون السببية ، فإن قانون السببية أمر واقع ، والجدال حوله ، والتشكيك فيه تحت أية مبررات إنما يعتبر صداما مع الواقع ، وجحدا للحقائق الموضوعية التي يزاولها الناس منذ خلقوا . وإن حياة الفيلسوف الملحد نفسها وسلوكه في كافة شئونه لتدل دلالة واضحة على كذبه وفساد آرائه . إنه كان يأكل وشرب ويتداوى ، فهل كان يفعل ذلك إلا لأن هذه أسباب تؤدي إلى مسبباتها من الشبع ومن الري ومن الشفاء ؟... إن هذا الذي يطعن في السببية وينكرها عاش حيته ملتزما بقوانين الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات ،إنه لم يزد في فلسفته تلك على أن أعلن نفاقه وكذبه في دعاواه الباطلة ، إذ يطلع على الناس بأفكار وآراء هو أول من يكذبها ويرفض التعامل معها.
رابعا : زعمه أن الإنسان يعيش حياته شبه آلة تحركها الشهوات ، وتنحصر أفعاله كلها في ردود الأفعال تجاه ما يسبب له لذة أو ألما ، ثم ربطه الأخلاق باللذات والآلام ، وجعله الخير هو اللذة ، والشر هو الألم ، كل ذلك يتمشى معه كفيلسوف ملحد ، ويتفق مع نظريته في المعرفة التي حصرها في الحس . فالحس عند هو المصدر الوحيد للمعرفة ، ولا يقر بآي مصدر آخر للمعارف سوى هذا المصدر المادي المحدود .لكن هل جاء بشيء جديد ؟ إنه لم يزد على أن أضاف للحسيين الماديين الملاحدة دابة أخري هي من شر الدواب الذين قال الله – تعالى – فيهم : ( إن شر الدوآب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) .
فهو لم يأت في هذا الجانب بجديد ، سوى أنه حول نفسه آله حسية مادية جامدة . لا تتحرك إلا طلبا للذة الحسية المسفة ..
ورغم ذلك فإن مذاهبهم باطلة من سلوكهم أنفسهم .. أليس الواحد يتجرع الدواء المر طلبا للشفاء ؟ فلماذا أقبل عليه رغم أنه يسبب له ألما ؟ ولا يجلب له لذة حسية ؟ أليس الواحد منهم يجري عملية جراحية فيها آلام حسية ، وفيها شق اللحم وإسالة الدم بل وبتر عضو ، كل ذلك طلبا للشفاء ؟ فلم يفعلون ذلك ؟.. إن هذه السلوكيات فيها تكذيب واضح لما ادعاه الرجل ولكل ادعاءات السابقين عليه من أصحاب مدارس اللذة الحسية في فلسفة الأخلاق مثل الأبيقوريين ومن جرى مجراهم .
خامساً : نأتي إلى أخر رحلتنا مع الملحد لنناقش فكرة وفلسفته حول وجود الله سبحانه .. ونحن لن نناقشه في إلحاده ، فالملاحدة كثر في كل زمان ومكان . ولكن يهمنا هنا أن نناقش دعواه التي يقول فيها : إن البحث عن علة للوجود المادي يدفع بنا إلى أن نبحث عن علة لله نفسه – سبحان الله وتعالى عما يصفون - .
إن الخطأ الذي وقع فيه الرجل ويقع فيه كل من على شاكلته أنهم لا يفرقون بين الأسباب الناقصة والأسباب التامة ، أو بين الأسباب الوسائطية والأسباب النهائية . أنهم يخلطون بين هذه وتلك, وعلتهم ليس في خفاء هذه الحقيقة البسيطة ، ولكن علتهم في قلوبهم المريضة ، لأن هذه الحقيقة بديهية لا تخفي على أقل الناس فهما وأدناهم ذكاء .(51/267)
فالأسباب التي نزاول حياتنا من خلالها في هذا الوجود إنما هي أسباب وسائط . وخبرة مسخرة لغيرها ، ولها مسبب ومسخر. والمسببات التي تنشأ عن هذه الأسباب إنما ترجع إلى هذه الأسباب مباشرة من قريب ، لكنها ترجع في حقيقة الأمر إلى مسبب لها تام .. فنحن نأخذ الدواء . والدواء سبب في شفاء المرض . والشفاء يرجع إلى سببه المباشر وهو الدواء ، لكن الدواء سبب ناقص ، وهو في نفسه مسبب عن السبب التام ، أو الفاعل التام الذي بيده الشفاء ؛ الذي هو الله – سبحانه .
ونحن نستطيع أن نقرب القضية بمثال .. فإن الدواء سبب في الشفاء لكن الدواء نفسه مسبب وسببه هو الصيدلي الذي أعده في صيدليته ، والصيدلي نفسه لم يأت بذلك من نفسه ، بل إن السبب في إعداده الدواء هو الطبيب الذي أرسل إليه ورقة فيها تحديد الدواء المطلوب لهذا المريض ، ثم إن الطبيب نفسه مدين بعلمه ذلك لمن علمه ، فهو السبب في أن الطبيب عرف المرض ووصف الدواء ... وهكذا تمشي سلسلة الأسباب والمسببات ، وكلها تترقى من مستوى إلى مستوى ، لكنها جميعها مشتركة في أنها أسباب ناقصة ، بمعنى أنها في حاجة إلى من يقف وراءها ، مثل الدواء ، فإنه سبب محتاج إلى الصيدلي ، والصيدلي سبب لكنه محتاج إلى الطيب وهكذا . تمشي تلك السلسلة ، ولا نجد من بينها سببا كافيا مكتفيا بنفسه ، بل كلها معلولات لما قبلها . وذلك هو معنى كونها أسبابا وسائط ،وهذا النقص يصل بنا إلى السبب التام ، الفاعل الكامل ، الذي هو وراء كل شيء يجري في هذا الوجود ، خالق الكل ، ومدبر الكل، ومقدر الكل، والذي بيده كل شيء ، يحتاج إليه الكل وهو غني عن الكل – سبحانه وتعالى عما يصفون ..
والفرق بين السبب الوسيط والسبب الكافي التام ، أن السبب الوسيط لا يفعل ولا ينتج إلا في إطار السبب التام . الذي هو في حقيقة الأمر مسبب جميع الأسباب ومسخرها والمتصرف فيها .
ويتضح هذا في كل شئون الحياة لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، فقد يكون أمام الطبيب الحاذق حالتان مرضيتان ، وهما متشابهتان في المرض والعلة . وإحداهما شديدة ، والأخرى بسيطة خفيفة . ويصف نفس العلاج والدواء للحالتين مع اعتقاده أن أحد المريضين حالته ( ميئوس منها) – كما يقولون عادة في مثل هذه الأحوال – والآخر حالته الصحية جيدة وسيبرأ سريعا . لكن ، يفاجأ الطبيب ومن حوله أن المريض الأول قد برأ من مرضه ، ونقه وشفي ، وأما الآخر فقد انتقل إلى الدار الآخرة !
إن هذا ليس فشلا من الأسباب الوسائط ، فالطبيب حاذق جيد ، والدواء جيد ، وطريقة العلاج موفقة , لكن الأصل في كل هذه أنها مجرد وسائط ، وتبقى الكلمة الأخيرة والمصير النهائي للسبب الكافي والفاعل التام وراء كل هذه الوسائط .. إنه الله – سبحانه – خالق كل شيء . والذي بيده مقاليد كل شيء .
( المصدر : مذاهب فكرية معاصرة - عرض ونقد - ، للدكتور : محمود مزروعة - وفقه الله - ، ص 169-185).
من كتاب كواشف زيوف
دافيد هيوم وآراؤه الإلحادية
من هو دافيد هيوم؟
هو فيلسوف اسكتلندي ملحد . عاش ما بين (1711 – 1776 م) . تخرج في جامعة "أدنبرة" . عمل بالتجارة فلم يحقق النجاح الذي كان يرجوه . عين كاتماً للسر بالسفارة الإنجليزية في باريس . ثمّ وزيراً لاسكتلاندا لكنه ترك هذا المنصب بعد عام واحد ، وتفرّغ للكتابة والتأليف .
من مؤلفاته : 1-"رسالة في الطبيعة البشرية" . 2- "مقالات سياسية" . 3- "محاورات في الدين الطبيعي" . 4- "تاريخ إنكلترا". 5- "بحث في العقل البشري".
ما يُهمنا عرضه من آرائه الإلحادية
قدّم "هيوم" آراءً فلسفية بناها على إنكاره لوجود الله الرب الخالق ، وإنكاره لأسس الأخلاق ، فمن أفكاره ما يلي :
1- أنكر فكرة السببيّة بين الأشياء ، وقرر أن العادة هي التي توهم الإنسان بالارتباط السببي ، إذ يلاحظ في العادة سبق ما يسميه سبباً على ما يسميه مُسبباً .
فالسببيّة وفق فكرة "هيوم" ذاتية محضة ، أي : يصطنعها الإنسان اصطناعاً بمحض تخيّله ، فهي غير موضوعية ، وهي خدعة من الخيال الذي يميل إلى فرض رابطة بين الأشياء والحوادث ، فالسببيّة ليس لها وجود إلاّ في الذهن الذي يتركها .
2- ومن أفكاره أن العالم الخارجي عن إدراك الإنسان وهم باطل ، فالإنسان لا يعلم عن العالم الخارجي إلا ما في ذهنه من مدركات حسيّة .
وهذه الأفكار وأشباهها قد انتهت بهذا الملحد إلى رفض كلّ دليل ينهض على وجود الرب الخالق .
يقول في كتابه "محاورات في الدين الطبيعي":
"إننا لا نعلم عن العلة شيئاً إلا أنها الحادثة السابقة التي نشاهدها قبل حدوث معلولها . وإذن فلا بد من مشاهدة الحادثتين معاً السابقة واللاحقة على السواء . إننا نستدل من وجود الساعة على وجود صانعها ، لأننا رأينا الساعة والصانع كليهما ، وإذن فوجود الكون لا يقوم دليلاً على وجود صانعه ، إلا إذا رأينا الصانع والمصنوع جميعاً ".
وردّد هيوم الوسوسة الشيطانية القديمة بقوله :
" إذا كان لا بد لنا من البحث عن علة لكل شيء لوجب إذن أن نبحث عن علة للإله نفسه".(51/268)
3- ولهدم أصول الأخلاق ذكر "هيوم" أن سلوك الإنسان عمل آليٌّ محض ، وأنه لا يوجد ما يُسمَّى بالإرادة الحرة .
وزعم أن الدافع الأساسي لسلوك الإنسان هو اللذة والألم فقط ، وبهما يميّز الإنسان بين الخير والشر ، وليس العقل هو الذي يوجّه أعمال الإنسان .
وزعم أن الفضيلة هي ما يثير في الشخص اللذة .
لمحة من كشف الزيف
أولاً: إن أفكار هيوم في إنكار السببية تقوم على الادعاء المجرد من أي دليل . وقد استغل فيها أن الأسباب الكونية لا تستطيع أن تفعل بذواتها مسبباتها ، لعدم وجود الارتباط العقلي بينها وبين مسبّباتها ، إلا أن تأثيراتها الظاهرة الصورية تنبّه على وجود السبب الحقيقيّ الفعّال ، وهو الخالق البارئ المصور .
لكن "هيوم" لعب لعبة التعميم الفاسد، فاتخذ من إبطال فاعلية الأسباب الصوريّة بذواتها ، وسيلة لإنكار كل سبب حقيقيٍّ ، وكل علة حقيقية .
ثانياًً: ادّعاؤه أن البحث عن علة لكل شيء في هذا الكون ، يجرّ إلى البحث عن علة لله نفسه ، ادعاءٌ باطل .
وذلك لأن ادعاءه قائم على قياس فاسد ، وهو قياس الأزلي الأبدي الذي هو واجب الوجود لذاته ، ويستحيل في العقل عدمه ، على الكون الحادث ، الذي لم يكن ثمّ كان ، ولا بد من البحثِ عن علة انتقاله من العدم إلى الوجود .
ثالثاً: ادّعاؤه أن سلوك الإنسان عمل آلي محض ، ولا يخضع لإرادة حرةٍ في الإنسان ، ادعاءٌ يبطله شعور الناس جميعاً بالتفريق بين العمل الإرادي والعمل الآلي في ذواتهم . ويبطلُه أن الناس قادرون على أن يسلكوا بإرادتهم أنواعاً من السلوك تخالف ما تدعوهم إليه مطالب لذاتهم ، ويتحملون في ذلك آلاماً ، والموجّه لهم في ذلك هو منطق العقل ، ورعاية المصلحة المستقبلة .
ألا يتحمل العقلاء آلام العمليات الجراحية الطبية ، ويسعون لها بإرادتهم الحرة ، لأن عقولهم هدتهم إلى ضرورة تحمل هذه الآلام من أجل صحتهم ، ولو أنهم استجابوا لآلية الألم لما قبلوا ذلك؟
وآلاف الأمثلة في سلوك الناس من هذا القبيل .
وأفكار "هيوم" في أن سلوك الإنسان آليٌّ محضٌ خاضع لدوافع اللذة والألم ، من شأنها أن تطلق الوحش البشري الشهويّ الغضبيّ من قفصه العقلي والوجداني ، ليدمّر المجتمع البشري .
ولا يخفى على الباحث الخبير ما وراء أفكار "هيوم" هذه من دوافع شريرة تدميرية ، وما فيها من زيف مراد ترفضه العقول السليمة ، والطباع المستقيمة.
على أن أفكاره تقريرية لا تقترن بأي دليل ، لا من العقل ولا من الحسّ ، ولا من التجربة العلمية .
==============(51/269)
(51/270)
اعتراف آخر ... للجابري !
سليمان بن صالح الخراشي
يتبجح ( بنوعلمان ) و ( بنوعصران ) كثيرًا بلمز الإسلام وأهله بأنهم - كما يقولون - " دوغمائيون " لا يقبلون الرأي الآخر ، ولا يسمحون بالتعددية الفكرية ، ولايتسمون بالتسامح .. الخ كلامهم المكرور
وفي المقابل يشيدون ( بعلمانيتهم ) و ( بمجتمعهم المدني الخيالي ! ) وما فيهما من " تسامح " و " سعة أفق " و " رحابة صدر " و " مرونة عقل وتفكير " و .. و .. الخ
فهل هذا صحيح ؟!
لن أجيب أنا ، ولكن سأدع أحد " أركانهم " و " أساطينهم " ممن يعكف المريدون على كتبه ، ويتواصون بها ، ويفرحون بالتتلمذ عليها ! حتى قال قائلهم - الطريفي - فرحًا : ( إن بعض طلبة الشريعة اليوم يقرأون للجابري ) !!!
لقد اعترف هذا الجابري بالحقيقة المرة التي يجهلها - أو يخفيها ! - صغار الطلبة في مدرسته الفاشلة .. فقال في كتابه " قضايا في الفكر المعاصر " ( ص 20 - 21 ) بعد أن كال المديح لتسامح ( الفلسفة ) التي لايجيد سواها :
( ولكن هل كانت الفلسفة طوال تاريخها المديد مخلصة لهذا المبدأ ؟
إننا لا نستطيع، مع الأسف الشديد، أن نجيب بالإيجاب، مطمئنين إلى أننا نقول الحقيقة كل الحقيقة. ذلك أن الفلسفة، كما يقول ياسبيرز، غالباً "ما خانت نفسها" فتجاوزت مهمتها من "البحث عن الحقيقة" إلى ادعاء امتلاكها، وانزلقت –كما يقول هو نفسه- إلى "درجة الانحلال في وثوقية، في معرفة مصبوبة في صيغ، في يقينية نهائية وكاملة وصالحة لأن تنقل بالتعليم إلى الآخرين".
فعلاً، إن الوثوقية، أو الدوغمائية، تتنكر للاجتهاد وتلغي الاختلاف وترفع شعار "الإجماع" وتُشْهر سلاح "الخروج عن الإجماع" ضد كل مخالف، وتنحو نحو الاستبداد والهيمنة، فيحل التلقين والتلقي محل البحث والتقصي، وتكف الفلسفة عن اعتماد التسامح موقفاً فكرياً وعملياً وتفقد هويتها ومزيتها وتصبح شيئاً آخر، نسميه اليوم: إيديولوجيا... تماماً مثلما تتحول الدعوة الدينية من النقاش والمجادلة بالتي هي أحسن واعتماد الموعظة الحسنة... الخ إلى التمذهب الضيق والغلو والتطرف.
والحق : إن تاريخ الفلسفة يدلنا على أن التسامح كان دائمًا مقومًا أساسيًا من مقومات التفلسف ؛ أعني البحث عن الحقيقة . حتى إذا ترك الشك المنهجي مكانه لليقين المذهبي ، وحل تعميم الأفكار محل تحليلها ونقدها ؛ انقلبت الفلسفة إلى إيدلوجيا ، أي تقريرًا لـ " الحقيقة " التي تقدم نفسها كاملة واحدة لا حقيقة بعدها . وزال التسامح وحل محله اللا تسامح : أعني اللجوء إلى القوة والعنف فكرًا وسلوكًا ) .
قلت : لي ثلاثة تعليقات على كلام الجابري :
1 - يشهد لكلام الجابري ما حدث من المعتزلة دعاة العقلانية المزعومة ممن يدعون الحرية ؛ فإنهم لما تمكنوا تسلطوا على الآخرين لفرض بدعتهم بالقوة ( ولدى بعض طلبة العلم بحث موثق عن هذا ، لعله ينشره قريبًا ). وهم وإن لم يكونوا من الفلاسفة إلا أن أؤلئك مثلهم ؛ لأن دعاوى الطائفتين ( التسامحية ) واحدة . ويؤكده :
2- أن الفلاسفة لم يتمكنوا في تاريخهم من الحكم - حسب علمي - ؛ نظرًا لعدم ارتباطهم بالواقع . ولو قدر أن شهدنا لهم دولة لرأيت العجب من ( تسامحهم ) ! فلا يُغتر بدعاواهم أو دعاوى من أعجب بهم .
3- أن التسامح الذي يروج له البعض يقود إلى الفوضى لمن تأمله حق التأمل ولم ينخدع ببهرجه ، وهو أمر لا حقيقة له على أرض الواقع . وتفصيل هذا يطول تجده إن شاء الله في حلقة من حلقات ( ثقافة التلبيس ) عن هذا المصطلح المموه .
=================(51/271)
(51/272)
اعتراف آخر ... لمحمد أركون !
سليمان بن صالح الخراشي
هذا اعتراف آخر للمفكر المتفرنس ( محمد ! ) أركون أقدمه للقراء لتتبين لهم سذاجة مثل هؤلاء المفكرين الذين كانوا يعيشون أحلاما وخيالات ظانين أن الإنسان الغربي بفضل الحداثة والتنوير ! اللذين مر بهما قد ترقى تفكيره فتخلص مما يسمونه الأيدلوجيا وتعصباتها ، مستبدلا ذلك بالتفكير العلماني المتسامح ...الخ
ثم يتفاجأ هؤلاء السذج الذين باعوا دينهم وعزهم بأبخس الأثمان : أن الغرب النصراني هو هو لم يتغير ولم يتبدل ؛ حيث لا زالت النظرة الصليبية تحكمه عند حديثه عن الإسلام ، مهما ستر ذلك بزخارف الشعارات التي لا تنطلي على العقلاء . وهذا مما رسخ عند أهل القرآن الذين أخبرهم ربهم فيه بأنه ( لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) .. وغيرها من الآيات ,
ومحمد أركون من هذا النوع الساذج الذي اغتر بالقوم حتى استبدل دينه بما يسميه ( الأنسنة ) التي تعني عنده – كما يقول مترجم كتبه هاشم صالح - : ( كل مجتمع لا يعترف بالتعددية العقائدية والسياسية هو مجتمع تنقصه الأنسنة ) ( معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية ، ص 16 ) .
ويقول عنها في كتاب آخر : ( أعود مرة أخرى إلى مصطلح الأنسية أو النزعة الإنسانية ، وأقول بأن أركون يقصد بها ازدهار العقلانية وتراجع الظلامية والتعصب الديني . ففي القرون الوسطى كان التركيز يتم على الله فقط وما كان يجوز الاهتمام بالانسان إلا من خلال علاقته بالله أو عبادته له . باختصار كنا نعيش في ظل المركزية اللاهوتية . ثم انتقلنا بعد عصر النهضة في أوروبا إلى التركيز على الانسان والاهتمام به كقيمة بحد ذاتها ، وهكذا انتقلنا إلى ما يمكن أن ندعوه بالمركزية الانسانية أو بالنزعة الانسانية ) ( نزعة الأنسنة في الفكر العربي ، ص 12 ) .
وكأن الاهتمام بعبادة الله القائل ( وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) – عند أركون - تعني إهمال الإنسان وما يصلحه في الحياة الدنيا !! مما أداه إلى نبذ الإسلام ومعاملته كما يعامل الديانات الأخرى ، أو تحريفه إن اضطر إلى ذلك .. في مقابل تضخيم ( الإنسانية ) واتخاذها دينًا وأيدلوجية .
وللحديث عن ( الإنسانية ) ومناقضتها للإسلام مكان آخر .. ومن أراد بيان ذلك فليرجع إلى رسالة دكتوراة بعنوان ( الإنسانية في فكر المسلمين المعاصر ) للدكتور محمد إدريس عبدالصمد ( لم تطبع بعد / جامعة الإمام ، قسم الثقافة ) . وليرجع إلى كتاب ( مذاهب معاصرة ) لمحمد قطب .
أعود إلى اعتراف محمد أركون .. الذي اكتشف مؤخرا ! تعصب الغربيين ضد الإسلام ، مهما ادعوا التعددية والبحث العلمي المجرد .. الخ
يقول أركون في كتابه ( معارك من أجل الأنسنة .. ، ص 282 – 288 ) :
( لم تؤد ظاهرة جلاء الاستعمار في الستينيات والسبعينات عن بلدان العالم الثالث إلى زعزعة اليقينيات المتراكمة للعقل الغربي. أقصد العقل الظافر، المنتصر، المهيمن، الذي يستمر في توظيف نفسه في مجال الاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا والعلوم الصلبة أكثر مما يوظف نفسه في مجال العلوم الرخوة. صحيح أن البنيوية الألسنية والانتربولوجيا أوهمتنا لفترة بأنها قادرة على التوصل إلى علوم إنسانية في نفس صلابة العلوم الدقيقة: أي باردة، يقينية، بدون أي حكم قيمة، ولكنها وضعت اليهودية والمسيحية بمنأى عن تفحصها ودراستها، هذا في حين أن بقية الأديان دُمجت داخل التحريات الاتنوغرافية المحصورة بالمجتمعات المدعوة بالتقليدية أو العتيقة البالية، وهنا نلاحظ أنهم تخلّوا أو تراجعوا عن صفة "البدائية" للدلالة على نهاية العلم الاستعماري.
ولكننا نلاحظ أنهم خصَّصوا للإسلام مكانة غامضة في هذا السياق المستجد، فقد أصبح في آن معاً مادة يدرسها المستشرقون الكلاسيكيون طبقاً للمنهجية الفيلولوجية والتاريخوية البحتة، ثم مادة يدرسها علم الاتنوغرافيا المطبَّق على المجتمعات غير الأوروبية أو غير الغربية، وهذا الموقف الملتبس الذي اتخذه العلم الغربي في أعلى ذراه تقدماً يستحق منا وقفة خاصة من أجل تحليله وتفسير أسبابه.(51/273)
في الواقع إنهم حرصوا على تمييز الأديان المدعوّة بأديان الوحي عن الأديان الآسيوية المتروكة لبعض الاختصاصيين الاستشراقيين، وعن الأديان الأفريقية التي يهتم بها عادة علماء الاتنوغرافيا أو دراسة خصائص الأعراق والشعوب. كما أن هذا التمييز يزداد وضوحاً عندما يتعلّق الأمر بالموضوعات الكبرى للاعتقاد المدعو عادة بالإيمان، وهو موضوع محصور بعلماء اللاهوت فيما يخص أديان الكتاب، ولكنه أصبح عادياً مبتذلاً مع الثقافة بالمعنى الاتنوغرافي للكلمة، وذلك فيما يخص المجتمعات التي لا علاقة لها بالثقافة الأوروبية والمدعوة أيضاً بالمجتمعات التي "لا كتابة لها"، والتي لا تمتلك تاريخاً محورياً ذا نقطة أساسية تفصل الما قبل عن الما بعد، وحتى داخل أديان الوحي نفسها نلاحظ أنهم يخصصون للإسلام مكانة هجينة تدعو للاستغراب، فهم تارة يلحقونه بالأديان الآسيوية الكبرى ويصبح عندئذ محصوراً بدائرة المستشرقين، وتارة يلحقونه بالموقع الذي يحدده علماء الاتنوغرافيا للمجتمعات التي يدرسونها، ولكن بما أنه أحد أديان الكتاب، وبما أنه خاض معارك جدالية في القرون الوسطى مع المسيحية واليهودية، فإنه يحظى أيضاً ببعض الدراسات الخاصة باللاهوت المقارن.
منذ انعقاد المجتمع الكنسي الشهير باسم الفاتيكان الثاني، ظهرت أدبيات غزيرة ومكرورة عن موضوع الإسلام في الغرب، وقد غذَّاها الحوار الإسلامي –المسيحي وأحياناً نادرة الإسلامي- اليهودي- المسيحي، ولكن على الرغم من كل هذه الأدبيات، فإن التاريخ المقارن للأنظمة اللاهوتية الثلاثة لم يحقق تقدماً قادراً على تحريرنا من الموضوعاتية القروسطية للنَبْذ أو الاستبعاد المتبادل.
فيما وراء الموروثات اللاهوتية التي يستمرون في تعليمها داخل إطار المنظور الأرثوذكسي الخاص بكل طائفة دينية، فإنه يمكننا أن نعمم الملاحظة السابقة لكي تشتمل تاريخ الأديان، ثم بشكل أخص فلسفة الدين.
أقول ذلك ونحن نعلم أن فلسفة الدين لا تحظى باهتمام كبير بسبب الحواجز الابستمولوجية التي تستمر في فصل الفلسفة عن اللاهوت.
بقي علينا أن ندرس حالة اليهودية والمسيحية. كانت المسيحية تحلم منذ زمن طويل بضمّ اليهودية إليها عن طريق بلورة تركيبة يهودية – مسيحية تدل على تراث متواصل ومشترك، ولكن التراث اليهودي يرفض بالطبع هذا الاستلحاق، ونلاحظ أن الديانة اليهودية تسعى منذ تأسيس دولة إسرائيل للتوكيد على خصوصيتها إزاء الجهود الاستلحاقية التي تبذلها المسيحية. فالتركيبة التوفيقية المدعوة باليهودية – المسيحية تبدو فعالة على المستوى السياسي، ولكنها مرفوضة كلياً على المستوى اللاهوتي والثقافي، ونلاحظ أنه منذ انعقاد المجمع الكنسي للفاتيكان الثاني ونشره لقراراته اللاهوتية الشهيرة، فإنه هناك إرادة مشتركة قليلاً أو كثيراً من أجل العثور على استمرارية تواصلية تمتد من اليهودية إلى المسيحية وذلك على كافة الأصعدة من روحانية، وتاريخية، وثقافية، وعقائدية، ولكن نلاحظ أيضاً ظاهرة أخرى تدعو للدهشة والاستغراب: وهي الرغبة المشتركة لليهود والمسيحيين في استبعاد الإسلام ليس فقط لاهوتياً، وإنما أيضاً ثقافياً وسياسياً، ونلاحظ أيضاً أن هذا الاستبعاد يُطبَّق أيضاً على كيفية تقسيم تاريخ العالم المتوسطي، فهنا أيضاً نلاحظ أن التراث الجامعي "العلماني" يقوي الرؤيا التقليدية لعالم اللاهوت المسيحي، دون أن يستخدم بطبيعة الحال البواعث نفسها والتفسيرات اللاهوتية نفسها، فجنوب المتوسط وشرقه تركا للمستشرقين المختصين باللغة العربية والفارسية والتركية بشكل خاص، وأما الشمال والغرب فعلى العكس ملحقان بأوروبا المسيحية واللاتينية سابقاً ثم الحديثة حالياً، وأما الجنوب والشرق فيقيا بمنأى عن هذه الحداثة. إن لهذا التقسيم انعكاساته على وضع الدراسات التاريخية المتعلقة بكلتا الضفتين، والأكثر أهمية من ذلك هو أن حروب التحرير الوطنية وحركات المعارضة السياسية التي تستلهم الأصولية الراديكالية ساهمتا في توليد مخيالين سياسيين للاستبعاد المتبادل بين القطبين الإيديولوجيين المدعوّين "الإسلام"، و"الغرب".
لنتوقف الآن قليلاً عند حالة المسيحية بكل تجلياتها الكاثوليكية، والبروتستانتية، والأرثوذكسية، والإنكاليكانية. نلاحظ أنها تحظى بإقبال الباحثين العلميين على دراستها بكل طيبة خاطر وبنوع من التفضيل الضمني أو الصريح لها على غيرها، فالمؤمنون الغربيون يستخدمون موهبتهم ومعرفتهم وهيبتهم الفكرية لكي يكرّسوا تفوق المسيحية على جميع الأديان الأخرى، ولكي يثبتوا فرادتها وقدرتها على التأقلم مع الحداثة. وأما العلمانيون الذين يعيشون على الرغم من كل شيء في مجتمعات متأثرة جداً بالفكر والثقافة المسيحية، فإنهم يقبلون ضمنياً بالمحافظة على امتيازات هذا الدين ومعاملته معاملة خاصة، ولذلك فلا يطبقون عليه الاشكاليات الاتنوغرافية نفسها أو الأحكام السياسية السلبية نفسها التي يطبقونها على الأديان الأخرى) .
==============(51/274)
(51/275)
محمد أركون ومعالم أفكاره
د. محمد بن حامد الأحمري
"...إذ ليس للإسلام في نظره أي قانون ولا علاقة بالوجود ، وهو قد بذل وعصر كل سمومه وآفات الملحدين في الغرب لينكر المصادر أولاً ثم لو افترض إثباتها فليس لها حقائق ولا معاني تمس الناس..."
تطورت في عصرنا هذا وسائل الدعاية لكل شيء بمقدار لم يسبق له مثيل ، هذه الدعاية في قضايا الكماليات ووسائل الراحة قد تكون معقولة إلى حد ما، لكن الغريب من أصناف هذه الدعاية، الدعاية الفكرية لعامة الكتاب والشعراء والروائيين إلى درجة تدفع إلى السأم وعدم الثقة بأي شيء يشتهر من كتاب أو كاتب أو صحيفة، فيجعلك هذا لا تثق بالشهرة لأي عمل، إذ قد يكون في غاية الرداءة والفساد لكن جيوش الإعلام والترويج تحاصرك حتى تفقد بصيرتك.
وقد حاصرتنا الدعاية في زماننا ورفعت في وجوهنا مجموعة من الكتاب والمفكرين والأدباء، وألصقتهم في وجوه ثقافتنا كرهاً، وألزمتنا بهم وحاصرتنا كتبهم في كل زاوية، وليس هذا الحصار فقط بين العرب، بل لقد شكَت إحدى المستشرقات وقالت: "إن أدونيس لم يقل شيئاً ولكن اللوبي الأدونيسي هو الذي أعطاه الأهمية" ! .
هذا الجيش الدعائي من وراء كتاب صغار أو مغالطين كبار هو الذي أعطاهم أهمية كبرى في عالم الكتاب العربي .
قال أحد القراء لقد رأيت كتب أركون ولفت انتباهي الدعاية الكبيرة لها؛ فذهبت مع القوم واشتريت منها وقرأت الأول والثاني فما أحسست بفائدة ولا ساعدني الفهم، وقلت كاتبٌ متعِبٌ، ولكن زادت الدعاية للرجل فقلت في نفسي: النقص في قدرتي على الدراسة والفهم، وسكتُّ وخشيت أن أقول لأحد: لا أفهمه، حتى إذا كان ذات يوم جلست إلى قارئ وكاتب قدير وتناول كتاب "تاريخية الفكر العربي الإسلامي" وقال: لقد حاولت أن أفهم هذا الكاتب أركون فما استطعت، فكأنما أفرج عني من سجن وقلت: رحمك الله أين أنت فقد كنت أبحث عن قارئ له يعطيني فيه رأياً، لا الذين أكثروا من الدعاية له دون دراية .
وحتى لا تضر بنا المبالغة في هذا إليك نموذجاً للدعاية الأركونية: علق هاشم صالح مترجم أركون إلى العربية في آخر كتاب "الفكر الإسلامي نقد واجتهاد" يقول هاشم: بعد أن تركت محمد أركون رحت أفكر في حجم المعركة التي يخوضها بكل ملابساتها وتفاعلاتها، وهالني الأمر فكلما توهمت أن حدودها قد أصبحت واضحة محصورة، كلما اكتشفت أنها متشابكة معقدة، شبه لا نهائية. هناك شيء واحد مؤكد على أي حال : هو أن محمد أركون يخوض المعركة على جبهتين جبهة الداخل، وجبهة الخارج، جبهة أًصوليي المسلمين، وجبهة أصوليي المستشرقين:
وسوى الروم خلف ظهرك ... روم فعلى أي جانبيْك تميل ؟ (1) .
هذا مثل مما يفعل هذا المترجم، وقد يفاجئك مراراً بالمدح في وسط الكتاب أو في المقدمة أو في الهامش (2) أو في لقاءاته مع أركون التي تمثل جزءاً كبيراً من أعماله؛ فهذه طريقة في الكتابة جديدة إذ يُجري المترجم حواراً حول أفكار أركون بعد كل فصل أو في آخر الكتاب كما في "الفكر الإسلامي قراءة علمية" ، أو "الفكر الإسلامي نقد واجتهاد".
أثناء قراءة أعمال أركون قد تصادفه ينقد مدرسة عقائدية أو فقهية، ويحاول أن يقول إنها خرافة، وأسطورة دغمائية كما يحلو له أن يكرر، وتقول : لعله ينصر المدرسة الأخرى، فهو إما شيعي أو خارجي، ثم يخرج عليك في صفحة أخرى وهو يعرض بعدم معقولية فكرة الإمامة لدى الشيعة (3)، ثم في مكان آخر لا يتفق مع الإسلام السني المتزمت في نظره (4) علماً أن السني عنده هم الأشاعرة، وأما أحمد وابن تيمية فيدعوهما حنابلة متزمتين .
وتحاول جاهداً أن تقف تماماً على ما يريد فإذا هو متناقض لا يؤمن بشيء ولا يرى أن لهذا العلم أو التراث الإسلامي أي مكانة إلا في عين المدارس النقدية الغربية؛ فما أقرته فهو الحق والمحترم - كنص للدراسة ليس أكثر من نص بشري قابل للأخذ والعطاء - وما لا تقره المكتشفات الأسلوبية اللغوية الاجتماعية والنفسية المعاصرة فإنه لا يرى إقراره والاهتمام به لقدمه وتخلفه عن العصر .
ولعل كتاب "الفكر العربي" أول كتبه المترجمة إلى العربية وفيه تلخيص غامض لجُل ما قال في الكتب الأخرى ، وأشار فيه بكثير من التحفظ إلى آرائه في القرآن والسنة والشيعة والحداثة والتجديد .
عند أركون أهداف واضحة لمن يستقرئ أعماله ويصبر على التزوير والمراوغة واللعب بالكلمات في غير معانيها حتى يحصل على هدفه الكبير من كل مشروعه وسيأتي بيان الهدف بعد ذكر وسائله إليه .
الوسائل :(51/276)
أول وسائله نقد الكُتاب الإسلاميين الذين ليست لهم صلة بالمدارس الغربية في الفكر، والذين ليس لهم إلمام بعلوم اللسانيات والاجتماع والنفس والنظريات التي خرجت - فيما يرى - بعد الخمسينات من هذا القرن الميلادي، وبالتالي يطالبهم بالمشاركة والدراسة لمستجدات النظريات الإنسانية الغربية، ثم هو يستخدم نظريات ميشيل فوكو في مسائل المعرفة والسلطة، ويرى تاريخية المعرفة وبكوْنها قابلة للتغيير والتطوير والشمول، وأهم جوانب المعرفة التي يتحدث عنها المعرفة الدينية بكل أبعادها ، ويرى اعتبار المعرفة الإسلامية نموذجاً أسطورياً لابد أن يخضع للدراسة والنقاش - كما سيأتي - ويرى المجاهرة باعتبار العلوم الإسلامية سياقاً معرفياً أسطورياً يزعج المسلمين ويهز إيمانهم ، ولكن لابد - كما يرى - من بناء مفاهيم جديدة مستمدة من الاحتياجات الجديدة كما فعل السلف، ويرى أن هناك مناطق عديدة في الفكر الإسلامي لا تمس ولا يفكر فيها مثل مسألة عثمان - رضي الله عنه - وقضايا جمع القرآن، والتسليم بصحة أحاديث البخاري والموافقة على الأصول التي بناها الشافعي، ويرى أنه يضع أساساً للاجتهاد وعقلانية جديدة (5) ، وهو يرى أن الوعي الإسلامي قد انشق فيما بين السنة والشيعة ، والوسيلة عنده ليست بالتوفيق بين الجانبين ولا الانتقاء منهما إنما الوسيلة نقد الطرفين وهو يعتنق "النقدية الجذرية" للطرفين وإسقاط كل الحجج التي بأيدي الجميع ، وبالتالي فإن النص السني مغلوط ومزور والنص الشيعي نص العدالة والعصمة مغلوط ومزور وأسطوري، والمطلوب أن يتحرر كل من الفريقين من نصه فيتوحدان (6) .
الأهداف :
من أهم ما يهدف له أركون في كتاباته المكررة والمملة نزع الثقة من القرآن الكريم وقداسته واعتباره نصاً أسطورياً (7) قابلاً للدراسة والأخذ والرد. وهو يغالط كثيراً في معنى كلمة "أسطورة" ويقول : إنه يعاني من صعوبة هذه الكلمة على أسماع العرب الذين يربطون بين هذه الكلمة وبين الأكذوبة أو الخرافة، لكن ما هي الكلمة التي يستخدمها أركون في تعبيره عن القرآن باللغة الفرنسية التي يكتب كل كتبه بها .
إنه استخدم كلمة Mythe وبالإنجليزية Myth وكلتا الكلمتين تعني الخرافة أو الحكاية والكلمتان جاءتا من الكلمة الإغريقية Muthos وهي تعني في جميع اللغات الأوربية حكاية خرافية شعبية تتحدث عن كائنات تجسد - بصورة رمزية - قوى الطبيعة والوضع الإنساني (8) .
ثم إذا سلم بهذه الأسطورة - بزعمه - فإنها أولاً لم تصلنا بسند مقطوع الصحة؛ لأن القرآن -كما يقول - لم يُكتب كله في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بل كُتب بعض الآيات ثم استكمل العمل في كتابة القرآن فيما بعد (9) وهذه من المغالطات التي يسوقها أركون بكل سهولة ويخلط فيها ما بين قضية الجمع وقضية الكتابة ، وبزعم أن الظروف السياسية هي التي جعلت المسلمين يحافظون فقط على قرآن واحد ويتركون ما عداه (10) .
ومن أجل أن يمهد لما يريد من إنكار القرآن سنداً في أول الأمر يدخل بعد ذلك إلى نصوص القرآن فيشكك في القصص والأخبار ويرى أن التاريخ الواقعي المحسوس هو الذي يحاكَم إليه القرآن، فالأخبار والآثار التاريخية هي الموثوقة!
ولنقرأ له هذا النص الذي يجد القارئ في كتبه كثيراً مثله ، يقول :
"ينبغي القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات التاريخية التي أحدثتها الروايات القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس" (11) .
ويرى أن القرآن عمل أدبي لم يدرس كما يجب إلا من قِبَل ندرة أهمهم عنده "محمد أحمد خلف الله" عندما كتب عن القصص الفني في القرآن وقال إن القصة القرآنية مفتعلة، ويتحسر على عدم استمرار "خلف الله" ويذكر أن الأسباب التي لم تمكن "خلف الله" في عمله أنه راعى الموقف الإسلامي الإيماني أولاً ، وثانياً : لنقص المعلومات.
إذن فقد آل الأمر إلى أركون الذي سيهاجم القرآن؛ لأنه لا يراعي الموقف الإسلامي الإيماني لأنه مطلع على الأبحاث الجارية. ومع زعمه أنه يعرف الأبحاث الجارية التي كتبها فوكو والحاخام دريدا ؛ فإنه يظهر للقارئ بشكل يجعله لا يثق في قدرة أركون ولا أنه فهم ما زعم فهمه من قضايا المعرفة ونقد اللاهوت ونظريات البنيوية وما بعدها (12) .
ويعاني في عرضه للأقوال من عدم التوثيق أو القول الصحيح لما ينقل ؛ إذ يقلب كل قضية قرآنية أو تفسيرية أو سياق لعلم حتى يفسد المعنى ويلويه إلى ما يريد كما مر معنا في مسألة كتابة القرآن ، ومثال آخر يعرِّف الوحي بقوله : "إنه يُدعَى بالتنزيل أي الهبوط من فوق إلى تحت" (13) .
معاني القرآن :
لو تجاوزنا قضية شكه في القرآن وردّه للسنة من باب أَوْلى فماذا يفسر به القرآن وكيف يفهمه، إنه يقول : "إن القرآن - كما الأناجيل - ليس إلا مجازات عالية تتكلم عن الوضع البشري ، إن هذه المجازات لا يمكن أن تكون قانوناً واضحاً، أما الوهم الكبير فهو اعتقاد الناس - اعتقاد الملايين - بإمكانية تحويل هذه التعابير المجازية إلى قانون شغال وفعال ومبادئ محدودة تطبق على كل الحالات وفي كل الظروف" (14) .(51/277)
ويقول في موضع آخر :
"إن المعطيات الخارقة للطبيعة والحكايات الأسطورية القرآنية سوف تُتلقَّى بصفتها تعابير أدبية ، أي تعابير محورة عن مطامح ورؤى وعواطف حقيقية يمكن فقط للتحليل التاريخي السيولوجي والبسيكولوجي اللغوي - أن يعيها ويكشفهما" (15) .
ويفصل أركون بين القرآن والشريعة ، فالقرآن عنده "خطاب مجازي يغذي التأمل والخيال والفكر والعمل ويغذي الرغبة في التصعيد والتجاوز ، والمجتمعات البشرية لا تستطيع العيش طيلة حياتها على لغة المجاز" () ولكن هناك البشر المحسوسون العائشون - كما يقول - في مجتمع وهناك أمورهم الحياتية المختلفة التي تتطلب نوعاً من التنظيم والضبط وهكذا تم إنجاز الشريعة (17) ثم يعقب بأن هناك مجالاً أسطورياً مجازياً وهو مجال القرآن، ومجال آخر واقعي للناس هو مجال الشريعة ويقول : "إنه وهم كبير أن يتوقع الناس علاقة ما بين القرآن والشريعة التي هي القوانين الشرعية وأن المناخ الميثي (الأسطوري) الذي سيطر على الأجيال السابقة هو الذي أتاح تشييد ذلك الوهم الكبير ، أي إمكانية المرور من إرادة الله المعبر عنها في الكتابات المقدسة إلى القوانين الفقهية (الشريعة) وحجته في ذلك ما يلي : في الواقع أن هناك أنواعاً مختلفة من الكلام (من الخطاب) وهناك فرق بين خطاب شعري أو ديني ، وخطاب قانوني فقهي أو فلسفي ، ولا يمكن لنا أن نمر من الخطابين الأولين إلى الخطابات الأخرى إلا بتعسف واعتباط"(18) ألا ترى أنك يا أركون قد استطعت أن تمرق من الخطابين .
مكانة السنة عنده :
ليس هذا مجالاً لمتابعة هذه الأقوال والرد عليها، فيكفي هنا التعريف بمعالم فكره بما فيها جرأته على الشك في ثبوت وصول القرآن إلينا ، وجرأته على نفي الحديث والزعم بأن الظروف السياسية وأوضاع المجتمعات التي انتشر فيها الإسلام احتاجت إلى أحاديث وقال : "إن السنة كُتبت متأخرة بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم بزمن طويل وهذا ولَّد خلافات . لم يتجاوزها المسلمون حتى اليوم بين الطوائف الثلاث السنية والشيعية والخارجية ، وصراع هذه الفرق الثلاث جعلهم يحتكرون الحديث ويسيطرون عليه لما للحديث من علاقة بالسلطة القائمة"(19) .
وهو يرى أن الحديث هو جزء من التراث الذي يجب أن يخضع للدراسة النقدية الصارمة لكل الوثائق والمواد الموروثة كما يسميها (20)، ثم يقول: "وبالطبع فإن مسيرة التاريخ الأرضي وتنوع الشعوب التي اعتنقت الإسلام - قد خلقت حالات وأوضاعاً جديدة ومستحدثة لم تكن متوقعة أو منصوصاً عليها في القرآن ولا في الحديث، ولكي يتم دمجها وتمثلها في التراث فإنه لزم على المعنيين بالأمر أن يصدقوا عليها ويقدسوها إما بواسطة حديث للنبي ، وإما بواسطة تقنيات المحاجة والقياس" (21) .
الشريعة والحياة تلك هي مكانة الشريعة عنده وهذه مكانة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذ لا يرى أي تشريع جاء به القرآن، وأن القرآن خطاب أدبي عاطفي لا علاقة له بالحياة، والشريعة ضرورة اجتماعية أملتها ظروف المجتمع وحاجة الناس، وهي في مجموعها تراث إذا قابلت في الطريق ثقافة مجتمع آخر أو استجد شيء فإن هذا الجديد يدمج في هذا التراث بواسطة حديث أو قياس ، وهو يناقض نفسه تماماً ، إذ لو لم تكن الشريعة من غير هذين المصدرين كأساس لما سعى المعنيون بالأمر - كما يسميهم - لفعل ما كذبه عليهم.
وهذا مثال واحد كبير من الغث والانحراف والكفر الذي يملأ به كتبه، كله يناقض بعضه بعضاً، وكفاه زوراً أو جرأة على كتاب الله قوله : "وليس في وسع الباحثين أن يكتفوا اليوم في الواقع بالتكرار الورع للحقائق الموحى بها في الجزيرة العربية في القرن السادس والتي طُرحت منذئذ على أنها بآن واحد مما يمكن تعريفه واستخدامه وأنها متعالية"(22) .
وهو يرى أن الباحثين - يعني نفسه ومَن تابعه - (إذ حتى كبار الكفار من المستشرقين لم يحملوا على القرآن والسنة والأمة كالحملة التي يقودها أركون ولم يستطيعوا القول بكل هذه الافتراءات في آن واحد) لا يسعهم تطبيق القرآن لأنه نزل في الجزيرة في ذلك الزمن القديم،وهو لا يرى نفسه وهو يقدس ويستسلم لبقايا قوانين الرومان، بل ويحاسب الإسلام على أفكار فوكوه هل تتطابق معها أم لا ، ويقول في نفس الوقت بأن القرآن حقائق، وقد سبق أن قال إنه مجازات عالية وقد أجمع القائلون بالمجاز على أن كل مجاز يجوز نفيه ويكون نافيه صادقاً في نفس الأمر (23) ، علماً بأن المجاز بالأسلوب الذي يريده أركون أبعد بكثير من المجاز الذي حدث فيه الخلاف بين المسلمين والذي قال فيه الشنقيطي إن وروده في القرآن غير صحيح ولا دليل يوجب الرجوع إليه من نقل ولا عقل ونحن ننزه القرآن على أن نقول فيه مجاز بل نقول كله حقائق (24) .(51/278)
ونقل الشنقيطي عن عدد من العلماء عدم جواز المجاز في اللغة أصلاً فضلاً عن القرآن وهو - أي الشنقيطي - ممن يرى هذا، وأركون لا يرى أن آيات الأحكام هي المجاز، ولا آيات الصفات كما قال بعض السابقين المخالفين لأهل السنة، لكنه يرى كل القرآن مجازات عالية ، ومرة يقول متعالية أي تكون بعيدة عن المجتمع سياسة واقتصاداً واجتماعاً ، إنما تهذيب روحي لا علاقة له بالدنيا .
وليس هذا مكان الحديث عن المجاز ولا الخلاف فيه . لكن جاء بمناسبة خلط أركون وتناقضه؛ إذ يقول : القرآن حقائق نزلت قديماً ثم يرجع ويقول مجازات عالية . إن أركون يهدم كل شيء ولا يقيمك على سنن ولا يثق بأحد ولا بعلم أحد، فهو يسخر من كل مَن سبقه حتى يسخر من الطبري ومن طريقته في التفسير. وما دام قد اجترأ على كتاب الله وسنة رسوله كل هذه الجرأة فماذا يتوقع القارئ عن غيرها. وهناك جوانب عديدة يستنكرها كقضايا الثواب والعقاب والبعث بعد الموت (25) . ويرى في آيات القرآن التي تحدثت عن الجنة وثوابها سياقات شعرية ، وأيضاً يرى رمزية العذاب .
خلاصة :
يرى أركون أن القرآن والكتب السابقة تعاني من سياق واحد ، ويضع القرآن مع الأناجيل في مستوى من الثبوت والدراسة واحد ، وبرى أهمية النقد والتجديد. وعمله هذا النقدي السلبي النافي - الذي يمسخ كل الحقائق وكل المعاني - لا يمكن بحال أن يكون مذهباً فكرياً بديلاً ؛ بحيث يحل محل شيء من الفرق أو الجماعات التي وجدت على الساحة الإسلامية وليس بأسلوب يمكن قبوله من قِبل السنة أو الشيعة؛ ذلك أنه يلغي الجميع ويرى العدمية(26) التي يقدمها هي البديل أو التجديد ، فالشك والجحود بكل شيء لن يكون أبداً بديلاً للإيمان ، إذ هذا العدم لا يكون ديناً ولا يبني خلقاً .
وهو يرى - مع هذا - ضرورة النظام في حياة الناس ويرى أهمية القوانين وهذه القوانين عنده تنشئها الضرورة الاجتماعية ، لكن أي مجتمع وأية قوانين ، أما المجتمع فلا يرى أركون أن يكون للإسلام سلطة عليه؛ لذا فليس للإسلام أن يسن أي قانون في ذلك المجتمع إذ ليس للإسلام في نظره أي قانون ولا علاقة بالوجود ، وهو قد بذل وعصر كل سمومه وآفات الملحدين في الغرب لينكر المصادر أولاً ثم لو افترض إثباتها فليس لها حقائق ولا معاني تمس الناس ، ثم إذا فهم منها معاني فتلك المعاني جاءت للحاجة والضرورة ؛ لأنه لم يكن هناك قوانين في المجتمع.
وقد علق أحدهم على نمط تفكير أركون وأسلوب تعامله مع النصوص فقال : إن تجديدية أركون هي تجديدية عدمية ولا نحسب أن مسلماً عاقلاً يهتم لقراءة أركون النافية (27) وهذا ملخص لبحث مطول يتناول كتب ومقالات أركون ، ومع أن أعماله غير معقولة لكن - ويا لَلأسف! - إن الذي يتحكم في سلوك وأفكار العالم الإسلامي اليوم هو (اللامعقول) لهذا يحتاج إلى بيان .
----------------------
الهوامش :
(1) الفكر الإسلامي فكر واجتهاد ص335 ، "حقاً إن أركون أشد على الإسلام هجوماً من مفكري الروم وسيأتي بيان ذلك".
(2) انظر الكتاب السابق ص254 ومواقع عديدة في "الفكر الإسلامي قراءة علمية".
(3) أركون ، مقابلة مع أدونيس ، مجلة "مواقف" ، عدد رقم 54 - ربيع عام 1988 ، ص1.
(4) أركون ، الفكر العربي ، ترجمة عادل العوا ، ص128 والفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص9. ولعل كتاب "الفكر العربي" أول كتبه المترجمة إلى العربية وفيه تلخيص غامض لجل ما قال بعد في الكتب الأخرى وفيه إشارة بكثير من التحفظ إلى آرائه في القرآن والسنة والشيعة والحداثة والتجديد.
(5) عيسى بلاطة ، توجهات وقضايا في الفكر العربي المعاصر ، ص89-9.
(6) رضوان السيد ، الإسلام المعاصر ، ص19.
(7) محمد أركون ، الفكر الإسلامي قراءة علمية ، ص22 وما بعدها.
(8) محمد العربي الخطابي ، مقال بعنوان "الأسطورة الأصلية في رأي أستاذ جامعي" ، جريدة "الشرق الأوسط"26/2/199.
(9) محمد أركون الفكر ، الإسلامي نقد واجتهاد ، ص85-86.
(10) المصدر السابق ، ص86.
(11) أركون ، الفكر الإسلامي قراءة علمية ، ص23.
(12) انظر مجلة الحوار ، عدد 9 ، ص117-118.
(13) الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ، ص79.
(14) تاريخية الفكر الإسلامي ، ص299.
(15) الفكر الإسلامي قراءة علمية ، ص191.
(16) تاريخية الفكر الإسلامي ، ص299.
(17) المصدر السابق ، ص299..
(18) المصدر السابق ، ص299.
(19) أركون ، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ، ص12.
(20) أركون ، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ، ص13.
(21) أركون ، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ، ص18.
(22) أركون ، الفكر العربي ، ص174 ترجمة عادل العوا .
(23) الشنقيطي ، منع جواز المجاز ، ص8.
(24) الشنقيطي ، منع جواز المجاز ، ص51.
(25) للتوسع يراجع الفصل الأخير من كتابه "الإسلام أصالة وممارسة" ترجمة د.خليل أحمد ، وأيضاً مواضع متعددة من "الفكر الإسلامي قراءة علمية" .
(26) رضوان السيد ، الإسلام المعاصر ، ص19.
(27) رضوان السيد ، الإسلام المعاصر ، ص19.(51/279)
وانظر حول فكرته لتطيق النقد التاريخي للقرآن كتابه "الفكر الأصولي واستحالة التأصيل " الصفحات التالية : 29 ، 44 -45 ، 6 ، 151 ، 214 - 215 ، 247 ، 191 ، 194
===============(51/280)
(51/281)
المفكر الغربي ( شوبنهاور ) - نقد علمي لفكره -
آرثر شوبنهاور
(( 1788 – 1860 م))
فيلسوف ألماني تشاؤمي ملحد ، ولد في الثاني والعشرين من شهر فبراير لسنه 1788 م درس الفلسفة بجامعة ( جوتنجن) (( 1809 – 1811 م)) ، ثم انتقل إلى جامعة (( برلين )) ( 1811 – 1813م)) حيث ختم دراسته بحصوله على الدكتوراة عن رسالته التي دونها تحت عنوان :( الأصول الربعة لمبدأ السبب الكافي ) وهي رسالة في (( العقل )) وصلته بالعالم الخارجي .
مات أبوة منتحرا وهو في السابعة عشرة ( 1805م) عاش بعد ذلك حياة شقية تعيسة بسبب خلافه مع أمه بسبب حياة التحرر من كل قيود الفضيلة التي عاشتها أمه بعد أبيه ، وقد انتهى الخلاف بينهما إلى قطيعة كاملة حتى ماتت ولم يراها ، وقد سبب سلوك أمه شعورا عنده بالمقت الشديد للنساء لازمه طوال حياته ، فلم يرتبط بامرأة حتى مات .
قام بالتدريس بجامعة ( برلين ) (1820 – 1831م ) ولم يكن موفقا ولا مقبولا من الطلاب ، وقد عزا ذلك هو إلى غيرة الأساتذة الآخرين منه ، وتآمرهم ضده ولم تكن كتبه تلقى رواجا مما سبب له إحساسا مضاعفا بالشقاء والتعاسة ، لكن في أخريات حياته ، بدأت كتبه تروج والإقبال عليها يتزايد ، فشعر بالسعادة والرضا .
كان له بعض المال الذي ورثه عن أبيه ، مكنه استغلاله لهذا المال من الحصول على غرفتين بإحدى الفنادق المتوسطة ، عاش فيها طوال الثلاثين عاما الأخيرة من حياته ، عاش هذه السنين في هاتين الحجرتين ، وحيدا بلا أم ولا زوج ولا ولد ولا أسرة ولا وطن ، ولا صديق , سوى كلبه الذي أطلق عليه اسم (( أطما )) ، وهو اسم يطلق على روح العالم ، أو الروح الكلي لدى البراهمة ، ولكن سكان الفندق والقريبين من شوبنهاور كانوا يسمون الكلب :(شوبنهاور الصغير ) !
********
مؤلفاته :-
كتب (( شوبنهاور)) رسالته التي نال بها درجة الدكتوراه عام (( 1813م)) وكان الكتاب عن (( الأصول الأربعة لمبدأ السبب الكافي)). وهو يقصد بالسبب الكافي علاقتنا بالعالم الخارجي وفهمنا إياه. ويرى أن السبب الكافي الذي يتحدث عنه يقوم على أصول أربعة هي: ((علاقة بين مبدأ ونتيجة- علاقة بين علة ومعلول- علاقة بين زمان ومكان – علاقة بين داع وفعل )). والصور الثلاثة الأول تخص التصور النظري, أما الصورة الرابعة فهي العمل. وهذه الأربعة هي التي ينشأ عنها تصورنا للعالم الخارجي, وانفعالنا معه. ثم أخرج كتابه الثاني وهو((العالم إرادة وتصور)) أو ((العالم إرادة وفكرة)). وقد فتن بكتابه هذا حتى ظن أنه قد وضع فيه التصور النهائي للوجود والفكر . ولكن كتابه هذا لم يلق قبولاً, حتى أنه بعد ما يزيد على العشرة أعوام, أُبلغ ((شوبنهاور))أن جزءاً من نسخ كتابه قد بيع ورقاً فاسداً تُلف به البضائع, فازداد تشاؤماً, وأرجع ذلك إلى مؤامرة تحاك ضده من جميع المفكرين والفلاسفة, وأنهم لا يفهمون فلسفته لأنه يكتب للأجيال القادمة, ثم قال: ((إن كتابي هذا مثل المرآة, فإذا نظر فيها حمار فلا تنتظر أن يرى فيها وجه ملاك)).. ثم نشر كتاباً تحت عنوان: ((الإرادة في الطبيعة)) (1836م), جمع في هذا الكتاب من الأمثلة والشواهد الطبيعية ما ظنه أدلة على نظريته في الإرادة الكلية, التي تحدث عنها في كتابه السابق. وفي سنة (1841م) أصدر كتاباً بعنوان: ((المشكلتان الأساسيتان في فلسفة الأخلاق)) وفي سنة (1851م) أصدر كتابين هامين عن : (( النتاج والفضلات)). وقد بذل فيهما قصارى جهده, وعصارة فكره, ولكنه تلقي عشر نسخ منهما تعويضاً له عن مجهوده في تأليفهما.. فلم تكن مؤلفاته قد لقيت قبولاً بعد, وإن كانت فلسفته بدأت تلفت الأنظار.
وفي أخريات حياته بدأت فلسفته التشاؤمية تلقى اهتماماً لدى الأوساط, مما جعله يشعر ببعض الرضا في خلال عام (1854م).. وفي الحادي والعشرين من شهر سبتمبر من عام(1860م) جلس في الفندق المتواضع الذي قضي فيه الثلاثين عاماً الأخيرة من عمره. وكان يتناول إفطاره, وبعد ساعة وجدته صاحبة الفندق ما يزال جالساً كما هو, فاقتربت تتفحصه فوجدت الحياة قد نبذته, لتستريح الحياة والأحياء من واحد من أكبر الفلاسفة إلحاداً وتشاؤماً وإشاعة للفكر الفاسد .
* * * * *
مفتاح شخصيته:
تأثر ((شوبنهاور)) في فلسفته بأمور كثيرة, أهمها:
1- الوراثة الأسرية ؛فقد ولد الرجل لأسرة انتشرت فيها الأمراض النفسية والعقلية, فقد كان أفرادها يصابون بتلك الأمراض لأجيال متتالية, وقد كانت تلك الأمراض في أسرته من جهتي أبيه وأمه. وهي أمراض للوارثة فيها نصيب لا ينكر, وقد مات أبوه منتحراً, وماتت جدته مصابة بالجنون, وقد ظهرت أثار تلك الأمراض النفسية على ((شوبنهاور)) وانعكست أثارها على سلوكه وتصرفاته طوال مراحل حياته.
كذلك كان لعلاقته بأمه بعد وفاة أبيه أثر كبير في شخصيته المريضة, وآرائه المنحرفة الضالة.(51/282)
فإن السلوك الخلقي السيئ لأمه بعد وفاة أبيه, جعله يسيئ الظن بالناس جميعاً, وبخاصة عندما وجد أستاذه((جوته)) الذي كان يجله ويحترمه يقاسم أمه تلك المعيشة الدنسة, فقد أثر ذلك في نفسه, وطوى قلبه على حقد وكراهية للحياة والأحياء بسبب الآلام الشديدة التي سببتها له تلك الأحداث.
2- الظروف العالمية.
حيث ولد ((شوبنهاور)) في عصر دمرت الحروب فيه أوربا تدميراً شديداً, وشردت عشرات الآلاف من الأسر, ونشرت الفقر والبؤس بين الناس على مستوى دول أوربا, وقد كانت الحرب قائمة بين ((نابليون)) الذي كان ((شوبنهاور)) وكافة المثقفين في أوربا ينظرون إليه على أنه روح الثورة الفرنسية التي حررت الفكر والناس, ولكن دول أوروبا تحالفت ضد نابليون وهزمته شر هزيمة ، وقذفت به إلى جزيرة((سانت هيلانه)) ليقضي نحبه فوق تلك الصخرة النائية في جوف المحيط.. وكانت تلك قمة الآلام عند ((شوبنهاور)) حيث قضت ((الإرادة المتجبرة)) للحياة على مكاسب الثورة الفرنسية, وعادت أسرة ((البوربون)) إلى حكم فرنسا, وعاد الإقطاعيون يطالبون بأملاكهم, وضحكت ((إرادة الحياة الشريرة)) ملء فيها من الناس الذين كانوا يأملون في الخلاص من الآلام والأحزان, فأعادتهم إليها مرة ثانية.
3- الحلة النفسية والعقلية :
تأثر ((شوبنهاور)) بالظروف التي أشرنا إليها, ونتج عن ذلك أن أصيب بأمراض نفسية وعقلية لازمته طوال حياته.. كان من آثارها أن غدا كئيباً ساخراً مرتاباً, شديد الخوف والقلق, تستبد به الهواجس والمخاوف, يسيئ الظن بالناس ويخشى على نفسه من شرورهم وغدرهم, وقد كان من آثار ذلك أن يغلق على نفسه الأبواب بعناية شديدة, وبلغ به الخوف وسوء الظن, أنه لم يسلم ذقنه ورقبته لموسى الحلاق أبدا طوال حياته, خوفاً من أن يتآمر مع الآخرين على ذبحه, وظل طيلة حياته لا ينام إلا وسلاحه بجواره محشواً بالرصاص في انتظار من تحدثه نفسه من اللصوص بالسطو عليه, أومن أعدائه المتوهمين بالاعتداء عليه أو قتله .وقد كان مريضاً بالعظمة وكان يرى نفسه هدفاً لتآمر الناس, وأنهم جميعاً يحقدون عليه ويحاولون إيذاءه والتخلص منه. وهذا الإحساس ظل يلازمه طوال حياته.. مما جعله يعيش وحيداً بلا أم, ولا زوجة, ولا ولد, ولا أسرة ولا وطن. ولم يصادق أحداً طوال حياته.. إن رجلاً كهذا ما كان ليصدر عنه فكر سوي, ولا رأي سليم, ولا فلسفة حكيمة, وما ينتظر أن يصدر عنه شيئ من ذلك.
4- قراءاته ودراساته :
إن المزاج الفاسد ((لشوبنهاور))ونزعة الحقد والكراهية التي تملأ نفسه, ثم الود المفقود, والعداء الموجود بينه وبين كل عناصر الحياة والأحياء, دفع به إلى اختيار نوعية معينة من الكتب, وكان اختياره منصباً على دراسة بوذا, ثم كتب الديانة الهندية, وكان من آثار ذلك أن ازداد شعوره بالكراهية للعالم, وتعمق لديه الإحساس بأن الحياة شر, وأن الحياة ليس فيها إلا الألم والمرض والشيخوخة والموت.. والديانة الهندية تقوم على أن الحياة قائمة على أنواع من الشرور الطبيعية والخلقية.
كل هذه الأمور التي أشرنا إليها كانت هي العوامل التي أثرت في شخصية الفيلسوف المتشائم الملحد ((شوبنهاور)), وطبعت فكرة بهذا الطابع الذي سوف نراه من خلال دراستنا لما يهمنا من أفكاره وأرائه, غير أننا نرى أنه من المفيد في هذا المجال أن نذكر بأن ((شوبنهاور)) في آرائه التي ذهب إليها لم يكن بدعاً في عصره وبلده. فالزمان والمكان كانا مليئين بمن سبقه ومن لحقه من الملاحدة المتشائمين, غير أنه يبقي لشوبنهاور في ذلك مستوى من الإلحاد والتشاؤم لم يصل إليه أحد, على ما سنرى عند بسطنا فلسفته فيما يلي – بحول الله تعالى..
**********
فلسفة شوبنهاور :
لقد لاحظ شوبنهار أن الوجود يقوم على أساس من الحكمة, والخبرة, والغائية, وأن كل شيئ في الوجود دليل صادق على إدارة الفاعل, وقدرته, وحكمته. وخبرته, وإتقانه.
كما لاحظ أن الوجود كله يمشي على نظام حكيم متقن بديع, وأن له غاية يسعى إليها, وأن لهذه الغاية وسائل, وأن الغاية ووسائلها تنطق بحكمة الفاعل, وتحدث بإتقانه وإبداعه.(51/283)
لاحظ الرجل كل ذلك في الجمادات, وفي النبات, وفي الحشرات والحيوانات, وكيف يسعى كل من هؤلاء للحصول على غذائه, للإبقاء على نفسه ونوعه, كما لاحظ ذلك في الإنسان وما آتاه الله – تعالى- من قوة عاقلة, وقوة جسمية غريزية, للإبقاء على نفسه بالغذاء, وعلى نوعه بالتزاوج والتناسل, وعلى تميزه عن كل ما حوله بإعمال عقله. ونتاج العقل من فكر وثقافة وحضارة, وعلوم ومعارف, ورأس هذه المعارف معرفته بربه – سبحانه- ,واعتصامه بحبله, والسير على هدى طاعته, والسعي في تحصيل مرضاته . لاحظ الفيلسوف كل ذلك, لكن لأنه من الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم, وجعل على أبصارهم غشاوة تعميهم عن الحق, وتضلهم عن الصواب, فقد اختار الإلحاد والكفر بالخالق العظيم, والصانع البديع.. وقد وجد الرجل نفسه بين أمرين: إما أن ينكر ما لاحظه في الوجود من حكمة وقدرة وإرادة وإتقان, ثم ينكر وجود الله- سبحانه-, وبذلك يحقق مبتغاة من إنكار وجود رب لهذا الكون, لكن, كيف ينكر الحكمة والإرادة والإتقان مع أن كل شيئ في الوجود ناطق به,دال عليه.
وإما أن يقر بالإرادة والحكمة والإتقان والإبداع, ثم بالخالق العليم,وهذا ما لا يريده, ولا يستقيم مع ما اختار لنفسه من كفر وإلحاد.
لكن الفيلسوف الملحد وجد ضالته في أن يقر بالإرادة, والإبداع والإتقان, لكن لا يرجع ذلك إلى الله الحق- سبحانه-, بل يرجع ذلك ويسنده إلى الطبيعة الجامدة,والمادة الميتة, التي لا تملك من أمر نفسها قليلاً ولا كثيراً !! وهكذا كان أمر الفيلسوف الذي رفض الإيمان بوجود رب خالق حكيم, وأسند صفات الله- سبحانه- إلى الطبيعة, أو إلى المادة, وبذلك لم يصنع شيئاً سوى أن استبدل الإيمان بالمادة بالإيمان بالله- تعالى- وجعل من المادة ربه وإلهه, فكان من الذين قال الله- تباركت أسماؤه- فيهم: ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم ، وجعل على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله ؟ ) .
لقد قامت فلسفة شوبنهاور على الأسس الآتية:
أولاً: أن الوجود عبارة عن المادة المطلقة, فليس في الوجود سوى المادة وأن القول بوجود مفارق لمادة غير مادي فاعل فيها- يقصد وجود الله عز وجل- هو قول خطأ, وفكرة فاسدة, ترجع إلى تصورات الذات, وأوهام النفس, التي لا حقيقة لها في الخارج. إن رجع الأمور إلى قوة خارجة عن المادة الطبيعية, هو من أوهام الذات. وفي ذلك يقول ((شوبنهاور)): ((إن الإحساس حالة ذاتية, ولكن الفهم والتصور الذاتي يضيفه فوراً إلى علة خارجية, نتصورها فاعلة في الزمان مستقلة عنا في المكان)) ويرى الفيلسوف الملحد أن العلم المادي كاف بنفسه لتفسير كل ألغازه وما يجرى فيه, وليس بحاجة إلى وجود قوة خارجة عنه, وبذلك يقرر الملحد أن الوجود ليس بحاجة إلى إله.
ثانياً: أن العلم عبارة عن ((إرادة وفكرة)).
فالفكرة هي تصوراتنا الذاتية عن العالم الخارجي, والتي تكون غالباً غير صحيحة وغير واقعية. وأما الإرادة فهي جوهر الوجود المادي الحقيقي, إن العلم عبارة عن إرادة كلية شاملة, وهذه الإرادة لها غايات وأهداف تسعي إلى تحقيقها, وهي تحقق غاياتها بوسائل من خلقها وصنعها, وكل شيئ في الوجود من الجماد إلى الإنسان, مروراً بالنبات والحشرات والحيوان, كل ذلك خاضع لتلك الإرادة الكلية التي تملكها الطبيعة,وتسير كل شيئ من خلالها.
ثالثاً: الإرادة الكلية في الطبيعة عنايتها تنصب على الحفاظ على الحياة في الأنواع, ولذلك تهتم بالإبقاء على الأنواع في النبات والحشرات والحيوان والإنسان, وهي في اهتمامها بالنوع, لا تلقي بالاً إلى الأفراد الذين تطحنهم الآلام, ويعذبهم الشقاء, ويغرقون في بحار المآسي والشرور.
رابعاً: الموت هو عدو الإرادة الكلية, وهو الذي يحاول أن يقضي على الحياة والأحياء, ولكن الإرادة الكلية تهزمه عن طريق غريزة الجنس التي تدفع الأحياء إلى التزاوج والتناسل , وبذلك تعوض الإرادة عن طريق النسل ما يأخذه الموت, وتبقي الحياة والأحياء تحقيقاً لرغبة الإرادة الكلية.
خامساً: الحياة كلها, بل الوجود كله شرور وأحزان ومشقات وآلام, وليس في الوجود كله خير قط, ولا يعرف معنى السعادة, وأقصى ما يتصور من خير في الوجود , أن تقل شروره نوعاً أو تخف آلامه هوناً.
الشر والشقاء والتعاسة هي جوهر الحياة, وحقيقة الوجود, وهذه الأشياء هي الجانب الإيجابي في الحياة, أما ما يسمي بالسعادة, أو اللذة, أو الخير أو غير ذلك , فليست أموراً إيجابية, بل هي أمور سلبية, بمعنى أن السعادة ليست إلا سلب الآلام, واختفاء الشقاء أو التخفيف منه قليلا ، ومن ثم فلا وجود لشيئ اسمه السعادة أو اللذة ، ولكن هناك شقاء وتعاسة وآلام, قد تكون شديدة,وقد تخف قليلاً أو كثيراً, فيسمي الناس هذه الحالة سعادة أو لذة.
سادساً: وسيلة الإرادة الكلية في تنفيذ غايتها من بقاء النوع في الإنسان أمران: العقل, والغريزة الجنسية.(51/284)
أما العقل فهو وسيلة من وسائل الإرادة الكلية العمياء التي تعمل على بقاء النوع ليشقى ويتألم.. وقد كان حرياً بالإنسان أن يقتل نفسه منتحراً ليتخلص نهائياً من حياة كلها آلام وشقاء وتعاسة لا تنتهي, ولو فعل كل الناس ذلك لانتهت الحياة, وفشلت الإرادة الطبيعية في تحقيق أغراضها, وهنا يأتي دور العقل الذي هو من صنع الإرادة, حيث يقوم العقل بفلسفة الأشياء, ويخترع أفكاراً ومسوغات لاوجود لها. بهدف إقناع الإنسان بتقبل الشقاء والآلام والبؤس الذي تشتمل عليه الحياة, والرضى بذلك, بناء على أفكار وتصورات غير حقيقية يخترعها العقل, من مثل: وجود إله اقتضت حكمته ذلك , وأن ذلك لحكمة لا نعرفها ، ومن مثل: القول بوجود بعث بعد الموت, ودار أخرى سوف ينال فيها الصابرون أجر صبرهم ورضاهم, بل وترحيبهم بالشقاء والآلام في هذه الحياة. فهذه كلها أفكار وتصورات من اختراع العقل الذي هو أداة من أدوات الطبيعة الكلية العمياء.
وأما غريزة الجنس, فقد بينا أن دورها يقوم على إغراء الذكر بالأنثى, والأنثى بالذكر, وقد جعلت الإرادة العمياء هذه الغريزة أقوى غريزة في الكائن الحي من النبات حتى الإنسان, وما بينهما من حشرات وحيوان, كل ذلك لكي تقاوم تلك الغريزة ما يفعله الموت بالأنواع الحية فتظل الأنواع باقية, والأفراد يصطلون بشقاء الحياة وآلامها.
وفي الحديث عن غريزة الجنس, نلفت النظر إلى أن ((شوبنهاور)) له موقف خاص جداً من هذه الغريزة, وموقفه هذا كان أساساً لمواقف بعض الفلاسفة, وسنداً لمذاهبهم, وتحديداً مذهب ((فرويد)) في علم النفس ومدرسته التي قامت على أساس من التركيز على دافع الجنس.
إن شوبنهاور يعلي من شأن الدافع الجنسي لدى الإنسان والحيوان, ويجعل منه الركيزة الأساسية التي تدور عليها حياة الفرد والجماعة, بل يجعل منه الأساس الأوحد الذي تدور عليه الحياة عند كل الكائنات, وبخاصة الإنسان, ومن ثم فإن الجنس هو مفتاح السلوك الإنساني , وعلى أساس منه يمكن تفسير كل سلوك إنساني من الألف إلى الياء.. ((إنها – الغريزة الجنسية – في الحقيقة النقطة المركزية الخفية لجميع الأعمال والسلوك, وهي تسترق النظر إلى كل مكان رغم جميع الحجب والأقنعة التي ألقيت عليها, إن غريزة الجنس هي سبب الحرب والسلام, وهي أساس الجد والرصانة, وهدف الهزل والمزاح,ومعنى كل تلميح مبهم وغامض, إنها تبرز نفسها كسيدة للعالم ووارثته, جالسة في كمال قوتها تنظر نظرة ازدراء واستخفاف و سخرية, وتضحك على ما يعده الناس من قيود لتقييدها وكبتها وسجنها, ولا يستطيعون إلى ذلك سبيلا)) .
إن هذا الفكر عن الغريزة الجنسية لاشك أنه هو الأساس لمدرسة ((فرويد)) في علم النفس. وهذا وذاك وكل من نحا ذلك النحو, في ضلال مبين, وما يريدون من وراء ذلك الفكر إلا إلحاق الإنسان بالحيوان, بل وضعه في درك أسفل من درك الحيوان, حينما يلغون ما ميز الله- تعالى- الإنسان به من عقل وإدراك وتمييز, وتكليف, ويجعلون العقل مجرد خادم لهذا الغريزة الدنيا, لا عمل له إلا البحث والتخطيط لإشباعها, بأية وسيلة دون نظر لأية اعتبارات أخرى.
سابعاً: عود إلى ما قرره فيلسوف التشاؤم, من أن الوجود كله شر.فالوجود شر ., لأن الألم والتعاسة هما الشيء الإيجابي, وأما ما نسميه سعادة ولذة, فهو أمر سلبي, فلا يزيد عن كونه سلباً للألم أو تخفيفاً منه للحظة, ثم تنتهي تلك اللحظة ليأتي الألم من جديد.
والوجود شر., لأن غايات الكائن فيه لا تنتهي, ما أن تتحقق غاية من غاياته حتى يتطلع إلى غيرها, ولا تنتهي رغبات الإنسان, ولا تقف غاياته عند حد, وبذلك يظل يعاني الآلام والأحزان, ويكابد المشقات حتى تنتهي آلامه بالموت.
والوجود شر., لأن ما نحسبه لذات وسعادة, إنما هو مصدر للآلام والتعاسات, فإن الإنسان يظل يطلب لحظة اللذة والسعادة, فإذا ما تحققت وانقضت في وقت قصير, فإنها تصبح دافعاً له ليطلبها من جديد, وحين تنتهي يشعر بشقاء مضاعف لأنها انتهت, وعليه أن يكابد من جديد للحصول عليها.
والوجود شر., لأن الإنسان يعيش بين حالتين, إما في شقاء طلباً للذة والسعادة, وإما في ملل وسأم إذا تحققت تلك اللذات وتوفرت لديه, وكلا الحالين شقاء وألم وشر.
والناس في هذا المجال قسمان: الفقراء وهم يعيشون ألام الحرمان, وتعاسة الحاجة, فحياتهم خالية من اللذات, مليئة بالشقاء والألم, أما الأغنياء فيعيشون في آلام أيضاً, لكنها آلام الملل والسأم.
والوجود شر., لكن شروره ليست على مستوى واحد لدى جميع الكائنات, لكنها تتفاوت تبعاً لتفاوت الإدراك لدى الكائن. فكلما تدنى الإدراك ضعف الشعور بالألم, وكلما ترقى الإدراك قوي الشعور بالألم والشقاء.. لذلك كان الإنسان أكثر الكائنات آلاما وتعاسة وشقاء.. إن النبات خال من الإحساس, ولذلك فهو لا يحس بالألم, وأما الحيوانات فتشعر بالألم على قدر مستواها من الإحساس والشعور.. أما الإنسان فأكثرها شعوراً بالشقاء والألم والتعاسة. إن زيادة المعرفة في الإنسان تؤدي إلى زيادة آلامه, لأن القدر الأكبر في آلامنا كامن في تأمل الماضي, وفي التفكير فيما يقع في المستقبل.(51/285)
وأخيراً فإن الوجود شر, لأن الحياة ساحة قتال , لا يحيا كائن فيها إلا على حياة الكائنات الأخرى ؛ فالحيوانات المفترسة تفترس الإنسان, والإنسان يفترس العجماوات الأخرى كالأغنام والطيور, والجميع يفترس النبات, والنبات يفترس الهواء والماء وغيرها.. والوجود شر. ((إن الحياة شر لأنها حرب, وأينما وليت وجهك لا تقع عينك إلا على صراع وتبادل انتحاري بين الأحياء، وكل نوع يقاتل للفوز بالمادة والأرض والسيطرة . وحتى الجنس البشري يكشف في نفسه عن أبشع أنواع الصراع والنزاع ، والقاعدة : إنك إن لم تتذاءب – أي لم تكن ذئبا – أكلتك الذئاب )) .
ثامنا : لكل ما تقدم من أدلة على أن الحياة آلام ، والوجود شر – فيما يزعم الفيلسوف الملحد - فإن الفيسلوف يدعو إلى نبذ الحياة – ويرغب في الانتحار تخلصا من شقاء الحياة وشرورها .
والفيلسوف – وهو يرَغب في الانتحار ويدعو إليه – يبين أن الموت في ذاته لا يسبب للإنسان ألما قط ، ولكن الناس يتألمون من فكرة الموت أكثر مما يتألمون من الموت نفسه ؛ لأن الإنسان لايلتقي بالموت أبدا ، فكيف يتألم منه ؟ إن الإنسان طالما هو حي لم يمت ، فهو لا يرى الموت ولا يلتقي به ومن ثم لا يتألم منه ، فإذا ما انتحر الإنسان ومات ، فإن الموت حين يجيئ يكون الإنسان قد ذهب ، وعلى ذلك فالإنسان يخاف من فكرة الموت ، لكن الموت حين يجيئ ويقع يكون الإنسان قد استراح من شقاء الحياة وآلامها، وتخلص نهائيا من الإرادة الكلية العمياء الشريرة التي لا عمل لها إلا ترغيبه في الحياة وإغراؤه بها ليظل يصلى شقاءها وآلامها .
***********
نقد آراء شوبنهاور :
إن آراء هذا الفيلسوف, والرد عليها ونقدها , لا يتطلب منا إلا أن نخضع هذا الفيلسوف وأمثاله إلى فحص طبي لدي طبيب للأمراض النفسية والعقلية, ولو أننا فعلنا ذلك, لجاءنا الجواب بوضوح شديد, وهو أن هذه الآراء لا تزيد على كونها أوهاماً وتخاريف وأضاليل لإنسان مجنون أو معتوه, وأن هذه الآراء ما كان ينبغي لها أن تسجل وتبقي إلا لأن العصر الذي وجد فيه الرجل كان عصر ضلال وانحراف, وقد كثر فيه أمثال الرجل, فضلت فيه الموازين, وضاعت القيم, وانحرفت المبادئ, ولذلك نتج ذلك الفكر عن هؤلاء الناس في هذا العصر.
إن ضلال هذا الفكر أوضح من أن يوضح, وقد سبق لنا أن بينا المؤثرات التي أثرت في الرجل, والعوامل التي شكلت فكره, وهي مؤثرات على رأسها المرض العقلي والنفسي وما هو من هذا القبيل, وقد ذكرنا شذوذ الرجل في حياته العامة, من مثل اعتقاده بأن الناس جميعاً يتآمرون لقتله, حتى إنه لم يضع رأسه بين يدي حلاق طوال حياته خوفاً من أن يقتله, وما إلى ذلك من أمور بيناها عند الحديث عن مفتاح شخصيته .
ومع وضوح ضلال فكره, نشير إلى بعض مناحي هذا الضلال, وأسبابه- بإيجار-, إذ أن بيان الفساد في ذلك الفكر لا يحتاج إلى إسهاب :
أولاً : إن الرجل كفر بالله – سبحانه -, ونبذ الأديان كلها, وتحديداً نبذ النصرانية التي نشأ عليها. ورفض الاعتراف بأن للوجود خالقاً عليما حكيماً متقناً مبدعاً . . ورغم ذلك, فقد أثبت كل هذه الصفات لشيء من صنع خياله المريض, وفكره المجنون, وهو ما أسماه : " الإرادة الكلية العمياء الشريرة " ! وأثبت لهذه الإرادة غايات تسعى لتحقيقها . ووسائل تنفذ من خلالها إلى ما تشاء, وجعل الوجود كله مسخراً لهذه الإرادة, ومسيراً تبعاً لأهدافها, فأي شيئ فعله هذا الأبله الملحد حين نبذ الدين, ورفض الاعتراف بالله رب العالمين ثم انقلب ليثبت له رباً من صنع خياله, ويخلع عليه كل هذه الصفات؟!
لقد سبق وقررنا أن الرجل اختار الإلحاد والكفر, ولما وجد النظام والإتقان والغائية في كل ذرة من هذا الوجود, اضطر إلى الاعتراف بذلك, لكنه- إصرارا ًمنه على الإلحاد- ألحق ما رآه بشيء من صنع أوهامه أسماه الإرادة الكلية, ثم زيادة منه في الابتعاد عن عدوة الدين, وحتى لا يُظن أنه يتكلم عن الإله الحكيم المدبر, وصف معبوده ذاك بأنه " إرادة عمياء شريرة " .
إن علة الرجل الأساسية التي نتج عنها كل هذا الهراء, إنما هي إلحاده وكفره بالله رب العالمين- سبحانه -.
ثانياً : إن كفر الرجل وإلحاده أعمى قلبه ثم بصره عن أن يرى في الوجود سوى الشرور والآلام, ثم لم ير في الوجود إلا هذه الحياة الدنيا, وهذا القصور عنده جعله يصرخ بأعلى صوته من آلام الحياة وشرورها .
ولو أنه رأى أن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة, وأن ثمة حياة أخرى يسعى الناس إلى إعلان رصيدهم فيها من الحسنات, والباقيات الصالحات, وأن ما يكابدونه في هذه الحياة إنما يكابدونه وهم في غاية من السعادة, ونهاية من الرضى, لأنهم يدركون أن هذا رصيدهم الذي سيلقونه في الحياة الدائمة . . لو أدرك الرجل ذلك لعرف أن الحياة فيها الخير كما فيها الشر, وأن الخير فيها يزكو على الشر ويربو عليه .
ثم إن الحياة ليست شروراً خالصة, بل فيها خير كثير- كما ذكرنا - , لكن إلحاد الرجل وكفره سبب له مزيداً من التشاؤم, إضافة إلى ظروفه التي أشرنا إليها مما جعله يعمى عن كل خير, بل يرى الخير على أنه شر.(51/286)
إن زعمه بأن مطالب الإنسان وغاياته التي لا تنتهي مصدر آلام وشقاء للإنسان, ضلال منه, وفساد في فهمه, وانحراف في مزاجه.
فالإنسان يضع أمامه أهدافاً لحياته, ويسعى لتحقيق تلك الأهداف, وهو يشعر بالسعادة والرضا وهو يشعر بنفس السعادة وهو يتنقل من هدف إلى هدف, ويحقق غاية بعد غاية, ويرتفع من نجاح إلى نجاح, وليس في ذلك من تعاسة وآلام, بل فيه سعادة وهناءة بقدر ما يبذل الإنسان من مشقة وعناء .
إن الرجل في هذا كمثل رجل جاء من الغابات أو الأحراش لا يعرف عن المدينة شيئاً, ولا يعرف عن قضية التعليم وأنظمته قليلاً ولا كثيراً. . هذا الرجل رأى الطلاب وهم يدرسون نهاراً ويذاكرون ليلاً, ثم يسرعون إلى الامتحانات متوترين مرهقين, ثم ينتظرون متلهفين نتيجة الامتحانات, فإذا ما ظهرت ورأى السعادة طافحة على وجوه الناجحين. ثم رآهم يسرعون فرحين في بداية العام إلى المستويات الجديدة ليبدأوا رحلة كفاح جديدة وهم سعداء فرحين مستبشرين, رجل الغاب هذا سوف يقف فاغراً فاه في بلاهة وعته وغباء, يتعجب من هؤلاء البشر من الطلاب الذين يكدون ويكدحون, ثم ينتقلون إلى المراحل التالية, بعد أن حققوا المراحل السابقة, كل ذلك وهم سعداء. إن رجل الغاب هذا سوف يصف هؤلاء بالعته, ويصف حياتهم بالشقاء, ثم يصنفهم على أنهم آلات في يد إرادة عمياء تسخر منهم وتسخرهم ليعيشوا في شقاء. . . إن فيلسوف التشاؤم مثال متطابق مع رجل الغاب الذي تصورناه, إن الناس ينتقلون من هدف إلى هدف, ومن غاية إلى غاية,وهم يتسابقون في سعادة وسرور, إن لحظة واحدة من السعادة عند تحقيق الإنسان هدفه, تعدل سنوات من الكد والكدح لتحقيق هذا النجاح الذي حققه.
ثالثاً : إن الحياة ليست ساحة قتال كما يدعي فيلسوف الشرور والتعاسة, ولكن الحياة فيها من التعاون والتآزر بين الأحياء ما يزيد ويربو على ما فيها من نزاعات ومشاحنات .
إن التعاون بين الكائنات قائم وواضح على مستوى الأنواع بعضها مع بعض, فالنبات يعيش على ثاني أوكسيد الكربون الذي ينتجه الإنسان,والإنسان يعيش على الأوكسجين الذي ينتجه النبات . والنبات ينتج الرحيق الذي يعيش عليه النحل, والنحل ينقل في أرجله الملقحات من نبات إلى آخر, كذلك ينقل بذور النبات إلى أمكنة أخرى فتنبت فصائل جديدة. والإنسان يعيش على النبات, وكذلك على الحيوان كالأغنام, لكن عيشه وتغذيه عليها ليس خطراً عليها, بل هو في صالحها, فإن الإنسان يحرث الأرض, ويرويها ويبذر البذر وينتج النبات ويحافظ عليه ويكثر منه, وذلك بسبب كونه غذاء له, ولولا ذلك لما عني الإنسان بالنبات, ولما بقي النبات ونما, ولما وجدت منه فصائل جديدة, ولما وجد التربة المناسبة, والتسميد الجيد. على أن الإنسان إذا لم يأكل النبات حين يستوي فسوف يموت النبات من تلقاء نفسه ويجف وتذروه الرياح, فأي الأمرين خير بالنسبة للنبات؟
كذلك الأمر بالنسبة للحيوان الذي يعيش عليه الإنسان يسعى إلى العناية بها, وتحسين نسلها والإكثار منها, وتوفير الغذاء لها, فهو يغذيها إن جاعت, ويسقيها إن عطشت, ويداويها إن مرضت, كل ذلك بسبب كونه يعيش عليها, بينما الحيوانات التي لا يعيش الإنسان عليها تموت في الغابات جوعاً وعطشاً بسبب الجفاف أو العوامل الأخرى. ثم إن الإنسان إذا لم يأكل الشاة, وتركها تعيش., فهل ستخلد, أم أن مصيرها الموت؟ . . إذن فكون الإنسان يعيش على حيوان ما أو نبات ما, فإن ذلك في صالح النبات والحيوان, وليس شراً ولا اعتداء, ولا الحياة ساحة قتال كما ادعى الفيلسوف الملحد.
رابعاً : إن حياة الرجل وسيرته تكذبه في كل ما ادعاه في فلسفته, وبخاصة في دعوته إلى الموت انتحاراً تخلصاً من آلام الحياة وشرورها.
إن حياة الرجل كانت أشد شقاء وتعاسة من حياة الكثيرين, وقد عاش مريضاً تنتابه الوساوس والمخاوف وسوء الظن بمن حوله, وقضى الثلاثين عاماً الأخيرة من حياته في حجرتين وحيداً كئيباً, فأي الناس كان أحق بالانتحار منه تخلصاً من تلك الحياة التعسة بحق ؟!
لكن الرجل الذي مجد الموت, واعتبره المنقذ من شقاء الحياة, والذي تسبب في انتحار عدد من الذين اعتنقوا فلسفته وتأثروا بفكره, هذا الرجل ظل محباً للحياة, مستمسكاً بها حتى وصل سنه الثانية والسبعين ! وقد قضى حياته تلك لم يبخل على نفسه بشيء من متع الحياة التي زهّد فيها الآخرين, وزعم أنها شر وتعاسة !!
( المصدر : مذاهب فكرية معاصرة - عرض ونقد - ، للدكتور محمود مزروعة ، 189-207) .
من كتاب كواشف زيوف
شوبنهور وآراؤه الإلحادية
من هو "شوبنهور"؟
هو "آرثر شوبنهور" . فيلسوف ألماني تشاؤمي ملحد . عاش ما بين (1788-1860م).
ما يُهمُّنا عرضه من آرائه
1- قدّم "شوبنهور" آراءً فلسفيّةً بناها على إنكاره لوجود الرب الخالق العليم الحكيم المختار .
لقد عزل عن تصوره حقيقة الله وصفاته الجليلة ، فلم يلاحظ حكمته العظيمة في تصاريفه ومقاديره في خلقه .(51/287)
فتجسمت بين عينيه وتعاظمت في نفسه متاعب الحياة مشقياتها وآلامها ، ولم يجد بعد هذا مبرراً لوجود حياة أخرى غير هذه الحياة ، مادام الوجود لا يسير وفق منهج حكيم ، بحسب تصوره ذي النظر القاصر .
ولم يجد للآلام والمتاعب وأنواع الشقاء في هذه الحياة تفسيراً يبرّرها ، فرفض الرأي الفلسفيّ القائل : "عن الكون عقلٌ يتصرف".
عندئذٍ بدا له أن يعلل الوجود بأنه إرادةٌ عمياء ، ذات مطالب ، ومن مطالبها بقاء الحياة في الأنواع دون اكتراث بالأفراد ، وأن العقل أداة من أدوات الإرادة ، فالإرادة العمياء تريد أولاً ، ثمّ تستخدم العقل ليجد لها في منطقه مبرراته . وإرادة بقاء الحياة تستلزم أن يمرّ الأحياء على جسور الآلام والشقاء .
فحياة الناس شقاء في شقاء ، وآلام في آلام.
ولذلك أعجبه من آراء الفلسفة اليونانية ، أن اللذات كلها تخلص من الآلام.
ففكرته في تعليل أحداث الكون وكل ما يجري فيه قامت على أساس "أن العالم إرادة فقط" بلا علم ولا حكمة ولا عناية ولا رحمة ولا عدل . وقد ترتب على هذه الإرادة العمياء كفاح وجهاد وكدح متواصل ، وهذه الأمور لا بد أن ينتج عنها بؤسٌ وشقاء .
وبالمنظار نفسه نظر إلى الدافع الجنسي ، فرآه إرادةً عمياء ، هدفها أن تهدم بالنسل عدوّها الذي هو الموت ، وسمّى ذلك إرادة النسل ، رغم ما يتضمّن التناسل من عناء وتضحية.
ورأى أن إرادة التناسل تسر في مجالها مستقلّة عن العقل سيراً أعمى . فأعضاء التناسل في تصور "شوبنهور" هي بؤرة الإرادة بعينها ، وهي المركز الذي يقابله المخّ الذي يمثّل المعرفة من ناحية أخرى . وأعضاء التناسل هي أساس حفظ الحياة ، لأنها تتضمّن حياة لا تنتهي ، ومن أجل هذا عبدها اليونان واليهود منذ القدم .
ورأى "شوبنهور" أن العلاقة بين الجنسين هي في الواقع النقطة المركزية الخفيّة لكل عمل وسلوك ، وهي تتجلى في كل شيء ، برغم ما نحاول سترها به من الأقنعة . إنها سبب الحروب ، وهي الغاية من السلام ، وهي أساس الجد ، وهي الغاية من المزاح ، وهي الينبوع الفيّاض لمستلمح النكات ، وهي مفتاح كل تلميح ، ومعنى كل ما غمض من العبارات ... إننا نراها لا تني في رفع نفسها لتكون سيدة العالم سيادة وراثيّة حقيقيّة ... إنها لتهزأ من السيطرة عليها سيطرة تنزل بها إلى منزلة من الحياة ثانوية فرعية .
وقال "شوبنهور" :
"يجب أن نعتبر الغريزة الجنسية روح شجرة النوع التي تنمو عليها حياة الفرد ... ولئن أردنا أن نهزم الإرادة هزيمة منكرة لا يكون لها قيام بعدها ، فلن يكون لنا هذا إلا في استئصال معين الحياة" .
أي : في مقاومة إرادة النسل .
وأفاض "شوبنهور" فيما أسماه إرادة التناسل إفاضة مسرفة .
2- وخبط "شوبنهور" في أودية الأوهام الفكرية ، والخرافات التصورية ، معللاً بها الوجود وأحداثه بعيداً عن قضية الإيمان بالله ،فانتهى به الأمر إلى تقرير أن العالم شرٌّ ، وذلك للأسباب التاليات :
السبب الأول : أن الإرادة لا تنتهي مطالبها ، وبذلك يظل الإنسان في شقاء مستمر ، فما يحققه اليوم لا يرضيه ولا يقنعه ، إذ يتجدد لديه مطلب جديد يشقى لتحقيقه من جديد ، فهو دوماً ينقل شقاء اليوم إلى الغد .
كشف علة دائه هنا
كان من الممكن أن يكون في يده مفتاح السعادة لو أراد ، وأن يتحوّل شقاؤه إلى ابتهاج وأمل وطمأنينة وراحة نفس ، لو أنه آمن بالله واليوم الآخر .
لأنه حينئذٍ يربط كلّ مطالب إرادته المتجددة والتي لا تنتهي ، بالحياة الأخرى ، فيعملُ لها ، ويسعد بما يعمل ، وتستمرّ لديه لذّات الأمل ، مع راحة نفسه ، وطمأنينة قلبه ، فإيمانه بالله واليوم الآخر يجعله مطمئناً بأنه سيحصل على كل ما يتصور من مطالب ، وكل ما يتجدد لديه منها مهما اشتط في التخيل والتصور ، مع مزيد لم يخطر على قلبه ، ولا يخطر على قلب أو تصور أحد سواه من الناس .
وقد خلق الله في الإنسان هذه الطموحات الواسعة ، ولم يجعل في الحياة الدنيا وسائل لتحقيقها ، لتكون دافعاً له حتى يرتبط بالحياة الأخرى ، ولتكون مساعداً له على تجديد إيمانه وتثبيته ، والعمل الصالح الذي يظفره بتحقيق كل طموحاته المتجدّدة ، وفوقها مزيد .
لكن الكفر بالله وباليوم الآخر ، قد جرّه إلى ربط كلّ طموحاته المتجدّدة بالحياة الدنيا ، وهي لم تتهيأْ لتحقيقها ، فجرّه ذلك إلى مشاعر الشقاء التي عانى منها ، ويعاني منها كل كافر بالله واليوم الآخر .
السبب الثاني : أن الألم هو الدافع الأساسي لهذا العالم وحقيقته الجوهرية ، وليست اللذة إلا امتناعاً سلبياً للألم .
ورأى أن أرسطو قد أصاب إذْ قال : إنه لا ينبغي للحكيم أن ينشد اللذة ، وحسبه أن يتخلص من الألم والشقاء .
كشف علة خطئه هنا
ترجع علة خطئه هنا إلى رؤيته الناقصة الجزئية المحدودة ، التي جعلته لا يرى من المشاعر إلا مشاعر الألم والشقاء به .
وقد جرّه إلى هذه الرؤية الناقصة الجزئية ، حالته النفسية المكتئبة الشقية ، التي جلبها إليه في الحقيقة كفره بالله واليوم الآخر .
مع أن المشاعر التي يحسّ الناس بها جميعاً تتدرج على سلم متعدد الدرجات .(51/288)
* فأوسطه الراحة والسكينة والطمأنينة ، ومن أمثلتها راحة النائم حينما لا تهزّه الرؤى ، وراحة الراضي عن الله فيما تجري به مقاديره ، والراحة النفسية التي تجلبها صلاة الخاشع .
* وفوق الأوسط من هذا السلم درجات إيجابيات حركة اللذة ، وما يصاحبها من سعادة .
* ودون الأوسط من هذا السلم دركات إيجابيات حركة الألم وما يصاحبه من شقاء . وهي دركات متنازلات ، بعضها أشدّ من بعض .
* وقد تجتمع مشاعر اللذة والألم في وقت واحد باختلاف مصادرهما ، كالزاني الخائف ، والمريض المتألم الذي يستمتع بلذة سمع أو بصر أو لمس أو ذوق ، فتخفف اللذة من شدة مشاعر الألم ، ويخفف الألم من نسبة الإحساس باللذة.
والمفاهيم الإسلامية في القرآن والسنة قد أبانت هذه القسمة الثلاثية للمشاعر الإنسانية .
* فأبانت الأوسط بتعبيراتها عن السكينة والطمأنينة والراحة ، منها قول الله عز وجل في سورة (النبأ مصحف/80 نزول):
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي : راحة .
* وأبانت إيجابيات اللذة ، ومتَعها في الحياة الدنيا ، ونعيمها المقيم في الآخرة .
* وأبانت إيجابيات الألم ، ومسّ عذابه في الحياة الدنيا ، وشدّته الكبرى لمستحقيه يوم الدين .
ووجود اللذة والألم في الحياة الدنيا ضروريان للامتحان فيها .
السبب الثالث : أنه كلما علا الكائن العضوي في سلم الارتقاء وارتفع ، ازداد ما يعانيه من ألم ، وأن زيادة معرفته لا تحل من الإشكال شيئاً .
السبب الرابع : أنه لا تكاد الحاجة والألم يسمحان للإنسان بشيء من الراحة ، حتى يشعر بالسآمة على الفور ، فلا يكون له غنىً عن التسلية .
وكشف علة خطئه في هذين السببين : الثالث والرابع ، يستدعي إعادة بيان علة دائه التي سبق كشفها تعقيباً على السبب الأول .
السبب الخامس : أن القتال في الحياة لا ينقطع ، إنها بين قاتل ومقتول ، حتى إن الكائن الحي قد يقتل نفسه ليبقى النوع .
كشف خطئه هنا
يرجع خطؤه هنا أيضاً إلى رؤيته الناقصة القاصرة للوجود ، وللحكمة منه .
إنه لو أبصر أن الحياة الدنيا كلها بمثابة جسر صغير أُعدّ للامتحان فقط . وأن الحياة الأخرى التي ستأتي وراء هذا الجسر ، ووراء الفاصل الزمني الذي بعده وهو برزخ انتظار قبل البعث ، إنما هي الحياة الأبدية الخالدة بتقدير الرب الخالق .
إنه لو أبصر ذلك لأدرك أن كل ما يجري في هذه الحياة الدنيا ضروري جداً ، لاستيفاء شروط الامتحان الأمثل للإنسان .
فهل يصنع الناس امتحاناتهم ومسابقاتهم فيما بينهم دون عقبات ومتاعب ، وموجبات جهادٍ وكفاح .
إنه لو أبصر ما جاءت به المفاهيم الدينية الحقة ، لأدرك أن الموت لا بد منه في هذه الحياة الدنيا ، وأن الحي الذي لا يموت مقتولاً يموت حتف أنفه لا محالة : "كل نفس ذائقة الموت".
ولأدرك أن تمكين القاتل من اتخاذ وسائل لقتل الحي ، هو عنصر من عناصر امتحان الإنسان أمام نوازع غضبه ، ومطامعه ، وأهوائه وشهواته .
ولما كان من أول عناصر امتحان إرادة الإنسان ، امتحانها في الاعتقاد بالحق الأكبر الذي تقوم عليه الأدلة الفكرية البرهانية ، وهو الله وصفاته وأسماؤه الحسنى ، وحكمته في مقاديره ، وحقه في طاعته وعبادته ، ورجاء ثوابه وخوف عقابه ، كان من لوازم هذا الامتحان ، أن تكون مع الأدلة الفكرية البرهانية شبهات توضع في الوجود ، لتكون بمثابة الغطاء الرقيق على اللغز الغيبي عن الحواس ، الواضح للأفكار ، ليصلوا إليه عقلياً ووجدانايً ، فيؤمنوا به .
أما الإرادة التي لم تستجب لنوازع الكبر ورغبات الفجور ، فإنها تستفتي الفكر الحَصيف ، المحفوظ والمؤيّد بالفطرة النظيفة ، والوجدان السليم ، فتطرح الغطاء الرقيق ، ولا تعتبره مشكلة في مجال الامتحان ، بل تأخذ المضمون الذي هو الحقيقة ، وتعتبر الغطاء التمويهي الرقيق من لوازم طبيعة الامتحان الأمثل .
أما الإرادة التي استجابت لنوازع الكبر أو رغبات الفجور في الأرض ، فإنها تتخذ من هذا الغطاء الرقيق مشكلة ، فتتشبث به لإنكار الحقيقة ، التي هي المضمون الذي دلت عليه البراهين العقلية .
أفيترك المضمون الحق من أجل غلالة شبهة ، لا تثبت أمام أي فكر باحث ، قادر على إيجاد تفسير سليم لها ، تجعلها متلائمة مع المضمون ؟!
ويمكن أن نقول هنا : إن وجود الحيوانات القاتلة المفترسة في عالم الأحياء ، هو غلالة من هذه الغلالات ، التي يختبر فيها فكر الإنسان وإرادته ، أمام قضية الإيمان بالله عز وجل وبحكمته .
على أن ملك الموت هو قاتل على كل حال ، بمعنى أنه قابض للروح ، سواء أجاء مع علة مرض ، أو مع سكتة قلبية ، أو مع سقوط من شاهق ، أو مع ضربة سيف ، أو مع عضة أنياب حيوانٍ مفترس ، أو مع قبضة مخالب طير كاسر ، أو في فم حوت آكل ، أو مع غير ذلك من قواتل .
تعقيب أخير
لقد تنازعت "شوبنهور" كل هذه التخبُّطات الفكرية والنفسية ، فمزّقته أشتاتاً ، ورمته على جمرات الشقاء ، وأشواك الآلام ، ،لأنه عزل عن تصوره قضية الإيمان بالرب الخالق ، القدير العليم الحكيم المختار ، والإيمان بحكمة الابتلاء ، وما يستتبع الابتلاء من جزاء في حياة أخرى خالدة غير هذه الحياة .(51/289)
لذلك رأى الحياة الدنيا تعاسةً وشقاءً وشراً ، ولا غرو أن هذه المشاعر المشقية لأصحابها ، هي من الجزاء المعجل الذي يُعاقب به الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر .
============(51/290)
(51/291)
كارل ساغان .. ذلك الماكر المخادع .. وا أسفاه على من يُصدق هؤلاء الماكرين
إن شعورا بالألم والحسرة يجتاح جوانبي وأنا أكتب هذا البحث الخطير الذي أسجل فيه حجم المكر والدهاء الذي تعرض له الدين على يد شخصيات حقيرة كرهت الدين بسبب ممارسات رجال الدين في الغرب فما كان منها إلا أن تمكر وتكذب كرد فعل تجاه تعسف رجالات الدين ولكن هذه التشكيكات قد وصلتنا نحن وللأسف تبناها السذج من العقول المسلمة وظنوا أنها طالما أتت من الغرب ففيها الحقيقة العلمية لا محالة ........
وهل إنسان بلتداون منَّا ببعيد ؟؟؟؟؟؟
ففي سنة 1912 صاح دُعاة التطور وهاجوا وماجوا لقد اكتشفوا إنسان بلتداون ( اكتشفوا منه جمجمة وفك )وقدَّروا عمره بين 500 ألف و750 ألف سنة وأنه الجد الاكبر للإنسان الحالي ...... وقام الفنانين بتصور الشكل كاملا وتم تقديم ما لا يقل عن خمسمائة رسالة دكتوراة بخصوص الأمر ........ وما أن يأتي عام 1950 ويتم وضع أجزاء من إنسان بلتداون للتحليل الكيميائي إلا وتظهر الخديعة الكبرى ..... إنه إنسان مُزور .... إنها تلفيقة كبرى لقد اكتشفوا أن الجمجمة مطلية بأملاح الحديد وأن الفك عمره بضعة سنوات وليس 500 ألف سنة !!!!!!! لماذا كذب العلماء ؟؟؟؟ لماذا قام دُعاة التطور بالتلفيق ؟؟؟؟؟ لماذا قاموا بهذه العملية الدنيئة من التزييف ؟؟؟ بل إن الأدوات البدائية المكتشفة مع المتحجرات هي مجرد أدوات بسيطة مقلَّدة، شُحذت بواسطة أدوات فولاذية..وفي التحليل المفصل الذي أتمه وينر سنة 1953، تم الكشف للجمهور عن هذا التزوير، إذ كانت الجمجمة تخص إنساناً عمره نحو خمسمئة سنة، في حين كانت عظمة الفك السفلي تخص قرداً مات مؤخراً، وقد تم ترتيب الأسنان على نحو خاص في شكل صف، ثم أُضيفت إلى الفك وتم حشو المفاصل لكي يبدو الفك شبيهاً بفك الإنسان... وفي أعقاب كل هذه الأحداث، تم نقل إنسان بيلتداون على عجل من المتحف البريطاني، بعدما عرض فيه لمدة تزيد عن أربعين سنة!
إنسان بلتداون المزيف
وهل نسينا إنسان نبراسكا!!!!!!!!!!!
في سنة 1922, أعلن هنري فيرفيلد أوسبرن، مدير المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، عن عثوره على ضرس متحجرة في غرب نبراسكا. وزعم البعض أن هذا الضرس يحمل صفاتٍ مشتركةً بين كل من الإنسان والقرد، . وقد أطلق على هذه الحفرية، التي أحدثت جدالاً مكثفاً، اسم إنسان نبراسكا، كما أُعطيت -في الحال- اسماً علمياً هو: هسبيروبايثيكوس هارولد(Hespe r opithecus ha r oldcooki).
واستناداً إلى هذا الضرس الأوحد، رُسمت إعادة بناء لرأس إنسان نبراسكا وجسده.!!!.. وأكثر من هذا، فقد تم رسم إنسان نبراسكا مع زوجته وأطفاله في شكل عائلة كاملة في محيط طبيعي!!!
وفي سنة 1927 عُثر على أجزاء أخرى من الهيكل العظمي لإنسان نبراسكا.. ووفقاً لهذه الأجزاء المكتشفة حديثاً، لم يكن الضرس يخص لا إنساناً ولا قرداً.. وأدرك الجميع أنه يخصّ نوعاً منقرضاً من الخنازير الأمريكية البرية يسمى (p r osthennops)، وبعد ذلك، تم على عجل إزالة كل رسوم الهسبيروبايثيكوس هارولدوعائلته من أدبيات التطور!
إنسان نبراسكا المزيف ونأسف لمن ألحد بسبب هذه الأمور فقد تبين أن هناك عالم كذاب مخادع قام بهذا الفخ لتضليل البشر
وغيرها وغيرها الكثير والكثير من فضائح القوم .........
كارل ساغان ذلك الماكر اللئيم
كارل ساغان أحد الأعمدة التي يستند عليها الملاحدة وهو عالم فلك أمريكي شهير ..... مجرد المطالعة لكتاباته تعطيك إنطباعا سريعا عن شخصية الرجل المتعجرفة المتكبرة .... وانظر حتى لتقديمه لكتاب ستيفن هوكنغ، الذي صدر بعنوان (موجز تاريخ الزمن)...... وها هي زوجته تعلن على الملأ أن قتل الأجنة ليس فيه أي مانع أخلاقي فالجنين ما هو إلا طورا حيوانيا يظل ينمو حتى يصير إنسانا وهذه الماكرة التي تتهجم على قداسة النفس الإنسانية تُشير إلى أن الإنسان في المرحلة الجنينية لا يعدو أن يكون حيوانا تلك النظرية التي سقطت وصارت أضحوكة عند العلماء فهذه النظرية قد بُطُل إستعمالها منذ ما يربو على ثلث القرن تقريبا بل ويقول Geo r ge Simpson بجامعة Ha r va r d بالحرف الواحد أنه قد أُتفق على أن الحياة الجنينية لا علاقة لها أصلا بعملية التطور فالأمر نمو وليس تطور ..... فقد كانت هناك خرافة تقول أن الجنين في مرحلة معينة به خياشيم والأمر لا يعدو أن تكون تجاويف بالصدر ....!!!!
إن هناك عداءا عجيبا بين مفكري الغرب ورجال الدين عندهم وهل ننسى فيكتور هوجو عندما كان على فراش الموت وأتاه قسيس فأمر بطرده خارج المنزل ..........!!!!!!!!! إنه عداء ندفع نحن ثمنه ..... يدفع ثمنه السُذج من المسلمين الذين يُصدقون الغرب..لكن ما دخلنا نحن بهؤلاء ؟؟؟ لماذا نُصر على إتباعهم لماذا نُصِّر على الدخول في جحر الضب الذي حذرنا منه رسول ا صلى الله عليه وسلم ((لتتبعن سنة من كان قبلكم باعا بباع وذراعا بذراع وشبرا بشبر حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم فيه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن إذا .( حسن صحيح )) ..............(51/292)
لماذا لا نَشرُف بقرآننا ؟؟؟؟ لقد خلق القرآن من الهباء أُمة ضخمة واتسبقى على القرون جيلا من الناس ما كانوا ليدخلوا التاريخ أبدا لولا نهوض هذا الكتاب بهم .....
إنني كما قلت سابقا للأسف إننا نِمنا في النور بينما غيرنا استيقظ في الظلام
إن المسلمين ونقولها آسفين قد ظلموا الحق الذي توارثوا آياته في صحائفهم ..........
إننا كان لابد أن نترك قيادة الأمم في هذا القرن .... كُنَّا سنظلم الإسلام الذي نحمله فنحن لا نستحق الآن فعلا أن نكون قادة ... إن الشرط الذي اشترطه الله علينا لنقود العالم قد خالفناه وتركناه بمنتهى الجهل والسفاهة لقد اشترط الله علينا للتكمين في الأرض أن {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (41) سورة الحج ... هذا هو شرط التمكين نحن نستحق ما نحن فيه الآن وإلا لظلمنا الإسلام الذي نحمله .... إننا لو كنا قادة العالم الآن ونحن بهذا البعد عن الدين لما كان إذن للإسلام فضل علينا ...
لكن أقسم بالله ثقوا ان الذين يحاولون أن يُطفئوا نور شموعنا سيبقون معنا في ظلام ... لأنه ليس لهم نور ..... وأنا أقصد نور الأمن الداخلي ... الأمن النفسي فشرط الأمن هو الإيمان {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (82) سورة الأنعام
أتغدوا الهند خيرا من بلادي ******** وخيرا من بني قومي الهنود
أما والله لو كنَّا قرودا********* لما رضيت بعيشتنا القرود
إنه لو قُدر أن مخترع القنبلة الذرية نشأ في بلادنا ... أقسم بالله لا أستبعد أن يرسب في إمتحان الفيزياء المكدسة للثانوية العامة .... إنه من الظلم أن يحمل الإسلام كل هذه الأثقال المنوعة من نواحي سلوكنا ..!
إن الحديث ذو شجون والمكر والخداع الذي تتعرض له أمتنا لا يُحصى .... لكن المُحزن والمؤلم حقا أن المصفقين والمطبلين لهذا المكر هم من بني جدلتنا ويتكلمون بألسنتنا ...... إن هناك كُفرا أساسه الخيال أو الشعور الموقوت أو التأثر العاجل وإيجاد هذا الكفر سهل والإستمرار عليه مستحيل إلا لمرضى القلوب .... وهذا النوع من الكفر وقع فيه أغلب هؤلاء نسأل الله أن يردهم إلى دينهم ردا جميلا ...
فماذا جنى العالم من جحده للألوهية إلا شقاء يرجم العالم بالدماء في أيام الحروب ويرجمه بالقلق في أيام السلام فهو بين الحرب الباردة والساخنة محطوم الأعصاب فارغ الفؤاد
لا أنكر أن المسلمين في الفترة الحالية بحمد الله إلى خير لكن الضعف في القيادة .....
(وبين أيدي الناس اليوم أجزاء من الفطرة التي شرح الإسلام فروعها وكل جزء منها بارز في حياة قطر من الأقطار بروزا جديرا بالإحترام ... إنني معجب برحابة الحرية الميسرة للفرد في العالم الغربي ومعجب بكفالة الضرورات المطلوبة للناس في العالم الشرقي ومعجب بطمأنينة القلب التي يخلقها اليقين في المجتمع الإسلامي غير ان الدين ليس واحدة فقط من هذه الحالات المبعثرة على جنبات العالم العريض إن حقيقة سماوية تشع ذلك الخير وتنصح الناس بجدواه ... إن من أشد الرزايا على الناس انقسام حقائق الفطرة بينهم وذهاب كل فريق منهم بشطر منقوص يكمله بوحي الشيطان ثم يعيش وكان بين يديه الحق كاملا ... )
** بعض الفقرات في هذا البحث من كتابات الشيخ الغزالي رحمه الله ...
لا يصدق من أولئك المسلمين إلا واحد من اثنين:
فريق جاهل بدينه فالله جل في علاه أوضح لنا في كتابه الكريم أنه خلق الإنسان الأول وهو أب البشر آدم عليه السلام في صورة جميلة {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }التين4
وزوده بما احتاجه من العلم {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }البقرة31
وفضله على سائر مخلوقاته {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }الإسراء70
وخلق المخلوقات لأجله :-
{اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ }إبراهيم32
{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }النحل12
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }النحل14(51/293)
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }الحج36
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }الحج65
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ }لقمان20
{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ }الزخرف13
{اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }الجاثية12
أما الفريق الثاني فهو عدو يعرف الحقيقة ولكن عداءه للإسلام يدفعه لتصديق أكاذيب الملاحدة التي ما عادت تنطلي على أحد من حملة العلم الصحيح فقد انفضح القوم بعد اكتشاف تلفيقهم لكائنات قاموا بلصق أعضاء من كائنات مختلفة ليوهموا العالم أن أصل الناس قرود.
يبدو أن أجدادهم قرود فحقدوا على الجميع
================(51/294)
(51/295)
طه حسين".. وسقوط القناع الزائف
على عبدالعال
يعد الدكتور طه حسين، واحداً من أهم الشخصيات التى أثارت حولها الجدل، ونشبت المعارك والمساجلات على آرائها وأفكارها، ومثلت اتجاهاتها التغريبية انقلاباً عنيفاً على المجتمع وأهله والبيئة التى نشأ فيها.
عاش الرجل حياة حافلة بالسعى دون أن يفتر فيها طرفة عين، عن بث سموم التشكيك والتغريب والإلحاد فى عروق الأمة التى أريد لها أن تنبض بالعداء.
وكان فى مقدمة الجيل الذى احتضنته المعاهد الغربية، والتى قامت فى أوروبا لإعداد دعاة من أبناء العرب والمسلمين، ينقلبون على العربية والإسلام، ويتولون عنها إحتواء خيرة العقول المسلمة لإخراجها من قيمها ودينها.
ولما أخذ الجدال حول هذه الشخصية يتجدد على ساحات الأقلام، فقد آن لنا أن نبحث فى تاريخ الرجل، لنبين للأمة المسلمة، على أى أساس أتهم طه حسين، بأنه قضى حياته يعمل فى صفوف أعدائها قلباً وقالباً.
لائحة الإتهام المقدمة ضد الدكتور طه حسين
وتتضمن لائحة الإتهام، مجموعة الأفكار والآراء المسمومة، التي عمل في ظلالها الدكتور طه حسسين.
فمن خلال المجالات العديدة التي عمل بها ( ثقافية ــ تعليمية ــ فكرية ــ أدبية ) لم يأل الرجلُ جهداً فى بث سمومه وشكوكه، داخل المجتمع المصري والمجتمع العربي والإسلامي من ورائه، ومن ذلك أنه كان يرى ضرورة فصل الدراسات الأدبية عن روح الإسلام ومثله .. تحت لافتة حرية البحث الأدبى.
فلا يكون على الشاعر والفنان حرج فى أن يصور الرذيلة كيف شاء، وهو مذهب اباحى، كان جزءاً من رسالته ومنهجه الذى أشاع من خلاله أدب المجون والجنس والرذيلة، ودفع بالأدب إلى أوحال الشهوات والإباحية.
يقول الأديب الأستاذ، إبراهيم عبدالقادر المازنى : " ولقد لفتنى إلى الدكتور طه حسين، فى كتابه (حديث الأربعاء) أن له ولعاً بتعقب الزناة والفساق والفجرة والزنادقة ... وهو ماحمله ـــ طه حسين ـــ على قوله فى العصر العباسى : " إن القرن الثانى للهجرة كان عصر شك ومجون وعصر إفتتان وإلحاد عن الأخلاق، والعادات الموروثة والدين" ... إلى أن قال الدكتور طه، فى وصفه لذلك : " خسرت الأخلاق من هذا التطور وربح الأدب" .
كما حاول طه حسين، إخضاع الأدب العربى، والفكر الإسلامى والتاريخ، لمناهج ونظريات الأدب العربى، وروحه القائمة على المادية الغربية وعلى إستعلاء الغرب المستعمر على العرب والمسلمين.
ولم يترك مقولة شاردة، لمستشرق حاقد، إلا نقلها وادعاها لنفسه، كما أعلى من شأن الأدب اليونانى القديم، والفرنسى الحديث، ولم يضيع فرصة للإشادة بهما إرضاءاً لسادته الفرنسيين أولاً ثم الأمريكان من بعد، وشغف بأسلوب الشك والتهكم والظن والإدعاء بدون دليل يعتمد على سند علمى صحيح.
ودعا إلى فصل اللغة العربية عن الدين الإسلامى، وهو هدف تغريبى قديم يرمى إلى إسقاط مكانة اللغة العربية بإعتبارها لغة القرآن الكريم، وقطع الصلات التى ترط الدراسات العربية، بالدراسات الإسلامية.
كما سعى إلى محو دور الأزهر الدينى، داخل المجتمع المصرى، باستبعاده عن القيام بوظيفة تعليم الدين، لأن مناهجه ـــ كما يزعم ـــ لاتحقق للدارسين عمق الثقافة وحرية الفكر، وكان يهدف من ذلك إلى خطف دراسات الإسلام من الأزهر، ونقلها إلى كلية الآداب التى يقوم أسلوب التدريس بها على منهج علمانى مادى.
ودعا إلى ما أسماه ( تطوير النحو) وكانت هذه دعوة خبيثة، ترمى إلى صرف الناس عن دراسة كتب النحو القديم والبلاغة القديمة، بدعوى أن القواعد القديمة معقدة.
ورد على هذه الفرية، الدكتور محمد محمد حسين بقوله : " والنحو العربى ولا أقول : النحو القديم ـــ ماعيبه وهل هو حقاً كما يزعمون معقد صعب؟ وهل ثبت فشله كما يزعمون فى تنشئة جيل عربى يقيم عربيته ويحسن ذوقها، نحونا وبلاغتنا لاعيب فيهما، .. وهذه الدعوات التى توصف بدعوى التبشير والإصلاح، هى دعوات مفتعلة يروجها هدامون وينساق ورائها مغفلون " .
كما زعم طه حسين أن عقلية مصر، عقلية يونانية، وانه لابد أن تعود مصر إلى أحضان فلسلفة اليونان، ومن ثم كانت دعوته الملحة إلى جعل المثل الأعلى للحضارة يونانياً وأن يكون قادة الفكر الإنسانى هم : (هوميروس) و(سقراط) و(أفلاطون) و(أرسطو) فيقول :" لو أن الحضارة الحاضرة أزيلت وأريد تأسيسها حضارة جديدة لكانت فلسفة أرسطو أساساً لها" .
وفى كتابه (رحلة الربيع) يقول : " إنها (أثينا) هى التى أرست للأجيال وللإنسانية طريقها الذى سلكته وستسلكه مدى الحياة" .
حاول فى كتابه (الشعر الجاهلى ) التأكيد على إفشاء النظرية المكذوبة، التى كتبها المستشرق اليهودى الفرنسى "مرجليوث" وأدعى خلالها أن الشعر الجاهلى وضع أكثره بعد الإسلام، وكان القصد من وراء هذه الفرية تحطيم الدعائم التى يقوم عليها تفسير الألفاظ العربية الموجودة فى القرآن .
وفى كتابه أرد طه حسين، أن يبث مجموعة من الآرداء المنحرفة والإلحادية، ويطرح نظرية الشك الفلسفى.. ويهدم عدداً من القيم والثوابت فى الفكر الإسلامى والأدب العربى.(51/296)
كما أحتوت كتاباته، على غير قليل من التهوين فى أمر التراث الإسلامى، مع التهويل والتفخيم فى التأثرات الأجنبية عليه.
ودعا طه حسين إلى ترجمة القرآن، وهى غاية طالما انتظرها الإستعمار وأذنابه، لتمزيق وحدة العالم الإسلامى، فتصدى له الدكتور محمد سعاد جلال قائلاً : " إن ذلك هدف الإستعمار، الذى لايطمئن على أنه قد أزدردت الأمم الإسلامية إزدراداً كاملاً ، إلا بعد تخليصها من الشوكة التى تقف فى حلقه، وتمنع عنه عملية الإبتلاع الكامل، وهو صوت القرآن العربى المجلجل فى صدور المسلمين أياً كانوا" .
وسعى إلى زرع الأساطير والشبهات، فى قلب السيرة النبوية، لتلويثها بعد أن نقاها مؤرخو الإسلام وذلك لإفساد العقول بالتشكيك، ودفع الريبة إلى نفوس المسلمين فى شأن الإسلام ونبي صلى الله عليه وسلم ، وهو مادفع الدكتور ( هيكل ) صديقه إلى أن يقول : " لقد تحول طه الرجل الذى لايخضع لغير محكمة النقض والعقل، إلى رجل كلف بالأساطير، يعمل على إحيائها وإن هذا ليثير كثيراً من التساؤل، إذ أن طه حسين وقد فشل فى تثبيت أغراضه عن طريق العقل والبحث العلمى لجأ إلى الأساطير، ينمقها ويقدمها للشعب إظهاراً لما فيها من أوهام " .
كما شارك طه حسين كثيراً من المستشرقين المتعصبين، فى تجريح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فلمز أباهريرة وسعد بن أبى وقاص ـــ رضى الله عنهما ـــ وتحامل على معاوية رضي الله عنه، وأوغل فى عرض سيف الله خالد بن الوليد، وألقى بالشك على سيرة الشيخين (أبو بكر وعمر) حيث يقول فى مقمة كتابه (الشيخان) : " وأنا بعد ذلك أشك أعظم الشك فيما روى عن هذه الأحداث، وأكاد أقطع بأن ماكتب القدماء من تاريخ هذين الإمامين العظيمين وعن تاريخ العصر القصير الذى وليا فيه أمور المسلمين أشبه بالقصص " .
فكتب الأستاذ محمد عمر توفيق، كتاباً أسماه (الشيخان) رداً على كتاب طه حسين، وذلك فى إبان حياته جاء فيه : " إن طه حسين تجافى منهج أهل الحديث، فى اعتماده على أحاديث مشكوك فيها، لإثارة الشبهات، عامداً وقال : إن أسلوبه الخلاب خطير، لأنه يخفى وجه الحق فلا يتنبه قراء كتابه فيضلون" .
نالت الخلافة الإسلامية، هجوماً شديداً من طه حسين، اتهمها بالإخفاق واتهم تجربة الحكم الإسلامي ـــ كما سماها ـــ بالفشل، وكان يرى أن العنصر الدينى فى النظام الإسلامى، زال بعد خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ولم يبق له وجود، لأن الصحابة ـــ كما يزعم ـــ اقتتلو على الدنيا وتنافسوها، وأدعى أن هناك أرستقراطية، قامت قوامها القرب من الرسو صلى الله عليه وسلم ، فأصبح الحكم إلى قريش وحدها دون الأنصار وأن استئثار قريش بالخلافة جر على المسلمين كثيراً من الفتن.
وقد كانت هناك علاقة ويثقة ربطت بين الدكتور طه حسين، ودعاة الفكر الصهيونى، سواء فى بعثته الفرنسية أو خلال فترة تألقه بين الجامعة والوزراة والمجمع اللغوى فى مصر.
بدأت هذه العلاقة منذ إتصاله بجماعة المستشرقين اليهود، المسيطرين على جامعة السوربون الفرنسية، وعلى رأسهم استاذه اليودى (دوركايم) واعتماده الكلى على نظرية اليهودى الفرنسى (مرجليوث) فى كتابه (الشعر الجاهلى) كما أنه دعا الباحث اليهودى (اسرائيل ولفنسون) لتقديم أطروحته إلى الجامعة المصرية، بإشراف الدكتور طه بنفسه، وكانت أطروحة ولفنسون تدور حول اليهود فى البلاد العربية، ومنحه طه حسين شهادة الدكتوراة عليها.
ويقول فى ذلك الدكتور فؤاد حسنين : " إن معظم ما أورده إسرائيل ولفنسون وأعانه الدكتور طه حسين المشرف، إنما هو كل ما أرادت الصهيونية إذاعته من آراء فى هذا البحث وكان حلقة من حلقات الدعاية الصهيونية " .
قام طه حسين بزيارة إسرائيل مرتين، كما زار الجامعة العبرية فى القدس، وأشار إلى هذه الزيارات مفتخراً أسحق نوفون، رئيس إسرائيل فى كلمته التى ألقاها فى مصر 17/10/1980 .
زياراته الدائمة للمدارس الإسرائيلية فى الإسكندرية وإلقائه المحاضرات، عن دور اليهود فى الأدب العربى، وأشارت مجلة (الشمس) اليهودية التى تصدر باللغة العربية إلى المحاضرة ألقاها عام 1943 قائلة : " حفلت در المدارس الإسرائيلية بالإسكندرية بعدد زاخر من أفاضل أهل الإسكندرية لحضور المحاضرة القيمة التى ألقاها عميد الأدب العربى، الدكتور طه حسين، مساء الخميس 23 ديسمبر، وحضرها سيادة الحاخام (ابراتو) والحاخام (فنثورا) وقد قوطعت فى كثير من مواضعها بعاصفة من التصفيق، وأعلنت المدارس الإسرائيلية عن جائزة خصصت باسم الدكتور طه حسين تعطى سنوياً للفائز الأول والفائزة الأولى فى اللغة العربية.
تولى طه حسين دار ( الكاتب ) المصرية اليهودية عام 1945 وأصدر بها مجلة (الكاتب) الشهرية بتمويل يهودى صهيونى.
كما سعى طه حسين فى كتاباته عن التاريخ الإسلامى إلى تبرئة اليهودى عبدالله بن سبأ، من تهمة إثارة الفتن بين المسلمين، والتى انتهت بمقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان، وهو ما انكره عليه التاريخ أولاً وأنكره عليه كتاب التاريخ الإسلامى جميعهم.(51/297)
أحاطت الصحافة اليهودية، طه حسين، بإهتمام بالغ، وخاصة عندما أعيد إلى الجامعة بعد إقصائه عنها بفترة طويلة عام 1934 ، كما ترجم كتابه ( الأيام ) إلى العبرية، وحظي بقبول فائق بين المثقفين اليهود.
كل هذه الأحداث دعت مجلة (الإثنين) التى كانت تصدر عن دار الهلال إلى توجيه سؤالها في 18 أكتوبر 1945 إلى الدكتور طه حسين .. س : يقولون عنك أنك تعمل على مساعدة الصهيونية فماذا تقول .. ؟
طائفة من أقوال وآراء (طه حسين) منقولة بالنص من كتبه ومقالاته.
أنكر طه حسين حقيقة قصة إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، وصرح بتكذيب التوراة والقرآن حيث يقول بالنص فى كتاب (الشعر الجاهلى) : " للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن وروود هذين الإسمين فى التوراة والقرآن لايكفى لإثبات وجودهما التاريخى، فضلاً عن إثبات هذه القصة ... أمر هذه القصة إذن واضح، فهى حديثة العهد، ظهرت قبل الإسلام واستغلها الإسلام لسبب دينى وسياسى، وإذن فيستطيع التاريخ الأدبى واللغوى أن لا يحفل بها عندما يريد أن يتعرف على أصل اللغة العربية الفصحى" .
ويقول فى نفس الكتاب : " فالأمر ما أقتنع الناس بأن النبى يجب أن يكون من صفوة بنى هاشم، ولأمر ما شعروا بالحاجة إلى إثبات أن القرآن كتاب عربى، مطابق فى ألفاظه إلى لغة العرب ... وفى القرآن سورة تسمى سورة الجن أنبأت أن الجن استمعوا إلى النبى" .
ويقول : " وليس من اليسير، بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديداً كله عن العرب، فلو كان كذلك لما فهموه ولما وعوه ولا آمن به بعضهم، ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر" .
وفى قضية هذا الكتاب، الذى تم فيه التحقيق مع مؤلفه ـــ الشعر الجاهلى ــــ سأل وكيل النيابة الذى باشر التحقيق مع طه حسين، بعد أن أثبت عليه أنه .. أولاً : تكذيب القرآن الكريم فى اخباره عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام .. ثانياً : أنكر القرآءات السبع المجمع عليها .. ثالثاً : طعن فى نسب النبى صلى الله عليه وسلم . رابعاً : أنكر أن للإسلام أولية فى بلاد العرب، وأنكر أنه دين إبراهيم عليه السلام، ثم سأله المحقق هل قرأت هذا فى مصادر قبل ذلك ؟ .. فقال : " هذا فرض فرضته دون أن أضطلع عليه فى كتاب آخر، وقد أخبرت بعد أن ظهر الكتاب بأن شيئاً من هذا الفرض يوجد فى كتب المبشرين" .
وفى مقال نشرته صحيفة (السياسة) الأسبوعية 17 يوليو 1926 واثبته فى كتابه ( من بعيد ) يقول طه حسين : " ظهر تناقض كبير بين نصوص الكتب الدينية، وما وصل إليه العلم من النظريات والقوانين، فالدين حيث يثبت وجود الله ونبوة الأنبياء يثبت أمرين لم يعترف بهما العلم ...
إذن فالدين ظاهرة كغيره من الظواهر الإجتماعية، لم ينزل من السماء ولم يهبط به الوحي، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها " . ولما اتهم طه حسين بفساد وجهة نظره فى إختلاط الجنسين داخل الجامعة أجاب بقوله : " لا أعلم فى كتاب الله ولا فى سنة رسول الله، نصاً يحول دون الإختلاط بين الرجل والمرأة " .
ـــ ونشرت مجلة (الحديث) التى تصدر فى حلب، نموذجاً من أربع محاضرات ألقاها على طلبة كلية الآداب جاء فيها : " ونحن نستطيع أن نظفر بشئ واحد يؤيد ما أشرنا إليه هو : أن الكتاب شئ غير القرآن، كان موجوداً قبل إنزال القرآن ، والقرآن صورة عربية منه، وقد أخذ صوراً من قبل كالتوراة والإنجيل" .. " وإذن فالقرآن دين محلى لا إنسانى عالمى، قيمته وخطره فى هذه المحلية وحدها، قال صاحبه متأثراً بحياته التي عاشها وعاش فيها، ولذلك يعد تعبيراً صادقاً عن هذه الحياة، أما أنه يمثل غير الحياة العربية أو يرسم هدفاً عاماً للإنسان فليس ذلك بحق، إنه دين بشرى وليس وحياً إلاهياً والقرآن مؤلفاً، ومؤلفه نبيه محمد، ويمثل تأليفه أنه يمثل حياة العربي المحدودة فى شبه جزيرة العرب، في اتجاهاتها المختلفة السياسية والاقتصادية والدينية " .
ويقول فى كتابه (فى الصيف) : " إذا كان من حق الناس جميعاً أن يقرأوا الكتب الدينية ـــ السماوية ـــ يدرسون ويتذوقو جمالها الفنى، فلما لايكون من حقهم أن يعلنوا نتائج هذا التذوق والدرس والفهم ...... لما لا يكون من حق الناس أن يعلنوا آرائهم فى هذه الكتب، هى موضع للبحث الفنى والعلمى بقطع النظر عن مكانتها الدينية" .(51/298)
وقد أشار الدكتور عبدالحميد سعيد ـــ رحمه الله ـــ فى خطابه أمام مجلس النواب المصرى، مارس 1932 إلى أن طه حسين، كان يكلف بعض طلبته بأن ينقضوا بعض آيات من القرآن الكريم، يعينها لهم، ويطلب منهم إثبات هذا النقد فى كراسات يتلونها عليه ـــ وقد قدم الدكتور سعيد أمام المجلس كراسة لأحد طلبة طه حسين مثبت فيها ماكان يلقيه عليه،... حيث يقول فى محاضرة له في كلية الآداب بقصر الزعفران ( 1928) : " وصلنا في المحاضرة الماضية إلى موضوع اختلاف الأساليب في القرآن وقررنا انه ليس على نسق واحد، واليوم نوضح الفكرة .. ليس القرآن إلا كتابا ككل الكتب الخاضعة للنقد، فيجب أن يجرى عليه ما يجري عليها، والعلم يحتم عليكم أن تصرفوا النظر نهائياً عن قداسته التى تتصورنها وأن تتعتبره كتاباً عادياً، فتقولوا فيه كلمتكم ويجب أن يختص كل واحد منكم بنقد شئ من هذا الكتاب يبين مايأخذه عليه " ـــ فكانو يثبتون أن هذه الآية ليست من البلاغة بمكان، وأن تلك الآية على جانب من الركاكة، وأن الآية الأخرى مفككة لا تؤدي المعنى المقصود منها وانه كان يريد أن يمرن طلبته على النقد .
وفى كتابه (الفتنة الكبرى) تناول طه حسين، الخلافة الإسلامية بقوله : " لقد كانت الخلافة الإسلامية، تجربة جريئة، توشك أن تكون مغامرة ولكنها لم تنته إلى غايتها، ولم يكن من الممكن أن تنتهي إلي غايتها لأنها أجريت فى غير العصرالذى كان يمكن أن تجرى فيه، سابقة بها هذا العصر".
ـــ وواضح من كتابات الدكتور طه حسين أنه لا يروقه اعتبار الإسلام دين الدولة حيث يقول فى مجلة (كوكب الشرق) فى الثانى عشر من أغسطس 1933 : " لم أكن فى اللجنة التى وضعت الدستور القديم، ولم أكن بين الذين وضعوا الدستور الجديد، ولم يستشيرني أولئك وهؤلاء في النص الذي أشتمل عليه الدستوران جميعاً، والذى يعلن أن للدولة المصرية ديناً رسمياً هو الإسلام، ولو قد استشارني أولئك وهؤلاء لطلبت إليهم أن يتدبروا، وأن يتفكروا قبل أن يضعوا هذا النص في الدستور".
وفى موضع آخر من كتاباته عن التاريخ الإسلامى، يقول : " إن الدولة التى أقامها النبي لم تكن دولة دينية بأضيق معنى الكلمة ولا ديمقراطية، ولاملكية ولا دولة تحكمها مكة، ولكنها من نوع خاص على نسق النظام السياسي القبلى، بعد أن أضيف إليه العنصر الدينى، بما يضمن من عناصر التهذيب والإستقامة " .
ـــ وكان له أسلوب شديد التطرف فى تجريح الصحابة ـــ رضوان الله عليهم أجمعين ـــ حيث يقول فى كتابه (الفتنة الكبرى) واصفاً عمرو بن العاص ومعاوية رضى الله عنهما : " وهنا ظهر عمرو بن العاص، الذى لم يكن أقل دهاء، ولا أدنى مكراً، ولا أهون كيداَ من معاوية" .. " وقد ضاق معاوية برجل عظيم الخطر من أصحاب صلى الله عليه وسلم هو أبو ذر، ولم يستطع أن يبطش به لمكانه من رضى رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وإثاره إياه ولسابقته في الإسلام، ولم يستطع أن يفتنه عن دينه بالمال " ... ويتناول أم المؤمنين عائشة بالغمز فيقول : " إن هذا العقم كان يؤذيها فى نفسها بعض الشئ ".
ولم يسلم منه أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، فيقول فى عدله الذى شهد له به الأعداء قبل الأصحاب : " إن الناس كانوا يعارضون حكم عمر، ولكنهم يخشون سلطانه كما يخافون منه، والثورة على عثمان دليل على فشل التجربة الإسلامية، وأن الوقت لم يعد في مصلحة الحكم والخلافة الإسلامية " .
أما فى كتاب (مستقبل الثقافة فى مصر) فيقول : " إن سبيل النهضة واضحة بينة مستقيمة، ليس فيها عوج ولا إلتواء، وهى أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً ولنكون لهم شركاء فى الحضارة خيرها وشرها، وحلوها ومرها، ومايحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع مخادع " .
ــ ويتهم الدكتور طه حسين، العرب المسلمين بحرق مكتبة الإسكندرية ظلماً وزوراً فيقول : " فليس من الغريب فى شئ، أن أمة بدوية كالأمة العربية، قد أعتنقت ديناً جديداً كالدين الإسلامى، ليس من الغريب أن أمة كهذة الأمة تقوم على تحريق كتب لاتعلم ما فيها، ولكنها تعلم أنها تمثل ديناً غير الدين الذى أذعنت له وكتبت فيه " .
يقول هذا في الوقت الذى ينفيه عنا غيرنا، حيث تقول دائرة المعارف البريطانية : " إن الدعوى ليست في الحقيقة إلا مهاترة وتلفيقاً، لأن المكتبة لم تكن وقت الفتح العربى تحوى شيئاً ذا قيمة بعد الحرائق التى إنتابتها قبل العرب بزمن طويل. "
أما دائرة المعارف الفرنسية فتقول : " إنه ليس يصدق أن يكون عمرو بن العاص قد أمر بإحراق بقايا مكتبة الإسكندرية التى كان المسيحيون قد سبقوا فأعدموها ".
ويقول جوستاف لوبون فى كتابه (حضارة العرب) : " إن كتاب القرنين، الخامس والسادس لم يذكروا شيئاً عن وجود مكتبة في الإسكندرية، وكذلك كتاب أوائل القرن السابع، وقال : " إنه لوصح أن المكتبة كانت موجودة وأن العرب أحرقوها لما أغفل ذكر ذلك كاتب من أهل العلم قريب العهد من الفتح مثل حنا النيقوسى " .(51/299)
وفى كتاب ( الأدب الجاهلى) يقول طه حسين : " اللغة العربية مقدسة ومبتذلة، مقدسة لأنها لغة القرآن والدين وبالتالى لايمكن إخضاعها للبحث العلمى الصحيح الذى يستدعى الإنكار والتكذيب والنقد والشك، ومبتذلة لأنها تدرس لنفسها وبالتالى لاتستطيع إخضاعها للبحث العلمى الصحيح".
أما منهج طه حسين، فى دراسة الأدب العربى فيقول فيه : " من ذا الذى يستطيع أن يكلفنى أن أدرس الأدب لأكون مبشراً بالإسلام أو هادماً للإلحاد ... سأجتهد فى درس الأدب غير حافل بتمجيد العرب ولا مكترث بالنعى عن الإسلام ... تسألنى عن الفرق بين الأدب العربى والأدب الفرنسى، فإنى فى ذلك لا اختلف عن المستشرقين الذين بحثوا هذا الموضوع، وهو فى الواقع فرق ما بين العقل السامى والعقل الآرى، فالأدب العربى سطحى، يقنع بالظاهر والأدب الفرنسى عميق دائم التغلغل، وفى الأدب الفرنسى وضوح وتحديد لا وجود لهما فى الأدب العربى " .
وإذا ذكرالقرآن عند طه حسين، والأسلوب الأنجح فى تعلمه، كان الفخر يحدوه أنه تلقاه على أيدى المستشرق الفرنسى، الناقم على الإسلام والقرآن المسيو (كازانوفا) فيقول : " لم أكد أجلس إلى كازانوفا حتى استيقنت أن هذا الرجل، كان أقدر على فهم القرآن وأمهر فى فهمه وتفسيره ، من هؤلاء ــــ يقصد علماء الأزهر ــــ الذين يحتكرون علم القرآن ويرون انهم خزنته وأصحاب الحق فى تأويله " .
ويقول : " ولقد أريد أن يعلم الناس أنى سمعت هذا الأستاذ (كازانوفا) يفسر القرآن الكريم تفسيراً لغوياً خالصاً فتمنيت لو أتيح لمناهجه أن تتجاوز باب الرواق العباسى ــــ بالأزهر ـــ ولو خلسة ليستطيع علماء الأزهر الشريف أن يدرسوا على طريقة جديدة نصوص القرآن الكريم من الو جهة اللغوية الخالصة على نحو مفيد حقاً " .. جاء ذلك فى مقاله المنشور بصحيفة (السياسة) 1/9/1922 .
ولطه حسين مقولة مشهورة : " لولا كازانوفا ما فهمتُ القرآن " .
قالها وهو الذى أمضى سنوات فى الأزهر يتعلم القرآن ، وكازانوفا هذا هو الذى ذكره فى مقاله المنشور فى (السياسة) 27/3/1926 بقوله : " كان كازانوفا مسيحياً شديد الإيمان بمسيحيته ، يذهب مفيها إلى حد النصوص، ولكنه كان إذا دخل غرفة الدرس فى الكوليج ديفرانس نسى من المسيحية واليهودية والإسلام كل شئ " .
فصورة كازانوفا تنطبق تماماً مع اعتقاد طه حسين الذى أبداه فى قوله : " إن الإنسان يستطيع أن يكون مؤمناً وكافراً فى وقت واحد، مؤمناً بضميره وكافراً بعقله "
ويعلق الأستاذ أنور الجندى بقوله : " من هنا نقرر أن الدكتور طه حسين، عاش حياته كلها بفهم الإسلام فهماً غربياً كنسياً " .
يقول الأستاذ أنور الجندى : " ومن يقرأ كتاب (معك) للسيدة سوزان قرينة الكتور طه، يرى أن طه حسين دخل عشرات الكنائس ، وسمع مئات التراتيل ، ولكنه لم يدخل مسجداً واحداً " .
وذكرت مجلة (النهضة الفكرية) فى عددها الصادر فى 7 نوفمبر 1932 : " أن الكتور (طه) تعمد فى إحدى كنائس فرنسا، وانسلخ من الإسلام من سنين فى سبيل شهوة ذاتية " .
وأجدنى أحاول أن أنهى سلسلة أفكار ومقولات عميد الأدب المستفزة ، إلا أن مقولته فى الدفاع عن الفرعونية المصرية ، أمام الوحدة العربية الإسلامية لتبدى الكثير من مكامن الحقد الجاثم فى نفس الدكتور طه ، على الإسلام والعربية معاً حيث يقول : " إن الفرعونية متأصلة فى نفوس المصريين ، وستبقى كذلك بل يجب أن تبقى وتقوى ، والمصرى فرعونى قبل أن يكون عربياً ولا يطلب من مصر أن تتخلى عن فرعونيتها وإلا كان معنى ذلك : اهدمى يا مصر أبا الهول والأهرام، وانسى نفسك واتبعينا ... لا تطلبوا من مصر أكثر مما تستطيع أن تعطى ، مصر لن تدخل فى وحدة عربية سواء كانت العاصمة القاهرة أم دمشق أم بغداد، وأؤكد قول أحد الطلبة القائل : " لو وقف الدين الإسلامى حاجزاً بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه " .
وهذه طائفة من ردود مجموعة من الأدباء والمفكرين على سموم طه حسين.
ـــ الدكتور زكى مبارك، الذى يعد واحداً من أشد الباحثين فهماً لطه حسين، فقد تتلمذ عليه وصحبه لسنوات عدة حيث يقول : " لقد صحبتُ هذا الباحث ، عشر سنين ، كانت خير ما مر بى من طيبات الحياة ، وعشنا معاً أياماً فيها الحلو والمر ، والشهد والصاب ، وجمعت بيننا
ذكريات لايجحدها إلا لئيم " .
ثم يقول : " الرجل يعيش فى أبحاثه عيش الحيران ، ينتقض اليوم ما أبرم بالأمس ، لأنه لايصدر فى أبحاثه إلا عن المصادفات ، ولم يتفق له أن يشغل نفسه شغلاً جدياً بعمل مفيد وهو يختطف كل مايراه فى طريقه من الآراء ... إنى أراه قليل الصلاحية للأستاذية فى الأدب العربى ، لأن اضطلاعه على الأدب ضئيل جداً ويعرف أنى أشهد له بالبراعة فى تأليف الحكايات ، إن من العجيب فى مصر بلد الأعاجيب أن يكون طه حسين أستاذ الأدب العربى فى الجامعة المصرية وهو لم يقرأ غير فصول من كتاب (الأغاني) وفصول من (سيرة بن هشام) إن كلية الآداب ستؤدى حسابها أمام التاريخ يوم يقول الناس : إن أستاذية الأدب العربى ، كانت هينة إلى هذا الحد وطه حسين نفسه يشهد بصدق ما أقول " .(51/300)
ـــ الأستاذ حسن البنا رحمه الله ، فى إجابته على السؤال .. هل الدكتور طه حسين ، كمدرس جامعى يملك الأداة الصحيحة للتربية والتعليم ؟ يقول : " إن المدرس ينظر إليه من جهات ثلاث : من مواهبه الخاصة فى المادة التي يدرسها ، ومن مادته التى يقدمها لتلاميذه ، وفى طريقته فى التفكير ومايثبته فى نفوس طلبته من أخلاقه وطبائعه والدكتور طه حسين متهم فى ذلك جميعاً" .
المفكر الأستاذ أنور الجندى يقول : " إن قضيتنا هى جرأة الدكتور طه حسين على ما هو أعظم ، على تهجمه على مقام رسول ا صلى الله عليه وسلم ، حيث جعل من نفسه قاضياً يصدر الأحكام على سيد الخلق r ، المعصوم من كل ذلة ، ونحن نجد الكاتب يترك أدلة البراءة كلها سواء منها الصريحة وغير الصريحة ويعتمد اعتماداً كلياً على أدلة الإتهام مع ضعفها وفساد أسانيدها ... ونحن نرى أن طه حسين ليس ناقداً له باع فى فهم النصوص وكل ما وجه إليه الكتاب على مدار أبحاثه يدل على قصور واضح ، فهو ليس بصاحب صناعة فى النقد ولا في الأدب على وجه التحقيق ، ولكنه مراسل من مراسلى المعاهد التبشيرية العالمية "
ـــ المستشرق هاملتون جب ، وكان واسع المعرفة بدسائس طه حسين فى الأدب والفكر يقول عن الدور الذى كان يلعبه طه فى التعليم المصرى : " ذلك أن طه حسين كان قد أعد إعداداً خاصاً ليكون قادراً على تغيير الأعراف الإسلامية السائدة ، وبث أعراف غربية بدلاً منها عن طريق مجموعة من الأساتذة المبثوثين فى المعارف والجامعات ، وقدرة فائقة على تغيير المناهج على نحو عرف به، خاصة فى مجال اللغة العربية والأدب العربى والتاريخ وكلها ترمى إلى غاية واحدة : هى سيادة الفكر الغربى وسيطرته" .
ـــ الأستاذ محمد محمود المحامى كتب يقول : " إن ظروفاً أحاطت بالدكتور طه حسين فى تدبير حياته الأدبية جعلت منه رجلاً خطراً فى بعض آرائه وتصرفاته إن مغالطته وعناده يدفعان به غالباً إلى أمرين ظاهرين : أولاً : ممالقة أساطين العلم لا فى الشرق بل فى الغرب.
ثانياً : مهاجمة العقائد وعدم مراعاة الشعور العام .. ولعل الذين يتتبعوا تطورات الدكتور طه وعرفوا شيئاً من آرائه ومواقفه لن يجدوا كبير جهد فى الوصول إلى الحقيقة " .
ـــ الأستاذ الأديب إبراهيم عبدالقادر المازنى يقول فى كتابه ( قبض الريح) عن منهج وأسلوب الدكتور طه فى كتابه (حديث الأربعاء) : " ولقد لفتنى من الدكتور طه حسين فى كتابه (حديث الأربعاء) أن له ولعاً بتعقب الزناة والفساق والفجرة والزنادقة ، وقد يفكر القارىء أنه أدخل القصص التمثيلية فى هذا الحساب ، ويقول إنها ليست له وإن كل ماله فيها انه ساق خلاصة وجيزة لها وهو اعتراض مدفوع لأن الإختيار يدل على عقل المرء ويشى بهواه كالإنكار سواء بسواء ، وأن يختار المرء ما يوافقه ويرضاه ويحمله عليه اتجاه فكره حتى لا يسعه أن يتخطاه ، ولست بمازح حين انبه الى ذلك وها هو (حديث الأربعاء) : ماذا فيه، فيه كلام طويل عن العصر العباسى، وللعصر العباسى وجوه شتى ، وفى وسعك أن تكتب عنه عدة وجهات ولكن الدكتور طه يدع كل جانب سوى الهزل والمجون ويروح يزعم لك أنه عصر مجون ودعارة وإباحية متغلغلة إلى كل فروع الحياة .... أقرأ قصصه التى ترجمها : هل كان همه نقل الفصاحة الأفرنجية إلى قراء اللغة العربية ، أو نقل الصور الفاضلة فى ثيابها المصون، إنما كان همه مدح الخيانة والإعتذار للخونة وتصوير الخلاعة والمجون فى صور جذابة ليقضى بهذه الترجمة حق الإباحية ، لا حق اللغة ولا حق الفضيلة، وكان طه حسين يقول : إنه ممن خلق الله لهم عقولاً تجد فى الشك لذة وفى القلق والإضطراب رضاً " .
ــ الدكتور عبدالحميد سعيد قدم استجواباً إلى مجلس النواب المصرى فى مارس 1932، يستنكر فيه استمرار وجود طه حسين فى وزارة المعارف جاء فيه : " إن طه حسين خدم دعاة النصرانية بالصد عن الإسلام وبعثه عوجاً وقلد فلاسفة الإفرنج فى الشك والتشكيك وهو ضرب من السفسطة قديم . ولعل سبب تأييد بعض الملاحدة له أنهم رأوه متوغلاً مستهتراً لا يبالى فى سبيل الشهرة بالإلحاد والإباحية ذماً لا عاراً ، وهم حريصون على نشر هذه الدعوة فى الجامعة المصرية ليهدموا بمعاول المتخرجين منها كل ما بقى للإسلام فى مصر من هداية دينية وحسية عربية ، فهم أرادوا جعل الجامعة حرباً على الأزهر والمعاهد الدينية وعلى دار العلوم، وصرحوا بأن ثفاقة الجامعة المصرية ستحل محل ثقافة الأزهر الدينية فى مصر، وكان أظهر الأسباب لعناية أولئك الملاحدة ببث دعايتهم فى الجامعة هو اعتقادهم أن الشعب مازال يغلب عليه الدين " .(51/301)
ـــ الأديب الدكتور محمد حسين هيكل ، رفيق الدرب لطه حسين وصديقه يقول فى كلامه عن كتاب (على هامش السيرة) : " أستميح الدكتور طه العذر إن خالفته فى اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم وعصره مادة للأدب الأسطورى .... ويقول : " يجب فى رأى أن لا تتخذ حياة النبي صلى الله عليه وسلم مادة للأدب الأسطورى .... ف النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته وعصره تتصل بحياة ملايين المسلمين جميعاً بل هى فلذة من هذه الحياة ، ومن أعز فلذاتها عليها وأكبرها أثراً، وأعلم أن هذه الإسرائيليات قد أريد بها إقامة (مثيولوجية إسلامية) لإفساد العقول والقلوب من سواد الشعب ، ولتشكيك المستنيريين ودفع الريبة إلى نفوسهم فى شأن الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم ... من أجل ذلك أود أن يفصل الدكتور طه حسين فيما قد يكتب من بعد من فصول تجرى مجرى (على هامش السيرة) بين ما يتصل بالعقائد وما لا يتصل بها .. ثم قال ــ هيكل ــ والحق أننى كنت أشعر أثناء قراءتى هذا الجزء الثانى من هامش السيرة ، وكأنما أقرأ فى كتاب من كتب الأساطير الفرنسية أو فى بعض ما كتب أناتول فرانس " .
ـــ الدكتور حلمى مرزوق يقول : " وأخطأ الخطأ أن يوحى إلينا الدكتور طه حسين أن الأخلاق من موضوعات الحياة الجامدة ، كأنها وليدة الإرادة العمياء فهى فرض مكروه وإلزام أعمى يقتضى الحرب والإنكار " .
ـــ الكتور محمد أحمد الغمراوى ، يقول عن طريقة البحث لدى طه حسين فى كتاب (الأدب الجاهلى) : " يؤسفنى أن صاحب كتاب الأدب الجاهلى ، ومن لف لفه يسوقون الأدب العربى على غير طريقه ويلبسونه ثوباً من غير نسجه وينسجون عليه نسجاً فرنسياً ويسوقونه فى نفس الطريق الذى يسوقون فيها الأدب العربى إلى طريق الإفتتان بالأدب الفرنسى خاصة والغربى عامة، لقد كان الدكتور طه حسين ومن معه يريدون أن يكونوا للعربية ما كان هؤلاء الألمان فيفنوها فى غيرها ويضلوها عن نفسها، فإذا أنت قرأت لهم رأيت تقليدا بحتاً يعرض عليك باسم التجديد" .
ـــ الأستاذ اسماعيل حسين فى مقال منشور فى "الكواكب" يونيه 1926 يخاطب فيه طه حسين بشأن كتاب (حديث الأربعاء) يقول : " إن كل ما ذكرته فى حديث الأربعاء يرغب فى معاداة القضية ويغرى بإرتكاب الرذيلة والإثم وينشر الإباحية، فإنك لم تذكر للعرب سوى الزندقة والمروق والإلحاد والنساء والغزل، ولقد كنت هداماً شنيعاً للعرب الذين لم يخلق الله نفسية أعز من نفوسهم وعزيمة أشد من عزماتهم الصادقة " .
ــــ الدكتور محمد غلاب فى مقال له بمجلة (النهضة الفكرية) 26/10/1931 يتناول دور طه حسين فى الحط من قيمة العلامة ابن خلدون كمؤسس لعلم الاجتماع يقول : " إن الدكتور طه حسين فى رسالته عن ابن خلدون يرمى عرب افريقيا الشمالية بالهمجية والتوحش ويستدل على هذه الدعوة بأن الفرنسيين لقوا معاناة ومشقة فى سبيل بسط الحضارة الفرنسية والمدنية على تلك الشعوب المتوحشة التى ترفض التقدم والاستنارة .... وإن طه حسين تحامل على ابن خلدون ونفى عنه صفة الإجتماعى من أجل إرضاء أعضاء لجنة الامتحان ( دور كايم، وليفى بريل اليهوديان ، وكازانوفا المسيحى المتعصب) الذين كانوا يرون أن ابن خلدون لا يستحق لقب اجتماعى، فاندفع وراءهم اتقاء شرهم أو قسوتهم، وقد أشار الباحثون إلى انه نقل آراء دور كايم عن ابن خلدون واعتبرها أساساً للبحث .. ودوركايم مؤرخ يهودى من اتباع النظرية الماركسية ورأيه فى ابن خلون مشوب بالتعصب " .
ويعلق الأستاذ أنور الجندى بقوله : " وانه لمن دواعي الأسف أن يعرف الغربيون فضل بن خلدون قبل أن يعرفه الشرقيون انفسهم ، ولكن الذي يؤسف له حقاً أن يقوم بعض الشرقيين يحطون من قدر بن خلدون ، بعد أن جهد الغربيون كل الجهد فى نشر فضائله واظهارها ، حيث يقول (أرنولد توينبي) الفيلسوف والمؤرخ البريطانى : " إن بن خلدون في المقدمة التي كتبها لتاريخه العام ، قد أدرك وأنشأ (فلسفة التاريخ) وهى بلا شك أعظم عمل من نوعه أبدعه أي عقل بشري في أي زمان ومكان ".
ويقول (سارتون) فى كتابه ( مدخل العلم ) : " انه لمن المدهش أن يكون بن خلدون قد توصل في تفكيره إلى اصطناع ما يسمى بطريقة البحث التاريخي " .
أما الدكتور شحاته سعفان فيعلق بقوله : " إن عدم اعتراف طه حسين بابن خلدون في مقدمته مؤسساً لعلم الاجتماع مبالغة جسيمة ".
المحقق العلامة محمود شاكر ، وكان طالبا بكلية الآداب وقت أن كان الدكتور طه حسين ، يلقي بها محاضرات شكه في الشعر الجاهلي ، ولما كان قد سبق له قراءة مقالات (مرجليوث) التي نشرها حول نفس القضية في المجلة الآسيوية التي نقل عنها الدكتور طه نظريته وأفكاره ، حدثت المواجهة بين الأستاذ وتلميذه محمود شاكر الذي أبان له سرقة آراء (مرجليوث) فانتهره طه حسين بشدة حملته على ترك الجامعة وترك الدراسة بها نهائياً ، ومن ثم اثبت الباحثون في قضية آراء طه حسين حول الشك في الشعر الجاهلي مقولة العلامة محمود شارك الشهيرة : " إن كتاب الشعر الجاهلي هو حاشية طه حسين على متن مرجليوث " .(51/302)
ويقول محمود شاكر : " إن إتكاء طه حسين على ديكارت إتكاء فيه كثير من المغالطة بل فيه إرداة التهويل بذكر ديكارت الفيلسوف مع أن الدكتور في محاضراته ليس من منهج ديكارت في شيئ .. وقد صارحته بهذا في حينه وقلت له : " إن مايقوله عن المنهج وعن الشك غامض وإنه مخالف لما يقوله ديكارت وإن تطبيق منهجه هذا قائم على التسليم تسليما لم يداخله الشك بروايات في الكتب هي في ذاتها محفوفة بالشك فانتهرني الدكتور طه واسكتني " .
ـــ المستشرق (كاممفاير) يقول عن دور طه حسين فى دراسة الأدب : " إن المحاولة الجريئة التى قام بها طه حسين ومن يشايعه فى الرأى لتخليص دراسة العربية من شباك العلوم الدينية هى حركة لا يمكن تحديد آثارها على مستقبل الإسلام مهما أسرفنا فى التقدير فى فكرة لا تجد كلمة عنها " .
ـــ الأستاذ الأديب مصطفى صادق الرافعى يقول : " فلما يكون طه حسين كافراً ومؤمنا فى عقله وشعوره، ولا يكون فى فلسفته هذه مغفلاً من ناحية ومخطئاً من ناحية أخرى، وهل يجتمع هذا التناقض إلا فى عقل واهن ضعيف كعقل الأستاذ، وإلا فمن ذا الذى يعقل أن نفى النبوة والوحى وتكذيب الكتب السماوية هو على وصف من الأوصاف علم وعقل وعلى وصف آخر دين وإيمان".
هذا وقد قال الشيخ "عبدربه مفتاح" من علماء الأزهر فى مقالة نشرها (الكوكب) مخاطباً طه حسين : " وكيف تزعم أيها الدكتور أن بعض العلماء أثار هذا الأمر ـــ أمر كفرك ــ وهاأناذا أصرح لك ــ والتبعة فى ذلك على وحدى ـــ بأن العلماء أجمعين وعلى بكرة أبيهم يحكمون عليك بالكفر، وبالكفر الصريح الذى لا تأويل فيه ولا تجوز، واتحداك وأطلب منك بإلحاح أو رجاء أن تدلنى على واحد منهم، وواحد فقط، يحكم عليك بالفسوق والعصيان دون الكفر، أجل إنى وأنا من بينهم أتهمك بالكفر ، وأتحمل تبعة هذا الإتهام، وعليك تبرئة نفسك من هذا الإتهام الشائن ، والمطالبة بما لك من حقوق نحوى" .
كان طه حسين فى حقيقته وجوهره، عدو من جلدنا ويحيا بين أظهرنا وتنهال عليه عطايانا من كل اتجاه، وهو فى الوقت ذاته يجتهد فى أن يلقينا بكل نقيصة، ويهيننا بأقذع ما يمكن أن تهان به أمة فى عقيدتها ودينها وكأننا أمة تعشق أن تهان ولا ترضى حتى تعبد من يسبها ويشتمها .
وأختم ما كتبت بهذا الإحساس الذى يدفعنى بقوة الحق والعدل فيه إلى الإعتراف بالجميل تجاه الأستاذ المفكر الإسلامى الكبير الذى أرجو له من الله الرحمة (أنور الجندى) وذلك لاسترشادى الكلى على كتاباته وتنقيباته حول الدور الذى لعبه عميل الأدب الغربى طه حسين ضد الثقافة والهوية العربية الإسلامية.
هل كان طه حسين عبقريا ؟!!!!
أم عبقروه وصنعوه حينما عرف بيئة المستشرقين الذين وجدوا فيه شابا طموحا ناقما على الأزهر
فعملوا على إشباع نفسه بالآمال في بيئة الغرب وتأريث الكراهية لبيئة الأزهر ثم الإسلام نفسه
((((( وقد حكي طه حسين في مذكراته أنه صحب سانتلا المستشرق اليهودي إلى الأزهر
فحضر معه درسا في التفسير كان يلقيه سليم البشري ووقتما إختلف مع الشيخ وضع سانتلانا يده على كتف طائر الغلمان طالبا منه السكوت ؟!!!!! ))))
أيها السادة :
يمكن أن نعتبر طه حسين مخلصا لأعداء الوطن والدين ؟!!!
يمكن أن نعتبر طه حسين وفيا للصهيونية والعهد القديم المحرّف وتاريخ الديانة اليهودية ؟!!!
يمكن أن نعتبر طه حسين خادما مطيعا للصليبية العالمية التي درس عليها فنون التشكيك والتجهيل ؟!!!
لقد باع طه حسين دينه ووطنه وأهله وذهب إلى عتبات من قتلوا المسلمين في الجزائر والشام ليطالب أبناء وطنه
بأن يسيروا على خطاهم ينهلوا من مناهلهم
ويشربوا من مشاربهم
ويرتدوا من ملابسهم ويستخدموا لكناتهم ويشذوا مثل شذوذهم كل ذلك من أجل عيون الراهبة التي حفرت له طريق المجد المزيف ؟!!!!
فأين العبقرية في التفاني من أجل الصهاينة الذين لقبوه بعميد الأدب ؟!!!
وأين العبقرية في العقوق والإرتماء في أحضان الزنادقة والصهاينة !!!
أيها السادة :
هل كان طه حسين قوميا ؟!!!
وهو الذي دعا إلى التخلي عن قوميتنا للانخراط في ثقافة الغرب وحضارته ؟!!!!
هل كان طه حسين وطنيا عروبيا ؟!!!
وهو الذي سعى إلى تحطيم كل ثوابتنا القومية والعروبية فاعتبر عروبتنا احتلالا قريشا ومصريتنا فرعونية يهودية ؟!!!!
لقد بدأ طه حسين بسرقة كبرى
حينما سرق 23 مقالا
تحت عنوان ((( نظرات في النظرات )))
ونشرها في جريدة اللواء
لأغراض سياسية من مارس 1910م وحتى نهاية نوفمبر 1910م
هذا هو طه حسين الذي نطالبكم أن تنزعوا عنه القداسة والتقدير
وأن تطلقوا عليه طائر الظلام بدلا من قاهر الظلام 0000هذا اللقب المغرض صنيعة الصهاينة
فالمجد فقط لله الخالق الباريء المصور
والقداسة فقط لقرآننا المقدس وأحاديث نبينا والتقدير لسنة وصحابة رسول الله وثوابتنا العظيمة 0
لقد عثرت على حديث لطه حسين عن فلسطين وكأني أسمع وأري تيودور هرتزل أو موشى ديان أو بن جوريون أو ليفي أشكول أو نتنياهو
إنه يحدثنا عن حق العودة
أي عودة ؟!!!!!!(51/303)
هل هي عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين سُلبت أرضهم وهتكت أعراضهم وبقرت بطون نساؤهم وهم أصحاب الحق المنهوب؟!!!!!
لا يا سادتي القراء
إنه حق عودة اليهود إلى أرضهم أرض الميعاد ؟!!!!!!
يا حسرتنا عليك يا طه يا من حملت اسم سيد المرسلين وخاتم النبيين !!!
فلا أنت بطه
ولا أنت بحسين
أيها السادة :
لقد تمخض هذا العلماني لينجب لنا قردا أجرب من أسوأ سلالات القردة 00وخنزيرا من أسوأ سلالات الخنازير
حينما تربع في معية الصهاينة وجلس في أحضانهم
وتحت نجمتهم السداسية ليشرب نبيذ الشيطان ساجدا للشمعدان ذو الفروع السبعة والثمرات السبعة واضعا نصب عينيه تحقيق الحلم الصهيوني من النيل إلى الفرات !!!!
لقد سكت دهرا ونطق كفرا !!!!!
فلو جاءت جولدامائير وقالت ماقاله طه حسين فلها المعذرة
ولو جاء مناحم بيجن ونطق بما نطق به طه حسين فله المعذرة
لأنهم لم يدّعو الإسلام ولم يرضعوا من لبناته
أيها القراء الأعزاء :
((((( لقد صدر العدد الأول من مجلة الكاتب المصري في أكتوبر عام 1945, وأغلقت في مايو عام 1948و تكونت شركة الكاتب المصري وهي شركة مساهمة مصرية، من سبعة أشخاص من آل هراري وهي عائلة يهودية مصرية قديمة وطلبت الشركة من طه حسين إصدار هذه المجلة الأدبية الثقافية الشهرية
قال إنه قبل رئاسة تحريرها استقصي وأحسن الاستقصاء!!!!!!!!
وتَبَيٌن أن الأمر لا يتصل ولا يمكن أن يتصل بالصهيونية من قريب أو بعيد. وكانت المجلة علي مستوي عال جدا في محتواها الأدبي والثقافي, وكان ثمنها عشرة قروش, وهو ثمن مرتفع بالنسبة لثمن المجلات في ذلك الوقت.
ويقول أحد غلمانه
إن طه حسين خلال رئاسته لتحرير المجلة التي استمرت حتي قرر أصحابها إغلاقها بسبب ظروف الحرب العربية الإسرائيلية ولم يقترب طه حسين من قضية فلسطين، ولم يقحم نفسه في الصراع السياسي حول الموضوع كله, واكتفي بمقال واحد في يونيو عام 1946, بدأه بالعطف علي المهاجرين اليهود وللحق والتاريخ فإن هذه المقالة لم تكن في المقام الأول مقالة سياسية ((( حسب قول أحد غلمانه )))
بل كانت وصفا لرحلة قام بها طه حسين علي باخرة كبيرة متجهة إلي لبنان, وتصادف ((!!!!!))
أن كان عليها ما يزيد علي الألف((!!!!!))
من اليهود القادمين من أوروبا في طريقهم إلي فلسطين بمحض الصدفة(!!!!!)
ويصف طه حسين الرحلة والجو العام علي السفينة، ثم يعرج علي وصف اليهود المهاجرين البائسين والمساكين من أوروبا يا حرام (!!!!!)
وفي عام 1945 تساءل الكثيرون كيف يعمل طه حسين في مجلة أصحابها من اليهود، ونشرت بعض الصحف العربية هذه الأسئلة, وأجرت مجلة الاثنين الصادرة عن دار الهلال حديثا صحفيا مع طه حسين, وسألته الصحفية :
يقولون إنك تعمل علي مساعدة الصهيونية، فأجاب طه حسين :
ليت الذين يذيعون هذا الكلام الفارغ يستطيعون أن يبلوا في خدمة العروبة مثلما أبليت. ليس أدل علي أنني أساعد الصهيونية من أنني أحيي الأدب العربي القديم (!!!!!!)
وأنشر أشياء تتصل بعلوم القرآن الكريم(!!!!!)
وحين يظهر العدد الأول من الكاتب المصري سوف ترون.
وأرسل له الكاتب الفلسطيني خليل شطارة مستفسرا عن الموضوع, فبعث إليه طه حسين رسالة نشرتها البلاغ الفلسطينية قال فيها :
فأما الشائعات فمصدرها المنافسة التجارية من ناحية, والضغينة السياسية والحسد البغيض من ناحية أخري, وخلاصة القضية أن سبعة من اليهود المصريين اشتركوا في عمل تجاري صرف قوامه نشر الأدب العربي ، قديمه وحديثه ((((!!!!! ))))
(( نعم يا طه حسين الهدف هو نشر اللغة العربية فقل لنا كتاب واحد نشرته دار الكاتب يخدم اللغة العربية أو مقال واحد يخدم الإسلام بل أنك خالفت كتاب الله الذي نزل بلسان عربي وشككت في كلمة القرآن وقلت أنها فارسية !!!))
ونقل الجيد من الآداب الغربية إلي لغة الضاد, وطلبوا أن أكون مشيرهم في ذلك, فقبلت بعد أن استقصيت وأحسنت الاستقصاء, وتيقنت أن الأمر لا يتصل، ولا يمكن أن يتصل بالصهيونية من قريب أو بعيد، وإنني أتحدي من شاء أن يجد في المجلة إشارة إلي الصهيونية أو تأييدا لها ، ومن يدري لعل خصوم هذه المجلة يبهتون في يوم من الأيام حين يرون فيها خصومة عنيفة للصهيونية
((((( فأين هي الخصومة التي بهتتنا من خصومة لم تقمها طوال حياتك ولقد عشت حتى أرازل العمر وأين هو دفاعك عن القضية الفلسطينية وأنت لم تنطق ببنت شفه من أجل قضيتهم ))))))
.
وفي عدد مارس 1946 كتبت المجلة تقريرا عن فلسطين وبدون تعليق
عن تقرير لجنة التحقيق الأمريكية البريطانية عن فلسطين والذي أوصي بفتح باب الهجرة ورفع القيود عن نظام بيع الأراضي,!!!!!!!!! وهما الوسيلتان اللتان يتألم منهما العرب، ويرون أنهما أداة استيلاء الصهيونية علي بلادهم وإخراجهم من ديارهم.!!!!!!!!!!!
وقد كان لإذاعة هذا التقرير أسوأ الأثر في البلاد العربية جميعا, فقامت حكوماتها وهيئاتها تحتج وتعلن الإضراب, دليلا علي استنكارها ورفضها لهذا الأمر
((((((ولم ينطق الصنم بكلمة واحدة بل زاد في غيه ودعوته للتحلل والتفسخ من القيم والمبادئ والإيمان.))))))))))))))))
ثم يقول لنا أحد غلمانه(51/304)
أن دار الكاتب لم تنشر موضوعا واحدا يؤيد الصهاينة ولم تتناول مواضيع سياسية خاصة بقضية فلسطين بل أنها إعتبرت أن قضية فلسطين من قضايا السياسة الدولية فنشرت الأخبار فقط عنها !!!!
ونقول
يا للعار
حينما نتعامل مع فلسطين كما نتعامل مع نيكارجوا أو نتعامل مع القدس الشريف كأنما نتعامل مع تماثيل بوذا !!!!!!!!
وهل دعوة الصهاينة وطه حسين لتوطين اليهود في أرض فلسطين يعطي لهم الحرية في إبادة الشعوب وتشريد الأمم وقتل الملايين من المدنيين تحت سمع وبصر بل ومباركة العالم الحر ودون كلمة واحدة لطه حسين وغلمانه !!!!!!!وكذلك الأمم المتحدة التي حولوها من عصبة الأمم من أجل سواد عيونهم
أين طه حسين داعية توطين اليهود من هذا كله أم أنهم استغفلوه وضحكوا عليه بعد أن عرفوه وحفظوا ديكتاتورية الذات التي كان يشرب من خمرها ويعب من كأسها ؟!!!!!!
(((((( هل علمتم ما سر العبقرية !!!! )))))
إقرؤوا يا قراااااااااااااااااااااااء
إن غلام الشيطان يقول أن دار الكاتب لم تنشر شيئا عن الصهيونية
وهل يمكن للسفارة الصهيونية بالقاهرة أن تعقد مؤتمرات جماهيرية تهاجم النظام بصورة علنية ومكشوفةوتحدثنا عن مآثر الصهيونية في الأرض المحتلة ؟!!!!!
بمعنى
هل نشر الكفر والتشكيك بالإسلام في دار الكاتب المصري عن طريق طباعتهم لكتاب
( العقيدة والشريعة ) لجولدزيهر اليهودي
والذي قدم ترجمه العربية طه حسين بنفسه يخدم العروبة والإسلام أم يخدم الصهيونية والماسونية العالمية ؟!!!!!!!!!!!!
((((((((ملحوظة هامة يا قرااااااااااء :
لقد قدم طه حسين هذا الكتاب واستمد منه فكره طوال أربعين عاما لما لهذا الكتاب من دور في محاولة هدم الإسلام الجامع الصحيح مع العلم أن كل محاضرات وكتابات طه حسين موجودة بنصها في الدراسات الإستشراقية !!!!))))))))))))
وهل نشر الرزيلة والتحلل الخلقي ودعوة الفن للفن بنشر الأشعار الإباحية كأزهار الشر لبودلير والكتابات الإلحادية لأوسكار وايلد وكافكا والبير كامي وجان بول سارتر تخدم العروبة والإسلام أم تخدم الصهيونية والماسونية العالمية ؟!!!!!
يا سادتي القراااااااء :
باستطاعة الصهيونية والإمبريالية الإمريكية ألا يعلنوا عن إتفاقية بين العراق وإسرائيل في وقتنا الحالي
ولكنها تستطيع خدمة إسرائيل الكبرى بغرس الطائفية في داخل الشعب العراقي مع ممارسة الديمقراطية لتتحول العراق فيما بعد إلى بحر من الدم بين الأكراد والشيعة والسنة والتركمان !!!!!
ألم يسأل أحد منكم نفسه إذا كان الاستعمار والصهاينة يدعوننا في مصر إلى الفرعونية لضرب الأصول الإسلامية والجذور الإيمانية للشعب المصري فلماذا لا يدعون الشعب العراقي ((( العريق )))) إلى جذوره الحضارية القديمة حيث البابلية والأشورية؟!!!!!!!
إن الإجابة واضحة لكل ذي بصر وبصيرة إنها عقدة السبي البابلى يا سادة 0
يا سادتي القراااااااااء :
إذا رأيت نياب الليث بارزة
فلا تظنن أن الليث يبتسم
فمن الممكن ألا يقوم المركز الأكاديمي الصهيوني بالقاهرة بعمل دعاية لإسرائيل الكبرى أو الحركة الصهيونية العالمية
ولكن باستطاعتهم إدخال 3 كيلو و450 جرام هيروين في أنابيب معجون أسنان بحقيبة نائب مدير المركز الأكاديمى الدبلوماسية لتدمير الشباب المصري !!!!!!!
فكيف بطائر الظلام يقول لنا
أن دار الكاتب لم تكتب عن الصهيونية ؟
أتظننا بهذه السذاجة !!!
أتظن أن الشعب المصري بهذه السطحية؟!!!!
إقرؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤا يا قرااااااااااء
إقرؤؤؤؤؤا وتأملوا !!!!!!!!!!!
يقول الحاخام مناحم كشر في كتاب المصير لأباإيبان :
(((((((( كان "لإسرائيل ولفنسون" دورا كبيرا في لقاء مجلس الحاخامات في فرنسا بالدكتور طه حسين هذا الرجل الذي وفر علينا الكثير في أن يعود إلينا مجدنا وحضارتنا التي ضاعت باستراتيجية محمد وتهبلاته وأفعاله معنا في خيبر فقد وجدناه يحفظ تراثنا ويتحدث بصوتنا وبما لايستطيع به أحد منا وقد أسعدنى أن لهذالرجل تأثيرا كبيرا في الأوساط الفكرية والثقافية العربيه 0 فأخذنا العهد على أن نشمله بالرعاية ونحيطه بهالة من الجلال والعظمة))))))
هل سمعتم ياقراء
لقد علق أحد الحاخامات بعد لقائه مع طه حسين
: الآن أشعر أن بضاعتنا ردت إلينا !!!!!!!!!!
ويقول أبا إيبان
((((( أسعدني كثيرا لقائي مع طه حسين واتصلت على الفور بميخائيل يرو وبنيامين بيت حلاجمي وحدثتهم عن إتفاقي مع هذا البروفسير الكبير فقد كان لقاءا مثمرا جدا عندما وجدته متحمسا لنا وذو معرفة أسطورية وخرافية عن تاريخ اليهود واللغات السامية فقلما أجد بين العرب مثقفا أو مفكرا بهذا الطراز حيث كان في عناده ودفاعه قويا وفي فكره بارعا لقد عرضت عليه أن أقوم بنشر مقالاته في الصحف الإسرائيلية وأن أترجمها على الفور وأرسلها إلى إسرائيل فابتسم ابتسامة مليئة بذكائه المعهود وقال لى : لاتتعجل !!!
وحينما سألته عن كتابته لكتاب " الإسلام وأصول الحكم " الذي يتشابه في أصوله وجذوره مع كتاب "مع الشعر الجاهلي" كما يردد أهل الثقافة فصمت دون تعليق ؟؟!!!!(51/305)
ففهمت أن له دورا في إعداد وكتابة الكتاب فحمدت الرب الذي وهبنا مثل هذا الرجل )))))))))))
يا سادة:
لقد كان لطه حسين البصمة الأولى لصهينة التراث الإسلامي في العصر الحديث وذلك بعد المحاولات الساذجة التي سبقته والتي كانت آخرها المحاولات التغريبية للطفي باشا السيد الذي احتضن طه حسين وأخذه من أحضان عبد العزيز جاويش أحد رموز الوطنية المصرية النقية 0
أيها السادة
أيها القراء الأعزاااااااااااااااااء
إليكم النبوءة التي يرددها اليهود عن تدمير مصر والتي أكدها طه حسين كأمر مسلم به ((((((في حديث الأربعاء ))))))
دون أن يمارس دور الشاك
(((طبعا فهذه الخرافة يهودية أما ما يتعلق بالتراث الإسلامي فهو عرضة لتساؤلات طائر الظلام !!!!!!!)))
تقول الخرافة :
وقد توزعت النبوءة في هذا السفر (حزقيال) في الإصحاح29 والإصحاح30 والإصحاح31 وفي هذه النبوءة يقول:
((((((وأتركك في البرية أنت وجميع سمك أنهارك على وجه الحقل تسقط فلا تجمع ولا تسلم، بذلتك طعاما لوحوش البر وطيور السماء.
وتكون أرض مصر مقفرة وخربة فيعلمون أني أنا الرب لأنه قال النهر لي وأنا عملته لذلك ها أنذا عليك وعلى أنهارك وأجعل أرض مصر خربا خربة مقفرة من مجدل
( ومجدل حسب جغرافية التوراة هي الأرض الواقعة شرق القاهرة الآن إلى أسوان إلى تخوم كوش)
ولا يكون بعد رئيس من أرض مصر .
وأشتت المصريين بين الأمم وأذريهم في الأرض فيعلمون أني أنا الرب.
حين أجعل أرض مصر خرابا، وتخلوا الأرض من ملئها، عند ضربي جميع سكانها يعلمون أني أنا الرب. هذه مرثاة يرثون بها بنات الأمم ترثو بها على مصر وعلى كل جمهورها ترثو بها يقول السيد الرب.)))))))
((( هل عرفتم يا قرااااء سر العبقرية؟!! ))
ومن المؤسف يا سادتي الكرام أن هناك من الصبيان الذين لا يكتفون من تقديم مصر لقمة سائغة للصهاينة كسيدهم طه حسين بل يقدموا إليهم عرضا آخر لكي يضيفوا إلى أحلامهم أحلام
بأن أرض إسرائيل تمتد إلى جنوب الجزيرة العربية !!!!!!!!!!!!!!
(((((((وللدكتور كمال الصليبي كتاب عنوانه "التوراة جاءت من جزيرة العرب"
حاول أن يثبت فيه أن مصر التوراة ليست هي مصر هذه الأيام وعاود التأكيد على هذا في كتابه الآخر "خفايا التوراة" ، وآراؤه هذه أحدثت ضجة كبيرة وهلع منها العرب إذ اعتبروها دعوة من الصليبي لتأكيد حق اليهود في الجزيرة العربية
فهو يعتبر مصر هي قرية المصرمة!!! في الجنوب من جيزان عند حدود اليمن!!!!!!!
ليقول:
أن مصر القرآن ليست مصر اليوم
ونحن هنا لا يهمنا أن نثبت موقع مصر وإنما إثبات عقيدة اليهود في مصر وماذا سيفعلون بها من خلال نبوءات أنبيائهم، وبعض الباحثين يرى أن تدمير مصر سيتم عن طريق هدم السد العالى حيث يقول إن اليهود هم أصحاب فكرته وقد حاولوا هدمه مرارا!!!!
((( وهل هذا الصليبي الذي ينكر موقع مصر كما ورد بالقرآن الكريم يعلم أنه ينكر بالتالي رحلة العائلة المقدسة إلى مصر وقصة يوسف علية السلام وزيارة سيدنا إبراهيم وغيرها وهل كان في المصرمة جنوب الجزيرة العربية فرعونا كفرعون موسى وأين يوجد طور سيناء وجبل الطور ))))
لكن الهدف من هذه الفرية توسيع دائرة أرض إسرائيل الكبرى !!!!!
وكذلك هدم الإسلام بعد سقوط الخلافة كي لا تقوم للأمة قائمة
يا سادتي القراااااء :
إن دارسو حضارات التاريخ
تبينوا أن أي حضارات كان مبناها الأول على أسس دينية وإيمانية
إنه وإن وجدت حضارات بغير بناء وعمار إلا أنه لم توجد حضارة من غير معابد
أو كما قال محمد إقبال:
(( إذا الإيمان ضاع فلا أمان
ولا دنيا لمن لم يحيي دينا ))
ويثبت هذا أن حركة الإنسان لا يمكن أن تنطلق إلا من أساس إيماني
سواء كانت العقيدة حقيقية أو وهما، صحيحة أو باطلة، وهذا القول ليس تقليلا للجوانب الإنسانية الأخرى كحاجة الإنسان للمال والطعام وحب الغلبة والسيطرة، ولكن لا يمكن أن تعطي هذه الأمور آثارها في حركة الإنسان إلا إذا اكتست بثوب الدين والإيمان
((((((((( ولذلك كان قواد المعارك دائما بحاجة إلى معتقد ليدفعوا الناس لمحاربة خصومهم، أو الانتقال للسيطرة خارج الأرض، وكل المحاولات التي قامت لإلغاء التفسير الديني لحركة التاريخ باءت بالفشل)))))))))).
وهناك اتجاه قوي لترسيخ مبدأ الصراع على أساس علماني، وأن الحياة قد استقر أمرها على تبني الحرية الإنسانية -الليبرالية- في كل شؤون الدنيا ولا دور للأديان فيها، وقد إنتهى عصر العقائد -الأيديولوجيا- ومن هذه الكتب التي أحدثت أصداء واسعة في هذا الإتجاه
كتاب الياباني الأمريكي فرانسيس فوكوياما المسمى "نهاية التاريخ"، الذي يعلن فيه سقوط العقائد
(((((((ويستثني الإسلام ببعض بقاياه الدينية والخلقية)))))))
والإنتصار النهائي لليبرالية ((حرية الإختيار في السياسة والإقتصاد والإجتماع))
وقد صدر العديد من الكتب التي تنعي العقائد والتمسك بالهوية منها:
كتاب "النفس المبتورة هاجس الغرب في مجتمعاتنا" للمستغرب الإيراني داريوش شايجان، وله في هذا الإتجاه نفسه كتاب "أوهام الهوية"(51/306)
(((((((((((((وهذان الكتابان يمثلان صورة نموذجية لجهود المستغربين في إسقاط الهويات في داخل مجتمعاتنا))))))))))
و العقائد يا سادتي لها الدور الأكبر في التحالفات والتقارب بين الدول والشعوب على الرغم من تبنى العالم اليوم العلمانية والليبرالية
ففي الوقت الذي تقوم فيه دولة إسرائيل تقوم على أساس ديني إيماني، وكذلك أهم الأحزاب السياسية والدينية فيها تركز على إهتمامات دينية عندهم
ومما ينبغي التذكير به أن مناحيم بيجن بعد اعتزاله السياسة تحول إلى كاهن يهودي وفسر بعض نصوص التوراة، وأدخلت هذه التفسيرات في التلمود عندهم، ومعلوم أن بيجن أصيب بحالة نفسية سيئة بعد معاهدة كامب ديفيد، لأنه اعتقد أن ما قام به يخالف النبوءات التوراتية وذلك بوجوب التقدم إلى الأمام وليس التراجع، هذا مع عظيم ما استفادته إسرائيل من هذه المعاهدة المشؤومة ولكن مجرد التراجع ولو الجزئي يخالف ما يؤمن به اليهودي اليوم من أن أعداءهم يجب أن يولوا الأدبار دائما كما تقول التوراة:
(((((( (تنطقني قوة القتال وتصرع القائمين علي تحتي وتعطيني أقفية أعدائي ومبغضي فأفنيهم، يتطلعون فليس من مخلص، إلى الرب فلا يستجيبهم، فأسحقهم كغبار الأرض، مثل طين الأسواق أدقهم وأدوسهم، وتنقذني من مخاصمات شعبي وتحفظني رأسا للأمم))))))))))
فهل دعوة طه حسين وغلمانه ودار الكاتب اليهودية يعملون في خدمة الوطن أم من أجل تدميره بتدمير الهوية الإسلامية والعربية واستبدالها بالعلمانية !!! ولحساب من هذا التدمير؟!!!!!!
والآن يا قرااااء
أخاطب الوطنيين والقوميين والعروبيين والشعوبيين والقطريين والقبليين ((والهروبيين !!))
هل لديكم الحجة في الدفاع عن عميدكم طه حسين ؟!!
الذي تربي في أحضان الصهاينة؟!!
وقد جروه جرا إلى طريقهم !!!!!
ودفعوه دفعا إلى أفكارهم !!!!!!
ووضعوه لسان حال لأحلامهم وطموحاتهم؟!!!!!!!
أقول لكم:
منذ أكثر من عشرين عاما تحاورت مع أحد المخالفين مع فكر طه حسين وكنت أنا الطرف المؤيد لطه حسين وذهب كل منا إلى حال سبيله وبعدما تناولت فكر الرجل واضعا نصب عيني أفكار محاوري وجدت أنني كنت على خطأ وكان صديقي الذي حاورني على صواب0
ليس عيبا أن أقول لكم أنني كنت على خطأ وتراجعت ولكن العيب أن أكابر
فكثيرا ما نحترم فكر عادل حسين ومحمد سليم العوا وطارق البشري ومحمد عمارة وسيد قطب بعد أن سلكوا سبيل الصواب0
اللهم اجمعنا مع من نحبهم من الصالحين والأتقياء المؤمنين واحشرنا يوم القيامة مبصرين مع الشهداء والصديقين0
مجدي إبراهيم محرم
===============(51/307)
(51/308)
الرد على كتاب ماساة ابليس
للكاتب صادق جلال العظم
تمهيد
بداية لنحاول ان نقرأ مما جاء في صفحات الكتاب من النقاط الفكرية التي يريد الكاتب استنباطها والتي هي بالنتيجة الصورة النهائية التي يريد الوصول اليها فالبحث العلمي ايا كان كاتبه ومصدره فلا بد له من ناتج يصل اليه والا فأنه بحث عقيم ، وأن تمهيد الكتاب ينطلق من محاولة نقاش ان ابليس شخصية وهمية ابتدعها العقل الانساني عبر علاقة المشاعر الانسانية بالاديان ، وقد مر بمرحلة من التطور تلازم مع النقاش الديني عبر الكتب الفلسفية الدينية بحيث اسبغت عليه قدرات وافعال وطاقات جبارة خارقة لتخفي عبرها مكامن السقوط لنظرية الخلق الواردة في بعض الكتب السماوية ، وقد عبر الكاتب من خلال بحثه واسترساله باستنباط التأويلات من مصادر مشكوك او بالاحري مجزوم بتناقضها مع رواية الخلق الديني كحالة استشهاد بالباطل للوصول الى هدف باطل ، فجاء عمله كمن يطفيء النار بالنار ، ودليل هذا اعتماده في كتابه وبمقتضى النص على فكر الفيلسوف الالماني (ارنست كاسيرر) والذي ما دأب يناقش الدين باعتباره اسطوره واعتباره ان الكون موجود دون خالق ، وأن مطلع الكتاب الذي يتحدث عن معايير علمية للبحث حول المسألة المطروحة قد اضطرته وعبر البحث عن دلائل قاطعة الى اللجوء للنص القرأني لايجاد ثغرة في لغته او مكامنه العلمية او ابداعه اللغوي ليسقط عليها فكرته القاضية بنسف فكرة وجود الخالق عبر نسف صيغة وجود مخلوق واعتبار ان الخلق امر علمي جاء من كون الطبيعة بمكونات عناصرها والمادة فيها هي اساس عملية النشوء والارتقاء الكوني وان الخير والشر امور قائمة بذاتها متحركة عبر الانفعال العضوي والتفاعل العقلي والانساني ، وان تصادم هذه المعايير مع الوقائع فتح ثغرة في التحليل العلمي للكاتب فالتجأ الى عملية انقاذ روتينية سبقه اليها الكثيرون من المستشرقين المهتمين والباحثين فاستند الى المارقين على المعتقدات الفكرية الدينية او الذين وقعوا ضحية اقتناعهم بأن العقل البشري قادر على الوصول الى الحقيقة الكاملة للوجود والالمام بكل الجوانب فيه ، وهناك عند الاصطدام بالسقف الذي لا يمكن للعقل تجاوزه والذي لم يصل اصلا وعبر ملايين السنين الى فهم كينونة الخلق لانه استخدم عنصرا واحدا من عناصر الخلق التكويني دون غيره وهو العقل فقط ، فلجأ الى مقولات التطرف التي ومهما حاولت ان توسع من دائرة قدراتها وطاقة فعلها فهي لن تصل الى الحقيقة المجردة لان كلمة ومفهوم التطرف يعني بالضرورة انه يأخذ طرف المسألة لا الانطلاق من وسطها والنظر اليها بشمولية تمكن من فهما . وقد ضاع التطرف عبر مراحل متلاحقه في مسألة الخلق ووجود الخالق فأحد وجوهه قد اتجه نحو رفض الوجود للرب المعبود ، والاتجاه الاخر اكد الوجود ونسج له علاقة خاصة من معرفته بالخالق وصلت الى حد العلاقة الخاصة التى تجاوزت حدود العرفة والعلم والعقل ووصلت الى التوسل بالغيبيات لتحقيق نظرتها ، ومن هؤلاء كان (الحلاج) الذي اعتمد الكاتب على كتابه ( الطواسين ) وايضا كتاب( ابن الجوزي )( تبليس ابليس ) وهما كتابين يتصفان بالغلو والمفاخرة بالعقل فسقط اصحابها بفخ التعليل من موقع الايمان وتهاوى موقع الجلال عبر البحث في عقلية الاستدلال . ولا بد من الاشارة الى ان استخدام لغة القران وكلماته واياته دون فهم موقعها وتفسيرها واسباب نزولها قد اوقع الكاتب في مازق اذ ان اي عودة للقاريء الى المعاجم المتوافرة يمكن ان توضح الثغرة التي تم النفاذ منها وهي عدم معرفة القاريء لهذه المقومات اللغوية وهذا ما بدا واضحا في تفسيره لمسألة ( مكر الله ).والتي نسج منها ادق الخيوط التي ظن انها حاسمة لوجهة نظره باعتبار استخراجه منها لمقولة وقوع الظلم على ابليس بمقتضى تفسيره للكلمة .(51/309)
ولا بد ان نشير ان عملية استدلال الكاتب على عملية الخلق وابهام صورتها في الكتب السماوية باعتبارها مركب نقص وحاول عبر هذه الثغرة النفاذ الى الربط بين الغيبية وعدم الوضوح والمثيولوجيا الدينية التي افردها العقل البشري وفتح افاقها وطورها الى ما نراه اليوم من صراع بين الخير والشر مستخدما مصطلحات لا تمت للقصة الدينية بصلة متناولا المسألة مجزوءة على قاعدة ( ولا تقربوا الصلاة ) تاركا الشق التوضيحي للامر لان التعاطي مع هذا الشق له دلالاته العلمية التي تنسف القاعدة الاساسية التي بنى عليها فكرته للكتاب . وحتى لا اتهم الرجل دون دليل ولكي لا يكون الكلام ترتيبا انشائيا ، وحتى نبني على الشيء مقتضاه فأن النص الذي الزم نفسه به رافضا الاعتراف بالخالق وبديمومة الخلق وبمسمياتها وبالتالي نتاج فعلها كما جاء في النص (سأختتم هذا الجزء التمهيدي من بحثي بالتأكيد على أن كلامي عن الله وإبليس والجن والملائكة، والملأ الأعلى لا يلزمني على الاطلاق بالقول بأن هذه الأسماء تشير إلى مسميات حقيقية موجودة ولكنها غير مرئية) هذا النص يدلل بوضوح انه لم ينطلق للنقاش من اجل اثبات او نفي موضوع البحث بل من موقع التعارض معه ونفيه واستند الى كتابات ودراسات من المنحى نفسه ، وهو ما يجعله غير مؤهل لنقاش الموضوع بتجرد وبطريقة علمية ، وهذه واحدة من اهم الثغرات التي تقوض بنيان افكاره ، اضافة لهذا فأن طرحه لمسألة الخلق قد تعاملت بطريقة اطلاق قوة الفكرة المادية الذاتية في صنع الكون الا انه اصطدم مجددا بعدم وجود نتاج نهائي يمكن ان يقدمه كنظرية واضحة لنشوء الكون والخلق فترك الامر عالقا بانتظار احداث نظريات جديدة ، فصار واضحا انه مهتم بتقويض النظرية الدينية اساسا دون تقديم بديل بدلائل عقلية ، ومن الملفت للنظر ان كتابه يناقش النظرة الاسلامية لمسائل الخلق والوجود وابليس ، ولم يتطرق الى هذه القضايا من ناحية الاديان الاخرى علما ان في الانجيل والتوراة روايات تعنى بالمسألة مما يشير الى احد الامور التالية ، فهو اما متعمد كجزء من واقع الحرب على الاسلام باعتباره يحتوي بين جنابته ادق الرسالات السماوية تصويرا للغيبيات والمرئيات في النظام الكوني وبالتالي فأن تكريس اي نظرية جديدة في هذا المضمار لا بد ان يسبقها انهيار النظرية السابقة او على الاقل تقويض بناها، او لتكريس مبدأ فصل الدين عن الدولة والتي جاء بها الاسلام من واقع العقيدة والتي ورغم الانهيارات الكبيرة في بناها ورغم التجارب الفاشلة المستجدة للانظمة العربية والاسلامية التي استجدمت الدين وسيلة لسلب السلطة والهيمنة على مقدرات شعوبها الا انها لم تسقط من الوعي الشعبي اهمية الارث العقائدي للاسلام ، او استكمالا لعمل الاستشراق الغربي الذي مارس عبر عقود طويلة سياسة تستهدف تفريغ النتاج الاسلامي من العلوم والثقافة والابداع بهدف نسبها الى الغرب كجزء من حملة استعادة زمام المبادرة التى انطلقت بعد انهيار كيان الدولة الاسلامية على المستوى العالمي بعد احتلال الاندلس . والتي استهدفت دراسة الشرق الذي اغتنى واغنى العالم بالرسالات السماوية من مختلف اوجهه تمهيدا للسيطرة عليه وهنا لا بد من الاشارة الى ان للاستشراق وجهان متناقضان احدهما يناقش وجود الامم في الشرق باعتبرها نبراس حضارة لا بد من فهمه والاستفادة من تركيبته وعقائده في البحث والعلوم والتطور ، ووجه اخر يستهدف عبر المنطلقات عينها سلب الشرق المقدمات العلمية التى ارساها عبر اجيال باعتباره عالم يتسم عبر عقائده بالتخلف ولا يجوز له التمتع بالامتياز الحضاري الذي هو من حق الغرب وحده وهو اثر نراه في الكثيرين من دعاة التشبه بمفهوم الاستشراق هذا ويعمل جاهدا على نسب نفسه ودائرته الاجتماعية والثقافية والكيانية الى الغرب رغم جذوره الضاربة عمقا في ارض الشرق . ونموذج كاتبنا في رؤيته لاوضح دليل على هذا ومثله باتوا كثيرين يعملون وعبر نظريات مشوهة الى استغلال حالة الضعف والانهيار من اجل تغيير المواقع عبر تزييف الوقائع .
هذا تمهيد للدخول في نقاش عقلي جدي وعلمي الى كتاب صادق العظم والى الحلقة الاولى من الرد!!!!
القسم الاول
ـــــــ
الوجود- الكون – المادة – الخالق
ــــــــــــــــــــ
الوجود
ــــ(51/310)
ان البحث عن الوجود قد انطلق مع ادراك الانسان لكونه جزءا من منظومة متحركة هو جزء منها ، وكان لاتساع الكون ، وتعدد اشكال الخلق وتنوعها من حيث التكوين والسمات ، اثر في فتح افاق البحث والتدقيق والتي كانت بمجملها بدائية على قدر التجربة الانسانية مع الوعي في ذلك الوقت، واتجه منطقه ومن واقع التجربة ان قوة ما ذات عظمة وقدرة بالنظر الى حجم الكون واتساعه وراء هذا الوجود ، ووصوله الى نقطة وجود القوة لم ينبع من الفراغ انما كان تعبيرا عن تجربته بالتعاطي مع استمرار وجوده بين الكم الهائل من المخلوقات والتي كان التعايش معها وبينها وعبر استخدامه لقوته في تحقيق ذلك ، فهكذا باتت القوة شكلا للوجود ارتبط بوعيه ، وان اضفنا العوامل الطبيعية بكل ما تحمل من متغيرات وأن كان الانسان لم يفهم اسس وجودها ، انما كان متعايشا مع نتاجها كالشمس والمطر والليل والنهار وتعاقب الفصول وايات البرق والرعد والعواصف . وحتى لا اتهم بالمثالية في النظرة ، فلو ان انسانا ينام في فلاة لا احد فيها جائعا عطشا متعباواستيقظ ووجد امامه مائدة فالطبيعة البشرية تقتضي منه للوهلة الاولى ان يبحث عمن جاءه بالطعام ومن اين وكيف ؟؟؟؟
وتؤشر الكتب السماوية و الروايات المنقولة حول نبي الله نوح كأول نبي صاحب دعوة للتوحيد على الارض والذي تناقل عنه الاولون بناء السفينة ووضع فيها من كل المخلوقات زوجين ، وجاء بعد ذلك الطوفان الذي اثبتت دراسات العلم الحديثة حصوله ، وبغض النظر عن تصديق الرواية ام لا فأنها وفي نسج التاريخ اول تعبير عن تجاوب الانسان مع فكرة وجود الخالق !!!! لا بد هنا لاستكمال الفقرة القول ان عبادات اخرى سبقت ولحقت هذا التأريخ شملت العديد من اوجه القوة والقدرة كعبادة الحيوانات القوية كالاسد والنسر ، والظواهر الكونية كالشمس والقمر والنجوم وصولا الى حالات عبادة بشرية اتصف اصحابها بصفات القدرة المتنوعة ، ولا بد من الاشارة هنا ان اثبات الطوفان الكبير الذي اغرق العالم يترابط في الوعي البشري برسالة نوح عليه السلام وهو ما نصت عليه الكتب السماوية الثلاث( إستنادا على التوراة وسفر التكوين في العهد القديم من الكتاب المقدس فان نوح كان ابن لاميخ وكان يعتبر الجيل العاشر بعد آدم وكان عمره 600 عاما عندما اوكل الخالق له مهمة بناء السفينة ومات 350 سنة بعد الطوفان وكان عمره عند الوفاة إستنادا على التوراة 950 عاما. وإستنادا الى نفس المصدر فانه من أبناء نوح الثلاث إنبثقت البشرية بعد الطوفان وكان ابناء نوح) ،( يصور العهد الجديد من الكتاب المقدس نوح كشخصية قريبة و مطيعة للخالق الأعظم ويضعه إنجيل مرقص في نفس منزلة إبراهيم و يعقوب [18]، ويتكرر في العهد الجديد الفكرة القديمة بأن بناء السفينة استغرق 120 عاما كان نوح أثناءها يحاول إقناع الناس باتباع ما أمر به الخالق الأعظم)
(استنادا إلى القرآن فإن نوحا لبث في قومه يدعوهم إلى عبادة الله ألف سنة إلا خمسين عامًا (سورة العنكبوت) وأن الله أمره ببناء سفينة كان قومه يمرون به وهو في عمله فيسخرون منه (سورة هود) وأنه قد نزلت كميات كبيرة من الأمطار مع تفجير الله للأرض عيونا مما أدى إلى حدوث الطوفان (سورة القمر). وحسب سورة هود فإن أحد أبناء نوح قد كان كافرًا خالف أباه في دينه وقال «سآوي إلى جبل يعصمني من الماء» ولكنه غرق وأن السفينة استقرت على جبل الجودي وليس آرارات وجبل الجودي يقع في تركيا أيضا ويبعد 200 ميلا عن جبل آرارات بالقرب من الحدود التركية مع سوريا و العراق)
لقد اوردت المقتطفات من الكتب الثلاث للتدليل عن ارتباط احداث الكون العظيمة والمثبت الكثير منها علميا اتصالها بالوعي البشري الديني ووجود الخلق والخالق بغض النظر عن اعتبارها حقيقية او نسجا من الخيال الانساني .
وان تحولات القصة الدينية قد مرت بالعديد من المراحل فسقط منها تأليه الحيوانات صاحبة القدرة وبقي البحث يدور حول البعيد الغامض والمرئي في الكون ومحاولة تجسيد الخالق بصور متعددة تأخذ اشكالا خارجة عن المألوف كالجمع بين الانسان والحيوان في قالب واحد كما عند قدماء المصريين ، اضافة الى رمزية الشمس والقمر وصولا الى ادعاء الملوك حق الالوهية المباشر او بالتبني كما جاء في التراث الفرعوني وتأتي المباني الفرعونية الضخمة كالاهرام او الحضارات التي وجدت اثارها في امريكا مثل حضارة المايا للتدليل على التعظيم البنيوي نسبة للتعظيم الالوهي(51/311)
ما يمكن استنباطه مما تقدم ان مسألة البحث في الكون لا بد مرتبطة بالبحث عن الخالق وان احد اهم اسباب دوافع البحث هذا هي العملية التنظيمية التي يتصف بها هذا الكون فأن حركة تواتر الليل والنهار وتوالي الشمس والقمر وتتابع الفصول وقصر النهار او تطاول الليل تبعا للمتغيرات الكونية وتنوع اثار الوجود المخلوق من حجر بارد واخر حار وماء سائل واخر جامد وتنوع الالوان والاشكال والانواع في كل متجانس منسجم مع متطلبات الانسان هي عملية ابداعية لم يستطع الانسان نسبتها الى ذاتية الكون والمادة فيه ، فكان دائم البحث عن المسبب لهذه المعطيات وكلما كبر حجم الاثر كبر حجم الخالق او تباعدت الفكرة المرئية عنه لصالح الغيبية خصوصا وأن عملية الاتصال لم تثبت عبر الادعاءات الكثيرة بحصوله ، وهو ما ثبت دور الوساطة بالتلقي عبر من اصطلح على تسميتهم بالانبياء والذين لم يدع احد منهم انه تلقى مباشرة بل عبر وسيط اصطلح على تسميته بالروح القدس ، قد يرى البعض هنا ان تداخلا بين الغيبية والعلمية يظهر في البحث ، وهذا صحيح الى حد ما ولكن بشكل مقنن حتى لا نحيد عن المنهج المتوخى من الوصول الى النتائج بطريقة علمية ، ولكن لا بد من وضع مقياس او زاوية للنظر الى الامور فأنت ان نظرت الى صورة بطريقة مباشرة تختلف تفاصيلها ودقة وضوحها عما ان كان نظرك اليها من زاوية تبعا لموقع الصورة من الزاوية ، ولكوني لا استهدف الجمع بين الغيبية والفكر ، ولا اسعى الى الصدام والصراع بينهما ، يبدو من المنطق ان آخذ كلتا الرؤى بعين الاعتبار علما اني سأحاول ان اكون اكثر تعتيما على الغيبية واكثر قربا للوضوح مع عالم الفكر انطلاقا من الواقع السائد والذي يتهم المنهج الديني بنقل العبودية من الخالق الى المخلوق ، وأن كانت الممارسات الخاطئة قد اسهمت في اختلال التوازن لمصلحة الفكر وهذا بالطبع ايجابي الا انها الصقت الخطايا بالجسم الفكري للدين بحيث يبدو مختل اصلا وهي واحدة من الافكار السائدة الظالمة التي ترى الامور بقياس محدود الزوايا مبتدعة قوانين خاصة يصعب تطبيقها على حيثيات انسانية وفكرية مشابهة ولو نظرنا الى الفكر الحديث ومكنون النقد الذي يتبناه والبحث الذي يرتقي للوصول اليه لوجدناه ينطلق من مكونات البحث القديمة ذاتها حول الوجود واصل الكون مع الاخذ بعين الاعتبار القيم الفكرية الحضارية المتواترة عبر حركة الوعي العلمي الذي اسهمت التجارب البشرية عموما بأنتاجه.
الكون
ــــــــــــ
ابعاد لا محدودة ، قيم مطلقة ، نظام ثابت ، الية متحركة ، وضوح في موقع الغموض ،غيبية الانطلاق ، تناقض الموجود بين التنظيم الهائل وموقعية الحدث ، نور في ظلمة ، وظلمة في نور ، قيود في حركة ، وحركة مكبلة ،يقترب مع البعد ، ويتباعد مع الاقتراب ،في اللحظة التي تعتقد وصولك الى حقيقته تسقط الحقيقة في عالم الغيب ليبدأ البحث من جديد !!!!
في كل مفردة من هذه المفردات قياس علمي وثقافي وفكري تناولها وبحث فيها واثبت وجودها وعاد للبحث من جديد ، نظرية تتلو الاخرى كل منها يتطابق مع الواقع ثم يسقط بالتقادم مع حركة تطور الفكر والوعي ، وهو ما يشير الى ان امكانية سبر اغوار الكون ليست عصية فقط على الوعي البشرى بل وعلى مقولات الخيال ، وان كثيرا من افلام الخيال العلمي الحديثة كلما حاولت ان تختزل الكون في صورة من الصور مهما تعددت فهي تنحو من جديد باتجاهات اخرى ، والبحث في الكون من واقع الفكر العلمي اشبه ما يكون بحلقة هوليودية فيما تتحضر لتصوير فيلم ومع انطلاقته تكون قد انطلقت فكرة جديدة لفيلم اخر ، هذا ليس تقليلا من قيمة البحث العلمي وافاق تطوره بل اقرار بسعة الكون وصعوبة دراسته لاسباب تتعلق بالقدرات البشرية التي انطلقت من نظرية مادية الكون المفردة وكلما وصلت الى نتاج في الحقل عينه ظهرت ابعاد وافاق من موقع اخر تعيد البحث الى نقطة صفر جديدة ، صحيح ان انجازات علمية عديدة في معرفة الكون قد باتت اقرب الى الثبات ولكنها بمقياس اتساع الكون وتنوع موجوداته ومكوناته وتنظيمه لا تعدو كونها نقطة في بحره .(51/312)
نظرة فحص الى هذا الكون لنرى ما فيه ، الابعاد سحيقة ، المجرات هائلة العدد والاتساع ، حلقات الدوران المنتظمة ، ايقاع من الجاذبيات المختلفة تؤدي عملية تعليق في سياق حسابات دقيقة متماسكة بعضها ببعض ، وفي مجرتنا مليارات من السنين تتابعت وكل جرم منها متحرك في دائرة وجوده تتالى عملية ظهوره في الوقت والموقع عينه على مدار الزمن لا خلل ولا اختلاف ولا عوامل تتجاذب القمر ليخرج عن مداره ، والكواكب الاخرى تحوم في مداراتها ، وعملية النظام القابع خلف كل هذا لا زال في طور التمحيص والتأويل !!! لا العلم وصل الى حقيقته من خلال التطور ، ولا القيم الدينية اشبعت نهم المتفحصين والباحثين ،امر واحد اجتمع عليه منهجا الدين والعلم في مسألة بداية الكون فقد توصل العلم الى ما اجمع على تسميته بالانفجار الكبير كنقطة بداية لوجود الكون المادي ، ويفسر علماء الدين الاسلامي الاية30 من سورة الانبياء بهذا المعنى (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
المادة
ـــــــــــ
من الثابت علميا ان العناصر الاساسية للكون تتألف من 102 عنصرا ترتبت حسب وزنها الذري بدءا بالهيدروجين باعتباره اخف العناصر بوزنه الذري ، فهو يحتوي في نواته على شحنة واحدة موجبة يحملها بروتون واحد يحيط بها الكترون واحد ذو شحنة سالبة ، وفي نهاية العناصر عنصر النوبليوم ورقمه الذري 102 اي ان نواته تحمل 102 من وحدات الشحنة الموجبة ومثلها من السالبة وقد أثبت العلم التجريبي أن خصائص هذه العناصر غير نهائية وغير ثابتة، بل يمكن تبدل بعضها ببعض، وهذا التبدل بعضه يتم بصورة تلقائية، وبعضه يمكن إحداثه بالوسائل العلمية. فعنصر اليورانيوم - مثلاً - يطلق انواعاً ثلاثة من الأشعة، منها أشعة (الفا) وهي عبارة عن ذرات عنصر الهليوم، ويتحول اليورانيوم تدريجياً إلي راديوم، ويتحول الراديوم - بعد عدة تحولات عنصرية - إلي عنصر الرصاص.
وقد تمكن العالم الطبيعي (رذرفورد) من تحويل عنصر إلى عنصر آخر بجعل ذرات الهليوم تصطدم بذرات الآزوت، فنتجت ذرة هيدروجين من ذرة الازوت، وتحولت ذرة الازوت إلى اوكسجين.
وهكذا غدا من الثابت أن خصائص العناصر ليست ذاتية للعناصر.
على ضوء الحقائق السابقة.
1 - إن المادة الأصلية للكون المادي ترجع إلى حقيقة واحدة مشتركة.
2 - إن خواص المركبات التي تتكون من العناصر - هذه الخواص ليست ذاتية بالنسبة إلى المادة الأصلية، وإنما هي عارضة عليها بسبب التركيب، وليس عن الطبيعة الاساسية المكوِّنة للمركب.
3 - إن خواص العناصر البسيطة التي يتكون منها العالم المادي أيضاً ليست ذاتية لتلك العناصر وليست نهائية بدليل تحول بعض العناصر إلى بعض آخر كما رأينا.
4 - وأخيراً إن صفة «المادية» ليست ذاتية للمادة المحسوسة، لأنها تتحول - في نهاية المطاف - إلى طاقة.
ان عملية تفاعل الهيدروجين والاوكسجين يولد الماء فأن كان هذا قانونا خاصا بذاتيتها فلما تبقى اجزاء منفصلة ومتحررة في شكلها وتركيبها الاصلي فرغم وجود الماء المكون منهما الا ان وجودهما ايضا كعنصرين منفصلين موجود ايضا مما يدلل على ان صفة التفاعل ليست ذاتية !!!!! أن المادة ليست ديناميكية، وليست هي نفسها سبباً ذاتياً لاكتساب خصائصها وتنوعها . فخاصية السيلان في الماء عرضية جاءت من اتحاد عناصره، وإذا فرزناها ترجع إلى حالتها الغازية وتنعدم خاصية السيلان وهذا كله يقودنا الى التساؤل التالي كيف وجدت المادة في الكون ؟؟؟؟؟ كما وان نظرية الانفجار الكبير والتي نشأ عنها الكون هي بحد ذاتها تحمل صفة التشتيت كونها انفجارا فكيف انتج انفجار هائل المواد المشكلة للكون والمفترض ان تكون في حالة تباعد نتيجة الانفجار، وهي من منطق التباعد هذا جاءت بهذا الابداع المنتظم وتسلسل العناصر واتساعها مع اتساع الكون ، وانشأت الابعاد الكونية في صفات من الدقة والتناسق، اوبعد هذا الا يوجد فاعل ؟؟؟؟ اليس هناك من قوة خلف هذا الابداع، وان لم يستطع العلم بالعقل الواعي ان يصل الى حقيقة بدء الكون فأن رفض نظرية الرتق والفتق القرأنية يصبح مجرد مناكفة لا علاقة للعلم فيها خصوصا وأن ايات اخرى شرحت عملية الخلق الاول ضمن اطار يشجع على العلم والاطلاع والبحث وهو منهج السابقين الذين اتخذوا من دينهم نبراسا للانطلاق نحو العلوم التي انتجت علوما عالمية في شتى المجالات والابداعات التي ما زالت اساسا حضاريا حتى اللحظة الراهنة كامثال الخوارزمي وابن سينا ، وابن حيان هؤلاء الذين الهمهم دينهم وسائط البحث العلمي فأبدعوا في العلوم الطبيعية التي تجلب السعادة للانسان . هم امنوا بالله الخالق وأمنوا بكتابه الذي كانت اول اياته وصولا تبدأ بما يحث على العلم ( اقرأ ) فمن هو الله ؟؟؟؟؟؟
****************
الخالق
ـــــــــ(51/313)
الله لفظ الجلالة ، مسمى لم يطلق الا على الخالق ،ومهما علت قدرات الانسان العقلية والروحية فلن يصل الى الخالق ولا يوجد بين ايدينا اي قانون يؤدي الى ذلك ولكن يمكننا ان نعرف الله عبر صفاته التي وصف بها نفسه وعبر مخلوقاته التي اوجدها وعبر المسار الذي نراه للكون في ابداعه .
وقبل البدء بهذا اود الاشارة الى قول للامام على كرم الله وجهه حينما سؤل عن الله وما شكله فاجاب برد حكيم عالم بديع يؤكد معرفته الحقة المؤمنه بالله ولكن من منظار ما اضاء الله لعباده المؤمنين من عقول عظيمة فقال لسائله ( مهما خطر ببالك فالله غير ذلك) ووصف الله نفسه في سورة الشورى الاية 11 بقوله ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) وبين هذان الوصفان وما سنطرحه من ايات الخلق ومعجزاته يمكن ان نعرف الله ، اما من يعتقد بوجود صورة حسية في المكان والزمان فهو واهم ، ولن الجأ الى الوصف القرأني حتى لا اتهم بالتعصب ولن اجادل المسميات في الاديان الاخرى ومفهوم الله لدى كل منها فهذا سيجرنا الى موقع اختلاف !!! ما يهمني في هذا السياق ان الاديان الثلاث قد اجمعت على وجوده بغض النظر عن المسميات .
ان عدم اقرار البعض بوجود الخالق لن يبدل من واقع الامر العلمي الذي وبدراسته يثبت وجوده وعلى صاحب المفهوم الاخر ان يأتي بدليل نفي الوجود اذ ان الشواهد المؤكدة للوجود لن تحتاج الى كثير من البحث ، ولننظر الى عملية التناسق في خلق الكون ومسألة الجاذبية الكونية كمثل علمي لا يرقى اليه الشك فأن عملية تموضع المجرات وتلازم الجاذبية بينها وصولا الى مجرتنا والتي يسر العلم المكتشف امكانية دراستها يرينا بوضوح حالة التواصل بينها وبين نقاط دورانها حول نفسها وحول مسارها ومنذ مليارات السنين في ايقاع منتظم، الا يدعو هذا الى التساؤل من هو المنظم لهذا الايقاع ، والارض التي نحيا عليها وهذه الشمس ، والقمر والريح والمطر التي تأتي مسخرة لخدمة استمرار الانسان وباقي المخلوقات فمن سخرها ومن وضع نظامها الذي نعيش من خلاله منذ الاف السنين دون اختلاله ، فلا يقولن احد الطاقة، فالطاقة قد ثبت ان لها بداية ونهاية لذا فهي لا تحمل صفة الخلق والتنظيم ،هو الله وان عدم رؤيته لا ينفي وجوده فالريح موجودة ونحيا عبر وجودها ولا نراها ، والروح موجودة وبانتفاء وجودها تتوقف الحياة ونحن لا نراها فأن كان الامر هكذا مع مخلوقات الله فكيف بالخالق ، واعتقد ان البحث في وجود الله بشكل اساسي ينحصر عند الباحثين بصفات علاقته بالمخلوقات خاصة منها الانسان ، وهي العلاقة التي شابها الكثير من العوالق رغم وضوحها بالتكليف، وبسبب سوء تفسير التكليف ومساويء استخدام السلطة الدينية لاهداف دنيوية تعرضت العلاقة الى متغيرات انتقائية حدد اطرها شكل التعارض ونسبة اقترابه او ابتعاده عن الخاصية الانسانية، وبنظرة مباشرة الى الامر نقول ان التعرف على الخالق عبر فهم تكوين المخلوقات من خلال اية العلم يوصلنا الى اثبات حقائق قد تغيب في خضم الاخطاء فتبعد الباحث عن اسسها ، فالانواع المرئية للمخلوقات على الارض تتجسد في اربع الجماد وهو في حالة جامدة ، والنبات وهو في حالة النمو ، والحيوان وهو في حالة النمو والحركة ، والانسان وهو في حالة النمو والحركة ومميزا بالعقل ، وهنا اشارة توضيحية لا بد منها ان نسق الخلق يوكد تراتبية الاجناس بحيث ان اعلى الادنى يأتي في ادنى المرتبة العليا فأن اعلى حالات الجماد هي التى تتصل بالنبات وتحمل بعض خاصياتها ، وارقى حالات النبات هي التي تصل الى كونها نهاية في سلم الحيوان ، واعلى سلم في الحيوانية يقترب من الانسان ، ويكفي توضيح كيفية احداها بما ينعكس على البقية فأن اعلى ظواهر الجنس الحيواني تتمثل في تقليد الببغاء او القرد للانسان ولكن هذا التقليد لا يحيله الى انسان لان امتلاك خاصية التقليد والحركة والتوالد لا يرتقي الى العقلانية التي تميز بها الجنس البشري عن سائر المخلوقات ، وهو ما سبق ودفعني الى رفض المسمى العلمي بأن الانسان حيوان ناطق اذ ليس النطق هو الميزة التكوينية بل العقل وهو ما لم يتصل بالمخلوقات الاخرى ، وان نسبة الخاصية الحيوانية للانسان هو عكس لاية الخلق في منظومته التراتبية التي ابدعها الخالق .ومن اسرار الخالق في خلقه انه جعل بعض خاصياتهم مسيرة وأخرى مخيرة تبعا للضرورة الحياتية، فالتنفس ، ونبضات القلب هي من المسيرات والنمو كذلك وتصور ان تنفسك اختياريا فماذا تفعل عند النوم ؟؟؟ اما الاختيار فموقعه العقل وانت من يحدد ابعاد الاختيار وتتحمل مسؤولية نتاجه . فهل هذا كله بتنسيقاته وترتبية ضروراته يمكن نسبه الى المادة ام الى من خلق المادة وكون منها مشيئته في خلقه .(51/314)
البحث الكامل والمتعمق حول وجود الله يحتاج الى استغراق اكبر في التفاصيل ، ولان الموضوع الذي نحن بصدد نقاشه يلامس مسألة الخالق اضطررنا لوضع خطوطه العامة والتي يمكن تجديد البحث فيها في دراسة منفصلة ، وفي القسم الثاني انشاء الله سننطلق من عملية بدء الخلق التي تعرض لها الكاتب ومسألة ابليس تفصيلا وتوضيحا عبر المقاييس عينها التي استعملت حتى الان !!!!!!! ـ والى القسم الثاني
القسم الثاني
ادم وابليس – الثواب والعقاب
ـــــــــــــــــ
لقد استخدم الكاتب ايات تتصف بالعمومية في وصف ابليس والحديث عنه وتناسى الايات التي تتحدث عنه بتحديد ووضوح وانطلق من كونه من الملائكه الذين شاء الله خلقهم مجبورين على طاعته ( لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون )، واشار الى اية السجود ( واذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا ابليس ) فاعتبر ارداف اسم ابليس بالملائكة في الاية تأكيد لزعمه ان ابليس ملاك وخلق على الجبر للمشيئة وان عصيانه كان تدبيرا الهيا الهدف منه اخراج ادم من الجنة مشيرا الى ( مكر الله ) كصفة تتداخل مع المشيئة وافترض بالتالي ان رفض ابليس للسجود كان لازما وان سجوده كان مستحيلا ، والاشارة هنا واضحة فهو يستهدف النيل من ذات الخالق جل وعلا ولان الحجة بالحجة والنص بالنص فنقول :
ان ابليس لم يكن من الملائكة بل كان من الجن ، (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) [ الكهف : 50 ] هذه الاية تنص بوضوح قاطع ان الكاتب استخدم النص القرأني الذي يتلائم واهواءه ومراده من الكتاب وتجاوز عن ايات اخرى لانها تنسف معتقده وتسقط السند الذي تعلق به ، هنا يأتي التاكيد جازما ان ابليس ليس من الملائكة المقهورين على الطاعة بل هو خلق اخر من الجن ولهم صفات اخرى . كما وان ذكر الشيطان ورد في الكتاب المقدس والتوراة في امثلة مشابهة لم يستخدمها الكاتب لشرح افكاره فهل يعتقد ان النصوص مزيفة او ان وراء هذا استهداف لابراز الحيثية الاسلامية في نكران وجود الخالق عبر الغاء وجود المخلوق او بالضرورة اثبات ان الخالق وهم تم تصويره عبر مزيفات قصصية انسانية لا ترتقي الى مصاف الكتب المقدسة ونرى في الكتب المقدسة الاخرى ما يتشابه في الحديث عن الشيطان والحية والانسان وان باختلاف لغوي يشير الى طبيعة اللغة المستخدمة فيها !!!!
ولنعد الى حيثية النقاش فقد اشار القران الكريم ان ابليس كان من الجن وقد خلق قبل ادم عليه السلام وان خلق ابليس كغيره من الجن من نار (وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ )الحجر 27 ووردت في اية اخرى(وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ) الرحمن 15 وهكذا نجد اننا مضطرون لتوضيح صفة الخلق فأن الله قد خلق خلقه على نسقين ، خلق مقهور على الطاعة وهو خارج مسألة الثواب والعقاب كالملائكة والشمس والقمر وغيرها من وسائط الخدمة وخلق خلقين على الاختيار الجن والانس ومراد خلقه محدد الاهداف (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات 56 وهذا يحدد سبب الخلق وهوالعبادة وعلى الصعيد البشري اذا ما اردنا وصف الحب باعلى مراحله لشخص ما ولتحديد كبر حجم الحب فاننا نصفه بانه حتى العباده ، فالله خلق خلقه لعبادته تعبيرا عن حبهم له وهل يكون الحب بالاكراه وأي حب يكون مفروضا ، ومن هذه الحيثية يصبح مقصد الاختيار واضحا ، فقد خلق الله الانس والجن على قاعدة الاختيار في الايمان به وعبادته وحبهم له ،وابليس وادم من هذا النوع من المخلوق اعطي المعرفة والعقل لا كزينة بل لاستخدامها في كل مناحي الوجود واهمها اختيار الايمان من الكفر واختيار الحق من الباطل ولو كان الانسان مسيرا لما كنا نخوض هذا النقاش الذي يتصف ببعض تفاصيله بالخوض في وجود الخالق وهي ارادة نختارها ولم تفرض علينا . اذا فأن امر السجود لما صدر للملائكة كانوا مقهورين على الطاعة وهنا لا بد من الاشارة الى ان امر السجود لم يكن للملائكة كافة بل الى القسم الذي سيتولى خدمة ادم (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ) وهذه الاية تدلل ان العالين هم قسم من الملائكة لم يؤمر بالسجود ورد عدم سجود ابليس الى الاستكبار وجاء رد ابليس حاسما ومؤكدا لهذه الاية (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ) الاسراء 61 ورد ايضا في اية اخرى في مسألة التمايز والتفضيل (قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ) اذا فمرد عدم السجود لم يكن جبرا من الخالق بل اختيارا من ابليس لما رأى انه تفضيل للنوع على ارادة فعل الخالق ولو لم يكن مختارا لما عصى ولسجد سجود الملائكة .(51/315)
وهذا يجرنا الى توضيح مسألة السجود التي علق عليها الكاتب فليس كل السجود عبادة فالكثير من بلدان الشرق الاقصى تعتبر سجود الصغير للكبير احتراما كما وان للسجود في القران وجه اخر كما سجود اخوة يوسف واباه له كنوع من التبجيل لما اعطاه الله وليس من قبيل العبادة ،وهكذا فأن سجود الملائكة لادم لم يكن عبادة له بل سجودا لقدرة الله في ابداع خلقه لادم وللكينونة التي خلقه عليها من الاختيار ، واما تساؤل الملائكة عن خلق ادم كما جاء في سورة البقرة 30 (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) فمرد هذا التساؤل يرجع الى معرفة الملائكة بوجود خلق من الجن كانوا يعيشون على الارض قبل خلق ادم عليه السلام وقد تقاتلوا فيها وسفكوا الدماء ، إن الغاية من أمر الملائكة وإبليس بالسجود للحقيقة الانسانية ممثلة في آدم هي اظهار ان جميع القوى الكونية مسخرة لأجل الانسان وتقدمه، وذلك لأن الملائكة أسباب إلهية وأعوان للانسان على تقدمه الروحي والمادي، وسعادته الاخروية والدنيوية. وذلك لأجل تأكيد معنى خلافته في الأرض.
ومن هنا فرفض إبليس للسجود ) وهذه هي الغاية من السجود ( تعبير منه عن رفضه الاعتراف بالمنزلة التي أعطاها اللّه للانسان، ورفضه لأن يجعل نفسه حيث أراده اللّه أن يكون عاملاً في سبيل تقدم الانسان وسعادته الروحية والمادية.(51/316)
وقد أدرك إبليس المنزلة العالية التي جعلها اللّه للانسان، وأدرك أن الأمر بالسجود نتيجة لذلك، فرفض الاعتراف بهذه الحقيقة، وأن الاجابات التي وردت على لسان ابليس كتبرير منه لرفض السجود اكدت انه عمل اختياري فهو قد تباهى بالجنس والنوع ففاضل بين النار والطين والتكبر، والتفاضل النوعي هنا باعتباره خلق من النار اصله مردود اليه فلا يوجد في الترتيب الاسلامي للخلق مفاضلة من هذا النوع انما هو بفعل التكبر الذي احسه كتبرير لعدم السجود مفترضا ان امر السجود قد اعلن من اجل ادم وانه باعتباره محبا لله ولا يسجد لغيره تعظيما ومحبة فهو قد انكر الامر ورفضه وكون ابليس من الجن وهم كالبشر مخلوقون على الاختيار فأن رفضه جاء من موقع اختياره وليس من موقع الاجبار والاكراه كما صوره الكاتب العظم . ودلالة اخرى على ما تقدم من مسالة الاختيار فأن الرد الذي اتى به بعد ان وصل الى ما قد جنته يداه يمثل الاصرار على متابعة الاختيار دون توبة ويرد الامر بالتكبر والمفاضلة الى خالقه بسبب خلقه من نار وهذا تفسير ما جاء في الاية ( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) فالاغواء هنا جاء في موقع اللوم على الله لانه ادرك ان المفاضلة التى اطلقها هي التي ادت به الى التكبر وعدم السجود فاراد نسبها الى الخالق وهي النقطة التي حاول الكاتب ان ينفذ منها كمسلمة فتبنى راي ابليس ورفض كلام الله عز وجل وهذا يؤدي الى توضيح مبتغاه من مناقشة المسألة ، واما مسألة ان الجن مخيرون كمثل البشر ففيها دليل قرأني اخر جاء في سورة الجن الذين استمعوا الى القران فامنوا اي انهم لم يكونوا مؤمنين وقد فعلوا بعد استماعهم للقران (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ) الاية 1 (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ) سورة الجن اية 2 وهذا يدلل على ان الجن لديهم كما عند البشر اشراك بالله وان الايمان اختياريا منهم بعد سماعهم القرأن ، وقد يرى البعض في هذه الادلة استنادا الى غيبية جاء بها القران الكريم ، وهذا ما سبق واشرت اليه في البداية ان الكاتب لجا الى هذا المنحى فاضطررنا للرد على القول بالمثل ، خصوصا وان المصادر المتوخاة في هذا المجال على ارضية علمية مثبته غير متوفرة .واما في مسألة الثواب والعقاب فمنذ خلق الله خلقه على قاعدة الايمان بالاختيار ثبت مبدا الثواب والعقاب فالقرار الذي يتخذه المخلوق سلبا ام ايجابا سيكون ارضية حسابه وان التوبة للعبد مقبولة ما لم تبلغ الروح الحناجر ، وعطفا على مسألة ابليس فقد بقي على اصراره على موقفه وكل ما طلبه تمديد الوقت (قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) سورة الاعراف 14 وهو استمهال لاجل الاستكمال للعداء الذي اختاره لنفسه ضد البشر اما ادم فقد تاب واناب فتاب الله عليه . لم نحاول هنا ان نتوسع في كل المعايير المطلوبة لادراك التفاصيل باعتبار ان هذا يحتاج الى متسع كبير ، ولتكملة الصورة من وجهيها لا بد ان نضع الاية التي وردت على لسان ابليس متوعدا ادم ونسله (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) سورةص 82 اذ انطلق في كلامه بالقسم بعزة الله تأكيدا منه على قدرة الله وتابع في الاية الثانية تاكيده لادانة منطقه بأغواء نسل ادم الا العباد المخلصين (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) سورة ص اية 83 فمن هم الممخلصين من العباد ؟اليسوا هم على نقيض موقفه من الكفر وعدم الانصياع والكبر ، اليس المخلصين اصحاب اختيار الايمان الذين اختاروا محبة الله وطاعته في تشريعه واتباع عقيدته ، فيما من سيغويهم هم اصحاب اختيار الكفر والذين سيسقطون في حبائل رغباتهم وتكبرهم وعدم انصياعهم لتشريعات الخالق فيما احل وحرم، اليسوا هم من يشركون مع الله الهة المال والدنيا والكفر الا يدلل هذا على الاختيار لهم ومن خلفهم من يوسوس لهم والذي تقف حدود وسوسته عند حدود الايمان والالتزام بطاعة الله .
وتأتي الصورة الثانية هنا في موقع توضيح اسباب اختيار الكاتب للحلاج وكتابه الطواسين لايضاح ما تبقى من غموض ، وحري بنا القول ان الحلاج كفر من موقع الايمان كمثل ذنب ابليس اذ انه تصور ان حبه لله وشدة ايمانه اباح له المحظورات التى منعها الله عن انبيائه فادعى اتصاله بالله ونسب الى نفسه ما يتجاوز حدود المخلوق ووصل الى التشبه بالخالق عندما قال وعلى مسمع الناس ( انا الحق) تعظيما لذاته وكان مصيره حكم الموت ، اذا ومن هنا يسقط مفهوم الغرابة من استخدام الكاتب لهذا السند اذ ان الطيور على اشكالها تقع ،كما ويتضح ان هذا المسلسل مترابط مع قسم الاغواء لابليس فقد اغوى الحلاج من حيث يظن انه اعلى الناس شأنا بالايمان فاصابه ما اصاب ابليس من الكبر وصولا الى الكفر ، وسنترك للقسم الثالث ما تبقى من نقاط اثارها الكاتب في حيثيات كتابه.
القسم الثالث
هذا بيت القصيد(51/317)
لسوف نناقش في هذا القسم القضية المحورية للكتاب اذ وبنص الكاتب ان هذه الخلاصة التي يتوخاها من كتابه وهي بالنص :( رأينا أن إبليس واقع في قبضة قهرة خاضع خضوعاً تاماً لقدره وأحكام مشيئته، شأنه في ذلك شأن بقية المخلوقات، مما يبطل مفعول الأمر والنهي عنه. إذا كان هذا القول صحيحاً لماذا طرده من الجنة بحجة الأمر والنهي؟ بالإضافة إلى ذلك قدر الله منذ الأزل من هم أصحاب الجنة ومن هم أصحاب النار. والأدلة الدينية على ذلك عديدة أورد منها، على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، الحديث القدسي التالي: "إن الله تعالى قبض قبضة فقال هذا إلى الجنة برحمتي ولا أبالي وقبض قبضة هذا إلى النار ولا أبالي" (35). ولكن بالرغم من ذلك أنزل الله الكتب وأرسل الرسل وشحنها بالأمر والنهي وميز بين الحلال والحرام، وما فائدة كل ذلك لمن كان مجبوراً بحكمته ومستعملاً فيما قدره عليه.
4) إذا كان الله صانع الأشياء كلها ومقدر الخير والشر على عباده لماذا أراد للناس أن يعتقدوا أن إبليس هو سبب الشر والمعصية ولماذا شاء تحميله أوزار أولئك الذين خلقهم للشر وأجرى الشر على يديهم؟ هل باستطاعتنا أن نعلل هذه المفارقة بردها إلى إحدى الصفات الإلهية المعروفة؟
أعتقد أن الصفة الإلهية التي نبحث عنها للإجابة عن هذه الأسئلة هي صفة المكر. وإليكم بعض الآيات القرآنية التي تبين طبيعة هذه الصفة)
بداية جاء الكاتب بما يدعي انه نص لحديث قدسي من كتاب لمحمد المدني ليستشهد به في سبيل نسج خيوط فكرته الاساسية والحديث القدسي بما هو متعارف عليه هو حديث منقول عن الله عز وجل وهو ليس بقرأن وبنتاج تحقيق واسع حول الامر توصلنا الى ان هذا الكتاب يحتوي على 864 حديثا قدسيا مقسمة على ثلاث اوجه :
134 حديثا مثبتين في الصحيحين
78 علمه واتصاله ضعيف
609 مسكوت عنه ولا يعرف عنه شيء .
والنص الذي اورده العظم لا يتوافق مع القسمين الاولين وان اصلا مشابها في الصحيحين سند اتصاله الى عمر بن الخطاب رضوان الله عليه مقطوع اذ ان الراوي عن عمر لم يعش في فترة حياته بل تلقى النص عبر مجهول واما النص المروي واخرجه الترمذي ( عن مسلم بن يسار ، ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الاية ( واذ اخذ ربك من بني ادم من ظهورهم ذريتهم واشهدهم على انفسهم الست بربكم فقالوا بلى شهدنا ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين )- قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سمعت رسول الله – r – يسأل عنها فقال :( ان الله خلق ادم ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل اهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره ، فاستخرج منه ذرية ، فقال :هؤلاء خلقت للنار ، وبعمل اهل النار يعملون )ويقول الترمذي ان هناك راوى مجهول بين يسار وعمر وهذا اضعف سند الحديث ) علما ان وجه الاختلاف بين الحديثين واضح ، وغني عن القول هنا ان جملة من الاحاديث القدسية وحتى المنسوبة الى الرسول الكريم عليه افضل الصلاة والسلام هي من الاسرائيليات المدسوسة والموضوعة وكثير منها تسرب من مصادر فارسية وهندية ويونانية وهكذا نرى كاتبنا القدير يلجأ اولا الى كاتب خرج على الدين وقتل لذلك وها هو في النسق الثاني يأتي بنص مشبوه لحديث مشكوك لاثبات تأويلات الصفات التى يود نسبها الى الخالق ؟؟؟فلماذا!!!
اما انه على ضعف كبير باللغة العربية التي هي لغة القرأن او انه يستضعف اللغة ليستقوي عليها الفكر الذي ينتمي اليه ويروج له فباستناده الى هذا الحديث استنبط الكاتب صفة الزمها لله جل وعلا وهي صفة المكر والعياذ بالله ، اذ لم يجد في اسماء الله وصفاته العلى من عزيز وقادر ورحيم وجبار وتتمتها الى تسع وتسعون ، ما يشفي غليله الفكري المتنور فاستحدث صفة المكر التي اعتقد جليا انه لا يعرف معناها الحقيقي بل اخذ منها صفة الخديعة للتدليل على خداع الخالق لابليس ومن خلفه البشر جميعا وفي محطات متعددة عبر استخدامه لايات محددة دون النظر الى تتماتها او سابقها او لاحقها والاصل في اسباب نزول الاية ، ليستدل على مكنوناته الفكرية الدالة على مكر الله واستهزائه بمخلوقاته واصفا الله بما يتجاوز عنه مخلوقاته من تعظيم سيء للمكر والخديعة والاستهزاء فيما بينهم فكيف ان كانت صفة الخالق وقبل ان يخلق احدا بل وصفها واستخلصها باعتبارها امرا مبيتا منه عز وجل عما يصفون .
وعود على بدء العلم والعقل وبعيدا عن الرد العاطفي ما هو المكر في اللغة ؟؟؟!!!(51/318)
عندما تتشابك اغصان الشجر الكثيف ويتعذر على الناظر ان يعرف كل ورقة لأي غصن تنتمي يسمى هذا مكرا ، والمكر صرف الغير عما يقصده بحيلة وهذه الصفة في تأويلها تأتي تبعا للمستتبع فقد ينوي احد شرا ويصرف الاخر الشر بعمل او بحيلة لابعاد الاذى فيكون المكر محمودا ، وقد يكون المكر من نوع عمل الغير فيكون شريرا ، اما في الايات التي استشهد بها الكاتب فتعرف باللغة العربية باسم المشاكلة او المجانسة ولننظر في الايات لنرى :( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )الانفال 30 ورد نص الاية في التدليل على النية المبيتة من قبل كفار قريش ليلة هجرة الرسول الكريم – r – بقتله في فراشه بواسطة مجموعة من ابناء القبائل ضربة واحدة ليتفرق دمه بين القبائل وقد اوحى الله تبارك وتعالى لرسوله الكريم ان اجعل في فراشك الامام علي بن ابي طالب – كرم الله وجهه – واخرج اليهم واتلوا اية من القرأن فتخرج دون ان يروك !!! هذا مكرهم يستهدف القتل ومكر الله ابعاد الاذى عن الرسول الكريم ، فهل مكر الله من جنس مكر الكافرين ، وتأتي كلمة مكر هنا في سياق اللغة من نوع وصف الله لاستهداف القتل بانه مكر لانه دبر بالخفاء وبدهاء فجاء الرد عليهم قي سياق اللغة بالمشاكلة والمجانسة لفعلهم بفعل مختلف .
وحتى لا يقال بأن الاية المستخدمة فريدة في دلالتها سنأخذ اية اخرى للاستشهاد (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) يونس 21 وفي الاية الكريمة يوضح الحق تبارك وتعالى كيف يتعامل الانسان مع المصيبة التي تحل به واذ هو بعد ان يزيحها الله عنه يمكر بايات الله اي انه يفسر خروجه من المشكلة بانها من فعله وينسى بمكره فضل الله عليه وتاتي كلمة مكر الله كتعبير عن الجزاء الذي ينتظرهم لكفرهم بأيات الله فسمى العقاب مكرا وهو كما سبق القول مجانسة .
والمجانسة في اللغة القرأنية كثيرة الوجوه ومتعددة المقاصد ففي سورة البقره ايه 176 (وَلا يَحسَبنّ الذين كَفَروا أنما نملي لَهُم خيَراً لأنفُسهم إنما نُملي لَهُم ليَزدادوا إثماً وَلَهُم عَذَاب مهين. مَا كَان اللّه لِيذرَ المؤمنين عَلى ما أنتم عَليهِ حَتّى يَميزَ الخَبيث منَ الطّيّب..)تأتي كلمة نملي هنا في موقع الامهال وان اعطاء الفرصة لهم وزيادة ما هم فيه من الكفر هو امهال خير لهم ، انما الهدف الالهي من هذا الاستمهال هو التمييز بين الخبيث والطيب لمصلحة المؤمنين وهذه مجانسة كما في مسألة المكر والاستهزاء التي حاول كاتبنا فريد العصر ان يتلطى خلفها ليصف الله عز وجل بالخداع والمكيدة ، تبارك الله عما يصفون .
وهكذا يبدو واضحا وبشكل جلي ان الكاتب الى جانب قصوره في فهم الدين الاسلامي وتشريعاته وايات قرأنه فهو قاصر لغويا فيأخذ الالفاظ والمسميات على عواهنها مطلقا بذلك احكامه الزئبقية ومفترضا القبول بها كقوانين يجب ان نحتكم اليها في مسار حياتنا ، فقضى بالخلط المتعمد بين المشيئة والامر ، وبين النار والنور ، وبيبن الجن والملائكة ، وبين التسيير والتخيير ، وبين الفرضيات العلمية التى سقطت بتقادم الزمن وبين الحقائق العلمية التي رفض مدلولاتها القرانية مصرا على اتهامنا بالجهل والتخلف حاملا لواء الحضارة الغربية وفكرها وناطقا ومتحدثا بأسمها وحاول الصاق تناقضاته الفكرية بالماركسية مما استدعى تبرؤهم منه فقد أعلن الأستاذ نسيب نمر (في مجلة الأحد/ 29 آذار 1970 - العدد / 972) براءة الماركسية من الدكتور صادق جلال العظم ومن أفكاره، بدعوى أن أفكاره ليست ماركسية بدرجة كافية، وأنه لم يتناول موضوعه تناولاً علمياً صحيحاً .
ان اعتراف المسلمين بضرورة النظر الى الواقع الحالي للعالم والتغيرات التي طرات عليه وبالنظر الى رؤيا تستند في قراءتها على دراسة حقيقية للوقائع تتطلب البدء ومن دون تهاون بعملية تحديث للوعي الديني في شقه التنفيذي القابل للاجتهاد واعادة طرح الصورة الدينية بشكل يخاطب العقول البشرية في مرحلتها الحالية وهو مسار سبقنا اليه الكثير من عظماء الامة فأبدعوا علوما رائعة في العديد من المجالات الدينية والدنيوية لتصبح رسالتنا الكريمة من جديد موضع تقدير العالم وتفهمه ولتعود رؤيتنا للعقيدة على النحو الذي فطرنا الحق تبارك وتعالى عليه منذ بدء الخلق وكما ودعنا وعاهدنا عليه خير البرية محمد بن عبدالله عليه مني افضل الصلاة واتم التسليم .(51/319)
ولما ختم الكاتب العظم كتابه بالسؤال الذي افترض ان يوجهه ابليس بالقول ( ان كنت انا ابليس ادم فليت شعري من كان ابليسي ) واود اجابة ابليس على سؤاله حتى لا يبقى في هذا الوجود محتارا حتى قيام الساعة ، فاقول له ان كنت ابليس الذي خلقه الله للانس والجن لتغويهم حسب كاتبنا فأن ابليسك وابليس نسلك هم هؤلاء البشريون الذين عميت اعينهم عن الحقيقة المطلقة للكون والوجود وما جاء في وصف الخالق لشياطين الانس والجن الا تعبيرا حقيقيا عن هذه المسألة وهي ليست عرضية في طرحها ودليلنا على ذلك قول رسولنا الكريم في وصف شهر رمضان المبارك حيث يتم تصفيد الشياطين لابعاد عبثها عن الناس لفتح المجال الاوسع لاداء الفرائض ولكن كم من المعاصي ترتكب في رمضان اليس وراءها شياطين الانس الذين ابتلى الله بعضهم ببعض فيما الشياطين الحقيقيون اصحاب المهمة بالوسوسة مكبلين في اصفادهم ، اليس هذا النوع من الفكر الفاسد لكتاب جهلة هو فساد في الارض وافساد للعقيدة وما اكثرهم هذه الايام ، ولذا فاني وفي نهاية تحقيقي اود اسداء نصيحة للمؤلف والناشر قد تأتيهم بالفائدة المرجوة من نشر مثله من العلوم الفاسدة بأن يغير عنوان الكتاب من نقد الفكر الديني – ماساة ابليس الى ماساة صادق جلال العظم .
المراجع
• صحيح مسلم
• صحيح البخاري
• تفسير الطبري
• تفسير الجلالين
• مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني للشيخ محمد مهدي شمس الدين
• الاحاديث القدسية في الجرح والتعديل د. عبد الغفور عبد الحق البلوشي
• الاعجاز العلمي في القرأن – الشيخ عبد المجيد الزنداني
• كشف الخفاء للعجلوني
• موريس بوكاي – الدين والعلم
• الكون والاعجاز العلمي في القرأن – أ.د. منصور حسب البني
• الاعجاز العلمي في القرأن – الشيخ زغلول النجار
• كتاب الطواسين
• تبليس ابليس
• الاحاديث القدسية – المكتبة الثقافية – بيروت
• صراع مع الملاحدة حتى العظم – الشيخ محمد شريف الزيبق
• اني ماري شيمل – الحلاج نصوص التصوف الاسلامي
• الكتاب المقدس العهدين
• د. سلامه عبد الهادي – تأملات في سورة الأنبياء
• ادوارد سعيد –مجموعة مقالات حول الاستشراق والاستغراب
================(51/320)
(51/321)
سلسلة كشف الشخصيات (1) : قاسم أمين
بقلم : سليمان بن صالح الخراشى
قاسم أمين ([1]): سفور المرأة باسم الدين:
القضية الأساسية التي نذر لها قاسم أمين (1863-1908م) حياته هي قضية المرأة، فقد أراد لها أن تتحرر من قيودها الماضية وتقتدي بالمرأة الغربية، وقد كان ذلك هو محور آرائه في كتابيه (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة)، فقد أعلن بلا مواراة أن التمسك بالماضي هو من الأهواء التي يجب أن ينهض الجميع لمحاربتها، لأنه ميل بجير إلى التدني والتقهقر، وأنه هو الداء الذي تلزم المبادرة إلى علاجه، وليس له من دواء إلا معرفة شئون المدنية الغربية، والوقوف على أصولها وفروعها وآثارها. وهو مؤمن أن الغربيين قد وصلوا إلى درجة رفيعة من الأدب والتربية مثل ما أنهم متقدمون في العلوم والصنائع.
ومسألة حقوق المرأة وحريتها عند الغرب ليست في نظره مجرد عادة اجتماعية بل هي مسألة علمية، والحقيقة أنهم درسوها -كما يقول - درسًا تامًّا كغيرها من المسائل الاجتماعية، إذ يصعب على العقل أن يظن أن علماءهم الذين يجهدون أنفسهم في اكتشاف أسرار الطبيعة يغفلون عن هذه المسألة أو يهملونها، وهذا هو السبب الذي جعله يضرب الأمثال بالأوروبيين ويشيد بتقليدهم، وحمله على أن يستلفت الأنظار إلى المرأة الأوروبية؛ لأن المدينة الإسلامية (ولا يقول الدين الإسلامي) أخطأت في فهم طبيعة المرأة وتقدير شأنها. ([2])
وهذا الإيمان العميق عند قاسم أمين بحضارة الغرب وقيمها وآدابها ليس أمرًا مستغربًا ولا مثيرًا للدهشة، بل هو الثمرة الطبيعية لثقافته الغربية البحتة، ودراساته في فرنسا، ولكن الأمر الذي يستلفت النظر هو أنه دعا المرأة المسلمة لأن تقلد المرأة الغربية في كل شؤون حياتها، وحبَّذ لها أن إسلامها ودينها لا يعارض هذا التقليد. ومع أنه يعترف بقلة بضاعته في الثقافة الإسلامية، وأنه قليل الإطلاع على ما كتبه المسلمون، قصير الباع في علومهم([3])، ومع أنه يقول عن نفسه: «لست أحب الخوض في حديث عن الدين لأسباب تتعلق بطبيعتي الخاصة، وبحرصي على مراعاة اللياقة العامة».([4])، وكلنا يفهم مغزى هذا الاعتراف، إلا أنه مع ذلك ناقش أمهات المسائل الدينية الخاصة بالمرأة من الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات وتعليم المرأة وعملها، وكانت المهمة الصعبة أمامه هي أن يوفق بين الآراء الغربية وبين الشرع.
وقد فعل ذلك ببساطة تثير العجب باستخدام مبدأين مفضلين لدى العصرانيين:
المبدأ الأول: أنه يرى أن أحكام الشرع في هذه المسائل ليست أحكامًا ثابتة، بل هي أحكام متغيرة مع الزمان والمكان، ويشرح ذلك في هذه العبارة:
« الشريعة الإسلامية إنما هي كليات وحدود عامة، ولو كانت تعرضت إلى تقرير جزئيات الأحكام لَمَا حُقَّ لها أن تكون شرعًا يمكن أن يجد فيه كل زمان وكل أمة ما يوافق مصالحهما» ثم يقول: «فالأحكام المبنية على ما يجري من العوائد والمعاملات فهي قابلة للتغيير على حسب الأحوال والأزمان، فتبين لنا من ذلك أن لنا في مأكلنا ومشربنا وجميع شؤون حياتنا العمومية والخصوصية في أن نتخير ما يليق بنا، ويتفق مع مصالحنا بشرط ألا نخرج عن تلك الحدود العامة».([5])
واستنادًا على هذا المبدأ الواسع الفضفاض يرى أن الإسلام يمكن أن يتلاءم ببساطة مع كل التطورات([6])، ويقول: «مع أنه من المهم أن نلتفت إلى التمدن الإسلامي القديم، ونرجع إليه، ونقف على ظواهره وخفاياه لأنه يحتوي على كثير من أصول حالتنا الحاضرة، ولكن من الخطأ أن ننسخ منه صورة ونحتذي مثال ما كان فيه سواء بسواء؛ لأن كثيرًا من ظواهر هذا التمدين لا يمكن أن يدخل في نظام معيشتنا الحالية».([7])
والمبدأ الثاني الذي يستخدمه قاسم أمين هو «أن أقوال النبي([8]) لا تشكل كلها جزءًا من الدين، فمن الطبيعي أن نُنَحِّيَ من هذه الأقوال تلك المحادثات الأليفة والنصائح الخلقية والحكم الفلسفية التي لا تشكل التزامات وواجبات دينية، كما يجب أن ننحي أيضًا كل ما لا علاقة له بالفقه والتشريع، وتبقى بعد ذلك الأحاديث القليلة التي تفسر أو تكمل التوجيهات التي يتضمنها القرآن الكريم، بعد تحقق جاد من روايتها، أو بملاحظة مطابقتها مع نص القرآن أو روحه.([9])(51/322)
وتحت مظلة هذين المبدأين دعا المرأة إلى ترك الحجاب؛ «لأن الكل متفقون على أن حجاب النساء هو سبب انحطاط الشرق، وأن عدم الحجاب هو السر في تقدم الغرب».([10]) ودعا إلى الاختلاط؛ (لأن نساء العرب ونساء القرى المصرية مع اختلاطهن بالرجال على ما يشبه الاختلاط في أوروبا تقريبًا أقل ميلاً للفساد من ساكنات المدن اللائي لا يمنعهن الحجاب عن مطاوعة الشهوات والانغماس في المفاسد، وهذا مما يحمل على الاعتقاد بأن المرأة التي تخالط الرجال تكون أبعد عن الأفكار السيئة عن المرأة المحجوبة».([11]) ودعا إلى تعليم وعمل المرأة المسلمة تمامًا مثل الغربية، وشجعها على تعليم الموسيقى والرسم والتصوير، وعاب على « مَنْ يعدها من الملاهي التي تنافي الحشمة والوقار» وتحسر «أنه ترتب على هذا الوهم الفاسد انحطاط درجة هذه الفنون في بلادنا إلى حد يأسف عليه كل من عرف ما لها من الفائدة في ترقية أحوال الأمم».([12])
وفي مسألة الطلاق دعا إلى تقييد الطلاق بسلسلة من الإجراءات، واقترح أن يعتبر الطلاق غير صحيح إلا إذا وقع أمام القاضي([13]). وتعدد الزوجات في نظره «.. احتقار شديد للمرأة، وأنه ليجمل برجال هذا العصر أن يقلعوا عن هذه العادة من أنفسهم، ولا أظن أن أحدًا من أهل المستقبل يأسف على تركها ».([14])
هذه بعض (أبواب الإصلاح) التي طرقها قاسم أمين باسم الشرع والدين، ونحن الآن بعد قرابة القرن من صدور كتابيه ([15]) يمكننا بالنظر في أحوال المرأة المصرية وأوضاعها الراهنة، أن نتبين ونلمس كيف كانت دعوته (إصلاحًا) لعقول النساء للإلقاء بأنفسهن طائعات في طوفان الحضارة الغربية.
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 142-147).
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) ولد قاسم أمين من أب تركي وأم مصرية، تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة خاصة بأبناء الأثرياء، ثم التحق بالقسم الفرنسي في المرحلة التالية، وبعدها درس الحقوق وعمل بالمحاماة، ثم سافر في بعثة دراسية لفرنسا، وبعد عودته التحق بالقضاء المدني.
([2]) (المرأة الجديدة)، قاسم أمين، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد عمارة، ج2 ص 203-221.
([3]) المصدر نفسه، ص 210.
([4]) (المصريون)، الأعمال الكاملة لقاسم أمين، ج1 ص296.
([5]) (تحرير المرأة)، ج2 ص 111.
([6]) المصريون، نفس المصدر، ج1 ص 328
([7]) الأعمال الكاملة، ج2 ص 203 – 206 (تحرير المرأة).
([8]) صلوات الله وسلامه عليه.
([9]) الأعمال الكاملة، ج 1 ص 326، (المصريون).
([10]) نفس المصدر، ج2 ص 220، (المرأة الجديدة).
([11]) نفس المصدر، ج2 ص 59، (تحرير المرأة).
([12]) نفس المصدر، ج2 ص 199، (المرأة الجديدة).
([13]) نفس المصدر، ج2 ص 104، (تحرير المرأة).
([14]) نفس المصدر، ج2 ص 90-94، (تحرير المرأة).
([15]) صدر كتاب (المرأة الجديدة) في 1900م، و(تحرير المرأة) قبله بعام.
الرد على .. [ الماجن (*) ] الذي أوصى بقراءة كتب قاسم أمين !
بقلم : سليمان بن صالح الخراشي
قامت إحدى الفضائيات مؤخرًا باستضافة أحد ( المجان ) للحديث عن قضايا المرأة المسلمة ! فأوصى الجميع بقراءة كتب شيخه قاسم أمين !! وكتاب " تحرير المرأة في عصر الرسالة " للهالك عبدالحليم أبوشقة !
فكان لقومه .. كالغراب الذي يدل على الخراب ..
ليبوء بإثمه ، وإثم من يضل بسبب نصيحته .
ولو كان الرجل يعيش في عصر قاسم لالتمسنا له بعض العذر ؛ حيث لم تتبين له حقيقة الدعوة الإفسادية بعد .... ولكنه للأسف يعيش بعد ( 100 ) عام أو أكثر على تلك الدعوة المخربة .
وقد شاهد - كما شاهد الجميع - آثارها وماجنته على البلاد المصرية ؛ حيث كانت فاتحة شر على أهلها .. وسببًا رئيسًا في إيهان قوتها ، وترويضها للمحتل الإنجليزي - حينذاك - .
ولكن - ولله الحمد - قد لفظها أهل مصر فيما بعد لما تيقنوا ضررها ، وأنها مجرد شعارات فارغة .. لا يوجد تحتها سوى الفساد الأخلاقي العريض الذي صدقه الواقع .
فهل يريدنا هذا ( الماجن ) ومن يُمَكن له من توجيه نسائنا : أن نبدأ من حيث بدأ الآخرون ، فلا نستفيد من التجارب ؟!
تخيل : لو كنت تسير خلف إنسان فعثر في حجر أو سقط في حفرة .. هل تعثر أوتسقط خلفه ؟!
ماذا سيقول عنك العقلاء حينئذ ؟!
أما كتب قاسم أمين : فقد قرأها المسلمون ، ولم يجدوا فيها سوى محاولة مسخ المرأة المسلمة ، وجعلها تابعة ذليلة لنساء الغرب الوضيعات .
وتحدثوا وأطالوا في كشف باطلها .
فمابال هذا ( المريض ) ومن معه يصمون آذانهم ؟! ويحاولون إحياءها من جديد ؟!
وأنصح القارئ أن يعود إلى كتاب ( عودة الحجاب ) للشيخ محمد بن إسماعيل - وفقه الله - ، ومذكرة بعنوان ( المشابهة بين قاسم أمين ودعاة تحرير المرأة ) في موقع صيد الفوائد .
وأما كتاب ( أبوشقه ) الذي فتن به ( الماجن ) ؛ فقد كتبت مذكرة قديمة في نقده تجدها في الموقع السابق . ثم اطلعت - فيما بعد - على مقال جميل عنه للأستاذ جمال سلطان - وفقه الله - نشره في كتابه ( ثقافة الضرار ، ص 71 - 74 ) .
أسوقه للقارئ فيما يلي :(51/323)
تحرير المرأة في عصر الضلالة !
بقلم / جمال سلطان
( لا تزال قضية ما يسمى بتحرير المرأة تمثل محوراً أساسياً في حوارات المثقفين والمثقفات العرب، تخفتُ حيناً لتعود إلى الظهور مرة أخرى، مواكبة لحركات المد والجزر في تحولات الصحوة الإسلامية في أقطار العرب المختلفات من المحيط إلى الخليج.
وقد تابع الكثيرون تظاهرات نسائية جزائرية حشدتها بعض الأحزاب العلمانية والتجمعات النسائية المضبوطة على موجات البث الفرنسي، وكان الداعي العصبي لهذه التظاهرات الغاضبة هو الرفض الحاسم من قبل "أحرار نساء الجزائر" للتوجهات الظلامية والأفكار الإرهابية التي تصدر عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والتي تهدد مستقبل المرأة الجزائرية وحريتها وكرامتها.
الجدير بالذكر هنا، أن هذه التجمعات النسوية وحلفاءها من الأحزاب العلمانية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، لم تحشد مثل هذه التظاهرات أو نصفها أو عشرها للدفاع عن "كرامة" الإنسان الجزائري، وحريته، وحقوقه الإنسانية الأولية، ولم تحشد مثل هذه التظاهرات ضد "الحكومة الجزائرية" –مثلاً- بوصفها صاحبة السلطات والقوة القاهرة التي تمارس بها تنفيذ سياساتها الاقتصادية والتربوية والإعلامية التي تُهدّد مستقبل الإنسان الجزائري برمّته، في حين برزت التظاهرات العصبية ضد حزب معارض، لم يكن يملك –حينها- سلطة الحسم والتوجيه لمستقبل دولة، بل كان واضحاً تماماً للمراقبين الدعم الإعلامي والتنظيمي الذي تقدمه الحكومة لهذه التظاهرات من خلال أجهزتها الإعلامية المختلفة.
لقد كان واضحاً أن مثل هذه التظاهرات "التحررية" مجرد "خطوط دفاعية أولى" لقوى التغريب والتبعية السياسية والثقافية في الحكومة وغيرها، لإعاقة المد الإسلامي أو تفتيت جهوده حتى يصل إلى معركة "الحسم" منهك القوى، مثخناً بالجراح.
الظاهرة نفسها تكررت بوجه آخر في "الأردن"، حيث دفعت العلمانية بخطوط دفاعها الأولى لمواجهة النمو المتزايد لنفوذ القوى الإسلامية في البلاد . فاستعملت القضيتين التقليديتين: أمن الدولة، وأمن النساء، وظهرت زعامات تحرير المرأة، التي تتحدث عن اضطهاد المرأة في الخطاب الإسلامي ، وأثيرت قضية "الفصل بين الجنسين"، حين أصدرت وزارة التعليم الأردنية –وزير إسلامي في الحكومة السابقة- قراراً تنظيمياً بهذا الخصوص، لتلاشي الآثار الأخلاقية السيئة التي يفرزها الاختلاط الجنسي، فما كان من "زعماء تحرير المرأة" إلا أن أعلنوا الحرب على "الإجراء التنظيمي"، وكان أمراً عجباً، أن تقف امرأة أردنية "زليخة" على مرمى حجر من القدس الملتهبة، لترى أن معركتها الأولى والمصيرية هي في الدفاع عن حقها في مخالطة الرجال !
الظاهرة ذاتها متكررة في مصر، وبين الحين والآخر تدفع "القوى الظلامية" ببعض الوجوه المعروفة لإثارة زوبعة حول "المرأة المضطهدة"، وكثير من هذه التجمعات النسوية في مصر، انفضح أمرها في غمرة جهادها التحرري! وتكشفت أبعاد دورها عندما كشف النقاب عن "نفق الدولارات" الذي ينساب في جيوب المتنفذات من زعماء تحرير المرأة، على النحو الذي تكشفت فيه فضيحة "نوال السعدواي" وتلقيها أموالاً "سرية" من مؤسسة "فورد فونديشن" الأمريكية، وغيرها من المؤسسات الإنجليزية والهولندية.
اللعبة واضحة، والأسلوب شبه متطابق في تنفيذه في مختلف ديار الإسلام ، الأمر الذي يستدعي من الإسلاميين منهجية جديدة في التعاطي مع هذه الظاهرة وحيلها وتكتيكاتها، فالأمر لم يعد يحتمل أن يتصدى معه الإسلاميون لهذه الهجمات التافهة والمأجورة بالمنطق نفسه الذي استعمله "محمد عبده" و"قاسم أمين"، كأن أضع نفسي في قفص الاتهام بمحض إرادتي، ثم أبدأ في طرح "دفاعي المجيد" عن براءتي، ثم تبدأ نشوة الفصاحة الثقافية في دغدغة مشاعر القضاة وممثلي الادعاء بتقديم بعض التنازلات التي تبيض وجه المسلمين والإسلام، دون أن ندري أننا قد فتحنا "الثقب" في جدار القيم الإسلامية الأصيلة، ليبدأ سيل التخريب والتدمير يأتي على "منظومتنا" من أطرافها حتى يصل إلى التذويب الكامل.
ولكننا –مع الأسف- مازلنا نجد بعض الإسلاميين يتخذون المواقع القديمة نفسها، كأن الهزيمة النفسية أصبحت قدراً مقدوراً في فكرنا الإسلامي المعاصر، مازلنا ننطلق مع مواقع الدفاع، وما زلنا نقدم شهادات البراءة لمن ؟ لمجموعة من المتهوكين والفسقة –بمنطق الشرع- لا يملك أي منهم أو منهن أي مصداقية أخلاقية أو علمية، ناهيك عن أن يملك القداسة، التي تبيح له تبوأ مقام المرجعية لبيان الحق والباطل، والرشد والضلال، في القيم والمفاهيم والأفكار.(51/324)
لقد عنى أحد الباحثين المصريين مؤخراً بإصدار "موسوعة" ضخمة سماها "تحرير المرأة في عصر الرسالة" تقوم بكاملها وفق ذلك المنهج الدفاعي، منهج الخذلان، الذي اختطه الشيخ "محمد عبده"، والتقط الخيط الكاتب الصحفي "فهمي هويدي" الذي عرض للكتاب عرضاً مثيراً في مقال له بجريدة الأهرام المصرية، وتوقف فيه طويلاً عند الكشف الكبير الذي أبرزه الكاتب، وهو "حق المرأة في المبيت وحدها خارج بيتها" ؟! والتأكيدات والمستندات الشرعية التي قدمها الباحث لهذا الحق المبدئي المقدس، وبطبيعة الحال ليس مثل "فهمي هويدي" بالمغفّل حتى يجهل الأبعاد الاجتماعية المعاصرة التي يوظّف في سبيلها هذا الكلام، ولكنها الاندفاعية المتهورة في "مزلق" تمدين الإسلام، وغياب التصور الشامل لأبعاد المعركة .
لقد كتب "فهمي هويدي" مهاجماً الحركة الإسلامية في فلسطين لأنها طرحت في برنامجها التأكيد على "الهوية الإسلامية" لفلسطين المحررة، ورأى أن تلك قضية جانبية لا ينبغي أن تفتت الصفوف وتشغل الجهود، ثم هو يعود ليتحدث –في أوسع منبر إعلامي بالشرق- عن القضية المصيرية للمرأة المسلمة، وهو "حقها في أن تبيت خارج بيتها"!
أخشى أن يكون مثل ذلك البحث لا يبحث عن معنى "تحرير المرأة في عصر الرسالة" وإنما يبحث عن ثوب إسلامي مزيف يكسو به دعوى " تحرير المرأة في عصر الضلالة " ! ) . انتهى مقال الأستاذ جمال .
تنبيهان :
الأول : للدكتور محمد فؤاد البرازي كتاب بعنوان ( حجاب المرأة المسلمة .. ) تعرض فيه لكتاب ( أبوشقه ) وتعجب من عده انتشار الحجاب من إحدى المصائب !! ( انظر : ص 16 وما بعدها ) .
الثاني : أن العاقل يتساءل : لماذا طرح مثل هذه الدعوة الفاسدة الآن ؟! وبلادنا يتربص بها العدو ويضغط عليها بكل مااستطاع ؟!
فهل خلف الأكمة ما وراءها ؟!
وهل نلام إذا ما عددنا هذا ( الماجن ) وأمثاله ، ومن يُمكنون لهم من ضمن ( الطابور الخامس ) الذي يهدد حصوننا من الداخل ؟!
أخيرًا : ألا يستحق هذا الطابور المتواطئ مع العدو - شاء أم أبى - وقفة حازمة من ولاة الأمر - وفقهم الله - تجتث جذوره ، وتقي المسلمين شروره ؟! قبل أن يتمدد فيكون قاعدة صلبة للعدو الرابض قريبًا منا ؟!
-------------------------
(*) أقصد بالماجن : كل من يوصي بقراءة رائد التغريب كتب قاسم أمين وهو يعلم مافيها من انحراف وإفساد ..
ومن ذلك : قوله : ( فأول عمل يعد خطوة في سبيل حرية المرأة هو تمزيق الحجاب ومحو آثاره ) !!!! ( المرأة الجديدة ، ص 442 ضمن أعماله الكاملة )
وتنبه إلى أنه لايعني بالحجاب هنا تغطية الوجه ؛ لأن هذا قد فرغ منه في كتابه الأول ( تحرير المرأة ) ! بل يقصد كل مايسميه المسلمون حجابًا !
وللفائدة : فالماجن في اللغة هو قليل الحياء .
وفق الله الجميع للخير ، وجنبهم خطوات الشيطان ، أو الدفاع عن حزبه .
من كتاب واقعنا المعاصر لمحمد قطب
قضية تحرير المرأة
" بطل " هذه القصة هو قاسم أمين
شاب نشأ في أسرة تركية مصرية أي محافظة فيه ذكاء غير عادي حصل علي ليسانس الحقوق الفرنسية من القاهرة وهو في سن العشرين بينما كان هناك في عصره من يحصل علي الشهادة الابتدائية في سن الخامسة والعشرين
ومن هناك التقطة الذين يبحثون عن الكفاءات النادرة والعبقريات الفذة ليفسدوها، ويفسدوا الأمة من ورائها ألتقطوه وابتعثوه إلي فرنسا.. لأمر يراد.
أطلع قبل ذهابه إلي فرنسا علي رسالة لمستشرق يتهم الإسلام باحتقار المرأة وعدم الاعتراف بكيانها الإنساني وغلي الدم في عروقه، كما يصف في مذكراته وقرر أن يرد علي هذا المستشرق ويفند إفتراءاته علي الإسلام.
ولكن عاد بوجه غير الذي ذهب به
لقد أثرت رحلته إلي فرنسا في هذه السن الباكرة تأثيرا بالغا في كيانه كله، فعاد إلي مصر بفكر جديد وعقل جديد ووجه جديدة.
عاد يدعو إلي " تعليم المرأة وتحريرها " علي ذات المنهج الذي وضعه المبشرون وهم يخططون لهدم الإسلام
يقول في مذكراته إنه إلتقي هناك بفتاة فرنسية أصبحت" صديقة " حميمة له و إنه نشأ بينه وبينها علاقة عاطفية عميقة، ولكنها " بريئة " وإنها كانت تصحبه إلي بيوت الأسر الفرنسية والنوادي والصالونات الفرنسية فتفتح في وجه البيوت والنوادي والصالونات ويكون فيها موضع الترحيب... ( )
وسواء كان هو الذي " التقي بها " أم كانت موضوعية في طريقة عمدا ليلتقي بها، فقد لعبت هذه الفتاة بعقله كما لعبت بقلبه، وغيرت مجري حياته، وجعلته صالحا للعب الدور المطلوب، الذي قررت مؤتمرات التبشير أنه لابد منه لهدم الإسلام
ونحن نميل إلي تصديقه في قوله إن العلاقة بينه وبينها كانت " بريئة " لا بالمعني الإسلامي للبراءة بطبيعة الحال، ولكن بمعني عدم وصول هذه العلاقة إلي درجة الفاحشة فإنها علي هذه الصورة تكون أقدر علي تغيير أفكاره من العلاقة المبتذلة التي تؤدي إلي الفاحشة،لأن الفتاة ستكون حينئذ ساقطة حسة غير جديرة بالاحترام، وغير جديرة بأن تكون مصدر " إلهام "(51/325)
وسواء كانت الفتاة قد " مثلت " الدور بإتقان، لتظل العلاقة بينه وبينها " روحية " و " فكرية " لتستطيع التأثير عليه، أم كانت تربيته المحافظة في الأسرة المنحدرة من أصل تركي هي التي وقفت بهذه العلاقة عند الحد الذي يصفها بالبراءة فالنتيجة النهائية كانت انقلابا كاملا في كل كيانه
ولنحاول أن نتصور كيف حدث التغيير ..
هذا شاب عبقري، نعم، ولكنه قادم من بلاد محتلة ن تحتلها إحدي الدول الأوروبية وهو قادم إلي أوروبا تلك التي يتحدث قومه عنها بانبهار الماخوذ، وتمثل في حسهم العملاق الضخم الذي يتضاءل الشرق أمامه وينزوي، فنستطيع عندئذ أن نتوقع أنه قادم إلي أوروبا وهو منخنس داخل نفسه، يحس بالضآلة والقزامة ن ويتوجس أن يزدري في بلاد العمالية لأنه قزم قادم من بلاد الأقزام، وأقصي ما يتمناه قلبه أن يجد الطمأنينة النفسية والعقلية في تلك البلاد الغربية التي لا يكاد يستوعبها الخيال
وبينما هو كذلك منكمش متوجس – إذا هذه الفتاة تبرز له في الطريق فتؤنس وحشته بادئ ذي بدء، فيزول عنه انكماشه وتوجسه، ويذهب عنه توتر اعصابه ويشعر بالطمأنينة في المهجر
ثم إن هذه الفتاة تبادله عواطفه – كما قص في مذكراته – فيشعر فوق الطمأنينة بالسعادة والغبطة ويزداد استقرار نفسه فلا يعود يشعر بالغربة النفسية الداخلية، وإن بقيت الغربة بالنسبة للمجتمع الخارجية الذي لم يحتك به بعد
غير أن الفتاة تنتقل معه – فتنقله – خطوة أخري.. فهي تصحبه إلي الأسر الفرنسية فتفتح له تلك الأسر أبوابها وترحب به، وتصحبه إلي النوادي والصالونات فترحب به كذلك وهنا تزول الغربة نهائيا، سواء بالنسبة لمشاعره الخاصة أو بالنسبة للمجتمع الخارجي، وينطلق في المجتمع الجديد واثقا من خطواته
كيف تصير الأمور الآن في نفسه؟
كيف ينظر إلي العلاقة بينه وبين هذه الفتاة؟
وكيف ينظر إلي التقاليد التي تم عن طريقها كل ما تم في نفسه من تغيير
علاقة " بريئة " أي لم تصل إلي الفاحشة نمت من خلالها نفسه نموا هائلا، فخرجت من انكماشها وعزلتها، واكتسبت إيجابية وفاعلية، مع نمو في الثقافة وسعة في الأفق، ونشاط وحيوية
ما عيب هذه التقاليد إذن؟ وما المانع أن تكون تقاليدنا نحن علي هذا النحو " البرئ "
هناك بلا شك – مهما احسنا الظن مجموعة من المغالطات في هذا المنطق.
المغالطة الأولي:هي دعواه " ببراءة " هذه العلاقة علي اعتبار خلوها من الفاحشة المبينة فحتي لو صدقناه ونحن أميل إلي تصديقه كما قلنا فهي ليست " بريئة " في الميزان الإسلامي الي يقيس به المسلم أمور حياته كلها فهي تشتمل علي " خلوة " محرمة في ذاتها سواء أدت إلي الفاحشة أم لم تؤد إليها وهي محرمة في دين الله لحكمة واضحة، لأنها تؤدي في النهاية إلي الفاحشة، إن لم يكن في أول مرة ولا حتي في أول جيل فإنه ما من مرة أباحت البشرية لنفسها هذه الخلوة إلا وصلت إلي الفاحشة في نهاية المطاف لم تشذ عن ذلك أمة في التاريخ
والمغالطة الثانية: هي تجاهله ما هو واقع بالفعل في المجتمع الفرنسي من آثار مثل هذه العلاقة، وقد علم يقينا بلا شك أن ذلك المجتمع يعج بألوان من العلاقات الأخري " غير البريئة " ويسمح بها بلا رادع " فلم يكن ذلك سرا مخفيا عن أحد ممن يعيش في ذلك المجتمع، سواء من أهله أو من الوافدين عليه فحتي لو صدقناه في أن علاقته هو الخاصة لم تصل إلي ما يصل إليه مثلها في ذلك المجتمع لظروف خاصة مانعة في نفسه أو في نفسها فليس ذلك حجة لإباحة تلك العلاقات، أو الدعوة إلي مثلها نه وهو يري بنفسه نتائجها الواقعية حين يبيحها المجتمع
والمغالطة الثالثة: هي زعمه في كتابه الأول " تحريرا المرأة" أن هذا التحرير لن ينتج عنه إلا الخير ولن تنشأ عنه العلاقات الدنسة التي رآها بعينه في المجتمع الفرنسي إنما سينشأ عنه تقوية أواصر المجتمع وربطها برباط متين! ( ).
وأيا كان الأمر فقد عاد قاسم أمين من فرنسا داعيا لتحرير المرأة داعيا إلي السفور ونزع الحجاب
نفس الدعوة التي دعا بها رفاعة الطهطاوي من قبل عند عودته من فرنسا مع فارق رئيسي.. لا في الدعوة ذاتها، ولكن في المدعوين فإن أكثر من نصف قرن من الغزو الفكري المستمر كانت قد فعلت فعلها في نفوس الناس، فلم تقابل دعوة قاسم أمين بالاستنكار البات الذي قوبلت به دعوة رفاعة الطهطاوي، ولم توءد في مهدها كما وئدت الدعوي الأخري من قبل
ومع ذلك فلم يكن الأمر سهلا فقد أثار كتاب "تحرير المرأة " معارضة عنيفة جعلت قاسم أمين ينزوي في بيته خوفا أو يأسا، ويعزم علي نفض يده من الموضوع كله.
ولكن سعد زغلول شجعه وقال له: أمض في طريقك وسوف أحميك!(51/326)
عندئذ قرر أن يعود، وأن يسفر عن وجهه تماما فلئن كان في الكتاب الأول قد تمحكم في الإسلام، وقال إنه يريد للمرأة المسلمة ما أعطاها الإسلام من حقوق وفي مقدمتها التعليم فقد أسقط الإسلام في كتابه الثاني " المرأة الجديدة " ولم يعد يذكره إنما صار يعلن إن المرأة المصرية ينبغي أن تصنع كما صنعت أختها الفرنسية، لكي تتقدم وتتحرر، ويتقدم المجتمع كله ويتحرر! وهكذا سقط الحاجز المميز للمرأة المسلمة، وصارت هي المشركة أختين بلا أفتراق!
بل وصل الأمر إلي الدعوة إلي السير في ذات الطريق الذي سارت فيه الغربية من قبل، ولو أدي ذلك إلي المرور في جميع الأدوار، التي قطعتها وتقطعها النساء الغربيات وقد كان من بين تلك الأدوار ما يعلمه قاسم أمين ولا شك من التبذل وانحلال الأخلاق!
قال:
(.. ولانري مانعا من السير في تلك الطريق التي سبقتنا إليها الأمم الغربية لأننا نشاهد أن الغربيين يظهر تقدمهم في المدنية يوما فيوما.
(وبالجملة فإننا لا نهاب أن نقول بوجوب منح نسائنا حقوقهم في حرية الفكر والعمل بعد تقوية عقولهن بالتربية ن حتي لو كان من المحقق أن يمررن في جميع الأدوار التي قطعتها وتقطعها النساء الغربيات) ( ).
وكان آخر ماقاله في ليلة وفاته مخاطبا - بالفرنسية - مجموعة من الطلبة والطالبات الذين جاءوا من روما في زيارة لمصر:
(أحيي هذه البعثة العلمية وأشكرها علي زيارة نادي المدارس العالية, أحي منها بصفة خاصة هاتة الفتيات اللواتي تجشمن مصاعب السفر متنقلات من الغرب إلي الشرق حبا في الاستزادة من العلوم والمعارف أحييهن وقلبي ملؤه السرور حيث أري نصيبهم من العناية بتربيتهن لا يقل عن نصيب رفقائهن، أحييهن ولي شوق عظيم أن أشاهد ذلك اليوم الذي أري فيه حظ فتياتنا المسلمات المصريات كحظ هاته الفتيات السائحات من التربية والتعليم. ذلك اليوم الذي نري فيه المسلمات جالسات جنبا إلي جنب مع الشبيبة المصرية في اجتماع أدبي كاجتماع اليوم، فيشاركننا في لذة الأدبيات والعلوم التي هن منها محرومات,فعسي أن تحقق الآمال حتي يرتقين فيرتقي بهن الشعب المصري) ( ).
==============(51/327)
(51/328)
سلسلة كشف الشخصيات (2) : رفاعة الطهطاوي
بقلم سليمان بن صالح الخراشى
أُطْلِق عليه «رائد التنوير في العصر الحديث» نجد فيما كتبه من آراءَ جديدةٍ، تُعْتَبَر هي البُذُور الأولى، لما يُسَمَّى «بالفكر المُسْتَنِير» والذي كان مصدر التَّلَقِّي له ما شاهده في الحياة الأوربية، وما قرَأَه مِن تَرْجَمةٍ من الكتب الفرنسية.
يقول عن «حُب الوطن»: (فجميع ما يجب على المؤمن لأخيه المؤمن منها يجب على أعضاء الوطن، من حقوق بعضهم على بعض، لما بينهم من الأُخُوَّة الوطنية فضْلاً عن الأُخُوَّة الدِّينية. فيجب أدَباً لمن يجمعهم وطن واحد، التعاون على تحسين الوطن وتكميل نظامه، فيما يخص شرف الوطن وغِناه وثروته، لأن الغِنَي إنما يتحصَّل من انتظام المعاملات وتحصيل المنافع العمومية، وهي تكون بين أهل الوطن على السَّوِية، لانتفاعهم جميعاً بِمَزِيَّة النَّخْوَة الوطنية) ([1]).
ويُعَلِّق الدكتور محمد محمد حسين على هذا الكلام فيقول:(هذا الاتجاه هو أثرٌ من آثار الحضارة الغربية وتَصَوُّرها للوطن الجامع لمصالح ساكِنِيه على اختلاف أديانهم وأجناسهم، واقتباس من المجتمع الفرنسي بعد الثورة، الذي قَضَى على الرابطة الدينية، وأقام مكانها رابطة المصلحة الوطنية، أو ما سمَّاه الطهطاوي «المنافع العمومية» التي تقوم على الحرية والإخاء والمساواة بين أبناء الوطن الواحد».([2])
ويَظْهَر تأثر الطهطاوي وإعجابه بفكرة الحرية في مجتمع الثورة الفرنسية، حيث نجده عقد لها فصلاً في كتاب «المُرْشِد الأمين للبنات والبنين» وتكلم فيه عن الحرية والمساواة([3]) وهما شعاران ضمن ثلاث شعارات للثورة الفرنسية.
وكما يقول الدكتور محمد محمد حسين ناقداً له: (بأنه لم يستطع أن يدرك الأغوار البعيدة والجوانب المتعددة لكلمة الحرية، ولم يستطع أن يدرك أنَّ نَقْل هذه الآراء إلى المجتمع الإسلامي يمكن أن ينتهي إلى النتيجة نفسها: نَبْذِ الدِّين، وتَسْفِيه رجاله، والخروج على حدوده. لم يدرك ذلك ولم يلاحظ إلا الجانب البرَّاق الذي يأخذ نظر المحروم من الحرية، حين تمارس في مختلف صورها وألوانها، وفي أوسع حدودها، فكان كالجائع المحروم الذي بَهَرَتْه مائدةٌ حافِلةٌ بألوان الأطعمة، فيها ما يلائمه وما لا يلائمه، ولكنه لم ينظر إليها بعين حِرْمانِه، ولم يرَها إلا صورةً من النعيم الذي يتُوقُ إليه ويَشْتهِيه) ([4]).
ومما يُصَوِّر لنا التَّغَيُّر الفكري لَدَيْه، ما حدث له تحت تأثير إقامته في باريس، ومشاهدته لحال المرأة فيها، حيث أظهر إعجابه بما هي عليه، ونَفَى أنْ يكون الاختلاط والتبُّرج هناك داعياً إلى الفساد، أو دليلاً على التساهُل في العِرْض، وامْتَدح مُراقَصَة الرجال للنساء، ووَصَفَه بأنه فنٌّ مِن الفُنون (ولا يُشَمُّ منه رائحةُ العُهْر أَبَداً، وكل إنسانٍ يعْزِم امرأةً يَرْقُصُ معها، فإذا فَرَغ الرَّقْص عَزَمَها آخَرُ للرَّقصةِ الثانية وهكذا)([5]).
كما يُظْهِر إعجابه بالقوانين العقلية، والشرائع الوضعية في المجتمع الفرنسي في قوله: (والقانون الذي يمشي عليه الفرنساوية الآن، ويتخذونه أساساً لسياستهم هو القانون الذي ألَّفَه لهم ملكُهُم المُسَمَّى لِوِيز الثامن عشر. ولا زال مُتَّبَعاً عندهم ومُرْضِياً لهم، وفيه أمورٌ لا يُنْكِر ذَوُو العقول أنها من باب العدل... وإن كان غالب ما فيه ليس من كتاب الله تعالى ولا من سُنَّة رَسُول الله- ×- لِتَعْرِفَ كيف حَكَمَتْ عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير المَمَالِك وراحة العباد) ([6]).
( المرجع : الاتجاه العقلاني عن المفكرين الاسلاميين المعاصرين ، سعيد الزهراني ، 1/204-205) .
-------------------------------------------------------------------
([1]) مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية لرفاعة الطهطاوي (1/319) دراسة وتحقيق محمد عمارة المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، الطبعة الأولى، 1973م.
([2]) الإسلام والحضارة الغربية ، محمد محمد حسين ص 21.
([3]) انظر المرشدالأمين للبنات والبنين. رفاعة الطهطاوي (2/473-477) ضمن الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي. للدكتور محمد عمارة.
([4]) الإسلام والحضارة الغربية صـ24-25.
([5]) تخليص الابريز. الطهطاوي (2/122).
([6]) المصدر السابق صـ(2/95).
من كتاب واقعنا المعاصر لمحمد قطب :
لقد كان رفاعة رافع الطهطاوى واحدا من أولئك الأئمة " العظام ".. أو هكذا كان يوم ذهب إلى فرنسا.. ولكه عاد وهو واحد من أئمة التغريب.
استقبله أهله بالفرح يوم عاد من فرنسا بعد غيبة سنين.. فأشاح عنهم فى ازدراء، ووسمهم بأنهم " فلاحون" لا يستحقون شرف استقباله.
ثم ألف كتابه الذى تحدث فيه عن أخبار " باريز " ودعا فيه إلى " تحرير " المرأة أى إلى السفور، وإلا الاختلاط، وأزال عن الرقص المختلط وصمة الدنس، فقال إنه حركات رياضية موقعة على أنغام الموسيقى، فلا ينبغى النظر إليه على انه عمل مذموم.(51/329)
ولم يكن يتوقع بطبيعة الحال أن تستجيب الأمة الإسلامية فى مصر إلى هذه الدعوى الطهطاوية فى حينها، فقد كانت بقية الإسلام فى نفوس المسلمين، كما كانت سيطرة التقاليد الإسلامية على كل جوانب الحياة، تبلغان من القوة إلى الحد الذى يجعل مثل تلك الدعوى فى ذلك الوقت مثارا للسخرية ومثارا للاستنكار الشديد.
ولكن رأس الحربة كان يشير إلى الاتجاه.. الاتجاه إلى التغريب.
لقد كان العمل الذى قام به رفاعة الطهطاوى _ ومن ورائه محمد على _ هو على وجه التحديد على النحو التالى:
كانت فى حياة المسلمين _ فى مصر وفى غيرها من بلاد العالم الإسلامى _ نقطة ارتكاز واحدة، هى الإسلام – بصرف النظر مؤقتا عن كل ما أصابهم من تخلف عن حقيقة هذا الدين – فجاء رفاعة الطهطاوى فوضع إلى جانب نقطة الارتكاز الضخمة القائمة، نقطة ضئيلة غاية الضآلة هى " الحضارة الغربية " دعا المسلمين إلى الانتقال إليها والارتكاز عليها. ورويدا رويدا فى حياة المسلمين أخذت تلك النقطة الضئيلة تكبر وتتضخم، وتصبح نقطة ارتكاز ثانية فى حياة المسلمين إلى جانب الإسلام، مع التضاؤل التدريجى فى نقطة الارتكاز الأولى بمقدر ما تتضخم النقطة الثانية.. حتى يأتى وقت تصبح تلط النقطة الضئيلة هى نقط الارتكاز الرئيسية، وتصبح نقطة الارتكاز الضخمة السابقة نقطة جانبية ضئيلة تكاد تنمحى من الوجود
================(51/330)
(51/331)
سلسلة كشف الشخصيات (3) : جمال الدين الأفغاني
يقول الشيخ العلامة المحدث ربيع ابن هادي المدخلي حفظه الله في رسالته الموسوم بـ حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام
((إن على هذا الرجل مآخذ كبيرة وقوية منها:
1- أنه كان متهماً بالماسونية بل كان أحد كبار أعضاء الماسون وقدمت الأدلة على هذه الاتهامات، من مكاتبته لأعضائها وطلبه الانضمام إليها واستمراره فيها ( 59).
2- الدعوة إلى التفرنج باسم التجديد.
3- الدعوة إلى التحرر والانحلال من القيود الشرعية.
4- الدعوة إلى توحيد الأديان الثلاثة: الإسلام، واليهودية، والنصرانية.
5- الدعوة إلى وحدة الشرق بما فيه من ملل.
6- الدعوة إلى القومية.
7- الدعوة إلى الاشتراكية.
8- الدعوة إلى الوطنية.
9- الدعوة إلى السفور.
10- القول بوحدة الوجود.
أما موقفه من السنة، فيوضحه قوله:
أ- "فالتواتر والإجماع وأعمال النبي ? المتواترة إلى اليوم هي السنة الصحيحة التي تدخل في مفهوم القرآن وحده والدعوة إلى القرآن وحده".
وهذا القول هو الذي تراجع إليه محمد توفيق صدقي مع الشك في صدق هذا التراجع.
ب- " القرآن القرآن وإني لآسف إذ دفن المسلمون بين دفتيه الكنوز وطفقوا في فيافي الجهل يفتشون عن الفقر المدقع "( 60).
ولا أدري ما هي هذه الكنوز التي دفنها المسلمون وطفقوا يفتشون في فيافي الجهل عن الفقر المدقع طوال أربعة عشرة قرناً حتى جاء الأفغاني فاكتشفها أهي تفسيرات الباطنية؟! أم هي تأويلاته لنصوص القرآن لمطابقة سياسة الغرب واكتشافاته وتقاليده الفاسدة؟!.
وقال جمال الدين الأفغاني:" قرأت في القرآن أمراً تغلغل في فهمه روحي وتنبهت إليه بكليتي وهو ? وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..? (البقرة:30)، فاندهشت الملائكة لهذا النبأ ولهذه المشيئة الربانية إذ علمت أن ذلك الخليفة سيكون الإنسان، وأن ذلك الإنسان – الخليفة- سيصدر منه موبقات وسيئات، أعظمها وأهمها أنه ? يسفك الدماء ? (البقرة:30)، فقالت بملء الحرية المتناسبة مع الملأ الأعلى وعالم الأنوار والأرواح الذي لا يصح أن يكون هناك شيء من رياء ونفاق ? أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ? (البقرة:30)، ووقفت الملائكة عند هذا الحد من الطعن في الإنسان ولم تذكر باقي السيئات من أعماله إذ رأتها لغواً بالنسبة لهذين الوصمين الفساد وسفك الدماء".
ثم يمضي في التفسير على هذا المنوال إلى أن يقول:" وبأبسط المعاني إن الله تعالى أفهم الملائكة أنكم علمتم ما في خليفتي في الأرض وهو الإنسان من الاستعداد لعمل الفساد وسفك الدماء، وجهلتم ما أعددته لصونه وصرفه عن الإتيان بالنقيصتين المذكورتين ألا وهو العلم فقال: ? وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ?(البقرة:31)".
وهذا تفسير ديمقراطي، كأن الملائكة حزب معارض.
ويفسر آيات أخرى فيقول:" غضب سليمان -عليه السلام- على الهدهد إذ تفقده ولم يجده فلما حضر قال: ?وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ? (النمل:22)، غير ملفق ولا مشوب بالكذب كما تفعل أكثر الجواسيس مع الملوك والحكام ?إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ? (النمل:23)، ثم يقول بعد ذلك? وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ? (النمل:24)،" ثم يقول بعد ذلك: "فلما جاء الكتاب إلى ملكة سبأ جمعت فوراً مجلس الأمة ? قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ? (النمل:32)، وبعد أن تداول مجلس الأمة – الوزراء اليوم مثلاً- واستخرجوا إحصاءً من سجلاتهم بما عندهم من المعدات الحربية أعلنوا للملكة وأنبؤوها أنه في إمكانهم محاربة سليمان بما توفر لديهم من القوة إذا هي وافقت على إعلان الحرب ? قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ? (النمل:33)"، ثم مضى بعد يقول:" فرد سليمان الهدية وتحفز لإخراج الملكة وقومها أذلة بالحرب وأراد أن يريها ما لديه من القوى وما تسخر له من الريح يمتطيها وتجري بأمره –طيارات مثلاً- وسرعة نقل الأخبار والأشياء –التلغراف اللاسلكي مثلاً-".
وكان يشطح في تفسيره فيفسر الربا المحرم في قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً? (آل عمران:130)، بـ"جواز أكل الربا المعقول الذي لا يثقل كاهل المدين ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال ويصير أضعافاً مضاعفة".
ويفسر ?جدّ? في قوله تعالى: ?وأنه تعالى جدُّ ربِّنَا? (الجنّ:3) "بالعرش" "لأنَّ جدّ معرب كدّ، ومعناه العرش بالفارسية أو الهندية"، وهذا تفسير باطل إذ يصير المعنى "وأنه تعالى عرش ربنا".(51/332)
ويفسر ? فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة? (النساء:3) بأنه " قيد من خاف أن لا يعدل بالمرأة الواحدة وترك لمن يخشى أن لا يعدل -حتى مع المرأة الواحدة- عدم الزواج وهذا ما يستنتجه العقل مادام يحمله العاقل ويقول به الحق والعدل".
ويفسر الأمور الغيبية من غير نص فيقول ?وترى الأرض بارزة? (الكهف:47) : "أي خارجة عن محورها غير راضخة للنظام الشمسي، وإذا ما حصل ذلك فلا شك يختلف ما عرف من الجهات اليوم فيصير الغرب شرقاً والجنوب شمالاً، وبذلك الخروج عن النظام الشمسي وما يحدث من الزلزال العظيم، لا شك تتبعثر الأرض لبعدها عن المركز، وتنسف الجبال نسفاً، وتتحول براكين هائلة، وبالنتيجة تخرب الكرة الأرضية ويعمها الفناء بما فيها من الحيوان وتقوم القيامة والله أعلم"(61 ).
وهذا تفسير باطل، فمصير الأرض والسموات والجبال والشمس والقمر والكواكب مصير واحد تحدث عنه القرآن في عدد من سوره من ذلك قول الله تعالى: ?إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ? (الإنفطار:1-5).
وقوله تعالى: ? إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ?. إلى قوله : ? وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ? (التكوير:1- 14).
وقال تعالى: ? فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ? إلى قوله تعالى: ? يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ? (الحاقة:13- 18).
فمصير هذا الكون واحد والنهاية واحدة، فلماذا لا يتحدث الأفغاني إلا عن مصير الأرض فقط مفصولة عن الكون وبحديث يختلف عن حديث القرآن والإسلام والمسلمين؟!.
ولماذا يتحدث على الطريقة الغربية لا على الطريقة الإسلامية المستمدة من القرآن -الذي يرى أنه وحده كتاب الهداية- فلماذا لا يهتدي به؟!.
وهل يرى أزلية أو أبدية الكون فلا يلحقه التغير الذي تحدث عنه القرآن وآمن به المؤمنون؟!.
قال محمد حميد الله في مجلة الفكر الإسلامي- بيروت السنة الثانية العدد الثاني في مقال" صلات آرنست رينان مع جمال الدين الأفغاني العبارات الآتية: " عند قراءة المحاضرة ( يعني: محاضرة رينان التي يرد عليها الأفغاني) لا يقدر الإنسان على منع نفسه من التساؤل:- أن أصل تلك العوائق هل هو من دين المسلمين أو من خصائص الملل التي أكرهت بالسيف على قبول ذلك الدين ".
ومنها: "وفي الحقيقة إن الدين الإسلامي حاول خنق العلم وسد جميع التطور، ولذلك نجح في سد الحركات الفكرية والفلسفية وطرد الأذهان عن طلب الحقيقة العلمية".
ومنها: "كان هذا صحيحاً أن دين المسلمين يعوق من تطور العلم، فهل يقدر أحد على أن يدعي أن هذه الطائفة سوف لا تزول يوماً؟ ففيم يختلف دين المسلمين في هذا من سائر الأديان؟ إن جميع الأديان لا سماحة عندها أبداً كل واحد حسب شاكلته، إن المجتمع النصراني الذي تحرر واستقل الآن يتقدم بادي الرأي سريعاً في سبيل التقدم والعلوم بينما المجتمع الإسلامي لم يتحرر إلى الآن من تسلط الدين".
ومنها: "لا شك عندما سار الإسلام في البلاد التي تملكها باستعمال الجبر والقهر ما هو معروف نقل إليها لغته وعاداته ومعتقداته وهذه البلاد لم تستطع إلى الآن من الخلاص من مخالبه".
ومنها: "... ولماذا لم يزل العلم العربي مغطى بالظلمات العميقة؟ في هذه الناحية تظهر مسؤولية الدين الإسلامي كاملة. ومن الظاهر أن هذا الدين حيثما حل حاول خنق العلوم".
هذه النصوص نقلها الأستاذ محمد حميد الله من جريدة "جورنال ديه ديبا" الفرنسية المؤرخة في 18 مايو1883 "( 62).
فإن صحت عنه فإنما تدل على حقده الخطير على الإسلام وظلمه الكبير له بتصويره في هذه الصورة الشوهاء التي لا يفتريها ألد الأعداء لهذا الدين العظيم الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور وأعتقها من الأغلال والآصار التي ضربها عليها محرفو الأديان وفتح الآفاق أمام العقول والمدارك.
ج- ومن أقواله الخطيرة التي خاطب بها أتباعه في مصر قوله:
"إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين تسومكم حكوماتكم الحيف والجور، وتنزل بكم الخسف والذل، وأنتم صابرون بل راضون، وتنتزف قوام حياتكم ومواد غذائكم المجموعة بما يتحلب من عروق جباهكم بالمقرعة والسوط".(51/333)
إلى أن قال: "وأنتم ضاحكون، تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد، والمماليك، ثم الفرنسيين والمماليك والعلويين كلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه ويهيض عظامكم بأداة عسفه وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت، انظروا أهرام مصر وهياكل منفيس وآثار ثيبة ومشاهد سيون وحصون دمياط شاهدة بمنعة أجدادكم.
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إنّ التشبه بالرشيد فلاح" ( 63).
انظر كيف اعتبر الفتح الإسلامي دخول مستعمرين مستبدين لا يفرق بينه وبين الاستعباد والاستبداد اليوناني والروماني إلخ.
وانظر كيف يشيد بحضارة الفراعنة ويحض المصريين على الاعتزاز بها، ورؤية الفلاح والرشد في التشبه بهم.
إنّه لا يستغرب مثل هذا المكر والموقف من الإسلام من رجل فيلسوف رافضي ماسوني، وإنما المستغرب أن يكون له أتباع في بلاد الإسلام من مفكرين ومفسرين يعظمونه ويسيرون على منواله إن لم يكن في كل شيء ففي أصول ومناهج أثخنت في الإسلام والمسلمين.
موقفه من السنة:
يرى هذا الرجل –إن صدق في قوله- أن سبب الهداية هو القرآن وحده وهو وحده العمدة فيقول (64 ):"القرآن وحده سبب الهداية، أما ما تراكم عليه وتجمع حوله من آراء الرجال واستنباطهم ونظرياتهم، فينبغي ألا نعول عليه كوحي وإنما نستأنس به كرأي، ولا نحمله على أكفنا مع القرآن في الدعوة إليه وإرشاد الأمم إلى تعاليمه، لصعوبة ذلك وتعسره وإضاعة الوقت في عرضه، ألسنا مكلفين بالدعوة إلى الإسلام وحمل الأمم على قبوله؟ وهل تمكن الدعوة من دون ترجمة تعاليم الإسلام إلى لغة الأقوام الذين ندعوهم؟
هل في طاقة سكان البرازيل -مثلاً- إذا أردنا دعوتهم إلى الإسلام أن يفهموا كنه الإسلام من ترجمة علماء الإسلام وآرائهم المتشعبة في تفسير القرآن والحديث؟
ألق نظرك على فهرست أحد الكتب الدينية الكبرى، وتأمل فيها ما الذي يمكن عرضه والدعوة إليه من أحكامه وتعاليمه وما لا يمكن تجد أن ما لا يمكن العمل به ولا الدعوة إليه ولا تطبيق مفاصلة أصبح عبئاً يجب الاستغناء عنه بما يمكن والممكن هو ما في القرآن وحده" ( 65).
أقول :
أ- وهذا فيه صرف الناس عن السنة النبوية التي لا يفهم كثير من نصوص القرآن ولا يمكن تطبيقها إلا بالسنة المبينة لمجملاته والمخصصة لعموماته والمقيدة لمطلقاته والمتحدثة عن كثير مما سكت عنه القرآن، كما هو إلغاءٌ لتفسير أئمة الإسلام، ومن سار على نهجهم من أعلام الأمة في فهم القرآن ومعرفة معانيه ومقاصده ومراميه.
ب- إن الرجل يريد أن يفك ارتباط المسلمين بسنة نبيهم ? وتراث سلفهم الصالح ثم ربطهم بضلالاته وخرافاته بما فيها من إلحاد وهدم للإسلام تلك الطوام التي أسلفنا الإشارة إليها قريباً.
هذا هو مغزى هذا الرجل ومن وراءه من الاستعماريين والماسونيين، وبهذا القول أخذ منكرو السنة النبوية ومنهم محمد توفيق صدقي في أول أمره حيث كتب مقالاً أو مقالين تحت عنوان "الإسلام هو القرآن وحده".
وحامل لواء هذه المدرسة ومرسخ جذورها هو محمد عبده المصري الذي ضخمه النافخون في كير هذه الفتنة الكبيرة فسموه بالأستاذ الإمام فإنّ له مقالات تدل على فساد عقيدته وقبح منهجه، فمنها -على سبيل المثال- قوله:
" نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها وهي هذه الأمة لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مدة تزيد على عشرين قرناً، دعوناهم إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يرده عن خطئه ولا يوقف طغيان شهوته إلا نصح الأمّة له بالقول والفعل، جهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والنّاس كلّهم له عبيد أي عبيد"(66 ).
أقول : سبحان الله!! دخلت مصر في الإسلام في مطالع القرن الأول الهجري ونعمت به طوال أربعة عشر قرناً، فلم تعرف طوال هذه الفترة ولم يخطر ببال علمائها ومفكريها وطلاب العلم حتى العوام حقها على الحاكم حتى جاء محمد عبده وعرفها هذا الحق!!، لعل هذا الحق الذي عرفه محمد عبده من غير الإسلام أليس الإسلام قد عرف الأمة حقها على الحاكم وحق الحاكم عليها وحقوق المسلمين بعضهم على بعض وحقوق سائر البشر بل حقوق البهائم والطيور؟، إن هذا الكلام يلتقي مع كلام شيخه جمال الدين الأفغاني.
" إنكم معشر المصريين نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد.. الخ "، وهي دعوة ماسونية حملت على عاتقها الدعوة إلى القوميات ومنها الفرعونية.
2- ومنها قوله: " إن خير أوجه الوحدة الوطن لامتناع الخلاف والنزاع فيه، ونحن الآن مبينون –بعون الله- ماهيّة هذا الوطن وبعض ما يجب على ذويه"(67 )، ثم قام ببيان ذلك بطريقة ليست من الإسلام في شيء.
إنّ الإسلام هو الذي يحارب النزاع والخلاف بين أهله، أما القومية والوطنية فلم تمنع النزاع والخلاف بين أهلها في يوم من الأيام لا في غابر التاريخ ولا في حاضره.
ثم أين وضع هذا الرجل الإسلام حينما دعا إلى هذه الوحدة بين طوائف المسلمين واليهود والنصارى والأغلبية فيها للمسلمين؟.(51/334)
ومن كوارثه المزلزلة للإسلام وأهله: دعوته إلى التقريب بين الأديان السماوية، فبعد عودته من فرنسا إلى بيروت أنشأ جمعية سياسية دينية سرية هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة السماوية (الإسلام واليهودية والنصرانية) وإزالة الشقاق من بين أهلها، والتعاون على إزالة ضغط أوربا عن الشرقيين، ولا سيما المسلمين منهم وتعريف الإفرنج بحقيقة الإسلام وحقيته من أقرب الطرق.
واشترك معه في تأسيس هذه الجمعية: ميرزا باقر، وبيرزادة، وعارف أبو تراب، وجمال بك نجل رامز بك التركي قاضي بيروت، ثم انضم إليها مؤيد الملك أحد وزراء إيران، وحسن خان مستشار السفارة الإيرانية بالآستانة، والقس إسحاق طيلر، وجي دبليو لنتر وشمعون مويال وبعض الإنكليز، واليهود.
وكان الشيخ محمد عبده صاحب الرأي الأول في موضوعها ونظامها، وميرزا باقر هو الناموس (السكرتير) العام لها وهو إيراني تنصر وصار مبشراً نصرانياً وتسمى بميرزا يوحنا ثم عاد إلى الإسلام كما يزعم.
ودعا أعضاؤها إلى فكرتهم في صحفهم ورسائلهم.
ولا ندري إلى أي إسلام يدعى الإفرنج؟ أهو الإسلام الذي جاء به محمد ? الذي أدان اليهود والنصارى وعقائدهم بالكفر والشرك؟ أم المزيج المركب من الرفض والماسونية وغيرها من الضلالات التي تحملها هذه الجمعية؟!!.
وهذا الشيخ محمد عبده يكتب رسالة إلى القس إسحاق طيلر يقول فيها: "كتابي إلى الملهم بالحق الناطق بالصدق حضرة القس المحترم إسحاق طيلر أيده الله في مقصده ووفاه المذخور من موعده"، إلى أن قال: "...ونستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل فتهزم له ظلمات الغفلة فتصبح الملتان العظيمتان: المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما إلى الأخرى، وتصافحتا مصافحة الوداد وتعانقتا معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين" (68 ).
ويقول أيضاً:" وإنا لنرى التوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتباً متوافقة، وصحفاً متصادقة يدرسها أبناء الملتين ويوقرها أصحاب الدينين فيتم نور الله في أرضه، ويظهر دينه الحق على الدين كله" ( 69).
أقول: ? يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ? ( التوبة: 32-33 ).
لقد أمر الله بجهاد اليهود والنصارى الأمر الذي يريد محمد عبده إبطاله ونص في هذه الآيات على كفرهم وشركهم.
ومن أسباب كفرهم وشركهم أن اليهود قالوا: عزير ابن الله، وأن النصارى قالوا: المسيح ابن الله أو هو الله أو ثالث ثلاثة، وأضافوا إلى هذا الكفر والشرك بأن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله.
وأنهم أعداء الله وأعداء الرسالة التي جاء بها محمد ? ومن هذا المنطلق يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ليعيشوا هم والإنسانية جميعاً في ظلمات الجهل والكفر حسداً وبغياً على محمد ? ورسالته وأمته.
ويأبى الله إلا أن يتم نوره ذلكم النور الذي لا يوجد إلا في الإسلام ولو جاء موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء والرسل فلا يسعهم إلا اتباع خاتم النبيين محمد ? يأبى الله إلا أن يتم نوره ولوكره الكافرون وفي طليعتهم اليهود والنصارى الذين يتخبطون في ظلمات الكفر والشرك والجهل والضلال ولقد حصر الهدى ودين الحق في الإسلام وحده وحصر فيه نور الله ويأبى إلا أن يظهر الإسلام على الأديان كلها، لكن محمد عبده يرى ضد ذلك يرى أنه لا يتم نور الله إلا باجتماع الأديان الثلاثة؛ وكفى بما يراه ضلالاً ومصادمة واضحة لما قرره القرآن والسنة في نصوص كثيرة لا يتسع المقام لسردها وإجماع المسلمين، ومنها قول الله تعالى : ? وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ? ( البقرة:135). فلقد أبطلوا أسباب الهداية من الكتابين بتحريفهم وكفرهم وجرأتهم على هذا التحريف.
وأخيراً يقول الله تعالى: ? وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ? ( البقرة: 120).
قال فهد بن عبد الرحمن الرومي:
"نشر محمد أحمد خلف الله كتابه "الفن القصصي في القرآن الكريم"، زعم فيه أن ورود الخبر في القرآن لا يقتضي وقوعه وأنه يذكر أشياء وهي لم تقع، ويخشى على القرآن من مقارنة أخباره بحقائق التاريخ.
وقال: إنا لا نتحرج من القول بأن القرآن أساطير.
وعندما رفضت جامعة فؤاد هذه الرسالة دافع عنها أمين الخولي المشرف على الرسالة قائلاً: " إنها ترفض اليوم ما كان يقرره الشيخ محمد عبده بين جدران الأزهر منذ اثنين وأربعين عاماً "( 70).(51/335)
وهذا أمر ينطوي على كفر غليظ فإن ثبت هذا عن الشيخ محمد عبده فإنها لطامة كبرى تدل على كيد كبير للإسلام وتكذيب للقرآن نفسه ونرجو أن يكون هذا افتراءاً عليه.
الافغانى اول من دعا الى القومية المصرية
بقلم : د. خادم حسين الهى بخشى ..... الاستاذ بالجامعة الاسلامية – الهند
دعوات هدامة تتناوب شغل اهتمام المسلمين عن قضاياهم الكبرى ، تتوالى مع صبيحة كل يوم وتحمل اسماء او عناوين ان لم تكن ذات جذور اسلامية او ملتبسة بالاسلام ، فان المثيرين لها فى الغالب ، وان كانوا من رموز الدعوة الاسلامية الا انهم من هذا القطيع الذى سقط فى براثن الاستشراق والمستشرقين ، او سقط فى بحار شهوة الشهرة والمناصب وجمع الاموال او لاسباب خفية لم يقف عليها اباحثون حتى الان .
ومن اشهر هذه الرموز كان الشيخ محمد عبده الذى اصبح مدرسة ومرجعية يعتمد عليها كل العلمانيين الذين يكيدون للاسلام تحت اسم التنوير فقد تمتع الازهر منذ وجوده بمكانة علمية مرموقة فى العالم الاسلامى كله ، وما زال يتمتع بها لخدمته الدين ونشر علومه من التفسير والفقه واللغة العربية .. حتى اليوم ، وكان الراى السائد بين الاوساط المسلمة قبل تعديل منجه التعليمى ان خريج الازهر مثال الوعى الدينى والادراك السليم لمبادىء الاسلام ، ويعبر عن ذلك احد سكان ملقا – من جزر الهند الشرقية – فيقول : (( من لم يتلق العلم فى مصر ، ولم يدرس الدين فيها لا يصح ان يكون مثال العلم الصحيح والعقيدة الثابتة وقد يتجاوزون فى اعتقادهم الى حد انهم لا يعتمدون الا فتوى اتت من الازهر ، او قالها عالم من علماء مصر اذ المسلم المصرى المتعلم يعد هنا المثل الاعلى لدراسة الدين وفهم اسراره ومعرفة احكامه ))
وعلى قدر ثقل الازهر ووزنه العلمى خطط اعداء الاسلام لهدم الدين بتعكير روافده ، فسقوا ازهار مصر المسلمة بما يعود على صفائها بالخراب والدمار ، وعلى نقاوتها بالتلبد والغيوم ففى عهد محمد على باشا بدات البعثات العلمية تغدو تروح الى اوربنا لتلقى العلم ، ويحدد عادل ابو عمشة هذه الفترة بقوله (( ولم يكتف محمد على بما فتحه من مدارس فى مصر ، فارسل اول بعثة علمية الى ايطاليا عام 1809 م ، ثم حول وجهة البعثات الى فرنسا فارسل اول بعثة كبيرة اليها عام 1826 م وعين الشيخ رفاعة الطهطاوى اماما لها )) .
وازداد الوضع سوءا فى عهد اسماعيل باشا حفيد محمد على فما ان تولى الحكم حتى فتح ابواب مصر على مصراعيها للحضارة الاوربية وقد يكون لطفولته وشبابه اللذين قى زمنا منهما فى اوربا متنقلا بين فيينا وباريس اثر فى هذا الانفتاح ، وظهرت رغبته فى تقليد اوربا لكل ذى عينين حين اجبر جميع مستخدمى الدولة على ارتداء الزى الاوربى وجماع فكرته على حد رواية محمد طلعت حرب (( ان اخلاق المصريين وعوائدهم التى ورثوها ستصبح بمساعيه بعد قليل مماثلة لعوائد اوربا واخلاقها )) .
وطبقا لسياسة تحويل مصر الى قطعة من اوربا اصدر امرا بانشاء مجلس شورى النواب ، كما قضى بتشكيل المحاكم المختلطة ، واوفد نوبار باشا الى اوربا ليمهد السبيل لذلك ، وكان المتبع فى هذه المحاكم ان يكون قضاتها وكتابها وسائر المستخدمين من المسلمين ، ثم سمح للاقباط وغير المسلمين ان يكونوا قضاة فى المحاكم الاهلية التى اعقبت المحاكم المختلطة ، ثم جرى تطبيق القانون الفرنسى فى تلك المحاكم .
واظلم الجو اكثر من ذى قبل اثر وصول السيد جمال الدين الافغانى الى مصر عام 1870 م بعد ان دعاه اليها رياض باشا وحاول الافغانى عبثا ان ينصب منصة القاء فى الازهر فلم يوفق فاتخذ له بيتا فى حارة اليهود مالبث ان تحول الى منتدى للعلماء والطلاب ، ثم اتخذ الافغانى من ملهى قرب الازبكية مجلسا له يلتقى فيه مع طلابه حتى الفجر ، حيث كانوا يلقون عليه ادق المسائل على حد قول ابى رية .
وقد ضمت حلقته المنزلية كلا من الشيخ محمد عبده وعبد الكريم سلمان وابراهيم اللقانى وسعد زغلول وابراهيم الهلباوى واتسع ملهى الازبكية ليشمل محمود سامى البارودى وعبد السلام المويلحى وابراهيم المويلحى وعلى مظهر وسليم النقاش واديب اسحاق .
وكان الافغانى اول من نطق بان مصر للمصريين فجلب له هذا الشعار العديد من مريديه النصارى واليهود ، وبذلك احل رابطة الوطن محل رابطة الدين ، اضف اليه ان الافغانى كان يؤمن بوحدة الاديان الثلاثة ويعد تخالفها من صنع بعض رؤسائها (( واما ما نراه من اختلاف اهل الاديان فهو صنع رؤساء بعض تلك الاديان التذين يتاجرون بالدين )) .(51/336)
وبعد طرد الافغانى من مصر تطورت الامور بسرعة واخذ الوعى السياسى ينضج فطال الحزب الوطنى توفيق باشا بتصحيح الاوضاع ووصف الحزب نفسه فى مبادئه التى صاغ الشيخ محمد عبده مواده بمساعدة المستشرق " بلنت " (( بانه حزب سياسى لادينى )) ، ونفى زعماء الحزب بعد هزيمة الجيش المصرى كما نفى زعماء الثورة مدى الحياة ، اشترط الانجليز المحتلون لعودة الشيخ محمد عبده الى مصر عدم اشتغاله بالسياسة ، وما ان عاد الشيخ من منفاه حتى اصدر تصريحا لعن فيه السياسة ، ثم اخذ يعمل على تطويع الشريعة وترويضها حتى تتقبل الخضارة الاوربية ، ولا سيما بعد ان وصل الى منصب الافتاء .
وقد كان للاراء التى بثها الشيخ محمد عبده فى مجال الاصلاح الاجتماعى او الدينى اثر فيمن جاء بعده ، بل منهم من توصل الى هدم الدين واسسه المحكمة .
==================(51/337)
(51/338)
سلسلة كشف الشخصيات (4) : محمد عبده
شيخ أهل العصرنة في هذا الزمان ؛ من أفضل من كتب عنه : الشيخ فهد الرومي في رسالته " منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير " ، وعن عقيدته رسالة لم تطبع بعد .
قال الأستاذ بسطامي سعيد : ( كثيرة هي الأقلام التي تناولت الشيخ محمد عبده (1226-1323 هـ/1849ـ 1905م) بالدراسة وبالنقد والتمحيص لآرائه وأفكاره، وقد بلغت إصلاحاته وآراؤه من الشهرة والذيوع ما يغني عن الدخول في تفصيلاتها. إنما نهتم هنا بالاتجاهات العصرانية عند محمد عبده، والتي تظهر في كتاباته، وبالأخص في تفسيره لبعض الآيات، وفي بعض فتاواه، مما يجعل مدرسته الفكرية تضاهي وتشابه في بعض نواحيها مدرسة سيد أحمد خان في الهند، حتى إن تلميذه رشيد رضا لا يخفي إعجابه بمقالة نشرتها في ذلك الوقت جريدة (الرياض) الهندية، عنوانها: «هل ولد السيد أحمد خان ثانية بمصر وظهرت جريدته (تهذيب الأخلاق) بشكل المنار؟!».([1])
ففي منهجه لتفسير القرآن تتجلى واضحة النزعة إلى تفسير القرآن تفسيرًا يتناسب مع المعارف الغربية السائدة في العصر([2])، ومن الأمثلة المشهورة لذلك تفسيره لقوله تعالى في سورة الفيل: ( وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ ) (الفيل: 3 – 4) بأنها جراثيم الجدري أو الحصبة يحملها نوع من الذباب أو البعوض([3]). وتفسيره لقوله تعالى: ( مِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ ) بأن المراد هنا (النمَّامون المقطِّعون لروابط الألفة)؛ لأن السحرة المشعوذين يزعمون أنهم يقطعون الأواصر حتى بين المرء وزوجه بسحرهم. وقد اضطره لهذا التفسير إنكاره أن يكون السحر حقيقة ملموسة، بل هو عنده نوع من الأساليب الماكرة، وضروب من الحيل الخفية، ويؤول ما جاء في القرآن عن السحر بأنه من قبيل (التمثيل)، ويرد الأحاديث الصحيحة فيه.([4])
وفي بعض فتاوى محمد عبده نجد محاولة لتأويل أحكام الفقه تأويلاً يتلاءم مع أهواء الحضارة الغربية، وتبرير واقعها، ومن أهم فتاواه في ذلك حِلُّ إيداع الأموال في صندوق التوفير وأخذ الفائدة عليها([5])، وفي مقالة له عن تعدد الزوجات تحدث عن تاريخ التعدد عند الشعوب الأخرى، وعند العرب قبل الإسلام، وأن الإسلام قد خفف من العادة العربية في الإكثار من الزوجات، ووقف عند الأربعة رحمة بالنساء من ظلم الجاهلية، ولكنه يرى الآن -للظروف والملابسات السائدة في المجتمع، ولاستحالة العدل بين النساء- أنه لا بد من منع تعدد الزوجات إلا في حالات استثنائية يقررها القاضي.([6])
وهكذا نلمح عند محمد عبده بعض ملاح المنهج العصراني، مِنْ صَرْف القرآن عن غير معانيه الظاهرة أحيانًا بحجة أنها تمثيل وتصوير، ورده للسنة الصحيحة أحيانًا لمعارضتها ما يظن أنه من علوم العصر، واستخدام المنهج التاريخي لمعالجة قضايا وأحكام الشريعة وربطها بظروف وملابسات مؤقتة. وإذا كانت هذه النزعات عند محمد عبده نزعات ضعيفة مصغرة -ربما بحكم ثقافته الأزهرية- إلا أنها قد تركت آثارها في تلامذته مِنْ بعده، فتضخمت في مجموعة منهم وصارت مضاعفة مكبرة، ومن هؤلاء: قاسم أمين وعلي عبد الرازق ).
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 142-143).
---------------------------------------------------------------
([1]) (تاريخ الإمام محمد عبده)، محمد رشيد رضا، ج1 ص 716.
([2]) انظر لتفصل ذلك (التفسير والمفسرون) للذهبي، ج3 ص 233 ـ 242، و(منهج الإمام محمد عبده في تفسير القرآن)، الدكتور عبد الله شحاتة، ص 83 ـ 135.
([3]) (الأعمال الكاملة لمحمد عبده)، جمع وتحقيق محمد عمارة، ج5 ص529.
([4]) نفس المصدر، ج5 ص566.
([5]) (تاريخ الإمام محمد عبده)، ج3 ص84.
([6]) المصدر السابق، ج2 ص 90-95.
رأيت مقالاً على الشبكة قد كفى ووفى في بيان حقيقة محمد عبده العقلاني الماتريدي فنقلته كما هو، ورأيت إلحاقه بموضوع الأخ حازم بدلاً من إفراده بموضوع مستقل ..
من بلايا هذا الرجل الذي يسميه بعض الناس الإمام :
1) انكاره للسنة واعتماده على القرآن فقط :
كما قال ابورية تلميذه :
(( قال لي الأستاذ الإمام محمد عبده رضي الله عنه
( إن المسلمين ليس لهم إمام في هذا العصر غير القرآن وإن الإسلام الصحيح هو ماكان عليه الصدر الأول
قبل ظهور الفتن وقال رحمه الله تعالى ( لايمكن لهذه الأمة أن تقوم مادامت هذه الكتب فيها -أي الكتب التي
تدرس في الأزهر وأمثالها كما ذكره في الهامش -ولن تقوم إلا بالروح التي كانت في القرن الأول
وهو القرآن وكل ماعاده فهو حجاب قائم بينه وبين العلم والعمل ))
( أضواء على السنة المحمدية لأبي رية ( 405-406) طـ الثالثة دار المعارف القاهرة .
( نقلاً عن زوابع حول السنة ص72)
2) رد أحاديث الآحاد في العقيدة :
قال محمد عبده (( لايمكن أن يعتبر حديث من أحاديث الآحاد دليلاً على العقيدة ))
الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ( 5/37) لمحمد عمارة من رسالة التوحيد !!! .
وهي فتنة قديمة قال ايوب السختياني ( ت 131هـ) :(51/339)
(( إذا حدثت الرجل بالسنة فقال : دعك من هذا وحدثنا من القرآن فاعلم أنه ضال ومضل )) ( الكفاية ص16)
وللرد على هذه الطوام عليك بكتاب العلامة الألباني رحمه الله ( حديث الآحاد حجة في العقائد والأحكام )
ورسالته ( منزلة السنة ووبيان أنه لايستغنى عنها بالقرآن ) فجزاه الله خيراً .
3) متابعته لشيخه الرافضي جمال الدين الأفغاني وتشجيعه للسفور :
قال مصطفي صبري الحنفي :
(( فلعله وصديقه أو شيخه جمال الدين أرادا أن يلعبا !!! في الإسلام دور لوثر وكالفين زعيمي البروستانت
في المسيحية فلم يتسنى لهما الأمر لتأسيس دين حديث للمسلمين
وإنما اقتصر تأثير سعيهما على مساعدة الإلحاد المقنع بالنهوض والتجديد )) ( موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين 1/144)
ويؤيد كلام صبري قول محمد عبده في رسالة الى جمال الدين الأفغاني حيث يقول
(( ونحن الآن على سنتك القويمة لانقطع الدين إلا بسيف الدين ...))
وقال مصطفي صبري عن دعوة الأفغاني ومحمد عبده :
(( وأما الدعوة الإصلاحية المنسوبة الى محمد عبده
فخلاصته أنه زعزع الأزهر عن جموده على الدين !! فقرب كثيراً من الأزهريين الى اللادينيين
ولم يقرب اللادينيين الى الدين خطوة
وهو الذي أدخل الماسونية في الأزهر بواسطة شيخه جمال الدين الأفغاني
كما أنه شجع قاسم أمين على ترويج السفور في مصر )) ( 1/133-134
وقد عد الكوثري الفاجر محمد عبده من ( أهل وحدة الوجود )
وأهل البدع يعرف بعضهم بعضاً .
ونشره للإلحاد في الأزهر صرح به أمين الخولي حين رفضت جامعة فؤاد رسالة المدعو
( محمد احمد خلف الله - الفن القصصي في القرآن وصرح هذا الضال وقال
( إننا لانتحرج من القول بأن في القرآن أساطير )
وأن ورود الخبر في القرآن لايقتضي وقوعه وغير ذلك من الإلحاد -والعياذ بالله -
وقد سبقه في ذلك أعمى البصر والبصيرة الضال طه حسين عامله الله بعدله
ودافع امين الخولي عن الرسالة !!!! قائلاً
(( إنها ترفض اليوم ماكان يقرره محمد عبده بين جدران الأزهر منذ أثنين وأربعين سنة ))
( منهج المدرسة العقلية للرومي ص156)
4)التقريب بين الأديان عند محمد عبده :
وهي دعوة خبيثة إلحادية قال محمد عبده :
(( وإنا نرى التوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتباً متوافقة وصحفاً متصادقة يدرسها أبنا الملتين ويوقرها أرباب الدينين فيم نور الله في أرضه ويظهر دينه الحق على الدين كله )) !!
( الأعمال الكاملة لمحمد عبده جمع محمد عمارة العقلاني ( 2/363-364)
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله -عن الكفرة الضلال:
((كان أهل الكتاب أفضل الصنفين وهم نوعان مغضوب عليهم وضالون:
فالأمة الغضبية هم اليهود:
أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل
قتلة الأنبياء وأكلة السحت وهو الربا والرشا
أخبث الأمم طوية وأرداهم سجية وأبعدهم من الرحمة وأقربهم من النقمة
عادتهم البغضاء وديدنهم العداوة والشحناء
بيت السحر والكذب والحيل
لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة
ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ولا لمن وافقهم حق ولا شفقة
ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصفة ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة
ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة .
بل أخبثهم أعقلهم وأحذقهم أغشهم وسليم الناصية وحاشاه أن يوجد بينهم ليس
بيهودي على الحقيقة.
أضيق الخلق صدورا وأظلمهم بيوتا وأنتنهم أفنية
وأوحشهم سجية تحيتهم لعنة ولقاؤهم طيره شعارهم الغضب ودثارهم المقت .
فصل والصنف الثاني المثلثة أمة الضلال وعباد الصليب:
الذين سبوا الله الخالق مسبة ما سبه إياها أحد من البشر ولم يقروا بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
ولم يجعلوه أكبر من كل شيء بل قالوا فيه(( ما تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هذا ))
فقل ما شئت في طائفة أصل عقيدتها أن الله ثالث ثلاثة وأن مريم صاحبته وأن المسيح أبنه وأنه نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة وجرى له ما جرى إلى أن قتل ومات ودفن
فدينها عبادة الصلبان ودعاء الصور المنقوشة بالأحمر والأصفر في الحيطان
يقولون في دعائهم يا والدة الإله ارزقينا واغفري لنا وارحمينا
فدينهم شرب الخمور وأكل الخنزير وترك الختان
والتعبد بالنجاسات واستباحة كل خبيث من الفيل إلى البعوضة
والحلال ما حلله القس والحرام ما حرمه والدين ما شرعه وهو الذي يغفر لهم
الذنوب وينجيهم من عذاب السعير. )) هداية الحيارى .
5)قوله بوحدة الوجود :
قال محمدعبده في رسالة إلى شيخه الأفغاني الرافضي الماسوني
(( ليتني كنت اعلم ماذا أكتب إليك وانت تعالم مافي نفسي كما تعلم مافي نفسك صنعتنا بيديك وأفضت على موادنا صورها الكمالية وانشأتنا في أحسن تقويم فيك عرفنا أنفسنا وبك عرفناك وبك عرفنا العالم أجمعين ....)) الخ هذا الهذيان القبيح .
وقال عن هذا الكلام تلميذه محمد رشيد رضا :
(( ...وهو أغرب كتبه بل هو الشاذ فيما يصف أستاذه السيد مما يشبه كلام صوفية الحقائق !! والقائلين بوحدة الوجود ....))
ثم نقل رسالته وحذف منها بعض العبارات !!.(51/340)
( تاريخ الأستاذ الإمام لرشيد رضا 2/599) ( المدرسة العقلية الحديثة 1/155)
ونقل المؤلف الوثائق بالصور ( 124-196)
6)التحريف في التفسير على طريقة الفلاسفة الدهرية وهومتبع للمستشرقين النصارى الملاحدة :
فأنكر هو وتلميذه محمد رشيد رضا انشقاق القمر لنبينا صلى الله عليه وسلم وهي بلغت حد التواتر كما ذكر ابن عبد البر وغيره .
وانكروا إحياء الموتى لعيسى عليه السلام وغيرها .
( تفسير المنار ( 1/347-348-3/211 وغيرها )
ومن اراد الإستزادة المدرسة العقلية ( 1/571584) وغيرها .
7) تركه للصلاة جهراً والحج مع سفره لباريس ولندن عدة مرات :
كما هي عادة شيخه الرافضي الماسوني الأفغاني
فقال يوسف النبهاني المبتدع الخرافي عن محمد عبده :
(( أنه اجتمع به سنة 1297هـ في مصر حين كان مجاوراً بالأزهر ولازمه من قبل الغروب الى قرب العشاء فلم يصل المغرب ))
( الرائية الصغرى للنبهاني المبتدع التي رد عليها الشيخ محمود الألوسي )
ورحم الله شيخ الإسلام حين قال:
( وقد اتفق أهل العلم بالأحوال ان اعظم السيوف التى سلت على أهل القبلة ممن ينتسب اليها
وأعظم الفساد الذى جرى على المسلمين ممن ينتسب الى أهل القبلة انما هو من الطوائف المنتسبة اليهم
فهم أشد ضررا على الدين وأهله ) مجموع الفتاوى ( 28 / 479 ) .
==============(51/341)
(51/342)
سلسلة كشف الشخصيات (5) : طه حسين
بقلم : سليمان الخراشى
ترجمته([1]):
-هو طه حسين، كان مولده سنة 1889 كما كتب طه ترجمته في سجلات المجمع اللغوي واعتمد عليه كتاب –المجمعيون- ومن جعل مولده 1891 فقد أخطأ .
كان السابع من إخوته وإخوانه الذين بلغوا 13 مولوداً وكان والده ذا مركز مرموق في الضاحية حرص على تعليم أولاده فبينهم طالب الطب والقضاء والمجاور في الأزهر وتلميذ الثانوية..
حرص الأب أن يعلمه فأدخله الكتاب وحفظ فيه القرآن الكريم وحفظ الصبي الكثير مما كان يسمع من أدعية وأشعار وأغانٍ! وقصص، وحفظ قواعد التجويد، وحين ترعرع راح أخوه الأزهري يحفظه الألفية ليعده للحياة الجديدة في الأزهر.
أوسع مرجع لصباه ولحياته في القرية وفي الأزهر كتابه "الأيام" الجزء الأول.
كما أن أفضل كتابين يرجع إليهما الباحث تتناول حياته العامة "أديب" و"مذكراته والجزء الثاني من الأيام".
- دخل الأزهر عام 1902.
- ما حفظه في القرية أهله أن يتفوق به على رفاقه في الأزهر ومكنّه أن يتابع دروس شيوخه بوعي وفهم.
- وحدته وعماه جعلتاه ينزع في تفكيره منزع التطرف والعنف وهذا ما جعله يصطدم بأساتذته الواحد بعد الآخر.
- تفتح ذهنه واتسعت آفاق تفكيره حين بدأ يحضر دروس الأدب على يد سيد علي المرصفي، والأستاذ ينحو في دروسه منحى اللغويين والنقاد مع ميل للتفقه وللتحليل ويعنى بمفردات اللغة وإظهار ما في البيت من بيان وبديع ومعانٍ.
- أرضت هذه الدروس نفس طه وتعلق بها وحفظ ما كان يعرض له من ديوان الحماسة وغيره.
- نمت فيه الكفايات ومكنته من القدرة على التمييز والتحليل، وبدأت ذاتيته وقابلياته تنضج نضجاً مبكراً وسريعاً، يتناسب مع حدة ذكائه وقوة مداركه.
- ظهرت في هذه الفترة في أقواله وتقريراته، ملكة النقد وكانت مجلبة لإتعابه مع رفاقه ومع مدرسيه.
- كره طه بعد المرحلة الثانية من دراسته الأزهرية دروس الأزهر واجتوى حلقات الشيوخ ما عدا درس الأدب.
- حضر درسين اثنين للإمام محمد عبده فاستهواه حديثه ورغب أن يلازمه لكن الشيخ لم يعد لحلقته وإنما نقل إلى الإفتاء .
- كان عام 1908 عاماً فاصلاً بينه وبين حياة الأزهر وشيوخ الأزهر، في هذا العام فتحت الجامعة المصرية الأهلية فانتمى إليها وقضى فيها سنوات ثلاثاً يختلف إليها وإلى الأزهر. وقد وجد في دروس الجامعة اختلافاً كثيراً ووجد حرية البحث، فشغف بهذه الدروس حباً وتفتحت لها نفسه وكان أثر ذلك عميقاً فيها كما كون في نفسه نزعة التطرف والنقد وهو على استعداد لهذه الخصلة.
- وجد في الجامعة مبتغاه، وفي ظل البحث التحليلي أخرج رسالته عن أبي العلاء المعري "ذكرى أبي العلاء" التي نال بها درجة الدكتوراه بتفوق.
- فلما وزعت مطبوعة ثارت حولها ضجة ورمي بالإلحاد وقدم أحد النواب إلى الجمعية العامة استجواباً أثار به موضوع رسالة طه حسين وطالب بفصله ونزع الشهادة عنه ولولا تداركه رئيس المجلس (سعد زغلول) لتغير مجرى حياته.
- في 5 مارس 1914 سافر على نفقة الجامعة إلى فرنسا ليكمل دراسته فكان ذلك حدثاً لم يتيسر لغيره من أمثاله .
- في "مونبيليه التي يدرس فيها الأدب الفرنسي واللغة اللاتينية تعرف على "سوزان" التي كان لها الأثر الأكبر في وجهته القادمة.
- اجتاز امتحان الليسانس عام 1917 وفي هذا العام تم زواجه بها.
- وفي هذا العام كان طه يستعد للدكتوراه برسالة عن "ابن خلدون" وفلسفته الاجتماعية.
- وفي سنة 1919 قفل إلى مصر وتم تعيينه أستاذاً للتأريخ القديم.
- في عام 1925 ألحقت الجامعة بالحكومة فتم تعيين طه حسين أستاذاً دائماً للأدب العربي بكلية الآداب.
- في أثناء دروسه للتاريخ القديم كان يكتب في "السياسة" حديث الأربعاء على نمط حديث الاثنين الذي كان يكتبه "سان بيف".
- أثارت هذه الأحاديث نقداً وهجوماً من المؤرخين والكتاب لتشويهه فيها تاريخ المسلمين.
- في هذه الفترة كان طه حسين جم النشاط يكتب ويحاضر وينشر ويؤلف حتى فاضت شهرته وغطت سمعة الآخرين.
- أخرج محاضراته (في الظاهرة الدينية عند اليونان) في كتاب عام 1919 يحمل اسم "آلهة اليونان".
- وفي عام 1920 أخرج "صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان".
- وفي عام 1921 أصدرت له مطبعة الجريدة ترجمة لكتاب (الواجب) بالاشتراك مع محمد رمضان.
- وفي عام 1921 أيضاً ترجم كتاب "نظام الاثنين" لارسطو.
- وفي عام 1922 أعيد طبع كتاب "ذكرى أبي العلاء" بعد أن نفدت طبعته الأولى.
- وفي عام 1923 نقل (روح التربية) عن غوستاف لوبون ونشرته الهلال لمشتركيها.
- وفي عام 1924 كتب سلامة موسى مقالاً في الهلال رفع فيه طه حسين إلى زعامة الأدب الحديث .
- وفي عام 1924 نشر طه كتابه "قصص تمثيلية" من الفرنسية.
- وفي عام 1925 أخرج الجزء الأول من كتابه (حديث الأربعاء).
- وفي 1925 نشر كتاباً باسم "قادة الفكر".
- وفي 1926 نشر كتابه "حديث الأربعاء" الجزء الثاني.(51/343)
- وفي 1926 نشر كتابه "الشعر الجاهلي" فأثار ظهوره ثورة عاصفة كادت تعصف بطه وكرسيه وأدبه، وانبرت أقلام الأدباء والمؤرخين وعلماء المسلمين يردون عليه بأعنف ما عرف النثر الأدبي من النقد والهجاء، وأخرجت المطابع كتباً عديدة في الرد عليه وربحت المكتبة العربية كتباً غاية في الجودة والنقد وأدب الحوار.
- أحيل طه حسين سنة 1926 إلى النيابة وحققت معه وانتهت من قرارها سنة 1927. وكان قرارها فيه تفنيد لمزالق متطرفة ارتكبها طه حسين في كتابه. وتفنيد آراء أخذها من المستشرقين أمثال رينان ومرغليوث وغيرهما، وصودر كتابه وجمع من الأسواق.
نشأته : القرية : الأزهر : باريس : العودة.
-في سنة 1928 عين الدكتور طه عميداً لكلية الآداب فأثار هذا التعيين أزمة حادة للجامعة وللدكتور طه، فقد كان علي الشمسي وزيراً للمعارف وكان وفدياً يحقد على طه فتدخل للحيلولة دون هذا التعيين ويريد أن ينتقم للوفد الذي لم ينس زعماؤه مقالات طه حسين ويعلمون صلاته بالأحرار الدستوريين، وأصر الوزير إلا أن يستقيل وأصر الدكتور طه إلا المباشرة في العمادة، وقبل أن يستقيل بشرط واحد هو أن يعين ويباشر وظيفته ولو ليوم واحد ويوقع بعض الأوراق ثم يقدم استقالته، وبذلك حسم النزاع واستمر أستاذاً للأدب العربي.
-وفي سنة 1930 انتهت مدة "ميشو" الفرنسي عميداً فاختارت الكلية الدكتور طه حسين عميداً، ووافق وزير المعارف "مراد سيد أحمد" وبعد حين طلب منه أن يستقيل ليصبح رئيساً لتحرير جريدة الشعب لسان حال حزب صدقي باشا فرفض الطلب وآثر البقاء في الجامعة وألحت عليه الجهات الرسمية على قبول رئاسة تحرير الجريدة فأصر على الرفض، وهذا ما جعل صدقي يضمر في نفسه الانتقام من الدكتور طه.
-وابتداءً من 29 مارس 1932 لزم الدكتور بيته وشرع يكتب في جريدة السياسة ويتولى رئاسة تحريرها حين يكون الدكتور هيكل غائباً عن القاهرة. وكان ائتلاف بين الأحرار والوفد فطلب من الدكتور طه أن يكتب في جريدة (كوكب الشرق)التي كان يصدرها حافظ عوض. واستقال من كوكب الشرق واشترى امتياز جريدة الوادي وتولى الإشراف على التحرير واستمر إلى تشرين الثاني 1934 يدير الوادي.
-أعيد في وزارة نسيم إلى الجامعة سنة 1934 وعين أستاذاً في كلية الآداب وفي مارس من سنة 1936 اختير عميداً للكلية واستمر في العمادة حتى مارس 1939 وأعيد انتخابه للعمادة لكن حكومة محمد محمود لم ترض إعادته عميداً فاستقال من العمادة وبقي أستاذاً في الكلية للأدب .
-وفي كانون الأول من عام 1939 عين مراقباً للثقافة في وزارة المعارف واستمر بعمله الرسمي إلى شباط 1942 مع بقائه يلقي محاضراته في كلية الآداب.
-وعاد الوفد سنة 1942 إلى الحكم فاختاره نجيب الهلالي وزير المعارف مستشاراً فنياً بوزارة المعارف ثم انتدب مديراً لجامعة الإسكندرية واستمر في هذين المنصبين إلى تشرين 1944.
-وفي 16 تشرين الأول سنة 1944 أحيل إلى التقاعد واستمر خارج المناصب الحكومية، وفي 13 كانون الثاني 1950 عين وزيراً للمعارف في الوزارة الوفدية .
-ومن سنة 1952 انصرف إلى الإنتاج الفكري وإلى النشاط في المجامع العلمية واللغوية، فهو عضو في مجمع اللغة في القاهرة، والمجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، والمجمع المصري في دمشق، والمجمع العلمي العراقي، وعضو مراسل لعدة مجامع علمية في الخارج.
-حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة مدريد وجامعة كمبردج، ونال وسام الباشوية ووسام الليجون دونير مو طبقة كراند أوفيسية، ونال الدكتوراه الفخرية من جامعات ليون، ومونبيليه، ومدريد، وأكسفورد، وانتخب رئيساً للمجمع اللغوي بعد وفاة أحمد لطفي السيد سنة 1963.
-توفي طه حسين عام 1973م.
مؤلفاته:
1- ذكرى أبي العلاء المعري، وهو أول كتاب صدر له نال به رسالة الدكتوراه سنة 1914 وقد طبع لأول مرة بمطبعة الواعظ سنة 1334هـ-1915م في 410 صفحة. وطبع ثانية بمطبعة المعاهد بمصر سنة 1922 في 384 صفحة من غير حذف أو تغيير. وطبع ثالثة بعنوان تجديد ذكرى أبي العلاء في دار المعارف سنة 1937 في 311 صفحة. وطبع طبعة رابعة سنة 1950 ثم طبعة خامسة في دار المعارف سنة 1958.
2- فلسفة ابن خلدون الاجتماعية : وهو رسالة الدكتوراه التي قدمها إلى السوربون سنة 1917 ونال بها إجازة الدكتوراه من جامعة باريس وترجمها عبد الله عنان بعنوان (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية) طبعت بمطبعة الاعتماد لأول مرة سنة 1343هـ-1925م.
3- آلهة اليونان: الظاهرة الدينية عند اليونان وأثرها في المدنية طبع في مطبعة المنار سنة 1919، في 96 صفحة.
4- دروس التأريخ القديم وهي الدروس التي كان يلقيها في الجامعة المصرية بين عام 1919 وعام 1924 شملت اليونان والرومان نشر بعضها في مجلة الجامعة.
5- صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان، مطبعة الهلال بمصر سنة 1920.
6- الواجب ترجمه عن الفرنسية لمؤلفه جول سيمون وطبع في مطبعة الجريدة سنة 1921 في أربعة أجزاء .
7- نظام الاثنين تأليف أرسطو طاليس ترجمه عن اليونانية وطبع بمطبعة الهلال وأعيد طبعه في دار المعارف في 192 صفحة.(51/344)
8- روح التربية تأليف جوستاف لوبون عن الفرنسية طبع بمطبعة الهلال في 163 صفحة.
9- قصص تمثيلية لجماعة من أشهر الكتاب الفرنسيين طبع في المطبعة التجارية سنة 1924.
10- قادة الفكر طبع سنة 1925 بمطبعة الهلال بـ135 صفحة. وأعيد طبعه بمطبعة المعارف سنة 1929 ثم أعيد مرات عديدة كان آخرها سنة 1959.
11- حديث الأربعاء، سلسلة مقالات نشرها في السياسة وطبع منها المجلد الأول في المكتبة التجارية بالقاهرة سنة 1925 وطبع الجزء الثاني بمطبعة دار الكتب المصرية سنة 1926، وطبع الجزءان ثانية بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1937 وطبع هذان الجزءان في دار المعارف 1959 وطبع الجزء الثالث في دار المعارف سنة 1957 الأول بـ412ص، والثاني بـ347ص، والثالث بـ230 صفحة.
12- في الشعر الجاهلي طبع بمطبعة دار الكتب المصرية سنة 1926 ثم سحب الكتاب من الأسواق.
13- في الأدب الجاهلي وهو كتاب (في الشعر الجاهلي) بعد أن حذف منه فصل وأضيفت إليه فصول، طبع لأول مرة بمطبعة الاعتماد بالقاهرة سنة 1927 بـ375ص، وطبع ثانية في دار المعارف سنة 1958 بـ333ص.
14- في الصيف نشره سنة 1928 ولم يظهر في كتاب إلا سنة 1933 وطبع في بيروت للمرة الثانية مع رحلة الربيع والصيف بدار العلم للملايين سنة 1957.
15- الأيام، الجزء الأول نشر أولاً في الهلال المجلد 35 ج2 ص161-168 وتوالى نشره من سنة 1926-1927 ثم جمع بكتاب وطبع بمطبعة أمين عبد الرحمن في سنة 1929 وأعيد طبعه سنة 1942 ثم في سنة 1949. ثم في سنة 1958.
16- حافظ وشوقي طبع بمطبعة الاعتماد بـ121ص وذلك سنة 1933.
17- على هامش السيرة الجزء الأول المطبعة الرحمانية وقد أعيد مراراً سنة 1935، 1953.
18- نقد النثر لقدامة بن جعفر حققه بالاشتراك مع عبد الحميد العبادي، دار الكتب.
19- دعاء الكروان، وقد أعيد طبعه مراراً منها طبعة دار المعارف سنة 1959 بـ160 صفحة.
20- من بعيد طبع بمطبعة الرحمانية بـ311ص. وأعادت طبعه الشركة العربية للطباعة والنشر سنة 1958 بـ 305صفحة.
21- أديب، طبع بمطبعة الاعتماد سنة 1935 بـ251ص، وأعيد طبعه سنة 1944، وطبع ثالثة سنة 1953 بمطابع جريدة المصري من مجموع كتب للجميع.
22- الحياة الأدبية في جريدة العرب مكتب النشر وأعيد طبعه في كتاب "ألوان" سنة 1958.
23- مع أبي العلاء في سجنه مطبعة المعارف بـ 245ص وطبع مرة أخرى سنة 1956 بـ 336ص.
24- أندروماك لراسين، المطبعة الأميرية ببولاق.
25- من حديث الشعر والنثر، مطبعة الصاوي القاهرة بـ 312ص، وطبع ثانية سنة 1948 وثالثة بدار المعارف سنة 1957 بـ 184ص.
26- القصر المسحور بالاشتراك مع توفيق الحكيم، طبع بدار النشر الحديث سنة 1937.
27- مع المتنبي ظهر في شباط سنة 1937 في جزأين بـ 716 صفحة ضمن مطبوعات لجنة التأليف والترجمة والنشر وأعادت طبعه دار المعارف سنة 1957 بمجلد واحد وأعيد طبعه سنة 1960.
28- الحب الضائع نشرته مجلة الراديو (مسلسلة)، عام 1937-1938 ثم نشر في العدد 100 من سلسلة "اقرأ" التي تصدرها دار المعارف شهرياً 1951.
29- مستقبل الثقافة في مصر جزءان طبعا بمطبعة المعارف سنة 1938 وأعيد طبعه سنة 1944.
30- من الأدب التمثيلي اليوناني، لجنة التأليف والترجمة والنشر. وأعيد في دار المعارف.
31- الأيام، الجزء الثاني طبع سنة 1939 ثم أعيد طبعه بدار المعارف سنة 1956.
32- لحظات، في جزئين طبعته دار المعارف سنة 1942.
33- على هامش السيرة، الجزء الثاني طبعته دار المعارف سنة 1942 وأعيد طبعه في دار المعارف سنة 1953.
34- على هامش السيرة، الجزء الثالث، طبعته دار المعارف سنة 1943 وأعادت طبعه 1955 وسنة 1958 وسنة 1961.
35- صوت باريس، مجموعة قصصية تمثيلية، طبعته دار المعارف 1943 وأعيد طبعه سنة 1956 ضمن كتب للجميع.
36- أحلام شهرزاد، العدد الأول من سلسلة اقرأ طبعته دار المعارف، سنة 1943.
37- شجرة البؤس، طبعته دار المعارف وصدر عن نادي القصة ثانية سنة 1953 ضمن سلسلة الكتاب الذهبي وطبع عن دار المعارف سنة 1958.
38- جنة الشوك عن دار المعارف سنة 1945.
39- فصول في الأدب والنقد. أصدرته دار المعارف سنة 1945.
40- صوت أبي العلاء، العدد 23 من مسلسلة اقرأ عن دار المعارف سنة 1945.
41- زاديج أو القدر مترجم من فولتير، صدر عن مطبعة الكاتب المصري وأعيد طبعه سنة 1960، من دار العلم للملايين، بيروت.
42- أندرية جيد: من أبطال الأساطير اليونانية أوديب أسيوس، صدرته مطبعة الكاتب المصري.
43- المعذبون في الأرض، نشرته مجلة الكاتب المصري سنة 1948، ثم طبع في صيدا سنة 1949 وطبع في سلسلة اقرأ وطبعته الشركة العربية سنة 1958.
44- مرآة الضمير الحديث، قامت بطبعه دار الملايين 1949، وطبع بعنوان نفوس للبيع ضمن مجموعة كتب للجميع سنة 1953.
45- الوعد الحق: طبع في دار المعارف في العدد 86 من سلسلة اقرأ وطبع سنة 1954 و 1954 و 1959 و 1960.
46- جنة الحيوان: طبع بمطابع جريدة المصري سنة 1950.(51/345)
47- رحلة الربيع، العدد 69 من سلسلة اقرأ طبع دار المعارف سنة 1948، ثم أعيد نشرها مع رحلة الصيف طبعتهما دار العلم للملايين بيروت 1957.
48- ألوان: نشرته دار العلم للملايين بيروت سنة 1952. ثم أعادت طبعه مجدداً سنة 1958.
49- عليٌ وبنوه: الجزء الثاني دار المعارف وطبع مرة ثانية 1961.
50- بين بين : نشرته دار العلم للملايين سنة 1952.
51- شرح لزوم ما لا يلزم لأبي العلاء بالاشتراك مع إبراهيم الأبياري العدد 13 من ذخائر العرب.
52- من هناك، مطبعة روز اليوسف من سلسلة الكتاب الذهبي، 1955، وضم صوت باريس.
53- خصام ونقد نشرته مطابع دار العلم للملايي، بيروت، سنة 1955.
54- نقد وإصلاح: نشرته مطابع دار العلم للملايين، بيروت، سنة 1956 وطبع ثانية سنة 1960.
55- رحلة الربيع والصيف دار الملايين أخرجته سنة 1957 ويضم رحلة الربيع وفي الصيف.
56- مرآة الإسلام، مطبعة المعارف بمصر سنة 1959 بـ 311ص .
57- من لغو الصيف، نشرته دار العلم للملايين، بيروت 1959.
58- من أدب التمثيل الغربي، نشرته دار العلم للملايين سنة 1959.
59- أحاديث نشرته دار العلم للملايين سنة 1959.
60- الشيخان أبو بكر وعمر نشرته دار المعارف بمصر سنة 1960.
61- المذكرات، دار الآداب بيروت شباط 1967.
62- الجزء الأول من الفتنة الكبرى (عثمان)، دار المعارف وكان الجزء الثاني من الفتنة قد صدر بعنوان علي وبنوه سنة 1952.
63- كلمات: في الأدب والنقد أصدرته دار العلم للملايين سنة 1967.
64- خواطر: في الأدب والنقد أصدرته دار العلم للملايين سنة 1967.
ترجمة كتبه وأعماله المجمعية:
ترجمت "الأيام" إلى الإنكليزية والفرنسية والعبرية والصينية والروسية والفارسية والإيطالية والألمانية والمجرية، وقد ترجم الأيام الجزء الثاني إلى الإنكليزية والفرنسية وترجمه كراتشكوفسكي إلى الروسية وظهرت ترجمته سنة 1960.
دعاء الكروان نقل إلى الفرنسية.
وأوديب ومستقبل الثقافة إلى الفرنسية.
والوعد الحق إلى الفارسية.
علي وبنوه إلى الفارسية والأوردية.
-وللدكتور طه حسين مقالات سياسية وأدبية ونقدية واجتماعية، وله مقدمات لكتب عديدة كان يكتبها لأصدقائه وطلابه لو جمعت لأربت على عشرات الكتب.
أما أعماله المجمعية: فقد ساهم …. في لجانه الكثيرة ومنها:
1- لجنة المعجم الكبير وقد اختير مشرفاً عليها منذ إنشائها.
2- لجنة اللهجات.
3- لجنة الأدب.
4- لجنة الأصول.
5- لجنة التأريخ والجغرافيا.
6- لجنة الألفاظ والأساليب.
7- لجنة نشر التراث القديم.
وألقى في المجمع بحوثاً وكلمات منها:
1- كلمة في استقبال الدكتور عبد الحميد بدوي ونشر في المجلة، الجزء السادس ص 218.
2- بحث (فن من الشعر يتطور بأعين الناس)، المجلة، الجزء السابع ص 24.
3- كتاب الرد على النحاة، لابن مضاء، بحث عنه، نشر في المجلة، الجزء السابع ص 76.
4- كلمة في استقبال الأستاذ محمود تيمور، سنة 1950، الجزء الثامن ص 43.
5- كلمة في استقبال الأستاذ محمد توفيق دياب، المجلة، الجزء العاشر ص 151.
6- كلمة في استقبال الأستاذ توفيق الحكيم، سنة 1954، الجزء العاشر ص 175.
7- مشكلة الأعراب المحلية، الجزء الحادي عشر، ص 175.
8- كلمة في استقبال أحمد حسن الباقوري، المجلة ج 13 ص 241.
9- في تأبين الدكتور محمد حسين هيكل، سنة 1957، المجلة ج 13 ص 287.
10- كلمة في تأبين الأستاذ انوليتمان، المجلة، ج 14 ص 334، ألقاها بالنيابة عن الدكتور طه حسين الدكتور محمد عوض محمد، يوم 27 من ذي العقدة سنة 1383هـ 21 نيسان 1963.
11- كلمة في تأبين الدكتور عبد الوهاب عزام، المجلة، ج 14 ص 341.
12- تأبين الأستاذ أحمد لطفي السيد، مجلة المجمع، الجزء الثامن عشر، ص 113.
وقد اختير الدكتور طه حسين لتمثيل المجمع في عدة مؤتمرات مثل مؤتمر اللغويين السادس باريس، والمؤتمر الحادي والعشرين للمستشرقين الذي عقد بباريس أيضاً، والمستشرقين في لندن، وأدار الإدارة العامة للثقافة العربية في الجامعة العربية، وحضر ورأس مهرجانات ومؤتمرات أدبية في أقطار عديدة. (انتهى ملخصاً بتصرف من كتاب (طه حسين بين أنصاره وخصومه) لجمال الدين الألوسي (12-16، 63-65، 69-76).
انحرافاته:
انحرافات هذا الرجل كثيرة جداً، فهو –بلا شك- رأس من رؤوس التغريب في زماننا المعاصر، وقد حاول طيلة حياته إلقاء الشبهات وإثارة الشكوك ومحاربة الإسلام بشتى الطرق، وفق خطة مدروسة صاغها له الغربيون الذين ربوه على أعينهم.
فإليك أخطر انحرافاته التي بثها بين المسلمين:
1- إحياؤه ودعوته إلى مذهب (الشك) الذي تلقاه عن (ديكارت).(51/346)
يقول الأستاذ أنور الجندي: "يكاد المستشرقون والباحثون الغربيون يجمعون على أن هدف طه حسين الأول الذي أعد له، والذي عمل له خلال حياته كلها من خلال كتاباته سواء منها التي ألقيت في الجامعة كمحاضرات أو نشرت في صحف أو في كتب مطبوعة تجمع على شيء واحد هو: إرساء منهج الشك الفلسفي في حياة الفكر الإسلامي على نحو يسيطر تماماً على التاريخ والنقد الأدبي والمسرح والدراما، واتخاذ كل أساليب البيان للوصول إلى هذه الغاية فقد اتخذ ذلك أول الأمر أسلوبه في الجامعة حيث حمل لواء الدعوة إلى نقد القرآن بوصفه نص أدبي، وتشكيكه في وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام." (كتاب العصر تحت ضوء الإسلام، ص30)
وقد رد الأستاذ محمود شاكر –رحمه الله- على طه حسين مبطلاً مذهبه هذا بقوله "إن إدعاء طه حسين أن القاعدة الأساسية في منهج ديكارت أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل بحثه خالي الذهن خلواً تماماً مما قبل، فإن هذا شيء لا أصل له وتكاد تكون هذه الصياغة كذباً مصفى، بل هو خارج عن طوق البشر.
هبه يستطيع أن يخلي ذهنه خلواً تاماً مما قبل، وأن يتجرد من كل شيء كان يعلمه من قبل، أفيستطيع هو أيضاً أن يتجرد من سلطان اللغة التي غذي بها صغيراً حتى صار إنساناً ناطقاً؟ أفيستطيع أن يتجرد من سطوة الثقافة التي جرت منه مجرى لبن الأم؟ أيستطيع أن يتجرد من بطشة الأهواء التي تستكين ضارعة في أغوار النفس وفي كهوفها كلام يجري على اللسان بلا زمام يضبطه، محصوله أن يتطلب إنساناً فارغاً خاوياً مكوناً من عظام كسيت جلداً؟." (المرجع السابق، ص32).
قلت: وليت طه حسين إذ دعا إلى هذا المذهب كان يهدف إلى أن يكون الشك مقدمة إلى اليقين، إذاً لهان الأمر، ولكنه كان يهدف إلى أن يكون الشك للشك !!
2-تدور فكرة كتابه (في الشعر الجاهلي) على "أن الشعر الجاهلي لا يمثل حياة العرب قبل ظهور الإسلام، أي لا يمثل الحياة التي عاش فيها الرسو صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة بمالها من جوانب وأجواء، إذ هو شعر مصطنع مفتعل ولذا لا يعبر عن حقائقها ولا عن ما دار فيها، فهو في جملته يعبر عن حياة جاهلية فيها غلظة وخشونة، وبعيدة عن التمرس السياسي، والنهضة الاقتصادية أو الحياة الدينية الواضحة. مع أن حياة العرب في الجاهلية كانت حياة حضارية" (طه حسين في ميزان العلماء والأدباء، للأستاذ محمود الأستانبولي، ص 129).
"ومنطق المؤلف: بما أن الشعر الجاهلي لا يصح أن يكون مرآة صافية للحياة الجاهلية، وهي الحياة التي نشأ فيها الرسو صلى الله عليه وسلم وقام بدعوته، وكافح من أجل هذه الدعوة فيها، فالشيء الذي يعبر عن هذه الحياة تعبير صدق، وموثوق به كل الثقة، هو القرآن " (المرجع السابق، ص 130).
ثم ذكر ما يعتقده من صفات الحياة الجاهلية كما جاءت في القرآن قال الدكتور محمد البهي : (ومعنى هذا القول –كما يريد المؤلف أن يفهم قارئه –أن القرآن انطباع للحياة القائمة في وقت صاحبه، وهو النبي، ويمثل لذلك بيئة خاصة : في عقيدتها ولغتها وعاداتها واتجاهها في الحياة، وهي البيئة العربية في الجزيرة العربية) (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص 186).
"وإذن: القرآن –بعبارة أخرى- دين محلي لا إنساني عالمي قيمته وخطره في هذه المحلية وحدها، قال به صاحبه! تحت التأثر بحياته التي عاشها وعاش فيها، ولذلك يعبر تعبيراً صادقاً عن هذه الحياة، أما أنه يمثل غير الحياة العربية، أو يرسم هدفاً عاماً للإنسانية في ذاتها، فليس ذلك الكتاب. إنه دين بشري وليس وحياً إلهياً" !! (المرجع السابق، ص 187).
-كان من أخطر وأعظم أقوال طه حسين في هذا الكتاب، قوله:
"للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القضية التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة، ونحن مضطرون أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهود، والقرآن والتوراة من جهة أخرى" !!(نقلاً عن: طه حسين : حياته وفكره في ميزان الإسلام، للأستاذ أنور الجندي، ص 8).
3-أما في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) فقد دعا طه حسين إلى ثلاثة أمور:
1- الدعوة إلى حمل مصر على الحضارة الغربية وطبعها بها وقطع ما يربطها بقديمها وبإسلامها.
2- الدعوة إلى الوطنية وشؤون الحكم على أساس مدني لا دخل فيه للدين، أو بعبارة أصرح: دفع مصر إلى طريق ينتهي بها إلى أن تصبح حكومتها لا دينية.
3- الدعوة إلى إخضاع اللغة العربية لسنة التطور ودفعها إلى طريق ينتهي باللغة الفصحى التي نزل بها القرآن الكريم إلى أن تصبح لغة دينية فحسب كالسريانية والقبطية واللاتينية واليونانية" (طه حسين في ميزان العلماء ، ص 146)(51/347)
ومن أقواله الشنيعة في هذا الكتاب: دعوته إلى "أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب" (مستقبل الثقافة في مصر، ص 41).
4-أما كتابه (على هامش السيرة) فقد حشاه بالأساطير والروايات الباطلة مبرراً موقفه هذه "بأن هذه الأساطير ترضي ميل الناس إلى السذاجة، وترفه عنهم حين تشق عليهم الحياة" !! (طه حسين في ميزان العلماء، ص 234).
يقول الأستاذ غازي التوبة : "ليس من شك في أن تناول السيرة بقصد الاستراحة من جهد الحياة وعنائها، والترفيه عن النفس، وإرضاء ميل الإنسان إلى السذاجة، وتنمية بعض عواطف الخير، ليس من شك أنها سابقة خطيرة، لا يحسد عليها طه حسين؛ لأن المسلمين كتبوا -دوما وكثيراً- في سيرة نبيهم صلوات الله عليه، ومحصوا أحداثها، وميزوا دقائقها، وبوبوا تفاصيلها، وكان نظرهم -خلال ذلك كله وبعده- يرمق في محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً أعلى للإنسانية ويلتذ في ذلك، ويشتم منه الصفات العبقة ويلتذ في ذلك -ولم يقفوا عند حدود الرمق والشم والالتذاذ- ولكن سعت أقدامهم في لحظة الرمق والشم والتلذذ نفسها- ومشت على طريق محمد. فزكوا أنفسهم كما زكى محمد نفسه، وعبدوا ربهم كما عبد محمد ربه، وعاملوا الناس كما عامل محمد الناس، وجاهدوا الشرك والباطل كما جاهد محمد الشرك والباطل الخ…
كتب المسلمون الذي كتبوه في سيرة نبيهم، ومحصوا الذي محصوه، وبوبوا الذي بوبوه، قاصدين الاقتداء به، والعمل مثل عمله. وشتان بين ما هدف إليه طه حسين، وما ذهب إليه رواة السيرة" (الفكر الإسلامي، لغازي التوبة، ص، 110).
قلت: وقد صدق محمد حسين هيكل صاحب طه حسين ! في تعليقه على كتاب طه هذا، حين قال: "الخطر ليس على الأدب وحده، ولكن على الفكر الإسلامي كله؛ لأنه يعيد غرس الأساطير والوثنيات والإسرائيليات في سيرة صلى الله عليه وسلم مرة أخرى بعد أن نقاها العلماء المسلمون منها، وحرروها من آثارها" (طه حسين في ميزان العلماء، ص 236).
5-أما كتابه (الشيخان) فقد مارس فيه ما أتقنه من مذهب (الشك) الذي ورثه من (ديكارت) ! حيث قال في مقدمة الكتاب: "وما أريد أن أفصل الأحداث الكثيرة الكبرى التي حدثت في أيامهما، فذلك شيء يطول، وهو مفصل أشد التفصيل فيما كتب عنهما القدماء والمحدثون. وأنا بعد ذلك أشك أعظم الشك فيما روي عن هذه الأحداث، وأكاد أقطع بأن ما كتب القدماء من تاريخ هذين الإمامين العظيمين، ومن تاريخ العصر القصير الذي وليا فيه أمور المسلمين، أشبه بالقصص منه بتسجيل الحقائق التي كانت في أيامهما" !! (نقلاً عن : طه حسين في ميزان العلماء، ص 214).
هكذا دون أدلة، ودون رجوع لأهل الشأن من علماء الحديث، إنما تحكيماً لعقله في أحداث الصحابة وما جرى منهم ولهم.
6-أما كتاب (الفتنة الكبرى) بجزأيه، فقد خاض فيه طه حسين في ما شجر بين الصحابة -رضوان الله عليهم- دون علم، وهو ما نهى عنه علماء أهل السنة -رحمهم الله-، وكان له هدف خبيث من هذا الخوض بينه الأستاذ غازي التوبة بعد أن فنَّد الكتاب بقوله: "إذن ينعي طه في ختام الجزء الأول الخلافة، ويوهِن من عزائم المسلمين الساعية إلى إعادتها، وينبههم إلى أن المسلمين الأوائل تنكبوا عن طريقها منذ أمد بعيد واتبعوا طريق الملك الذي يحل مشكلات الدنيا بالدنيا، فالخلافة تحتاج إلى أولي عزم من الناس، وأين أولو العزم الآن ؟؟!!
وكأن لسان حاله يخاطب مسلمي عصره ويقول لهم: عليكم أيها المسلمون أن تدعوا التفكير في الخلافة، وأن تبطلوا السعي إليها، وأن ترضوا بحكم الديمقراطية كما رضي أصحاب النبي بعد عثمان رضي الله عنه بحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا ؟؟!!
هذه هي النتيجة التي يصل إليها طه حسين في ختام الجزء الأول، ويا لها من نتيجة مثبطة!!" (الفكر الإسلامي، للتوبة، ص122-123).
-أما الجزء الثاني من الكتاب (علي وبنوه)، فإنه أيضاً لم يخلُ من دسّ، معلناً فيه (انهزام) ! الخلافة على يد علي -رضي الله عنه- وموهماً القارئ أن الإسلام قد انسحب نهائياً من الحياة بهزيمة علي -رضي الله عنه-!! وأن المال قد استولى على النفوس!
الخلاصة كما يقول الأستاذ غازي التوبة: أن طه حسين "كتب (الفتنة الكبرى) مشككاً في حكم الخلافة الإسلامية الأول، وفي إمكانية استمراره، ناعياً على الإسلام افتقاره للنظام المكتوب، معلناً انبثاق مذهب جديد في السلطان يقوم على الجبر والقهر، مبيناً رضوخ المسلمين وارتضاءهم للمذهب الجديد، زاعماً انسحاب الإسلام من مختلف قطاعات الحياة وسيطرة المال والأثرة !!
كتب كل هذا : قاصداً أن يقنع المسلمين بأن الحكومة الإسلامية لا وجود لها بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن طبقت فلأمد محدود لا يتجاوز حياة عمر، ويعود نجاح التطبيق إلى إمكانات عمر الفردية فقط !!(51/348)
كتب كل هذا: هادفاً أن يُلطخ صورة الخلافة الوضاءة كي يصرف أنظار المسلمين عنها، وأن يثني عزائهم عن السعي إليها بتهويل الصعوبات، فالأمر يحتاج إلى أولي عزم. وأين أولو العزم من الناس ؟ !
ما هي الأسباب التي دفعته إلى الكتابة عن الإسلام؟
يكمن السبب في الوضع الداخلي لمصر، فقد بلغ المد الإسلامي فيها ذُروته العظمى في نهاية الأربعينيات وأوائل الخمسينيات باغياً إعادة تطبيق الإسلام في مجال الحكم، وإرجاع الخلافة الإسلامية إلى الوجود. وقد كتب طه -في اللحظة نفسها أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينيات -كي يُشكك هذا المد بعدم جدوى محاولته بالاستناد إلى تاريخ المسلمين نفسه" (الفكر الإسلامي، ص 125-126).
7-أما كتاب (حديث الأربعاء) فقد حاول طه فيه أن يصور للقارئ أن العصر العباسي كان عصر شك ومجون ودعارة وإباحية !! معتمداً في ذلك على قصص أبي نواس وحماد عجرد والوليد بن يزيد ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك ووالبة بن الحباب وإبان بن مروان بن أبي حفصة وغيرهم من المجَّان!
وقد نقد هذا الكتاب (الماجن) كلٌ من:
1- الأديب إبراهيم المازني . (انظر: طه حسين في ميزان العلماء، ص 246)
2- والأستاذ رفيق العظم. (انظر: المرجع السابق، ص 245)
-أخيراً قام الأستاذ أنور الجندي بجمع أهم الانحرافات على هذا الرجل، ولخصها على شكل نقاط، فقال: "أهم الأخطار التي يروج لها فكر طه حسين والتي يجب الحيطة في النظر إليها هي:
أولاً: قوله بالتناقض بين نصوص الكتب الدينية وبما وصل إليه العلم، وقوله: (إن الدين لم ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها) وهذه نظرية شاعت حيناً في الفكر الغربي تحت تأثير المدرسة الفرنسية التي يرأسها اليهودي (دوركايم).
ثانياً: إثارة الشبهات حول ما سماه القرآن المكي والقرآن المدني، وهي نظرية أعلنها اليهودي (جولد زيهر) وثبت فسادها.
ثالثاً: تأييده القائلين بتحريق العرب الفاتحين لمكتبة الإسكندرية وهي نظرية رددها المستشرق (جريفبني) في مؤتمر المستشرقين عام 1924.
رابعاً: عَمِلَ على إعادة طبع (رسائل إخوان الصفا) وتقديمها بمقدمة ضخمة في محاولة لإحياء الفكر الباطني المجوسي الذي كان يحمل المؤامرة على الإسلام والدولة الإسلامية.
خامساً: إحياؤه شعر المجون والغزل بالمذكر وكل شعر خارج عن الأخلاق سواء كان جنسياً أو هجاء، وقد أولى اهتمامه بأبي نواس، وبشار والضحاك في دراسات واسعة عرض فيها آراءهم وحلل حياتهم.
سادساً: ترجمة القصص الفرنسي المكشوف، وترجمة شعر بودلير وغيره من الأدب الأجنبي الإباحي الخليع.
سابعاً: إثارة شبهة خطيرة عن أن القرن الثاني الهجري كان عصر شك ومجون.
ثامناً: قدم فكرة فصل الأدب العربي عن الفكر الإسلامي كمقدمة لدفعه إلى ساحة الإباحيات والشك وغيرها وذلك باسم تحريره من التأثير الديني.
تاسعاً: إعلاء الفرعونية وإنكار الروابط العربية والإسلامية ومن ذلك قوله: إن الفرعونية متأصلة في نفوس المصريين ولو وقف الدين الإسلامي حاجزاً بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه.
العاشر: إشاعة دعوة البحر الأبيض لحساب بعض القوى الأجنبية والقول: بأن المصريين غريبوا العقل والثقافة، وأن الفكر الإسلامي قام على آثار الفكر اليوناني القديم ولذلك فلا مانع من تبعيته في العصر الحديث للفكر الغربي.
الحادي عشر: الادعاء بأن الشاعر أبا الطيب المتنبي (لقيط) وهي دعوى باطلة أقام عليها كتابه (مع المتنبي) متابعاً رأي الاستشراق وهادماً لبطولة شاعر عربي نابه([2]).
الثاني عشر: اتهامه الخطير لابن خلدون بالسذاجة والقصور وفساد المنهج وهو ما نقله عن أستاذه اليهودي (دوركايم).
الثالث عشر: إعادة خلط الإسرائيليات والأساطير إلى السيرة النبوية بعد أن نقاها المفكرون المسلمون منها والتزيد في هذه الإسرائيليات والتوسع فيها وذلك في كتابه (على هامش السيرة) وقد كشف هذا الاتجاه الدكتور محمد حسين هيكل ووصفه مصطفى صادق الرافعي بأنه (تهكم صريح).
الرابع عشر: حملته على الصحابة والرعيل الأول من الصفوة المسلمة وتشبيههم بالسياسيين المحترفين في كتابه (الفتنة الكبرى).
الخامس عشر: إثارة الشبهات حول (أصالة) الأدب العربي والفكر الإسلامي بما زعمه من أثر اليهود والوثنية والنصرانية في الشعر العربي.
السادس عشر: إنكار وجود سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل عليهما السلام وإنكار رحلتهما إلى الجزيرة العربية وإعادة بناء الكعبة على نفس النحو الذي أورده العهد القديم وكتابات الصهيونية.
السابع عشر: دعوته إعلاء شأن الأدب اليوناني على الأدب العربي والقول: بأن لليونان فضلاً على العربية والفكر الإسلامي.
الثامن عشر: دعوته إلى الأخذ بالحضارة الغربية (حلوها ومرها وما يحمد منها وما يعاب) في كتابه (مستقبل الثقافة).
التاسع عشر: وصف الفتح الإسلامي لمصر بأنه (استعمار عربي) وعبارته هي: (خضع المصريون لضروب من البغي والعدوان جاءتهم من الفرس والرومان والعرب).(51/349)
العشرون: إنكار شخصية عبد الله بن سبأ اليهودية وتبرئته مما أورده الطبري ومؤرخو المسلمين من دور ضخم في فتنة مقتل عثمان في كتابه (الفتنة الكبرى) ) انتهى من كتاب: (إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام، ص 149-151).
-لمن أراد الزيادة في معرفة انحرافات طه حسين، والرد عليها، فعليه بهذين الكتابين الجامعين:
1- طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام، للأستاذ أنور الجندي.
2- طه حسين في ميزان العلماء والأدباء، للأستاذ محمود مهدي الإستانبولي .
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
------------------------------------------
([1]) مستفادة من كتاب (طه حسين بين أنصاره وخصومه) لجمال الدين الألوسي. ومراجع ترجمته كثيرة لا تخفى على الباحثين.
([2]) المتنبي لا تخلو أشعاره من المؤاخذات، انظرها إن شئت في رسالة (نظرات شرعية في ديوان المتنبي) لكاتب هذا البحث
قال محمد سرور بن نايف زين العابدين صـ : 211 من كتابه: دراسات في السيرة النبوية:
هل تاب - طه حسين - قبل موته؟
افضى طه حسين إلى ربه بعد أن رده الله سبحانه وتعالى الى ارذل العمر.
أفضى الى ربه ليحمل أوزاره وحده قال تعالى ( كل نفس بما كسبت رهينة) ويحمل اوزار الذين أضلهم دون ان ينقص ذلك من أوزارهم شيئا0.
أفضى إلى ربه ولا ينفعه ثناء المستشرقين ولا تكريم الملاحدة العلمانيين ولا الأوسمة والألقاب العلمية التي حصل عليها.
وتصدى لطه حسين في أوج عزّه أعلام من العلماء والدعاة جاءوا بنصوص من آرائه وأقواله التي زعم بأنه مبتدع لها ونصوص من كلام المستشرق مرجليوث فكان كلام طه ترجمة حرفية لأقوال أستاذه، وتبين بأنه متبع وليس مبتدعًا، مقلّد وليس مجتهدًا ..........................
.............. إلى أن قال:
والسؤال الذي يفرض نفس:
هل صحيح أن طه حسين رجع عما كان قد قاله في كتابه (الشعر الجاهلي)، وتاب قبل موته ؟
هكذا زعم بعض الكتاب، وقال أحدهم:
" عدل طه حسين عن رأيه في الشعر الجاهلي بعد أن قرأ كتاب الدكتور أحمد الحوفي ( الحياة العربية في الشعر الجاهلي)، ولم يقل كيف علم بذلك ولا مدى صحة هذا الخبر.
وقال آخرون: كان طه حسين قبل موته معتكفا على سماع القرآن مرتلاً، وقال طه نفسه مثل هذا القول في مقابلة أجراها معه أحد المذيعين في إذاعة القاهرة ".
ويواصل محمد سرور (نقلاً ذلك هذا الكاتب) :
إن الذي يهمنا في هذا الشأن: هل كتب طه حسين بحثًا أو مقالاً يعلن فيه رجوعه عن أقواله وآرائه التي اثارت ضجة كبيرة وكفره علماء المسلمين بسببها ؟!
هل أعلن في الإذاعة أو في صحيفة من الصحف أو أمام ملأ من الناس عن تراجعه عن آرائه التي وردت في كتابه (الشعر الجاهلي) ؟!
فليأتنا أنصاره ومحبوه بمقال واحد بل بعبارة واحدة قالها .. فإن قالوا: لقد كتب كلامًا طيبًا في مرآة الإسلام، قلنا:
وفي كتابه (على هامش السيرة) كتب كلاما طيبا وآخر يقطر خبثا ... ومثل هذه الأساليب الملتوية معروفة ومبثوثة في كتب المستشرقين وتلامذتهم.
وإذا كان المعجبون بـ طه حسين أو الذين يحسنون الظنّ به قبل موته بقليل عاجزين عن إبراز أي دليل فنحن نملك دليلا على أنه لم يتراجع عما قاله من زندقة وإلحاد.
قال الدكتور محمد الدسوقي سكرتير طه حسين:
" لقد رافقت العميد في العقد الأخير من عمره، وقرأت له كثيرًا من المؤلفات العربية القديمة والمعاصرة، وجاء ذكر الشعر الجاهلي أكثر من مرة فما سمعت منه إلا شكّه في هذا الشعر وطعنه في صحته. وقد قال لي يوما أنه لايعيد النظر في مؤلفاته عند إعادة طبعها، غير أنه أضاف إلى هذا قائلاً: إن هناك كتابا واحدًا أريد أن أغير فيه بعض الآراء وهو (مستقبل الثقافة في مصر) فقد انتشر التعليم وأصبح مجانا في جميع مراحله كما قويت الصلات العلمية والأدبية بين البلاد العربية على الرغم من الخلافات بين بعض حكامها وهذا يعني أن كتاب (الادب الجاهلي) لا رجوع عما اشتمل عليه من آراء.
وبعد: فإن موقف طه حسين من الشعر الجاهلي لا يمكن الجزم بأنه عدل عنه، اعتمادا على كلمة قالها في مناسبة إهداء بعض المؤلفات إليه ثم يلزم الصمت اكثر من عشرين عاما دون ان يكتب عن رأيه الجديد، ولذا أكرر ما أومأت إليه آنفًا من أن العميد لم يرجع عن رأيه في الشعر الجاهلي والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ". أهـ (نقلاً من مجلة العربي الكويتية العددان: 239 و 243).
لا نعتقد بأن الذين زعموا أن طه حسين قد تراجع عن آرائه يملكون دليلاً واحدًا يردون به على سكرتير طه حسين الذي رافقه في العقد الأخير من عمره ...
ومن المؤسف أن بعض هؤلاء الذين راحوا يدافعون عن طه حسين من دعاة الإسلام غلب عليهم حسن الظن وآفة الأخبار رواتها.
ونحن لا نعرف عن طه حسين إلا عداوته للإسلام والمسلمين، وتقليده الفجّ لأساتذته المستشرقين. لقد كان علما من أعلام الكفر والإلحاد، ورمزًا من رموز الشر والضلالة، وعميلاً من عملاء الغرب، وداعية من دعاة التبرج والاختلاط والفساد، وأسأل الله تعالى أن يجزيه بما يستحق فهو وحده الذي يعلم نوايا عباده وما تخفيه الصدور.أهـ.(51/350)
من مواقف طه حسين تجاه التراث الإسلامي
مجلة البيان ـ العدد 143 ـ رجب 1420 ـ الموافق لـ نوفمبر 1999م
خالد بن سعود العصيمي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن أعظم ما تصاب به الأمة أن يكون مصابها بأبنائها؛ إذ يكون وقع ذلك شديداً عليها؛ لأن الأم الرؤوم لا تنتظر من أبنائها إلا البر والإحسان، فتفاجَأ بالعقوق والعصيان، ولقد أصيبت الأمة الإسلامية بأبناء لها على مر التاريخ ممن تنكبوا الطريق، وضلوا سواء السبيل؛ فهذا الجهم بن صفوان يحرِّف الكتاب، ويلوي عنق النصوص لياً، وهذا - أيضاً - واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري - رحمه الله - يعتزل حلقته ويعلن بدعة شنعاء يبقى أثرها في الأمة ردحاً من الزمن، ويظهر ابن الراوندي يلوّح بزندقته في مصنفات، أما أهل الفلسفة فيدَّعون فيما يدَّعون: أن النبوة اكتساب لا اصطفاء، ويعلن الحلاج الصوفي قوله بوحدة الوجود.
وهذه السلسلة الخبيثة باعُها في التاريخ طويل، تبدأ بإبليس يوم عصى رب العالمين ورفض السجود، وتظهر اليوم في مثل سلمان رشدي وحامد نصر أبو زيد وغيرهم.
وطه حسين أحد عُقَد هذه السلسلة التي كانت غصة في حلق الأمة، ولما كان أحدَ الذين ذاع صيتهم في هذا العصر، وراجت أفكارهم وآراؤهم، وكانت تلك الأفكار والآراء ذات صبغة مضللة، ولما كان تلاميذه وتلاميذهم - وما زالوا - يشيدون به وبهم، فقد رأيت أن أعرض بعض مواقف طه حسين من التراث الإسلامي ثم أُعقبها بالمناقشة. وليست الكتابة في فكر طه حسين من قبيل الكتابة عن موضوعات عفا عليها الزمن - كما يظن بعض الناس - لأنه وإن تغير الأشخاص الذين ينخرون بجسم الأمة ويقوضونها من الداخل، وإن تغيرت أسماؤهم ولغتهم وأسلوبهم، إلا أن مضامين أفكارهم تتكرر مرة بعد مرة، وحمل المقالات المتشابهة بعضها على بعض أمر لا يشق على المؤمن الفطن.
أهم مواقفه المعادية للتراث الإسلامي:
أولاً: ادعاؤه بشرية القرآن:
1 - لخطورة التصريح بما يعمل على بثه فإن موقفه من القرآن الكريم كان متأرجحاً؛ فهو حين يقول في القرآن: إنه "المعجزة الكبرى التي آتاها الله رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم آيةً على صدقه فيما يبلِّغ عن ربه"(1)تجده يشير إلى التشكيك في إلهية القرآن الكريم بتلميح فاضح؛ إذ يقول: "ليس يعنيني هنا أن يكون القرآن الكريم قد تأثر بشعر أمية بن أبي الصلت أو لا يكون. ثم يقول: لِمَ لا يكون أمية بن أبي الصلت قد أخذ من صلى الله عليه وسلم طالما أن مصادر أمية ومحمد واحدة وهي قصص اليهود والنصارى؟"(2).
فهو كي يرد تهمة تأثر القرآن بشعر أمية بن أبي الصلت يأتي بحجة تؤكد بشرية القرآن، وهي أن مصادر أمية ومصادر صلى الله عليه وسلم في القرآن واحدة، وهي قصص اليهود والنصارى.
2 - دعا إلى جعل الكتب المقدسة ومنها القرآن الكريم تحت مجهر النقد لكل من قرأها، فإذا "كان من حق الناس جميعاً أن يقرؤوا الكتب المقدسة ويدرسوها ويتذوقوا جمالها الفني، فلِمَ لا يكون من حقهم أن يعلنوا نتائج هذا التذوق والدرس والفهم، ما دام هذا الإعلان لا يمس مكانة هذه الكتب المقدسة من حيث إنها كتب مقدسة، فلا يغض منها ولا يضعها موضع الاستهزاء والسخرية والنقد، وبعبارة أوضح: لِمَ لا يكون من حق الناس أن يعلنوا آراءهم في هذه الكتب من حيثُ هي موضع للبحث الفني والعلمي، بقطع النظر عن مكانتها الدينية؟"(3).
وقد طبق هذه الفكرة فعلاً مع تلاميذه في كلية الآداب؛ حيث طلب منهم أن ينقد كل واحد منهم القرآن الكريم، وأن يكشف عن الآيات الضعيفة فيه والآيات القوية"(4).
بل إن الدكتور طه حسين طبق نموذجاً على الآيات القرآنية يصرح فيه أن في القرآن أسلوبين مختلفين:
أحدهما: جاف وهو مستمد من البيئة التي نزل فيها القرآن أول ما نزل في مكة؛ ففي هذا الأسلوب تهديد ووعيد وزجر.
وأسلوب آخر عندما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واتصل ببيئة اليهود، وهو أسلوب فيه شيء كثير من الليونة والانطلاق(5).
3 - يتجاوز طه حسين قضية التشكيك، فينكر بعبارة لا التواء فيها إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وقصة مهاجرهما إلى مكة، ويعدُّ هذه أسطورة لفَّقها العرب بعامة وقريش بخاصة ليحتالوا بها على من عندهم من فرس وروم؛ ليؤكدوا أن لهم أصلاً قديماً يرتبط بتأسيس إبراهيم وإسماعيل للكعبة، ثم جاء القرآن فصدَّق هذه الأسطورة؛ ليحتال على اليهود ليؤلف قلوبهم؛ إذ مرجعهم إبراهيم جميعاً(6).
ونقد الشيخ محمد الخضر حسين منهجه في أفكار هذه القصة بقوله: "ومن حاول الجهر بإنكار ما تتداول نَقْلَه أمةٌ، ويقرره كتاب تدين بصدقه أمم، كان حقاً عليه أن يسلك مسلك ناقدي التاريخ فيبين للناس كيف كان نبأ الواقعة مخالفاً للمعقول أو المحسوس أو التاريخ الثابت الصحيح؛ ولكن المؤلف لم يسلك في إنكار هذه القصة طريقة نقد التاريخ؛ إذن لم يكن مع المؤلف سوى عاطفة غير إسلامية تزوجت تقليداً لا يُرى، فحملت بهذا البحث وولدته على غير مثال"(7).(51/351)
4 - قلل طه حسين من شأن القرآن حينما قال في (الأيام)(8): إن نسخة من ألفية ابن مالك تعدل خمسين نسخة من القرآن الكريم.
ثانياً: جَعْلُهُ السيرة النبوية بمثابة الأسطورة:كتب "على هامش السيرة" تقليداً لكتاب: "على هامش الكتب القديمة" لجيل لومتير، وقد صرح بهذا في كتابه:"الإسلام والغرب"بعد سنوات من صدور"على هامش السيرة"،وملخص سبب تأليفه له من كلامه: أنه قد ساءه أن يكون لليونان أساطيرهم، وللرومان أساطيرهم، والناس يقبلون برغبة ملحة على هذه الأساطير، ثم لا يجد الراغبون في القراءة والمتعة أساطير للعرب يتناقلها الناس، ولأجل هذا أُلِّف هذا الكتاب، ليكون أسطورة عربية(9).
ويقول في موضع آخر من كتابه: "وأحب أن يعلم الناس أيضاً أني وسَّعت على نفسي في القصص، ومنحتها من الحرية في رواية الأخبار واختراع ما لم أجد به بأساً"(10).
حتى قال صديقه الدكتور محمد حسين هيكل عاتباً عليه صنيعه: "وأستميح الدكتور طه حسين العذر إن خالفته في اتخاذ صلى الله عليه وسلم وعصره مادة لأدب الأسطورة"(11).
ثالثاً: التلاعب بالحقائق التاريخية المتعلقة بسيرة صلى الله عليه وسلم وعصره:
1 - أراد أن يثبت أن النبوة كانت اعتقاداً معروفاً في مكة، والناس يتشوَّفون ظهور النبي، بل إن كل فتى في مكة كان يتطلع ويسعى ليكون صاحب هذا الفضل(12)، وفي هذا تجنٍّ على الحقيقة والتاريخ أي تجنٍّ.
2 - ضخَّم الحوادث المتصلة بحياة المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وملأها بالأحاديث الموضوعة؛ حتى ليظن القارئ أن أهل مكة كانوا يعلمون أنمحمدا صلى الله عليه وسلم سيكون نبياً(13).
وأطال النَّفَس في سرد قصت صلى الله عليه وسلم مع خديجة - رضي الله عنها - وميسرة والراهب وورقة بن نوفل، وجلَّلها بثوب الأسطورة الذي قدّه أطول منه، فخلط ما صح من معجزات للنبي r في ذلك بما لم يصح(14).
3 - رد أحاديث صحيحة؛ لأنها خالفت هوى في نفسه، فمثلاً يقول: "فلا حاجة إذن إلى أن نخترع الأحاديث لإثبات ما لا حاجة إلى اتباعه، كالحديث الذي يروى من أن العباس عرف الموت في وجه صلى الله عليه وسلم ، وكان يعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب(15)" مع أن الحديث مخرج في صحيح البخاري(16).
وردَّ الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه في مرضه الذي توفي فيه: "ايتوني بصحيفة أكتب لكم ما لا تضلون بعده أبداً"(17).
وردَّ استسقاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالعباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - وأن هذا تكلُّف مصدره التملق لبني العباس أثناء حكمهم(18)، والحديث في صحيح البخاري(19).
ويسوِّغ ردَّه للأحاديث التي لا توافق هواه بأن "من الواجب على كل مسلم حين يُروى له الحديث عن صلى الله عليه وسلم أن يحتاط قبل الأخذ به، وأن يعرضه على القرآن، فإن كان لا يناقض القرآن في قليل ولا كثير، ولا يناقض المألوف من سيرة صلى الله عليه وسلم وعمله أخذ به، وإلا وقف فيه"(20).
ولا شك أن رد السنة الصحيحة بدعوى أنها تخالف القرآن أو السير المألوفة طريقة غير علمية ولا منضبطة؛ ولهذا جَرَّأَتْ قليلي البضاعة من العلم والموتورين إلى أن يتكلموا في دين الله، ومنهجُ العلماء الراسخين قبول الروايات الثابتة، وجمع النصوص الواردة في باب واحد، وبيان المطلق فيها والمقيد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ. وكتبُ شروح الأحاديث الجارية على هذا متوافرة. ولله الحمد.
رابعاً: الطعن في الصحابة الكرام:
1 - وصف طه حسين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالعصبية حينما أنكر على حسان بن ثابت - رضي الله عنه - إنشاد الشعر في المسجد، فقال حسان: إليك عني يا ابن الخطاب، فوَ اللهِ لقد كنت أنشد في هذا المكان وفيه من هو خير منك" فيفسرها طه حسين بأن الأنصار كانوا يعتزون بنصرهم للنبي r وانتصافهم من قريش، وعمر كان قرشياً، تكره عصبيته أن تُزدرى قريش، وتذكر ما أصابها من هزيمة في غزوة بدر(21). وهذا كذب؛ إذ إن عمر - رضي الله عنه - كان صاحب الرأي القائل بقتل أسرى بدر، ونزل القرآن بموافقته.
2 - وتطاول على عثمان - رضي الله عنه - ووصمه بالظلم والطغيان وأنه ما زال يضرب ابن مسعود حتى كسر أضلاعه(22).
3 - وكذب على عائشة - رضي الله عنها - وزعم أنها وقفت على جملها يوم الجمل تخطب الناس وتحثهم على القتال بلسان زلق، ومنطق عذب، وحجة ظاهرة(23).
4 - ويتناول خالدَ بن الوليد - رضي الله عنه - من غير استحياء ويصفه بثلاث من البهتان: فخالد عنيف وفي سيفه رهق؛ لأنه يحب القتل، وخالد يحب التزوج، وخالد وعشيرته معروفون بالعُجْب والخيلاء(24).
5 - وشتم طه حسين معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -(25).
6 - جعل طه حسين حَبْرَ هذه الأمة عبدَ الله بن عباس (لصاً) يأخذ ما في بيت المال في البصرة ويهرب إلى الحجاز(26).(51/352)
7 - وصف أصحاب الشورى الذين اجتمعوا ليختاروا خليفة المسلمين بعد عمر - رضي الله عنه - بإيثار الدنيا ومحبتها(27)، بل وصف بها جملة الصحابة الذين كانوا - كما زعم - ينافقون في عهد خلافة عمر - رضي الله عنه - وأنهم كانوا يظهرون شظف العيش إذا دخلوا عليه، وإذا خلوا إلى أنفسهم عادوا إلى لين الحياة(28).
وهذه التهم التي ألصقها طه حسين بالصحابة فرادى وجماعات هي حق البهتان العظيم الذي لا يمتري فيه أي مسلم.
وهذا البهتان جناية في حق التاريخ الإسلامي، بل في حق التاريخ الإنساني؛ إذ لا يُعرف جيل كجيل الصحابة في كمال الاستعدادات الفطرية ولا في تمام الصفات الخُلقية التي أهَّلتهم لاصطفاء الله لهم لحمل رسالته إلى العالمين، وليس وراء تهمة الصحابة ووصمهم بالشنائع إلا إسقاط محبتهم وتوقيرهم من النفوس، مما يؤدي إلى القدح في عدالتهم، ومن ثَمَّ رد مروياتهم عن صلى الله عليه وسلم التي هي الدين. وقد تنبه علماء الأمة إلى هذه القضية منذ ظهورها عند بعض المبتدعة، فصنفوا في فضائل الصحابة، وفي حكم سبهم أو سب أحد منهم(29).
خامساً: ادعاءاته ضد نظام الخلافة:
1 - زعم أن نظام الخلافة ليس إلهياً "وأن الحكم أيام صلى الله عليه وسلم لم يكن شرعياً لا رأي للناس فيه؛ وإذا كان الأمر {كذلك} أيام صلى الله عليه وسلم الذي كان يتنزل عليه الوحي فأحرى أن يكون الأمر كذلك أيام صاحبيه بعد أن تقطَّع عن الناس خبر السماء"(30).
2- ونظام الحكم الإسلامي - عنده - يشبه إلى حد بعيد نظام الحكم الروماني أيام الجمهورية؛ فقد كان الرومانيون يختارون قناصلهم على نحو يوشك أن يشبه اختيار المسلمين لخلفائهم(31).
3 - وليؤكد أن نظام الخلافة ليس إلهياً، وإنما هو نظام إنساني تأثر بالدين، يذكر أنه قام على عنصرين(32):
الأول: عنصر معنوي وهو الدين؛ فالخليفة يصدر عن وحي أو شيء يشبه الوحي في كل ما يأتي وما يدع، وهو مقيد بما أمر الله به من إقامة الحق وإقرار العدل، وهذا العنصر تلاشى - كما يدعي - بمقتل عمر - رضي الله عنه -.
الثاني: الارستقراطية التي ائتلف منها هذا النظام، وقوامها: الاتصال ب صلى الله عليه وسلم أيام حياته والإذعان لما كان يأمر به وينهى عنه في غير تردد؛ والبلاء في سبيله، واختُص بها الأقربون من رسول ا صلى الله عليه وسلم وهم قريش.
4 - حكم على نظام الخلافة في الإسلام بأنه قد أخفق، وأن تجربة الحكم الإسلامي انتهت أيضاً بالإخفاق، أما نظام الشورى الذي وضعه عمر - رضي الله عنه - لاختيار الخليفة فلا يخلو - عنده - من نقص، بل من نقصٍ شديد(33).
سادساً: التعبير عن الفتوح الإسلامية بأنها استعمار:
1 - يقول - مثلاً -: "فلما كان الفتح ورأت جيوش المسلمين الكثير من حقائق هذه البلاد، ثم استقرت فيها، واستقر المستعمرون العرب فيها كذلك"(34)، ويقول - أيضاً -: "فلما جاء الإسلام سكت الناس عن الخمر حيناً، صرفهم عنها الدين، وصرفهم عنها جِد الخلفاء، وصرفهم عنها الفتح والاستعمار"(35).
2 - وإذا كانت فتوح الأقاليم تُعد - في تعبير طه حسين - استعماراً فإن فتح مصر عدوان، يقول: "إن المصريين قد خضعوا لضروب من البغض وألوان من العدوان جاءتهم من الفرس واليونان، وجاءتهم من العرب والترك والفرنسيين"(36).
3 - أما العثمانيون فهم - عند طه حسين - مستعمرون، وهم السبب في إيقاف سير الحركة العقلية في مصر؛ إذ إن الترك العثمانيين لو لم يوقفوا سير الحركة العقلية في مصر مدة طويلة لكان الذهن المصري من تلقاء نفسه ملائماً للأذهان الأوروبية في الأعصر الحديثة"(37).
4 - وفي مقابل ما سبق تجده يصف الإنجليز - المستعمرين الحقيقيين - بأنهم أصدقاء، ما جاؤوا إلى مصر إلا ليحموا القناة من المعتدين؛ فهو يقول: "نحن نريد أن نضارع الأمم الأوروبية في قوتها الحربية لنرد عن أنفسنا غارة المغير؛ ولنقول لأصدقائنا الإنجليز بعد أعوام: انصرفوا مشكورين فقد أصبحنا قادرين على حماية القناة"(38).
سابعاً: دفاعه عن المتربصين بالإسلام والمسلمين:
1 - تولى طه حسين المحاماة عن الغوغاء الذين أثاروا الفتنة ضد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إذ إن "الذين ضاقوا بهؤلاء العمال الذين ولاَّهم عثمان وثاروا عليهم،ونقموا من عثمان توليتهم لم يكونوا مخطئين"(39).
2 - يبدو تناقضه في شأن عبد الله بن سبأ اليهودي ودوره في أحداث الفتنة، فيدعي مرة أنه شخصية وهمية منحولة؛ لأنه لم يَرِدْ ذكره في طبقات ابن سعد ولا في أنساب الأشراف للبلاذري(40)، ويثبت وجوده مرة ثانية، ويشكك في أمره ثالثة(41).
3 - يدافع عن أصحاب عبد الله بن سبأ الذين أثاروا الفتنة في الجمل فيصفهم بأنهم أنصح الناس لعلي - رضي الله عنه - وأوفاهم بعهده، وأطوعهم لأمره "فلم يأتمروا ولم يسعوا بالفساد بين الخصمين وإنما سمعوا وأطاعوا وأخلصوا الإخلاص كله"(42).
4 - ويدافع عن الزنادقة في عهد بني العباس - قائلاً -: "ومن الخلفاء العباسيين من غلا في امتحان بعض الناس وأسرف في قتلهم، يأخذ بعضهم بالشبهة والوشاية وسوء القالة، كالذي صنع المهدي في تتبع الزنادقة"(43).(51/353)
ومن هذا القبيل فقد ادعى: "أن سبب قتل الحلاَّج وصلبه ليست زندقته، وإنما كان اتصال رجال الدين والغلاة منهم في الرأي بالسلطان وسيطرتهم عليه"(44).
الهوامش:
1) مرآة الإسلام لطه حسين، 81.
2) في الأدب الجاهلي، لطه حسين ،145،147.
3) في الصيف، لطه حسين، 17.
4) أنظر: المرجع السابق، 11ـ17، ومحاكمة فكر طه حسين، 166،167.
5) أنظر: محاكمة فكر طه حسين، 167.
6) أنظر: في الشعر الجاهلي، 37ـ41.
7) نقض كتاب في الشعر الجاهلي، 76,77.
8) 1/71. ولو ادعى أنه في معرض كلام أدبي، لم يرد الاستهزاء.
9) أنظر: على هامش السيرة، 1/173،174،175.
10) المرجع السابق، 1/177.
11) أنظر: محاكمة فكر طه حسين ، 184.
12) أنظر: دارسات في السيرة النبوية، 234.
13) أنظر مثلا ما يتعلق بقصة ولادت صلى الله عليه وسلم في: على هامش السيرة،1/273)
فقد بالغ جدا فيها مع أنه لم يثبت فيها مع أنه لم يثبت فيها إلا حديث واحد.
14) أنظر: على هامش السيرة، 2/376ـ400.
15) الشيخان: 33.
16) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرض صلى الله عليه وسلم ووفاته
،5/141.
17) انظر: مرآة الإسلام، لطه حسين، 73، والحديث في البخاري، كتاب العلم، باب
كتابة العلم، 1/37.
18) الشيخان، 151.
19) صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، 2/15.
20) مرآة الإسلام، 131.
21) في الأدب الجاهلي، لطه حسين،122،123.
22) انظر: الوعد الحق، لطه حسين، 654.
23) انظر: الفتنة الكبرى (على وبنوه): 2/861.
24) الشيخان: 79،80.
25) انظر: الشيخان: 194، والفتنة الكبرى (على وبنوه)، 2/956.
26) انظر: الفتنة الكبرى (على بنوه) 2/934،959.
27) انظر: الفتنة الكبرى (عثمان) 1/705.
28) انظر: الشيخان: 145.
29) انظر: مثلا، صحيح البخاري: باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ،
4/189، وسنن الترمذي، 5/606ـ712، وبقية السنن والمسانيد.
30) الفتنة الكبرى (عثمان): 1/678.
وللرد عليه تنظر: صحيفة المدينة التي كتبها صلى الله عليه وسلم لتنظيم
علاقات الناس في المدينة النبوية، سيرة ابن هشام، 2/501ـ504. ولبيان مفاهيم مبادئ
هذه الصحيفة انظر: مشكلات في طريق التربية الإسلامية للدكتور أحمد فرج: 55،56.
31) انظر: الفتنة الكبرى (عثمان): 1/682.
32) انظر: المرجع السابق، 1/683ـ693.
33) انظر: الفتنة الكبرى (عثمان) 1/696،705.
34) الفتنة الكبرى (علي وبنوه)، 2/962.
35) حديث الأربعاء، 2/396.
36) الفتنة الكبرى (عثمان)،1/802.
37) طه حسين مفكرا: 86،وانظر: مستقبل الثقافة في مصر، 47،48.
38) مستقبل الثقافة في مصر، 56.
39) الفتنة الكبرى (عثمان) 1/802
40) انظر: الفتنة الكبرى (علي وبنوه) 2/904 و(عثمان) 1/7759ـ762.
41) وللرد على المشككين في حقيقة ابن سبأ ودوره في الفتنة، ينظر كتاب(عبد الله بن سبأ
وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام) للدكتور سليمان العودة.
42) الفتنة الكبرى، (علي وبنوه)، 2/904.
43) مرآة الإسلام، لطه حسين، 160.
44) المرجع: السابق، 159.
بقلم : د. إبراهيم عوض
لمصطفى صادق الرافعى الكاتب والشاعر المعروف كتاب بعنوان "تحت راية القرآن" كان فى الأصل مقالات فى جريدة "كوكب الشرق" ردَّ فيها على ما قاله طه حسين فى كتابه "فى الشعر الجاهلى" الصادر عام 1926م والذى سُحِب من الأسواق إثر هذه المقالات الرافعية التى فضحت ما فيه، ثم أعيد طَرْحه العام الذى يليه بعنوان "فى الأدب الجاهلى" بعد أن حُذِف منه ما يسىء للقرآن الكريم وللإسلام وأضيف إليه عدة فصول جديدة. وقد تناول الرافعى فى هذه المقالات طه حسين وكتابه المذكور من عدة جوانب، بيد أننى سأقتصر هنا على مناقشة ما قاله فى دين الرجل، وهو نفس الموضوع الذى أثاره الكتّاب والمعلقون فى جريدة "شباب مصر" فى الأسابيع الأخيرة، وذلك بغية مزيد من التوضيح لبعض ما قالوه فى هذا الصدد. وأود أن أنبه إلى أن ما سأكتبه هنا مأخوذ من كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين" الصادر فى عام 1987م. وهذا نص ما قلته هناك بدءا من الفقرة الثالثة من الفصل الثانى من الكتاب المذكور (ص/ 15- 26):(51/354)
"لن نكتفى هنا بترديد رأى الرافعى فى طه حسين بل سنعرضه على النصوص ونقلّبه على كل وجوهه. وأريد أن أصارح القارئ منذ الآن بأن العلم لا يعرف تلك الحساسية التى تصيب بعض الناس حينما يرون من ينتقد هؤلاء الذين يعظّمهم، وتدفعهم إلى القول بأننا ينبغى ألا نتعرض لإيمان هذا الشخص أو ذاك، على أساس أن هذا تدسُّس إلى القلوب نَهَى عنه الإسلام. إن هذا الاعتراض يصح لو أن الباحث يرجم فى هذه القضية بالغيب، لكن إذا كانت هناك نصوص مقطوع بنسبتها إلى قائلها لا يمكن تأويلها فمعنى ذلك أن للباحث الحق فى دراسة الأمر. وقد سبق أن تناول كثير من الدارسين عقائد أمثال يزيد بن الوليد وابن المقفَّع والمتنبِّى والمَعَرّى والحاكم بأمر الله، فلم نسمع من ينكر عليهم، فلِمَ الكيل بمكيالين إذن؟ أيا ما يكن الأمر فإننا هنا بصدد تناول رأى الرافعى فى عقيدة طه حسين، وهذا الرأى جزء من تراثنا الفكرى والأدبى لا أظننا نكون أمناء لو أهلنا التراب عليه. كذلك فإننا لا ندَّعِى أن ما سنصل إليه من نتائج هو كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلا يقول هذا إلا جاهل أو مغرور، وإنما هو اجتهاد علمى قد يصحّ وقد يخطئ. وإذا كان طه حسين قد رأى أن من العلم أن يقول ما قال فى القرآن الكريم، فلماذا نعيب الرافعى إذا رأى فى موقف طه حسين هذا رأيا؟
إن الرافعى يرى أن طه حسين أداة أوربية استعمارية (تحت راية القرآن/ ط3/ مطبعة الاستقامة/ القاهرة/ 1953م/ 186)، غرضها توهين عُرَى الإسلام (ص/ 199)، ويأخذ عليه أنه لم يصلّ على النبى مرة واحدة فى كتابه ولو بحرف "ص" كما يفعل نصارى العرب (ص/ 207)، ويسميه: "المبشر طه حسين" مرة، و"المستر حسين" أخرى (ص/ 122، 177)، ويشبّه الجامعة (فى مجال العلم) بمستشفيات المبشِّرين (فى مجال الطب) (ص/ 145)، ويكنّيه "أبا مرجريت" و"أبا ألبرت" (ص/ 200، 344، 373)، ويشير إلى دور زوجته فى حياته وتأثيرها عليه (ص/ 349)، ويتهمه بالزندقة (ص/ 129- 130)، وبالإلحاد (ص/ 214، 216، 218) ، ويورد أيضا اتهام الشيخ مفتاح له بأنه كافر وتحديه له أن يقاضيه (ص/ 242- 243). وهو من ثم يدعو إلى إبعاده من الجامعة وحماية النشء من أفكاره (ص/ 188)، ويحرض عليه وزارة المعارف لأنه، كما يقول، يناقض بآرائه ما يقال للطلبة فى كتبها ومدارسها، والمفروض فى نظره ألا يكون هناك تناقض، وإلا فعليها أن تعلن صحة آرائه وتتابعه عليها (ص/ 171).
وحين يدافع أحمد لطفى السيد عن طه حسين على أساس حرية الفكر يردّ الرافعى بأنه لا ينازعه فى معانى حرية الرأى وأشباهها، ولكن النزاع فى الجدل والكفر (ص/ 314، وإن كان ظاهر كلامه قد يوحى بغير هذا). ومن هنا نراه يهاجم حرية الفكر إذا أدت إلى الكفر وتقطيع الأرحام (ص/ 306)، وإن عاد فسلَّم للجامعة بحرية الكفر لا الفكر فقط (يأسا منه، فيما هو واضح، أن يُصِيخ المسؤولون فى الجامعة إليه فى هذه النقطة)، وركز على "الغلطات التاريخية والأدبية التى وقع فيها أستاذها" (ص/ 273).
واتهام الرافعى لطه حسين بالكفر قائم على أساس أن هذا الأخير يرى أن القرآن تأليف لا وحى، وأن النبى عليه الصلاة والسلام رجلُ سياسةٍ لا رسول، وأنه يهاجم الصحابة (ص / 205)، وأنه يرفض الحديث الصحيح (ص/ 194، 205). وفى رأى الرافعى أن طه حسين يهاجم الأدب العربى "لأنه أساس فى حضارة القرآن، ولأن القرآن أساس فى الدين، ولأن الدين ينافى مذهبهم فى الحضارة الغربية التى يعملون لها جهد طاقتهم" (ص/ 306).(51/355)
والرافعى، رحمه الله، لا يلقى اتهاماته بغير دليل، بل يسوق ما قاله طه حسين من أننا "يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربى وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به" (ص/ 140- 141، والنص موجود فى ص 12 من كتاب "فى الشعر الجاهلى"/ مطبعة دار الكتب/ 1926م)، وقوله: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين فى التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخى، فضلا عن إثبات هذه القصة التى تحدثنا بهجرة إسماعيل وإبراهيم إلى مكة... ونحن مضطرون إلى أن نرى فى هذه القصة نوعا من الحيلة فى إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية، والتوراة والقرآن من جهة أخرى" (تحت راية القرآن/ 145- 146، وفى الشعر الجاهلى/ 26)، وما قاله أيضا من أن قريشا "كانت فى هذا العصر (يقصد عصر ما قبل الإسلام) ناهضة نهضة مادية تجارية، ونهضة دينية وثنية. وهى بحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجد فى البلاد وحدة سياسية ودينية مستقلة، وأنه "إذا كان هذا حقا، ونحن نعتقد أنه حق، فمن المعقول أن تبحث هذه النهضة الجديدة لنفسها عن أصل تاريخى قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التى تتحدث عنها الأساطير. وإذن فليس ما يمنع قريشا من أن تتقبل هذه "الأسطورة" التى تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم كما قبلت روما قبل ذلك، ولأسباب مشابهة، "أسطورة" أخرى صنعها اليونان تثبت أن روما متصلة بإينياس بن بريام صاحب طروادة" (تحت راية القرآن/ 147، وفى الشعر الجاهلى/ 28- 29)، وكذلك قوله إن القرآن "يَذْكُر التوراة والإنجيل ويجادل فيهما اليهود والنصارى، وهو يذكر غير التوراة والإنجيل شيئا آخر هو صحف إبراهيم. ويذكر غير دين اليهود والنصارى دينا آخر هو ملة إبراهيم، هو هذه الحنيفية التى لم نستطع إلى الآن أن نتبين معناها الصحيح. وإذا كان اليهود قد استأثروا بدينهم وتأويله، وكان النصارى قد استأثروا بدينهم وتأويله، ولم يكن أحد قد احتكر ملة إبراهيم ولا زعم لنفسه الانفراد بتأويلها فقد أخذ المسلمون يردّون الإسلام فى خلاصته إلى دين إبراهيم (تحت راية القرآن/ 148، وفى الشعر الجاهلى/ 81)، وقوله أيضا: وليس يعنينى هنا أن يكون القرآن قد استأثر بشعر أمية بن أبى الصلت أو لا يكون" (تحت راية القرآن/ 141- 150، وفى الشعر الجاهلى/ 83)، وكذلك قوله فى الرد على المستشرق كليمان هوار وزَعْمه أن النبى قد استعان بشعر أمية بن أبى الصلت فى تأليف القرآن: "من ذا الذى يستطيع أن ينكر أن كثيرا من القصص كان معروفا بعضه عند اليهود، وبعضه عند النصارى، وبعضه عند العرب أنفسهم، وكان من اليسير أن يعرفه النبى، كما كان من اليسير أن يعرفه غير النبى. ثم كان النبى وأمية متعاصرين، فلم يكون النبى هو الذى أخذ من أمية، ولا يكون أمية هو الذى أخذ من النبى؟" (فى الشعر الجاهلى/ 85)، وهو ما يَلْمَح فيه الرافعى تعريضا من طه حسين بأن النبى هو مؤلف القرآن، وهو نفسه ما يفهمه من قوله فى تعليل مخالفته لمن يرون أن إنكار الشعر الجاهلى يسىء إلى القرآن (على أساس أن القرآن ليس فى حاجة إلى شواهد من الشعر على ألفاظه ومعانيها عند العرب): "إن أحدا لم ينكر عربية النبى فيما نعرف"، فهو يرى فى الإشارة الأخيرة أن القرآن هو كلام النبى، وقوله إنه يوجَد "نوع آخر من تأثير الدين فى انتحال (يقصد: "نحل" الشعر وإضافته إلى الجاهليين، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبى من ناحية أسرته ونسبه فى قريش، فلأمرٍ ما اقتنع الناس أن النبى يجب أن يكون صفوة بنى هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة بنى عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة مُضَر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية كلها" (تحت راية القرآن/ 194، وفى الشعر الجاهلى/ 72- 73)، فالرافعى يرى أن هذا تهكم واستهزاء بالحديث الصحيح التالى: "إن الله اصطفى كنانة من وَلَدِ إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفانى من بنى هاشم" (نفس المرجع والصفحة). ومثل هذا تكذيبه بوجود امرئ القيس مما يُعَدّ رفضا للحديث الصحيح الذى ورد بذكر هذا الشاعر (ص/ 197)، وقوله: "إن يزيد صورة صادقة من جده أبى سفيان فى السخط على الإسلام وما سنَّه للناس من سُنَن" (ص/ 211).(51/356)
وبعد، فهذا جُلّ لا كُلّ ما رآه الرافعى رحمه الله مطعنا فى إيمان طه حسين بالإسلام وكتابه ونبيه. والحقيقة أن من الصعب تماما الدفاع عن طه حسين، اللهم إلا فى بعض النقاط الفرعية التى لا تقدم ولا تؤخر فى اتهام الرافعى له، إذ قد يمكن القول مثلا إنه حينما قال إنه لا يعنيه أن يكون القرآن قد تأثر بشعر أمية أَوْ لاَ لم يُجَوِّز الاحتمالين كما فهم الرافعى، بل قصد أن هذا ليس موضع الرد على كليمان هوار ولا أوانه، لأنه مشغول فقط ببحثه فى الشعر الجاهلى، وإن كان هذا فى الحقيقة لونا من التأويل المتعسف لكلامه. كما قد يمكن القول إن حكمه على أبى سفيان إنما هو رأى ارتآه على سبيل الاجتهاد، ومهما يكن قد أخطأ فيه فإن إحسان القول فى أبى سفيان ليس من دعائم الإسلام، أو إن طه حسين إذا كان يرفض الحديث الشريف الذى ينص على أفضلية الرسول وأسلافه فلأنه يراه غير صحيح رغم وروده فى كتب الصحاح. ثم قد يقول المجادلون إن النبى عليه الصلاة والسلام لا يضره أن يكون أسلافه أو لا يكونوا أفضل البشر...وهكذا. وقد نقبل جدلا كلامه فى عميد الأمويين، لكن هل من السهل أن تخفى علينا نبرة التهكم فى تناوله الحديث الذى يؤكد أفضلية الرسول على جميع البشر؟ وهل يليق بمسلم أن تكون هذه نظرته إلى الرجل الذى يؤمن بنبوته وما يعنيه اصطفاء الله له للقيام بهذه الرسالة العظيمة التى لا يُجْتَبَى لها إلا أفذاذ الأخيار من البشر؟
أيا ما يكن الأمر، فما القول فى مناداته بأن على من يريد دراسة الأدب العربى التجرد من دينه؟ إن هذا معناه شىء واحد هو أن الإسلام يناقض البحث العلمى، فكيف يجمع طه حسين بين الإيمان بالإسلام والإيمان بالمنهج العلمى، وهو يرى أنهما متناقضان؟ إن عليه أن يختار واحدا منهما ما دام الأمر كذلك، لأن من المستحيل، إلا على ذى عقل مضطرب أو مريض بانفصام فى شخصيته، أن يجمع بينهما.
إن طه حسين يعلن أنه، فى شكه فى الشعر الجاهلى، إنما يجرى على منهج ديكارت، فكيف إذن تجاهل أحد القوانين الفطرية التى رأى ديكارت أنها تعلو فوق كل شك، ألا وهو "قانون عدم التناقض"، الذى بمقتضاه لا يمكن أن "يكون" الشىء و"لا يكون" فى نفس الوقت، بل إما أن "يكون" فقط أو "لا يكون"؟ إن تطبيق هذا القانون على النقطة التى نحن بصدها يستلزم أن يؤمن طه حسين إما بالدين أو بالمنهج العلمى ما داما فى رأيه متعارضين (انظر مادة "Desca r tes"، وبالذات ص 85 من "A Dictiona r y of Philosophy, Pan Books, 1979" لمؤلفه Antony Flew).
أما قول طه حسين: "إن فى كل منا شخصيتين متمايزتين: إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، والأخرى شاعرة تلذّ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب فى غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وتساؤله: ما الذى يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة، وأن تكون الثانية مؤمنة دَيِّنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟ ما لك لا تدع للعلم حركته وتغيره، وللدين ثباته واستقراره؟" (انظر "تحت راية القرآن"/ 349- 350) فهو مغالطات بهلوانية: فأولا إذا كان هو يعتقد أن الدين يتميز بالثبات والاستقرار فكيف يطالب باطّراحه والتجرد منه أثناء البحث؟ لقد كان الأحرى به أن يعرف أن بحث الأدب العربى لا يدخل فى نطاق الدين، ومن ثم لم تكن به حاجة (لو كان فعلا يعنى كلامه هذا) إلى دعوته المريبة تلك. وثانيا أنا لا أفهم العلاقة بين الرضا والغضب واللذة والألم والفرح والحزن وبين الإيمان. إن الإيمان هو اقتناع بعقيدة وتشريع ما، والاقتناع من شأن العقل لا من شأن المشاعر، التى كما يصورها هو نفسه لا تستقر على حال، مع أنه قال إن الدين يتميز بالثبات والاستقرار. إن الإسلام هو دين العقل لا التسليم القلبى دونما فهم أو بحث أو اقتناع، على عكس الأديان الأخرى التى يقع المؤمن بها فريسة للصراع بين عقله وعلمه وبين إيمانه وتسليمه، هذا الصراع الذى يظل يؤرقه ولو فى أعماق نفسه إذا حاول أن يكبته هناك فى تلك الأعماق المظلمة بعيدا عن وعيه، أو يدفعه فى نهاية الأمر إلى الكفر.(51/357)
من هنا يرى الرافعى أن مقال طه حسين الذى اقتطف هو منه ما سبق (وكان طه حسين قد نشره فى جريدة "السياسة" تسويغا لموقفه وآرائه التى بثها فى كتابه "فى الشعر الجاهلى" إنما هو تفسير وتعليل لكفره على أساس من العلم، إذ "يريد أن يثبت فيه أنه من الممكن أن يكون مِثْلُه كافرا أشد الكفر على اعتبار أنه عالم يبحث بعقله، ثم لا يمنع ذلك أن يكون مؤمنا أقوى الإيمان فى شعوره" (المرجع السابق/ 350- 351)، كما يرى أن تسمية الشعور شخصية، والعقل شخصية أخرى، معناه أن النسيان هو أيضا شخصية، والذِّكْر شخصية، والإنسان عدة شخصيات، وأنه حين ينتقل من حالة إلى أخرى إنما ينتقل من شخصية إلى أخرى ويصبح رجلا غير الذى كان، بل يصبح كأن روحا تقمَّصته (السابق/ 351). وكذلك يرى أنه لا بد من التوفيق بين الدين والعلم فيما يختلفان عليه، وإلا كان أحدهما لغوا وعبثا (السابق/ 354)، وهو ما قلناه من قبل. لقد كان على طه حسين فى الحقيقة، بدلا من اللف والدوران، أن يحدد موقفه من الدين، وهو ما فعله فى نفس المقال الذى نحن بصدده، إذ قال: "إن العالِم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة، وكما ينظر إلى الفقه، وكما ينظر إلى اللباس، من حيث إن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يُحْدِثها وجود الجماعة وتتبع الجماعة فى تطورها. وإذن فالدين فى نظر العلم الحديث ظاهرة كغيره من الظواهر الاجتماعية، لم ينزل من السماء ولم يهبط به الوحى، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها، وإنْ رأى دوركايم أن الجماعة تعبد نفسها، أو بعبارة أدق أنها تؤلِّه نفسها" (السابق/ 348- 349).
بهذا يكون موقف طه حسين آنذاك واضحا: فهو لا يؤمن بالإسلام، إن آمن به، على أنه دين سماوى أوحاه الله إلى نبيه محمد، بل على أنه اختراع بشرى. وإذن فالرافعى لم يكن متجنيا عليه قِيد شعرة حين رماه بالكفر والإلحاد. وأحب أن أبادر هنا إلى القول بأننى لا أريد بهذا أن أسىء إلى طه حسين، بل أبحث فقط الأمر بحثا علميا. وإذن أيضا فإن طه حسين حين أعلن من قبل (فى الخطاب الذى أرسله، على أثر الهجوم عليه بسبب كتابه، إلى مدير الجامعة أحمد لطفى السيد) أنه مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لم يكن يعنى ما يقول (السابق/ 165)، إلا أن يكون الخطاب من تأليف لطفى السيد نفسه، وهو فى الواقع به أشبه. ذلك أن الإنسان لا يمكنه أبدا أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو فى ذات الوقت لا يؤمن بوحى ولا بإله، ما دامت الجماعة إنما تؤله نفسها وتعبد فى الحقيقة ذاتها، وما دام الدين لم ينزل من السماء، وإنما نبع من الأرض اختراعا بشريا.
أما قوله إنه لم يتعمد فى كتابه الخروج على الدين فهو خداع لا يجوز فى العقول، لأنه إذا لم يكن وصْف بعض قصص القرآن بأنها أساطير مخترَعة لغايات سياسية، والقول بأن المسلمين هم الذين ردّوا الإسلام فى خلاصته إلى دين إبراهيم وغير ذلك مما سبق أن أوردناه، هو الخروج على الدين فإنه لا يوجد شىء إذن اسمه الخروج على الدين. وأما تأكيدات طه حسين فى الخطاب الذى أرسله إلى مدير الجامعة بأن دروسه فى المحاضرات قد خلت خلوًّا تامًّا من التعرض للديانات "لأنى أعرف أن الجامعة لم تنشأ لمثل هذا"، فقد سبق أن قلنا إنه ليس تحت أيدينا ما يثبت أو ينفى ذلك. لكن السؤال الذى يلح على الذهن هو أنه إذا لم يكن قد تعرض للأديان فى محاضراته، والكتاب مملوء بالتعرض للأديان، والإسلام منها بالذات، فما الذى كان يقوله إذن فى تلك المحاضرات؟ على أن الدكتور طه عاد فأدلى لصحيفة "الإنفورماسيون" بما يلى: "قيل لهؤلاء البسطاء إنى أطعن فى الإسلام، فشهروا الحرب علىّ جميعا. على أنى أقول عاليا إنه ليس فى كتابى كلمة يمكن أن تُؤَوَّل ضد الدين. والعبارة التى يمكن أن أُنْتَقَد من أجلها تضع النصوص المقدسة بعيدة عن قسوة المباحث التاريخية" (السابق/ 252). وهو كلام لا ظل له من الحقيقة كما بيّنّا. وقد دعت هذه المخادعة الأستاذ الرافعى إلى تكذيبه ووصفه بعدم الحياء والعناد والمكابرة والكذب والسخرية بعقل الأمة (السابق/ 243).(51/358)
والغريب أن الصحفى السورى سامى الكيالى، الذى رمى من اتهموا طه حسين فى دينه (بسبب ما ورد فى كتابه "فى الشعر الجاهلى" بالرجعية والجمود هو نفسه الذى طبع ونشر لإسماعيل أدهم بحثا بعنوان "طه حسين- دراسة وتحليل" (مطبعة مجلة "الحديث"/ حلب/ 1938م). وفى هذا البحث يمدح أدهم الدكتور طه واصفا إياه بالإلحاد والثورة على الدين، كما يشير إلى رأيه الذى يَعُدّ فيه الدين نتاجا بشريا. والغريب كذلك أن هذا البحث قد أُعِيد نشره فى عدد من أعداد مجلة "الحديث" نفسها التى كان يصدرها الكيالى، وكان ذلك فى نفس العام (عدد نيسان= إبريل)، ولكن بعد أن حُذِفت منه العبارات التى تتحدث عن إلحاد طه حسين وثورته على الدين ونظرته إليه على أنه نتاج بشرى، ووُضِع مكانها بعض النقط. إن هذا يبين حقيقة موقف ذلك الصحفى الذى لا ينبغى أن يخدعنا كلامه، وإلا فكيف يكون وصف طه حسين بالإلحاد من جانب إسماعيل أدهم جميلا، ووصفه بذلك من شيوخ الأزهر وعلماء مصر رجعية وتزمتا؟ كذلك من اللافت للنظر أن الكيالى لم يورد مما قاله طه حسين فى حق القرآن إلا جملة واحدة، ويا ليته أوردها كما هى، بل حرَّفها بما أذهب شناعتها، وزعم فوق هذا أنه إنما قالها على سبيل الاستطراد. فتأمَّل مدى الأمانة العلمية! (انظر كتابه "مع طه حسين"/ سلسلة "اقرأ"- عدد 112/ 1/ 56 وما بعدها)".
وبعد أن فرغنا من مناقشة ما قاله الرافعى فى آراء طه حسين ننتقل إلى تحليل ما قاله فيه هو نفسه.
وقد ذكرنا أنه سماه: "المبشر"، وكنّاه: "أبا ألبرت" و"أبا مرجريت"، وقال إن سلطان زوجته عليه شديد. والحقيقة أن هذه الاتهامات، رغم عدم تفصيل الرافعى للقول فيها، تشير من بعيد إلى ما ذكره كاتب (سكرتير) طه حسين بعد ذلك بعشرات السنين، وهو فريد شحاتة النصرانى (أقول: "النصرانى" حتى لا يُتَّهَم مثلما اتُّهِم الرافعى وغيره بالرجعية والجمود)، إذ كتب أن طه حسين قد تعمَّد لاعتناق النصرانية عند زواجه من سوزان الفرنسية، وكان ذلك فى كنيسة إحدى القرى فى فرنسا (انظر مقال أحمد حسين "العودة لطه حسين مفخرة مصر"/ مجلة الثقافة / نوفمبر 1979م/ 4، وكذلك مقاله "لقد حُسِمت القضية وتحدد موقف طه حسين فى تاريخ مصر"/ مجلة الثقافة/ فبراير 1980م/ 8- 9).
والحقيقة أننا، جريا منا على المنهج الصارم الذى نتبعه فى كتاباتنا، لا نستطيع أن نجزم جزما بأن هذا قد حدث، إذ ليس بين أيدينا وثيقة مقطوع بصحتها تشهد على ما قاله كاتب طه حسين، الذى عاشره فى بيته وخارج بيته عشرات السنين واطَّلع عنه على ما لم يطَّلع عليه سواه، وإن كان هذا لا يمنع أن تظهر هذه الوثيقة يوما إن صحت رواية الرجل. كذلك فإن فريد شحاتة بالطبع لم يكن حاضرا طقوس التعميد الذى يشير إليه، فهو لم يكن قد عرف الدكتور طه بعد، وإن كان الحق يقتضى أن أذكر أن فريد هذا كان لصيقا بقلب طه حسين قبل أن يتركه، كما كان موضع أسراره الخطيرة لعشرات من السنين. ويمكن الرجوع فى هذا إلى الحوار الذى أجراه محمد شلبى مع الدكتور طه حسين فى كتابه "مع رواد الفكر والفن" (الهيئة العامة للكتاب/ 1982م/ الحوار كاملا، وبخاصة ص 132). ومع ذلك فهناك عدة ملاحظات لها دلالتها: فزوجة طه حسين، رغم أنها لم تترك شيئا فى حياة زوجها إلا ذكرته فى الكتاب الذى وضعته بعد وفاته عن حياتها معه، ورغم حرصها على أن تصدّ عنه هجوم من هاجموه حتى فى الأمور التى لا تمسها كقضية الشعر الجاهلى مثلا، لم تفتح فمها بكلمة واحدة تدفع بها عنه هذا الاتهام، مع أنها هى الوحيدة المتبقية (فيما أظن) ممن كانوا حاضرين هذا التعميد المشار إليه، بل هى السبب فيه (إن كان قد حدث) باعتبار أن هذا كان شرطا لزواج طه حسين منها، فما معنى عدم نفيها لما قاله واحد من أقرب المقربين إلى زوجها وأسرته؟ ترى لو كان هذا اتهاما باطلا أكانت ستسكت عليه مهما كان تديّنها وحبها لنصرانيتها ورغبتها فى أن تتكثر لدِينها من الأتباع والمتحولين إليه من الديانات الأخرى؟ بل لماذا لم تحاول أن تنفى هذه الدعوى بالباطل لو صح أنها حقيقة؟ أيمكن القول إنها خافت أن تُكَذِّبها سجلات تلك الكنيسة التى قال فريد شحاتة إن عميد الأدب العربى قد تم تعميده فيها إذا عَنّ يوما لأحد الباحثين المهتمين بهذا الموضوع أن يطَّلِع عليها أو ترى الدوائرُ المعنيّةُ فى فرنسا أن تُخْرِج هذه الوثيقة، إن كان لها وجود، وتُذِيعها على الناس عندما تُقَدِّر أنه قد حان الأوان لكشفها من أجل هذا الغرض أو ذاك؟ تلك أسئلة لا يستطيع الباحث فى الظروف الحاليّة أن يجيب عليها إجابة علمية قاطعة تَشْفِى الغليل، ولا يملك إلا أن يقول: فلْننتظر!(51/359)
على أن الباحث مع ذلك لا يمكنه أن يمر مرور الكرام على الحقائق التالية: أن زوجة طه حسين لم تكن تحبه حين قبلته زوجا. وليس هذا تخمينا منا، فقد ذكرتْ هى هذا ذكرا صريحا فى أكثر من موضع من كتابها (انظر سوزان طه حسين/ معك/ دار المعارف/ 1979م/ 10، 16)، كما ذكر طه حسين قبلها ذلك بنفسه (الأيام/ 3/ دار المعارف/ 1945م/ 108 وما بعدها، 118.وانظر أيضا مقال أحمد حسين "لقد حُسِمت القضية وتحدد موقف طه حسين فى تاريخ مصر"/ مجلة الثقافة/ فبراير 1980/ 9- 10، وسامى الكيالى/ مع طه حسين/ 1/ 29) قائلا إن الذى حثها أو على الأقل شجعها على الزواج منه هو عمها القسيس الكاثوليكى (انظر "معك/ 17، وسامى الكيالى/ مع طه حسين/ 1/ 29 نقلا عن روبير لاندرى الكاتب الفرنسى). ومتى حصل هذا التشجيع من جانب العم القسيس، الذى كان طه حسين يقول عنه إنه أحب رجل إلى نفسه، ويرى فيه مثله الأعلى ودليله فى الحياة (معك/ 17)؟ فى الربع الأول من القرن العشرين حين كان المد الاستعمارى لبلاد المسلمين ولمصر فى أَوْجِه، ونظرة الأوربيين إلينا على أننا شعوب من الهمج على أشدها، وكراهيتهم لنا بوصفنا مسلمين فى قمتها. أليس غريبا أن يجهد قسيس كاثوليكى فرنسى فى العقد الثانى من القرن العشرين جهده فى إتمام زواج ابنة أخيه من شاب مسلم (أى كافر من وجهة نظره)، وترضى ابنة الأخ بهذا الشاب الذى لم يكن يتمتع بما تصبو إليه الفتيات عادةً من غِنًى أو منزلة اجتماعية عالية أو أناقة أو وسامة، ودَعْنا من أنه كان كفيفا، وكانت فرنسيته بالطبع فى ذلك الوقت مكسَّرة بحيث كان من الصعب عليه، حتى لو كان من أمهر الغَزِلين، أن يستميل قلبها بالكلام الخيالى المنمق. كذلك من المهم أن نلاحظ أنها هى نفسها كانت شديدة التمسك بنصرانيتها. أى أن افتراض لامبالاتها بكونها نصرانية وكونه مسلما ( أى كافرا من وجهة نظرها) هو افتراض غير مقبول. وثمة أمر آخر أرى أن له مغزاه، فقد ذكر طه حسين أنه حينما أتاه خطاب سوزان من قريتها فى الجنوب الفرنسى (هذا الخطاب الذى كان علامة بينهما على أنها رجعت عن موقفها فى رفضها الزواج منه لأنها لا تحبه) قد سافر وحده إلى هناك، ولم يستمع لزملائه المصريين الذين حاولوا أن يصدّوه عن الذهاب إشفاقا عليه (الأيام/ 3/ 112). يعنى أنه، حين أُعْلِنت خِطْبته على سوزان، بل أثناء أشهر ذلك الصيف كله، كان طه حسين وحده بين تلك الأسرة الفرنسية الكاثوليكية، وفيها ذلك العم القسيس الذى عضّد هذا الزواج، بل أغلب الظن أنه هو السبب فى تغيير ابنة أخيه لموقفها فى مدى شهر!
لقد حاول زملاؤه، كما مرّ، أن يصدّوه مشفقين عليه، لكنه أصرّ إصرارا على موقفه، وكان له ما أراد، فلم يحضر معه مصرى ولا مسلم هذه الخِطْبة. أليس لهذه الوقائع دلالتها الخطيرة؟ وتشير زوجة طه حسين إلى أن عمها القسيس، الذى كان متحمسا لزواجها به رغم نفورها منه، قد اصطحب خطيبها، حين زارهم فى قريتهم فى الجنوب الفرنسى، ساعتين تجولا أثناءهما فى الحقول وحدهما. بيَْدَ أنها لم تذكر لنا فيم تحدَّثا، أو ما الذى أخذه عليه العم من عهود قبل أن يعطيه ابنة أخيه. من هنا فإننا من الوجهة التاريخية الموثَّقة نجد أنفسنا كلما اقتربنا من هذه المسألة نصطدم بالصمت. فأى نوع من الصمت هذا؟ حتى الصحفى سامح كريم، الذى ينقل ما كتبه الآخرون عن طه حسين، عندما أتى إلى هذه النقطة أخذ يحوم حولها من غير أن يسميها، مكتفيا بالحديث عن فريد شحاتة ومذكراته عن عمله مع الدكتور طه وغَيْظ هذا منه ووَصْفه له بـ"هذا الشىء الذى أسمّيه: فريد شحاتة"، كل ذلك من غير أن يعرف القارئ الخالى الذهن عَلاَمَ يدور الكلام، وهو ما يجافى أمانة النقل (انظر، فى رحلة الحقول هذه، "معك"/ 17. وبالنسبة لصمت سامح كريم عن الاتهام المذكور انظر كتابه "ماذا يبقى من طه حسين؟"/ دار الشعب/ 1975م/ 124- 125).
كذلك من الملاحظات الدالة المتصلة بتكنية الرافعى لطه حسين: "أبا مرجريت" و"أبا ألبرت" أن السيدة سوزان، فيما أذكر، لم تشر فى كتابها "معك" إلى أنه كان يوجّه أولاده توجيها إسلاميا، ولا أظن من السهل الجواب على ذلك بأنها كنصرانية لا يهمها أن تشير إلى هذا، فإن هذه الملاحظة تصدق أيضا على كتاب "الأيام"، الذى كتبه هو وأفاض فيه القول عن كل شىء يتعلق به وبحياته وحياة أسرته. وبالمناسبة فالذى أعرفه هو أن "مؤنس" ابن الدكتور طه كان يسمَّى فى البيت: "كلود" لا "ألبرت".(51/360)
ولعله يكون من المناسب هنا أن نشير إلى أن والدة طه حسين حين أخذ طه زوجته إلى كوم أمبو بعد عودته من فرنسا للتعرف إلى أسرته هناك، قد سألته، على حسب ما حكت لنا سوزان نفسها، أىّ نوع من النبيذ يجب شراؤه من أجلها (معك/ 31). فإذا كان هذا هو موقف والدته من أم الكبائر، وهى سيدة صعيدية عجوز غير متعلمة، وفوق ذلك طبعا مسلمة، ومتى؟ فى الربع الأول من القرن العشرين، وكل ذلك من أجل خاطر العروس الوافدة (لاحِظْ أن كل ظروف والدة طه حسين كان من شأنها أن تدفعها إلى الفزع الشديد من مجرد دخول الخمر إلى بيتها)، ألا يساعدنا هذا فى تخيل موقف طه حسين نفسه من أمر ذلك الزواج كله والضريبة التى كان عليه أن يدفعها فى مقابله، وهو الذى كان مُدَلَّها أشدَّ التدله فى سوزان، وكان فوق ذلك معجبا أقوى الإعجاب بالحضارة الأوربية وانغمر فيها فى بلادها انغمارا مطلقا؟
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فالمعروف أن طه حسين كان يختار سكرتيريه عادة من النصارى، فهل ينبغى أن نمر بهذه الحقيقة أيضا دون أن نلتفت إلى مغزاها؟ لقد اشتغل توفيق شحاتة كاتبا وقارئا له، ثم خلفه أخوه فريد، صاحب القصة الخاصة بتعميد طه حسين قبل زواجه من سوزان، التى لم تكن تحبه وكانت ترفض بفظاظة أن تسمع منه كلمة "الحب" أو أن يتحدث معها مجرد حديث فى موضوع الزواج إن أراد لزمالتهما وصداقتهما أن تستمر، والتى غيّرت رأيها فجأة بعد أن بصَّرها عمّها بمزايا الزواج من هذا الشاب الذى أطراه لها مؤكدا أنه سيتجاوزها باستمرار (انظر، فى هذه النقطة الأخيرة، سامى الكيالى/ مع طه حسين/ 1/ 28-29، وسوزان طه حسين/ معك/ 17). وإن الباحث ليتساءل: "يتجاوزها فى ماذا؟". وهناك غير الأخوين شحاتة سكرتيران آخران على شاكلتهما، وهما ألبير برزان (أول سكرتيريه) وسليم شحاتة، وإن كان هناك دكتور أزهرى قُدِّر له أن يشتغل مع طه حسين فترة من الوقت قال عنه د. زكريا البرى وزير الأوقاف الأسبق إنه قد لاحظ أن أسلوب حياة الدكتور طه يجرى على غير المعهود فى البيوت المسلمة (انظر مقاله: "الشيخ والأستاذ والدكتور والإمام" بجريدة "النور" فى 11 صفر 1407هـ- 15 أكتوبر 1986م).
والآن بعد أن رأينا هذه المسألة من كل جوانبها المتاحة فإننا نتساءل: هل نما إلى الرافعى فى ذلك الوقت المبكر ما أشار إليه فريدشحاتة بعد ذلك؟ لكن لماذا لم يذكر هذا صراحة، وهو الذى لم يكن هيّابا فى كتاباته؟ لقد لاحظنا أنه لم يجمجم فى تسمية الدكتور طه بـ"المبشر طه حسين" وتكنيته: "أبا مرجريت" وأبا ألبرت"، فهل بلغه ذلك الأمر أو شىء منه، لكنه لسبب أو لآخر لم يذكره؟ إن كان الجواب بالإثبات فمن الذى بلّغه إياه يا ترى؟ إن د. نجيب البهبيتى يتحدث فى كتابه "المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيَّيْن" عن أسرار أخرى تتعلق بأسرة سوزان والمهنة التى كانت تمارسها هى فى باريس...إلخ، وهى أسرار إن كانت جديدة علينا نحن الآن فلا شك أن المبعوثين المصريين فى العاصمة الفرنسية فى ذلك الوقت كانوا يعرفونها، فهل نقل إلى الرافعى واحدٌ من هؤلاء المبعوثين أو ممن لهم بهم اتصالٌ سرَّ هذا التعميد، الذى لا نستطيع مع ذلك من الوجهة التاريخية الموثَّقة أن نجزم به؟ الجواب طبعا: لا نعرف.
ومما قاله الرافعى رحمه الله فى د. طه حسين اتهامه إياه، كما رأينا، بأنه أداة أوربية استعمارية. ويتصل بهذا أنه ينقل، فى كتابه "تحت راية القرآن"، ما كتبته مجلة "الفتح" بعد شهرين من نشره لمقاله المسمَّى: "عصبية طه حسين على الإسلام"، ونَصّه: "ليقل لنا طه حسين كم يتقاضى من رجال التبشير، أو بعبارة أدق: من رجال الدول الغربية من أجرٍ على دعايته تلك لهم وعمله لصالحهم وجهاده من أجلهم، هذا الجهاد الطويل العنيف الذى لا يرهب فيه أمة بأسرها. إن ذلك الأجر لا بد أن يكون عظيما جدا كما يتحدث الناس فى أنديتهم" (تحت راية القرآن"/ 195- 196)، كما سمى فرنسا: وطن طه حسين الجديد (المرجع السابق/ 370).
والواقع أن الباحث الذى يريد أن يحقق هذا الأمر يجد نفسه أمام عدة حقائق لا يستطيع، إذا كان باحثا أمينا، أن يُغْفِلها. وهذه الحقائق، وكلها مستمدة مما كتبه طه حسين نفسه وزوجته، هى:(51/361)
علاقته الحميمة إلى حد مذهل بالأساتذة الأجانب فى الجامعة، حتى إنهم ليجتمعون عنده فى بيته كل أسبوع مرة، وذلك يوم الأحد (لاحظ!). ومن هؤلاء الأساتذة جريجوار وإميل برهييه وجريدور وسكايف ولالاند وسانياك (معك/ 74- 75). كما أنه هو الذى استقدم كازانوفا الفرنسى للتدريس فى الجامعة، مع أن طه حسين كان لا يزال فى أولى درجاته الجامعية فى سلك التدريس حينذاك، فمن أين له هذا الثقل الوظيفى والإدارى فى الجامعة؟ ومن الذى كان يقف وراءه؟ إن هذا الأستاذ كان هو المشرف على رسالة طه حسين فى باريس، وحين أتى إلى القاهرة كان طه حسين يزوره كل يوم (المرجع السابق/ 76، وانظر "الأيام"/ 3/ 121، وكذلك سامح كريم/ ماذا يبقى من طه حسين؟"/ 76). ومن لا يعرف هذا المستشرق نُحِيله إلى كتابه "Mahomet et La Fin du Monde" ليعرف آراءه السُّود فى الإسلام ونبيه، الذى يتهمه بتلفيق القرآن من عنده، كما يتهم الصحابة الكرام بالعبث بنصه عندما اتضح أن ما قاله الرسول عليه السلام عن قرب قيام الساعة كان محض هراء، فكان لا بد فى زعمه من زيادة بعض النصوص التى تمحو أثر هذه النبوءة الكاذبة. وقد حزن طه حسين لوفاته حزنا شديدا، وأشار إلى ذلك المرحوم الرافعى بقوله إنه حين هلك كان طه حسين هو "نادِبَته" الوحيدة فى مصر (تحت راية القرآن/ 275. كما وصفه بحق بأنه "كَذَبَنُوفا"/ 294).
ويشبه هذا ما كان من ود وتفاهم بين مرجليوث وطه حسين، حتى إن الدكتور طه، حين سافر إلى أوكسفورد لحضور مؤتمر المستشرقين هناك سنة 1928م، نزل هو وأسرته ضيفا عليه، وقامت زوجة هذا المستشرق المتطاول والحاقد على الإسلام ونبيه برعاية طفله المريض (معك/ 91). لقد عاش كاتب هذه السطور عدة سنين فى تلك المدينة التى كان يدرس فى جامعتها للحصول على درجة الدكتورية، ويعرف جيدا كراهية الأساتذة فى تلك الجامعة لكل ما هو مسلم أو إسلامى. ومرجليوث هذا بالذات من أشد المستشرقين بغضا للإسلام وكتابه ونبيه. إنه من هذه الناحية يأتى هو ولامانس البلجيكى فى المقدمة.ومن يرغب فى أن يأخذ فكرة عن هذا البغض القَتّال فليرجع فقط إلى كتابه "Muhammad and the r ise of Islam"، الذى يأخذ فيه جانب وَثَنِيِّى مكة فى كل موقف حتى فى تعذيبهم للمسلمين، كما وقف فى صف اليهود فى جميع مؤامراتهم لقتل النبى الكريم ومحاولتهم تدمير الإسلام الناشئ تدميرا نهائيا. وقد بلغ من سخطه على الرسول ودينه أنْ قد حمل على أحفاد القردة والخنازير حملة شعواء لأنهم، كما يقول، لم يحكموا أمرهم ويتخلصوا منه قبل أن يلتفت لتآمرهم عليه ويتخلص منهم أوّلاً. ولقد وصف هذا الرجل الوقح رسولنا الكريم بأنه "شيخ منسر: a r obbe r - chief" (D. S. Ma r goliouth, Muhammad and the r ise of Islam, New Yo r k- London, 1905, P. 238). وكان يرى أنه ينبغى ألا نعير كلام صلى الله عليه وسلم كبير ثقة (المرجع السابق/ 263). كما قال عن أبى عامر الراهب (هذا العميل البيزنطى الحاقد على رسول ا صلى الله عليه وسلم وعلى نجاح دينه، والذى بنى له المناقون مسجدا فى أطراف المدينة بعيدا عن عيون المسلمين المخلصين ليلتقوا به فيه لحبك المؤامرات ضد الإسلام ونبيّه وأتباعه) إنه كان عنده قبل هجرة الرسول إلى يثرب ميل إلى الإصلاح الدينى، بيد أن القليل الذى خَبَرَه من محمد بعد هجرته قد أقنعه بأفضلية الوثنية (المرجع السابق/ 290- 291)، وغير ذلك ممما يعج به الكتاب من أقوال شنيعة لا تحترم حقائق التاريخ ولا تلقى بالا للقيم الإنسانية النبيلة التى أرساها محمد عليه الصلاة والسلام، وكان أول وأحسن من استمسك بها. فكيف يمكن أن تقوم مودة حميمة بين مسلم يحب دينه ويؤمن برسوله ولا يقبل أن يسىء إليه أحد وبين مثل هذا المستشرق الوغد الذى كان يكرهه عليه السلام كراهية العمى؟
وممن كانت له علاقة حميمة بالدكتور طه حسين المستشرق الفرنسى لويس ماسينيون، الذى كان يبدى اهتماما شديدا به فى أزماته التى يثيرها، والذى عَرَض عليه ذات مرة وظيفة فى الولايات المتحدة الأمريكية (معك/ 101)، وكان شديد الاحتفاء بابنه مؤنس أثناء دراسته بباريس، إذ كان يأخذه بعد خروجهما من محاضراته التى كان يَحْضُرها له مؤنس فيمشيان معا ويستعلم منه باهتمامٍ وُدِّىٍّ عن كل ما يقوم به أبوه من عمل أو يخطط للقيام به (المرجع السابق/ 253- 254). وماسينيون هذا هو أحد أعمدة الاستعمار الفرنسى فى الشرق الإسلامى العربى. وقد تحدث عن دوره هذا: الصحفى اللبنانى إسكندر الرياشى فى كتابه "رؤساء لبنان"، فليراجعه من شاء. وإننا لنسأل: ما سر هذا الاهتمام الزائد من جانب ماسينيون الاستعمارى وأمثاله بطه حسين؟ لعل ما يلقى بصيصا من الضوء على جواب هذا السؤال أن طه حسين كان يشتغل أثناء الحرب العالمية الثانية مراقبا لإذاعة فرنسا الحرة التى كانت تبث برامجها من دار الإذاعة المصرية.كما أنه قد استقبل الجنرال ديجول حين مجيئه للقاهرة فى إبريل سنة 1941م (السابق/ 129).(51/362)
ولم تنس السيدة سوزان أن تتحدث عن جوانب من الصداقة الحميمة لزوجها بالمستشرق الفرنسى ريجى بلاشير أيضا. وبلاشير هذا هو الذى عبثت يده النجسة بآيات القرآن الكريم تقطيعا وتقديما وتأخيرا أثناء ترجمته لكتاب الله المجيد، وبلغت به الجرأة أن خطّأ القرآن نحويا وأسلوبيا فى مواضع غير قليلة، كما أضاف إلى سورة "النجم" الجملتين اللتين تسميان بـ"آيتى الغرانيق"، وهو ما لم يجرؤ أحد أن يفعله فى حدود علمنا جاعلاً إياهما جزءا من القرآن، وتعمد تشويه كتابنا الكريم بتفسيرات لا يمكن أن تخطر إلا فى خيال مريض يهذى، كقوله مثلا (مع كايتانى وشبرنجر) إن "جنة المأوى" التى ورد ذكرها فى سورة "النجم" هى فيلا فى ضواحى مكة، وإن "سدرة المنتهى" المذكورة فى ذات السورة هى شجرة بجوار تلك الفيلا. وبطبيعة الحال فالرجل ليس مريضا يهذى، لكنه حاقد يتعصب ضد القرآن ويحاربه بهذه الأساليب السافلة (انظر الهوامش التى خصصها ذلك المستشرق لتلك الآيات فى ترجمته للقرآن، وكذلك الفصل الذى درستُ فيه تلك الترجمة من كتابى "المستشرقون والقرآن"، وهو الفصل الثالث من الباب الأول).
ومن اهتمام المستشرقين والدوائر العلمية الغربية بطه حسين أن المستعرب الإيطالى نلينو مثلا فى مؤتمر المستشرقين الذى انعقد بإيطاليا أثناء الحكم الفاشى قد تنازل لطه حسين عن رئاسة القسم الذى كان يرأسه، وهو ما لم يحدث من قبل كما تقول السيدة سوزان (معك/ 123)، وأن الدكتوراهات الفخرية قد أُغْدِقت عليه إغداقا من الجامعات الأوربية على اختلافها (المرجع السابق/ 162، 172، 177، 180، 251مثلا). إن الصحفى السورى سامى الكيالى المعجب بطه حسين وباتجاهه الدائم نحو قبلة أوربا إعجابا أعمى يشير بفخر إلى هذا الاهتمام الزائد من جانب الجامعات الأوربية بطه حسين (مع طه حسين/ 1/ 123- 124)، مع أن هذا الاهتمام هو دليل على أن الرافعى لم يكن يلقى الكلام على عواهنه حين وصفه بأنه أداة أوربية، وإلا فما هذا الاحتفاء الغريب المريب بطه حسين من دون المفكرين والأدباء العرب الذين كانوا معاصرين له؟ أعَقُمَتْ بلاد المسلمين والعرب ومصر فلم تلد إلا طه حسين؟ إن هؤلاء المحتفين بطه حسين هم أنفسهم الذين يبغضوننا ويبغضون ديننا وأدبنا ولغتنا، وهم الذي استعمرونا وأذاقونا كأس المذلة مُتْرَعَةً ونهبوا بلادنا وقتلوا آباءنا، واقتطعوا من جسدنا وروحنا فلسطين وأعطَوْها لليهود، الذين ساعدهم طه حسين على النجاة بجلدهم عند اقتراب الألمان من العلمين، وهم الذين يُمِدّون إسرائيل بالمال والرجال والسلاح ليذبحونا. فهل يمكن أن يحتفى هؤلاء بأى واحد منا لو رَأَوْا أنه نافع لأمته؟ إن لدينا، والحمد لله، عقولا تفكر!
ومن مظاهر اهتمام المستشرقين بطه حسين كذلك أن بعضهم، حينما أُبْعِد الرجل عن الجامعة، قد أعلنوا أسفهم الشديد وهاجموا المسؤولين عن ذلك وعدّوه من المناضلين عن حرية الفكر. وأعلن برجشتراسر، وكان أيامها أستاذا بالجامعة المصرية، أنه لن يعود إلى الجامعة إلا إذا عاد إليها طه حسين (معك/ 109- 110). وهذا كله مع أن مئات الأساتذة الجامعيين المسلمين يُفْصَلون ويُسْجَنون ويُقَتَّلون فى أنحاء العالم المختلفة، ولم نسمع من أحد من هؤلاء المستشرقين ولو كلمة مجاملة من باب ذر الرماد فى العيون. وبالمناسبة فقد نابنى من الحُبّ جانبٌ بسبب الكتاب الذى أنقل منه هذا الفصل (أو إذا آثرنا الصراحة: بسبب طه حسين وما اقتحمتُه فى ذلك الكتاب من محرّمات وأقداس لا ينبغى أن يقترب منها أحد، وإلا تم التنكيل به حتى يكون عبرة لغيره)، فأوذيت أذى شديدا لم أُوذَه فى حياتى العلمية والوظيفية، ولم يكلِّف أحد من المتباكين على الحرية الفكرية عَيْنَه أن تذرف ولو دمعة واحدة من دموع التماسيح على سبيل التجمُّل، فضلا عن أن يثير الأمرَ فى وسائل الإعلام المحلية، بَلْه العالمية. وكان ذلك قبل مسألة د. نصر أبو زيد بقليل، الذى أخذت وكالات الأنباء فى كل أرجاء الدنيا تطيّر أخباره وتغطى الاحتجاجات التى كانت تظاهره من كل صَوْبٍ وحَدَب، وكأننا بصدد حرب كونية ثالثة! وأحب رغم ذلك ألا يفهمنى أحدٌ خطأً فيتوهم أنى مع اضطهاد الفكر، ولكنى فقط أتساءل عن سر هذا الاهتمام الغريب من قِبَل الدوائر العالمية المعادية للإسلام بطه حسين وأمثاله وقَصْره عليهم، وعليهم وحدهم! ومن المضحك الذى ينبغى إيراده هنا، وشر البلية ما يضحك كما يقول المثل المشهور، أن يبلغ التحمس لطه حسين عند أحد القساوسة المصريين، وهو كمال ثابت قلته (فى رسالته للماجستير عن الدكتور طه)، أن يهاجم، وهو رجل الدين النصرانى، شيوخ الأزهر ويتهمهم بالرجعية واصمًا إياهم بأنهم لم يفهموا الإسلام كما فهمه طه حسين. فالحمد لله الذى جعل هذا القس يفهم الإسلام خيرا من مشايخنا ويقوم فوق ذلك بدور القاضى بينهم وبين الأزهرى السابق الشيخ طه، ويصدر فى النهاية هذا الحكم المهذب العادل (انظر كتابه "طه حسين وأثر الثقافة الفرنسة فى أدبه"/ دار المعارف/ 90- 92).(51/363)
فإذا عدنا إلى الرافعى واتهامه لطه حسين وجدنا من الصعب أن نرميه بالتجنى وإرسال القول على عواهنه. ومن المؤكد أنه، رحمة الله عليه، كان يعرف عن طبيعة علاقات طه حسين بالمستشرقين ورجال الدين والسياسة الغربيين الشىء الكثير بحكم المعاصرة، وبحكم اهتمامه كأديب ومفكر بقضايا الأدب والتاريخ العربى والإسلامى، وبحكم انغماسه التام فى الحياة الثقافية واتصاله بأقطاب الفكر والأدب والنهضة الإسلامية، وبحكم وجود الاستعمار البريطانى الدنس على أرض المحروسة مما يشجع من لهم علاقة بدوائر الغرب العلمية والسياسية على عدم الاستتار بهذه العلاقات، بالضبط كما هو حادث الآن فى الظروف السُّود التى يمر بها الوطن العربى بل أمة محمد على بكرة أبيها. ويمكن، لمن يريد التعرف إلى بعض العلاقات التى كانت لطه حسين بهذه الدوائر، الرجوع إلى الصفحات التالية: 162، 173- 174، 178، 190، 195، 197، 199، 202، 204، 266...إلخ من كتاب "معك" الذى وضعته زوجته عنه بعد وفاته والذى كان مرجعا أساسيا من مراجعنا فى هذا الفصل. ودعنا من رحلته التى قام بها إلى فلسطين وزار فيها الجامعة العبرية سنة 1927م، تلك الجامعة التى بذل طه حسين جهوده (المشكورة والمقدورة) حتى نجح فى تذليل الاعتراض الذى أبداه رجال البعثات فى مصر على ذهاب أحد الطلاب إليها (المرجع السابق/ 83، 186). وكذلك دعنا من إشرافه على مجلة "الكاتب المصرى" اليهودية، وتسهيله لأصدقائه من اليهود الخروج من مصر عند اقتراب الألمان من العلمين (السابق/ 140). ولعل من الطريف أن نشير هنا إلى ما ذكرته السيدة زوجته فى هذا الكتاب من أن أم وأخت أحد الشبان الإخوانيين، وكان قد حُكِم عليه ضمن آخرين مثله بالإعدام أيام الرئيس عبد الناصر لارتكابهم جرائم قتل (!) كما تقول، ألحتا على الدكتور طه أن يتدخل لإنقاذ الشاب. ولكنه لم يفعل بطبيعة الحال، ربما لأنه لم يكن يهوديا. ومع ذلك فهذه القصة غير مقنعة، إذ لا أظن أن سمعة طه حسين بين الإخوان وأسرهم كانت تشجع المرأتين على أن ترجوا تحقيق مثل هذا الطلب على يديه، وهو الذى هاجمهم أشد هجوم فى بعض ما كتب فى تلك الفترة.علاوة على أننى لا أعرف أن الإخوان قد ارتكبوا جرائم قتل فى عهد عبد الناصر أو حتى اغتيالات سياسية.
وفى النهاية فإنى لا أعرف لماذا لم تذكر السيدة الكاتبة اسم الشاب.
أغلب الظن أن مثل هذا الشاب وأمه وأخته ليس لهم وجود!
والله أعلم.
رسالة مفتوحة إلى شباب مصر (5)
((((( طه حسين الأكذوبة الكبرى )))))
بقلم : مجدي إبراهيم محرم
يا مجمع اللغة العربية
يا رجال الأزهر الشريف
يا علماء الأمة وفقهاء اللغة
يا مجامع الإفتاء ومراكز الدراسات
يا أساتذة دار العلوم وكليات الآداب
يا مجلس الجامعة العربية ومنظمة مؤتمر الدول الإسلامية 000 يا مجامع البحوث والدراسات اللغوية والإسلامية 0يا جامعة الأزهر الشريف
يا كل السادة القراء
انزعوا لقب عميد الأدب العربي من طه حسين فإنه لا يستحقه انزعوا عنه لقب قاهر الظلام لأنه لايستحق إلا أن يكون طائرا للظلام
لقد وصفنا أبا إيبان بأننا شعب من القطعان فحينما أطلقوا على طه حسين بأنه من دعاة التنوير رددنا خلفهم وحينما إستعطفونا للتضامن مع حالة طه حسين كسبوا ودنا وتأييدنا وحينما وصفوه بصفة من رسولنا الكريم الذين أخرج الأمة من الظلمات إلى النور صدقنا على وصفهم 00وحينما كتبت إحدى الصحف الفرنسية الصهيونية أنه عميد اللغة العربية خرج الغلمان والقطعان ليصدقوا الأكذوبة الكبرى ويطلقوا عليه عميد الأدب العربي
((((((( إقرؤوا يا سادة
كتاب طريق الخلاص للحاخام مناحم كشر الذي خصص فيه فصلا كاملا عن علاقة طه حسين بالصهيونية والماسونية
إقرؤوا كتابات الصهيوني ميخائيل بر وبنيامين بيت حلاجمي الذي يؤكد أن طه حسين يمثل سلاح إسرائيلى لتجنب عودة الهزيمة التي حدثت للصليبيين !!!!
إقرؤوا كتاب المصير لأباإيبان وعلاقته بطه حسين
إقرؤوا يا سادة
يا من تطلبون منا ألا نكتب في التاريخ فمن لم يفهم حركة التاريخ لا يستطيع أن يفهم حاضره ومستقبله
إفهموا كيف كان يتلاعب بنا ذلك الذي تربى في ردهات الأزهر الشريف لينهل من خيراته ثم يتمرد عليه وعلى أهله وعلى ديانته ليتحالف مع الأعداء
إنهم يرغبون منا أن نتحول إلى أمة بلا ذاكرة حتى يسهل علينا فقدانها!!!!!)))))))
****** فهل يمكن أن يكون عميدا للأدب العربي ذلك الكاتب الذي إعتبر الأدب العربي أدبا قريشيا مغزوا ليس له أصل وغازيا ومحتلا كالفينيقيين واليونان والرومان ليستبدل فكرة العروبة بالشرق أوسطية والإنتماء لدائرة الفرعونية تارة والبحر المتوسط تارة أخري و الذوبان مع الغرب تارة ثالثة؟!!!!!!!0
((((( إنكم يا سادة
لو تأملتم الدعوة المستميته لشيمون بيريز أن يذوب العالم العربي في الشرق أوسطية أو البحر متوسطية تاركا مفاهيم العروبة والإسلام
لو تأملتم دعوة بوش وشارون إلى الشرق الأوسط الكبير وأن تكون إسرائيل ضمن هذا التكتل
لو تأملتم الدعوات الجديدة لإلغاء الجامعة العربية لتحل محلها جامعة الشرق الأوسط(51/364)
لو تأملتم يا سادة كل هذه الأمور لعلمتم وأدركتم سر دعوة طه حسين إلى تخلي مصر عن عروبتها ((( الدخيلة والإستعمارية ))) لتحل محلها الإنتماء إلى الغرب حلوه ومره والإنتماء لحوض البحر المتوسط
ولأدركتم قدم الدعوة الصهيونية ومدى المثابرة الصهيونية من أجل تحقيق هذا الحلم
إنظروا حولكم يا سادة ستجدوا المخططات والترتيبات والتكتيكات والإستراتيجيات كيف تسير حتى لو كانت بخطى حثيثة
إنظروا حولكم يا سادة ليس من أجل تنظيم النسل ولكن لتدركوا حقيقة ما حولكم !!!!!! )))))
إنظروا حولكم واسألوا أنفسكم
***** هل يمكن أن يكون عميدا للأدب العربي ذلك الكاتب الذي يدعي أن الفتح العربي الإسلامي لم يكن إلا دربا من الإستعمار والإحتلال الذي خضع له المصريون كما خضع للفرس والرومان وغيرهم ؟!!!!!!!!!!!0
***** هل يمكن أن يكون عميدا للأدب العربي ذلك الكذاب الذي يدعي أن العرب لم يكن لهم نثر فني وأنهم لم يجيدوا الإنشاء (((( وذلك نقلا عن المسيو مرسيه الصهيوني بالمجلة الإفريقية بالجزائر ))))؟!!!!!!!
ولعل ذلك العاق لدين الإسلام قد قرأ قصة الأدب في العالم عن كتاب جهار الفارسي ويعلم كيف تأثرت اللغة الفرسية والسريانية واكتسحت اللغات الرومية والقبطية واللاتينية واليونانية والعبرية
ولعله أيضا قد قرأ كتاب رنان ( تاريخ اللغات السامية )
وكتاب (( حضارة العرب لجوستاف لوبون)))
وكتاب ((((( تراث الإسلام لأرنولد وجيوم))))))))
وكتاب ((((((تطور النثر الفارسي لمحمد تقي بهار )))))))
وكتاب ((((( القواعد الأساسية لدراسة الفارسية للدكتور إبراهيم أمين الشواربي ))))))
(((((((وهناك العشرات من الكتب والكتاب الذين تناولوا تأثير النثر العربي على الفارسية ولا أدري لماذا يعكس ذلك الصنم الأكبر الحقائق ويزيف التاريخ ولحساب من ؟!!!!))))))
حتى الأمثال العربية القديمة صارت متداولة بين أهل فارس
ولو أنني أشعر أن القارىء لن يمل من التطويل في هذا الموضوع لكتبت عشرات الصفحات عن
(((((( تأثر الأدب الفارسي بالأدب العربي )))))
ولكتبت أسماء المئات من الكتاب والشعراء الفارسيين الذين تأثروا بالأدب العربي
وكيف بهذا العقور المتناقض يتهم القرآن الكريم أنه مأخوذ من شعر الجاهلية وخصوصا من شعر أمية بن أبى الصلت الذي إستفاضت الكتب بأخباره وأشعاره وكان أمية ــ واسمه الحقيقي عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف الثقفي ــ قد إتخذ لنفسه سبيل الهداية في الجاهلية فآمن بوحدانية الخالق وذكر خلق السموات والأرض وحرم على نفسه الخبائث من الأفعال ومن أشعاره التي تفصح عن طبيعة اعتقاده قوله:
الحمد لله ممسانا ومصبحنا
بالخير صبحنا ربي ومسانا
رب الخليقة لم تنفذ خزائنها
مملوءة طبق الآفاق أشطانا
(((((فأين هذه الكتابات وتلك الأشعار من القرآن الكريم إن هذه الفرية من ترديد جاهل وغبى ومغرض فهل لنا الحق في أن نطلق عليه عميدا للأدب بعد أن أهاننا وسفه من ديننا وهو يعلن بإبن السوداء أن لا إله إلا الله ؟!!!!!)))))))
وقيل أن الرسول قد سمع هذه القصيدة ينشدها بعض الصحابة بين يديه فقال عليه الصلاة والسلام آمن شعره وكفر قلبه 0فكيف يقول نبي ا صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات عن المبدع الذي نقل عنه والعياذ بالله كلماته ؟!!!!
ومن عجب أن أمية بن أبي الصلت الذي امتلأ شعره إيمانا بالله واستفاض توحيدا واعترافا بالحساب والنشور قد مات بعد بعثة الرسول الكريم وقد أبى أن يؤمن بالإسلام
وهناك من المؤرخين من يعلل عدم إيمانه بأنه كان يتمني أن يكون هو نفسه النبي المبعوث إلى الناس ولسنا في مجال الحديث عن شعر بن أبي الصلت ولكننا أردنا أن نكذب مسيلمة الذي أطلقوا عليه عميد الأدب العربي
وإذا كان المجال في الحديث عن النثر الفني فيبدوا أن ذلك المأفون أراد بجهله أن يضلل العامة وهو يعلم أو لا يعلم عن بلاغة وحكمة وفصاحة عبد المطلب جد النبى وأبو طالب بن عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف وغيلان بن سلمة الثقفي والأقرع بن حابس وحاجب بن زرارة وأكثم بن صيفي وهند بنت الخس وحذام بنت الريان وغيرهم وغيرهم
(((((( ومن أراد التوسع فليقرأ ــ بلوغ الأرب ــ وليقرأ النثر ومذاهبه للدكتور شوقي ضيف ــ وليقرأ الأدب في مواكب الحضارة الإسلامية للدكتور مصطفى الشكعة )))
لذلك يا سادتي الكرام أطالبكم بإسقاط التكريم الذي منحتموه لذلك الأعمى البصيرة الذي يهدف من كل ذلك أن يكذب الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم إنه مسيلمة الكذاب في ثوبه الجديد !!!!!!!
ومن المؤسف حقا يا سادتي
واعذروني !!!!!
وإعذروني !!!!!
واعذروني !!!!!
حينما أقول أن ذلك الخنيس صنيعة الإستعمار وصنيعة الصهاينة
فلقد أراد أن يطعن في القرآن الكريم
ليهوى في هوة الكفر الصريح !!!!!!!!!!!!
فمن المعروف أنه قال:(51/365)
((((( للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل. وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا. ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن إثبات هذه القضية التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، ونشأة العرب المستعربين فيها. ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهود والقرآن والتوراة من جهة أخرى)))
هكذا يفجِّر طه حسين قذيفة الكفر الرهيبة المدمرة هذه دون أن يبالي أي قدر من الخسائر تسببه لضمير الأمة المسلمة وإحساسها المرهف نحو دينها وعقيدتها..! تكذيب صريح القرآن الكريم، وادعاء فاجر بأنه ليس مصدرا تاريخا موثوقا به (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).
أرجوكم يا سادة أن تقرؤوا
نعم
أرجوكم
ثم أرجوكم
ثم أرجوكم أن تقرؤوا
وأن تحكموا بالعدل
هل يستحق ذلك الكذاب عمادة الأدب العرب ؟!!!!!
وأن نطلق عليه بطريقة القطعان كما قال أبا إيبان بأنه قاهر الظلام ؟!!!!!!!
وهو يقول
في مؤتمر المستشرقين السابع عشر بجامعة أكسفورد (سبتمبر 1928م) الذي ألقى طه حسين فيه بحثا عنوانه:
(((((((((((((((((استخدام ضمير الغائب في القرآن))))))))))))
وقد ارتأى فيه ذلك الجاهل :
أن تأويل ضمير الغائب في معظم آيات القرآن باسم الإشارة فيه حلّ لمشكلة عدم المطابقة بين الضمير وما يرجع إليه. وزعم أنه بهذا الرأي يصحح ما يراه بعض المستشرقين من أن في القرآن خطأ نحويا - حاشا لله - إذ يرون الضمير قد رجع إلى متأخر، أو رجع إلى محذوف مفسّر بما يدل عليه من بعض الوجوه.
وقد وصف الرافعي رحمه الله طريقة استبدال اسم الإشارة بضمير الغائب بأنها
((((((((بيع الذهب بالملح !!!!!!!!!)))))))
إشارة إلى أن
رأي طه حسين الذي نقله عن أسياده المستشرقين بلا فهم وبلا علم
إنما هو رأي ساقط بليد تافه، لا تقاس قيمته إلا بقيمة الملح إذا قورن بالذهب في نفاسته0
ويعقب الرافعي قائلا:
((((وكأنه أخذ تلك القاعدة من ذلك الكتاب الذي عثر به في خرائب روما، فرآه مكتوبا قبل الإسلام بمائة سنة، وفيه آراء في الشعر الجاهلي، وفيه قواعد نحوية ضابطة محكمة لا يشذ عنها إلا شاذ، ولا يختلف عليها إلا ما كان خطأ. وفيه أشياء وأراء يقال أن الدكتور طه لا يردّه عن نشرها إلا أنه يطمع أن يجد تحقيقها في كتاب آخر يعثر به في خرائب أثينا!!!!!))))
((((((((نشر هذا الرد في صحيفة كوكب الشرق في 27/11/ 1928 م وقد نشر بحث ذلك الأعمى في عدد نفس الصحيفة في عددها الصادر في 15/ 10/ 1928م ونشرته جريدة الأهرام القاهرية أيضا )))))))))
وهو يشير بذلك إلى ولع الدكتور بالثقافة اليونانية وإغراقه في حب الإغريق، وحُبِّه لهم حبا ملك عليه قلبه حتى نهاية حياته!!!!!!
ويكاد المريب يقول خذوني:
امتنع الدكتور عن نشر بحثه هذا في اللغة العربية
(((((((( حتى حصلت عليه صحيفة الأهرام فنشرته مترجما))))))))
وانكشفت أباطيل الدكتور وفضحه الله على رءوس الأشهاد!!!!!!
((((((هذا هو عميد الأدب !!!! يتكلم عن علوم اللغة ناقلا كعادة اللصوص أفكاره بغرض تظليل العامة
ــــ فمن الذي يدري أن طه حسين كان يسخر ممن يقولون اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار بسم الله الرحمن الرحيم قبل الأكل ويسخر ممن يقول الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا من غير حوّل منا ولا قوة وجعلنا من المسلمين ـــ
هذا الضال المضل يستنكر هو ومن يتبعهم من الكافرين لإستخدام الضمائر في القرآن الكريم
فيحزن هو ومستشرقيه لأن الله يقول:
((( قل هو الله أحد ))
ويتمنى أن يقول قل أنا بدلا من قل هو !!!
ويحزن لأن الله يقول في كتابه :
((((الله لا إله إلا هو الملك القدوس )))
ويتمني لو تم إستبدال إلا هو الملك بإلا أنا الملك
وغيرها وغيرها
فهل رأيتم بعد ذلك تضليل وجهل
إنه يريد أن يستبدل الذهب بالملح
إنه يريد أن يستبدل الغالي الثمين بالرخيص التافه
فهل رأيتم بعد الإعجاز اللغوي البليغ للقرآن الكريم حتى يأتي الجاهل الضال ليحاول العبث به
إنها أمور نفهمها ويفهمها بسطاء المسلمين ويحسون حلاوتها
إن عمر بن الخطاب في جاهليته قد هجد قلبه وحنت روحه وسكنت رعونته أمام آية واحدة من كتاب الله حينما تلت عليه أخته (( طه ما أنزلنا عليك الكتاب لتشقى ))
ولقدزعم طه حسين أن القراءات السبع المجمع عليها لدى العلماء لم تنزل من عند الله، وأن العرب كما قرأتها حسبما استطاعت قراءتها لا كما أوحى الله بها إلى نبي صلى الله عليه وسلم
وهو بذلك البهتان ينكر أنها مروية عن الله تعالى كما جاءت على لسان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم متجاهلا الآثار المتواترة والصحيحة التي وردت بهذا الصدد في كتب السنة المعتمدة.
كان يرى أن هناك قرآنا مكيا وقرآنا مدنيا، القرآن المكي يتميز بالبعد
((((((يستخدم الدكتور كلمة (الهروب من المناقشة) ليبرهن على بعده عن التأدب مع كتاب الله تعالى. فيا حسرتنا على العباد الذين يتخذون من التخريف أمارة على جودة التأليف، ويسمونه - كذبا وبهتانا :ــ(51/366)
عميد الأدب..))))))
عن المناقشة والخلو من المنطق (كذا)! والقرآن المدني يناقش الخصوم بالحجة الهادئة..
والمؤسف ليس هذا الكلام الغث وحده، وإنما المؤسف بالدرجة الأولى هو ما يدل عليه من أن هذا الملحد المجاهر بإلحاده يعتقد أن القرآن الكريم هو من وضع النبي صلى الله عليه وسلم !!!
فهل نعيب على غلمانه في الجهل والشذوذ فرج فوده ونصر أبو زيد وسيد القمني ومنهم من حصل على الدكتوراه والأستاذية من دول غرضها محاربة الإسلام في مجالات الحركة الشيوعية والسياسة بعيدا عن الأدب والبلاغة كرفعت السعيد والعشماوي ونوال السعداوي التي وصل بها الحال أن تنسب نفسها إلى أمها !!!! وغيرهم
وهل هناك ما هو أصرح من هذا الذي قاله العميد في باب الكفر والزندقة؟!!!!!!
وليس كلامه هذا صادرا عن استقراء لما يزعمه قرآنا مكيّا ومدنيا.
فالدارسة المتعمقة للقرآن تُبَيِّن أن الآيات المكيّة مليئة بأقوى البراهين وأقمعها للملحدين الجاحدين. وكثيرا ما حاجّ الله سبحانه كفار مكّة وقارعهم الدليل تلو الدليل وتحداهم المرة بعد المرة فأعلنوا عجزهم وتسليمهم ودخلوا في دين الله أفواجا.
أما ما يزعمه قرآنا مدنيا، ويزعم أنه مُلِئَ بالتشريعات والأحكام ومبادئ الأخلاق.. الخ.. فإنه يردّ ذلك كله- قاتله الله - إلى احتكاك المسلمين بيهود المدينة، الخ ما قاله مما يملأ النفس ألما ووجدا على هذا الآدمي الذي ابتلي به المسلمون حينا من الدهر، ولا زالت سمومه تتسرب على أيدي أشياعه ممن وردوا ورده وشربوا من المستنقع الذي كرَع منه حتى غصّ بريقه..!
زعم أن عدم وضع النقط على الحروف القرآنية في بدء تدوينه قد أدّى إلى حدوث اختلاف في نطقه، فهناك كلمات تنطق هكذا: فتبينوا، فتثبتوا.. الخ.
والحق الذي لا مراء من حوله، مهما أرجف المرجفون، أن القرآن مكلوء برعاية الله إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين وذلك بنص قول الحق سبحانه وتعالى:
((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ))
وقد أحاط الكثيرون من الدارسين لعلوم القرآن بالكثير مما يتعلق بهذه الأمور
وما قصد طه حسين بهذا الافتراء إلا أن يكسر القداسة التي خص بها القرآن الكريم، سّيما وهو يعلم أن القرآن يتميز عن التوراة والإنجيل بأنه معجز بلفظه، محفوظ في السطور والصدور بنصّه، متعبد بتلاوته
((((((((((((((وهو كما قال (جاك بيرك): "سقف اللغة العربية تقاس عليه ولا يقاس عليها")))))))))))
فكيف يضعه هذا المخّرف موضع الشك والاختلاف؟
ادعى أن لفظة (سورة) مأخوذة من كلمة (شورة) العبرية بمعنى (سلسلة)!!!!!!!!
وأثار الشك في لفظة (قرآن) هل هي عربية أو عبرية أو مأخوذة من لغات أخرى!!!!!!!!!!!!!.
ورأى أن (الكتاب) غير (القرآن)، وأن الكتاب كان موجودا قبل إنزال القرآن، وأن القرآن صورة عربية منه. (نعوذ بالله من ذلك).
ومن أخباره أنه كان يشجع تلاميذه في كلية الآداب على أن ينقدوا القرآن في جرأة ينقدونه باعتباره كتابا أدبيا! يمكن أن يقال فيه هذا كذا، وهذا كذا. ويحاول أن يدرسه دراسة فنية!!
فهل تسلح أولئك الطلاب بالأسلحة العلمية الكافية لدارسة القرآن، فضلا عن ((نقده)) بأمر أستاذهم؟
وهل يملك أستاذهم نفسه، مهما بلغ من علوم اللغة نحوها وصرفها وبلاغتها وأدبها وفقهها ومتنها، أن يمسّ القرآن بكلمة نقد واحد؟
وهل استطاع أساطين البلاغة وفرسان البيان من العرب الخلص إلا أن يسلموا مقاليدهم أمام إعجاز القرآن الكريم وبلاغته فماذا يبلغ هذا الدعيّ من الفقه بلغة الكتاب الكريم وأحكامه العظيمة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
فماذا بعد أيها الجاهل الذي توجوك بالإمارة
يامن وصفوك بقاهر الظلام وأنت الظلام القادم بخفافيشه ومتطرفيه
إن طه حسين أيها السادة هو أحد الأسباب الرئيسية في الإرهاب العلماني في المنطقة العربية وهو أحد صانعي التطرف الديني أيضا بما يطرحه وغلمانه من فكر مضاد للفطرة والدين
فلقد صارت أفكار طه حسين هي منطق العلمانيين والملحدين والماديين والليبراليين والجدليين وعبدة الشيطان حتي وصل الأمر بأن أعلن أحد الملاحدة بأن الكعبة كانت ضمن مجموعة كعبات وأن الحجر الأسعد ( الأسود ) من وضع البشر وأن عشقهم للكعبات والحجر الأسود هو بسبب عشقهم للآلهة من الأصنام والأحجار
نرد عليه بما ذكره " برثون " في رحلته للحجاز بأنه قال :
" ولا يزال الصائبة اليوم كما كانوا قبل الإسلام يحسبونها " أي الكعبة من البيوت السبعة التي تناظر الكواكب السبعة ويقولون أنها بيت أشرفها دارا وهو زحل وستبقى في الأرض ما بقى زحل في السماء " .(51/367)
والمشهور عن الصائبة أنهم يوقرون الكعبة في مكة وأنهم يعتقدون أنها من بناء هرمس أو إدريس عليه السلام ، والصابئة هم قوم لا يجاوز عددهم عشرة الآلاف وهم يقيمون في الأقاليم الجنوبية في العراق حيث قام الخليل - عليه السلام كما في رواية العهد القديم و يقول العلامة وايت صاحب كتاب المطالعة العربية أن حروفهم الأبجدية تشبه الحروف النبطية وأن لغتهم تشبه لغة التلمود ، وأنهم يقولون أن لغتهم الأولى سريانية وأنهم كانوا بمصر على عهد الفراعنة الأول ، وتلقوا ديانتهم الأولى عن أحبارهم ثم هجروها حين تحول أهلها عن الدين القويم والمعروف لدينا وللعالم أجمع أن الصابئة قوم قبل الإسلام بآلاف السنين وأنهم يعرفون الكعبة قبل أن يهبط على أرضها أحد من البشر من سلالة إسماعيل عليه السلام ، وهذا يدل على قدم الكعبة قبل العرب وأنها ليست من صنع العرب . والمعروف تاريخياً أن الدول الكبرى حاولت أن تستغني عن مكة بتحويل الطريق منها أو هدم كعبتها فلم تفلح وبقيت لها مكانتها وقداستها كما كانت من أقدم عهودها ، وهي سابقة لكتابة أسفار العهد القديم في التوراة ، فإنها هي " ميشة " المشار إليها في سفر التكوين ، وهي ميشه التي يقول الرحالة بيرتون : " إنها كانت بيتاً مقصوداً لعبادة أناس من أبناء الهند و يقول الرحالون الشرقيون أنها كانت كذلك بيتاً مقصوداً للصابئين الذين أقاموا في جنوب العراق قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون.
ويخبرنا التاريخ أن أبرهة بني " القليس " في صنعاء ، وهو معبد له فلما تم بناؤها أمر بتحويل الحج إليها وكتب إلى النجاشي أنه سيصرف العرب أجمعين إليها ، فذهب إليها بعض العرب وهي الكعبة الجديدة ليدنسونها ، وأن سيدا من سادات تميم فعل ذلك ، فكان من جراء ذلك هجوم أبرهة على مكة في عام الفيل المشهور وهناك محاولات أخرى لهدم الكعبة أخبرنا بها التاريخ ولكنها لم تهدم رغم كره من ذوي السلطان لها في الجنوب ، والفرس والروم في الشمال
ومما هو جدير بالذكر ومما يعتبر ضربة قاضية لكل منكر للكعبة وللحجر الأسود
هو أنه شغل الباحثين و العلماء والمستشرقين من مئات السنين كنه الحجر الأسعد ؛ هل هو من السماء أم الأرض وبعد البحث والتحليل لجزء من الحجر الأسعد
أثبتت الدراسة العلمية أن الحجر الأسعد من أصل سماوي (((((( نيزكي ))))) وليس من أحجار الأرض ، وبذلك أنهى الجدل السائد بين بعض المستشرقين ، وكان بعضهم يقول إن الحجر الأسود من أصل بركاني ، وكانت هذه النتيجة بعد تحليل قطعة صغيرة من الحجر الأسود أخذها العلامة ريتشاد بيرتون بعد أن ادعى أنه مسلم ، وهذا البحث كتب بمجلة آخر ساعة
وهنا سؤال : هل لو بنى العرب أو غيرهم كعبات أخرى للعبادة هل هذا ينقص من كعبة المسلمين شيئاً ، ..
الحقيقة لا
لأن العبادات كلها التي وضعها الحق سبحانه وتعالى على الناس جميعا منذ آدم - عليه السلام - بها صلاة قيام وركوع وسجود ) وأخذ الفراعنة رسما من هذه الصلاة ، وأخذت البوذية صورة من هذه الصلاة فهل نقول أن الصلاة ما دامت قد أخذ من صورتها أناس غير مؤمنين تكون هذه الصلاة - وهي صلاة المؤمنين - صلاة غير معمول بها ، وكذلك بقية العبادات من صيام وغيره - ومن رعاية جوار البيت حلف الفضول الذي تعاهد فيه عظماء قريش لنصر كل مظلوم ورد الحق إلى كل مغصوب ، وأن يكونوا يداً واحدة في قتال كل غاصب .
ويعلق الأستاذ العقاد - رحمه الله - على هذا بقوله في كتاب ( مطلع النور ):
" وما من مقدمة للدعوة المحمدية كانت الزم ولا أكرم من هذه المقدمة تيسيراً لاجتماع الكلمة على الخير ، وتوحيد أبناء الجزيرة
أيها السادة إنني أدعوكم جميعا
أن تتأملوا في قراءتكم لكتب هذا المضلل
كيف يحارب الإسلام بلسان المسلمين وليس أدل على ذلك أكثر مما قاله
الأستاذ السابق بكلية اللاهوت الإنجيلية))) إبراهيم خليل فلوبرس ))))
واحد من الملايين الذين انقادوا لما وجدوا عليه آباءهم من غير بني الإسلام .. تنشأ في الكنيسة .. وترقى في مدارس اللاهوت .. وتبوأ مكانة مرموقة في سلم التبشير .. وبأنامل يديه خط عصارة خبرته الطويلة عدة مئات من الصفحات رسالة للماجستير تحت عنوان:
كيف ندمر الإسلام بالمسلمين ؟ !!!!
وقد كان في علم اللاهوت) متخصصاً لا يجارى .. وفي منظار ( الناسوت ) كان ابن الكنيسة الإنجلية .. الأمريكية يتيه خيلاء .. ولأسباب القوة والمتعة والحماية المتوفرة .. ما كان ( إبراهيم يقيم لعلماء الأزهر ، ـ وقد شفهم شظف العيش ـ أي وزن أو احترام!!!!
الذي قال :
الواقع كنا نؤسس على هذه الدراسات حواراتنا المستقبلية مع المسلمين ونستخدم معرفتنا لنحارب القرآن بالقرآن … والإسلام بالنقاط السوداء في تاريخ المسلمين ! كنا نحاور الأزهريين وأبناء الإسلام بالقرآن لنفتنهم ، فنستخدم
الآيات مبتورة تبتعد عن سياق النص ونخدم بهذه المغالطة أهدافنا ، وهناك كتب لدينا في هذا الموضوع أهمها كتاب ( الهداية ) من 4 أجزاء و ( مصدر الإسلام(51/368)
) إضافة إلى استعانتنا واستفادنا من كتابات عملاء الاستشراق أمثال طه حسين الذي استفادت الكنيسة من كتابه الشعر الجاهلي مائة في المائة ، وكان طلاب كلية اللاهوت يعتبرونه من الكتب الأساسية لتدريس مادة الإسلام !
وفي كتاب
(على هامش السيرة) فقد حشاه طه حسين بالأساطير والروايات الباطلة مبرراً موقفه هذه "بأن هذه الأساطير ترضي ميل الناس إلى السذاجة، وترفه عنهم حين تشق عليهم الحياة" !!
يقول الأستاذ غازي التوبة : "ليس من شك في أن تناول السيرة بقصد الاستراحة من جهد الحياة وعنائها، والترفيه عن النفس، وإرضاء ميل الإنسان إلى السذاجة، وتنمية بعض عواطف الخير، ليس من شك أنها سابقة خطيرة، لا يحسد عليها طه حسين؛ لأن المسلمين كتبوا -دوما وكثيراً- في سيرة نبيهم صلوات الله عليه، ومحصوا أحداثها، وميزوا دقائقها، وبوبوا تفاصيلها، وكان نظرهم -خلال ذلك كله وبعده- يرمق في محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً أعلى للإنسانية ويلتذ في ذلك، ويشتم منه الصفات العبقة ويلتذ في ذلك -ولم يقفوا عند حدود الرمق والشم والالتذاذ- ولكن سعت أقدامهم في لحظة الرمق والشم والتلذذ نفسها- ومشت على طريق محمد. فزكوا أنفسهم كما زكى محمد نفسه، وعبدوا ربهم كما عبد محمد ربه، وعاملوا الناس كما عامل محمد الناس، وجاهدوا الشرك والباطل كما جاهد محمد الشرك والباطل الخ…
كتب المسلمون الذي كتبوه في سيرة نبيهم، ومحصوا الذي محصوه، وبوبوا الذي بوبوه، قاصدين الاقتداء به، والعمل مثل عمله. وشتان بين ما هدف إليه طه حسين، وما ذهب إليه رواة السيرة" (الفكر الإسلامي، لغازي التوبة، ص، 110).
وقد صدق محمد حسين هيكل صاحب طه حسين ! في تعليقه على كتاب طه هذا، حين قال:
"الخطر ليس على الأدب وحده، ولكن على الفكر الإسلامي كله؛ لأنه يعيد غرس الأساطير والوثنيات والإسرائيليات في سيرة صلى الله عليه وسلم مرة أخرى بعد أن نقاها العلماء المسلمون منها، وحرروها من آثارها"
أما كتابه (الشيخان) فقد مارس فيه ما أتقنه من مذهب (الشك) الذي ورثه من (ديكارت) ! حيث قال في مقدمة الكتاب:
"وما أريد أن أفصل الأحداث الكثيرة الكبرى التي حدثت في أيامهما، فذلك شيء يطول، وهو مفصل أشد التفصيل فيما كتب عنهما القدماء والمحدثون. وأنا بعد ذلك أشك أعظم الشك فيما روي عن هذه الأحداث، وأكاد أقطع بأن ما كتب القدماء من تاريخ هذين الإمامين العظيمين، ومن تاريخ العصر القصير الذي وليا فيه أمور المسلمين، أشبه بالقصص منه بتسجيل الحقائق التي كانت في أيامهما" !!
هكذا دون أدلة، ودون رجوع لأهل الشأن من علماء الحديث، إنما تحكيماً لعقله في أحداث الصحابة وما جرى منهم ولهم.
أما كتاب (الفتنة الكبرى) بجزأيه
فقد خاض فيه طه حسين في ما شجر بين الصحابة -رضوان الله عليهم- دون علم، وهو ما نهى عنه علماء أهل السنة -رحمهم الله-، وكان له هدف خبيث من هذا الخوض
بينه الأستاذ غازي التوبة بعد أن فنَّد الكتاب بقوله:
"إذن ينعي طه في ختام الجزء الأول الخلافة، ويوهِن من عزائم المسلمين الساعية إلى إعادتها، وينبههم إلى أن المسلمين الأوائل تنكبوا عن طريقها منذ أمد بعيد واتبعوا طريق الملك الذي يحل مشكلات الدنيا بالدنيا، فالخلافة تحتاج إلى أولي عزم من الناس، وأين أولو العزم الآن ؟!!!!!!!!
وكأن لسان حاله يخاطب مسلمي عصره ويقول لهم:
عليكم أيها المسلمون أن تدعوا التفكير في الخلافة، وأن تبطلوا السعي إليها، وأن ترضوا بحكم الديمقراطية كما رضي أصحاب النبي بعد عثمان رضي الله عنه بحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا ؟؟!!
هذه هي النتيجة التي يصل إليها طه حسين في ختام الجزء الأول، ويا لها من نتيجة مثبطة!!!!!!
أما الجزء الثاني من الكتاب (علي وبنوه)
فإنه أيضاً لم يخلُ من دسّ، معلناً فيه (انهزام) ! الخلافة على يد علي -رضي الله عنه- وموهماً القارئ أن الإسلام قد انسحب نهائياً من الحياة بهزيمة علي -رضي الله عنه-!! وأن المال قد استولى على النفوس !!!!!!!!
الخلاصة كما يقول الأستاذ غازي التوبة:
أن طه حسين "كتب (الفتنة الكبرى) مشككاً في حكم الخلافة الإسلامية الأول، وفي إمكانية استمراره، ناعياً على الإسلام افتقاره للنظام المكتوب، معلناً انبثاق مذهب جديد في السلطان يقوم على الجبر والقهر، مبيناً رضوخ المسلمين وارتضاءهم للمذهب الجديد، زاعماً انسحاب الإسلام من مختلف قطاعات الحياة وسيطرة المال والأثرة !!
كتب كل هذا :
قاصداً أن يقنع المسلمين بأن الحكومة الإسلامية
لا وجود لها بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام
(((( وهو نفس ما يردده غلمانه ولم يأتوا بجديد على فريته بل ظلوا كالببغاوات يرددو ويرددون دون أي إضافه وبجهل متقع كأن لكلمات عميد الإلحادالقداسة وللفكر الإسلامي الخضوع للتكذيب والمنطقية الوضعية والمادية الديالكتيكية الجدلية !!!!!!!!!!))))
وإن طبقت فلأمد محدود لا يتجاوز حياة عمر، ويعود نجاح التطبيق إلى إمكانات عمر الفردية فقط !!
كتب عميد الضلال كل هذا:(51/369)
هادفاً أن يُلطخ صورة الخلافة الوضاءة كي يصرف أنظار المسلمين عنها، وأن يثني عزائهم عن السعي إليها بتهويل الصعوبات، فالأمر يحتاج إلى أولي عزم. وأين أولو العزم من الناس ؟ !
ما هي الأسباب التي دفعته إلى الكتابة عن الإسلام؟
يكمن السبب في الوضع الداخلي لمصر، فقد بلغ المد الإسلامي فيها ذُروته العظمى في نهاية الأربعينيات وأوائل الخمسينيات باغياً إعادة تطبيق الإسلام في مجال الحكم، وإرجاع الخلافة الإسلامية إلى الوجود. وقد كتب طه -في اللحظة نفسها أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينيات -كي يُشكك هذا المد بعدم جدوى محاولته بالاستناد إلى تاريخ المسلمين نفسه"
أما كتاب (حديث الأربعاء)
فقد حاول طه فيه أن يصور للقارئ أن العصر العباسي كان عصر شك ومجون ودعارة وإباحية !!!!!!
معتمداً في ذلك على قصص أبي نواس وحماد عجرد والوليد بن يزيد ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك ووالبة بن الحباب وإبان بن مروان بن أبي حفصة وغيرهم من المجَّان!
وقد نقد هذا الكتاب (الماجن) كلٌ من:
الأديب إبراهيم المازني والأستاذ رفيق العظم.
إن أهم الأخطار التي ظللا يروج لها طه حسين هي:
أولاً:
قوله بالتناقض بين نصوص الكتب الدينية وبما وصل إليه العلم، وقوله: (إن الدين لم ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها) وهذه نظرية شاعت حيناً في الفكر الغربي تحت تأثير المدرسة الفرنسية التي يرأسها اليهودي (دوركايم).
ثانياً:
إثارة الشبهات حول ما سماه القرآن المكي والقرآن المدني، وهي نظرية أعلنها اليهودي (جولد زيهر) وثبت فسادها.
ثالثاً:
تأييده القائلين بتحريق العرب الفاتحين لمكتبة الإسكندرية وهي نظرية رددها المستشرق (جريفبني) في مؤتمر المستشرقين عام 1924.
رابعاً:
عَمِلَ على إعادة طبع (رسائل إخوان الصفا) وتقديمها بمقدمة ضخمة في محاولة لإحياء الفكر الباطني المجوسي الذي كان يحمل المؤامرة على الإسلام والدولة الإسلامية.
خامساً:
إحياؤه شعر المجون والغزل بالمذكر وكل شعر خارج عن الأخلاق سواء كان جنسياً أو هجاء، وقد أولى اهتمامه بأبي نواس، وبشار والضحاك في دراسات واسعة عرض فيها آراءهم وحلل حياتهم.
سادساً: ترجمة القصص الفرنسي المكشوف، وترجمة شعر بودلير وغيره من الأدب الأجنبي الإباحي الخليع.
سابعاً:
إثارة شبهة خطيرة عن أن القرن الثاني الهجري كان عصر شك ومجون.
ثامناً:
قدم فكرة فصل الأدب العربي عن الفكر الإسلامي كمقدمة لدفعه إلى ساحة الإباحيات والشك وغيرها وذلك باسم تحريره من التأثير الديني.
والآن يا سادتي الكرام نتوقف عند هذا الحد
لأحدثكم في الحلقة القادمة
((((((((( عن زيارات طائر الظلام للجامعة العبرية والجامعات الأمريكية والتبشيرية والمؤتمرات الإستشراقية وزياراته المتعدده لفلسطين المحتلة وقت قيام دولة الكيان الصهيوني ومحاضراته الدائمة هناك)))))))))))
وإنني لا أنسى أن أطالبكم مرات ومرات بنزع لقب عميد الأدب العربي ممن حارب الأدب العربي
وأن تنزعوا لقب قاهر الظلام ممن ساهم في صنع التطرف والإرهاب في أرض الإسلام
يقول الشيخ ابو اسلام احمد فى كتابه انبياء الفرعونية ص 14
اما طه حسين فيدعو الى قطع الجذور التاريخية وبتر الاصول التى تربط مصر الاسلامية كعقيدة روحية فيصف اهمية الانتماء الى هذه القومية الفرعونية فى كتابه (مستقبل الثقافة فى مصر) قائلا : انها اعتاق من الشرق الروحى ، لان ... التاريخ يحدثنا بان رضاء مصر عن السلطان العربى بعد الفتح لم يبرا من السخط ولم يخلص من المقاومة والثورة وبانها لم تهنا ولم تطمئن الا حين اخذت تسترد شخصيتها المستقلة فى ظل ابن طوبون ، ومن الخطر ان نلقى فى روح الشباب ، بُغض الحضارة الاوربية التى يعرفونها فتثبط همم وعزائمهم .
ومن نفس المصدر ص 63
يقول الشيخ ابو اسلام عن كتاب طه حسين العشر الجاهلى : هو عبارة عن طعن فى القصص القرآنى معتبرا انها من اساطير الاولين
ويقول الشيخ عن كتاب مستقبل الثقافة فى مصر : دعا المسلمين الى الاخذ بحضارة الغرب حبوها ومرها ما نريده منها وما لا نريده لان حضارة مصر الفرعونية فى حقيقتها جزء من حضارة البحر المتوسط
نفس المصدر ص 69
د. طه حسين : الذى لقب بعميد الادب العربى وهو الكاره الماقت للعروبة وعقيدتها الاسلامية تعلم تعليما ازهريا وكان تلميذا لاحمد لطفى السيد الذى ايده فى مهاجمة الازهر سافر الى فرنسا فى بعثة فتزوج من فرنسية وعاد بها من البعثة متبنيا الرؤية الغربية عموما ورؤية زوجته الفرنسية على وجه التخصيص سائرا على درب ديكارت الذى اتخذ من الشك وسيلة لليقين بكل شىء ، الا اليقين بكتاب الله الكريم والسنة النبوية .
وفى ص 81
يقول الشيخ : قبل سنوات كانت تدرس قصة (الشيخان) لطه حسين على طلاب الثانوية العامة وهى تعتمد على منهج الشك الديكارتى الذى نادى به طه حسين فى مناهج التاريخ بصفة عامة ، وهو تركز على الجانب الفرعونى برغم انها ترتدى ثوب التاريخ الاسلامى فعند الحديث عن الجانب الاسلامى فانه يتم التركيز حول الشخصية المصرية التى صاغت الدين ودافعت عنه .(51/370)
الى جانب ان التاريخ النصرانى اصبح مقررا فى المناهج باعتباره جزءا من اطار الشخصية الفرعونية القديمة .
طه حسين .. رائد التغريب ..! للشيخ / محمد بن إسماعيل المقدم
في يناير 1950م: حمل "حسين سري" (رئيس الديوان) إلى الملك "فاروق" مشروع التشكيل الوزاري الذي سلمه إليه "مصطفى النحاس" رئيس حزب الوفد, أخذ الملك في مراجعته, ولما بلغ اسم "طه حسين" قال فاروق: (مستحيل مستحيل أنتم لا تعرفون خطورة هذا الرجل)
وقال أيضاً: (من المحال أن أوافق على أن يكون وزيراً للمعارف بالذات مستحيل), وتدخل "كريم ثابت" الصليبي وأقنع الملك بالعدول عن موقفه.
فمن هو ذلك الرجل الذي أشفق الطاغية "فاروق" من خطره؟
لعل أغلب أبناء هذا الجيل طرق أسماعهم اسم "طه حسين" الموصوف زوراً بأنه "عميد الأدب العربي", وتخليوه -من جراء الدعاية المسلطة على عقولهم- الرجل المسلم الوقور, تحيطه هالة من الشهرة المدوية, والتاريخ الحافل بالأمجاد.
إن من الواجب على أبناء اليقظة الإسلامية المعاصرة أن يمحصوا حقيقة ذلك الرجل, حتى لا ينخدعوا بالدعايات الكاذبة التي تملأ الآفاق مدحاً في "طه حسين", وتمجيداً له, في حين أنه كان صنيعة لأعداء الإسلام, وداعية للتبعية المطلقة للمدنية الغربية بكل مفاسدها وشرورها.
إن "طه حسين" مسئول عن كثير من مظاهر الفساد والتحلل التي ينوء بها المجتمع اليوم, ولقد خاض معركة بل معارك من أجل "تسميم" الآبار الإسلامية, وتزييف مفهوم الإسلام والتاريخ الإسلامي, معتمداً على سياسة المستشرقين في التحول من المهاجمة العلنية للإسلام إلى خداع المسلمين بتقديم طُعْم ناعم في أول الأبحاث ثم دس السم على مهل متستراً وراء دعوى "البحث العلمي" و"حرية الرأي" !!
وليس المقام مقام (الترجمة) لطه حسين, ولكنه مقام التنبيه إلى دوره الخطير في محاربة الإسلام وتهديد حصونه من داخلها, ثم سرد مقتطفات من أقواله وأفعاله التي تبين مدى حقده على هذا الدين وعلى هذه الأمة, لا أجد أصدق في التعبير عن ذلك من حكم أستاذه "التلمودي" المستشرق "ماسينيون"عليه.
فقد قال الدكتور زكي مبارك: (وقف المستشرق ماسينيون, يوم أديت امتحان الدكتوراه فقال: إنني أقرأ بحثاً لطه حسين أقول: "هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا" (1 ) أهـ, وهاك أمثلة من أقواله الكفرية, ومواقفه الإبليسية:
1-فمن ذلك: تكذيبه القرآن المجيد وسائر الكتب السماوية في قوله:
(للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل, وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً, ولكن ورد هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القضية التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة, ونشأة العرب المستعربة ونحن مضطرون أن نرى في هذه القضية نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة, وبين الإسلام واليهود, والقرآن والتوراة من جهة أخرى) اهـ.
2-ومن ذلك قوله: (إن القرآن المكي يمتاز بالهروب من المناقشة والخلو من المنطق) تعالى الله عما يقول الملحدون علواً كبيراً.
3-ومن ذلك قوله: (ظهر تناقض كبير بين نصوص الكتب الدينية, وبين ما وصل إليه العلم) وقوله: (إن الدين لم ينزل من السماء, وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها), (إن الدين حين يقول بوجود الله ونبوة الأنبياء يثبت أمرين لا يعترف بهما العلم) اهـ.
4-ومن ذلك قوله: (إن الفرعونية متأصلة في نفوس المصريين, وستبقى كذلك بل يجب أن تبقى وتقوى, والمصري الفرعوني قبل أن يكون عربياً, ولا يطلب من مصر أن تتخلى عن فرعونيتها, وإلا كان معنى ذلك: اهدمي يا مصر أبا الهول والأهرام, وانسي نفسك واتبعينا, ولا تطلبوا من مصر أكثر مما تستطيع أن تعطي, مصر لن تدخل في وحدة عربية سواء كانت العاصمة القاهرة أم دمشق أم بغداد, وأؤكد قول أحد الطلبة القائل: "لو وقف الدين الإسلامي حاجزاً بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه" ) اهـ.
5-ومنه قوله في مجلة "كوكب الشرق" (12 أغسطس 1933):
(لم أكن في اللجنة التي وضعت الدستور القديم, ولم أكن بين الذين وضعوا الدستور الجديد, ولم يستشرني أولئك وهؤلاء في هذا النص الذي اشتمل عليه الدستوران جميعاً, والذي أعلن أن للدولة المصرية ديناً رسمياً هو الإسلام, ولو قد استشارني أولئك وهؤلاء لطلبت إليهم أن يتدبروا, وأن يتفكروا قبل أن يضعوا هذا النص في الدستور) اهـ.
6-ومن ذلك أنه دعا طلاب كلية الآداب إلى اقتحام القرآن في جرأة, ونقده بوصفه كتاباً أدبياً يقال فيه: هذا حسن, وهذا (كذا) تعالى الله عن زندقته علواً كبيراً, فقد حكى عنه (عبد الحميد سعيد) قوله: (ليس القرآن إلا كتاباً ككل الكتب الخاضعة للنقد, فيجب أن يجرى عليه ما يجرى عليها, والعلم يحتم عليكم أن تصرفوا النظر نهائياً عن قداسته التي تتصورونها, وأن تعتبروه كتاباً عادياً فتقولوا فيه كلمتكم, ويجب أن يختص كل واحد منكم بنقد شيء من هذا الكتاب, ويبين ما يأخذه عليه)(2 ) اهـ.(51/371)
7-ومن ذلك: حملته الشديدة على الأزهر الشريف وعلمائه الأفاضل, ورميهم جميعاً بالجمود, وحثه على (استئصال هذا الجمود, ووقاية الأجيال الحاضرة والمقبلة من شره) على حَدِّ تعبيره.
8-ومن ذلك أيضاً تشجيعه لحملة (محمود أبو رية) على السنة الشريفة, ومن ذلك أيضاً تأييده لـ (عبد الحميد بخيت) حين دعا إلى الإفطار في رمضان, وثارت عليه ثائرة علماء المسلمين.
9-ومنه: مطالبته بإلغاء التعليم الأزهري, وتحويل الأزهر إلى جامعة أكاديمية للدراسات الإسلامية, وقد أطلق عليها (الخطوة الثانية) وكانت "الخطوة الأولى" هي إلغاء المحاكم الشرعية التي هلل لها كثيراً.
10-قوله: (خضع المصريون لضروب من البغي والعدوان جاءتهم من الفرس والرومان والعرب أيضاً) اهـ.
11-ومن ذلك أنه أعاد خلط الإسرائيليات والأساطير إلى السيرة النبوية بعد أن نقاها العلماء المسلمون منها, والتزيد في هذه الإسرائيليات والتوسع فيها.
12-ومن ذلك: حملته على الصحابة رضي الله عنهم, وعلى الرعيل الأول من الصفوة المسلمة, وتشبيههم بالسياسين المحترفين الطامعين في السلطان - وحاشهم رضي الله عنهم- وذلك في محاولة منه لإزالة ذلك التقدير الكريم الذي يكنه المؤرخون المسلمون لصحابة رسول ا صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنهم.
13-ومن ذلك: عمله في إعادة طبع رسائل " إخوان الصفا" وتقديمها بمقدمة ضخمة في محاولة إحياء هذا الفكر الباطني المجوسي المدمر, وإحياؤه شعر المجون والفسق, والحديث عن شعرائهما بهالة من التكرم كأبي نواس وبشار وغيرهم, وكذا ترجمة القصص الفرنسي الإباحي الماجن, وطعنه في ابن خلدون والمتنبي وغيرهم.
14-ومن ذلك قوله: (أريد أن أدرس الأدب العربي كما يدرس صاحب العلم الطبيعي علم الحيوان والنبات, ومالي أدرس الأدب لأقصر حياتي على مدح أهل السنة, وذم المعتزلة, من الذي يكلفني أن أدرس الأدب لأكون مبشراً للإسلام, أو هادماً للإلحاد) اهـ.
15-ومنه قوله: (إن الإنسان يستطيع أن يكون مؤمناً وكافراً في وقت واحد, مؤمناً بضميره وكافراً بعقله, فإن الضمير يسكن على الشيء, ويطمئن إليه فيؤمن به, أما العقل فينقد ويبدل ويفكر أو يعيد النظر من جديد, فيهدم ويبني, ويبني ويهدم) اهـ.
16-ومن ذلك قوله : (علينا أن نسير سيرة الأوربيين, ونسلك طريقهم, لنكون لهم أنداداً, فنأخذ الحضارة خيرها وشرها, وحلوها ومرها, وما يُحَبُّ منها وما يكره, وما يحمد منها, وما يُعاب)اهـ.
17-ومن ذلك قوله في تصوير سر إعجابه "بأندريه جيد": (لأنه شخصية متمردة بأوسع معاني الكلمة وأدقها, متمردة على العرف الأدبي, وعلى القوانين الأخلاقية, وعلى النظام الاجتماعي, وعلى النظام السياسي, وعلى أصول الدين), وذكر أنه يحب "أندريه جيد" ويترسم خطاه, ويصور نفسه من خلال شخصيته.
18-ومن ذلك: وصفه لوحشية المستعمرين الفرنسيين وقسوتهم في معاملة المسلمين المغاربة: بأنها (معاناة ومشقة في سبيل الحضارة الفرنسية والمدنية على تلك الشعوب المتوحشة التي ترفض التقدم والاستنارة).
19-ومن ذلك: استقدامه لبعد المستشرقين المحاربين لله ورسوله الطاعنين في القرآن الكريم لإلقاء محاضرات حول الإسلام في الجامعة المصرية لتشكيك الطلاب في القرآن والإسلام.
20-ومن ذلك: تشجيعه تيار التبشير في الجامعة, وحينما اكتُشف هذا المخطط التبشيري قال: (ما يضر الإسلام أن ينقص واحداً, أو تزيد المسيحية واحداً) وعندما تكشف أن هناك كتباً مقررة في قسم اللغة الإنكليزية تتضمن هجوماً على الإسلام ورسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام قوي, ولا يتأثر ببعض الآراء) واكتفى بهذا, في حين ترك للأساتذة الإنكليز مطلق الحرية في هذا العمل.
21-ثم عمد "طه حسين" إلى إخراج كل من له رأي أو أصالة من كلية الآداب, واستبقى أعوانه الذين سار بهم إلى الطريق الذي رسمه, وأعانه على ذلك "لطفي السيد" الذي كان مديراً للجامعة, وفي نفس الوقت تابعاً لخطط "طه حسين", وخاصة في خطة إنشاء معهد "التمثيل والرقص الإيقاعي", ودعوة الطالبات إلى الاختلاط, وتحريضهن على ذلك, ومعارضة الجبهة المسلمة التي حاولت أن تدعو إلى الدين والأخلاق, وهكذا تحولت الجامعة إلى مجتمع متحلل من قيود الأخلاق الإسلامية, فأقيمت حفلات رسمية في دار الأوبرا خليت لها الراقصات المحترفات, ومن ثم عرفت حفلات الرقص والسمر في البيوت مما قصت أخباره بعض الخريجات وغيرها, والرحلات المشتركة, وما كان يجرى في اتحاد الجامعة, ورابطة الفكر العالمي من محاضرات مادية إلحادية, ومقطوعات فرنسية على البيانو, وروايات تمثيلية تقوم على الحب والغرام.. وقد وصل الأمر إلى حد أن أحد الأساتذة "الأجانب" ضاق ذرعاً بذلك الفساد فكتب يقول: " إن خليق بالجامعة أن تمثل المثل الأعلى - "يعني للطلاب"- لا أن تمثل فيهم دور السكير) !.
وكان " طه حسين " يرعى ذلك ويقول: (إن هذا النوع من الحياة الحديثة لن يمضي عليه وقت طويل في مصر, حتى يغير العقلية المصرية تغييراً كبيراً ).(51/372)
22-وتتابعت خطوات "طه حسين" في كلية الآداب في سبيل خطته, فأقام حفلاً لتكريم "رينان" الفيلسوف الفرنسي الذي هاجم الإسلام أعنف هجوم, ورمي المسلمين والعرب بكل نقيصة في أدبهم وفكرهم, وكذلك جعل "طه حسين" الشعار الفرعوني هو شعار الجامعة, وقد لقى من ذلك كله معارضة شديدة وخصومة واسعة وصلت إلى كل مكان في البلاد العربية, وأرسل إليه الأستاذ "توفيق الفكيكي" من العراق برقية قال فيها: "إن شعاركم الفرعوني سيكسبكم الشنار, وستبقى أرض الكنانة وطن الإسلام والعروبة برغم الفرعونية المندحرة".
23-وذكرت مجلة "النهضة الفكرية" في عددها الصادر في 7 نوفمبر 1932: (أن الدكتور "طه" تعمد في إحدى كنائس فرنسا, وانسلخ من الإسلام من سنين في سبيل شهوة ذاتية)( 3).
صراع حركة اليقظة مع " طه حسين":
ولقد هوجم (طه حسين) منذ اليوم الأول إلى اليوم الأخير, لم تتوقف حركة اليقظة عن متابعته وكشف شبهاته وتزييف آرائه, ودحر مخططه, ولكنه مع كل ذلك كان يقبض الثمن, ويكافأ بكل إصرار على خدماته لأعداء الإسلام, فلقد ظل يترقى في المناصب رغم الحملات التي شنها عليه علماء الإسلام في كافة البقاع الإسلامية, ظل يترقى في مخطط مرسوم من أستاذ إلى عميد إلى مدير جامعة إلى مستشار فني إلى وزير, وظل حتى اللحظات الأخيرة من حياته مشرفاً على اللجنة الثقافية في الجامعة العربية ورئيساً لمجمع اللغة العربية, وله نفوذه الواسع في وزارة المعارف والجامعات وذلك مصداق قول "هاملتون جب" المستشرق:
(سواء قوبلت آراء "طه حسين" بالموافقة أم لم تقابل, فلابد أن يقضي نفوذه الواسع الذي يتمتع به إلى توطيد المبادئ التي يدعو إليها) اهـ.
وقال المستشرق "كاممفاير":
(إن المحاولة الجريئة التي قام بها "طه حسين" ومن يشايعه في الرأي لتخليص دراسة العربية من شباك العلوم الدينية هي حركة لا يمكن تحديد آثارها على مستقبل الإسلام) اهـ.
بل قال هو عن نفسه: (إنني أفكر بالفرنسية, وأكتب بالعربية) اهـ.
وفي تقرير خطير يصف المكر اليهودي الأمريكي لإبادة الجيل المسلم, وبصورة مكشوفة يطالب التقرير بوجوب الإفادة من آراء "طه حسين" ومؤلفاته.
{ وقد دعا التقرير إلى وجوب تأليف "لجنة مكافحة الإسلام تنبع من وكالة الأمن القومي الأمريكي, وقد استعانت هذه اللجنة بعدة شخصيات منها نائب ما يسمى ب (البابا) المسؤول عن التبشير مع الجمعيات الدينية, كما استعانت بتقرير الإدارة البريطانية وغيرها من تقارير الدول الاستعمارية في الغرب والشرق.
وقد جاء في توصيات اللجنة السابقة بالحرف الواحد:
"وجوب تسليط الدعاية والإعلام على مجددي الدين المزعومين كطه حسين وأمثاله" }( 4)اهـ.
هذا وقال الأستاذ الشيخ "عبد ربه مفتاح" من علماء الأزهر في مقالة نشرها الكوكب, مخاطباً "طه حسين" : (وكيف تزعم أيُّها الدكتور أن "بعض" العلماء أثار هذا الأمر-أمر كفرك- وهاأنذا أصرح لك- والتبعة في ذلك عَليَّ وحدى- بأن العلماء أجمعين وعلى بكرة أبيهم يحكمون عليك بالكفر, وبالكفر الصريح الذي لا تأويل فيه ولاتجوُّز, واتحداك, وأطلب منك إلحاح أو رجاء أن تدلني على واحدٍ منهم "وواحد فقط" يحكم عليك بالفسوق والعصيان دون الكفر, أجل إني وأنا من بينهم أتهمك بالكفر, وأتحمل تبعة هذا الإتهام, وعليك تبرئة نفسك من هذا الإتهام الشائن, والمطالبة بما لَكَ من حقوق نحوي)(5 ) اهـ.
وأخيراً: فهذه لمحة خاطفة عن "طه حسين" الرجل الذي تشهد كتبه بأنه لم يكن إلا بوقاً من أبواق الغرب, وواحداً من عملائه الذين أقامهم على حراسة السجن الكبير, يروِّج لثقافاته, ويعظمها, ويؤلف قلوب العبيد ليجمعهم على عبادة جلاديهم, (ويوطد دعائم الود والتفاهم بين الحمار وراكبه, وهي دعائم تفيد الراكب دائماً, ولا تفيد الحمار!)( 6).
كيف واجه المسلمون مؤمرات "طه حسين" ؟أصر (طه حسين) على استبقاء كتب (برناردشو) وغيره التي تهاجم الإسلام في كلية الآداب بحجة أن الإسلام قوي ولن يتأثر بهذا الرأي أو ذاك.
سرت عند ذلك روح الغيرة الإسلامية عند الطلاب, فقاومت مؤمرات (طه حسين) على الإسلام, وحاصرته في مكتبة بكلية الآداب, وكادت تفتك به لولا أن أنقذه بعض الخدم فهرب -واعتكف كمقدمة لخروجه من كلية الآداب.
وأحرق الشباب العربي في الشام كتب (طه حسين) في ميدان عام في العاصمة دمشق, ووصفه العلماء بالإلحاد والزندقة.
وقام بعض تلامذته الذين استيقظ فيهم الشعور بالكرامة والعزة الإسلامية وكشفوا حقيقته بفضح أهدافه, وكشف تزويره وسرقته من كتب المؤلفين الغربيين.(7 )
وتصدى له عشرات العلماء والدعاة والمفكرين لعدوانه المتكرر على حرمات الإسلام, وفضحوا مؤامراته على الإسلام, ومن ذلك المقالة التالية:
بين "حسن البنا" و "طه حسين" :
فقد عقد الأستاذ "حسن البنا" رحمه الله فصلاً في مجلة "التعارف" تحت عنوان: " إذا كان هذا صحيحاً يا دكتور فقد اتفقنا".
كان مما جاء فيه بصدد قضية "الاختلاط" :(51/373)
( وهل من الدعوة الإسلامية يا دكتور أن تخلط بين الفتيان والفتيات هذا الخلط في كلية الآداب فتحذو حذوها غيرها من الكليات, وتبوء أنت بإثم ذلك كله؟ وتريد للفتيات في صراحة هذا الاختلاط, وتحثهن عليه, وتدعوهن إليه, ولا تقل إن هذا من عمل غيرك, فيداك أوكتا, وفوك نفخ, وما تحمس لهذا, ودعا إليه, وحمل لواءه, واستخدم نفوذه في تحقيقه أحد كما فعلت ذلك أنت, ولعلك تعتبر هذا من مآثرك ومفاخرك, ولكني أخالفك يا دكتور, وأصارحك بأن هذا الاختلاط ليس من الإسلام, وقد رأينا -وسترى- ما كان وما سيكون له من آثار) اهـ.
وقالت (درية شفيق): (في سنة 1932م ظهرت صورة للدكتور "طه حسين" بك في نادي الجامعة وعلى يمينه ويساره الطلبة والطالبات جلوساً يتناولون الشاي, وقامت القيامة لهذه الصورة البريئة التي تضرب المثل للأبوة في وجود العميد و"الأخوة" ! في جلسة الطلبة والطالبات, واتخذت الصورة تكأة يتخلص بها الرجعيون من (طه حسين) و (لطفي السيد), ووقف الرجعيون في مجلس النواب يحملون على الجامعة ورجالها فكرة تعليم البنات فيها, ويرون ذلك فضيحة من الفضائح يجب أن تحول دونها الحكومة)( 8) اهـ.
وفي غرة المحرم 1356هـ (الموافق 14 مارس 1937م) زحف موكب كبير من طلبة الجامعة المصرية والأزهر ودار العلوم يزيد على أربعة آلاف نسمة, ومن خلفهم أضعاف أضعافهم من ولاة أمور الطلاب, واتجه الموكب إلى قصر الأمير (محمد علي) رئيس مجلس الوصاية مطالبين بتعميم التعليم الديني والتربية الإسلامية في جميع أدوار التعليم إلى نهاية درجته العليا, وفصل الشابات عن الشبان في الجامعة المصرية كما هو الحال في أدوار التعليم التي قبل الجامعة, والاهتمام بالتربية بقدر الاهتمام بالتعليم)(9 )هـ.
وانبرى الأديب الكبير (مصطفى صادق الرافعي) يبارك مطالب شباب الجامعة التي تجاوبت بها أصداء البلاد, ويرد على "طه حسين" وأشياعه تحت عنوان:
إلى شباب الجامعة( 10)
(حياكم الله يا شباب الجامعة المصرية, لقد كتبتم الكلمات التي تصرخ منها الشياطين, كلمات لو انتسبن لانتسبت كل واحدة منهن إلى آية مما أنزل به الوحي في كتاب الله.
فطلب تعليم الدين لشباب الجامعة ينتمي إلى هذه الآية: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ? الأحزاب (33)
وطلب الفصل بين الشباب والفتيات ويرجع إلى هذه الآية: ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ? الأحزاب (53)
يريد الشباب مع حقيقة العلم وحقيقة الدين, فإن العلم لا يعلم الصبر ولا الصدق ولا الذمة, يريدون قوة النفس مع قوة العقل, فإن القانون الأدبي في الشعب لا يضعه العقل وحده, ولا ينفذه وحده.
ويريدون قوة العقيدة حتى إذا لم ينفعهم في بعض شدائد الحياة ما تعلموه نفعهم ما اعتقدوه...
لا ... لا ... , يارجال الجامعة ! إن كان هناك شيء اسمه حرية الفكر فليس هناك شيء اسمه حرية الأخلاق.
وتقولون: أوربا وتقليد أوربا؟ ونحن نريد الشباب الذين يعملون لاستقلالنا لا لخضوعنا لأوربا.
وتقولون: إن الجامعات ليست محل الدين, ومن الذي يجهل أنها بهذا صارت محلاً لفوضى الأخلاق؟
وتزعمون أن الشباب تعلموا ما يكفي من الدين في المدارس الإبتدائية الثانوية, فلا حاجة إليه في الجامعة.
أفترون الإسلام دروساً ابتدائية وثانوية فقط؟ أم تريدونه شجرة تغرس هناك لتقلع عندكم؟ (11) اهـ.
====================
الهوامش :
(*)استفدت فقرات هذا الفصل من (طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام) للأستاذ "أنور الجندي) بتصرف, وانظر: (محاكمة فكر طه حسين) له أيضاً.
(1)(زكي مبارك) للأستاذ أنور الجندي ص (132).
(2)من " طه حسين" لأنور الجندي ص (229).
(3)انظر ما قيل حول تنصره في "طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام" للأستاذ " أنور الجندي" ص (73-74).
(4)(طه حسين في ميزان العلماء والأدباء) للأستاذ محمود مهدي الاستانبولي, نقلاً عن مجلة (حضارة الإسلام) ع: (4420) بين 1391 (1919).
(5)السابق- ص (552).
(6)انظر : (حصوننا مهددة من داخلها) ص (101) - الطبعة السابعة.
(7)انظر "طه حسين" للأستاذ "أنور الجندي" ص (79).
(8)يقصد الشيخ "حسن البنا" رحمه الله بكلمة (هذا) الإشارة إلى قول "طه حسين" في حفل تكريم أقيم له: (وأتمنى أن يقيض الله للإسلام من يدافع عنه, كما أدافع عنه, وأن ينشره ويحببه للناس كما أبشر به أنا, وكما أحبب مبادئه للناس) اهـ ! وانظر "طه حسين" للأستاذ "أنور الجندي" ص (85-89).
(9)من " تطور النهضة النسائية في مصر" ص (72).
(10)"إهابة" للكاتبة "عزيزة عباس عصفور" ص (128, 133), وقد كان لهذه المطالب صدى واسع لدى المؤيدين والمعارضين, وفي هذا الكتاب "إهابة" جمعت الكاتبة النشرات والمقالات التي باركت تلك الحركات الإسلامية الطلابية, فراجعه إن شئت.
(11)"وحي القلم" (3/184-188) تحت عنوان: (قنبلة بالبارود لا بالماء المقطر), وانظر (إهابة) لعزيزة عباس عصفور ص(78-80) .
* المرجع ( عودة الحجاب ) .
نظرية طه حسين فى الشعر الجاهلى: سرقة أم ملكية صحيحة؟
بقلم : د. إبراهيم عوض(51/374)
ما زلتُ أذكر تلك المحاضرة التى كنت ألقيها بين العصر والمغرب فى أحد الأيام من خريف سنة 1989م على طلاب قسم اللغة العربية وآدابها فى كلية الآداب بجامعة عين شمس بالقاهرة حين قام طالبٌ ممن يُسْعِدون أساتذتَهم بمناقشتهم فيما يقولون ولا يكتفون بالسماع السلبى القاتل، فعلَّق على ما كنتُ كتبتُه عن الدكتور طه حسين فى كتابى "معركة الشعر ا لجاهلى بين الرافعى وطه حسين" قائلا: يبدو لى أنك قد ظلمتَ الدكتور طه فى اتهامك إياه بأنه أخذ نظريته التى تشكك فى الشعر الجاهلى وشعرائه من المستشرق البريطانى ديفيد صمويل مرجليوث. وكعادتى فى مثل تلك الظروف توقفت قليلا وأنا أبتسم للطالب قبل أن أرد عليه بما يشبه الإلهام: "غريبة! كيف فاتنى أن أرجع لما كتبه الدكتور طه فى كتابه "قادة الفكر" عن الشاعر الإغريقى هوميروس صاحب الإلياذة قبل أن أضع كتابى هذا؟ ثم أردفت قائلا: أرجو منك أن تنزل الآن فتستعير ذلك الكتاب من مكتبة الكلية وتحضره لى حتى نستكمل النقاش فى مكتبى، إذ يغلب على ظنى أن طه حسين قد تطرق إلى الحديث عن الشعر الجاهلى فى أول فصول ذلك الكتاب الذى كنت قرأته من زمن غير قريب، وأريد أن أرى ماذا قال فى ذلك الموضوع. ولم يكذّب الطالب خبرا، فما إن انتهت المحاضرة وعدت إلى مكتبى وبرفقتى بعض الطلاب المتحمسين لمتابعة النقاش حتى وجدته ينتظرنى وفى يده الكتاب المستعار. فشكرته وأخذته منه وشرعت أقلب صفحات الفصل المشار إليه، ولم يطل بنا الانتظار، فقد وقعتُ على نصٍّ مهمٍّ جدا للدكتور طه يقول فيه إنه ما كانت الحضارة الإسلامية، التى ظهر فيها مَنْ ظهر مِنَ الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال، لِتُوجَد لو لم توجد البداوة العربية التى سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة والأعشى وزهير وغيرهم من الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم. هكذا بالنص على ما سوف يأتى بيانه. فأريتُ النصّ للطلاب ثم شفعتُ ذلك، وأنا أضحك، بسؤال الطالب الذى فجَّر المسألة قائلا: "أوما تزال عند اتهامك لى بأنى ظلمت طه حسين؟ إن هذا الكتاب، كما يتضح من مقدمته، قد صدر قبل ظهور البحث الذى وضعه مرجليوث عن الشعر الجاهلى بأسابيع قليلة جدا جدا مما يدل على أن الدكتور طه لم يكن، حتى ظهور دراسة مرجليوث، يشك أدنى شك فى صحة الشعر الجاهلى أو فى وجود شعرائه. ثم إنه لم يكتف بذلك، بل ها هو ذا يؤكد أنه لولا وجود ذلك الشعر ما وُجِدت الحضارة الإسلامية. وهو كلام كبير وخطير!".
وبعدها بقليل فوجئت بالأستاذ عبد الرشيد صادق محمودى (الذى كنت قد رددتُ عليه فى كتابى المذكور بأن الدكتور طه لا يمكن أن يكون قد استقى شكه فى الشعر الجاهلى من الكاتب الفرنسى إرنست رينان كما يدَّعِى هو) فوجئت به يكتب فى شهر سبتمبر بـ"الأهرام" ثلاث حلقات يتناول فيها ما قلته عنه معزِّزًا رأيه السابق فى الموضوع ببراهينَ ظنَّها مفحمة مما دفعنى إلى التعليق على ما كتب، مستشهدا فى تعليقى، ضمن ما استشهدتُ، بما قرأته مع طلابى من كلام الدكتور طه فى كتابه "قادة الفكر"، ثم أرسلتُ الجزءَ الأول من هذا التعليق للصحيفة مع أحد الأشخاص، لكن الرسول عاد وأخبرنى، والعهدة عليه، بأنه قد فهم من كلامهم أنهم لا ينوون أن ينشروا ما بعثتُ به إليهم. وكنت أستعد فى ذلك الحين للسفر إلى السعودية مُعَارًا إلى جامعة أم القرى بالطائف فانشغلت بتجهيز أوراق السفر وما إلى ذلك عن متابعة الأمر. وها هى ذى السنون تدور، ويثير الإخوان الكرام فى جريدة "شباب مصر" هذه القضية فأجدها فرصة سانحة لمحاولة نشر ما كنت كتبته آنذاك بعد أن حصلت، بشق الأنفس من خلال البريد المشباكى، على مسوَّدة الجزء الثانى منه (مسوَّدة الجزء الثانى فقط، لا النسخةَ المنقَّحةَ من المقال كله)، وهى فى حال يُرْثَى لها من التهويش والتفكك بعد ذلك الزمن الطويل.(51/375)
وتدور نظرية عبد الرشيد الصادق محمودى على أن إفادة طه حسين الرئيسية فيما يتعلق بشكّه فى الشعر الجاهلى مستلهَمة من المستشرق الفرنسى إرنست رينان، الذى يؤكد الأستاذ المحمودى أن الدكتور طه كان على علم، قبل أن يضع كتابه "فى الشعر الجاهلى" بسنوات طويلة، بما كتبه هو ورصفاؤه الألمان عن ذلك الشعر (انظر مقاله "منابع ألمانية وفرنسية لشكوك العميد" بالصفحة الثقافية من "أهرام" الجمعة 8 سبتمبر 1989م). والأستاذ المحمودى يريد، فيما هو واضح، أن يخفف من التفاف الحبل حول عنق طه حسين. إنه لا ينفى إفادته من كتابات المستشرقين، لكنْ فرقٌ بين إفادةٍ وإفادة: فطه حسين، فى حالة ثبوت الإفادة من مرجليوث، سارقٌ سرقةً لا يمكن أبرعَ المحامين أن يبرِّئ ساحته منها، أما فى حالة الإفادة من رينان فلن يكون الأمر أمر سرقة، فرينان لا ينكر الشعر الجاهلى، بل تنحصر الإفادة فى أن طه حسين قد استخدم الفكرة التى وجدها عنده حسبما قال، لأنى لم أَطَّلِع بنفسى على الدراسة المذكورة (وهى أن ذلك الشعر لا يعكس اختلاف اللهجات العربية فى الجاهلية ولا يقدّم لنا صورة الحياة الدينية أوانذاك) استخدمها فى نقض الشعر الجاهلى، وعلى هذا فإنه رغم إفادته منه يبقى مفكرًا أصيلاً لا يردِّد آراء غيره. أى أن طه حسين هو ابنُ بَجْدَتها، أو على الأقل صاحب مشاركة أصيلة فى الأمر لا سارقٌ يسطو على أفكار الآخرين. وهذا هو مربط الفرس!
وقد أصدر رينان كتابه "Histoi r e Gene r ale et Systeme Compa r e des Langues Semitiques "، الذى تعرَّض فيه للشعر الجاهلى فى 1853م (بالنسبة للجزء الأول)، و1869م (للجزء الثانى)، كما عَرَض رينيه باسيه آراءَ المستشرقين الألمان حول ذلك الموضوع فى كتابه عن "الشعر العربى قبل الإسلام" عام 1880م (انظر، فى تاريخ صدور الكتابين، نجيب العقيقى/ المستشرقون/ ط3/ دار المعارف/ 1964م/ 1/ 202، 223. كما يجد القارئ ترجمة لهذه الأبحاث وغيرها من الأبحاث المشابهة فى كتاب د. عبد الرحمن بدوى: "دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلى"). وبالمناسبة فهاتان الحجتان، أو قل: هاتان الشبهتان، لا تصمدان للنظر، فنحن العرب الآن مثلا نتكلم فى حياتنا اليومية اللهجات العامية المختلفة التى كثيرا ما يتعسّر فهمها على غير أصحابها، لكننا حين نكتب نصطنع اللغة الفصحى التى يفهمها الجميع، ولا تعارض بين هذا وذاك، ولا يمكن أن يأتى باحث بعد عدة مئات من السنين فينفى صحة هذا التراث العلمى والأدبى الضخم بحجة أنه لا يعكس ما كنا نتخاطب به من لهجات. ويؤكد هذا أنه سبحانه وتعالى قد وصف القرآن الكريم فى أكثر من موضع منه بأنه نزل بـ"لسانٍ عربىٍّ مبين"، ولم يقل: "بلسانٍ قرشىٍّ أو حجازىٍّ" مثلا، وهذا يعنى أنه كان هناك لسانٌ قومىٌّ للعرب جميعا يتواصلون به رغم اختلاف القبائل واللهجات. كما أن القول بخلو الشعر الجاهلى من الموضوعات الدينية هو دعوى غير صحيحة. وحتى لو كانت صحيحة فليس معنى ذلك أن هذا الشعر مزيَّف، فأقصى ما يمكن أن يقال فيه حينئذ أنه شعر ناقص لا أنه شعر زائف. هذا هو حكم المنطق، ولكن خّلِّنا فيما نحن فيه، فذلك موضوع آخر!
وأريد الآن أن أتتبع أفكار رينان والمستشرقين الألمان فيما كتبه المؤلفون المصريون والمتمصِّرون الذين تناولوا ذلك الشعر حتى أخرج طه حسين كتابه المذكور وكانوا متصلين بكتابات المستشرقين وبيئاتهم كى نعرف مدى انتباه النقاد ورجال الأدب لهذه الأفكار واهتمامهم بها. وأقدم هؤلاء، فيما نعرف، حسن توفيق العدل (1862- 1904م)، الذى كان من أوائل المبعوثين إلى ألمانيا لدراسة الآداب والتربية بجامعاتها، والذى اختاره الألمان للتدريس بالمدرسة الشرقية ببرلين، ثم حاضر بعد ذلك فى كمبردج سنة 1903م، وظل هناك حتى سنة 1904م. وقد كتب العدل "تاريخ آداب اللغة العربية" وطبعه على البالوظة عام 1904م، وتوجد منه نسخة مخطوطة بدار الكتب. فإذا ما قرأنا ما كتبه عن الشعر الجاهلى راعَنا أنه لم يكن يدور بذهنه أى شك فى ذلك الشعر مع أنه عاشر المستشرقين فى أوربا طالبا وأستاذا رَدَحًا من الزمن كما رأينا. وبالنسبة للنقطة الخاصة بلغة الشعر الجاهلى نراه يقول بأن أصحابه كانوا يستعملون لهجة قريش لكونها لغة العرب الأدبية ولحرصهم على شيوع شعرهم بين القبائل العربية جميعا (انظر عبد الحى دياب/ التراث النقدى قبل مدرسة الجيل الجديد/ دار الكاتب العربى/ القاهرة/ 1968م/ 90- 93، ود. عبد العزيز الدسوقى/ تطور النقد العربى الحديث فى مصر/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/1977م /183- 186).(51/376)
ولدينا كذلك سليم البستانى مُعَرِّب الإلياذة الذى كتب مقدمة ضافية لها عرض فيها للشعر الجاهلى وقرر وثاقة الطريقة التى انتقل بها، ومن ثم فذلك الشعر منذ المهلهل بن ربيعة صحيح لديه، وإن لم يخل بعضه من النقد والشبهات (وهذا نص عبارته). وبالمثل نراه يقرِّر أن العرب، وإن اختلفت لهجاتهم، كانوا يؤلفون شعرهم ونثرهم بلهجة قريش لأنها أفصح اللهجات، فضلا عن أن سدانة هذه القبيلة للكعبة كَتَب للهجتها السيادة. كما أكد أن الشعر الجاهلى يصور الحياة العربية فى ذلك الوقت أدق تمثيل (انظر ترجمته للإلياذة/ مطبعة الهلال/ 1904م/ 107،111، 120- 121). ومن هذا يتضح لنا أنه لا يوجد أى انعكاس لشكوك المستشرقين فيما كتب البستانى عن ذلك الشعر. بل إنه لم يذكر أيًّا منهم، اللهم إلا رينان، وفى معرض الثناء على شعر هوميروس مما لا علاقة له بقضية الشك فى الشعر الجاهلى البتة (ص24). والملاحَظ أنه كان مطمئنا تمام الاطمئنان للشعر الجاهلى فى ذات الوقت الذى كان يعى فيه أن بعض الدارسين الغربيين فى أواخر القرن الثامن عشر كانوا يشكون فى وجود هوميروس (ص25).
ومن هؤلاء المؤلفين المطلعين على كتابات المستشرقين والمتصلين بهم اتصالا مباشرا أيضا جرجى زيدان، الذى تبحث فيما سطّره عن الشعر الجاهلى فى كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية" المملوء بالمراجع الاستشراقية عن أثر لما كتبه رينان أو نولدكه أو آلفارت عن هذا الشعر ومدى صحته أو عدمها، فلا تجد لشىء من ذلك ظلاًّ أىّ ظل. وحتى فى المسألة الفرعية المتصلة بالمعلَّقات وهل عُلِّقت فعلاً على أستار الكعبة أَوْ لاَ نراه يرفض شك المستشرقين فى ذلك الأمر. وقد يظن بعض القراء أن جورجى زيدان ربما لم يطَّلع على كتابات أولئك المستشرقين فى ذلك الموضوع، فأسارع إلى طمأنتهم بأنه قد ذكر بين مراجعه دراسات هؤلاء المستشرقين الثلاثة وغيرهم حو ل هذا الشعر (انظر كتابه"تاريخ آداب اللغة العربية"/ دار الهلال/ تعليق د. شوقى صيف/ 167) حيث يشير إلى ما كتبه نولدكه وآلفارت ولايال وسلان...إلخ، وكذلك كتابه "العرب قبل الإسلام"/ دار الهلال/ تعليق د. حسين مؤنس/ 35 حيث ذكر كِتَاب رينان الذى نحن بصدده).
أما د. أحمد ضيف، ولعله أول من عَرَض من المصريين لشكّ بعض المستشرقين فى الشعر الجاهلى، فإنه لخص موقف هؤلاء المستشرقين من ذلك الشعر وناقشه ورفض ما فيه من غلوّ، ولكنْ فى ثلاث فقرات ليس غير. والملاحظ أنه لم يذكر أسماء هؤلاء المستشرقين بل اكتفى بالقول بأنهم "جماعة من المستشرقين، خصوصا الألمانيين منهم". والملاحظ أيضا أنه لم يُسَمّ رينان فى هذا السياق، وإنما سماه فى سياق آخر، وهو مناقشته لمدى تمتع العرب بالخيال القادر على خلق الخرافات والأساطير أو حرمانهم منه (انظر كتابه "مقدمة لدراسة بلاغة العرب"/ القاهرة/1921م/ 57- 62).
وإذا كان د. أحمد ضيف هو أول من عرض من المصريين لشك بعض المستشرقين فى الشعر الجاهلى فيما أعلم، فإن الرافعى هو أيضا، فى حدود ما قرأت وما أذكر، أول من عرض لشك علمائنا القدامى فى ذلك الشعر، وذلك فى كتابه "تاريخ آداب العرب"، الذى صدر سنة 1911م. أى أن الرافعى قد تعرض لقضية الشك فى الشعر الجاهلى قبل طه حسين بنحو خمسة عشر عاما، الرافعى المتَّهَم بتقديس القديم لمجرد أنه قديم ومعاداة الجديد لمجرد أنه جديد. ولكى يكون القارئ على بينةٍ من قيمة ما صنع الرافعى أسوق له وصف د. ناصر الدين الأسد للباب الذى عقده فى كتابه لهذا الموضوع، إذ أكد أنه قد "حشد فيه من المادة ما لم يجتمع مثله من قبله ولا من بعده حتى يومنا هذا فى صعيد واحد من كتابٍ لمَّ فيه شتات الموضوع من أطرافه كلها واستقصاه استقصاءً"، وإن ذكر أنه لم يتعرض لما قاله المستشرقون فى هذا السبيل (د. ناصر الدين الأسد/ مصادر الشعر الجاهلى وقيمتها التاريخية/ ط5/ دار المعارف بمصر/ 1978م/ 377)، وهو ما يشير إلى أن ما كتبه أولئك القوم لم يكن له من الأهمية ما يلفت أنظار كتّابنا فى ذلك الوقت.
فماذا عن طه حسين، الذى يزعم عبد الرشيد الصادق محمودى رغم كل ذلك أنه لابد أن يكون قد اطَّلع على ما كتبه رينان والمستشرقون الألمان قبل أن يكتب كتابه "فى الشعر الجاهلى" بأعوام طوال؟ وفى الجواب عن هذا السؤال سوف أتتبع كتابات طه حسين فى الفترة الممتدة ما بين دخوله الجامعة المصرية سنة 1908م واتصاله من ثم بالمستشرقين اتصالاً مباشرًا فى قاعات الدرس وخارجها إلى تاريخ تأليفه لكتابه: "فى الشعر الجاهلى"، الذى نحن بصدده.(51/377)
لقد تناول طه حسين كتاب جرجى زيدان "تاريخ آداب اللغة العربية" فى عدة مقالات بمجلة "الهداية" (أعداد يونيه ويوليه، وأغسطس وسبتمبر، وأكتوبر ونوفمبر 1911م) وتعرَّض لبعض ما قاله زيدان حول الشعر الجاهلى، لكن لم تبدر مِنْ فيه كلمةٌ واحدةٌ يحيط بها طائف من الشك فى ذلك الشعر، بل إن كلامه ليدل على أنه كان يأخذ صحته قضية مسلَّمة: ففى المقال الأول مثلا لا يخرج ما قاله فى ذلك الصدد عن الاعتراض على زيدان لتقسيمه شعراء الجاهلية إلى أمراءَ وفرسانٍ وصعاليكَ وأصحاب معلقات بدلا من تقسيمهم على أساس من أشعارهم وما تتأثر به هذه الأشعار من طبيعة الإقليم والدين والأخلاق والعادات ونحو ذلك، أو الاعتراض عليه بأن زوجة امرئ القيس لم يكن اسمها "جندب" بل "أم جندب". وفى المقال الثانى نراه يتحدث عن امرئ القيس وزهير وابن أم كلثوم وعنترة وغيرهم من أصحاب المعلقات حديث المطمئن تمام الاطمئنان إلى حقيقتهم التاريخية وتمثيل أشعارهم للبيئة التى ظهروا فيها خير تمثيل.
وفى محاضرةٍ ألقاها فى 19 شهر أكتوبر من العام نفسه بعنوان "هل تستردّ اللغةُ مجدَها القديم؟" ونُشِرت فى المجلة ذاتها فى عدد أكتوبر- نوفمبر من ذلك العام نراه يتعرض لشعر الجاهليين بما يدل دلالة جازمة على أنه كان خالى البال تماما من الشك فيه: فهو مثلا يتحدث عن اللغة العربية فى الجاهلية مؤكدا أنها لغة فخمة الألفاظ ضخمة المعانى متينة الأساليب رصينة التراكيب كاملة القوى استطاعت أن تعبِّر آدابُها الوجدانية عن كل ما كان العرب يريدون التعبير عنه فى أى مجال من مجالات القول، وأن أشعارها تتفوق على الشعر المصرى فى عصره، ضاربا مثلا على هذا التفوق من شعر امرئ القيس نفسه، الذى سينفى وجوده فيما بعد فى كتابه "فى الشعر الجاهلى"، ومستشهدا على ما يريد تقريره من أفكار وآراء بأشعار الملك الضِّلِّيل وغيره من شعراء الجاهلية كالأعشى وكبشة أخت عمرو بن معديكرب...وهكذا. بل إنه قد عرَّج فى تلك الخطبة على ابن سلام وكتابه "طبقات الشعراء"، وهو أول كتاب يؤصِّل نظرية الشك فى الشعر الجاهلى، ومع هذا لم يتطرق بكلمة واحدة، ولو همسًا، إلى الكلام عن النَّحْل فى ذلك الشعر! ليس ذلك فحسب، إذ نسمعه يقول فى الشعر الجاهلى هذه الكلمة الخطيرة الدلالة: "فى ذلكم العصر التهبت جذوة الشعر واستطار شرره فالْتَهَم كلَّ شىء واحتكم فى كل إنسان، ولم تكن كلمةٌ إلا له، ولا رأىٌ إلا عنه، ولا اعتمادٌ إلا عليه. وكان يكفى للشاعر أن يمدح الوضيع فيرفعه، أو يذم الرفيع فيضعه، أو يغرى بالحرب فتتهالك النفوس وتتفانى القُوَى، أو يدعو إلى السِّلْم فتصبح الضغائن والأحقاد نَسْيًا منسيًّا". كما تعرّض لابن سلام وكتابه المذكور فى مقاله المنشور بـ"الجريدة" فى عدد 17 مايو 1911م بعنوان "الآداب العربية فى الجامعة"، لكن دون أن يتطرق إلى قضية الشك فى الشعر الجاهلى رغم إشارته البرقية إلى تكذيب ابن سلام لابن إسحاق فيما رواه من أخبار وأشعار عن عاد وثمود وطسم وجديس.
ومعروف أنه قد انتقد فى عام 1911م كتاب مصطفى صادق الرافعى "تاريخ آداب العرب"، الذى خصَّص فيه مؤلفه صفحات طويلة لقضية النَّحْل فى الشعر الجاهلى، ومع ذلك لا تحس فيما كتبه عن هذا الكتاب أنه كان يدور فى خَلَده أى شك فى ذلك الشعر. ومعروف كذلك أن هذا الكتاب الذى لم يعجب طه حسين آنذاك قد أعجبه بعد ذلك بخمسة عشر عاما حين أثنى عليه ومدحه فى كتابه "فى الشعر الجاهلى". وقد قلت، فى تفسير هذا التغير الحاد فى موقفه ذاك، إنه أراد أن يخدّر الرافعى حتى لا يتعرض بالنقد لما كتبه عن القرآن والنبى فى ذلك الكتاب، وإن هذا التقرب لم يخدع الرافعى فشنّ عليه حملةً صاعقةً (انظر كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"/ القاهرة/ 1987م/ 15- 16). كما نجده، فى كتابه "تجديد ذكرى أبى العلاء"، الذى نشره فى عام 1914م، يستشهد بقصيدة للمرقش من "المفضَّليات" استشهادَ مَنْ لا يجد فيها ولا فى الشعر الجاهلى ما يمكن أن يثير شكوكه (انظر الكتاب المذكور/ دار الكتاب اللبنانى/ بيروت/ 1974م/ 64).(51/378)
هذا قبل أن يسافر د. طه إلى فرنسا. ثم سافر وعاد، فهل نجد فى كتاباته قبل أن يؤلف بحثه "فى الشعر الجاهلى" ما يدل على أنه عَدَل عن موقفه من هذا الشعر بتأثير إقامته فى فرنسا عدة سنوات وإتقانه اللغة الفرنسية وزيادة اقترابه من المستشرقين وكتاباتهم؟ الجواب: لا. وربما أعاننا على فهم المسألة أن نعرف أن بعثة طه حسين إلى فرنسا إنما كانت لدراسة التاريخ، وأن الكتب التى ذكر فى الجزء الثالث من "الأيام" أنه قرأها هناك لا تتضمن أى شىء يتعلق بالأدب العربى ولا بالشعر الجاهلى على وجه الخصوص، وأن اسم رينان أو نولدكه أو آلفارت لم يرد بين عشرات الأسماء التى وردت فى ذلك الكتاب أو فى كتاب زوجته "معك"، وهو الكتاب الذى روت فيه حياتها معه، وأن الدكتور طه عندما عاد إلى مصر واشتغل بالتدريس فى الجامعة إنما كان يدرّس التاريخ الأوربى القديم حتى العام الدراسى 1925- 1926م حيث تحوَّل إلى تدريس الأدب العربى (الشعر الجاهلى بالذات)، وأن كل الكتب التى ظهرت للدكتور طه منذ عودته من فرنسا حتى ظهور كتابه "فى الشعر الجاهلى" إنما كانت تتعلق على نحوٍ أو على آخر بالتاريخ الأوربى القديم. ومنها كتابه "صحف مختارة من الشعر التمثيلى عند اليونان" (المكتبة التجارية/ 1920م/ 49)، وفيه يشير إلى معلقة امرئ القيس إشارة المطمئن تمام الاطمئنان إلى صحتها
ثم كتب بعد ذلك بسنواتٍ طائفةً من المقالات عن الشعرين العباسى والأموى. وقد تعرَّض، فى عددٍ من هذه المقالات، للكلام عن الشعر الجاهلى وشعرائه، ولكن بطريقة من يؤمن بصحة هذا الشعر إيمانا تاما ولا يتخيل للحظة أنه يمكن أن يكون موضع شك، مما يقطع بأن كل ما قاله أ. عبد الرشيد الصادق من أن طه حسين لا بد أنه اطّلع على رينان والمستشرقين الذين شكّوا فى ذلك الشعر لا يستند إلى أساس. وبالمناسبة لم يَرِدْ لرينان ولا لغيره من المستشرقين الشاكّين فى ذلك الشعر أىّ ذكر فى هذه المقالات. وإلى القراء الكرام بعضا مما قاله عن الشعر الجاهلى فيها:
1- يقول فى مقال منشور بجريدة "السياسة" بتاريخ أول أكتوبر 1924م عن الغزل فى صدر الإسلام: "غزل الجاهليين كان ماديا خالصا فى حين كان فى غزل الإسلاميين شىء غير المادة. ما الذى كان يُعْنَى به امرؤ القيس أو النابغة أو الأعشى إذا تغزّلوا وذَكَروا النساء؟...كان الغزل عندهم ضّرْبًا من الوصف...، وقلما تجد عندهم عناية بالعاطفة أو حرصا على تمثيلها، فإن وَجَدْتَ عندهم هذه العناية لم تلبث أن تزدرى هذه العاطفة ازدراءً لأنها كانت عاطفة مادية غليظة... كانت عواطفهم تصدر عن الشهوات وإيثار اللذة قبل كل شىء".
2- وفى" "السياسة" أيضا بتاريخ 17 أكتوبر 1924م، وتحت عنوان"عَوْدٌ إلى الغزلين- وضّاح اليمن"، نسمعه يقول: "أريد أن أحدثك عن هذا الشاعر الذى يلقبونه بـ"وضّاح اليمن"، والذى فُتِن به بعض أساتذة الأدب المُحْدَثين حتى خُيِّل إليهم أنه اخترع الشعر التمثيلى وأضافه إلى تراثنا القديم... ونَسُوا أن الحوار ليس هو التمثيل، وإنما هو أصل من أصول التمثيل، ونَسُوا أيضا أن هذا الحوار الذى يجدونه فى شعر وضّاح قد سبق إليه الشعراءُ جميعا فى جاهليتهم وإسلامهم، فحاور امرؤ القيس عشيقاته وحاور ابن أبى ربيعة أخدانه".
3- وفى نفس الجريدة بتاريخ 10 ديسمبر 1924م نجده يؤكد أن شعراء الجاهلية لم يكونوا يُعْنَوْن بالغزل إلا بوصفه "وسيلة شعرية إلى ما كانوا يذهبون فيه من مذاهبهم الشعرية المختلفة. ولا نكاد نعرف بين الجاهليين شاعرا قَصَر حياتَه الشعرية على الغزل. بل قليلٌ جدًّا عددُ القصائد الجاهلية التى لم يتناول فيها أصحابُها إلا الغزلَ وحده".(51/379)
ثم أخيرًا نراه فى الفصل الذى خصصه للشاعر الإغريقى هوميروس من كتابه "قادة الفكر"، الذى صدر فى إبريل 1925م، وهو نفس الشهر الذى وضع فيه مرجليوث دراسته التى يشك فيها فى الشعر الجاهلى جميعه، نراه يستطرد للمقارنة بين بداوة اليونان وأشعارها وبين بداوة عرب الجاهلية وأشعارهم، فلا نجده يشك فى أشعار الجاهلية أى مقدار من الشك، بل يؤمن بها ويؤكد أنها أساس حضارة الإسلام، ولولاها ما كان الخلفاء والعلماء والقواد المسلمون. وقد ألحَّ على هذه الفكرة إلحاحًا كبيرا، فى الوقت الذى ذكر معها شكَّ بعض الباحثين الأوربيين المحدثين فى وجود هوميروس. وهذا نص عبارته: "عَلاَمَ تقوم الحياة العربية فى بداوة العرب وأو ل عهدهم بالإسلام؟ على الشعر... هل كانت توجَد الحضارة الإسلامية التى ظهر فيها مَنْ ظهر مِنَ الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال لو لم توجَد البداوة العربية التى سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة والأعشى وغيرهم من الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم؟" (قادة الفكر/ ط9/ دار المعارف بمصر/ 10- 11). والعجيب أن طه حسين، فى رده بعد ذلك على من انتقدوا غُلُوّه فى الشك فى الشعر الجاهلى، قد احتجّ عليهم بأنهم يجهلون أن النحل غير مقصور على العرب، بل عرفه اليونان والرومان، وأن الدراسات الحديثة قد نسفت اطمئنان الأقدمين إلى صحة إلياذة هوميروس وأوديساه (فى الأدب الجاهلى/ دار المعارف/ 1964/ 113- 116). وفاته أنه هو نفسه كان يعرف ذلك قبلا، لكنه لم ينتفع به، إذ ظل على اطمئنانه إلى الشعر الجاهلى إلى أن ظهرت دراسة مرجليوث.
ظل هذا هو موقف طه حسين، كما قلنا، حتى إبريل 1926م على الأقل، وهو الشهر الذى كتب فيه مرجليوث مقاله الذى يشكك به فى الشعر الجاهلى، والذى نشره فى يوليه من ذلك العام، وإذا بالدكتور طه بعد هذا المقال بنحو عشرة أشهر يصدر كتابه "فى الشعر الجاهلى" مستديرا بزاوية مقدارها مائة وثمانون درجة، إذ انطلق كالإعصار الهائج يشكّ فى ذلك الشعر لا يكاد يُبْقى منه على شىء. ويتساءل الباحث: ترى ما الذى جَدّ؟ والجواب: لم يَجِدّ إلا مقال مرجليوث، فكتاب رينان قد مَرَّ عليه عشرات الأعوام، فضلاً عن أنه لم يشكّ فى ذلك الشعر، وأقل قليلا من ذلك الزمن مرّ على ما كتبه نولدكه وآلفارت وباسيه، وليس فيه اختلاف يُذْكَر عما قاله نقادنا القدماء. كما مرَّت خَمْسُ سنواتٍ على صدور كتاب أحمد ضيف، الذى لم يكن فيه مع هذا ما يثير العقل العربى لعدم خروج آراء المستشرقين التى عرض لها عما وصلَنا من نقادنا القدماء خروجًا لافتًا حسبما سبق القول، علاوة على أن الدكتور ضيف لم يفصّل القول فى عَرْض تلك الآراء التى كان قد مضى عليها فوق ذلك زمن طويل، بل عرضها فى ثلاث فقرات ليس إلا. أما مقال مرجليوث فقد كان طازجا، وكان له دوىٌّ شديد بسبب إغراقه فى التطرف، فضلاً عن أن موقف طه حسين وأفكاره فى كتابه عن الشعر الجاهلى يشبهان إلى حد كبير موقف مرجليوث وأفكاره.
وحَرِىٌّ بالذِّكْر أن مرجليوث، الذى دافع عن طه حسين وحاول أن ينفى تهمة تأثره به كما سنبين بعد قليل، لم يقل إن د. طه قد انطلق من رينان أو نولدكه أو آلفارت. بل إن الدكتور طه هو نفسه لم يقل هذا، ولا قالته زوجته بعد مرور عشرات السنين رغم أنها خاضت فى هذه القضية فى كتابها "معك" فى أكثر من موضع، ولا قاله كذلك أى من الباحثين الذين تناولوا هذه القضية، وكثير منهم تلاميذه، ولا قاله أيضا أحد من المستشرقين الذين تناولوا هذا الجانب من كتابات الدكتور طه مما يمكن أن يجد القارئ عينة منه فى كتاب "طه حسين كما يعرفه كتّاب عصره". كما أن معظمهم يربطون بينه وبين مرجليوث حسبما بينتُ فى كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين". إنما تحكَّك هو بعد ذلك بالأخوين كروازيه ليدفع اتهامه بالسرقة من مرجليوث، والأخوان كروازيه لا علاقة لهما بالشعر الجاهلى، بل بالشك فى شعر هوميروس، وقد رأينا كيف ظل الدكتور طه على ما هو عليه من الاطمئنان التام لشعر الجاهلية وشعرائها حتى بعد قراءته ما كتبه هذان الأخوان، بل حتى بعد أن كتب هو الفصل الخاص بذلك الشاعر الإغريقى الذى كانا يشكان فىوجوده. ولو كان منطلقه من رينان لسارع إلى ذكر هذا منذ البداية، لأن ديَْدَن الدكتور طه أن يصرح بمن يخالفهم فى الرأى، أما من يقتبس أفكارهم فإنه يغفلهم تماما، وموقف رينان وأفكاره يختلفان عن موقفه هو وأفكاره، فوق أن المستشرقين قد ذكروا استمداد د. طه لأفكاره من مرجليوث، ولم يشيروا إلى رينان أو غيره، ومنهم المستشرق الألمانى بروكلمان فى كتابه عن تاريخ الأدب العربى (كارل بروكلمان/ تاريخ الأدب العربى/ دار المعارف/ 1/ ترجمة د. عبد الحليم النجار/ 64). وقد كان أحرى به، لو كان طه حسين قد تأثر بنولدكه أو آلفارت الألمانيين، أن يذكر هذا التأثر انطلاقا على الأقل من اعتزازه بألمانيته.(51/380)
ومن أغرب الغرائب أن ينبرى مرجليوث مع ذلك كله للدفاع عن طه حسين ضد من رَأَوُا التماثل الشديد بين كتاب الدكتور طه "فى الشعر الجاهلى" ومقاله: "The O r igines of A r abic Poet r y"، الذى نشره قبل ذلك الكتاب بعشرة شهور على الأقل فى يوليه 1925م بـ"Jou r nal of Asiatic r oyal Society"، مؤكدًا فى صفاقة أن الدراستين قد ظهرتا فى نفس الوقت تقريبا، متجاهلا بهذه الطريقة أن فرق عشرة أشهر ليس بالذى يمكن أن يقال معه إن الدراستين قد صدرتا تقريبا فى ذات الوقت. لكنه أكد رغم ذلك أن الفكرة فى كتاب طه حسين مماثلة إلى حد كبير للفكرة التى أدار حولها بحثه عن "أصول الشعر الجاهلى" (انظر كلمته عن كتاب "فى الأدب الجاهلى" لطه حسين فى عدد يوليه 1927م من "Jou r nal of Asiatic r oyal Society"). والعهد بالعلماء والكتاب وكل طوائف البشر أنهم حِراصٌ أشد الحرص على إبراز ريادتهم وسبقهم فى مجالات تخصصهم مهما كانت تفاهة ما سبقوا إليه، بل إن كثيرا منهم يلجأ إلى التوسُّل بالباطل من أجل بلوغ هذا الهدف، فما بال مرجليوث يسارع إلى التخلى عن سبقه إلى نظرية الشك فى الشعر الجاهلى بهذه البساطة وبذلك الفُجُور؟ والهدف واضح بطبيعة الحال، فإن إنقاذ رأس طه حسين يستحق هذه التضحية وأكثر منها. إنه رَجُلهم، وهم حريصون على عدم فضيحته، فضلا عن أن صدور إنكار الشعر الجاهلى من كاتب ينتمى إلى الإسلام مصحوبًا بالتشكيك فى القرآن الكريم والنبىّ الذى أتى به أَفْعَل وأقوى ألفَ مرة من صدوره عنه وعن أمثاله من غير العرب والمسلمين. وهذا هو المراد، وكل شىء بجانبه يهون!(51/381)
كذلك انبرى أيضا د. إبراهيم عبد الرحمن ليدفع عن الدكتور طه التهمة التى تُطْبِق على عنقه قائلا إن مرجليوث قد ذكر أن آراء طه حسين تناقض آراءه هو (انظر كلمته "إلى خصوم طه حسين ومؤيديه: النص الكامل لمقالة مرجليوث فى براءة عميد الأدب العربى"/ الأهرام/ الجمعة 7 فبراير 1986م/ الصفحة الثقافية). وهذا، بطبيعة الحال، غير صحيح، والأستاذ الدكتور نفسه قد سبق فأورد ترجمة كلام المستشرق البريطانى مرةً باعتبار أن الفكرتين متشابهتان، ومرةً باعتبار أنهما متماثلتان إلى حد كبير (انظر كتابه "بين القديم والجديد- دراسات فى الأدب والنقد"/ مكتبة الشباب/ 1983م/ 440- 441). إلا أن المسألة لا تنتهى فصولها عند هذا الحد، إذ كتب الأستاذ الدكتور أن طه حسين كان يحاضر طلابه فى موضوع انتحال الشعر الجاهلى والشك فيه عامًا بعد عام قبل أن ينشر مرجليوث دراسته فى ذات الموضوع فى 1925م، حتى إذا ثبت له صحة ما انتهى إليه فى رواية هذا الشعر أذاعه على الناس فى شكل كتابٍ سنة 1926م (المرجع السابق/ 440). ويؤسفنى أن أقول هنا أيضا إن هذا الكلام غير صحيح البتة، لسبب بسيط جدا هو أن طه حسين لم يسبق له أن حاضر فى الجامعة لا فى هذا الموضوع ولا فى أى موضوع آخر من موضوعات الأدب العربى، إذ كان، كما سبق القول، يدرّس حتى ذلك العام مادة التاريخ اليونانى واللاتينى. بل لم يسبق له أيضا أن حاضر فى هذا الموضوع قط خارج الجامعة أو كتب فيه أى شىء، كتابا كان ذلك الشىء أو مقالا. أما الذى كان يقوم بتدريس مقرر الأدب العربى فى الجامعة قبل ذلك فهو د. أحمد ضيف حسبما جاء فى كتاب د. حمدى السكوت ود. مارسدن جونز: "أعلام الأدب المعاصر فى مصر" (ط2/ دار الكتاب المصرى بالقاهرة، ودار الكتاب اللبنانى ببيروت/ 1402هـ- 1982م/ 30). مقطع الحق أن طه حسين قد سطا على بحث مرجليوث: لقد كان لا يشك فى الشعر الجاهلى، ثم بعد أن ظهر بحث مرجليوث عن ذلك الشعر أصبح فجأة من الشاكِّين فيه. كما أن شكه قد شمل تقريبا كل هذا الشعر بحيث إن الفرق بينه وبين مرجليوث فى مقدار ذلك الشك لا يكاد يُذْكَر. كذلك فإنه اعتمد فى شكه على عدد من الأدلة ارتكن إليها مرجليوث فى نفى شعر الجاهليين، وعلى رأسها الدليل اللغوى والدليل الدينى. ثم لا ننس الروح العدائية التى تتبدَّى فى كتاب طه حسين والتى تذكِّرنا بما كان يظهره المستشرق البريطانى المتطاول الحقود من بغضٍ ضد الإسلام ونبيه، وانحياز إلى صفوف اليهود. وأخيرا فقد اتصل د. طه بأعمال مرجليوث منذ وقت بعيد، فكتاب "الفصول والغايات"، الذى حققه هذا المستشرق لأبى العلاء المعرى، كان أحد مراجعه الأساسية فى رسالته عن الشاعر العباسى الكفيف التى تقدَّم بها للجامعة المصرية سنة 1914م قبل سفره إلى فرنسا. وفوق هذا وذاك فإن المجلة التى نُشِر فيها بحث مرجليوث كانت قد وصلت إلى مصر ولفتت أنظار المصريين المهتمين بهذه المسائل كيعقوب صروف وأحمد تيمور ومصطفى صادق الرافعى ومحمود شاكر قبل صدور كتاب د. طه بشهور. ومن الطبيعى أن تصل هذه المجلة فور صدرورها إلى مصر، على الأقل لأن فريقا من المستشرقين كانوا أساتذة فى الجامعة المصرية، ولا بد أنهم كانوا مشتركين فى مثل هذه المجلة التى لا يكتبها إلا هم ولا يُعْنَى بها أحدٌ آخرُ عنايتَهم، وكان طه حسين زميلاً وصديقًا حميمًا لهم يسهرون عنده مساء كل أَحَد كما حَكَتْ زوجته فى كتابها "معك" (انظر ص 33، وكذلك الفصل الذى عنوانه: "هل كان طه حسين على علم بمقالة مرجليوث فى الشعر الجاهلى؟" من كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"/ 64- 77). بل إنى لا أستبعد أن تكون هناك أيدٍ خفيةٌ فى الجامعة قد أزاحت د. احمد ضيف من تدريس الأدب العربى، الذى كان متخصصا فيه، ووضعت فى مكانه طه حسين غير المتخصص كى يدعو لسانٌ ينتسب للإسلام والعروبة بدعوة مرجليوث المنكرة، مع توبلتها بشىء من الهجوم الحارّ على القرآن والرسولل الذى أنزله الله عليه فيكون قد "شهد شاهدٌ من أهلها"!(51/382)
على أن المدافعين عن طه حسين لا يسلِّمون بسهولة، وفيهم أساتذة فضلاء لا أدرى لماذا يحاولون أن يخففوا خطاياه مع معرفتهم التامة بما سببته من بلبلة فكرية ليس لها أساس من علم أو منطق، إذ نراهم يقولون إنه، رغم كل ما يمكن أن يوجَّه إليه من نقد، قد حرّك بكتابه ذاك العقول وهزّ جماهير القراء، وبخاصةٍ المحافظون منهم. ومن هؤلاء د. حمدى السكوت ود. مارسدن جونز فى كتابهما "أعلام الأدب المعاصر فى مصر" (ص20). وقد طالعت نفس الفكرة فى مادة "طه حسين" من "الموسوعة العربية" المنشورة على موقع "كلمات"، إذ وُصِف كتاب "فى الشعر الجاهلي" بأنه "رغم أن الدراسات الحديثة أثبتت خطأه فى بعض الجوانب، إلا أن قيمة الكتاب الفكرية تظل من حيث تشجيعه للموقف النقدى من التراث الأدبى والبلاغى واللغوى العربى والكشف عن خضوع هذا التراث كغيره لقانون التطور التاريخى". ولعلى قرأت أيضا شيئا مثل هذا للدكتور ناصر الدين الأسد رغم أنه قد عرض عرضًا رائعًا، فى كتابه القيم "مصادر الشعر الجاهلى وقيمتها التاريخية"، كلَّ ما كُتِب من دراسات وأبحاث تفضح ما فى كتاب طه حسين من سرقة وضعف وتهافت وتسرع وافتئات على حق العلم والتاريخ والدين. بل إنه عند المقارنة بين الرافعى وطه حسين فى هذه المسألة لم يجد مناصا من أن يحكم للأول بأنه "لم يحمِّل نصًّا أكثر مما يحتمل، ولم يعتسف الطريق اعتسافًا إلى الاستنتاج والاستنباط ولا إلى الظن والافتراض، ولم يجعل من الخبر الواحد قاعدةً عامّةً، ولا من الحالات الفردية نظريةً شاملةً" (مصادر الشعر الجاهلى وقيمتها التاريخية/ 379)، أما فى الثانى فعلى رغم الكلام الجميل الذى قاله عن أسلوبه وسِحْره نجده يحكم على منهجه قائلا: "ثم استقرّ الموضوع بين يَدَىِ الدكتور طه حسين فخلق منه شيئًا جديدًا لم يعرفه القدماء، ولم يقتحم السبيلَ إليه العربُ المحدثون من قبله، ثم أنكره بعدُ كثير من المحدثين إنكارًا خصبًا يتمثل فى هذه الكتب التى ألفوها فى الرد عليه ونَقْض كتابه. وقد استقى الدكتور طه حسين أكثر مادته، حيث يستشهد ويتمثل بالأخبار والروايات، من العرب القدماء، وسلك بها سبيل مرجليوث فى الاستنباط والاستنتاج والتوسع فى دلالات الروايات والأخبار وتعميم الحكم الفردى الخاص واتخاذه قاعدة عامة، ثم صاغ تلك المادة وهذه الطريقة بإطار من أسلوبه الفنى وبيانه الأخاذ، حتى انتهى إلى ما انتهى إليه من أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًّا ليست من ا لجاهلية فى شىء، وإنما هى منحولة بعد ظهور الإسلام... فنحن إذن بإزاء نظرية عامة لم نرها فيما عرضنا من آراء العرب القدماء، ونحسب أنها لم تخطر لهم على بال، ولكننا رأيناها واضحة المعالم فيما عرضنا من آراء مرجليوث، ولم يكتف بالإشارة إليها إشارة عابرة، وإنما نصّ عليها نصًّا صريحًا فى عبارات متكررة تختلف ألفاظها وتتفق مراميها، وجاء الدكتور طه حسين فلم يقنع كما قنع مرجليوث بأن يدلنا عليها فى مقالة أو مقالتين، وإنما فصّل لنا القول فى كتابٍ كاملٍ قائمٍ بذاته" (المرجع السابق/ 379- 380).
ومن الذين أَثْنَوْا ثناءً شديدًا على ما صنعه طه حسين وضخّموا، من فرط تحمسهم، دوره فى حقل الأدب والدراسات النقدية تضخيمًا شديدًا د. محمد زكى العشماوى، الذى يقول إن الدكتور طه "فى منهجه في دراسة الأدب ونقده...يعتبر حدا فاصلا بين عهدين، فما قبل طه حسين كانت دراسة الأدب ونقد الأدب مختلفة اختلافا كليا لأنها كانت تهتم بالشروح اللغوية للكلمات، ولم تكن تتعمق فى تحليل النص وفهمه ودراسته وفق منهج يعتمد على الذوق والذوق المعلَّل، وإنما مجرد أحكام جارفة أو كاسحة لا تنهض على مقدمات أو دلائل مقنعة. فلما جاء أرسى دعائم المنهج التحليلى النقدى السليم الذي ينهض على الاحتكام إلى العقل وعلى تذوق الأثر الفنى وتحليله وفق منهج يلتزم الموضوعية وينتهى إلى أحكام دقيقة ومقنعة بحيث خرج الحُكْم من حيز الخصوص إلى حيز العموم... هذا المنهج الذى أرسى دعائمه د. طه حسين هو الذى استفاد منه أساتذة الجامعات من بعده، وهو الذى عدّل الكثير من الأفكار التى كانت شائعة ومستبدة بحقل النقد الأدبى" (من حوار معه فى جريدة "الجمهورية والعالم" المِشْبَاكيّة).(51/383)
والحق الذى لا جدال فيه، مع احترامى الشديد للدكتور العشماوى ورغم حبى لقراءة طه حسين واستمتاعى بأسلوبه وصوته، هو أنه كان هناك نقاد كبار سبقوا أو عاصروا طه حسين وأضافوا مثلما أضاف فى حقل النقد والدراسات الأدبية، وفى بعض الحالات أفضل مما أضاف، ومنهم حسن توفيق العدل وإبراهيم اليازجى وجرجى زيدان والرافعى وأمين الريحانى وروحى الخالدى وخليل سكاكينى ومحمد حسين هيكل ومحمد لطفى جمعة وأحمد ضيف وميخائيل نعيمة والعقاد وشكرى والمازنى وزكى مبارك وأمين الخولى ومحمد فريد الشوباشى وأحمد حسن الزيات وتوفيق الحكيم...إلخ. فضلا عن أن طه حسين لم يكن هو الذى افترع قضيةَ النَّحْل فى الشعر الجاهلى حتى نغضّ الطَّرْف عن خطاياه العلمية والمنهجية والأخلاقية الضخمة التى ارتكس فيها وهو يتناول ذلك الموضوع كما بينتُ فى كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"، فقد سبقه من القدماء أبو عمرو بن العلاء وأبو عمرو الشيبانى والأصمعى وأبو عبيدة والسجستانى والجاحظ وابن قتيبة، ناهيك عن ابن هشام فى "السيرة النبوية"، وكذلك ابن سلام فى كتابه "طبقات الشعراء"، الذى تناول فيه هذه المسألة باستفاضة ومنهجية منضبطة تدلان على أستاذية وتمكن حقيقى لا بهلوانية فارغة كلّ همها إحداثُ الضجيج والضحك على ذقن الجمهور. كما سبقه من المحدثين مصطفى صادق الرافعى، الذى عرض فى كتابه "تاريخ آداب العرب" ذلك الموضوعَ عَرْض البصير الخبير الذى يزن كل كلمة من كلامه بميزانٍ دقيقٍ واعٍ حساس، فضلا عمن طَرَق من المستشرقين تلك القضية كما سبق أن أشرنا. وقد فصل القولَ فى هذه النقطة د. ناصر الدين الأسد فى الفصل الثانى والثالث والرابع من الباب الرابع من كتابه "مصادر الشعر الجاهلى وقيمتها التاريخية". والطريف أننى بعد أن كتبتُ هذه الفقرة بيومين رجعتُ إلى كتاب د. السكوت ود. جونز عن مؤلفات طه حسين فوجدتهما يقولان ما قلته، بل ويذكران أيضا عددا من الأسماء التى ذكرتُها مما يؤكد كلامى بأن إسهام طه حسين فى مجال الدراسات الأدبية والنقدية لم ينشأ فى فراغ (انظر كتابهما "أعلام الأدب المعاصر فى مصر"/ 27- 30).
ولعل هذا الموضع أن يكون مناسبا لعرض دفاع د. عبد الرحمن بدوى ومشايعه سامح كريم عن طه حسين. ذلك أن الدكتور طه، فى رأيهما، لم يأت إلا بما أتى به ابن سلام الجُمَحِىّ فى كتابه "طبقات الشعراء"، وعلى هذا فليس ثمة معنى للضجة التى قوبلت بها آراء الدكتور طه ولا لاتهامه بالمروق والانسياق وراء مؤامرات المستشرقين (انظر د. عبد الرحمن بدوى/ دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلى/ دار العلم للملايين/ 1979م/ 10- 11، ومقال سامح كريم فى ذات الموضوع بالصفحة الثقافية بـ"أهرام" الجمعة 17 يناير 1986م). وجوابنا على هذا هو أن كلام ابن سلام، بفرض أن طه حسين لم يقل شيئا أكثر مما قاله، كان بين يدى الدكتور طه كما بيّنّا قبلاً، فلماذا لم يتأثر به إلا بعد ظهور دراسة مرجليوث؟ بل لقد عرض الرافعى هذه القضية عرضًا مستقصيًا كما رأينا قبل قليل، فكيف لم يلتفت طه حسين إلى ما كتب الرافعى أيضا وظل غافلا عن هذه القضية إلى أن ظهرت دراسة مرجليوث؟ كذلك هناك فرق هائل بين ما قاله ابنُ سلام المدققُ المحققُ المستأنى فى بحثه وحكمه، الواضعُ نصب عينيه بلوغَ الصواب لا التزلفَ إلى أعداء الإسلام، وإثارةَ الضجيج والعجيج والبلبلة دون وجه حقٍّ أو عدل،ٍ والتقحّمَ فى مجال التشكيك فى القرآن الكريم واتهامِه بالكذب وبمراءاة اليهود والرغبةِ فى التقرب إليهم، وبين ما كتبه طه حسين بما فيه من مآخذ قاتلة! ثم إن ابن سلام إنما يشك فى بعض الشعر الجاهلى، وحين تتوفر لديه فقط دواعى هذا الشك، أما طه حسن فينثر الريبة فى كل هذا الشعر تقريبا بناءً على خطرات غير ناضجة وأوهام، فضلا عن أنه قد أثار مسائلَ لم يتطرق إليها ابن سلام كقضية اختلاف اللهجات بين القبائل واتخاذها تكأة للتشكيك فى الشعر الجاهلى، وكذلك الزعم بأن ذلك الشعر لا يعكس عقائد أصحابه...إلخ، فكيف بالله يقال إن هذا هو ذاك؟ وقد انتهى الأمر بهذه الأوهام والخطرات المتهافتة إلى أَنْ هجرها الدارسون ولم يعد أحد يردد شيئا من الكلام الساذج الذى زعمه طه حسين فى كتابه وأصبح من مخلَّفات الماضى لا يجد من يقبل عليه أو يعيره أُذُنًا رغم الجهود الهائلة التى يبذلها المطبّلون والمزمّرون لإحياء العَظْم الرَّمِيم! وقد وصف د. حمدى السكوت ود. مارسدن جونز ما ورد فى كتاب الدكتور طه من آراء بأن بعضها مأخوذ من النقاد العرب القدامى، بينما معظمها للمستشرقين، وليس له شىء فيها تقريبا (انظر كتابهما "أعلام الأدب المعاصر فى مصر"/ 20).(51/384)
ولقد قيل كلامٌ كثيرٌ وكبيرٌ عن الشك الديكارتى، الذى اتخذه طه حسين، حسبما يدّعى مشايعوه، منهجا فى هذا البحث لتحرير العقول من الجمود ومن تقديس القديم لمجرد كونه قديما. إلا أن الذين يطنطنون بهذا الكلام يَنْسَوْن أن طه حسين لم يُحْسِن استخدامَ هذا المنهج، ومن ثم فاته الانتفاع به كما ينبغى، إذ لم يكن يشك إلا فى الروايات التى لا تعجبه ولا تؤدى إلى ما يريد تقريره منذ البداية، أما الروايات التى يرى أنها مُبْلِغَتُه غايتَه من التشكيك فى الشعر الجاهلى والإساءة إلى القرآن والدين فإنه يقبلها بعُجَرها وبُجَرها دون أى تمحيص حسبما لاحظ الرافعى رحمه الله (مصطفى صادق الرافعى/ تحت راية القرآن/ ط3/ مطبعة الاستقامة/ القاهرة/ 1953م/175). وفى كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين" استطعت، من خلال النصوص التى اقتطفتُها من كتاب "فى الشعر الجاهلى"، أن أبين أن الدكتور طه لم يهضم أصلاً منهج الفيلسوف الفرنسى، كما أنه لم يطبق إلا جانبًا واحدا فحسب من جوانبه المتعددة (معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين/ مطبعة الفجر الجديد/ القاهرة/ 1987م/ 105- 115).
والآن نترك القارئ مع النصين التاليين اللذين تعرض فى أولهما الدكتور طه حسين بحماقةٍ وغشمٍ للقرآن الكريم متهمًا إياه بأنه قد استعان بالأساطير الكاذبة بغرض التقرب من اليهود، وفى ثانيهما للرسول عليه السلام يغمز منه ومن الإجلال الذى يشعر المسلمون به تجاهه ويحاول دون أى أساس أن يقلل من شأن صلى الله عليه وسلم !!!! وقد حُذِف هذان النصان من الطبعة الثانية من كتابه "فى الشعر الجاهلى" سنة 1927م بعد أن غُيِّر عنوانُه وسُمَِىَ: "فى الأدب الجاهلى". وبطبيعة الحال لا يمكن أن يردّد هذا الكلامَ من يؤمن بأن القرآن وحى من عند رب العالمين أو يشعر بالتبحيل للنبى الذى نزل عليه: فالله لا يصطنع الأساطير لأغراض سياسية أو غير سياسية، ولا هو بحاجة للتقرب من اليهود أو الأمريكان، كما أن الرسول الكريم كان فى الذؤابة من قومه نسبًا وشرفًا كما قالت كلمة التاريخ!!!! وقد نقلنا هذين النصين من أحد المواقع التى تظن أنها تستطيع أن تحارب الإسلام بكتاب الدكتور طه وتهزمه!!!! نقلناهما حتى يتبين الحقُّ من الباطل ويعرف القاصى والدانى ما فى كلام الذين يشنّون الغارة على ناقدى الدكتور طه من مكرٍ والتواءٍ حين يقولون إن الرجل لم يتعرض للقرآن ولا للنبى بشىء، وإن من ينتقدونه إنما يرددون كلاما لا أصل له!!!!
الشعر الجاهلي واللغة
على أن هناك شيئا آخر يحظر علينا التسليم بصحة الكثرة المطلقة من هذا الشعر الجاهلي ، ولعله أبلغ في اثبات ما نذهب اليه . فهذا الشعر الذي رأينا أنه لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهليين بعيد كل البعد على أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه والأمر هنا يحتاج إلى شيء من الروية والأناة . فنحن إذا ذكرنا اللغة العربية نريد بها معناها الدقيق المحدود الذي نجده في المعاجم حين نبحث فيها عن لفظ اللغة ما معناه ، نريد بها الألفاظ من حيث هي ألفاظ تدل على معانيها ، تستعمل حقيقة مرة ومجازا مرة أخرى ، وتتطور تطورا ملائما لمقتضيات الحياة التي يحياها أصحاب هذه اللغة .
نقول أن هذا الشعر الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية . ولنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي ، أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه . أما الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه فهو أن العرب ينقسمون إلى قسمين : قحطانية منازلهم الأولى في اليمن ، وعدنانية منازلهم الأولى في الحجاز .
وهم متفقون على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله فطروا على العربية فهم العاربة ، وعلى أن العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتسابا ، كانوا يتكلمون لغة أخرى هي العبرانية أو الكلدانية ، ثم تعلموا لغة العرب العاربة فمحت لغتهم الأولى من صدورهم وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة . وهم متفقون على أن هذه العدنانية المستعربة إنما يتصل نسبهم باسماعيل بن ابراهيم . وهم يروون حديثا يتخذونه أساسا لكل هذه النظرية ، خلاصته أن أول من تكلم بالعربية ونسى لغة أبيه اسماعيل بن ابراهيم .
على هذا كله يتفق الرواة ، ولكنهم يتفقون على شيء آخر أيضا أثبته البحث الحديث ، وهو أن هناك خلافا قويا بين لغة حمير (وهي العرب العاربة) ولغة عدنان (وهي العرب المستعربة) . وقد روى عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا .
وفي الحق أن البحث الحديث قد أثبت خلافا جوهريا بين اللغة التي كان يصطنعها الناس في جنوب البلاد العربية ، واللغة التي كانوا يصطنعونها في شمال هذا البلاد . ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من اثبات هذا الخلاف في اللفظ وفي قواعد النحو والتصريف أيضا . وإذن فلابد من حل هذه المسألة .(51/385)
إذا كان أبناء اسماعيل قد تعلموا العربية من أولئك العرب الذين نسميهم العاربة فكيف بعد ما بين اللغة التي كان يصطنعها العرب العاربة واللغة التي كان يصطنعها العرب المستعربة ، حتى استطاع أبو عمرو بن العلاء أن يقول إنهما لغتان متمايزتان ، واستطاع العلماء المحدثون أن يثبتوا هذا التمايز بالأدلة التي لا تقبل شكا ولا جدالا ! والأمر لا يقف عند هذا الحد ، فواضح جدا لكل من له المام بالبحث التاريخي عامة وبدرس الأساطير والأقاصيص خاصة أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية .
للتوراة أن تحدثنا عن ابراهيم واسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا ، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لاثبات وجودهما التاريخي ، فضلا عن اثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة اسماعيل بن ابراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها . ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في اثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة ، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى. وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويثبتون فيه المستعمرات . فنحن نعلم أن حروبا عنيفة شبت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد ، وانتهت بشيء من المسالمة والملاينة ونوع من المحالفة والمهادنة . فليس يبعد أن يكون هذا الصلح الذي استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهود أبناء أعمام ، لا سيما وقد رأى أولئك وهؤلاء أن بين الفريقين شيئا من التشابه غير قليل ؛ فأولئك وهؤلاء ساميون .
ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن ظهور الإسلام وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب ، قد اقتضى أن تثبت الصلة الوثيقة بين الدين الجديد وبين الديانتين القديمتين: ديانة النصارى واليهود .
فأما الصلة الدينية فثابتة واضحة ، فبين القرآن والتوراة والأناجيل اشتراك في الموضوع والصورة والغرض ، كلها ترمي إلى التوحيد ، وتعتمد على أساس واحد هو هذا الذي تشترك فيه الديانات السماوية السامية . ولكن هذه الصلة الدينية معنوية وعقلية يحسن أن تؤيدها صلى أخرى مادية ملموسة أو كالملموسة بين العرب وبين أهل الكتاب. فما الذي يمنع أن تستغل هذه القصة قصة القرابة المادية بين العرب العدنانية واليهود ؟
وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح فقد كانت أول هذا القرن قد انتهت إلى حظ من من النهضة السياسية والاقتصادية ضمن لها السيادة في مكة وماحولها وبسط سلطانها المعنوي على جزء غير قليل من العربية الوثنية . وكان مصدر هذه النهضة وهذا السلطان أمرين: التجارة من جهة ، والدين من جهة أخرى .
فأما التجارة فنحن نعلم أن قريشا كانت تصطنعها في الشام ومصر وبلاد الفرس واليمن وبلاد الحبشة. وأما الدين فهذه الكعبة التي كانت تجتمع حولها قريش ويحج اليها العرب المشركون في كل عام ، والتي أخذت تبسط على نفوس هؤلاء العرب المشركين نوعا من السلطان قويا ، والتي أخذ هؤلاء العرب المشركون يجعلون منها رمزا لدين قوي كأنه كان يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية والمسيحية من ناحية أخرى . فنحن نلمح في الأساطير أن شيئا من المنافسة الدينية كان قائما بين مكة ونجران . ونحن نلمح في الأساطير أيضا أن هذه المنافسة الدينية بين مكة وبين الكنيسة التي أنشأها الحبشة في صنعاء هي التي دعت إلى حرب الفيل التي ذكرت في القرآن .
فقريش إذن كانت في هذا العصر ناهضة نهضة مادية تجارية ، ونهضة دينية وثنية . وهي بحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجد في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلة تقاوم تدخل الروم والفرس والحبشة ودياناتهم في البلاد العربية .
وإذا كان هذا حقا - ونحن نعتقد أنه حق - فمن المعقول جدا أن تبحث هذه المدينة الجديدة لنفسها عن أصل تاريخي قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التي تتحدث عنها الأساطير . وإذن فليس ما يمنع قريشا من أن تقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تأسيس اسماعيل وابراهيم ، كما قبلت روما قبل ذلك ولأسباب مشابهة أسطورة أخرى صنعها لها اليونان تثبت أن روما متصلة باينياس ابن بريام صاحب طروادة .
أمر هذه القصة إذن واضح . فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام واستغلها الإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضا ، وإذن فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل بها عند ما يريد أن يعترف أصل اللغة العريبة الفصحى . وإذن فنستطيع أن نقول أن الصلة بين اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية واللغة التي أنت تتكلمها القحطانية في اليمن إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة ، وإن قصة العاربة والمستعربة وتعلم اسماعيل العربية من جرهم ، كل ذلك حديث أساطير لا خطر له ولا غناء فيه .(51/386)
والنتيجة لهذا البحث كله تردنا إلى الموضوع الذي ابتدأنا به منذ حين ، وهو أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحا . ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئا كثيرا من الشعر الجاهلي قوما ينتسبون إلى عرب اليمن إلى هذه القحطانية العاربة التي كانت تتكلم لغة غير لغة القرآن ، والتي كان يقول عنها أبو عمرو بن العلاء : إن لغتها مخالفة للغة العرب ، والتي أثبت البحث الحديث ، أن لها لغة أخرى غير اللغة العربية .
ولكننا حين نقرأ الشعر الذي يضاف إلى شعراء هذه القحطانية في الجاهلية لا نجد فرقا قليلا ولا كثيرا بينه وبين شعر العدنانية . نستغفر الله ! بل نحن لا نجد فرقا بين لغة هذا الشعر ولغة القرآن . فكيف يمكن فهم ذلك أو تأويله؟ أمر ذلك يسير ، وهو أن هذا الشعر الذي يضاف إلى القحطانية قبل الإسلام ليس من القحطانية في شيء ، لم يقله شعراؤها وإنما حمل عليهم بعد الإسلام لأسباب مختلفة سنبينها حين نعرض لهذه الأسباب التي دعت إلى انتحال الشعر الجاهلي في الإسلام .
الدين وانتحال الشعر
... ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين ، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش . فلأمرٍ ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم ، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف ، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي ، وأن يكون قصي صفوة قريش ، وقريش صفوة مضر ، ومضر صفوة عدنان ، وعدنان صفوة العرب ، والعرب صفوة الإنسانية كلها . وأخذ القصاص يجتهدون في تثبيت هذا النوع من التصفية والتنقية وما يتصل منه بأسرة النبي خاصة ، فيضيفون إلى عبدالله وعبدالمطلب وهاشم وعبدمناف وقصي من الأخبار ما يرفع شأنهم ويعلي مكانتهم ويثبت تفوقهم على قومهم خاصة وعلى العرب عامة . وأنت تعلم أن طبيعة القصص عند العرب تستتبع الشعر ، ولا سيما إذا كانت العامة هي التي تراد بهذا القصص ...
طه حسين بين العولمة والسفسطة
بقلم : د. إبراهيم عوض
أصدر الدكتور طه حسين سنة 1938م كتابًا كان قد ألفه قبل ذلك بسنةٍ عنوانُه "مستقبل الثقافة فى مصر"، حاول فيه أن يضع الأسس التى ينبغى أن تسير عليها العملية التعليمية فى أرض الكِنَانة بعد حصولها على استقلالها الصُّورِىّ سنة 1936م. ولسوف يشعر القارئ بعد قليل، حين يطالع اقتراحات طه حسين فى هذا الصدد، وكأن الأمر لا يتعلق بمصر العربية المسلمة، ولا أن الاقتراحات التى تضمنها الكتاب قد صدرت عن رجل تربى فى الأزهر الشريف وجاء من الصعيد رمز الصلابة والكرامة والعزة الوطنية والدينية، بل يتعلق ببلد لا علاقة له بدين محمد، وصدر عن رجل لا تربطه بالعروبة والإسلام صلة. والكتاب مملوء سفسطةً عجيبةً لا أدرى كيف جَرُؤ طه حسين على الانصياع إليها وتصوَّر أنها يمكن أن تجوز على عقول المصريين، المصريين الذين طالما نافحوا عن الإسلام فى ميادين الوغى والعلم، وأحبوا كتابه ولغته وشريعته وسنة رسوله وبذلوا فى دراسة ذلك كله والحفاظ عليه نور عيونهم وذَوْب عقولهم. ولقد ألَّف الرجل كتابه هذا بعد أن حضر فى باريس صيف عام 1937م عدة مؤتمرات للفكر والتعليم كان فيها، كما يقول، "أشبه شىء بالطالب الذى يختلف إلى الدروس والمحاضرات فى مواظبة وانتظام" (مستقبل الثقافة فى مصر/ دار الكتاب اللبنانى/ بيروت/ 1973م/ 8)، وأحسب أنه قد تلقى فى هذين المؤتمرين التعليمات بالبدء فى تطبيق دعوة الانسلاخ عن الإسلام على أخطر ميدان من ميادين الحياة، ألا وهو ميدان التعليم والثقافة، فلم يضيع وقتا بل شرع من فوره فى أداء المهمة المنوطة به فأَلَّف الكتاب وانتهى منه فى ذلك الصيف نفسه وقبل أن يعود بسلامته من ربوع مهبط الوحى الجديد كما يبيِّن التاريخُ والمكانُ اللذان أملاه فيهما وأثبتهما فى آخره. كذلك فإنى موقنٌ أن القارئ الكريم، بعد أن يتابع معنا ما جاء فى الكتاب من أفكار وما ينادى به مؤلفه من دعوات، سوف يلاحظ على الفور أن ما نسمعه الآن من كلام عن العولمة ووجوب تعديل المناهج الدراسية وتجفيف منابع الفكر الدينى فى بلاد المسلمين ليس وليد الساعة، بل هو كلام قديم. وهذا إن دل على شىء فإنما يدل على أن أعداءنا لا ينامون ولا يأخذون الحياة مأخذ الهزل الذى نتّبعه نحن ولا نريد أن نتخلَّى عنه رغم تتالى الصواعق على رؤوسنا وتسويد الهزائم والمخزيات لوجوهنا وتلطيخها لكرامتنا. لقد سبق أن قرأتُ الكتاب وقرأتُ عنه منذ سنوات بعيدة، ثم عدتُ إليه هذا الأسبوعَ مرة أخرى بتأثير طائفة من المقالات التى قرأتها حوله وحول صاحبه فى بعض المواقع المشباكية، وهذا هو تقريرى عنه أضعه بين يَدَىْ أمتى لعلها أن تفيق من الخَدَر الذى تظنه لذيذا، على حين أن وراءه مزيدا من الكوارث التى لا تقلّ شدةً وفداحةً عما خَبَرَتْه منها فى الفترة الأخيرة، بل قد تكون أشد وأفدح وأنكى.(51/387)
وأول ما نقف عنده من السفسطة التى تطالعنا بوجهها الكالح الكئيب فى "مستقبل الثقافة فى مصر" ما يهرف به مؤلفه من أن العقل المصرى هو عقل أوربى. ولا أدرى على أى أساس يزعم ذلك، ولا كيف قاله بهذه الجرأة العجيبة. ومع هذا نراه يكرر القول بأن الأوربيين يرفضون انتسابنا إليهم. ولا أفهم ما الذى يريده الدكتور طه أكثر وأقوى من ذلك كى يكفّ عن محاولة الالتحاق بناس يكرهوننا كل هذه الكراهية ويحتقروننا كل هذا الاحتقار! إنه كعاشقٍ أحمقَ ولهانَ واقعٍ فى غرام راقصة من راقصات الكباريهات، ينثر كل أمواله تحت قدميها استجلابًا لرضاها، لكنها لا تزداد على هذا التقرب إلا عُتُوًّا واشمئزازًا وتكبّرًا، فهى تدوس الأموال المنثورة عند قدميها بحذائها وتركلها فى وجهه، لكن صاحبنا لا يفهم ولا يحسّ، وبدلا من أن تفيق كرامته نراه يوغل فى الاستعطاف وينثر المزيد من الفلوس ويترامى بنفسه على حذائها، لعله أن يكون مع الحذاء أوفر حظا منه مع صاحبة الحذاء، إلا أنه لولهه الأعمى المجنون لا يريد أن يفهم أن الحذاء ليس شيئا آخر غير صاحبة الحذاء، وأن الحذاء كصاحبته ليس له قلب. إنه يأتمر بأمرها وينفذ رغبتها، وليس له إرادة مستقلة عن إرادتها، وهى لا تحب صاحبنا المجنون الولهان ، ومن ثم فالحذاء هو أيضا لا يحبه ولا يمكن أن يحبه. كما أنها حريصة على استذلاله وتحقيره بكل ما أوتيت من قوة وجبروت، بيد أنه لا يفهم! أو قل إنه يفهم جيدا، لكنه يتصور أن إبداء مزيد من الهوان والذل كفيل بأن تستقيم الأمور بينه وبين معشوقته الداعرة التى لا تعرف شيئا اسمه العطف والمرحمة!
يقول د. طه حسين، بعد أن حاول بكل ما وُهِبَ من سفسطةٍ وولعٍ بالجدل الباطل إثبات أننا نحن المصريين أوربيون فى عقلنا وتفكيرنا (فأل الله ولا فألك يا شيخ طه! والله إنك لأزهرى قد نَبَتَ لحم جسدك من خبز الأزهر والفول النابت مهما فعلتَ ومهما حاولتَ التبرؤ من جلدك ومما تحت جلدك، ومهما ألصقتَ من قشور الحضارة الأوربية فوق بَشَرَتك، ومهما مضيتَ فى السخف فزعمت لمحدثيك أن أسلافك الأوائل كانوا من الإغريق كما حكى لنا الدكتور زكى مبارك والدكتور نجيب البهبيتى )انظر كريمة زكى مبارك/ زكى مبارك ناقدا/ دار الشعب/ 1978م/ 69، ود. نجيب محمد البهبيتى/ مدخل لدراسة التاريخ والأدب العربيين/ دار الثقافة/ الدار البيضاء/ 1398هـ- 1978م .(61/ أنت يونانى؟ أنت؟ إنما أنت صعيدى قح، وأغلب الظن أنك عربى الأصول، لكنك تكابر على عادتك الذميمة فى العناد ومكايدة جمهور العرب والمسلمين والتقرب إلى الغانية اللعوب التى ضَرِيَتْ على ركل عشاقها الحمقى الولهانين بالحذاء لعلمها أنهم قد ضَرُوا بدورهم على الغرام بهذا الركل والاستزادة منه! وإلا فهل كان اسم جدك البعيد "خريستو" أو "كوستا" أو " كرامانليس" مثلا؟ أما إن كنت يونانيا حقًّا رغم ذلك كله فمعناه أن كلامك عن الفرعونية التى تشهرها فى وجه انتمائنا العربى والإسلامى هو من باب ذر الرماد فى العيون حتى لا نتنبه إلى الحقد الأسود الذى يضمره قلبك تجاه مقومات وجودنا وحضارتنا)، يقول الدكتور طه: "وأما الأوربيون فهم...يبذلون الجهود الخِصْبة الشاقة فى تحقيق الصلات بين المصريين القدماء والحضارة اليونانية التى هى أصل حضارتهم، ثم هم بعد ذلك كله يُعْرِضون عن الحق ويتجاهلون هذه الأوليات، ويَرَوْن فى سيرتهم وسياستهم أن مصر جزء من الشرق، وأن المصريين فريق من الشرقيين. وليس من المهم ولا من النافع الآن أن نبحث عن مصدر هذا التعنت الأوربى الذى يرجع إلى السياسة وإلى المنافع قبل كل شىء، وإنما المهم أن نمضى فى هذه الملاحظة التاريخية حتى يَثْبُت لنا فى وضوحٍ وجلاءٍ أن من السخف الذى ليس بعده سخفٌ اعتبارُ مصر جزءًا من الشرق واعتبارُ العقلية المصرية عقلية شرقية كعقلية الهند والصين" (ص 28). أرأيتم شعورا بالنقص كهذا الشعور؟ أرأيتم انسلاخًا من الإنسان عن أصله وتنكرًا لماضيه ومجد أجداده وآبائه كهذا الانسلاخ؟ والله إنها لمهزلة، فالأوربيون الذين يحاول طه حسين الالتصاق بهم يفرون منه كما يفر السليم من الأجرب، لكنه يصر على الترامى على أقدامهم متهما موقفهم بأنه سخف ما بعده سخف! وفاته أن كل شىء يمكن أن يتم بالإكراه ما عدا الحب، فلا يتم إلا بالتراضى! آمنّا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا ورسولاً، وبالعربية ثقافةً وانتماءً، وبَرِئْنا من كل من يحاول سَلْخَنا عن شرقيتنا العربية الإسلامية وزعزعة أصولنا وإلحاقنا عبثًا وباطلاً بأوربا وتمريغ شرفنا وكرامتنا فوق ذلك فى الرَّغام والطين!(51/388)
ثم إنه يقيم دعواه المنكَرة الزاعمةَ بأن عقلنا نحن المصريين هو عقل أوربى على أساس أن اليونان كان لها مستعمرات فى بلادنا ذات يوم قبل ألف عامٍ تقريبا من ميلاد المسيح عليه السلام (ص20)، وأُضِيفُ أنا أنها قد احتلتنا نحو ثلاثمائة سنة قبيل الميلاد مما تعمَّد كاتبنا تجاهله. أى أن طه حسين يريد أن يعيدنا إلى ذلك التاريخ البعيد الذى شبع موتًا وشحب فى الذاكرة بل انطمس انطماسًا! أفينبغى أن نقف عند هذه الفترة القصيرة جدا جدا من حياة الأمم والتى لم يعد أحد من المصريين يتذكرها أو يَذْكُرها حتى بلسانه مجرد ذِكْر، فنتعبَّد لها ونلغى كل ما سبقها ولحقها مما ينكرها وينقضها نقضا؟ أترانا، حتى عندما كانت اليونان تحتل بلادنا، قد اعتنقنا لغتها وآمَنَّا بدينها واتخذنا عاداتها وتقاليدها وتشرَّبْنا ثقافتها وجعلناها ثقافة لنا؟ كلا لم يقع شىء من ذلك، بل كما قلتُ: ليس هناك من بين المصريين من يتذكر شيئا من هذه الحقبة التى يرفضها العقل المصرى والشعور المصرى والخلق المصرى والكرامة المصرية والعزة الوطنية: لا على المستوى الحكومى ولا على المستوى الشعبى، ولا على مستوى المثقفين (اللهم إلا من تخصص منهم فى تاريخ تلك الفترة من تاريخنا كما يتخصص أى واحد منا فى اللغة اليابانية مثلا أو فى التاريخ الأوربى) ولا على مستوى الجماهير، على عكس ما فعلناه مع لغة العرب وثقافة العرب والدين السماوىّ الذى حمله إلينا العرب وكثير من عادات العرب وتقاليد العرب، حتى لقد نَسِينا لا الحقبة اليونانية فقط من تاريخ مصر بل ما كنا نتكلمه من لغة وما كان آباؤنا يدينون به من دين أيضًا، اللهم إلا من بقى منا على نصرانيتهم، أما من كان يدين بالعجل أبيس أو الإله أوزيريس أو آمون أو آتون فذهبوا إلى غير رجعة فى بطون التاريخ غير مأسوف عليهم من أحد، لا أعاد الله شيئا من تلك الأديان بعد أن ذقنا حلاوة التوحيد ونهلنا من دين محمد. وبالمناسبة فالنصرانية ليست دينا مصريا، بل هى دين وافد على بلادنا كما أن الإسلام دين وافد من الجزيرة العربية، التى نزل فيها الوحى على محمد عليه السلام، وكل ما فى الأمر (وهذا هو المهم، وهو الفيصل الحاسم) أن الذين اعتنقوا دين محمد هم الأغلبية الساحقة، على حين أن الذين ظلوا يتمسكون بدين النصرانية هم الأقلية. وكلا الفريقين مصرى صميم له احترامه وحقّه فى أن يؤمن بما يقتنع به، أما الحمقى الذين ينظرون شَزْرًا إلى دين الإسلام ويجأرون بأنه دينٌ أجنبىّ وأن الذين يؤمنون به هم أيضا أجانب ينبغى أن يعودوا من حيث أَتَوْا فهم مجانين ليس لهم من مكان يليق بهم إلا فى الخانكة! وقد كان المظنون أن تقول ذلك الأغلبيةُ المسلمةُ لغيرها، لكن المسلمين لا يمكن أن يفكروا على هذا النحو الإجرامى البليد، بل يقولون إن مصر بلد الطائفتين! وعلى أى حال فلم يقل أى من الفريقين، فيما نعلم، إنه صاحب عقلية أوربية، اللهم إلا طه حسين من بين من ينتسبون للإسلام، وإلا سلامة موسى من بين من ينتسبون لدين النصارى!
وعلى ذكر هذا التحمس الطَّاهَوِىّ لليونان ومستعمرات اليونان وتأثير اليونان الفكرى فى مصر الفرعونية أنقل للقارئ هذه السطور التى تصف فيها زوجتُه بعضَ ما كان يفعله فى شتاء 1939م فى تونا الجبل برفقة سامى جبرة المسؤول عن الآثار هناك: "وكان طه، الذى ظل مسؤولا أمدًا طويلاً عن كافة أراضى الحفريات، يحب على نحوٍ خاصٍّ هذه الأرض التى كانت تبدو له وكأنها تخصه، فقد كان يجد فيها حضارة يحبها ما دام العالم الفرعونى كان يتحول هنا تحت تأثير الاندفاعة الهيلينية. كانت موميات القرود فى الأنفاق تهمّه بشكل عابر، غير أنه كان يتوقف فى معبد بيتوزيريس. كان يمشى ببطء بين أكثر القبور تواضعًا أو بين النّصب الجنائزية. وذات يوم دخلنا إلى واحد من هذه القبور. كان يشبه القبورَ الأخرى بدَرَجه الخارجى الضيق. صعدنا إلى الغرفة الصغيرة، وكان قد وُضِع فيها قديما جسدٌ نحيفٌ لفتاة كانت قد ألقت بنفسها فى النيل، اسمها "إيزيدورا"، وتقول الكتابة الموجودة على قبرها إن أباها قد طلب من أجلها القرابين والصلوات. وفجأة لاحظتُ أن طه ابتعد عنا، ثم طلب إلينا أن نحمل إليه مصباحًا قديمًا (وكان ذلك متوافرا)، وأن نشعله بالبَخُور وأن نستمر فى إشعاله. لم يعد سامى يُدِير أشغال تونا، ولا أدرى إذا كان مصباح إيزيدورا لا يزال يشتعل أحيانا" (سوزان طه حسين/ معك/ 135- 136). وقبل أن أمضى أحب أن أتساءل: ما كل هذه الرقة والحِنِّيَّة والرهافة العاطفية؟ أين التنوير والتفكير العلمى الذى يصدع أدمغتنا به حواريّو طه حسين، وهم يَرَوْنه يشعل مصباحا لإيزيدورا المسكينة التى ماتت من آلاف السنين، استجابة لرغبة أبيها فى تقديم القرابين ورفع الابتهالات للآلهة؟ أم إن التمرد (التنويرى) لا يكون إلا فى مواجهة دين محمد الطاهر النظيف من ظلمات الوثنية ونجاسات الخرافة؟(51/389)
إن الدكتور طه يلجأ إلى حيلة مكشوفة من حِيَل العيال الصغار حين يقول إن فريقا من المصريين يريدون أن يُلْحِقونا بالشرق، مع أننا لا ننتمى إلى الصين أو فيتنام أو اليابان، فكيف يحسب هؤلاء أننا شرقيون؟ ثم يذهب فيدلل على أنه لا شىء فى ثقافتنا يربطنا بهذه الأمم. وهى، كما قلت، حيلة مكشوفة من حِيَل العيال الصغار، إذ مَنْ بالله من المصريين أو من غير المصريين من أهل منطقتنا هذه يقول إننا شرقيون بذلك المعنى؟ أتحدى طه حسين أو غير طه حسين أن يأتى لى بمن يقول هذا! إن الذين يقولون بشرقيتنا إنما يقصدون أننا عرب مسلمون، فنحن جزء من الشرق العربى المسلم كما يعرف ذلك كل أحد، على حين يَتَبَالَهُ طه حسين ظنًّا منه أنه من الذكاء بحيث يمكن أن يخدعنا فى أمرٍ مكشوفٍ بل مفضوحٍ كهذا، وأننا من الغباء بحيث يمكن أن نبلع بسهولةٍ هذا الطُّعْم الخائب! إن الرجل هنا إنما يُسَفْسِط، وأىّ سفسطة؟ إنها سفسطة ملعونة مخربة مدمرة، وهو يمارسها بكل جرأة وبرود أعصاب وجمود وجه متظاهرا بالبراءة التامة، وهو أبعد ما يكون عن البراءة!
يقول بسفسطته التى لا تضارعها سفسطة أخرى: "وأنا من أشد الناس زهدًا فى الوهم وانصرافًا عن الصور الكاذبة التى لا تصوِّر شيئا، وأنا مقتنع بأن الله وحده هو القادر على أن يخلق شيئا من لاشىء، فأما الناس فإنهم لا يستطيعون ذلك ولا يقدرون عليه. وأنا من أجل هذا مؤمنٌ بأن مصر الجديدة لن تُبْتَكَر ابتكارا، ولن تُخْتَرَع اختراعا، ولن تقوم إلا على مصر القديمة الخالدة، وبأن مستقبل الثقافة فى مصر لن يكون إلا امتدادا صالحا راقيا ممتازا لحاضرها المتواضع المتهالك الضعيف. ومن أجل هذا لا أحب أن نفكر فى مستقبل الثقافة فى مصر إلا على ضوء ماضيها البعيد وحاضرها القريب، لأننا لا نريد ولا نستطيع أن نقطع ما بين ماضينا وحاضرنا من صلة. وبمقدار ما نُقِيم حياتنا المستقبلة على حياتنا الماضية والحاضرة نجنِّب أنفسنا كثيرا من الأخطار التى تنشأ عن الشطط وسوء التقدير والاستسلام للأوهام والاسترسال مع الاحلام! ولكن المسألة الخطيرة حقا والتى لا بد من أن نُجَلِّيَها لأنفسنا تجلية تزيل عنها كل شك، وتعصمها من كل لَبْس، وتُبْرِئها من كل ريب، هى أن نعرف أَمِصْر من الشرق أم من الغرب. وأنا لا أريد بالطبع الشرق الجغرافى والغرب الجغرافى، وإنما الشرق الثقافى والغرب الثقافى. فقد يظهر أن فى الأرض نوعين من الثقافة يختلفان أشد الاختلاف، ويتصل بينهما صراع بغيض، ولا يَلْقَى كل منهما صاحبه إلا محاربا أو متهيئا للحرب. أحد هذين النوعين هذا الذى نجده فى أوربا منذ العصور القديمة، والآخر هذا الذى نجده فى أقصى الشرق منذ العصور القديمة أيضا. وقد نستطيع أن نضع هذه المسألة وضعًا واضحًا قريبًا يُدْنِيها إلى الأذهان وييسِّرها على الألباب: فهل العقل المصرىّ شرقىّ التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء، أم هل هو غربىّ التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء؟ وبعبارة موجزة جليَّة: أيهما أيسر على العقل المصرى: أن يفهم الرجلَ الصينىَّ أو اليابانىَّ، أو أن يفهم الرجلَ الفرنسىَّ أو الإنجليزىّ؟" (ص16- 17).
أرأيت أيها القارئ الكريم كيف يضع طه حسين المسألة؟ إن مصر إما أن تكون بلدا شرقيا كالصين واليابان وفيتنام، وإما أن تكون بلدا أوربيا، وكأنه لا يوجد من الشرق إلا الشرق الأقصى، فلا شام ولا جزيرة عرب ولا إيران ولا باكستان ولا أفغانستان ولا دول أواسط آسيا المسلمة ولا ليبيا ولا تونس ولا الجزائر التى كانت حبيبتُه فرنسا تحتلها وتعمل على إخراجها عن عروبتها وإسلامها، ولا المغرب ولا موريتانيا ولا السودان ولا الصومال ولا إرتيريا ولا بقية إفريقيا الموحِّدة التى تشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. كذلك من الجلىّ الذى لا يحتاج إلى تنبيه إليه أن طه حسين يتجاهل تجاهلا تامًّا تاريخ مصر الإسلامى، وهو الذى لا تعرف الأغلبيةُ الساحقةُ الماحقةُ من المصريين لها تاريخا غيره، فتراه يرجع بعيدا بعيدا إلى التاريخ القديم الذى كانت مصر متصلة فيه بالإغريق، ثم يقفز قفزة عالية هائلة فوق القرون المتطاولة التى عاشتها مصر فى نور الإسلام لينزل على جذور رقبته فى العصر الحديث الذى كانت إنجلترا تحتل فيه أرض الكنانة وتلتزم مصر باتفاقيات مع الدول الأوربية تجبرها على أن تنحو فى تعليمها وإدارتها وتشريعاتها وسياستها مَنَاحِىَ لا تنسجم، إن لم تتعارض تعارضا عنيفا، مع ثقافتها ودينها ولا يفكر هو فى الدعوة إلى الانعتاق منها بل بالعكس يرى أن على مصر الوفاء بها (ص45- 46، 82، 88، 91- 92 مثلا)! ولأنه بهلوان بارع فإنه يقوم من السقطة دون أن تنكسر له رقبة، ذلك أن أصحاب السيرك قد وضعوا له الحشايا الإسفنجية التى تتلقاه عند سقوطه من حالقٍ تلقيًا حنونًا، لا حبًّا فيه، وإنما فتنةً لنا، نحن المتفرجين البُلْه، عن ديننا وثقافتنا واتجاهنا الروحى والسياسى!(51/390)
وقد غاظ هذا التقسيمُ البهلوانىُّ المرحومَ سيد قطب فكتب ينتقد صاحبَه قائلاً: "ووَضْعُ المسألة على هذا النحو تتجلى فيه كل مهارة الدكتور فى المناقشة، فهو قد قسَّم الدنيا قسمين اثنين لا ثالث لهما: قسم تمثله الصين واليابان، وإن شئت فضُمَّ إليهما الهند وأندونيسيا، وقسم تمثله فرنسا وإنجلترا، وإن شئت فضُمَّ إليهما كل دول أوربا وأمريكا. فلا بد، للإجابة عن سؤال الدكتور على هذا الوضع، أن تكون مصر أمة غربية لأنها، بلا تردد وبدون شك، تَفْهَم الإنجليزىَّ والفرنسىَّ أكثر مما تَفْهَم الصينىَّ واليابانىَّ فى هذا الزمان! وهذا ما قصد إليه الدكتور من توجيه السؤال على هذا المنوال! ولكن لا ريب أن وجه المسألة يتغير لو كان الشرق الذى يواجهك به غير الصين واليابان والهند وأندونيسيا. أى لو كان هناك قسم ثالث للدنيا يمثله الشرق العربى والغرب العربى، ومصر بينهما حلقة الاتصال. ثم يزداد وجه المسألة تغيرا لو كانت الدنيا أكثر أقساما حسب عقلياتها المختلفة، وهو الواقع، فكانت أوربا وأمريكا تنقسمان بحسب العقلية الديمقراطية والعقلية الدكتاتورية، وبينهما خلاف أساسى لا شك فيه، وكان الشرق ينقسم بحسب أجناسه، وهى كثيرة، وحسب طبيعة بلاده، وهى متغايرة...إلى آخر الأقسام التى لا بد أن يفطن إليها ويدقق فى تمحيصها من يريد وضع مناهج الثقافة حسب العقليات" (سيد قطب/ نقد كتاب "مستقبل الثقافة فى مصر"/ الدار السعودية للنشر والتوزيع/ 1389هـ- 1968م/ 12- 13).
كذلك يقول الأستاذ الدكتور بسفسطته المعهودة إن العلاقة بين الغرب الأوربى والشرق الأقصى كانت دائما علاقة صراع وحروب، متناسيا أنه لم تكن هناك أية علاقات بين هذين القطبين فى التاريخ القديم البتة، أما نحن فمنذ القديم لم تكن لنا بالغرب من علاقة إلا علاقة الصدام الدموى، وبخاصة بعد الإسلام بدءًا بالحروب بينه وبين الدولة البيزنطية التى استطاع الدين الحنيف أن يكسحها من المنطقة إلى الأبد، ومرورًا بالحروب الصليبية التى كسبت فيها أوربا الجولة الأولى إلى أن تمكن المسلمون من لملمة شعثهم وتضميد جراحاتهم ثم تلقين أولئك الأوغاد آلم درس خبروه فى حياتهم وأعادوا هذا الواغش البشرى إلى مقالب الزبالة التى كان قد جاء منها، وكذلك محاكم التفتيش التى ذاق المسلمون على أيدى جلاديها المتوحشين ما لم يذقه بشر حتى تم اقتلاعهم من دينهم وبلادهم، وانتهاءً بالاستعمار الأوربى الذى بسط لعدة عقودٍ سلطانه على المنطقة وأذلها واستغلها أبشع الإذلال والاستغلال، وما زال يبسط سلطانه الإجرامى على بعض أقطارها مثل فلسطين وأفغانستان والعراق. فمتى يا ترى كانت العلاقة بيننا وبين الغرب أيها السوفسطائى علاقة تفاهم وتعاون؟ إنك ومن هم على شاكلتك لستم حَكَمًا على أممكم، فأمثالكم فى كل مكان وزمان إنما ينحازون إلى الأجنبى ويبيعون أنفسهم له رِخَاصًا مقابل عَرَضٍ من الدنيا تافةٍ ضئيل! بل لقد كانت علاقة أوربا بعضها ببعض علاقة خصام وسفك دماء فى كثير من الأحيان، وما الحربان العالميتان منا ببعيد! لكن السوفسطائيين قوم يتبالهون ويَسْتَبْلِهون! أعاذنا الله من السفسطة والسوفسطائيين!
والغريب أن د. طه لا ينكر أن مصر كان لها علاقات ببعض دول الشرق الأدنى (بعضها فقط كما يريد منا أن نفهم، وهى الشام والعراق، فلا كلام عن السودان ولا الصومال ولا ليبيا ولا غيرها من دول الشمال الإفريقى، وكان الله يحب المحسنين!)، لكن أى مصر؟ إنها مصر الفرعونية، وليست مصر العربية المسلمة التى لا نعرف انتماءً لغيرها الآن، كما أن هذه العلاقات لا تشفع عنده لكى تُعَدّ مصر بلدا شرقيا رغم ذلك مع أن الوضع هنا هو نفسه فى حالة الإغريق، بل إن الصلات هنا أكثر وأشد على الأقل بحكم الجوار المباشر الذى لا يفصلنا فيه عن تلك الدول بحر ولا مزاج نفسى وحضارى مختلف أشد الاختلاف (ص19- 20). فلماذا يا ترى؟ إن هذا يذكرِّنا بالمثل الشائع: "عنزة ولو طارت!"، كما يذكِّرنا بقصة ذلك الرجل الجاحد للجميل والذى سبق أن عومل أثناء اغترابه فى بلدٍ من البلاد على يد رجل من أهله معاملةً غايةً فى الكرم والجود، فوعد مُكْرِمَه أنه متى أتى إلى بلده فسوف يرد إليه الجميل أضعافا. ثم حدث أن ساقت الظروف هذا المحسِن إلى بلد الجاحد فذهب إليه أملاً فى أن يجد لديه ما يزيل عنه الشعور بالغربة ووحشتها، لكن صاحبنا أوقفه على الباب وأخذ يتطلع إليه ويتباله منكرا أنه يعرفه أو سبق له أن رآه، والمسكين يخلع مرة قلنسوته، ومرة برنسه، لعل ذلك يساعد الرجل على وضوح الرؤية والتذكر. فما كان من صاحب البيت إلا أن أسرع قائلاً اختصارا للجهد والوقت وتيئيسًا للضيف أن ينتظر منه أية معاملة كريمة: أَرِحْ نفسك يا أخى، فوالله لو أنك خرجت من جلدك نفسه ما عرفتُك!(51/391)
ثم إن العبرة على كل حال بشعور الشعب وموقفه من علاقات مصر بالدول الأخرى: لقد ظل المصريون ينظرون إلى الإغريق على أنهم محتلون غرباء، فلم يندمجوا فيهم ولا اصطنعوا لغتهم ولا أخذوا عنهم دينهم ولا تثقفوا بثقافتهم، بخلاف ما فعلوا مع العرب حين أتوهم بالإسلام، فقد تعربوا مثلهم لغة وثقافة، وأقبلوا على الدين الذى جاؤوهم به واعتنقوه وتفانَوْا فى التمسك به والدفاع عنه فكريا وعسكريا. ولا يظنَّنَّ ظانٌّ أن ذلك كان سببه حكم العرب لمصر، فقد احتل الإغريق وغير الإغريق مصر وحكموها فلم تسلس مصر قيادها لهم ولم تقتبس منهم لغتهم ولا دينهم ولا عاداتهم وتقاليدهم كما قلنا، كما أن العرب سرعان ما خلَفهم فى حكم مصر الطولونيون مرة، والإخشيد أخرى، والفاطميون ثالثة، والأيوبيون الأكراد رابعة، والمماليك الأوربيون خامسة، والعثمانيون الأتراك سادسة، لكنها خلال تلك النظم السياسية لم يحدث قط أن فكرت فى نبذ الإسلام أو اللسان الذى نزل به كِتَاب الإسلام، بل ظلت قلبًا وقالبًا وروحًا وعقلاً وشعورًا وخلقًا وتشريعًا وعاداتٍ وتقاليدَ بلدًا إسلاميًّا، كما لم يفكر أى من هؤلاء الحكام فى نبذ الإسلام أو لسانه، اللهم إلا أن العثمانيين قد فرضوا لغتهم فى أواخر عهدهم فى بعض مجالات الإدارة، لكنْ سرعان ما انفصلت مصر عنهم عقب ذلك وعادت العربية إلى تألقها كَرَّةً ثانية لم يكسف من نورها خطة الإنجليز فى جعل قسمٍ من مناهج التعليم بلغتهم. بل لقد أصبح يُنْظَر إلى أرض الكِنَانة منذ قرون على أنها زعيمة العالم العربى والإسلامى. ثم يريدنا الدكتور طه حسين الصعيدى الأزهرى، لمجرد أنه ذهب إلى أوربا والتقطه الأوربيون وجعلوا منه صنيعة لهم لقاء ثمنٍ دنيوىٍّ بخسٍ، أن ننزل على سفسطته وننسى هذا كله ونلقى بتلك الكنوز والمكاسب فى البحر ونذهب فنرتمى على أقدام أوربا نستعطفها ونقبل حذاءها حتى ترضى عنا وتقبلنا أتباعا أذلاء لها! أى منطق يقول بهذا يا إلهى؟ وأى عقل يمكن أن يظن أنه ينجح فى إقناع المصريين بهذا؟ لا يا دكتور طه، يفتح الله! إن طه حسين يريد أن يسوّق لنا الوهم الكذوب فيزعم أن العلاقة بين مصر واليونان فى التاريخ القديم كانت علاقة تفاهم ومودة حتى عندما كانت لها مستعمرات فى بلادنا، بخلاف المسلمين العرب الذين يقول إن مصر لم تسلس لهم قيادها بسهولة بل ثارت عليهم معتزة بشخصيتها الوطنية (ص18- 21، 27). ترى أين كانت هذه العزة الوطنية إزاء المستعمرات اليونانية والاحتلال اليونانى؟ ما أغرب عقلك يا دكتور طه حين تسوِّد صفحاتك هنا عن الإسلام بمداد الحقد واللَّدَد فى التشويه والرغبة الآثمة فى التلاعب بحقائق التاريخ ومعانى الوطنية التى تفقأ عين وقلب وعقل كل مكابرٍ عنيدٍ!(51/392)
ويمضى الدكتور طه فى التظرف قائلا: "قد يقال إن الحضارة الأوربية مادية مسرفة فى المادية لا تتصل بالروح أو لا تكاد تتصل به، وهى من أجل ذلك مصدر شر كثير تشقى به أوربا ويشقى به العالم كله أيضا... لكنّ مِنْ أجهل الجهل وأخطإ الخطإ أن يقال إن هذه الحضارة المادية قد صدرت عن المادة الخالصة. إنها نتيجة العقل، إنها نتيجة الخيال، إنها نتيجة الروح، إنها نتيجة الروح الخِصْب المنتج، نتيجة الروح الحى المتصل بالعقل فيَغْذُوه وينمّيه ويدفعه إلى التفكير ثم إلى الإنتاج ثم إلى استغلال الإنتاج لا نتيجة هذا الروح العاكف على نفسه الفارغ لها الفانى فيها الذى تُفْسِد الأثرةُ عليه أمرَه فلا ينفع ولا ينتفع ولا يفيد ولا يستفيد... ما هذا الشرق الروحى؟ ليس هو شرقنا القريب على كل حال من غير شك، فشرقنا القريب، كما رأيت، هو مهد هذا العقل الذى يزدهى ويزدهر فى أوربا، وهو مصدر هذه الحضارة التى نريد أن نأخذ بأسبابها. وما أعرف أن لهذا الشرق القريب روحا يميزه من أوربا ويتيح له التفوق عليها. ظهرت فى هذا الشرق القريب فنون وعلوم وآداب تأثر بها اليونان والرومان فأنتجوا حضارة أوربا، وأعانهم على ذلك المسلمون، أى أهل هذا الشرق القريب. وظهرت فى هذا الشرق القريب ديانات سماوية أخذ الأوربيون منها كالشرقيين بحظوظهم: فمنهم المسيحى، ومنهم اليهودى، ومنهم المسلم أيضا. أفتكون هذه الديانات روحا فى الشرق، ومادة فى الغرب؟ كلا ليس الشرق الروحى الذى يُفْتَن به بعض الأوربيين صادقين وكاذبين فيخدعوننا به هو الشرق القريب، وإنما هو الشرق البعيد والشرق الأقصى. هو الهند والصين واليابان وما فيها من هذه الديانات والفلسفة التى لا تتصل أو لا تكاد تتصل بدياناتنا وفلسفتنا. فلننظر أى الأمرين نختار لأنفسنا: أنريد أن نعتنق ديانة الصينيين وفلسفتهم ونأخذ بأسباب حضارتهم؟... إن حديث الشرق الروحى هذا حديثٌ لا غَنَاء فيه. هو مضحك إن نظرنا إليه نظرة عامة، فإن المصريين الذين يزهدون فى الحضارة الأوربية ويدعون إلى روحية الشرق يعرفون إذا خَلَوْا إلى أنفسهم أنهم يهزلون ولا يجِدّون، وأنهم لو خُيِّروا لكرهوا أشد الكره أن يَحْيَوْا حياة الصين والهند. ولكن هذا الحديث خطر لأنه يُلْقِى فى رُوع الشباب بغض الحضارة الأوربية التى يعرفونها فيثبِّط هممهم ويُضْعِف عزائمهم ويوجههم نحو هذه الحضارة الشرقية التى يجهلونها فيدفعهم إلى بيداء ليس لها أول ولا آخر" (ص74- 78).
وهذا كله حديثُ سفسطةٍ لا يثبت على محك المناقشة، إذ من قال إن المصريين حينما يدعون إلى الاستعصام بروحانية الشرق إنما يفكرون فى الهند والصين واليابان؟ من قال ذلك منهم يا ترى؟ ولماذا لم يذكر لنا طه حسين بعض أسماء من نادَوْا بذلك! لكنه لم يفعل ولم يكن لِيفعل، لأنه يعرف تمام المعرفة، كما يعرف الواحد منا أبناءه، أنه لا يوجد بين المصريين من يدعو بهذه الدعوة المضحكة! إن روحانية الشرق عند المصريين والعرب والمسلمين أجمعين هى الإيمان بالله والرسل واليوم الآخر والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار والملائكة والقدر خيره وشره، وأن الدنيا من ثم ليست هى كل شىء، بل هناك حياة أخرى ينبغى أن يعمل الإنسان لها كما يعمل لدنياه، وأن الكائنات التى نراها ونسمعها ونشمها ونلمسها هنا على الأرض ليست هى كل الموجودات، بل هناك الملائكة والجن، وقبل ذلك كله وفوق ذلك كله الله سبحانه وتعالى الخالق الرازق الأول الآخر الظاهر الباطن الجبار الرحيم الكريم المريد القدير! والمسلمون عندما يدعون بهذا لا يريدون الانصراف عن الدنيا والتفوق فيها والاستمتاع بطيباتها كما يحاول الدكتور طه أن يوهم قراءه عبثا، بل يبغون أن يجمعوا بين الحسنيين: الدنيا والآخرة. إن الأوربيين والأمريكان متقدمون من دون أدنى ريب فى العلوم الطبيعية والإنتاج والاقتصاد والاكتشافات والاختراعات والنظام والجَلَد والتخطيط والنَّفَس الطويل والتدبير وفنون الحرب والقتال، وليس هناك من المسلمين الذين يؤبه بهم من يقول بخلاف ذلك. إلا أن هذا لا يجعلنا نصدق ما يدعونا إليه طه حسين من الجرى فى طريقهم كحَذْوِك النعل بالنعل وتقليدهم تقليد القرود والببغاوات، فهم إن تفوقوا فى أمور الدنيا كما لا يستطيع أن ينكر ذلك أحد، مقصّرون فى مجال الإيمان بالله والرسل واليوم الآخر...إلخ. أما القلة القليلة التى تقول إنها تؤمن بذلك فإنها لا ترضينا نحن المسلمين لأنها لا تؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام ولا بقرآنه الذى نزل عليه من السماء، بل تؤمن بأديان يعتقد المسلمون أنه قد أصابها العبث والتحريف، بل استنفدت أغراضها التى أنزلها الله من أجلها وصار واجبا على أتباعها أن يدخلوا فى الإسلام، الدين الخاتم الذى جاء للبشر جميعا.صحيح أن المسلمين بوجه عام متخلفون، لكن هذا لا يقلب الحق باطلا ولا الباطل حقا، فدينهم باقٍ كما هو بطهارته الأصلية الربانية لم يتغير أو يصبه عبث أو تحريف.(51/393)
وبالمثل لا ينبغى أن يفتّ هذا الوضعُ المزرى والمخزى الذى عليه المسلمون المعاصرون فى أعضادهم أو يثبّط عزائمهم، فإن رحلة الألف ميل إنما تبدأ بخطوة واحدة، فضلا عن أن شرف الغاية وما سوف يجنيه صاحبها من ورائها من كرامة وعزة ومجد، كلّ ذلك كفيلٌ بأن يُقَوِّىَ من روحه المعنوية ويستحثه على بذل الجهد ومضاعفته إلى أن يصل إلى مبتغاه وهو محتفظٌ بحريته واستقلاله، مؤمنٌ بأنه خليق بأن يُتْبَع ولا يَتْبَع وبأنه قد أثبت وفاءه لتاريخه ومجده التالد لم يفرِّط فى شىء منه وأن ربه ينظر إليه من فوق سبع سماوات مبارِكًا له ومباهيًا به ملائكته المقربين لأنه استطاع أن يحقق المعادلة التى فشل الغرب رغم تقدمه المادى والتقنى فى تحقيقها، ألا وهى الجمع بين التفوق والقوة والعزة فى الدنيا وبين النجاة والسعادة فى الآخرة، وذلك بالخلوص من دنس الحضارة الأوربية المتمثل فى الكفر بالله واليوم الآخر، وشرب الخمر وأكل الخنزير، والانحلال والشذوذ الجنسى بكل ألوانه، والاغترار بما وصل إليه الإنسان من علمٍ رغم تفاهته بالنسبة لما فى الكون من أسرار، والتعامل مع الأمم الأخرى بكبر وغطرسة وإجرام وتوحش وتقتيل وتدمير ممنهج لا يعرف شيئا اسمه الرحمة أو الخجل أو الخوف من الله أو مراعاة ما يسمَّى بـ"حقوق الإنسان" أو "الرأى العام العالمى"...إلى آخر ما يضحكون به علينا ويشهرونه فى وجوهنا كى يركّعونا ويُخْضِعونا لهم ولأغراضهم الدنيئة التى يُلْبِسونها أنبل المقاصد مما لا يستطيعه إبليس ذاته.
إن الدكتور طه ينخرط فى فاصل من المنّ علينا بنتائج الحضارة الأوربية التى يذكّرنا أنها قد تغلغلت فى أرجاء حياتنا إلى حد بعيد، مثل السكك الحديدية والبرق والهاتف وطراز الملابس والأثاث وما إلى ذلك مما لا نجد فيه شيئا يُضادّ ديننا أو ظروفنا وتقاليدنا، إلا فى ميدان الملابس، فكثير منا الآن يؤثرون الجلباب مثلا على السترة والسروال والقميص تخففًا من سطوة الحر الشديد فى فصل الصيف على الأقل فى البيت، كما أن المرأة المسلمة لا يلائمها لباس المرأة الأوربية التى لا تلتزم فى سلوكها قيم الحشمة ولا العفة، وهو ما رأينا انعكاسه فى الشارع المصرى فى العقود الأخيرة، إذ عاد ملايين النساء إلى ستر شعورهن وصدورهن وأذرعهن وسيقانهن إحساسًا منهن بأنهن فى الوضع الجديد (الجديد واقعا، وإن كان قديما فى الأصل) أدنى إلى طاعة أوامر دينهن واجتناب مناهيه، بعد أن كنا أيام الجامعة لا نكاد نرى فتاة واحدة من زميلاتنا تفكر فى تغطية رأسها مثلا مجرد تفكير! ولقد ذكرتُ ذلك بالذات ردًّا على قول طه حسين فى نبرة التحدى والمغايظة: "مدَّت أوربا الطرق الحديدية وأسلاك التلغراف والتليفون فمددناها، وجلست أوربا إلى الموائد واتخذت ما اتخذت من آنية الطعام وأدواته وألوانه فصنعنا صنيعها، ثم تجاوزنا ذلك إلى جميع الأنحاء التى يحيا عليها الأوربيون فاصطنعناها لأنفسنا غير متخيِّرين ولا محتاطين ولا مميِّزين بين ما يحسن وما لا يحسن وما يلائم منها وما لا يلائم" (ص41)، "وإنى لأعرف قومًا كرامًا صالحين كانوا ينكرون السفور واختلاط الفتيان والفتيات، يجهرون بهذا الإنكار ويجاهدون فى سبيله، وبناتُهم يذهبن إلى المدارس وإلى المدارس الأجنبية ويتخذن من الأزياء ما ليس بينه وبين الحجاب
صلة" (ص68).ترى ماذا هو قائلٌ الآن لو بُعِث ورأى النساء الآن يخالفن عن رغبته ويُحْبِطْن مشروعه التغريبى الخاص بهن؟(51/394)
أما ألوان التقدم الأوربى فى الصناعة والحرب والعلوم التطبيقية فكما قلت: لا يوجد مسلم عاقل يرفض منها شيئا. لكن الأمر فى ميدان التشريع مثلا يختلف عن ذلك، فإن تشريعات الإسلام كثيرا ما تتجه وجهة مخالفة بل مناقضة للقانون الأوربى، فما العمل؟ طه حسين يبارك هذا جريا على مبدئه الهادف إلى أن نسير سيرة الأوربيين فى كل شىء سلوكا وشعورا وفكرا وخلقا، فالأوربى عنده هو المثال الأعلى الذى ينبغى علينا أن نحتذيه دون أدنى تفكير ودون همسة تذمر، وإلا كنا متخلفين نستحق اللعنة. إن عقدة الأوربى تطارد طه حسين ولا تتركه يهنأ لحظة فى يقظته أو فى منامه! إنها حالة نفسية تحتاج إلى دراسة وتحليل! إن الأوربى، فى نظره، هو نبىّ العصر، أو قل: إنه إلهه! (الفصل السابع والثامن والتاسع من الكتاب، من ص40 إلى ص60)، أما المسلمون فلا يَرَوْنَ رأيه ولا يستطيعون أن يَرَوْا رأيه، وإلا فمعنى ذلك أن ما جاء به محمد كان عبثا فى عبث، وأن الأوربيين يعرفون مصالح العباد خيرا مما يعلمها الله سبحانه! ترى كيف يستطيع المسلم أن يوفق بين الإيمان بمحمد وبين تلك الخطة التى يدعونا ويلح فى الدعوة إليها طه حسين؟ الواقع أنك لا تستطيع أن تأكل التفاحة وأن تحتفظ بها فى نفس الوقت! ولقد اختار طه حسين أن يأكل التفاحة، وأن يأكلها ببذورها وطينها والأجزاء المعطَّنة منها ولا يغسلها من وَضَرها وسمومها رغم الذباب الذى كان يحط فوقها ويلوثها بألوان الجراثيم والمكروبات ورغم المبيدات الحشرية المرشوشة عليها، فكان كابن نوح حينما ناداه أبوه أن "اركب معنا، ولا تكن مع الكافرين"، فقال: "سَآوِى إلى جبلٍ يعصمنى من الماء". ثم إنه حين هطلت السيول وغرقت الأرض والجبال لم يكن ثمة عاصمٌ من هلاك ذلك اليوم إلا مَنْ رحمه الله، وحال بينه وبين أبيه الموج فكان من المُغْرَقين! إن بِيَد المسيخ الدجال من المغريات ما تنخدع به بل ما تنخلع له قلوب الأغرار المطموسى البصيرة المطسوسين فى نظرهم، فتراهم يسارعون فيه يقولون إنه لا حضارة ولا ثقافة ولا تعليم ولا تشريع ولا ملابس ولا مآكل ولا مشارب ولا مبانى ولا عقائد إلا ما جاءتنا به أوربا! حتى لو كان فى شىء من ذلك هلاكنا؟ إى نعم حتى لو كان فيه هلاكنا!
يقول الدكتور طه فى سفسطة عجيبة: "السبيل إلى ذلك (أى إلى التحضر والعزة والسيادة) ليست فى الكلام يُرْسَل إرسالا ولا فى المظاهر الكاذبة والأوضاع الملفقة، وإنما هى واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عِوَجٌ ولا التواء، وهى واحدةٌ فَذَّةٌ ليس لها تعدد. وهى أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاءَ فى الحضارة خَيْرِها وشَرِّها، حُلْوِها ومُرِّها، وما يُحَبّ منها وما يُكْرَه، وما يُحْمَد منها وما يعاب" (ص55). يا ألطاف السماوات! هكذا مرة واحدة، خبط لزق؟ وقد علق بحقٍّ على هذه الدعوة المريضة د. محمد محمد حسين رحمه الله فقال: "وهو شبيهٌ بقول آغا أوغلى أحمد، أحد غُلاَة الكماليين من الترك فى أحد كتبه: "إنا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الأوربيين، حتى الالتهابات التى فى رئيهم والنجاسات التى فى أمعائهم"" (د. محمد محمد حسين/ الاتجاهات الوطنية فى الأدب المعاصر/ ط3/ دار النهضة العربية/ 1392هـ- 1972م/ 2/ 229/ هـ1).(51/395)
وليس لذلك من معنى إلا أنه ما دامت أوربا تُلْحِد فلا بد لنا نحن أيضا أن نُلْحِد ونكفر بالله وبملائكته ورسله واليوم الآخر، وما دامت أوربا تنظر إلى الرسول على أنه كاذب أو واهم أو مريض بالصَّرْع فلا بد لنا نحن أيضا على سبيل التبعية والجرى على خطا أوربا أن ننظر إلي صلى الله عليه وسلم بنفس العين، وما دامت أوربا تبيح الخنزير والخمر والميسر والزنا واللِّوَاط والسِّحَاق والربا فلا بد لنا أيضا أن نصنع صنيعها فنأكل الخنزير ونشرب الخمر ونلعب الميسر ونزنى ونَلُوط ونُسَاحِق ونُرَابِى...وهكذا، وهكذا. وعلى دين الله وشرعه العَفَاء! أليس هذا بعض ما تتضمنه حضارة اوربا من شر ومرارة وعيوب مما أوصانا طه حسين وشدَّد فى التوصية أن نأخذه مع حضارة أوربا صفقةً واحدةً دون انتقاءٍ أو تطهيرٍ، وكأننا بصدد "شروة طماطم"! إن الرجل حريص أتم الحرص على أن "نرى الأشياء كما يراها (الأوربى)، ونقوِّم الأشياء كما يقوِّمها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها، ونطلب من الدنيا مثل ما يطلب، ونرفض منها مثل ما يرفض" (ص58). وعلى هذا فإذا سمعناه يقول فى موضع آخر: "فإذا دعَوْنا إلى الاتصال بالحياة الأوربية ومجاراة الأوربيين فى سيرتهم التى انتهت بهم إلى الرقىّ والتفوق فنحن لا ندعو إلى آثامهم وسيئاتهم، وإنما ندعو إلى خير ما عندهم وأنفع ما فى سيرتهم... ونحن، حين ندعو إلى الاتصال بأوربا والأخذ بأسباب الرقىّ التى أخذوا بها، لا ندعو إلى أن نكون صُوَرًا طبق الأصل للأوربيين كما يقال، فذلك شىء لا سبيل إليه ولا يدعو إليه عاقل. والأوربيون يتخذون المسيحية لهم دينا، فنحن لا ندعو إلى أن تصبح المسيحية لنا دينا، وإنما ندعو إلى أن تكون أسباب الحضارة الأوربية هى أسباب الحضارة المصرية لأننا لا نستطيع أن نعيش بغير ذلك، فضلا عن أن نَرْقَى ونَسُود" (ص63)، إذا سمعناه يقول ذلك عرفنا أنه لا يقول ما فى قلبه، وإنما يحاول أن يخدعنا عن نفسه، فهذه طريقة طه حسين: يضرب الضربة، ثم يستدير إليك حين يرى أنك لم تمت بَعْدُ قائلا: "أنا آسفٌ أنْ آلمتُك عن غير قصد"! ثم يمضى مسددا لك اللكمات والضربات المُصْمِيَة التى يريد بها أن يقتلك! وبمناسبة ما قاله طه حسين عن أنه لا يريد للمسلمين أن يعتنقوا المسيحية فإنى لا أستطيع أن أطرد عن ذاكرتى ما خطر لى الآن مما قرأته عن تعميده فى كنيسة إحدى القرى بالجنوب الفرنسى قبيل زواجه من سوزان، أو عن اقتران حفيدته بشاب يابانى، أو ما سمعتُه أواسط ثمانينات القرن الماضى من أستاذةٍ للغة الفرنسية، لها بباريس صلة قوية، عن تنصّر (ا..ـه) رسميا فى فرنسا آنذاك، وإن كنت لا أريد أن أخوض فى هذا الأمر أكثر من هذا لأنى لا أملك بين يدىّ الآن وثائق مكتوبة. كما لا أملك نفسى من ترديد المثل التالى حسبما سمعته ذات يوم من بعض من يختلفون مع طه حسين بسبب موقفه من الإسلام، وهو: "أَسْمَع كلامك يا دكتور طه فأُكَذِّبه، ثم أرى أمورك يا دكتور طه فأزداد تكذيبا"! وبالمثل لا يمكننى فى هذا السياق أن أتجاهل ما قاله المرحوم أنور الجندى فى وصف شخصيته، إذ أكد أن "له من طبائع المكفوفين قدرتهم على المناورة وكسب القلوب والانسحاب السريع فى حالات الخطر"، وأنه ذو طبيعة تجمع بين العناد والخوف، فتراه يندفع إذا خلا له الجو، لكنه سرعان ما يتراجع إذا استشعر الخطر (انظر أنور الجندى/ طه حسين: حياته وفكره فى ميزان الإسلام/ ط2/ دار الاعتصام/ 1397هـ- 1977م/ 25).(51/396)
وعودا إلى ما كنا فيه نقول إن الدكتور طه يرى، بناءً على هذا، أن التعليم المصرى لا ينبغى أن يقام على أساس من الدين، وإن كان يسلك فى الوصول إلى هذه الغاية سبيلا ملتوية بعض الشىء، إلا أن من السهل على أى ملاحظ أن يكتشف اللعبة. لنقرأ: "الواقع أن آراء الناس ومذاهبهم تختلف بالقياس إلى هذه المسألة (يقصد إدخال مادة "التربية الدينية" فى مقررات التعليم): فمن الناس من يريد أن يكون التعليم مدنيًّا خالصًا وألا يكون الدين جزءا من أجزاء المنهج المقومة له، على أن يُتْرَك للأُسَر النهوض بالتعليم الدينى وألا تقيم الدولة فى سبيل هذا التعليم من المصاعب والعِقَاب ما يجعله عسيرا. ومنهم من يرى أن تعليم الدين واجب كتعليم اللغة وكتعليم التاريخ القومى لأنه جزء مؤسس للشخصية الوطنية فلا ينبغى إهماله ولا التقصير فى ذاته. وواضح جدا أن هذا الرأى الأخير هو مذهب المصريين، وأن من غير المعقول أن يُطْلَب إلى المصريين الآن أن يقيموا التعليم العام فى بلادهم على أساس مدنى خالص، وأن يُتْرَك تعليم الدين للأُسَر" (ص90- 91). إن الرجل يبيع لنا الوهم، فهو من الذين لا يرَوْن أن يكون الدين جزءا من التعليم العام، لكنه يعلم أيضا أن المجاهرة الصريحة بذلك الآن أمرٌ لا يمكن المصريين تقبله. ومن ثم فلا مانع من مسايرة الجو العام الآن، إلى أن تحين اللحظة المناسبة لإقصائه تماما، وعندها تتغير النغمة تماما! إن طه حسين هنا يشبه هنرى كيسنجر صاحب سياسة الـ"خطوة خطوة"! وحتى نعرف مغزى كلامه عن إيكال مهمة التربية الدينية للأسرة ينبغى أن نقرأ كتابه: "الأيام"، الذى لم يخطئ فيه مرة واحدة فيذكر لنا أنه علَّم ابنه أو ابنته شيئا من أمور الإسلام أو فكّر فى تحفيظهما بعضًا من آيات القرآن الكريم! بل إن الكِتَاب، منذ أن دخل فى المرحلة الأوربية من حياة طه حسين، يخلو تماما من كل ذكر للإسلام، فلا كلام عن صلاة أو صيام أو زكاة أو حج أو أى توجيه إسلامى للأطفال ولا ذكر لله ولا للرسول أو الصحابة، وكأن الذى كتبه لا علاقة له بهذا الدين! ونفس هذه الملاحظة تصدق على كتاب"معك" الذى حكت فيه السيدة زوجته ذكرياتها ووقائع حياتها معه، وكذلك كتاب د. محمد الدسوقى: "أيام مع طه حسين" الذى سجل فيه عمله لدى الرجل على مدى عشر سنوات فى أخريات حياته اشتغل فيها كاتبا وقارئا له.
حتى الأزهر يجب، فى رأى الدكتور طه، أن يُلَقَّن طلابُه الفكرةَ القائلةَ بأن الدين ليس أساسًا من أسس القومية: "وهناك شىء يجعل حاجة الأزهر إلى إشراف الدولة على تعليمه الأولى والثانوى ضرورة ماسّة فى هذا الطور من أطوار الحياة المصرية، وهو أن الأزهر، بحكم تاريخه وتقاليده وواجباته الدينية، بيئة محافظة تمثل العهد القديم والتفكير القديم أكثر مما تمثل العهد الحديث والتفكير الحديث. ولا بد من تطورٍ طويلٍ دقيقٍ قبل أن يصل الأزهر إلى الملاءمة بينه وبين التفكير الحديث. والنتيجة الطبيعية لهذا أننا إذا تركنا الصِّبْيَة والأحداث للتعليم الأزهرى الخالص ولم نشملهم بعناية الدولة ورعايتها وملاحظتها الدقيقة المتصلة عرّضناهم لأن يُصَاغوا صيغة قديمة ويُكَوَّنوا تكوينا قديما، وباعدنا بينهم وبين الحياة الحديثة التى لا بد لهم من الاتصال بها والاشتراك فيها، وعرّضناهم لطائفة من المصاعب التى تقوم فى سبيلهم حين يَرْشُدون وحين ينهضون بأعباء الحياة العملية. فالمصلحة الوطنية العامة من جهة، ومصلحة التلاميذ والطلاب من جهة أخرى، تقتضيان إشراف وزارة المعارف على التعليم الأولى والثانوى فى الأزهر. شىء آخر لا بد من التفكير فيه والطبّ له، وهو أن هذا التفكير الأزهرى القديم قد يجعل من العسير على الجيل الأزهرى الحاضر إساغة الوطنية والقومية بمعناهما الأوربى الحديث. وقد سمعتُ منذ عهدٍ بعيدٍ صاحبَ الفضيلة الأستاذ الأكبر يتحدث إلى المسلمين من طريق الراديو فى موسم من المواسم الدينية فيعلن إليهم أن محور القومية يجب أن يكون القِبْلَة المطهَّرة. وهذا صحيح حين يتحدث شيخ من شيوخ المسلمين إلى المسلمين، ولكن الشباب الأزهريين يجب أن يتعلموا فى طفولتهم وشبابهم أن هناك محورا آخر للقومية لا يناقض المحور الذى ذكره الشيخ الأكبر، وهو محور الوطنية التى تحصرها الحدود الجغرافية الضيقة لأرض الوطن. ولست أرى بأسا على الشيخ الأكبر ولا على زملائه أن يتصوروا القومية الإسلامية كما تصورها المسلمون منذ أقدم العصور إلى هذه الأيام، ولكن هناك صورة جديدة للقومية والوطنية قد نشأت فى هذا العصر الحديث، وقامت عليها حياة الأمم وعلاقاتها، وقد نُقِلَت إلى مصر مع ما نُقِل إليها من نتائج الحضارة الحديثة، فلا بد من أن تدخل هذه الصورة الجديدة فى الأزهر. وهى إنما تدخل من طريق التعليم الأولى والثانوى على النحو الذى رسمناه، وبالطريقة التى رسمناها، وبإشراف السلطان العام" (ص98- 99).(51/397)
ولا أظن القارئ إلا متنبها للحيلة المكشوفة التى يصطنعها الكاتب للتعمية على كراهيته للدين حين يقول فى أثناء حملته على الروح الدينية التى يراها متغلغلة فى الأزهر، إذ يزعم أنه لا تعارض بين القومية الدينية وبين القومية الحديثة كما أخذناها (أو بالأحرى: كما ينبغى فى رأيه أن نأخذها) عن الأوربيين. فهذه، كما سبق القول، هى طريقة طه حسين: يضربك الضربة، ثم يستدير إليك حين يرى أنك لم تمت بعد قائلا: "أنا آسفٌ أنْ آلمتُك عن غير قصد"! ثم يمضى مسددا لك اللكمات والضربات المصمية التى يريد بها أن يقتلك...وهكذا دواليك! وباستثناء مثل هذه الكلمات التى لا تسمن ولا تغنى من جوع لا يجد القارئ موضعا للدين فى هذا الكتاب: لا فى التخطيط ولا فى الاستشهاد بالنصوص ولا فى الدعوة إلى مبدإ ولا فى الحض على قيمة من القيم، بل المعوَّل فى ذلك كله على الفكر الأوربى. ولقد قالها الرجل صريحة لا غمغمة فيها حين أكد أن المسلمين يجب ألا يفكروا فى إقامة دُوَلِهم على اللغة أو الدين، بل على المنافع (والمنافع وحدها)، وكأن الدين واللغة مجرد ردائين نلبسهما إذا دعت الحاجة، فإذا انتفت تلك الحاجة خلعناهما ورمينا بهما فى البحر كما رمى كاتبُنا الهمامُ عمامتَه فى مشهدٍ مسرحىٍّ مثيٍر من فوق سور السفينة أول ما أقلعت به متجهة إلى أوربا بلد السادة الجُدُد وقِبْلَة المثقفين المتنورين الذين لا يتورعون عن بيع ضمائرهم وأرواحهم إلى الشيطان كما فعل فاوست مع مفستوفوليس (مفستفوليس: على قافية إبليس. لعنة الله على المهاويس المناحيس المتاعيس!). بل كأن الدين يمكن أن يتعارض مع المنفعة. فأىّ دينٍ هذا؟ إنه لا يمكن أن يكون دين محمد عليه السلام أبدا! ثم أىّ فهمٍ للدين هذا؟ إنه لا يمكن أن يكون إلا فهم طه حسين وتلامذته ممن يطلون برؤوسهم من الخبايا والأركان المظلمة هذه الأيام النَّحِسات!
ويسفسط أيضًا الدكتور طه حسين فيزعم أن الأزهر كان يَعُدّ دراسة الأدب العربى أمرا محتقَرًا، ومن ثم كان المسؤولون فيه ينظرون إلى دروس الأدب التى كان هو وبعض زملائه يتلقَّوْنها على الشيخ سيد المرصفى على أنها من القشور والأعراض، وأنه لهذا السبب ألغى الشيخ حسّونة النواوى شيخ الأزهر آنذاك دروس الأدب هذه. لكن لسان الدكتور طه يغلبه على نفسه فيقول إنها قد أٌلْغِيَتْ بسبب ما اتُّهِم الشيخ المرصفى وطلاّبه عنده بالابتداع (ص 312). وكان معروفا عن طه حسين وبعض زملائه اللصيقين به أنهم يسخرون من كل شىء ولا يقيمون لأحد وزنا، وأنهم كانوا يجلسون على أحد أبواب الأزهر ويطلقون ألسنتهم فى أساتذتهم وفى ما له جلاله وخطره لدى الأزهريين بل لدى المسلمين بعامة، ناظمين الشعر المقذع فى هجاء زملائهم وشيوخهم غير متحرجين من لفظ أو معنى، علاوة على أن أحدهم كان لوطيًّا كما يقول طه حسين نفسه، وكان لا يدارى شيئا من ميوله الشاذة النجسة، مما أزعج الطلاب فشكَوْهم إلى شيخ الجامع، فما كان من الساخرين الذين لا يرجون لشىء ولا لشخص وقارا إلا أن فرّوا بجلدهم وتفرّقوا شَذَرَ مَذَر! ويستطيع القارئ أن يجد هذا فى الفصل التاسع عشر من الجزء الثانى، والفصل الثانى من الجزء الثالث من كتابه: "الأيام". فهذا هو السبب لا ما يسفسط به الدكتور على عادته ويعمد إليه من لىّ الأمر إلى جهة غير جهته الحقيقية معتمدا على خلابة أسلوبه ومقدرته على قلب الحقائق دون خجل!(51/398)
ويتظرف سيادته زاعما أن أحد مشايخ الأزهر قد كتب خطابا رسميا إلى محافظة القاهرة فلم يفهم المسؤولون شيئا مما فى الخطاب، وهو ما دفعه إلى أن يعطيه لأحد المطربشين ليكتبه له بلغة مفهومة بعد أن أملى عليه ما يريد باللغة العامية، ثم لم يكتف بذلك بل كان يردد فى فخر وتباهٍ أنه يكتب بلغة لا يستطيع المُطَرْبَشُون أن يفهموا منها شيئا (ص 313)! وهو كلام سخيف لا أدرى كيف طاوعت طه حسين نفسه على تسطيره. أيريد منا أن نصدقه فى هذا السخف التافه؟ فمن الذى علّمه يا ترى وجعله يكتب بهذا الأسلوب الجميل؟ أهى العصفورة؟ ولا يَقُلْ أحد إنه قد تعلم هذا الأسلوب الجميل بعد أن ترك الأزهر، فإن أسلوب الرجل قبل أن يسافر إلى فرنسا، سواء فى مقالاته أو فى خطبه، موجود بين أيدينا، وهو يدل على أن تمكنه من ناصية اللغة العربية سابق على سفره إلى بلاد الفرنسيس بل سابق على انتظامه فى الدراسة بالجامعة الجديدة. ثم إن الأسلوب لا يُكْتَسَب بين يوم وليلة ولا بين عشية وضحاها كما يقولون. بيد أن طه حسين، بسب كراهيته للإسلام ورغبته الحارقة فى التحقير من أمره (وإن كان على نحو غير مباشر حتى لا يحدث له ما حدث سنة 1926م حين هاجم الإسلام بغشم أحمق ولم يلجأ إلى الضرب من تحت لتحت)، لجأ إلى هذا الأسلوب الملفوف فسخر من الأزهر بدلا من أن يعلن نيته صريحة على الملإ فيزورّوا عنه بل يثوروا عليه. وفاته أن اللعبة هذه المرة، وإن كانت أمكر، ليست ماكرة بما فيه الكفاية، إذ لا يمكن أىَّ عاقل أن يصدّق هذا السخف الساخف الذى يزعمه الرجل على أساتذته. وهو معروف بأنه لا يحب أن يترك شيخا من شيوخه الذين علَّموه فى الكتّاب أو فى الأزهر ولا أحدا فى أسرته تقريبا ممن كان لهم الفضل فى تربيته وتعليمه دون أن يشوه صورته، فى الوقت الذى يصور فيه المستشرقين وزوجته تصويرا مشرقا تمام الإشراق كأنه يتحدث عن ملائكة نورانيين مبرَّئين من العيوب والمآخذ التى توجد فى بنى الإنسان!
وسيادته يحاول بكل ما أُوتِىَ من قدرة على الجدل السوفسطائى أن يقلل من شأن الأزهر ودار العلوم فيدعى أن خِرِّيجِيهما لا يصلحون لتدريس اللغة العربية، ويستشهد على ذلك بأن أدباء العصر كالعقاد والمازنى وهيكل وحافظ وشوقى لم يتخرجوا من دار العلوم ولا من الأزهر! وهذا الكلام يحتاج لوقفة، فالملاحظ أن هذه الأسماء التى ذكرها لا تنتمى لجهة علمية واحدة بل لجهات شتى: فالمازنى خِرِّيج المعلمين العليا، وشوقى وهيكل خِرِّيجا الحقوق، وحافظ خِرِّيج المدرسة الحربية...وهكذا، ومن الظلم أن نوازن بين المدارس العليا كلها فى هذا الصدد وبين دار العلوم أو الأزهر وحده. ومع ذلك فيمكننا أن نذكر من الأسماء التى تعلمت فى الأزهر أو فى دار العلوم أو فى الاثنين معًا كُلَّ تعليمها أو معظمه، ثم تلألأت فى سماء الحياة الأدبية والفكرية، العدد الجَمَّ الغفير مثل عبد الرحمن الجبرتى ورفاعة رافع الطهطاوى والشيخ محمد عياد الطنطاوى والشيخ حسين المرصفى وحسن توفيق العدل والشيخ على يوسف والشيخ حمزة فتح الله وحفنى ناصف ومصطفى لطفى المنفلوطى وعبد العزيز جاويش ومحمد المويلحى والشيخ محمد عبد المطلب ومحمد توفيق البكرى وأحمد السكندرى وأحمد الهاشمى وعبد الحميد الديب وعبد الرحمن البرقوقى ومحمد أحمد جاد المولى والشيخ عبد العزيز البشرى ومصطفى عبد الرازق وعلى الجارم ود. زكى مبارك ود. أحمد أمين وعلى الغاياتى ود. عبد الوهاب عزام والشيخ عبد المتعال الصعيدى وإبراهيم مصطفى وهاشم الرفاعى وعبد الوهاب حمودة ومحمود شلتوت وأمين الخولى وسيد قطب وأحمد حسن الزيات وكامل الشناوى ومحمد عبد الحليم عبد الله وإبراهيم سلامة ومحمد نبيه حجاب وأحمد الشايب ود. أحمد الشرباصى وعباس خضر وعمر الدسوقى ود. أحمد أحمد بدوى ود. محمد غنيمى هلال وعبد السلام هارون والشيخ أحمد حسن الباقورى ود. أحمد الحوفى ود. محمود قاسم ود. مهدى علام وطاهر أبو فاشا وخالد محمد خالد والشيخ عبد الحميد كشك والشيخ محمد الغزالى ود. شوقى ضيف...إلخ...إلخ، فضلا عن الدكتور طه نفسه وإِنْ كَرِه ذلك، فهو من الذين يقادون بالسلاسل إلى الأزهر رغم أنوفهم ورغم إلقائه بعمامته فى البحر فى مشهد مسرحى مثير، وعلى نحو لا يليق بمن يحترم نفسه وأمته وشاراتها، بمجرد أن تحركت الباخرة نحو فرنسا (انظر أنور الجندى/ طه حسين: حياته وفكره فى ميزان الإسلام/ 32) مما يومئ إلى أنه قد باع نفسه مبكِّرًا للغرب وبأسلوب فِجّ مُبْتَذَل!(51/399)
وردًّا على هذا الاستبلاه الطَّاهَوِىّ فى الهجوم على الأزهر والزعم بأنه لا يصلح لتدريس اللغة العربية وآدابها نسوق الكلمات التالية للأستاذ ميخائيل بهيج مرقس، التى كتبها فى صحيفة "صوت مصر" بتاريخ 4/ 4/ 2005م ونقلها أ. حسنين كروم فى صحيفة "القدس العربى" فى عدد الأربعاء 5/ 4/ 2005م، وهى كلماتٌ دالَّةٌ سأَدَعُها تتحدث بنفسها دون تدخل من جانبى: "وفى عودةٍ للماضى الجميل مع حاضرٍ نحلم أن يكون أكثر جمالا نجد أنه، فيما مضى، كانت بالأزهر أروقةٌ متعددةٌ أهمُّها ما سُمِّىَ بـ"رواق الأقباط"، وكان مخصّصًا لأقباط مصر الراغبين فى إتقان العربية ودراسة علومها وآدابها والنحو والصرف والبلاغة...إلى آخر جمالياتها. وقد نهل من هذا الرواقِ العديدُ من مُبْدِعِى الأقباط فى العربية فى العقود الماضية مما أثرى لغتهم فى كتابة الآداب وفنون الشعر. كما كان هناك أيضا رواقٌ مخصَّصٌ للشوام والمغاربة.. إلخ".
والواقع أن سر كراهية د. طه لقيام الأزاهرة والدَّراعِمَة بتدريس اللغة العربية هو أن طلاب هذين المعهدين كانوا يَدْرُسون المواد الدينية إلى جانب المواد اللغوية والأدبية، وكان طه حسين يريد أن ينحّى الدين عن التدريس ما استطاع. وهذا بَيِّنٌ من كلامه عن أن التعليم ينبغى أن يكون مدنيا لا علاقة للدين به، كما يتضح أيضا من تكرر طرحه للسؤال المتعلق بجواز تضمين البرنامج الدراسى مادة "التربية الدينية" وإجابته فى كل مرة بأننا مضطرون حاليًّا إلى هذا التضمين، بما يشى بكل جلاء بأن هدفه النهائى هو تنحية هذه المادة تمامًا عن المنهج التعليمى، ولكنْ قليلا قليلا بحيث لا يصدم الرأىَ العامَّ فيثور عليه ويقف فى طريقه. لذلك يعمد إلى هذا الأسلوب الماكر الذى يخدّر عواطف القراء حين يتحدث عن أهمية الدين فى صبغ المجتمع بصبغة واحدة رغم أنه قد صرح بموقفه الحقيقى تجاهه حين كرر القول بأننا يجب أن نسير على درب أوربا وننقل كل ما عندها من خيرٍ وشرٍّ، وحلوٍ ومرٍّ، وهو ما لا معنى له إلا أن ننحِّىَ الدين عن حياتنا كما نحّته أوربا عن حياتها وأن نترك مثلا لشهوة الجنس العِنان وأن نقيم أخلاقنا وتقاليدنا وقيمنا وتشريعاتنا على أسس أخرى غير الأسس الدينية. وإلى القارئ هذه السطور التى تومئ إلى موقف طه حسين من تعليم التلاميذ والطلاب فى المدارس شؤون دينهم: "إن الشعب الذى يريد أن ينشئ جيلا صالحا خليقٌ قبل كل شىء بأن يفكر فى المعلمين الذين ينشئون له هذا الجيل. وليس يكفى أن تكون حياة المدرسة صالحة من الناحية المادية والمعنوية، بل يجب أن يكون التعليم فيها صالحًا أيضا. فكما أن الذلة لا تنتج عزة، فكذلك الجهل لا ينتج علما. وما ينبغى أن تكلّف المعلمَ الأولىَّ تعليم الصِّبْيَة تاريخ وطنهم، وهو يجهل هذا التاريخ أو لا يعرفه إلا مشوها منقوصا. وما ينبغى أن تكلفه تعليم الصِّبْيَة جُغْرَافْيا وطنهم، وهو يجهل هذه الجغرافيا ولا يعرف حدود الوطن ولا أقطاره. وقل مثل ذلك فى اللغة، وقل مثل ذلك فى النظام. وقل مثل ذلك فى الدين إن أردت أن يكون الدين جزءا من التعليم الأولى" (ص112). فهأنتذا تلاحظ بكل قوة أنه لم يشترط فى تعليم التاريخ ولا الجغرافيا ولا اللغة ولا النظام شيئا، ولم يُعَلِّقه على "أنك تريد أو لا تريد" أن تكون هذه المواد جزءا من التعليم العام، لكن الأمر فى حالة الدين ليس كذلك، إذ نراه يعلقه على رغبتك فى جعل الدين مادة من مواد المنهج الدراسى. والمقصود بـ"رغبتك" رغبته هو، لكنه الأسلوب الملفوف الماكر الذى يبرع فيه طه حسين، ونبرع نحن بدورنا فى كشفه وفضحه! وقد رأينا الرجل يقول بصراحة إنه لا يمانع "الآن" من قيام الدولة بتعليم الطلاب أمور دينهم، أما فيما بعد فبطبيعة الحال: كلا ثم كلا! وهذه هى السياسة الكيسنجرية الخبيثة! وهو ما يومئ هنا إلى ذلك بقوله: "إن أردتَ" مستعملاً "إن" الشرطية التى تفيد عادةً استبعاد حصول الشىء أو استحالته!
وبالمناسبة فالدكتور طه، بالمقياس الذى ينصبه ويطنطن به، لم يكن يصلح أن يدرّس الأدب العربى. ذلك أنه لم يتخصص فى هذا المجال، فهو أزهرى، أى لا يصلح لهذه المهمة بشهادته هو نفسه عن الأزهريين، كما أنه حين ذهب إلى فرنسا قد درَس التاريخ القديم لا الأدب العربى، فضلا عن أن رسالته التى أحرز بها درجة الدكتورية من هناك كانت عن ابن خلدون، بل إن هذه الدكتوراه ليست دكتوراه الدولة بل دكتوراه السلك الثالث (الأيام/ 3/ دار المعارف/ 1972م/ 130)، وهى أقل كثيرا من دكتوراه الدولة وتُعْطَى عادة للطلبة الأجانب الذين لا يريدون التعمق فى البحث أو ليس عندهم وقت. فلو حاسبنا الرجل بكلامه لقلنا إنه لا يصلح لتدريس اللغة العربية بمقياسه هو نفسه وحسبما تقول الوثائق والشهادات! لكننا لا نقف كثيرا عند هذه الأشياء بغض النظر عن موافقتنا أو مخالفتنا له على هذا أو ذاك مما كتب، وبغض النظر أيضًا عما أخذه من هذا المستشرق أو ذاك، وبغض النظر ثالثًا عما طعن به فى الإسلام وكتابه فى بعض ما وضع من دراسات.(51/400)
وكلام د. طه هنا يذكِّرنى بما قالته السيدة ملك عبد العزيز زوجة د. محمد مندور عن د. عبد اللطيف عبد الحليم ود. الطاهر مكى الأستاذين الدّرْعَمِيَّيْن اللذين انتقدا زوجها فى أحد برامج الإذاعة منذ عدة سنوات واتهماه بسرقة فصول كتابه "نماذج بشرية" من جان كالفيه أستاذ النقد الفرنسى بجامعة السوربون أيام أن كان مندور يدرس فى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه على مدى تسع سنوات ثم فشل للأسف بعد كل تلك المدة فى أن يحرز شيئا مما ابتُعِث لأجله، ورغم ذلك يملأ أتباعه الدنيا ضجيجًا ودويًّا حول ما حصّله فى فرنسا من ثقافات لم يحصّلها الجن الأزرق أو الأحمر، ولا حتى الأبيض الذى "طلع" للدكتور جابر قميحة ذات ليلة وهو صبى (الصبى هو الأستاذ الدكتور لا العفريت، فأرجو عدم الخلط) وكتب عنه مقالا مضحكا أشاب به شعر رأسى وشعر غير رأسى أيضا! لقد اتهمت السيدةُ مَلَك الأستاذين المذكورين بأنهما، بسبب دَرْعَمِيّتهما (تقصد أنهما رجعيان ضيقا الأفق)، يُسْرِفان فى اتباع المنهج النقدى للعرب القدماء الذى يَكْلَف باتهام الأدباء بالسرقة، ونصحتهما (لوجه الله طبعا دون أن تسألهما أجرًا على ذلك ودون أن يكون لها أىّ مأرب من ورائه) بأن يكتفيا هما وسائر زملائهما من الدّرَاعِمَة بما يُؤْثِره النقد الحديث من الكلام عن "التأثر" أو "توارد الخواطر"، وكأن مهمة النقد الحديث هى تسويغ السرقة وتسميتها اسما لطيفا لا يَمَسّ أحاسيس اللصوص المرهفة التى تجرحها خطرات النسيم، وفاتها أن الحق أحق أن يُتَّبَع وأن السرقة ستظل سرقة، سواء فى أعين النقاد العرب القدماء المتخلفين أو فى أعين النقاد الأجانب المُحْدَثين المتحضرين المحترمين.
ولقد فَرَّغْتُ نفسى فترةً من الوقت لبحث هذه المسألة وغيرها من المسائل المتعلقة بالدكتور مندور وسُمْعَته ومكانته العلمية فوجدت أنه قد سطا فعلا على بعض ما كتب كالفيه من فصول عن النماذج الإنسانية فى الأدب الفرنسى ومَلَخَها من كتابه ونشرها أولاً فى إحدى المجلات فى الأربعينات من القرن المنصرم بعد أن أضاف لها بعض اللمسات، ثم ثَنَّى فأخرجها فى كتاب يباهى بروعته وما فيه من فتحٍ فكرىٍّ ونقدىٍّ هو وحواريوه بدلا من أن يكفأوا على الخبر ماجورا ويحمدوا الله الذى ستر عليهم ولم يفضحهم فضيحة بجلاجل يسمعها الرائح والغادى فى أرجاء المعمورة، أو على الأقل: فى أرجاء المحروسة، لكنهم أَبَوْا إلا عُلُوًّا فى الأرض واشمخرارا، فكان أن بعث الله عليهم واحدا لا هو هنا ولا هو هناك، فقارن بين الكتابين بالفصل والفقرة والجملة والكلمة واضعًا النصوص العربية والفرنسية جنبا إلى جنب كى يستطيع القارئ أن يحكم فى الأمر بنفسه وضميره، فأَلْفَى أن مندور قد سرق حقًّا الناقد الفرنسى الحديث المتحضر الذى لا يجرى على منهج العرب القدماء المتخلفين، فهو لذلك لا يجد أدنى غضاضة فى أن يسطو على نتاج فكره وذَوْب قلبه أحد من الكتاب بحجة أن هذا تأثر لا لصوصية! (يُرْجَع فى هذا إلى كتابى: "د. محمد مندور بين أوهام الادعاء العريضة وحقائق الواقع الصُّلبة"/ مكتبة زهراء الشرق/ 1420هـ- 1999م/ 61- 115 تحت عنوان:"اتهام مندور بسرقة كتابيه: "نماذج بشرية" و"محاضرات عن إبراهيم المازنى"").(51/401)
وبالمناسبة أيضا فهيكل الذى يثنى عليه الدكتور طه هنا ويقيم منه مثالا أعلى لا يَقْدِر الأزهريون ولا الدّرَاعِمَة أن يبلغوا شَأْوه هو هو هيكل الذى طعن فيه الدكتور طه ذاته بعد ذلك وشكّك فى أن يكون هو صاحب المؤلفات التى تحمل اسمه. لكن مهلا أيها القارئ، فقد كان الثناء على هيكل حين كان هيكل حيًّا يرزق، وحين كان يشغل المناصب الضِّخام، أما الذمّ والتشكيك فقد كان بعد وفاة الرجل، وتم فى السرّ بين الدكتور طه وكاتبه الذى لم يكن طه حسين يتصور أنه سوف يسجل كلامه ويذيعه فى الناس. وهذا يعطينا جانبا من خلائق الرجل. قال الدكتور محمد الدسوقى، الذى اشتغل كاتبا له فى أخريات حياته لمدة عشر سنوات،: "وللعميد رأى فى مؤلفات الدكتور هيكل، وهو رأى يتعارض مع ما قاله فى رثائه، فقد قال لى: الدكتور هيكل لم يكن يؤلف كتبه، وإنما كان يكتبها له ناس آخرون ثم ينسبها لنفسه، ومع هذا تشتمل على أخطاء علمية واضحة"! أما ماذا قال د. طه فى رثاء هيكل فإن الكاتب يورد لنا منه العبارة التالية: "ذلَّل القصة لكتّابها، وذلَّل السياسة الصحفية لكتَّابها، وشارك زملاءه ومعاصريه فى تذليل اللغة العربية وتمكينها من أن تكون ملْكًا للذين يتكلمونها" (د. محمد الدسوقى/ طه حسين يتحدث عن أعلام عصره/ ط3/ الدار العربية للكتاب/ ليبيا وتونس/ 82). وقد استفزّنى هذا التناقض الصارخ والظالم فى كلام الدكتور طه فرددتُ عليه فى الفصل الخاص بأدب الرحلة عند هيكل من كتابى "محمد حسين هيكل أديبًا وناقدًا ومفكرًا إسلاميًّا"، مبينًا أن لهيكل أسلوبًا مميّزًا فى كل كتاباته التى ظهرت على مدى عشرات السنين، وأن من الصعب تمامًا أن يكتب أحدٌ لهيكل رحلاته بالذات، فهو الذى شاهد وسمع وذاق وشعر، فكيف يستطيع غيره أن يؤلف ذلك بالنيابة عنه، وبخاصة أن ذلك "الأحد" لم ير أو يسمع أو يذق شيئا من هذا كله لأنه لم يكن معه؟ وإننا لنتساءل: أين يا ترى نتاج هذا الشخص الموهوم، على الأقل منذ أن مات هيكل وأصبح هذا الشخص حرًّا طليقًا من القيود التى كان يكبِّله ويحتكره الدكتور هيكل بها أثناء حياته؟ وهل يمكن أن يبقى هذا المؤلف الخيالى مجهولا طوال تلك العقود؟ ثم لماذا لم يصرح لنا الدكتور طه باسمه فيريح ويستريح بدلا من هذا الاتهام الخبيث فى السر والظلام؟ (يمكن الرجوع إلى كتابى المشار إليه/ مكتبة زهراء الشرق/ 1418هـ- 1998م/ 181- 184).
وإنهاءً لهذا الاستطراد نقول إن المذيع الذى تصادف أن تكلم الأستاذان الدَّرْعَمِيّان عن سرقة د. مندور فى برنامجه قد تعرض لعقوبة مالية وإدارية لأنه لم يُسْكِتهما وتركهما يتكلمان فيفضحان رمزا من رموز مصر الثقافية! هكذا قيل له من قِبَل الغيارى على سمعة مصر ومكانتها، وكأن سمعة مصر قائمة على السرقة والتزييف. أى أنه بدلا من أن يردّ المدافعون عن مندور ردًّا علميًّا يثبتون فيه أنه لم يسرق ولم يَسْطُ لجأوا إلى العقاب الظالم الذى لا يرضاه خلق ولا دين ولا قانون! (ليسمح لى القراء بأن أنقل لهم ما قرأته الآن فقط عنوانًا لأحد المقالات فى صحيفة "شهود" المشباكية أثناء كتابتى لهذا الكلام، وهو: "خبراء: إذا هاجمك اللصوص قدِّم لهم الطعام"! انتهى النقل. ولا ريب أن القراء الكرام قد فهموا عنى ما أردت قوله، فالحمد لله، ونرجع إلى موضوعنا). إن هؤلاء الحواريين يتبعون سياسة التكتم والتعتيم والضرب فى الظلام! وهى نفسها السياسة التى عاتب د. إبراهيم مدكور الدكتور محمد الدسوقى على أنه لم يتبعها، إذ نشر ما دار بينه وبين الدكتور طه من أحاديث قال إنه قد أساء بها إلى العميد الذى ظلم فيها أعلام عصره (انظر كتاب محمد الدسوقى المذكور/ 7).(51/402)
ولقد سبق أن أشرتُ إلى التقارب الفكرى فى الموضوع الذى نتناوله الآن بين طه حسين وسلامة موسى النصرانى، فأُحِبّ أن أقف برهة عند هذه النقطة لإلقاء بعض الضوء عليها: فسلامة موسى كان يدعو بكل قواه إلى أن ننسلخ، كما يقول، عن آسيويتنا ونلتحق بأوربا (الله يخرب بيت أوربا والذين نفضوها رغم تسليمنا بأنها أقوى منا فى هذه المرحلة البائسة من تاريخنا، وأكثر تقدما فى مجال العلوم الطبيعية وما يتصل بها، وأحسن إنتاجا واختراعا وتنظيما وصبرا، لكننا ندرك أيضا أنها ملحدة وتأكل الخنزير وتشرب الخمر وتزنى وتلوط وتساحق وتكره ديننا ورسولنا وربنا، وتبغضنا نحن أيضا وتريد استذلالنا، لا بل هى تستذلنا فعلا وتستذل شعوب الأرض قاطبة وتسرقهم وتستغلهم، وكأن ما سرقته منهم وما أنزلته بهم من عسف وتدمير وتقتيل وانتهاك للأعراض والحريات والكرامات على مدى قرون لم يكفها، فهى كجهنم لا تشبع أبدا ولا ترتوى بل تظل تطلب المزيد والمزيد، ومن ثم لا يمكن أن تكون هى المثال المُرْتَجَى). وكلام سلامة موسى معناه، بالبلدى وبالعربى الفصيح معا، أنه يحرّضنا على كراهية الإسلام والتخلص منه ونبذه، فهو المقصود بقوله إنه "يجب علينا أن نخرج من آسيا وأن نلتحق بأوربا". بل إنه، كصاحبه طه حسين، يهاجم النزعة الشرقية التى يعدّها مرضًا ينبغى أن نتداوى منه فلا ندرس الأدب العربى ولا نهتم بالتاريخ العربى ولا ندين بالدين الذى أتانا به النبى العربى ولا نلبس إلا ما يلبس الأوربيون. وفى محاولته نَفْىَ شرقيتنا نراه يضرب الأمثلة من بلاد الشرق الأقصى كما فعل طه حسين، ذاكرًا أندونيسيا والهند والصين، يقصد المسلمين بالذات من أهل تلك البلاد! وكطه حسين أيضا يهاجم سلامة موسى الدين (الإسلامى طبعا، وهل هناك دينٌ غيره مطلوبةٌ رقبتُه؟) ملحًّا على وجوب نَفْيه جملة وتفصيلا من حياتنا. وبالمثل ينادى بالابتعاد فى سياستنا وحكومتنا عن الرابطة الإسلامية واللغوية رافعًا صوتَه فى تحدٍّ ما بعده من تحدٍّ بأن "الجامعة الدينية وقاحة". كما يوصى بوجوب إبعاد الأزهريين عن ميدان التدريس وقَصْره على الذين تعلموا تعليما مدنيا، بالضبط مثلما سمعنا طه حسين ينادى بذلك ويراه هو السبيل الوحيد أمامنا للخروج من التخلف واللحاق بأوربا والفوز برضا الأوربيين عنا، وكأنه الرضا الإلهى الذى إن حُرِمْناه سنَصْلَى قاع الجحيم! ورغم هذا فلا يفوت موسى أن يلاحظ، كما لاحظ طه حسين، أن الأوربيين يحتقروننا ويتبرأون منا، وإن أكد أننا نستحق هذا الاحتقار، وأننا بكراهيتنا لهم إنما نظلمهم ظلمًا بيّنًا لا معنى ولا مسوّغ له. ومع ذلك يحاول أن يخدعنا عن أنفسنا وعقولنا وكرامتنا فيقول إننا أوربيون تاريخًا وتشريحًا: أفلسنا قد عشنا تحت الحكم الرومانى دهرا طويلا، كما أن هيئة وجوهنا تشبه هيئة الوجه الأوربى، فضلا عن أن هناك مئات الألفاظ المشتركة بين الإنجليزية والمصرية القديمة؟ فماذا نريد أكثر من ذلك؟ وهذا كله وغيره من الخبل الفكرى والحقد الدينى المتأجج يجده القارئ فى كتابه: "اليوم والغد"، الذى صدر سنة 1927م، فكان بمثابة دكّ الأرض وتجريفها أمام طه حسين ليقوم هذا بعد ذلك بسفلتتها! وقد تناول د. محمد محمد حسين، رحمه الله رحمة واسعة، ذلك الموضوع بالتفصيل فى كتابه القيِّم: "الاتجاهات الوطنية فى الأدب المعاصر" (2/221- 228).
والآن ألا يلاحظ القارئ أن كل ما نادى به طه حسين هو هو نفسه ما تدعو إليه أمريكا وأوربا هذه الأيام من وجوب تغيير المناهج المدرسية فى بلاد المسلمين وإبعادها عن مجال التأثير الدينى، وربط العالم العربى والإسلامى بأمريكا وأوربا ربط التبعية والذلة والاستعباد تحت دعاوى العولمة، ورمى المتدينين بالتخلف والإرهاب والعجز عن فهم لغة العصر وملاحقة أوضاعه، وتصوير أسلوب الحياة الغربى على أنه الأسلوب الأمثل الذى لا سبيل أمام المسلمين سواه إن أرادوا أن يتقدموا ويتحضروا بما فى ذلك إباحة اللواط والسحاق وتقنين زواج المثليين؟ ألا يلاحظ القارئ أن تلامذة طه حسين وحَوَارِيِّيه ومن يُرَافِئونه على آرائه ومواقفه وبغضه للإسلام هم الذين فى أيديهم وسائل النشر والإعلام فى العالم العربى والإسلامى إلا فى النادر، وأنهم هم الذين يفوزون بالمناصب والجوائز الرسمية وغير الرسمية أيضا، وأنهم هم الذين تُسَلَّط عليهم الأضواء وتُخْلَع عليهم الألقاب الضِّخَام؟ ألا ما أَشْبَه الليلةَ بالبارحة! لكن قومى مضطجعون فى سُرُرهم لا يريدون أن يهبّوا، بل يستلذون ما هم فيه من الكسل والتثاؤب وكأن الدنيا قد دانت لهم، فهم فى رقصٍ وزمرٍ وطبلٍ، على حين تُسَنّ السكاكين لنَحْر أفواج جديدة منهم غير التى نُحِرَت وانتهى أمرها، وهم ولا هم هنا! إنها أمة لم نسمع بمثلها فيما مضى من التاريخ، ولا أحسب أن التاريخ القادم سيعرف أمة مثلها فى الغيبوبة العقلية التى أصابتها وسقوط الهمة التى اعتراها وأَشَلّ إرادةَ الحياة فيها! ربنا يستر، ولكنْ أخشى أن يقال لنا إنكم لا تستحقون الستر!
================(51/403)
(51/404)
سلسلة كشف الشخصيات (6) : محمود أبو ريّة
بقلم الأخ فتى الأدغال
لن تجدَ أضلَّ وأتعسَ وأشقى من القومِ الذين يدّعونَ العقلنةَ ، وهم في دواخلِهم من دعاةِ التغريبِ ، وبوّاباتِ الفكرِ العلمانيِّ ، بل هم حماتهُ ومنظّروهُ ، وميناؤهُ الذي ينقلُ أولئكَ عبرهُ بضائعهم .
هؤلاءِ - العقلانيينَ - ليسَ لديهم من العقلِ إلا ما يوجبُ قيامَ الحُجّةِ عليهم ، ولا من الفهمِ إلا ما تستقرُّ بهِ لوازمُ الشريعةِ في رِقابِهم ، أوتوا حظّاً من الجلادةِ والصبرِ ، فصرفوها في مُحاربةِ دينِ اللهِ وسنّةِ رسولهِ - صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ - ، فغدتْ بلادةً وجهلاً .
أبغوني عقلانيّاً فتحَ للنّاس ِ بابَ الدخولِ إلى الإسلامِ ، أو خدمَ دينَ اللهِ تعالى ، أو ازدادَ إيماناً وسكينةً ووقاراً وثباتاً ، بعدَ أن تعقلنَ وتعصرنَ ! ، كلّهم ينكصونَ على أعقابِهم ويرتكسونَ وينتكسونَ ، بعدَ أن كانوا أربابَ صلواتٍ وخلواتٍ ، وبدلاً من تقريبِ النّاسِ إلى دينِ اللهِ - تباركَ وتعالى - يأخذونهم إلى أقاصي الأفكارِ ، ومهاوي التأويلاتِ ، فيُدنونهم من الشبهِ والباطلِ ، ويتركونهُم في حالةٍ من الحيرةِ والتخبّطِ ، ويفتحونَ لهُم بابَ الرّدِّةِ والكفرِ ، ويهوّنونَ عليهم أمرَ المعاصي والمُنكراتِ .
وبعدَ اللّحى الوقورةِ ، والثيابِ المُستنّةِ ، ومسحةِ العِبادةِ ، ومظهرِ الخيرِ ، وإدمانِ النوافلِ ، يستبدلونَ ذلكَ بالحلقِ والتنعيمِ والإسبالِ ومظاهرِ النكوصِ على السنّةِ ، وتعودُ ليالي العبادةِ سهراً على الباطلِ ، وتزدانُ المجالسُ بذكرِ الأسماءِ الأعجميّةِ والفكرِ الوافدِ ، ولا تجدُ في قاموسِهم موضعاً للسنّةِ والقرءانِ ، فقد صارا للذّكرى والبركةِ .
تفٍّ على هكذا فكرٍ .
وتعساً لهم ، ما أضلَّ أعمالَهم وأشقاهم ! .
من قبلُ : عندما كفرَ إسماعيلُ بنُ أدهمَ كفرةً صلعاءَ ، وخرجَ من الدينِ من أوسعِ أبوابهِ ، تمنطقَ بالعقلِ والعقلانيّةِ فأعلنَ الإلحادَ ، فجاءهُ من اللهِ - تباركَ وتعالى - ما لم يكنْ في حُسبانهِ ، ورماهُ بالحيرةِ والقلقِ والاضطرابِ ، فلم يُطقْ على نكالِ اللهِ في الدّنيا صبراً ، وانتحرَ مُغرقاً لنفسهِ في مياهِ البحرِ الأبيضِ المتوسّطِ ، وفي جيبِ معطفهِ ورقةٌ يُطالبُ فيها أهلهُ بعدمِ دفنهِ مع المسلمينَ ، وبحرقِ جُثّتهِ ، وأنّهُ انتحرَ يأساً من الدّنيا .
وهذا عليُّ بنُ عبدِ الرازقِ ، ذلكَ الشيخُ المُعمّمُ الأزهريُّ الضالُّ ، الذي تبنّى - عاملهُ اللهُ بما يستحقُّ - كتابَ " الإسلامِ وأصولِ الحكمِ " ، ووضعَ اسمهُ عليهِ ، وصرّحَ فيهِ بأنَّ الإسلامَ لا علاقةَ لهُ بالحكمِ ، وقرّرَ العلمانيّةَ وأصّلَ لها بما ظنّهُ أدلّةً شرعيّةً ، فانبرى لهُ أسْدُ اللهِ من جهابذةِ أهلِ العلمِ ، وفنّدوا شُبههُ ، وكسروا حُججهُ ، حتّى آواهُ المبيتُ بعدَ فترةٍ من عمرهِ إلى القلقِ والخوفِ ، فصرّحَ - كما نقلَ أنورُ الجُنديُّ - بأنَّ لعنةَ كِتابِ " الإسلامِ وأصولِ الحكمِ " قد أدركتهُ ، وأمرَ بعدمِ طِباعتهِ .
وهذا فهدٌ العسكرُ ، شاعرٌ ماجنٌ هالكٌ ، بدأ مؤذناً فإماماً في الكويتِ ، ثُمَّ قرأ في كتبِ التوسعةِ الفكريّةِ ، وفتحَ لنفسهِ آفاقَ الحرّيةِ العقليّةِ ، فدعاهُ ذلكَ إلى الحيرةِ والقلقِ والشكِّ ، ولم يُطقْ على ذلكَ صبراً ، فشربَ الخمرةَ ، ورافقَ البغايا واتخذهنَّ أخداناً ، بعدَ أن كانَ القرءانُ سميرهُ وأنيسهُ ، حتّى عميَ بصرهُ لفرطِ شُربهِ للخمرِ بعدَ أن عميَ قلبهُ ، وصرّحَ بالكفرِ والتشكّكِ في شعرهِ ، فماتَ خاسئاً في أحدِ المشافي ، ولم يُصلِّ عليهِ أهلهُ لكفرهِ .
وأمّا من نحنُ بصددهِ ، فهو رجلٌ سلكَ ومشى على طريقةِ العقلانيينَ حذوَ القذّةِ بالقذّةِ ، وانتحلَ منهجهم ، وعظّمَ رجالهم ، وكتبَ وغامرَ وزاحمَ ، فأتى بما لم تستطعهُ الأوائلُ ، ولكنْ خزياً وعاراً .
إنّهُ محمود أبو ريّة .
ذلكَ المصريُّ الكاتبُ في مجلّةِ الرسالةِ ، والذي بدأ حياتهُ مُتسكّعاً على شيخِ الأدبِ وإمامهِ : مُصطفى صادق الرافعيِّ ، يقتاتُ على فتاتِ مائدتهِ ، ويستطعمهُ الفائدةَ ويستجديهِ المسائلَ ، ويغترفُ بقايا معينهِ ، حتّى أدّاهُ ذلكَ إلى أنْ صارَ شيئاً يُشارُ إليهِ بالبنانِ ! .
ثُمَّ دخلَ عالمَ التصنيفِ ، وكانَ مُبتدأُ أمرهِ تلخيصَ الكُتبِ واختصارها ، فاختصرَ منها جملةً ككتابِ " المثلِ السائرِ " و " ديوانِ المعاني " واختارَ نُخبةً من أخبارِ " الأغاني " وغيرِها ، حتّى انتهى إلى التأليفِ والتصنيفِ الخاصِّ بهِ .(51/405)
وكانَ من أمرهِ أنْ سوّدَ - سوّدَ اللهُ وجههُ وقد فعلَ - مجموعةً من الصفحاتِ بكتابٍ غايةٍ في السوءِ والغلِّ ، ألا وهو كتابهُ " أضواءٌ على السنّةِ المُحمّديّةِ " ، هاجمَ فيهِ السنّةَ النبويّةَ ، وخلصَ إلى أنّها غيرُ ملزمةٍ لأحدٍ في العملِ بها ، وتطاولَ كذلكَ على الصحابةِ الكِرامِ ، وخصَّ من كتابهِ جزءً كبيراً في الهجومِ على الصحابيِّ الفقيهِ الإمامِ الربّانيِّ : أبي هريرةَ - رضيَ اللهُ عنهُ - ، وكتبَ فيهِ ما لم يكتبهُ كثيرٌ من علوجِ المُستشرقينَ ولا ضُلاّلِ الروافضِ من الهجومِ على الصحابةِ ، ولم يبقَ وصفٌ من صفاتِ السوءِ والدناءةِ إلا حطّهُ على أبي هريرةَ - رضيَ اللهُ عنهُ - ، وكانَ من جملتها اتهامهُ بالكذبِ صراحةً ، وبوضعِ الحديثِ واختلاقهِ .
وقد استقى كتابهُ السالفَ من مجموعةٍ من المراجعِ ، وكانَ على رأسِها كتابٌ لأحدِ علماءِ الرافضةِ ، وهو الشيخُ : عبدُ الحسينِ شرفُ الدّينِ ، وكتابهُ هو " أبو هريرةَ " ، وفي هذا الكتابِ خلصَ المؤلّفُ الرافضيِّ - عاملهُ اللهُ بما يستحقُّ - إلى أنَّ أبا هريرةَ - رضيَ اللهُ عنهُ - كانَ منافقاً كافراً ! ، ألا لعنةُ اللهِ على الظالمينَ .
وأمّا الفيصلُ الذي كانَ يُحاكمُ السنّةَ الصحيحةَ إليهِ في كتابهِ ، فهو العقلُ ، فالعقلُ - كما زعمَ - هو الحاكمُ والميزانُ العدلُ في نقدِ السنّةِ ، وبيانِ صحيحِها من سقيمِها .
وقد أحسنَ العلاّمةُ الشيخُ : مُصطفى السباعيُّ - برّدَ اللهُ مضجعهُ - في وصفِ أبي ريّةَ وكِتابهِ هذا ، عندما قالَ : " هذا هو أبو ريّةَ على حقيقتهِ ، جاهلٌ يبتغي الشُهرةَ في أوساطِ العلماءِ ، وفاجرٌ يبتغى الشهرةَ بإثارةِ أهلِ الخيرِ ، ولعمري إنَّ أشقى النّاسِ من ابتغى الشهرةَ عندَ المنحرفينَ والموتورينَ بلعنةِ اللهِ والملائكةِ والنّاسِ أجمعينَ " .
إنَّ من أعجبَ العجبِ أن يشتهرَ كتابُ أبي ريّةَ ، فيصلَ إلى جميعِ جامعاتِ أوروبّا وأمريكا ، وتنتهي طبعتهُ الأولى ثُمَّ الثانيةِ في فترةٍ وجيزةٍ جدّاً ، ثُمَّ يموتُ الرّجلُ ، ولا تجدُ لهُ ترجمةً واحدةً ولو يسيرةً في كتبِ التراجمِ ! ، وقد نقّبتُ فيها ، وبحثتُ واستعنتُ بأهلِ الخبرةِ والبحثِ ، فلم أقفْ لهُ على أثرٍ في كتبِ التراجمِ مُطلقاً ، فانظرْ كيفَ عاملهُ اللهُ بنقيضِ قصدهِ ! ، وأخملَ ذكرهُ بعدَ إمعانهِ في طلبِ الشّهرةِ والبحثِ عن المنزلةِ والمكانةِ ! .
ولم يكتفِ بهذا الكتابِ فقط ، بل زادَ إلى كنانتهِ سهماً آخرَ من سِهامِ الجهلِ والضلالِ ، عبرَ كِتابهِ " دينُ اللهِ واحدٌ " ، والذي خلصَ فيهِ إلى دخولِ اليهودِ والنّصارى للجنّةِ مع المُسلمينَ ، وأنَّ الإيمانَ باللهِ تعالى ووجودهِ - وحسب - كافٍ في النّجاةِ من النّارِ والدخولِ إلى الجنّةِ .
كلُّ ذلكَ لم يُغنِ عنهُ شيئاً ! ، بل كانَ عليهِ وبالاً وسوءاً ، ووقعتِ الواقعةُ التي فضحتْ قصدهُ وكشفتْ خبيئهُ .
إنّها لحظةُ الموتِ وسكراتِهِ ، حيثُ لا يخفى شيءٌ من الحالِ ، وصدقَ الإمامُ أحمدُ - أعلى اللهُ درجتهُ في الجنّةِ - : " قولوا لأهلِ البدعِ بيننا وبينكم الجنائزُ " .
فكانتْ هذه خاتمتهُ ونهايةَ أمرهِ في الدّنيا :
سمعتُ من شيخي العلاّمةِ : مُحمّدِ بنِ مُحمّدٍ المُختارِ الشنقيطيِّ - متّعهُ اللهُ بالعافيةِ - في مجالسَ مُتعدّدةٍ ، أنَّ أبا ريّةَ عندما كانَ في وقتِ النزعِ الأخيرِ ، وساعةِ الاحتضارِ ، حضرهُ نفرٌ من النّاسِ ، ورأوهُ وقد اسودَّ وجههُ - والعياذُ باللهِ - وكان يصرخُ مرعوباً فزِعاً بصوتٍ عالٍ ، وهو يقولُ : آه ! ، آه ! ، أبا هريرةَ أبا هريرةَ ، حتّى ماتَ على تلكَ الحالِ .
اللهمَّ إنّا نعوذُ بكَ من الخذلانِ والضلالِ .
إنَّ اللهَ ليغارُ على أوليائهِ .
ومن حاربهُ في أوليائهِ ، أو بارزهُ فيهم ، فإنَّ أجلَ اللهِ لهُ بالمرصادِ ، والخاتمةُ السيئةُ لمن هذا حالهُ أقربُ من شِسْعِ نعلهِ ، فمن أطلقَ لسانهُ في أولياءِ اللهِ وأصفياءهِ ، فإنَّ جُندَ اللهِ من الأقدارِ مُجهّزةٌ ، وطوارقُ الشرِّ لهُ بالمرصادِ ، هذا في الدّنيا ، وأمّا في الآخرةِ فلا يعلمُ أمرَ ذلكَ إلا اللهُ سُبحانهُ وتعالى .
هذه بعضُ مصائرِ العقلانيينَ ، فهل من مُعتبرٍ ! .
واللهِ إنَّ حياتهم حيرةٌ وقلقٌ وتخبّطٌ ، لا يعلمونَ من الحقِّ إلا قليلاً ، وبقيّةُ دينِهم يحتذونَ فيهِ من غلبَ وبزَّ .
هذه أسفارهم ومقالاتُهم ، هل تجدونَ فيها نوراً من أنوارِ الكتابِ والسنّةِ عليها ؟ ، واللهِ إنّها ظلماتٌ بعضُها فوقَ بعضٍ ، تُقسّي القلبَ ، وتُغضبُ الرّبَّ ، وتفتحُ أبواباً كانتْ موصدةً تؤدّي إلى الزندقةِ والضلالِ .
تبّاً لمن كانتِ الشريعةُ خصمهُ ، وسُحقاً لمن حاربَ اللهَ في كتابهِ ، وبُعداً لمن نابذَ النبيَّ الكريمَ - صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ - في سنّتهِ وهديهِ .(51/406)
من سيماهم تعرفونهم ، فهل هؤلاءِ سيماهم وصفاتُهم هي من سماتِ أهلِ الخيرِ والصلاحِ ؟ ، هل هم من أربابِ المساجدِ والصلواتِ وقيامِ الليلِ والبرِّ والصدقةِ والعفافِ والصلةِ ؟ ، هذا هو دينُ اللهِ تعالى ، علمٌ وعملٌ ، وأمّا دعواتُ هؤلاءِ الممسوخينَ فهي التمرّدُ على الدينِ باسمِ القراءةِ الجديدةِ للتراثِ ، وتارةً باسمِ التفكيكِ للمنهجِ السلفيِّ ، وأخرى باسمِ الفهمِ الجديدِ للدّينِ .
هذه بعضُ القصصِ التي وقعتْ لهم ، لتعلموا كيفَ يُقاسونَ ويُعانونَ ، ومن أصدقُ من اللهِ قيلاً : (( ومن أعرضَ عن ذكري فإنَّ لهُ معيشةً ضنكاً ، ونحشرهُ يومَ القيامةِ أعمى ، قالَ ربِّ لمَ حشرتني أعمى وقد كنتُ بصيراً ، قالَ كذلكَ أتتكَ آياتُنا فنسيتَها ، وكذلكَ اليومَ تُنسى )) .
ملاحظةٌ : إذا وقفَ أحدُكم على ترجمةٍ لأبي ريّةَ ولو مُقتضبةٍ ، فلْيراسلني - كرماً منهُ وتفضّلاً - على بريدي ، فقد أضناني البحثُ ولم أجدْ شيئاً ، ووجدتُ قديماً ترجمةً لكاتبِ اسمهُ : جمال محمود أبو ريّة ، لهُ مجموعةٌ من المؤلّفاتِ في قصصِ الأطفالِ ، ولا أدري هل هو ابنهُ ، أم تشابهٌ في الأسماءِ ؟ ، فمن كانَ عندهُ بقيّةٌ من خبرٍ ، أو أثارةٌ من علمٍ فلْيُغثنا .
==============(51/407)
(51/408)
سلسلة كشف الشخصيات (7) : لطفى السيد
بقلم : سليمان الخراشى
ترجمته: هو أحمد لطفي بن السيد أبي علي، ولد سنة 1870م، كان رئيساً لمجمع اللغة العربية في القاهرة. وينعت بأستاذ الجيل! ولد في قرية "برقين" بمركز "السنبلاوين" بمصر، وتخرج بمدرسة الحقوق في القاهرة (1889) وعمل في المحاماة. وشارك في تأليف حزب "الأمة" سنة 1908 فكان أمينه، وحرر صحيفته "الجريدة" يومية إلى سنة 1914 وكان من أعضاء "الوفد المصري" وتحول إلى "الأحرار الدستوريين" وعين مديراً لدار الكتب المصرية فمديراً للجامعة عدة مرات، ثم وزيراً للمعارف، والداخلية والخارجية (1946) فعضواً بمجلس الشيوخ (1949) وكان تعيينه رئيساً لمجمع اللغة العربية سنة 1945 واستمر فيه إلى أن توفي بالقاهرة. تأثر بملازمة جمال الدين الأفغاني مدة في استنبول، وبقراءة كتب أرسطو، ونقل منها إلى العربية: "علم الطبيعة -ط" و"السياسة-ط" و"الكون والفساد-ط" و"الأخلاق-ط".
وجمع إسماعيل مظهر مقالاته في "صفحات مطوية من تاريخ الحركة الاستقلالية-ط" و"المنتخبات-ط" جزآن و"تأملات في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع- ط"
- يعد لطفي السيد أحد التلاميذ النجباء ! للمدرسة العصرانية الحديثة، التي أنشأها جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، وهي المدرسة التي تقوم على تقديس العقل مقابل النقل، ومحاولة مزج المسلمين بغيرهم، والسير وراء الحضارة الغربية ونقلها إلى المجتمع المسلم، دون تفريق -للأسف- بين منافعها وأضرارها، ولهذا فقد انطبع لطفي السيد بسمات هذه المدرسة في تفكيره، بل زاد عليها شوطاً بعيداً في الانحراف.
يقول الدكتور حسين النجار عن لطفي السيد بأنه "تتلمذ على الشيخ محمد عبده في مدرسة الحقوق، واتصل به وعرفه بعد ذلك في سويسرا" [أحمد لطفي السيد: أستاذ الجيل 193]
ويقول ألبرت حوراني: "التقى لطفي السيد بمحمد عبده وأصبح صديقه وتلميذه، كذلك تعرف إلى الأفغاني في أثناء زيارة قام بها إلى استنبول، فأعجب به كثيراً" [الفكر العربي في عصر النهضة 210].
أما الأستاذ أنور الجندي فله رأي أخر في هذا؛ حيث يرى بأن لطفي السيد قد تنكر لمبادئ مدرسة محمد عبده -التي لا زال الجندي يثني للأسف عليها!- وأنه انحرف عنها إلى تأييد المستعمر الإنجليزي والسير في ركابه. يقول الجندي: "قد بدأ ظاهر الأمر أن سعد زغلول ولطفي السيد هما من تلاميذ جمال الدين ومحمد عبده، ولكن الأمور ما لبثت أن كشفت عن تحول واضح في خطتهما نحو منهج التغريب الذي قاده كرومر والذي وضع للصحافة والثقافة والتعليم منهجاً جديداً مفرغاً من الإسلام وهو المنهج الذي صنع ذلك الجيل الذي دخل الجامعة وكليه الآداب في أول افتتاح الجامعة المصرية 1925 (وقد قام بالدور الأكبر فيه الدكتور طه حسين) ومدرسة السياسة (هيكل وعلي عبد الرازق ومحمود عزمي) وغيرهم.
ولا ريب أن كتابات لطفي السيد ومخططات سعد زغلول تكشف عن تجاوز كبير للنبع الذي صدرا منه . وعن مفاهيم جمال الدين ومحمد عبده ومهما كانت كتابات كرومر عن محمد عبده وحزبه فإنه ما كان يقر هذا التحول الذي وصل إليه الرجلان الذين أسلمهما كرومر مقادة الصحافة (لطفي السيد) والتربية (سعد زغلول) ومفاهيمهما هي مفاهيم كرومر وخطتهما هي خطته" [عقبات في طريق النهضة: ص 76-77].
قلت: والحق خلاف ما ذكره الجندي! الذي أحسن الظن كثيراً بمحمد عبده وشيخه، وتغافل أنهما -لا سيما الأخير- قد راهن عليهما المستعمر كثيراً، ومكن لمدرستهما، ورحب بها، لتكون خليفة له بعد رحيله عن مصر؛ نظراً لأنها تحقق له أهدافه.
نعم قد يكون لطفي السيد وسعد زغلول قد زادا في الانحراف عن الإسلام أكثر من شيخيهما، إلا أن هذا أمر متوقع لكل من تأثر بهذه المدرسة التي كانت تعاليمها أول ممهد لمثل هذا الانحراف، وهكذا البدع والانحرافات تبدأ صغيرة ثم لا تلبث أن تكبر وتتسع وتزداد، لأن القاعدة التي انطلقت منها تسمح بذلك.
انحرافاته :
1- أعظم انحراف له، بل هو من الكفريات -والعياذ بالله- أنه -كما يقول ألبرت حوراني- :" لم يكن مقتنعاً كأساتذته! بأن المجتمع الإسلامي أفضل من المجتمع اللا إسلامي" !! [الفكر العربي في عصر النهضة، ص211] وتوضيح هذا كما يقول حوراني : أن "الدين -سواء كان الإسلام أو غيره- لا يعنيه إلا كأحد العوامل المكونة للمجتمع" .(51/409)
كان يرى أن ليس باستطاعة بلد له تقاليد -كمصر- أن يقيم حياة الفرد وبناء الفضائل الاجتماعية إلا على أساس الإيمان الديني، وأن الإسلام-كدين لمصر- لا يمكن إلا أن يكون هذا الأساس. لكنه رأى أن أدياناً أخرى قد تصلح لبلدان أخرى، وبتعبير آخر، كان لطفي السيد مقتنعاً بأن المجتمع الديني خير من المجتمع اللاديني (على الأقل في مرحلة معينة من التطور)، لكنه لم يكن مقتنعاً كأساتذته بأن المجتمع الإسلامي أفضل من المجتمع اللا إسلامي. وفي هذا يقول: "لست ممن يتشبثون بوجوب تعليم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية معينة. ولكني أقول بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ يتمشى عليه المتعلم من صغره إلى كبره. وهذا المبدأ هو مبدأ الخير والشر وما يتفرع عنه من الفروع الأخلاقية. لا شك في أن نظريات الخير والشر كثيرة التباين. ولكن الواجب على كل أمة أن تعلم بنيها نظريتها هي في هذا الشأن. فعندنا (في مصر) إن مبدأ الخير والشر راجع إلى أصل الاعتقاد بأصول الدين، فعليه يجب أن يكون الدين من هذه الوجهة الأخلاقية هو قاعدة التعليم العام" [المرجع السابق :ص211-212نقلاً عن صفحات مطوية، لطفي السيد، (1/118)] .
قلت: فلطفي السيد إذاً لا يفرق بين الإسلام وغيره من الأديان أو النِحل! فجميعها -في نظره سواء- ما دامت تجعل معتنقها يحب الخير ويفعله، ويكره الشر ويبتعد عنه! فنعوذ بالله من خلط الكفر بالإسلام،
2- دعوته إلى (العلمانية) وعزل الإسلام عن أن يكون مرجعاً لسلوك الفرد والمجتمع إلى كونه مجرد علاقة بين العبد وربه يحتفظ بها في ضميره!!.
يقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) :"إن تأكيد لطفي السيد على العلمانية وإحالة الدين إلى ضمير الفرد أثار النقاد الذين نددوا به واتهموه بالإلحاد" [ص 329].
3- إلحاده !! -إن صح النقل عنه- فقد قال مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) :" أخبرني عبد الرحمن الرافعي المحامي المؤرخ مرة أن لطفي السيد كان شيخ الملحدين . ولكن عبد الرزاق السنهوري الذي سمع هذه الملاحظة قال: إن شيخ الملحدين هو شبلي شميّل وليس لطفي السيد، على الرغم من أن لطفي نفسه من الملحدين!! وقال الرافعي إن لطفي كمدير للجامعة المصرية دافع عن ملحدين آخرين ؛ كطه حسين ومنصور فهمي وحسين هيكل " [ص329] .
"وقال لي السنهوري -وهو صديق حميم للطفي السيد- إن لطفي أثار شكوكاً جدية في المعتقدات الدينية التقليدية" وأنه "أعرب عن شكوك خطيرة فيها، وقد ظل مشككاً حتى آخر حياته" !! [ص330].
4- طعنه في الشريعة الإسلامية بأنها غير صالحة لهذا العصر!! يقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) : "قال لي -أي لطفي السيد- مرة في سياق الحديث: إن الشريعة الإسلامية وهي في حالة ركود منذ زمن بعيد لم تعد تتفق والأوضاع الجديدة للحياة"!! [ص330].
5- دعوته إلى الوطنية الضيقة التي رفعت شعار "مصر للمصريين" ! فأعادت النعرة الجاهلية من جديد، حيث استبدل لطفي السيد رباط الأخوة الإسلامية بهذا الرباط الجاهلي.
يقول ألبرت حوراني في كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة) : "كان لطفي كغيره من المفكرين المصريين لا يحدد الأمة على أساس اللغة أو الدين، بل على أساس الأرض، وهو لم يفكر بأمة إسلامية أو عربية، بل بأمة مصرية: أمة القاطنين أرض مصر" [ص216].
وأن "لمصر في نظره ماضيان: الماضي الفرعوني والماضي العربي، ومن المهم أن يدرس المصريون الماضي الفرعوني، لا للاعتزاز به فحسب! ، بل لأنه يلقنهم قوانين النمو الارتقاء" [ص 216-217] .
وقد ذهب لطفي السيد في غلوه الجاهلي إلى القول بأن "القومية الإسلامية ليست قومية حقيقية، وأن الفكرة القائلة بأن أرض الإسلام هي وطن كل مسلم إنما هي فكرة استعمارية تنتفع بها كل أمة استعمارية حريصة على توسيع رقعة أراضيها ونشر نفوذها" !! [ص 218].
ويقول -أيضاً- : "أما الأمة الإسلامية فكادت تقع خارج نطاق تفكيره" [ص 224] .
ويقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) : "كانت فكرته -أي لطفي- في الأمة -كما استقاها من الفكرة الأوروبي ! إقليمية، لا إسلامية" [ص328]
ويقول -أيضاً- : "نادى بهوية مصرية وطنية تستند إلى تاريخها المتواصل، الذي لم يكن الحكم الإسلامي فيه إلا مجرد فصل واحد" [ص328].
6- "الدعوة إلى العامية: وقد سار في هذا التيار مؤيداً الخطوات التي كان قد قطعها المستشرقون والمنصرون قبله، وكان أبرز ما دعا إليه:
أ إبطال الشكل وتغييره بالحروف اللينة.
ب تسكين أواخر الكلمات.
ج إحياء الكلمات العامية المتداولة، وإدخالها في صلب اللغة الفصحى" [انظر: رجال اختلف فيه الرأي، لأنور الجندي، ص 4، بتصرف].
قلت: وانظر للتدليل على ما سبق من كلام لطفي السيد، كتاب (قمم أدبية) للدكتورة نعمات أحمد فؤاد.
7- دعوته إلى مذهب (المنفعة) دون ضوابط شرعية لهذه المنفعة، وقد استقى هذا المذهب كما يقول الدكتور حسين النجار من الفيلسوف الإنجليزي (جون ستيوارت مل) .(51/410)
قال الدكتور: " فمذهب المنفعة هو القاعدة في تفكيره السياسي والاجتماعي، فالمنفعة هي الحافز الأصيل للعلاقة بين الدول بعضها ببعض، وبين الحكومة والأفراد، أو بين الأفراد فيما بينهم" [أحمد لطفي السيد، للنجار، ص202-203]
قلت: وتطبيقاً لهذا المذهب الغربي فقد عارض لطفي السيد "مساعدة المصريين لجيرانهم في طرابلس الغرب أثناء الغزو الإيطالي الاستعماري عام 1911، وكتب في هذا المعنى تحت عنوان (سياسة المنافع لا سياسة العواطف)! مقالات متعددة دعا فيها المصريين إلى التزام الحياد المطلق في هذه الحرب الإيطالية التركية وإلى الضن بأموالهم أن تبعثر في سبيل أمر لا يفيد بلادهم" [رجال اختلف فيهم الرأي، للجندي، ص5]
8- دعوته للديمقراطية: ولم يعد يخفى على عاقل مخالفة هذا المذهب للإسلام، وأنه مذهب يحوي الكثير من الكفريات، بداية بتحكيم ما لم ينزل الله، وانتهاء بنقض مبدأ الولاء والبراء الشرعي… الخ.
يقول الدكتور حسين النجار: "أما لطفي السيد وأضرابه من المثقفين فقد استهوتهم الديمقراطية كمذهب" [أحمد لطفي السيد، ص 82].
ويقول عنه بأنه : " بهرته الحياة السياسية للدولة القومية في الغرب، فكانت وحياً لفلسفته السياسية التي أخذ يبشر بها المصريين" [المرجع السابق، ص199]
9- دعوته لمذهب (الحرية) بالمفهوم الغربي، دون أي ضوابط شرعية لهذه الحرية!
يقول الدكتور النجار: "الفكرة في عقيدة لطفي السيد هي الحرية، الحرية في كل صورها ومعانيها" [أحمد لطفي السيد، ص 331].
ويقول -أيضاً- : "أما مذهب الحرية الذي نادى به جون ستيوارت مل أساساً للنظام الاجتماعي فقد اتخذه لطفي السيد أساساً لما أسماه "مذهب الحريين" للدولة" [المرجع السابق، ص 203].
ويقول مجيد خدوري : "ازداد حب لطفي السيد للحرية بدراسته للفكر الأوروبي" [عرب معاصرون، ص 326].
ويقول ألبرت حوراني: "كان مفهوم لطفي السيد للحرية -كما يعترف هو نفسه باعتزاز - مفهوم ليبراليي القرن التاسع عشر" [الفكر العربي في عصر النهضة، ص 213].
10- أنه كان مهادناً للاستعمار الإنجليزي لمصر، بل كان صنيعة لهم؛ ليحقق هو وأضرابه أهدافهم بعد الرحيل عن مصر.
يقول الأستاذ أنور الجندي: "لقد كان الاستعمار حريصاً على صنع طبقة خاصة من المثقفين، عمل كرومر على إعدادها، ووعدها بأن تتسلم قيادة الأمة بعد خروج الإنجليز، ووفى لها، وكان أبرزها: لطفي السيد" [عقبات في طريق النهضة، ص 59].
ويقول -أيضاً-: "إن حزب الأمة الذي أنشأه لطفي السيد كان بإجماع الآراء صناعة بريطانية أراد بها اللورد كرومر أن يواجه الحركة الوطنية بجموع من الإقطاعيين والثراة والأعيان (الذين وصفهم بأنهم أصحاب المصالح الحقيقية) وقد كان هدف حزب الأمة والجريدة بقيادة الفيلسوف الأكبر لطفي السيد تقنين الاستعمار والعمل على شرعية الاحتلال والدعوة إلى المهادنة مع الغاصب، وتقبل كل ما يسمح به دون مطالبته بشيء" [رجال اختلف فيهم الرأي ، ص 7].
ويقول مجيد خدوري :" وكان اللورد كرومر قبل مغادرته مصر بقليل، قد أعجب باعتدال هذه الكتلة -أي مدرسة محمد عبده- وراح يشجعها على تأسيس حزب الأمة، بغية مجابهة نفوذ أتباع مصطفى كامل من الوطنيين" [عرب معاصرون، ص315].
ويقول عنه -أيضاً- :" كثيراً ما لام الوطنيين لمعارضة بريطانيا" !! [المرجع السابق، ص 331].
ويقول فتحي رضوان: " إنك لتقرأ كل ما كتب لطفي السيد في الجريدة في موضوع علاقة مصر ببريطانيا، وفي موضوع علاقة مصر بتركيا، فإذا به في الموضوع الأول لطيفاً، كأنه مر النسيم، يخاف أن يخدش خد الاستعمار، أما في الموضوع الثاني فهو متحمس غضوب فما سر هذا، وما تفسيره؟ " [عصر ورجال، ص 443].
قلت: ولأجل هذا نفهم تمجيده ومدحه للورد كرومر الحاكم البريطاني الذي أذل المصريين لمدة ربع قرن!! حيث قال يوم خروجه من مصر:" أمامنا الآن رجل عظيم، من أعظم عظماء الرجال، ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا نداً له يضارعه في عظائم الأعمال" !! نشر هذا في "الجريدة" في نفس اليوم الذي ألقى فيه كرومر خطاب الوداع، فسب المصريين جميعاً وقال لهم: إن الاحتلال البريطاني باقٍ إلى الأبد !! [انظر : رجال اختلف فيهم الرأي، لأنور الجندي، ص 5-6].
11- دعوته ومؤازرته لحركة تحرير المرأة التي قادها صاحبه قاسم أمين -عليه من الله ما يستحقه-
يقول الدكتور حسين النجار: "حظيت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة من تأييد لطفي السيد بما لم تحظ به من كاتب أو صحفي آخر" [أحمد لطفي السيد، ص 243]
وقال -أيضاً- :" ويقيم لطفي السيد من دار "الجريدة" منتدى للمرأة تقصده محاضرة ومستمعة" [المرجع السابق، ص248]
قلت: ولذا فقد كتب في جريدته مقالات بعنوان: "قاسم أمين القدوة الحسنة" !! يقول فيها مخاطباً الشباب المصري: "ليعتنق كل عامل منهم أنماط قاسم في حُسن تفكيره" [المنتخبات (1/11)]
وأثنى كثيراً على دعوته الفاجرة، [انظر:المنتخبات، (1/268 وما بعدها)](51/411)
وتطبيقاً من لطفي السيد لهذه الحركة التحريرية للمرأة المسلمة قام (عندما كان مديراً للجماعة المصرية) هو وأصحابه بخطة ماكرة أقروا فيها دخول (البنات) لأول مرة في الجامعة المصرية واختلاطهم في الدراسة بالبنين! فكانوا أول من فعل ودعا إلى هذه الضلالة التي لا زالت تعيشها الجامعة المصرية إلى اليوم، فعليه وزرها ووزر من عمل بها. قال الزركلي في ترجمته: "هو أول من سهَّل للفتيات دخول الجامعة في بدء إنشائها"
وانظر تفاصيل هذه الخطة الخبيثة في كتاب: "أحمد لطفي السيد" للدكتور حسين النجار، ص 317 وما بعدها.
12- دعوته إلى دراسة الفكر اليوناني، والاقتباس منه، وتشجيع تلاميذه على ذلك.
يقول الأستاذ مجيد خدوري: "رأى لطفي السيد من الضروري إعادة تعريف أبناء بلده بأرسطو الذي كان لطفي نفسه يدين إليه بكثير من آرائه في السلطة والحرية؛ مما جعله يشجع تلاميذه على دراسة الفكر اليوناني. لقد نشر خلال عشرين سنة ترجمات لكتاب "علم الأخلاق" في سنة 1924 وكتاب "الكون والفساد" في سنة 1932 وكتاب "علم الطبيعة" في سنة 1935 وكتاب "السياسة" في سنة 1940.
وهكذا فإن دراسة الفكر اليوناني لم يكن لها أثرها في تفكيره العلماني فحسب، بل في تفكير تلاميذه" [عرب معاصرون، ص 335-336].
قلت: ولكن بقي أن تعلم ما قاله الأستاذ أنور الجندي في هذه الترجمات التي قام بها لطفي السيد .
قال الأستاذ أنور: "تبين أن مترجمات لطفي السيد عن أرسطو (التي ترجمت من الفرنسية) (السياسة. الكون والفساد. الأخلاق) وهي منسوبة إليه، تبين أنه ليس مترجمها وأن مترجمها الحقيقي هو قسم الترجمة في دار الكتب المصرية!! وذلك بشهادة عديد من معاصري هذه الفترة" [رجال اختلف فيهم الرأي، ص6]
==============(51/412)
(51/413)
سلسلة كشف الشخصيات (8) : فرج فودة
بقلم : سليمان الخراشى
ترجمته([1]) :
- هو : فرج بن علي فوده
- من مواليد الزرقاء -دمياط، في 20 أغسطس 1945م.
- حصل على بكالوريوس الزراعة عام 1967، ثم الماجستير عام 1975م.
- حصل على دكتوراه الفلسفة في الاقتصاد الزراعي من جامعة عين شمس عام 1981م.
- عمل مدرساً بزراعة بغداد، ثم خبيراً اقتصادياً في بعض بيوت الخبرة العالمية.
- ثم أصبح يملك ويدير (مجموعة فودة الاستثمارية)
- انضم إلى حزب الوفد ثم انفصل عنه -كما يأتي- فأصدر كتاباً بعنوان (الوفد والمستقبل) شنع فيه على الحزب ودعا قارئه إلى عدم الانضمام إليه!
- (اغتيل إثر مناقشة علنية بين طرفين: أحدهما إسلامي، والآخر علماني. وكان هو من الطرف العلماني.
وكانت البداية في صراعه مع الشيخ صلاح أبو إسماعيل، عندما كانا في حزب الوفد عام 1984، حيث أصر فرج فوده على علمانية -أي لا دينية- الوفد، بينما أصر الشيخ صلاح أبو إسماعيل على إسلامية الوفد. ولحسابات كثيرة أعلن رئيس حزب الوفد إسلامية الحزب. فخرج فوده من الحزب، وأسس مع أحد المارقين عن الإسلام حزباً جديداً أسماه"حزب المستقبل"، ووضع غالبية مؤسسيه من الأقباط، بالإضافة إلى الدكتور أحمد صبحي منصور، الأزهري الذي فصلته جامعة الأزهر لاتهامه بالاعتقاد بعدم ختم النبوة، وإنكار السنة النبوية الشريفة.
وقد رشح نفسه في انتخابات مجلس الشعب عام 1987 بصفته مستقلاً، وفي دائرة شبرا التي يوجد فيها نسبة كبيرة من الأقباط، وبها أكثر من 150 ألف صوت، لم يحصل منهم إلا على 200 صوت فقط!
وكان يدعو إلى التعايش مع إسرائيل، وبدأ هو بنفسه في التعامل بالاستيراد والتصدير -حيث كان يملك شركة تعمل في هذا المجال- وكان يعترف بأن السفير الصهيوني في القاهرة صديقه.
وكان ضيفاً ثابتاً في التلفزيون والإذاعة التونسية. وفي أخريات مقالاته بمجلة أكتوبر المصرية وصف المجاهد التونسي علي العريض بالشذوذ الجنسي، كما تهجم على الشيخ الداعية عبد الفتاح مورو، ودعاة آخرين .
ووضع نفسه أمام الرأي العام أنه ضد إقامة الدولة الإسلامية، وضد تطبيق الشريعة الإسلامية.. وكان ذلك واضحاً في مناظرته الأخيرة التي عقدها والدكتور محمد أحمد خلف الله في معرض الكتاب (يناير 1992) في مواجهة الشيخ محمد الغزالي والمستشار مأمون الهضيبي والدكتور محمد عمارة، وهي المناظرة التي أثارت حنق الكثيرين وعامة الشعب، وأصحاب الاتجاه الإسلامي على وجه الخصوص . (انظر مجلة المجتمع، عدد 1005).
واستمعت المحكمة على مدى 34 جلسة إلى أقوال 30 شاهد إثبات.. بينهم اثنان اعتبرا صاحبي أخطر شهادة، هما الدكتور محمود مزروعة، والشيخ محمد الغزالي.
والأول رئيس لقسم العقائد والأديان بكلية أصول الدين في جامعة الأزهر، ووكيل وعميد سابق لها، وأستاذ في جامعة بنغازي، وجامعة الملك سعود، والجامعة الإسلامية بإسلام آباد، وجامعة قطر.. وحاور مستشرقين في الهند والصين وإيطاليا. وأعلن أمام المحكمة أن "فرج فوده" مرتد، ويجب على آحاد الأمة تنفيذ حد الردة في القاتل إذا لم يقم ولي الأمر بتنفيذ ذلك.. واعتبر بذلك في نظر كثير من المفكرين والأدباء محرضاً على القتل.
وقال الشاهد: إن فرج فودة كان يحارب الإسلام في جبهتين.. وزعم أن التمسك بنصوص القرآن الواضحة قد يؤدي إلى الفساد إلا بالخروج على هذه النصوص وتعطيلها.. أعلن هذا في كتابه "الحقيقة الغائبة" . وأعلن رفضه لتطبيق الشريعة الإسلامية، ووضع نفسه وجندها داعية ومدافعاً ضد الحكم بما أنزل الله.. وكان يقول: لن أترك الشريعة تطبق ما دام فيَّ عرق ينبض! وكان يقول: على جثتي! ومثل هذا مرتد بإجماع المسلمين، ولا يحتاج الأمر إلى هيئة تحكمُ بارتداده. (لقاء مع الدكتور مزروعة في جريدة العالم الإسلامي ع 1370 تاريخ 15/3/1415هـ)
-وشهادة الشيخ محمد الغزالي في قضية الاغتيال هذه أثارت ردود فعل عنيفة، داخل مصر وخارجها.
واعتبرها العلمانيون المصريون بمثابة 100 قنبلة! في حين أكد المتهمون باغتياله أن شهادة الشيخ تكفيهم ولو وصل الأمر لإعدامهم بعد ذلك! (تنظر هذه الشهادة في جريدة العالم الإسلامي ع 1321 (21- 27/2/1414هـ). وانظر الرد في مجلة المصور ع 3586 (12/1/1414هـ)، وتنظر كذلك: الرسالة الإسلامية ع 131 ص 65).
وبعد إدلاء هاتين الشهادتين ثارت زوبعة حول حد الردة في الإسلام، حيث أنكر العلمانيون والشيوعيون أن تكون عقوبة المرتد هي القتل، وأعد الدكتور عبد العظيم المطعني -الأستاذ بجامعة الأزهر- دراسة للرد عليهم بعنوان: "عقوبة الارتداد عن الدين بين الأدلة الشرعية وشبهات المنكرين" نشرتها مكتبة وهبة بالقاهرة.
والكتاب الأكثر إثارة في القضية كان بعنوان "أحكام الردة والمرتدين من خلال شهادتي الغزالي ومزروعة" لمؤلفة الدكتور مزروعة نفسه.(51/414)
ومما كُتب فيه أيضاً، كتاب "محاكمة سلمان رشدي المصري: علاء حامد: مسافة في عقل رجل أم طعنة في قلب أمة؟ مع نص شهادة فرج فودة في المحكمة للدفاع عن علاء حامد" حيث اعتبر فرج فودة زعيم العلمانيين في مصر (ص125)، ونقل قوله في المحكمة: "غير المسلمين مثل النصارى واليهود ينكرون بداهة الدين الإسلامي فهل إنكارهم يعد جريمة؟" (ص26). وقد وضع اسمه بين المدافعين عن علاء حامد مع أحمد صبحي منصور، وأحمد عبد المعطي حجازي، ومحمد فايق -أمين عام المنظمة المصرية لحقوق الإنسان-، وإسماعيل صبري عبد الله، ومحمد عودة، ونبيل الهلالي، وعبد الوارث الدسوقي، ويوسف القعيد، ونوال السعداوي. ورواية علاء حامد فيها "إلحاد وتطاول على الذات الإلهية، وسخرية من الأنبياء والرسل، واستهزاء بالجنة والنار، وتكذيب صريح للكتب المنزّلة وهجوم عليها" (ص61).
وقد صودر الكتاب، وأعدمت النسخ، وصدر الحكم عليه بالسجن ثماني سنوات، ورفض رئيس مصر إلغاء الحكم وقال: "لا أستطيع إلغاء حكم قضائي لشخص أهان الدين" وقال: "إن الحفاظ على العقيدة شيء مقدس" (ص71).
-كان اغتيال فرج فودة في شهر ذي الحجة، الموافق لشهر حزيران (يونيو)، أثناء خروجه من مكتبه بمدينة نصر.
مؤلفاته:
1- الملعوب: قصة شركات توظيف الأموال. القاهرة: دار مصر الجديدة.
2- قبل السقوط. 1405هـ وقد رد عليه في كتاب بعنوان: "تهافت قبل السقوط وسقوط صاحبه" تأليف عبد المجيد حامد صبح. -المنصورة، مصر: دار الوفاء، 1405هـ، ورد عليه أيضاً بكتاب "بين النهوض والسقوط: رد على كتاب فرج فودة" منير شفيق. -ط2- تونس: دار البراق، 1411هـ.
3- الحقيقة الغائبة، -ط3- القاهرة: دار الفكر للدراسات والنشر.
4- حتى لا يكون كلامنا في الهوا.
5- الطائفية إلى أين؟ (بالاشتراك مع آخرين).
6- النذير.
7- الإرهاب). (انتهى النقل من تتمة الأعلام للزركلي، للأستاذ محمد خير يوسف (2/10-11) بتصرف يسير
انحرافاته :
1- يعد كتابه (قبل السقوط) -الذي أثار الضجة عليه- شاهداً لانحرافه بل ردته -والعياذ بالله-، حيث دعا في هذا الكتاب إلى عدم تطبيق الشريعة الإسلامية، لأن ذلك لا يأتي بخير لمصر! ويطالب بفصل الدين عن الدولة.
ومن أقواله في هذا :"إن فصل الدين عن السياسة وأمور الحكم إنما يحقق صالح الدين وصالح السياسة معاً" (قبل السقوط،ص23) (وانظر أيضاً: كتابه (الحقيقة الغائبة) ص 133،142)
ويقول:"إن تطبيق الشريعة الإسلامية لابد أن يقود إلى دولة دينية، والدولة الدينية لابد أن تقود إلى حكم بالحق الإلهي" (قبل السقوط، ص52).
ويتهجم في كتابه (الحقيقة الغائبة) على فترة حكم الخلفاء الراشدين زاعماً أنها فترة حروب واغتيالات وعدم أمن !! مفضلاً العلمانية عليها ! (ص140-141).
قلت: وقد فند ما جاء من شبهات في هذا الكتاب حول تطبيق شرع الله، الأستاذ عبد المجيد صبح في كتابه (تهافت قبل السقوط وسقوط صاحبه)، فليراجع.
2- نتيجة لانحرافه السابق فإن فودة يدعو إلى موالاة ومحبة المصري للمصري دون نظر إلى دينه!
يقول :"خليق بمثلي أن يشعر بالحزن والأسى وهو يقرأ للدكتور أحمد عمر هاشم تلك العبارة العنصرية (الإسلام لا يمنع من التعامل مع غير المسلمين، ولكن يمنع المودة القلبية والموالاة ؛ لأن المودة القلبية لا تكون إلا بين المسلم وأخيه المسلم، لا يا سيادة الدكتور: المودة القلبية تكون بين المصري والمصري، مسلماً كان أو قبطياً لا فرق، والقول بغير هذا تمزيق للصفوف" (قبل السقوط، ص83)
3- يخصص كتاباً كاملاً (نكون أولا نكون) للنيل من كل ما هو إسلامي، لا سيما في بلاده مصر. بلهجة ساخرة.
4- قال الأستاذ أنور الجندي عن (حزب المستقبل) الذي أسسه فرج فودة في مصر: "أصدرت ندوة العلماء بالأزهر بياناً تضمن رأيها في تأسيس حزب المستقبل قالت: اعترضت لجنة العلماء في بيانها على تأسيس حزب المستقبل في أول سابقة من نوعها بعد قيام الأحزاب الستة في مصر والتي تتولى لجنة الأحزاب السياسة دون غيرها البت في قيامه من عدمه طبقاً للقانون.
حذر بيان لجنة العلماء من قيام حزب المستقبل الذي يؤسسه فرج فودة، وقال البيان: إن الحزب يمثل خطراً على أمن الأمة واستقرارها ووصف أعضاء الحزب بأنهم أعداء لكل ما هو إسلامي، وأن هدفهم المعلن هو عدم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بدعوى تفوق القانون الوضعي، إن أعضاء الحزب دأبوا على الهجوم على التاريخ الإسلامي والتطاول على بعض أصحاب النبي سيدنا صلى الله عليه وسلم وعلى الرموز الإسلامية وعلماء الأمة، كما دأبوا على الهجوم على التيار الإسلامي واستعداء النظام وتحريضه على ضرب الأمة.
وقال بيان ندوة العلماء : إن الدولة الثيوقراطية أو الدولة الدينية لا يعرفها الإسلام ولا يطالب بها، والعلمانية والإسلام نقيضان لا يجتمعان، ومحاورة الدولة الدينية والدولة المدنية فيه مغالطة فلا هي الدولة الدينية في الإسلام ولا هي الدولة العلمانية في الفكر الغربي.
وأشار بعض الباحثين إلى أن حزب المستقبل يعمل في هدفه المعلن:
أولاً: على منع تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بدعوى تفوق القانون الوضعي .(51/415)
ثانياً: الدأب على الهجوم على التاريخ الإسلامي والتطاول على بعض أصحاب صلى الله عليه وسلم وعلى الرموز الإسلامية وعلماء الأمة.
ثالثاً: الهجوم على التيار الإسلامي واستعداء النظام وتحريضه على ضرب الأمة.
والمعروف أن فرج فودة يستقي معلوماته عن التاريخ الإسلامي من "ألف ليلة" و "الأغاني" .
وكان فرج فودة قد أصدر كتاباً ضم إليه مجموعة أفكاره التي تتلخص في المناداة بتنحية الدين عن قيادة الحياة وتضمن مجموعة من الأفكار المسمومة أهمها:
1- إنكار كثير مما علم من الدين بالضرورة، الأمر الذي يخرجه من جماعة المجتهدين إلى جماعات أخرى.
2- رفضه المطلق لتطبيق الشريعة الإسلامية بما يدعو إليه جهاراً من محاصرة كافة مظاهر الدين في مختلف أجهزة الدولة.
3- تشويه أعلام الإسلام وتزييف تاريخه وتحريض الأمة بمختلف فعالياتها السياسية والفكرية على التنكر للإسلام (معتدلين ومتشددين).
4- ما قدم من أفكار نشرها في كتبه وبعض الصحف وعرضها من خلال وسائل الإعلام خرج بها على مقياس الاعتدال وخالف العرب وخالف القانون الذي حدد لمصر هويتها الإسلامية وضرورة المحافظة على القيم والأخلاق.
5- وأد الفكر المعارض له وتحريض الدولة على القضاء على أصحابه.
6- الدعوة إلى منع علماء الأمة من أداء واجبهم نحو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
7- تشويه تاريخ الخلفاء الراشدين كبار الصحابة رضي الله عنهم واتهامهم بتهم لا يصح أن يتهم بها عامة الناس والتطاول على (ابن عباس) رضي الله عنهما واتهامه بالاستيلاء على أموال المسلمين بالباطل، واتهامه للعشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم ونقدهم نقداً لاذعاً.
فعل ذلك ليصل إلى إغلاق ملف الشريعة فيما يتصل بالدولة وسياسة الحكم.
8- وكان أخطر أعماله التركيز على موضوع الشريعة الإسلامية وتشويه صورة الإسلام ورموزه حتى إنه وصل إلى تأويل بعض آيات القرآن الكريم وإنكار الكثير من أحاديث صلى الله عليه وسلم الصحيحة والتأكيد على قصر العمل بكثير من أحكام الشريعة على عصر صلى الله عليه وسلم بمقولة باطلة أن الأوامر التي كانت تصدر من خلال القرآن كانت أوامر شخصية لا يطالب بها إلا من نزلت في شأنهم أو قيلت في حقهم.
9- يعتمد في كتاباته على آراء وضعية روتها بعض كتب التاريخ وأثبت المتخصصون أنها من المدسوسات على تاريخنا الإسلامي وألفت فيها كتب تدلل على تلفيقها وكذبها إلى حد أنه كان يستخلص من هذه الآراء الضعيفة والمردودة ما يدفعه إلى الهجوم على كبار الصحابة كأبي بكر وعثمان وعلي وابن عباس وغيرهم من كبار الصحابة رضي الله عنهم جميعاً الذين اتهمهم في ذمتهم وشرفهم وأراد أن يمحو الحب والتقدير لأقرب الناس إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم وبخاصة العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم جميعاً الذين كان يتهكم عليهم تهكماً شديداً.
وقد وصل فرج فودة في تشويه صورة الإسلام ورموزه إلى حد تأويل بعض آيات القرآن الكريم وإنكار الكثير من أحاديث صلى الله عليه وسلم الصحيحة والتأكيد على قصر العمل بكثير من أحكام الشريعة على عصر النبي صلى الله عليه وسلم
10- كان يتهجم على الإسلام بصورة غاية في الابتذال والوقاحة ونحن نعلم أن أي مسلم يرد آية واحدة من القرآن فإن ذلك يخرجه من ملة الإسلام.
هذا إلى سفاهات تتعدى على مقدسات 50 مليون مصري ويصف عقيدتهم بالرجعية والظلامية والإرهاب ولا شك أن السخرية والتهكم والكلمات اللاذعة لا تكون أبداً في أسلوب كاتب يحترم نفسه.
ولم يكتف بمعارضة تطبيق الشريعة في مصر وإنما يعارض تطبيقها في أي بلد إسلامي.
11- يعلن فرج فودة تعاطفه مع المرتدين الذين حاربهم أبو بكر رضي الله عنه ويخطئ أبا بكر رضي الله عنه في قتاله لمانعي الزكاة.
12- كان يجالد بآرائه في مقاومة تطبيق الشريعة وجعل هذا الاتجاه بضاعته بوضوح كامل مع الإخوة المسيحيين([2]) ومع الصهيونية والماسونية وأنه ذهب للجمعية المصرية القبطية في كندا وأمريكا وأعطى ندوات في الكنائس هناك.
وكان يرى أن إسرائيل لابد أن تصبح جزءاً من نسيج المنطقة وعنصراً من عناصر تكاملها". (انتهى من: كتاب العصر تحت ضوء الإسلام، ص 273-275).
قال الدكتور مفرح القوسي في رسالته (المنهج السلفي والموقف المعاصر منه في البلاد العربية).
"الدكتور فرج فودة: أحد أقطاب العلمانية المعاصرين ، اشتهر بحماسه الشديد لفصل الدين عن الدولة، وبمعاداته للاتجاهات الإسلامية المعاصرة عامة وللاتجاه السلفي خاصة، وبرفضه للشريعة الإسلامية ومنع تطبيقها في البلاد الإسلامية ولا سيما في بلده مصر. ويمكن تحديد أهم ملامح المنظومة الفكرية والسياسية التي يتبناها في النقاط التالية:(51/416)
أولاً: فصل الدين عن الدولة وجعل الإسلام ديناً روحياً فقط، حيث يقول: "إن الإسلام كما شاء له الله دين وعقيدة وليس حكماً وسيفاً"([3])، "وأن هناك فرقاً كبيراً بين الإسلام الدين والإسلام الدولة، وأن انتقاد الثاني لا يعني الكفر بالأول أو الخروج عليه"([4]) ، ويقول :"أنت هنا تملك أن تفصل بين الإسلام الدين والإسلام الدولة حفاظاً على الأول حين تستنكر أن يكون الثاني نموذجاً للاتباع، أو حين يعجزك أن تجد صلة واضحة بين هذا وذاك، فالأول رسالة، والثاني دنياً… دع عنك إذن حديث الساسة عن الدين والدولة وسلم معهم بالدين، أما الدولة فأمر فيه نظر، وحديث له خبئ ، وقصد وراءه طمع، وقول ظاهره الرحمة وباطنه العذاب"([5]).
وادعى تأكيداً لهذا الفصل أن "الخلافة الإسلامية" التي استمرت في عهود الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين ليست خلافة إسلامية بل خلافة عربية قرشية، وأنها لم تحمل من الإسلام إلا الاسم فقط، وأن الدولة الإسلامية كانت على مدى التاريخ الإسلامي كله عبئاً على الإسلام وانتقاصاً منه وليست إضافة إليه([6])، وأن وقائع التاريخ الإسلامي تنهض دليلاً دامغاً على ضرورة الفصل بين الدين والسياسة، وعلى خطورة الجمع بينهما، وعلى سذاجة المنادين بعودة الحكم الإسلامي([7]). وادعى أيضاً أن هذا "الفصل هو السبيل الوحيد للحفاظ على الوحدة الوطنية"([8])، وأن فيه تحقيقاً لصالح الدين وصالح السياسة معاً، كما أن قصر رسالة المسجد على تعميق مفاهيم الدين وغرس القيم الدينية فيه تحقيق لقصد الذاهبين للصلاة، بل واحترام لحريتهم الفكرية([9]).
ثانياً: رفض تطبيق الشريعة الإسلامية رفضاً باتاً وبأي صورة من الصور، فهو يُعلن ذلك في كتبه ولقاءاته الفكرية بلا مواربة([10]) ، ويصم المنادين بتطبيقها بالتطرف والجمود والتخلف؛ مدعياً ما يلي:
1-أن تطبيق الشريعة يؤدي إلى قيام دولة دينية، وهذه تقود إلى الحكم بالحق الإلهي الذي لا يتم إلا من خلال رجال الدين؛ وتنقسم الدولة بسببه إلى حزبين هما: حزب الله -ويدخل فيه كل من وافقهم-، وحزب الشيطان -ويدخل فيه كل من خالفهم([11])-. وكثيراً ما يردد فودة هذه الدعوى ويُلح عليها، ومن ذلك على سبيل المثال قوله: "إن تطبيق الشريعة الإسلامية لابد أن يقود إلى دولة دينية، والدولة الدينية لابد أن تقود إلى حكم بالحق الإلهي لا يعرفه الإسلام، أو قل عرفه في عهد الرسول. والحكم بالحق الإلهي لا يمكن أن يقام إلا من خلال رجال دين إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة"([12]).
2-أن تطبيق الشريعة ينافي الحضارة والتطور ويهدد أمن الوطن ووحدته بإثارة الفتنة الطائفية، حيث يقول: "إنما أنا مواطن مصري يندب مصير مصره حين تنساق بحسن النوايا في اتجاه حاشا لله أن أسميه مستقبلاً، فما أبعد المستقبل عن دولة دينية لا أحسب أن العمر يتسع لها، أو أن الوطن يمكن أن يسعها دون أن تتهدد وحدته، وينهدم ما تعلق به من أهداب الحضارة أو درجاتها"([13]) ، ويقول: إن تطبيق الشريعة يؤدي إلى قيام دولة دينية، "والدولة الدينية التي يحكمها رجال الدين بصورة مباشرة أو غير مباشرة… سوف تكون مدخلاً مباشراً للفتنة الطائفية، بل ربما تمزيق الوطن الواحد"([14]).
3-أن المناداة بتطبيق الشريعة إنما هو رد فعل لمؤثرات خارجية، وأن هدف الداعين إلى تطبيقها هو الاستيلاء على الحكم بطريق مباشر -بتولي مناصبه- أو بطريق غير مباشر -بفرض الوصاية عليه([15])-.
4-تفوق القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية، حيث يقول: "إن القانون الحالي يعاقب على جرائم يعسر على الشريعة أن تعاقب عليها، ويعكس احتياج المجتمع المعاصر بأقدر مما تفعل الشريعة"([16]). ويقول في حوار أجري معه: "إن حجم الانحلال الموجود في المجتمع المصري أقل بكثير اليوم على مدى التاريخ الإسلامي كله، ورأيي أن القانون الوضعي يحقق صالح المجتمع في قضايا الزنا مثلاً أكثر مما ستحققه الشريعة لو طبقت"([17]).
5-"أن قواعد الدين ثابتة، وظروف الحياة متغيرة، وفي المقابلة بين الثابت والمتغير لابد وأن يحدث جزء من المخالفة ، وذلك بأن يتغير الثابت أو يثبت المتغير، ولأن تثبيت واقع الحياة المتغير، مستحيل، فقد كان الأمر ينتهي دائماً بتغيير الثوابت الدينية"([18]).
ثالثاً: تشويه وتحطيم الصورة المثلى الراسخة في أذهان المسلمين لعصر الخلفاء الراشدين بخاصة والسلف بعامة ولحكوماتهم الإسلامية التي جمعوا فيها بين الدين والدولة، ليثبت في النهاية استحالة إقامة حكم إسلامي في الوقت الحاضر يجمع بين الدين والدولة، وعقم الدعوة إلى التأسي بالصحابة رضي الله عليهم واتباع منهجهم في ممارسة الإسلام وتطبيق شريعته في مناحي الحياة، فقد صوَّر هذا العصر بأنه عصر الاعتراض حيناً والانقسام أحياناً، والاقتتال غالباً، وماكان فيه من استقرار فمرده لانشغالهم بالفتح الخارجي([19])، وبأنه عصر استبداد وظلم يُضطهد فيه الصحابة والعلماء، وتُستباح فيه الأموال وتُزهق فيه الأرواح بغير حق، فقد أطار السيف من رؤوس المسلمين أضعاف ما أطار من رؤوس أهل الشرك([20]).(51/417)
ويتخذ فودة هذه الصورة الشوهاء لعصر الخلفاء الراشدين ذريعة لرفض الحكم الإسلامي، والأخذ بمبدأ الفصل بين الدين والسياسة، فيقول: "لعلك متسائل معي الآن، ولك الحق في كل تساؤلاتك: إذا كان هذا هو ما يحدث بين رجال الصدر الأول للإسلام والمبشرين بالجنة، فكيف يكون المصير على يد من هم أدنى منهم مرتبة وأقل منهم إيماناً وأضعف منهم عقيدة؟ "([21]) .
هذا فيما يخص عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، أما العهود الإسلامية بعد عهدهم فيدعي فودة أن معظمها عهود فساد وطغيان وخروج على العقيدة، ولا صلة لها بالإسلام إلا بالاسم فقط، فنراه يقول مخاطباً علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا تحزن يا أبا الحسن ولا تغضب فزمانك لا شك أعظم من زمن من يليك، وحسبك أن عهدك كان فيصلاً أو معبراً إلى زمان جديد، لا ترتبط فيه الخلافة بالإسلام إلا بالاسم، ولا نتلمس فيها هذه الصلة بين الإسلام والخلافة إلا كالبرق الخاطف، يومض عامين في عهد عمر بن عبد العزيز، وأحد عشر شهراً في عهد المهتدي، وخلا ذلك دنيا وسلطان، وملك وطغيان، وأفانين من الخروج على العقيدة لن تخطر لك على بال، وربما لم تخطر للقارئ على بال، لأن ما نقلوه([22]) إليه كان ابتساراً للحقيقة، وإهداراً للحقائق، وانتقاصاً من الحق"([23]).
رابعاً: التجني على الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، والتطاول عليهم بالتخطئة والسب الشتم والوقيعة في أعراضهم والقدح في أمانتهم وحسن إسلامهم، وذلك حطاً من قيمتهم وإقلالاً من شأنهم، وبالتالي منع الاقتداء بهم وابتاع منهجهم، وسنكتفي بإيراد نماذج من ذلك فيما يلي:
أ يذكر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه بقتاله مانعي الزكاة قد شرع القتال بين أهل القبلة، وأن موقفه هذا يُعد البداية الحقيقية لقتال المسلمين للمسلمين، ويُعلن تعاطفه مع المرتدين، ويستشهد بمعارضة عمر لأبي بكر في البداية، ويضرب الذكر صفحاً عن إجماع الصحابة على هذا القتال؛ بل عن تأييد عمر نفسه لهذا القتال([24]).
ويعد أسلوب عهد أبي بكر بالخلافة لعمر رضي الله عنهما أسلوباً بعيداً عن الديمقراطية([25]).
ب يزعم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتهد مع وجود النص، وأن اجتهاده لم يكن قاصراً على التفسير، بل امتد إلى المخالفة والتعطيل، فأفتى بمخالفة نص قرآني مع علمه به، فألغى سهم المؤلفة قلوبهم الذي هو أحد مصارف الزكاة المنصوص عليها في سورة التوبة([26])، وعطل حداً من الحدود الثابتة وهو حد السرقة، وعطل التعزير بالجلد في شرب الخمر في الحروب، وخالف السنة في تقسيم الغنائم فلم يوزع الأرض الخصبة على الفاتحين، وقتل الجماعة بالواحد مخالفاً المساواة في القصاص([27]).
ج يرى أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يعدل في حكمه، وأنه أقام نظام حكمه على ثلاث قواعد خاطئة هي:
- خلافة مؤبدة.
- لا مراجعة للحاكم ولا حساب أو عقاب إن أخطأ .
- لا يجوز للرعية أن تنزع البيعة منه أو تعزله، ومجرد مبايعتها له مرة واحدة تعتبر مبايعة أبدية لا يجوز لأصحابها سحبها وإن رجعوا عنها أو طالبوا المبايع بالاعتزال. ولأن أحداً لا يُقر ولا يتصور أن تكون هذه هي مبادئ الحكم في الإسلام قتله المسلمون"([28]).
د يتهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه بخيانة الأمانة، والتمرد والعصيان لخليفة المسلمين وولي أمرهم، والاستيلاء على أموال المسلمين وأكلها بالباطل والإصرار على ذلك. ويصفه بأنه: يأكل حراماً ويشرب حراماً([29]).
هـ- يتهم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بالزنا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويدّعي أن عمر لم يقم الحد عليه رغم تيقنه من إقدامه عليه([30]).
و يتهم خمسة من كبار الصحابة ومن العشرة المبشرين بالجنة، وهم: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، يتهمهم بالتكالب على الدنيا والإقبال عليها وجمع الأموال الطائلة بعد هجرتهم إلى المدينة، وأنهم انصرفوا بذلك عن دينهم، وهجروا حياة الزهد والعبادة التي كانوا عليها قبل الهجرة"([31]) انتهى النقل من رسالة الدكتور مفرح القوسي-وفقه الله-.
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
-----------------------------------
([1]) انظر: تتمة الأعلام للزركلي، للأستاذ محمد خير يوسف ( 2/10-11).
([2]) عفا الله عن الأستاذ أنور الجندي، فالنصارى ليسوا بإخوة للمسلمين، قال تعالى (إنما المؤمنون إخوة)، وقال صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم).
([3]) الحقيقة الغائبة (ص 139)، ط عام 1992م، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة.
([4]) قبل السقوط ص 14. وانظر : حوار حول العلمانية ص 17.
([5]) قبل السقوط ص 14 - 15.
([6]) انظر كلاً من : الحقيقة الغائبة ص 133، وإقبال بركة -قضايا إسلامية ص 178.
([7]) انظر: الحقيقة الغائبة ص 145.
([8]) المرجع السابق.
([9]) انظر: قبل السقوط ص 18، 35.
([10]) راجع في هذا على سبيل المثال: حوارات حول الشريعة -لأحمد جودت ص 14.
([11]) راجع: قبل السقوط ص 51-58.(51/418)
([12]) المرجع السابق ص 42-43. وراجع ص 51-58-، 68 من المرجع نفسه. وحوارات حول الشريعة -لأحمد جودت ص 14-15، 80، 96.
([13]) قبل السقوط ص 41 - 42.
([14]) المرجع السابق ص 68، وراجع الصفحات : 41 - 50 من المرجع نفسه.
([15]) راجع: المرجع السابق ص 42 - 48، 59-63.
([16]) الحقيقة الغائبة ص 121.
([17]) قضايا إسلامية معاصرة ص 185.
([18]) الحقيقة الغائبة ص 70.
([19]) راجع: قبل السقوط ص 9 - 14.
([20]) راجع: المرجع السابق ص 14-15، 19-21، 93. وللاطلاع على نص كلامه بهذا الخصوص راجع كتابه (الحقيقة الغائبة) في الصفحات : 22-31، 139-141.
([21]) قيل السقوط ص 21.
([22]) يعني المؤرخين كتّاب السير.
([23]) الحقيقة الغائبة ص 57 - 58.
([24]) راجع: المرجع السابق ص 42 - 44.
([25]) انظر: قبل السقوط ص 97.
([26]) وذلك في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) التوبة 60.
([27]) راجع: الحقيقة الغائبة ص 45 - 51.
([28]) المرجع السابق ص 29.
([29]) راجع: المرجع السابق ص 58 - 62.
([30]) راجع المرجع السابق ص 117 - 119.
([31]) راجع: المرجع السابق ص 53 - 56.
==============(51/419)
(51/420)
سلسلة كشف الشخصيات (9) : محمد سعيد العشماوي
بقلم : سليمان الخراشى
ترجمته:
- هو المستشار محمد سعيد العشماوي، رئيس محكمة الجنايات ومحكمة أمن الدولة العليا بمصر.
- تخرج من كلية الحقوق عام 1955، ثم عمل بالقضاء الوضعي بمحاكم القاهرة والإسكندرية .
- عمل بالتدريس محاضراً في أصول الدين والشريعة والقانون في عدة جامعات؛ منها : الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وجامعة توبنجن بألمانيا الغربية، وأوبسالا بالسويد، ومعهد الدراسات الشرفية بليننجراد بروسيا، والسوربون بفرنسا.
- يقول عن نفسه بأنه نشأ نشأة صوفية! حيث كان يرتاد مسجد السيدة زينب والسيدة نفيسة ومسجد الحسين! .
- بدأ التأليف بعد تخرجه من الحقوق بأربع سنوات بكتابات إنسانية عامة، مثل: (رسالة الوجود) عام 1959م، و(تاريخ الوجودية في الفكر البشري) عام 1961م، و(ضمير العصر) عام 1968م، و(حصاد العقل) عام 1973م.
- بدأت كتاباته الإسلامية بكتابه (أصول الشريعة) عام 1980م، ثم كتاب (الربا والفائدة في الإسلام) ، ثم توالت كتبه الأخرى: (الإسلام السياسي) (جوهر الإسلام) (الخلافة الإسلامية) (الشريعة الإسلامية والقانون المصرية) (شئون إسلامية) (معالم الإسلام) .
- يعد العشماوي من دعاة فصل الدين عن الدولة، وتحوي كتبه -كما سيأتي- التشنيع على نظام الحكم الإسلامي، والتهجم على دعاة تطبيق الشريعة. ولا غرابة أن يصدر هذا ممن يحكم بطاغوت القانون الوضعي منذ تخرجه -والعياذ بالله- .
- يزعم العشماوي أنه من المجتهدين !! يقول :" وأعتقد أنه يوجد الآن تياران إسلاميان وليس واحداً، التيار الأول: عقلي تنويري، بدأ بمحمد عبده، ويسير فيه بعض المجتهدين من أمثالي….." !! (حوار حول قضايا إسلامية، إقبال بركة، ص 199).
انحرافاته:
1- من أعظم انحرافاته: زعمه نجاة اليهود والنصارى في الآخرة وإن لم يؤمنوا بالإسلام !! وعدم تكفيره لهم!([1]) .
يقول العشماوي: "وكل من آمن بالله إيماناً صحيحاً واستقام في خلقه فهو عند الله (وبلفظ القرآن) مسلم لا خوفٌ عليه ولا حزن (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) سورة البقرة 62:2.
غير أن بعض الفقهاء يرون أن هذه الآية منسوخة (ملغاة) بالآية (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) ويرتبون على ذلك -وعلى الظن بأن الإسلام مقصور على شريعة محمد عليه الصلاة والسلام- إن أي إيمان بالله لا يؤجر وأي عمل صالح لا يثاب إلا إذا كان فاعله من المؤمنين بدعوة النبي الكريم وبرسالته. والواقع أن من يرى هذا الرأي إنما يراه وقد غاب عنه المعنى الحقيقي للإسلام، وخفيت عليه خطة الله في البشر، واضطرب في ذهنه معنى النسخ في القرآن. فالإسلام هو الدين الذي أوحى به الله إلى الأنبياء جميعاً والرسل كلهم فدعوا إليه. وكما قالت الآية الكريمة فإن من آمن بالله وعمل صالحاً من المؤمنين أو اليهود أو النصارى فأجره عند الله، لا خوف عليه ولا حزن. وكل من كان صحيح العقيدة قويم الخلق فهو عند الله- وفي معنى القرآن- مسلم. والمقصود من آية (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) من يبتغ غير دين الإسلام الذي دعا إليه كل الأنبياء والرسل والذي اعتنقه أتباعهم. والقرآن يفرق بين المشركين والكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا بالرسل ولا يعملون صالحاً وبين أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومن هؤلاء من يؤمن بالله ويعمل الصالحات، وهو المقصود بالآية الكريمة التي تبشر بأن لا خوف عليه ولا حزن…الخ هرائه " !! (جوهر الإسلام، ص 110) (وانظر أيضاً: ص 111،112، 124 من الكتاب السابق، وجريدة أخبار اليوم المصرية، 9 ديسمبر 1979: نقلاً عن : العصريون معتزلة اليوم، ليوسف كمال).
2- ومن انحرافاته: زعمه، أن الحكم بالقوانين الوضعية التي يحكم بها في بلاده لا يُعد كفراً، إنما هذه القوانين "متوافقة مع الشريعة الإسلامية" !!
يقول العشماوي: "والقول بأن القوانين المصرية كفر بواح، ومن يطبقها أو يخضع لها كافر، قول فيه تجاوز شديد، وتدنٍ أشد، فضلاً عن أنه دعوة سافرة للخروج على الأمة والمجتمع… فالقوانين المصرية -كما سلف- وكما لابد أن يدرك كل دارس واعٍ متوافقة مع الشريعة الإسلامية" !!(الإسلام السياسي، ص51).
ويقول:" إن القانون المدني المصري مطابق كله! للتشريع وللفقه الإسلامي" (حوار حول قضايا إسلامية، إقبال بركة، ص 188)
3- ومن انحرافاته: إسقاطه حد شرب الخمر في كتابه (الإسلام السياسي) ! يقول العشماوي: "لا توجد أية عقوبة على شربها أو بيعها، لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية" ثم يقول هذا الفاجر مستدركاً على الحكم الشرعي: "إن العقوبات تزيد من عدد الجرائم، ولا تجتث الجريمة أصلاً" !! (الإسلام السياسي، ص51) ، (وانظر: حوار حول قضايا إسلامية، إقبال بركة، ص191).(51/421)
4- ومن انحرافاته: زعمه "أن تطبيق الشريعة يهدف إلى تفتيت وحدة الشعب وإلى إظهار الإسلام بصورة سيئة" ثم يزعم "أن الشريعة تعني الطريق والسبيل، ولا يلزم الأخذ بنصوصها؛ لأن مبنى الشريعة يقوم على الخلق والروحانيات! وللناس أن يطبقوا ما يشاءون" ! (الشريعة والقانون المصري، مجلة أكتوبر، العدد 706، نقلاً عن : المجلة العربية مقال: العشماوي بين حرية الفكر وحرية الكفر، للأستاذ أحمد أبو عامر، شعبان 1412هـ).
5- ومن انحرافاته: ادعاؤه أن (الأحوال الشخصية) -وهي البقية الباقية من الأحكام الشرعية!- تهضم حقوق المرأة، وأن الزواج عقد مدني لا ديني!، وأنه لابد من تقييد الزواج بواحدة، (المرجع السابق) ، (وانظر: حوار حول قضايا إسلامية، إقبال بركة، ص190-191).
6- ومن انحرافاته: إسقاطه لحد الردة! (المرجع السابق) .
7- ومن انحرافاته: تخصيصه كتابه (الإسلام السياسي) للدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، مدعياً "أن الرسو صلى الله عليه وسلم حينما ساس أمور الإسلام في عهده إنما كان ذلك بالوحي" بخلاف ما سيأتي بعده من الحكومات التي ينبغي أن لا تكون دينية!! (المرجع السابق) .
ومن دعاواه في هذا الكتاب : أن تاريخ الإسلام تاريخ دموي قمعي! وأن الفقه الإسلامي يخلو من أي نظرية سياسية أو نظام سياسي، وأن الغالب على اعتناق الناس الآن (إسلام البداوة) ! لا (إسلام الحضارة)!، إضافة إلى تهجمه المتكرر على دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية (انظر: العقلانية هداية أم غواية، لعبد السلام البسيوني، ص125) .
ولقد قام مجموعة من العلماء والكتاب الغيورين بنقد هذا الكتاب وتبيين زيفه؛ من أبرزهم: الدكتور صلاح الصاوي في كتابه (تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانيين) ، فليراجع.
8- ومن انحرافاته: تخصيصه كتابه (الخلافة الإسلامية) للنيل من الخلافة الإسلامية، وتصويرها للقارئ بأبشع صورة، هادفاً من ذلك إلى أن يتخلى المسلمون عن الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ما دامت هذه صورة الخلافة التي ينشدونها ! .
فهو في هذا الكتاب:
أ يستنكر على من يدعي نقاوة الخلافة الإسلامية (المقدمة) .
ب يهون من شأن الخلافة، وأننا يمكن أن تسير أمورنا دون حاجة إليها (ص 25-27) (ص30).
ج يزعم "أن صلى الله عليه وسلم لم يحكم الناس كملك أو أمير أو رئيس أو سلطان وإنما حكمهم كنبي من الله" (ص 90) أي أن الحكومة ينبغي أن لا تكون دينية؛ لأن ذلك خاص ب صلى الله عليه وسلم !، ويؤكد هذا في (ص 102) بقوله: "فالخلافة الإسلامية من واقع نشأتها.. ظهرت كرياسة دنيوية وإمارة واقعية لا تؤسس على نص ديني ولا تقوم على حكم شرعي"!!.
د طعنه في أبي بكر -رضي الله عنه- بأنه اغتصب حقوق صلى الله عليه وسلم عندما طلب من المرتدين أداء الزكاة (التي يسميها العشماوي الإتاوة أو الجزية !!ص 106) ، وأن طلب الزكاة من المسلمين -في زعم العشماوي- خاص ب صلى الله عليه وسلم مقابل صلاته عليهم !! (ص 16-107)
وقد لمز وتهجم العشماوي لأجل هذا على أبي بكر -رضي الله عنه- متهماً إياه بالديكتاتورية والتسلط … الخ (ص 107) بل قال هذا السفيه: "وقد سوَّغ تصرف الخليفة الأول أبي بكر الصديق لكل خليفة وأي حاكم أن يستقل بتفسيره الخاص لآيات القرآن، ثم يفرضه بالقوة والعنف على المؤمنين، ويجعل من رأيه الشخصي حكماً دينياً، ومن فهمه الفردي أمراً شرعياً" ! (ص 108). ثم قال -قبحه الله- : "لقد قنن الخليفة الأول بحروب الصدقة إشهار سيوف المسلمين على المسلمين" ! (ص 108).
هـ- ولم يقتصر العشماوي على الطعن في أبي بكر -رضي الله عنه- بل تعداه إلى الطعن في عثمان وعلي -رضي الله عنهما-، حيث قال: " ولم يقتصر الفساد على عهد عثمان وعلى الأمويين وحدهم، بل حدث كذلك في عهد علي بن أبي طالب" ! (ص 113). وقال: "وفي عهد عثمان بن عفان حدث فساد كثير" (ص 119) .
و زعمه أن الصحابة -رضي الله عنهم- كان هدفهم الملك والرياسة (ص 121).
ز- ذمه لمعاوية -رضي الله عنه- (ص 144).
هذه أبرز الانحرافات التي وردت في كتاب (الخلافة الإسلامية) للعشماوي، وقد رد عليه الشيخ الشعراوي في كتاب بعنوان (الأنوار الكاشفة لما في كتاب العشماوي من الخطأ والتضليل والمجازفة) فليراجع
9- ومن انحرافاته : زعمه " أن أحكام الشريعة في المعاملات مؤقتة، لا استمرار لها ولا خلود" ! يقول العشماوي : "إن المؤبد في أحكام القرآن ما تعلق منها بالعبادات، أما أحكام المعاملات فهي وقتيه" (حوار حول قضايا إسلامية إقبال بركة، ص190). (وقد رد عليه رأيه هذا الدكتور محمد عمارة في مجلة المنهل، صفر، 1417هـ فليراجع) .
10- ومن انحرافاته : إباحته للربا في كتابه (الربا والفائدة في الإسلام)، يقول العشماوي : "الفائدة ليست ربا" ! (حوار حول قضايا إسلامية، إقبال بركة، ص 188) (وانظر كتابه الآخر: على منصة القضاء، ص 178 وما بعدها)
قلت: وقد رد عليه رأيه هذا الدكتور علي السالوس في كتابه (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار) فليراجع(51/422)
قال الأستاذ أحمد أبو عامر في خاتمة نقده لآراء العشماوي: "من خلال إطلاعي على معظم ما كتبه المذكور تبين أن سمات فكرة ما يلي:
1- لنشأته الصوفية دور في ترسيخ التوجه العلماني الذي تنامى بدراساته وتخصصه القانوني.
2- ثقافته الغربية وإطلاعه على تراثها ولا سيما دور الكنيسة وتسلطها جعله يرى الإسلام كالنصرانية وهذا وهم وخطل .
3- تبنى الفكر العلماني والترويج له حتى صار من أبرز رموزه ممن يحاولون هدم الإسلام من الداخل.
4- يتظاهر بالفقه في العلوم الشرعية ويدعي أنه عالم مجتهد وهو في ذلك مدّع والدليل مصادمة آرائه للشرع وأدلته.
5- يهاجم مخالفيه في الفكر بأسلوب هابط ولا يتورع عن الطعن في الصحابة والعلماء واتهامهم بالجهل والغباء والخداع.
6- عدم موضوعيته وبعده عن المنهج العلمي في دراسته إذ جلُ آرائه بعيدة عن الصواب ومخالفة للصحيح وابتداع لا يعضده دليل معتبر.
7- يستغل معرفته وتجاربه في القضاء والمحاكم وما يقابله من صور اجتماعية للمسلمين ويزعم أنها تمثل الإسلام، ويدعو بكل صفاقة إلى عدم تطبيق الشريعة الإسلامية ويتهم الدعاة لها بالإرهاب وأنهم دعاة فتنة.
8- يتبنى الطروحات الاستشراقية ضد الإسلام وشريعته ويلبسها ثوباً محلياً. ومن أخطر مزاعمه المنقولة عن غيره أن الشريعة الإسلامية متأثرة بالقانون الروماني، وهذا كذب صراح وادعاء باطل ناقشه العلماء المسلمون بل بعض المستشرقين وبينوا بطلانه، ويمكن الرجوع إلى كتاب (هل للقانون الروماني تأثير على الفقه الإسلامي؟) مجموعة دراسات نشرتها (المكتبة العلمية في بيروت)، بل إن الأبحاث العملية أشارت إلى تأثر الفقه الغربي بالإسلام، ويمكن الرجوع إلى بيان ذلك فيما كتبه د/ محمد يوسف موسى في كتابه (التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي) .
وفي الختام أرجو أن يثوب الرجل لرشده وأن يتقي الله في آرائه؛ لأنه باتجاهه العلماني المتطرف هذا إنما ينكر كمال الإسلام وينكر عالميته وينكر بقاءه إلى قيام الساعة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق r وما ذاك إلا الردة بعينها فهل يهتدي ويتراجع ويعود للصواب أم تأخذه العزة بالإثم؟ ونذكره بأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل" (المجلة العربية، شعبان، 1412هـ)
======
(1) وهو ما يدندن حوله كثير من العصرانيين في زماننا، اللهم سلم سلم!
مقال فهمى هويدى فى الرد على عشماوى
نشر فى جريدة الاهرام بتاريخ 25/2/1988
حديث الافك
عندما يكون الكلام اوله افك واخره افك فهل نتجنى أن وصفناه بانه حديث الافك حتى وان صبه صاحبه بين دفتى كتاب ووضع على غلافه عنوانا مغلوطا هو "الإسلام السياسى"
وفى "المنجد" فإن حديث الافك هو الذى لا أصل صحيح له وهو الحد الادنى الذى يمكن أن يوصف به هذا الكاتب المريب الذى صدر فى القاهرة خلال شهر ديسمبر الماضى محملا بجرعات من السم الردئ اريد بها اغتيال الشريعة الاسلامية وكافة المؤمنين بها والداعين اليها بلغة مقطوعة النسب بالعلم ومشكوك فى نسبتها إلى الادب.
يمطرنا الكاتب بوابل من الاوحال والحجارة فى الاسطر الأولى من مؤلفه فيقول ما نصه : ان تسييس الدين أو تديين السياسة لا يكون إلا عملا من اعمال الفجار الاشرار، أو عملا من اعمال الجهال غير المبصرين ثم يضيف بعد قليل أنه ازاء مزاعم اولئك "الفجار الاشرار" كان لابد أن يصدر هذا الكتاب ليناقش مزاعمهم "بأسلوب علمى سديد" وان يختبر الاستنارة والبعث والتجديد والنظريات التى بشر بها فانه يواجه بمسلسل الافك موزع على عشر حلقات استغرقت 220 صفحة لا تكاد تخلو واحدة منها من سند مكذوب أو استدلال فاسد.
مسلمون أم يهود ؟
المقوله الاساسية فى الكتاب أن الإسلام دين روحانى واخلاقى لا علاقه له بشئون الحكم والسياسة وان الشريعة التى ينادى بها البعض شئ مبتدع لا اصل له فى القرآن
وهذه الفكرة لا جديد فيها ولا اضافة ، فقد اطلقها الشيخ على عبد الرازق ، فى كتابه "الإسلام واصول الحكم" الذى صدر فى عام 1925م وان ردد الكاتب بعضا من حجج شيخه الا أن "نظرياته" التى اضافها كانت محصورة فى مجالات ثلاثة : الحيثيات الجديدة التى ساقها ليدلل على صحة المقولة تجريح التجربة الاسلامية فى مجموعها التعريض والتحريض على التيار الاسلامى القائم حاليا بكافة فصائله المعتدله قبل المتطرفة.
فى صدد دعوى انفصال الإسلام "الصحيح" عن الحكم، اورد الحجج التالية :
ان رسالة النبى صلى الله عليه وسلم ليست كرسالة موسى رسالة تشريع وانما هى رسالة رحمة ورسالة اخلاق أساساً بحيث يعد التشريع صفة تالية ، ثانوية غير اساسية (ص 35) واستدل على ذلك بمعيار رقمى هو أن القران الكريم يتضمن حوالى ستة الاف اية والآيات التى تعد تشريعات قانونية للمعاملات هى حوالى مائتين اى مجرد جزء واحد من ثلاثين جزءا من ايات القران.(51/423)
ذلك فضلا عن أن لف الشريعة لم يرد فى القران بمعنى النظام القانونى ولم يتجاوز معناه فى القران وفى المعاجم حدود الطريق أو السبيل أو المنهج ثم ان الإسلام لم يحدد شكلا للحكم وانما حدد له العدل أساساً وفى الحديث الشريف "قد يدوم الحكم فى الشرك لكنه لا يدوم على الظلم" (ص 120)
ان لفظ الحكم لم يرد فى القران بمعنى الادارة السياسية وانما هو يعنى القضاء بين الناس والفصل فى الخصومات أو الرشد والحكمة
ان الاشارات القرآنية إلى من لم يحكم بما انزل الله فى سورة المائدة التى تعتبره كافرا مرة وظالما مرة وفاسقا مرة ثالثة هذه الايات نزلت فى أهل الكتاب (اليهود خاصة) ولا شأن للمسلمين بها.
وهو يذكر أن عبد الله بن عباس دعا إلى تفسير الآيات القرآنية فى ضوء اسباب نزولها وبنى على ذلك أنه "الضوابط والحدود والقواعد التى لابد من التزامها والتقيد بها حتى لا ينحرف تفسير القرآن ولا يجيد فهم المسلم هى - أولاً واخيرا- (لاحظ التشديد) أن يرتبط تفسير الآيات القرآنية باسباب تنزيلها (42).
وهو يحاول تعزيز واثبات حججه تلك اورد صاحبنا عددا من الشواهد والملاحظات فى مقدمتها:
أن حكومة عمر بن الخطاب هى حكومة تحالف طبائع الاشياء ولن تتكرر أبداً ذلك أن النبى قال فيه انه محدث اى ملهم ومتنبئ وان الحق على قلبه ولسانه وانه لو كان نبى بعد النبى لكان عمر ، ومن يقل عنه النبى هذا بوحى من الله -يكون من طبيعة خاصة وتكوين استثنائى ادنى إلى طبائع الانبياء" (ص8) - وخصوصية عمر هذه مكنته من أن يفهم روح الإسلام فى الحركة والتجديد لمواكبة الواقع ومتابعة الاحداث ورؤية المستقبل حتى وان خالف نصا صريحا فى القرآن. (ص8)
بعد وفاة عمر انقلبت الموازين وغلبت السياسة الدين وبدا التاريخ الاسلامى منذ هذا الوقت وقد اصطبغ فيه الدين بالسياسة، وظهرت الانحرافات والصراعات القبلية التى انتهت بتولى الامويين للسلطة واصبح الحاكم خليفة الله وليس خليفة للمسلمين مما اكسبه عصمة وقداسة، فى فعله وقوله. على حد تعبيره (ص11)
بالمناسبة ذكر المؤلف أنه على عكس الاعتقادات الشائعة فإن المجتمع غير مطالب بالاصرارعلى تطبيق الحدود بل انه مأمور بالتعافى فيها والتغاضى عنها استنادا إلى الحديث النبوى "تعافوا فى الحدود وكلما اعرض المجتمع عن تطبيق الحدود واغض عنها وتعافى فيها كان متبعا روح الإسلام محققا لدعوة النبى" (ص183)
فى هذه الصدد قال عن الخمر ، ان القران امر باجتنابها ولم ترد تلك العقوبة فى السنة أيضاً بالتالى فقد ظل الخمر اثما دينيا موكول النهى عنه إلى ضمير المؤمن "والمشرع المصرى لم يحل الخمر لكنه اتبع المنهج القرانى فى اعتبارها اثما دينيا موكولا امره إلى التربية الدينية والى ضمائر المؤمنين" ص 51.
تدليس مرصود
ووجه الافك والتدليس فى كلام صاحبنا مرصود فى نقاط بغير حصر فى مقدمتها:
1- القول بأن رسالة الإسلام ليست رسالة تشريع استنادا إلى كم ايات الاحكام والتكاليف هزل فى موضع الجد أولاً لأن العبرة بمضمون تلك الايات وما تقرره من مبادئ لمختلف مجالات الحياة بصرف النظر عن عددها وثانيا لأن مقتضى دوام الرسالة والشريعة أن تعنى احكامها بالمبادئ والاسس فتقرير مبدأ الشورى مثلا كاساس للنظام الدستورى ورد فى ايتين اثنتين لكنه اهم من اى تفصيل فى شكل النظام ومؤسساته وثالثا لأن حصر ايات الاحكام فى مائتى اية لا يخلو من تبسيط وتحكم لانه من العسير أن تفصل تلك الآيات عن مختلف قواعد السلوك المبسوطة فى القران كله. فالدعوة إلى التعفف وعدم اكل اموال الناس بالباطل المبثوثة فى مواضيع عديدة من القران وثيقة الصلة بالايات التى تنهى عن الربا وتلك التى تجرم السرقة وتوقع الحد على السارق وهكذا والصحيح أن يقال بأن الإسلام رسالة هداية حقا لكن التشريع جزء اصيل فيها. من ناحية رابعة هى الاهم فإن الحديث عن الإسلام بمثل ذلك المنطق يفرغ الرسالة من مضمونها ويلغى مبررها من الاساس اذ لو أن الهدف منها هو الرحمة والاخلاق كما يزعم صاحبنا وامثاله فرسالة المسيح تسد هذه الثغرة وتؤدى تلك الوظيفة بكفاءة عالية ولاحكمة فى أن ينزل دين اخر ويبعث رسول اخر ليؤدى الوظيفة ذاتها فى حياة الناس.
2- والحديث الذى ذكره صاحبنا عن الشرك والظلم وكرره مرتين فى الكتاب (83و 120) لا اصل له وانما هو مقولة جاءت على لسان الامام على فى نهج البلاغة نصها "الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم وهذا التخليط من ركائز المنهج العلمى السديد الذى اتبعه المؤلف وبمقتضاه استند إلى عدد من الاحاديث الموضوعة مثل حب الوطن من الايمان (ص152) وفساد ظاهره لأن كلمة الوطن بمعناها الشائع لم تكن معروفة على زمن النبى ومثل "لو كان نبى بعد النبى لكان عمر" الذى سنتحدث عن فساده بعد قليل غير مالا حصر له من الوقائع التاريخية المكذوبة والمفاهيم المغلوطة التى استلزمها منهجه السديد(51/424)
3- واما القول بأن لفظ الحكم قد ورد فى القران بمعنى الفصل فى الخصومات وليس الإدارة السياسية فهو أيضاً من مبتدعات الشيخ على عبد الرازق التى نقلها مؤلف الكتاب بغيرعلم ولا هدى وممارسات النبى ذاته تكذب هذا الادعاء ورغم اننا نتحدث عن صيغة للحكم مضى عليها اربعة عشر قرنا ولابد أن تختلف عن مفهوم وصيغة الحكم فى زماننا الا اننا نحيل المكابرين فى هذه النقطة إلى ما ذكره الشيخ محمد بخيت فى نقضه لكتاب الإسلام واصول الحكم واعتمد فيه على مصادر أخرى اذ عرض بتفصيل دقيق لصيغة الحكومة النبوية انذاك وما تضمنته من انشطه الوزارة والحجابة وولاية البدن والسقاية والكتابة، وامارتى الحج والجهاد وبعثات المصالحة والأمان فضلا عن الفتوى والقضاء وكتابة الشروط والعقود إلى غير ذلك مما شرحه الشيخ بخيت موثقا بالأدلة والبراهيين على حوالى 80 صفحة (من ص 128 ص 217)
4- والقول بأن ايات الحكم ما انزل الله مقصورة على اهل الكتاب دون غيرهم افك من الوزن الثقيل - والدعوة إلى تفسير ايات القرآن فى ضوء اسباب النزول فقط هو جهل من الوزن ذاته ولا نعرف كيف ساغ لعقل رجل يزعم انتماءه إلى العلم أن يقول بأن الله سبحانه وتعالى الزم اهل الكتاب بتطبيق احكامه واعفى المسلمين من ذلك الالزام. صحيح أن الآيات نزلت فى اهل الكتاب لكن كافة المفسرين والراشدين من المسلمين اعتبروها احكاما عامة تسرى على المسلمين كما تسرى على غيرهم حتى الشيخ على عبد الرازق الذى حاول فى كتابه أن يتلمس اى سبيل لسد الطريق بين الإسلام والحكم لم يشر إلى مسأله اختصاص ايات الحكم باهل الكتاب، ليس لانها فاتته أو جهلها ولكنه لابد أن يكون قد استحى عن ذكرها. وكلام ابن عباس عن التفسير فى ضوء اسباب التنزيل الذى يتشبث به صاحبنا باسنانه واظافره اعمل فيه الرجل غرضه وهواه فهو لا ينصب على عموميات القران ولكنه يخص الايات الموصوفة بالمتشابهات وهى غير الحكم من ايات الله وقد نهى عامه المسلمين عن الخوض فى تلك المتشابهات حتى لا يخطئوا فى تأويلها وقد كان جيل الصحابة الذى تعلم على رسول الله هو الاعرف بها والأدرى باسباب تنزيلها. دليل ذلك أن ابن عباس ذاته هو القائل فى شأن الاية عامة على هذا "تفسير القرطبى ج6 ص 211) وفى الطبرى رواية منقولة عن الحسن البصرى يعقب فيها عن الاية ذاتها بقوله نزلت فى اليهود وهى علينا واجبة (ج6ص257) والمتفق عليه أن اسباب التنزيل تفيد فى فهم المراد بالايات والعلم بها ضرورى لاى مجتهد لكن القول بأنها المرجعة الأول والاخير فى التفسير هو ادعاء لا دليل عليه ونسبة الدليل إلى ابن عباس هو من نماذج الخلط بين الافك والجهل والطريف أن الكاتب الهمام هاجم المتطرفين مستندا إلى الآية القرانية التى تنهى عن الغلو (ص132) فى حين أن الآية موجهة فى التنزيل وفى النص إلى اهل الكتاب اى أنه استخدم هواه بصورة مكشوفة فتمسك بسبب التنزيل حين اراد أن يصادر الحكم بما انزل الله وتجاهله عندما عن له أن يدين الغلو والتطرف.
عن اكذوبة العصمة
5- الكلام عن عمر بن الخطاب افك من نوع اخر فحكاية احتمال نبوته بعد النبى وردت فى حديث مدسوس وفى "الموضوعات الكبرى" لابن الجوزى أن الحديث لا يصدر عن النبى وان رواية رجل يدعى زكريا بن يحيى وقد قال فيه لابن الجوزى كان من الكذابين الكبار وقد حرص الكاتب على أن يقدمه بحسبانه شبه نبى لينفى عنه صفة الحاكم، موحيا بانه لم يكن رجل سياسة وهو خطأ انبنى على خطيئة ليبرر فرية أخرى ولا تقل فداحة وهى أن عمر بصفته تلك خالف نصوصا صريحة فى القران بعد توقيعه حد السرقة وبوقف نصيب المؤلفة قلوبهم من الزكاة وهو كلام لا يصدر عن مبتدء فى فهم الإسلام ورجاله فعمر اورع من أن يخالف نص القرآن لكنه اوعى من أن يضعها فى غير موضعها أو يطبقها دون أن تتوفر لها شروطها.
6- مسالة عصمة الخلفاء اكذوبة أخرى لا سند لها فى تاريخ اهل السنة كله والاستناد إلى جملتين منسوبتين إلى معاوية بن ابى سفيان وابى جعفر المنصور على فرض صحتهما فهما بمثابة الاستثناء الذى يؤكد القاعدة مع ذلك فالعبرة ليست بما يزعمه احد من الحكام لنفسه ولكن العبرة بقبول الناس لذلك الزعم وتعاملهم مع الحكام على ذلك الاساس وهو مالم يحدث فى اى مرحلة من مراحل التاريخ الاسلامى.
7- حديث المؤلف عن الموقف من الحدود الشرعية وكون الاعراض عن تطبيقها من روح الإسلام فهو مزحة فجة تستخف بالعقول لتبرر الغاء الحدود وحذفها من القوانين الجزائية بحجة الاستجابة لروح الإسلام أما تناوله لمسألة الخمر وكيف عالجها القانون المصرى بالمنهج القرانى فهو مزحة من النوع ذاته نكتفى باثباتها دون تعقيب وأقف عند هذا الحد مضطرا ومستأذنا فى متابعة مسلسل الافك فى الأسبوع القادم باذن الله.(51/425)
لقد قدم استاذ للتاريخ الاسلامى إلى نيابة امن الدولة قبل اسابيع لمجرد أنه شكك فى حجية بعض الاحاديث النبوية وقال عشر معشار ما يروج له صاحبنا من اكاذيب وقد انكرنا الكلام وانكرنا القبض على صاحبه فى حينه وهو موقف نثبته هنا حتى قبل أن تفاجئنا معلومات هوية الرجل التى سجلها على غلاف الكتاب المريب.
اذ كانت المفأجاة الأولى أنه مصرى ومسلم واسمه محمد سعيد العشماوى
أما المفاجاة الثانية فإنه أيضاً استاذ محاضر فى اصول الدين والشريعة التى ينكرها.
وهى مفاجأة لا يملك المرء ازاءها الا أن يفغر فاهة وينفجر ضاحكا لكنه ضحك كالبكاء
==============(51/426)
(51/427)
سلسلة كشف الشخصيات (10) : تركى الحمد
بقلم : سليمان الخراشى
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده :
كنت قد كتبت قبل حوالي ثلاث سنوات رسالة مطولة عن فكر وأدب تركي الحمد، ولكن لم يتيسر طبعها في حينه، إنما وجدتْ الانتشار -ولله الحمد- على شبكة الإنترنت بناء على طلبٍ من إخوة كرام رأوا في ذلك حلاً مؤقتاً للتصدي لانحرافات هذا الرجل. ثم بعد ذلك اقترح البعض أن تُخْتصر تلك الدراسة ويُكتفى منها بما ذكرته عن "ثلاثيته" لسببين وجيهين؛ هما:
1- أن "ثلاثيته" هي سبب شهرته بين الناس، ولولاها لما راح ولا جاء.
2- أن تأثير القصص في الناس أشد من تأثير المقالات الفكرية التي يعسر فهمها على كثيرين.
لهذا قمت بالاقتصار في هذه الرسالة على الحديث عن "الثلاثية" وما فيها من مضامين خطيرة يُسْتغرب صدروها من رجل يدعي الإسلام.
أما فكر الرجل ففي ظني أنه لا يستحق مزيدًا من الاهتمام؛ لعدم ثباته على مبدأ واحد، بل هو يتقلب تقلب الليل والنهار! فبينا تراه بعثياً يعلي قيمة الفكر الاشتراكي، إذا بك تجده بعدها مفكرًا قومياً، ثم تفاجأ به عن قريب قد انقلب كاتباً ليبرالياً ! ثم رابعةً كاتباً نفعيًا يدور مع مصلحته الخاصة.. وهكذا؛ فهو كما قيل:
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدناني!
والله يقول عن أصحاب هذا التلون والتردد: "مذبذبين" لا يثبتون على رأي بل يدورون مع أهوائهم.
والملاحظ في كتابات الدكتور تركي الحمد -هداه الله- استكباره عن الحق، ومراغمته لأهله، ورضاه بأن يتقلب بين تلك المذاهب والمبادئ دون أن يكون لدعوة الكتاب والسنة نصيب من ذلك.
ومن يتأمل تلك الكتابات يجدها تدور حول هذه الأفكار التي تتردد عنده كثيراً:
أولها: تشنيعه على العاملين للإسلام في هذا الزمان، وتسميتهم -ظلماً وزورًا- "بالإسلامويين"، ومحاولة إقامة الحاجز بينهم وبين عامة المسلمين. وتصويرهم بأنهم لا يمثلون الإسلام الصحيح. وكان الأولى به أن يعترف بفضلهم وبجهودهم ويشكرها لهم، ويقبل ما عندهم من الحق. أما ما خالفوا فيه الكتاب والسنة فيُرَدُّ عليهم.
ثانيها : ادعاؤه المتكرر بأن الحق المطلق لا يمتلكه أحد! وهذا -في ظني- من تأثير "الذبذبة" التي لازمت مواقفه. لأن هذا التنقل بين أهواء البشر أورثه شكاً فيها جميعاً، بعد أن خبرها وعرف المآخذ عليها. ثم نظر إلى دعوة الكتاب والسنة نظرته لتلك الأهواء ([1])!
ثالثها: أنه يخلط بين أمر "الدين" وأمر "الدنيا"، فمن كان متقدمًا في أموره "الدنيوية" كان عند الحمد المقدَّم في جميع الأمور ! وأصبحت "ثقافته" أو "حضارته" أولى بأن تحتذى من الآخرين.
وهذا الخلط جعله يهوي في دركات الضلال عندما فضل الثقافات الأخرى على دين "الإسلام" وإن كان يستر هذا الأمر العظيم بعدم استعماله كلمة "الإسلام" عند المفاضلة !
معارضاً بهذا حكم الله تعالى في قوله (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وأنه تعالى قد ارتضى هذا الدين لعباده. وختم رسله بمحمد r، وكتبه بالقرآن فمن ارتضى غير ذلك فهو لا شك من أكفر الكافرين.
أما تخلف المسلمين في أمر الدنيا فلا شأن للإسلام به، إنما هو من عند أنفسهم عندما انصرفوا عن الأخذ بأسباب العلم والقوة وغرقوا في الخرافات والخزعبلات؛ حتى فاتهم الدين الصحيح والدنيا المتقدمة، إلا من رحم الله.
فأمر الدنيا كلأٌ مباح لجميع البشر؛ كما قال تعالى: (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً). فمن بذل أسبابها حصّلها بإذن الله، ولهذا تجد المتقدمين دنيوياً في عالمنا أصحاب أديان ومشارب شتى لا يختص الأمر بدين أو ثقافة محددة.
وليعلم الحمد بعد هذا أن التقدم الدنيوي لا يغني عند الله شيئاً ما لم يقترن ذلك بالدين الصحيح، وقد أهلك سبحانه كثيرًا من الأمم السابقة التي أعرضت عن الحق وكفرت به مع إخباره عنها بأنها قد بلغت شأناً عظيماً في أمور الدنيا. قال سبحانه لنبي صلى الله عليه وسلم : (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم).
الخلاصة: أن من أراد دراسة فكر الرجل ورغب في الرد عليه فلعله لا يغفل عن هذه الأمور الثلاثة التي ذكرتها، وهي ما يمثل معالم فكره .
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه (أجمعين) .
تعريف بتركي الحمد (1)
هو : تركي حمد التركي الحمد ، المشهور بـ( تركي الحمد ) من أسرة قصيمية انتقلت إلى المنطقة الشرقية ، وسكنت الدمام ، وكان والده يعمل في شركة (أرامكو ) .
ـ من مواليد 10 /3/1952م الأردن ، الكرك " العقيلات " .
ـ درس الإبتدائية والمتوسطة والثانوية في مدينة الدمام .
ـ حصل على البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة الرياض عام 1975م .
ـ ثم سافر إلى الولايات المتحدة لمدة عشر سنوات كاملة ! حصل منها على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة ( كلورادو ) عام 1979م .
ـ ثم حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية ـ أيضاً ـ عام 1985م ، من جامعة جنوب كاليفورنيا .(51/428)
ـ عمل أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة الملك سعود منذ عام 1985م إلى عام 1995م.
ـ ثم طلب التقاعد المبكر ليتفرغ للكتابة. !(2)
مؤلفاته :
1- الحركات الثورية المقارنة عام 1986 م
2- دراسات أيدلوجية في الحالة العربية عام 1992م
3- الثقافة العربية أمام تحديات التغيير عام 1993م
4- عن الإنسان أتحدث 1995م
5- رواية ثلاثية بعنوان (أطياف الأزقة المهجورة )
أ ـ العدامة .
ب ـ الشميسي .
ج ـ الكراديب .
6- كتاب ( الثقافة العربية في عصر العولمة ) .
7- رواية بعنوان ( شرق الوادي ) (3)
8- السياسة بين الحلال والحرام، (مجموعة مقالات).
- له العديد من المشاركات الصحفية عبر المقالات ، كمقالاته الأسبوعية في جريدة الشرق الأوسط ، أو مقالاته في جريدة الحياة ، أو مجلة الاتصال، وغيرها من المجلات السعودية وغير السعودية .
ثلاثية تركي الحمد
ثلاثية تر كي الحمد تسمى ( أطياف الأزقة المهجورة ) وهي من ثلاث حلقات متسلسلة تحكي قصة بطل واحد هو ( هشام العابر ) .
الحلقة الأولى : بعنوان ( العدامة )([3])
الحلقة الثانية : بعنوان ( الشميسي )([4])
الحلقة الثالثة : بعنوان ( الكراديب )([5])
1 ـ العدامة :
بطل هذه الثلاثية هو ( هشام بن إبراهيم العابر ) شاب صغير السن يعيش مع والديه في مدينة الدمام في فترة الثمانينات الهجرية . وأما اصلهم فيعود إلى القصيم! .
وكان هذا الفتى الصغير مولعًا بالقراءة ومتابعة مايدور حوله من أحداث وأفكار في تلك الفترة الصاخبة بالشعارات ، فاعتنق لأجل هذا الفكر القومي الماركسي الذي كان متوهجاً ساحراً لكل متفتح على الحياة ، لا سيما بعد نجاح هذا الفكر ( على اختلاف درجاته ) في الاستيلاء على البلاد العربية، مما زاد من رصيد معتنقيه الذين رأوا فيه خير موحد للأمة العربية التي مزقها الاستعمار .
لهذا : اعتنق هشام هذا الفكر وآمن به ، ثم استطاع أفراد تنظيم ( حزب البعث بالسعودية !! ) أن يضموه إليهم كعضو جديد في الحزب بعدما أعجبوا به وبأفكاره .
استمر هشام يحضر اجتماعات الحزب ( السرية ) ، ويشارك في نقاشاتهم وفي إعداد التقارير لهم عن الأحوال السياسية الجارية .
كما أنه استطاع أن يضم صديقه ( عدنان العلي ) إلى هذا الحزب ، إلا أنه برغم كل هذا يود التخلص من الارتباط بعضوية الحزب ، مع البقاء على أفكاره دون أن يشعر بأي تقييد .
سافر هشام إلى الرياض لتقديم أوراقه إلى كلية التجارة مؤملاً أن يدرس شيئاً عن الأفكار والأنظمة السياسية المختلفة . فاضطر للسكن في بيت خاله (المتدين ) .
كان أولاد خاله يختلفون عنه كثيراً في أسلوب حياتهم وطريقة عيشهم ، حيث كانوا مقبلين على اللهو والتمتع بالحياة، ولم تكن الأفكار الفلسفية والأحداث السياسية تستهويهم لا سيما ( عبدالرحمن ) الذي تميز عنهم بحبه للمغامرات (النسائية) مع شربه للخمر ( أو العَرَق ) .
تغيرت أحوال هشام بسبب ابن خاله عبدالرحمن الذي أغراه بالتمتع بشبابه ومعاقرة الخمر والنساء، فانساق هشام معه تدريجياً إلى أن سقطت جميع المثل التي كان يراها في السابق من عينيه بفضل رعاية والديه له في الدمام . فأقبل على حياته الجديدة بنهم شديد وبعلاقات نسائية متتالية .
كان هشام قد سافر من قبل مع أهله إلى بلدهم الأصلي ( القصيم ) لزيارة جده وجدته .
وهناك تعرف هشام على (عبد المحسن التغيري ) الذي عرَّف هشاماً على بقية زملائه من خلال ( كشتات ) البر . وهم ( محمد الغبيرة ) و( دعيس الدعيس ) و(سليم السنور ) و ( صالح الطرثوث ) و( مهنا الطعيري ) وكانوا جميعاً من المهووسين بجمال عبد الناصر وبقوميته لا سيما ( مهنا الطعيري ) .
عاد هشام إلى الدمام مواصلاً ترقب أخبار الاعتقالات التي حدثت لأفراد الحزب والأحزاب والتنظيمات الأخرى المعارضة ( للحكومة السعودية ) ومواصلاً أيضاً غزله المتبادل مع بنت الجيران ( نورة ) .
وبهذا انتهت الرواية الأولى من ثلاثية تركي الحمد .
لتبدأ بعدها أحداث الرواية الثانية ( الشميسي ) .
2 ـ الشميسي :
تكاد تكون أحداث رواية الشميسي مخصصة لحال هشام في مدينة الرياض، وهذا مايوحي به اسمها ( الشميسي ) الذي هو اسم شارع شهير في مدينة الرياض .
سجل هشام في كلية التجارة وانتقل إلى السكن عند خاله في الرياض ، وكثرت ملابسته للمحرمات من شراب ونساء بواسطة ( عبد الرحمن ) ابن خاله.
ثم ارتبط بعلاقة غير شرعية مع جارة خاله ( سارة ) أو ( سوير) وأصبح يتردد عليها .
تفاجأ هشام بالتزام صديقه عدنان ، الذي اختار سبيل الخير مسلكاً له وارتبط مع شباب صالحين أثناء قدومه للدراسة الجامعية في الرياض ـ أيضاً ـ.
انتقل هشام للسكن في عزبة مع ( عبد المحسن التغيري ) الذي قدم الرياض من القصيم لكي يأخذ ـ أي هشام ـ حريته الكافية التي كانت مقيدة نوعاً ما في منزل خاله .
انتهت امتحانات نصف العام فذهب هشام إلى الدمام لزيارة أهله مواصلاً علاقته العاطفية مع ( نورة ) بنت الجيران بعد أن علم بزواجها .
رجع هشام إلى الرياض مواصلاً ـ أيضاً ـ مغامراته النسائية لا سيما مع (سوير ) التي حملت منه !(51/429)
جاء والده فجأة لزيارة الرياض لإخباره بأنه مطلوب من قبل رجال الأمن (المباحث ) .
وبعد أخذ ورد قرر الوالد إخفاءه عن أعين الأمن عند أحد زملائه إلى حين استصدار جواز مزور له لكي يتمكن من الهرب إلى بيروت([6]) عن طريق البحرين ، ولكن رجال الأمن كانوا له بالمرصاد حيث قبضوا عليه وحققوا معه ثم قرروا ترحيله إلى جدة لمواصلة التحقيق ( الجاد ! ) معه .
بهذا الحدث انتهت رواية الشميسي وهي الحلقة الثانية من ثلاثية تركي الحمد ، لتبدأ بعدها أحداث الحلقة الأخيرة من الثلاثية وهي رواية ( الكراديب).
3ـ الكراديب :
هذه الرواية مخصصة لبيان أحوال هشام في السجن في جدة بعد أن حُقق معه ولكنه أبى الاعتراف بانتسابه إلى تنظيم ( حزب البعث ) ، فقرروا أن يلبث في السجن إلى حين ، حيث تعرف من خلال السجن على الشيوعي ( عارف)، فبدأت بينهما نقاشات حول أفكار بعضهما مع شد وجذب ، لأن كل واحد منهما يؤيد فكرته لتصحيح الأوضاع.
اعترف هشام بما يريده السجانون فنقلوه من مكانه إلى مكان آخر أفضل منه. حيث تعرف ـ أيضاً ـ على ( وليد ) الذي يؤمن بالقومية كحل لأفراد الأمة ، و (عبد الله ) الذي ينتمي إلى ( الجبهة الديمقراطية ) وهي جبهة منفصلة عن حزب البعث ، ( ولقمان ) الذي ينتسب إلى الإخوان المسلمين ! .
استمرت النقاشات بين هؤلاء الأربعة ، وكلٌ منهم يحاول أن يبين صحة نظرة واختياره هذا المسلك الذي سلكه ، وارتضاه دون غيره .
بعد مدة من الزمن تم الافراج عن هشام الذي عاد فوراً إلى الدمام ، ولكنه وجد كل شيء حوله قد تغير ولم يعد يحمل ذكرى الماضي لا سيما وأبوه قد انتقل إلى بيتٍ جديد بدل بيتهم القديم الذي عاش فيه سنيه الأولى .
بعد أخذ ورد قرر أهله أن يعود إلى مواصلة دراسته في الرياض ، فعاد إليها مندهشاً لمدى تغيرها عن عهده القديم بها ، في مبانيها وفي أفرادها ( وهو ينظر بعينين فقدتا بريقهما ، إلى أزقة كانت مأهولة ، فلم تعد إلا أزقة مهجورة تجوبها أطياف لاحياة فيها ، ولكنها لا تريد أن تموت ) ([7])، وبهذا انتهت أحداث الحلقة الأخيرة من ثلاثية تركي الحمد .
ملامح بطل الثلاثية : هشام العابر :
لنتبين ملامح ( هشام العابر ـ أو تركي الحمد ) في هذه الرواية سأقتطف بعض العبارات من الثلاثية تُكون لنا صورة متكاملة لشخصيته (صفاته وطموحاته):
1ـ هو شاب يحب القراءة : لاسيما قراءة الكتب ( المحرَّمة ) الفلسفية والماركسية .
( لقد خرج إلى الدنيا وهو لا يعرف إلا هواية واحدة ، ولذة واحدة هي القراءة، ويقرأ أي شيء ، وكل شيء تقع عليه يده ) ([8])
( أخذت القراءات الفلسفية والسياسية تجذبه كثيراً منذ أن أهداه أحد أصدقاء والده كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الإستعباد " لعبد الرحمن الكواكبي ، حتى أنه كان يقضي ليالي بطولها في قراءة النصوص الماركسية والقومية والوجودية وغيرها من التيارات الفلسفية والسياسية مما تقع عليه يده في المكتبات المحلية ، أو يحصل عليه مما هو غير متاح في المكتبات ) ([9])
( في المرحلة الثانوية أهمل الدراسة إهمالاً تاماً ، ولولا خشيته من جرح كبرياء والده وقلب أمه لما درس إطلاقاً ، وتفرغ لعالمه الجديد من القراءة واكتشاف النصوص المحرمة )([10])
( لم تعد الكتب المتوفرة في المكتبات المحلية ترضي شغفه بالعالم الجديد الذي اكتشف ، فكان في كل رحلة مع والديه إلى الدول المجاورة ، الأردن أو سوريا ولبنان يجلب معه بعضاً من تلك الكتب الممنوعة والمحرمة ، والتي تكون زاده المعرفي طوال الفترة اللاحقة ) ([11]) .(51/430)
( كان ينفق كل مصروفه على الكتب الماركسية غير المتاحة في بلده ، وخاصة مؤلفات آرنستوتشي غيفارا ، وريجس دوبريه ، وفرانز فانون ، بالإضافة إلى مؤلفات ماركس وانجلز وبليخانوف ولينين وترو تسكي وستالين ، التي تشكل الزاد الفكري الرئيسي .أما ما كان يهزه من الداخل فعلاً ، فقد كانت مؤلفات غيفارا التي كانت تدغدغ شيئاً ما داخل ذاته . كانت هذه الكتب ، بالإضافة إلى الأعمال الأدبية والروائية العالمية الخالدة ، تباع بأرخص الأسعار على أرصفة الشوراع في عمان ودمشق وبيروت ، وعلى عربات أشبه بعربات الخضار . التهم خلال رحلاته ، وبعد العودة ، كل روايات مكسيم غوركي خاصة ، وأهم الروايات الخالدة في الأدب الروسي عامة . قرأ " آنا كرنينا " و " البعث " لليو تولستوي ، " والجريمة والعقاب " "والأخوة كارامازوف " لفيدور دوستويفسكي ، و"الدون الهاديء" لميخائيل تشولوكوف . وقد أثارت فيه رواية " الأم " لغوركي أحاسيس وانفعالات عنيفة متداخلة ، من الغضب إلى الحماس إلى البكاء إلى العطف إلى القسوة إلى الرقة ، مما جعله يعيد قراءتها مرات ومرات. بكى عدة مرات مع العم توم في كوخه ، وعاش مع لانغ وزوجته في أرضهما الطيبة ، وتعاطف كثيراً مع مدام بوفاري بنفس القدر الذي حنق فيه على سكارليت أوهايرا . وكان يختلس لحظات طويلة يقرأ فيها ألبرتو مورافيا وبلزاك واميل زولا ، لا حباً في ذات هذه الأعمال دائماً ، ولكن بحثاً عن مشهد جنسي هنا ، أو وصف لعلاقة حميمة هناك ويتصور في لحظة حلم يقظة أنه البطل في كل هذه العلاقات. أما ذلك الوصف الأخاذ للحياة الاجتماعية في هذه الأعمال ، فلم يكن يهمه كثيراً ، إذ كان يعتقد أن الأدب الروسي لا يعلى عليه في هذا المجال كما قرأ بعض روايات تشارلز ديكنز ، وأعجبته خاصة " قصة مدينتين " ، التي اعتبراها ، مع " الأم" أفضل أعمال يمكن كتابتها . كان ينفق مصروفه على هذه الكتب ) ([12]).
2ـ هو يريد أن يكون مفكراً طليقاً ، لا يتقيد بأي دين أو مذهب سوى (العلم!) .
( يذكر ذات مرة أنه دخل في مجادلة مع مدرس الدين حول نظرية النشوء والإرتقاء لدارون ، حين شتم هذا المدرس النظرية واصفاً إياها بالفكر والإلحاد ، وشتم صاحبها واصفاً إياه باليهودية والمؤامرة اليهودية على الإسلام والمسلمين . يذكر يومها أنه قال للمدرس إن هذه النظرية إنتاج علمي ، والعلم هو سيد العصر شئنا أم أبينا . قد يخطىء دارون وقد يصيب بشأن أصل الإنسان وأصل الأنواع ولكن التطور حقيقة تفرض نفسها ، كما أن دارون ليس يهودياً لا أباً ولا أماً . يومها اتخذ منه مدرس الدين موقفاً عدائياً ، واصبح لا يناديه إلا بالفاسق . ولكن ذلك لم يكن يهمه كثيراً بل لم يكن يهمه على الإطلاق، مع ذلك الحماس وذلك الإنطلاق الذي وجده في عالمه الجديد )([13]).
( أريد أن أكون مفكراً طليقاً ، لا مناضلاً سياسياً في تنظيم ) ([14]).
3ـ هو ماركسي المذهب ، ليس كالماركسيين ، بل يحب المزج بين الماركسية والقومية العربية :
( أعجبته كتابات ياسين الحافظ وكذلك المنطلقات ، إذ وجد فيها مزيجاً أخاذاً ومثيراً من الماركسية والقومية . وجد فيها شيئاً كان يشعر أنه ينقص الكتابات الماركسية التي قرأ ، وكذلك الكتابات القومية على اختلافها . فقد سبق له أن قرأ " في سبيل البعث" لميشيل عفلق ، وبعض كتابات منيف الرزاز وصلاح البيطار ، والكتابات الناصرية القليلة مثل فلسفة الثورة ، لجمال عبد الناصر ، وكتابات أنور السادات حول ثورة يوليو وعبد الناصر ، وكذلك " بصراحة " محمد حسنين هيكل التي ينشرها في جريدة الأهرام كل يوم جمعة ، ويستمع إليها من خلال إذاعة "صوت العرب " من القاهرة ، فقد كانت الأهرام ممنوعة من الدخول في بلده . كانت الكتابات الماركسية تركز على المسألة الاجتماعية والأممية ، وبقدر ما كان متحمساً للمسألة الاجتماعية ومؤمناً بها ، بقدر ما كان متردداً بشأن المسألة الأممية .إنه يشعر أنه قومي حتى النخاع ، والقومية تسري في عروقه . وتهزه خطابات جمال عبد الناصر ، وتثمله الشعارات القومية التي يطلقها البعثيون والناصريون والقوميون العرب . لكن رغم ذلك ، كان يحس أن هنالك شيئأ ناقصاً ، كان يشعر أن هؤلاء لم يعطوا المسألة الاجتماعية حقها من الإهتمام، وخاصة قضايا مثل الصراع الطبقي والإشتراكية العلمية والحتمية التاريخية . ولذلك اعتقد أن الفكر الماركسي ، رغم بعض التحفظات ، هو الذي من الممكن أن ينير الطريق ويعطي فلسفة متكاملة للحياة . أعجبته كتابات الحافظ والمنطلقات لأنها تمزج المسألة القومية بالإجتماعية . جامعة ما يشعر بميل إليه في فلسفة واحدة )([15])
( لا تعجبني أفكار عفلق والبيطار والرزاز . أعتقد أنها عاطفية أكثر من اللزوم ، رغم إيماني بإطارها العام . نحن بحاجة إلى فلسفة متكاملة . وأعتقد أن الماركسية هي الحل رغم النواقص التي من الممكن إكمالها ) ([16])
( إذا كان ما في المنطلقات هو فكر البعث ، فإني أجد نفسي فيه ، فهو يمزج القومية بالماركسية . . . وهذه هي قناعاتي ) ([17])(51/431)
( أحس بالهلع والنفور من كل ما يمت إلى التنظيم وفكره بصلة . وبقيت علاقته الحميمية بالماركسية )([18])
هو يتبنى فكراً ماركسياً لا يعتقد بدور البطل في التاريخ ، بل هي التناقضات المادية والاجتماعية التحتية ، وانعكاساتها الفوقية السياسية والثقافية)([19])
( الماركسية . . . هي الفكر العلمي الشامل القادر على منحنا مفاتيح التاريخ والمجتمع والسياسة ، ومن لديه هذه المفاتيح لا خوف عليه ولا هو يحزن ) ([20])
( الحقيقة أني ميال إلى الفكر الماركسي )([21])
( سوف يتعلم الماركسية على أصولها )([22])
( من قال لك إني شيوعي ؟ . . . أنا اشتراكي )([23]) .
( أنا أميل إلى الماركسية ، ولكني لست شيوعياً )([24]).
ولكن هشاماً برغم هذا الحسم (الماركسي) لتوجهه إلا أنه بقي متردداً متحيراً في أمره تصارعه أفكار شتى حول هذا الكون ، وخالقه ، وأحداثه ، مما لم يستطع أن يستوعبه فأصبح ينادي بتفاهة هذه الحياة وأهلها ، وعبثية أحداثها وأقدارها ، مع ترقب وتوجس لهجوم الموت (الغادر!) عليه :
(ليست الحياة إلا حفلة ماجنة يُدخن فيها الحشيش ويؤكل الخبز مغموساً بالنبيذ والعرق الراشح من أجساد أدمنت الجنس ، وأدماها الهوى ، ومزقت نفسها بوحشة أخلاقية .نحاول أن نضفي المثال والجمال على هذه الحفلة العابثة ، ولكن كل شىء ينكشف ولو بعد حين ، وتقف الحقيقة عارية من جديد ، كما ولدت عارية من قديم … العدم يقف بالمرصاد ، والمجهول يتربص من بعيد ، والعجز يقيد المجتمع ) ([25])
(الموت قادم لا محالة .. إنه مصير ملموس ، وليس كمصير الأمة أو الطبقة، مشكوك فيه بقدر ما هو مشكوك في الأمة والطبقة ذاتهما . فلماذا الإحتياط ، ولماذا الخوف ؟ … ولماذا هذه اللعبة السمجة ، لعبة القط والفأر … ما نحن إلا ممثلون في مسرحية ، وسواء طال دور أحدنا في هذه المسرحية أم قصر ، فإنه لايلبث أن ينتهي ، وتنتهي كل المسرحية في النهاية …
ثم بعد تردد طفيف .
ـ ولو كان لي من الأمر شيئاً ([26]) في البداية ، لما اخترت الاشتراك في المسرحية من الأساس )([27]).
( هل ما يجري هو حكمة خافية لاندريها ، أو أنه مجرد عبث اعتدنا عليه فأصبح نظاماً ، أم هو مزيج منهما ، أم لا هذا ولا ذاك ؟ أين المعنى في كل ذلك وما هو النظام ؟ لا أحد يدري ، ولن يدري أحد )([28]).
( يالهذا الموت الجبان الغادر … إنه يأخذ أجمل ما في الحياة ويضحك ويهجرنا حين نريده ، ويحل ضيفاً ثقيلاً حين لانريده … ليت موسى لم يفقأ عين عزرائيل حين أتى لقبض روحه ، ولكنه قصم ظهره أو دق عنقه … ولكن حتى لو مات عزرائيل ، هل يموت الموت ؟ ويقلع عن أفكاره هذه ويقتنع بأهمية الموت لا ستمرار الحياة ، ولكنه يكرهه ، ولا زال يعتقد بجبنه وغدره )([29]).
(عليك الرحمة ياابن آدم . ظننت نفسك أكرم الكائنات ، الذي طرد من أجله عابد الأزل من الرحمة والملكوت ، فاكتشفت أنك أتفه من ذبابة وأحقر من بعوضة، يا لك من معتوه يا ابن آدم ، أردت أن تكون إنساناً كما أراد لك من أنسنك ، ولكنك وجدت نفسك في عالم تداس فيه كصرصار تائه ، وتسحق فيه كذبابة وقحة ) ([30]).
قلت : هذه أبرز ملامح (هشام العابر) : فهو يحب القراءة منذ صغره في الكتب (المحرّمة) الفلسفية والماركسية ، التي كانت ممنوعة ـ لضررها ـ في بلاده (السعودية) ولهذا كان يحرص على تحصيلها من عدة منافذ .
ولأجل قراءته هذه فقد تعلق قلبه بالفكر الماركسي والفكر القومي الذي كان عالياً صوته شديداً هيجانه في تلك الفترة ، فحاول أن يمزج بين (القومية والماركسية) متأثراً ببعض قيادات ومنظري (حزب البعث) .
ولأجل هذا انضم (هشام) ـ على كرهٍ وتمنع ـ إلى هذا الحزب ، لأنه يود أن يكون مفكراً طليقاً ، بدلاً من حصره في صرامة التنظيمات .
وكانت نظرته إلى الحياة سوداوية تشاؤمية ، لأنه لم يعرف لها هدفاً ، ولم يفقه حكمة الله من خلقها ، وجعل الخلق يتوارثونها ، لم يعد يرى منها سوى أنها حياة لا قيمة لها ، تجري أحداثها وأقدارها بعبثٍ لا حكمة فيه .
ويتضح بعد هذا الموجز عن هشام العابر (أو تركي الحمد !) وأفكاره أن الحديث ـ دون تطويل ـ سيكون حول :
6 ـ بيان تنقص الحمد في ثلاثيته :
أ ـ لله .
ب ـ وملائكته .
جـ ـ وكتبه .
د ـ ورسله .
هـ ـ ودينه .
و ـ وعباده الصالحين .
7 ـ مباحث أخرى .
تركي الحمد يتنقص في ثلاثيته :
الله وملائكته وكتبه ورسله ودينه وعباده الصالحين
تنقص الحمد لله ـ عز وجل ـ :
لم يقدر تركي الحمد الله ـ عز وجل ـ حق قدره ولم يعظمه كما يعظمه عباده المؤمنون ، بل تحدث عنه في روايته وكأنه يتحدث عن بشرٍ مثله حديث الند للند بعبارة مملوءة بالتحدي والسخرية ـ والعياذ بالله ـ ، وإن كان قد أخفى أشدها بالأسلوب الرمزي الذي عهدناه من هذا الصنف من البشر عندما يخوضون في مثل هذه الأمور .
فالحمد جاء في روايته بلهجة غريبة شاذة عن أهل هذا المجتمع في حديثهم عن ربهم ـ سبحانه وتعالى ـ حيث تجرأ في ذلك بصورة وقحة فاجرة .(51/432)
وهو مشابه في هذه الجرأة لتيار الحداثة في ديار المسلمين الذين كانوا أول من ترددت هذه الظاهرة ( الكفرية ) في أشعارهم وأحاديثهم ، حيث لم يتورعوا عن الحديث عن الله ـ عز وجل ـ بألفاظ سوقية بشرية ، فمن ذلك على سبيل المثال :
قول صلاح عبد الصبور في قصيدته ( الناس في بلادي )
( يا أيها الإله ،
كم أنت قاسٍ موحش
يا أيها الإله ) ([31]).
وقول الشاعر (الماركسي) البياتي :
( الله في مدينتي يبيعه اليهود
الله في مدينتي مشرّد طريد )([32]) !!
وقول معين بسيسو :
( وطرقت جميع الأبوا ب
أخفتني عاهرة
ووشى بي قديس
كان الله معي
لكن الله هناك
يدلي بشهادته .. في مركز بوليس ) ([33]) !!
وقول توفيق زياد :
( ومداخن الأفران
قائمة .. كآلهة المنايا )([34])!!
وقول محمود دريش :
( نرسم القدس
إلهً يتعرى فوق خطٍ داكن الخضرة
أشباه عصافير تهاجر ) ([35])!!
وهكذا .. في عبارات (كفرية) كثيرة تتناثر في أشعارهم القذرة ([36])
وفي ظني أن هذه الظاهرة السيئة قد وفدت إلى ديار المسلمين عبر شعراء اليهود والنصارى وكتابهم ، الذين تُرجمت أشعارهم وعباراتهم وكانت مصدراً رئيساً لشعراء المسلمين .
وأولئك اليهود والنصارى ـ كما هو معلوم ـ لا يعظمون الله حق تعظيمه ، ولا ينزهون اسمه عن لغوهم وباطلهم .
وسبب ذلك ـ والعلم عند الله ـ هو تأثرهم بما جاء في كتبهم الدينية المحرّفة (لا سيما التوراة) عند الحديث عن الله ـ عز وجل ـ وصفاته حيث تتحدث تلكم الكتب ( المقدسة !) عن الله وصفاته كحديثها عن الخلق وصفاتهم، فجعلوا ( المولى سبحانه وتعالى في صورة بشر حقود ، سريع الغضب، كثير الندم ) ([37]).
فمن ذلك قولهم في ( سفر التكوين ، الإصحاح الثاني ) عن الله ـ عز وجل ـ : ( وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل ، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمله … )([38])!
ومن ذلك إخبارهم عن الله ـ عز وجل ـ بأن اليهود عندما تاهوا نزل الله ـ عز وجل ـ فهداهم إلى طريق الخروج ! (جاء في سفر الخروج "وارتحلوا من سكوت ، ونزلوا في إيثام في طرف البرية . وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق ، وليلاً في عمود نار ليضيء لهم …)([39]).
ومن ذلك زعمهم أن الله يبكي ويلطم وجهه ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ ([40])وأنه ـ تعالى ـ يصارع يعقوب عليه السلام ـ ([41])!! وأنه ـ تعالى ـ اعترف بخطئه أمام كبير الأحبار([42])!! وأنه ـ تعالى ـ يندم ويحزن وينسى([43])!!
إلى آخر تلك الصفات السيئة التي ألصقها اليهود ـ لعنهم الله ـ برب العالمين ـ سبحانه وتعالى ـ
يقول الدكتور محمد البار بعد أن ذكر هذه الافتراءات :
(ومما تقدم نخلص إلى أن صفات الله سبحانه وتعالى في التوراة والتلمود ، لا يمكن أن تكون صفات الله خالق الأكوان ومدبرها .. بل لا يمكن أن تكون إلا من صفات أراذل البشر .
هذا قليل من كثير من هذه الافتراءات والغثاء والكذب ، والتجديف في وصف المولى سبحانه وتعالى .. والتوارة والعهد القديم والتلمود كلها مليئة بهذه الأوصاف المنكرة والسجايا الخبيثة التي لا يمكن أن يوصف بها إلا أحط البشر وأراذلهم ، فكيف يمكن أن يوصف بها المولى سبحانه وتعالى؟!)([44]) .
وقال الدكتور سعود الخلف ـ حفظه الله ـ بعد أن أورد شيئاً من تلكم الأكاذيب :
(فهذه الأمثلة من أوضح الأدلة على التحريف ، فإن الله عز وجل موصوف بصفات الكمال المطلق وكل ما يشعر بالنقص فالله عز وجل منزه عنه، فتضمين اليهود كتابهم صفات تشعر بوصف الله بصفات لا تليق بمقام الألوهية والربوبية والكمال المطلق ، دليل واضح على التحريف والتبديل إذ لا يمكن أن يتضمن الكتاب الذي نزل من عند الله ما يطعن فيه جل وعلا .
وبأمثال هذه الافتراءات من قبل متقدميهم تجرأ متأخروهم على الافتراء على الله ، واعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الله لا يعذبهم، وفي هذا يقول الله عز وجل: {وقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ([45])) ([46]).
قلت : فهذه العقيدة الفاسدة قد أخذها كتاب وشعراء أهل الكتاب من كتبهم ( المحرفة ) فأضحوا يرددونها في نثرهم وأشعارهم دون أي خوف أو خجل من رب العالمين ، لأن كتبهم ( المقدسة !) قد جرأتهم على نقل وترديد هذا الاستخفاف والطعن بربهم ـ عز وجل ـ وأسقطت هيبته من نفوسهم .
ثم جاء من بعدهم ( نصارى ) العرب ([47]) فنقلوا تلك العقيدة في كتاباتهم ونظمهم .
وعن هؤلاء الكفرة أخذها كتابنا وشعراؤنا الذين ( يدعون ) الإسلام ، فخاضوا فيها تقليدا لأولئك دون أن يعصمهم عن هذا الخوض المنكر رهبة من الله ـ عز وجل ـ(51/433)
فأصبحنا نسمع ونقرأ عبارات لبعض الشعراء ( المسلمين ! ) تضاهي في كفرها عبارات اليهود والنصارى ، ويندى لها جبين المسلم الموحد ، ويأسى على حال إخوانه الذين تابعوا الكافرين في طعنهم برب العالمين ، مصداقاً لقولe في هذا الصنف " لتتبعن سنن الذين كانوا قبلكم حذو القذة بالقذة . حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قيل : اليهود والنصارى ؟ قال e " فمن ؟ "([48]) أي ليس إلا هم .
وقد دخل شرذمة من كتابنا وشعرائنا هذا الجحر الذي أخبر عنه الرسولe بل زادوا عليه بأن طعنوا في خالقهم ـ عز وجل ـ متابعة لمن هم شر البرية ـ كما سبق
يقول الدكتور أنس داود في كتابه ( الاسطورة في الشعر العربي الحديث):
(لجأ شعراؤنا إلى الكتب المقدسة وبخاصة التوراة والإنجيل وقلما استفادوا من القرآن في هذا السبيل ، ربما لأنهم يعيشون في أمة إسلامية لا تستسيغ مثل هذه النظرة الفنية إلى أقدس مقدساتها الدينية ، ولأن الكتاب المقدس كان مصدر استلهام فني في الشعر الأوربي بمثل ما استلهم هؤلاء الشعراء أساطير الأقدمين . ولأن ثمة نسباً ـ كما نرى ـ بين كتاب كالتوراة ومجموعات الأساطير المتوارثة في قوة تصويرها لنوازع الإنسان ، وتجسيدها للأهواء البشرية حتى حين تتحدث عن الأنبياء لا تتحدث عنهم هذا الحديث المتطهر الذي تجده في القرآن ، بل نجد لديهم فيضاً من الغرائز ، وغلبة للشهوات أحياناً ولجوءً إلى الحيل والخديعة ، وغير ذلك مما نجده في الحديث عن داود وعن سليمان وغيرهما من الأنبياء مما يقربهم من الشخصيات الأسطورية في نوازعها الجارفة وسلوكها كل مسلك)
قلت : ثم جاء ( الحمد ) منضماً إلى هذا الركب ومتحدثاً في ثلاثيته عن ربه عز وجل بعبارات بشعه لا تصدر عن مؤمن فمن ذلك :
قوله على لسان هشام : (أراد أن يتحدث مع عارف ، لكنه فقد الرغبة في الحديث . الله ، الحتمية ، الجبرية ، العلم .. كلها أشياء يتعلق بقشة منها . يريد الخروج ، فمن يوفر له ذلك ، فهو الله)([49]).
وقوله عنه : (يحس أنه هنا منذ أن حشر الإله الروح في جسد آدم) ([50]).
وقوله : (دائماً المستقبل الذي لا يجئ ، والتاريخ الذي لا نعيه ، والله الذي لا نراه، يقفون وراء كل شيء ، ويبررون كل شيء) ([51]).
وقوله : (واستسلم لحلم يقظة جميل … تصور نفسه من بني إسرائيل أو سام ، وود لو كان أسيره إلى الأبد . تصور أنه يوشع نفسه ، أو سوبرمان ذاته . قادر على إيقاف الزمن ذاته . لا شيخوخة ولا موت ولا ألم ولا … تحقيق . تصور أنه الله ذاته … ولم لا … ما فرقه عن الحلاج والسهروردي وابن العربي ؟ ([52]) نحن الله والله نحن … كانت تلك رسالة موسى والمسيح ومحمد ، ولكن أكثر الناس لا يدركون ، فجعلوه ابن الله إنه ذات الله الآن ، فماذا يفعل ؟ هل يجعل الكون أكثر راحه ، وينشر السعادة بين البشر ؟ ولكن … ما هي السعادة ؟ ! سعادة سقراط أم أفلاطون أم أرسطوا أم ديوجين أم أبقور أم زينون أم كونفيشيوس أم بوذا أم وأم ، وأم … جملة أمَّات لا نهاية لها . كالحياة ذاتها . ثم لو نشر السعادة وقضى على الألم ، فهل يكون للسعادة نقيض الشقاء أو نقيض الألم ، فكيف يمكن إدراك السعادة إذا ختفى الألم ؟ حتى الجنة بدت له عديمة اللذة في تلك اللحظة كما بدت جهنم عديمة الألم . الخمرة لا تسكر ذاتها ، والجمرة لا تحرق نفسها … البراز لا يتأذى من رائحة نفسه ، والفل لا يستمتع بريح ذاته . لابد من البراز لاكتشاف لذة الفلة ، ولا بد من الفلة لاكتشاف قذارة البراز . ولذلك كان هناك جنة ونار معاً ، الله وشيطان ، نبي وفرعون ، وكل في قدر يسبحون… تحقيق السعادة وحدها ، يعني توحيد الألوان . وعندما تتوحد الألوان ، تختفي … المعنى في الاختلاف ، والعماء في التجانس . مشكلة … وجود الحياة بشكلها الحالي مشكلة … وجعلها أجمل وأحلى وأعدل مشكلة، لم لا تكون ذات الحياة هي المشكلة ؟ لو كان ذات الله ، لألغى الحياة ذاتها . لألغى هذه المسرحية المملة ، وصرف ممثليها وألغى تلك الأدوار المقررة المعروفة . لا حرية مع الوجود ، فكل الحرية في العدم …) ([53]).
وقوله : (الله أعلم ! مسكينٌ أنت يالله … دائماً نُحَملك مانقوم به من أخطاء) ([54]).
وقوله على لسان ( الشيوعي ) عارف : (إن الانتحار هو تحد للإله نفسه .
ثم وهو يضحك بسرعة :
ـ هذا إن كان هناك إله … الانتحار يا صديقي يعني أني قد اخترت الجحيم ورفضت النعيم بملء إرادتي … فالنعيم الحق هو ما أختاره أنا ، لا ما يختاره لي ما ليس أنا … الجحيم هو النعيم حين أختاره أنا ، والنعيم هو الجحيم حينما بختاره غيري لي أنا .
ويضحك عارف مرة أخرى ، ثم يعتدل في جلسته ، وقد اتسعت عيناه ، وبرقت عينه السليمة ، وقال وهو ينظر إلى هشام وقد اكتسى وجهه بعلامات نصر ما :
ـ الانتحار نصر على الله . ففي الانتحار تفوت الفرصة على الله أن يختار لك مصيرك . فأنت تدخل النار بإرادتك حين تنتحر وتعلم أن مصيرك هو النار . ليس الله هو من أدخلك النار ، بل أنت من فعل …
وابتسم هشام وهو يقول :
ـ ولكن افرض أن الله أدخلك الجنة بالرغم من انتحارك ، ألا يكون قد فوت عليك الفرصة واختار لك بالرغم منك ؟(51/434)
وضحك عارف بحبور وهو يقول :
ـ كلا … فإذا دخلت النار فبإرادتي ، وإذا أدخلني الله الجنة فأكون قد فرضت إرادتي عليه … لقد توعدني بالنار فيما لو انتحرت ، ولكنه أدخلني الجنة برغم الوعيد . لقد فرضت إرادتي عليه ، وجعلته يغير وعيده ، لقد أصبحت نداً له . أبعد هذا الانتصار انتصارا؟ …
ـ ولماذا لا يكون هو قَدَّر عليك الاختيار منذ البدء ؟
ـ أكون قد فضحت اللعبة كلها حينذاك .
وعاد عارف إلى الاسترخاء وهو يردد :
ـ الانتحار هو النصر النهائي على كافة أشكال السلطة وأنواعها) ([55]).
الحمد يصرف ( العبادة ) لغير الله :
ومن تنقصه لخالقه ـ عز وجل ـ أنه امتهن لفظ ( العبادة ) وجعلها في غير موضعها ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، وإنما جعلها في عبادة البشر بعضهم لبعض .
حيث قال على لسان ( عشيقته !) سويّر :
( أنا أعبدك يا هشام ، والعبد لا يشرك مع معبوده شيئاً .
وبدون هدف أو غاية أوقصد قال بشيء من المزاح ، وقد أحس بالزهو يسيطر عليه من الداخل :
ـ ولكن الشرك لا يكون إلا بالله . هو المعبود الوحيد .
وكنمرة متوحشة ، نظرت إليه بعينيها المبللتين ، وقد زادتا اتساعاً على اتساعهما ، وهي تقول :
ـ إذا أنت ربي … ترحمني وتعذبني .وكل شيء منك مقبول ومحمود .
ولم يستطع الإحتمال فعلاً ، فقال بتلقائية :
ـ أستغفر الله العظيم … أستغفر الله العظيم .
ردّد ذلك وشعور من الزهو وشيء لا يعرفه ، أشبه ما يكون بالذنب ، يمتزجان في داخله . كانت يدها قابضة على يده ، فمدَّ يده الأخرى وأخذ يربت على خدها ويتحسسه بلذَّة ، فيما ارتمت هي في أحضانه بعنف ، وأخذت تشمه بصوت مسموع ، وهي تردد :
ـ أحبُّك … أحبُّك يا هشام … أعشقك … أعبدك ) ([56]).
تنقص عظيم :
ومن تنقصه لله ـ عز وجل ـ
قوله متحدثاً عن هشام وهو يحلم في منامه :
( وأخذ يسير على غير هدى في الصحراء ، وقشعريرة البرد تستولي عليه . كل شيء يوحي أنه لا يسير ، رغم أنه يسير . النجوم هي النجوم ، والصحراء والظلام عديمة الأبعاد لا يريد أن تنجلي ، واختفت البداية ، وتلاشت النهاية، فلا يدري أهو يسير أم يهيأ له أنه يسير . ولاح له بصيص نور من بعيد ، وأحس بالفرح الغامر رغم أنه يعلم أنه يحلم . وأخذ يغذ السير ، فيما النور يزداد سطوعاً وتتعدد ألونه ، أخضر وأحمر و أصفر ، ويتخللها لون أزرق باهت . وأخيراً وصل إلى حيث النور ، ثم فجأة أشرقت الشمس وهي تضحك بشكل هستيري لم تكن ذات الشمس التي يعرف ، فقد كانت شديدة الحرارة عديمة النور ، فرغم سطوعها ، إلا أن الظلام الحالك ما زال سائداً . وأخذ دماغه يغلي من الحرارة الشديدة ، إلا أن جسمه كان يرتعش برداً ، وأخذت النجوم ترسل سهاماً فضية في كل مكان ، حيث تتكسر بصوت أقرب إلى الرنين على صخور لا يراها ، ولكنه يعلم أنها هناك .
وفي خضم كل ذلك ، كانت نسمات هواء منعش تأتي من واحة وارفة الظلال تنبعث منها تلك الأضواء التي رآها من بعيد .كانت محاطة بأسلاك شائكة من كل جوانبها ، فلم يستطع الدخول . وأخذ يحوم حولها ، حتى تبين له الباب من بعيد .أتجه إليه ، وأراد الدخول بعجلة ، إلا أنه في اللحظة تلك ، برز له شخص من حيث لا يدري ، يحمل سوطاً طويلاً ، وملامح غريبة ، فقد كان له وجه ثور ، في رأس وجسم بشريين ، له مخالب في يديه ورجليه أشبه بمخالب الكلب ، وفي مؤخرته يبرز ذيل لولبي أشبه بذيل الخنزير ، استوقفه هذا الكائن وهو يخور قائلاً :
ـ إلى أين أيها الإنسان ؟
ـ أريد المأوى والطعام والسلام … هل هذا كثير ؟
ـ وهل تعتقد أن الدخول بهذه البساطة ؟ … الواحة واحتي ، ولا يدخلها إلا من يدفع الثمن . وثمنها بخس جداً … قبول شروطي .
ـ واحتك ؟ … شروطك ؟ … من أعطاك إياها ؟
ـ قوتي هي من أعطاني إياها … إنها لي وحدي .
ـ القوة لا تصنع حقاً.
ـ الحاجة أساس الحق .
ـ ونخر الكائن الغريب ، ثم قال بنفاد صبر :
ـ قوتي هي الحق هنا ، وإن كنت في شك من ذلك ، فحاول الدخول رغماً عني.
ولم يجد بداً من الاستسلام ، فقد كانت الحرارة والبرودة والظلام والصحراء لا تطاق ، فقال :
ـ حسنا … وما هي شروطك ؟
وافتر وجه الكائن عن بسمة رضا واسعة ، وأخذ اللعاب اللزج يسيل من بين أسنانه الضخمة ، فيما تحول أنفه إلى اللون الأرجواني وهو يقول :
ـ الآن أصبحت عاقلاً وحكيماً .
ثم استطرد :
ـ ليس لي إلا شرط واحد لا غير … أن تطيعني في كل ما آمرك به ، ولك أن تتمتع بالماء والهواء والثمار والسلام .
ـ ياله من سعر باهظ !
ـ ويالها من ثمار طيبة !
ـ وإن رفضتُ؟
ـ ليس لك إلا الصحراء والجوع والعطش وكلاب الطريق .
ـ ولكني لا أستغني عن الحرية …
ـ ونخر الكائن مرة أخرى وهو يقول :
ـ الحرية … ماهي الحرية ؟ مجرد كلمة .
ـ ولكن في البدء كان الكلمة .
ـ وما نفع الكلمة مع الجوع والقلق .
ـ وما نفع الشبع والسكينة مع العبودية ؟
وأخذ الكائن ينخر ويهز سوطه في الهواء ، وهو يقول :
ـ دعك من هرائك هذا … أمامك خياران ، إما أن تقبل شرطي وتدخل واحتي ، أو أن تعود إلى الضياع في الصحراء .(51/435)
وأخذ يفكر في الخيارين وهو يختلس النظرات إلى داخل الواحة لقد كانت مظلمة مثل الصحراء حوله ، رغم الألوان التي كانت تحيط بها ، وتلك الأضواء التي يراها من هو بعيد ، ولكنها تختفي حالما يصلها أحدهم . ومن الداخل كانت تتراءى أشباح أهل الواحة رغم الظلام … وجوه حمراء ، وكروش منتفخه ، وأعين فقدت بريق الحياة ، وهم يأكلون طوال الوقت . وهيئ له أن وجوههم قد بدأت تتحول إلى شيء أقرب إلى وجه الكائن الذي يقف أمامه .
ـ ولكن قل لي …
قال هشام موجها حديثه للكائن :
ـ لماذا الظلام دامس في الواحة رغم الألوان والأنوار التي تتراءى من بعيد ؟
وضحك الكائن ، وهو يمتص بعض لعاب سال من جانب فمه ، قال :
ـ الظلام في كل مكان ، ولكن الطعام هنا فقط .
ـ ولكني أرى بصيص نور في الأفق يوحي بانبلاج الفجر في الصحراء ، ولا أرى ذلك البصيص في الواحة !
ـ النور مزعج للعين ، ونحن لا نحبه هنا فهو مفسد للسكينة والطمأنينه . ليس ألذ وأجمل من هدوء الليل ، وصمت الظلام .
ـ لم لا تقول إنك أنت من يكره النور ، كي لا يرى أحد وجهك المسخ .
وهناك ثار الكائن ، وأخذ ينخر بشدة ، ورفع السوط في الهواء يريد أن يهوي به على جسد هشام ، الذي فر من أمامه وهو يقول :
ـ سأضرب في الصحراء غير آبه بالشقاء … فلابد للصحراء من نهاية ، ولا بد لليل من فجر ، ولا بد أني واجد واحتي مهما طال الزمان … واحتي سوف تكون بلا سياج ولا ظلام ، ولا أمساخ بشر … وإن مت قبل ذلك ، فسوف أموت وأنا حر .
وتابع طريقه إلى عمق الصحراء فيما الشمس توقفت عن ضحكها ، وانكفأت على نفسها ، والكائن يضحك من بعيد ويقول بصوت كالرعد :
ـ لن تجد أفضل من واحتي هذه ، كل الواحات مثل واحتي … سوف تعود إلي مهما طال بكل التجوال ، طالباً الصفح والغفران ، مستجدياً أن أقبلك عبداً من عبيدي ، وساعتئذ … ستعرف من أنا .
وصاح هشام من بعيد :
ـ كلا … كلا لن أعود إلى واحتك إلا بعد أن يشرق فيها النور ويخلع السياج وتعود إلى الناس وجوههم .
وابتلعته الصحراء ، وقهقهة الكائن تدوي وراءه كالرعد ، والشمس عادت إلى ضحكها وحرقتها ، ولكنه يسير وهو يرى خيوط الفجر من بعيد)([57]).
قلت : تأمل ـ أخي المسلم ـ هذا الحلم الذي صاغه الحمد على لسان هشام جيداً ، ثم تساءل معي كما تساءلت :
ـ ماهي هذه الواحة المحاطة بالأسلاك الشائكة ؟
ـ من هو هذا الشخص ( البشع !) الذي ساومه هشام على دخول الواحة ؟
لقد صاغ الحمد فكرته التي يريد إيصالها للقارئ بأسلوب رمزي شأنه في ذلك شأن أهل الرمزية الذين يروجون لفكرهم بتلك العبارات الغامضة خوفاً من عاقبة التصريح ( بالكفر) لا سيما في ديار التوحيد . وقد تابع الحمد هنا (شيخه) نجيب محفوظ في كفره عندما تحدث في روايته الشهيرة ( أولاد حارتنا ) عن الله ـ عز وجل ـ وعن أنبيائه بأسلوب رمزي([58]) قاء من خلال بما يحمله قلبه من كفر وحقد تجاه رب العالمين ـ تبارك وتعالى ـ وتجاه أنبيائه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ
فجاء الحمد يهرع من ورائه مستعرضاً قدراته في ( تمرير ) كفرياته في مثل هذا الحلم .
فالشخص البشع في نظر الحمد ـ هو الله ـ عز وجل ، وتعالى عن قول الحمد علواً كبيراً ـ . !!
والواحة المحاطة بالأسلاك الشائكة هي الجنة ومافيها من سعادة واطمئنان .
فالحمد يريد أن يقول لنا بأن من أراد دخول الجنة فليلتزم بعبودية الله ـ عز وجل ـ وطاعة أوامره ، وأما من أنف من هذه العبودية واختار الحرية ! كما يزعم الحمد فلا بد أن يزهد في هذه الجنة ( أو الواحة ) ويضرب في أعماق الصحراء لعله يجد مصدراً آخر للسعادة لا تكون ضريبته فقدان الحرية !
وقد اختار الحمد الطريق الثاني وهو الاستنكاف عن عبادته سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى في كتابه الحكيم عن هذا الصنف من البشر : {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا(172)فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}([59]).
فمن استنكف عن عبادة الله وفرَّ منها طالباً الحرية كما يزعم ! فإنه لن يجد من دون الله ولياً ولا نصيراً ، فالمرد ـ وإن طال الزمان ـ إلى الله الذي : {إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ([60]).
ونحن نقول للحمد : من لم يرض بعبادة الله سبحانه وتعالى فإنه لا شك سيعبد غيره؛ لأن الإنسان لا يخرج عن العبودية بأي حال . فمن لم يعبد الرحمن عبد الهوى والشيطان ، ولذلك قال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ([61]).
قال ابن كثير : ( أي إنما يأتمر بهواه ، فما رآه حسناً فعله ، وما رآه قبيحاً تركه ) -([62]).
فهو وإن ادعى أنه قد ترفع عن ( عبودية ) الله المستحق لها فإنه قد جعل تلك العبودية في غير محلها باتخاذه إلهه هواه .(51/436)